مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 9

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي نزل القرآن نورا و سراجا و قمرا منيرا. و الصلاة و السلام على رسوله الذي انزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين ثانى الثقلين. و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن و تبيين لغاته و مشكلاته، ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه، و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه، و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه؛ و كيفما كان ما وصلوا الا الى مبلغ علمهم و منتهى همهم، و أنى لهم الوصول الى حقائق التنزيل و دقائق التأويل، لان القرآن هو النور الذي أنزل الله على قلب جبيبه محمد صلى الله عليه و آله. الا أن المتمسكين بولاء أهل بيت الوحى المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم أهل بيت النبي غرفا و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا.

و ها هي المقتنيات الدرر، قد اقتناها علم من الأعلام ثمرة الشجرة الطيبة و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه. قد اقتنى من الدرر أغلاها و من الغرر أسناها فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره: الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و منّ الله سبحانه على عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل: الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب الله رمسه، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الأريب السيد الكاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل و تخرج الآيات المنثورة في ثناياه و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه. و نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمامه بمحمد و آله.

لجنة التحقيق و التصحيح لدار الكتب الإسلامية

ص: 2

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

سورة سبأ

اشارة

* (مكية)* ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ و لا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا و مسافحا.

و روى ابن اذينة عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الحمدين جميعا: سبأ و فاطر في ليلة لم يزل ليلته في حفظ اللّه و كلاءته و من قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه و اعطي من خير الدنيا و خير الآخرة ما لم يخطر على قلبه و لم يبلغ منتهاه.

التفسير:

اشارة

لمّا ختم اللّه سورة الأحزاب ببيان الغرض في التكليف و أنّه يجازي المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته افتتح هذه السورة بالحمد له على نعمته و كمال قدرته:

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم و نقيضه الذمّ و هو الوصف بالقبيح على جهة التحقير ثمّ ينقسم فمنه ما هو أعلى و منه ما هو أدنى و الأعلى ما يقع على وجه العبادة و لا يستحقّها إلّا اللّه لأنّ إحسان اللّه لا يوازيه إحسان أحد من المخلوقين و يستحقّ سبحانه الحمد على الإحسان و الإنعام و السور المفتتحة بالحمد خمس سور:

الفاتحة و الأنعام و الكهف و سبأ و فاطر.

و من المعلوم أنّ نعم اللّه مع كثرتها غير مقدور على الإحصاء لكنّها واضحة في قسمين نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء قلنا: في هاتين النعمتين حالتان الابتداء و الإعادة و في كلّ من الحالتين له علينا منّة و يقتضي أن نقوم بشكرها و حمده فأشار سبحانه بنعمة الإيجاد بقوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و بنعمة الإبقاء و الإعادة بقوله: [وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ] الحكيم الفاعل الّذي فعله على وفق العلم و المصلحة و الخبير هو الّذي يعلم عواقب الأمور و بدؤها.

[يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي ما يدخل في الأرض من مطر أو ميّت أو كنز أو حبّة [وَ ما يَخْرُجُ مِنْها] من الأشجار و السنابل [وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ] من أنواع

ص: 4

رحمته و منها المطر و الملائكة و الوحي و القرآن [وَ ما يَعْرُجُ فِيها] منها الكلم الطّيب لقوله: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» (1) و منها الأرواح و منها الأعمال الصالحة لقوله:

«وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» و قدّم ما يلج في الأرض على غيره لأنّ الحبّة تبذر ثمّ تسقى و هو تعالى يدبّر كلّ هذه الأمور بعلمه و حكمته [وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ] أي هو الرحيم بعباده مع علمه بالمعاصي منهم فلا يعاجلهم بالعقوبة و يمهلهم للتوبة و غفور و ساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا و متجاوز عنها في العقبى [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي منكروا البعث [لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ] يعني يوم القيامة فردّ سبحانه عليهم بقوله: [قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ و أكّد إتيانها باليمين.

فلو قيل: كيف يتأكّد باليمين مع أنّهم مشركون و المسألة الأصوليّة لا تثبت باليمين؟

فالجواب أنّه سبحانه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل و هو قوله: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» و بيان كونه دليلا هو أنّ المسي ء قد يبقى في الدنيا مدّة مديدة في اللّذات العاجلة و يموت عليها و المحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدّة مديدة و يموت عليها فلو لا دار يكون الجزاء فيها لكان الأمر في نهاية الظلم و على خلاف الحكمة و الدين.

هو [عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي في اللوح المحفوظ يقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام و قد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة و قوله: «فِي السَّماواتِ» إشارة إلى علمه بالأرواح «وَ لا فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى علمه في الأجسام و الإنسان روح و جسم و لا يستبعد معاده و الإعادة للجزاء.

فقال: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي ليكافيهم بما يستحقّونه من الثواب على صالح أعمالهم [أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ستر لذنوبهم و لهم مع ذلك رزق هيّئ لا تنقيص فيه و لا تكدير، و قيل: معنى الرزق الكريم الجنّة. و الرزق الكريم ما يأتي من غير طلب.

ص: 5


1- فاطر: 10.

و عن محمّد بن إسماعيل البخاريّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يخرج من النار من قال: لا إله إلّا اللّه و في قلبه وزن ذرّة من الإيمان. و وصف الرزق بقوله: «كَرِيمٌ» و لم يصف المغفرة لأنّ المغفرة واحدة و هي للمؤمنين و الرزق منه شجرة الزقّوم و الحميم و منه الفواكه و الشراب الطهور فميّز الرزق لحصول الانقسام فيه و لم يميّز المغفرة لعدم الانقسام فيها.

ثمّ قال سبحانه: [وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي الّذين سعوا في إبطال حججنا و في تزهيد الناس عن قبولها مقدّرين إعجاز ربّهم بزعمهم و ظانّين أنّهم يفوتونه و يسعون في ترويج كذبهم و باطلهم [لَهُمْ في مقابلة الرزق الكريم [عَذابٌ من جنس سوء العذاب شديد الإيلام و الزجر سوء العذاب كأنّه قال: عذاب مولم من أسوء العذاب.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 6 الى 9]

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله: [وَ يَرَى الَّذِينَ يجوز أن يكون منصوبا عطفا على «لِيَجْزِيَ» و يجوز أن يكون مرفوعا على الاستيناف أي و يعلم الّذين اعطوا العلم و المعرفة بوحدانيّة اللّه و هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قتادة و قيل: و هم المؤمنون من أهل الكتاب عن الضحّاك. و قيل:

هم كلّ من اوتي العلم بالدين و هذا أولى لعمومه.

[الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ يعني القرآن لأنّهم يتدبّرون و يتفكّرون فيه فيعلمون أنّه ليس من قبل البشر و هو أي القرآن [يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] أي دين اللّه القادر الّذي لا يغالب و هو المحمود في جميع أفعاله و في الآية دلالة على فضل العلم و فضيلة العلماء.

ص: 6

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار و قال: [الَّذِينَ كَفَرُوا] بعضهم لبعض أو القادة للأتباع على وجه الاستبعاد و التعجّب [هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي يزعم أنّكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما و رفاتا و ترابا أي إذا تفرّقت أوصالكم و قطعتم كلّ تقطيع و أكلتكم الأرض أو السباع و الطيور، و المراد بالجديد المستأنف المعاد أي كيف يتجدّد خلقكم بأن تنشروا و تبعثوا [أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي هل كذب على اللّه متعمّدا حين زعم أنّا نبعث بعد الموت و هو استفهام تعجّب منهم و إنكار [أَمْ بِهِ جِنَّةٌ] أي أو به جنون فهو يتكلّم بما لا يعلم.

ثمّ ردّ سبحانه عليهم قولهم: فقال: ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء و الجنون [بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي هؤلاء المنكرون للبعث و الجزاء [فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ] من الحقّ.

ثمّ وعظهم سبحانه فقال: [أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أ فلم ينظر هؤلاء الكفّار إلى ما بين أيديهم [وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ كيف أحاطت بهم و ذلك لأنّ الإنسان حين نظر رأى السماء و الأرض قدّامه و خلفه و عن يمينه و عن شماله و لا يقدر على الخروج منها فيستدلّ بهما على قدرة اللّه و يعرفون أنّا قادرون على إهلاكهم.

فقال: [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفنا بأقوام و كما خسفنا بقارون [أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ] أي قطعة من السماء نوقعها عليهم و نغطّيهم و نهلكهم [إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ترون من السماء و الأرض و القدرة [لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ لدلالة لكلّ عبد رجع عن معصيته إلى طاعته فلم لا يرتدعون هؤلاء من التكذيب و الكفر؟

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 10 الى 14]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

ص: 7

لمّا تقدّم ذكر عباد اللّه المنيبين إليه ذكر منهم من أناب و أصاب فقال سبحانه:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا] أي أعطينا داود منّا نعمة و إحسانا و فضّلناه على غيره بما أعطيناه من النبوّة و الكتاب و فصل الخطاب.

ثمّ فصّل سبحانه ما أعطاه فقال: [يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ] أي قلنا للجبال: يا جبال سبّحي معه إذا سبّح، و أمر اللّه الجبال أن تسبّح معه إذا سبّح فسبّحت معه، و تأويله: ارجعي معه التسبيح من آب يؤوب، و يجوز أن يكون سبحانه فعل في الجبال ما يأتي به منها التسبيح معجزا له و أمّا الطير فيجوز أن يسبّح و يحصل له من التمييز ما يتأتّى منه ذلك بأن يزيد اللّه في فطنته فيفهم ذلك.

و قيل: المعنى: يا جبال سيري معه فكانت الجبال و الطير تسير معه أينما سار و كان ذلك معجزا له و التأويب السير بالنهار. و قيل: معناه ارجعي إلى مراد داود فيما يريده من استنباط عين و استخراج معدن و وضع طريق.

القميّ قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور تسبّح الجبال و الطير و الوحوش معه و ألان اللّه الحديد بيده كالشمع حتّى كان يتّخذ منه ما أراد و قال: اعطي داود و سليمان ما لم يعط أحدا من الأنبياء من الآيات علّمهما منطق الطير و ألان لهما الحديد و الصفر من غير نار و مطرقة و جعلت الجبال أن يسبّحن مع داود.

[أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي قلنا له: أن اعمل من الحديد دروعا تامّات. و إنّما ألان اللّه الحديد لداود لأنّه أحبّ أن يأكل من كسب يده فألان له الحديد و أمره بصنعة الدرع و كان أوّل من اتّخذها و كان يبيعها و يأكل من ثمنها و يطعم عياله و يتصدّق منه.

قال الصادق عليه السّلام: و ذلك لأنّ اللّه أوحى إليه يا داود نعم العبد أنت إلّا أنّك تأكل من بيت المال فبكى داود أربعين صباحا فألان اللّه له الحديد فكان يعمل في كلّ يوم درعا

ص: 8

و يبيعها بألف درهم فاستغنى عن بيت المال.

قوله: [وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ] أي عدّل في نسج الدروع و منه قيل لصانعها: سرّاد و زرّاد، المعنى: لا تجعل الحلق دقاقا فتكسر الحلق و لا غلاظا فتثقل. و قيل: معناه اجعله و اصنعه بقدر الحاجة.

حكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها و لا يدري ما يريد أن يصنع داود و لكن لم يسأله حتّى فرغ داود منها ثمّ قام فلبسها و قال: نعم جنّة الحرب هذه فقال لقمان عند ذلك: الصمت حكمة و قليل فاعله.

[وَ اعْمَلُوا صالِحاً] أي و قلنا: اعمل أنت و أهلك الصالحات و هي الطاعات شكرا للّه على عظيم نعمة [إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] أي أنا عالم بما تفعلونه لا يخفى عليّ شي ء ممّا تفعلونه من أفعالكم.

ثمّ ذكر سبحانه ما آتى سليمان و أعطاه من الفضل و الكرامة فقال: [وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي و سخّرنا لسليمان الريح [غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ] أي مسير الريح في النهار إلى الظهر مسيرة شهر و من الظهر إلى العشاء مسيرة شهر فكانت تسير في تمام اليوم مسيرة شهرين للراكب. قيل: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر فارس و بينهما مسيرة شهر للمسرع و يروح من إصطخر و يبيت بكابل و بينهما مسيرة شهر تحمله الريح مع جنوده أعطاه اللّه الريح بدلا من الصافنات الجياد.

[وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ] أي أذبنا له عين النحاس و أظهرناها له قالوا: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيّام بلياليهنّ جعلها اللّه له كالماء.

[وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي و سخّرنا له من الجنّ من يعمل له بحضرته و أمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدميّ بين يدي الآدميّ بإذن اللّه و كان عليه السّلام يكلّفهم الأعمال مثل عمل الطين. قال ابن عبّاس: سخّرهم اللّه لسليمان و أمرهم بطاعته فيما يأمرهم به و في الآية دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.

قوله: [وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا] منهم من المسخّرين [نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ] أي

ص: 9

و من يعدل من هؤلاء الجنّ المسخّرين نذقه عذاب النار في الآخرة و في الآية دلالة على أنّهم قد كانوا مكلّفين. و قيل: معناه نذقه عذاب النار في الدنيا و أنّ اللّه سبحانه و كلّ بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

قوله: [يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ و هي بيوت العبادة أو البيوت الشريفة العالية و كان ممّا عملوه بيت المقدس و قد كان اللّه عزّ و جلّ سلّط على بني إسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا و يبرزوا إلى الصعيد بالذراريّ و الأهلين و يتضرّعوا إلى اللّه لعلّه يرحمهم و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد و ارتفع داود فوق الصخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه و سجدوا معه فلم يرفعوا رؤوسهم حتّى كشف اللّه عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع اللّه داود في بني إسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه قد منّ عليكم و رحمكم فجدّدوا له شكرا بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الّذي رحمكم اللّه فيه مسجدا ففعلوا و أخذوا في بناء بيت المقدس و كان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه و كذلك خيار بني إسرائيل حتّى رفعوه قامة و لداود يومئذ سبع و عشرون و مائة سنة فأوحى اللّه إلى داود أنّ تمام بنائه تكون على يدي ابنه سليمان.

فلمّا صار داود ابن أربعين و مائة سنة توفّاه اللّه و استخلف سليمان فأحبّ إتمام بيت المقدس فجمع الجنّ و الشياطين و قسّم عليهم الأعمال يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها (1) الأبيض الصافي من معادنه و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفائح و جعلها اثني عشر ربضا و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

و لمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في تتميم المسجد فوجّه الشياطين فرقا فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها و فرقة يأتون بالمسك و العنبر و سائر الطيب و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار فاوتي بشي ء من ة.

ص: 10


1- الرخام: المرمر و المها جمع المهاة مثل لها جمع لهات: البلور، و الصفائح جمع الصفيحة: الحجر العريض، و الربض: مسكن القوم او ما حول المدينة من بيوت و مساكن او هو سور المدينة.

ذلك لا يحصيه إلّا اللّه ثمّ أحضر الصنّاع و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى صيّروها ألواحا و معالجة تلك الجواهر و اللآلي قال: و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمّده بأساطين المها الصافي و سقّفه بألواح الجواهر و فضّض سقوفه و حيطانه باللآلي و اليواقيت و الجواهر و بسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن في الأرض بيت أبهى و لا أنور من ذلك المسجد كان يضي ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

فلمّا فرغ منه جمع إليه أخبار بني إسرائيل فأعلمهم أنّه بناه اللّه فاتّخذوا ذلك اليوم عيدا.

فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بخت نصّر بني إسرائيل و خرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذهب و الفضّة و الدرّ و الجواهر فحملها إلى دار مملكته من أرض اليمن.

قال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتّى قال في دعائه: بصلوات أبي داود إلّا فتحت الأبواب فتتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل خمسة آلاف بالليل و خمسة آلاف بالنهار فلا يأتي ساعة من ليل و لا نهار إلّا و يعبد اللّه فيها فهذا معنى قوله:

«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ» إشارة إلى الأبنية الرفيعة و «التَّماثِيلُ» ما يكون فيها من النقوش أي صورا من نحاس و شبه (1) و رخام و زجاج كانت الجنّ تعملها ثمّ اختلفوا فقال بعضهم: كانت صورا للحيوانات و قال آخرون: كانوا يعملون صور السباع و البهائم على كرسيّه ليكون أهيب له فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه و نسرين فوق عمودي كرسيّه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسيّ بسط الأسدان ذراعيهما و إذا علا على الكرسيّ نشر النسران أجنحتهما فظلّلاه. و يقال: إنّ ذلك كان ممّا لا يعرفه أحد من الناس فلمّا حاول بخت نصّر صعود الكرسيّ بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فخرّ مغشيّا عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسيّ.ر.

ص: 11


1- الشبه: النحاس الأصفر.

و قالوا: و لم تكن ذلك اليوم التصاوير محرّمة و هي محظورة في شريعة نبيّنا فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لعن اللّه المصوّرين و يمكن أن يكره ذلك في زمن دون زمن كما أنّ المسيح كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطير. و قال ابن عبّاس: كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد ليقتدى بهم و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: و اللّه ما هي تماثيل النساء و الرجال و لكنّها الشجر و ما أشبهه و التماثيل واحدها تمثال و أصلها من المثول و هو القيام كأنّه نصب قائما. و منه الحديث: من سرّه أن يمثّل له الناس فليتبوّأ مقعده من النار.

قوله تعالى: [وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ أي يعملون له صحافا في الكبر كالجابية و هي الحياض الّتي يجمع و يجبى فيها الماء و كان سليمان يطعم جنده و يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم و كان يجمع على كلّ جفته ألف رجل يأكلون بين يديه [وَ قُدُورٍ راسِياتٍ أي مراجل ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ و كانت باليمن. و قيل: كانت كالجبال عظيمة يحملونها مع أنفسهم.

ثمّ خاطب سبحانه آل داود و أمرهم بالشكر فقال: [اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً] أي اعملوا بطاعة اللّه شكرا له و فيه دلالة على وجوب شكر النعمة و أنّ الشكر طاعة تعظيم للمنعم و خصّ الأمر بآل داود فإنّ لقرابة الأنبياء أثرا في القرب. قوله [وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ] و الشكور من تكرّر منه الشكر لأنّه المبالغة في الشاكر و في هذا دلالة على أنّ المؤمن الشاكر يقلّ في كلّ عصر.

قوله: [فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ فلمّا حكمنا على سليمان بالموت [ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي مطردة، آلة الطرد، من نسأت البعير إذا طردته.

أي ما دلّ على موته إلّا الأرضة و لم يعلموا بموته حتّى أكلت عصاه فسقط فعلموا أنّه ميّت و ذلك لأنّ سليمان كان يعتكف في مسجد بيت المقدس الشهر و الشهرين و السنة و السنتين و اليوم و اليومين يقف للعبادة منتصبا و إذا عجز عن القيام في العبادة يتّكئ على عصاه و يتعبّد و لا يخرج من معبده و يدخل فيه طعامه و شرابه.

ص: 12

و كان آصف يدبّر أمره في الملك فلمّا كان في المرّة الّتي مات فيها و لم يكن يصبح يوما إلّا و تنبت شجرة كان يسأله سليمان فتخبره عن اسمها و نفعها و ضرّها فرأى يوما نبتا فقال: ما اسمك؟ قال: الخرنوب قال: لأيّ شي ء أنت؟ قال: للخراب فعلم أنّه سيموت فقال: اللّهم عمّ (1) على الجنّ موتي ليعلم الإنس أنّهم لا يعلمون الغيب و كان قد بقي من بنائه سنة و قال لأهله: لا تخبروا الجنّ موتي حتّى يفرغوا من بنائه و دخل محرابه و قام و اتّكأ على عصاه فمات و بقي سنة و تمّ البناء ثمّ سلّط اللّه على منسأته الأرضة حتّى أكلتها فخرّ ميّتا فعرف الجنّ موته و كانوا يحسبونه حيّا لمّا كانوا يشاهدون طول قيامه قبل ذلك.

و كان في إماتته قائما و بقائه كذلك أغراض: منها إتمام البناء، و منها أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلم الغيب و أنّهم في ادّعاء ذلك كاذبون و منها أن يعلم أنّ من حضر أجله فلا يتأخّر إذ لم يؤخّر سليمان مع جلالة شأنه.

و روي أنّه اطّلعه اللّه على حضور وفاته فاغتسل و تحنّط و تكفّن و الجنّ في عملهم.

و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبّة من قوارير فبينا هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف يعملون و هم ينظرون إليه و لا يصلون إليه إذا رجل معه في القبّة فقال: من أنت فقال: أنا الّذي لا أقبل الرشى و لا أهاب الملوك فقبضه و هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة قال:

فمكثوا سنة يعملون له حتّى بعث اللّه الأرضة فأكلت منسأته و قد تمّ البناء.

[فَلَمَّا خَرَّ] سليمان ميّتا [تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ تبيّنت الشي ء إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علما بيّنا بعد التباس الأمر عليهم أن لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته و لم يلبثوا بعده حولا في تسخيره.

و في قوله: «تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ» أقوال: قيل: ظهر أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فحينئذ قوله: «أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» بدل اشتمال من الجنّ و قرئ «تبينت الجن» على البناءة.

ص: 13


1- امر من عمى يعمى تعمية.

للمفعول (1) على أنّ المتبيّن في الحقيقة هو «أَنْ» و ما في حيّزها لأنّه بدل و التقدير قال أبو عليّ:

فلمّا خرّ تبيّن أمر الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب فالتبيّن حصل للإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب و انكشف هذا الأمر للإنس و ذلك لأنّ الجنّ ما ادّعوا علم الغيب و لكنّ الإنس اعتقدت فيهم أنّهم يعلمون الغيب فأبطل اللّه عقيدتهم و هذا المعنى يؤيّد قراءة ابن عبّاس و الضحّاك حيث أنّهما قرءا «تبيّنت الإنس» و هو قراءة عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليهما السّلام و هكذا هو في قراءة عبد اللّه بن مسعود و مصحفه فقراءة يعقوب على البناء للمجهول يؤول إلى قراءة على بن الحسين و الصادق عليهما السّلام.

و ذكر أهل التاريخ أنّ عمر سليمان عليه السّلام كان ثلاثا و خمسين سنة مدّة ملكه منها أربعون سنة، و ملك يوم ملك و هو ابن ثلاث عشر سنة و ابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.

و أمّا الوجه في عمل الجنّ تلك الأعمال العظيمة فهو أنّ اللّه تعالى زاد في أجسامهم و قوّتهم و غيّر خلقهم عن خلق الجنّ الّذين لا يرون للطافتهم و رقّة أجسامهم على سبيل الإعجاز الدالّ على نبوّة سليمان فكانوا بمنزلة الإسراء في يده فلمّا مات عليه السّلام جعل اللّه خلقهم على ما كانوا عليه فلا يتهيّأ لهم في هذا الزمان شي ء من ذلك.

و في العلل و العيون عن الرضا عليه السّلام عن آبائه أنّ سليمان قال ذات يوم لأصحابه:

إنّ اللّه وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي سخّر لي الريح و الإنس و الجنّ و الطير و الوحوش و علّمني منطق الطير و آتاني من كلّ شي ء و مع جميع ما أتيت ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل و قد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي و لا تأذنوا لأحد عليّ لئلّا يرد عليّ ما ينغض عليّ يومي قالوا: نعم فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع من قصره و وقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا ممّا اوتي فرحا بما اعطي إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره فلمّا بصر به سليمان قال له: من أدخلك إلى هذا القصر و قد أردت أن

ص: 14


1- اى على قراءة يعقوب و هو ضم التاء و الباء و كسر الياء من تبينت و لا فرق فان لفظ تبين هاهنا لازم غير متعد. انظر مجمع البيان ج 4 ص 381.

أخلو فيه هذا اليوم فبإذن من دخلت؟ قال الشابّ: أدخلني هذا القصر ربّه و بإذنه دخلت فقال: ربّه أحقّ به منّي فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت قال: و فيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك قال: امض لما أمرت به فهذا يوم سروري و أبى اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سروري دون لقائه فقبض ملك الموت روحه و هو متّكئ على عصاه.

فبقي سليمان متّكئا على عصاه و هو ميّت ما شاء اللّه و الناس ينظرون إليه و هم يقدّرون أنّه حيّ فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال: قد بقي سليمان متّكئا على عصاه هذه الأيّام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب إنّه لربّنا الّذي يجب علينا أن نعبده، و قال قوم: إنّ سليمان ساحر يرينا أنّه واقف متّكئ على عصاه سحر أعيننا و ليس كذلك و قال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللّه و نبيّه يدبّر اللّه أمره بما يشاء.

فلمّا اختلفوا بعث اللّه الأرضة فدبّت في عصاه فلمّا أكلت انكسرت العصا و خرّ سليمان من قصره على وجهه فشكرت الجنّ الأرضة صنيعها فلأجل ذلك لا يوجد في مكان إلّا و عندها ماء و طين.

و في الإكمال عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عاش سليمان بن داود سبعمائة و اثني عشر سنة.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 19]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

[لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ] ثمّ بيّن عن قصّة سبأ بما دلّ على حسن عاقبة الشكور مثل داود و سوء عاقبة الكفور مثل سبأ، و سبأ أبو عرب اليمن كلّها و قد سمّي به القبيلة و في الحديث عن فروة بن مسيك أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟

ص: 15

فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستّة و تشاءم منهم أربعة فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة و أمّا الّذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسّان فالمراد بسبإ هاهنا القبيلة الّذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود و أظنّ أنّ سبأ لقب و اسمه عبد شمس و إنّما لقّب بهذا اللقب لأنّه أوّل من سبى و غار.

[فِي مَسْكَنِهِمْ و قرئ «في مساكنهم» وفقا للمعنى و «فِي مَسْكَنِهِمْ» على المصدريّة و التقدير: في مواضع سكنّاهم فلمّا جعل المسكن كالسكنى و السكون أفرد كما يفرد المصادر [آيَةٌ] أي علامة و حجّة على معرفة اللّه و قدرته.

ثمّ فسّر الآية فقال: [جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ أي بستانان عن يمين البلد و شماله لمن أتى البلدة و المراد جماعتان من البساطين و الجماعتان في تقاربهما و تضامّهما كأنّهما جنّة واحدة و لم يرد جنّتين اثنين و المعنى أنّها متّصلة بعضها ببعض و كان من كثرة النعم أنّ المرأة كانت تمشي و المكتل على رأسها فيمتلئ بالفواكه من غير أن تمسّ و تقطف بيدها شيئا و لم يكن في قريتهم بعوضة و لا ذباب و لا برغوث و لا عقرب و لا حيّة و كان الغريب إذا دخل بلدهم و في ثيابه قمّل و دوابّ ماتت و المراد بالآية قيل:

هذه الأمور و قيل: الآية كانت ثلاث عشرة قرية في كلّ قرية نبيّ يدعوهم إلى اللّه.

[كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي كان الأنبياء يقولون لهم: كلوا من هذه النعم [وَ اشْكُرُوا لَهُ يزدكم من نعمه و استغفروه يغفر لكم [بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ] أي كلّ نبيّ قرية يقول لأهلها: هذه بلدة مخضّبة نزهة عذبة و ليست بسبخة، طاهرة عن المؤذيات حتّى الوباء و الأمراض و ما كان فيها حرّ يؤذي في القيظ و لا برد يؤذي في الشتاء [وَ رَبٌّ غَفُورٌ] كثير المغفرة للذنوب [فَأَعْرَضُوا] عن الحقّ و لم يشكروا و لم يقبلوا ممّن دعاهم إلي اللّه من أنبيائه [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ و ذلك أنّ الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن و كان هناك جبلان يجتمع ماء المطر و السيول بينهما فسدّوا بين الجبلين فإذا احتاجوا إلى الماء نقّبوا السدّ بقدر الحاجة و يسقون زروعهم و بساتينهم فلمّا كذّبوا رسلهم و تركوا

ص: 16

أمر اللّه فبعث اللّه في الردم جرذا نقبت ذلك الردم و فاض الماء عليهم فأغرقهم. قال ابن الأعرابيّ: «الْعَرِمِ» السيل الّذي لا يطاق و قصّة كهانة طريقه الكاهنة و عمرو بن عامر المزيقياء معروفة لا حاجة لذكرها (1).

[وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ اللتين فيهما أنواع الفواكه [جَنَّتَيْنِ أخراوين، سمّاهما جنّتين لازدواج الكلام كما قال: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ» (2) و «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» (3) [ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ أي صاحبتي أكل و هو اسم للثمر من كلّ شجر قال ابن عبّاس: «الخمط» الأراك و ثمر الخمط البرير. و قيل: الخمط شجر الغضا. و قيل: هو كلّ شجر له شوك و «الأثل» الطرفاء. و قيل: هو السمر [وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ يعني إنّ الأثل و الخمط كانا أكثر فيهما من سدر و هو النبق و كان شجرهم خير شجر فصيّره اللّه شرّ شجر بسوء أعمالهم.

[ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا] أي ذلك الّذي فعلنا بهم بسبب كفرهم [وَ هَلْ نُجازِي بهذا الجزاء [إِلَّا الْكَفُورَ] الّذي يكفر نعم اللّه.

و قد استدلّ الخوارج بهذا على أنّ مرتكب الكبيرة كافر و هذا الاستدلال غير سديد من حيث إنّه سبحانه إنّما بيّن بذلك أنّه لا يجازي بهذا النوع من العذاب الّذي هو الاستيصال إلّا الكافر و يجوز أن يعذّب الفاسق بغير ذلك العذاب.

و قيل: معنى الآية هل نجازي بجميع سيّئاته إلّا الكافر لأنّ المؤمن قد يكفّر عنه بعض سيّئاته. و قيل: معنى الآية أنّ المجازاة من التجازي، و هو التقاضي أي لا يقتضي و لا يرتجع ما اعطي إلّا الكافر و أنّهم لمّا كفروا ارتجع منهم النعمة.

قوله: [وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً] أي إنّا جعلنا بينهم و بين قرى الشام الّتي باركنا فيها بالماء و الشجر قرى مواصلة قرية متّصلة بقرية و كان متجرهم من أرض اليمين إلى الشام و كانوا يبيتون بقرية و يقيلون بأخرى حتّى

ص: 17


1- بل سيجي ء ذكرها عن قريب.
2- آل عمران: 54.
3- البقرة: 194.

يرجعوا و كانوا لا يحتاجون إلى زاد في طريقهم من وادي سبأ إلى الشام و معنى الظاهرة أنّ الثانية كانت ترى من الاولى لقربها منها.

[وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ] أي و جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا و هو نصف يوم و قلنا لهم: [سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً] أيّ ليلا شئتم المسير بلا خوف أو نهار [آمِنِينَ من الجوع و العطش و السباع و السارق و كلّ المخاوف و المراد بيان تكامل النعمة عليهم سفرا و حضرا.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم بطروا و بغوا [فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا] أي اجعل بيننا و بين الشام فلوات و مفاوز لنركب إليها الرواحل و نقطع المنازل و هذا كما قالت بنو إسرائيل:

لمّا ملّوا النعمة حيث قالوا: اخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها بدلا من المنّ و السلوى.

[وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب المعاصي و الكفر [فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدّثون بأمرهم و شأنهم و يضربون بهم المثل فيقولون: تفرّقوا أيادي سبأ إذا تشتّتوا أعظم التشتّت [وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرّقناهم في البلاد كلّ تفريق [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي دلالات [لِكُلِّ صَبَّارٍ] على الشدائد [شَكُورٍ] على النعماء أو صبور عن المعاصي شكور للنعم بالطاعات.

و مختصر قصّة طريفة الكاهنة أنّها ألقت (1) إلى عمرو بن العامر الّذي يقال له مزيقيا ابن ماء السماء و كانت رأت في كهانتها أنّ سدّ مأرب سيخرب و إنّه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنّتين فباع عمرو أمواله و سار هو و قومه إلى مكّة فأقاموا بها و ما حولها فأصابتهم الحمّى و كانوا ببلد لا يعرفون فيه الحمّى فدعوا طريفة و شكوا إليها الّذي أصابهم فقالت لهم: قد أصابني الّذي أصابكم و هو مفرّق بيننا قالوا: فما ذا تأمرين قالت:

من كان منكم ذا همّ بعيد و جمل شديد و مزاد جديد فيلحق بقصر عمّان المشيد و كانت أزد عمّان ثمّ قالت: من كان منكم ذا جلد و صبر على أزمّات الدهر فعليه بالأراك من بطن مرّان و كانت خزاعة ثمّ قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل و كانت الأوس و الخزرج ثمّ قالت: من كان منكم يريد الخمر و الخمير و الملك ا.

ص: 18


1- اى ابلغتة الرؤيا التي رأتها.

و التأمير و ملابس الديباج و الحرير فليلحق ببصرى و غوير- و هما من أرض الشام- و كان الّذين سكنوها آل جفنة بن غسّان ثمّ قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق و الخيل العتاق و كنوز الأرزاق و الدم المهراق فليلحق بأرض العراق و كان الّذين سكنوها آل جذيمة الأبرش و من كان بالحيرة و آل محرق.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 20 الى 25]

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

الضمير قيل: في «عَلَيْهِمْ» راجع إلى أهل سبأ و قيل: إلى الناس كلّهم إلّا من أطاع اللّه.

و المعنى أنّ إبليس كان قال: «لَأُغْوِيَنَّهُمْ* و لَأُضِلَّنَّهُمْ» و ما كان ذلك عن علم و تحقيق و إنّما قاله ظنّا فلمّا تابعه أهل الزيغ و الشرك صدّق ظنّه و حقّقه [فَاتَّبَعُوهُ فيما دعاهم إليه [إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني المؤمنين كلّهم و «من» هنا للتبيين أي و علموا قبح متابعة إبليس فلم يتّبعوه و اتّبعوا أمر اللّه.

[وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي لم يكن لإبليس عليهم من سلطنة و لا ولاية يتمكّن بها من إجبار هم على الضلال و إنّما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال: «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي».

[إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ أي إنّا لم نمكّنه من إغوائهم و وسوستهم إلّا لنميّز بين من يقبل منه و من يمتنع متابعته فنعذّب من يتابعه و نثيب من خالفه فعبّر عن التمييز بين الفريقين بالعلم، و هذا التميّز متجدّد لأنّه

ص: 19

لا يكون إلّا بعد وقوع ما يستحقّون به ذلك و أمّا العلم فبخلاف ذلك فإنّه سبحانه كان عالما بأحوالهم و بما يكون منهم في الأزل و قيل: معناه لنعلم طاعاتهم موجودة أو معاصيهم إن عصوا فنجازيهم بحسبها لأنّه سبحانه لا يجازي أحدا على ما يعلم من حاله إلّا بعد أن يقع ذلك منه [وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ] أي عالم لا يفوته علم شي ء من أحوالهم.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ علم اللّه من الأزل إلى الأبد محيط بكلّ معلوم و علمه عين ذاته لا يتغيّر و هو في كونه سبحانه عالما لا يتغيّر و لكن يتغيّر متعلّق علمه فإنّ العلم يظهر به كلّ ما في نفس الأمر فعلم اللّه في الأزل أنّ العالم سيوجد فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم و إذا عدم يعلمه معدوما بذلك العلم مثاله أنّ المرآة المصقولة فيها الصفاء فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثمّ إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته و المرآة لم تتغيّر في ذاتها و لا تبدّلت في صفاتها إنّما التغيير في الخارجات الّتي قابلت فكذلك هاهنا فقوله: «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ» أي ليقع في العلم صدور الإيمان من المؤمن و الكفر من الكافر و كان قبله في علمه أنّه سيكفر زيد و يؤمن عمرو.

قوله تعالى: [قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ قل يا محمّد لهؤلاء المشركين:

ادعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة و أنّهم شركاء للّه تعالى و أنّهم شفعاؤكم هل يستجيبونكم إلى ما تسألونهم و هذا نوع توبيخ ليعلموا أنّ أوثانهم لا تنفعهم و لا تضرّهم لأنّهم لا يتمكّنون من أن يجيبوهم.

ثمّ قال سبحانه: [لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي لا يقدرون زنة ذرّة من خير و شرّ و نفع و ضرّ فيهما [وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ و ليس لهم في خلق السماوات و الأرض من نصيب و مدخليّة [وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ] أي ليس له معاون على خلقهما.

[وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي لا تنفع الشفاعة عند اللّه إلّا لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له الشفاعة مثل الأنبياء و الملائكة و الأولياء و إلّا لمن يأذن له في الشفاعة، و إنّما قال سبحانه ذلك لأنّ الكفّار و المشركين كانوا يقولون: نعبدهم

ص: 20

ليقرّبونا إلى اللّه زلفى فحكم اللّه ببطلان عقائدهم.

[حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الفزع عن قلوبهم، و اختلف في الضمير في قوله: «عَنْ قُلُوبِهِمْ» على قولين:

الأوّل أنّ الضمير راجع إلى المشركين الّذين تقدّم ذكرهم فيكون المعنى حتّى إذا أخرج عن قلوبهم الفزع وقت الفزع ليسمعوا كلام الملائكة [قالُوا] إذا قالت الملائكة لهم: [ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ أي قال هؤلاء المشركون مجيبين للملائكة إنّ ما جاء به الرسل كان حقّا و يعترفون حينئذ بالحقّ.

و القول الثاني أنّ الضمير راجع إلى الملائكة ثمّ اختلف في معناه على وجوه:

أحدها أنّ الملائكة إذا صعدوا بأعمال العباد و لهم زجل و صوت عظيم فتحسب الملائكة أنّها الساعة فيخرّون سجّدا و يفزعون فإذا علموا أنّه ليس ذلك قالوا: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ».

و ثانيها أنّ الفترة لمّا كانت بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث اللّه محمّدا أنزل اللّه سبحانه جبرئيل بالوحي فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنّه نزل بشي ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبرئيل يمرّ بكلّ سماء و يكشف عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم و قالت الملائكة بعضهم لبعض: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ» يعني الوحي و القرآن.

و القول الثالث أنّ اللّه إذا أوحى إلى بعض الملائكة لحق الملائكة غشى عند سماع الوحي و يخرّون و يصعقون سجّدا للآية العظيمة فإذا فزّع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الّذي اوحي إليه ما ذا قال ربّك، و يسأل بعضهم بعضا فيعلمون أنّ الأمر في غيرهم، عن ابن مسعود و اختاره الجبّائيّ.

[وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] السيّد القادر العليّ في صفاته الكبير في قدرته.

القميّ: قال الصادق عليه السّلام: لا يشفع أحد من أنبيائه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه في الشفاعة إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ اللّه قد أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة و الشفاعة له في أمّته و لنا الشفاعة في شيعتنا و لشيعتنا الشفاعة في أهاليهم ثمّ قال: إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه يقول:

ص: 21

يا ربّ خدمني و كان يقيني الحرّ و البرد.

و عن الباقر عليه السّلام قال: ما من أحد من الأوّلين و الآخرين إلّا و هو محتاج إلى شفاعة رسول اللّه ثمّ قال: إنّ لرسول اللّه الشفاعة و قرى «حتّى إذا فرّغ» بالراء المهملة و الغين المعجمة بمعنى فراغ القلوب و خلوّها عن الوجل من فرغ الزاد إذا لم يبق منه شي ء.

قال العلّامة أبو السعود صاحب التفسير العلّامة المعروف في بيان الآية في قوله: «وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» قال: (أي لا تقع الشفاعة في حال من الأحوال الكائنة لمن أذن له في الشفاعة من النبيّين و الملائكة و نحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة فتبيّن حرمان الكفرة من الشفاعة بالكلّيّة أمّا من جهة أصنامهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورة استحالة الإذن في الشفاعة لجماد لا يعقل و لا ينطق و أمّا من جهة من يعبدونه من ملائكة فلأنّ إذنهم مقصور على الشفاعة للمستحقّين لها لقوله تعالى:

«لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً» (1) و من المعلوم أنّ الشفاعة للكفرة بمعزل من الصواب فعلى هذا ثبت حرمانهم عن الشفاعة و هي غير صادرة عن الشفعاء إذ لم يؤذن لهم و قوله: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ» و التفزيع إزالة الفزع أي زال الفزع عن قلوب الشفعاء و المشفوع لهم من المؤمنين و كلمة «حتى» غاية لما ينبئ عنه قبل الكلام من الإشعار بوقوع الإذن لمن أذن له لأنّه سأل كيف يؤذن لهم؟ فقيل: يتربّصون الشفعاء من موقف الاستيذان و الاستدعاء على وجل و خوف و فزع مليّا حتّى ازيل الفزع عن قلوبهم بعد اللتيّا و اللتي و ظهرت لهم تأثير الإجابة.

«قالُوا» أي المشفوع لهم و المحتاجون: «ما ذا قالَ رَبُّكُمْ» في شأن الإذن «قالُوا» أي الشفعاء لأنّهم المتباشرون للاستئذان المتوسّطون بين المذنبين و المحتاجين إلى الشفاعة و بينه عزّ و جلّ «الْحَقَّ» أي قال ربّنا قول الحقّ، و هو الأذن في الشفاعة للمستحقّين و قرئ «الْحَقَّ» مرفوعا أي ما قاله الحقّ.

«وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» و هو من تمام كلام الشفعاء قالوه اعترافا لغاية عظمة ربّهم) انتهى كلام أبي السعود.

ص: 22


1- النبأ: 38.

قوله تعالى: [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّهم لا يمكنهم أن يقولوا:

ترزقنا آلهتنا الّتي نعبدها ثمّ عند ذلك [قُلِ اللَّهُ الّذي يرزقكم [وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إنّما قال ذلك على وجه النصفة في الحجّة دون الشكّ كما يقول القائل: أحدنا كاذب و إن كان هو عالما بالكاذب و هذا العنوان من الكلام شائع بأن يجمع المتكلّم بين الخبرين و يفوّض التميز إلى العقول فيكون الكلام معناه: إنّا على هدى و أنتم على ضلال و إنّما يقال مثل هذا الكلام على وجه الاستعطاف و المداراة لتنبيه المخاطب و لا ينسب المحقّ نفسه إلى الهدى و خصمه إلى الضلال بل يحثّه على التأمّل و النظر.

قوله: [قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قل يا محمّد: إذا لم ينقادوا للحجّة لا تسألون أيّها الكفّار عن ما اقترفنا و اكتسبنا من المعاصي و لا نسأل نحن عمّا تعملونه أنتم بل كلّ إنسان يسأل عمّا يعمله و في هذا دلالة على أنّ أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره و أضاف الإجرام إلى النفس و قال في حقّهم: «وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ذكر بلفظ العمل لئلّا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 26 الى 30]

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه أن يحاكمهم و يكلّمهم إلى اللّه لإعراضهم عن الحجّة فقال:

[قُلْ يا محمّد: [يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا] يوم القيامة [ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا] أي يحكم [بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الحاكم العالم بالحكم لا يخفى عليه شي ء من الحكم [قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ] أي أروني الّذين زعمتم أنّهم شركاء اللّه تعبدونهم معه فوبّخهم اللّه فيما اعتقدوه من الأشراك مع اللّه [كَلَّا] أي ليس كما تزعمون أي ارتدعوا

ص: 23

عن هذا المقال [بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب الحكيم في أفعاله فكيف يكون له شريك؟

ثمّ بيّن سبحانه نبوّة نبيّه فقال: [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي أنت رسول إلى عامّة البشر كلّهم كالعرب و العجم و سائر الأمم، روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أعطيت خمسا و لا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر و الأسود و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا و احلّ لي الغنم و لم يحلّ لأحد قبلي و نصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر و أعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة. و قيل: «كافّا للنّاس» أي مانعا لهم عمّاهم عليه من الكفر و المعاصي بالأمر النهي و الهاء للمبالغة، عن أبي مسلم.

[بَشِيراً] لهم بالجنّة [وَ نَذِيراً] بالنار [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك لإعراضهم عن النظر في معجزتك و لا يعلمون ما لهم في الآخرة في اتّباعك من الثواب و النعيم و ما عليهم في مخالفتك من العذاب الأليم.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار فقال: [وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولونه يا معشر المؤمنين ثمّ أمر نبيّه بجوابهم [قُلْ يا محمّد: [لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي لا تتأخّرون عن ذلك اليوم و لا تتقدّمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منها.

و في قوله: «لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ» قراءات: رفعهما مع التنوين و على هذا «يوم» بدل و الثانية نصب «يوم» و رفع «ميعاد» و التنوين فيهما و وجه النصب بفعل محذوف أي أعني يوما أو على الظرفيّة كأنّه يقول: لكم ميعاد تعلمون يوما كقول القائل:

«إنّك مقتول يوما» و الثالثة الإضافة أي لكم ميعاد يوم.

و قوله تعالى:

[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 35]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)

ص: 24

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في القيامة: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] قيل: اليهود، و قيل:

هم مشركو العرب، و هو الأصحّ [لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ و لا نصدّق بأنّه من اللّه تعالى [وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من أمر الآخرة أو أحكام القرآن، و قيل: المراد «بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» يعنون به التوراة و الإنجيل و ذلك لأنّه لمّا قال مؤمنو أهل الكتاب: إنّ صفة محمّد في كتابنا كذا و هو نبيّ مبعوث، كفر المشركون بكتابهم.

ثمّ قال: [وَ لَوْ تَرى يا محمّد [إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي محبوسون للحساب يوم القيامة [يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يردّ بعضهم إلى بعض القول في الجدال.

[يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا] و هم الأتباع [لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و هم الأشراف و القادة [لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ مصدّقين بآيات اللّه أي أنتم منعتمونا من الإيمان و لو لا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لآمنّا باللّه في الدنيا و جواب «لَوْ تَرى محذوف و تقديره:

لرأيت عجبا.

قوله: [قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا] أي قال المتبوعون للتابعين على سبيل الإنكار: [أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى [بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنتم كفرتم و لم نحملكم على الكفر قهرا فكلّ واحد من الفريقين ورك (1) الذنب على صاحبه و اتّهمه و لم يضف واحد منهم الذنب إلى اللّه.

[وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] يعني الأتباع للمتبوعين [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي بل صدّنا مكركم بنا في الليل و النهار، فحذف المضاف إليه و أقيم مقامه الظرف اتّساعا و قرئ «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» بالتنوين عوض عن المضاف إليه ه.

ص: 25


1- ورك الذنب عليه: حمله.

و قرئ «بَلْ مَكْرُ (1) اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» بالرفع و النصب أي تكرّون الإغواء مكرّا دائبا فالرفع على الفاعليّة أي صدّنا مكركم في الليل و النهار و النصب على المصدريّة أي تمكرون مكرّ الليل و النهار أي مكرّا دائما.

[إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً] حين أمرتمونا بجحد وحدانيّة اللّه و دعوتمونا إلى أن نجعل له شركاء في العبادة.

[وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ] فيه و جهان: أحدهما: أضمر الفريقان الندامة و أخفاها كلّ منها عن الآخر مخافة التعيير و الثاني أظهروها فإنّه من الأضداد و هو المناسب لحالهم، كما فسّر بيت امرئ القيس على الوجهين حيث يقول:

تجاوزت أحراسا إليها و معشراعليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

[لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين رأوا نزول العذاب بهم [وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي غلّوا بها في النيران [هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلّا بأعمالهم الّتي عملوها على قدر استحقاقهم.

[وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ] أي من نبيّ مخوّف باللّه [إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها] جبّاروها و أغنياؤها المتنعّمون فيها [إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و في الآية بيان للنبيّ أنّ أهل قريته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهجوا على مناهج الأوّلين و أنّ إيذاء الأنبياء من جانب الكفّار ليس بدعا بل ذلك عادة جرت من قبل.

ثمّ بيّن علّة كفرهم [وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً] أي فاستدلّوا على كونهم مصيبين بكثرة المال و الولد ظنّا منهم بأنّ اللّه إنّما خوّلهم المال و الولد كرامة لهم عنده و قالوا: إذا رزقنا و حرمتم فنحن أكرم منكم و أفضل عند اللّه.

[وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ و لم يعلموا أنّ الأموال و الأولاد ليس للإكرام و التفضّل و تستوجب الشكر لا الكفر و إنّما قالوا ذلك إمّا للإنكار منهم للعذاب رأسا أو اعتقاد الحسن حالهم في الآخرة قياسا بالدنيا.

فبيّن اللّه خطاءهم بقوله:ع.

ص: 26


1- مصدر ميمى من كر، يكر، كرورا: بمعنى رجع.

[سورة سبإ (34): الآيات 36 الى 40]

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40)

[قُلْ يا محمّد [إِنَّ رَبِّي الّذي خلقني [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ] عن ما يعلم من المصلحة للمرتزق أو لغيره [وَ يَقْدِرُ] أي و يضيق أيضا على حسب المصلحة و المراد من «البسط» الزيادة على قدر الكفاية «و القدر» تضييقه عن قدر الكفاية فالسعة و الضيق لا تدلّ على حال المحقّ و المبطل فكم من مؤسر شقيّ و معسر تقيّ [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حكمته و صلاحه سبحانه.

ثمّ كشف سبحانه عن هذا المعنى بقوله: [وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا] فإنّ المال لا يقرّب إلى اللّه و لا اعتبار بالتعزّز به حيث تقولون: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا» و إنّما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان بل إنّ المال و الولد في الغالب يشغل عن اللّه و يبعد العبد عنه فكيف يقرّب به [زُلْفى أي قربى و زلفى اسم المصدر أي يقرّبكم قربة أو تقريبا.

[إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً] أي و ما الأموال و الأولاد تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الّذي أنفق ماله في سبيل اللّه و علّم أولاده الخير و الصلاح فحينئذ الاستثناء متّصل و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا مفرّغا أي لكن من آمن باللّه و صدّق نبيّه و أطاعه فيما أمره.

[فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا] و جزاء الضعف الحسنة فإنّ الضعف لا يكون إلّا في الحسنة و في السيّئة لا يكون إلّا المثل أي يضاعف اللّه حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى ما زاد و الضعف اسم جنس يدلّ على الكثير و القليل [وَ هُمْ

ص: 27

فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي في غرف الجنّة و هي البيوت المرتفعة فوق الأبنية مأمونين غير خائفين.

[وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ و يجتهدون في إبطال آياتنا و تكذيبها معاجزين لأنبيائنا أو زاعمين أنّهم يفوتوننا أو مثبّطين غيرهم عن أفعال الخير [أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي ثابتون و دائمون.

[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ مرّ تفسيره و إنّما كرّره سبحانه لاختلاف فالأوّل توبيخ للكافرين و الثاني وعظ للمؤمنين و إشارة إلى معنى و هو أنّ نعيم الآخرة قد يكون لا ينافي نعيم الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع حصول النعم لهم في العقبى كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و قد يجمعها اللّه لأقوام» كأنّه قال: إنّ وجود الرزق لا يدلّ على عدم الشرف و لا يدلّ على الشرف.

قوله: [وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي و ما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ فإنّه سبحانه يعطيكم خلفه و عوضه إمّا في الدنيا بزيادة النعم و إمّا في الآخرة بثواب الجنّة.

[وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنّه يعطي المنافع لا لدفع ضرر أو جرّ نفع لاستحالة المنافع و المضارّ عليه، و روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: قال اللّه عزّ و جل لي: أنفق أنفق عليك. و عن جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: كلّ معروف صدقة و ما اوتي به الرجل عوضه فهو صدقة و ما أنفق المؤمن من نفقة فعلى اللّه خلفها ضامنا إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية.

و خيريّة الرازق في امور: أحدها أن لا يؤخّر عن وقت الحاجة إذا عرف الصلاح لأنّه عالم و لا ينقص عن قدر الحاجة و لا ينكده بالحساب لأنّه غنيّ و لا يكدره بطلب الثواب لأنّه كريم و قد ذكر سبحانه بقوله: «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ»* (1) أنّ هبة الأعلى للأدنى لا يقتضي ثوابا و بقوله تعالى: «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» أنّه قد حصل الضمان و الوعد و الخلف لا يقع منه تعالى فإذا إمساكك عن البذل و الإقراض

ص: 28


1- البقرة: 212.

إمّا سوء ظن بالربّ أو من قلّة العقل مع أنّ المال في يد العبد على سبيل العارية.

فلو قيل: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ينبئ أن يكون رازق غيره و لا رازق إلّا اللّه فالمراد:

اللّه خير الرازقين الّذين تظنّونهم رازقين مثل قوله: «أَحْسَنُ الْخالِقِينَ»*.

و تحقيق المسألة هو أنّ الصفات منها ما حصل للّه و للعبد حقيقة و منها ما يقال للّه بطريق الحقيقة و للعبد بطريق المجاز و منها يقال للّه بطريق الحقيقة و لا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة و لا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة و لا صورة؛ مثال الأوّل العلم بكون النار حارّة فإنّ اللّه يعلم و العبد يعلم غاية ما في الباب أنّ علمه قديم و علمنا حادث، مثال الثاني الرازق و الخالق فإنّ العبد إذا أعطى غيره شيئا فإنّ اللّه هو المعطي و لكن لأجل صورة العطاء منه سمّي معطيا كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط:

إنسان و فرس، مثال الثالث الأزليّ و الإله فإنّه له لا لغيره سبحانه و قد يقال في أشياء في الإطلاق و التعبير على العبد حقيقة و على اللّه مجازا كالاستواء و المعيّة و يد اللّه و جنب اللّه، انتهى.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما أنفق المؤمن من نفقه فعلى اللّه خلفها بشرط أن لا يبلغ إلى حدّ السرف كما في الحديث روى أبو أمامة قال: إنّكم تؤوّلون في هذه الآية غير تأويلها «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» و قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا فصمّتا يقول:

إيّاكم و السرف في المال و النفقة و عليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قطّ اقتصدوا.

قوله: [وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً] أي يوم القيامة نجمع العابدين لغير اللّه و المعبودين من الملائكة للحساب.

[ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ] الكفّار [إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ و يقصدون بالعبادة و هذا الخطاب و الاستشهاد للملائكة على اعتقاد الكفّار حتّى تبرّأ الملائكة منهم و من عبادتهم كما يقال لعيسى عليه السّلام: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) فينكر عيسى و يقول: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» (2).

و النظم في الآية بما قبلها أنّهم قالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا» بيّن سبحانه أنّ

ص: 29


1- المائدة: 119.
2- المائدة: 119.

دعواهم مردودة و أنّهم معذّبون.

قوله تعالى: [سورة سبإ (34): الآيات 41 الى 45]

قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

المعنى: [قالُوا] أي الملائكة: [سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن نعبد سواك و نتّخذ معبودا غيرك [أَنْتَ يا اللّه [وَلِيُّنا] و ناصرنا و أولى بنا [مِنْ دُونِهِمْ من دون هؤلاء الكفّار و كلّ أحد و ما كنّا نرضى بعبادتهم إيّانا مع علمنا بأنّك ربّنا و ربّهم.

[بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ بطاعتهم إيّاهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة و قيل: المراد «بالجنّ» إبليس و ذريّته و أعوانه [أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي مصدّقون بالشياطين مطيعون لهم و قيل: إنّ الشياطين يتمثّلون لهم و يخيّلون لهم أنّهم الملائكة فيعبدونهم و قيل: يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت و الضمير في «أَكْثَرُهُمْ» للإنس و المشركين و الضمير في «بِهِمْ» للجنّ و الأكثر بمعنى الكلّ.

ثمّ يقول اللّه: [فَالْيَوْمَ يعني في الآخرة [لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني العابدين و المعبودين [نَفْعاً] بالشفاعة [وَ لا ضَرًّا] بالتعذيب و الفاء لترتيب بيان عدم النفع و الضرّ من الملائكة للعبدة و العبدة للملائكة.

[وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] بأن عبدوا غير اللّه [ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ و لا تعترفون بها و تجحدونها لأنّ بعضهم كانوا جاحدين وقوع العذاب رأسا و بعضهم يدفعونها بشفاعة أصنامهم و بعضهم ينكرون العذاب الدائم و يقولون: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» (1) فيقال لهم: ذوقوا عذاب الدائم.

ص: 30


1- البقرة: 80.

ثمّ بيّن سبحانه حال الكفّار في الدنيا فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي متى ما يقرء عليهم حججنا البيّنة الواضحة من القرآن الّذي أنزلناه على نبيّنا [قالُوا] عند ذلك: [ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و يمنعكم [عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ و يقول بعضهم لبعض هذا القول و فرغوا إلى تقليد الآباء لمّا أفحمتهم الحجّة.

[وَ قالُوا ما هذا] القرآن [إِلَّا إِفْكٌ أي كذب مفترى تخرّصه و افتراه هذا النبيّ [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن [لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا] أي ما هذا [إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة فقال: [وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها] أي و ما أعطينا مشركي قريش كتابا قطّ يعلّمون درسه حتّى يعلموا أنّ ما جئت به حقّ أو باطل و إنّما يكذّبونك بهوى أنفسهم لاعن علم أي إنّ الآيات البيّنات لا تعارض إلّا بالبراهين العقليّة أو بالنقليّات الصحيحة و هم ما كان عندهم من كتاب و لا رسول غيرك و المعتبر كتاب اللّه أو خبر الرسول.

[وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ] أي ما بعثنا رسولا أمرهم بتكذيبك و أخبرهم ببطلان قولك يعني إنّهم لا يرجعون في تكذيبك إلّا إلى الجهل و العناد.

ثمّ أخبر سبحانه عن عاقبة من كذّب الرسل تخويفا لهم فقال: [وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بمن بعث إليهم من الرسل و ما آتاهم اللّه من الكتب [وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي و ما بلغ قومك يا محمّد معشار ما أعطينا من قبلهم من القوّة و العمر و المال فأهلكهم اللّه.

[فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] أي عقوبتي انظر في آثارهم كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك و ما بلغ هؤلاء الضعفاء من قومك معشار أولئك الذين وقع عليهم أخذي و عقوبتي مع كثرة أموالهم و أعمارهم مثل عاد و ثمود و يمكن أن يكون المعنى: إنّ أولئك المتقدّمين الّذين وقع عليهم العذاب ما آتيناهم عشر ما آتينا قومك من البيّنات و الحجج و مع ذلك كيف كان إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك و ذلك لأنّ كتاب محمّد أكمل من سائر الكتب و أوضح و لذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل و أفصح و برهانه و بيانه أشفى.

ص: 31

[سورة سبإ (34): الآيات 46 الى 50]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

المعنى: أشار سبحانه في هذه الآية بالأصول الثلاثة فقوله: «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ» إشارة إلى التوحيد و قوله: «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ» إشارة إلى الرسالة و قوله: «بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» إشارة إلى اليوم الآخر.

فخاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [قُلْ يا محمّد: لهم [إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ] أي آمركم بخصلة واحدة أو بكلمة واحدة و هي كلمة التوحيد أو طاعة اللّه فمن قال بالأوّل:

فسّر الواحدة بما بعده فقال: [أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى أي اثنين اثنين و واحدا واحدا [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ] معناه أن يقوم الرجل منكم وحده أو مع غيره ثمّ تتساءلون و تتباحثون هل جرّبنا على محمّد كذبا و هل رأينا به جنّة ففي ذلك بطلان قولكم فيما تقولون: إنّه لمجنون و ساحر و معنى القيام في الآية ليس القيام على الأرجل بل المراد به القصد للنظر و الفهم و التعقّل لتبيين الحقّ.

فلو قيل: إنّ قوله: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أن يتمّ الأمر بالتوحيد و الحالة أنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالاعتراف بالرسالة و الحشر و امور أخر فكيف يصحّ الحصر المذكور بقوله: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ».

فالجواب أنّ الأمور الباقية و الأركان الاخر غير منفكّة عن هذه الواحدة و لازمة لها لأنّ من وحّد اللّه حقّ التوحيد لا بدّ و أن يؤمن بكتابه و وحيه فالإيمان بالكلّ يلزمه ثمّ إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قال: إنّي لا آمركم في جميع عمري إلّا بشي ء واحد بل قال: إنّي أعظكم أوّلا بالتوحيد و لا آمركم في أوّل الأمر بغيره لأنّه سابق على الكلّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوّل الأمر قولوا: لا إله إلّا اللّه تفلحوا و هو الأصل الأصيل.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث: إنّ اللّه تعالى أنزل عزائم

ص: 32

الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة كما خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام و لو شاء أن يخلقهما في أقلّ من لمح البصر لخلق و لكنّه جعل الأناة و المداراة مثالا لأمنائه و تعليما لخلقه في أمورهم فكان أوّل ما قيّدهم به الإقرار بالوحدانيّة و الربوبيّة فلمّا أقرّوا بذلك تلا بالإقرار لنبيّه و الشهادة له بالرسالة فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ ثمّ الجهاد ثمّ الزكاة ثمّ الصدقات و ما يجري مجراها من الأحكام من الفي ء و غيرها فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا بعد الّذي فرض علينا شي ء آخر فتذكره ليسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره فأنزل اللّه في ذلك «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» يعني الولاية و إذا نظر الإنسان بعين التأمّل و الدّقة يعرف أنّ من أتى بالولاية لعليّ بن أبي طالب فقد أتى بجميع الأصول الخمسة و الملازمة بينهما ثابتة بل ملازمة الفروع ثابتة لأنّ الجحود و الإطاعة نقيضان كما أنّ الولاية و القبول متلازمان.

قوله تعالى: [إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ] و لمّا قال سبحانه:

قبيل هذا «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» أي أنتم ما رأيتم من منشئه إلى مبعثه و صمة تنافي النبوّة من كذب أو ضعف في العقل أو اختلاف في القول و العمل نبّههم سبحانه عن طريقة النظر بأنّ مثل هذا الأمر العظيم الّذي تحته ملك الدنيا و الآخرة لا يتصدّى لادّعائه إلّا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان، أو مؤيّد من عند اللّه مرشّح للنبوّة واثق بحجّته و قد عرفتم ذلك منه و قد انضمّ إلى ذلك معجزات تخرّ لها الجبال و يظهر منه أشياء لا تكون مقدورا للبشر مثل القرآن و آيات و معجزات أخر فالصادرة منه بواسطة الملك و قدرة اللّه و تثبت النبوّة و لزمتهم الحجّة فقال:

ما هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا رسول منذركم و مخوّفكم من مخالفته و من معاصي اللّه «بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» أي عذاب القيامة.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ يا محمّد لهم: [ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا و ما طلبته منكم من أجر أداء الرسالة و بيان الشريعة، فهو لكم و «ما» في قوله: «ما سَأَلْتُكُمْ» يجوز أنّها موصولة و يجوز أن تكون شرطيّة [إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ و ليس ثواب عملي إلّا على اللّه [وَ هُوَ عَلى كُلِ

ص: 33

شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لم يغب عنه شي ء و يعلم ما يلحقني من أذاكم.

[قُلْ يا محمّد: [إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي يلقيه و يرمي الحقّ و هو الوحي إلى أنبيائه و القرآن أو يتكلّم بالقرآن و هو الحقّ و ينزله على من يجتبيه من عباده أو يرمي بالحقّ على الباطل فيدمغه أو المعنى أنّه سبحانه يقذف بالقرآن في أقطار الآفاق لإظهار الدين و إعلاء كلمته و هو الّذي علم جميع الخفيّات.

[قُلْ يا محمّد: [جاءَ الْحَقُ و هو أمر اللّه تعالى بالإسلام و التوحيد و قيل: هو الجهاد بالسيف عن أبي مسعود و لمّا ذكر اللّه أنّه يقذف بالحقّ و كان ذلك بصيغة الاستقبال ذكر سبحانه أنّ ذلك الحقّ قد جاء، و في الحقّ وجوه و ذكرنا الوجهين الثالث: أنّ المراد المعجزات الدّالة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يمكن أن يكون المراد من قوله: «جاءَ الْحَقُّ» يعني ظهر الحقّ لأنّ كلّ ما جاء فقد ظهر.

و قوله: [وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ] أي ما يبدئ الباطل لأهله خيرا في الدنيا و لا يعيد خيرا في الآخرة و قيل: إنّ «ما» استفهاميّة على معنى «و أيّ شي ء يبدي الباطل و أيّ شي ء يعيده» و قيل: معنى الآية: ذهب الباطل إذهابا لم يبق منه إبداء و لا إدبار لأنّ الحقّ إذا جاء لا يبقى للباطل بقيّة.

قال ابن مسعود: دخل رسول اللّه مكّة و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يده الشريفة و يقول: «جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ... جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ».

قوله تعالى: [قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ أي إن ضللت عن الحقّ كما تدّعون و تزعمون فإنّما يرجع وبال ضلالي عليّ لأنّي مأخوذ به دون غيري و إن اهتديت إلى الحقّ [فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي بتفضّل ربّي حيث أوحى إليّ و ليس اهتدائي بالنظر و الاستدلال كاهتدائكم و إنّما هو بالوحي [إِنَّهُ سَمِيعٌ لأقوالنا [قَرِيبٌ بالإحاطة لا يخفى عليه المحقّ و المبطل.

قوله: [سورة سبإ (34): الآيات 51 الى 54]

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

ص: 34

جواب لو محذوف و تقديره: لرأيت عجبا.

المعنى: لمّا قال سبحانه: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» فإنّه إن لم يعذّب عاجلا أولا يعيّن صاحب الحقّ في الحال فيوم الفزع آت لا فوت فيه و إنّما يستعجل العقوبة من يخاف الفوت [وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني القبور و حيث ما كانوا فهم من اللّه قريب و قيل: المراد من قوله: «إِذْ فَزِعُوا» في الدنيا حين رأوا بأس اللّه عند معاينة الملائكة لقبض أرواحهم.

القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: إذا فزعوا من الصوت و ذلك الصوت من السماء. «وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» قال عليه السّلام: من تحت أقدامهم خسف بهم و عنه عليه السّلام لكأنّي أنظر إلى القائم و قد أسند ظهره إلى الحجر و ساق الحديث إلى أن قال: فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفيانيّ فيأمر اللّه عزّ و جلّ للأرض فتأخذ بأقدامهم و هو قوله تعالى: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ».

[وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ قال: يعني بالقائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي التناول يعني تناول الإيمان بعد زمان التكليف قال:

إنّهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال و قد كان لهم مبذولا من حيث ينال.

[وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ في أوان التكليف و لمّا جعل اللّه الفعل مأخوذا كالجسم جعل ظرف الفعل و هو الزمان كظرف الجسم و هو المكان فقال: «مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» و الضمير في قوله: «وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ» راجع إلى القائم بموجب الرواية أو بمحمّد أو بالقرآن.

و عن حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق و المغرب قال: فبيناهم كذلك يخرج عليهم السفيانيّ من الوادي اليابس حتّى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق و آخر إلى المدينة حتّى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة يعني بغداد فيقتلون أكثر من ثلاثمائة آلاف و يفتضحون أكثر من مائة امرأة و يقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العبّاس ثمّ ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما بها ثمّ يخرجون متوجّهين إلى الشام فيخرج راية هدى من الكوفة فيلحق ذلك

ص: 35

الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر و يستنقذون ما في أيديهم من السبي و الغنائم و يحلّ الجيش الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيّام بلياليها ثمّ يخرجون متوجّهين إلى مكّة حتّى إذا كانوا بالبيداء يبعث اللّه جبرئيل فيقول: اذهب يا جبرئيل فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف اللّه بهم عندها و لا يفلت منهم إلّا رجلان من جهينة فلذلك جاء القول «و عند جهينة الخبر اليقين» فلذلك قوله تعالى: «وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا» أورده الثعلبيّ في تفسيره و روى أصحابنا مثله عن الباقر و الصادق عليه السّلام انتهى.

قوله تعالى: [وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي يرجمون بالظنّ كالشي ء الّذي يرمى في موضع بعيد فيقولون: لا جنّة و لا نار و لا بعث و قيل: معناه يرمون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالظنون من غير يقين و ذلك قولهم: هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون و يبعّدون أمر الآخرة فيقولون لأتباعهم: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ». و قيل: معناه أنّهم في الآخرة يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً» (1) و هو قذف بالغيب من مكان بعيد و هو الدنيا.

ثمّ قال: [وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو حيل بينهم و بين لذّات الدنيا بالموت و منعوا من كلّ مشتهى فيلحق اللّه النفار فيهم فلا يدركون شيئا إلّا و يتألّمون به.

[كَما فُعِلَ مثل ذلك [بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأمثالهم من الكفّار و بأهل دينهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم التوبة وقت رؤية البأس و العذاب قال الضحّاك: أراد بذلك أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة [إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ من البعث و النشور و في وقوع العذاب بهم [مُرِيبٍ أي مشكّك و معنى «شَكٍّ مُرِيبٍ» مثل قولك: عجب عجيب و هو مبالغة في بيان الشكّ.

تمّت السورة

ص: 36


1- السجدة: 12.

سورة الملائكة

اشارة

* (مكية)* إلّا آيتين: الاولى: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ» الآية (1) و الثانية «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» الآية (2).

فضلها

قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة أن ادخل من أيّها شئت.

ص: 37


1- الآية: 19.
2- الآية: 31.

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)

المعنى: حمد سبحانه نفسه ليعلّمنا كيف نحمده و ليبيّن لنا أنّ الحمد كلّه له فقال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي حقيقة الحمد لمن خلقهما مبتدئا على غير مثال و مبدعها أو المعنى شافعهما لنزول الأرواح من السماء و خروج الأجساد من الأرض.

[جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا] إلى الأنبياء بالرسالة و الوحي [أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و كلمة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» معدولة عن اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة و إنّما جعلهم سبحانه اولي أجنحة ليتمكّنوا بها من العروج إلى السماء و من النزول إلى الأرض فمنهم من له جناحان و منهم من له ثلاثة أجنحة و منهم من له أربعة أجنحة و يزيد فيها ما يشاء و هو قوله: [يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ] قال ابن عبّاس: رأى رسول اللّه جبرئيل ليلة المعراج و له ستّ مائة جناح و قيل: معنى قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» أراد حسن الصورة و الصوت و الملاحة و الشعر و الحسن.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] و لا شي ء إلّا و هو قادر عليه.

ثمّ بيّن إحسانه فقال: [ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها] «ما» شرطيّة

ص: 38

أي مهما يأتهم و يفتح اللّه للناس من خير و مطر و عافية أو أيّ نعمة شاء فإنّ أحدا لا يقدر على إمساكه [وَ ما يُمْسِكْ من ذلك [فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي إنّ أحدا لا يقدر على إرساله.

و قيل: معنى الآية: ما يرسل اللّه من رسول إلى عباده في وقت دون وقت فلا مانع له لأنّ إرسال الرسول رحمة من اللّه و لو لا ناموس الشريعة في الناس لانجرّ الأمر في الخلق إلى النفاق و الهلاك.

أقول: و قد وجدت في بعض كلمات أفلاطون الحكيم أنّ إرسال الرسل و بيان الناموس للخلق من أعظم النعم و إنّه من موجبات البقاء و لولاه لآل أمورهم إلى الفناء و الاضمحلال.

[وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب في أمره لا يعجز الحكيم في أفعاله إن أمسك أو أنعم بما يقتضيه حكمته.

ثمّ خاطب المؤمنين فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الظاهرة و الباطنة الّتي من جملتها أنّه خلقكم و أوجدكم و أقدركم و خلق لكم أنواع الملاذّ و المنافع و النعم مع كثرتها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد و نعمة الإبقاء فقال: [هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء و قال: [يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء و هذا الكلام استفهام تقريريّ و معناه النفي ليقرّوا بأنّه لا خالق إلا اللّه و لا رازق للعباد غيره مثل أن يرزق من السماء بالمطر و من الأرض بالنبات.

[لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] و ليس معبود يستحقّ العباد سواه [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن طريق الحقّ إلى الضلال و تقلبون الأمر و تعكسون هذه الأدلّة مع وضوحها؟

ثمّ سلّى نبيّه عن تكذيب قومه إيّاه فقال: [وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] فيجازي من كذّب رسله و ينصر من صدّقهم.

ثمّ خاطب الخلق فقال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ من الجنّة و النار و البعث و النشور و الجزاء و الحساب [حَقٌ و صدق كائن لا محالة [فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا]

ص: 39

فلا تغترّوا بملاذّها و نعيمها و لا يخد عنّكم حبّ الجاه و الرياسة و طول البقاء فإنّ ذلك نافد بائد و يبقى الوزر و لمّا كان الإنسان بعضهم سخيف الرأي قليل العقل فيغترّ بأدنى شي ء و قد يكون فوق ذلك و لا يغترّ به و لكن إذا جاءه غارّ و شيطان كامل و زيّن له ذلك الشي ء و هوّن عليه مفاسده و بيّن له ملاذّ و منافع يغترّ به و يوقع نفسه في المعصية فقال اللّه: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» إشارة إلى الدرجة الاولى و قال: [وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] إشارة إلى الطبقة الثانية و الغرور الّذي عادته أن يغرّ غيره و الشيطان و الدنيا و زينتها بهذه الصفة و إنّ الخلق يغترّون بها و قيل: المراد من الغرور إبليس.

ثمّ أشار إلى الطبقة الثالثة و هي الطبقة العليا الّذين لم يكونوا من عبيد الدنيا و من حزب الشيطان و قال سبحانه:

[سورة فاطر (35): الآيات 6 الى 10]

إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

المعنى: لمّا حذّرهم سبحانه عن الانغمار في الدنيا و متابعة الشيطان فصرّح [إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ] يدعوكم إلى ما فيه الهلاك و الخسر و يصرفكم عن أفعال الخير و البرّ و يدعوكم إلى الشرّ [فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا] و عادوه و لا تتّبعوه بأن تعملوا على وفق مراده.

[إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أتباعه و أصحابه [لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ] أي النار المسعرة و المعنى أنّه لا سلطان له على المؤمنين و لكنّه يدعو أتباعه إلى ما يستحقّون به

ص: 40

النار ثمّ بيّن حال من اتّبعه و حال من خالفه و العاقل إذا علم أنّه عدوّ لا مهرب له منه و جزم بذلك فإنّه يقف على قباله حتّى يهزمه فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان على الثبات في طاعة اللّه و الإعمال على العبادة.

ثمّ بيّن سبحانه حال حزب الشيطان و حال حزب اللّه فقال: [الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] جزاء على كفرهم [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] من اللّه لذنوبهم [وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ] أي ثواب عظيم.

ثمّ قال سبحانه على سبيل الإنكار مقرّرا لهم [أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً] يعني الكفّار زيّنت لهم نفوسهم و مشتهياتهم أعمالهم السيّئة فتصوّروها حسنة أو زيّنه الشيطان لهم بأن أمالهم إلى الشبه المضلّة و تركوا النظر في الأدلّة و أغواهم حتّى تشاغلوا بما فيه عاجل اللّذّة و جواب الاستفهام محذوف أي أهو كمن علم الحسن و القبيح و لم يزيّن له سوء عمله و قيل: تقديره: كمن هداه اللّه و زيّن له صالح عمله و الآية تقرير لبيان التباين بين حال الفريقين.

قوله: [فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] لاستحسانهم و استحبابهم الضلالة على الهدى و بسوء اختياره اقتضى العذاب فردّه إلى أسفل السافلين [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] بصرف اختيارهم إلى الهداية فيرفعه إلى أعلى علّيّين.

قوله: [فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي لا تهلك نفسك يا محمّد عليهم حسرة و لا يغمّك حالهم إذا كفروا و استحقّوا العذاب و هو كقوله: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» و الحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم على صنيعهم.

قوله: [وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً] ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر أدلّة التوحيد و شواهد القدرة و ذلك أنّ هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار لأنّ الهواء قد يسكن و قد يتحرّك و يتموّج و عند حركته قد يتحرّك إلى اليمين و إلى اليسار و في حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب و قد لا ينشئ و هذه الاختلافات من طبيعة واحدة دليل على مسخّر و مدبّر حيث تختلف آثارها و أتى الإرسال بلفظ الماضي و الإثارة بلفظ

ص: 41

المستقبل لأنّه لمّا أسند فعل الإرسال إلى اللّه و ما يفعل اللّه يكون بقوله: «كُنْ» لوجوب وقوعه و سرعة كونه كأنّه كان فهو سبحانه قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعيّنة و التقدير وقع فهو كالإرسال و أمّا الإثارة لمّا أسنده إلى الريح و هو يؤلّف في زمان فأتى بلفظ المستقبل على هيئتها التدريجيّ.

قوله: [فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ أي أرض مجدبة فيمطر على ذلك البلد [فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بالمطر الماء [الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] بأن أنبتنا فيها الزرع و الكلاء بعد أن لم يكن [كَذلِكَ النُّشُورُ] أي كما لعل بهذه الأرض المجدبة الميّتة من إحيائها بالزرع و النبات ينشر الخلائق بعد موتهم و يحشرهم للجزاء من الثواب و العقاب و وجه التشبيه معلوم أي كما أنّ الريح يجمع القطع السحابيّة كذلك تجتمع أجزاء الأعضاء و أبعاض الأشياء و أيضا كما نسوق الريح و السحاب إلى البلد الميّت لإحيائه كذلك نسوق الروح و الحياة إلى البدن ثانيا و أيضا كما أنّ الأرض الميّتة قبلت الحياة اللائقة بها كذلك أعضاء الإنسان قبل الحياة.

قوله تعالى: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً] اختلف في معناه فقيل:

المعنى: من كان يريد علم العزّة و هي القدرة على القهر و الغلبة لمن هي فإنّها للّه جميعا و قيل: معناه من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة اللّه فإنّ اللّه يعزّه كما يقال: من أراد المال فالمال لفلان فليطلب من عنده و يؤيّد هذا المعنى ما رواه أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز.

و لعلّ المراد في الآية منع الكفّار عن العزّة الّتي كانوا يتوهّمونها من حيث إنّهم ما كانوا في طاعة أحد و لم يكن من يأمرهم و ينهاهم فكانوا ينحتون الأصنام و يقولون:

إنّ هذه آلهتنا ثمّ إنّهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم و كانوا يطلبون العزّة لأنفسهم و هي عدم التذلّل للرسول و ترك الاتّباع فقال سبحانه: إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزّة فهي كلّها للّه و من يتذلّل له فهو العزيز و من يتعزّز عليه فهو الذليل كما قال سبحانه: في آية اخرى «وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» (1) فله العزّة بالذات و لرسوله بواسطة

ص: 42


1- الفتح: 8.

القرب من العزيز و هو اللّه و للمؤمنين بواسطة قربهم للرسول.

قوله تعالى: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تقرير لبيان العزّة و ذلك أنّ الكفّار كانوا يقولون: نحن لا نعبد من لا نراه و لا نحضر عنده فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم و يقبل الطيّب من القول و الكلم جمع «الكلمة» يقال: هذا كلم و هذه كلم فيذكّر و يؤنّث و كلّ جمع ليس بينه و بين واحده إلّا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث و معنى الصعود هاهنا القبول من صاحبه و الإثابة عليه و كلّ ما يتقبّله اللّه من الطاعات يوصف بالرفع و الصعود لأنّ الملائكة يكتبون أعمال بني آدم و يرفعونها إلى حيث شاء اللّه و هذا كقوله: «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (1) و يمكن أن يكون المعنى يصعد إلى سمائه فجعل صعود العمل إلى سمائه صعودا إليه و المراد من «الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» الكلمات الحسنة من التعظيم و التقديس و أحسن الكلم «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»*.

قوله: [وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قيل فيه وجوه: أحدها أنّ العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب إلى اللّه فالهاء من يرفعه يعود إلى الكلم. و الثاني على القلب من الأوّل أي الكلم الطيّب يرفع العمل الصالح إلى اللّه حيث لا ينفع العمل الصالح إلّا إذا صدر عن التوحيد.

و الثالث أنّ العمل الصالح يقبله اللّه و يرفعه و على هذا يكون الكلام ابتداء إخبار لا يتعلّق بما قبله.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الّذين مكروا برسول اللّه في دار الندوة و تبانيهم في إحدى ثلاث: حبسه أو قتله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو إجلائه و يشمل مكرات أصحاب السقيفة و قيل: يمكرون أي يعملون السيّئات و لذا عدّاه بالسيّئات و إلّا فهو لازم أو المعنى يمكرون المكرات السيّئات و يشركون باللّه [لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] في الآخرة ثمّ أخبر سبحانه أنّ مكرهم يبطل و يفسد فقال: [وَ مَكْرُ أُولئِكَ الماكرين [هُوَ يَبُورُ] و يفنى.

قال الفيض في قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» القميّ قال: هو كلمة الإخلاص و الإقرار بما جاء به النبيّ من عند اللّه من الفرائض و الولاية ترفع العمل الصالح إلى اللّه و عن الصادق عليه السّلام الكلم الطيّب قول المؤمن: لا إله إلّا اللّه

ص: 43


1- المطففين: 18.

محمّد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه و خليفة رسول اللّه قال: و العمل الصالح الاعتقاد بالقلب بأنّ هذا لهو الحقّ من عند اللّه.

و عن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: إنّ لكلّ قول مصدّقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه فإذا قال ابن آدم و صدّق قوله عمله، رفع قوله بعمله إلى اللّه و إذا خالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث و هوي به في النار.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: ولايتنا أهل البيت و أومأ بيده إلى صدره فمن لم يتولّنا لم يرفع اللّه له عملا.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام: من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا طمست ذنوبه كما ينطمس الحرف الأسود من الرقّ الأبيض فإذا قال ثانية: لا إله إلّا اللّه مخلصا خرقت أبواب السماء و صفوف الملائكة حتّى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة أمر اللّه فإذا قال ثالثة مخلصا: لا إله إلّا اللّه لم تنته دون العرش فيقول الجليل: اسكني فو عزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه ثمّ تلا هذه الآية «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» يعني إذا كان علمه صالحا ارتفع قوله و كلامه انتهى.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 11 الى 17]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)

ص: 44

اعلم أنّ الدلائل مع كثرتها و عدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين:

دلائل الآفاق و دلائل الأنفس فلمّا ذكر سبحانه شطرا من دلائل الآفاق من السماوات و ما يرسل منها من الملائكة و الأرض و ما يرسل فيها من الرياح ذكر في هذه الآية من دلائل الأنفس فقال:

[وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق آباءكم و أصلكم من تراب [ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] أي ماء قليل و هي من الأضداد و قوله: «مِنْ نُطْفَةٍ» إشارة إلى أولاده أو المراد أنّ أصل النطفة من التراب أيضا. و قوله: [ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً] أي ذكورا و إناثا و قيل:

ضروبا و أصنافا.

[وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إشارة إلى كمال العلم فإنّ ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده مادام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف و الأمّ الحامل لا تعلم منه شيئا؟

[وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ] معناه و ما يمدّ في عمر معمّر و لا يطول عمر أحد [وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي من عمر ذلك المعمّر بانقضاء الأوقات عليه و لا يذهب بعض عمره بمضيّ الليل و النهار أو يكون المعنى: إنّ فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا و إذا عصا نقص عمره.

[إِلَّا فِي كِتابٍ أي إلّا و ذلك مثبت في الكتاب و هو الكتاب المحفوظ فأثبت اللّه في امّ الكتاب عمر فلان كذا سنة ثمّ يكتب أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان و ذهب ثلاثة أيّام حتّى يأتي على آخر عمره فبيّن سبحانه أنّه هو القادر على مثل هذا الخلقة و العالم بهذه الجزئيّات و الأصنام الّتي تعبدونها لا قدرة و لا علم لها فكيف تستحقّ العبادة؟

[إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] أي الخلق و التعمير و النقصان على اللّه سهل يسير.

ثمّ قال: [وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب و المالح ثمّ ذكر الفرق فقال:

[هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي طيّب بارد [سائِغٌ شَرابُهُ جائز في الحلق هني ء [وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ فيه الملوحة و المرورة. قال أهل اللغة: لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة:

ص: 45

مالح و إنّما يقال له: ملح كما أنّ الماء العذب إذا القي فيه ملح حتّى ملح لا يقال له إلّا مالح و إنّما يقال للماء الّذي أصل خلقته مملوحة: ملح لأنّ المالح شي ء فيه ملح و ماء البحر ليس ماء و ملح بخلاف الطّعام الّذي وقع فيه الملح فيقال لهذا: مالح و لذلك:

ماء ملح و لو أنّ ماء البحر اكتسب الملوحة من أجزاء سبخة أرضيّة و ماؤه بسبب المجاورة اكتسب الملوحة لكن لمّا ملح بسبب المجاورة كأنّهم جعلوا ملوحته أصلا و خلقة و فرّقوا بين اللغتين بهذا السبب.

و بالجملة قال المفسّرون: إنّ المراد من الآية ضرب المثل في حقّ الكفر و الإيمان أو الكافر و المؤمن قالوا: إنّ الكفر و الإيمان لا يتساويان كما لا يتساوى الماء الملح و الماء العذب.

و قوله تعالى: [وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ] أي ماخرات و شاقّات البحر بالجري بيان بأنّ حال الكافر دون حال البحرين لأنّ الأجاج يشارك الفرات في الخير و النفع إذ اللحم الطريّ يوجد فيهما و الحلية توجد منهما و الفلك تجري فيهما و لا نفع في الكفر و الكافر و هذا الكلام على نسق قوله تعالى: «كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» (1).

و في الآية إشارة إلى أمر آخر و هو الدليل على كمال القدرة و بيانه أنّ البحرين يستويان في الصورة و يختلفان في الماء فإنّ أحدهما «عَذْبٌ فُراتٌ» و الآخر «مِلْحٌ أُجاجٌ» و لو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المتساويان ثمّ إنّهما بعد اختلافهما يوجد فيهما امور متشابهة فإنّ اللحم الطريّ يوجد منهما و من يوجد في المتشابهين اختلافا و من المختلفين أشباها لا يكون إلّا قادرا مختارا و هذا دليل على كمال قدرته و نفوذ إرادته.

[لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و هذه النعم لمعاشكم و لأن تعرفوا نعم اللّه عليكم فتشكروه و تعرفون خالقكم.

قوله تعالى: [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ]

ص: 46


1- البقرة: 74.

مرّ بيانه مرارا و أمّا بيان قوله: «وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» جواب لسؤال مقدّر المشركون و هو أنّهم قالوا: اختلاف الليل و النهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض و تحتها فإنّ في الصيف تمرّ الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد المائلة في الآفاق و حركة الشمس هناك حمائليّة فيقع تحت الأرض أقلّ من نصف دائرة الزمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل و في الشتاء بالضدّ فيقصر النهار فقال اللّه سبحانه «وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» يعني سبب الاختلاف و إن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس و القمر بإرادة اللّه و قدرته و هو الّذي فعل ذلك.

ثمّ قال: [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ] أي ذلك الّذي فعل هذه الأمور «لَهُ الْمُلْكُ» فلا معبود إلّا هو و إذا كان الملك له كلّه فله العبادة كلّها ثمّ بيّن ما ينافي صفة الإلهيّة و هو قوله: «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ» من لفّافة النواة فكيف تعبدونها؟ و ذلك البيان لأجل أنّهم كانوا يقولون: إنّ اللّه فوّض أمر الأرض و الأرضيّات إلى الكواكب الّتي هذه الأصنام على صورتها و طوالعها فقال: «لا يملكون قطميرا».

قوله تعالى: [إِنْ تَدْعُوهُمْ لكشف ضرّ [لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّها جماد لا تنفع و لا تضرّ [وَ لَوْ سَمِعُوا] على زعمكم أو أن يخلق اللّه لها سمعا [مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ .

ثمّ بيّن سبحانه على أنّ النفع لا يحصل لكم منها في الدنيا يحصل لكم منها الضرر في الآخرة بقوله: [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بإشراككم باللّه شيئا فينطقهم اللّه يوم القيامة لتوبيخ عابديها و يجوز أن يكون المراد بهم الملائكة و عيسى فعلى هذا المعنى يكون معنى «لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» أي لا يلتفتون إليكم و هم مشغولون عنكم و الظاهر المراد بالأصنام المعبودة.

قوله: [وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به و هو الحقّ سبحانه فإنّه الخبير بكنه الأمور و هو يخبرك بما هو الصلاح و الفساد و المنافع و المضارّ.

ص: 47

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ] المحتاجون [إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ عن عبادتكم لا يحتاج إلى شي ء [الْحَمِيدُ] المستحقّ للحمد على جميع أفعاله فلا يفعل إلّا ما يستحقّ به حمدا و لمّا بالغ الرسول في الدعوة قال الكفّار: لعلّ اللّه يحتاج إلى عبادتنا حتّى يأمرنا بها أمرا بالغا و يهدّدنا على تركها مبالغا فقال تعالى: «أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ» و لا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم و إنّما هو لإشفاقه عليكم. و اعلم أنّ التعريف في الخبر قليل و الأكثر أن يكون الخبر نكرة و المبتدء معرفة و ذلك لأنّ المخبر لا يخبر في الأكثر إلّا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أوفي ظنّ المتكلّم أنّ السامع لا علم له به و المبتدء لا بدّ من أن يكون معلوما عند السامع حتّى يقول له:

أيّها السامع الأمر الّذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلانيّ كقول القائل: زيد قائم فإن كان الخبر معلوما عند السامع و المبتدء كذلك يقع الخبر تنبيها لا تفهيما و يحسن تعريف الخبر كقول القائل: اللّه ربّنا و محمّد نبيّنا حيث عرف كون اللّه ربّا و كون محمّد نبيّا فيحتمل أن يكون قوله: «أَنْتُمُ الْفُقَراءُ» من هذا القبيل.

قوله تعالى: [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ] بيان لغناه و في العبارة بلاغة كاملة أي ليس إذهابكم موقوفا إلّا على مشيّته بخلاف الشي ء المحتاج إليه فإنّ المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره و أعدم عقاره و إنّما يقول: لو لا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها و لو لا الافتقار إلى العقار لتركتها.

ثمّ زاد في بيان الاستغناء بقوله: «وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» أي إن كان يتوهّم متوهّم أنّ هذا الملك له عظمة و كمال فلو أذهبه لزال ملكه و عظمته فبيّن سبحانه أنّه قادر بأن يخلق خلقا جديدا أحسن و أتمّ و أكمل.

[وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ] أي الإذهاب و الإتيان غير معسور عليه و لا يغلب العجز عليه و «العزيز» في اللغة الغالب من قوله: «و من عزّ بزّ» أي من غلب سلب فاللّه عزيز أي غالب و الفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله:

«وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي لا يغلب اللّه ذلك الفعل و لا يعجزه بل هو هيّن على اللّه.

ص: 48

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 18 الى 26]

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ (20) وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)

المعنى: ثمّ أخبر سبحانه عن عدله في حكمه و أجاب الرؤساء و المتبوعون بما كانوا يقولون للتابعين: اتّبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم فقال:

[وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ] الآية أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس [أُخْرى و لا يؤخذ أحد بذنب غيره و إنّما يؤاخذ كلّ بما يقترفه من الآثام.

[وَ إِنْ تَدْعُ نفس [مُثْقَلَةٌ] بالآثام و المعاصي [إِلى حِمْلِها] إلى أن يتحمّل عنها شيئا من إثمها و في قوله: «مُثْقَلَةٌ» زيادة بيان لأنّ المثقل قد يعان [لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ] أي لا يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل [وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى أي و لو كان المدعوّ إلى التحمّل ذا قرابة منها و أقرب الناس إليها ما حمل عنها فكلّ نفس بما كسبت رهينة قال ابن عبّاس: يقول الأب و الأمّ: يا بنيّ احمل عنّي فيقول: حسبي ما عليّ.

[إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ و هذا كقوله: (1) «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي إنّ إنذارك لا ينفع إلّا الّذين يخشون ربّهم في خلواتهم و غيبتهم عن الخلق أو المعنى: هم غائبون عن أهوال الآخرة و معتقدون بها.

[وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] أي أداموها و قاموا بشرائطها و إنّما عطف الماضي على المستقبل إشعارا باختلاف المعنى لأنّ الخشية لازمة في كلّ وقت و الصلاة لها أوقات مخصوصة.

ص: 49


1- النازعات: 45.

[وَ مَنْ تَزَكَّى أي فعل الطاعات و قام بما يجب عليه من الزكاة و غيرها من الواجبات و قيل: أي تطهّر من المعاصي [فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لأنّ جزاء ذلك يصل إليه دون غيره [وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] أي مرجع الخلق إليه فيجازي كلّا على عمله.

[وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ] أي لا يتساوى الأعمى عن طريق الحقّ و الّذي اهتدى إليه أو المشرك و المؤمن [وَ لَا الظُّلُماتُ أي ظلمات الشرك و الضلال [وَ لَا النُّورُ] أي نور الإيمان و الهداية و تكرار كلمة «لا» في قوله: [وَ لَا النُّورُ] زائدة مؤكّدة للنفي [وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ] يعني الجنّة و النار و قيل: الظل الليل و الحرور سموم النهار الحارّة [وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ يعني المؤمنين و الكافرين و قيل: يعني العلماء و الجهّال و بالجملة كما لا يستوي هذه الأشياء و لا يتماثل و لا يتشاكل فكذلك عبادة اللّه لا تشبه عبادة غيره و لا يستوي المؤمن و الكافر و الحقّ و الباطل.

[إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ] أي ينفع بالأسماع من يشاء أن يلطف له و لم يرد به نفي حقيقة السماع لأنّهم كانوا يسمعون آيات اللّه [وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ] أي إنّك لا تقدر على أن تنفع الكفّار بإسماعك إيّاهم إذ لم يقبلوا كما لا تسمع من في القبور من الأموات [إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ] أي ما أنت إلّا مخوّف لهم باللّه.

[إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ أي بالدين الصحيح [بَشِيراً وَ نَذِيراً] أي مبشّرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين [وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ] خلا أي مضى أي كما أنت مبشّر و منذر لقومك كذلك قبلك كان الرسل يخوّفونهم و ينذرونهم و أقاموا الحجّة على قومهم.

[وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمّد و لم يصدّقوك [فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفّار أنبياء أرسلهم اللّه إليهم [جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الباهرات [وَ بِالزُّبُرِ] أي و بالكتب [وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ] و لعلّ المراد «بِالزُّبُرِ» صحف إبراهيم و «بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» كالتوراة و الإنجيل و إنّما كرّر ذكر الكتاب و عطفه على الزبر لاختلاف الصفتين فإنّ الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب لأنّه يكون منقّرا منقّشا فيه كالنقر في الحجر.

ص: 50

[ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ] فلمّا كذّبوا رسلهم و لم يعترفوا بنبوّتهم أخذتهم بالعذاب و أهلكتهم و دمّرت عليهم فكيف كان تغييري و إنكاري عليهم و إنزالي العقاب بهم؟

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 30]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

أي أ لم تعلم [أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا [فَأَخْرَجْنا] أخبر عن نفسه بنون الكبرياء و العظمة [بِهِ أي بذلك الماء [ثَمَراتٍ جمع «ثمرة» و هي ما يجتنى من الشجرة [مُخْتَلِفاً أَلْوانُها] و طعومها و روائحها، اقتصر على ذكر الألوان لأنّها أظهر في التنوّع و لدلالة الكلام على الطعوم و الروائح و قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ» استفهام تقريريّ و الاستفهام التقريريّ لا يقال إلّا في الشي ء الظاهر جدّا كما أنّ من أبصر الهلال و هو خفيّ جدّا فقال له غير: أين هو فإنّه يقول له: في الموضع الفلاني فإن لم يره يقول له: الحقّ معك إنّه خفيّ و أنت معذور و إذا كان بارزا يقول له: أما ترى هذا هو ظاهر و لمّا كانت الشواهد ظاهرة فكأنّه سبحانه قال له: أنت صرت بصيرا و لم يبق ما يوجب الخفاء أما ترى هذه الآية؟

ثمّ إنّه سبحانه لمّا ذكر الدلائل و لم تنفعهم قطع الكلام معهم و التفت إلى غيرهم كما أنّ السيّد إذا نصح بعض العبيد و أرشدهم و ما نفعهم الإرشاد يقول لغيره: اسمع و لا تكن مثل هذا و يكرّر معه ما ذكره مع الأوّل و يكون فيه إشعار بأنّ الأوّل فيه نقيصة لا يستأهل الخطاب و بعض الخطابات في القرآن للنبيّ من هذا العنوان.

و في الآية بيان آخر بقوله: «فَأَخْرَجْنا» لأنّ الجاهل قد يكون يتصوّر في ذهنه

ص: 51

أنّ نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له: فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه: إنّه بالطبع فهو بإرادة اللّه فلمّا كان ذلك أسنده إلى المتكلّم مع أنّ قبله بصيغة الغائب.

قوله تعالى: [وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ] أي و ممّا خلقنا من الجبال جدد بيض و حمر و في الآية دلالة على القدرة و رادّة على من ينكر الإرادة في اختلاف الألوان و الطعوم كأنّ قائلا يقول: اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أنّ بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران و الدارچين فردّ سبحانه زعمهم الباطل بأنّ بعض الجبال بل جبل واحد فيه مواضع حمر و الجدد جمع جدّة و هي الخطّة و الطريقة فطريقة حمراء متّصلة بخطّ أسود.

[مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها] الظاهر أنّ الاختلاف راجع إلى كلّ لون أي بيض مختلف ألوانها و حمر مختلف ألوانها لأنّ الأبيض قد يكون على لون الجصّ و قد يكون على لون التراب الأبيض و كذلك الأحمر و لو كان المراد أنّ البيض و الحمر مختلف الألوان لكان مجرّد تأكّد و معنى الأوّل آكد و أولى و قوله: «وَ غَرابِيبُ سُودٌ» «وَ غَرابِيبُ» تأكيد «للسود» أي سود غرابيب كالفاقع للأصفر.

فإن قيل: إنّ التأكيد لا يجي ء إلّا متأخّرا فكيف جاء «غَرابِيبُ سُودٌ»؟ قال الزمخشريّ: «غَرابِيبُ» تأكيد لذي لون مقدّر في الكلام و تقديره سود غرابيب ثمّ أعاد السود مرّة اخرى فحينئذ فيه زيادة التأكيد لكونه ذكره مضمرا و مظهرا و قيل:

هو على التقديم و التأخير و يجوز أن يكون «سُودٌ» عطف بيان يبيّن غرابيب.

قوله: [وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ و كذلك خلق سبحانه من النّاس و الدوابّ الّتي تدبّ على وجه الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و الإبل كذلك مختلف اللون كاختلاف الثمرات و الجبال و كما أنّها في أنفسها دلائل كذلك في اختلافها دلائل.

ثمّ تمّ الكلام و قال: [إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ] الخشية بقدر المعرفة فالعالم يعرف اللّه فيخافه و يرجوه و «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فبيّن أنّ الكرامة بقدر التقوى ثمّ قال: [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] ذكر سبحانه ما يوجب الخوف و الرجاء فكونه عزيرا ذا انتقام يوجب الخوف التامّ و كونه غفورا يوجب الرجاء البالغ و قراءة من قرأ

ص: 52

بنصب العلماء و رفع اللّه فالمعنى أنّه سبحانه يبجّل و يعظّم.

و حاصل المعنى أنّه ليس يخاف اللّه حقّ خوفه و لا يحذّر معاصيه خوفا من نقمته إلّا العلماء. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله و من لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم و في الحديث: أعلمكم باللّه أخوفكم للّه قال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى اللّه و كفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه و إنّما خصّ العلماء بالخشية لأنّ العالم أحذر لعقاب اللّه من الجاهل حيث يختصّ بمعرفة التوحيد و العدل و يصدّق بالبعث و الحساب و الجنّة و النار.

ثمّ وصف سبحانه العلماء فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يقرءون القرآن في الصلاة و غيرها فأثنى عليهم بقراءة القرآن [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي ملّكناهم التصرّف فيه [سِرًّا وَ عَلانِيَةً] في حال السرّ و العلن أي أنفقوا في حال كونهم مسرّين و معلنين و عن عبد اللّه بن عمر الليثيّ قال: قام رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه مالي لا أحبّ الموت؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألك مال؟ قال: نعم قال: فقدّمه قال: لا أستطيع قال: فإنّ قلب الرجل مع ماله إن قدّمه أحبّ أن يلحق به و إن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه.

[يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ] أي راجين بذلك تجارة لن تكسد و لن تفسد و لن تهلك إشارة إلى الإخلاص و ينفقون لوجهه لا أن يقال له: إنّه كريم.

[لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي أنفقوا لأن يوفّيهم اللّه أجورهم بالثواب [وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ] لذنوبهم [شَكُورٌ] لحسناتهم و روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في قوله: «وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا و قيل: معنى «شَكُورٌ» أنّه يقبل اليسير و يثيب عليه الكثير تقول: أشكر من بردفة و هي شجرة عارية من الورق تغيم السماء فوقها فتخضرّ و تورق من غير مطر.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 31 الى 35]

وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

ص: 53

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

[وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد و أنزلنا [مِنَ الْكِتابِ و هو القرآن [هُوَ الْحَقُ الصحيح الّذي لا يشوبه فساد و الصدق الّذي لا يمازجه كذب و هو يدعو إلى الحقّ و يصرف عن الباطل [مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ «مُصَدِّقاً» حال مؤكّدة لكونه حقّا و مصدّقا لما قبله من الكتب مثل التوراة و الإنجيل لأنّه جاء موافقا لما بشّرت به تلك الكتب و يحتمل أن يكون معنى قوله: «أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» أي من الكتاب الكبير و هو اللوح المحفوظ.

[إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ] و هذا جواب لما كانوا يقولونه: إنّه لم لم ينزل هذا القرآن على رجل عظيم فقال: «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ» يعلم صلاحهم و بواطنهم و «بَصِيرٌ» يرى ظواهرهم و هذا مثل قوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1) فاختار محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يختر غيره فهو أصلح من الكلّ.

ثمّ قال: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا] و معنى الإرث انتهاء الأمر و الحكم إليهم و الميراث انتقال الشي ء من قوم إلى قوم و اختلف في الّذين اصطفاهم اللّه من عباده في الآية فقيل: هم الأنبياء اختارهم اللّه برسالته و كتبه عن الجبّائيّ و قيل:

هم المصطفون الداخلون في قوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً» إلى قوله: «وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ» (2) و قيل: هم امّة محمّد أورثهم اللّه كلّ كتاب أنزله عن ابن عباس و قيل:

هم علماء امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ورد في الحديث: العلماء ورثة الأنبياء و المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: هي لنا خاصّة و إيّانا عنى و هو الأقرب من الأقوال و الأصحّ لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاصطفاء و الاجتباء و استيراث علم الأنبياء إذ هم

ص: 54


1- الانعام: 126.
2- آل عمران: 32.

المتعبّدون بحفظ الوحي و القرآن و بيان حقائقه و دقائقه.

قوله: [فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ اختلف في أنّ الضمير في «مِنْهُمْ» إلى من يعود على قولين: أحدهما أنّه يعود إلى العباد و تقدير الكلام:

فمن العباد ظالم لنفسه و روي نحو ذلك عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و اختاره المرتضى من أصحابنا قال: و الوجه أنّه لمّا علّق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده بيّن عقبه أنّه إنّما علّق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأنّ في العباد من هو ظالم لنفسه و من هو مقتصد و من هو سابق بالخيرات و القول الثاني أنّ الضمير يعود إلى المصطفين من العباد عن أكثر المفسّرين.

ثمّ اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين: أحدهما أنّ جميعهم ناج و يؤيّد ذلك ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّه يقول في الآية: أمّا السابق فيدخل الجنّة بغير حساب و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا و أمّا الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثمّ يدخل الجنّة فهم الّذين قالوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» و عن عائشة أنّها قالت: كلّهم في الجنّة أمّا السابق فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجنّة و أمّا المقتصد فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق بهم و أمّا الظالم فمثلي و مثلكم و روي عنها أنّها قالت: السابق الّذي أسلم قبل الجهرة و المقتصد الّذي أسلم بعد الهجرة و الظالم نحن. و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سابقنا سابق و مقتصد ناج و ظالمنا مغفور له. و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد الّذي استوى ظاهره و باطنه و السابق الّذي باطنه خير من ظاهره. و قيل:

«فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بالصغائر «وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» بالطاعات في الدرجة الوسطى و «مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» في الدرجة العليا عن جعفر ابن حرب.

و روى أصحابنا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام و السابق بالخيرات هو الإمام و هؤلاء كلّهم مغفور لهم.

و عن زياد من المنذر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أمّا الظالم لنفسه منّا من عمل

ص: 55

صالحا و آخر سيّئا و أمّا المقتصد المتعبّد المجتهد و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين و من قتل من آل محمّد شهيدا.

و القول الآخر أنّ الفرقة الظالمة لنفسها غير ناجية قال قتادة: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة و المقتصد أصحاب الميمنة و السابق بالخيرات هم السابقون المقرّبون من الناس كلّهم كما قال سبحانه: «وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» (1) و قال عكرمة عن ابن عبّاس: إنّ الظالم هو المنافق و المقتصد و السابق من جميع الناس و قال الحسن: السابقون هم الصحابة و المقتصدون هم التابعون و الظالمون هم المنافقون و في الصافي نقلا عن بصائر الدرجات عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ،» الآية هي في ولد فاطمة عليها السّلام.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قيل له: إنّها في الفاطميّين فقال: ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من سلّ سيفه و دعا الناس إلى الضلال فقيل: من الظالم لنفسه قال:

الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام و المقتصد العارف بحقّ الإمام و السابق الإمام و عن الكاظم أنّه تلا هذه الآية و قال: نحن الّذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ و أورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كلّ شي ء.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: أراد اللّه بذلك العترة الطاهرة و لو أراد الامّة لكانت بأجمعها في الجنّة لقول اللّه: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» الآية، ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.

و عن الصادق عليه السّلام أنّ فاطمة لعظمها على اللّه حرّم اللّه ذرّيّتها على النار و فيهم نزلت «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» الآية و في الاحتجاج عن الصادق أنّه سئل عنها و قيل له:

إنّه لولد فاطمة خاصّة فقال: أمّا من سلّ سيفه و دعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة فليس بداخل في هذه الآية قيل له: من يدخل فيها؟ قال: الظالم لنفسه الّذي لا يدعو الناس إلى ضلال و لا هدى و المقتصد منّا أهل البيت العارف حقّ الإمام و السابق الإمام.

ص: 56


1- الواقعة: 7.

و في المعاني عنه عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: نزلت فينا أهل البيت فقيل له: فمن الظالم لنفسه؟ قال: الّذي استوت حسناته و سيّئاته منّا أهل البيت فهو الظالم لنفسه فقيل: من المقتصد منكم قال: العابد للّه في الحالين حتّى يأتيه اليقين فقيل: فمن السابق منكم بالخيرات؟ قال: من دعا و اللّه إلى سبيل ربّه و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر و لم يكن للمضلّين عضدا و لا للخائفين خصيما و لم يرض بحكم الفاسقين إلّا من خاف على نفسه و دينه و لم يجد أعوانا انتهى.

قوله تعالى: [بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] المعنى: إنّ إيراث الكتاب و اصطفاء اللّه إيّاهم بإذن اللّه و أمره و هو الفضل العظيم.

فإن قيل: لم قدّم الظالم و أخّر السابق و إنّما يقدّم الأفضل؟

فالجواب أنّه قد يقدّم الأدنى في الذكر على الأفضل قال سبحانه: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ»* (1) و قال: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» (2) و قال: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» (3) و قال: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (4) و يمكن أن يقال: إنّما قدّم الأدنى على الأفضل لئلّا يئس الظالم من رحمته و أخّر السابق لئلّا يعجب بعمله أو رتّب هذا الترتيب على مقامات الناس لأنّ أحوال الناس ثلاثة معصية ثمّ التوبة ثمّ القربة فإذا عصا فهو ظالم و إذا تاب فهو مقتصد و إذ تمحّض في عبادة اللّه اتّصل باللّه و عدّ من السابقين.

قوله: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها] هذا تفسير للفضل كأنّه قيل: ما ذلك الفضل الكبير؟ فقال: هي جنّات أي جزاء جنّات أو دخول جنّات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل أي ذلك الفضل دخول جنّات.

[يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ] جمع «أسورة» و هي جمع «سوار» و هي حلية اليد من ذهب و لؤلؤ أي و يحلّون فيها أساور من لؤلؤ أو من ذهب صفائه صفاء اللؤلؤ أو

ص: 57


1- الحج: 61.
2- الشورى: 49.
3- الملك: 2.
4- التغابن: 2.

مرصّع باللؤلؤ من حليت المرأة فهي حالية و متحلّية و التحلّي بالأساور كاشف عن الفراغ من السعي و البطش و يدلّ على الغناء و الراحة و زوال كلّ مكروه [وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ] و هو الأبريسم المحض.

[وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ] فأخبر سبحانه عن حال الداخلين بأنّهم إذا دخلوا الجنّة يقولون: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف بل شكرا على هذه النعمة من الفرح و يعنون من «الْحَزَنَ» الحزن الّذي أصابهم قبل دخول الجنّة لأنّهم كانوا يخافون دخول النار «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ» لذنوب عباده و قبيح أفعالهم و «شَكُورٌ» يقبل اليسير من محاسن أعمالهم و شكر اللّه هو مكافاته على شكرهم و قبول يسير طاعتهم و إن كان حقيقه الشكر لا يجوز عليه و لا يصحّ أن يكون سبحانه منعما عليه لأنّ تمام النعم منه فهو المنعم لا المنعم.

قوله [الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ] هذا من كلامهم أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون و لا يتحوّلون عنها من فضله [لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي لا يمسّنا في الجنّة عناء و مشقّة و لا يمسّنا و لا يصيبنا فيها إعياء و تعب أي ليس في الجنّة كالدنيا مظانّ المتاعب و قيل: النصب التعب الممرض و اللغوب هو ما يلغب منه و ما يحصل من ذلك المرض فكأنّه قال: لا يمسّنا مرض و لا دون ذلك.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)

ص: 58

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر ما أعدّه لأهل الجنّة من أنواع الثواب عقّبه بذكر ما أعدّه للكفّار من أليم العقاب فقال:

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا] بوحدانيّة اللّه و جحدوا نبوّة نبيّه [لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم [لا يُقْضى عَلَيْهِمْ بالموت [فَيَمُوتُوا] أو يستريحوا [وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها] و لا يسهّل عليهم عذاب النار [كَذلِكَ أي و مثل هذا العذاب و نظيره [نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ] جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء اللّه.

[وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ و يتصايحون [فِيها] في النار بالاستغاثة يقولون [رَبَّنا أَخْرِجْنا] من عذاب النار [نَعْمَلْ صالِحاً] و نؤمن بدل الكفر و نطع بدل المعصية و ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات الّتي تأمرنا بها [غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من المعاصي.

فوبّخهم اللّه تعالى فقال: [أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ] أي ألم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن يتفكّر و يعتبر و ينظر في امور دينه و عواقب حاله من يريد أن يتذكّر و اختلف في هذا المقدار فقيل: هو ستّون سنة و هو المرويّ عن أمير المؤمنين قال عليه السّلام: العمر الّذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستّون سنة و هو إحدى الروايتين عن ابن عبّاس و روي عن النبيّ أيضا مرفوعا أنّه قال: من عمّره اللّه ستّين سنة فقد أعذره اللّه و قيل: هو أربعون سنة عن ابن عبّاس و مسروق و قيل: هو توبيخ لابن ثماني عشر سنة، عن وهب و قتادة و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

قوله: [وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ] أي المخوّف من عذاب اللّه و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ابن زيد و جماعة و قيل: النذير القرآن و قيل: الشيب و البياض في الشعر عن عكرمة و جماعة و منه قول الشاعر:

رأينا الشيب من نذر المنايالصاحبه و حسبك من نذير

و قال عديّ بن زيد:

و بياض السواد من نذر الموت و هل بعده يجي ء نذير

و قيل: «النَّذِيرُ» موت الأهل و الأقارب و قيل: كمال العقل.

[فَذُوقُوا] العذاب و حسرة الندم [فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ] يدفع العذاب عنهم.

ص: 59

قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تقرير لدوامهم في العذاب و بيان لأمر آخر و هو أنّه سبحانه لمّا قال: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (1) و لا يزاد عليها فلو قال قائل: الكافر ما كفر باللّه إلّا أيّاما معدودة فكان ينبغي أن لا يعذّب إلّا مثل تلك الأيّام فأجاب اللّه تعالى أنّ اللّه لا يخفى عليه غيب السماوات و الأرض و لا يخفى عليه ما في الصدور و كان يعلم من الكافر أنّ في قلبه تمكّن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع اللّه و لا عبده و بالجملة لا يخفى عليه شي ء ممّا يغيب عن الخلائق علمه فلا تضمروا في أنفسكم ما يكرهه.

[هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي جعلكم معاشر الكفّار امّة بعد امّة و خلائف القرون الماضية و أحدثكم بعده و أورثكم ما كان لهم [فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ ضرر [كُفْرُهُ و عقاب كفره [وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً] أي شدّة البغض [وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً] أي خسرانا و هلاكا و الكفر لا ينفع عند اللّه حيث لا يزيد إلّا المقت و لا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلّا خسارا فإنّ العمر كرأس المال من اشترى به رضا اللّه ربح و من اشترى به سخطه خسر.

قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قل لهم يا محمّد:

أخبروني أيّها المشركون عن الأوثان الّذين أشركتموه مع اللّه في العبادة [أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ و بأيّ شي ء أوجبتم لها العبادة و أيّ شي ء خلقوه من الأرض؟ فإن قيل: كيف يفسّر قوله: «أَ رَأَيْتُمْ» في معنى أخبروني؟ لأنّ الاستفهام يستدعي جوابا مثاله يقول القائل: أ رأيت ما ذا فعل فلان فيقول السامع: باع أو اشترى و لو لا تضمّنه معنى أخبروني لما كان الجواب إلّا قوله لا أو نعم فحينئذ يستخبر المستفهم الخبير و يطلبه فيصحّ معنى أخبروني.

قوله: [أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي ألهم شرك في خلقها [أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً] و أنزلنا عليهم كتابا و أمرا يصدّق دعواهم فيما هم عليه من الشرك [فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ]

ص: 60


1- الشورى: 4.

فيكونون على حجّة واضحة لعبادتهم إيّاها من ذلك الكتاب و الضمير في قوله «أَمْ آتَيْناهُمْ» يمكن أن يعود إلى الشركاء أي هل آتينا الشركاء كتابا فتصحّ العبادة و يمكن أن يعود الضمير إلي المشركين.

و حاصل المعنى أنّ هذه العبادة الباطلة لا عقليّة بسبب أنّها مخلوقة عاجزة و لا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزء من الأجزاء و لا شيئا في السماء و لا نقليّة لأنّا ما آتيناهم كتابا فيه يكون أمرا بجواز العبادة لها فهذه العبادة لا عقليّة و لا نقليّة بل صرف التقليد فوعد بعضهم بعضا في فائدة عبادة الأصنام من الشفاعة أو الرزق ليس إلّا غرورا لا حقيقة له و طمع في مالا يطمع فيه.

النظم في قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ» متّصل بقوله: «نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فالمراد أنّه تعالى يعلم أنّه لو ردّكم إلى الدنيا لعدتم إلى كفركم.

قوله تعالى: [سورة فاطر (35): الآيات 41 الى 45]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

المعنى: لمّا بيّن اللّه شرك المشركين قال: مقتضى شركهم زوال السماوات و الأرض و كانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا كما قال عزّ و جلّ: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» (1) و بيّن أنّه تعالى يمسسكهما لئلّا تزولا أو المعنى

ص: 61


1- مريم: 90 و بعده «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» فشركهم كدعواهم للرحمن ولدا يقتضى زوال السموات و الأرض لكنه يصفح عنهم حلما.

أنّه يمسكهما من غير علاقة فوقها و لا دعامة تحتها.

[وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي إن قدّر أن تزولا عن مراكزهما ما أمسكهما أحد و لا يقدر على إمساكهما أحد «مِنْ بَعْدِهِ» أي من بعد اللّه أو من بعد زوالهما [إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً] و ما ترك تعذيبهم إلّا حلما منه تعالى و إلّا كانوا يستحقّون إسقاط السماء و انطباق الأرض عليهم و لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على الشرك و هو لمن تاب و يرحمه بعد التوبة و إن استحقّ العقاب.

في الكافي عن أمير المؤمنين أنّه سئل عن اللّه عزّ و جلّ يحمل العرش أم العرش يحمله فقال عليه السّلام: اللّه عزّ و جلّ حامل العرش و السماوات و الأرض و ما بينهما و ذلك قول اللّه تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» الآية.

و في الإكمال عن الرضا عليه السّلام في حديث بنا يمسك اللّه السماوات و الأرض أن تزولا.

و عنهم عليهم السّلام: لو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار فقال [وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي إنّهم بعد أن أشركوا و المراد كفّار مكّة حلفوا باللّه بأيمان غليظة قبل أن يأتيهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ] أي رسول مخوّف من جهة اللّه [لَيَكُونُنَّ أَهْدى إلى قبول قوله و اتّباعه [مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الماضية يعني اليهود و النصارى و ذلك أنّ قريشا لمّا بلغهم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم قالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى لو أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم.

[فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ] أي محمّد و صحّ مجيئه بالبيّنة و الظهور [ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً] فإنّهم قبل البعثة كانوا كافرين باللّه و بعدها كفروا برسوله و تباعدوا عن الحقّ.

[اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي عتوّا على اللّه و أنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم و كانوا على حالة الاستكبار في الأرض [وَ مَكْرَ السَّيِّئِ إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال: علم الفقه و حرفة الحدادة و أضيف المصدر إلى صفة المصدر فالتقدير: و مكروا المكر السيّئ و المراد المكر برسول اللّه و بالمؤمنين و مكر السيّئ كلّ مكر أصله الخدعة و الكذب و كان تأسيسه على فساد لأنّ من المكر ما هو حسن و هو مكر المؤمنين بالكافرين إذا

ص: 62

حاربوهم من الوجه الّذي يحسن أن يمكروا بهم.

قوله: [وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي لا ينزل جزاء المكر السيّئ إلّا بمن فعله.

[فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي فهل ينتظرون إلّا عادة اللّه في الأمم الماضية أن يهلكهم إذا كذّبوا رسله و ينزل بهم العذاب جزاء على كفرهم فإن كانوا ينتظرون ذلك [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا] أي لا يغيّر اللّه عادته من عقوبة الكافر و لا يبدّلها و هذا أمر واقع لا محالة ليس له من دافع [وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا] بأن ينقله من المكذّبين إلى غيرهم.

فإن قيل: التبديل تحويل فما وجه التكرار؟

فالجواب أنّ قوله: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أي العذاب للكافر لا يتبدّل بغيره و بقوله: «وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» أي لا يتحوّل العذاب عن مستحقّه إلى غيره فتبيّن الفرق بين التبديل و التحويل لأنّ التبديل تغيير الشي ء مكان الشي ء و تعويضه و لكنّ التحويل تصيير الشي ء في غير المكان الّذي كان فيه فحينئذ ليس تكرارا و لو فرضنا التكرار فليتمّ تهديد المسي ء و لعلّ المراد من «سنة الله» أنّ عادة اللّه جرت بأن إذا كان في القوم من يؤمن أو يكون في أصلاب الكافرين من يؤمن فلا يعذّبهم بعذاب الاستئصال فلذلك أمهلهم و ليس لهذه العادة من تحويل و تغيير.

قوله تعالى: [أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي ألم يسر هؤلاء الكفّار الّذين أنكروا هلاك الأمم الماضية في الأرض و الآية استشهاد على ما قبله من جريان سنّته على تعذيب المكذّبين بما يشاهدونه في أسفارهم إلى الشام و العراق و اليمن من آثار ديار الأمم العاتية و الهمزة للإنكار و النفي و الواو للعطف على مقدّر يليق بالمقام.

و تقدير الكلام: أقعدوا و لم يسيروا في الأرض حتّى ينظروا [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل قوم لوط و عاد و ثمود [وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً] و أطول أعمارا و ما أغنى عنهم طول المدى و شدّة القوى و الحالة أنّ أولئك كانوا أشدّ من هؤلاء قوّة.

[وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم يكن اللّه يفوته شي ء [فِي السَّماواتِ وَ لا فِي

ص: 63

الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً] بجميع الأشياء [قَدِيراً] على ما لا نهاية له و في قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ» الآية، قطع لأطماع الجهّال بأن لو قال قائل: هب أنّ الأوّلين كانوا أشدّ قوّة و أطول أعمارا لكنّا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم و نستعين بأمور أرضيّة لها خواصّ أو كواكب سماويّة لها آثار مخصوصة فقال تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ» إلى قوله «عَلِيماً» بأفعالهم قديرا على إهلاكهم.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا] لمّا هدّد اللّه المكذّبين بمن مضى و كانوا يستعجلون العذاب من شدّة عنادهم و فساد عقائدهم و يقولون: عجّل لنا عذابنا فقال اللّه تعالى في هذه الآية: للعذاب أجل و اللّه لا يؤاخذ الناس سريعا بنفس الظلم فإنّ الإنسان ظلوم جهول و إنّما يؤاخذ بالإصرار و حصول يأس الناس عن إيمانهم و وجود الإيمان ممّن كتب اللّه إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذّبين و لو أخذهم بنفس الظلم لكان كلّ يوم إهلاك فقال سبحانه: و لو يؤاخذ اللّه جميعا بما كسبوا من السيّئات كما فعل بأولئك ما ترك على ظهر الأرض من نسمة تدبّ عليها من بني آدم و قيل: من غيرهم أيضا من شؤم معاصيهم و هو المرويّ عن ابن مسعود و أنس.

و يعضد القول الأوّل قوله تعالى: «وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» و هو يوم القيامة و الضمير في قوله: «ظَهْرِها» عائد إلى الأرض و لم يجر لها ذكر لدلالة الكلام على ذلك و العلم الحاصل به ممّا تقدّم في الآية و ما تأخّر أمّا ما تقدّم فقوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ» فهو أقرب المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها و أمّا ما تأخّر فقوله: «مِنْ دَابَّةٍ» لأنّ الدوابّ على ظهر الأرض.

فلو قيل: إذا كان اللّه يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدوابّ يهلكون؟

فالجواب أنّ خلق الدوابّ نعمة فإذا كفر الناس يزيل اللّه النعم و الدوابّ أقرب النعم خصوصا للإنسان و أعلى درجات المخلوقات في النفع من عالم العناصر للإنسان الدوابّ فيزيل اللّه هذه النعمة و إزالة هذه النعمة ليست عقوبة للدوابّ بل عقوبة للإنسان و الدوابّ المخلوقة تبعا و نفعا للإنسان فإذا كان الهلاك عامّا للإنسان فلا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الدوابّ.

ص: 64

ثمّ من أعظم نعم اللّه المطر لأنّ به يحصل نعمة البقاء فإذا لم يستحقّوا قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت الدوابّ الأرضيّة و أمّا حيوانات البحريّة فتعيش بماء البحر و هو سبحانه قال: [ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ].

فإن قيل: كيف يقال لما عليها: ظهر الأرض؟ لأنّ الأرض كالدابّة الحاملة للأثقال و الحمل يكون على الظهر و وجه الأرض ظهرها على أنّ الظهر في مقابلة البطن و الظهر و الظاهر من باب واحد و البطن و الباطن من باب واحد فوجه الأرض ظهر لأنّه هو الظاهر و غيره منها باطن و بطن.

[وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً] فإذا جاء وقت الهلاك فاللّه بالعباد بصير إمّا ينجّيهم و يكون توفّيهم تقريبا من اللّه لا تعذيبا في حقّ المؤمنين و تعذيبا للكافرين كما قال سبحانه:

«وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1).

تمّت السورة.

ص: 65


1- الأنفال: 25.

سورة يس

اشارة

* (مكية)* إلّا آية منها و هي قوله: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» الآية (1) نزلت بالمدينة.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة يس يريد وجه اللّه عزّ و جلّ غفر اللّه له و اعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثني عشرة مرّة و أيّما مريض قرئت عنده سورة يس نزل عليه بعدد كلّ حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا صفوفا يستغفرون له و يشهدون قبضه و يتبعون جنازته و يصلّون عليه و يشهدون دفنه و أيّما مريض قرأها و هو في سكرات الموت أو قرئت عنده أتاه رضوان خازن الجنّة بشربة من شراب الجنّة فسقاه إيّاها و هو على فراشه فيشرب فيموت ريّان و يبعث ريّان و لا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتّى يدخل الجنّة و هو ريّان.

و عن أبي بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: سورة يس تدعى في التوراة المنعمة فقيل:

و ما المنعمة؟ تعمّ صاحبها خير الدنيا و الآخرة و تكابد عنه بلوى الدنيا و تدفع عنه أهاويل الآخرة و تدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كلّ شرّ و تقضي له كلّ حاجة و من قرأها عدلت له عشرين حجّة و من سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل اللّه و من كتبها ثمّ شربها أدخلت جوفه ألف دواء و ألف نور و ألف يقين و ألف بركة و ألف رحمة و نزعت عنه كلّ داء و غلّ.

و أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ لكلّ شي ء قلبا و قلب القرآن يس.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف عنهم يومئذ و كان له بعدد من فيها حسنات.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ لكلّ شي ء قلبا و قلب القرآن يس فمن قرأها في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتّى يمسي

ص: 66


1- يس: 47.

و من قرأها في ليلة قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم و من كلّ آفة و إن مات في نومه أدخله اللّه الجنّة و حضر غسله ثلاثون ألف ملك كلّهم يستغفرون له و يشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له فإذا ادخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون اللّه و ثواب عبادتهم له و فسّح في قبره مدّ بصره و أمن من ضغطة القبر و لم يزل له في قبره نور ساطع إلى عنان السماء إلى أن يخرجه اللّه من قبره فإذا أخرجه لم تزل الملائكة معه يحدّثونه و يضحكون في وجهه و يبشّرونه بكلّ خير حتّى يجوزوا به الصراط و الميزان و يوقفوه من اللّه موقفا لا يكون عند اللّه خلق أقرب منه إلّا ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون و هو مع النبيّين واقف بين يدي اللّه لا يحزن مع من يحزن و لا يهتمّ مع من يهتمّ و لا يجزع مع من يجزع ثمّ يقول له الربّ تعالى: اشفع عبدي اشفّعك في جميع ما تشفع و سلني عبدي أعطك جميع ما تسأل فيسأل فيعطى و يشفع فيشفّع و لا يحاسب فيمن يحاسب و لا يذلّ مع من يذلّ و لا يبكت بخطيئته و لا بشي ء من سوء عمله و يعطى كتابا منشورا فيقول الناس بأجمعهم: سبحان اللّه ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة و يكون من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و روى محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ لرسول اللّه اثني عشر اسما خمسة منها في القرآن: محمّد و أحمد و عبد اللّه و يس و نون.

ص: 67

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة يس (36): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)

المعنى: قد تكرّر الكلام في الحروف المقطّعة عند مفتتح السور في أوّل البقرة و قيل: [يس معناه يا إنسان و تصغير الإنسان انيسين حذف الصدر منه و بقي العجز فيحتمل أن يكون الخطاب إلى الإنسان الكامل ابتداء و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: معناه: يا محمّد و هو اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن عليّ بن أبي طالب و أبي جعفر عليهما السّلام و قد ذكرنا الرواية فيه قبيل هذا و قيل: معناه يا سيّد الأوّلين و الآخرين و قيل: معناه يا رجل بلغة.

[وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من الباطل أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة فكأنّه المظهر للحكمة الناطق بها.

و يختلف إعراب كلمة «يس» باختلاف معانيها؛ فمن قرأ بالرفع على أنّها خبر لمبتدء محذوف أي هذه يس و أمّا بالضمّ على النداء المفرد و اكتفى من الاسم بحرف واحد و هو السين و الياء حرف نداء و نظير حذف بعض الاسم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كفى بالسيف شا» أي شاهدا فحذف العين و اللام من شاهد فكذلك حذف من «إنسان» الفاء و العين و جعل ما بقي منه اسما قائما برأسه و هو السين فقيل: «ياسين» و هو شبيه بقول الشاعر حيث قال:

«قلنا لها قفي لنا قالت ق» أي وقفت أو تكون الكلمة مبنيّة على الضمّ كحيث

ص: 68

و أمّا بالنصب فتقديره: اتل يس أو يكون مبنيّة بالفتح كأين و كيف و قرئ بالكسر مثل جير لإسكان الياء و كسرة ما قبلها و لا يجوز أن يقال بالكسر لأنّ إضمار الجارّ غير جائز و ليس فيه حرف جرّ و قسم.

[إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هذه الجملة مقسم عليه.

فإن قيل: إنّ المطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام في القرآن؟

فيه وجوه:

الاول: أنّ العرب كانوا يتوقّون الأيمان الكاذبة و كانوا يقولون و يعتقدون أنّ اليمين الكاذبة توجب خراب العالم و صحّح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك بقوله: اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع، ثمّ إنّهم كانوا يقولون: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصيبه من آلهتهم عذاب و هي الكواكب و كان النبيّ يحلف بأمر اللّه و ما كان يصيبه عذاب بل كان كلّ يوم أمنع مكانا و أرفع شأنا فكان القسم يوجب اعتقاد أنّه ليس بكاذب و ما يراد من الدليل إلّا إثبات المدّعى و حصول المطلوب.

الوجه الثاني: أنّ المناظر إذا أقام برهانه و لم يقبل طرفه بقوّة جدله و كابر لا يجوز أن يأتي المناظر بدليل آخر لأنّ المكابر يقول في الدليل الآخر مثل ما قاله في الدليل الأوّل و لا يقبل فلا يجد المناظر بدّا لإثبات مراده إلّا اليمين فكذلك النبيّ لمّا أقام البراهين و قالت العرب: «ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ و قالوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (1) تعيّن التمسّك بالأيمان لعدم فائدة الدليل.

الثالث: هو أنّ هذا ليس مجرّد الحلف و إنّما هو دليل خرج في صورة اليمين لأنّ القرآن معجزة و دليل كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرسلا هو المعجزة و القرآن كذلك.

قوله: [عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر أي إنّك ثابت على صراط مستقيم و المستقيم أقرب الطرق إلى المقصد و الدين كذلك فإنّه توجّه إلى اللّه و المقصود أنّ محمّدا على الصراط المستقيم الّذي يكون عليه المرسلون و فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحيّة الّذين يقولون: المكلّف يصير و أصلا إلى الحقّ فلا يبقى عليه تكليف و ذلك ط.

ص: 69


1- سبأ: 44 و في الآية سقط.

أنّ اللّه بيّن أنّ المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون و منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز؟

[تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن تنزيل الغالب في ملكه الرحيم بخلقه قرئ بالجرّ على أنّه بدل من القرآن كأنّه قال: و القرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم و قرئ بالنصب و فيه وجهان: أحدهما مصدر فعله منويّ أي نزل تنزيل العزيز الرحيم و الثاني أنّه مفعول فعل معنويّ كأنّه قال: و القرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم لكنّ الزمخشريّ اختار الرفع على الخبريّة للمبتدأ و هو هذا.

[لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ لتخوّف به من معاصي اللّه قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنّهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: المعنى لم يأتهم نذير من أنفسهم و قومهم و إن جاءهم من غيرهم و قيل: معناه لم يأتهم من أنذرهم بالكتاب حسب ما أتيت و هذا على قول من قال: كان في العرب قبل نبيّنا من هو نبيّ كخالد بن سنان و قسّ بن ساعدة الأياديّ و غيرهما و قيل: معناه لتنذر قوما كما انذر آباؤهم فمعنى قوله «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» أي ما انذروا بعد ما ضلّوا عن طريق الرسول المتقدّم «فَهُمْ غافِلُونَ» عمّا تضمّنه القرآن و عمّا أنذر اللّه به من نزول العذاب و الغفلة مثل السهو و هو ذهاب المعنى عن النفس.

ثمّ أقسم سبحانه فقال: [لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ أي وجب الوعيد و استحقاق العقاب عليهم [فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و يموتون على كفرهم و قد سبق ذلك في علم اللّه و قيل:

معناه لقد سبق القول على أكثرهم أنّهم لا يؤمنون و ذلك أنّه سبحانه أخبر ملائكته أنّهم لا يؤمنون فحقّ قوله عليهم لأنّه قد سبق في علمه أنّ هذا يؤمن و أنّ هذا لا يؤمن فقال في حقّهم: إنّهم لا يؤمنون و قوله تعالى: «حَقَّ الْقَوْلُ» جواب القسم و تقدير الكلام و اللّه يحقّق عدم إيمان أكثرهم لكن لا بطريق الجبر بل بسبب إصرارهم الاختياريّ على الكفر و الإنكار و عدم تأثّرهم من الإنذار بحيث لا يثنيهم عاطف.

قوله: [إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قيل: إنّ هذه الآية نزلت في أبي جهل و صاحبيه المخزوميّين كان حلف أبو جهل لئن رأى محمّدا يصلّي ليرضخنّ

ص: 70

رأسه فأتاه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي و معه حجر ليدمغه فلمّا رفعه انثنت يده إلى عنقه و لزق الحجر بيده فلمّا عاد إلى أصحابه و أخبرهم بما رأى سقط الحجر من يده فقال صاحبه المخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه و هو يصلّي ليرميه بالحجر فأغشى اللّه بصره فجعل يسمع صوته و لا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتّى نادوه: ما صنعت فقال: ما رأيته و لقد سمعت صوته و حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن عمّار بن عاصم عن شقيق بن سلمة عن عبد اللّه بن مسعود أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخرج إليهم فطرح التراب على رؤوسهم و هم لا يبصرونه قال عبد اللّه بن مسعود: هم الّذين سحبوا في القليب قليب بدر.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن مجاهد أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ فقالت: لئن دخل محمّد لنقومنّ إليه قيام رجل واحد فدخل النبيّ فجعل اللّه من بين أيديهم سدّا و من خلفهم سدّا فلم يبصروه و صلّى النبيّ ثمّ أتاهم فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينشر على رؤوسهم التراب و هم لا يرونه فلمّا خلّى عنهم رأوا التراب و قالوا: هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

رجعنا إلى تفسير قوله «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ» و روي عن ابن مسعود و ابن عبّاس أنّهما قرءا «إنّا جعلنا في أيمانهم» و قرأ بعضهم في أيديهم و قال بعضهم على القراءة المشهورة و استعاروا الأعناق بالكناية عن الأيدي فالمعنى واحد في الجميع لأنّ الغلّ لا يكون في العنق دون اليد و لا في اليد دون العنق و مثله في التنزيل «وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) و لم يقل: و البرد لأنّ المعنى اللازم أنّ ما يقي من الحرّ يقي من البرد.

و اختلف في معنى الآية على وجوه:

أحدها أنّه سبحانه بسوء اختيارهم و استحقاقهم جعلهم ممسكين لا ينفقون في سبيل اللّه و لا يبسطون أيديهم إلى الخير و الزكاة و إنّما ذكره ضربا للمثل و تقديره: إنّ هؤلاء في إعراضهم عمّا تدعوهم إليه كمثل رجل غلّت يده إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطهما و طامح

ص: 71


1- النحل: 81.

برأسه لا يمكنه من أن يطأطئ رأسه لأنّ المغلول تكون يده مجموعة في الغلّ إلى عنقه و المغلول الّذي بلغ الغلّ ذقنه بقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر طريق قدميه و هو كناية عن عدم هدايته إلى الطريق الحقّ فهذا الّذي يهديه النبيّ إلى الصراط المستقيم و هو يعاند و يمتنع عن قبول قوله جعل ممنوعا كالمغلول.

و ثانيها أنّ المعنى كان هذا القرآن أغلالا في أعناقهم يمنعهم عن الخضوع لتدبّره و استماعه لاستثقالهم أحكامه و أنّهم لمّا استكبروا عنه و أنفوا من اتّباعه و كان المستكبر رافعا رأسه و لاويا عنقه شامخا بأنفه لا ينظر إلى الأرض صاروا كأنّما غلّت أيديهم إلى أعناقهم و هذا المعنى قريب في الجملة إلى الوجه الأوّل.

و ثالثها أنّ المعنى على سبيل الحقيقة و ذلك أنّ ناسا من قريش همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما بيّنّا في نزول الآية هذا المعنى.

و رابعها أنّ المراد به وصف حالهم يوم القيامة فهو مثل قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ» و إنّما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق و قوله: «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» أي متأبّون قهرا أن يطأطئون رؤوسهم بسبب الغلّ يقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء و لم يطأطئه للشرب و الإيمان كالماء الزلال الّذي به الحياة و هذا الكافر يمتنع عن قبول الإيمان فيهلك كما يهلك البعير القامح.

قوله تعالى: [وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ و في الآية بيان معبّر عن خذلان اللّه إيّاهم لمّا كفروا أي تركناهم مخذولين فصار خذلانهم سدّا بين أيديهم و من خلفهم و إذا فسّر الآية بأنّها وصف حال المشركين في الآخرة على بيان الوجه الرابع من الوجوه المذكورة الأربعة فالكلام على حقيقته و يكون عبارة عن ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدّما و لا متأخّرا إذ سدّ عليهم جوانبهم و إذا حملناه على صفة القوم الّذين همّوا بقتل النبيّ فالمراد جعلنا بين أيدي أولئك الكفّار منعا و من خلفهم منعا حتّى لم يبصروا النبيّ فأغشينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبيّ و قرئ بالعين المهملة و المعنى مناسب مأخوذ من العشواء و قيل: فأغشيناهم

ص: 72

العذاب فهم لا يبصرون النار.

و يمكن أن يكون في الآية إشعار بنكتة لطيفة و هي أنّ الإنسان له هداية فطريّة و الكافر تركها و هداية نظريّة و الكافر بسبب عناده ما أدركها فكأنّه تعالى قال:

جعلنا من بين أيديهم سدّا فلا يسلكون طريقة الاهتداء الّتي هي نظريّة و جعلنا من خلفهم سدّا فلا يرجعون إلى الهداية الجبلّيّة الفطريّة.

[وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي الإنذار و عدمه سيّان بالنسبة إلى الإيمان منهم.

فإن قيل: إذا كان الإنذار و عدمه سواء فلما ذا الإنذار؟

فالجواب أنّه تعالى قال: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ» و لم يقل: «سواء عليك» فالإنذار بالنسبة إلى النبيّ واجب و خروج عن العهدة و سبب في زيادة سيادته عاجلا و سعادته آجلا و لكن بالنسبة إليهم على السواء و انتفاء الفائدة في الإنذار قد صدر منهم.

ثمّ قال تعالى: [سورة يس (36): الآيات 11 الى 20]

إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه أنّ الكفّار لا يؤمنون أكثرهم بسبب إنكارهم النبوّة و القرآن عقّبه بذكر من ينتفع بالإنذار فقال:

[إِنَّما] ينتفع بتخويفك و إنذارك [مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ] و المراد القرآن [وَ خَشِيَ

ص: 73

الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي في حال غيبته عن الناس بخلاف المنافق و قيل: معناه و خشي الرحمن فيما غاب عنه من أمر الآخرة [فَبَشِّرْهُ يا محمّد من هذه صفته [بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ أي ثواب خالص من الشوائب و الغفران جزاء الإيمان فكلّ مؤمن مغفور و الأجر الكريم جزاء العمل.

و هاهنا بيان لطيفة و هي أنّ بعض العلماء قالوا: اللّه و الرحمن اسمان علمان كما قال سبحانه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» فاللّه اسم ينبئ عن الهيبة و الجلالة و الرحمن ينبئ عن الرحمن و العاطفيّة و قال: في موضع «يَرْجُوا اللَّهَ»* و قال هاهنا: «وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ» يعني مع كونه تعالى ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم عنه و مع كونه ذا رحمة لا تأمنوه.

قوله: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا] لمّا ذكر أصلا من الأصول و هو النبوّة ذكر أصلا آخر في هذه الآية بقوله: «إِنَّا نَحْنُ» الآية و في قوله: «إِنَّا نَحْنُ» يحتمل وجهين:

أحدهما أن يكون مبتدءا و خبرا كقول القائل:

«أنا أبو النجم و شعري شعري» و مثل هذا الكلام يقال عند الشهرة العظيمة و ذلك لأنّ من لا يعرف يقال له: من أنت فيقول: أنا ابن فلان فيعرف و من كان معروفا إذا قيل له: من أنت يقول: أنا أنا أي لا معرّف لي أظهر من نفسي فقال سبحانه «إِنَّا نَحْنُ».

و ثانيهما أن يكون الخبر «نُحْيِ» كأنّه قال: «إنّا نحيي الموتى» و نحن يكون تأكيدا قادرين كمال القدرة و نحيي الموتى و نكتب ما قدّموا أي نحصي ما قدّموا و أسلفوا من الأعمال الصالحة و الفاسدة و ما أخّروا و قصّروا و اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر مثل قوله: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» و المراد البرد و قيل: نكتب ما قدّموه من عمل ليس له أثر.

[وَ آثارَهُمْ أي ما يكون أثر و قيل: المراد بآثارهم أعمالهم الّتي صارت بعدهم سنّة يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة و قيل: المراد خطاهم إلى المسجد و سبب ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه فنزلت الآية و في الحديث عن أبي موسى قال:

ص: 74

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أعظم الناس في الصلاة ثوابا أبعدها إليها ممشى و لمّا نزلت الآية و كانوا قبل ذلك ناوين النقلة ظلّوا في دورهم ثابتين فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه يكتب خطوتكم و يثيبكم عليه فألزموا بيوتكم.

[وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي و أحصينا و عدّدنا كلّ شي ء من الحوادث في كتاب مبين ظاهر لا يدرس أثره و هو اللوح المحفوظ و الوجه في إحصاء ذلك اعتبار الملائكة به إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور ليكون فيه دلالة على معلومات اللّه سبحانه على التفصيل و قيل: أراد صحائف الأعمال و عن عليّ عليه السّلام قال: أنا و اللّه الإمام المبين ابيّن الحقّ من الباطل و ورثته من رسول اللّه.

و في المعاني عن الباقر عليه السّلام عن أبيه عن جدّه قال نزلت هذه الآية على النبيّ «وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» قام أبو بكر و عمر من مجلسهما و قالا: يا رسول اللّه هو التوراة؟ قال: لا قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا قالا: هو القرآن؟ قال: لا قالا: فما فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال رسول اللّه: هو هذا إنّه الإمام الّذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شي ء.

و في الاحتجاج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث قال معاشر الناس: ما من علم إلّا علّمنيه ربّي و أنا علّمته عليّا و قد أحصاه اللّه فيّ و كلّ علم علّمت فقد أحصيته في إمام المتّقين و ما من علم إلّا علّمته عليّا (1).

[وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ] هؤلاء أضراب أي هؤلاء أمثال أي و مثّل لهم يا محمّد مثالا أو اذكر لهم مثلا «أَصْحابَ الْقَرْيَةِ» و ترك المثل و أقيم الأصحاب مقامه في الإعراب.

[إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ و هذه البلدة الأنطاكية و قيل: المعنى مثّل قومك بأصحاب القرية الأنطاكية حيث جاءهم ثلاثة رسل و لم يؤمنوا و صبر الرسل على القتل و الإيذاء و هم بعثوا على قرية و أنت بعثت على العالم فتكون تتحمّل أذاهم و مكارههم.

[إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما] فكذّبوا الرسولين قال ابن عبّاس: ضربوهما و سجنوهما [فَعَزَّزْنا] هما [بِثالِثٍ و قوّيناهما برسول ثالث و كان اسم الرسولين شمعون و يوحنّا و اسم الثالث يونس و قال ابن عبّاس: اسمهما صادق و صدوق و الثالث اسمه شلوم و قيل:

ص: 75


1- العبارة هنا مضطربة. انظر الاحتجاج: 34- 41.

إنّهم رسل عيسى و هم الحواريّون و إنّما أضافهم تعالى إلى نفسه لأنّ عيسى أرسلهم بأمره.

[فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي قالوا: يا أهل القرية إنّ اللّه أرسلنا إليكم.

[قالُوا] يعني أهل القرية: [ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا] فلا تصلحون للرسالة كما لا نصلح نحن لها كما قال قوم محمّد هذا الكلام «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» أي أنتم بشر مثلنا فكيف صرتم رسل اللّه و لا يجوز رجحانكم علينا [إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلّا كاذبون في ادّعائكم.

[قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ إشارة إلى أنّهم بمجرّد التكذيب لم يسأموا و لم يتركوا بل أعادوا و كرّروا القول عليهم و أكّدوه بلام التأكيد و استشهدوا بعلم اللّه في رسالتهم و إنّما قالوا ذلك بعد ما قامت الحجّة منهم بظهور المعجزة فلم يقبلوها.

قوله [وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليس يلزمنا إلّا أداء الرسالة و ليس علينا أن نحملكم قهرا على الإيمان فإنّا لا نقدر.

[قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي قال هؤلاء الكفّار: إنّا تشأمنا بكم [لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا] عمّا تدعونه من الرسالة [لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة و قيل: معناه لنشتمنّكم [وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ .

[قالُوا] يعني الرسل: [طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي الشؤم كلّه معكم بإقامتكم على الكفر باللّه تعالى فأمّا الدعاء إلى التوحيد و عبادة اللّه ففيه غاية البركة و الخير و اليمن و قيل: معنى «طائِرُكُمْ» أي نصيبكم و حظّكم من الخير و الشرّ معكم [أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ ثمّ قال المرسلون جوابا عن قول الكفّار حيث قالوا: «لَنَرْجُمَنَّكُمْ» يعني أ تفعلون بنا ذلك و إن ذكّرتم و تبيّن لكم صدقنا و ظهر الأمر بالمعجزة و البرهان [بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ و ليس فينا ما يوجب التشأم بنا و لكنّكم قوم متجاوزون عن الحدّ في التكذيب للرسل، و الإسراف الإفساد أي أنتم تقصدون إيلام من يجب في حقّه الإكرام و المسرف هو المجاوز الحدّ بحيث يبلغ الضدّ لأنّ الواجب اتّباع الدليل فإن لم يوجد الاتّباع فلا أقلّ من أن لا يجزم بنقيضه و هم جزموا بالكفر.

ص: 76

[وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى فكان اسمه حبيب النجّار عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين و كان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية و كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة فلمّا بلغه أنّ قومه قد كذّبوا الرسل و همّوا بقتلهم جاء يعدو.

[قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الّذين أرسلهم اللّه إليكم و أقرّوا برسالتهم و إنّما علم هو بنبوّتهم لأنّهم لمّا دعوه قال: أ تأخذون على ذلك أجرا؟ قالوا: لا و قيل: إنّه كان به زمانة أو جذام فأبرءوه فآمن بهم عن ابن عبّاس.

و شأن القصّة أنّ عيسى عليه السّلام بعث رسولين إلى مدينة أنطاكية فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب النجّار فسلّما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال:

أ معكما آية؟ قالا: نعم نشفي المريض و نبرء الأكمه و الأبرص بإذن اللّه، فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن اللّه صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى اللّه على أيديهما كثيرا من المرضى.

و كان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه فدعاهما و قال لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة الأوثان عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر فقال الملك: أولنا إله سوى آلهتنا؟ قال: نعم من أوجدك و أوجد آلهتك قال: قوما حتّى أنظر في أمر كما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما.

و قال وهب بن منبّه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياه و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا و ذكرا اللّه فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلّد كلّ واحد منهما مائة جلدة فلمّا كذّب الرسولان و ضربا بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريّين على أثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلدة متنكّرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه ثمّ قال له شمعون ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب

ص: 77

بيني و بين ذلك قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نطّلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: اللّه الّذي خلق كلّ شي ء لا شريك له قال شمعون لهما: و ما آتاكما ربّكما؟ قالا: ما نتمنّاه فأمر الملك حتّى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعو ان اللّه حتّى انشقّ موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجّب الملك فقال شمعون للملك:

أ رايت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك و لإلهك شرفا فقال الملك:

ليس لي عنك سرّ إنّ إلهنا الّذي نعبده لا يضرّ و لا ينفع ثمّ قال الملك للرسولين:

إن قدر إلهكم على إحياء ميّت آمنّا به و بكما قالا: إلهنا قادر على كلّ شي ء فقال الملك:

إنّ هاهنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميّت و قد تغيّر و أروح فجعلا يدعوان ربّهما علانية و جعل شمعون يدعو ربّه سرّا فقام الميّت و قال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام و ادخلت في سبعة أودية من النار و أنا احذّركم ما أنتم فيه فآمنوا باللّه فتعجّب الملك فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك دعاه إلى اللّه فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.

و قد روى مثل ذلك العيّاشيّ بإسناده إلى الثماليّ و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام إلّا أنّ في بعض الروايات: بعث اللّه الرسولين إلى أهل أنطاكية ثمّ بعث الثالث و في بعضها أنّ عيسى أوحى اللّه إليه أن يبعثهما ثمّ بعث وصيّه شمعون ليخلصهما و أنّ الميّت الّذي أحياه اللّه بدعائهما كان ابن الملك و إنّه خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بنيّ ما حالك قال: كنت ميّتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان اللّه تعالى أن يحييني قال: يا بنيّ أفتعرفهما إذا رأيتهما قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل فمرّ أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما ثمّ مرّ الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و أهل مملكته على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكّرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.

ص: 78

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 21 الى 30]

اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)

ثمّ ذكر سبحانه تمام الحكاية عن الرجل الّذي جاءهم من أقصى المدينة فقال:

[اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً] أي أيّها الكفّار اتّبعوا من لا يطلبون الأجر و لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى [وَ هُمْ مُهْتَدُونَ إلى طريق الحقّ فلمّا قال هذا الكلام أخذوه و رفعوه إلى الملك فقال له الملك: أ فأنت تتّبعهم؟ فقال: [وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي و أيّ شي ء لي لم أعبد خالقي الّذي أنشأني و هداني و في الكلام إشعار بأنّ المانع مفقود و المقتضي موجود و قد وجب شكر المنعم لأنّه أنعم عليّ بالإيجاد و الهداية.

و في قوله: «فَطَرَنِي» لطيفة و هي أنّه معنى فطرني و لو أنّ معناه أنشأني و لكن مشعر بأنّه جعلني عين الفطرة الّتي فطر الناس عليها فأنا باق عليها و المراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبئ عنه قوله: [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و في العدول من التكلّم إلى الخطاب معنى لطيف و هو إشارة إلى الخوف و الرجاء لأنّ من يكون إليه المرجع يخاف منه و يرجى و العابد عابد يعبد اللّه لكونه إلها مالكا يستحقّ العبادة سواء أنعم أو لم ينعم و قسم يعبد اللّه خوفا من المخالفة و قسم يعبد اللّه للنعمة الواصلة إليه فجعل هذا الرسول نفسه من الطبقة الاولى و جعلهم دون ذلك من الطبقة الثانية و الثالثة لأنّه علم أنّهم ليسوا قابلين أن يكونوا من الطبقة الاولى.

و هاهنا بيان و هو أنّه لم فتح الياء في قوله: «وَ ما لِيَ» و الحال أنّ الأصل

ص: 79

سكون الياء؟ قال أبو عمرو: لئلّا يكون الابتداء «ب لا أَعْبُدُ» و لكن قرأ في الباقي على الأصل كما في قوله: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» (1) بسكون الياء.

و بالجملة ثمّ أنكر عبادة الأصنام فقال: [أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً] أعبدهم [إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ] أي إذا أراد اللّه إهلاكي و الإضرار بي [لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً] أي لا تدفع و لا تمنع شفاعة الأوثان عنّي شيئا أي لا شفاعة لهم فتغني و لا يخلصوني [وَ لا يُنْقِذُونِ من ذلك الضرر و الإهلاك و المكروه و في قوله: «أَ أَتَّخِذُ» إشارة إلى أنّ غيره ليس بإله لأنّ المتّخذ لا يكون إلها لأنّ المتّخذ يجدّد أمرا ما كان و إلهيّة الإله كان ثابتا في أزل الآزال.

[إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنّي إن فعلت ذلك و أتّخذ إلها غير اللّه و أعدل إذن أكون في ضلال واضح [إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي آمنت و صدّقت بربّكم الّذي أخرجكم و خلقكم فاسمعوا قولي و اقبلوه.

و اختلف في المخاطبين في الآية قيل: الخطاب إلى الرسولين قال المفسّرون:

أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين و قال: إنّي آمنت بربّكم فاسمعوا قولي و اشهدوا لي عند اللّه و قيل: المعنى أيّها السامعون إنّي آمنت بربّكم.

ثمّ إنّ القوم لمّا سمعوا ذلك القول وطئوه بأرجلهم حتّى مات فأدخله اللّه الجنّة و هو حيّ فيها يرزق [قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ] و قيل: رجموه حتّى قتلوه و قيل: لمّا أرادوا أن يقتلوه رفعه اللّه إليه فهو في الجنّة لا يموت إلّا بفناء الدنيا و هلاك الجنّة و قيل: إنّ القوم قتلوه إلّا أنّ اللّه سبحانه أحياه و أدخله الجنّة.

فلمّا دخلها [قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي تمنّى أن يعلم قومه بما أعطاه اللّه من جزيل النعمة و الثواب ليرغبوا فيه و ليؤمنوا و لينالوا ذلك و في تفسير الثعلبيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين عليّ أمير المؤمنين و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصدّيقون و أفضلهم عليّ عليه السّلام.

ص: 80


1- النمل: 20.

[وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي من المدخلين في الجنّة و الإكرام هو إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التعظيم و في هذا دلالة على نعيم القبر لأنّه إنّما قال ذلك و قومه أحياء في الدنيا و إذا جاز نعيم القبر جاز عذاب القبر فإنّ الخلاف فيهما واحد.

و كلمة «ما» في قوله: «بِما غَفَرَ لِي» مصدريّة أو أن تكون موصولة أي بالّذي غفر لي و يجوز أن يكون المعنى: بأيّ شي ء غفر لي ربّي فيكون استفهاما.

ثمّ حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب و الاستئصال فقال: [وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله أو من بعد رفعه [مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ] أي الملائكة أي لم ننتصر منهم لإهلاكهم بعد قتلهم الرسل جندا كثيرا من الملائكة يقاتلونهم و المراد الإشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه و ما كان يحتاج الأمر إلى إرسال جند يهلكهم و إنّما النازل من العذاب عليهم بصيحة ملك واحد أخمدت نارهم و خربت ديارهم.

ثمّ بيّن اللّه سبحانه فقال: [إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أي ما كانت الواقعة إلّا صيحة قال الزمخشريّ: أصله: إن كان شي ء إلّا صيحة فكان الأصل أن يذكّر لكنّه انّث لما بعده من المفسّر و هو صيحة و واحدة تأكيد لبيان أنّ الأمر عندنا هيّن [فَإِذا هُمْ خامِدُونَ إشارة إلى سرعة الهلاك فإنّ خمودهم كان مع الصيحة و في وقتها و وصفهم بالخمود لأنّهم لمّا قتلوا حبيبا النجّار غضب اللّه عليهم فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضا دنا باب المدينة و كانت المدينة عظيمة ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا دفعة عن آخرهم لا يسمع لهم حسّ كالنار إذا طفئت و سكنت أنفاسهم في أسرع وقت كما أنّ النار و السراج و الشعلة تنطفئ دفعة واحدة.

فإن قيل: إذا كانت صيحة واحدة تكفي لقوم و امّة و أهل بلدة عظيمة مثل أنطاكية من ملك واحد فكيف أنزل جنودا لم تروها من الملائكة يوم بدر مع أنّه كان ذلك الملك و هو جبرئيل مع الملائكة؟ فذلك لجلالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلّا كان تحريك ريشة واحدة من جناح ملك كان كافيا في إهلاك العالم و ما كان رسل عيسى في درجة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قوله تعالى: [يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ] أي هذا وقت الحسرة فاحضري و التنكير

ص: 81

للتكثير، و العباد هم الّذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة و ندامة عليهم و تشمل هذه الحسرة لجميع المكذّبين بالرسل و المراد أنّه تحقّقت الندامة عند تحقّق العذاب.

و هاهنا بيان و هو أنّه من المتحسّر في الآية و فيه وجوه: الأوّل أنّه لا متحسّر أصلا في الحقيقة و المقصور أنّ ذلك الوقت وقت الندامة و الحسرة لأنّ الفاعل يرفض إذا كان غير مقصود به أو القائل بقوله: «يا حَسْرَةً» هو اللّه على الاستعارة تعظيما و تهويلا للأمر فحينئذ كالألفاظ الّتي وردت في حقّ اللّه كالنسيان و الاستهزاء و أمثاله.

أو المعنى أنّه تعالى مخبر عن وقوع الندامة و الحسرة في ذلك الوقت بصورة النداء لا بصورة الإخبار و المقصود الإخبار. الثالث: المتحسّر المسلمون و الملائكة كما حكي عن حبيب النجّار أنّه لمّا قتلوه كان يقول: «اللّهم اهد قومي» و بعد ما قتلوه و ادخل الجنّة يتمنّى و كان يقول: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ».

قوله: [ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فبيّن سبحانه سبب الحسرة و سبب وقوع العذاب فحينئذ هذا الكلام من قول اللّه: و المعنى أنّهم حلّوا محلّ من يتحسّر عليه و عذّبوا بسبب استهزائهم بالرسل و يحتمل أن يكون من كلام حبيب و يحتمل أن يكون قوله: «يا حَسْرَةً» إلى قوله: «يَسْتَهْزِؤُنَ» من كلام القوم لمّا عاينوا العذاب قالوا: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» يعني على الرسل حيث لم نؤمن بهم و قتلناهم فندموا حين لم ينفعهم الندامة و معنى الحسرة أن يرتكب الإنسان أمرا ثمّ يشتدّ ندمه على ذلك الفعل ما لا نهاية له حتّى يبقى قلبه حسيرا.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 31 الى 35]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

المعنى: ثمّ هدّد سبحانه كفّار مكّة فقال:

[أَ لَمْ يَرَوْا] و لم يعلموا [كَمْ أَهْلَكْنا] قرنا [قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ مثل قوم عاد

ص: 82

و ثمود و غيرهم [أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ و لا يعودون في الدنيا أفلا تعترون بهم و أنّكم ستصيرون إلى مثل حالهم فانظروا ألّا تصيروا مثلهم و احذروا أن يأتيكم العذاب و الهلاك و أنتم في غفلة و غرّة. و يسمّى أهل كلّ عصر قرنا لاقترانهم في الوجود (1).

ثمّ بيّن أنّ من أهلكه اللّه هو غير متروك بل بعده حساب و عقاب و حبس و عذاب، و إن ترك من هلك لكان الموت راحة قال الشاعر:

و لو أنّا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كلّ حيّ

و لكنّا إذا متنا بعثناو نسأل بعده عن كلّ شي ء

و قوله: [وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ و في «إن» وجهان: أحدهما أنّها مخفّفة من المثقّلة و اللام في «لَمَّا» فارقة بينها و بين النافية و «ما» زائدة مؤكّدة للمعنى فالقراءة حينئذ بالتخفيف في «لما» و ثانيهما أنّها نافية فحينئذ «لما» بمعنى «إلا» و مشدّدة. و حاصل المعنى أنّ الأمم يوم القيامة يحضرون فيقفون على ما عملوه في الدنيا من الماضين و الباقين مبعوثون للحساب و الجزاء.

ثمّ قال: [وَ آيَةٌ لَهُمُ أي و حجّة و دلالة قاطعة لهم على قدرتنا على البعث [الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها] أي الأرض القحطة المجدبة الّتي لا تنبت أحييناها بالنبات [وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا] أي كلّ حبّ يتقوّتونه مثل الحنطة و الشعير و الأرز و غيرها من الحبوب [فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ و من ذلك الحبّ يأكلون و ينتفعون.

[وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ في الأرض بساتين [مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ و إنّما خصّ النوعين لكثرة منافعهما و أنواعهما [وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي و فجّرنا في تلك الأرض الميتة أو في تلك الجنّات عيونا من الماء ليسقوا بها الكرم و النخيل.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك [لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر النخيل، و عود الضمير إلى أحد المذكورين لحصول العلم بأنّ الأعناب في حكم النخيل كما قال سبحانه:

«وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (2) و ترك الذهب حيث الإرجاع في الضمير به و قيل: الضمير

ص: 83


1- كذا قال الراغب في المفردات، و قيل فيه وجوه أخر.
2- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. التوبة: 35.

عائد إلى اللّه أي ليأكلوا من ثمر اللّه لأنّ سبب وجود الثمار ليس إلّا باللّه و إرادته و يمكن أن يكون الضمير عائد إلى التفجير أي و فجّرنا فيها من العيون تفجيرا ليأكلوا ثمر ذلك التفجير.

قوله: [وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قيل: إنّ «ما» نافية أي تلك الثمار ما عملته أيديهم بل نحن الزارعون و اللّه أثمر النخل و أنبت البقل و قيل: «ما» موصولة فإنّه قال: و الّذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير و من السقاية و أمثالها و قيل: «ما» مصدريّة أي ليأكلوا من ثمره و عمل أيديهم يعني يغرسون و اللّه ينبتها و يخلق ثمرها فيأكلون مجموع عمل أيديهم و خلق اللّه و هذا المعنى على قراءة من قرأ «و ما عملت أيديهم» و لا يجوز ذكر الهاء المفعول على هذا المعنى و مع هذه النعم العديدة و القدرة الكاملة [أَ فَلا يَشْكُرُونَ منعمهم و خالقهم.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 36 الى 40]

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

لفظة «سُبْحانَ» علم دالّ على التسبيح و تقديره: اسبّح تسبيحا للّذي خلق أصناف الأشياء.

و وجه تعلّق الآية بما قبلها هو أنّه لمّا قال: «أَ فَلا يَشْكُرُونَ» و هم تركوه و عبدوا غيره فقال:

[سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ و غيره لم يخلق شيئا و قد خلق سبحانه الأصناف و الأشكال من الأشياء فالحيوان على مشاكلة الذّكر للأنثى و كذلك النخل و الحبوب أشكال فلذلك قال: [مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من سائر النبات [وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي و خلق منهم أولاد أزواجا ذكورا و إناثا [وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ ممّا في بطون الأرض و قعر البحار و لم يشاهدوه و لم يتّصل خبره بهم.

ص: 84

[وَ آيَةٌ لَهُمُ و دلالة اخرى لهم [اللَّيْلُ نَسْلَخُ و ننزع من الليل [النَّهارَ] و نخرج ضوء الشمس و المراد من النهار الضوء أي نضمحلّ الضوء و نسلبه فيبقى الهواء مظلما كما كان لأنّ اللّه يضي ء الهواء بضياء الشمس فإذا سلخ منه الضياء كشط و ازيل يبقى مظلما.

و قيل: إنّما قال سبحانه «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» لأنّه تعالى جعل الليل كالجسم لظلمته و جعل النهار كالجلد و القشر و هو عارض فالنهار كالكسوة و الليلة أصل فهو كالجسم فإذا تميّز و انتزع منه الضوء [فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في ظلام الليل لا ضياء لهم فيه.

[وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها] أي و دلالة اخرى لهم الشمس أي إنّها تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا فلا تزال تجري حتّى تنقضي الدنيا و قرئ «لا مستقرّ لها» و المعنى واحد أي لا قرار لها إلى انقضاء الدنيا و يمكن أن يكون اللام للوقت و السبب نحو «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» فالجري بسبب حصول الوقت و قيل: معناه أنّها تجري لوقت واحد لا تعدوه و لا يختلف. أو المعنى أنّها تجري إلى أقصى منازلها في الشتاء و الصيف لا يتجاوزها و لها في الارتفاع غاية لا تنقطع دونها و في الهبوط غاية لا يتجاوزها و لا تقصر عنها فمستقرّها [ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ] القادر الّذي لا يعجزه شي ء [الْعَلِيمِ الّذي لا يخفى عليه.

و هاهنا بيان و هو أنّ المكان يدفع شبه الفلاسفة و الزمان يدفع شبه المشبّهة.

أمّا بيان الأوّل و هو أنّ الفلسفيّ يقول: لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل، و قبل و بعد لا يتحقّق إلّا بالزمان فقبل العالم زمان و الزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشي ء عند عدمه و هو محال فنقول: إنّه قد وافقتمونا على أنّ الأمكنة متناهية لأنّ الأبعاد متناهية بالاتّفاق فإذن فوق السطح الأعلى من العالم يكون عدما و هو موصوف بالفوقيّة و فوق و تحت لا يتحقّق إلّا بالمكان ففوق العالم مكان و المكان من العالم فيلزم وجود الشي ء عند عدمه فإن قالوا: فوق السطح الأعلى لا خلأ و لا ملأ نقول: قبل وجود العالم لا آن و لا زمان موجود.

و أمّا بيان الثاني فلأنّ المشبّه يقول: لا يمكن وجود موجود إلّا في مكان فاللّه في

ص: 85

مكان فنقول: فيلزمكم أن تقولوا: اللّه في زمان لأنّ الوهم كما لا يمكنه أن يقول: هو موجود و لا مكان لا يمكنه أن يقول: هو كان موجودا و لا زمان و كلّ زمان فهو حادث و قد أجمعنا على أنّ اللّه قديم.

قوله تعالى: [وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي و قدّرنا و عيّنّا للقمر مجاري و منازل أي جعلنا القمر ذا منازل حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هي ثمانية و عشرون منزلا ينزل كلّ يوم و ليلة منزلا منها لا يختلف حاله إلى أن يقطع الفلك إلى أن يعود في آخر الشهر دقيقا كالعذق اليابس العتيق المعوجّ المقوّس ثمّ يخفى يومين آخر الشهر.

و شبّهه سبحانه بالعذق لأنّه إذا مضى على العذق أيّام جفّ و يقوّس فيكون أشبه الأشياء بالهلال و الهلال به و الغالب أنّ العذق يصير كذلك و يتقوّس إذا مضى عليه ستّة أشهر.

و روى عليّ بن إبراهيم بإسناده قال: دخل أبو سعيد المكاري- و كان واقفيّا- على أبي الحسن الرضا عليه السّلام فقال: أبلغ من قدرك أنّك تدّعي ما ادّعاه أبوك فقال له أبو الحسن: مالك أطفأ اللّه نورك و أدخل الفقر بيتك أما علمت أنّ اللّه سبحانه أوحى إلى عمران إنّي واهب لك ذكرا يبرأ الأكمه و الأبرص فوهب له مريم و وهب لمريم عيسى فعيسى من مريم و مريم من عيسى و عيسى و مريم شي ء واحد و أنا من أبي و أبي منّي فقال له أبو سعيد:

فأسألك عن مسألة قال: سل و لا إخالك تقبل منّي و لست من غنمي و لكن هلمّها قال: ما تقول في رجل قال عند موته: كلّ مملوك لي قديم فهو حرّ لوجه اللّه؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام:

ما ملكه لستّة أشهر فهو قديم و هو حرّ قال: و كيف صار كذلك؟ قال: لأنّ اللّه يقول:

«وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» سمّاه اللّه قديما و يعود العرجون كذلك لستّة أشهر قال: فخرج أبو سعيد من عنده و ذهب بصره و كان يسأل على الأبواب حتّى مات.

قوله تعالى: [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ] في سرعة سير القمر لأنّ الشمس أبطأ سيرا من القمر فإنّ الشمس تقطع منازلها في سنة و القمر يقطعها في شهر فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر و خلقهما على وفق الحكمة و جعل لكلّ منهما و من الكواكب مطالع

ص: 86

و مجاري مخصوصة متعيّنة فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر و إلّا لكان في شهر واحد صيف و شتاء فحينئذ لا تدرك الثمار و لا تنضج.

[وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ] و لا يسبق الليل النهار و لا يجتمع ليلتان ليس بينهما يوم بل يتعاقبان [وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي و كلّ من الشمس و القمر و النجوم و ذكر الشمس و القمر مشعر بالكواكب و النون عوض عن الضمير الّذي ذكر الشمس و القمر يشعر بوجود الضمير. في فلك يسيرون بانبساط و سهولة و كلّ ما انبسط في شي ء فقد سبح فيه و منه السباحة في الماء.

و إنّما قال: «يَسْبَحُونَ» بالواو و النون لما أضاف إليها فعل مثل الآدميّين و وصفها بصفة من يعقل كما قال: «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ» قال ابن عبّاس: تدور كما تدور الغزل في الفلكة.

و يستنبط من بعض الأخبار كما ورد عن الرضا عليه السّلام أنّ النهار خلق قبل الليل (1).

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 41 الى 50]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

ثمّ امتنّ اللّه على خلقه بذكر فنون نعمه دالّا بذلك على وحدانيّته فقال:

[وَ آيَةٌ] و حجّة و علامة لهم على اقتدارنا [أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي آباءهم و أجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم و انتشر منهم خلق كثير و تسمّى الآباء

ص: 87


1- راجع مجمع البيان.

«ذرية» من ذرء اللّه الخلق لأنّ الأبناء و الأولاد خلقوا منهم و سمّي الأولاد ذرّيّة لأنّهم خلقوا من الآباء و قيل: الذرّيّة هم الصبيان و النساء و خصّ الذرّيّة بالذكر في السفينة مع أنّ الآباء أيضا حملوا لضعفهم و لأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال.

«فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» أي سفينة نوح المملوّة من الناس و ما يحتاج إليه من فيها فسلموا من الغرق و الفلك السفينة لأنّ السفينة تدور في الماء و منه الفلك لأنّها تدور بالنجوم و فلك ثدي المرأة إذا استدار.

[وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ* وَ إِنْ نَشَأْ] إذا حملناهم في السفن [نُغْرِقْهُمْ بتهييج الرياح و الأمواج [فَلا صَرِيخَ و لا مغيث [لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ و لا يخلصون من الغرق.

و هاهنا بيان لغويّ صرفيّ و هو أنّه جعل الفلك تارة جمعا مثل قوله: «وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ» (1) و اخرى فردا مثل قوله: «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» و هذا ليس من قبيل لفظ المشترك الّذي وضعت بحركة واحدة لمعنيين بل الحركة الأصليّة في المعنيين مختلفة و لكن في الصورة متّحدة مثلها قولك: سجد يسجد سجودا للمصدر و هم قوم سجود في جمع ساجد نظنّ أنّها كلمة واحدة لمعنيين و ليس كذلك بل السجود عند كونه مصدرا حركة أصليّة و حركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيّرة حيث إنّ الجمع يشتقّ من الواحد و هو ساجد و لا بدّ أن يلحق المشتقّ تغيير في الحركة أو في الحروف أو في مجموعها فساجد لمّا أردنا أن نشتقّ منه لفظ جمع غيّرناه و جئنا بلفظ السجود إذا عرفت هذا فالفلك عند كونه واحدا مثل «قفل» و عند كونها جمعا مثل «خشب» فإذا استعملت الكلمة بمعنى الجمع فيكون واحدها فلكة انتهى.

[وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ أي و خلقنا لهم من مثل سفينة نوح سفنا يركبون فيها هؤلاء كما ركب أولئك و المراد السفن الّتى عملت بعد سفينة نوح على صورتها و شكلها و حاصل المعنى أنّ خلقنا لهؤلاء مثل ما خلقنا للمتقدّمين منهم و «من» في قوله: «مِنْ مِثْلِهِ» قيل: صلة زائدة مثل ما جاءني من أحد لكن سيبويه يقول «من» لا تقع

ص: 88


1- النحل: 14.

صلة إلّا بعد النفي لكن هي مبيّنة و قيل: المراد و خلقنا ممّا يماثل الفلك ما يركبون من الإبل فإنّها سفائن البرّ و قيل: ممّا يماثل السفينة المراد الحمولة من الدوابّ كالإبل و البقر و الحمير و إنّما جعلها مخلوقة للّه مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرّد كون صنعهم بإقدار اللّه و إلهامه بل لمزيد اختصاص أصلها بحكمته و قدرته كما يعرب عن هذا المعنى قوله: «وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا» (1).

قوله تعالى: «وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ» أي لا يغاثون و لا ينقذون «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» فيمن علم اللّه منه أنّه مؤمن أو سيؤمن أو ننقذهم للتمتّع زمانا قليلا في الدنيا و نمتّعه إلى حين قدّرناه لتقضي آجالهم.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمشركين [اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من أمر الآخرة و اعملوا لها [وَ ما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا و احذروها و لا تغترّوا بها أو اتّقوا ما مضى من الذنوب و ما تأتى من الذنوب بالتوبة للماضي و الاجتناب للمستقبل و قيل: معناه: اتّقوا العذاب المنزل على الأمم الماضية و ما خلفكم من العذاب الآخرة و جواب «إِذا قِيلَ لَهُمُ» محذوف أي إذا قيل لهم اتّقوا لعلّكم ترحمون لا يتّقون و يعرضون و يدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: [وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي أعرضوا عن التفكّر في الحجج و المعجزات و «من» في قوله: «مِنْ آيَةٍ» هي الّتي تزاد بعد النفي للتأكيد و الاستغراق و من الثانية للتبعيض أي ليس تأتيهم آية إلّا أعرضوا عنها و ذلك سبيل من ضلّ الهدى و خسر الآخرة.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أيضا [أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في طاعته و أخرجوا من أموالكم ما أوجب اللّه عليكم [قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أي احتجّوا في منع الإنفاق و الحقوق بأن قالوا: كيف نطعم من يقدر اللّه على إطعامه و لو شاء اللّه إطعامه أطعمه فإذا لم يطعم دلّ على أنّه لم يشأ إطعامه.

و اختلف في هؤلاء القائلين: فقيل: هم اليهود حين أمروا بإطعام الفقراء و قيل:

هم مشركو قريش قال لهم أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أطعمونا من أموالكم ما

ص: 89


1- هود: 37.

زعمتم أنّه للّه و ذلك قوله: «هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ» (1) و قيل: هم الزنادقة من الناس الّذين أنكروا الصانع تعلّقوا بقوله: «رَزَقَكُمُ اللَّهُ» فقالوا: إن كان هو الرازق فلا فائدة في التماس الرزق منّا و قد رزقنا و حرّمكم فلم تأمرون بإعطاء من حرمه اللّه؟

[إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذا من بقيّة قول الكفّار لمن أمرهم بالإطعام.

و قيل: إنّه من قول اللّه حين ردّوا هذا الجواب.

[وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ] الّذي تعدنا به نزول العذاب بنا [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنت و أصحابك و هذا استهزاء منهم بخبر النبيّ و خبر المؤمنين.

فقال تعالى في جوابهم: [ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أى ما ينتظرون إلّا صيحة واحدة يريد النفخة الاولى عن ابن عبّاس، أي إنّ القيامة تأتيهم بغتة [تَأْخُذُهُمْ الصيحة [وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أي يختصمون و يتناظرون في الأسواق و في الحديث: تقوم الساعة و الرجلان قد نشروا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم الساعة و الرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم الساعة و الرجل يليط حوضه ليسقي إبله و ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم و قيل: و هم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟

فإن قيل: إنّهم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها.

فالجواب أنّ الانتظار فعليّ لأنّهم كانوا يفعلون ما يستحقّون به البوار و تقريب الساعة و العذاب. و التنكير في الصيحة لبيان عظمتها و هولها كقولك: إنّ لفلان مالا أي كثير عظيم و قوله: «واحِدَةً» للتأكيد و المبالغة في شدّة الصيحة أي لا يحتاج معها إلى ثانية و تأخذهم و تعمّهم بالأخذ و تصل إلى من في المشارق و المغارب.

[فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ فبيّن اللّه سبحانه شدّة الأخذ بحيث لا يمهلهم إلى أن لا يتمكّنوا من الوصيّة، و التوصية بالقول و القول يوجد أسرع ممّا يوجد الفعل كأنّه قال سبحانه: لا يستطيعون كلمة فكيف فعلا يحتاج إليه زمان معتدّ به من أداء الواجبات و ردّ المظالم؟

و لفظ التوصية ذكر في الآية لبيان أنّه لا قدرة له على أهمّ الأمور فإنّ وقت الموت

ص: 90


1- الانعام: 136.

الحاجة إلى الوصيّة أقدم من كلّ الأمور و التنكير في التوصية للتعمّم و لأنّ التوصية قد يحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها و الحاصل أنّ الساعة إذا أخذتهم بغتة لم يقدروا على الإيصاء بشي ء و لا يقدرون إلى الرجوع إلى أهليهم.

ثمّ بيّن سبحانه ما بعد الصيحة فقال:

[سورة يس (36): الآيات 51 الى 60]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)

أخبر اللّه عن النفخة الثانية و ما يلقونه فيها إذا بعثوا بعد الموت فقال:

[وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] فإن قيل: إنّ في هذا الموضع يقول: [فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ و في موضع آخر «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (1) و القيام غير النسلان و قوله: في الموضعين «فَإِذا هُمْ»* يقتضي أن يكونا معا فالجواب أنّ القيام لا ينافي المشي السريع و لا ينافي النظر و الماشي قائم أو أنّ المواضع كثيرة أو أنّ لسرعة الأمور كان الكلّ في زمان واحد كقول امرئ القيس:

«مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا» . و بالجملة فصارت النفختان مؤثّرتين في أمرين متضادّين الإحياء و الإماتة و الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة لمّا كانت الأجزاء مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق و أمّا حالة الموت كانت الأجزاء متفرّقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فعند

ص: 91


1- الزمر: 68.

الاجتماع تتفرّق و عند الافتراق تجتمع.

فائدة: اعلم أنّ «إذا» الّتي للمفاجاة هي «إذا» الّتي للظرف لكنّ الشي ء قد يكون ظرفا للشي ء معلوما كونه ظرفا فعند الكلام يعلم كونه ظرفا و عند المشاهدة لا يتجدّد علم كقول القائل: إذا طلعت الشمس أضاء الجوّ و إذا رأى إضاءة الجوّ عند الطلوع لم يتجدّد علم زائد و أمّا إذا قلت: خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب لكنّه لم يكن معلوما فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفا مفاجاة عند الإحساس فقيل: «إذا» للمفاجاة.

مسألة فلو قيل: أين يكون ذلك الوقت أجداث و قد زلزلت الصيحة الجبال؟ و ذلك بأن يجمع اللّه الأجزاء كلّ واحد في الموضع الّذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع و هو جدثه.

و في الآية إشعار بكمال القدرة حيث إنّه في زمان واحد يجتمعون و ينسلون إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه و لا حكم لغيره سراعا فلمّا رأوا أهوال القيامة [قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا] أي يقولون: «يا ويلنا» و قرئ «يا ويلتنا» أي كلّ واحد منهم يقول: يا ويل احضر فهذا أوان حضورك و قرئ من أهبّنا من هبّ من نومه إذا انتبه و إنّما يقولون: «مِنْ مَرْقَدِنا» مع أنّهم كانوا معذّبين في القبر فكيف قالوا «مِنْ مَرْقَدِنا»؟

قيل: إنّ للكفّار هجعة بين النفختين و يرفع اللّه العذاب عنهم بين النفختين فيرقدون و يجدون فيها طعم النوم فإذا بعثوا بالنفخة الثانية و شاهدوا أهوال القيامة دعوا بالويل و الثبور و قالوا ذلك أو أنّهم لكثرة ما يشاهدون من الأهوال يختلط عقولهم يظنّون أنّهم كانوا نياما و قيل: إذا عاينوا جهنّم و ما فيها من أنواع العذاب يصير عندهم عذاب القبر في جنبها مثل النوم فيقولون ذلك.

و قرئ «من بعثنا» بمن الجارّة و المصدر. و «المرقد» إمّا مصدر أي رقادنا أو اسم مكان أريد به الجنس أي المراقد و القبور.

ثمّ يقولون: [هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فيما أخبرونا عن هذا المقام و هذا البعث قال قتادة: أوّل الآية من قول الكافرين و آخرها للمسلمين: قال الكافرون:

ص: 92

«يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» و قال المسلمون: «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ».

ثمّ أخبر سبحانه عن سرعة بعثهم فقال: [إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] أي لم تكن المدّة و النفخة إلّا مدّة صيحة واحدة [فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي فإذا الأوّلون و الآخرون مجموعون في عرصات القيامة محصورون في موقف الحساب و قوله: «مُحْضَرُونَ» يدلّ على أنّ كونهم ينسلون إجباريّ لا اختياريّ.

ثمّ بيّن سبحانه ما يكون في ذلك اليوم بقوله: [فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فقوله: «لا تُظْلَمُ نَفْسٌ» ليأمن المؤمن «وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» لييأس الكافر و المعنى أنّه لا ينقص من له حقّ شيئا من حقّه من الثواب و العوض بل الأمور جارية على مقتضى العدل.

ثمّ ذكر سبحانه حال أوليائه فقال: [إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ شغلهم النعيم عن أهوال القيامة و غمرهم سرورهم عمّا فيه أهل النار من العذاب و أنّ أهل العذاب أقاربهم قال ابن عبّاس: شغلوا بافتضاض العذارى و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام قال: و حواجبهنّ كالأهلّة و أشفار أعينهنّ كقوادم النسور (1) و قيل: باستماع الألحان مشغولون.

و قيل: شغلهم في الجنّة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء فثواب الرجل بقوله: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» (2) و ثواب اليد «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها» (3) و ثواب الفرج «وَ حُورٌ عِينٌ» و ثواب البطن «كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً»* الآية، و ثواب الأذن «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً»* (4) يسمعون أصوات المطربة و ثواب العين «وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ» (5) فاكهون فرحون و الفكه الطيّب النفس الضحوك فظهور البشر في الوجه

ص: 93


1- القوادم: الريشات التي في مقدم الجناح و هي كبارها و النسور جمع نسر: الطائر المعروف.
2- الحجر: 46.
3- الطور: 23- 19.
4- - الواقعة: 22- 62.
5- الزخرف: 81.

و الجبهة يقال: رجل فكه و فاكه و لم يسمع لهذا فعل في الثلاثيّ أو مأخوذ من الفكاهة فهو كناية عن الأحاديث الطيّبة و قيل: «فاكِهُونَ» أي ذوو فكاهة كما يقال: لاحم و شاحم أي ذو لحم و شحم.

قوله: [هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ هم و حلائلهم في الدنيا ممّن وافقهم على إيمانهم في أستارهم من الظلال الّتي لا حرّ فيها و لا برد و قيل: المراد من الأزواج اللّاتي زوّجهم اللّه من الحور العين في ظلال أشجار الجنّة أي في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم [عَلَى الْأَرائِكِ و هي السرر و عليها الحجال و قيل: هي الوسائد [مُتَّكِؤُنَ عليها و جالسون جلوس الملوك إذ ليس عليهم من الأعمال شي ء و كلّما اتّكئ عليه فهو أريكة و الجمع «أرائك».

[لَهُمْ فِيها] أي في الجنّة [فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي ما يتمنّون و يشتهون و «ما» موصولة أو موصوفة و يدعون يفتعلون من الدعاء عبّر بها عن مدعوّ عظيم الشأن أي كلّ ما يدعونه حاصل لهم قال أبو عبيدة: يقول العرب: ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ عليّ.

ثمّ بيّن سبحانه ما يشتهون فقال: [سَلامٌ أي لهم سلام و منى أهل الجنّة أن يسلم اللّه عليهم [قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ و سلام بدل من «ما يَدَّعُونَ» كأنّه لمّا قال:

«لَهُمْ ما يَدَّعُونَ» بيّنه ببدله فقال: «لهم سلام» فيكون في المعنى «سلام» كالمبتدء الّذي خبره «لهم» كما يقال: لزيد مال أو سلام خبر لمبتدء محذوف و المعنى ما يدّعونه لهم و هو سلام يقال لهم.

[قَوْلًا] كائنا من واسطته تعالى و من جهة لطفه و إكرامه إمّا بواسطة الملك أو بدونها مبالغة في تكريمهم قال ابن عبّاس: و الملائكة يدخلون عليهم بالتحيّة من ربّ رحيم.

ثمّ ذكر سبحانه أهل النار فقال: [وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال لهم: انفصلوا و اعتزلوا معاشر العصاة و الكفرة من جملة المؤمنين و كونوا على حدة قيل:

إنّ لكلّ كافر بيتا في النار يدخل فيه فيردم و يسدّ بابه لا يرى و لا يرى.

ص: 94

ثمّ خصّهم بالتوبيخ فقال: [أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ألم أنهاكم على ألسنة الأنبياء و الرسل في الكتب المنزلة أن لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به و قلت لكم: [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عليكم.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يخلق عبادة الشيطان لأنّه حذّر عباده عن عبادته و وبّخ عليه و لا يجور أن يوبّخ ما خلقه.

قوله تعالى: [سورة يس (36): الآيات 61 الى 65]

وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

ثمّ بيّن سبحانه ما يقوله للكفّار يوم القيامة [وَ أَنِ اعْبُدُونِي فوصف عبادته بأنّه طريق مستقيم من حيث كان طريقا إلى الجنّة و ذكر عداوة الشيطان لبني آدم فقال:

[وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً] أي أضلّ الشيطان خلقا كثيرا منكم بأن دعاهم و أغواهم و حملهم على الضلال [أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أنّه يغويكم و يصدّكم عن الحقّ فتنبّهون و صورة الكلام صورة الاستفهام و معناه الإنكار عليهم و التبكيت لهم.

و في هذا بطلان مذهب أهل الجبر في أنّ اللّه لم يرد إضلالهم لأنّه سبحانه أنكر إضلال الشيطان إيّاهم و وبّخهم على متابعتهم إيّاه.

و هاهنا بيان و هو أنّه إن دعتك نفسك إلى فعل فانظر أهو مأذون فيه أو ممنوع عنه و النظر في هذا الأمر لا بدّ و أن يكون من جهة الشرع و من بيان الشارع فإن لم تكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتّبعته فقد عبدته ثمّ إنّ الشيطان يأمر أوّلا بمخالفة اللّه ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده و من لم يطعه فلا يرجع عنه بل يقول له: اعبد اللّه كي تكون عزيزا عند الناس و ليرتفع شأنك عندهم و ينتفع بك إخوانك و أعوانك و ذلك لأنّ غرضه اللعين أن يفسد عملك و ينتزعه عن القربة و يدخله في الشرك و يجعله هباء منثورا و أنت بزعمك أنّك عبدت اللّه فهذا نوع من عبادة الشيطان و إطاعته و نوع آخر أن يحملك على المعاصي و ذلك أيضا على تفاوت

ص: 95

فمن المعاصي ما يقع و العامل فيه موافق جنانه و لسانه و أركانه و منها ما يقع و الجنان و اللسان مخالف للجوارح و يرتكب جريمة كارها بقلبه لما يقترف من ذنبه مستغفرا لربّه يعترف بسوء ما يقترف فهو أيضا عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة و متى كان العاصي منزجرا مستكرها بالقلب فهو مصداق الحديث النبويّ حيث قال قال اللّه: لو لم تذنبوا لخلقت أقواما يذنبون و يستغفرون فأغفر لهم.

إذا عرفت هذا فالطاعة الّتي تقع بالأعضاء الظاهرة للشيطان إذا كانت البواطن طاهرة فمكفّرة بالأسقام و الآلام كما ورد في الأخبار و من ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الحمّى من فيح جهنّم و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: السيف محاء للذنوب أي لمثل هذه الذنوب و يدلّ عليه ما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحدود أنّها كفّارات و ما يكون بالقلوب فلا خلاص عنه إلّا بالتوبة و الندم و إقبال القلب على الربّ فالقلب أمير و اللسان خاصّته و الأعضاء خدمه فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب لأنّه أعرض عن اللّه و أقبل على محبّة غير اللّه فهو المستعقب للعقاب الأليم و العمدة في سبب عداوة إبليس لآدم تكرمة آدم فحسده و شقاوة إبليس بسبب ترك السجود لآدم فإذا كان الشيطان للإنسان عدوّا مبينا فما بال الإنسان يميل إلى مراضيه من الشراب و الزنا و يكره مساخطه من العبادة و المجاهدة و السبب أنّ اللعين يستولي على الإنسان بمعونة من نفس الإنسان و ترك الإنسان الاستعانة باللّه فيستعين الشيطان بشهوة الّتي خلقها تعالى فيه لجواز التكليف و لمصالح بقائه و بقاء نوعه و الجاهل يجعلها سببا لفساد حاله و تتقوّى الشيطان بالدعوة بها إلى مسالك المهالك كما أنّ اللعين يستعين بغضبه الّذي خلقه اللّه فيه لدفع المفاسد عنه فيجعله سببا لوباله و فساد أحواله و ميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضارّ فترى المحموم يريد الماء البارد و هو يزيد في مرضه و صحيح المزاج و العاقل لا يشتهي إلّا ما ينفعه فالدنيا كالهواء الوبي ء لا يستغني الإنسان عن الاستنشاق و هو المفسد لمزاجه و لا طريق له في الاستخلاص إلّا الاستصلاح بالهواء الطيّب و الروائح العطرة و الرشّ بالخلّ و الماورد فكذلك طريقة الإصلاح في الدنيا ترك استنشاق الهواء الوبي ء الّذي هو الشيطان، و ترك هوى النفس الّذي يعين عدوّ اللّه و تحريف الهوى بالتذكّر و الذكر الطيّب الّذي هو بمنزلة الخلّ و العطر لفساد

ص: 96

الهواء، فإذا صحّ مزاجه فحينئذ لا يميل إلّا إلى الحقّ و يحصل له مع العبادة الفة فهنالك يعترف الشيطان بأنّه ليس له عليه سلطان و لا يكون من حزب الضالّين بل من المفلحين.

مسألة: في الجبلّ ستّة لغات: كسر الجيم و الباء مع تشديد اللام و ضمّهما مع التشديد و كسرهما مع التخفيف و ضمّهما مع التخفيف و تسكين الباء و تخفيف اللام مع ضمّ الجيم و مع كسره و في معنى الجبلّ الجيم و الباء و اللام لا يخلو عن معنى الاجتماع و الجبلّ فيه اجتماع الأجسام الكثيرة فالمراد من الجبلّة الجمع العظيم انتهى.

قوله تعالى: [هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بيّن سبحانه مآل أهل الضلال يخاطبون بعد التوبيخ و يقال لهم: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» و ذلك عند إشرافهم على شفير جهنّم أي كنتم توعدونها على ألسنة الرسل بمقابلة عبادة الشيطان.

[اصْلَوْهَا الْيَوْمَ أمر إهانة و تنكيل كقوله: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» (1) أي ادخلوها و قاسوا فنون عذابها و أصل الصلاء اللزوم و منه المصلّي الّذي يجي ء في أثر السابق للزومه أثره و قيل: معناه: صيروا صلاها أي وقودها بما كنتم تكفرون جزاء على كفركم باللّه و تكذيبكم أنبياء اللّه.

[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ و المراد الختم حقيقة يوضع على أفواه الكفّار يوم القيامة فلا يقدرون على النطق [وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ أي تستنطق الأعضاء الّتي لا تنطق في الدنيا لتشهد عليهم.

و اختلف في كيفيّة الشهادة من الجوارح على وجوه: أحدها أنّ اللّه يجعلها خلقة يمكن أن تتكلّم و تعترف بذنوبها. و ثانيها أنّ اللّه يجعل فيها كلاما و إنّما نسب الكلام إليها لأنّه لا يظهر إلّا من جهتها. و ثالثها أنّ اللّه يجعل فيها آيات دالّة على أنّ أصحابها عصوا المعاصي فسمّي ذلك شهادة منها كما يقال: عيناك تشهدان كذا.

قوله: [بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي تنطق الأعضاء بما كسبوا في الدنيا من الذنوب فجعل اللّه الشاهد عليهم منهم.

قوله تعالى:

ص: 97


1- الدخان: 49.

[سورة يس (36): الآيات 66 الى 70]

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68) وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاكهم و بيان استحقاق هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته فقال:

[لَوْ نَشاءُ] عقوبتهم بما ذكر من الطمس و المسخ. و الطمس محو الشي ء حتّى يذهب أثره و لا يدرك منه شي ء و لو أردنا أن نفعل بهم ما يوجب جناياتهم المستدعية لها لطمسنا على أعينهم [فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ] يعني فأرادوا أن يستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه [فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق و كيف يتوجّهون حينئذ جهة السلوك و كيف يتردّدون إلى منازلهم لأنّه إذا طمست أعينهم لم يهتدوا إليها و قيل: المعنى «وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا» أي لأعميناهم عن الهدى «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» أي فطلبوا طريق الحقّ و قد عموا عنه فكيف يبصرون؟ عن ابن عبّاس.

[وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ كأنّ قائلا يقول:

الأعمى قد يهتدي بالأمارات العقليّة أو الحسّيّة غير الحسّ البصر كالأصوات و اللمس فقال:

و لو نشاء مسخناهم و سلبنا قوّتهم و غيّرنا صورهم و عذّبناهم بنوع آخر من العذاب فأقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة و خنازير كما فعلنا بغيرهم أو جعلناهم حجارة في منازلهم ليس فيهم أرواحهم فلم يقدروا على ذهاب و لا مجي ء و لا رجوعا إلى الخلقة الاولى بعد المسخ و هذا تهديد من اللّه لهم و المكان و المكانة واحد.

ثمّ قال سبحانه: [وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي من نطوّل عمره نصيّره بعد القوّة إلى الضعف و بعد زيادة الجسم إلى النقصان و بعد الجدة و الطراوة إلى البلى و الخلوقة فكأنّه نكس خلقه و ردّه إلى حال الهرم الّتي تشبه حال الصبى في ضعف القوّة و غروب الغلم.

[أَ فَلا يَعْقِلُونَ و يتدبّرون في أنّ اللّه يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك و قرئ «أَ فَلا يَعْقِلُونَ» بصيغة الغائب.

ص: 98

ثمّ أخبر عن نبيّه و وصفه توكيدا لقوله: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فقال: [وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ] أي ما علّمناه صناعة الشعر و إنشائه [وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أن يقول الشعر عن عند نفسه و ما يتسهّل له الشعر و ما كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزيّن له بيت شعر حتّى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمثّل بيت شعر جرى على لسانه: «كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا» فقال بعض الأصحاب:

يا رسول اللّه إنّما قال الشاعر: «كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا» أشهد أنّك لرسول اللّه و ما علّمك الشعر و ما ينبغي لك و عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه يتمثّل ببيت أخي بني قيس:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاو يأتيك بالأخبار من لم تزوّد

فجعل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

«و تأتيك من لم تزوّد بالأخبار» فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول اللّه فيقول: إنّي لست بشاعر و ما ينبغي لي فأمّا قوله:

«أنا النبيّ لا كذب أنا بن عبد المطّلب»

فقد قال قوم: إنّ هذا ليس بشعر و قال آخرون: إنّما هو اتّفاق منه و ليس بقصد منه إلى قول الشعر.

و قيل: إنّ معنى الآية «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» بتعليم القرآن و ما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا فإنّ نظمه ليس بنظم الشعر على معنى أنّ القرآن ليس بشعر فإنّ الشعر كلام متكلّف موضوع منسوج على منوال الوزن و القافية مبنيّ على خيالات واهية و مثل هذا لا يصلح للنبيّ و لا يتأتّى له لو طلبه فرضا كما جعلناه امّيّا لا يهتدي للخطّ لتكون الحجّة أثبت و الشبهة أدحض و قد صحّ أنّه كان يسمع الشعر و يحثّ عليه لكن شعر الحكمة و قال لحسّان بن ثابت: لا تزال يا حسّان مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

[إِنْ هُوَ] أي ما الّذي أنزلناه عليه [إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ من عند ربّ العالمين ليس بشعر و لا رجز و لا خطبة و المراد بالذكر أنّه يتضمّن ذكر الحلال و الحرام و الدلالات و أخبار الأمم الماضية للاعتبار فجمع سبحانه بينها لاختلاف فائدتها [لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا] أي من كان مؤمنا لأنّ الكافر كالميّت بل أقلّ من الميّت لأنّ الميّت و إن كان لا ينتفع و لا يتضرّر لكنّ الكافر لا ينتفع بدينه و يتضرّر به و قيل: المراد من الحيّ العاقل روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

ص: 99

[وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ و يجب الوعيد و العذاب على الكافرين بكفرهم و كلمة «القول» كما قال تعالى: «وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» (1) و قوله: «حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» (2) لأنّه قال: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (3) فلمّا وجد منهم التكذيب جاء التعذيب.

ثمّ إنّه أعاد دلائل الوحدانيّة فقال:

[سورة يس (36): الآيات 71 الى 83]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76) أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

أي ألم يعلموا علما يقينيّا متآخم للمعاينة [أنّا] لأجلهم [خلقنا ممّا] تولّينا إحداثه بالذات من غير وليّ و ناصر و ذكر «الأيدي» استعارة يفيد المبالغة في التفرّد و الاختصاص و «اليد» في اللغة تطلق على الجارحة و القوّة و النعمة [أَنْعاماً] يعني الإبل و البقر و الغنم [فَهُمْ لَها مالِكُونَ و لو لم نخلقها لما ملكوها و لما انتفعوا بها و بألبانها و ركوب ظهورها و لحومها و قيل: المراد هم لها ضابطون لم نخلقها وحشيّة لا يقدرون على ضبطها.

[وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ و سخّرناها لتصرّفهم حتّى صارت منقادة غير نافرة [فَمِنْها رَكُوبُهُمْ

ص: 100


1- الم السجدة: 13.
2- الزمر: 71.
3- اسرى: 15.

على تقدير حذف المضاف أي ذو ركوبهم و ذو الركوب هو المركوب و يجوز أن يكون المعنى:

فمن منافعها ركوبهم و أمّا ركوبتهم فهي المركوبة كالحلوبة و الجروزة لما يحلب و يجرز [وَ مِنْها يَأْكُلُونَ قسّم الأنعام و جعل منها ما يركب و منها ما يذبح.

[وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ فمن منافعها لبس أصوافها و أوبارها و أشعارها و أكل لحومها و ركوب ظهورها [أَ فَلا يَشْكُرُونَ اللّه على هذه النعم.

ثمّ ذكر سبحانه جهلهم فقال: [وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ يعبدون تلك الآلهة لكي ينصروهم و يدفعوا عنهم عذاب اللّه [لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ يعني هذه الآلهة الّتي عبدوها لا يقدر على نصرهم و الدفع عنهم [وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي الكفّار جند للأصنام يغضبون لهم و يحضرونهم في الدنيا كالجند و هي لا تسوق إليهم خيرا و لا تدفع عنهم شرّا و قيل: المعنى أنّ هذه الآلهة معهم في النار محضرون لأن كلّ حزب مع ما عبدته من الأوثان في النار كما قال سبحانه «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» (1).

[فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ في تكذيبك [إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم [وَ ما يُعْلِنُونَ بألسنتهم فنجازيهم على ذلك أي نعلم عقائدهم الفاسدة و ما يعلنون من الأفعال القبيحة.

[أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ و يعلم [أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ] و التقدير ثمّ نقلناه من النطفة إلى العلقة و من العلقة إلى المضغة و من المضغة إلى العظم و من العظم إلى أن جعلناه خلقا سويّا ثمّ جعلنا فيه الروح و أخرجناه من بطن امّه و نقلناه من حال إلى حال إلى أن كمل عقله و صار متكلّما خصيما جدليّا و ذلك قوله: [خَصِيمٌ مُبِينٌ أي ذو بيان و نطق.

و إنّما ذكر «الخصيم» مكان الناطق لأنّه أعلى أحوال الناطق لأنّ الناطق مع نفسه لا يبيّن كلامه و المتكلّم مع غيره أظهر في النطق و أبين فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة و هي أسهل من الإنشاء و الإبداع و لا يجوز أن يكون خلق الإنسان واقعا بالطبيعة لأنّ الطبيعة ليست بقادرة و لا حسّاسة و في حكم الموات فكيف يصلح منها الفعل و لا يجوز أن يكون الوقوع بسبب الاتّفاق لأنّ المحدث لا بدّ له من محدث

ص: 101


1- الأنبياء: 98.

قادر قبل زمان الحدوث.

و في الآية دلالة على صحّة استعمال النظر في الدين لأنّه سبحانه أقام الحجّة على قيام النشأة الثانية بوجود النشأة الاولى و ألزم من أقرّ بالأولى أن يقرّ بالثانية.

ثمّ أكّد سبحانه هذا البيان بقوله: [وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا] أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي و فتّته بيده و يتعجّب ممّن يقول: إنّ اللّه يحييه [وَ نَسِيَ خَلْقَهُ أي و ترك النظر و التدبّر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة.

ثمّ بيّن سبحانه قول المنكر للحشر و المتمثّل [قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ أي البالية المتفتّتة و اختلف في القائل لذلك فقيل: هو ابيّ بن خلف و هو المراد بالإنسان في الآية عن الصادق عليه السّلام و قيل: هو العاص بن وائل السهميّ و قيل: اميّة بن خلف.

ثمّ ردّ سبحانه عليه بقوله: [قُلْ لهذا المنكر من الإعادة يا محمّد: [يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ] لأنّ من قدر على الاختراع فهو قادر على الإعادة [وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ من الابتداء و الإعادة فكما خلقه و لم يكن كذلك شيئا يعيده و إن لم يبق منه شيئا مذكورا.

ثمّ زاد في بيان القدرة و أخبر من صنعه سبحانه بما هو عجيب الشأن فقال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ و المراد أنّكم إذا تستبعدون الإعادة بسبب فناء و حياة سارية في الإنسان فلا تستبعدوا الإعادة لهذا السبب فإنّ النار في الشجر الأخضر الّذي يقطر منه الماء أعجب و أغرب و أنتم تشاهدون حيث منه توقدون و جعل لكم من الشجر الرطب المطفئ للنار نارا محرقة يعني بذلك الشجر المرخ و العفاروهما شجرتان يتّخذ الأعراب نارها منها فمن قدر على أن يخرج من الشجر الّذي هو في غاية الرطوبة نارا حارّة مع مضادّة النار للرطوبة و يخرج الضدّ من الضدّ فيقدر على إعادتكم قال الكلبيّ: كلّ شجر ينقدح منه النار إلّا العنّاب لكنّ العرب استمجد المرخ و العفار لكثرة هذه المادّة فيهما.

ثمّ ذكر سبحانه من خلقه ما هو أعظم من الإنسان و هو خلق السماوات و الأرض فقال: [أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مع عظمهما و كثرة أجزائهما يقدر على إعادة البشر.

ص: 102

ثمّ أجاب فقال: [بَلى أي هو قادر على ذلك [وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يخلق خلقا بعد خلق العالم بجميع ما خلق.

و ذكر قدرته على إيجاد الأشياء فقال: [إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فعبّر عن هذا المعنى بكلمة «كُنْ» لأنّه أبلغ في القدرة و ليس هنا قول و إنّما المراد إخبار بحدوث ما يريده تعالى و قيل: إنّما هو في التحويلات نحو قوله: «كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ»* (1) «و كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً» (2) و ما أشبه ذلك.

و لفظ الأمر على عشر أوجه: أحدها: الأمر لمن هو دونك، و الثاني: الندب كقوله:

«فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» (3)، و ثالثها: الإباحة نحو قوله: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا» (4) «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (5) و الرابع: الدعاء نحو «رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» (6) الخامس: الترفية كقوله: ارفق بنفسك، السادس: الشفاعة نحو قولك: شفّعني فيه، السابع: التحويل نحو «كُونُوا قِرَدَةً»* الثامن: التهديد نحو «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» (7) التاسع: الاختراع و الإحداث و الوقوع نحو قوله: «كُنْ فَيَكُونُ»* العاشر: التعجّب نحو «أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ» (8).

و بالجملة حاصل المعنى أنّه سبحانه إذا أراد فعل شي ء بمنزلة ما يقول للشي ء:

«كُنْ» فيكون في الحال كقول الشاعر:

فقالت له العينان سمعا و طاعةو حدّرتا كالدرّ لمّا يثقّب

ص: 103


1- البقرة: 65.
2- اسرى: 50.
3- النور: 33.
4- الجمعة: 10.
5- المائدة: 3.
6- الكهف: 10.
7- حم السجدة: 40.
8- مريم: 83.

و إنّما أخبر الشاعر عن سرعة دمعه دون أن يكون ذلك قولا على الحقيقة.

قوله: [فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي تنزيها عن نفي القدرة على الإعادة و غير ذلك ممّا لا يليق بصفاته الّذي بيده أي بقدرته ملك كلّ شي ء [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة إلى حيث لا يملك الأمر و النهي أحد سواه.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 104

سورة و الصافات

اشارة

* (مكية)* فضلها: قال ابيّ بن كعب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة الصافّات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّيّ و شيطان و تباعدت عنه مردة الشيطان و برأ من الشرك و شهد له حافظاه يوم القيامة إنّه كان مؤمنا بالمرسلين.

و روى الحسين بن أبي العلاء عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة الصافّات في كلّ يوم جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق و لم يصبه اللّه في ماله و لا في ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم و لا من جبّار عنيد و إن مات في يومه أو ليلته بعثه اللّه شهيدا و أماته شهيدا و أدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة.

التفسير:

اشارة

افتتح اللّه هذه السورة بمثل ما اختتم به سورة يس من ذكر التوحيد و البعث فقال:

ص: 105

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)

إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

قرئ [وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا] بإدغام التاء في الصاد و كذلك بإدغام التاء في الزاي في «فَالزَّاجِراتِ» و كذلك بإدغام التاء في «فَالتَّالِياتِ» قالوا: إدغام هذه الحروف الثلاثة فيما يليها حسن لمقاربة الحرفين في الثلاثة.

و اعلم أنّ هذه الأشياء الثلاثة المقسم بها يحتمل أن يكون صفات للملائكة أي واقفين صفوفا إمّا في السماوات للعبادة كما أخبر اللّه عنهم أنّهم قالوا: «وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» (1) و قيل: إنّهم يصفّون أجنحتهم في الهواء منتظرين لأمر اللّه أو أنّ لكلّ واحد منهم درجة و مرتبة معيّنة في الذات و الشرف و ذلك يشبه الصفوف أو صفّ الغزاة المجاهدين في سبيل اللّه.

و أمّا قوله: [فَالزَّاجِراتِ زَجْراً] يقال: زجرت البعير إذا أحشته ليمضي و زجرت فلانا عن سوء أي نهيته ففي وصف الملائكة بالزجر قيل: المراد الملائكة الّذين وكّلوا بالسحاب يزجرونها من موضع إلى موضع و قيل: المراد منه أنّ الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهام فيزجرونهم عن المعاصي زجرا أو يزجرون الشياطين عن التعرّض لبني آدم بالشرّ و الإيذاء و إلقاء الهداية في قلوب البشريّة في مقابلة إغواء الشياطين و إضلالهم للبشر فقوله: «فَالزَّاجِراتِ» إشارة إلى تأثير الجواهر الملكيّة في

ص: 106


1- السورة: 169.

تنوير الأرواح القدسيّة البشريّة كما قال سبحانه: «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» و ذلك إشارة إلى كيفيّة تأثيراتها في إزاله ما لا ينبغي عن الأرواح البشريّة و حاصل المعنى أنّ اللّه سبحانه يوصل مفهوم زجر الملائكة إلى قلوب العباد كما يوصل مفهوم إغواء الشيطان إلى قلوبهم ليصحّ التكليف. و قيل: المراد رفع المؤمنين أصواتهم عند قراءة القرآن لأنّ الزجرة الصيحة.

قوله تعالى: [فَالتَّالِياتِ ذِكْراً] اختلف فيها أيضا أحدها أنّها الملائكة تقرء كتب اللّه تعالى و الذكر الّذي ينزل على الموحى إليه أو الكتب الّتي كتب اللّه لملائكته و فيه ذكر الحوادث فتزداد يقينا بوجود المخبر على وقوع الخبر و الثالث ذكر جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصلاة و إنّما لم يقل: «تلوا» كما قال: «زَجْراً» لأنّ التالي قد يكون بمعنى التابع و منه قوله: «وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها» (1) فلمّا كان اللفظ مشتركا بيّنه بلفظ يزيل الإبهام.

و كلّ هذه الأمور أقسام أقسم اللّه تعالى بها أنّه واحد ليس له شريك فقال في جواب الأقسام [إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ] و اختلف في مثل هذه الأقسام فقيل: أقسام باللّه كلّها على تقدير و ربّ الصافّات و ربّ الزاجرات و ربّ التين و ربّ الزيتون.

فإن قيل: ذكر القسم أمّا للمؤمن فهو مقرّ بالتوحيد و أمّا للكافر فهو منكر و الحلف لا يكون دليلا فما الفائدة.

فالجواب أنّ القرآن نزل بلغة العرب و عندهم إثبات الأمر بالحلف و اليمين طريقة مألوفة و لو أنّه ليس بدليل لكنّه سبحانه ما اقتصر على ذكر الدليل بالحلف بل أتى بالدليل اليقينيّ في كون الإله واحدا لأنّه عقّب اليمين بالدليل بقوله:

[رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] و النظر في انتظام العالم و خلقة دليل يقينيّ فالقسم للتأكيد و لذلك قال سبحانه: «رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما» أي خالقهما [وَ رَبُّ الْمَشارِقِ و هي مشارق الشمس و مطالعها بعدد أيّام السنة ثلاثمائة و ستّون مشرقا و المغارب كذلك يطلع كلّ يوم من مشرق و يغرب في مغرب و الشروق قبل الغروب

ص: 107


1- الليل: 2.

و لذلك قدّم في الذكر.

و يحتمل أن يكون المراد من المشارق و المغارب مشارق الكواكب و مغاربها فإنّ لكلّ كوكب مشرقا و مغربا و ذكر المشارق يغني عن ذكر المغارب كقوله «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» (1) على أنّ الشروق أكثر نفعا من الغروب.

[إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا] الّتي هي أقرب السماوات إلينا و إنّما خصّها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة [بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرئ «بِزِينَةٍ» منوّنة «الْكَواكِبِ» بالجرّ و هو ردّ معرفة على نكرة مثل «بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ» و الكواكب بدل من الزينة مثل قولك:

مررت بأبي عبد اللّه زيد و قرأ عاصم بالتنوين في الزينة و نصب الكواكب يريد زيّنّا الكواكب قال الزجّاج: يجوز أن تكون «الكواكب» في النصب بدلا من قوله: «بِزِينَةٍ» لأنّ «بِزِينَةٍ» في موضع النصب و قرأ الباقون «بزينة الكواكب» بالجرّ على الإضافة من غير تنوين «الزينة».

و الحاصل أنّه سبحانه بيّن أنّه زيّن سماء الدنيا لمنفعتين إحداهما للزينة و الثانية للحفظ من الشيطان المارد و بيان زينة السماء بالكواكب أي بنور الكواكب و ضوئها و النور و الضوء أحسن الصفات في الزينة ثمّ إنّ أشكالها متزيّنة و مختلفة كشكل الجوزاء و بنات نعش و الثريّا و أمثالها و كيفيّة طلوعها و غروبها و إنّ الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك و رأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق يرى أمرا عجيبا مزيّنا.

قوله: [وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ] قال المبرّد: إذا ذكرت فعلا ثمّ عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنّه قد دلّ على فعله مثل قولك افعل و كرامة لأنّه لمّا قال: افعل علم أنّ الأسماء لا تعطف على الأفعال فالمعنى افعل ذلك و أكرمك كرامة و كذلك قوله: «وَ حِفْظاً» أي حفظناها من كلّ شيطان خبيث متمرّد أن لا يدنو منها فإنّهم كانوا يسترقّون السمع و يستمعون إلى كلام الملائكة و يلقون ما يستمعون و يوسوسونها في قلوب الكهنة و يوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب فمنعهم اللّه تعالى عن ذلك بهذه الشهب و يرميهم بها.

ص: 108


1- النحل: 81.

قوله تعالى: [لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لكيلا يتسمّعونا إلى الكتبة من الملائكة في السماء و المراد من «الْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة لأنّهم أهل الملأ الأعلى.

[وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً] أي يرمون بالشهب من كلّ جانب من جوانب السماء إذا أرادوا الصعود طردوا دفعا لهم بالعنف [وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي و لهم مع ذلك أيضا عذاب دائم يوم القيامة لكفرهم و تمرّدهم.

[إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ] استثناء من الاستماع و التقدير لا يسّمّعون إلى الملائكة إلّا من وثب الوثبة إلى قريب من السماء فاختلس خلسة و استلب استلابا بسرعة [فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ فلحقه و أصابه نار مضيئة محرقة و «الثَّاقِبُ» النيّر المضي ء فإن قيل: إنّ الجنّ من النار فكيف يحترقون؟ نعم نار القويّة تؤثّر في النار الضعيفة كالسراج ينطفئ بالنار القويّة (1).

[سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 20]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

المعنى: في الآية استدلال على وقوع الحشر و إمكانه فقال: استفت يا محمّد و اسأل من هؤلاء المنكرين [أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا] من خلق السماوات و الأرض و الملائكة و ما بينهما و لا شكّ أنّهم يعترفون بأنّ خلق هذا القسم أشدّ من خلقهم فحينئذ بالحريّ أن يكون قادرا على إعادة الحياة في هذه الأجساد و لا شكّ أنّ خلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الإنسان.

قوله: [إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق لازم أي إنّ هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حيّة في المرّة الاولى و لو لا كونه تعالى قادرا

ص: 109


1- كذا في تفسير الامام و لكن النار القوى انما تطفئ بلهيبها لا بذاتها بل الجواب ان البشر من الطين فكيف يوجعه و يزجره المواد الطينية إذا ضرب بها مع انه قال عز و جل «فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» و لم يقل يحرقه و يفنيه.

على إحيائهم لما حصلت الحياة في المرّة الاولى و لا شكّ أنّ القابليّة باقية و أنّ قادريّته تعالى باقية لأنّ هذه القابليّة و القادريّة من الصفات الذاتيّة فامتنع زوالها.

و قيل: المعنى: اسألهم يا محمّد صلّى اللّه عليك أهم أحكم صنعا و أشدّ قوّة أم من خلقنا قبلهم من الأمم الماضية و القرون السالفة و المراد أنّكم لستم بأحكم خلقا من غيركم من الأمم و قد أهلكناهم بالعذاب فإن قالوا: نحن أشدّ قوّة فأعلمهم أنّ اللّه خلق أصلهم من طين لاصق لازم و أنّ هؤلاء من نسله و ذرّيّته فكأنّهم خلقوا منه.

[بَلْ عَجِبْتَ يا محمّد من هذه الخلائق العظيمة و إنكارهم للعبث [وَ] هم [يَسْخَرُونَ من تعجّبك و تقريرك للبعث و قرئ بضمّ التاء على تقدير قل يا محمّد: بل عجبت أو أنّ العجب نسبه إلى ذاته تعالى على معنى الاستعظام اللازم للعجب أي ينبغي أن يقع العجب فرضا و العجب من اللّه خلاف عجب الآدميّين كما قال: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ» (1) و قال:

«سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» (2) و قال تعالى: «وَ هُوَ خادِعُهُمْ» (3) و المكر و الخداع و السخريّة من اللّه بخلاف هذه الأحوال من العباد و قد دلّ القرآن و الخبر على جواز إضافة العجب إلى اللّه أمّا القرآن فقوله: «وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» (4) و المعنى و إن تعجب يا محمّد من قولهم فهو أيضا عجب عندي و أمّا الخبر فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عجب ربّكم من شابّ ليس له صبوة و عجب ربّكم من ذلّكم و قنوطكم و أنكر شريح فقال: إنّ اللّه لا يعجب إنّما يعجب من لا يعلم قال الأعمش: فذكرت إنكار الشريح عند إبراهيم الخوّاص فقال: إنّ شريحا معجب برأيه إنّ عبد اللّه قرأ بضمّ التاء و هو أعلم من شريح.

قوله: [وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ و لمّا بيّن سبحانه تباعد الكفّار عن حالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاية التباعد بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتعجّب من إنكارهم المعاد مع هذه الأدلّة و هم يسخرون منه في إصراره على إثبات المعاد حتّى أنّهم إذا رأوا آية من آيات اللّه و معجزة مثل انشقاق القمر و غيرها أو خوّفوا باللّه و وعظوا بالقرآن لا يتذكّرون و لا يقبلون

ص: 110


1- الأنفال: 30.
2- التوبة: 80.
3- النساء: 141.
4- الرعد: 5.

و يستسخرون و يستهزءون و يحملونه على السحر.

[وَ قالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ و قالوا: لتلك الآية: ما هذا إلّا سحر و تمويه [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ذلك و كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا.

[أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يبعثون الّذين اتّصفوا بصفة الترابيّة و العظاميّة و المراد منهم الإنكار من البعث «أَ وَ آباؤُنَا» مبتدء و خبره محذوف تقديره مبعوثون أي ليس الأمر كذلك هذا إذا كان الواو ساكنة و من فتح الواو جعلها واو العطف دخل عليها همزة الاستفهام كقوله: «أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى .

ثمّ قال لنبيّه: [قُلْ لهم [نَعَمْ تبعثون و أنتم صاغرون ذليلون أشدّ الذلّة.

ثمّ ذكر أنّ بعثهم بزجرة و صيحة واحدة فقال: [فَإِنَّما هِيَ أي قصّة البعث صيحة [واحِدَةٌ] من إسرافيل و الزجرة الصرفة عن الشي ء بالمخافة فكأنّهم زجروا عن الحال الّتي هم فيها إلى المحشر [فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ إلى الأمر الّذي كذّبوا به أو المعنى أحياء ينتظرون ما ينزل بهم من عذاب اللّه.

[وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ فيعترفون بالعصيان و يقولون: «يا ويلنا» من العذاب و هو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة كقوله «يا حَسْرَتَنا» و يقولون:

هذا يوم الجزاء.

قوله: [سورة الصافات (37): الآيات 21 الى 30]

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30)

قوله تعالى: [هذا يَوْمُ الْفَصْلِ قيل: من بقيّة قول الكفّار يقولون بعضهم لبعض بعد قولهم: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» و قيل: تمّ كلام الكفّار بعد قولهم: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» و قوله: «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» من كلام الملائكة لهم و هو أليق بالعبارة لأنّ قوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا» كلام غير الكفّار و سوق على قوله: «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ».

ص: 111

قوله تعالى: [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ فحكى سبحانه ما يأمر الملائكة به بأن يأمرهم «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بارتكاب المعاصي أي اجمعوهم من كلّ جهة و قيل: ظلموا أنفسهم بمخالفتهم أمر اللّه و بتكذيبهم الرسل و قيل: ظلموا الناس و أزواجهم أي و أشباههم و الزوج بمعنى الشبه و الشكل نحو قوله: «وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» أي أشباها و أشكالا ثلاثة فيكون المعنى إنّ صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا و صاحب الخمر مع أصحاب الخمر و كذلك اليهوديّ مع اليهوديّ و قيل: المراد و أشياعهم من الكفّار و قيل: المراد و أزواجهم المشركات فكأنّه سبحانه قال: احشروا المشركين و المشركات.

قوله: [وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام زيادة في تخسيرهم و تخجيلهم [فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي خذوهم إلى ذلك الطريق و دلّوهم عليه. فإن قيل:

ما معنى «احْشُرُوا» مع أنّهم قد حشروا و حضروا من قبل في الموقف لأنّهم قالوا: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» فالمراد احشروهم و اجمعوهم إلى دار الجزاء و هي جهنّم و لذلك قال: «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ».

فلو قيل: كيف يصحّ ذلك و قد قال: بعده «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» و معلوم أنّ حشرهم إلى الجحيم إنّما يكون بعد المسألة؟

فالجواب أنّه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب.

و لعلّ المراد من الظالم المطلق في الآية مصروف إلى الكفّار و يؤكّد هذا قوله تعالى: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» و يمكن بل الأولى أن يكون المراد ب «الَّذِينَ ظَلَمُوا» الرؤساء لأنّك لو جعلت «الَّذِينَ ظَلَمُوا» عامّا في كلّ من أشرك لم يكن للأزواج معنى و قيل: في معنى «الأزواج» القرناء من الشياطين و المراد ما كانوا يعبدون من دون اللّه من الأوثان و الأصنام و نظيره «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» (1).

فإن قيل: إنّ تلك الأحجار جمادات فما الفائدة في حشرها إلى جهنّم؟ أجاب القاضي بانّه ورد الخبر بأنّها تعاد و تحيا لتحصيل المبالغة في توبيخ الكفّار و تخجيلهم

ص: 112


1- البقرة: 24.

و هذا القول بعيد لأنّه لم يصدر عنها ذنب فكيف تعذيبها و لكن يبقون على الجماديّة و لكن للتخجيل يحشرون مع عابديهم.

قوله: [وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي إذا انتهوا إلى الصراط قيل للملائكة: «قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» عن أعمالهم و يسألهم الخزنة «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ بالبيّنات قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» (1).

و قيل لهم على سبيل التوبيخ: [ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا و ذلك أنّ أبا جهل كان يقول يوم بدر: نحن جميع منتصر فقيل لهم يوم القيامة: مالكم غير متناصرين و ما لشركائكم أيّها الكفّار لا يمنعونكم من العذاب.

[بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يقال: استسلم للشي ء إذا انقاد له و خضع له أي صاروا منقادين لا حيلة لهم يتخاصمون لهم في دفع تلك المضارّ لا العابد و لا المعبود.

[فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي الرؤساء و الأتباع يسأل بعضهم بعضا و هذا التساؤل عبارة عن التخاصم يقولون: غررتمونا و يقول أولئك: لم قبلتم منّا.

[قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فشرح سبحانه ذلك التساؤل فيقول الكفّار لغواتهم: «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا» من جهة النصيحة و اليمن و البركة و قيل: معناه كنتم تأتوننا من قبل القوّة فتخدعونا بأقوى الوجوه أو المراد من «الْيَمِينِ» الدّين و الحقّ أي تنبّئون لنا ما نضلّ به و على المعنى الأوّل لاستعارة اليمين للأعمال الخيريّة لأنّ مباشرة الأعمال الخيريّة غالبا باليمين مثل مصافحة الأخيار و الأكل و ما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى و يتمنون بالجانب الأيمن و يسمّونه بالبارح أو المراد بأنّ أئمّة الكفّار كانوا يحلفون للأتباع: أنّ ما يدعونهم إليه هو الحقّ فوثقوا بأيمانهم و تمسكوا بعهودهم أي آتيتمونا من ناحية المواثيق و الأيمان الّتي قدّمتموها لنا.

فأجاب الرؤساء لهم [قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مصدّقين باللّه و موصوفين بالإيمان حتّى يقال: إنّا أزلناكم عنه.

ثمّ قالوا: [وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي ما كان لنا قدرة عليكم حتّى

ص: 113


1- الزمر: 81.

نقهركم [بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ضالّين غالين في معصية اللّه و باغين و متجاوزين إلى أفحش الظلم و أعظم المعاصي.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 31 الى 40]

فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)

وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)

هذا تمام الحكاية عن قول الكفّار الّذين قالوا: «وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» ثمّ قالوا: [فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا] إشارة إلى قول اللّه لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (1) أي إذا لا نؤمن و نموت على الكفر فقد أوجب العذاب الّذي نستحقّه على الكفر و الإغواء [إِنَّا لَذائِقُونَ العذاب ندركه كما ندرك الطعام بالذوق.

ثمّ يعترفون المغوين بأن أغويناكم عن الحقّ و أضللناكم و دعوناكم إلى الغيّ [إِنَّا كُنَّا غاوِينَ و داخلين في الضلالة و خيّبناكم و خيّبنا [فَإِنَّهُمْ يومئذ في ذلك اليوم [فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ و اشتراكهم و اجتماعهم [إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الّذين جعلوا للّه شركاء و قيل: معنى الآية إنّا مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بجميع المجرمين.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما فعل ذلك بهم من أجل [إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول ذلك [وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي يأنفون من هذه المقالة و يقولون: لا ندع آلهتنا و عبادة أصنامنا لقول شاعر مجنون يعنون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فردّ اللّه عليهم و كذّبهم بأن قال: [بَلْ جاءَ بِالْحَقِ ليس بشاعر و لا مجنون و لكنّه أتى بما يقبله العقول من الدّين الحقّ أو الكتاب الحقّ [وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ و حقّق ما أتى به المرسلون من بشاراتهم بمقدمه الشريف أو صدّقهم بأن أتى بمثل ما أتوا به من

ص: 114


1- ص: 85.

الدعوة إلى التوحيد.

ثمّ خاطب الكفّار فقال سبحانه: [إِنَّكُمْ أيّها المشركون [لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ على كفركم و نسبتكم إيّاه إلى الشعر و الجنون لأنّ مقالاته ليست إلّا وحي و هو أعقل الخلق [وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على قدر أعمالكم ثمّ استثنى فقال:

[إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ و هذا الاستثناء منقطع أي لكن عباد اللّه المخلصين الّذين أخلصوا العبادة للّه و أطاعوه في كلّ ما أمرهم به فإنّهم لا يذوقون العذاب و إنّما ينالون الثواب.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 41 الى 50]

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)

بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)

بيّن سبحانه ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم فقال:

[أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ جعل لهم التصرّف فيه و حكم لهم به في الأوقات ثمّ فسّر ذلك الرزق بأن قال: [فَواكِهُ جمع فاكهة يقع على الرطب و اليابس من الثمار كلّها يتفكّهون بها و يتنّعمون بالتصرّف فيها [وَ هُمْ مُكْرَمُونَ مع ذلك معظّمون قيل: المراد من الرزق المعلوم معلوم الوقت و هو مقدار غدوة و عشيّة و إن لم يكن هناك بكرة و عشيّا و قيل: معناه إنّ ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها اللّه فيه من طيب طعم و رائحة و لذّة و حسن منظرة أو يتيقّنون دوامه لا كرزق الدنيا الّذي لا يعلم متى يحصل و متى ينقطع و التعبير بالفاكهة لأنّ الفاكهة عبارة عمّا يؤكل لأجل التلذّذ لا لأجل الحاجة و أرزاق أهل الجنّة كلّها فواكه لأنّهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات فإنّهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فكلّ ما يأكلونه فهو على سبيل التلذّذ و لمّا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان غيرها أولى بالحضور.

و لمّا ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال: [فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ و معناه أنّه لا كلفة عليهم في التلاقي للتخاطب و الانس و في بعض الأخبار أنّهم إذا أرادوا

ص: 115

القرب سار السرير تحتهم و لا يجوز أن يكونوا متقابلين إلّا مع حصول الخواطر و الميل إلى القرب.

و لمّا شرح اللّه صفة المأكل و المسكن ذكر بعده صفة الشراب فقال: [يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ يقال للزجاجة الّتي فيها الخمر: «كأسا» و تسمّى الخمر نفسها كأسا قال الشاعر:

و كأس شربت على لذّةو اخرى تداويت منها بها

و عن الأخفش كلّ «كَأْسٍ»* في القرآن فهي الخمر.

قوله: «مِنْ مَعِينٍ» أي من شراب أو من نهر «مَعِينٍ» مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء و سمّي «معينا» لظهوره و يجوز أن يكون فعيلا من المعين و هو الماء الشديد الجري و منه أمعن في السير إذا اشتدّ فيه.

[بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ صفة للخمر أشدّ بياضا من اللبن و قوله: «لَذَّةٍ» و صفت باللذّة كأنّها نفس اللذّة و عينها كما يقال: فلان جود و كرم إذا أرادوا المبالغة أو المعنى ذات لذّة بحذف المضاف.

[لا فِيها غَوْلٌ و الغول أن يغتال عقولهم قال مطيع بن أياس:

و ما زالت الكأس تغتالهم و تذهب بالأوّل فالأوّل

و قال الليث: «الغول» الصداع أي ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا قال الواحديّ:

و حقيقته الإهلاك يقال: غاله إذا أهلكه و سمّي الصداع «غولا» لأنّه يؤدّي إلى الهلاك.

[وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ و قرئ بكسر الزاي يقال: أنزف الرجل إذا نفدت خمرته و أنزف إذا ذهب عقله من السكر و المعنى على الفتح: لا يذهب عقولهم و لا يسكرون و ليس فيها نوع فساد من صداع أو خمار أو سكر.

و لمّا ذكر سبحانه مشروبهم عقّب بذكر منكوحهم فقال: [وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ و معنى القصر الحبس أي إنّهنّ يحبسن نظرهنّ و لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ «عِينٌ» جمع عيناه أي نجلاء كبار الأعين حسانها [كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبّههنّ ببيض النعام

ص: 116

المكنونة عن الغبار و الكدورة المصونة من كلّ شي ء و معنى هذا التشبيه أنّ ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة فإنّ ذلك من أحسن ألوان البدن.

ثمّ قال: [فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ عطف على قوله: «يُطافُ عَلَيْهِمْ» و المعنى يشربون و يتحادثون على الشراب قال الشاعر:

و ما بقيت من اللذّات إلّامحادثة الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عمّا جرى لهم و عليهم فيخبر كلّ صاحبه بإنعام اللّه عليه.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 51 الى 60]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55)

قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)

هذا تمام الحكاية عن أحوال أهل الجنّة و إقبال بعضهم على بعض في المسألة عن الأحوال.

[قالَ قائِلٌ من أهل الجنّة [إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا و صاحب يختصّ بي إمّا من الإنس على قول ابن عبّاس: و إمّا من الشيطان [يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي كان يوبّخني على التصديق بالبعث و القيامة و يقول إنكارا و تعجّبا: [أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ و محاسبون و مجازون أي ذلك القرين كان يقول على وجه الاستنكار: أن إذا متنا نحشر و نبعث بعد أن صرنا ترابا أي هذا لا يكون أبدا و هذا أبلغ في النفي.

[قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي ثمّ هذا المؤمن قال لإخوانه في الجنّة بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينه في الدنيا: «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» أي إلى أهل النار و هل في الجنّة موضع يرى منه هذا القرين في النار و هل تحبّون أن تطلّعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم قيل: إنّ في الجنّة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار.

ص: 117

[فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ فاطّلع هذا المؤمن فرأى قرينه في وسط النار قيل: القائل في قوله «قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» هو اللّه أو بعض الملائكة و قرئ «فَاطَّلَعَ» على لفظ المضارع المنصوب و على لفظ الماضي و إذا كان بلفظ المضارع يكون المعنى: هل أنتم مطّلعون فأطّلع أنا أيضا و إذا كان بصيغة الماضي يكون المعنى عرض عليهم الاطّلاع فقبلوا ما عرضه.

فاطّلع هو بعد ذلك [قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي قال القائل: بعد ما اطّلع إلى حال قرينه مخاطبا له: تاللّه قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء و تجعل حالي كحالك و «إن» هي المخفّفة من المثقّلة بدلالة مصاحبته لام الابتداء لها أي إنّك كدت تهلكني بما دعوتني إليه في الدنيا بقولك: لا نبعث و لا نعذّب فقد ظهر الأمر خلاف ذلك.

[وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي و لو لا لطفه تعالى و عصمته و هدايته حتّى آمنت لكنت أنا معك في النار و لا يستعمل «أحضر» إلّا في الشرّ.

قوله تعالى: [أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ المعنى:

أنّ هذا المؤمن يقول لهذا القرين السوء الّذي في النار يخاطبه و يقول له على وجه التوبيخ و التقريع: أ ليس كنت تقول: «فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ» و قرئ بمائتين و لا نموت إلّا الموتة الّتي تكون في الدنيا و لا عذاب و لا رجوع أ فرأيتم أنّ الأمر ظهر بخلاف ما زعمتم و قيل: إنّ هذا الكلام من مكالمات أهل الجنّة بعضهم لبعض على وجه إظهار السرور بدوام نعيم الجنّة و لهذا عقّبه بقوله:

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فحينئذ يكون معنى الآية: ما نحن بميّتين في هذه الجنّة إلّا موتتنا الّتي كانت في الدنيا و ما نحن بمعذّبين كما وعدنا اللّه و يريدون به التحقيق لا الشكّ و إنّما قالوا هذا القول لأنّ لهم في ذلك سرورا مجدّدا و فرحا مضاعفا و إن كانوا قد عرفوا أنّهم سيخلدون في الجنّة و هذا كما أنّ الرجل يعطي المال الكثير فيقول:

أ كلّ هذا الملك لي و هذا كقوله:

أ بطحاء مكّة هذا الّذي أراه عيانا و هذا أنا

ص: 118

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 61 الى 70]

لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

ثمّ قال سبحانه تمام الحكاية عن قول أهل الجنّة: [لِمِثْلِ هذا] الثواب و الفوز و الفلاح [فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ في دار التكليف و قيل: إنّ هذا من قول اللّه أي لمثل هذا النعيم الّذي ذكرناه «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» و المذكور من قوله: «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» إلى قوله:

«بَيْضٌ مَكْنُونٌ» و المراد الترغيب في طلب الثواب بالطاعة.

قوله تعالى: [أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي أذلك الّذي ذكرناه من قرى أهل الجنّة و ما أعدّ لهم خير من حيث النزل و «النزل» ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغداء و التشريفات و ما يتقوّت به أم نزل أهل النار و هو الزّقوم مع أنّه لا خير فيه و إنّما قال: «خَيْرٌ» على وجه المقابلة مثل قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» (1) أو جاء بلفظ «خَيْرٌ» مع أنّ في الزقّوم ليس إلّا الألم و الغمّ فهو على سبيل السخريّة بهم و سوء اختيارهم قال العلّامة أبو السعود في تفسيره: «الزَّقُّومِ» شجرة صغيرة الورق زفرة كريهة الرائحة مرّة تكون في تهامة سمّيت به الشجرة الموصوفة.

قوله: [إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ و هذه الشجرة يقتاتها أهل النار و إنّما صارت هذه الشجرة فتنة للظالمين لأنّ الكفّار لمّا سمعوا هذه الآية أنكروا و قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنّم مع أنّ النار تحرق الشجرة و لهذه الجهة صارت فتنة لهم و الحالة أنّ خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر كما أنّ اللّه يقدر أن يخلق الزقّوم من جوهر و من مادّة لا تأكله النار و لا تحرقه كما أنّها لا تحرق السلاسل

ص: 119


1- الفرقان: 24.

و الأغلال فيها و كما أنّه لا تحرق حيّاتها و عقاربها و كذلك الضريع و ما أشبه ذلك فمعنى كونها «فِتْنَةً لَهُمْ» وقعت هذه الشبهة الركيكة في قلوبهم و صارت سببا لإنكارهم.

و القول الثاني في تفسير الآية في كون الشجرة فتنة لهم في النار لأنّهم كلّفوا بتناولها و شقّ ذلك عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقّهم أي شدّة عذاب لهم من قوله:

«يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون.

قوله: [إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي إنّ الزقّوم شجرة تنبت في قعر جهنّم و أغصانها ترفع إلى دركاتها [طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «الطلع» للنخلة غلاف الثمرة و سمّي بالطلع لطلوعه كلّ سنة في النخل فاستعير لشجرة الزقّوم لفظيّة و هذا التشبيه حيث إنّ الناس لمّا اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة و السيرة و اعتقدوا في الشياطين نهاية القبح و التشويه في الصورة فحسن التشبيه في القبح برءوس الشياطين و هذا من باب التشبيه بالمتخيّل لا بالمحسوس قال امرؤ القيس:

أ تقتلني و المشرفيّ مضاجعي و مسنونة رزق كأنياب أغوال

مع أنّ الغول لم يره أحد. و قيل: إنّ رؤوس الشياطين ثمرة يقال لها: الأستن تشبه بني آدم و قيل: إنّ الشيطان نوع من الحيّات.

[فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها] أي أهل النار يأكلون من ثمرة تلك الشجرة فيملئون بطونهم منها من شدّة ألم الجوع و قد روي أنّ اللّه تعالى يجوعهم حتّى أنسوا عذاب النار من شدّة الجوع فيصرخون إلى مالك فيحملهم إلى تلك الشجرة و منهم أبو جهل فيأكلون منها فيغلي بطونهم كغلي الحميم فإذا شبعوا من أكل الزقّوم يشتدّ عطشهم فيحتاجون إلى الشراب.

فعند هذه وصف اللّه شرابهم فقال: [ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ و «الشوب» كلّ ما خلط بغيره فالمعنى إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من ذلك المشوب من غسّاق أو صديد جهنّم حارّ مغبور الّذي بلغ نهاية في الحرارة حتّى إذا قربوها من وجوههم ليشربوا شوت وجوههم كما قال: «يَشْوِي الْوُجُوهَ» (2) فإذا وصلت إلى بطونهم صهر

ص: 120


1- الكهف: 29.
2- الكهف: 29.

ما في بطونهم و الجلود فذلك شرابهم و طعامهم و قوله: «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ» على شجرة الزقّوم زيادة لشوبا و خليطا بهذا الشراب المذكور و يكرهون على هذا الأكل الشراب و ثمّ يرجعون بعد الأكل و الشرب و يردّون إلى الجحيم و ذلك أنّهم يوردون الحميم لشربه و هو خارج عن الجحيم كما يورد الإبل الماء و «الْجَحِيمِ» النار الموقدة الّتي منازلهم فيها فينقلبون بعد الأكل و الشرب إلى منقلبهم.

قوله: [إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ المعنى إنّه سبحانه علّل الاستحقاق و الوقوع في تلك الشدائد كلّها بترك الإيمان و تقليد الآباء من غير دليل و اقتفائهم بآبائهم و تسرّعهم إلى اتّباعهم و معنى الإهراع الإسراع.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 71 الى 82]

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)

وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

ذكر سبحانه ما يوجب التسلية لنبيّه فقال:

[وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ اللام هي الّتي تدخل في جواب القسم المحذوف و «قد» للتأكيد أي قبل هؤلاء الّذين في عصرك و كذّبوك ضلّ أكثر الأمم الماضية.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ من الأنبياء و المرسلين يخوّفونهم من عذاب اللّه و حاصل المعنى أنّ إرساله تعالى الرسل و تكذيب الأمم الرسل قد سلف و يجب لك- صلّى اللّه عليك- أسوة بهم و تصبّر كما صبروا و في الآية دلالة على أنّ أهل الحقّ في كلّ زمان كانوا أقلّ من أهل الباطل.

[فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي من المكذّبين المعاندين الحقّ كيف أهلكهم و ما ذا حلّ بهم من العذاب؟

ثمّ استثنى من المنذرين فقال: [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الّذين أنذرهم الأنبياء

ص: 121

و قبلوا منهم و أخلصوا عبادتهم للّه تعالى فإنّ اللّه خلصهم من ذلك العذاب و وعدهم بجزيل الثواب.

[وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعانا نوح بعد أن يئس من إيمان قومه لننصره على على قومه و ذلك قوله عليه السّلام: «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» [فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لدعائه و أجبناه إلى ما سأل بإهلاك قومه و قيل: المعنى هو على العموم لمن دعانا.

[وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من المكروه الّذي كان ينزل به من قومه و «الكرب» كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصدر و أصل النجاة من النجوة فهي المرتفع فهي الرفع من الهلاك و أهله هم الّذين في السفينة معه.

[وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ بعد الغرق فالناس كلّهم بعد نوح عن ولد نوح قال الكلبيّ: لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال و النساء إلّا ولده و نساءهم.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي تركنا عليه ذكرا جميلا و أثنينا عليه في امّة محمّد و يسلّم عليه إلى يوم القيامة فكأنّه قال: و تركنا على نوح التسليم و الصلوات إلى يوم القيامة بقوله: [سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ و معنى تركنا أبقينا يقال: ما ترك فلان أي ما أبقى و المراد من «الْعالَمِينَ» من الملائكة و الثقلين.

[إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ما جزينا نوحا [نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فمن أحسن بأفعال الطاعات و تجنّب المعاصي نكافيه بإحسانهم [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي إنّ نوحا من عبادنا المؤمنين، و الآية تتضمّن مدح المؤمنين حيث أنّ نوحا منهم.

[ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي من لم يؤمن به و المقصود من الآيات تحذير القوم عن سلوك مثل طريقتهم لئلّا يعاقبوا بمثل عقوبتهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 100]

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)

فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)

ص: 122

المعنى: و إن من شيعة نوح إبراهيم يعني إنّه على منهاجه في التوحيد و العدل و اتّباع الحقّ و ما كان بين نوح و إبراهيم إلّا نبيّان هود و صالح و ألفان و ستّمائة و أربعون سنة و قيل: المعنى: و إنّ من شيعة محمّد إبراهيم و معنى الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم.

قوله: [إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ حين صدّق اللّه و آمن به بقلب خالص من الشرك بري ء من المعاصي على ذلك عاش و عليه مات و قيل: بقلب سليم من كلّ ما سوى اللّه لم يتعلّق بشي ء غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

قوله: [إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ حين رآهم يعبدون الأصنام من دون اللّه على وجه التهجين لفعالهم و التقريع لهم [ما ذا تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء تعبدون [أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ «الإفك» أشنع الكذب و أصله قلب الشي ء عن جهته الّتي هي له أي تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمن [فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أن يصنع بكم مع عبادتكم غيره و قيل: المعنى كيف تظنّون بربّكم أنّه على أيّ صفة و من أيّ جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام؟

قوله: [فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ عن ابن عبّاس إنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم و ذلك أنّه عليه السّلام أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجّة في أنّها غير معبودة و كان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلّف عنهم ليبقى خاليا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها.

و هاهنا بحث و هو أنّ النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم، ثمّ إنّه عليه السّلام ما كان سقيما فلمّا قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» كان ذلك كذبا؟

و في الجواب عنهما وجوه كثيرة:

ص: 123

الأوّل أنّه نظر نظرة في النجوم و كانت يأتيه سقامة كالحمّى في بعض أوقات اللّيل و النهار فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة و قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» فجعله عذرا في تخلّفه عن الذهاب معهم عن العيد الّذي لهم و كان صادقا فيما قال. لأنّ السقم كان يأتيه في ذلك الوقت و إنّما تخلّف لأجل مقصوده و ذلك تكسير الأصنام و أمّا قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سأسقم في هذا الوقت كقوله: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» أي إنّك ستموت و وجه آخر و هو أنّا لا نسلّم أنّ النظر في علم النجوم و الاستدلال بمقايستها حرام لأنّ من اعتقد أنّ اللّه خصّ كلّ واحد من هذه الكواكب بقوّة و خاصّيّة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بحرام و باطل و يجوز أن يكون اللّه أعلمه بالوحي أنّه سيسقمه في وقت مستقبل و جعل العلامة على ذلك إمّا طلوع نجم و اتّصاله بآخر على وجه مخصوص.

فلمّا رأى إبراهيم تلك الإمارة فقال «إِنِّي سَقِيمٌ» تصديقا بما أخبره اللّه تعالى و يمكن أن يكون مراده بقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سقيم القلب حزنا على إصرارهم على عبادة الأوثان و هي لا تسمع و لا تبصر و نظره في النجوم فكرته في أنّها مخلوقة محدثة مدبّرة فكيف هؤلاء يعبدونها؟

و ما رواه العيّاشيّ بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا:

و اللّه ما كذب إبراهيم و ما كان سقيما محمول على هذه الوجوه المذكورة و ما روي أنّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» و قوله. «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» (1) و قوله في سارة: «إنّها اختي» فيمكن أن يتأوّل مثلا مثل قوله «إِنِّي سَقِيمٌ» أي سأسقم، و سارة اختي أي في الدّين و «فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» على ما ذكرناه في موضعه.

و بالجملة لمّا قال إبراهيم: «إِنِّي سَقِيمٌ» و كان قد غلب الأسقام عليهم من باب الطاعون و كانوا يخافون العدوى ففارقوه و هربوا منه إلى معبدهم في البرّيّة و تركوه و ذلك قوله: [فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي هاربين مخافة العدوى.

[فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إليهم في خفية و أصل «الروغ» الميل بحيلة و منه

ص: 124


1- الأنبياء: 63.

روغان الثعلب [فَقالَ للأصنام استهزاء [أَ لا تَأْكُلُونَ أي هلّا تأكلون من الطعام الّذي كانوا يضعونها عند الأصنام لتبرّك عليه كما كان عادتهم ذلك للاستشفاء و الاستبراك و اليمن [ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ أي لم لا تجاوبوني. [فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فمال إبراهيم مستعليا عليهم ضربا موكّدا شديدا و «ضَرْباً» مصدر مؤكّد «لراغ» أي ضربهم ضربا شديدا و ذلك لأنّ اليمين أقوى الجارحتين و قوّة الآلة تقتضي قوّة الفعل و فيه قول آخر:

و هو أنّ المراد من «اليمين» الحلف أي أتى الضرب بسبب الحلف و هو قوله تعالى عنه:

«وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ».

ثمّ قال: [فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي أقبلوا بعد الفراغ من عيد هم إلى إبراهيم يسرعون و «الزفيف» حالة بين المشي و العدو من زفيف النعام لأنّهم اطّلعوا على صنع إبراهيم بأصنامهم فقصدوه مسرعين و حملوه إلى بيت أصنامهم و بعد ما أتوا به جرى بينهم و بينه من المحاورات ما نطق به قوله تعالى في غير هذه السورة: «أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» (1) فأجابهم على وجه الحجاج:

[أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ أي تعبدون منحوتكم و ما عملتم من الأصنام فكيف تعبدون معمولكم؟ و هذا كما يقال: فلان يعمل الحصير و المراد أنّ اللّه خلق أصل الحجارة الّتي تعملون منها الأصنام.

و احتجّ أهل الجبر بأنّ فعل العبد مخلوق للّه و قالوا: إنّ لفظ «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: «وَ ما تَعْمَلُونَ» معناه: و عملكم و على هذا التقدير صار معنى الآية:

و اللّه خلقكم و خلق عملكم.

و الجواب أنّ هذه الآية حجّة عليهم لا حجّة لهم لأنّ اللّه تعالى قال: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» و أضاف العبادة و النحت إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل و لو كان ذلك واقعا بتخليق اللّه لاستحال كونه فعلا للعبد.

و الجواب الثاني أنّه سبحانه إنّما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام و لو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها بقبيح فعلهم و عبادتهم و لو كان

ص: 125


1- الأنبياء: 62.

معناه و اللّه خلقكم و خلق عبادتكم لكانت الآية على أن يكون عذرا لهم أقرب و أولى من أن يكون لوما و تهجينا و لكان لهم أن يقولوا: و لم توبّخنا على عبادتها و اللّه هو الفاعل لذلك فيكون الحجّة لهم لا عليهم و لأنّه قد أضاف الفعل و العمل إليهم بقوله:

«تَعْمَلُونَ» فكيف يكون مضافا إلى اللّه و هذا تناقض؟

و أمّا قولهم: لفظة «ما» مع ما بعدها في تقدير المصدر ممنوع و بيانه أنّ سيبويه و الأخفش اختلفا في أنّه هل يجوز أن يقال: أعجبني ما قمت أي قيامك فجوّزه سيبويه و منعه الأخفش و جماعة و قالوا: إنّ هذا لا يجوز إلّا في فعل المتعدّي و لو سلّمنا لكنّه أيضا قد يكون بمعنى المفعول لأنّ المراد من قوله: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ» أ تعبدون المنحوت لا النحت لأنّهم ما عبدوا النحت و إنّما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله: «ما تَعْمَلُونَ» المعمول لا العمل فحينئذ لفظة «ما» مع ما بعدها كما يجي ء بمعنى المصدر فقد يجي ء بمعنى المفعول فكان حمل الآية هنا على المفعول أولى لأنّ الآية بيان تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام.

و بالجملة لمّا أورد إبراهيم عليهم هذه الحجّة القويّة و عجزوا عن الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء [ف قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً] و كيفيّة ذلك البنيان لا يدلّ عليها لفظ القرآن قال ابن عبّاس: بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا و عرضه عشرون ذراعا و ملؤوه نارا فطرحوه فيها فذلك قوله تعالى: [فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي جحيم ذلك البنيان و الجحيم النار العظيمة و الألف و اللام في «الْجَحِيمِ» يدلّ على النهاية.

[فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً] و حيلة و تدبيرا في إهلاكه و إحراقه بالنار [فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ بأن أهلكناهم و سلّمنا إبراهيم و رددنا كيدهم عنه و لمّا أشرفوا عليه بعد إيقاعه في النار رأوه سالما و علموا أنّهم مغلوبون فلمّا انقضت هذه الواقعة [قالَ إبراهيم:

[إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي مهاجر و أهجر ديار الكفّار و أذهب إلى حيث أمرني اللّه بالذهاب إليه و هي الأرض المقدّسة أي يهديني ربّي.

فإن قيل: إنّ إبراهيم جزم في هذه الآية بأنّه تعالى سيهديه، و إنّ موسى لم يجزم

ص: 126

به بل قال: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ».

قلنا: العبد إذا تجلّى له مقامات رحمة اللّه فقد يجزم بحصول المقصود و إذا تجلّى له مقامات كونه غنيّا عن العالمين فحينئذ يستحقر نفسه فلا يجزم بل لا يظهر إلّا الرجاء و الطمع قال بعض أهل التفسير: و هو أوّل من هاجر و معه لوط و سارة إلى الشام و إنّما قال «سَيَهْدِينِ» ترغيبا لمن هاجر معه في الهجرة.

فلمّا قدم الأرض المقدّسة سأل إبراهيم ربّه الولد فقال: [رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي أعطني بعض الصالحين يريد الولد لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد و إن كان قد جاء في الأخ في قوله: «وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» (1) و قال تعالى: «وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ»* (2) و «وَهَبْنا لَهُ يَحْيى (3) و في الآية دلالة على أنّ الصلاح أشرف مقامات العباد.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 101 الى 113]

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

المعنى: أخبر سبحانه أنّه استجاب لإبراهيم بقوله: [فَبَشَّرْناهُ بابن وقور، و الحليم الّذي لا يعجل الأمر قبل وقته مع القدرة عليه أو الّذي لا يعجل بالعقوبة.

[فَلَمَّا] أدرك و [بَلَغَ الحدّ الّذي يقدر فيه على السعي أي شبّ و بلغ الابن إلى أن يتصرّف و يمشي معه و يعينه و كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة و قيل: المراد من السعي العمل للّه و العبادة و النسك و الفاء في قوله: «فَلَمَّا بَلَغَ» فصيحة معربة

ص: 127


1- مريم: 53.
2- الأنبياء: 72، 90.
3- الأنبياء: 72، 90.

عن مقدّر حذف لعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلّف بعد البشارة [قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى و معنى «رأى» في الكلام على خمسة أوجه: أحدها أبصر، و الثاني علم؛ نحو رأيت زيدا فاضلا و الثالث: بمعنى ظنّ كقوله «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً». و الرابع: اعتقد نحو قوله:

و إنّا لقوم ما نرى القتل سبّةإذا ما رأته عامر و سلول

و الخامس بمعنى الرأي نحو رأيت هذا الرأي و أمّا رأيت في المنام فمن رؤية البصر.

فمعنى الآية إنّ إبراهيم قال لابنه: إنّي أبصرت في المنام رؤيا تأويلها الأمر بذبحك فانظر ما الّذي تراه و أيّ شي ء ترى من الرأي و لا يجوز أن يكون ترى هاهنا بمعنى تبصر لأنّه لم يشر إلى شي ء يبصر بالعين و لا يجوز أن يكون بمعنى علم أو ظنّ أو اعتقد لأنّ هذه الأشياء تتعدّى إلى مفعولين و ليس هنا إلّا مفعول واحد مع استحالة المعنى فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي.

و قيل: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى إبراهيم في حال اليقظة بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث إنّ منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة و لو لم يأمر بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام. و قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس:

منامات الأنبياء وحي و قال قتادة: رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا شيئا فعلوه.

و قال أبو مسلم: رؤيا الأنبياء مع أنّ جميعها صحيحة ضربان أحدهما أن يأتي الشي ء كما رأوه و منه قوله: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» (1) الآية، و الآخر أن يكون عبارة عن خلاف الظاهر ممّا رأوه في المنام و ذلك كرؤيا يوسف الأحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدين و كان رؤيا إبراهيم من هذا القبيل لكنّه لم يأمن أن يكون ما رآه ممّا يلزم العمل به على الحقيقة.

و روي أنّه عليه السّلام رأى ليلة التروية في منامه كأنّ قائلا يقول له إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك. و قيل: إنّ إبراهيم حين بشّر بغلام حليم قال: هو إذا للّه ذبيح فقيل:

ص: 128


1- الفتح: 27.

لإبراهيم قد نذرت نذرا فف بنذرك فلمّا أصبح قال إبراهيم: «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ».

و بالجملة بعد أن رأى ليلة التروية ذلك المنام و أصبح تروّى في ذلك المنام عن الصباح إلى الرواح أ من اللّه هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثمّ سمّي «يوم التروية» فلمّا أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنّه من اللّه فسمّي «عرفة» ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ نحره فسمّي «يوم النحر».

فإن قيل: إمّا أن يقال: إنّه ثبت بالدليل عند الأنبياء أنّ كلّ ما رآه في المنام فهو حقّ حجّة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم فإن كان الأوّل فلم راجع الولد في هذه الواقعة بل كان عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور و أن لا يراجع الولد فيه و أن لا يقول له: «فَانْظُرْ ما ذا تَرى و أن لا يوقف العمل إلى أن يقوله له الولد: «افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» (1) ثمّ إذا ثبت له ما رأى في المنام حجّة لم يكن إلى هذه التروّي و التفكّر حاجة و إن كان الثاني و هو عدم الثبوت فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الولد بمجرّد رؤيا لم يدلّ الدليل على كونها حجّة؟

و يمكن الجواب أنّه لا يبعد أنّه كان عند الرؤيا متردّدا فيه ثمّ تأكّدت الرؤيا بالوحي الصريح.

و اختلفوا في أنّ هذا الذبيح من هو فقيل: إنّه إسحاق و هذا قول عليّ عليه السّلام و عمرو العبّاس بن عبد المطّلب و ابن مسعود و كعب الأحبار و قتادة و سعيد بن جبير و مسروق و عكرمة و الزهريّ و السّديّ و مقاتل (2) و قيل إنّه إسماعيل و هو قول ابن عبّاس و ابن عمر و سعيد بن المسيّب و الحسن و الشعبيّ و مجاهد و الكلبيّ.

و احتجّ القائلون بأنّه إسماعيل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أنا ابن الذبيحين فقال له أعرابيّ: يا ابن الذبيحين فتبسّم فسئل عن ذلك فقال: إنّ عبد المطّلب لمّا حفر بئر زمزم نذر للّه لئن سهل اللّه له أمرها ليذبحنّ أحد ولده فخرج السهم على عبد اللّه فمنعه ي.

ص: 129


1- الوالد انما يكون وليا على ولده لا مالكا لدمه و روحه و القربان يكون من ماله لا من مال غيره الا إذا اجازه الولد ذلك لوالده و الا فهو قتل نفس محرم لا قربان.
2- كذا في تفسير الامام الرازي.

أخواله و قالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل و الذبيح الثاني إسماعيل.

الحجّة الثانية عن الأصمعيّ أنّه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعيّ اين عقلك و متى كان إسحاق بمكّة و إنّما كان إسماعيل بمكّة و هو الّذي بنى البيت مع أبيه و المنحر بمكّة.

الحجّة الثالثة أنّ اللّه وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: «وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» و هو صبره على الذبح و وصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» (1) لأنّه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.

الحجّة الرابعة الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة فكان الذبيح بمكّة و لو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح بالشام (2).

و احتجّ من قال: إنّ ذلك الذبيح إسحاق بوجهين: الوجه الأوّل أنّ أوّل الآية و آخرها يدلّ على ذلك أمّا أوّلها فإنّه تعالى حكى عن إبراهيم قبل هذه الآية أنّ إبراهيم قال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» أجمعوا على أنّ المراد منها مهاجرته إلى الشام ثمّ قال: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلّا هو إسحاق ثمّ قال بعده: فلمّا بلغ معه السعي و ذلك يقتضي أن يكون المراد من هذه الغلام الّذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الّذي حصل في الشام.

الوجه الثاني ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف: من يعقوب إسرائيل نبيّ اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه.

و بالجملة فالّذين قالوا: الذبيح إسماعيل كان الذبح بمنى و الّذين قالوا:

إسحاق قالوا: هو ببيت المقدس.ب؟

ص: 130


1- مريم: 54 و انما يصح هذا إذا كان المراد بإسماعيل في الآية إسماعيل بن ابراهيم فراجع.
2- و قد استدل على ذلك بوجهين آخرين: الاول انه قال رب هب لي من الصالحين و انما يصلح ذلك ممن لا ولد له ابدا فإذا هو إسماعيل لأنه أول أولاده و الثاني انه تعالى بشره بإسحاق و من وراء اسحق يعقوب فكيف يأمره بذبح اسحق و لم يولد بعد يعقوب؟

و اعلم أنّ اللّه لا يأمر إلّا بما يكون حسنا في ذاته و لا ينهى إلّا عمّا يكون قبيحا في ذاته و قد يكون الأمر بالشي ء تارة يحسن لكون المأمور به حسنا و تارة لأجل أنّ ذلك الأمر يفيد صحّة مصلحة من المصالح و إن لم يكن المأمور به في ذاته حسنا ألا ترى أنّ السيّد إذا أراد أن يروض عبده فإنّه يقول له: إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلانيّ و يكون ذلك من الأفعال الشاقّة و يكون مقصود السيّد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل لأنّ ذلك الفعل قد يكون المولى لا يرضى بوقوعه بل الغرض من الأمر الشاقّ أن يوطّن العبد نفسه على الانقياد و الطاعة فإذا أطاع و فعل مقدّمات التكليف رفع عنه عند ذلك التكليف.

قال الرازيّ: و احتجّوا بهذه الآية على أنّ اللّه قد يأمر بما لا يريد وقوعه و الدليل عليه أنّه سبحانه أمر بالذبح و ما أراد وقوعه أمّا أنّه أمر بالذبح فلما تقدّم في تفسير الآية و حيث لم يقع لأنّ اللّه نهى عن ذلك الذبح و النهي عن الشي ء يدلّ على أنّ الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنّه تعالى أمر بالذبح و ثبت أنّه ما أراده و ذلك يدلّ على أنّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة انتهى.

قوله تعالى: [قالَ ابنه: [يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ] أي ما أمرت به [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي ستصاد فني بحسن توفيقه ممّن يصبر على الشدائد في جنب اللّه و يسلم لأمره.

[فَلَمَّا أَسْلَما] أي استسلما الأمر و أطاعاه [وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على جبينه و قيل: كبّه على جبهته و هذا خطاء لأنّ الجبين غير الجبهة و للوجه جبينان و الجبهة بينهما و إنّما وضع جبينه على الأرض لئلّا يرى وجهه فيلحقه رقّة الآباء (1). و روي أنّ إسماعيل قال: اذبحني و أنا ساجد لئلّا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني.ن.

ص: 131


1- هذا غير صحيح و ان نقل عن ابن عباس و رضى به كثيرون لأنه قد يقال الجبين للجبهة ايضا و لان القربان يصلح ان يكون وجهه و جبهته الى الكعبة فيصير مصروعا على جبينه الأيسر و لذلك قال: و تله للجبين.

[وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ الواو زائدة.

قال المفسّرون: لمّا أضجعه للذبح نودي من الجبل [يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا] فسعد إبراهيم سعادة عظيمة و تبيّن إطاعتهما و استحقّا الأجر العظيم و نبوّة ولده.

حكي في قصّة الذبيح أنّ إبراهيم لمّا أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل و المدية و انطلق بنا إلى الشعب نحتطب فلمّا توسّط شعب ثبير (بتقديم الثاء المثلّثة) أخبره بما امر به فقال: يا أبت اشدد رباطي كي لا أضطرب و اكفف عنّي ثيابك لا ينتضح عليها شي ء من دمي فتراه امّي فتحزن و اشتحد شفرتك و أسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإنّ الموت شديد و أقرئ على امّي سلامي و إن رأيت أن تردّ قميصي على امّي فافعل فإنّه قد يكون أسهل لها و أسلى فقال إبراهيم: نعم العون أنت بنيّ على أمر اللّه ثمّ أقبل عليه يقتله و قد ربط و هما يبكيان ثمّ وضع السكّين على حلقه فقال حينئذ: كبّني على وجهي أخاف أن تدركك رقّة تحول بينك و بين أمر اللّه ففعل إبراهيم ثمّ وضع السكّين على قفاه فانقلبت السكّين و نودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا أي فعلت ما أمرت به في الرؤيا.

[إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي إنّا كما جزينا إبراهيم بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقتهما في الإحسان و الانقياد لأمر اللّه.

[إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي إنّ هذا لهو الامتحان الظاهر و الاختبار الشديد و اختلف العلماء في الكبش الّذي جعله اللّه فداء عن إسماعيل فقيل: إنّه الكبش الّذي تقرّب به هابيل إلى اللّه فقبله و كان يرعى في الجنّة حتّى فدى اللّه به إسماعيل و قال آخرون: أرسل اللّه كبشا من الجنّة قد رعى أربعين خريفا و قال السدّيّ: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو كبش أو وعل أملج انحطّ من الجبل فقام عند إبراهيم فأخذه فذبحه و خلّى ابنه ثمّ اعتنق ابنه و قال: يا بنيّ اليوم وهبت لي.

[وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بما يذبح بدله و هو الكبش العظيم الجثّة أو القدر لأنّه فدى اللّه به نبيّا ابن نبيّ و أيّ نبيّ الّذي من نسله سيّد المرسلين و احتجّ القائلون بجواز النسخ قبل العمل بالمأمور به بهذه الآية.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ مضى تفسيره [وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى

ص: 132

إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ أي جعلنا لإبراهيم و إسحاق من الخير و البركة و يجوز أن يكون المراد كثرة ولدهما و بقائهم قرنا بعد قرن إلى أن تقوم الساعة.

[وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما] أي من أولاد إبراهيم و إسحاق محسن بالإيمان و الطاعة و بعضهم ظالم لنفسه بالكفر و المعاصي بيّن الظلم و في الآية دلالة على أن فضائل الآباء لا يستلزم فضيلة الأبناء و لا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 122]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بذكر موسى و هارون فقال: [وَ لَقَدْ مَنَنَّا] أي و لقد أنعمنا عليهما نعما جليلة.

و اعلم أنّ وجوه الأنعام كثيرة إلّا أنّها محصورة في نوعين: إيصال المنافع إليه و دفع المضارّ عنه، و ذكر سبحانه القسمين: فقوله: «وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ» إشارة إلى إيصال المنافع إليهما و قوله: «وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» إشارة إلى دفع المضارّ عنهما. و المنافع على قسمين منافع الدنيا و منافع الدين أمّا منافع الدنيا فالوجود و العقل و الصحّة و الكمال في ذات كلّ واحد منهما و أمّا منافع الدين فالعلم و الطاعة و أعلى درجاتها النبوّة و المعجزات و قد أدّينا كلّ هذه الأمور و أمّا القسم الثاني و هو دفع الضرر و هو المراد بقوله: [وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ و المراد من «الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» إيذاء فرعون ببني إسرائيل و نجاتهم منه بالغرق.

[وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي نصرنا موسى و هارون و قومهما و هم بنو إسرائيل و غلبوا آل فرعون بظهور الحجّة و في آخر الأمر بالدولة و الرفعة و استيراثهم ملك فرعون.

ص: 133

[وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ و المراد منه التوراة و هو الكتاب المشتمل على جميع العلوم الّتي يحتاجون إليها في مصالح الدين و الدنيا [وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دلّلناهما على طريق الحقّ.

[وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ و هم امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلفنا لهما الثناء الحسن و الذكر الجميل أي أبقينا فيما بين الأمم الآخرين هذا الثناء و هو قولهم: سلام على موسى و هارون و يذكرونهما بهذا الثناء الجميل و يجوز أن يكون قوله: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ» هو كلام اللّه و ثناؤه سبحانه عليهما بأن قلنا: «سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ».

[إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ و مثل ذلك نفعل بالمطيعين [إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بجميع ما أوجبه اللّه عليهم العاملين بذلك.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 132]

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

قرأ ابن عامر «وَ إِنَّ إِلْياسَ» بغير همزة على وصف الألف و الباقون بالهمزة و قطع الألف.

و اختلف في إلياس فقيل: هو إدريس و قيل: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى بعث بعده و قيل: إدريس لأنّه قرئ مكانه إدريس و إدراس و قرئ إبليس.

و عن ابن عبّاس و محمّد بن إسحاق و غيرهما قالوا: إنّه بعث بعد حزقيل لمّا عظمت الأحداث في بني إسرائيل و كان يوشع لمّا فتح الشام بوّأها بني إسرائيل و قسّمها بينهم فأحلّ سبط منهم بعلبكّ و هم سبط إلياس بعث فيهم نبيّا فأجابه الملك ثمّ إنّ امرأته حملته على أن ارتدّ من دينه و خالف إلياس و طلبه الملك ليقتله فهرب إلى الجبال و البراري و كان الملك اسمه حبّ كان مؤمنا فأغوته امرأته فصار يعبد الأصنام و كان لامرأته سبعون ولدا منه و من غيره و كان بجنب دارها بستان لعابد فطمعت فيه فقتلت العابد و تملّكت البستان فأخبرها إلياس بهلاكها و هلاك زوجها فأهلكهما اللّه.

ص: 134

و قيل: إنّه استخلف اليسع على بني إسرائيل و رفعه اللّه من بين أظهرهم و قطع عنه لذّة الطعام و الشراب و كساه الريش فصار إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا و سلّطه اللّه على الملك و قومه عدوّا لهم فقتل الملك و امرأته و بعث اللّه اليسع رسولا فآمنت به بنو إسرائيل و عظّموه.

و قيل: إنّ إلياس صاحب البراري و الخضر صاحب الجزائر و يجتمعان في كلّ يوم عرفة بعرفات.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه حكاية عنه: [إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون اللّه و تعبدون غيره و تعصونه ثمّ ذكر القبيح الّذي لأجله خوّفهم فقال: [أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ و بعل اسم صنم كان لهم مثل «مناة و هبل» و كان من ذهب طوله عشرون ذراعا و له أربعة أوجه و فتنوا به و عظّموه حتّى عيّنوا له أربعمائة سادن و جعلوهم أنبياء.

و قيل: كان الشيطان يدخل في جوف بعل و يتكلّم بشريعة الضلالة و السدنة يحفظونها و يعلّمونها الناس و به سمّيت مدينتهم لكن هذا القول و هو دخول الشيطان في جوف الصنم و تكلّمه بالضلال قول غير مقبول لأنّه إن صحّ هذه القدرة من الشيطان يرتفع الأمان عن المعجزات حينئذ.

[وَ تَذَرُونَ و تتركون عبادة [أَحْسَنَ الْخالِقِينَ فرضا بزعمكم و لمّا عابهم على عبادة غير اللّه صرّح بنفي الشركاء فقال: [اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و قرئ «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ» كلّها بالنصب على البدل من قوله: «أَحْسَنَ الْخالِقِينَ».

[فَكَذَّبُوهُ أي كذّبوا قوله قومه: [فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ النار غدا ثمّ استثنى سبحانه منهم بقوله: [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ و ذلك لأنّهم ما كذّبوه بكلّيّتهم بل كان فيهم من كان يعبد اللّه مخلصا فإنّهم لا يحضرون.

ثمّ قال: [وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي أبقينا له الذكر الحسن و «سَلامٌ» في هذه الآية كلّها مبتدء و الجارّ و المجرور بعده خبره و الجملة من المبتدء و الخبر في موضع المفعول لقوله «وَ تَرَكْنا» و لو اعمل «تَرَكْنا» لفظا لقال:

ص: 135

«سلاما» بالنصب و يجوز أن يكون التقدير «وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» الباقين بعده الثناء فحذف «الثناء» و هو المفعول ثمّ ابتدأ فقال: «سَلامٌ».

و بالجملة في كلمة «آل ياسين» أقوال قال ابن عبّاس: آل ياسين آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ياسين من أسمائه و من قرأ «إِلْ ياسِينَ» بالوصل أراد «إلياس» و من تبعه من مؤمن قومه و قيل: ياسين اسم السورة فكأنّه قال: سلام على من آمن بكتاب اللّه و القرآن الّذي هو يس قال أبو علي: من قرأ «آل يس» فحجّته أنّها في المصحف مفصولة من «ياسين» و في فصلها دلالة على أنّ آل هو الّذي تصغيره اهيل.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 148]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138) وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142)

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)

ثمّ عطف على ما تقدّم أي إنّ لوطا رسول من جملة المرسلين الّذين أرسلهم اللّه إلى خلقه داعيا لهم على طاعة اللّه [إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ و الظرف متعلّق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمّد إذ نجّينا لوطا و نجّيناه من آمن معه من قومه من عذاب الاستئصال [إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي في الباقين الّذين اهلكوا استثنى من أهله و قومه الناجين امرأته فإنّها من الهالكين و «الغابر» في اللغة الباقي قليلا بعد ما مضى منه و منه الغبار لأنّه يبقى بعد ذهاب التراب قليلا.

[ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم.

[وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ هذا خطاب لمشركي العرب أي تمرّون في ذهابكم و مجيئكم إلى الشام على منازلهم و قراهم بالنهار و بالليل و ذلك لأنّ القوم كانوا يسافرون إلى الشام و المسافر في أكثر الأسفار إنّما يمشي في الليل و في

ص: 136

أوّل النهار فلهذا السبب عيّن هذين الوقتين.

ثمّ قال: [أَ فَلا تَعْقِلُونَ حتّى تتعقّلون و تعتبرون ممّا نزل بهم فتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر و الضلالة و الوجه في تكرار قصص الأنبياء التشويق إلى ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق و صرف الخلق عمّا كان عليه أهل المعصية و مقابيح الأفعال.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ و اذكره [إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي فرّ من قومه إلى السفينة المملوّة من الناس و الأحمال و كان فراره خوفا من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم و ذلك لأنّه أحسّ إنزال الإهلاك و العذاب بقومه الّذين كذّبوه فظنّ أنّه نازل لا محالة فلأجل هذا الظنّ لم يصبر على دعائهم فكان الأولى عليه أن يبقى مع قومه و يستمرّ على دعائهم و أنّه أقدم على أمر ظهرت إمارته و إن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظنّ ثمّ انكشف ليونس من بعد أنّه أخطأ في ذلك الظنّ لأجل أنّه ظهر الإيمان من قومه.

و ذكروا وجها آخر و هو أنّ يونس كان وعد قومه بالعذاب. فلمّا تأخّر عنهم العذاب بسبب توبتهم خرج كالمستور عنهم و الخجلان منهم بقصد البحر و ركب السفينة فذلك قوله: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ» و تمام الكلام في مشكلات هذه الآية مرّ في قوله: «وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» الآية (1) في تفسير سورة يونس فليراجع هناك و أصل الهرب من السيّد لكن لمّا كان هرب يونس من قومه بغير إذن ربّه طنّا منه أنّ الهرب أمر حسن، حسن إطلاقه عليه.

قال ابن عبّاس في قصّة يونس: إنّه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم الملك و سبى منهم تسعة أسباط و نصفا و بقي سبطان و نصف و كان اللّه أوحى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم فلمّا نسوا ذلك و أسروا أوحى اللّه بعد إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن اذهب إلى ملك هؤلاء القوم و قل له: حتّى يطلب من اللّه أن يبعث إلى بني إسرائيل نبيّا فاختار الملك يونس لقوّته و أمانته قال يونس: اللّه أمرك بهذا قال: لا و لكن أمرت أن أبعث قويّا أمينا و أنت كذلك فقال يونس: و في

ص: 137


1- الأنبياء: 88.

بني إسرائيل من هو أقوى منّي فلم لا تبعثه فألحّ الملك عليه فغضب يونس منه و خرج حتّى أتى البحر أي بحر الروم و وجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلمّا دخلت السفينة لجّة البحر أشرفت على الغرق فقال الملّاحون: إنّ فيكم عاصيا و إلّا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح و لا سبب ظاهر و قال التجّار: قد جرّ بنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرج سهمه نغرفه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكلّ فتقارعوا فخرجت القرعة باسم يونس فقال التجّار نحن أولى من نبيّ اللّه ثمّ عادوا ثانيا و ثالثا يقرعون فيخرج سهم يونس فقال يونس: يا هؤلاء أنا الآبق و تلفّف في كسائه و رمى بنفسه في البحر فابتلعه السمكة فأوحى اللّه إلى الحوت إنّي ما جعلته رزقا لك لا تكسر منه عظما و لا تقطع له وصلا.

فذلك قوله تعالى: [فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي من المغلوبين بالقرعة و أصل «الدحض» المزلق عن مقام الظفر.

[فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ أي فابتلعه من «اللقمة» و هو مليم أي داخل في الملامة أو آت بما يلام عليه أو مليم نفسه و قرئ «مليم» بالفتح بناء من ليم مثل مشيب في مشوب و هذا اللوم لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من قومه و عندنا الإماميّة أنّ ذلك وقع من يونس تركا للمندوب و قد يلام الإنسان على ترك المندوب.

و اختلف في مدّة لبثه في بطن الحوت فقيل: ثلاثة أيّام و قيل: سبعة أيّام و قيل:

عشرين يوما و قيل: أربعين يوما.

[فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي كان تسبيحه أنّه كان يقول: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» و قيل: كان من المصلّين في حال الرجاء فنجّاه اللّه عند البلاء و قيل:

كأن ينزّه اللّه دائما عما لا يليق به [لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي كان بطن الحوت قبره إلى يوم القيامة.

[فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ أي فطرحناه بالمكان العاري عن النبات و الشجر و قذفه الحوت بأمر اللّه من جوفه على وجه الساحل و هو مريض حين ألقاه الحوت و خرج من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش.

ص: 138

[وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و هو القرع و اليقطين يقال لكلّ نبت ينبسط على وجه الأرض و لا ساق له فكان يونس يستظلّ بها و يأكل من ثمرها حتّى تشدّد قيل:

إنّ السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثمّ إلى بحر فارس ثمّ إلى بحر البطائح ثمّ دخله و رمته بأرض نصيبين ثمّ إنّ الأرضة أكلت الشجرة فخرّت من أصلها فحزن يونس لذلك حزنا شديدا فقال: يا ربّ كنت أستظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس و الريح و آكل من ثمرها و قد سقطت فقيل له: يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة و اقتلعت في ساعة و لا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم انطلق إليهم فانطلق إليهم و ذلك قوله:

[وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قيل: إنّ اللّه أرسله إلى نينوى من أرض الموصل و كانت رسالته هذه بعد ما نبذه الحوت فعلى هذا يجوز أن يكون أرسل إلى قوم بعد قوم أو أن يكون مرسلا إلى الأوّلين بشريعة فآمنوا بها.

و قيل: في معنى «أَوْ يَزِيدُونَ» وجوها: أحدها أن يكون على طريق الإبهام على المخاطبين كأنّه قال: أرسلناه إلى احدى العدّتين و ثانيها أنّ «أو» للتخيير كأنّ الرائي خيّر بين أن يقول: مائة ألف أو يزيدون أي كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال:

هم مائة ألف أو يزيدون و ثالثها أنّ «أو» بمعنى الواو كأنّه قال: و يزيدون و قيل:

معنى «أو» بل يزيدون و اختلف في الزيادة على مائة ألف فقيل: عشرون ألفا عن ابن عبّاس و قيل: بضع و ثلاثون ألفا و قيل: سبعون ألفا.

[فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ حكى سبحانه عنهم أنّهم آمنوا باللّه و راجعوا التوبة فكشف عنهم العذاب و متّعوا بالمنافع و اللّذات إلى انقضاء آجالهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 149 الى 160]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

ص: 139

قرئ «أَصْطَفَى» بكسر الهمزة و بفتح الهمزة.

ثمّ عاد الكلام إلى الردّ على مشركي العرب فقال سبحانه:

[فَاسْتَفْتِهِمْ أي سلهم و اطلب الحكم منهم في هذه القصّة [أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ أي كيف أضفتم البنات إلى اللّه و اخترتم لأنفسكم البنين و ذلك لأنّهم كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه على وجه الاصطفاء لا على وجه الولادة.

[أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً] أي بل خلقنا الملائكة إناثا [وَ هُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون أي كيف جعلوهم إناثا و لهم يشهدوا خلقهم و الغرض من هذا البيان تبكيتهم على كفرهم حيث جعلوا البنات اللاتي هنّ أوضع الجنسين للّه و لهم البنون الّذين أرفع الجنسين.

و نقل الواحديّ عن المفسّرين أنّهم قالوا: إنّ قريشا و أجناس العرب قالوا:

الملائكة بنات اللّه مع أنّهم كانوا يستنكفون من البنت و الشي ء الّذي يستنكف منه المخلوق كيف يثبتونه للخالق على أنّ إثبات الولد للّه كفر ثمّ كيف أضافوا الأنوثيّة للملائكة مع أنّ الملائكة من أشرف الخلائق و أبعدهم من صفات الأجسام و رذائل الطباع و الأنوثة من أخسّ صفات الحيوان.

ثمّ أخبر سبحانه عن كذبهم فقال: [أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه [وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ» دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل فسقطت همزة الوصل و مثله قول ذي الرّمة:

استحدث الركب عن أشياعهم خبراأم راجع القلب من أطرابه طرب

و حاصل المعنى كيف يختار اللّه سبحانه الأدون على الأعلى مع كونه حكيما مالكا.

ثمّ وبّخهم فقال: [ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تتّعظون فتنتهون عن مثل هذا القول السخيف.

[أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي حجّة و بيّنة على ما تقولون و هذا كلّه إنكار و ردّ بصورة الاستفهام [فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فأتوا بحجّتكم على هذا الاعتقاد

ص: 140

و المراد أنّه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة العقل و لا من جهة السمع.

قوله تعالى: [وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً] روينا في تفسير قوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» (1) إنّ قوما من الزنادقة كانوا يقولون: إنّ اللّه و إبليس أخوان فاللّه الأخ الكريم الخيّر و إبليس هو الشرير الخسيس فقوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» المراد منه هذا المذهب و هو مذهب المجوس القائلين بيزدان و أهريمن هذا أحد الأقوال في تفسير الآية و حاصل هذا المعنى أنّ اللّه خالق الخير و النور و الحيوان النافع و الشيطان خالق الشرّ و الظلمة و الحيوان الضارّ الموذي.

و القول الثاني في معني الآية على قول المشركين من العرب حيث يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه و سمّي الملائكة جنّة لاستتارهم عن العيون.

و القول الثالث: إنّ اللّه صاهر الجنّ فحدثت الملائكة. تعالى اللّه عن هذه الأقوال السخيفة.

و القول الرابع أنّهم أشركوا الشيطان في عبادة اللّه فذلك هو النسب الّذي جعلوه بينه و بين الجنّة.

[وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي علمت الملائكة أنّ هؤلاء الّذين قالوا هذا القول محضرون في العذاب يوم القيامة.

[سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزّه سبحانه نفسه عمّا لا يليق به و أضافوه إليه [إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثنى عباده المخلصين عن هذه الأقوال القبيحة السخيفة و من حضور العذاب.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 170]

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

ثمّ خاطب سبحانه الكفّار بأن قال لهم: [فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ أي إنّكم يا

ص: 141


1- الانعام: 100.

معشر الكفّار و الّذي تعبدونه [ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ و الضمير في «عَلَيْهِ» فيه قولان أحدهما أنّه يعود إلي «ما تَعْبُدُونَ» و التقدير أنّكم و ما تعبدونه ما أنتم على عبادته بفاتنين أحدا إلّا من يصلي الجهيم و يحترق بها بسوء اختياره و ما أنتم بمضلّين أحدا و لا تقدرون على إضلال أحد إلّا من سبق في علم اللّه أنّه بسوء اختياره سيكفر و يصلي الجحيم و القول الآخر في الضمير من «عَلَيْهِ» أنّه يعود إلى اللّه و التقدير ما أنتم على اللّه و على دينه بمضلّين أحدا [إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ باختياره.

قوله: [وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا قول جبرئيل للنبيّ: أو قول الملائكة وصفوا بأنفسهم بالمبالغة في العبادة و العبوديّة و ذكروا أنّهم يصطفّون للصلاة و التسبيح و الغرض من بيان الآية التنبيه على فساد قول من يقول: إنّهم أولاد اللّه فإنّهم يعترفون بالعبوديّة و العبوديّة تنافي الأولاديّة.

و ذكرا أنّ لكلّ منهم مرتبة لا يتجاوزها درجة لا يتعدّى عنها بقولهم: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي صافّون في أداء الطاعات و منازل الخدمة و أمّا درجاتهم في المعارف فبقولهم: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ .

قوله: [وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ المعنى أنّ مشركي العرب كانوا يقولون: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً» أي كتابا من كتب الأوّلين الّذي نزل عليهم مثل التوراة و الإنجيل لأخلصنا العبادة للّه و لمّا كذّبنا كما كذّب غيرنا ثمّ جاءهم الذكر الّذي هو سيّد الأذكار و الكتاب المهيمن الّذي فاق كلّ الكتب و هو القرآن.

[فَكَفَرُوا بِهِ و في الكلام حذف تقديره فلمّا أتاهم الكتاب كفروا به [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.

قوله تعالى: [سورة الصافات (37): الآيات 171 الى 182]

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)

وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

ص: 142

المعنى لمّا هدد الكفّار بقوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أردفه بما يقوّي قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: [وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا] أقسم و ذكر لام القسم أي تقدّم في علم اللّه و حكمه أنّ المرسلين [لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فبيّن أنّه سبحانه وعد نبيّه بنصرته و الدليل عليه قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي» (1) و أيضا إنّ الخير مقتض بالذات و الشرّ مقتض بالعرض و ما بالذات أقوى ممّا بالعرض.

و أمّا النصرة و الغلبة قد تكون بالحجّة و قد تكون بالاستيلاء و الدولة و قد تكون بالدوام و الثبات فالمؤمن و إن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب أحوال الدنيا لكن مع ذلك فالحقّ بما هو حقّ غالب و لا يلزم أن يقال: فقد قتل بعض الأنبياء و قد ضعف و هزم كثير من المؤمنين فهم مع ذلك غالبون بالسعادة و هؤلاء مغلوبون بالشقاوة بسوء العاقبة.

ثمّ قال لنبيّه: [فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن هؤلاء الكفّار [حَتَّى حِينٍ نأمرك فيه بقتالهم أو إلى يوم الموت و انقضاء مدّة الامهال.

[وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم فسوف يبصرون العذاب [أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ لأنّهم كانوا يقولون: متى هذا التهديد و الوعيد الّذي توعدنا به فأنزل اللّه أفبعذابنا يطلبون العجلة؟

[فَإِذا نَزَلَ العذاب [بِساحَتِهِمْ و بأفنية دورهم كما يستعجلون [فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس الصباح صباح من يحذّر و لم يحذر. و «الساحة» معناه الدار و فناؤها و كانت العرب تفاجئ أعداءها بالغارات صباحا فخرج الكلام على عادتهم و لأنّ اللّه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح كما قال: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ».

[وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ مرّ تفسيره و إنّما كرّر

ص: 143


1- المجادلة: 21.

للتأكيد و الاهتمام بشأن التهديد و قيل: إنّ المراد بأحدهما عذاب الدنيا مثل بدر و أشباهه و بالآخر عذاب الآخرة.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن وصفهم و بهتانهم فقال: [سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها لربّك مالك العزّة يعزّ من يشاء لا يملك أحد إعزاز أحد سواه [وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي سلامة و أمان للأنبياء من العذاب و السوء [وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي احمدوا اللّه الّذي هو مالك العالمين (و هو خبر معناه الأمر) و أخلصوا الثناء و الحمد للّه و لا تشركوا به أحدا فإنّ النعم كلّها منه تعالى.

روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام و روى أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 144

سورة ص

اشارة

* (مكية)* فضلها ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّر اللّه لداود حسنات و عصمه اللّه أن يصرّ على ذنب صغيرا أو كبيرا.

و روى العيّاشيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة اعطى من خير الدنيا و الآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب و أدخله اللّه الجنّة و كلّ من أحبّ من أهل بيته حتّى خادمه الّذي يخدمه و إن كان ليس في حدّ عياله و لا في حدّ من يشفع له و آمنه اللّه يوم الفزع الأكبر.

ص: 145

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة ص (38): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)

أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)

النزول: قال المفسّرون: إنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم الوليد بن مغيرة و هو أكبرهم و أبو جهل و ابيّ و اميّة ابنا خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث أتوا أبا طالب و قالوا: أنت شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضي بيننا و بين ابن أخيك فإنّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا فدعا أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك فقال: ما ذا يسألونني قالوا: دعنا و آلهتنا ندعك و إلهك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون العرب و العجم فقال أبو جهل: للّه أبوك نعطيك ذلك و عشرة أمثالها فقال: قولوا: لا إله إلّا اللّه فقاموا و قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» فنزلت هذه الآيات.

و روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استعبر ثمّ قال: يا عمّ و اللّه لو وضعت الشمس في يميني و القمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى أنفذه أو اقتل دونه فقال له أبو طالب: امض لأمرك فو اللّه لا أخذلك أبدا.

قوله تعالى: [ص اختلفوا في معناه فقيل: هو اسم للسورة و قيل فيه ما قيل في فواتح السور و قد شرح بيانه في سورة البقرة مثل أن يكون «ص» اسما من أسماء اللّه الّتي أوّلها صاد و معناه صادق الوعد و صانع المصنوعات و صمد أو معناه صدّق محمّد فيما أخبر به عن اللّه أو المعنى صدّ الكفّار عن قبول هذا الدّين كما قال: [الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 146

وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»* (1) و قيل: معناه أنّ القرآن مركّب من هذه الحروف و أنتم قادرون عليها و لستم قادرين على معارضة القرآن فدلّ ذلك على أنّ القرآن معجز، الخامس من المعاني أن يكون «صاد» بالكسر من الدال من المصادّة و هي المعارضة و منها الصدى و هو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية الصلبة فحينئذ معناه: عارض القرآن و واجهه بعملك فاعمل بأوامره و انته عن نواهيه و إذا كان اسم للسورة فالتقدير: هذه السورة صاد و إذا كان المراد من «ص» صدق محمّد فالصاد هو المقسم عليه و قوله: [وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ] هو القسم فالمعنى و القرآن ذي الذكر أنّ محمّدا لصادق فيما يخبر عن ربّه.

و المراد من قوله: «ذِي الذِّكْرِ» أي ذي البيان الّذي يؤدّي إلى الحقّ و يهدي إلى الرشد لأنّ فيه ذكر ما يحتاج الإنسان إليه من امور معاشه و معاده و ذكر الأنبياء و أخبار الأمم و البعث و الأحكام و قيل: المراد من «الذِّكْرِ» الشرف و يؤيّده قوله: «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» (2) أو المراد منه ذكر اللّه و توحيده و أسمائه الحسنى و صفاته العليا.

و اختلف في جواب القسم على وجوه: أحدها أنّ جوابه محذوف فكأنّه قال:

«وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» لقد جاء الحقّ و ظهر الأمر و حذف الجواب في مثل هذا أبلغ فإنّ ذكر الجواب يقصر المعنى على وجه و الحذف يصرف إلى كلّ وجه فيعمّ. و القول الثاني ما ذكرناه و هو أنّ جوابه «ص» يعني صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قوله: [بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ إضرابا عن ذلك كأنّه قيل: لا ريب فيه قطعا و ليس عدم إذعانهم للقرآن لشائبة ريب فيه بل هم في استكبار و حميّة شديدة و شقاق بعيد للّه و لرسوله و لذلك لا يذعنون له و منعهم الحسد و التكبّر من الانقياد إلى الحقّ.

و المراد من العزّة هاهنا العظمة و ما يعتقده الإنسان في نفسه من الأحوال الّتي تمنعه من متابعة الغير كما قال: «وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» (3) و المراد من الشقاق إظهار المخالفة على جهة المساوات للمخالف و هو مأخوذ من «الشقّ» كأنّه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شقّ و خصمه في شقّ فيريد أن يكون في شقّ نفسه و

ص: 147


1- النساء: 166.
2- الزخرف: 49.
3- البقرة: 206.

لا يجري عليه حكم خصمه.

ثمّ إنّه سبحانه لمّا وصفهم بالعزّة و الشقاق خوّفهم فقال: [كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ و المعنى أنّهم نادوا عند نزول العذاب بسبب تكذيبهم الأنبياء و نادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة و ليس الوقت حين منجى و لا يفيد في ذلك الوقت الندامة و الرجوع عند معاينة العذاب و هو كقوله: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا» (1) و كقوله: «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ» (2) و قوله: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (3).

و أمّا تحقيق الكلام في لفظ «لاتَ» قال سيبويه: إنّ «لاتَ» هي «لا» المشبّهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على ربّ و ثمّ للتأكيد و بسبب هذه الزيادة حدث لها أحكام: منها أنّها لا تدخل إلّا على الأحيان و منها أن لا يبرز إلّا أحد جزءيها إمّا الاسم و إمّا الخبر و يمتنع بروزهما جميعا و قال الأخفش: إنّها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء و خصّت بنفي الأحيان و «حِينَ مَناصٍ» منصوب بها كأنّك قلت:

و لات حين مناص لهم و يرتفع بالابتداء أي و لات حين مناص كائن لهم و المناص المنجى و الغوث يقال: ناصه ينوصه إذا أغاثه و استناص طلب المناص.

قوله تعالى: [وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ و عجب الكافرون أن أتاهم من ينذرهم و يخوّفهم منهم قالوا: إنّ محمّدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة و الأخلاق الباطنة و النسب و الشكل فكيف يختصّ من بيننا بهذا الأمر و هو من رهطنا و عشيرتنا فاستنكفوا من الدخول تحت طاعته و الانقياد لتكاليفه و ما كان سبب هذا التعجّب إلّا الحسد.

ثمّ نسبوا إليه السحر و الكذب ثمّ قالوا: [أَ جَعَلَ هذا الرجل [الْآلِهَةَ] الكثيرة [إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ و قاسوا بسبب تقليد آبائهم الحمقاء

ص: 148


1- المؤمن: 84.
2- يونس: 91.
3- المؤمن: 85.

و قالوا: لا بدّ في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفّل كلّ واحد منهم بحفظ نوع و كان قياسهم الباطل أنّ أولئك الأقوام من أسلافنا على كثرتهم و قوّة عقولهم كيف كانوا جاهلين و مبطلين و هذا الإنسان الواحد يكون محقّا صادقا و هذه التشريفات كانت منشأ عجبهم.

و «العجاب» هو العجيب إلّا أنّه أبلع كقولهم: طويل و طوال و كبير و كبار و قد يسدّد للمبالغة مثل «وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً».

قوله: [سورة ص (38): الآيات 6 الى 10]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)

المعنى: هذا تمام الحكاية عن الكفّار أي انطلق الأشراف منهم و «الانطلاق» الذهاب بسهولة و منه طلاقة الوجه و الخلق و كان يقول بعضهم لبعض: [امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ و اثبتوا على عبادة آلهتكم و اصبروا على دينكم و تحمّلوا المشاقّ و قيل:

القائل منهم عقبة بن أبي معيط.

قال الزمخشريّ: «أَنِ امْشُوا» «أن» هاهنا بمعنى «أي» و هي المفسّرة عن القول أي قال بعضهم لبعض: «امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ» و اعبدوها متحمّلين لما تسمعونه من القدح.

[إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ] أي إنّ هذا الّذي شاهدناه من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من أمر التوحيد و نفي الآلهة و إبطال أمرها لشي ء يراد من جهته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يمكن أن يلويه صارف و لا عاطف يثنيه فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله من هذا الرأي بواسطة أبي طالب أو غيره و قيل: المعنى إنّ هذا لشي ء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه و قيل:

إنّ هذا الّذي يدّعيه من التوحيد أو يقصده من الرياسة و الترفّع على العرب و العجم لشي ء يتمنّى و يريده كلّ أحد قال القفّال: هذه كلمة تذكر للتهديد و كان معناه أنّه ليس

ص: 149

غرض محمّد من هذا القول تقرير الدين و إنّما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا و أنفسنا بما يريد.

[ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ] و المراد من «الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» هي ملّة النصارى أي هذا التوحيد الّذي أتى به محمّد ما سمعناه في دين النصارى لأنّها آخر الملل قال ابن عبّاس: لأنّ النصارى لا يوحّدون و أنّهم يقولون بقوله: «ثالِثُ ثَلاثَةٍ» و قيل: المراد من «الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ» ملّة قريش أي ملّة زماننا.

[إِنْ هذا] أي ليس هذا الّذي يقوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [إِلَّا اخْتِلاقٌ أي تصنّع و كذب و افتعال أي كذب اختلقه و اخترعه.

[أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا] هذه شبهة من المشركين أي كيف انزل على محمّد القرآن من بيننا و ليس بأكبر سنّا منّا و لا بأعظم شرفا و هو مساو لنا في البشريّة و الخلقة الظاهرة فكيف اختصّ بهذه الفضيلة؟ و هذا القياس باطل لأنّهم زعموا أنّ الشرف بالمال و الأعوان فعقدوا على هذا القياس الفاسد أمرهم و أفكارهم.

فأجاب سبحانه [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي ليس يحملهم على هذا الاستبعاد إلّا الشكّ في هذا القرآن و الوحي الّذى أنزلناه إليك و إعراضهم عن النظر و التدبّر إلى الأدلّة المؤدّية إلى العلم بحقيقته [بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي إذا أذاقوه تبيّن لهم حقيقة الحال و في كلمة «لما» دلالة على أنّ ذوقهم على شرف الوقوع و المعنى أنّهم لا يصدّقون بالقرآن حتّى يمسّهم العذاب و لأنّهم لم يذوقوا العذاب الموعود و لذلك شكّوا.

[أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ تتمّة الجواب عن شبهتهم بقولهم: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» فقال سبحانه: أ بأيديهم مفاتيح النبوّة و الرسالة فيضعونها حيث يشاءوا من صناديدهم أي أنّها ليست بأيديهم و ليس لهم تعيين النبيّ و الرسول حتّى يضعوا النبوّة فيمن أرادوه و لكنّها بيد العزيز الغالب في ملكه كثير الهبات و العطايا يختار للنبوّة من يشاء من عباده.

[أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي ألهم

ص: 150

سلطة و اختيار في السماوات و الأرض فيمنعون اللّه من مراده، إن ادّعوا ذلك فليصعدوا في المعارج و المناهج و المدارج الّتي يتوصّل بها إلى السماوات و يدبّروا أمرها و ينزلوا الوحي إلى من يختارونه و هذا الكلام جواب عن شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ».

و لمّا ذكر سبحانه في الآية الأولى بقوله: «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ» و ذكر الخزائن على عمومها و هي غير متناهية أردفها بذكر ملك السموات و الأرض يعني أنّ ملك السماوات و الأرض أحد أنواع خزائن اللّه فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم و كيفيّة صعودها و تصرّفها فبأن تكونوا عاجزين عن كلّ خزائن اللّه كان أولى.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 11 الى 15]

جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)

المعنى: أخبر سبحانه عن الكفّار القائلين بهذه الأقوال السخيفة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بمكّة أنّهم سيهزمون و أنت منصور عليهم و هم الّذين تحزّبوا و حاربوا النبيّ و «ما» زائدة مؤكّدة للتحقير مثل أكلت شيئا مّا و يجوز أن يكون للتعظيم هزؤا فيؤول إلى التحقير و قيل: المراد بقوله «هُنالِكَ» يوم بدر أو المراد الموضع الّذي ذكروا هذه المقالات السخيفة و يمكن أن يكون حمله على يوم فتح مكّة.

و وجه النظم في الآية بما قبلها أنّ المعنى كيف يتقوّلون بهذه الأقاويل و كيف يرتقون إلى السماء و هم فرق من قبائل شتّى مهزومون؟

قوله: [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي كذّبت قبل هؤلاء الكفّار [قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ] أي أقوام الأنبياء قبلك كذلك كذّبوا أنبياءهم و هكذا كانوا يكذّبون رسلهم ثمّ بالآخرة نزل العذاب بهم فذكر ستّة أصناف منهم: أوّلهم قوم نوح فأهلكهم اللّه بالغرق و الطوفان. و الثاني عاد قوم هود لمّا كذّبوه أهلكهم اللّه بالريح العقيم. و الثالث فرعون لمّا كذّب موسى أهلكه اللّه مع قومه بالغرق. و الرابع ثمود قوم صالح لمّا كذّبوه فاهلكوا

ص: 151

بالصيحة. و الخامس قوم لوط كذّبوه فاهلكوا بالخسف. و السادس أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب فلمّا كذّبوه فاهلكوا بعذاب يوم الظلّة.

و إنّما وصف اللّه فرعون بكونه ذو الأوتاد لوجوه:

الاول: أنّ أصل هذه الكلمة من أصل ثبات البيت المطنّب بأوتاده ثمّ استعير لإثبات العزّ و الملك قال الشاعر:

و لقد غنوا فيها بأنعم عيشةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد

و هذا المعنى أحسن الوجوه.

و الثاني أنّه كان ينصب الخشب في الهواء و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إلى تلك الخشب الأربع و يضرب على كلّ واحد من هذه الأعضاء وتدا و يتركه معلّقا في الهواء إلى أن يموت.

و الثالث أنّه يمدّ المعذّب بين أربعة أوتاد في الأرض و يرسل عليه العقارب و الحيّات.

و الرابع قال قتادة: كانت عنده أوتادا و أرسانا و ملاعب يلعب بها عنده.

و الخامس أنّ عساكره كانوا كثيرين و كانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم و كانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام فعرّف بها.

قوله تعالى: [أُولئِكَ الْأَحْزابُ مبالغة لوصفهم بالقوّة و الكثرة و المعنى أنّ حال أولئك الأحزاب مع كمال قوّتهم لمّا كان عاقبة أمرهم الهلاك و البوار فكيف هؤلاء الضعفاء؟

و لمّا ذكر حال المكذّبين بيّن أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب و معناه هم الأحزاب حقّا أي أحزاب الشيطان كما يقال: هم هم و فلان هو الرجل قال الشاعر:

و إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

[إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي ما كلّ حزب منهم إلّا كذّب الرسل فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم رسلي [وَ ما يَنْظُرُ] أي و ما ينتظر [هؤُلاءِ] يعني كفّار

ص: 152

مكّة [إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً] و هي النفخة الاولى في الصور [ما لَها مِنْ فَواقٍ أي لا يكون لتلك الصيحة إفاقة بالرجوع إلى الدنيا أو لا يتمكّنون من الرجوع مقدار زمان رجوع اللبن إلى الضرع. قال الفرّاء: إذا ارتضعت البهيمة امّها ثمّ تركها حتّى تنزل فتلك الإفاقة و الفواق ثمّ قيل لكلّ إنظار و استراحة و قيل: المعنى مالها من فتور كما يفتر المريض أو مالها مثنويّة و ردّ و صرف.

قال الطبرسيّ: من الآيات الدالّة على عدم تعذيب هذه الامّة بعذاب الاستئصال هذه الآية و المراد أنّ عقوبة امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعذاب الاستئصال مؤخّرة إلى يوم القيامة و عقوبة سائر الأمم معجّلة في الدنيا كما قال سبحانه: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ» (1).

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 16 الى 20]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (20)

[وَ قالُوا] أي هؤلاء الكفّار: [رَبَّنا] أي يا ربّنا [عَجِّلْ لَنا قِطَّنا] قدّم لنا نصيبنا من العذاب [قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و إنّما قالوه على سبيل الاستهزاء بخبر النبيّ و خبر اللّه عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و جماعة.

و قيل: لمّا نزل «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ...، وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ» (2) قال قريش: يا محمّد زعمت أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجّل لنا كتبنا الّتي نقرؤها في الآخرة و ذلك استهزاء منهم بهذا الوعيد و تكذيبا به و «القطّ» كتب الجوائز و الحكم و اشتقاقها من القطّ و هو القطع لأنّها تقطع النصيب و العمل و القطّ الحساب أيضا قال الأعشى:

و لا الملك النعمان يوم لقيته بنعمته يعطي القطوط و يافق

و بالجملة إنّ القوم قد كمل كفرهم في الشبهات الثلاثة الّتي أوردوها: أولاها تتعلّق

ص: 153


1- القمر: 46.
2- الحاقة: 19 و 25.

بالإلهيّات و هو قوله تعالى حكاية عنهم «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً». و الثانية تتعلّق بالنبوّة و هو قوله: «أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا» و الثالثة تتعلّق بالمعاد و هو قوله:

«وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ».

قوله تعالى: [اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ] سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهلة جرأتهم في مثل هذه الأمور اصبر و تحمّل أذاهم كأنّه قال: و اذكر لهم الأكابر من الأنبياء كيف كانوا يخافون اللّه مع أنّهم معصومون من المعاصي و منهم داود فإنّه بسبب ترك مندوب كيف خاف من ربّه كما حكى عنه بكاءه الدائب و غمّه الواصب و ندمه الدائم فما الظنّ بهؤلاء الكفرة الأذلّين من كلّ ذليل المصرّين لأكبر الكبائر و الغرض من الآية و ذكر القصّة تهويل لأمر المعصية في أعين الناس و تنبيها لهم على كمال قبح ما اجترعوا عليه و أيضا تثبيت للرسول على مقاساة أمر النبوّة و صيانة نفسه الشريفة على التحمّل و التصبّر على أذيّاتهم.

[وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ] في التوحيد عن الباقر عليه السّلام: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة و قيل: ذو القوّة على العبادة ذكر أنّه كان يقوم نصف الليل و يصوم نصف الدهر و كان يصوم يوما و يفطر يوما و ذلك أشدّ الصوم و قيل: المراد بالقوّة في البدن روي أنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر الرجل فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله و قيل:

معناه ذا التمكين العظيم و النعمة العظيمة و ذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.

و إنّ هذا الوصف الّذي وصف داود و هو قوله: «عَبْدَنا» نهاية في التعظيم مقام أعلى و أسنى منهم ألا ترى أنّه سبحانه قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» (1) و هذا بيان تشريف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ليلة المعراج و إنّما وصف سبحانه عباده المخلص بالعبوديّة مشعرا بأنّهم قد حقّقوا معنى العبوديّة بسبب الاجتهاد في الطاعة.

[إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجّاع كثير الرجوع إلى مرضاة اللّه و يراجع أموره كلّها إلى طاعتي و رضاي و يرجع عن كلّ ما يكره اللّه إلى ما كلّ يحبّ اللّه من آب يؤوب

ص: 154


1- الإسراء: 1.

إذا رجع و قيل: معناه أي مسبّح و قيل: مطيع قوله تعالى: [إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ و ذكر في تسبيح الجبال وجوه:

الاول: أنّ اللّه خلق في جسم الجبل حياة و قدرة و عقلا و منطقا و حينئذ صار الجبل مسبّحا للّه تعالى و نظيره قوله تعالى: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» (1) فإنّ معناه أنّه تعالى خلق في الجبل عقلا و فهما ثمّ خلق فيه رؤية عظمة اللّه فكذا هاهنا.

الثاني: ما رواه القفّال المروزيّ في تأويل التسبيح أنّه يجوز أن يقال: إنّ داود قد اوتي من شدّة حسن الصوت ما كان له دويّ حسن في الجبال و ما يصغي إليه الطير لحسنه فيكون دويّ الجبال و تصويت الطير و تغريده معه تسبيحا لهم و ذكر محمّد بن إسحاق أنّ اللّه لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتّى إنّه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتّى يأخذ عليه السّلام بأعناقهم.

و الوجه الثالث من الوجوه أنّ اللّه سيّر الجبال معه حتّى أنّها كانت تسير إلى حيث يريده و يتبعه و كان ذلك السير تسبيحا لها لأنّه كان يدلّ على كمال قدرة اللّه و حكمته.

قال صاحب الكشّاف: «يُسَبِّحْنَ» في معنى مسبّحات فإنّ صيغة الفعل تدلّ على الحدوث و التجدّد و صيغة الاسم على الدوام فقوله: «يُسَبِّحْنَ» يدلّ على التجدّد و الحدوث في التسبيح من الجبال شيئا بعد شي ء و حالا بعد حال.

قوله: [بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ أي بالرواح و الصباح يقول: الشمس إذا طلعت أشرقت وصفا شعاعها.

قوله: [وَ الطَّيْرَ] أي و سخّرنا الطير [مَحْشُورَةً] أي مجموعة إليه تسبّح اللّه تعالى معه [كُلٌ يعني كلّ الطير و الجبال [لَهُ أَوَّابٌ رجّاع إليه مطيع له بالتسبيح قال الجبّائيّ: لا يمتنع أن يكون اللّه خلق في الطيور من المعارف ما تفهم بها أمر داود و نهيه فتطيعه في ما يريد منها و إن لم تكن كاملة العقل مكلّفة.

[وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّينا ملكه بالحرس و الجنود و الهيبة و كثرة العدّة و العدد

ص: 155


1- الأعراف: 142.

عن ابن عبّاس أنّه كان يحرسه كلّ ليلة ستّة و ثلاثون ألف رجل و قيل: أربعون ألفا و كان أشدّ ملوك الأرض سلطانا.

و عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رجلا ادّعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدّعى عليه فقال داود للمدّعي: أقم البيّنة فلم يقمها فرأى داود في منامه أنّ اللّه يأمره أن يقتل المدّعى عليه فتثبّت داود و قال: هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن يقتله فأحضره و أعلمه أنّ اللّه يأمره بقتله فقال المدّعى عليه: صدق اللّه إنّي كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود فهذه الواقعة شدّت ملكه و أمّا الأسباب الدينيّة الموجبة لهذا الشدّ فهي الصبر و التأمّل التامّ و الاحتياط الكامل فحصل له مقام العبوديّة و التقوى.

قوله: [وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ و المراد بالحكمة النبوّة أو العلم باللّه و شرائعه و المراد «بفصل الخطاب» هو العلم بالقضاء و الفهم و العالم بالحكمة أن يكون الإنسان يعلم حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشريّة و العامل بالحكمة أن يكون آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا و الآخرة فهذا هو الحكمة. و إنّما سمّي هذا الأمر بالحكمة لأنّ اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور و تبعيدها عن أسباب الرخاوة و الضعف فلهذا السبب سمّيت تلك المعارف و هذه الأعمال بالحكمة و المراد من «فَصْلَ الْخِطابِ» على ما ذكرنا معرفة امور الّتي بها يفصل بين الخصوم حسبما قرّره الشارع و بحيث لا يختلط شي ء بشي ء آخر و ينفصل كلّ مقام من مقام.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 21 الى 25]

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25)

ص: 156

المعنى: فقوله تعالى: [وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فهو نظير قوله: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * و فائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصّة المستفهم عنها ليكون داعيا إلى الاعتبار بها.

قال الرازيّ: و أقول: للناس في هذه القصّة ثلاثة أقوال:

أحدها ذكر هذه القصّة على وجه يدلّ على صدور الكبيرة عن داود عليه السّلام. و ثانيها دلالتها على صدور الصغيرة عنه. و ثالثها بحيث لا تدلّ على الكبيرة و لا على الصغيرة.

فأمّا القول الأوّل فحاصل كلامهم فيها أنّ داود عشق امرأة أوريا فاحتال بالوجوه الكثيرة حتّى قتل زوجها ثمّ تزوّج بها فأرسل اللّه إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته و عرضا تلك الواقعة عليه فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا فتنبّه لذلك و اشتغل بالتوبة.

و هذا القول باطل و في نهاية الفساد من وجوه:

الاول أنّ هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق النّاس و أشدّهم فجورا لاستنكف منها و الرجل الحشويّ الخبيث الّذي يقرّر تلك القصّة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه و ربّما لعن من ينسبه إليها و إذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبتها إلى المعصوم؟

الثاني أنّ حاصل القصّة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حقّ و إلى الطمع في زوجته أمّا الأول فأمر منكر قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من سعى في دم مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه «آيس من رحمة اللّه» و أمّا الثاني فإنّ أوريا على قولكم لم يسلم من داود لا في زوجه و لا في منكوحه و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه.

و الوجه الثالث أنّ اللّه سبحانه وصف داود في الآية السابقة بصفات فائقة جليلة و وصفه أيضا كثيرة حسنة بعد هذه القصّة و كلّ هذه الصفات تنافي كونه عليه السّلام موصوفا بهذا الفعل المنكر و لو قلنا: إنّ داود صدرت منه هذه الكبائر لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الرسل بأن يقتدي بداود

ص: 157

في الصبر و الطاعة و كيف يكون من هو قلبه مشغول بالفجور و القتل و حظّ النفس كثير الرجوع إلى اللّه في الطاعة و أن يكون «أوّابا» بصيغة المبالغة و كيف يليق بمثل هذا الإنسان أن تكون الجبال و الطيور مسخّرة و تابعة له ليتّخذه وسيلة إلى القتل و الفجور؟ و قد قيل: إنّه كان محرّما عليه صيد شي ء من الطير فحينئذ بزعمكم أنّ الطير آمن منه و لا ينجو منه الرجل المسلم على نفسه و زوجته؟ و قد قال اللّه تعالى:

في حقّه «وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ» و قد فسّروا تشديد ملكه بما يقوّي الدين و بأسباب السعادة كما بيّنّا في موضعه قبل هذا و من لا يملك نفسه عن امرأة كيف يليق بذلك؟

ثمّ وصفه تعالى بأنّه مأتيّ الحكمة و الحكم كما قال: «وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ» و كلّ من كان موصوفا بهذه الصفات و قابلا لهذه المواهب الجليلة كيف يرضى أن يصدر منه امور يستنكف منه الشيطان و كلّ هذه المدائح الّتي مدحه اللّه تعالى و منحه بها دالّة أنّ براءة ساحته عن تلك الأكاذيب قبل شرح القصّة.

و أمّا الصفات المذكورة بعد القصّة فهي أيضا ناطقة بعلوّ ساحته عن مثل هذه المقامات مثل قوله: «وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ» و ذكر مثل هذا الكلام إنّما يناسب في حقّ من هو قويّ في طاعة اللّه أمّا لو كانت القصّة المتقدّمة دالّة على سعيه في القتل و الفجور لم يكن قوله: «وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لائقا به و أمّا قوله تعالى:

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» يدلّ على كذب هذه المقالات لأنّ الملك العظيم الشأن إذا حكى عن بعض عبيده أنّه قصد دماء الناس و أموالهم و أزواجهم فبعد فراغه من شرح القصّة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقبيه: أيّها العبد إنّي فوّضت إليك خلافتي و نيابتي فإنّ ذكر تلك القبائح يناسب الزجر و الحجر لا أن يجعله خليفة نفسه و من المعلومة في اصول الفقه أنّ ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب للحكم يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف فلمّا حكى اللّه عنه تلك الواقعة القبيحة ثمّ قال بعده «إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» أشعر هذا بأنّ الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة و معلوم أنّ هذا فاسد كيف لا؟ و ذكر العشق و السعي في القتل من أعظم منافيات الخلافة و باب العيوب.

ص: 158

و العجب أنّ القائلين بهذه الروايات الفاسدة المجعولة ذكروا أنّ داود تمنّى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء الكبار من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار و حصل للذبيح من الذبح و حصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب و الأجر فأوحى اللّه إليه أنّهم إنّما وجدوا تلك الدرجات لأنّهم لمّا ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود الابتلاء فأوحى اللّه إليه: إنّك ستبتلي يوم كذا فبالغ في الاحتراز ثمّ وقعت الواقعة و هي أنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس بصورة طير أحسن ما يكون في الطيور فقطع داود صلاته و قام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد داود في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيّان فاطّلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلمّا نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت فقدّم فظفر بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب داود إلى صاحبه ثانيا أن قدّم أوريا أمام التابوت فقدّمه فقتل أوريا و تزوّج داود بامرأته و كلّ هذا باطل.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في حديث عصمة الأنبياء قال: لمّا حكي هذه الرواية الفاسدة للرضا عليه السّلام ضرب الرضا يده على جبهته و قال عليه السّلام: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون لقد نسبتم نبيّا من أنبياء اللّه إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ الفاحشة ثمّ بالقتل! فقيل: يا ابن رسول اللّه فما كان خطيئة داود فقال: ويحك إنّ داود إنّما ظنّ أنّه ما خلق اللّه عزّ و جلّ خلقا هو أعلم منه فبعث اللّه إليه الملكين تسوّرا المحراب فقالا له: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ» فجعل داود على المدّعى عليه فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» و لم يسأل المدّعى البيّنة على ذلك و لم يقبل على المدّعى عليه نول له، فكان هذه خطيئته و ليس كما ذهبتم إليه ألا تسمع قول اللّه تعالى يقول:

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» فقيل: له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما قصّته مع أوريا؟ قال الرضا: إنّ المرأة في أيّام داود إذا مات بعلها

ص: 159

أو قتل لا تتزوّج بعده أبدا فأوّل من أباح اللّه أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود فتزوّج بامرأة أوريا لمّا انقضت عدّتها فذلك الّذي شقّ على الناس.

و يؤيّد هذا الحديث الصحيح ما روي في المجمع عن عليّ عليه السّلام و قد نقل هذا الحديث الرازيّ في المفاتيح عن عليّ عليه السّلام قال: لا اوتي برجل يزعم أنّ داود تزوّج بامرأة اريا بهذه النسبة الفاسدة إلّا جلّدته حدّين حدّا للنبوّة و حدّا للإسلام.

و روي عنه عليه السّلام أيضا قال: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصّاصون جلّدته مائة و ستّين جلدة.

و بالجملة فذكر هذه القصّة على ما فسّروه الحشويّة و مثل قصّة يوسف يقتضي إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون مثل هذا الذكر محترما كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا» و لا شكّ أنّ داود من كبار المؤمنين فيجب ردّ هذه الكلمات الواهية و ثبت بهذه الوجوه المذكورة أنّ القصّة الّتي ذكروها فاسدة باطلة.

فإن قيل: إنّ كثيرا من المحدّثين و المفسّرين ذكروا هذه القصّة فكيف الحال فيها؟

فالجواب أنّه لمّا وقع التعارض بين الدلائل القاطعة و بين خبر واحد من الأخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة سيّما إذا تعارض هذا الخبر مع ما روي من الحديثين الصحيحين عن عليّ عليه السّلام و عن الرضا حسبما شرحناه فحينئذ تلك الأقوال أوهن من نسج العنكبوت و أيضا فالأصل براءة الذمّة ثمّ إنّه لم يتّفق أهل التفسير على هذا القول، بل المحقّقون رووا هذا القول و حكموا عليه بالكذب و الفساد فهذا تمام الكلام في هذه القصّة.

أمّا الاحتمال الثاني و هو صدور الصغيرة عنه كما شرحناه في الوجوه الثلاثة و الّذين نسبوا إليه الصغيرة قالوا: إنّ هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثمّ خطبها داود فآثره أهلها و إنّما نسبوا هذا الأمر إلى داود صغيرة أنّ خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه و قيل: مال قلب داود إليها و سأل أوريا أن يطلقها ففعل أوريا

ص: 160

فتزوّجها داود. و هذا القول مدفوع مردود لأنّه على فرض وقوعه و صحّته لم يكن صغيرة لأنّ ذلك كان جائزا في شريعته معتادا في امّته غير مخلّ بالمروّة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن يستنزل عن امرأته فيتزوّجها إذا أعجبته و قد كان الأنصار في صدر الإسلام يواسون المهاجرين بمثل ذلك من غير نكير خلا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعظم منزلته و علوّ شأنه نبّه بالتمثيل على أنّه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد امّته و أمّا ما قالوا: إنّ داود وقع بصره عليها فمال قلبه إليها فليس له في هذا ذنب البتّة أمّا وقوع بصره عليها من غير قصد فذلك ليس بذنب و أمّا حصول الميل عقيب النظر فليس أيضا ذنب لأنّ هذا الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلّفا به فمن أين حصلت الصغيرة؟

و أمّا الاحتمال الثالث و هو ذكر هذه القصّة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة و الصغيرة بداود بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح و الثناء و هو أن تقول: روي أنّ جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ اللّه داود و كان له يوم يخلو فيه بنفسه و يشتغل بعبادة ربّه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم و «تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ» و التسوّر الإتيان من جهة السور أي أتوا من طرف المحراب إليه فلمّا دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما و حرّسا يمنعونه منعم فخافوا فوضعوا كذبا فقالوا: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» و باقي القصّة سيأتي بعيد هذا في تفسير الآية.

و بالجملة ليس في القرآن ما يمكن أن يحتجّ به في إلحاق الذنب بداود إلّا ألفاظ أربعة في الجملة ظاهرا أحدها قوله: «وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» و ثانيها قوله تعالى: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» و ثالثها قوله: «وَ أَنابَ» و رابعها قوله: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ».

فنقول: إنّ هذه الألفاظ لا تدلّ على شي ء منها على ما ذكروه من إثبات الذنب له عليه السّلام و تقريره من وجوه:

الاول أنّهم لمّا دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق و علم داود ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم إلّا أنّه مال و عدل إلى الصفح و التجاوز عنهم طلبا لمرضاة اللّه و كانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنّها جارية مجرى الابتلاء و الامتحان ثمّ إنّه استغفر

ص: 161

ربّه ممّا همّ به من الانتقام منهم و تاب عن ذلك القصد و الهمّ فغفر له ذلك القدر من الهمّ و العزم.

و الوجه الثاني أنّه و إن غلب على ظنّه أنّهم دخلوا عليه ليقتلوه إلّا أنّه ندم على ذلك الظنّ و قال: لمّا لم تقم أمارة و لا دلالة على أنّ الأمر كذلك فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظنّ الردي ء فكان هذا هو المراد من قوله: «وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» منه و قد يعبّر عن السجود بالركوع قال الشاعر:

فخرّ على وجهه راكعاو تاب إلى اللّه من كلّ ذنب

فغفر اللّه له ذلك الظنّ.

الوجه الثالث أنّ دخولهم عليه كان فتنة لداود إلّا أنّه عليه السّلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله كما قال سبحانه في حقّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» فداود استغفر لهم و أناب أي رجع إلى اللّه في طلب مغفرة ذلك القاصد للقتل و قوله: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» أي غفرنا له ذلك الذنب من الداخل القاصد لأجل احترام داود و لتعظيمه كما قال بعض المفسّرين في قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ»: إنّ معناه أنّ اللّه يغفر لك و لأجلك ما تقدّم من ذنب امّتك.

الوجه الرابع أنّه هب أنّ داود تاب عن ترك أولى صدر منه لكنّه ذلك ليست بسبب المرأة بل لو صحّ وقوعه كان سبب أنّه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني فإنّه لمّا قال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» حكم عليه بكونه ظالما بمجرّد دعوى الخصم بغير بيّنة فعند هذا اشتغل بالاستغفار و التوبة إلّا أنّ هذا من باب ترك الأفضل و الأولى و لا يلزم إسناد شي ء من الذنوب إلى داود بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه و حمل الآية على الوجوه الّتي ذكرناها أولى ممّا ذكر هؤلاء الكذبة على أنّ روايات الأئمّة صلوات اللّه عليهم ناطقة لها مثل رواية عليّ و الرضا عليهما السّلام و سوق صدر الآية حيث يخاطب سبحانه نبيّه «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» و هذا الذكر إنّما يحسن إذا كان داود قد صبر على أذاهم و تحمّل سفاهتهم و كان حسن الأعمال و السيرة و أمّا إذا حملناها على ما فسّروه و ذكروه صار الكلام متناقضا فاسدا.

ص: 162

رجعنا في تفسير الآية، قوله: [وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ و المراد بالاستفهام الترغيب في الاستماع كما ذكرنا أي هل أتاك خبرهم؟ و يعبّر بالخصم عن الواحد و الاثنين و الجماعة بلفظ واحد لأنّ أصل المصدر يقال: رجل خصم و رجلان خصم و رجال خصم [إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي حين صعدوا إليه المحراب و أتوه من أعلى سوره و هو مصلّاه و أتى بلفظ الجمع أراد الفريقين.

[إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ لدخولهم عليه في غير الوقت الّذى يحضرونه لأنّهم دخلوا عليه بغير إذنه [قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي قالوا لداود: نحن خصمان [بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فجئناك لتقضي بيننا و ذلك قوله: [فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ] أي و لا تجر علينا في حكمك و لا تجاوز الحقّ فيه بالميل لأحدنا على صاحبه [وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ] أي دلّنا إلى وسط الطريق الّذى هو طريق الحقّ.

[إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ] قال الخليل: النعجة الأنثى من الضأن و العرب تكنّي عن النساء بالنعاج و الشاة فحكى اللّه سبحانه ما قاله أحد الخصمين بقوله: «إِنَّ هذا أَخِي» صاحب كذا عدد من النعاج و لي واحدة و قال لي ضمّها إليّ و أعطنيها و اعزل لي عنها و هذا معنى: [فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في مخاطبة الكلام؛ إن بطشني كان أشدّ منّي و إن دعا كان أكثر منّي.

[قالَ داود: [لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أي إن كان الأمر على ما تدّعيه لقد ظلمك بسؤاله إيّاك بضمّ نعجتك [إِلى نِعاجِهِ .

فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرّد قول خصمة؟

قال محمّد بن إسحاق: لمّا فرغ الخصم الأوّل من كلامه نظر داود إلى الخصم الّذى لم يتكلّم و قال: لئن صدق لقد ظلمته و الحاصل أنّ هذا الكلام كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه. و قال ابن الأنباريّ: لمّا ادّعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود و لم يذكر اللّه الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه كما تقول: أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتّجرت فكسبت كما قال سبحانه: «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» (1) أي

ص: 163


1- الشعراء: 64.

فضرب فانفلق. و القول الثالث أنّ تقدير الكلام: إنّ الخصم الّذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.

ثمّ قال داود: [وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ] و الشركاء الّذين خلطوا أموالهم [لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و يتجاوزون عن حدودهم و يتعدّون بعضهم بعضا [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لأنّ مخالطة هؤلاء لا تكون إلّا لأجل الدين و طلب السعادات الروحانيّة فلا جرم لا توجب المنازعة و أمّا الّذين يكون مخالطتهم لأجل الدنيا لا بدّ و أن يكون مخالطتهم سببا لمزيد البغي و العدوان و يتبيّن من هذا الكلام و الاستثناء أنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض فلو كان داود قد بغى و تعدّى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون هو من الّذين آمنوا و معلوم أنّ ذلك باطل فثبت أنّ قول من يقول: المراد من واقعة النعجة قصّة داود قول باطل.

ثمّ قال سبحانه: [وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و «ما» زائدة مؤكّدة لمعنى القلّة و للإبهام و فيه معنى التعجّب من قلّتهم.

قوله تعالى: [وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قالوا: معناه: و علم داود أنّما فتنّاه أي امتحنّاه و السبب الّذي أوجب حمل لفظ الظنّ على العلم هاهنا أنّ داود لمّا قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثمّ صعدا إلى السماء قبل وجهه فعلم داود أنّ اللّه ابتلاه بذلك و إنّما جاز لفظ الظنّ على العلم لأنّ العلم الاستدلاليّ يشبه الظنّ مشابهة عظيمة و المشابهة علّة لجواز المجاز و هذا الكلام يتمّ إذا كان الخصمان ملكين و أمّا إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظنّ على العلم بل لمّا غلب على ظنّه حصول الابتلاء من اللّه.

[فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً] أي ساجدا [وَ أَنابَ و استغفر ربّه و سأل الغفران و لا يلزم من الاستغفار كونه عليه السّلام مرتكبا لذنب بل حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

روي أنّه عليه السّلام بقي ساجدا أربعين يوما و ليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة أو لما لا بدّ منه و لا يرقأ له دمعه حتّى نبت العشب إلى رأسه و لم يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، و جهد بنفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه حتّى كاد أن يهلك و اشتغل بذلك عن الملك حتّى وثب ابن له

ص: 164

يقال له «ايشا» على ملكه و دعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ و الباطل من بني إسرائيل فلمّا غفر له حاربه فهزمه.

قوله تعالى: [وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي قربة و كرامة بعد المغفرة [وَ حُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع في الجنّة.

[سورة ص (38): الآيات 26 الى 29]

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

ثمّ ذكر إتمام نعمه على داود بقوله: [يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي صيّرناك تدبّر امور العباد من قبلنا أو جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد اللّه و بيان شريعته [فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ أي افصل أمورهم وضع كلّ شي ء موضعه.

[وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تتبّع ما يميل طبعك إليه إذا كان مخالفا للحقّ [فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إذا اتّبعت الهوى عدل بك الهوى عن سبيل الحقّ [إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و يعدلون عن العمل بما أمرهم اللّه [لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي يعذّبون عذابا شديدا بتركهم طاعة اللّه في الدنيا و بسبب إعراضهم عن ذكر يوم القيامة فيكون «يَوْمَ» متعلّقا «بِما نَسُوا».

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا] لا غرض فيه بل لغرض فيه الحكمة و هو أنواع المنافع الجليلة من هذه الخلقة العظيمة و خلقناها لأن يستفيد العقلاء الثواب العظيم و احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمال العباد قال: لأنّها مشتملة على الكفر و الفسق و كلّها أباطيل فلمّا بيّن اللّه أنّه ما خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا دلّ هذا على أنّه لم يخلق أعمال العباد خلافا للمجبّرة

ص: 165

فإنّ عندهم أنّه سبحانه خلق الكافر لأجل أن يكفر و الكفر باطل و قد خلق الباطل.

ثمّ أكّد اللّه تعالى ذلك بأن قال: [ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي كلّ من قال بهذا القول فهو كافر فهذا تصريح بأنّ مذهب المجبّرة عين الكفر [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ] فالويل من النار حاصل للكفّار.

و اعلم أنّ قوله تعالى: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ» دالّ على صحّة القول بالحشر و النشر و القيامة و الثواب و العقاب لأنّه تعالى خلق الخلق في هذا العالم فإمّا أن يقال: إنّه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع و لا للإضرار و الأوّل باطل لأنّ ذلك لا يليق بالرحيم الكريم. و الثالث أيضا باطل لأنّ هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين فلم يبق إلّا أن يقال: إنّه خلقهم للإنفاع فنقول: و ذلك الإنفاع إمّا أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة و الأوّل باطل لأنّ منافع الدنيا قليلة و مضارّها كثيرة و تحمّل المضارّ الكثيرة للمنفعة القليلة المستهلكة لا يليق بالحكمة و لمّا بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة اخرى بعد هذه الحياة الدنيا و ذلك هو القول بالحشر و القيامة و الثواب و العقاب فهذا هو المراد من قوله: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» لأنّ من شكّ أو أنكر الحشر كان شاكّا في حكمة اللّه.

و لمّا بيّن هذا البيان فقال: [أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ] و تقرير الآية أنّا نرى في الدنيا من أطاع اللّه و احترز عن معصيته في الفقر و الزمانة و أنواع البلاء و نرى الكفرة و الفسّاق في الراحة و الغبطة فلو لم يكن حشر و نشر و معاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي و ذلك لا يليق بحكمة الحكيم العدل الرحيم و إذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أنّ إنكار الحشر و النشر يوجب إنكار الحكمة من اللّه أي كيف يمكن أن نجعل الّذين صدّقوا اللّه و رسله و عملوا الصالحات و الطاعات كالعاملين بالمعاصي في الأرض أو نجعل الّذين اتّقوا المعاصي للّه خوفا من عقابه كالفجّار الّذين تركوا الطاعات؟ إنّ هذا لا يكون أبدا.

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه فقال: [كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي هذا القرآن

ص: 166

كتاب منزل إليك مبارك كثير نفعه و خيره [لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتفكّر الناس فيه و يتّعظوا بمواعظه و من هو من اولي العقول.

و قالت المعتزلة- و نعم ما قالت-: دلّت الآية على أنّه إنّما انزل هذا القرآن لأجل الخير و الرحمة و الهداية فيلزم أنّ أفعال اللّه معلّلة برعاية المصالح و أنّه تعالى أراد الإيمان و الخير و الطاعة عن الكلّ بخلاف قول من يقول: إنّه أراد الكفر من الكافر.

و هاهنا بيان آخر و هو أنّ صدر السورة حكاية عن المستهزئين من الكفّار بأنّهم بالغوا في إنكار البعث و القيامة بحيث قالوا: «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» فقال اللّه سبحانه: «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ» و لا تعلّق بإثبات القيامة و قصّة داود حتّى ذكر سبحانه أنّ القرآن شريف كثير الخير و هذه فصول متباينة لا تعلّق للبعض منها بالبعض فكيف النظم؟ هذا تمام البيان و السؤال.

و الجواب أنّه من ابتلي بخصم جاهل جدليّ متعصّب و رآه المخاطب أنّه قد خاض في التعصّب و الإصرار وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة لأنّه كلّما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشدّ فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة و أن يخوض في كلام آخر أجنبيّ عن المسألة الاولى بالكلّيّة و يطنب في الكلام الثاني بحيث ينسى ذلك المتعصّب تلك المسألة الاولى فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبيّ و نسي الكلام الأوّل فحينئذ يدرّج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبيّ مقدّمة مناسبة لذلك المطلوب الأوّل فإنّ ذلك المتعصّب يسلّم هذه المقدّمة فإذا سلّمها فحينئذ يتمسّك بها في إثبات المطلوب الأوّل فحينئذ يصير ذلك الخصم منقطعا مفحما.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الكفّار لمّا بالغوا في إنكار الحشر إلى حيث بلغوا إلى درجة الاستهزاء بقولهم: «رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» فقال اللّه سبحانه:

يا محمّد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» و اشرع في كلام أجنبيّ و هو قصّة داود، و ذكر في آخر القصّة خلافة داود و جعله خليفة إلى أن قال له: «فَاحْكُمْ

ص: 167

بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» و كلّ من سمع هذا قال: نعم الحكم هذا حيث أمره بحكم الحقّ فاللّه الّذي يأمر خليفته بالحقّ فهو أولى بإتيان الحقّ لأنّه ربّ العالمين و لا يقضي بالباطل قطعا فحينئذ لا بدّ أن يستسلم الخصم أنّ اللّه هو الحقّ فيلزمه القبول بصحّة الحشر و القيامة لأنّ الظالم الغشوم الّذي يظلم في مدّة خمسين سنة أو أقلّ أو أكثر فقيرا صعلوكا و هو بمعزل عن ذلك الظالم و الظالم يتعاقبه و يؤذيه و هو لا يقدر دفعه فلو لم يكن دار اخرى فيجازي ذلك الظالم و يثيب ذلك المظلوم فيكون هذا الربّ الّذي يأمر خليفته بالعدل و التحرّز عن الباطل هو غير حاكم بالعدل و عامل بالباطل فبهذا الطريق اللطيف أورد اللّه تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر و القيامة و لا يمكنهم الخلاص عن قبوله.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن لا جرم وصف اللّه القرآن بالكمال و البركة فقال: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» و من لم يتدبّر و لم يساعده التوفيق الإلهيّ لم يقف على مثل هذه الأسرار العجيبة في القرآن و يزعم عدم الترتيب في النظم، انتهى.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 30 الى 40]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33) وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40)

ثمّ عطف سبحانه على قصّة داود حديث سليمان فقال:

[وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ أي أعطيناه ولدا [نِعْمَ الْعَبْدُ] سليمان إنّه رجّاع إلى اللّه في امور دينه ابتغاء مرضاته.

[إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ يجوز أن يتعلّق «إذ» بنعم العبد أي نعم العبد هو إذ عرض

ص: 168

عليه، و يجوز أن يتعلّق باذكر و المخصوص بالمدح في قوله «نِعْمَ الْعَبْدُ» محذوف فقيل: هو سليمان و قيل: هو داود و الأوّل أولى لأنّه أقرب المذكورين و لأنّه قال:

بعده «إِنَّهُ أَوَّابٌ» و لا يجوز أن يكون المراد هو داود لأنّه وصفه بهذا المعنى قد تقدّم في الآية المتقدّمة حيث قال سبحانه: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» و في الآية دلالة على أنّ من كان كثير الرجوع إلى اللّه في أكثر الأوقات يكون موصوفا بمثل هذه الصفة [بِالْعَشِيِ و العشيّ هو من حين العصر إلى آخر النهار.

عرض عليه الخيل لينظر إليها و يقف على كيفيّة أحوالها و وصف الخيل بوصفين أوّلهما [الصَّافِناتُ و الصفون صفة دالّة على حسن الفرس و هي الّتي تقوم على ثلاثة قوائم و يرفع إحدى يديها حتّى يكون على طرف الحاف و الصفة الثانية [الْجِيادُ] و الجياد جمع «جواد» و هو الفرس الشديد الجري كما أنّ الجواد من الإنسان السريع البذل و المقصود في الآية وصفها بالفضيلة و الكمال حالتي وقوفها و حركتها.

قال مقاتل: إنّ سليمان ورث من أبيه ألف فرس و كان أبوه قد أصاب ذلك من العمالقة و قيل: إنّ سليمان غزا دمشق و نصيبين فأصاب ألف فرس و قيل: كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة و كان سليمان قد صلّى الصلاة الاولى و قعد على كرسيّه و الخيل يعرض عليه حتّى غابت الشمس.

[فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي و المراد بالخير هنا الخيل فإنّ العرب يسمّي الخيل خيرا و في الحديث: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة و قيل: معناه حبّ المال و الخير بمعنى المال الكثير و قيل: إنّ هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها و في روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت و قال الجبّائيّ: لم يفته الفرض و إنّما فاته النفل الّذي كان يفعله في آخر النهار لاشتغاله بالخيل. و قيل: المعنى: إنّي أحببت حبّ الخيل على كتاب ربّي، كناية عن كتاب اللّه التوراة و كما أنّ ارتباط الخيل ممدوح في القرآن كذلك في التوراة ممدوح فحينئذ معنى «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» أي عن كتاب ربّي و هو التوراة. و «أَحْبَبْتُ» فعل يتعدّى بعن، أي اثبت حبّ الخير عن كتاب ربّي. و حاصل المعنى أنّي أحببت حبّي لهذه الخيل عن ذكر ربّي

ص: 169

يعني إنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر اللّه و أمره لا عن الشهوة و الهوى.

[حَتَّى تَوارَتْ الضمير راجع إلى الشمس لأنّه جرى ذكر ماله تعلّق بها و هو «العشي» كما أنّ ضمير «رُدُّوها» أيضا قالوا: راجع إلى الشمس و يحتمل أن يعود الضميران إلى «الصافنات» و يحتمل أن يكون الأوّل راجعا إلى «الشمس» و الثاني «بالصافنات» و يحتمل أن يكون بالعكس فهذه وجوه أربعة فالأوّل أن يكون الضميران عائدين إلى الشمس كأنّه قال: حتّى توارت الشمس [بِالْحِجابِ و غابت.

[رُدُّوها عَلَيَ أي سأل اللّه أن يردّ الشمس عليه فردّها عليه حتّى صلّى صلاة الفائتة فرضا كانت أو نفلا و على كون الضمير في «رُدُّوها» على أن يكون المراد بالخيل أي قال لأصحابه: ردّوا الخيل عليّ و على قول من يقول: إنّ الضمير في «تَوارَتْ» راجع إلى الخيل يعني توارت الخيل بالحجاب بمعنى أنّها شغلت فكره إلى تلك الحال و هي غيبوبتها عن بصره و ذلك أنّه أمر بإجراء الخيل فأجريت حتّى غابت الخيل عن بصره فقال لأصحابه: ردّوا الخيل عليّ.

قوله: [فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ قيل فيه وجوه: أحدها أنّ المسح هنا القطع و المعنى أنّه أقبل لضرب سوقها و أعناقها لأنّها كانت سبب فوت صلاته و هذا القول بعيد عن الصواب جدّا و قيل: إنّه إنّما فعل ذلك لأنّها كانت أعزّ ماله فيقرّب إلى اللّه بأن ذبحها ليصّدّق بلحومها و قيل: المعنى فجعل يمسح أعراف خيله و عراقيبها بيده حبّا لها، عن ابن عبّاس.

قال ابن عبّاس: سألت عليّا عن هذه الآية فقال عليه السّلام: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة «فقال رُدُّوها عَلَيَّ» يعني الأفراس و هي كانت أربعة عشر فأمر بضرب أعناقها و سوقها بالسيف فقتلها فسلبه اللّه ملكه أربعة عشر يوما لأنّه ظلم الخيل بقتلها فقال عليّ عليه السّلام: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر اللّه للملائكة الموكّلين بالشمس: ردّوها عليّ فردّت فصلّى العصر في وقتها و إنّ أنبياء اللّه لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم لأنّهم معصومون مطهّرون، انتهى

ص: 170

كلامه عليه السّلام.

[وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه و شدّدنا المحنة عليه [وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً] أي و طرحنا على كرسيّه جسدا و، الجسد الّذي لا روح فيه و اختلف العلماء في فتنته و امتحانه و الجسد الّذي القي على كرسيّه على أقوال:

منها أنّ سليمان قال يوما في مجلسه: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائي تلد كلّ امرأة منهنّ غلاما يضرب بالسيف في سبيل اللّه و لم يقل: إن شاء اللّه فطاف عليهنّ فلم تحمل منهنّ إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ ولد رواه أبو هريرة عن النبيّ قال: ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا فالجسد الّذي القي على كرسيّه كان هذا ثمّ أناب اللّه و فزع إلى الصلاة و الدعاء على وجه الانقطاع إلى اللّه. و هذا لا يقتضي أنّه وقع منه معصية صغيرة و لا كبيرة لأنّه و إن لم يستثن ذكره لفظا فلا بدّ من أن يكون قد استثناه ضميرا أو اعتقادا إذ لو كان قاطعا للقول بذلك لكان مطلقا لما لا يؤمّن من أن يكون كذبا إلّا أنّه لمّا لم يذكر لفظة الاستثناء عوتب على ذلك من حيث أنّه ترك ما هو مندوب إليه.

و منها ما روي أنّ الجنّ و الشياطين لمّا ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من الجهد و البلاء فأشفق سليمان منهم عليه فاسترضعه في المزن و هو السحاب فلم يشعر إلّا و قد وضع على كرسيّه ميّتا تنبيها على أنّ الحذر لا ينفع عن القدر فإنّما عوتب على خوفه من الشياطين، عن الشعبيّ و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و منها أنّه ولد له ولد ميّت جسد بلا روح فالقي على سريره.

و منها أنّ الجسد المذكور هو جسد سليمان لمرض امتحنه اللّه به فحينئذ تقدير الكلام: و ألقينا منه على كرسيّه جسدا لشدّة المرض فيكون جسدا منصوبا على الحال و العرب يقول في الإنسان إذا كان ضعيفا: هو جسد بلا روح و لحم على و ضم [ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى حال الصحّة.

و هذه الوجوه المذكورة ذكرها أهل التحقيق من المفسّرين في كيفيّة افتتان

ص: 171

سليمان في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» و لأهل الحشو في هذا الباب أقوال سخيفة على وجوه:

الأوّل قالوا: إنّ سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده يحمله الريح ففتحها و قتل ملكها و أخذ بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها فاصطفاها لنفسه و أسلمت فأحبّها و كانت تبكي أبدا على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثّل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته الّتي كان يكسي به حال حياته و كانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة و عشيّا مع جواريها يسجدون لها فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر سليمان الصورة و عاقب المرأة ثمّ خرج وحده إلى فلاة و فرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى اللّه و كانت لسلمان امّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها و كان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان و قال: يا أمينة هات خاتمي فتختّم به و جلس على كرسيّ سليمان فأتى عليه الطير و الجنّ و الإنس و تغيّرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته و طردته فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته فكان يدور في البيوت يتكفّف و إذا قال: أنا سليمان أحثوا عليه التراب و سبّوه ثمّ أخذ يخدم السمّاكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان و سأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها و لا يغتسل من جنابة.

و قيل: بل نفذ حكمه في كلّ شي ء إلّا فيهنّ ثمّ طار الشيطان و قذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة و وقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختّم به و وقع ساجدا للّه و رجع إليه ملكه و أخذ ذلك الشيطان و أدخله في صخرة و ألقاها في البحر.

و القول الثاني للحشويّة أنّ تلك المرأة لمّا أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان فكان يسقط الخاتم من يده و لا يتماسك فيه فقال له آصف: إنّك لمفتون بذنبك فتب إلى اللّه.

و القول الثالث لهم قالوا! إنّ سليمان قال لبعض الشياطين! كيف تفتنون الناس فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك فلمّا أعطاه إيّاه نبذه في البحر فذهب ملكه و قعد

ص: 172

هذا الشيطان على كرسيّه ثمّ ذكرا الحكاية إلى آخرها.

و القول الرابع لهم أنّه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيّام فسلب ملكه و القي على سريره شيطان عقوبة له.

و بالجملة إنّ أقوال الحشويّة بمعزل عن القبول و إنّ أهل التحقيق أنكروا هذه المقالات من وجوه:

الاول أنّ الشيطان لو قدر على أن يتشبّه في الصورة و الخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شي ء من الشرائع فلعلّ هؤلاء الّذين رأوهم الناس في صورة موسى و عيسى عليهما السّلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبّهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء و الإضلال و معلوم أنّ ذلك يبطل الدين بالكلّيّة.

الثاني أنّ الشيطان لو قدر على أن يعامل نبيّ اللّه سليمان بمثل هذا المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء و الصلحاء و حينئذ وجب أن يقتلهم و أن يمزّق تصانيفهم و أحاديثهم و فتاويهم و لمّا بطل ذلك في حقّ آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حقّ أكابر الأنبياء أولى.

الثالث: لو قلنا: إنّ سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه و إن لم يأذن فيه البتّة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ اللّه سليمان بفعل لم يصدر عنه فرجعت المسألة إلى وجوه ذكرناها أوّلا في الآية حيث قال: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة و لم يقل: إن شاء اللّه.

فلو قيل: إنّ ترك الاستثناء لا يوجب الذنب و لو لا تقدّم الذنب لما طلب المغفرة.

فالجواب بأنّ هذا الأمر لا ينفكّ عن ترك الأفضل إليه و حينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين و لأنّ الأنبياء و الأولياء دائما في مقام هضم النفس و إظهار الذلّة و الخضوع كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و إنّي لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة سبعين مرّة فالمراد من هذا الاستغفار هذا المعنى.

قوله تعالى: [قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ثمّ حكى سبحانه دعاء سليمان حين أناب إلي اللّه بقوله: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً».

ص: 173

فلو قيل: إنّ هذا الدعاء من سليمان يقتضي الضنّة و المنافسة لأنّه عليه السّلام لم يرض بأن يسأل الملك حتّى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه.

فالجواب أنّ الأنبياء لا يسألون إلّا ما يؤذن لهم في مسألته و لعلّ أن أعلمه أنّه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له من غيره و أعلمه أنّه لا صلاح لغيره في ذلك كما أنّ أحدنا لو صرّح في دعائه بهذا الشرط فيقول: اللّهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أنّ ذلك أصلح لي لكان ذلك منه حسنا جائزا و لا ينسب في ذلك إلى شحّ و بخل أو المعنى لا يقدر أحد على معارضته أو أنّه لمّا مرض ثمّ عاد إلى الصحّة عرف أنّ الدنيا صائرة إلى غيره فسأل ربّه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره و هو ملك الآخرة.

و ثانيها أنّه يجوز أن يكون التمس من اللّه آية لنبوّته يتبيّن بها من غيره و أراد بقوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ» غيري ممّن أنا مبعوث إليه و لم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيّين كما يقال: أنا لا اطيع أحدا بعدك أي لا اطيع أحدا سواك.

و ثالثها ما قال المرتضى: إنّه يجوز أن يكون سأل ملك الآخرة و ثواب الجنّة و يكون معنى قوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» لا يستحقّه بعد وصولي إليه أحد.

و رابعها أنّه التمس معجزة يختصّ بها كما أنّ موسى اختصّ بالعصا و اليد و اختصّ الصالح بالناقة و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمعراج و القرآن و يدلّ على هذا المعنى ما روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه صلّى صلاة فقال: إنّ الشيطان عرض لي ليفسد عليّ الصلاة فأمكني اللّه منه فدفعته و لقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتّى تصبحوا و تنظروا إليه أجمعين فذكرت قول سليمان: «ربّ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» فردّه اللّه خائبا خاسئا أورده البخاريّ و مسلم في الصحيحين.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أجاب دعاءه بقوله: [فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً] أي ريحا ليّنة طيّبة مطيعة تجري إلى حيث يشاء سليمان [حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد سليمان من النواحي و منقادة له كيف أراد قيل: كان يغدو سليمان بإيليا و يقيل بقزوين و يبيت بكابل فإن قيل: كيف وصف سبحانه الريح بالعاصف في قوله: «وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ

ص: 174

عاصِفَةً» و هنا وصفها «رُخاءً»؟ يجوز أنّ اللّه جعلها عاصفة تارة و رخاء اخرى بحسب ما أراد سليمان.

[وَ الشَّياطِينَ أي و سخّرنا له الشياطين [كُلَّ بَنَّاءٍ] في البرّ يبني له ما أراد من الأبنية الرفيعة؛ بنوا له عشر بلاد عظيمة مثل تدمر و صرواج و مرواج و بينون و سلخين و هبذه و هينذه و فلثوم و غمدان و بيت المقدس [وَ غَوَّاصٍ في البحر على اللآلي و الجواهر فيستخرج له ما يشاء منها.

[وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ] أي و سخّرنا له آخرين من الشياطين مشدّدين في الأغلال و السلاسل من الحديد و كان عليه السّلام تجمع بين اثنين و ثلاثة منهم في سلسلة لا يمتنعون عليه إذا أراد ذلك بهم عند تمرّد من حكمه. و قيل: إنّه كان يفعل ذلك بكفّارهم فإذا آمنوا و أطاعوا أطلقهم.

قوله: [هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذا الّذي أعطيناك أعط من شئت و امنع من شئت بغير حساب أي ليس عليك حرج فيما أعطيت و فيما أمسكت هذا قول ابن عبّاس. و قيل: المراد في أمر الشياطين خاصّة و المعنى أنّ هؤلاء الشياطين المسخّرين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخلّ عنه و احبس من شئت منهم في العمل بغير حساب.

و لمّا ذكر اللّه سبحانه ما أنعم به على سليمان في الدنيا أردفه بإنعامه عليه في الآخرة فقال: [وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ و قد سبق تفسيره.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]

وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة أيّوب فقال:

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد [عَبْدَنا أَيُّوبَ شرّفه اللّه بأن أضافه إلى نفسه أي اقتد يا محمّد به في الصبر على الشدائد و كان في زمن يعقوب بن إسحاق و تزوّج «ليا» بنت يعقوب و هذا هو القصّة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة و إنّ داود و سليمان كانا

ص: 175

ممّن أفاض اللّه عليه أصناف النعماء و أيّوب كان ممّن خصّه اللّه تعالى بأنواع البلاء و المقصود من هذه الآيات الاعتبار: كأنّ اللّه يقول لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اصبر على سفاهة قومك فإنّه ما كان في الدنيا أكثر نعمة و مالا وجاها من داود و سليمان و ما كان أكثر بلاء و محنة من أيّوب فتأمّل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد و العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره و المعنى أنّ نداء أيّوب حكاية عن هذا القول ب: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ» بضمّ النون و فتحها مع سكون الصاد و فتحها و ضمّها و هو التعب و المشقّة و العذاب و الألم و كان قد حصل عنده نوعان من المكروه الغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات و أيضا الألم الشديد في الجسم و لمّا حصل هذان النوعان لا جرم ذكر اللّه تعالى لفظين.

و للناس في هذا الموضع قولان: الأوّل أنّ الآلام و الأسقام الحاصلة في جسمه إنّما حصلت بفعل الشيطان، الثاني أنّها إنّما حصلت بفعل اللّه و العذاب المضاف في الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة.

فأمّا القول الأوّل فتقريره ما روي أنّ الشيطان اللعين سأل ربّه فقال: هل في عبيدك من لو سلّطني عليه يمتنع منّي فقال اللّه: نعم عبدي أيّوب فجعل يأتيه بوساوسه و هو يرى إبليس عيانا و لا يلتفت إليه فقال إبليس: يا ربّ قد امتنع فسلّطني على ماله و كان يجيئه و يقول: له هلك من مالك كذا و كذا فيقول: اللّه أعطى و اللّه أخذ ثمّ يحمد اللّه فقال إبليس: يا ربّ إنّ أيّوب لا يبالي بماله فسلّطني على ولده فجاء و زلزل الدار فهلك أولاده بالكلّيّة فجاءه و أخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا ربّ لا يبالي بما له و ولده فسلّطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيّوب و حدثت أسقام عظيمة و آلاء شديدة فيه من نفسه من نار السموم فمكث في ذلك البلاء سنين ثمّ وسوس الشيطان إلى أهل البلدة أن أخرجوه من بلدتكم فخرج إلى الصحراء و ما كان يقرب منه أحد.

ثمّ جاء الشيطان إلى امرأته و قال: لو أنّ زوجك استعان بي لخلّصته من هذا البلاء قال ابن عبّاس: إنّ إبليس تصوّر لها بصورة طبيب و قال لها: أنا اداوي أيّوب على أنّه إذا برى ء قال: أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت: نعم فذكرت المرأة ذلك لأيّوب

ص: 176

فحلف باللّه لئن عافاه اللّه ليجلّدنّها مائة جلدة و عند هذه الواقعة قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» فأجاب اللّه دعاءه و أوحى إليه أن [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي ادفع برجلك الأرض [هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ و في الكلام حذف و تقديره فركض رجله فنبعت بركضته عين ماء و قيل: نبعت عينان فاغتسل من أحدهما فبرأ و شرب من الاخرى فروي.

و المغتسل الموضع الّذي يغتسل منه فلمّا اغتسل منها أذهب اللّه عنه كلّ داء في ظاهره و باطنه و ردّ عليه أهله و ماله.

و القول الثاني و هو أنّ الشيطان لا قدرة له البتّة على إيقاع الناس في الأمراض و الآلام لأنّا لو جوّزنا حصول الموت و الحياة و الصحّة و المرض من الشيطان فلعلّ الواحد منّا إنّما وجد الحياة بفعل الشيطان و لعلّ ما حصل عندنا من الخيرات فقد حصل بفعل الشيطان و حينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أنّ معطي الحياة و الموت و الصحّة و السقم هو اللّه الثاني أنّ الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء و الأولياء و لم لا يخرب دورهم؟ الثالث أنّه تعالى حكى عن الشيطان أنّه قال: «ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (1) فصرّح سبحانه بأنّه لا قدرة له في حقّ البشر إلّا على إلقاء الوسوسة و الخواطر الفاسدة و ذلك يدلّ على فساد قول من قال: إنّ الشيطان هو الّذي ألقاه في تلك الأمراض بنفخته.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال إنّ الفاعل لهذه الأفعال هو اللّه لكن على وفق التماس الشيطان؟

قلنا: فإذا كان لا بدّ من الاعتراف بأنّ خالق تلك الآلام و الأسقام هو اللّه فأيّ فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحقّ أنّ المراد من قوله: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» أنّه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة و يمكن أنّه لمّا طالت مدّة المرض و علّته كانت شديدة الألم ثمّ تنفّر الناس عنه و عن مجاورته و أخرجوه من البلدة و منعوا امرأته من الدخول عليهم و من الاشتغال بخدمتهم لأجل تحصيل القوت فلمّا قويت تلك الوساوس في قلبه تضرّع إلى اللّه و قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ» و شقّ على ذلك فتضرّع إلى اللّه.

ص: 177


1- ابراهيم: 22.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه بقي أيّوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتّى رفضه القريب و البعيد إلّا رجلين ثمّ قال أحدهما لصاحبه: لقد أذنب أيّوب ذنبا ما أتى به أحد من العالمين و لولاه ما وقع في مثل هذا البلاء فذكروا ذلك لأيّوب فقال: لا أدري ما تقولان غير أنّ اللّه يعلم أنّي كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه إلّا في الحقّ.

و قيل: إنّ امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت و تجي ء به إلى أيّوب فاتّفق أنّهم ما استخدموها و طلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ثمّ في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة و كان أيّوب عليه السّلام إذا أراد أن يتحرّك على فراشه تعلّق بتلك الذؤابة فلمّا لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الموذية في قلبه و اشتدّ غمّه فعند ذلك قال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ».

و قيل: إنّ أيّوب قال: في بعض الأيّام يا ربّ لقد علمت ما اجتمع عليّ أمران إلّا آثرت طاعتك و لمّا أعطيتني المال كنت للأرامل قيّما و لابن السبيل معينا و لليتامى أبا فنودي من غمامة: يا أيّوب ممّن كان ذلك التوفيق فأخذ أيّوب كفّا من التراب و وضعه على رأسه و فيه و قال: يا ربّ منك ثمّ خاف من الخواطر فقال: «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ» و قد ذكروا أقوالا اخرى و اللّه العالم.

قوله تعالى: [وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ و المراد بقوله: «وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل فبعد أن أبرأه اللّه من الأسقام و المكاره بالاغتسال من العين أحيا اللّه له أهله الّذين كانوا ماتوا و هو في البليّة و أحيا له الّذين ماتوا و هو في البليّة [رَحْمَةً مِنَّا] أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إيّاه و ليتذكّر و يعتبر به أولو الألباب و يعرفوا عاقبة الصبر قالوا: إنّه أطعم جميع أهل بلدته سبعة أيّام و أمرهم أن يحمدوا اللّه.

و لمّا كان أيّوب حلف قبل ذلك على امرأته لأمر أنكره من قولها حين وسوس لها الشيطان و كان قد حلف لئن عوفي ليضربنّها مائة جلدة فقيل له: [خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً] و هو مل ء الكفّ من الشماريخ و ما أشبه ذلك و قلنا له: خذ بعدد ما حلفت به من الشماريخ [فَاضْرِبْ بِهِ دفعة واحدة فإنّك إذا فعلت ذلك برّت يمينك و «الضغث»

ص: 178

الحزمة الصغيرة من الحشيش و نحوه قوله [وَ لا تَحْنَثْ في يمينك نهاه عن الحنث أي لا تورد الحنث في يمينك و إنّ البرّ يتحقّق في يمينك بهذا العمل و لقد شرّع اللّه هذه الرخصة رحمة عليه و عليها لحسن خدمتها له و رضاه عنها قيل: و هذا الحكم باق.

و روى العيّاشيّ بإسناده أنّ عباد المكّي قال: قال لي سفيان الثوريّ إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه عليه السّلام منزلة فاسأله عن رجل زنى و هو مريض فإن أقيم عليه الحدّ خافوا أن يموت ما تقول فيه؟ قال: فسألته فقال لي: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان؟ فقلت: إنّ سفيان أمرني أن أسألك عنها فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اتي برجل قد استسقى بطنه و بدت عروق فخذيه و قد زنى بامرأة مريضة فأمر رسول اللّه فاتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة و ضربها به ضربة و خلّى سبيلهما و ذلك قوله:

«وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ».

قوله تعالى: [إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ] أي صابرا على البلاء الّذي ابتليناه به [إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع منقطع إلى اللّه.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 45 الى 54]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من حديث الأنبياء فقال:

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد لأمّتك و قومك [عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم و كريم خلالهم فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا و جزيل الثواب في العقبى كما استحقّ أولئك و إذا قرئ «عبدنا» فيكون التقدير عبدنا إبراهيم و خصّه بشرف إلى نفسه و اذكر إسحاق و يعقوب وصفهم جميعا فقال: [أُولِي الْأَيْدِي أي ذوي القوّة

ص: 179

على العبادة [وَ الْأَبْصارِ] الفقه و البصيرة في الدين و حاصل المعنى اولي العلم و العمل «فالأيدي» العمل و «الأبصار» العلم أو المراد من الأيدي النعم على عباد اللّه بالدعوة إلى الدين و المراد بالأبصار جمع البصر و هو العقل.

قوله: [إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ] أي جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار و هو أنّهم يتذكّرونها بالتأهّب للآخرة و يزهدون في الدنيا كما هو عادة الأنبياء و قيل: المراد «بالدار» الدنيا فحينئذ المراد: أبقيت لهم الذكر الجميل في الدنيا.

و قرئ «بِخالِصَةٍ» منوّنة و مضافة فمن نوّن كان التقدير: جعلناهم خالصين بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها و هي «ذِكْرَى الدَّارِ» و من قرأ مضافة فالمعنى: بما خلص من «ذِكْرَى الدَّارِ» يعني أنّ ذكر الدار قد تكون للّه و قد تكون لغيره و هم ذكرهم خالصة للّه علما و عملا كصبر إبراهيم حين القي في النار في طاعة اللّه عملا و يقينه حيث ما راجع أمره إلى غير اللّه حتّى جبرئيل، علما و صبر إسماعيل للذبح و صبر يعقوب حين فقد ولده و ذهب بصره.

و اعلم أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة لها قوّتان عاملة و عالمة فالقوّة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة اللّه و قد صدر منهم و أمّا القوّة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة اللّه و اليقين به فقوله: «أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ» إشارة إلى هاتين الحالتين.

ثمّ قال تعالى: [وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ] أي هم المختارين من أبناء جنسهم و اصطفوا للنبوّة و تحمّل أعباء الرسالة و «الأخيار» جمع خيّر أو خير مخفّفة كأموات و ميّت و ميت و هو الّذي يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة و احتجّ العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء لأنّه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق و هو يعمّ حصول الخيريّة في جميع الأفعال و الصفات.

قوله تعالى: [وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ أي و اذكر لأمّتك هؤلاء المذكورين أيضا ليقتدوا بهم و يسلكوا طريقتهم و هم قوم آخرون من الأنبياء تحمّلوا الشدائد في دين اللّه و فصّل ذكر إسماعيل عن ذكر أبيه و أخيه للإشعار بعراقته في الصبر و اليسع هو ابن أخطوب بن العجور استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثمّ صار نبيّا

ص: 180

و اللام دخل على يسع كما دخل في قوله:

«رأيت الوليد بن اليزيد مباركا» و قرئ و الليسع كأنّ أصله ليسع و اللام أصليّة فيعل ثمّ دخل عليه حرف التعريف و على القراءتين علم أعجميّ و قيل: هو يوشع. «وَ ذَا الْكِفْلِ» و هو ابن عمّ يسع و قد فرّ إليه مائة من بني إسرائيل من القتل فآواهم و كفّلهم.

[وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ] المشهورين بالخيريّة قد اختارهم اللّه للنبوّة.

[هذا ذِكْرٌ] أي شرف و ثناء حسن يذكرون به في الدنيا و قوله: «هذا ذِكْرٌ» بيان عنوان في العاجل لهم من الشأن و قسم آخر من الشأن و هو أعظم.

فشرع في تقرير الباب الثاني فقال: [وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي حسن مرجع يرجعون في الآخرة إلى ثواب اللّه و فسّر حسن المآب بقوله: [جَنَّاتِ عَدْنٍ فهي في موضع جرّ على البدل أي حسن المآب جنّات إقامة و خلود [مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي يجدون أبوابها مفتوحة و لا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتّى تفتح.

و قيل: مفتاح تلك الجنان كلمة يقال لها: انفتحي انفلقي أو الملائكة يفتح لهم و تغلق لهم متى شاءوا.

و احتجّ القائلون بقدم الأرواح بقوله: «لَحُسْنَ مَآبٍ» و بكلّ آية على لفظ الرجوع و يقولون: إنّ لفظ الرجوع إنّما يصدق لو كانت الأرواح موجودة قبل الأجساد و كانت في حضرة جلال اللّه ثمّ تعلّقت بالأبدان فعند انفصالها عن الأبدان يسمّى ذلك رجوعا.

و الجواب أنّ هذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان و كون الأرواح قبل الأجساد لا يدلّ على قدم الأرواح بل يدلّ على سبقة خلقة زمان الروح عن البدن.

قوله: [مُتَّكِئِينَ فِيها] أي مستندين فيها إلى المساند جالسين جلسة الملوك [يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ أي يتحكّمون في ثمارها و شرابها فإذا قالوا لشي ء منها:

أقبل حصل عندهم و «مُتَّكِئِينَ» حال قدّمت على العامل فيها و هو قوله: «يَدْعُونَ فِيها» فالمعنى يدعون في الجنّات متّكئين فيها بفاكهة كثيرة أي بألوان الفاكهة و أقسامها

ص: 181

و ألوان الشراب و أقسامها.

و لمّا بيّن أمر المسكن و أمر المأكول و المشروب عقّبه أمر المنكوح فقال:

[وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي و لهم في هذه الجنان أزواج قصّرن طرفهنّ على أزواجهنّ راضيات بهم و مالهنّ في غيرهم رغبة و معنى «قاصر» نقيض المادّ، يقال:

فلان قاصر طرفه عن فلان و مادّتها عينه إلى فلان قال امرؤ القيس:

من القاصرات الطرف لو دبّ محول من الذرّ فوق الإتب منها لأثّرا

[أَتْرابٌ أي أقران على سنّ واحد ليس فيهنّ عجوز و لا هرمة و أمثال و أشباه أو متساويات في الحسن و مقدار الشباب لا يكون لواحدة على صاحبتها فضل في ذلك و قيل: معنى أتراب على مقدار سنّ الأزواج كلّ واحدة منهنّ ترب زوجها لا تكون أكبر منه و «الترب» اللدة مأخوذ من اللعب بالتراب و لا يقال إلّا في الإناث.

[هذا ما تُوعَدُونَ أي ما ذكر من هذه النعم هو الّذي وعدتم به و يخاطب المتّقون فيقال لهم هذا القول [لِيَوْمِ الْحِسابِ و الجزاء.

ثمّ أخبر سبحانه عن دوام هذه النعم فقال: [إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ] و ليس له انقطاع بل هو دائم باق ببقاء اللّه.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 55 الى 61]

هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)

قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)

المعنى: لمّا بيّن أحوال أهل الجنّة و ما أعدّ لهم من النعم عقّبه ببيان أحوال أهل النار و ما لهم من أليم العذاب فقال:

[هذا] أي ما ذكرناه ثواب للمتّقين ثمّ ابتدأ فقال: [وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ الّذين طغوا على اللّه و كذّبوا رسله [لَشَرَّ مَآبٍ و هو ضدّ مآب المتّقين و فسّر ذلك الشرّ فقال:

[جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها] أي يدخلونها حال كونهم ملازمين النار [فَبِئْسَ الْمِهادُ] و المسكن و الممهّد.

ص: 182

[هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ أي هذا الجزاء للطاغين فليذوقوه حميم و غسّاق أي هذا الجزاء حميم و هو الحارّ الشديد الحرارة و الغسّاق قيح شديد النتن و العفونة خلاف الصفاء و قيل: الغسّاق ضدّ الحميم البارد الزمهرير فالمعنى أنّهم يعذّبون تارة بحال شراب الّذي انتهت حرارته و ببارد الّذي انتهت برودته فبرده يحرق كما تحرق النار و قيل: الغسّاق عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة من الحيّات و العقارب و غيرها و قيل: الغسّاق هو ما يسيل من دموعهم يسقونه مع الحميم و قيل:

الغسّاق هو عذاب لا يعلمه إلّا اللّه من شدّته و هو مأخوذ من الظلمة.

[وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي و ضروب آخر من شكل هذا العذاب و جنسه أزواج أي أنواع و ألوان متشابهة في الشدّة لا نوع واحد و الضمير في قوله. «مِنْ شَكْلِهِ» يعود إلى الحميم و يرجع إلى العذاب الّذي يعذّبون به أهل جهنّم.

و اختلفوا في المراد بالطاغين فأكثر المفسّرين حملوه على الكفّار. و قال الجبّائيّ: إنّه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفّارا أو لم يكونوا.

و احتجّ الأوّلون بوجوه: الأوّل أنّ قوله: «لَشَرَّ مَآبٍ» يقتضي أن يكون مآبهم شرّا من مآب غيرهم و ذلك لا يليق إلّا بالكفّار. الثاني أنّه تعالى حكى عنهم أنّهم قالوا: «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» و ذلك لا يليق إلّا بالكافر لأنّ الفاسق لا يتّخذ المؤمن سخريّا. الثالث أنّه اسم ذمّ و الاسم المطلق محمول على الكامل و الكامل في الطغيان هو الكافر.

و أمّا حجّة الجبّائيّ قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (1) و هذا يدلّ على أنّ الوصف بالطغيان قد يحصل في حقّ صاحب الكبيرة و لأنّ كلّ من جاوز عن تكاليف اللّه و تعدّاها فقد طغى.

و بالجملة لمّا وصف اللّه مسكن الطاغين و مأكولهم حكى سبحانه أحوالهم مع الّذين كانوا أحبّاء لهم في الدنيا أوّلا ثمّ مع الّذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانيا أمّا الأوّل فهو قوله: [هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ و هاهنا حذف أي يقال لهم: «هذا فَوْجٌ» و هم مادّة الضلالة إذا دخلوا النار ثمّ يدخل الأتباع فيقول الخزنة للقادة: هذا فوج،

ص: 183


1- الحاقة: 6.

أي قطع من الناس و هم الأتباع «مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» في النار دخلوها و الاقتحام الدخول في الشي ء بشدّة و صعوبة و قيل: يعنى بالأوّل إبليس و أولاده و بالفوج الثاني يعني بني آدم و المراد أنّ بني إبليس مقتحم مع بني آدم يدخلون النار و أنتم معهم.

[لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ] فيكون على المعنى الأوّل أنّ القادة و الرؤساء يقولون للأتباع: لا مرحبا بهؤلاء إنّهم يدخلون النار مثلنا و لازموها فيقول الأتباع لهم: [بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ و لا نلتم رحبا و سعة [أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا] و حملتمونا على الكفر الّذي أوجب لنا هذا العذاب و دعوتمونا إليه.

و أمّا على القول الثاني إنّ أولاد إبليس يقولون لبني آدم: لا مرحبا بهؤلاء قد ضاقت أماكننا بهم و نحن بسببهم في الضيق و الشدّة و قد ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ النار تضيق عليهم كضيق الزجّ بالرمح قالوا: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» أي يقول بنو آدم لبني إبليس: بل لا كرامة لكم أنتم شرّعتموه لنا و زيّنتموه في نفوسنا حتّى استوجبنا هذا العذاب [فَبِئْسَ الْقَرارُ] الّذي استقررنا عليه و هو جهنّم.

[قالُوا] ثمّ قالت الأتباع: [رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ] معناه نظير قوله تعالى: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً» (1) و المراد من «الضِّعْفِ» عذاب الضلال و عذاب الإضلال لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

هذا شرح أحوال الكفّار مع الّذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا و أمّا شرح أحوالهم مع الّذين كانوا أعداء لهم في الدنيا:

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 62 الى 70]

وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

ص: 184


1- الأعراف: 37.

فحكى سبحانه مقالات أهل النار بقوله: [وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ] فيقولون هذا الكلام حين ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم مسلكا في الدنيا و هم يعنون فقراء المسلمين أو المؤمنين و سمّوهم من الأشرار بمعنى الأراذل الّذين لا خير و لا جدوى فيهم أو لأنّهم بزعمهم على خلاف الدين.

ثمّ قالوا: [أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا] أي لمّا لم يروهم في النار قالوا: اتّخذناهم هزؤا في الدنيا فأخطأنا أم عدلت عنهم أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار قرئ «أَتَّخَذْناهُمْ» بهمزة الوصل و بهمزة القطع و وجه فتح الهمزة يكون على التقرير و عودلت «بأم» كما عودلت بأم في قوله: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ».

فإن قيل: فما الجملة المعادلة بقوله: «أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» على قول من كسر الهمزة في قوله: «أَتَّخَذْناهُمْ»؟ فحينئذ الجملة المعادلة لأم محذوفة و المعنى و التقدير: أ تراهم أم زاغت الأبصار مثل قوله: «أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» (1) لأنّ المعنى أخبروني عن الهدهد أ حاضر هو أم كان من الغائبين و «سِخْرِيًّا» إذا كان بضمّ السين فمعناه التذليل و التسخير و العبوديّة و أمّا إذا كان بكسر السين فمعناه الهزء.

قوله تعالى: [إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ] و لمّا حكى سبحانه عنهم هذه المقالات في النار من التابعين و المتبوعين فقال سبحانه: إنّ ذلك الّذي حكيناه عنهم لحقّ و لا بدّ أن يتكلّموا به ثمّ بيّن أنّ هذه المقالات تخاصم أهل النار و سمّي تخاصما هذا الكلام لأنّ قول الرؤساء: «لا مَرْحَباً بِهِمْ» و قول الأتباع: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ» من باب الخصومة و مجادلة بعضهم بعضا.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد: [إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ] أي مخوّف و محذّر من معاصي اللّه [وَ ما مِنْ إِلهٍ تحقّ له العبادة [إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] لجميع خلقه المتعالي بسعة مقدوراته فلا يقدر أحد على الخلاص من عقوبته إذا أراد عقابه.

[رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا] من الإنس و الجنّ و كلّ خلق [الْعَزِيزُ] الّذي لا يغلبه شي ء [الْغَفَّارُ] لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم و حاصل المعنى أنّه أبلغ

ص: 185


1- النمل: 20.

يا محمّد أحوال عقاب من أنكر التوحيد و النبوّة و المعاد و أحوال ثواب من أقرّ بها كما بدأ في أوّل السورة بأدلّة التوحيد و النبوّة.

قوله تعالى: [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ قل يا محمّد: هو نبؤ و اختلف في مرجع الضمير. قيل: هو القرآن أي حديث عظيم لأنّه كلام اللّه المعجز و قيل:

هو أي خبر القيامة خبر عظيم أنتم عن الاستعداد لها معرضون و غافلون و بها مكذّبون و قيل: معناه النبأ الّذي أنبأتكم به عن اللّه نبأ عظيم و ذلك لأنّ هذه المطالب الثلاثة مذكورة في أوّل السورة مثل قوله: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» و هؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال: «أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ» و القميّ: يعني به أمير المؤمنين و في البصائر عن الباقر عليه السّلام هو و اللّه أمير المؤمنين، و عن الصادق النبأ الإمامة. و قيل:

المعنى ما أنبأتكم من نبأ آدم و الملائكة و قصص الأوّلين نبأ عظيم و أنتم لا تتفكّرون فيه فتعلموا صدقي في نبوّتي.

و يدلّ على هذا المعنى قوله: [ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة [إِذْ يَخْتَصِمُونَ و هذا الكلام مسوق لتحقيق أنّ النبأ عظيم لأنّه وارد من جهته تعالى بطريق الوحي من عند اللّه «و الملأ الأعلى» هم الملائكة و قصّة آدم و إبليس و سجود الملائكة و استكبار إبليس و التقدير ما كان لي فيما سبق علم بحال الملأ الأعلى و إنّما علمته بالوحي الّذي انزل إليّ و إنّما عبّر بالمخاصمة بسبب قولهم: «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ».

و لمّا جرى هذه المناظرة و السؤال و الجواب فشابه المخاصمة و المشابهة علّة لجواز المجاز توسّعا فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه [إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما كان لي علم باختصام الملائكة لو لا أنّ اللّه أخبرني به لم يمكنني إخباركم و لكن ما يوحى إليّ أخبركم به و ليس يوحى إليّ إلّا الإنذار البيّن الواضح فأنا مخوّف و مظهر للحقّ.

ثمّ بيّن اختصام الملائكة من بيان أمر آدم بقوله:

[سورة ص (38): الآيات 71 الى 83]

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)

ص: 186

ثمّ ذكر الاختصام بقوله: [إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ] و «إِذْ» يتعلّق بقوله: «يَخْتَصِمُونَ» و إن اعترض بينهما كلام [إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني آدم.

[فَإِذا] سوّيت خلق هذا البشر و تمّمت أعضاءه و صوّرته [وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي جعلت فيه الروح إلى نفسه تشريفا له و معنى «نَفَخْتُ فِيهِ» أي تولّيت فعله من غير سبب و واسطة كالولادة المؤدّية إلى ذلك فتبيّن أنّ الإنسان مركّب من جسد و هو الطين و من نفس و هو الروح بدليل الآية و ذهبت الحلوليّة الملاعنة إلى أنّ كلمة «من» تدلّ على التبعيض و هذا يوهم أنّ الروح جزء من أجزاء اللّه تعالى و هذا في غاية الفساد لأنّ كلّ ماله جزء فهو مركّب من أجزائه و ممكن الوجود لذاته و محدث و مخلوق و هو غير اللّه.

و أمّا كيفيّة نفخ الروح و حقيقته فهي أمر لا يعلمه إلّا اللّه و ليس إلّا من عالم الأمر و القدرة و ليس لنا طريق إلى معرفته لكنّه معلوم في الجملة أنّها عبارة عن أجسام شفّافة نورانيّة علويّة العنصر قدسيّة الجوهر و هي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء و سريان النار في الفحم.

قوله: [فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر سبحانه الملائكة بعد التسوية و نفخ الروح بالتعظيم و السجود له و توجّه أمر اللّه عليهم بالسجود له و أمّا أنّ المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض أو دخل فيه ملائكة السماوات جميعا كما هو المستفاد مثل جبرئيل و ميكائيل و الروح الأعظم المذكور في قوله: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا» (1) ففيه مباحث عميقة.

ص: 187


1- النبأ: 38.

و احتجّ بعض الجهلة بإثبات الأعضاء و الجوارح للّه تعالى بقوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» بأنّ ظاهر الآية يدلّ عليه فوجب المصير إليه و آيات كثيرة واردة على وفق هذه الآيات فوجب القطع به.

و الجواب أنّ الدلائل القطعيّة على نفي كونه جسما مركّبا كثيرة و قد سبق ذكرها في مواضع و لكن لا بأس بذكر نكتة منها حتّى تجري مجرى الإلزام لأنّ من قال: إنّ اللّه تعالى شأنه مركّب من الأعضاء و الأجزاء لزمه تعالى من هذا القول إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح فضلا عن بطلان التركيب الّذي هو أصل أصيل لأنّه يلزمه إثبات وجه لا يوجد منه إلّا رقعة الوجه لقوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) و يلزمه تعالى أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنا» (2) و أن يثبت له جنبا واحدا لقوله: «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ» (3) و أن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله: «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» (4) و بتقدير أن يكون له يدان فإنّه يجب أن يكون يده تعالى من الحجر الصلب لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض و أن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» (5) فحينئذ الحاصل من مثل هذه الصورة أقبح الصور بحيث لو كان صاحب هذه الصورة عبدا لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل: إنّ أحسن الخالقين صورته كذلك فتبيّن أنّ المراد من قوله:

«بِيَدَيَّ» و أمثاله ليس معنى الظاهر بل القدرة بحكم العقل و النقل تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

قوله: [فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ مفسّر في سورة البقرة و الغرض و النظم في الآية المنع من الحسد و الكبر و الكفّار إنّما نازعوا محمّدا في نبوّته بسبب الحسد و الكبر فاللّه تعالى ذكر هذه القصّة ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الصفتين المذمومتين.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ العلماء ذكروا في قوله: «بِيَدَيَّ» وجوها: الأوّل أنّ

ص: 188


1- القصص: 88.
2- الجاثية: 14.
3- الزمر: 56.
4- يس: 71.
5- القلم: 42.

المراد من «اليد» القدرة و الاستيلاء تقول العرب: مالي بهذا الأمر من يد أي من قوّة و طاقة. الثاني اليد عبارة عن النعمة. الثالث أنّ لفظ اليد قد يراد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان: هذا ما كسبت يداك.

فلو قيل: حمل اليد على القدرة غير جائز لأنّه لو كانت اليد عبارة عن القدرة فكلّ شي ء مخلوق بالقدرة حتّى إبليس و لم تكن هذه العلّة علّة لكون آدم مسجودا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجود الآدم و كذلك لو كانت اليد عبارة عن النعمة فهو أيضا باطل لأنّ نعم اللّه كثيرة «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1) و النعمة مخلوقة فحينئذ هذا الأمر لا يكون سبب الكمال بل سبب النقصان؛ لكنّ المعنى أنّ السلطان العظيم إذا كان له عناية شديدة في عمل يجعل العناية الشديدة بمنزلة العمل باليد شخصا مجازا لاهتمام الأمر به و توسّعا.

و بالجملة قوله: [قالَ ... ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ هذا سؤال توبيخ و معنى «لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» تولّيت خلقه من غير واسطة و مثل هذا المعنى قوله: «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» [أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي أ رفعت نفسك فوق قدرك و تعظّمت عن امتثال أمري أم كنت من الّذين تعلو أقدارهم عن السجود فتعاليت عنه؟

[قالَ إبليس: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و فضّل النار على الطين [قالَ اللّه سبحانه: [فَاخْرُجْ مِنْها] من الجنّة أو من السماوات [فَإِنَّكَ رَجِيمٌ طريد و مبعد عن رحمتي [وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ .

[قالَ إبليس عند ذلك: [رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أخّرني إلى يوم يحشرون و هو يوم القيامة [قالَ اللّه: [فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من المؤخّرين [إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و إنّما طلب الإنظار إلى يوم القيامة لأجل أن يتخلّص من الموت لأنّه إذا انظر إلى يوم البعث و لم يمت قبل يوم البعث فعند مجي ء يوم البعث لا يموت أيضا فحينئذ يتخلّص من الموت فقال اللّه تعالى: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» أي إلى يوم يعلمه اللّه و لم ينظره إلى يوم القيامة.

ص: 189


1- ابراهيم: 36.

[ف قالَ إبليس: [فَبِعِزَّتِكَ أي اقسم بقدرتك الّتي تقهر بها جميع المخلوقين [لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي أدعو بني آدم إلى الغيّ و ازيّن لهم القبا إلّا عبادك الّذين استخلصتهم و عصمتهم فلا سبيل لي عليهم و غرضه اللعين من هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنّه علم أنّه لا قدرة له عليهم و لو لم يستثن لظهر كذب و إذا كان الكذب أمر يستنكف منه إبليس مع هذه الشقاوة فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «وَ ما أَرْسَلْنا ... مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (1)؟

فالجواب أنّه لم يقل: إنّي لم أقصد إغواء عباد اللّه المخلصين و هو و إن كان يقصد الإغواء إلّا أنّه لا يغويهم حيث لا قدرة له عليهم.

فائدة قوله: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» يدلّ على أنّ إبليس لا يغوي عبادك المخلصين فمن وصفه سبحانه في كتابه بأنّه من المخلصين معصوم مثل يوسف و أمثاله و ذلك يدلّ على كذب الحشويّة و الّذين ينسبون الأنبياء إلى القبائح و ينسبون إليها بعض المعاصي.

قوله تعالى: [سورة ص (38): الآيات 84 الى 88]

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

قال اللّه تعالى: [فَالْحَقُّ وَ الْحَقَ قرأ عاصم و حمزة «فَالْحَقُّ» بالرفع «وَ الْحَقَّ» بالنصب و الباقون بالنصب فيهما أمّا الرفع فتقديره فالحقّ فسمي فيكون مبتدءا و حذف الخبر و أمّا النصب فيهما فتشبّها بالقسم فيكون الناصب له ما ينصب القسم من نحو اللّه لأفعلنّ فيكون التقدير الحقّ لأملأنّ و الحقّ منصوب بأقول أي أقول الحقّ و يجوز أن يكون «وَ الْحَقَّ» تأكيدا لقوله: «فَالْحَقُّ».

و بالجملة [لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي جنسك و هم الشياطين المتمرّدة [وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من الشياطين التابعين لك أو المراد من قوله «مِمَّنْ تَبِعَكَ» من بني آدم

ص: 190


1- الحج: 52.

و قوله: [أَجْمَعِينَ تأكيد من ضمير «مِنْكَ» أو ضمير «مِنْهُمْ».

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة: [ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي و القرآن و الدعوة إلى اللّه [مِنْ أَجْرٍ] و مال تعطونيه [وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ لهذا القرآن من تلقاء نفسي أو المعنى ما أتيتكم رسولا من قبل نفسي و لم تكلّف هذا الإتيان بل أمرت به [إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما القرآن إلّا موعظة لخلق و شرفا لمن آمن به.

[وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ يا كفّار مكّة خبر صدق القرآن بعد الموت و من عاش علم ذلك إذا ظهر أمره و علا حكمه.

فائدة علمية إذا خالف القياس النصّ يجب تركه و متابعته و العمل به يوجب الخذلان كما أوجب على إبليس الطرد و اللعن لأنّه قاس من مقدّمة كاذبة و خالف النصّ حيث؟؟؟: من كان أصله خير من أصل غيره فهو خير منه لأنّي خلقت من نار و خلق آدم من؟؟؟ فأنا أشرف منه و لا يجوز سجود الأشرف لغير الأشرف لأنّ الأجرام الفلكيّة أشرف؟؟؟ الأجرام العنصريّة و النار أقرب العنصر الفلك من الأرض و الأرض أبعدها عنه النار مضيئة في العالم و الأرض غبراء كثيفة و اللطافة أشرف من الكثافة و النار خفيفة؟؟؟ الروح و الأرض ثقيلة يشبه الجسد و الروح أفضل من الجسد و العنصر الثقيل عون؟؟؟ تركيب الأجساد و العنصر الخفيف أعون على توليد الأرواح و أشرف أعضاء الحيوان القلب و الروح و هما على طبيعة النار و أخسّ أعضاء الحيوان هو العظم و هو بارد يابس؟؟؟ و الأجسام الأرضيّة كلّما كانت أشدّ نورا و مشابهة بالنار كانت أشرف و كلّما كانت أكثر؟؟؟ و كدورة و مشابهة بالأرض كانت أخسّ مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب و الياقوت و الأحجار الصافية النورانيّة كالجواهر و أشرف أجسام العالم الجسمانيّ هو الشمس؟؟؟ أشبه بالنار في صورته و طبيعته و أثره و توليد المركّبات لا تتمّ إلّا بالحرارة النار القوّة الفاعلة و الأرض القوّة المنفعلة و الفعل أفضل من الانفعال.

و من هذه المقامات الباطلة استكبر اللعين و آل أمره إلى ما آل لأنّ كلّ هذه

ص: 191

الوجوه الّتي قاسها اللعين امور اعتباريّة لا متأصّلة و الأمر المتأصّل و الشرف الأصيل جعله اللّه أصيلا و أودع فيه حكمته.

و كلّ هذه الوجوه متناقضة بمثلها مثاله أنّ الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبّة؟؟؟

إليك شجرة مثمرة و النار خائنة تفسد كلّما أسلمته إليها، و كذلك الأرض مستولية بالقدرة على النار فإنّها تطفئ النار، و أمّا النار فإنّها لا تؤثّر في الأرض الخالصة فالنار منفع و الأرض فاعلة و قول اللعين: إنّ من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه هذه المقدّمة كان لأنّ أصل الرماد النار و أصل الفواكه و الثمار هو الأرض و معلوم بالضرورة أنّ الأشجار المثمرة خير من الرماد ثمّ هب أنّ اعتبار مثل هذه الجهات يوجب الفضيلة إلّا أنّ هب يمكن أن يصير معارضا بجهة اخرى أقوى و أولى مثل إنسان أصيل نسيب لكنّه عار عن؟؟؟

الفضائل و رجل غير نسيب يكون كثير العلم و الفضائل فيكون هو أفضل من ذلك الرجل النسيب العاري فثبت أنّ قياساته باطلة و لمّا عارض النصّ فأبطل.

فإن قيل: هب أنّ إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة فإنّ قوله تعالى: «اسْجُدُوا»* أمر و الأمر إذا لم يكن حقيقة في الوجوب و يكون حقيقة في الندب فمخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر و هب أنّ الأمر حقيقة في الوجوب لكنّه محتمل للندب و مع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر؟ و هب أنّه للوجوب فإذا كان الخطاب للملائكة و على كون إبليس لم يكن من الملائكة لا يدخل في الأمر فخصّص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس. ثمّ هب أنّه لم يسجد مع علمه بأنّه كان مأمورا به إلّا أنّ هذا المقدار يوجب العصيان و لا يوجب الكفر فكيف لزمه؟

فالجواب أنّه هب أنّ صيغة الأمر لا تدلّ على الوجوب لكن إذا ضمّت إليها من القرائن ما يدلّ على الوجوب وجب العمل به و قد حصلت تلك القرائن بقوله: «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» فاللعين أتى بذلك القياس ليتوسّل به إلى القدح و الجحود في أمر اللّه و تكليفه و ذلك يوجب الكفر قطعا بل أعلى درجة الكفر لأنّ الجحود أقبح أقسام الكفر.

ص: 192

و اعلم أنّه ثبت في أصول الفقه أنّ ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف و هاهنا الحكم بكونه رجيما و رد عقيب ما حكي عنه أنّه خصّص النصّ بالقياس فهذا يدلّ على أنّ تخصيص النصّ بالقياس يوجب هذا الحكم، انتهى تمّت السورة.

ص: 193

سورة الزمر

اشارة

و تسمى سورة الغرف و هي مكّيّة كلّها، و قيل: ثلاثة منها نزلن بالمدينة في وحشيّ قاتل حمزة «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ إلى آخرهنّ» و قيل: فقط آية «قُلْ يا عِبادِيَ» مدنيّة.

قال ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللّه رجاه و أعطاه ثواب الخائفين الّذين خافوا اللّه.

و روى هارون بن خارجة عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة الزمر أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة و أعزّه بلا مال و لا عشيرة حتّى يهابه من يراه و حرّم جسده على النار و يبنى له في الجنّة ألف مدينة في كلّ مدينة ألف قصر في كلّ قصر مائة حوراء و له مع ذلك عينان تجريان و عينان نضّاختان و جنّتان مدهامّتان و حور مقصورات في الخيام.

التفسير:

اشارة

ختم اللّه سورة ص بذكر القرآن و افتتح هذه السورة أيضا بالقرآن فقال:

ص: 194

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

تَنْزِيلُ مبتدأ و خبره «مِنَ اللَّهِ» أو خبر مبتدء محذوف أي هذا تنزيل الكتاب.

عظّم اللّه أمر القرآن و حثّ المكلّفين على القيام بما فيه و اتّباع أوامره و نواهيه بأن قال:

[تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ] المتعالي عن المثل و الشبه [الْحَكِيمِ في أفعاله و الحكيم هو الّذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة و هذا إنّما يتمّ إذا كان عالما بجميع المعلومات و غنيّا عن جميع الحاجات و وصف نفسه سبحانه تعالى بالعزّة تحذيرا من مخالفة كتابه.

[إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ و لم ننزّله بغير غرض و أنزلنا بالأمر الحقّ و الدين الصحيح [فَاعْبُدِ اللَّهَ و توجّه عبادتك إلى اللّه وحده [مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ من شرك الأوثان و الأصنام و معنى الإخلاص أن يقصد العبد بنيّته و عمله إلى خالقه و لا يشوبه أمر آخر من الرياء و السمعة و غرض غير اللّه و لا يكون فيه وجه من وجوه الدنيا و هو الإسلام و شهادة أن لا إله إلّا اللّه على حسب الحقيقة و هو الاعتقاد الواجب في التوحيد و العدل و النبوّة و الشرائع و الإقرار بها على حسب الجزم و اليقين و العمل بموجباتها و البراءة من

ص: 195

كلّ دين سواها فليكن العبد مشتغلا بعبادة اللّه على سبيل الإخلاص لقوله تعالى:

«فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً» و متبرّئا عن عبادة غيره و أن لا يجعل للّه تعالى في العبادة شريكا و هو المراد من قوله تعالى: [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ لأنّ قوله: «أَلا لِلَّهِ» يفيد الحصر و معنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور و ينتفي عن غير المذكور كما أنّ قوله تعالى:

«وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (1).

و شرط المعتزلة في قبول العبادات التخلّص من الكبائر و قال غيرهم: إنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان كما أنّ الطاعة لا تنفع مع الكفر محتجّين بما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اللّه: لا إله إلّا اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي و بالجملة فالمسألة خلافيّة بين الأشاعرة و المعتزلة و الأكثرون على أنّ الآية متناولة لكلّ ما كلّف اللّه به من الأوامر و النواهي و هذا هو الأولى و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (2) نعم إنّ شهادة أن لا إله إلّا اللّه بمنزلة العمود و لكن أين الطنب و عمود الخيمة لا ينتفع به إلّا مع الطنب النهاية أنّ صاحب هذه الكلمة لا يخلّد و مع ذلك هذه الكلمة مشروطة بشرائط و ليست مطلقة قال القاضي عبد الجبّار: و أمّا ما يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لمعاذ و أبي الدرداء: و إن زنى و إن سرق، على رغم أبي الدرداء فإن صحّ فإنّه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة لأنّه مخالف للقرآن قال القاضي: و لأنّه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزنى و السرقة لأنّه يعلم أنّه لا يضرّه مع التمسّك بالشهادتين فكان ذلك إغراء بالقبيح و هو ينافي الحكمة انتهى كلام القاضي.

فلو قيل: إنّ القول بأنّه يزول ضرر العصيان بالتوبة يوجب أيضا الإغراء بالقبيح.

فنقول: ليس الأمر كذلك لأنّا نعتقد و نقول: إنّ فعل القبيح مضرّ لكنّه يزول ذلك الضرر بفعل التوبة في الجملة إذا كانت مقبولة و مأتيّة بشرائطها و آدابها و لمّا كان الإتيان بالشرائط و الآداب غير محقّق و القبول أيضا غير يقينيّ فحينئذ لا يكون إغراء

ص: 196


1- البينة: 5.
2- المائدة: 30.

بالقبيح بخلاف قول من يقول: إنّ فعل القبيح لا يضرّ مع الشهادتين ثمّ من أين تحقّق قول القاضي من أنّ القول به مخالف للقرآن لأنّه لمّا لم يحصل القطع بحصول العفو في حقّ كلّ أحد من الناس و العاصين كان الخوف حاصلا للعاصي في القبول فلا يكون حينئذ الإغراء حاصلا انتهى.

قوله تعالى: [وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] أي زعموا أنّ لهم من دون اللّه مالكا عليكم و التقدير: أنّهم يقولون: [ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فمرادهم أنّ عبادتهم لها تقرّبهم إلى اللّه و معنى «زُلْفى أي قربى و التقدير ليقرّبونا قربى و حاصل الكلام أنّ العبّاد للأوثان و الأصنام و الملائكة و الشمس و القمر كانوا يقولون: إنّ الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر، و البشر اللائق به أن يشتغل بعبادة الأكابر من هؤلاء مثل الكواكب و مثل الأرواح السماويّة ثمّ إنّها تشتغل بعبادة الإله الأكبر و يتشفّعون لنا.

فاقتصر سبحانه في الجواب لهم بإسماع التهديد و التخويف فقال: [إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و قد يكون الدعوى من الخصم واهية بحيث لا تكون قابلة للاستدلال في ردّه فحينئذ يكون الجواب التهديد و التخويف فإنّ وصفهم لهذه الأوثان و الأصنام بأنّها آلهة و مستحقّة للعبادة مع علمهم بأنّها جمادات خسيسة و هم نحتوها و كانت قبل ساعة أو سنة شجرة في بستان أو صخرة في جبل و هم بأيديهم عملوها و العلم الضروريّ حاكم بأنّ وصف هذه الأشياء بالإلهيّة و الإدراك و القوّة و التصرّف كذب محض فلا يكون جوابهم إلّا التهديد و قد كفروا بنعمة اللّه فإنّ العبادة نهاية التعظيم و هي لا تليق إلّا لمن صدر منه هذه النعمة فعبادة غير المنعم كفران نعمة المنعم.

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى طريق الجنّة أو لا يحكم بهدايته إلى الحقّ [مَنْ هُوَ كاذِبٌ على اللّه و على رسوله [كَفَّارٌ] بما أنعم اللّه عليه و ليس مراده سبحانه من الهداية الهداية إلى الإيمان لقوله سبحانه: «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ» (1).

قوله تعالى: [لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] على ما يقوله هؤلاء من أنّ الملائكة

ص: 197


1- حم السجدة: 17.

بنات اللّه أو ما يقوله النصارى: من أنّ المسيح ابن اللّه أو اليهود من أنّ عزيرا ابن اللّه.

قوله: [لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] أي لاختار من خلقه ما يشاء أي ما كان يتّخذ الولد باختيارهم حتّى يضيفوا من شاءوا بل يختصّ ما يشاء لذلك و مثله قوله: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» (1) و هو منزّه عن مثل هذه النسبة لأنّه الواحد الحقيقيّ و الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشي ء ينفصل عنه و إذا كان كذلك فيكون ذا أجزاء فهو مركّب محتاج إلى جزئه و لا يتصوّر الفرديّة المطلقة مع حصول الأجزاء و شرط الولديّة أن يكون الولد مماثلا في تمام الماهيّة للوالد فيكون حقيقة الولد حقيقة الوالد حقيقة نوعيّة محمولة على شخصين أو ثلاث و هذا الشخص لا يكون واجب الوجود لذاته و لا يكون واحدا القهّار لخلقه بالموت و الفناء.

ثمّ نبّه على قدرته بقوله: [خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلمّا طعن في الآية السابقة جعل الأصنام المخلوقة و عباده المربوبة كونها آلهة ذكر في هذه الآية الصفات الّتي باعتبارها يحصل الإلهيّة و الخالقيّة فاستدلّ بقدرته على خلق السماوات و الأرض و اختلاف حال الأفلاك و الليل و النهار و هو المراد بقوله:

[يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ و بيانه أنّ النور و الظلمة آيتان عجيبتان و في كلّ يوم يغلب هذا تارة ذاك و ذاك تارة هذا ففي هذا الاختلاف دلالة على أنّ كلّ واحد منهما مغلوب و مقهور بغالب و قاهر و مسخّر لهما يكونان تحت حكمه و تدبيره و معنى «يُكَوِّرُ» يدخل فما يزيد في أحدهما ينقص من الآخر و الشمس سلطان النهار بل الحاكم و القمر سلطان اللّيل و أكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما و قد قدّر حركتهما بطرز مخصوص إلى زمان مخصوص مسمّى و هو يوم القيامة و هما مسخّرتان بأمره.

[أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] و هو سبحانه مع هذه القدرة العظيمة غفّار عظيم الرحمة و الفضل و الإحسان و المراد من بيان الآية أنّ من هو قادر على خلق السماوات و الأرض و تسخير الشمس و القمر و تكوير الليل و النهار ليس بمحتاج في اتّخاذ الولد منزّه عنه.

قوله تعالى:

ص: 198


1- الأنبياء: 17.

[سورة الزمر (39): الآيات 6 الى 10]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)

المعنى: فبعد أن استدلّ على كمال قدرته بخلق الآفاق استدلّ في هذه الآية بخلق الأنفس فاستدلّ بخلق آدم و ذرّيّته فقال:

[خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] يعني آدم لأنّ جميع البشر من نفسه و نسله [ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها] يعني حوّاء من فضل طينه و قيل: من ضلع من أضلاعه و «ثم» يقتضي التراخي و المهلة.

و بعد ذلك استدلّ سبحانه بخلق الحيوان فقال: [وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و هي الإبل و البقر و الضأن و المعز ذكرا و أنثى و معنى «الإنزال» هنا الإحداث و الإنشاء كقوله: «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» (1) و لم ينزل اللباس و لكن أنزل الماء الّذي هو سبب القطن و الصوف و اللباس يتكوّن منهما فكذلك هنا الأنعام تكوّن بالنبات و النبات يكوّن بالماء أو المعنى أنّه أنزلها بعد أن خلقها في الجنّة و في الخبر:

الشاة و الإبل من دوابّ الجنّة و قيل: إنّ المعنى جعل الأنعام نزلا و رزقا لكم.

قوله: [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما ثمّ يكسي العظام لحما ثمّ ينشئ خلقا آخر و قيل: معناه خلقا في

ص: 199


1- الأعراف: 25.

بطوق الأمّهات بعد الخلق في ظهر آدم عليه السّلام [فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة و قيل: الصلب و الرحم و البطن.

ثمّ خاطب سبحانه خلقه فقال [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الشي ء الّذي عرفتم و بيّنّا من عجائب الأفعال و صنعه هو اللّه ربّكم و خالقكم يملك التصرّف فيكم [لَهُ الْمُلْكُ لا لغيره [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] لأنّه لو ثبت إله آخر فذلك الإله إمّا أن يكون له الملك أو لا يكون فإن كان له الملك فحينئذ يكون كلّ واحد منهما قادرا مالكا و يجري بينهما التمانع و إن لم يكن للثاني شي ء من الملك و القدرة فيكون ناقصا و لا يصلح للإلهيّة.

ثمّ زيّف سبحانه طريقة المشركين بقوله: [فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن طريق الحقّ مثل قوله: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»* قالت المعتزلة ردّا على الأشاعرة بأنّ هذا الكلام تعجّب و إنكار عن هذا الانصراف و لو كان الفاعل لذلك الصرف هو اللّه لم يبق لهذا الإنكار و التعجّب معنى لأنّه تعالى لو كان هو الصارف كما قالت الجبريّة فممّ يستنكر و ممّن يتعجّب فثبت أنّ الصارف غيره.

قوله تعالى: [إِنْ تَكْفُرُوا] أي تجحدوا نعمة اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ و عن عبادتكم و شكركم فلا يضرّه كفركم [وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ] و في الآية أوضح دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد لأنّه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا لعبده و كيف يتصوّر أن يرضى بشي ء و لم يرده ألا ترى أنّه يستحيل أن نريد من غيرنا أمرا و يقع على وفق ما نريد فلا نكون راضين به أو أن نرضى شيئا و لم نرده.

[وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ و إن تشكر اللّه تعالى على نعمه و تعترفوا بها يرضه لكم و الهاء في «يَرْضَهُ» راجعة إلى المصدر الّذي دلّ عليه الفعل و هو قوله: «وَ إِنْ تَشْكُرُوا» و التقدير: يرضى الشكر لكم مثل قولهم: من كذب كان شرّا له أي كان الكذب شرّا له.

[وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة ثقل اخرى أي لا يؤاخذ بالذنب إلّا من يرتكبه و يفعله [ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم [فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ

ص: 200

تَعْمَلُونَ أي يجازيكم بحسب عملكم [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و لا يخفى عليه سرّ و علانية.

قوله تعالى: [وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ] من شدّة و مرض و قحط و كلّ أنواع الضرّ [دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه وحده لا يرجو سواه و لا يرجع في طلب دفعه إلّا إلى اللّه [ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه [نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي نسي الضرّ الّذي كان يدعو اللّه إلى أن يكشفه من قبل نيل هذه النعمة أي نسي الدعاء الّذي كان يتضرّع به إلى اللّه أو نسي اللّه الّذي كان يتضرّع إليه و رجع إلى المعاصي و عبادة الأصنام.

و المراد بالإنسان قيل: أقوام معيّنون مثل عتبة بن ربيعة و غيره و قيل: المراد به الكافر الّذي تقدّم ذكره و في قوله: «خَوَّلَهُ» قيل: من قوله: «فلان خائل مال» إذا كان متعهّدا له حسن القيام به و منه ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة و قيل: من مادّة خال يخول إذا اختال و افتخر و في هذا المعنى قالت العرب: «إنّ الغنيّ طويل الذيل ميّاس» و كلمة «ما» في الآية بمعنى «من» كقوله: «وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (1) و قوله: «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ»* (2) و قوله: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (3).

قوله: [وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً] أي يرجع هذا الإنسان الكافر إلى عبادة الأصنام و سمّي له أمثالا في توجيه عبادته إلى الأصنام [لِيُضِلَ الناس [عَنْ سَبِيلِهِ أي عن دينه أو يضلّ هو عن الدين و اللام لام العاقبة و ذلك أنّهم لم يفعلوا ما فعلوه و غرضهم ذلك لكن آل أمرهم إليه و هو المراد من معنى لام العاقبة [قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا] و هذا أمر معناه الخبر كقوله: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، و المعنى أنّ مدّة تمتّعه في الدنيا قليلة زائلة [إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ] تعذّب فيها دائما.

ص: 201


1- الليل: 3.
2- الجحد: 3 و 5.
3- النساء: 3.

قوله: [أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أي هذا الّذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة و قيام الليل و قيل: صلاة الليل عن الصادق عليه السّلام [آناءَ اللَّيْلِ أي ساعات الليل و القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الصلاة صلاة القنوت و هو القيام فيها و «آناءَ اللَّيْلِ» أوقاته أوّله و وسطه و آخره و عبادة الليل أفضل لأنّها أستر على العيون فيكون أبعد عن الرياء لأنّ الظلمة تمنع الأبصار و نوم الخلق يمنع من السماع فالقلب يكون أفرغ، و ترك النوم أشقّ فيكون الثواب أكثر كما قال سبحانه: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا» (1).

قوله: [ساجِداً وَ قائِماً] أي يسجد تارة و يقوم اخرى في الصلاة و في الكلام حذف و التقدير: أمّن هو قانت كغيره [يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي يتردّد بين الخوف و الرجاء أي ليسا سواء و هو قوله:

[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بمثل هذه الأمور و يتّعظ ذوي العقول من المؤمنين عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: نحن الّذين يعلمون و عدوّنا الّذين لا يعلمون و شيعتنا أولو الألباب.

[قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا] «قل يا محمّد: يا عبادي الّذين صدقوا بتوحيد اللّه [اتَّقُوا] عقاب [رَبَّكُمْ باجتناب معاصيه.

و تمّ الكلام ثمّ قال سبحانه: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] أي فعلوا الأفعال الحسنة و الأعمال الصالحة و أحسنوا إلى غيرهم [فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ] أي ثناء حسن و ذكر جميل و مدح و شكر و صحّة و سلامة و قيل: معناه الّذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم مثوبة حسنة في الآخرة و هو الخلود في الجنّة و التنكير في «الحسنة» للتعظيم.

[وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ] و المراد أنّه لا عذر للمقصّرين في الإحسان حتّى أنّهم إن اعتلّوا بأوطانهم و بلادهم بأنّهم لا يتمكّنون فيها من التوفرة على الإحسان قيل لهم:

إنّ أرض اللّه واسعة فتحوّلوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات و العبادات و الاقتداء بالأنبياء في مهاجرتهم لتزدادوا إحسانا إلى إحسانهم

ص: 202


1- المزمل: 6.

و قيل: المراد حث لهم على الهجرة من مكّة و قيل: المعنى: و أرض الجنّة واسعة فاطلبوها بالأعمال الصالحة.

[إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ أي ثوابهم على طاعتهم و صبرهم على شدائد الدنيا [بِغَيْرِ حِسابٍ لكثرته لا يمكن عدّه و حسابه روى العيّاشيّ بالإسناد عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل الصبر في الشدائد ميزان و لم ينشر لهم ديوان بل يصبّ الرحمة عليهم صبّا حتّى يتمنّى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل ثمّ تلا هذه الآية «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».

قوله: [سورة الزمر (39): الآيات 11 الى 20]

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

النظم قيل: إنّ كفّار قريش قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما حملك على هذا الّذين الّذي آتيتنا به ألا تنظر إلى ملّة قومك و سادات عشيرتك يعبدون اللّات و العزّى فأنزل اللّه:

[قُلْ يا محمّد: [إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ و العبادة الخالصة ما لا يشوبه الشرك بل شي ء من المعاصي [وَ أُمِرْتُ أيضا [لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فيكون لي فضل السبق (1) و ثوابه و التكليف نوعان أحدهما الاحتراز عمّا لا ينبغي و الثاني

ص: 203


1- يريد ان الأولية ليست من جهة الإسلام و الايمان فان أول من آمن بهذه الشريعة و عرفها و اسلم للّه لا بد و ان يكون الرسول نفسه و لا يمكن غير ذلك حتى يؤمر النبي بذلك بل المرادان يكون الرسول في طاعة اللّه و اجراء أحكامه الواجبة و المندوبة سابقا على المؤمنين و المسلمين.

الأمر بتحصيل ما ينبغي و يعبّر بالتخلية و التحلية فالعبادة لها ركنان عمل القلب و عمل الجوارح و تكرار «أُمِرْتُ» مشعر لهذا المعنى فليس بتكرار فالأمر مشترك معناه في الوجوب و الندب و الإباحة و مشترك اللفظيّ كالعين.

[قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة و لمّا بيّن سبحانه و أمره بالإخلاص بالقلب و بالأعمال الجوارحيّة و كان الأمر يحتمل الوجوب و الندب بيّن أنّ الأمر للوجوب بقوله: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ» إلخ، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جلالة قدره و شرف نبوّته إذا وجب أن يكون خائفا من المعاصي فغيره أولى بذلك و إذا كان تارك الأمر عاصيا و خائفا فتحقّق حينئذ أنّ الأمر للوجوب.

[قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ و هذا تأكيد في حصر العبادة له سبحانه يعني اللّه أعبد و لا أعبد سواه و أنتم معاشر الكفّار فاعبدوا ما شئتم من دون اللّه من الأصنام و هذا الأمر على وجه التهديد لهم.

[قُلْ يا محمّد: [إِنَّ الْخاسِرِينَ في الحقيقة هم [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ و إنّما خسروا أنفسهم لأنّهم قذفوها بين أطباق الجحيم و خسروا أهليهم الّذين كان أعدّ لهم الجنّة قال ابن عبّاس: إنّ لكلّ رجل منزلا و أهلا و خدما في الجنّة فإن أطاع اعطي ذلك و إن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه و أهله و منزله و ورّثه غيره من المسلمين و لا خسارة أعظم منها و هو المراد بقوله: [أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر.

ثمّ شرح حال الخاسرين [لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ] أي سرادقات و أطباق من النار و دخانها [وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فرش و مهاد و إنّما أطلق اسم «الظلل» على قطع النار على سبيل التوسّع و التهكّم في مقابلة ما لأهل الجنّة من الظلل و المعنى أنّ النار تحيط بجوانبهم و إنّما سمّي ما تحتهم من النار «ظُلَلٌ» مع أنّ الظلل لا يكون إلّا من جانب الفوق لأنّها ظلل لمن تحتهم إذ النار دركات و هم بين أطباقها.

[ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي ذلك الّذي تقدّم ذكره من العذاب يخوّف اللّه به عباده ليحترز عباده المؤمنين منه لأنّهم إذا سمعوا أنّ هذا حال الكفّار نبّهوا و أخلصوا

ص: 204

في التوحيد و العبادة و الأولى أنّ التخويف للكافر و المؤمن [يا عِبادِ فَاتَّقُونِ من الشرك و المعاصي.

[وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها] و لمّا ذكر سبحانه و عيد المشركين ذكر في هذه الآية وعد من اجتنب عبادة الأوثان و تجنّب عن المعاصي و إنّما أنّث للجماعة [وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ فأقلعوا عمّا كانوا عليه من الشرك و رجعوا إلى اللّه [لَهُمُ الْبُشْرى ما يظهر به من السرور و البشارة جزاء على ذلك و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال:

أنتم هم و من أطاع جبّارا فقد عبده.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: [فَبَشِّرْ] يا محمّد [عِبادِ] اجتزئ بالكسرة عن الياء [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي كلّ من سمع أمرا من أوامر اللّه فاختار الأكمل منها و الأحسن في كلّ باب فهو في زمرة السعداء و تميّز الأحسن من القول لا يحصل إلّا بالسماع عن المخاطب بالوحي فهو المرشد إلى الطريق الصواب و الأصوب فالّذي يتّبع أحسن ما يؤمر به و يعمل به فهو أهل البشارة بالسعادة الأبديّة عن أبي الدرداء قال: لو لا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما: الظّماء بالهواجر و السجود في جوف الليل و مجالسة أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقى طيب التمر.

و قيل: المراد يستمعون القرآن و غيره فيتّبعون القرآن و الطاعة الّتي هي أحسن ثوابا و أكثر فضلا مثل أنّ القصاص حقّ و العفو أفضل فيأخذون بالعفو و هكذا و هذا الحكم يجري في كلّ أبواب الخير من الأمور الاعتقاديّة و العمليّة مثل العلم بأنّ إله العالم يكون حيّا عالما بالجزئيّات يصدر منه جزئيّات الخير و كلّيّاته أحسن من أن يعتقد الإنسان أنّ اللّه ليس عالم بالجزئيّات هذا في الاعتقاد و مثل أن يصلّي الإنسان صلاة جامعة لشرائط الصحّة و الكمال أحسن من أن يصلّي صلاة جامعة لشرائط الصحّة دون الكمال و هذا في مثل العمل و هذا المراد بقوله: «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ».

[أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ و حصول الهداية أمر حادث و لا بدّ له من فاعل فالفاعل هو اللّه و قابل و إليه الإشارة بقوله: [وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ .

و إنّ الجسم لمّا كان قابلا للحركة و السكون على السويّة و هي في هذا الأمر متماثلة

ص: 205

فامتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر فالاختلاف في الأجسام مع أنّها متماثلة دليل وجود الفاعل فكذلك القول في الهداية من الفاعل و القابل عرض و إنّما قلنا: إنّ الفاعل لهذه الهداية هو اللّه لأنّ جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحقّ و الباطل و إذا كان الشي ء قابلا للضدّين كانت نسبة ذلك القابل إليهما بالسويّة فامتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين كما بيّنّا في الجسم لأنّ ذات النفس كما أنّها قابلة لهذه الإرادة فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادّة لتلك الإرادة فيمتنع كون جوهر النفس محقّقا لتلك الإرادة فثبت أنّ حصول الهداية لا بدّلها من فاعل و قابل و الفاعل هو اللّه لكنّها مشروطة وجودها بقبول القابل فتأمّل هذه الدقيقة و الآية نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهليّة: لا إله إلّا اللّه و هم زيد ابن عمرو بن نفيل و أبي ذرّ الغفاريّ و سلمان الفارسيّ و في حصول هذه البشارة من السلطان الأعظم شرط عظيم و هو الإعراض عن غير اللّه و الطواغيت و الإقبال على طاعة اللّه بالكلّيّة و المقصود من الآية هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات و حاصل الكلام في قوله:

«وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» الإعراض عن عبوديّة ما سواه و في قوله: «وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ» الرجوع و الإقبال بالكلّيّة إلى اللّه.

و في السفر الخامس من التوراة أنّ اللّه تعالى قال لموسى: يا موسى أجب إلهك بكلّ قلبك و لا شكّ أنّه ما دام يبقى في القلب الالتفات إلى غير اللّه فهو ما أجاب إليه بكلّ قلبه و إنّما تحصل الإجابة بكلّ القلب إذا أعرض القلب عن كلّ ما سواء من باب الطاعات فمن أطاع الشيطان فقد أعرض عن اللّه و عبد الشيطان في ذلك الأمر.

و هاهنا تحقيق للرازيّ و هو أنّه كيف يعرض الإنسان بالكلّيّة و هو أنّه يشاهد بالحسّ الأسباب المفضية إلى المسبّبات في هذا العالم فليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقتضي عليها بالعدم بل المراد أن يعرف الإنسان أنّ واجب الوجود لذاته واحد و أنّ كلّ ما سواه فإنّه ممكن الوجود لذاته و كلّ ما كان ممكنا لذاته فإنّه لا يوجد إلّا بتكوين الواجب و إيجاده و إنّما جعل سبحانه تكوين الأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة و هي عالم السماوات و الروحانيّات و العلويّات و منها ما يكون بواسطة و هو عالم العناصر

ص: 206

و العالم السفليّ.

فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أنّ الكلّ للّه و باللّه و من اللّه و لا مؤثّر إلّا هو و حينئذ ينقطع نظره عن هذه الممكنات و يبقى مشغول القلب بالمؤثّر الحقيقيّ فإنّه إن كان قد وضع الأسباب بحيث يتأدّى إلى هذا المطلوب فهذا الشي ء يحصل و إن قد وضع بحيث لا يقضي إلى حصول هذا الشي ء لم يحصل و بهذا الطريق ينقطع نظره عن الكلّ و لا يبقى في قلبه التفات إلى شي ء إلّا إلى الموجد الأوّل و قد اتّفق أنّي كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ المال فعارضني و قال: لا يجوز الاعتماد على الجدّ و الجهد بل يجب الاعتماد على قضاء اللّه و قدره فقلت: هذه كلمة حقّ سمعتها و لكن ما عرفت معناها و ذلك لأنّه لا شبهة أنّ الكلّ من اللّه من الأسباب و المسبّبات إلّا أنّه سبحانه دبّر الأشياء على قسمين: منها ما جعل حدوثه و حصوله معلّقا بأسباب معلومة و منها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب أمّا القسم الأوّل فهو حوادث هذا العالم الأسفل و أمّا القسم الثاني فهو حوادث العالم الأعلى فمن طلب حوادث هذا العالم الأسفل و أراد حصولها لا من الأسباب الّتي عيّنها اللّه تعالى لها كان هذا الشخص مخالفا لتدبير اللّه و منازعا له لأنّه تعالى حكم بحدوث هذه الأمور بناء على أسباب المعيّنة المعلومة لحصول المسبّبات و أنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب و هذا خطاء فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض و الإقبال عن غير اللّه و إلى اللّه فتأمّل.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ* لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بيّن سبحانه هذه الآية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام المشركين. و المعنى أنّك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم فلا عليك إذا لم يؤمنوا فإنّما أتوا ذلك من قبل نفوسهم و هذا كقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ» (1) الآية، و قيل: تقدير الآية أ فمن وجب عليه وعيد اللّه بالعقاب أ فأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر «مَنْ فِي النَّارِ» عن الضمير العائد إلى المبتدء و أتى بالاستفهام مرّتين توكيدا للتنبيه على المعنى قال ابن الأنباريّ: الوقف في الآية على قوله: «كَلِمَةُ الْعَذابِ» و التقدير: كمن وجبت

ص: 207


1- الكهف: 6.

له الجنّة.

قوله: [لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ أي قصور [في الجنّة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ] و هذه الآية في مقابلة قوله تعالى: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» فإنّ في الجنّة منازل رفيعة بعضها فوق بعض و ذلك أنّ النظر من الغرف إلى الخضر و المياه و الجنان أشهى و ألذّ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] أي من تحت الغرف [الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ أي وعدهم اللّه تلك الغرف و المنازل وعدا [لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ] ميعاده الّذي وعده.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 21 الى 25]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25)

لمّا قدّم سبحانه الدعوة إلى التوحيد في الآيات السابقة عقّبه بذكر الدلائل فقال يخاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان المراد جميع المكلّفين- بقوله: [أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] أي مطرا [فَسَلَكَهُ أي فأدخل ذلك الماء [يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ مثل العيون و القنى و الآبار و ينبوع الموضع الّذي يفور منه الماء.

[ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء من الأرض [زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و صنوفه من البرّ و الشعير و الأرز و غيرها من أخضر و أصفر و أبيض و أحمر و اللون يطلق على الأصناف و على الألوان.

[ثُمَّ يَهِيجُ أي يجفّ لأنّه إذا تمّ جفافه جاز أن ينفصل عن منابته و إن لم تتفرّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنّها هاجت لأن تتفرّق ثمّ يصير حطاما يابسا.

ص: 208

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ لأنّ من شاهد هذه الأحوال في النبات من الشعير علم أنّ أحوال الحيوان و الإنسان كذلك و أنّه و إن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى أن يصير منحطم الأجزاء فلمّا شاهد هذه الحالة فحينئذ تعظم نفرته من الدنيا و طيّباتها و رغب في الآخرة و علم قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (1) و ينابيع منصوب بنزع الخافض و التقدير: في ينابيع.

قوله: [أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي وسّع قلبه لقبول الإسلام و الثبات عليه و شرح الصدر يحصل بقوّة الأدلّة [فَهُوَ عَلى نُورٍ] و دلالة و هدى [مِنْ توفيق [رَبِّهِ و شبّه سبحانه الدليل بالنور لأنّ بها يعرف الحقّ كما بالنور يعرف امور الدنيا.

قوله: [فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ و في الآية حذف و تقديره: كمن هو قاسي القلب و يدلّ على المحذوف «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» و هم الّذين ألفوا الكفر و تصلّبت قلوبهم حتّى لا ينفع فيها وعظ و لا ترغيب و لا ترهيب و لا يهتدي لقراءة القرآن و ذكر اللّه.

و اعلم أنّ جواهر النفوس تختلف ماهيّاتها بالملكات الطيّبة و الخبيثة فتصير بعضها خيرة نورانيّة شريفة مائلة إلى الإلهيّات عظيمة الرغبة في الاتّصال بالروحانيّات و بعضها نذلة خسيسة مائلة إلى الجسمانيّات و هذا التفاوت حاصل في جواهر النفوس البشريّة و هو المراد من شرح الصدور و قسوة القلوب و لهذا السبب تختلف جواهر النفوس فإنّ الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسوّد وجه القصّار و يبيضّ ثوبه و كذلك حرارة الشمس تلين الشمع و تعقد الملح و قد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد و يستكرهه آخر و ما ذاك إلّا من اختلاف جواهر النفوس.

[أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و في عدول عن الحقّ واضح.

[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ القرآن سمّاه اللّه «حديثا» و الكلام سمّي حديثا كما يسمّى كلام النبيّ حديثا و القرآن كلام اللّه و لأنّه حديث النزول بعد الكتب المنزلة علي

ص: 209


1- الأعراف: 29.

الأنبياء و هو أحسن الحديث لفرط فصاحته و إعجازه و اشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف من الأحكام.

و في الآية دلالة على حدوث الكلام لأنّ الحديث لا بدّ و أن يكون حادثا بل لفظ الحديث أقوى دلالة في الحدوث من الحادث و الشي ء إمّا أن يكون حادثا أو قديما و ليس مرتبة بين الحادث و القديم.

قوله: [كِتاباً مُتَشابِهاً] يشبه بعضه بعضا و يصدّق بعضه بعضا و قيل: معناه إنّه يشبه كتب اللّه المتقدّمة و إن كان أكمل و أنفع و أعمّ [مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ سمّي القرآن بذلك لأنّه يثنّى فيه بعض القصص و الأخبار و الأحكام و المواعظ بضروب البيان و يثنّى في التلاوة فلا يملّ لحسن مسموعه «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ» أي تأخذهم قشعريرة خوفا ممّا في القرآن من الوعيد [ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إذا سمعوا ما فيه من الوعد بالثواب و الرحمة و تطمئنّ و تسكن قلوبهم إلى ذكر اللّه الجنّة و الثواب و إنّ العارفين إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا و إن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا.

و تركيب لفظ القشعريرة من حروف التقشّع و هو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع و هو «الراء» ليكون رباعيّا و دالّا على زيادة المعنى يقال: اقشعرّ جلده من الخوف و وقف شعره و ذلك مثل في شدّة الخوف روي عن عبّاس بن عبد المطّلب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها و هذا المعنى نعت لأولياء اللّه نعّتهم اللّه بأن تقشعرّ جلودهم و تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر اللّه و لم ينعتهم بذهاب عقولهم و الغشيان عليهم و الغشيان عليهم إنّما ذلك في أهل البدع من المتصوّفة و هو من الشيطان.

قوله: [ذلِكَ يعني القرآن [هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ] من عباده بما نصب فيه من الأدلّة و هم الّذين آتاهم القرآن من امّة محمّد و تدبّروا في دلائل القرآن و اهتدوا بها.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن طريق الجنّة بسبب عدم قبول القرآن و الهداية [فَما لَهُ

ص: 210

مِنْ هادٍ] أي لا يقدر على هدايته أحد عن الجبّائيّ و قيل: معناه من ضلّ عن رحمة اللّه و عن اللّه فلا هادي له يقال: أضللت بعيري إذا ضلّ و قيل: معناه من يضلله عن زيادة الهدى و الألطاف بكفره لا لطف له لأنّ الكافر لا لطف له.

[أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي أ فحال من يتّقي بوجهه و يدفع عذاب النار بوجهه يوم القيامة كحال من يأتي آمنا لا تمسّه النار و إنّما قال سبحانه:

«بِوَجْهِهِ» لأنّه يلقى منكوسا في النار فأوّل عضو منه مسّته النار وجهه و الوجه أعزّ أعضاء الإنسان و يقال لمقدّم القوم: يا وجه العرب ثمّ إذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنّه يجعل يده وقاية لوجهه و فداء له و إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كلّ ما سوى الوجه وقاية للوجه فجعل الاتّقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتّقاء و نظيره قول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي لا عيب في الجماعة إلّا هذا و هو عين المدح في الشجاعة فالمعنى أنّه لا عيب فيهم بوجه من الوجوه في الشجاعة فكذا هنا أي لا يقدرون على الاتّقاء من العذاب بوجه من الوجوه إلّا بالوجه و هو ليس باتّقاء فليس لهم قدرة على الاتّقاء البتّة و إنّ الّذي يلقى في النار يداه مغلولة إلى عنقه و لا يتهيّأ له أن يتّقي النار إلّا بوجهه كيف حاله؟

و بالجملة فجواب الاستفهام محذوف و تقديره: أ فمن يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره.

ثمّ قال: [وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ و القائل خزنة النار لهم أي جزاء ما كسبتموه من المعاصي.

ثمّ أخبر سبحانه عن أمثال هؤلاء الكفّار من الأمم الماضية فقال: [كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و جحدوا رسله [فَأَتاهُمُ الْعَذابُ عاجلا [مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ و هم آمنون غافلون.

ص: 211

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 26 الى 31]

فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

. ثمّ أخبر سبحانه عمّا فعله بالأمم المكذّبة بأن قال:

[فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذلّ و الهوان في الحياة الدنيا [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] أي أعظم و أشدّ [لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كيفيّة عذاب الآخرة.

[وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ سمّي ذكر الأمم السابقة «مثلا» كما قال: «وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» (1) أو المعنى:

إنّا وصفنا و بيّنّا للناس في هذا القرآن كلّما يحتاجون إليه من مصالح دينهم و دنياهم لكي يتذكّروا و يتدبّروا فيعتبروا.

[قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ليس فيه اعوجاج و ميل عن الحقّ بل هو مستقيم موصل إلى الحقّ [لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي و في الآية دلالة على أنّ أفعال اللّه و أحكامه معلّلة و أنّه سبحانه يريد من الكلّ الإيمان و المعرفة لأنّ قوله تعالى: «وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ» مشعر بالتعليل و كذلك «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

و أيضا الآية تدلّ على حدوث الكلام لأنّ الشي ء الّذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا لأنّ القديم هو الّذي يكون موجودا في الأزل و هذا يمتنع أن يقال: إنّه إنّما أتى به لغرض كذا و كذا و بالجملة وصف القرآن بالاستقامة و عدم الاعوجاج و كونه «قُرْآناً» و المراد كونه متلوّا في المحاريب و الأمكنة الشريفة و كونه «عَرَبِيًّا» قد أعجز الصفحاء عن معارضته.

قوله تعالى: [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ضرب سبحانه هذا المثل للمشركين الّذين يعبدون الآلهة فحالهم كحال رجل قد اشترك في ذلك الرجل موالي كثيرة و هم شركاء في ملكيّته و بينهم تنازع و اختلاف كثير فهذا المولى يأمره بأمر و ذلك ينهاه و ينازع كلّ واحد منهم و يدّعي أنّه عبده و هم يتجاذبونه في حوائجهم و الرجل

ص: 212


1- ابراهيم: 45.

متحيّر في أمره فكلّما أرضى واحدا غضب الباقون و إذا احتاج العبد إلى أمر أو رزق و معاش فكلّ واحد منهم يردّه إلى الآخر فهو يتحيّر في أمره لا يعرف أيّهم أولى بأن يطلب رضاه و أيّهم يقيم بحوائجه فهو لهذا السبب في عذاب دائم و تعب مقيم. و الشكس سوء الخلق.

فهذا مثل المشرك الّذي يجعل للّه شريكا في العبادة و يجعل له الآلهة و أمّا المؤمن الموحّد الّذي يعبد اللّه و يطيعه وحده كمثل رجل له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص و ذلك المخدوم يعينه على مهمّاته فأيّ هذين العبدين أحسن حالا و أحمد شأنا؟ و هو المراد بقوله: [وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ و قرئ «سالما» أي ذو سلامة و تسليم و هذا مثل ضرب اللّه في قبح الشرك و تحسين التوحيد.

ثمّ قال سبحانه: [هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا] أي هل يستوي هذان الرجلان صفة في حسن العاقبة أي لا يستويان.

ثمّ قال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ فيكون العبوديّة و الحمد و المستحقّ للثناء هو اللّه لأنّه المالك الواحد و المنعم الحقيقيّ و يمكن أن يكون «الخبر» بمعنى الأمر أي احمدوا اللّه [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة نعمة التوحيد.

فإن قيل: هذا المثل لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنّها جمادات و ليس بينها مشاكسة و منازعة؟

فالجواب أنّ عبدة الأصنام منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة يعبدون الكواكب السبعة ثمّ إنّ القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة و مشاكسة ألا ترى أنّهم يقولون: زحل هو النحس الأعظم و المشتري هو السعد الأعظم و منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكيّة و القائلون بهذا القول زعموا أنّ كلّ نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلّق بروح من الأرواح السماويّة و حينئذ يحصل بين تلك الأرواح مخالفات في المقتضي و مشاكسة فالمثل حينئذ مطابق و منهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من الصلحاء و العلماء الّذين مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصيروا أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند اللّه و القائلون بهذا القول: يزعم كلّ طائفة منهم أنّ المحقّ هو ذلك الرجل الّذي هو على دينه و أنّ من سواه مبطل فعلى

ص: 213

هذا أيضا ينطبق المثال.

قوله تعالى: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ بيّن سبحانه المقام الّذي يتبيّن فيه المبطل من المحقّ فقال: إنّ عاقبتك و عاقبة هؤلاء الموت فحينئذ يتبيّن الحقّ من الباطل.

[ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ و الاختصام يكون بين المهتدين و الضالّين و الصادقين و الكاذبين و قيل: يقع الاختصام بين أهل القبلة قال أبو سعيد الخدريّ في هذه الآية: كنّا نقول: ربّنا واحد و نبيّنا واحد و ديننا واحد فما هذا الاختصام؟ فلمّا وقع صفّين و شدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 35]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

ثمّ بيّن نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين و هو أنّهم أثبتوا للّه ولدا و شركاء أو أنّهم مصرّون على تكذيب الصادقين و الأنبياء و يكذّبون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأردف تكذيبهم بالوعيد فقال:

[أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً و مقرّا [لِلْكافِرِينَ و المراد من قوله: [وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ التوحيد و القرآن [إِذْ جاءَهُ .

قوله: [وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد جاء بالقرآن [وَ صَدَّقَ بِهِ هم المؤمنون [أُولئِكَ المصدّقون [هُمُ الْمُتَّقُونَ و قيل: الّذي جاء جبرئيل و الصدق القرآن و تلقّاه بالقبول و صدّق به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قيل: الّذي جاء بالصدق الجائي محمّد و الصدق كلمة لا إله إلّا اللّه و صدّق به هو أيضا نفسه الشريفة و بلّغه إلى الخلق و قالوا: لو كان المصدّق به غيره لقال: و الّذين صدّق به و هذا القول أقوى الأقوال و القائل ابن عبّاس و قيل: الّذي جاء بالصدق الأنبياء و صدّق به أتباعهم فحينئذ يكون كلمة «وَ الَّذِي» للجنس كما قال:

و إنّ الّذي جاءت بفلج دماؤهم هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

ص: 214

الا ترى أنّه عاد إليه ضمير الجمع و قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّق به المراد عليّ بن أبي طالب عن مجاهد و رواه الضحّاك عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّد خزنة العلم.

ثمّ منّ سبحانه بما أعدّ لهم من النعيم فقال: [لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من النعيم في الجنّة [عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ينالون من جهة لطفه [ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ذلك إشارة إلى ما ذكر و هو حصول ما يشاءونه على إحسانهم الّذي فعلوه في الدنيا و أعمالهم الصالحة.

[لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا] قيل: اللام في ليكفّر من صلة قوله:

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» و المعنى أنّه لمّا وعدهم بما يشاءون جزاء على إحسانهم أثبت و حقّق الثواب لهم بتكفير السيّئات الّتي عملوها قبل الإيمان و قيل: اللام للقسم و التقدير: و اللّه ليكفّرنّ فحذف النون و كسرت اللام أي يسقط اللّه عنهم عقاب الشرك و المعاصي الّتي فعلوها قبل ذلك بمقابله إيمانهم و تصديقهم و رجوعهم إلى اللّه.

و اعلم أنّ مقاتلا شيخ المرجئة و هم الّذين يقولون: لا يضرّ شي ء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شي ء من الطاعات مع الكفر و احتجّ بهذه الآية فقال: إنّها تدلّ على أنّ من صدّق الأنبياء فإنّه تعالى يكفّر عنهم أسوء الّذي عملوا و قال: إنّ ظاهر الآية يدلّ على أنّ التكفير حصل في حال ما وصفهم اللّه بالتقوى و هو التقوى من الشرك و إذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر الّتي يأتي بها بعد الإيمان و الآية تنصيص على أنّه يكفّر عنهم بعد إيمانهم أسوء ما يأتون به و ذلك هو الكبائر.

أقول: و في هذا الكلام نظر لأنّه من أين ثبت أنّ المراد من التقوى في الآية التقوى من الشرك كما فسّره بل لعلّ المراد التقوى من المعاصي فتأمّل.

[وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و ثوابهم [بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ بالفرائض و النوافل فهي أحسن أعمالهم لأنّ عمل المباح و إن كان حسنا لكن لا يستحقّ به ثواب و لا مدح.

و هاهنا بحث و هو قوله للمصدّقين و وعدهم بقوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» و هذا الوعد يدخل فيه كلّ ما يرغب المكلّف فيه و لا شكّ أنّ الكمال أمر محبوب لذاته

ص: 215

مرغوب فيه و أهل الجنّة لا شكّ أنّهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية الّتي هي للأنبياء و أكابر الأولياء عرفوا أنّها خيرات عالية و درجات كاملة و العلم بالشي ء من حيث إنّه كمال و خير يوجب الميل إليه و الرغبة فإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية أيضا و ليس يحصل لهم يقينا فلو لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصّة و وحشة القلب.

فالجواب أنّ أحوال أهل الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا فيزيل اللّه عن قلوبهم الحقد و الحسد و الطمع.

و في الآية بحث آخر و هو أنّ بعض الناس تمسّكوا بهذه الآية في أنّ المؤمنين يرون اللّه تعالى عن ذلك و ذلك لقوله: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» لأنّ الرؤية أعظم وجوه التجلّي و زوال الحجاب و لا شكّ أنّها حالة مطلوبة و النصّ يقتضي حصول كلّما شاءوه و أرادوه.

و أجيب بأنّ هذا الكلام باطل لأنّه لمّا علم أنّ هذا المطلوب ممتنع الوجود بعينه فإنّه يترك طلبه لا لأجل عدم المقتضي للطلب بل لقيام المانع و هو كونه ممتنعا في نفسه فإذا تحقّق الامتناع لهم وجودا سلب المقتضي فهم لا يشاءون أمرا ممتنعا لأنّهم عقلاء و للمسألة جواب آخر و هو أنّ اللّه سبحانه يزيل عن قلوبهم هذه الإشاءة فلا يشتهون هذا الأمر حتّى تقول: إنّ ترك الطلب للمانع و الطلب و الميل باق انتهى.

[سورة الزمر (39): الآيات 36 الى 40]

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)

كانت الكفّار تخيفه صلّى اللّه عليه و آله بالأوثان الّتي كانوا يعبدونها و كانوا يقولون له صلّى اللّه عليه و آله: إنّ آلهتنا تمسّك بالضرّ فحسم اللّه سبحانه مادّة قولهم بقوله: [أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ من يعبده و إنّ آلهتهم لا تضرّ و لا تنفع.

ص: 216

[وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني آلهتهم و لعلّ المراد بالعبد في الآية العباد و المقصود الأنبياء كما كفى نوحا من الغرق و إبراهيم من النار و يونس ردّ فهو كافيك كما كفى الأنبياء قبلك، قيل: إنّه لمّا قصد خالد لكسر الأصنام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا:

إيّاك يا خالد فبأسها شديد فضرب خالد أنفها بالفأس و هشمها و قال: كفرانك يا عزّى لا سبحانك، سبحان من أهانك، إنّي رأيت اللّه قد أهانك.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ] أي من أضلّه اللّه عن طريق الجنّة بكفره و معاصيه فليس له هاد يهديه إليها و قيل: معناه إنّ من وصفه بأنّه ضالّ إذا ضلّ هو عن طريق الحقّ فليس له من إله هاديا و قيل: معناه من يحرمه اللّه عن زيادات الهدى فليس له زائد.

[وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي من يهديه اللّه و حذف «الهاء» كما حذف في قوله: «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» (1) لدلالة الكلام إلى طريق الجنّة فلا أحد يضلّه عنها و قيل: من بلغ استحقاق زيادات الهدى بصالح أعماله فقد ارتفع عن تأثير الوسواس [أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ] أي غالب قادر لا يقدر أحد على مغالبته [ذِي انْتِقامٍ من أعدائه الجاحدين لنعمه.

ثمّ قال: لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أوجدها بعد أن كانت معدومة [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الفاعل لذلك لأنّهم مع عبادتهم الأوثان يقرّون بذلك.

فردّ عليهم سبحانه بأنّ ما يعبدونه من دون اللّه لا يملك كشف السوء و الضرّ عنهم فقال: [قُلْ لهم: [أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ] أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدّة [هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ و المراد أنّ هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير و الشرّ.

و حاصل المعنى أخبروني أنّ آلهتكم إن أراد اللّه أن يصيبني بضرّ هل يكشفن عنّي ذلك الضرّ أو أراد اللّه أن ينفعني بخير هل تمنعني آلهتكم بحيث لا يصلني ذلك الخير فإذا كان الأمر كذلك و آلهتكم عاجزة عن إيصال النفع و دفع الأذى فكيف يستحقّون العبادة فحينئذ الاعتماد على عبادة اللّه.

ص: 217


1- الفرقان: 41.

[قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ و يفوّضون إليه أمورهم و وجه عبادتهم.

و لمّا أورد اللّه عليهم هذه الحجّة الواضحة قال على سبيل التهديد: [قُلْ يا محمّد [يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ «عَلى مَكانَتِكُمْ» أي على جهدكم و قدرتكم في إهلاكي و تضعيف أمري «إِنِّي عامِلٌ» قدر جهدي و طاقتي [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم أي فسوف تعلمون أنّ العذاب و الهوان و الخزي يصيبني أو يصيبكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 41 الى 45]

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

النظم: و لمّا كان يعظم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إصرارهم على الكفر سلّى قلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

[إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الكامل الشريف لنفع الناس و لاهتدائهم به و جعلنا إنزاله مقرونا بالحقّ فمن اهتدى به فنفعه يعود إليه و من ضلّ فضرّ ضلاله يعود إليه [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر و القبول و عدمه مفوّض إليهم و لست كفيل إيمانهم.

قوله: [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها] المقصود من الآية إتيان الحجّة على المشركين ببيان قدرته فإنّه المستحقّ للعبادة دون آلهتكم العجزة و إشعار في تشبيه الهداية و الإيمان بالحياة و اليقظة و الكفر و الضلال بالموت و النوم فقال: إنّه تعالى يتوفّى الأنفس عند الموت و عند النوم.

قال ابن عبّاس: في بني آدم نفس و روح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس بها العقل و التمييز و الروح بها التنفّس و الحركة فإذا نام الإنسان قبض اللّه نفسه و لم يقبض

ص: 218

روحه و إذا مات قبض اللّه روحه و يؤيّده ما رواه العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام قال: ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن اللّه في قبض الروح و قضى عليه بالموت أجابت الروح النفس و إن لم يأذن أجابت النفس الروح و هو قوله: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» الآية فما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو ممّا يخبله الشيطان و لا تأويل له و نسبة التوفّي إلى الملك في بعض الآيات بالمباشرة و المتوفّى هو اللّه.

و بالجملة فمعنى الآية أنّ اللّه يتوفّى الأنفس وقت موتها و انقضاء آجالها.

[وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها] أي و يتوفّى اللّه النفس الّتي لم يقض عليه بالموت أيضا فالنفس الّتي قضي عليها الموت يمسكها سبحانه إلى يوم القيامة لا تعود إلى الدنيا و الّتي لم يقض عليها الموت و ما بلغ أجلها يرسلها إلى وقت معلوم قدّر لها فليس قادر غيره على هذا الأمر و النفس الإنسانيّة عبارة عن جوهر مشرق روحانيّ أي من سنخ عالم الروحانيّات لا العناصر إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء و هو الحياة ففي وقت الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن و عن باطنه و أمّا في وقت النوم فإنّه ينقطع ضوؤه عن الحواسّ و ظاهر البدن من بعض الوجوه و لا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن فالموت و النوم متشابهان من بعض الجهات إلّا أنّ الموت انقطاع تامّ و النوم انقطاع ناقص فيشتركان في كون كلّ واحد منهما توفّيا للنفس و هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلّا عن الخالق القادر و هو المراد من قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

قوله تعالى: [أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ و لمّا اعتذر المشركون أنّا لا نعبد هؤلاء الأصنام لاعتقاد أنّها آلهة مستقلّة و إنّما نعبدها لأجل أنّها تماثيل لأشخاص كانوا عند اللّه من المقرّبين فنحن نعبدها لأجل الشفاعة فأجاب اللّه بقوله: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ» أي بل اتّخذ قريش من دون إذن اللّه الأصنام شفعاء تشفع لهم عنده قل يا محمّد: «أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ» «الهمزة» للاستفهام الإنكاريّ و استقباح هذا الأمر أي قل لهم: أ تتّخذونهم شفعاء و لو

ص: 219

كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء و لا يعقلون لأنّها جمادات فضلا عن أن يملكون الشفاعة عند اللّه و حاصل المعنى: أ يتّخذونهم شفعاء راجين شفاعتهم و لو كانت الآلهة موصوفة بصفة العجز و عدم الإدراك.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ لهم يا محمّد: [لِلَّهِ إذن [الشَّفاعَةُ] و لا يملك أحد الشفاعة إلّا بإذنه و تمليكه [جَمِيعاً] لأنّه المالك و [لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما حتّى يكون المشفوع له مرتضى دينه و الشفيع يكون مأذونا و كلاهما مفقود هاهنا و إليه رجوعكم يوم القيامة دون غيره لا استقلالا و لا اشتراكا.

قوله: [وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] قال ابن عبّاس:

كان المشركون إذا سمعوا قول «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له» نفروا من هذا القول لأنّهم كانوا يقولون بالتشريك.

[وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام الّتي كانوا يعبدونها من دون اللّه [إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون بحيث يظهرون السرور في وجوههم الخبيثة و حصل الغيظ في قلوبهم الفاسدة و الاستبشار و الاشمئزاز متقابلان بالتضادّ.

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 50]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50)

و لمّا صدر من المشركين الاستبشار من ذكر تعدّد الآلهة و الاشمئزاز من وصف التوحيد و هو أمر عجيب تشهد فطرة العقل بفساده أمر نبيّه أن يحاكمهم و يدعو بهذا الدعاء:

[قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فقال: قل يا محمّد، أي يا خالقهما و منشئهما

ص: 220

و يا عالم الغيب و الشهادة أي يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلايق و عالم ما شهدوه و علموه.

[أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ يوم القيامة [فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في دار الدنيا من أمر دينهم و دنياهم و تفصل بينهم بالحقّ في الحقوق و المظالم أي فاحكم بيني و بين قومي بالحقّ.

و في هذا بشارة للمؤمنين بالظفر و النصر لأنّه سبحانه إنّما أمره به للإجابة لا محالة و عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها قطّ فسأل اللّه شيئا إلّا أعطاه و هي قوله: «اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الآية.

ثمّ أخبر سبحانه بوقوع العذاب و العقاب بالكفّار بأمور:

أولها: [وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ زيادة عليه [لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي إنّ هؤلاء الكفّار لو ملكوا كلّ ما في الأرض من الأموال و ملكوا مثله معه لجعلوا الكلّ فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد.

و الثاني: [وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا يظنّونه و ينتظرونه و لم يكن في حسابهم و كما أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في صفة الثواب في الجنّة: فيها ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فكذلك في العقاب حصل مثله.

و ثالثها: [وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم أيضا [سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أي جزاء سيّئات أعمالهم و آثارها [وَ حاقَ من كلّ الجوانب و نزل بهم [ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و هو كلّ ما ينذرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا كانوا ينكرونه و يكذّبون به.

ثمّ أخبر سبحانه عن شدّة تقلّب الإنسان من حال إلى حال و عن عقيدته الفاسدة فقال: [فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا] أي عند وقوع الضرر من الفقر و المرض يفزعون إلى اللّه و يرون أنّ دفع ذلك لا يكون إلّا منه.

[ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً] و هي السعة في المال أو العافية في البدن تفضّلا [قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي زعم أنّه إنّما حصل ذلك بكسبه و بسبب جدّه و جهده فإن

ص: 221

كان مالا قال: إنّما حصل بكسبي و إن كان صحّة قال: إنّما حصل ذلك بسبب العلاج الفلانيّ و هذا تناقض عظيم لأنّه كان في حال العجز و الحاجة أضاف إلى اللّه و استدعى رفعه منه و في حال السلامة قطعه عن اللّه و أسنده إلى كسب نفسه و هذا تناقض قبيح.

ثمّ قال تعالى: ليس الأمر على ما يقولونه و يزعمونه [بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ] أي بليّة و اختبار يبتليه اللّه بها ليظهر شكره أو صبره فيحازيه بحسبها و قيل: معناه هذه المقالة و العقيدة فتنة لهم لأنّهم بسبب هذا القول يعاقبون عليها [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ البلوى من النعمى أو لا يعلمون أنّ النعم كلّها من اللّه و إن حصل بأسباب من جهة العبد.

فإن قيل: إنّ لفظ «النَّعْمَةِ» مؤنّثة و الضمير في قوله: «أُوتِيتُهُ» عائد على النعمة و ضمير المذكّر كيف عاد إلى المؤنّث و قال: بعده «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» فجعل الضمير مؤنّثا فما السبب فيه و الجواب أنّ التقدير حتّى إذا خوّلناه شيئا من النعمة فمعنى «النَّعْمَةِ» مذكّر فلا جرم جاز الأمران و معنى التخويل التفضّل.

قوله تعالى: [قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قد قال مثل هذه الكلمة قارون حيث قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (1) [فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و لم ينفعهم ما كانوا جمعوه من الأموال بل صارت و بالا عظيما.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 51 الى 55]

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفّار بقوله: [فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أي أصاب عقاب سيّئاتهم فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه و إنّما سمّي عقاب سيّئاتهم سيئة لازدواج الكلام كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (2).

ص: 222


1- القصص: 78.
2- الشورى: 40.

[وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ] أي من كفّار قومك [سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا] أيضا [وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ و لا يفوتون اللّه و لا يعجزون اللّه بالخروج عن قدرته.

[أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] أي يوسّع الرزق على من يشاء و يضيق على من يشاء بحسب ما يعلم من المصلحة و الدليل عليه أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق و ضيقه و لا بدّ له من سبب و ذلك السبب ليس هو عقل الرجل و جهله لأنّا نرى العاقل في أشدّ الضيق و نرى الجاهل المريض الضعيف العاجز في أعظم السعة و ليس ذلك أيضا لأجل الطبائع و الأنجم و الأفلاك كما يزعم بعضهم لأنّ في الساعة الّتي ولد ذلك الملك الكبير و السلطان القاهر قد ولد فيها أيضا عالم من الناس و عالم من الحيوان غير الإنسان و عالم من النبات و نشاهد حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة و الشقاوة علمنا أنّه ليس المؤثّر في السعادة و الشقاوة الطبيعة و الطالع لأنّ الطالع إن كان يقتضي السعد فيقتضي السعد للملك و الصعلوك اقتضاء واحدا و لمّا بطلت هذه الأقسام و الأثر لا يوجد إلّا بالمؤثّر و المعلول بالعلّة علمنا أنّه ليس المؤثّر فيه إلّا اللّه.

فلا السعد يقضي به المشتري و لا النحس يقضي علينا زحل

و لكنّه حكم ربّ السماءو قاضي القضاة تعالى و جلّ

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ و دلالات واضحات [لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و يصدّقون بتوحيد اللّه لأنّهم المنتفعون.

[قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بارتكاب الذنوب [لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من مغفرة اللّه [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ما احبّ أنّ لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية. و في مصحف عبد اللّه بن مسعود: إنّ اللّه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.

قال الرازيّ: إنّ عرف القرآن جار بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى:

ص: 223

«وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» (1) و قال: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» (2) و أيضا لفظ مذكور في معرض التعظيم فوجب أن لا يقع إلّا على المؤمنين فظهر من هذه المقدّمات أنّ قوله: «يا عِبادِيَ» مختصّ بالمؤمنين و لأنّ المؤمن هو الّذي يعترف بكونه عبد اللّه و أمّا المشركون فإنّهم في الغالب يسمّون أنفسهم بعبد اللات و العزّى و عبد المسيح.

إذا ثبت هذا فنقول: إنّه تعالى قال: «الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» عامّ في حقّ جميع المسرفين ثمّ قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» و هذا يقتضي كونه تعالى غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين.

فإن قيل: إنّ هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها و إلّا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعا و أنتم لا تقولون به فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به و الّذي تقولون به لا تدلّ عليه هذه الآية فسقط الاستدلال. و أيضا إنّه قال عقيب هذه الآية:

«وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» و لو كان المراد من أوّل الآية أنّه غفر جميع الذنوب قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة و لما خوّفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون. و أيضا لو كان المراد ما يدلّ عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي و إطلاقا في الإقدام عليها و ذلك لا يليق بحكمة اللّه تعالى فعلى هذا وجب أن يحمل معنى الآية على أن يقال: المراد منه التنبيه على أنّه لا يجوز أن يظنّ العاصي أنّه لا مخلص له من عذاب اللّه البتّة فإنّ من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة اللّه إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلّا و متى تاب زال عقابه فمعنى قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» أي بالتوبة و الإنابة.

و أمّا الجواب عن القول: «بأنّ الآية تقتضي كون كلّ الذنوب مغفورة قطعا و أنتم لا تقولون به» (3) قلنا: بل نحن نقول به و بيانه أنّ صيغة «يَغْفِرُ» للاستقبال و عندناف.

ص: 224


1- الفرقان: 63.
2- الدهر: 6.
3- بل الجواب ان جميعا تأكيد للذنوب و المراد ان اللّه إذا غفر لمن يشاء يغفر جميع ذنوبه بلا فرق بين كبيرة و كبيرة فلا يقنط احد من غفران بعض كبائرها العظيمة في نفسه، و ليس اللّه ان يغفر بعضها ثم يعذبه ببعضها و لذلك عقبه بقوله «وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا»: توبة مما سلف و تسليما لما خلف حتى يغفر لكم جميع ما سلف.

أنّ اللّه يخرج من النار أهل التوحيد و على هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعا إمّا قبل الدخول في جهنّم و إمّا بعد الدخول فيها فحينئذ ما خرجنا عن مدلول الآية.

و أمّا قوله: لو صارت الذنوب مغفورة بأسرها لما أمر بالتوبة فالجواب أنّ التوبة واجبة و حكم لازم على المكلّف و خوف العقاب قائم و لم يحصل القطع بإزالة العقاب بالكلّيّة بل نقول: لعلّه يعفو مطلقا و لعلّه يعذّب بالنار مدّة ثمّ يعفو بعد ذلك انتهى كلام الرازيّ.

القميّ قال: نزلت الآية في شيعة عليّ بن أبي طالب خاصّة و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: لقد ذكركم اللّه في كتابه إذ يقول: «يا عِبادِيَ» الآية، قال: و اللّه ما أراد بهذا غيركم و في معاني الأخبار و القميّ عن الباقر عليه السّلام قال: و في شيعة ولد فاطمة عليها السّلام أنزل اللّه هذه الآية خاصّة و في المحاسن عن الصادق عليه السّلام قال: ما على ملّة إبراهيم غيركم و ما يقبل إلّا منكم و لا يغفر الذنوب إلّا لكم.

و بالجملة قيل: إنّ الآية نزلت في وحشيّ قاتل حمزة حين أراد أن يسلم و خاف أن لا يقبل توبته فلمّا نزلت الآية أسلم. قال الطبرسيّ: و هذا لا يصحّ لأنّ الآية نزلت بمكّة و وحشيّ أسلم بعدها بسنين كثيرة و لكن يمكن أن يكون قرئت عليه الآية فكانت سبب إسلامه فاللّه سبحانه يغفر الذنوب جميعا للتائب لا محالة حيث يقول سبحانه: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» (1) فإن مات الموحّد من غير توبة فهو في مشيّة اللّه إن شاء عذّبه بعد له و إن شاء غفر له بفضله كما قال: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (2).

قوله [وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي انقادوا له بالطاعة فيما يأمركم به و قيل معناه: اجعلوا أنفسكم خالصة لقبول دينه و قد حثّ سبحانه بهذه الآية على التوبة لكي لا يرتكب الإنسان المعصية و يدع التوبة اتّكالا على الآية المتقدّمة.

ص: 225


1- التوبة: 105.
2- النساء: 47 و 115.

[وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من الحلال و الحرام و الأمر و النهي و اتى بالمأمور به و ترك المنهيّ عنه و إنّما قال: «أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ» لأنّه أراد بذلك الواجبات و النوافل الّتي هي الطاعات دون المباحات [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً] أي فجأة لا تتوقّعونه [وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي لا تعرفون وقت نزوله بكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 56 الى 60]

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

و لمّا أمر اللّه سبحانه باتّباع الطاعات و اجتناب المعاصي تحذيرا من نزول العقوبات بيّن الغرض في ذلك بقوله: [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي كراهية أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: [يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي يا ندامتي و طول تحسّري علي ما ضيّعت من ثواب اللّه و قصّرت في أمر اللّه و التفريط إهمال ما يجب أن يتقدّم فيه حتّى يقوت وقتة و الجنب القرب أي في قربه و جواره يقال: فلان في جنب فلان أي في قربه و جواره و هو الجنّة و قال الزجّاج: أي فرّطت في طريق اللّه فيكون الجنب بمعنى الجانب أي قصّرت في الجانب الّذي يؤدّي إلى مرضاة اللّه.

و روى العيّاشيّ بالإسناد عن أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: نحن جنب اللّه. و في المحاسن عن الباقر عليه السّلام: إنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة الّذين وصفوا العدل ثمّ خالفوه و هو قوله: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ» الآية. و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام في الآية قال: جنب اللّه أمير المؤمنين و كذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم. و في الإكمال و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: نحن جنب اللّه و في المناقب عنه و عن أبيه في هذه الآية: عليّ جنب اللّه و حجّة على الخلق.

قوله: [وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي و إن كنت لمن المستهزئين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن و بالمؤمنين في دار الدنيا و قيل: معناه من الساخرين ممّن يدعوني إلى الإيمان.

ص: 226

و من الكلمات الّتي حكى اللّه عنهم قوله: [أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فإنّهم لمّا لم ينظروا في الأدلّة و أعرضوا عن القرآن و اشتغلوا بالدنيا و الأباطيل توهّموا أنّ اللّه لم يهدهم فقالوا ذلك بالظنّ و قد ردّ اللّه عليهم بقوله: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي» الآية، و قيل: معناه لو أنّ اللّه هداني إلى النجاة بأن يردّني إلى حال التكليف لكنت ممّن يتّقي المعاصي عن الجبّائيّ قال: لأنّهم يضطرّون يوم القيامة إلى العلم بالحقيقة بأنّ اللّه قد هداهم.

[أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي لو أنّ لي رجعة إلى الدنيا فأكون من الموحّدين المطيعين.

ثمّ أنكر اللّه قولهم فقال تعالى: [بَلى قَدْ جاءَتْكَ أي ليس كما قلت قد جاءتك آياتي أي حججي و دلالاتي [فَكَذَّبْتَ بِها] و أنفت من اتّباعها [وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ و قرئ في الشواذّ بكسر التاءات باعتبار تأنيث النفس.

[وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أنّ له شريكا أو ولدا [وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ استفهام تقريريّ أي الّذين تكبّروا عن الإيمان باللّه فيها مثواهم و مقامهم.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن خيثمة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من حدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنّما يصدق على اللّه و رسوله لأنّا إذا حدّثنا لا نقول: قال فلان و قال فلان إنّما نقول: قال اللّه و قال رسوله ثمّ تلا هذه الآية «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ» الآية، ثمّ أشار خيثمة إلى أذنيه فقال: صمّتا إن لم أكن سمعته.

و عن سودة بن كليب قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية فقال: هو إمام انتحل إمامته ليست له من اللّه قلت: و إن كان علويّا قال عليه السّلام: و إن كان علويّا قلت:

و إن كان فاطميّا قال عليه السّلام: و إن كان فاطميّا.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 61 الى 66]

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

ص: 227

لمّا أخبر سبحانه في الآية السابقة حال الكفّار عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار فقال:

[وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا] معاصيه خوفا من عقابه [بِمَفازَتِهِمْ أي بمنجاتهم و قرئ «بمفازاتهم» على أنّ المصادر قد تجمع إذا اختلف أجناسها و أصل الفوز النجاة و بذلك سمّيت المفازة على وجه التفاؤل بالنجاة منها كما سمّوا اللديغ سليما [لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ] أي لا يصيبهم المكروه و الشدّة [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من لذّات الدنيا.

و لمّا ذكر الوعد و الوعيد بيّن أنّه القادر على كلّ شي ء بقوله: [اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي محدثه و مبدعه [وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حافظ و مدبّر.

[لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ واحدها مقليد يريد مفاتح السماوات و الأرض بالرزق و الرحمة يفتح لمن يشاء و يغلق لمن يشاء على حسب ما يقتضيه الحكمة [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنّهم خسروا الجنّة و نعيمها و يصلون النار و سعيرها.

ثمّ أعلم أنّه المعبود و لا معبود سواه بقوله: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ] أي أ تأمروني أن أعبد غير اللّه [أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بما تأمرونني به إذ تأمرون بعبادة من لا يسمع و لا يبصر و لا ينفع و لا يضرّ.

و بالآية السابقة و هي قوله: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» استدلّت المجبّرة بأنّ اللّه خالق الكفر و الإيمان و أثبتوا الجبر بزعمهم.

و أجيب عنها بأجوبة صحيحة: منها أنّه قالت المجوسيّة: إنّ السباع و الهوامّ و الموذيات و الأمراض ليست من خلق اللّه فأراد سبحانه أن يبيّن أنّها بأجمع من خلقه ثمّ إنّ لفظة «كل» قد لا يوجب العموم لقوله تعالى: «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» (1) و الحال

ص: 228


1- النمل: 23.

أنّها ما أوتيت كلّ شي ء في العالم و قوله تعالى: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ» (1).

و الجواب الآخر أنّه لو كانت الأعمال من العباد من خلق اللّه لما أضافها إليهم بقوله: «كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» (2) و لما صحّ قوله: «وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (3) و لما صحّ قوله: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا» (4) و معلوم أنّ الكفر باطل و قال الجبّائيّ: اللّه خالق كلّ شي ء سوى أفعال خلقه الّتي صحّ فيها الأمر و النهي و استحقّوا بها الثواب و العقاب و لو كانت أفعالهم خلقا للّه لما جاز العقاب فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم و صورهم.

و قال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد فإذا أخبر اللّه سبحانه عن عباده أنّهم يفعلون الفعل الفلانيّ فقد قدّر ذلك الفعل فيصحّ إطلاق التقدير على الخلق و إن لم يكن له موجدا.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عبّاس: هذا أدب من اللّه لنبيّه و تهديد لغيره لأنّ اللّه عصمه من الشرك و هو كلام وارد على طريق الفرض و الشرط و لو أنّ مشتاقا لتهييع الرسل و إقناط الكفرة و الإيذان بغاية شناعة الكفر و الاشتراك و كونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره فكيف عن عداه و إفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد و اللام الاولى موطّئة للقسم و الأخريان للجواب.

فإن قيل: كيف صحّ هذا الكلام مع علم اللّه أنّ رسله لا يشركون و لا تحبط أعمالهم.

فالجواب أنّ الكلام قضيّة شرطيّة و القضيّة الشرطيّة لا يلزم من صدقها صدق جزئيها ألا ترى أنّ قولك: لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين قضيّة صادقة مع مع أنّ كلّ واحد من جزأيها غير صادق قال اللّه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (5) و لم يلزم من هذا صدق القول بأنّ فيهما آلهة و بأنّهما قد فسدتا.

ص: 229


1- الأحقاف: 25.
2- البقرة: 109.
3- آل عمران: 78.
4- ص: 27.
5- الأنبياء: 22.

ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن هذه الأمور ذكر ما هو المقصود فقال: [بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فردّ سبحانه ما اقترحوه منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الاستلام ببعض آلهتهم لأنّ قوله «قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي» يفيد أنّ المشركين عيّنوا عليه عبادة غير اللّه فقال سبحانه إنّهم بئس ما قالوا و لكن كن على الصدق و كن من الشاكرين على ما هداك و أرشدك

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 67 الى 70]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

فبيّن سبحانه أنّ المشركين لمّا جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في المعبوديّة قال:

[وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما وحّدوه و عظّموه تعظيما لائقا به فلو قيل: كيف إنّ الخلق ما عرفوا اللّه، فالجواب أنّ هذا وصف المشركين لا المؤمنين على أنّ المؤمنين أيضا لم يعرفوه كما هو.

و الضمير في الآية راجع إلى المشركين أي أشركوا معه غيره و الحالة أنّ [الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ] و هم جحدوا البعث و قالوا: إنّه عاجز عن الإعادة و النشر لأنّ هذا أمر غير ممكن فذكر سبحانه أن الأرض كلّها مع عظمها في مقدوره كالشي ء الّذي يقبض عليه القابض بكفّه و كذلك قوله: [وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشي ء المقدور له طيّه بيمينه و ذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار و الملك كقول الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجدتلقّاها عرابة باليمين

قال الزمخشريّ: المراد من هذا الكلام بيان عظمته و التوقيف على كنه جلاله لا إلى جهة حقيقة، روي أنّ يهوديّا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا أبا القاسم إنّ

ص: 230

اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع و الأرضين على إصبع و الجبال على إصبع و الشجر على إصبع و الثرى على إصبع و سائر الخلق على إصبع ثمّ يهزّهن فيقول: أنا الملك فضحك رسول اللّه تعجّبا ممّا قال.

قال الزمخشريّ: و إنّما ضحك أفصح العرب لأنّه لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك و لا إصبع و لا هزّ و لا شي ء من ذلك و لكن فهم من كلام اليهوديّ الخلاصة الّتي هي الدلالة على القدرة المحضة انتهى كلام الزمخشريّ.

و اعلم أنّ الأصل في الكلام حمله على الحقيقة فإن قام دليل منفصل على أنّه يتعذّر حمله على حقيقته فحينئذ يتعيّن صرفه إلى مجاز فإن حصلت هناك مجازات لم يتعيّن صرفه إلى مجاز معيّن إلّا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيّن و التعيين يحصل بالأولويّة و هذا هو الطريق الصحيح في استعمال اللفظ في معنى المجازيّة في الكلام و الكلام في الآية كذلك لأنّه لمّا دلّت الدلائل العقليّة و السمعيّة على امتناع ثبوت الأعضاء و الجوارح للّه تعالى فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز و أقربها.

و للرازيّ كتاب مفرد في إثبات تنزيه اللّه تعالى عن الجسم و المكان سمّاه تأسيس التقديس و من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه.

و قوله تعالى في الآية «وَ الْأَرْضُ» المراد الأرضون و بيّنه قوله: «جَمِيعاً» فإنّ هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلّا على الجمع فإنّ الأوصاف و الألفاظ الملحقة بالمفرد إذا كانت جمعا تدلّ على أنّ المراد منه الجمع كقوله: «وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ» (1).

قوله: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم و عمّا يضيفونه إليه.

[وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ و الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل و وجه الحكمة في ذلك أنّها علامة جعلها اللّه ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ بعد ظهور هذه العلامة تجديد الخلق فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل و النزول و قيل: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ» جمع صورة فكأنّه نفخ في

ص: 231


1- ق: 10.

صورة الخلق.

«فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» أي يموت من شدّة تلك الصيحة الّتي تخرج من الصور جميع من في السماوات و الأرض يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.

[إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ اختلف في المستثنى: قال ابن عبّاس: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و هو المرويّ عن حديث مرفوع ثمّ يميت اللّه ميكائيل و إسرافيل ثمّ جبرائيل و ملك الموت و القول الثاني أنّهم أي المستثنين هم الشهداء لقوله: «بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (1) و عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش. القول الثالث: المستثنى هو موسى لأنّه صعق مرّة فلا يصعق ثانيا. القول الرابع أنّهم الحور العين و سكّان العرش و الكرسيّ القول الخامس اللّه أعلم بأنّهم من هم و ليس في القرآن و الأخبار ما يدلّ على أنّهم من هم.

و اختلفوا في الصعقة: منهم من قال: إنّها غير الموت بدليل قوله في موسى عليه السّلام:

«وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً» مع أنّه لم يمت فهذا هو النفخ الّذي يورث الفزع الشديد فالمراد من نفخ الصعقة و من نفخ الفزع على هذه التقدير واحد و هو المذكور في سورة النمل في قوله: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» (2) و على هذا فنفخ الصور ليس إلّا مرّتين. و القول الثاني أنّ الصعقة عبارة عن الموت و القائلون بهذا القول قالوا: إنّهم يموتون من الفزع و شدّة الصوت و على هذا التقدير فالنفخة يحصل ثلاث مرّات أوّلها نفخة الفزع و هي المذكورة في سورة النمل و الثانية نفخة الصعق و الثالثة نفخة القيام و هما مذكورتان في هذه السورة قوله تعالى: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ».

و كلمة ثمّ في قوله: [ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ تفيد التراخي و هي متأخّرة عن النفخة الاولى و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ بينهما أربعين و لا أدري أربعون يوما أو شهرا أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة و قوله: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ» يعني

ص: 232


1- آل عمران: 196.
2- الكهف: 100.

قيامهم من القبور عقيب هذه النفخة الآخرة في الحال من غير تراخ لأنّ الفاء تدلّ على التعقيب و المراد من قوله «يَنْظُرُونَ» أي يقلّبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذ جاءهم خطب عظيم أو ينظرون ما ذا يفعل بهم و يجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف و الخمود في مكان لأجل استيلاء الحسرة و الدهشة عليهم.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها] و هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض الّتي يسكن و يقعد عليها الآن بدليل قوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» (1) يعني أرضا لم يكسب عليها الذنوب و بدليل قوله: «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» (2) بل هي أرض اخرى يخلقها اللّه لمحفل يوم القيامة.

و هاهنا بيان و هو أنّه قالت المجسّمة: إنّ اللّه تعالى نور محض فإذا حضر اللّه في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور اللّه و أكّدوا هذا القول بقوله: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (3).

و قد أجيب عن هذه الشبهة الواهية على التفصيل في سورة النور و كيف يجوز حمل الكلام في معنى النور على الحقيقة و كونه تعالى شأنه من جنس هذه الأنوار المشاهدة و قد فسّر لفظ النور في قوله: «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» (4) على العدل و قد يستعمل هذا اللفظ مجازا في هذا المعنى و في بيان أنّ المراد من لفظ النور هاهنا ليس إلّا هذا المعنى أمّا بيان الاستعمال فهو أنّ الناس شايع في كلامهم بأن يقولون للملك العادل: أشرقت الأرض بعد لك و أضاءت الدنيا بقسطك كما يقولون: أظلمت البلاد بجورك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

الظلم ظلمات يوم القيامة.

و القرينة على أنّ المراد من النور في الآية العدل فقط أنّه تعالى قال: بعده «وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ» و معلوم أنّ المجي ء بالشهداء ليس إلّا للشهادة و إظهار العدل. و أيضا قال في آخر الآية: «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» ثمّ إضافة النور إلى اللّه لا يلزم

ص: 233


1- النبأ: 38.
2- الحاقة: 14.
3- النور: 35.
4- الزمر: 64.

كون ذلك صفة ذات اللّه لأنّه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فلمّا كان ذلك النور من خلق اللّه و شرّفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور اللّه مثل قوله: بيت اللّه و ناقة اللّه. و هذا الجواب أقوى من الأوّل لأنّ في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة و الذهاب إلى المجاز.

قوله: [وَ وُضِعَ الْكِتابُ قيل: المراد من الكتاب اللوح المحفوظ الّذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت القيامة و قيل: المراد كتب الأعمال كما قال سبحانه:

«وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (1) و قال في آية اخرى «ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» (2).

قوله: [وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ و المراد من مجي ء الأنبياء ليكونوا شهداء على الناس قوله: [وَ الشُّهَداءِ] قيل: أراد بالشهداء المؤمنين و قيل: يعني الحفظة من الملائكة في أعمالهم و قيل: أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل اللّه، القميّ: الشهداء الأئمّة و في إرشاد المفيد عن الصادق عليه السّلام في قوله: «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» المراد إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها أي نور الإمام و قد جعله اللّه نورا للعالم و استغنى العباد عن ضوء الشمس و ذهبت الظلمة.

قوله تعالى: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ أي يفصل بينهم و يوصل إلى كلّ أحد حقّه من غير نقيصة [وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ أي يستوفي كلّ نفس جزاء ما عمل [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ عالم بكيفيّات أعمالهم و مقادير أفعالهم فلا يمكن دخول الخطاء في ذلك الحكم.

قوله تعالى: [سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 75]

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

ص: 234


1- اسرى: 13.
2- الكهف: 50.

لمّا شرح أحوال أهل القيامة بقوله: «وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» بيّن أحوال أهل العقاب ثمّ كيفيّة أهل الثواب «السوق» الدفع بالعنف (1) [وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي يساقون بالعنف إلى جهنّم تسوقهم الملائكة من خزنة جهنّم و هم ملائكة العذاب و نظيره قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» (2) أي يدفعون دفعا و أمّا الزمر فهي الأفواج المتفرّقة بعض في أثر بعض.

[حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها] أي تفتح أبواب جهنّم عند وصول أولئك إليها فإذا وصلوا باب جهنّم [قالَ لَهُمْ ملائكة العذاب [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم [يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ يقرءون عليكم آيات ربّكم و حجج ربّكم و ما يدلّكم على معرفته و بيان عبادته و يخوّفونكم من مشاهدة هذا اليوم و عذابه.

[قالُوا بَلى فيقول الكفّار: قد جاءتنا و خوّفونا [وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي وجب العقاب على من كفر باللّه لأنّه أخبر بذلك فلم يكن يقع منه على خلاف ما أخبر به فصار كوننا في جهنّم موافقا لخبره سبحانه و الكلمة قوله تعالى لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (3) و قد كنّا ممّن تبعه و كذّبنا الرسل.

قوله: [قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها] فتقول الخزنة لهم: ادخلوا أبواب جهنّم و أنتم مخلّدون و مؤبّدون فيها و إبهام القائل لتهويل المقول [فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس موضع المتكبّرين عن الحقّ و هذا الكلام لبيان أنّ ورودهم في النار بناء على

ص: 235


1- بل هو الحث على السير.
2- الطور: 13.
3- ص: 85.

كفرهم و تكبّرهم عن عبادة اللّه و هذا العذاب إنّما أوردوه على أنفسهم بكفرهم على سبيل الاختيار حيث لم يعتنوا بدلائل التوحيد و لم يقبلوا قول الرسل.

[وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً] فبيّن حال أهل الثواب و الّذين لم يتكبّروا عن أمره و خافوا عن مخالفة اللّه و رسله.

فإن قيل: السوق في أهل النار للعذاب معقول لأنّهم لا بدّ و أن يساقوا إليه لأنّهم ذهبوا إليه عنفا و كرها و لكن أيّ حاجة لأهل الكرامة بالسوق؟

فالجواب أنّه إنّما ذكر السوق على وجه المقابلة لسوق الكافرين كلفظ البشارة في قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»* (1) و إنّما البشارة للخير و مثل قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ».

و قيل وجه آخر و هو أنّ المحبّة و الصداقة باقية بين المتّقين فإذا قيل لواحد منهم: اذهب إلى الجنّة فيقول: لا أدخلها حتّى يدخلها أصدقائي فيتأخّرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنّة.

و قيل أيضا وجه آخر: أنّ المؤمنين الماحضين قد عبدوا اللّه مخلصا لا للجنّة و لا للنار فتصير شدّة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال و الجمال مانعة لهم من الرغبة في الجنّة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنّة.

و قيل: إنّ أهل الجنّة و أهل النار يساقون إلّا أنّ المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان و العنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس و المراد بسوق أهل الجنّة سوق مراكبهم لأنّه لا يذهب بهم إلّا راكبين فالمراد إسراعهم إلى دار الكرامة و الرضوان كما يفعل بمن يكرم و يشرف من الوافدين على الملوك شتّان ما بين السوقين! ثمّ قال تعالى: [حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها] فإن قيل:

قال تعالى في أهل النار: «فُتِحَتْ أَبْوابُها» بغير الواو و قال هاهنا بالواو فما الفرق؟ و الفرق أنّ أبواب جهنّم لا تفتّح إلّا عند دخول أهلها فيها فأمّا أبواب الجنّة ففتحها يكون متقدّما على وصولهم إليها بدليل قوله: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» (2) فلذلك جي ء

ص: 236


1- آل عمران: 21.
2- ص: 51.

بالواو كأنّه قيل: حتّى إذا جاءوها و قد فتحت أبوابها و الواو واو حال و قيل: الواو واو الثمانية قال المبرّد: الواو زائدة و أنكر قول من قال: إنّها واو الثمانية و أنشد لامرئ القيس:

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ و انتحى بنا بطن جنب ذي حقاف عقنقل

قال: و المعنى فلمّا أجزنا ساحة الحيّ انتحى بنا.

و بالجملة فجواب إذا في صفة أهل الجنّة محذوف و تقديره: حتّى إذا جاءوها و فتحت أبوابها فازوا و نالوا و كانوا كيت و كيت كما أنّ في بيت امرئ القيس الجواب محذوف و التقدير: فلمّا أجزنا ساحة الحيّ و انتحى بنا خلونا و نعمنا.

و بالجملة فالمعنى: حتّى إذا جاءوها و قد فتحت لهم أبواب الجنّة و قال لهم خزنتها:

[سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ الخزنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث أوّلها يبشّرونهم بالسلامة من كلّ الآفات فتقول الملائكة عند استقبالهم: سلامة من اللّه عليكم و يحيّونهم ليزدادوا بذلك سرورا «طِبْتُمْ» بالعمل الصالح في الدنيا و طابت و زكت أعمالكم أو المعنى: طابت أنفسكم بدخول الجنّة و قيل: إنّهم طيّبوا قبل دخول الجنّة بالمغفرة و قيل: طبتم أي طاب لكم المقام و قيل: إنّهم إذا قربوا من الجنّة يردون إلى عين من الماء فيغتسلون بها و يشربون منها فيطهّر اللّه أجوافهم فلا يكون بعد ذلك منهم حدث و أذى و لا يتغيّر ألوانهم فحينئذ تقول الملائكة لهم: طبتم فادخلوها خالدين مؤبّدين و الفاء في قوله: «فَادْخُلُوها» يدلّ على كون ذلك الدخول معلّلا و متعاقبا بالطيب و الطهارة.

قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ أحدا لا يدخلها إلّا إذا كان طاهرا عن كلّ المعاصي، قال الرازيّ: و هذا القول ضعيف لأنّه يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات فحينئذ يصيرون طيّبين طاهرين.

و عن سهل بن سعد الساعديّ أنّ رسول اللّه قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريّان لا يدخلها إلّا الصائمون.

[وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ قال المتّقون عند ذلك: الحمد للّه الذي صدقنا وعده الّذي وعدنا على ألسنة الرسل في قوله: «أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا

ص: 237

بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ».

[وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ و المراد بالأرض أرض الجنّة و عبّر عنه بالإرث لأنّ الجنّة كانت في أوّل الأمر لآدم فلمّا عادت إلى أولاده كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث أو لأنّ الوارث يتصرّف فيما يرثه كما يشاء من غير منازع و لا مدافع فكذلك هؤلاء يتصرّفون في الجنّة كيف شاءوا و المشابهة علّة لحسن المجاز.

قوله تعالى: [نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ] أي نأخذ منها مأوى و مبوّء [حَيْثُ نَشاءُ] و هذا إشارة إلى كثرة قصورهم و منازلهم وسعة نعمتهم [فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي نعم ثواب المحسنين الجنّة قال مقاتل: إنّ هذا الكلام من قول اللّه و ليس من كلام أهل الجنّة.

قوله: [وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ لمّا بيّن ثواب أهل الإيمان ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال: كما أنّ ثواب المتّقين الجنّة فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش و أطرافه أي محدقين بالعرش و يطوفون حوله [يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به و يذكرونه بصفاته الّتي هو عليها و قيل: يحمدون اللّه حيث دخل الموحّدون الجنّة و تسبيحهم في ذلك الوقت على سبيل التلذّذ و التنعّم لا على وجه التعبّد إذ ليس هناك تكليف.

ثمّ قال سبحانه: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنّة أو المعنى: قضي بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم [وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحقّ و لمّا كان تقرير المؤمنين بقولهم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» و بيّن أنّهم اشتغلوا بهذا التحميد تلذّذا لا تكليفا فكذلك الملائكة متوافقين على الاستغراق في التحميد تلذّذا و كان ذلك سببا لمزيد التذاذهم و قيل: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» من كلام أهل الجنّة شكرا و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى فقال في ابتداء الخلق: الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض و قال بعد بعثهم و استقرارهم في منازلهم: الحمد للّه و هذا أدب أدّب اللّه العباد بأنّه يجب الأخذ بأدبه في ابتداء كلّ أمر و ختم كلّ أمر.

ص: 238

سورة المؤمن

اشارة

مكّيّة إلّا آيتين منها نزلتا بالمدينة «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ» إلى قوله:

«لا يَعْلَمُونَ» و قيل: إلّا قوله تعالى: «وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ» يعني بذلك صلاة الفجر و المغرب و قد ثبت أنّ فرض الصلاة نزل بالمدينة.

فضل قراءة الحواميم كثير و فضلها خصوصا روى أبو بردة الأسلميّ (أو بريدة) عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم في صلاة الليل و عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: الحواميم ديباج القرآن و عن ابن عبّاس قال:

لكلّ شي ء لباب و لباب القرآن الحواميم قال ابن مسعود: إذا وقعت في قراءة الحواميم وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهنّ.

و عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و من قرأ سورة حم المؤمن لم يبق روح نبيّ و لا صدّيق و لا مؤمن إلّا صلّوا عليه و استغفروا له و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال:

الحواميم ريحان القرآن فاحمدوا اللّه و اشكروه بحفظها و تلاوتها و إنّ العبد ليقوم يقرء الحواميم فيخرج من فيه ريح أطيب من المسك الأزفر و العنبر و إنّ اللّه ليرحم تاليها و قاريها و يرحم جيرانه و أصدقاء و كلّ حميم أو قريب له و إنّه في القيامة يستغفر له العرش و الكرسيّ و ملائكة اللّه المقرّبون.

و روى أبو الصباح عن الباقر عليه السّلام قال: من قرأ حم المؤمن في كلّ ثلاث غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر و ألزمه التقوى و جعل الآخرة خيرا له من الدنيا.

ص: 239

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)

و قرئ بكسر الحاء و بعض بين الفتح و الكسر قال صاحب الكشّاف: بفتح الميم و تسكينها و وجّه الفتح لالتقاء الساكنين و إيثار الفتح للخفّة نحو أين و كيف أو النصب بإضمار اقرء و منع الصرف للتعريف و التأنيث لأنّها اسم للسورة و أمّا السكون لأنّ الأسماء المجرّدة تذكر موقوفة الأواخر.

و بالجملة قال الرازيّ الأقرب أن يقال: «حم» اسم للسورة فقوله: [حم مبتدأ و قوله: [تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبره و التقدير: إنّ هذه السورة المسمّاة بحم تنزيل الكتاب و تنزيل مصدر لكنّ المراد منه المنزل. و قوله: من اللّه بيان أنّه تعالى هو المنزل و وصف نفسه بالغالب العليم. و الفائدة في ذكر [الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بيان أنّه تعالى بقدرته و علمه أنزل القرآن على هذا الحدّ الّذي يتضمّن المصالح في عموم التكليف و الإعجاز لقدرته و علمه.

ثمّ وصف نفسه بما يجمع الوعد و الوعيد و الترهيب و الترغيب فقال سبحانه: [غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] فهذه ستّة أنواع من الصفات:

ص: 240

الاولى: غافر الذنب قال الجبّائيّ: معناه أنّه غافر الذنب إذا استحقّ المذنب غفرانه إمّا بتوبة أو طاعة أعظم من الذنب و مراده أنّ فاعل المعصية إمّا أن يقال: إنّه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأوّل كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها و إن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلّا بالتوبة انتهى كلام الجبّائيّ.

قال الرازيّ: و مذهب أصحابنا أنّ اللّه تعالى قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة و الآية تدلّ على ذلك لأنّ الغفر معناه الستر و معنى الغفر إنّما يعقل في الشي ء الّذي يكون باقيا موجودا فيستر و الصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعليها فمعنى الغفر فيها غير معقول.

و لا يمكن حمل قوله: غافر الذنب على الكبيرة بعد التوبة لأنّ معنى كونه قابلا للتوبة ليس إلّا ذلك و إنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب و توسيط الواو بين الأوّلين لإفادة الجمع بين محو الذنوب و قبول التوبة أو تغاير الوصفين فثبت أنّ كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة على أنّ الكلام مذكور في معرض المدح العظيم فحمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح أليق انتهى كلامه و فيه نظر.

الصفة الثانية: قوله تعالى: «قابِلِ التَّوْبِ» و في لفظ التوب قال أبو عبيدة: هو مصدر و قال الأخفش: إنّه جماعة التوبة و قال المبرّد: إنّه مصدر تاب يتوب توبا مثل «قَوْلًا»* قالت الأشاعرة: إنّ قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضّل و ليس بواجب على اللّه و قالت المعتزلة: إنّه واجب على اللّه.

الصفة الثالثة: قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» فلو قيل: إن قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» و هي صفة للمعرفة و هو اللّه و لا يصلح أن يوصف المعرفة بالنكرة كما أنّه يقال: مررت برجل شديد البطش و لا يقال: مررت بعبد اللّه شديد البطش فأجيب بأنّ هذه الصفة و إن كانت نكرة إلّا أنّها لمّا ذكرت مع سائر الصفات الّتي هي معارف فحسن ذكرها مثل قوله: «وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» (1) و أجاب الزجّاج أنّ خفض شديد

ص: 241


1- هود: 108.

العقاب على البدل و جعل النكرة بدلا من المعرفة و بالعكس أمر جائز و قال ابن عبّاس في تفسير الآية: إنّه تعالى غافر الذنب لمن قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا قابل التوب؟؟؟

قال: لا إله إلّا اللّه شديد العقاب لمن لم يقل: لا إله إلّا اللّه ذي الطول أي ذو الغنى؟؟؟

لم يقل: لا إله إلّا اللّه. أقول: و قد عرفت أنّ هذه الكلمة مقيّدة بقبول الولاية و أداء شروطها.

و بالجملة فقوله: «ذِي الطَّوْلِ» صفة رابعة و قيل: إنّه إنّما ذكر ذي الطول عقيب قوله: «شَدِيدِ الْعِقابِ» لبيان تفضّله و طوله على الخلق و الطول الإحسان كقول الشاعر: «ليلى و ليلى» إلى آخر البيت و هذا البيان ليعلم أنّ العاصي أتى في هلاك نفسه من قبل نفسه لا من قبل ربّه و إلّا فنعمه سابغة.

الصفة الخامسة: التوحيد المطلق و هو قوله: لا إله إلّا هو فحينئذ لا يشاركه أحد في العبادة.

السادسة: قوله: «إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» و هذه الصفة أيضا داعية إلى الترغيب و الترهيب؟؟؟

أنّ التوحيد داع إلى الترغيب و الترهيب.

و لمّا ذكر سبحانه صفاته الشريفة و بيّن أنّ القرآن كتاب أنزله للهداية ثمّ ذكر أحوال المخاصم في دفع حجج اللّه و جحدها فقال: [ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا] بآيات اللّه اعلم أنّ الجدال نوعان جدال في تقرير الحقّ و جدال في تقرير الباطل الجدال في إثبات الحقّ فهو حرفة الأنبياء عليهم السّلام قال تعالى لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (1) و أمّا الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم و هو المراد في الآية؟؟؟

قال: «ما يُجادِلُ» الآية و قال: «وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ جدالا في القرآن كفر فقوله: إنّ جدالا على لفظ التنكير يدلّ على التمييز بين؟؟؟

و جدال و لفظ الجدال في الشي ء مشعر بالجدال الباطل و لفظ الجدال عن الشي ء مشعر بالجدال الحقّ و الذبّ عن الحقّ و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تماروا في القرآن فإنّ المراء فيه كفر و الجدال في آيات اللّه هو أن تقول مرّة إنّه سحر و مرّة إنّه شعر و مرّة إنّه قول الكهنة و؟؟؟

أساطير الأوّلين و مرّة إنّما يعلّمه بشر و أشباه هذا من الشبهات الباطلة فذكر تعالى؟؟؟

ص: 242


1- النحل: 125.

لا يفعل هذا إلّا الّذين كفروا و أعرضوا عن الحقّ.

[فَلا يَغْرُرْكَ يا محمّد [تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ] أي تصرّفهم في البلاد للتجارات سالمين أصحّاء مع كفرهم فإنّ اللّه لا يخفى عليه حالهم و إنّما يملهم لأنّهم في سلطانه و لا يفوتونه و في هذا غاية التهديد أي فإنّي و إن أمهلتهم فإنّي سآخذهم كما فعلت بأمثالهم من الأمم المكذّبة و كانت قريش كذلك يتقلّبون في بلاد الشام و اليمن فرحين فرهين و لهم الأرباح الكثيرة في تجاراتهم و الزمان مساعد لهم.

ثمّ كشف عن هذا المعنى بقوله: [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا و هو رسولهم [وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي الأمم المستمرّة على التكذيب و الكفر نحو قوم هود و ثمود و غيرهم من بعدهم و هم الّذين تحزّبوا على تكذيب الأنبياء.

[وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ] من أولئك الأحزاب [بِرَسُولِهِمْ أي قصدوه [لِيَأْخُذُوهُ أي ليهلكوه و يقتلوه و إنّما قال: «بِرَسُولِهِمْ» و لم يقل: برسولها لأنّ المراد الرجال.

[وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ مثل قولهم: ما أنتم بشر مثلنا و هلّا أرسل اللّه إلينا ملائكة [لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ و يبطلوا الحقّ و يزيلوه يقال: أدحض اللّه حجّته أي أزالها و أزلّها [فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إيّاهم فأفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصرّوا على الجدال و الكفر بآيات اللّه.

ثمّ قال: [وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ] أي مثل الّذي حقّ على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقّت كلمتي أيضا على هؤلاء الّذين كفروا من قومك فوجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 7 الى 10]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10)

ص: 243

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين و أنّه تستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند اللّه فحالهم بخلاف حال الكفّار.

المعنى: إنّه إذا كان يبالغون في إظهار العداوة للأنبياء و المؤمنين فأشرف طبقات المخلوقات هم حملة العرش من الملائكة فهم يبالغون في إظهار المحبّة و الدعاء فلا تبال بهؤلاء الأراذل و لا تقم لهم وزنا فإنّ حملة العرش ينصرونك بالدعاء.

روي أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السلفي و رءوسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تتفكّروا في عظم ربّكم و لكن تفكّروا فيما خلق اللّه من الملائكة فإنّ خلقا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله و قدماه في الأرض السفلى و قد مرق رأسه من سبع سماوات و إنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوضع قيل: إنّه طائر صغير.

روى الزمخشريّ: إنّ اللّه أمر جميع الملائكة أن يغدوا و يروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة و خلق اللّه العرش من جوهرة خضراء و بين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام و حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهلّلين مكبّرين و من ورائهم سبعون ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عوائقهم رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلّا و يسبّح بما لا يسبّح به الآخر و الحاصل أنّ حملة العرش [وَ مَنْ حَوْلَهُ يعني الملائكة المطيفين بالعرش و هم الكرّوبيّون و سادة الملائكة و أشرافها ينزّهون ربّهم عمّا يصفه به هؤلاء المجادلون [وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ و يصدّقونه بوحدانيّته [وَ يَسْتَغْفِرُونَ و يسألون اللّه المغفرة [لِلَّذِينَ آمَنُوا] من أهل الأرض و يدعون لمن معك من المؤمنين فإنّ المشاركة في الإيمان أدعى الدواعي و أتمّها إلى النصح و الشفقة و استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم و يقولون في دعائهم للمؤمنين:

[رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً] أي وسعت رحمتك و علمك كلّ شي ء و المراد بالعلم المعلوم كما ينبئ عن هذا المعنى قوله: «وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ» أي معلومه

ص: 244

على التفصيل و في هذا تعليم و أدب لطريقة الدعاء لأنّه لمّا كان السعادة مربوطة بأمرين التعظيم لأمر اللّه و الشفقة على خلق اللّه المستحقّين لها فقوله: «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» مشعر بالتعظيم لأمر اللّه و قوله «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» مشعر بالشفقة على خلق اللّه.

فقالوا: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا] من الشرك و المعاصي [وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الّذي دعوت إليه خلقك و هو دين الإسلام [وَ قِهِمْ و ادفع عنهم [عَذابَ الْجَحِيمِ و في هذه الآية دلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضيل من اللّه إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله اللّه سبحانه لا محالة.

قوله: [رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ مع قبول توبتهم و وقايتهم النار [جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ على ألسن أنبيائك [وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ليكمل انسهم و يتمّ سرورهم [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ] الغالب القادر على ما يشاء [الْحَكِيمُ في أفعالك.

[وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي و من تقه عذاب السيّئات و المعاصي [فَقَدْ رَحِمْتَهُ يوم القيامة لأنّ من انصرف عنه شرّ معاصيه فقد تفضّل و أنعم عليه [وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الظفر بالبغية و الفلاح.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام في قوله: «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أي آمنوا بولايتنا و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّ للّه ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يسقط الريح الورق أوان سقوطه و ذلك قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» الآية قال عليه السّلام:

استغفارهم اللّه لكم دون هذا الخلق. و القميّ في قوله: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ» يعني رسول اللّه و الأوصياء من بعده يحملون علم اللّه و من حوله يعني الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا أي لشيعة آل محمّد و قوله: «لِلَّذِينَ تابُوا» أي للّذين تابوا من ولاية غيرهم مثل بني اميّة «وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» يعني ولاية وليّ اللّه «وَ مَنْ صَلَحَ» يعني من تولّى عليّا و ذلك صلاحهم «وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» لمن نجاه اللّه عن ولاية غير عليّ و أولاده المعصومين.

و في الكافي مرفوعا: إنّ اللّه عزّ و جلّ أعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطي خصلة

ص: 245

منها جميع أهل السماوات و الأرض لنجوا بها ثمّ تلا هذه الآية انتهى الحديث.

و هاهنا نكتة و هي أنّ الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ ربّنا كما قالت الملائكة:

«رَبَّنا وَسِعْتَ» الآية، و قال آدم عليه السّلام: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» (1) و قال نوح عليه السّلام:

«رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» (2) الآية، و قال أيضا: «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (3) و قال أيضا: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ» (4) الآية، و قال إبراهيم: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (5) و قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» (6) و قال: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» (7) و قال موسى:

في قصّة الوكز «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» (8) و قال سليمان: «ربّ هَبْ لِي مُلْكاً» (9) و قال عيسى: «رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً» (10) و قال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» (11) و حكى سبحانه عن المؤمنين أنّهم قالوا «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» و أعادوا إلى آخر السورة (12) هذه اللفظة خمس مرّات فظهر أنّ الترتيب في الدعاء أن ينادي العبد ربّه بقوله: يا ربّ.

فإن قيل: إنّ لفظ اللّه أعظم من لفظ الربّ فلم صار لفظ الربّ مختصّا بوقت الدعاء؟

فالجواب أنّ المناسب في المقام لفظ الربّ فإنّ العبد يقول: كنت في كتم العدم المحض و النفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود و ربّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك و إحسانك القديم إليّ فبعد هذا الخطاب و النداء إلى ربّه فليحسن الداعي الثناء عليه ثمّ يستدعي حوائجه و العقل يحكم برعاية هذا الترتيب و ذلك لأنّ ذكر اللّه بالثناء و التعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس فكما أنّ ذرّة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكلّ ذهبا

ص: 246


1- الأعراف: 22.
2- هود: 47.
3- المؤمنون: 98.
4- ابراهيم: 41.
5- البقرة: 260.
6- ابراهيم: 41.
7- البقرة: 128.
8- القصص: 16.
9- الشعراء: 83.
10- المائدة: 117.
11- المؤمنون: 98.
12- آل عمران: 191.

إبريزا فكذلك إذا وقعت ذرّة من إكسير معرفة اللّه و جلاله على جوهر الروح النطقيّة انقلب من نحوسة النحاس إلى صفاء القدس و النقاوة و متى أشرق نور معرفته في جوهر الروح يصير الروح أقوى و أكمل فتأثير القويّ أقوى فكان حصول الشي ء المطلوب بسبب هذه القوّة أمكن و أقرب و هذا هو السبب في تقديم الثناء على اللّه على الدعاء.

و هاهنا بحث آخر و هو أنّ العلم يصحّ أن يسع كلّ شي ء لكنّ الرحمة كيف يسع كلّ شي ء لأنّ المضرور حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك الضرر رحمة.

فالجواب أنّ كلّ موجود فقد نال من رحمة اللّه نصيبا و ذلك لأنّ الموجود إمّا واجب و إمّا ممكن أمّا الواجب فليس إلّا اللّه و أمّا الممكن فوجوده من اللّه بإيجاده و ذلك رحمة فلا موجود إلّا و قد وصل إليه نصيب و نصاب من رحمة اللّه و المقصود بالذات من الخلق و التربية الرحمة و الإحسان و لهذا قالت الحكماء: الخير مراد مرضيّ و الشرّ مراد مكروه و الخير مقضيّ به بالذات و الشرّ مقضيّ به بالعرض و في هذا البيان غور عظيم.

فإن قيل: إنّ قولهم: «وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» و قولهم: «وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ» و قد فسّرتم أي قهم عذاب السيّئات فما هذا التكرار الخالي عن الفائدة؟

فالجواب أنّ عذاب الجحيم يتناول عذاب جهنّم و عذاب السيّئات يشمل عذاب الموقف و القبر و مواقف القيامة أو المراد من قولهم: «وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ» المراد الحفظ من العقائد المفسدة في الدين و الأعمال الفاسدة كما هو المفهوم من ظاهر الآية.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أي إنّ الملائكة ينادون الكفّار يوم القيامة و المراد من الملائكة خزنة جهنّم ينادون الكفّار و هم في النار: لمقت اللّه [أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ و ذلك أنّهم مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء الّتي بسبب اتّباعها وقعوا فيما وقعوا أو المعنى أنّ الكفّار مقت بعضهم بعضا من الأحباب كقوله: «يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (1) و المقت أشدّ البغض فتقول الملائكة لهم عند ذلك: لمقت اللّه إيّاكم في الدنيا أكبر و أعظم من مقتكم و السبب أنّكم كنتم إذ تدعون من جهة الأنبياء [إِلَى الْإِيمانِ فتأبون [و تكفرون اتّباعا لأنفسكم و مسارعة إلى هواها أو اقتداء بأخلّائكم المضلّين.

ص: 247


1- العنكبوت: 25.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 11 الى 17]

قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

المعنى: بيّن سبحانه أنّ الكفّار لمّا خوطبوا بهذا الخطاب و هو قوله: «لَمَقْتُ اللَّهِ» الآية [قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ اختلف في معناه على وجوه:

أحدها أنّ الإماتة الاولى في الدنيا بعد الحياة و الثانية في القبر قبل البعث و الإحياء الاولى في القبر للمساءلة و الثانية في الحشر و هو اختيار بعض علماء أهل الجماعة مثل السدّيّ و البلخيّ.

و ثانيها أنّ الإماتة الاولى حال كونهم نطفا فأحياهم اللّه في الدنيا ثمّ أماتهم الموتة الثانية ثمّ أحياهم للبعث فهاتان حياتان و موتتان و نظيره قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً» و هذا قول ابن عبّاس و قتادة و الضحّاك و اختاره أبو مسلم.

و ثالثها أنّ الحياة الاولى في الدنيا و الثانية في القبر و لم يرد الحياة يوم القيامة و الموتة الاولى في الدنيا و الثانية في القبر عن الجبّائيّ و قوله: «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» فاثنتين نعت لمصدر محذوف و التقدير: إماتتين و إحياءتين اثنتين و في تفسير عليّ بن إبراهيم قال الصادق: ذلك في الرجعة.

ثمّ حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا: [فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا] فالفاء فيه معنى السببيّة و ذلك أنّهم لمّا كانوا منكرين في البعث فلمّا شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرّتين فلا جرم وقع هذا الاعتراف كالمسبّب عن تلك الإماتة و الإحياء.

ثمّ حكى سبحانه عن قولهم [فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ النار [سَبِيلٍ إلى الدنيا لنعمل بطاعتك و في مثل هذا الكلام نوع تلطّف في الاستدعاء و يعادل الاستفهام: أم اليأس وقع

ص: 248

فلا خروج و لا سبيل و في الكلام حذف تقديره: فأجيبوا بأنّه لا سبيل لكم إلى الخروج.

و ينبئ عن هذا الجواب [ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي ذلكم العذاب الّذي حلّ بكم بسبب أنّه إذا قيل لا إله إلّا اللّه استكبرتم و قلتم أجعل الآلهة إلها واحدا و جحدتم ذلك [وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ معبود آخر من الأصنام و الأوثان [تُؤْمِنُوا] و تصدّقوا و تقبّلوا [فَالْحُكْمُ في ذلك و الفصل بين المحقّ و المبطل [لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ] القادر على كلّ شي ء الّذي ليس فوقه من هو أقدر منه أو من يساويه في مقدوره و نقلت هذه اللفظة من علوّ المكان إلى علوّ الشأن كما يقال: استعلى فلان بالحجّة و القوّة.

قوله: [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً] و لمّا كان أهمّ المهمّات رعاية مصالح الأديان من عباده فراعى بإظهار الحجج و البيّنات و راعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان فالآيات لحياة الأديان و الأرزاق لحياة الأبدان فبيّن سبحانه في الآية أنّه أراكم بيّناته و أنزل أرزاقكم من السماء لقوام حياتكم [وَ ما يَتَذَكَّرُ] و يتّعظ بهذه الأمور و ليس تتفكّر في حقيقتها [إِلَّا مَنْ يُنِيبُ و يرجع إليه و يقبل طاعته.

ثمّ أمر المؤمنين بقوله: [فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي وجّهوا عبادتكم إليه وحده [وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فلا تبالوا بهم و لا تعتنوا بغيظهم و كرههم.

ثمّ وصف نفسه سبحانه [رَفِيعُ الدَّرَجاتِ الرفيع بمعنى الرافع أي هو رافع درجات الأنبياء و الموحّدين في الجنّة و قيل: رافع السماوات السبع و قيل: معناه أنّه سبحانه عالى الصفات [ذُو الْعَرْشِ أي مالك العرش و ربّه و قيل: المراد من العرش الملك.

[يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و قيل: الروح القرآن و كلّ كتاب أنزله اللّه على نبيّ من أنبيائه و قيل: الروح الوحي هنا لأنّه يحيا به القلب أي يلقي الوحي على قلب من يشاء ممّن يراه أهلا له يقال: ألقيت عليه كذا أي فهّمته و قيل:

إنّ الروح جبرئيل يرسله اللّه بأمره و قيل: الروح هنا النبوّة.

[لِيُنْذِرَ] بما اوحي إليه [يَوْمَ التَّلاقِ أي لينذر اللّه الناس أو لينذر النبيّ الناس و قرئ بالتاء للخطاب للنبيّ أي لتنذر الناس العذاب يوم القيامة لأنّه يتلاقى فيه الأرواح

ص: 249

و الأجسام أو يلتقي في ذلك اليوم أهل السماء و أهل الأرض و قيل: يلتقي فيه الأوّلون و الآخرون و الخصم و المخصوم و قيل: يلتقي فيه الخالق و المخلوق عن ابن عبّاس يعني أنّه يحكم بينهم و قيل: يلتقي المرء و عمله و الكلّ مراد.

[يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ من قبورهم بدل من يوم التلاق أي خارجون من قبورهم و ظاهرون و لا يسترهم شي ء من جبل أو أكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا و ليس عليهم ثياب إنّما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث: يحشرون عراة حفاة و يمكن أن يكون المعنى كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم و انكشاف أسرارهم كما قال تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (1).

[لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ] فيجازي كلّا بعمله إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ و نظيره قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (2) فإن قيل: إنّ اللّه لا يخفى عليه منهم شي ء في جميع الأيّام فما معنى التقييد بذلك اليوم؟ لأنّهم كانوا يتوهّمون أنّ اللّه لا يراهم و يخفى عليه أعمالهم و هو غير عالم بالجزئيّات فهم في ذلك اليوم صائرون من الانكشاف و البروز إلى حال لا يتوهّمون فيها مثل ما يتوهّمونه في الدنيا قال: «وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» (3).

قوله: [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ] و التقدير ينادي فيه لمن الملك و هذا النداء في أيّ الأوقات يحصل فيه قولان: الأوّل قال المفسّرون: إذا هلك كلّ من في السماوات و من في الأرض فيقول الربّ: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» يعني يوم القيامة و لا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» قال محمّد بن كعب القرظيّ: يقول اللّه ذلك بين النفختين حين يغني الخلائق كلّها و القول الثاني: أنّه تعالى يقول و ذلك يوم الطلاق يوم يبرز العباد من قبورهم فيقرّ المؤمنون و الكافرون بأنّه للّه الواحد القهّار.

و إنّما خصّ ذلك اليوم بأنّه له الملك لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا و لا يملك أحد شيئا في ذلك اليوم لأنّه تعالى يملك جميع الأمور من غير تمليك مملّك

ص: 250


1- الطارق: 6.
2- الحاقة: 18.
3- حم السجدة: 22.

و قد أنكر بعض أنّ هذا النداء يقع وقت هلاك الكلّ بل قالوا: إنّ الآية لا تدلّ على حصول النداء في ذلك الوقت بل يقع يوم التلاق و يوم البروز و يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت و الناس في ذلك الوقت أحياء بل يستفاد من الآية أنّ النداء يقع في يوم هم بارزون.

ثمّ إنّ الكلام لا بدّ فيه من فائدة و إنّما يحسن تكلّمه حال كون المتكلّم و حشره إمّا لأنّه يحفظ به شيئا كالّذي يكرّر على الدرس أو لأجل أنّه يحصل له سرور بما يقوله و يستلذّ به و كلّها في حقّ اللّه محال و لو ذكر في ذلك الوقت لأجل أن يعبد اللّه بذلك الذكر فذلك أيضا ممنوع لأنّه لا تكليف و لا مكلّف نعم يمكن أن يكون النداء وقت فناء البشر دون الملائكة فيكون في ذلك الوقت وقوع النداء لمصلحة من المصالح.

قوله تعالى: [الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ تجزى المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته و في الحديث إنّ اللّه تعالى يقول: أنا الملك الديّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة أن يدخل الجنّة و لا لأحد من أهل النار أن يدخل النار و عنده مظلمة حتّى أقتصّه منه ثمّ تلا هذه الآية.

[لا ظُلْمَ الْيَوْمَ أي لا ظلم لأحد على أحد و لا ينقص من ثواب أحد و لا يزاد في عقاب أحد [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره.

قال القاضي: هذه الآية صريحة قويّة في إبطال قول المجبّرة لأنّه تعالى إذا خلق في الكافر الكفر ثمّ عذّبه عليه فهذا هو عين الظلم.

قوله: [سورة غافر (40): الآيات 18 الى 20]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

أمر سبحانه أن يخوّف المكلّفين يوم القيامة فقال:

[وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ] أي الدانية و هو يوم القيامة لأنّ كلّ ما هو آت دان قريب و يوم دنوّا المجازاة و الآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا و حضر و الآزفة نعت لمحذوف مؤنّث على تقدير يوم القيامة.

و يوم الآزفة يوم مسارعتهم دخول النار فإنّ عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها

ص: 251

من شدّة الخوف و قيل: يوم الآزفة يوم حضور الموت و الّذي يدلّ على هذا المعنى أنّه تعالى وصف القيامة بأنّه يوم التلاق و يوم هم بارزون ثمّ قال: بعده «وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب و أيضا الصفات المذكورة بعد قوله، «يَوْمَ الْآزِفَةِ» لائقة بيوم حضور الموت.

و اختلفوا في أنّ المراد من قوله: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» كناية من شدّة الخوف أو هو محمول على ظاهره؟ قيل: كناية عن شدّة الخوف و قيل: بل هو محمول على ظاهره و القلوب تنتزع من مواضعها بسبب شدّة الخوف و يبلغ الحناجر حقيقة فلا تخرج فيموتوا و لا ترجع إلى مواضعها فيتنفّسوا و قوله: «كاظِمِينَ» أي مكروبين و الكاظم الساكت حال امتلائه غمّا و غيظا و هو حال عن أصحاب القلوب و القلوب كاظمة على غمّ و كرب مع بلوغها موضع الحنجرة. و أتى بلفظ جمع السلامة لأنّه وصف القلوب بالكظم الّذي هو من أفعال العقلاء كما قال: «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» (1) و قال: «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» (2).

قوله تعالى: [ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فبيّن سبحانه أنّه ليس لهم قريب ينفعهم و لا شفيع يطاع فيهم فنقبل شفاعته.

و هاهنا بحث و هو أنّ أكثر المعتزلة احتجّوا بهذه الآية في نفي الشفاعة على المذنبين. و أجاب أهل الجماعة بوجوه:

الأوّل أنّه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع و هذا لا يدلّ على نفي الشفيع ألا ترى أنّك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع و لا يقتضي نفي الكتاب و لفظ الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدلّ على أنّه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه اللّه و معلوم أنّه ليس في الوجود أحد أعلى حالا من اللّه حتّى يقال: إنّ اللّه يطيعه.

ص: 252


1- يوسف: 4.
2- الشعراء: 4.

الوجه الثاني في الجواب أنّ المراد من الظالمين هاهنا الكفّار لأنّ الآية في بيان زجر الكفّار الّذين يجادلون في آيات اللّه فوجب أن يكون مختصّا بهم و معلوم أنّه لا شفاعة في حقّ الكفّار.

الثالث أنّ لفظ الظالمين إمّا أن يفيد الاستغراق و إمّا أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم و يدخل في المجموع الكفّار و سلّمنا أنّ الشفاعة غير حاصلة للكافر فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع و ان لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفا بهذه الصفة و معلوم أيضا أنّ بعض الموصوفين بهذه ليس لهم شفيع و هم الكافرون.

و أجاب المستدلّون عن الجواب الأوّل فقالوا: يجب حمل كلام اللّه تعالى على محمل مفيد و كلّ أحد يعلم أنّه ليس في الوجود شي ء يطيعه اللّه لأنّ المطيع أدون حالا من المطاع و ليس في الوجود شي ء أعلى مرتبة من اللّه حتّى يقال: إنّ اللّه يطيعه فكان حمل الآية عليه إخراجا لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة قال الشاعر:

ربّ من انضجّت غيظا صدره قد تمنّى لي موتا لم يطع

أي لم يجب.

و أمّا الجواب عن الجواب الثاني بأنّ لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم أقصى ما في الباب أنّ هذه الآية وردت لذمّ الكفّار إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فحينئذ إنّ قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» يفيد أنّ كلّ واحد من الظالمين محكوم عليه بأنّه ليس له حميم و لا شفيع يطاع.

و أجيبوا عن الردّ الأوّل بأنّ القوم كانوا يقولون في الأصنام: إنّها شفعاؤنا عند اللّه بغير إذن و لهذا السبب ردّ اللّه عليهم ذلك بقوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» فهذا يدلّ على أنّ القوم اعتقدوا أنّه يجب على اللّه إجابة الأصنام في تلك الشفاعة و هذا نوع طاعة فاللّه نفى تلك الطاعة بقوله: «ما لِلظَّالِمِينَ» الآية.

و أيضا أجيبوا عن الكلام الثاني بأنّ الأصل في حرف التعريف أن ينصرف المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع و كان هناك معهود سابق انصرف إليه

ص: 253

و قد حصل في الآية معهود سابق و هم الكفّار الّذين يجادلون في آيات اللّه فوجب أن ينصرف إليه و عن الكلام بأنّ قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» يحتمل عموم السلب و يحتمل سلب العموم فعلى التقدير الأوّل يكون المعنى: إنّ كلّ واحد من الظالمين محكوم عليه بأنّه ليس له حميم و لا شفيع و أمّا على تقدير سلب العموم يكون المعنى: إنّ مجموع الظالمين ليس لهم حميم و لا شفيع فحينئذ لا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كلّ واحد من آحاد ذلك المجموع كما أنّ قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» إن حملناه على أنّ كلّ واحد منهم محكوم عليه بأنّه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في الكلام لأنّ كثيرا ممّن كفر فقد آمن بعد ذلك أمّا لو حملناه على أنّ مجموع الّذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق و يخلص عن الخلف فلا جرم حملت الآية على سلب العموم و لا نحملها على عموم السلب فكذا قوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ» يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية.

أقول: و الحقّ أنّه نعم ما تدارك أهل الجماعة من الجواب في الردّ على المعتزلة في إثبات الشفاعة فكيف لا تكون الشفاعة لأنّه إن كان مراد كم أنّ الشفاعة لا ينال الظالم و الظالم بمعنى الكافر فهذا حكم متّفق عليه بيننا و بينكم و ليس فيه اختلاف و إن كان مرادكم أنّ الشفاعة لا تصيب لمن ظلم نفسه أو غيره بالمعصية و الذنوب فالآية ناطقة بأنّ الشفاعة تنال غير الكافر لقوله: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى دينه و المراد من المرضيّ الدين المسلم لأنّ الدين عند اللّه الإسلام فمن هو مرضيّ الدين بالإيمان فهو داخل في الشفاعة و أيضا الأخبار في حصول الشفاعة للنبيّ الأكرم مستفيضة و غير واحد بل هي حاصلة للمؤمنين كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادّخرت شفاعتي لأمّتي من أهل الكبائر انتهى.

قوله تعالى: [يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ] أي إنّه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و يعلم خيانة الأعين الخائنة و هو الرمز بالعين و الخائنة مصدر كالخيانة مثل الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو و يعلم ما تخفي الصدور و مضمرات القلوب فحينئذ يعلم الأفعال الخفيّة من الجوارح فضلا عن الجليّة و أفعال

ص: 254

القلوب و الحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحدّ كان خوف المذنب منه شديدا جدّا و قيل: الخائنة صفة النظرة إلى ما لا يحلّ.

[وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِ و يوصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه [وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الكفّار [مِنْ دُونِهِ من الأصنام [لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ] و لا ينفعون لأحد لا لشفاعة و لا غيرها لأنّها جمادات [إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] سميع بالمسموعات و بصير بالمبصرات.

قوله: [سورة غافر (40): الآيات 21 الى 25]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)

المعنى لمّا بالغ في الآيات السابقة في تخويف الكفّار بعذاب الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا ليعتبروا فقال:

[أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ و العاقل من اعتبر بغيره فإنّ الّذين مضوا من الكفّار قبلهم كانوا أشدّ قوّة من هؤلاء الحاضرين من الكفّار و أقوى آثارا في الأرض منهم و المراد حصونهم و قصورهم و عساكرهم فلمّا كذّبوا أنبياءهم أهلكهم اللّه بضروب الهلاك معجّلا فحذّرهم اللّه من مثل ذلك بهذا القول و قال: [وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ لمّا نزل العذاب بهم عند أخذه و لم يجدوا من يعينهم و يخلّصهم.

[ذلِكَ العذاب الّذي نزل بهم [بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الباهرات [فَكَفَرُوا] بها [فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ و أهلكهم عقوبة على كفرهم [إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ] الانتقام منهم.

ثمّ ذكر قصّة موسى و فرعون ليعتبروا بها فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا] أي بعثناه بحججنا و دلالاتنا [وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و معجزة باهرة ظاهرة نحو قلب العصا حيّة

ص: 255

و فلق البحر [إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ كان موسى رسولا إلى كافّتهم إلّا أنّه خصّ فرعون لأنّه كان رئيسهم و كان هامان وزيره و قارون صاحب جنوده و كنوزه و الباقون تبع لهم و عطف السلطان على الآيات لاختلاف اللفظيّ تأكيدا و قيل: المراد بالآيات حجج التوحيد و العدل و بالسلطان المعجزات الدالّة على نبوّته.

[فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مموّه فيما يدعو إليه [فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا] أي فلمّا أتاهم بالّدين الحقّ الّذي من عندنا و أمرهم بالتوحيد [قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أمروا بقتل الذكور من قوم موسى لئلّا يكثر قومه و لا يتقوّى بهم و أمروا باستيقاء نسائهم للخدمة و هذا القتل غير القتل الأوّل لأنّه أمر بالقتل الأوّل لئلّا يولد منهم من يزول ملكه على يده ثمّ ترك ذلك فلمّا ظهر موسى و أظهر أمر نبوّته عاد إلى تلك العادة فمنعهم اللّه عنه بالدم و الضفادع و الطوفان و الجراد.

[وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ و معناه أنّ جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى فهو باطل لأنّ ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها.

ثمّ أخبر سبحانه عن نوع آخر من قبايح فرعون و قال:

[سورة غافر (40): الآيات 26 الى 30]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)

المعنى: [وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى أي قال لقومه: اتركوني أقتله. و في الآية دلالة على أنّه كان في خاصّة قوم يشيرون عليه بأن لا يقتل موسى و يخوّفونه بأن يدعو ربّه فيهلك فلذلك قال فرعون: [وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ أي كما يقولون و ليستعن بدعائه

ص: 256

في دفع القتل عنه فإنّه لا يجي ء من دعائه شي ء، قاله عتوّا و تكبّرا و جرأة على اللّه و لعلّه كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقا فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتل موسى أو لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرّغ لتأديب أولئك الأقوام فإنّ من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجيّ حتّى يصيروا آمنين من شرّ ذلك الملك.

قوله: [إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ] أي إن لم أقتله يبدّل ما يعتقدونه من إلهيّتي أو أن يتبعه قوم و يحتاج الأمر إلى أن نقاتله فيخرب البلاد و قيل: إنّ مراده بقوله: «أن يظهر الفساد» أن يعمل بطاعة اللّه و يتركون قوله. فلمّا قال اللعين هذه الكلام استعاذ موسى عليه السّلام بربّه [وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ أي إنّي اعتصمت بربّي الّذي خلقني و ربّكم الّذي خلقكم من شرّ كلّ متكبّر على اللّه متجبّر عن الانقياد له لا يصدّق بيوم المجازاة.

و لمّا قصد فرعون قتل موسى و عظهم المؤمن من آل فرعون و هو قوله: [قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ في صدره علي وجه التقيّة قال الصادق عليه السّلام:

التقيّة من ديني و دين آبائي و لا دين لمن لا تقيّة له و التقيّة ترس اللّه في الأرض لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإيمان لقتل قال ابن عبّاس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره و غير امرأة فرعون و ذلك المؤمن هو الّذي أنذر موسى فقال: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» قال السدّيّ و مقاتل: كان الرجل ابن عمّ فرعون و كان آمن بموسى و هو الّذي جاء من أقصى المدينة يسعى و قيل: إنّه كان وليّ عهده بعده و كان اسمه حبيب و قيل: اسمه حزبيل.

قال الرجل: [أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ و المعجزات مثل العصا و اليد و غيرهما و قرئ رجل بكسر الجيم كما تقول: عضد في عضد.

[وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ و إنّما قال ذلك على وجه التلطّف و حاصل المعنى:

إن كان هذا الرجل كاذبا كان وبال كذبه عائدا عليه فاتركوه و إن كان صادقا [وَ إِنْ يَكُ

ص: 257

صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قيل: إنّ موسى عليه السّلام كان يعدهم بالنجاة إن آمنوا و بالهلاك إن كفروا و لذا قال: «يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» لأنّهم إذا كانوا على أحد الحالين نالهم أحد الأمرين و ذلك بعض الأمر لا كلّه. و قيل: استعمل البعض في موضع الكلّ تلطّفا في الخطاب و توسّعا في الكلام و المراد الكلّ؛ قال الشاعر:

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته و قد يكون من المستعجل الزلل

و كأنّه قال: إن يك صادقا أقلّ ما فيه أن يصبكم بعض الّذي يعدكم و في ذلك البعض هلاككم قال عليّ بن عيسى إنّما قال: «بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» على المظاهرة في الحجاج أي إنّه يكفيكم بعضه فكيف بجميعه؟

فإن قيل: إنّه كان من الواجب أن يقال: و إن يك صادقا يصبكم كلّ الّذي يعدكم الّذي لأنّ الّذي يصيب في بعض ما يعدهم أصحاب الكهانة و النجوم أمّا الرسول الصادق الّذي لا يتكلّم إلّا بالوحي و هو صادق في كلّ ما يقول.

فالجواب هو الجواب الّذي ذكرنا و المراد أنّه لا حاجة بكم في دفع شرّه إلى القتل بل يكفيكم أن تعرضوا عن مقالته و تتركوا قتله فإن كان كاذبا فحينئذ لا يعود ضرره إلّا إليه و إن كان صادقا انتفعتم به. و فيه بيان و وجه آخر و هو أنّه عليه السّلام كان يتوعّدهم بعذاب الدنيا و بعذاب الآخرة فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الّذي يعدهم انتهى.

[إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يجوز أن يكون هذا حكاية عن قول المؤمن و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه و في الكلام بيان أنّ ما هم فيه من الملك و النعمة يقتضي الشكر للّه و الإيمان به و لا يهدي اللّه إلى جنّته و ثوابه من هو مسرف على نفسه و مجاوز عن الحدّ في المعصية كذّاب على ربّه.

ثمّ قال المؤمن: [يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا] لمّا بيّن المؤمن لهم أنّه لا يجوز الإقدام على قتل موسى و لا يجوز التكذيب على اللّه بادّعاء الإلهيّة خوّفهم بعذاب اللّه و بأسه فقال: أنتم اليوم قد علوتم الناس و لكم السلطنة في أرض مصر و ما والاها فلا تفسدوا أمركم و لا تتعرّضوا لبأس اللّه

ص: 258

و عذابه فإنّه لا قبل لكم به و إنّما قال: ينصرنا و جاءنا لأنّه كان يظهر من نفسه أنّه منهم و هو مناصح لهم و مشارك معهم.

و لمّا قال هذا الكلام [قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنّه يجب قتله حسما لمادّة الفتنة و دفعا له بالقتل [وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ] ثمّ حكى سبحانه أنّ المؤمن ردّ هذا الكلام على فرعون.

قوله: [وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ و اعلم أنّ فرعون لمّا قال: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى و كان المؤمن يكتم إيمانه و الّذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل هاهنا قولان:

الأوّل أنّ فرعون لمّا قال: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى لم يصرّح المؤمن بأنّه على دين موسى بل أوهم أنّه مع فرعون و على دينه و لكنّه زعم أنّ المصلحة تقتضي ذلك و أظهر لفرعون هذا البيان لأجل المناصحة حيلة لتخليص موسى عن القتل و أوهم لفرعون أنّ مراده من المسرف الكذّاب يريد موسى و هو يريد فرعون.

و القول الثاني أنّه لمّا سمع من فرعون إرادة قتل موسى أزال الكتمان و أظهر دينه و شافه بالحقّ و قال: «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ» أي عذابا مثل يوم الأحزاب.

و قيل: القائل لذلك موسى لأنّ مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه و هذا لا يصحّ لأنّه قريب من قوله: «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا». و المراد بالأحزاب الأحزاب الّذي تحزّبوا على تكذيب أنبيائهم و اجتمعوا على مخالفة رسلهم و فسّرهم بقوله:

[سورة غافر (40): الآيات 31 الى 35]

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

ص: 259

الدأب العادة.

المعنى: إنّي أخاف عليكم مثل عادة الأوّلين من اللّه في [قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ] حين أهلكهم اللّه و استأصلهم جزاء على كفرهم، قد حذف المضاف في الآية و التقدير: مثل جزاء دأبهم [وَ] مثل [الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط، و الخوف بسبب هلاك معجّل في الدنيا ثمّ خوّفهم أيضا بهلاك الآخر و الحرمان من الجنّة و هو قوله: [وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ] و إنّما أوجبوا على أنفسهم العذاب و الحرمان بعنادهم و كفرهم و هو سبحانه غير ظالم لخلقه و إنّما هم ظلموا أنفسهم و استحقّوا العذاب و هو غير ظالم تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قالت المعتزلة: إنّ هذه الآية صريحة دالّة على أنّه سبحانه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا و تدلّ على أنّه سبحانه لا يريد ظلم أحد من العباد فلو خلق الكفر فيهم ثمّ يعذّبهم على ذلك الكفر لكان ظالما البتّة و إذا ثبت أنّه لا يريد الظلم ثبت أنّه غير خالق لأفعال العباد من السيّئات لأنّه لو خلقها لأرادها.

و بالجملة النوع الآخر من كلمات المؤمن [وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ] و التناد التفاعل من النداء يقال: تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا و الأصل الياء و حذفت لدلالة الكسرة و حذف الياء حسن في الفواصل مثل يوم التلاق و هو يوم القيامة.

و السبب في التسمية أنّ في ذلك اليوم ينادي فيه بعض الظالمين بعضا بالويل و ينادي فيه أصحاب الجنّة ينادون أهل النار بأن قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا و كذلك أصحاب النار ينادون أصحاب الجنّة كما ذكر اللّه في سورة الأعراف «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» (1) الآية و يمكن أن يكون قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (2) أو ينادي المؤمن «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (3) و الكافر «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ» (4) أو ينادي فيه باللعنة على الظالمين أو لأنّه يجاء الموت بصورة

ص: 260


1- الأعراف: 64.
2- الإسراء: 71. (3 و 4) الحاقة: 19 و 25.

كبش أملح ثمّ يذبح و ينادى يا أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنّة فرحا على فرحهم و أهل النار حزنا على حزنهم.

و لكن قال أبو عليّ الفارسي: التنادي مشتقّ من التناد أصله من قولهم ندّ فلان إذا هرب و هو قول ابن عبّاس قال: يندّون كما يندّ الإبل و يؤيّد هذا المعنى قوله:

«يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ» (1).

و قوله: [يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أيضا يؤيّد هذا القول لأنّهم إذا سمعوا زفير النار يندّون هاربين فلا يأتون قطرا من الأقطار إلّا وجدوا ملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الّذي كانوا فيه.

ثمّ أكّد سبحانه التهديد بقوله: [ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ و مانع من عذابه [وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ] أي من يضلله اللّه عن طريق الجنّة فما له هاد يهديه إليها.

قوله: [وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ يمكن أن يكون هذا من بقيّة كلام مؤمن آل فرعون و يجوز أن يكون ابتداء كلام من اللّه هو يوسف بن يعقوب على أنّ فرعونه فرعون موسى أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد و قيل: المراد من يوسف سبطه و هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف الصديق «مِنْ قَبْلُ» أي من قبل موسى بالبيّنات و الحجج الواضحة.

[فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدّين و ممّا يأمركم به من التوحيد [حَتَّى إِذا هَلَكَ يوسف و مات [قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا] ضمّا إلى تكذيب رسالة من بعده أو جزما بأن لا يبعث بعده رسولا مع الشكّ في رسالته و أقمتم على كفركم و ظننتم أنّ اللّه لا يجدّد لكم إيجاب الحجّة.

[كَذلِكَ أي مثل ذلك الضلال الفظيع [يُضِلُّ اللَّهُ عن طريق الجنّة و الثواب [مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ على نفسه كافر و مجاوز عن الحدّ و [مُرْتابٌ و شاكّ في التوحيد و النبوّات فالعبد ما لم يضلّ عن الدّين فإن اللّه لا يضلّه عن طريق الجنّة و الخير لأنّه سبحانه قال: إنّما أضلّهم عن طريق الجنّة لكونهم مسرفين في المعاصي مرتابين في دينهم.

ص: 261


1- عبس: 34.

ثمّ بيّن المسرفين و المرتابين فقال: هم [الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ و يسعون في دفع آيات اللّه و إبطالها بغير حجّة و دليل أتاهم [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي كبير ذلك الجدل و المخاصمة منهم بغضا و عداوة عند اللّه [وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و المعنى مقته اللّه و لعنه و أعدّ له العذاب و مقته المؤمنون و أبغضوه بذلك الجدال و أنتم جادلتم و خاصمتم في آيات اللّه مثلهم فاستحققتم ذلك.

[كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] أي مثل ما طبع على قلوب أولئك بأن ختم عليها علامة لكفرهم يطبع و يفعل ذلك على كلّ مستكبر عن آيات اللّه و كلّ من يأنف على قبول الحقّ و لعلّ المراد من قوله: «عَلى كُلِّ قَلْبِ» أي على ذي قلب و المقت و الغضب و التعجّب و الحياء و أمثال هذه الصفات واجبه التأويل في حقّ اللّه تعالى و الكبر و أمثاله قد يضاف إلى القلب مثل قوله: «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» و قال قوم:

الإنسان الحقيقيّ القلب.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 36 الى 40]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

ثمّ بيّن سبحانه ما موّه فرعون على قومه لمّا وعظه المؤمن و خوّفه من قتل موسى [وَ قالَ فِرْعَوْنُ لوزيره: [يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً] أي قصرا مشيّدا بالآجرّ و قيل: مجلسا عاليا و الصرح البناء الظاهر الّذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد.

[لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ثمّ فسّر تلك الأسباب [أَسْبابَ السَّماواتِ أي لعلّي أبلغ بالأسباب الطرق من سماء إلى سماء و قيل: لعلّي أبلغ أسباب طرق السماوات أو منازل السماوات و أتوصّل بها إلى مرادي و إلى علم ما غاب عنّي من امور السماوات و السبب كلّ ما يتوصّل به إلى شي ء يبعد عنك [فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي فأنظر إليه فأراه أراد

ص: 262

اللعين بهذا الكلام التلبيس على الضعفة مع علمه باستحالة ذلك أو من جهله اعتقد أنّ اللّه في السماء و إنّه يقدر على بلوغ السماء.

[وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً] أي إنّي أظنّ أنّ موسى كاذب في قوله: أنّ له إلها غيري و هو مرسل إلينا و العجب أنّ اليهود الباحثين عن تواريخ بني إسرائيل و فرعون قالوا:

إنّ هامان ما كان موجودا في زمان موسى و فرعون و إنّما جاء بعدهما بزمان مديد فصدّقوا تاريخهم و كذّبوا القرآن مع أنّهم مقرّون بأنّ أحوالهم اضطربت بسبب غلبة بخت نصّر على ملكهم حتّى ضيّع توراتهم سيّما قد طال العهد بتاريخ أحوالهم فكيف يبقى اعتماد بمثل هذا التاريخ حتّى ينسب الصدق إلى التاريخ المشوّش و الكذب إلى القرآن تعالى كلامه عن الكذب علوّا كبيرا.

و بالجملة لمّا حكى اللّه سبحانه عن فرعون هذه المقالة قال بعدها: [وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ و قرئ «وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» مجهولا و معلوما أي و مثل ما زيّن لهؤلاء الكفّار سوء أعمالهم زيّن لفرعون سوء عمله و قبيح فعله و إنّما زيّن له ذلك أصحابه و جلساؤه و زيّن له الشيطان كما قال: «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»* (1) و امتنع عن سبيل الحقّ بسوء اختياره و كفره أو صدّ غيره عن الإيمان على المعلوميّة.

[وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي و ما كيد فرعون في إبطال آيات موسى إلّا في هلاك و خسار لا ينفعه و قرأ صاحب الكشّاف «زيّن له سوء عمله» على المعلوم فالمزيّن هو الشيطان و سوء العمل بخلاف ما قاله المجبّرة.

[وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ] ثمّ عاد الكلام إلى ذكر نصيحة آل فرعون و الكلام من بقيّة كلام الّذي آمن من آل فرعون و قد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى و قيل: إنّ القائل موسى يا قوم اتّبعوني حتّى تهتدون طريق الحقّ و هو الإيمان باللّه فقال ابتداء على سبيل الإجمال: «يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ».

ثمّ بيّن على سبيل التفصيل و بيّن حال حقارة الدنيا و عظّم كمال حال الآخرة

ص: 263


1- الانعام: 43.

فقال: [يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيّام قلائل ثمّ تنقطع و تزول [وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ] و البقاء و الدوام خيرا من المنقضي قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبا فانيا و الآخرة خزفا باقيا كانت الآخرة خير من الدنيا فكيف و الدنيا خزف فان و الآخرة ذهب باق و كما أنّ النعيم في الآخرة باق فكذلك العذاب فيها دائم و الترغيب وقع في قوله بالنعيم الدائم و الترهيب عن العذاب الدائم و هو من أقوى وجوه الموعظة.

ثمّ بيّن حصول الجزاء في الآخرة ثوابا كان أو عقابا فقال: [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها] و المراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق.

فإن قيل: كيف يصحّ هذا الكلام مع أنّ كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟

قلنا: إنّ الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة و إيمانا فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرّا على الكفر أبدا فلا جرم كان عقابه مؤبّدا بخلاف الفاسق فإنّه يعتقد فيه كونه خيانة و معصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصرّا عليه فلا جرم يكون عقاب الفاسق منقطعا و العزم على الإتيان بها أيضا ليس دائما فوقعت المماثلة و هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فوجب رعاية المماثلة في الأحكام إلّا في مواضع التخصيص كما أنّ هذا الأصل جار في الأحكام الكثيرة مثل باب الجنايات على النفوس و على الأعضاء و على الأموال و على العبادات.

فلمّا بيّن أنّ جزاء السيّئة مقصور على المثل بيّن أنّ جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال: [وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ و فيه إشارة إلى أنّ جانب الرحمة غالب على جانب العقاب و قوله: «وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً» نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فمعنى الآية: إنّ كلّ من عمل صالحا و كان مواظبا على التوحيد و لم يخرج من حدّ الإيمان فإنّه يدخل الجنّة و يرزق فيها بغير حساب أي زيادة على ما يستحقّونه تفضّلا من اللّه و لو كان على مقدار العمل فقط لكان بحساب و لكنّ المعتزلة تقول:

إنّ صاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن و لا يدخل في هذا الوعد.

ص: 264

قوله تعالى:

[سورة غافر (40): الآيات 41 الى 46]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

ثمّ استأنف ذلك المؤمن و نادى:

[يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ] أي أنا أدعوكم إلى الإيمان الّذي يوجب النجاة [وَ تَدْعُونَنِي إِلَى الكفر الّذي يوجب [النَّارِ] و معنى «ما لِي» أي مالكم كما يقول الرجل: مالي أراك حزينا معناه مالك حزينا.

ثمّ فسّر الدعوتين بقوله: [تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ و لا يجوز حصول العلم به إذ لا يجوز قيام الدلالة على إثبات شريك للّه لا من طريق السمع و لا من طريق العقل [وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ] أي إلى عبادة القادر الّذي يعذّب و يغفر.

قوله: [لا جَرَمَ أي لا قطع و لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام و لا تزال باطلة و لا ينقطع ذلك فينقلب حقّا و حاصل معنى «لا جَرَمَ» في الآية أي كما أنّ معنى لا بدّ لك أن تفعل كذا أنّه لا بدّ لك من فعله فكذلك لا جرم أنّ دعوتهم باطلة و غير حاصلة و لا قطع لذلك و أنّهم أبدا يستحقّون النار و لا انقطاع لاستحقاقهم أو بمعنى كسب بمعنى أنّه ما كسب من دعوة الأصنام إلّا ظهور بطلان الدعوة و الأوثان الّتي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا و لا في الآخرة لأنّها جمادات و الجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها أو ليس لها استجابة دعوة في الدنيا و لا في الآخرة فسمّيت استجابة الدعوة بالدعوة.

ثمّ قال: [وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ و ارتجاعنا إلى اللّه و إنّ هذه الأصنام لا فائدة

ص: 265

فيها البتّة و أيّ عاقل يترك عبادة اللّه الّذي هو قادر على كلّ شي ء و يعبد ما لا يدعو و لا يستجيب و لا يسمع و لا يبصر و لا ينفع و لا يضرّ؟

[وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ] قال قتادة: يعني المشركين و قال مجاهد:

السفّاكين للدماء أي و وحب أنّ المسرفين الّذين أسرفوا على أنفسهم بالشرك و سفك الدماء بغير حقّها إنّهم يلازمون النار.

و قال لهم على وجه التخويف و الموعظة [فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي فستعلمون صحّة ما أقول لكم إذا حصلتم يوم القيامة في العذاب أو المعنى فستذكرون عند نزول العذاب بكم صحّة ما قلته لكم من النصيحة.

[وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ و أتوكّل عليه و أسلّم له أمري و الأمر اسم جنس [إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ] عالم بأحوالهم و يستنبط من هذا الكلام أنّ مؤمن آل فرعون قد هدّد بأمر يخافه و إنّما تعلّم هذه الطريقة من موسى عليه السّلام فإنّ فرعون لمّا خوّفه بالقتل قال: «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ» و هذا آخر كلام مؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: [فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا] أي صرف اللّه عنه سوء مكرهم فنجامع موسى حتّى عبر البحر معه و قيل: إنّهم همّوا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلّي و حوله الوحوش صفوفا فخافا و رجعا هاربين و قيل:

المراد من قوله: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» أنّهم قصدوا إدخاله في الكفر فوقاه اللّه عن ذلك لكنّ القول الأوّل أليق لأنّ قوله: [وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ يؤيّد معنى الأوّل أي أحاط بهم الغرق في البحر أو المراد النار المذكورة في قوله: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها» قال الزجّاج: النار بدل من قوله: «سُوءُ الْعَذابِ».

[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا] أي يعرض آل فرعون على النار في قبورهم صباحا و مساء و الآية تقتضي عرض النار عليهم غدوة و عشيّا من قولهم: عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به و ليس المراد منه يوم القيامة لأنّه قال: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ و ليس المراد أنّ هذا العرض في الدنيا فثبت أنّ هذا العرض

ص: 266

إنّما حصل بعد الموت و قيل: يوم القيامة و ذلك يدلّ على إثبات عذاب القبر في حقّ هؤلاء و إذا ثبت في حقّهم ثبت في حقّ غيرهم لأنّه لا قائل بالفرق لأنّ حصول هذا العذاب إنّما وقع على آل فرعون لجحودهم و كفرهم فالعذاب أيضا حاصل كما أنّهم احتجّوا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر و المراد من الغداة و العشيّ مع أنّ في القبر ليس لهم غداة و عشيّ وقت الغداة و العشيّ أي في مثل هذا الزمانين تعرض النار عليهم فيعذّبون بها و يمكن أن يكون المعنى و المراد دوام العذاب و كناية عن ثبوته كقوله: «وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا» (1).

و عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة و إن كان من أهل النار فمن النار يقال له: هذا مقعدك حين يبعثك اللّه يوم القيامة أورده البخاريّ و مسلم في الصحيح و قال أبو عبد اللّه ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدوّ و عشيّ و لكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة.

قوله: [أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ و هذا الأمر لآل فرعون بالدخول أو أمر للملائكة بإدخالهم في جهنّم باختلاف القراءة في القطع و الوصل في باب الفعل.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 47 الى 50]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)

المعنى: لمّا انجرّ الكلام إلى شرح أحوال النار ذكر عقيبها المناظرات الّتي تجري بين الرؤساء و الأتباع من أهل النار فقال سبحانه:

[وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ أي فاذكر يا محمّد لقومك الوقت الّذي يتخاصم الرؤساء و الأتباع [فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ] و هم الأتباع [لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا] و هم الرؤساء [إِنَّا كُنَّا لَكُمْ معاشر

ص: 267


1- مريم: 62.

الرؤساء [تَبَعاً] و كنّا نمتثل أمركم و نجيبكم إلى ما تدعوننا إليه [فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ] لأنّه من شأن الرئيس الدفع عن أتباعه فهل أنتم حاملون عنّا قسطا من النار و العذاب الّذي نحن فيه؟

[قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها] أي نحن و أنتم في النار و مجتمعون فيها [إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ] بذلك و بأن لا يتحمّل أحد عن أحد و إنّه يعاقب من أشرك به و عبد معه غيره لا محالة فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا ثمّ عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنّم.

[قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ فيستغيثون بخزنتها [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فتقول الملائكة لهم: [أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أو لم تكن القصّة و الحال تأتيكم رسلكم بالحجج على صحّة التوحيد فكفرتم و عاندتم حتّى استحققتم هذا العذاب [قالُوا بَلى جاءنا الرسل و البيّنات فكذّبناهم و جحدناهم نبوّتهم [قالُوا] أي قالت الخزنة: [فَادْعُوا] أنتم فإنّا لا ندعو إلّا بإذن و لم يؤذن لنا فيه و قيل: فادعوا بالويل و الثبور [وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع لأنّه لا ينفع و الفاء في قوله: «فَادْعُوا» فصيحة مثل قوله: فقد جئنا خراسانا.

و المراد من الملائكة حيث قالوا للكفّار: فادعوا إقناط الكفّار عن الإجابة لأنّهم يعلمون أنّ هذا الدعاء و إجابته ليس في حيّز الإمكان و ليس مراد الملائكة إطماع الكفّار في الاستجابة.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 51 الى 55]

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (55)

في النظم لمّا ذكر سبحانه وقايته لموسى عليه السّلام و ذلك المؤمن من مكر فرعون عقّبه ببيان أنّه تعالى ينصر رسله و المؤمنين فقال:

[إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا] أي إنّ شأننا المستمرّ أن ننصر رسلنا و أتباعهم [فِي الْحَياةِ

ص: 268

الدُّنْيا] تارة بالانتقام و الظفر عليهم و تارة بالعذاب الاستيصال على أعدائهم و تارة بالحجّة و الدلائل و لا يقدح في ذلك ما قد يتّفق لهم من صورة الغلبة للكفّار امتحانا إذ العبرة إنّما هي بالعواقب.

[وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ] أي يوم يقوم القيامة عند جمع الأوّلين و الآخرين و المراد «بالأشهاد» كلّ من يشهد أعمال العباد في ذلك اليوم من ملك و نبيّ و مؤمن قال المبرّد:

يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهد كأطيار و طائر و يجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيد كأشراف و شريف و أيتام و يتيم.

[يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] و قرئ بالتاء «لا تنفع» المعنى إنّ ذلك اليوم كما أنّه حصلت النصرة و السعادة للرسل و المؤمنين حصلت الشقاوة للظالمين بأمور ثلاثة أحدها لا يقبل منهم عذر و الثاني أنّ اللعنة مقصورة عليهم و هي الإهانة و الإذلال و اليأس و الثالث سوء الدار و هو العقاب الشديد.

فإن قيل: إنّ قوله: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ» يدلّ على أنّهم يذكرون الأعذار إلّا أنّ الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا و بين قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (1).

فالجواب أنّ قوله: «لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ» لا يدلّ على أنّهم ذكروا الأعذار بل يدلّ على أنّ عذرهم غير مقبول و لا يدلّ على أنّهم ذكروا أم لم يذكروا. ثمّ إنّ يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت و لا يعتذرون في وقت.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى الآية و لمّا ذكر نصرة الرسل و المؤمنين ذكر نوعا من أنواع النصرة بإتيان موسى التوراة و المراد ما آتاه اللّه من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا و الآخرة و النبوّة الّتي هي أعظم المناصب.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي و أورثنا من بعد موسى بني إسرائيل التوراة و ما فيه هداية و دلالة يعرفون بها معالم دينهم و تذكير لأهل العقل لأنّهم الّذين يتمكّنون من الانتفاع به دون من لا عقل له و توارثوه خلفا عن سلف و يمكن أن يكون المراد من الكتاب الكتب

ص: 269


1- المرسلات: 36.

الّتي أنزلها اللّه على أنبياء بني إسرائيل التوراة و الزبور و الإنجيل و الفرق بين الهدى و الذكرى أنّ الهدى ما يكون دليلا على الشي ء و ليس شرطه أن يذكر شيئا آخر كان معلوما ثمّ صار منسيّا و أمّا الذكرى فهي الّذي يكون كذلك فكتب السماويّة كلّها مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها و بعضها مذكّرات.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: [فَاصْبِرْ] يا محمّد و تحمّل المشاقّ في تكذيبهم إيّاك و احتمل أذى قومك [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي ما وعدك من النصر في الدنيا و الثواب في الآخرة فاللّه ناصرك كما نصرهم تمّ أمره بأن يقبل على طاعة اللّه النافعة في الدنيا و الآخرة.

و اعلم أنّ مجامع الطاعات محصورة في قسمين: التوبة عمّا لا ينبغي و الاشتغال بما ينبغي و الأوّل مقدّم على أنّ التخلية مقدّمة على التحلية بحسب الرتبة الذاتيّة فوجب أن يكون مقدّما في الذكر و لو أنّ المراد امّته لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما صدر عنه مكروه فضلا من غير جائز.

أمّا التوبة عمّا لا ينبغي فهو قوله تعالى: [وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و المقصود التأدّب و التعبّد من اللّه في حقّه لمزيد الدرجات، و لتصير سنّة لمن بعده و لإظهار خضوعه في العبوديّة لا أنّه صدر منه الذنب بل تعليم للدعاء و الاستغفار.

و أمّا الاشتغال بما ينبغي فهو قوله: [وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ] و التسبيح عبارة عن كلّ ما لا يليق به و العشيّ و الأبكار قيل: صلاة العصر و صلاة الفجر و قيل: المراد من العشيّ من النصف إلى آخر النهار و الأبكار عبارة عن أوّل النهار إلى النصف و قيل: المراد طرفي النهار و قيل: الأبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس قال ابن عبّاس: يريد صلوات الخمس و قيل: المراد من الآية صلّ لهذين الوقتين إذا كان الواجب بمكّة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 56 الى 59]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

ص: 270

لمّا ذكر في أوّل السورة حال المجادلين و المكذّبين بآيات اللّه و اتّصل البعض بالبعض في النسق نبّه سبحانه في هذه الآية على الداعية الّتي تحمّل أولئك الكفّار على المجادلة فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ] حجّة و دليل إنّما يحملهم على هذا الجدال الباطل الكبر الّذي في صدورهم و هو يحملهم على الباطل و ذلك الكبر هو أنّهم لو سلّموا نبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت أمرك و نهيك و في صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا تحت يدك.

ثمّ قال: [ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي إنّهم يريدون أن لا يكونوا تحت يدك و طاعتك لكن لا يصلون إلى هذا المراد بل لا بدّ و أن يصيروا تحت أمرك و نهيك.

ثمّ قال: [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجئ إليه من كيد من يجادلك [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول [الْبَصِيرُ] بما تعمل و يعملون.

قوله تعالى: [لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ و تقرير هذا الكلام أنّ الاستدلال بالشي ء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها أن يقال: لمّا قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى و هذا فاسد و ثانيها أن يقال: لمّا قد على الشي ء قدر على مثله فهذا صحيح لما ثبت في العقول أنّ حكم الشي ء حكم مثله و ثالثها أن يقال: لمّا قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأقلّ الأرذل كان أولى و هذا الاستدلال في غاية الصحّة و القوّة.

ثمّ إنّ هؤلاء القوم يسلّمون أنّ خالق السماوات و الأرض هو اللّه و يعلمون بالضرورة أنّ خلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس فكان من حقّهم أن يقرّوا بأنّ القادر على خلق السماوات و الأرض يكون على إعادة الإنسان الّذي خلقه بدوا و أوّلا فهذا برهان جليّ في إفادة المطلوب و مع ذلك أكثرهم لا يعقلون و لا يعلمون.

و لمّا بيّن سبحانه بهذا التقرير الجدال المقرون بالبرهان و الجدال المقرون بالكبر و الجهل فرّق بين البابين بذكر المثال فقال: [وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ]

ص: 271

أي ما يستوي المهتدي و الضالّ و المستدلّ و الجاهل [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرئ بالياء و التاء أي و كذلك لا يستوي المؤمنون العاملون الصالحون و لا الكافر الفاسق في الكرامة و الإهانة فذلك يستحقّ الكرامة و هذا يستحقّ الإهانة و مع ذلك قليلا يتذكّرون الناس و قلّ نظرهم فيما ينبغي لهم و ما مزيدة مؤكّدة أو مصدريّة فيكون تقديره قليلا تذكّرهم.

قوله تعالى: [إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها] و لمّا قرّر سبحانه الدليل على إمكان وجود القيامة أخبر وقوعها فقال: إنّها آتية من غير ريب [وَ لكِنَ أكثرهم لا يصدّقون بها لقصور أنظارهم على ظواهر ما يحسّون به و لجهلهم و شكّهم بإخبار اللّه.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): آية 60]

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

. و لمّا قرّر سبحانه القول بالقيامة بأنّه حقّ و صدق و كان من المعلوم أنّ الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلّا بطاعة اللّه و لمّا كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء و التضرّع و المسألة أمر اللّه به بقوله: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إذا اقتضت المصلحة إجابتكم و كلّ من يسأل اللّه شيئا و يدعوه فلا بدّ أنّ يشترط المصلحة في ذلك و هذا القيد مضمر في الكلام و إلّا يلزم أن يصدر منه قبيح تعالى عن ذلك لأنّه ربّما كان داعيا بما يكون فيه مفسدة.

و قيل: معنى «ادْعُونِي» أي اعبدوني بدليل أنّه قال بعده: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» و لو لا أنّ الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله: «إِنَّ الَّذِينَ» معنى و أيضا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» و أجيب عنه بأنّ الدعاء هو اعتراف بالعبوديّة و الذلّ و المسألة فكأنّه قيل:

إنّ تارك الدعاء إنّما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبوديّة و أيضا أجيب عن قوله:

إنّ الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن بأنّ ترك الظاهر لا يصار إليه إلّا بدليل منفصل فحينئذ المعنى على ظاهره و هو معنى الدعاء.

فلو قيل: إنّكم قلتم قد شرط المصلحة في الإجابة فإذا كانت الإجابة مصلحة فما هو فيه صلاح فهو سبحانه يفعله سواء دعوتم أو لا تدعون فلا فائدة في الدعاء.

ص: 272

فالجواب أنّ الدعاء هو اعتراف بالعبوديّة و محقّق معناها فلو كانت الإجابة ممتنعة لعدم المصلحة فإيقاع العبوديّة حاصلة و هو أصل المطلوب.

و في المسألة بيان آخر و هو أنّه سبحانه قال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و لعلّ العبد يدعو بدعاء ليس فيه أمر يقتضي عدم المصلحة في الحكمة و ليس فيه أمر يقتضي إيجابه وجوبا في الحكمة مثل أن يدعو أمرا ينفعه و لا يكون فيه ضرر في الحكمة لكن لا يستجاب لأنّه ما دعى اللّه بالقلب بل دعاه باللسان لأنّ من دعا اللّه و في قلبه ذرّة من الاعتماد على ماله و جاهه و أصدقائه و جدّه و اجتهاد فهو ما دعا اللّه في الحقيقة خالصا و في الجملة في تحصيل ذلك المطلوب معوّل على غير اللّه فلذلك لا يستجاب له.

في الكافي عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء عنه عليه السّلام إنّه سئل أيّ العبادة أفضل فقال: ما من شي ء أفضل عند اللّه من أن يسأل يطلب ما عنده و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته و لا يسأل ما عنده.

و عن الصادق عليه السّلام ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر فإنّ الدعاء هو العبادة إنّ اللّه يقول و تلا هذه الآية و في الصحيفة السجّاديّة بعد ذكر هذه الآية: فسمّيت دعاءك عبادة الشرك استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين.

و روى معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه: جعلني اللّه فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد و كان أحدهما أكثر صلاة و الآخر أكثر دعاء فأيّهما أفضل قال: كلّ حسن قلت: قد علمت و لكن أيّهما أفضل قال عليه السّلام: أكثرهما دعاء أما تسمع قول اللّه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و قال: هي العبادة الكبرى.

و روى زرارة عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه البيانات و هذه الرواية عن رسول اللّه حكاية عن؟؟؟ العزّة إنّه تعالى قال: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين؟؟؟ إنّ العبد إذا كان مستغرقا في ثناء اللّه و آلائه بحيث يمنعه ذلك الاستغراق و التذكّر؟؟؟ المسألة ذلك أفضل أقسام العبادة و الدعاء و هو حقيقة الدعاء و الدعاء غير منفكّ عنه

ص: 273

النهاية إنّ المستغرق لا يطلب و لا يسأل حظّا غير هذا الحظّ العظيم انتهى.

[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 65]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)

و لمّا أمر اللّه الناس بالدعاء فلا بدّ و أن يكون الداعي مسبوقا بحصول المعرفة فذكر في هذه الآية الدلائل على وجوده و قدرته فذكر من الدلائل الآفاقيّة و الفلكيّة مثل تعاقب الليل و النهار فقال:

[اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ معاشر الخلق [اللَّيْلَ و هو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر [لِتَسْكُنُوا فِيهِ في وقت الليل و تستريحون من كدّ النهار و تعبه [وَ النَّهارَ مُبْصِراً] أي و جعل لكم النهار مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم و لو لا الإبصار لما حصل مكنة التصرّف في الأمور على الوجه الأنفع كما أنّ لو لا السكون في الليل لما تخلّصت الأعضاء من الإعياء و الليل بارد رطب فبرودته و رطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحرارة و الجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات.

فإن قيل: إنّ الموافق لرعاية البيان أن يقال: «لتبصروا» كما قال: «لِتَسْكُنُوا» و أيضا فما الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أنّ النهار أشرف من الليل؟

فالجواب أنّ الليل و النوم في الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود لأنّ الظلمة طبيعة عدميّة و النور طبيعة وجوديّة و العدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه: «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ». و أمّا الجواب عن صيغة الاسم قال الشيخ عبد القاهر النحويّ في دلائل الإعجاز: إنّ دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في هذا البيان.

و بعد أن شرح سبحانه هاتين النعمتين من المصالح قال: [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى

ص: 274

النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ و نظيره قوله: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (1) و قال إبليس: «وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» (2).

و لمّا بيّن اللّه الدلائل المذكورة على وجوده و قدرته قال: [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] قال صاحب الكشّاف: ذلكم المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة الّتي لا يشاركه أحد فيها هو اللّه ربّكم خالق كلّ شي ء خبار مرادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهيّة و الربوبيّة و الخلق و أنّه لا ثاني له [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي أنّى تصرفون و لم تعدلون عن هذه الدلائل و تكذّبون بها و معنى «أنى» كيف.

ثمّ قال: [كَذلِكَ أي مثل ما صرف و أفك و انقلب هؤلاء [يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و مثل ذلك الإفك العجيب الّذي لا وجه له يؤفك كلّ من جحد بآياته و يؤفك كما أفكوا و هم من تقدّمهم من الكفّار صرفهم أكابرهم و رؤساؤهم.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الدليل على توحيده فقال: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً] مستقرّا تستقرّون فيها و هي منزلكم في حال الحياة و بعد الممات [وَ السَّماءَ بِناءً] كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة و إلّا لوقعت علينا و جعل السماء مرتفعا و لو جعلها رتقا مع الأرض لما أمكن الانتفاع للخلق بما بينهما.

[وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لأنّ صورة بني آدم أحسن صور الحيوان قال ابن عبّاس:

خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده و يتناول بيده و غيره يأكل بفيه بادي البشرة و لذلك سمّي بشرا منتصب القامة متناسب الأعضاء متهيّئين لاكتساب الصنائع و الكمالات.

[وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لأنّه ليس شي ء من الحيوان له طيّبات المآكل و المشارب مثل ما خلق اللّه سبحانه لابن آدم لأنّ له أنواع الطيّبات و اللذّات من الثمار و فنون النبات و اللحوم و الدسوم بما لا يحصى كثرة.

[ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي خالق هذه الأشياء و المنعوت بهذه النعوت ربّكم [فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي جلّ اللّه و إنّه الدائم الثابت الّذي لم يزل و لا يزال.

ص: 275


1- سبأ: 13.
2- الأعراف: 16.

[هُوَ الْحَيُ على الإطلاق من غير علّة و سبب و فاعل المتفرّد بالحياة الذاتيّة [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] إذ لا موجود يدانيه في ذاته و صفاته و أفعاله [فَادْعُوهُ و لا تدعوا غيره و اعبدوه [مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ في دعائه و عبادته خاصّة من غير أن تشاركوا معه أحدا في العبادة و الدعاء [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الفرّاء: و هو خبر و في الكلام إضمار أي احمدوه على هذه النعم و قولوا: الحمد للّه ربّ العالمين أو المعنى اعبدوه مخلصين له الدين قائلين الحمد للّه ربّ العالمين عن ابن عبّاس قال: من قال: لا إله إلّا اللّه فليقل على أثرها الحمد للّه ربّ العالمين يريد قول اللّه: مخلصين له الدين الحمد للّه ربّ العالمين.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 66 الى 70]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه فقال:

[قُلْ يا محمّد: [إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ] معبودكم الّذين تعبدونهم فأدّب المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان و بيّن أنّ وجه النهي في ذلك ما جاءه من البيّنات من صفات القدرة و الخلق و الرزق و صريح العقل يحكم بأنّ العبادة لا يليق إلّا لمن هو موصوف بهذه و أنّ جعل المنحوتة و الخشب المصوّرة شركاء له في المعبوديّة مستنكر في بداهة العقل.

[وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أستسلم لأمر ربّ العالمين الّذي يملك تدبير الخلائق و العوالم.

ثمّ عاد في ذكر الأدلّة فقال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ خلق أصلكم من تراب و أنتم نسله و تنتمون إليه أو أنّ مادّة نطفكم من التراب لأنّ مادّة النطفة من الغذاء و الغذاء إمّا من الحيوان أو من النبات و كلاهما من التراب [ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] أي ثمّ أنشأ من ذلك الأصل الّذي كان مخلوقا من التراب النطفة و هي الماء القليل من الرجل و المرأة [ثُمَّ مِنْ

ص: 276

عَلَقَةٍ] و هي قطعة من الدم ثمّ بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن امّه و ترك ذكرها لأجل أنّه ذكرها في سائر الآيات.

[ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا] أي أطفالا و الطفل للواحد و الجماعة قال اللّه تعالى: «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» (1) [ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هاهنا تقدير أي يبقيكم لتبلغوا أشدّكم و تكملوا [ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً] بعد ذلك.

[وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يصير شيخا و من قبل أن يبلغ أشدّه [وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى و ليبلغ كلّ واحد منكم ما سمّي له من الأجل الّذي يموت عنده يفعل ذلك و قيل: هذا للقرن الّذي يقوم عليهم القيامة و الأجل المسمّى هو القيامة على هذا القول [وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تعتبرون و تعرفون خالقكم و معبودكم.

[هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي من خلقكم من تراب على هذه الأوصاف المذكورة و أحياكم هو الّذي يميتكم فأوّلكم من تراب و آخركم إلى تراب [فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يفعل ذلك من غير أن يتعذّر عليه و يمتنع له أمر أراده و حكم عليه فهو بمنزلة ما يقال له كن فيكون لأنّه يخاطب المعدوم بالتكوّن في عالم الأمر.

فاستدلّ سبحانه بهذه الصفات على كمال القدرة و عبّر عن الإحياء و الإماتة بقوله:

«كُنْ فَيَكُونُ» أي الانتقال من كونه ترابا إلى نطفة إلى كونه علقة و عظاما في هذه الانتقالات بحسب الحكمة تحصل على التدريج قليلا قليلا و أمّا تعلّق جوهر الروح به فذلك يحدث دفعة واحدة و إنّ تلك المراتب من عالم الخلق و هذه المرتبة من عالم الأمر فلذلك وقع التعبير عنه بقوله: «كُنْ فَيَكُونُ».

قوله تعالى: [أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني المشركين الّذين يخاصمون في إبطال حجج اللّه كيف يقلبون عن الطريق المستقيم إلى الضلال ثمّ قال هدّدهم سبحانه بالّذين كذّبوا بالقرآن و جحدوه و لم يقلبوا ما في كتب رسلنا و كذّبوهم بأنّ عن قريب

ص: 277


1- النور: 31.

يعلمون عاقبة أمرهم إذا حلّ بهم وبال ما جحدوا فيعرفون حينئذ أنّ ما دعوتهم إليه حقّ و ما ارتكبوه ضلال و فساد.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 71 الى 75]

إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)

«الْأَغْلالُ» جمع غلّ و هو طوق يدخل العنق فيه للذلّ و الألم و أصله الدخول يقال: انغلّ العنق في الشي ء إذا دخل فيه و الغلول الخيانة لأنّها تصير كالغلّ في عنق صاحبها و السلسلة هي الحلق المنتظمة في جهة الطول.

المعنى: وصف في هذه الآية كيفيّة عقابهم فقال:

[إِذِ الْأَغْلالُ أي يكون [فِي أَعْناقِهِمْ الأغلال [وَ السَّلاسِلُ و [يُسْحَبُونَ بتلك في الماء المستحق بنار جهنّم ثمّ في النار يشتعلون و السجر الإيقاد في التنوّر.

فإن قيل: إنّ قوله: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» و سوف للاستقبال و إذ للماضي و هذا الكلام مثل قولك سوف أصوم أمس.

فالجواب أنّ إذ هاهنا بمعنى إذا لأنّ الأمور المستقبلة لمّا كانت في أخبار اللّه متيقّنة مقطوعا بها عبّر عنه بلفظ ما كان و وجد لكنّ المعنى على الاستقبال. و بالجملة فهم بهذه السلاسل و الأغلال وقود جهنّم و توقّد بهم النار.

[ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أي يقال لهؤلاء الكفّار إذا دخلوا النار على وجه التوبيخ [أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و تزعمون أنّها تنفع و تضرّ من أصنامكم الّتي عبدتموها [قالُوا ضَلُّوا عَنَّا] أي ضاعوا عنّا و هلكوا و لم نقدر عليهم ثمّ يستدركون فيقولون: [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً] و فسّروا هذا القول منهم على وجهين: الأوّل أنّهم أنكروا و كذّبوا أنّهم عبدوا غير اللّه كما أخبر اللّه سبحانه عنهم في سورة الأنعام أنّهم قالوا: و «اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» و الوجه الثاني أنّ مرادهم من قولهم: «بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ

ص: 278

شَيْئاً» أي تبيّن لنا أنّهم لم يكونوا شيئا و ما كنّا نعبد بعبادتهم شيئا أي نحن زعمنا أنّ عبادتها عبادة إلّا أنّها لم تكن.

ثمّ قال اللّه: [كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قال القاضي عبد الجبّار: معناه أنّه سبحانه يضلّهم عن طريق الجنّة و لا يجوز أن يقال: يضلّهم عن الحجّة إذ قد هداهم في الدنيا إليها قال الطبرسيّ: معناه كما أضلّ اللّه أعمال هؤلاء و أبطل ما كانوا يأملونه كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر فلا ينتفعون بشي ء من أعمالهم و قيل: يضلّ اللّه و يبطلها لأنّه لا ينفع عمل مع الكفر.

[ذلِكُمْ العذاب الّذي نزل بكم [بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ جزاء بفرحكم في الدنيا بالكفر و المعاصي و بما كان تصيبون أنبياء اللّه من المكاره و تأشرون و تبطرون من غير حقّ، و الفرق بين الفرح و المرح أنّ الفرح قد يكون بحقّ فيحمد عليه لكنّ المرح لا يكون إلّا باطلا.

قوله تعالى: [سورة غافر (40): الآيات 76 الى 81]

ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

المعنى: يقال للكافرين: [ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ و هي سبعة أبواب [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لا انقطاع لكربكم فيها و لا نهاية و إنّما جعل لها أبواب كما جعل لها دركات تشبيها لها بالدنيا من المطابق و السجون و المطامير فإنّ ذلك أهول و أعظم في الزجر [فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ و مقامهم لأنّهم تكبّروا عن عبادة اللّه و إنّما أطلق عليه اسم بئس و إن كان حسنا لأنّ الطبع ينفر عنه كما ينفر العقل من القبيح فحسن لهذه العلّة اسم بئس عليه.

ص: 279

[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فأمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على أذى قومه و الثبات على الحقّ و سمّاه صبرا للمشقّة الّتي تلحق به كما يلحق بتجرّع المرّ، فإنّ ما وعد اللّه به المؤمنين على الصبر من الثواب في الجنّة حقّ لا شكّ فيه بل هو كائن لا محالة و يمكن أن يكون إنّ وعد اللّه بالنصر لأنبيائه و الانتقام من أعدائه حقّ.

[فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ إن شرطيّة و ما مزيدة للتأكيد أي إن نرك بعض الّذي نعدهم من العذاب في حياتك و إنّما قال: «بَعْضَ الَّذِي» لأنّ المعجّل من عذابهم هو بعض ما يستحقّونه مثل القتل و الأسر.

[أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل الإراءة [فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنفعل بهم ما يستحقّونه من العقاب و لا يفوتوننا و حاصل المعنى: إن نعذّبهم في حياتك أو لم نعذّبهم فإنّا نعذّبهم في الآخرة أشدّ العذاب و يجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا و تقديره: فذاك و يجوز أن يكون الجواب قوله: «فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» فنفعل بهم ما يستحقّونه.

ثمّ زاد سبحانه في تسلية نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي قد بيّنّا أحوال بعضهم لك و شرحنا لك أخبار بعضهم و بعضهم لم نبيّن لك أخبارهم أو المعنى: منهم من تلونا عليك ذكره و منهم من لم نتل عليك ذكره و اختلف الأخبار في عدد الأنبياء فروي في بعضها أنّ عددهم مائة ألف و ألف و أربعة و عشرون ألفا و في بعضها أنّ عددهم ثمانية آلاف نبيّ أربعة آلاف من بني إسرائيل و أربعة آلاف من سائر الناس و المذكور قصصهم أفراد معدودة.

[وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ] أي و ما استقام و ما صحّ لرسول منهم أن يأتي بآية و معجزة [إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنّ المعجزات على تشعّب فنونها عطايا من اللّه قسّمها بينهم حسبما تقتضيه الحكمة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح منها و لم يكن ذلك قادحا في نبوّتهم فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة عن قدر اللزوم و لمّا لم يكن إظهارها صلاحا لا جرم ما أظهرناها و هذا هو المراد من قوله: «وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثمّ قال: [فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِ و هذا وعيد ورد عقيب اقتراحهم

ص: 280

الآيات من النبيّ فإذا جاء أمر اللّه بالعذاب في الدنيا و الآخرة أو المراد من أمر اللّه، القيامة، و المبطلون هم المعاندون الّذين يجادلون في آيات اللّه و يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنّت فقضي عليهم بالعذاب و هو الحقّ.

[وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي إنّهم خسروا الجنّة و حصّلوا النار بدلا منها.

قوله: [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ جعل لكم من الإبل و البقر و الغنم لتنتفعوا بركوبها «وَ مِنْها تَأْكُلُونَ» يعني إنّ بعضها للركوب و الأكل كالإبل و البقر و بعضها للأكل كالأغنام و قيل: المراد بالأنعام هاهنا الإبل خاصّة كما أنّ أصل اللغة للإبل لنعومة أخفافها حين وطئها على الأرض و إنّها الّتي تركب و تحمل عليها في أكثر العادات و اللام في قوله: «لِتَرْكَبُوا» الام الغرض.

[وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من جهة ألبانها و أصوافها و أوبارها [وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها و تبلغوا المواضع الّتي تقصدونها بحوائجكم [وَ عَلَيْها] و أي على الأنعام و هي الإبل هنا [وَ عَلَى الْفُلْكِ أي على السفن [تُحْمَلُونَ في البرّ على الإبل و على السفن في البحر في أسفاركم فعلم اللّه سبحانه أنّا نحتاج إلى الأسفار فخلق لنا مركبا للبرّ و مركبا للبحر.

قوله: [وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أي بعد أن أراكم اللّه بخلقه هذه النعم الّتي عدّدها اللّه فأيّ آية منها تنكرونها و إنّما أدخل لام الغرض على قوله:

«لِتَرْكَبُوا» و على قوله: «لِتَبْلُغُوا» و لم يدخل على البواقي.

قال صاحب الكشّاف: الركوب في الحجّ و الغزو إمّا أن يكون واجبا أو مندوبا فهذان القسمان أغراض دينيّة فلا جرم ادخل عليها اللام و أمّا الأكل و إصابة المنافع فمن جنس المباحات في الغالب فلا جرم ما ادخل عليها لام التعليل نظيره «وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً» (1) فأدخل التعليل على الركوب و لم يدخله على الزينة و في قوله: «فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ» جاء على اللغة المستفيضة و تذكير هذه الكلمة شائع مستفيض.

قوله:

ص: 281


1- النحل: 8.

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 85]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

ثمّ نبّههم فقال:

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بأن يمرّوا في أطرافها فينظروا حال الأمم المهلكة و هم كانوا أكثر منهم عددا و أشدّ قوّة و مالا وجاها من هؤلاء المتأخّرين و لم يستفيدوا من تلك القوّة و المكنة إلّا الخيبة و الخسار و الخسرة و البوار فيعتبروا بهم و أمّا بيان أنّهم كانوا أكثر من هؤلاء عددا فإنّما يعرف بالسماع و الأخبار و أمّا أنّهم كانوا أشدّ قوّة و آثارا في الأرض فلأنّه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم مثل الأهرام الموجودة بمصر و مثل هذه البلاد العظيمة الّتي بناها الملوك المتقدّمون كما حكى سبحانه عنهم من أنّهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.

ثمّ قال سبحانه: [فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و ما في قوله: «فَما أَغْنى نافية أو مضمّنة معنى الاستفهام و ما في قوله: «ما كانُوا» موصولة أو مصدريّة و محلّها الرفع يعني أيّ شي ء أغنى عنهم كسبهم؟

قوله: [فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بيّن سبحانه أنّ أولئك الكفّار لمّا جاءتهم رسلهم بالدلائل و المعجزات [فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و الضمير في قوله:

«فَرِحُوا» يحتمل أن يكون عائدا إلى الرسل و قيل: راجع إلى الكفّار بما عندهم من العلم لأنّهم قالوا: نحن أعلم منهم لا نبعث و لا نعذّب و اعتقدوا أنّه علم فأطلق عليه لفظ العلم على اعتقادهم و فرحوا بالشرك الّذي كانوا عليه و أعجبوا به و ظنّوا أنّه علم و هو جهل و كفر و المراد بالفرح شدّة الإعجاب فيدفعون بجهالتهم علوم الأنبياء.

و يمكن أن يكون المراد بعلمهم علوم الفلاسفة فإنّهم كانوا إذا سمعوا بوحي اللّه صغّروا علم الأنبياء إلى علومهم، و عن سقراط أنّه سمع بمجي ء بعض الأنبياء فقيل له:

لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهديّون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا.

و يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا كما قال: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ

ص: 282

الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ... ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (1) فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات و معرفة المعاد و تطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها و استهزءوا بها.

هذا إذا كان الضمير راجعا إلى الكفّار و أمّا إذا قلنا: إنّ الضمير راجع إلى الأنبياء فمعناه أنّ الرسل لمّا رأوا من قومهم جهلا و إعراضا عن الحقّ و علموا سوء عاقبة قومهم و إصابتهم الهداية فرحوا و شكروا اللّه على نعمة الهداية و الوحي و حسن العاقبة.

[وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و حلّ بهم و نزل جزاء استهزائهم برسلهم من العذاب [فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا] أي عند رؤيتهم بأس اللّه [قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ و ليس في مثل هذا الوقت ينفع الإيمان لأنّهم يصيرون عند ذلك ملجئين و فعل الملجأ لا يستحقّ به المدح.

[سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي عدم قبول الإيمان حال اليأس اضطرارا عادة اللّه مطّردة في كلّ الأمم ثمّ قال سبحانه: [وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ و هنالك مستعار للزمان أي خسروا وقت رؤية اليأس بدخول النار. تمّت السورة بحمد اللّه تعالى اللّهمّ يا من لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من جلالك و عزّتك أقصى نعوت الناعتين و يا من تقاصرت عن الإحاطة بمبادي أسرار كبريائه أفهام المتفكّرين و أنظار المتأمّلين لا تجعلنا برحمتك و فضلك في زمرة الخاسرين المحرومين فإنّك أكرم الأكرمين بمحمّد و آله الطيّبين.

ص: 283


1- النجم: 30.

سورة فصلت، السجدة

اشارة

* (مكية)* عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ حم السجدة اعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات.

و روى ذريح المحاربيّ عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا و عاش في الدنيا مغبوطا محمودا.

ختم اللّه سورة المؤمن بذكر المتكبّرين و افتتح هذه السورة بمثل ذلك:

ص: 284

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

قيل في أوّل السورة أقوال: أحدها أنّ «حم» اسم للسورة مبتدأ و تنزيل خبره.

و الثاني قال الأخفش: تنزيل مبتدأ و خبره كتاب و الثالث قال الزجّاج: تنزيل يخصّص بالصفة و هو قوله: من الرحمن الرحيم فجاز وقوعه مبتدءا و كتاب فصّلت خبره.

و المراد من التنزيل أي المنزل و معنى المفعوليّة في المصدر شائع يقال: هذا ضرب السلطان أي مضروبه و بناء الأمير أي مبنيّة أي كون السورة منزلا من اللّه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ و أمر جبرئيل عليه السّلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثمّ ينزل بها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرئيل سمّي تنزيلا و ذلك يدلّ على كون ذلك التنزيل نعمة عظيمة من اللّه لأنّ الفعل المقرون بالصفة لا بدّ و أن يكون مناسبا لتلك الصفة فكونه رحمانا رحيما صفتان دالّتان على كمال الرحمة فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين مشعر بعظيم النعمة.

و الكتاب اسم مشتقّ من الجمع و قد جمع فيه علوم الأوّلين و الآخرين و [فُصِّلَتْ آياتُهُ و فرّقت و جعلت تفاصيل و تفاريق في معان مختلفة فبعضها في وصف ذاته سبحانه للمعرفة من التنزيه و التقديس و أحوال النبات و الحيوان و الإنسان و التكاليف المتوجّهة نحو القلوب من العقائد و نحو الجوارح من الأفعال و الثواب و العقاب و تهذيب الأخلاق و رياضة النفس، و القصص الأوّلين للعبرة و العظة و مقترن بعضه ببعض و لذا سمّي [قُرْآناً] و [عَرَبِيًّا] قد نزل بلغتهم ليفهموا منه المراد.

ص: 285

قوله: [بَشِيراً وَ نَذِيراً] بشيرا للمطيعين بالثواب و نذيرا للمجرمين بالعقاب و القرآن بشارة و نذارة إلّا أنّه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة كما يقال: شعر شاعر و كلام قائل [فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ و مع هذه الصفات الّتي في القرآن أكثرهم لا يلتفتون إليه.

و اجتحّ القائلون بخلق القرآن بهذه الآية لأنّه وصف بكونه تنزيلا و المنزل مشعر بالتصيير من حال إلى حال و هو معنى الحدوث، و كذلك لفظ التنزيل مصدر بمعنى المفعول و المفعول مخلوق، و كذلك معنى الكتاب بمعنى المكتوب فيدلّ على الحدوث. و الدليل الرابع أنّ قوله «فُصِّلَتْ» يدلّ على أنّ متصرّفا يتصرّف فيه بالتفصيل و التمييز و ذلك لا يكون في القديم. الخامس أنّه إنّما سمّي «قُرْآناً» لأنّه قرن بعض أجزائه بالبعض و ذلك يدلّ على كونه مفعول فاعل و مجعول جاعل. السادس وصفه سبحانه بكونه «عَرَبِيًّا» و هذه النسبة لأجل أنّ هذه الألفاظ إنّما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب و لغتهم و ما جعل بجعل جاعل و فعل فاعل فلا بدّ و أن يكون مخلوقا.

و أجاب القائلون بأنّه قديم بأنّ هذه الوجوه الّتي ذكرتموها عائدة إلى الحروف و الكلمات و اللغات و هي عندنا محدثة مخلوقة إنّما الّذي ندّعي قدمه شي ء آخر سوى هذه الألفاظ.

و الجواب عن جوابهم أنّه لو زعمتم أنّا ندّعي أنّ علم اللّه حادث فهذه فرية بلا مرية و المراد من القرآن كلام جامع حاو لمعان مقصودة يحتاج إليه النبيّ في تبليغه متّسق بهذه الحروف و التراكيب استنسخه اللّه بواسطة الملك من اللوح و اللوح أيضا مخلوق فهذا المستنسخ من اللوح هو ما بين الدفّتين قد أحدثه بهذا التركيب و أنزله على نبيّه و ليس موضوع القرآن إلّا هذا و لا يطلق القرآن إلّا على هذه المعنى الجامع فمن أين ثبت قدمه؟

فإن قيل: إنّه من علم اللّه فيلزم أن يكون قديما.

قلنا: نعم علم اللّه قديم لكنّه لا ملازمة في الأمر بأن يكون القرآن قديما كما أنّ حول العبد و قدرته من قدرة اللّه و حصوله بقدرة اللّه و قوّته و هو حادث و ليس بقديم.

ص: 286

قوله تعالى: [وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ] أي في أغطية [مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ و أكنّة جمع كنان مثل أغطية جمع غطاء و الكنان هو الّذي يجعل فيه السهام و حاصل المعنى أنّا لا نفقه ما تقول و إنّما قالوا ذلك ليؤيسوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبولهم دينه [وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ] و ثقل و صمم عن استماع القرآن [وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ أي بيننا و بينك حاجز في النحلة و الطريقة فلا نوافقك فيما تقول و التمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة.

[فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا محمّد أنت من ذلك الجانب و نحن من هذا الجانب فاعمل أنت على دينك إنّنا عاملون على مذهبنا و قيل: معناه فاعمل في هلاكنا إنّا عاملون في هلاكك أو اعمل في إبطال أمرنا إنّا عاملون في ابطال أمرك.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 10]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)

و لمّا ظهر منهم العناد و عدم القبول أمر سبحانه نبيّه بقوله: [قُلْ إِنَّما] الآية، كان المعنى أنّي لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإنّي بشر مثلكم و يوحى إليّ و أنا ابلّغكم الوحي فبعد أن شرّفكم اللّه بالأمر للتوحيد فتنالكم السعادة إن قبلتموه و لحقكم الخذلان إن رددتموه و ذلك لا يتعلّق بنبوّتي و رسالتي.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين العلم و العمل أمّا العلم فالعمدة فيه معرفة التوحيد و ذلك لأنّ الحقّ هو أنّ [إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ] فوجب علينا أن نعترف به و هو المراد من قوله: [فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ و نظيره «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» ... [وَ اسْتَغْفِرُوهُ عمّا لا ينبغي.

ثمّ أمر بالتحذير عمّا لا ينبغي فقال: [وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ

ص: 287

بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و لمّا ثبت أنّ التوحيد أصل المراتب و أشرف مقام العبوديّة كان ضدّه و هو الشرك أخسّ المراتب و أرذلها فالسعادة حاصلة لمن وحّد اللّه و استقام في طاعته و الويل لمن أشرك به و خالفه و لا يعطون الزكاة المفروضة و فيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع و هذا المعنى هو الظاهر.

و قيل: معناه لا يطهّرون أنفسهم من الشرك بقول لا إله إلّا اللّه فإنّها زكاة الأنفس عن عطاء عن ابن عبّاس و قد وصف سبحانه الكفر بالنجاسة بقوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (1) و ذكر الزكاة بمعنى التطهير في قوله: «خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» (2).

و قيل: معناه لا يقرّون الزكاة و لا يرون إيتاءها و لا يؤمنون بها و عن الكلبيّ عابهم اللّه بها و قد كانوا يحجّون و يعتمرون و قال الفرّاء: الزكاة في هذا الموضع أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ و تسقيهم و حرّموا ذلك على من آمن بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي هؤلاء مع ذلك بالآخرة و بما أخبر اللّه به من أحوال القيامة جاحدون.

ثمّ بعد وعيد الكفّار ذكر وعد المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بأمر الآخرة من الثواب و العقاب [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و الطاعات [لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لهم جزاء على ذلك غير مقطوع بل هو متّصل دائما و هو من مننت الجبل إذا قطعته و يجوز أن يكون المعنى أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي بكدر الصنيعة لأنّه سبحانه سمّاه أجرا و الأجر لا يوجب المنّة.

ثمّ وبّخهم سبحانه على كفرهم فقال: [قُلْ يا محمّد (صلّى اللّه عليك) لهم على وجه الإنكار: [أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ و هذا استفهام تعجيب أي كيف تجحدون و تكفرون نعمة من خلق الأرض [فِي مقدار [يَوْمَيْنِ و من كان بهذه القدرة و الكمال كيف يعقل أن تجعلوا له أحجارا منحوتة غير مدركة [أَنْداداً] و أمثالا تعبدونها [ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلك الّذي بهذه القدرة قابل للمعبوديّة لأنّه خالقكم و خالق العالمين

ص: 288


1- التوبة: 29.
2- الكهف: 82.

فإن قيل: إنّ من استدلّ بشي ء على شي ء فذلك الشي ء المستدلّ به يجب أن يكون مسلّما عند الخصم حتّى يصحّ الاستدلال به و كونه خالقا للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض و إنّما يمكن إثباته بالسمع و وحي الأنبياء و هم كانوا منازعين في الوحي و النبوّة فكيف تقرير هذه المقدّمة عليهم فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه خالقا للأرض في يومين أثر؟

فالجواب أنّ كفّار مكّة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنّهم أصحاب العلوم و الحقائق و كانوا قد سمعوا منهم هذه المعاني و اعتقدوا أنّها حقّة فحسن هذا الاستدلال.

قوله: [وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها] و جعل في الأرض جبالا ثابتات من فوق الأرض راسخات فيها [وَ بارَكَ فِيها] بما خلق في الأرض من المنافع بأن أنبت فيها من غير غرس و أخرج نبتها من غير زرع و بذر يبذرونه من الكلاء و غيره و أودعها بما ينتفع العباد.

[وَ قَدَّرَ فِيها] أي في الأرض [أَقْواتَها] أي أرزاق أهلها على حسب الحاجة لقوام أبدان الناس و سائر الحيوان و قيل: قدّر في كلّ بلدة ما لم يجعله في الاخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد.

[فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق فاليومان الأوّلان داخلان فيها كما تقول: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما أي تتمّة خمسة عشر يوما.

قال أبو السعود في قوله تعالى: «فِي يَوْمَيْنِ» أي حكم بأنّها ستوجد في مقدار يومين أو في نوبتين على أنّ ما يوجد في كلّ نوبة يوجد بأسرع ما يكون و إلّا فاليوم الحقيقيّ إنّما يتحقّق بعد وجودها و تسوية السماوات و إبداع نيرانها و ترتيب حركاتها انتهى كلامه.

القميّ معنى يومين أي وقتين ابتداء الخلق و انقضاؤه قال: «وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أي لا تزل و تبقى في أربعة أيّام.

[سَواءً] مرتّبا أي في أربعة أوقات قام به العالم و استوى و هي الأوقات الّتي تخرج فيها أقوات العالم من الناس و البهائم و الطير و حشرات الأرض و ما في البرّ و البحر

ص: 289

من الخلق و الثمار و النبات و الشجر و ما يكون فيه معاش الحيوان كلّه و هو الربيع و الصيف و الخريف و الشتاء ففي الشتاء يرسل اللّه الرياح و الأمطار و الأنداء و الطلول من السماء فيلقي الأرض و الشجر و هو وقت بارد ثمّ يجي ء بعد الربيع و هو وقت معتدل حارّ و بارد فيخرج وقتئذ من الشجر و الأرض نباتها فيكون أخضر ضعيفا ثمّ يجي ء وقت الصيف و هو حين ينضج الثمار و تصلب الحبوب الّتي هي أقوات العالم و جميع الحيوان ثمّ يجي ء من بعد وقت الخريف فيطيّبه و يبرّده و يدرك ما لم يدرك قبله و لو كان كلّه شيئا واحدا لم يخرج النبات من الأرض و لم ينضج الثمار و لم يبلغ الحبوب و لو كان كلّه صيفا لاحترق كلّ شي ء نبت في الأرض و لم يكن للحيوان معاش و لو كان الوقت كلّه خريفا و لم تتقدّمه شي ء من هذه الأوقات لم يكن شي ء يحصل حتّى يتقوّته أهل العالم فقام بهذا الترتيب أمر العالم و استوى و بقي مستويا مرتّبا من غير تخلّف.

و سمّى اللّه هذه الأوقات أيّاما [لِلسَّائِلِينَ أي للمحتاجين لأنّ كلّ محتاج سائل و لو أنّ في العالم من خلق اللّه من لا يسأل و لا يقدر على السؤال كثير لكنّهم سائلون بلسان الحال و هو أبلغ من لسان المقال و قيل: معنى «لِلسَّائِلِينَ» أي السائلين عن مدّة خلق الأرض.

و قيل في علّة خلق الأرض و ما فيها في أربعة أيّام إنّما خلق ذلك شيئا بعد شي ء في هذه المدّة ليعلم الخلق أنّ من الصواب التأنّي في الأمور و ترك الاستعجال فيها و إلّا كان قادرا على أن يخلق ذلك في أقلّ من لحظة أو ليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.

و روى عكرمة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ اللّه تعالى خلق الأرض يوم الأحد و الإثنين و خلق الجبال يوم الثلثاء و خلق الشجر و الماء و العمران و الخراب يوم الأربعاء فتلك أيّام أربعة و خلق يوم الخميس السماء و خلق يوم الجمعة الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم فعلى هذا يكون خلقة الأرض قبل السماء.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 11 الى 15]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)

ص: 290

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه خلق السماوات ثمّ قصد إلى خلق السماوات و كانت السماء دخانا و ترتيب البيان لأجل اعتنائه سبحانه بأمر المخاطبين فبيّن ترتيب مبادي معائشهم قبل خلقهم بما يحملهم على الإيمان و اليقين و يزجرهم عن الشرك فقال:

[ثُمَّ اسْتَوى أي قصد نحوها قصدا سويّا لا يلوي على غيره [وَ هِيَ دُخانٌ أي أمر ظلمانيّ عبّر به عن مادّتها أو عن الأجزاء المتصغّرة الّتي ركّبت هي منها أو دخان و بخار مرتفع من الماء و قد روي أنّ العرش العظيم كان قبل خلق السماوات و الأرض على الماء ثمّ إنّه سبحانه أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان فأمّا الزبد فبقي على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ثمّ فتقها فجعلها أرضين و أمّا الدخان فارتفع و علا فخلق منه السماوات و خلق جرم الأرض مقدّم على خلق السماوات لكن دحوها و خلق ما فيها مؤخّر عنه (1) لقوله: «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها».

روى الحسن أنّ اللّه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ثمّ أصعد الدخان و خلق منه و أمسك الفهر في موضعها و بسط منها الأرض و أنشأ دحوها على وجه خاصّ يليق لها من كلّ شكل معيّن و وصف مخصوص.

قوله تعالى: [فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً] قال ابن عبّاس: المراد أنّه سبحانه قال: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» أي قصد و توجّه نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجّه إليه توجّها و «ثُمَّ» لتفاوت ما بين الخلقتين لا التراخي في المدّة إذ لا مدّة قبل خلق السماوات و هي دخان ظلمانيّ.

و المراد من قوله: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا» الآية، إظهار قدرته و التقدير ائتيا طوعا أو كرها أي طائعين أو مكرهين شئتما أو أبيتما كما يقول الجبّار لمن تحت يده: لتفعلنّ هذاع.

ص: 291


1- بل المراد من الدحو الدفع الى مدار فلكها و ذلك بعد خلق السماء فلا اشكال لان الدحو في اللغة الدفع.

شئت أو أبيت قال ابن عبّاس: أتت السماء بما فيها و أتت الأرض بما فيها و ليس هناك أمر بالقول على الحقيقة و لا جواب لذلك القول بل المراد إنشاؤه سبحانه لهما من غير تعذّر و لا كلفة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير فعبّر سبحانه عن ذلك بالأمر و الإطاعة كقوله: «كُنْ فَيَكُونُ»*.

و إنّما قال: «أَتَيْنا طائِعِينَ» و لم يقل: طائعتين لأنّ المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء على التأنيث أو لمّا خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل مثل قوله: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»* (1) و مثل هذا القول كثير في الكلام قال الشاعر:

ألا أنعم صباحا أيّها الرسم و انطق و حدّث حديث الحيّ إن شئت و اصدق

و قيل: إنّه تعالى ذكر السماء و الأرض ثمّ ذكر الطوع و الكره فيجوز أن ينصرف الطوع إلى السماء و الكره إلى الأرض و تخصيص السماء بالطوع لأنّ الموجود في السماء ليس إلّا الطاعة قال تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (2) و أهل الأرض ليس الأمر في حقّهم كذلك. ثمّ إنّ السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف و الأرض ليست كذلك و إنّ السماء من حيث اللون أفضل الألوان و هي المستنيرة و أشكالها أفضل الأشكال و هي المستديرة و أجرامها أفضل الأجرام و هي الكواكب النيّرة المتلألئة بخلاف الأرض فإنّها مكان الظلمة و الكثافة و اختلاف الأحوال و تغيّر الذوات و الصفات فلا جرم وقع التعبير عن تكوّن السماء بالطوع و الأرض بالكره.

قوله تعالى: [فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ و قضاء الشي ء إتمامه و الفراغ منه و الضمير في «فَقَضاهُنَّ» راجع إلى السماء على المعنى و يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسّرا بسبع سماوات و النصبين أحدهما على الحال و الثاني على التمييز.

[وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها] أي خلق في كلّ سماء بما أراد من وضعها من النيّرات و غيرها و الملائكة و ما فيها من البحار و جبال البرد قال السدّيّ: و للّه في

ص: 292


1- الأنبياء: 33.
2- النحل: 50.

كلّ سماء بيت يحجّ و يطوف به الملائكة كلّ واحد منها مقابل الكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة ما وقعت إلّا على الكعبة و لأهل كلّ سماء تكليف فمن الملائكة من هو في القيام من أوّل خلق العالم إلى قيام القيامة و منهم ركوع لا ينتصبون و منهم سجود لا يرفعون فالمعنى خصّ كلّ سماء بالأمر المضاف إليه و الخلق عبارة عن الإيجاد و التكوين و قد يكون عبارة عن التقدير و التقدير في حقّ اللّه هو حكمه بأنّه سيوجده و قضاؤه بذلك.

قوله: [وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ و المراد من السماء الدنيا أقرب السماوات إلى أهل الأرض سمّي الكواكب بمصابيح لأنّه يقع الاهتداء بها و خصّ كلّ واحد بضوء معيّن و سير معيّن و اقتضاء مخصوص لا يعرفها إلّا اللّه.

ثمّ قال: [وَ حِفْظاً] أي حفظناها حفظا من الشياطين الّذين يسترقون السمع فأعدّ كلّ شيطان نجما يرميه و لا يخطئه فمنها ما يحرق و منها ما يقتل و منها ما يجعله مخبّلا.

و لمّا ذكر سبحانه هذه التفاصيل قال: [ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ذلك الّذي ذكر من عجائب الخلقة تقدير الّذي هو غالب في أمره لا يمتنع عليه شي ء العليم بمصالح خلقه و لا يخفى عليه شي ء.

قوله تعالى: [فَإِنْ أَعْرَضُوا] مع هذه الحجج الدالّة على كمال قدرته و وحدانيّته [فَقُلْ يا محمّد لهم: [أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ] خوّفتكم الصاعقة، و الصاعقة النائرة المهلكة لأيّ شي ء كان و قرئ صعقة عاد و هي المرّة من الصعق و هي في العرب اسم للنار الّتي تنزل من السماء فتحرق.

[إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ «إِذْ» متعلّقة بقوله: «صاعِقَةً» و التقدير نزلت بهم حين أتتهم الرسل من قبلهم و من بعدهم عن ابن عبّاس يعني به الرسل الّذين جاءوا آباءهم و الرسل الّذين جاءوهم في أنفسهم لأنّهم كانوا خلف من جاء آباءهم من الرسل فيكون حينئذ الضمير في «خَلْفِهِمْ» راجعا إلى الرسل و قيل: معناه من تقدّم زمانهم و من تأخّر و يمكن أن يكون المراد أنّ أخبار الرسل أتتهم من هاهنا و هاهنا.

ص: 293

فإن قيل: الرسل الّذين جاءوا من قبلهم و من بعدهم كيف يمكن وصفهم بأنّهم جاءوهم؟ نعم مثلا قد جاءهم هود و صالح داعيين إلى الإيمان و صدّقا الرسل الّذين قبلهما فأتيا بما أتى الرسل و كذلك فكان جميع الرسل قد جاءوهم بالأمر على الإيمان و كلّهم كانوا يأمرون الناس بالتوحيد.

ب [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي إنّ الشأن و الحديث قولنا لكم النهي عن عبادة غير اللّه.

ثمّ حكى سبحانه عن جواب الكفّار [قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ و استدلّوا على كذب الأنبياء بأنّه سبحانه لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة و قد كفروا بالرسل و جحدوا نبوّاتهم.

روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمّد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر و السحر و الكهانة فكلّمه ثمّ أتانا بخبر عن أمره فقال عتبة بن ربيعة: و أنا لقد سمعت الشعر و السحر و الكهانة و علمت من ذلك علما و ما يخفى عليّ و ذلك أنّه كان يحضر بعض الأندية و يستمع.

فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ أنت خير أم عبد اللّه؟

لم تشتم آلهتنا و تضلّلنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسا و إن يكن بك البائة زوّجناك عشر نسوة تختارهنّ أيّ بنات ممّن شئت من قريش و إن كان المراد المال جمعنا لك ما تستغني به، و رسول اللّه ساكت.

فلمّا فرغ عتبة من كلامه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إلى قوله: «صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» فأمسك عتبة على فيه و ناشده بالرحم و رجع إلى أهله و لم يخرج إلى قريش فلمّا احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه و قالوا: يا عتبة ما حبسك عنّا إلّا أنّك قد صبأت فغضب أو قسم و قال: و لقد كلّمته فأجابني بشي ء ما هو بشعر و لا سحر و لا كهانة و لمّا بلغ «صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» أمسكت بفيه و ناشدته بالرحم و لقد علمت أنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.

ص: 294

و بالجملة ثمّ فصّل اللّه أخبار الجاحدين بقوله: [فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و أظهروا النخوة و الكبر و الاستعلاء و استخدامهم غيرهم بغير حقّ جعله اللّه لهم بل للكفر و البغي الصرف و اغترّوا بقوّتهم و كانوا مخصوصين بكبر الأجسام.

[وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً] فلو شاء أهلكهم فإن كانت الزيادة في القوّة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فهذا الأمر توجب كونهم منقادين مطيعين للّه لأنّه هو أقوى منهم [وَ كانُوا بِآياتِنا] و دلائلنا [يَجْحَدُونَ و لا يعترفون.

و لمّا ثبت بالعقل أنّ مجامع الخصال الحميدة للعبد التعظيم للخالق و المولى و الإحسان إلى خلقه فقوله: «وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» مضادّ لتعظيم الخالق فقوله:

«فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» مضاد للإحسان إلى الخلق فهم قد بلغوا في الصفات الخبيثة المذمومة الموجبة للنفي و الإبطال و إلى الغاية القصوى حبّا للدنيا.

فلهذا المعنى سلّط اللّه العذاب عليهم فقال سبحانه:

[سورة فصلت (41): الآيات 16 الى 20]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18) وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)

فأخبر سبحانه عن إهلاكهم بقوله: [فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً] عاصفا شديدة الصوت من الصرّة و هي الصيحة «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» أو البرد بحيث شدّة البرد تحرق كما تحرق النار و اشتقاق الصرصر من الصرير ضوعف اللفظ إشعارا بمضاعفة المعنى، و صرّر قلبت أحد الراءين صادا كما يقال: نهه نهنهه و كفف كفكف.

[فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ قرئ بسكون الحاء و كسرها أي مشئومة عليهم و قيل: شديدة البرد و المعنى كان إرسال الريح في أيّام نكدات مشئومات ذوات نحوس أو ذوات غبار

ص: 295

و تراب حتّى لا يكاد يرى بعضهم بعضا و على كون النحسات شديدة البرد لأنّ العرب تسمّي البرد نحسا.

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الرياح ثمان؛ أربع منها عذاب: العاصف و الصرصر و العقيم و السموم، و أربع منها رحمة: الناشرات و المبشّرات و المرسلات و الذاريات.

قوله تعالى: [لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و عن ابن عبّاس قال: ما أرسل اللّه من الريح عليهم إلّا قدر خاتمي و فعلنا ذلك بهم عذاب الهوان و الذلّ و هو العذاب الّذي يجزون في الدنيا في مقابلة استكبارهم.

[وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى و أفضح من ذلك [وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ و لا يدفع عنهم أبدا قيل: إرسال الريح عليهم في الأيّام النحسات كنّ آخر شوّال من الأربعاء إلى الأربعاء و ما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء و قرئ «لتذيقهم» بالتاء أي الريح أو الأيّام.

و استدلّ الأحكاميّون من المنجّمين بهذه الآية على أنّ بعض الأيّام قد يكون نحسا و بعضها قد يكون سعدا و قالوا: الآية صريحة في هذا المعنى.

و أجاب المتكلّمون بأنّ المعنى أنّ الأيّام ذوات غبار و تراب و أيضا قالوا: كون هذه الأيّام نحسات لأنّ اللّه أهلكهم فيها لا أنّها بذواتها نحسة.

و أجاب الأحكاميّون بأنّ النحسات في وضع اللغة هي المشئومات لأنّ النحس يقابله السعد و الكدر يقابله الصافي. و أيضا أجابوا عن الجواب الثاني: إنّ اللّه أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيّام النحسات فوجب أن يكون كون تلك الأيّام نحسة مغايرا لذلك العذاب الّذي وقع فيها.

فإن قيل: كيف أنذر قومه مثل صاعقة عاد و ثمود مع العلم بأنّ ذلك لا يقع في امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد صرّح اللّه بذلك في قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (1) و جاء في الأحاديث الصحيحة أنّ اللّه رفع عن هذه الامّة هذه الأنواع من العذاب؟

فالجواب أنّ قومه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا شاركوا و ساووا قوم عاد و ثمود بسبب إنكارهم التوحيد

ص: 296


1- الأنفال: 33.

و النبوّة فاستحقّوا مثل تلك الصاعقة و تخويفهم بالعذاب مثل أولئك و جاز حدوث ما يكون من جنس ذلك.

قوله تعالى: [وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بيّنّا لهم سبيل الخير و الشرّ و نصبنا الدلائل [فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الهداية و هذه الآية تدلّ على أنّهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدلّ على أنّ الكفر و الإيمان يحصلان من العبد بصرف الاختيار من غير شائبة القهر و الكره.

[فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ و الهون الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه [بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب شركهم و تكذيبهم صالحا و عقرهم الناقة «و ثمود» قرئ بضمّ الثاء و قرئ منوّنا و غير منوّن بالرفع و النصب و الرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.

و العجب أنّ الرازيّ لمّا عثر على استدلال المعتزلة بالآية في الردّ على الجبريّة استدلّ على صحّة مذهب أهل الجبر بدليل أضعف من حجّة نحويّ و هو أنّه أثبت مدّعاه بقوله: إنّ أحدا لا يحبّ العمى و الجهل مع العلم بكونه جهلا و غرض الرازيّ أنّ جهله بإجبار اللّه إيّاه و يجعل الآية من دلائل مدّعاه.

و الإنصاف أنّ كلامه ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه بهذه التقريرات قد أثبت أنّ الكفر و الإيمان يحصلان من اللّه لا من العبد و نظره أنّ أحدا لا يختار العمى مع العلم فحينئذ يلزم أنّ جميع المعاصي الصادرة من العباد غير مأخوذ بها لأنّهم لا يعتقدون أنّها جهل و عماية و كلّ حزب بما لديهم فرحون.

قوله: [وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك أي و نجّينا صالحا و من آمن به من العذاب.

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الكفّار يوم القيامة فقال: [وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا و المعنى إذا اجتمعوا وقفوا [حَتَّى إِذا ما جاؤُها] أي جاءوا إلى النار الّتي حشروا إليها و المقصود بيان أنّهم إذا اجتمعوا سئلوا عن أعمالهم [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ أي شهد عليهم

ص: 297

سمعهم بما قرعه من الدعوة إلى الحقّ فأعرضوا عنه و أبصارهم بما رأوا من الآيات الدالّة على وحدانيّته فلم يؤمنوا و سائر جلودهم بما باشروا من المعاصي.

و في شهادة الجوارح قولان: أحدهما أنّه يخلق الفهم و النطق فيشهد، و الثاني أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالا يدلّ على صدور تلك الأعمال من صاحبها و تلك الأمارات تسمّى شهادة كما يقال: يشهد هذا العالم يتغيّرات أحواله على حدوثه فسمّي شهادة مجازا قال ابن عبّاس: المراد من الجلود هنا الفروج على طريق الكناية كما قال سبحانه:

«وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» (1) و أراد النكاح و قال: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ»* (2) و المراد قضاء الحاجة.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 21 الى 25]

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)

ثمّ حكى اللّه عنهم أنّهم يقولون لتلك الأعضاء: [لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا] فتقول الأعضاء:

[أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني إنّ القادر على خلقكم و إنطاقكم في المرّة الاولى حال ما كنتم في الدنيا أنطقكم و بعثكم في المرّة الثانية.

[وَ ما] نافية [كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ أي لم يكن تهيّأ لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنّكم كنتم بها تعملون قال أبو السعود: معنى الآية حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة من جهته تعالى بطريق التوبيخ أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم

ص: 298


1- البقرة 235.
2- النساء: 142.

الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك كما كنتم تستترون من الناس مخافة الافتضاح بل كنتم جاحدين بالبعث و الجزاء رأسا.

[وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ من القبائح فلذلك اجترأتم على ما فعلتم عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفران ثقفيّان و قرشيّ فقال أحدهم: أ ترون اللّه يسمع ما نقوله؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا و لا يسمع إن أخفينا فذكرت ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنزل اللّه «وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ» الآية، و كان الكفّار يقولون:

إنّ اللّه لا يعلم ما في أنفسنا و لكنّه يعلم ما يظهر.

و حاصل المعنى إثبات أنّهم كانوا يستترون عند الإقدام على القبائح إلّا أنّ استتارهم ما كان لأجل خوفهم من شهادة الجوارح و أنّ اللّه يعلمه بل لأجل أنّهم كانوا يظنّون أنّ اللّه لا يعلم مستوراتهم من المعاصي و إنّما يعلم تعالى ما ظهر منهم علنا.

[ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي هذا الظنّ الفاسد بربّكم أهلككم [فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ جعلوا بظنّهم الفاسد ما منحوا الاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المشركين.

القميّ عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ آخر عبد يؤمر به إلى النار فإذا امر به التفت فيقول الجبّار جلّ جلاله ردّوه فيردّونه فيقول اللّه: لم التفت إليّ فيقول: يا ربّ لم تكن ظنّي بك هذا فيقول: و ما كان ظنّك بي؟ فيقول العبد: يا ربّ كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي و تسكنني جنّتك قال: فيقول الجبّار يا ملائكتي لا و عزّتي و جلالي و آلائي و علوّي و ارتفاع مكاني ما ظنّ بي عبدي هذا ساعة من خير قطّ و لو ظنّ بي ساعة من خير ما روّعته أجزوا له كذبه و أدخلوه الجنّة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس من يظنّ باللّه عزّ و جل خيرا إلّا كان عند ظنّه به و ذلك قوله: «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

قال الصادق عليه السّلام: ينبغي للمؤمن من أن يخاف اللّه خوفا كأنّه يشرف على النار و يرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة إنّ اللّه يقول: «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي» الآية، ثمّ قال عليه السّلام: إنّ اللّه عند ظنّ عبده إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ.

ص: 299

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم فقال: [فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي فإن يصبر هؤلاء على النار و آلامها و ليس المراد به الصبر المحمود و لكنّه الإمساك عن الشكوى فالنار مسكن لهم [وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ يعني و إن يطلبوا العتبى و الرضى من اللّه أن يرضى منهم فليس لهم طريق إلى الرضاء و ما هم ممّن يقبل عذرهم و يرضى عنهم أي إن صبروا و سكتوا أو جزعوا فالنار مأواهم كقوله تعالى: «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ» و المعتب من يقبل عذره و يجاب إلى ما سأل أو المعنى و إن يستغيثوا فما هم من المغاثين.

[وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ] أي هيّأنا لهم قرناء من الشياطين أو بدّلناهم قرناء سوء من الجنّ و الإنس مكان قرناء الصدق الّذي أمروا بمقارنتهم فلم يعملوا [فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ أي إنّ القرناء زيّنوا لهم أعمالهم الّتي يعملونها و يشاهدونها بين أيديهم و ما خلفهم أي يعملونها بعد و قيل: معناه زيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنّه لا بعث و لا جنّة و لا نار و ما خلفهم من أمر الدنيا فزيّنوا أنّ الدنيا قديمة و أنّه لا فاعل و لا صانع إلّا الطبائع و الأفلاك و قيل: المعنى إنّ القرناء زيّنوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة و ما بقي من أعمالهم الخسيسة.

ثمّ قال تعالى: [وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قوله: «فِي أُمَمٍ» في محلّ النصب على الحال من الضمير في «عَلَيْهِمُ» و المعنى وجب عليهم الوعيد و العذاب حال كونهم كائنين في جملة امم من المتقدّمين المكذّبين أنّهم كانوا خاسرين الجنّة و الثواب و استحقّوا العذاب.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 26 الى 30]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)

ص: 300

المعنى: ثمّ عطف على ما تقدّم من ذكر الكفّار: [وَ قالَ الَّذِينَ الآية قال رؤساؤهم للأتباع أو قال بعضهم لبعض يعني كفّار قريش: [لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ الّذي يقرؤه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا تصغوا إليه [وَ الْغَوْا فِيهِ أي عارضوه باللغو و الباطل [لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ لتغلبوه بالباطل فلا يتمكّن أصحابه من الاستماع و الغوا بالتخليط من كلامكم الفاسد و المكاء و الصفير و قيل: ارفعوا أصواتكم في وجهه بالشعر و الرجز.

ثمّ أوعدهم اللّه فقال: [فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً] في الدّنيا بالأسر و القتل [وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي نجازيهم في الآخرة بأقبح الجزاء على أقبح معاصيهم و هو الكفر و الشرك.

[ذلِكَ أي ما تقدّم من الوعيد [جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ الّذين عادوه بالعصيان و الكفر و عادوا الأنبياء و المؤمنين [النَّارُ] فبيّن سبحانه أنّ ذلك الأسوء الّذي جعل جزاء أعداء اللّه هو النار.

ثمّ قال: [لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ] أي دار العذاب الدائم لهم [جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ في مقابلة جحودهم بآياتنا و هو جحودهم بأنّ القرآن ليس من عند اللّه.

قوله: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي و سيقول الكفّار في النار: [رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية و إنّ أوّل من أبدع الكفر إبليس و القتل بغير الحقّ سنّة قابيل و قرئ «أَرِنَا» بسكون الراء لثقل الكثرة كما قالوا: في فخذ فخذ و قيل: معناه أعطنا اللّذين أضلّانا قال الخليل: إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر فالمعنى بصّرنيه و إذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.

[نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا] أي يكونان أسفل منّا في النار [لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ تمنّوا لشدّة عداوتهم لهم و بغضهم إيّاهم بما أضلّوهم أن يجعلوهم تحت أقدامهم في الدرك الأسفل ندوسهما و نطؤهما بأقدامنا إذلالا لهم حتّى يكون عذابهم أشدّ من عذابنا.

و لمّا ذكر سبحانه وعيد الكفّار عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين الأبرار فقال: [إِنَ

ص: 301

الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا] أي وحّدوا اللّه و صدّقوا أنبياءه ثمّ استمرّوا على هذا الأمر و لم يشكّوا به شيئا أو المراد أنّهم استقاموا على طاعته و أداء فرائضه و قيل:

معناه ثمّ استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم مخلصا و لم يعملوا عملا لغير اللّه بل لبست عبادته كما لبست معاصيه خوفا من الرياء.

قيل: إنّ أيّوب النبيّ كان يحيي الليل كلّه فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنّه قائم تلك الساعة. و كان بعض السالكين مثل إبراهيم النخعيّ إذا قرأ في المصحف و دخل داخل غطّاه و كان الآخر إذا دخل و هو يصلّي اضطجع على فراشه و حكي أنّ إبراهيم بن أدهم إذا مرض يجعل عند رأسه ما يأكله الأصحّاء لئلّا يشبه بالمرضى و ليس عليهم اعتراض فإنّ أهل الدار أدرى بالدار.

روي عن أنس قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية ثمّ قال: قد قالها فآمن ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها. و روى محمّد بن الفضيل قال: سالت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الاستقامة فقال: هي و اللّه ما أنتم عليه و من المعلوم بالضرورة أنّ الاستقامة في الدّين هي أن يعتقد بقلبه أنّ لهذا العالم إلها موصوفا بجميع صفات الكمال و منزّها عن النقائص و يقرّ بلسانه و أن يوافق عمله قوله و عقيدته و يبقى مستقيما عليه و لم يتغيّر بسبب من الأسباب و أن لا يتوغّل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل و لا يتوغّل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه، و يبقى على الخطّ المستقيم الفاصل بين التشبيه و التعطيل و بين الجبر و التفويض و كذا في الرجاء و الخوف.

قوله تعالى: [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ] يعني عند الموت روي ذلك عن أبي عبد اللّه و قيل:

تستقبلهم الملائكة إذا خرجوا من قبورهم في الموقف بالبشارة من اللّه و قيل: إنّ البشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت و في القبر و عند البعث.

[أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا] أي تقول الملائكة لهم لا تخافوا عقاب اللّه و لا تحزنوا على ورائكم و على ما خلّفتم من أهل و ولد و قيل: المراد لا تحزنوا على ذنوبكم فإنّ اللّه يغفرها لكم و قيل: إنّ الخوف يتناول المستقبل و الحزن يتناول الماضي فكان «أَلَّا تَخافُوا»

ص: 302

فيما يستقبل و «لا تَحْزَنُوا» على ما مضى [وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في دار الدنيا.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 31 الى 35]

نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

ثمّ إنّ الملائكة تقول للمؤمنين الّذين استقاموا بعد البشارة: [نَحْنُ معاشر الملائكة [أَوْلِياؤُكُمْ و أحبّاؤكم في الحياة الدنيا نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل اللّه و في الآخرة لا نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة أو كنّا نتولّى حفظكم في الدنيا بأنواع المعرفة و في الآخرة نتولّاكم بأنواع الإكرام، و قيل: المعنى نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و نحرسكم و عند الموت و في الآخرة عن أبى جعفر عليه السّلام و هذا في مقابلة قوله تعالى و ما ذكره في الوعيد للكفّار حيث قال: «وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ».

و للملائكة تأثيرات في الأرواح البشريّة بالإلهامات و المكاشفات و المقامات الحقيقيّة كما إنّ للشياطين تأثيرات في الأرواح بإلقاء الوساوس و تخييل الأباطيل إليها؛ فالملائكة أولياء للأرواح الطيّبة، و الشياطين أولياء للأرواح الخبيثة العاصية. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات. و اعلم أنّ جوهر النفس القدسيّ من جنس الملائكة و التعلّقات الجسمانيّة هي الّتي تحول بينها و بين الملائكة.

قوله تعالى: [وَ لَكُمْ فِيها] أي في الآخرة [ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من الملاذّ [وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ و حاصل فإنّ اللّه يحكم لكم بذلك [نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أي هذا الموعود به مع جلالته عطاء لكم و رزق يجري عليكم و كرامة لكم ممّن يغفر الذنوب رحمة منه لعباده.

[وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ المعنى: أمن المعلوم أنّ مراتب السعادات اثنتان: التامّ و فوق التامّ أمّا التامّ فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير

ص: 303

كاملا في ذاته فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بتكميل الناقصين و هو درجة فوق التامّ فقوله: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا» إشارة إلى المرتبة الاولى فإذا فرغ من هذه المرتبة ينتقل إلى المرتبة الثانية و ذلك إنّما يكون بدعوة الخلق إلى دين اللّه و هو المراد من قوله: «وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ».

و صورة الكلام صورة الاستفهام و المعنى النفي تقديره: و ليس أحد أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه و إلى طاعته [وَ عَمِلَ صالِحاً] أي أضاف إلى الدعوة الأعمال الصالحة [وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ و يقول: أنا من المنقادين لأمر اللّه كما قال إبراهيم: «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» و في الآية دلالة على أنّ الدعاء إلى اللّه من أعظم الطاعات. و فيها دلالة على أنّ الداعي يلزم أن يكون عاملا بعلمه ليكون الناس إلى القبول منه أقرب و إليه أسكن.

و من الناس من قال: المراد من قوله: «وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا» هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الحسن و ابن زيد و السدّيّ و قيل: هم المؤذّنون و قيل: هو و جميع الأئمّة الدعاة الهداة إلى الحقّ، العيّاشيّ إنّها في عليّ عليه السّلام.

و بالجملة لعلّ يدخل في الآية من دعا إلى طريق الحقّ و للدعوة مراتب فالكاملين في الدعوة هم الأنبياء و دعوتهم راجحة على دعوة غيرهم لأنّهم جمعوا في الدعوة بين الحجّة و السيف و قلّما يتّفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين ثمّ العلماء العاملين فإنّهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء و لهذا السبب قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل فنفوس الأنبياء قد حصلت لها مزيّتان الكمال في الذات و التكميل للغير فكانت قوّتهم على الدعوة أقوى و كانت درجاتهم أفضل و أكمل فالأنبياء لهم صفتان: العلم و القدرة و العلماء هم نوّاب الأنبياء في العلم في الجملة و الملوك إذا استجمعت الشرائط لهم فهم نوّاب الأنبياء في القدرة و القدرة توجب الاستيلاء على الأجساد و العلم يوجب الاستيلاء على الأرواح.

و العلماء على ثلاثة أصناف: العلماء باللّه و العلماء بصفات اللّه و العلماء بأحكام اللّه أمّا العلماء باللّه فهم الحكماء الّذين قال اللّه في حقّهم: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ

ص: 304

يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) و هم الأنبياء الّذين اصطفاهم اللّه لدينه و معرفته و لإرشاد الخلق إلى مصالح معادهم و معاشهم و ليس المراد من الحكماء المتقوّلين في الجواهر و الأعراض و أمّا العلماء بصفات اللّه فهم أصحاب الأصول و أمّا العلماء بأحكام اللّه فهم الفقهاء فثبت من هذا التقرير أنّ أكمل من صدق عليه هذه الآية من الخلق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام ثمّ الأمثل فالأمثل.

قوله تعالى: [وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ] أي الملّة الحسنة الّتي هي الإسلام و الملّة السيّئة الّتي هي الكفر أو لا تستوي الأعمال الصالحة و الأعمال القبيحة أو لا تستوي الخصلة الحسنة و السيّئة مثل أن لا يستوي الحلم و الغضب و العلم و الجهل و المداراة و الغلظة و العفو و الانتقام.

ثمّ بيّن سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعوّ فقال: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع بحقّك باطلهم بحلمك و رفقك و بعفوك إساءتهم [فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فإنّك إذا دفعت خصومك بلين و مداراة صار عدوّك الّذي يعاديك في الدّين بصورة وليّك القريب و يصير كأنّه حميمك في النسب و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ الحسنة التقيّة و السيّئة الإذاعة.

[وَ ما يُلَقَّاها] أي و ما يلقّى هذه الفعلة و الحالة و هي دفع السيّئة بالحسنة [إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا] على كظم الغيظ و احتمال المكروه و صبروا في الدنيا على الأذى عن الصادق عليه السّلام.

و لا يؤتاها [إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي ذو نصيب وافر من الرأي و العقل و قيل: إلّا ذو نصيب من الثواب و الخير و الجنّة.

أقول: إنّ من آتاه اللّه قريحة قويّة و نصابا وافيا من العلوم في القرآن عرف أنّه سبحانه كيف علّم نبيّه في إقامة الدعوة و آداب المناظرة.

و جمع في الآية طريق السلوك مع النفوس القاصرة و الجدل في إثبات حجج الحقّ و كيف أدّب نبيّه بمكارم الأخلاق.

ص: 305


1- البقرة: 269.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 36 الى 42]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

النزغ شبة النخس و الشيطان ينزغ الإنسان و ينخسه و يبعثه على ما لا ينبغي.

أي و إن صرفك عما شرعت من الدفع بالّتي هي أحسن [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه و لا تطعه و امض على شأنك و اطلب الاعتصام من شرّه باللّه [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بأقوالكم [الْعَلِيمُ بنيّاتكم.

ثمّ ذكر دلائل التوحيد بقوله: [وَ مِنْ آياتِهِ و حججه الدالّة على توحيده و صفاته الّتي باين خلقه بها [اللَّيْلُ وَ النَّهارُ] بذهاب الشمس عن بسيط الأرض و بطلوعها على وجهها على وجه مستقرّ و نظام مستمرّ [وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ] و ما اختصّا به من النور و ظهر فيهما من التدبير و للتسيير و التصرّف في العالم.

[لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ] و إن كان فيها منافع كثيرة لأنّهما ليسا بخالقين [وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ و أنشأهنّ و إنّما قال: «خَلَقَهُنَّ» لأن الضمير يرجع إلى الآيات لأنّه قال: و من آياته هذه الأشياء، و الضمير راجع إلى الليل و النهار و الشمس و القمر و حكم جماعة ما يعقل حكم الأنثى يقال للأقلام: بريتها و بريّتهنّ.

و إنّما قال: [إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأنّ ناسا كانوا يسجدون للشمس و القمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب و يزعمون أنّهم يقصدون بالسجود لها السجود للّه فنهوا عن هذه الواسطة و أمروا أن لا يسجدو إلّا للّه الّذي خلق هذه الأشياء و المرويّ عن ابن

ص: 306

عبّاس و جماعة أنّ موضع السجود عند قوله: «وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ» و عن ابن مسعود و جماعة أنّ الموضع عند قوله: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» و هو اختيار أبي عمرو بن العلاء و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ثمّ قال سبحانه: [فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا] عن توجيه العبادة إلى اللّه وحده [فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ و هم الملائكة [يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملّون و لا يفترون و لا ينفكّون عن العبادة و التسبيح لحظة واحدة.

و المشبّهة تمسّكوا بظاهر الآية بقوله: «عِنْدَ رَبِّكَ» على إثبات المكان و الجهة للّه تعالى.

و الجواب أنّه قال: عند الملك من الجند كذا و كذا و لا يراد به قرب المكان فكذا هاهنا و يقال: عند الشافعيّ لا يقتل المسلم بالذمّي.

و كذا استدلّ بعض بهذه الآية بأنّ الملك أفضل من البشر و هو استدلال الأعلى على حال الأدون.

و الجواب عدم تسليم الأعلويّة أوّلا ثمّ داعية الترك في البشر و ليس داعية الترك في العبادة في الملك.

قوله تعالى: [وَ مِنْ آياتِهِ أي من الأدلّة الدالّة على ربوبيّته [أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً] غبراء دارسة متهشّمة حالها حال المتواضع و قيل: المراد إنّها ميّتة يابسة لا نبات فيها قال الأزهريّ: إذا يبست الأرض و لم تمطر قيل: قد خشعت [فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحرّكت بالنبات و ارتفعت قبل أن تنبت [وَ رَبَتْ بكثرة ريعها و انتفخت.

ثمّ قال: [إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني إنّ القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها [إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّ عودة التأليف و التركيب إلى تلك الأجزاء المتفرّقة المحفوظة في علم اللّه ممكن لذاته و اللّه قادر على جميع الممكنات فوجب أن يكون قادرا على إعادة الحياة و القدرة و العقل و الفهم إلى تلك الأجزاء و قد أخبر سبحانه بوقوعها فوجب وقوعها و هذا هو الدليل الأصليّ في العماد.

ص: 307

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا] أي إنّ الّذين يميلون عن الإيمان بآياتنا لا يخفون علينا بأشخاصهم و أقوالهم و أفعالهم و قيل: المراد من الإلحاد في الآيات تبديلهم ذلك و وضعه في غير موضعه و تحريف دلائل التوحيد من الآيات و ترك الاستدلال بها.

ثمّ قال سبحانه على وجه الإنكار و التهجين لهم: [أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي إنّ الملحد الّذي يلقى في النار مثل أبي جهل خير و الّذي يأتي آمنا يوم القيامة رسول اللّه، قال عكرمة: هو عمّار بن ياسر و الصحيح أنّه على العموم من المؤمن و الكافر.

ثمّ قال: [اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ اللفظ الأمر و معناه الوعيد أي إذا علمتم أنّهما لا يستويان قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فليختر كلّ واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين فإنّ العاقل لا يختار الإلقاء في النار فإذا لم يختر ذلك فلا بدّ أن يؤمن بالآيات [إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] و عالم بأعمالكم.

ثمّ قال متهجّنا لهم: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ] الّذي هو القرآن [لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم ثمّ أخبر سبحانه في وصف الذكر و ترك خبر «إن» على تقدير «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ» يجازون بكفرهم و نحو ذلك و قيل: إنّ خبره: «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» [وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ] الضمير في «إِنَّهُ» راجع إلى الذكر و القرآن أي إنّه يجب أن يعزّ و يجلّ لأنّه لا يقدر أحد من العباد أن يأتي بمثله و عزيز بإعزاز اللّه إيّاه إذ حفظه من التغيير و التبديل و جعله اللّه على أتمّ الصفات في الإحكام.

و [لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و قيل: في هذا المعنى أقوال:

أحدها: إنّ الباطل الشيطان أي لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا أو يزيد فيه باطلا.

و ثانيها: أنّه لا يأتيه ما يبطله من بين يديه أي من الكتب الّتي قبله و لا من خلفه أي لا يجي ء من بعده كتاب ينسخه.

و ثالثها: أنّه ليس في أخباره عمّا مضى باطل و لا في أخباره عمّا يكون في المستقبل

ص: 308

باطل بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام.

و رابعها: لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيل و لا من آخره.

و خامسها: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه و لا يعارض و لا يزاد فيه و لا يغيّر بل هو محفوظ حجّة على المكلّفين إلى يوم القيامة.

[تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] أي هو تنزيل من حكيم عالم بوجوه الحكمة و المصالح حميد مستحقّ للحمد على خلقه بالإنعام عليهم، و القرآن هو من أعظم نعمه فاستحقّ به الحمد و الشكر.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 43 الى 45]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

ثمّ عزّى نبيّه على تكذيبهم فقال:

[ما يُقالُ لَكَ أي ما يقول هؤلاء الكفّار لك [إِلَّا ما قَدْ قِيلَ للأنبياء قبلك من الجحد و التكذيب لنبوّتهم و قيل: المعنى ما يقول اللّه لك [إِلَّا ما قَدْ] قاله [لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ و هو الأمر بالتوحيد و لزوم طاعته فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب و قيل: معناه ما حكاه بعده و هو [إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ فيكون على جهة الوعد لمن آمن و الوعيد لمن كفر فمن الحقّ أن يرجوه أهل طاعته و يخافه أهل معصيته.

قوله: [وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا] أي إنّا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أرسلت الكلام العجميّ إلى القوم العرب و يصحّ لهم فرضا أن يقولوا: قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه و في آذاننا وقر لأنّا لا نفهمه و لا نحيط بمعناه [لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي هلّا تبيّنت عباراته بلسان العرب حتّى نفهمه.

[ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ أي كتاب أعجميّ و نبيّ عربيّ؟ و هذا استفهام على وجه

ص: 309

الإنكار و كانوا يقولون المنزل عليه عربيّ و المنزل أعجميّ و كان ذلك أشدّ لتكذيبهم و كان بزعمهم لهم عذرا لعدم قبولهم. و تسمّي العرب من لم يبيّن كلامه من أيّ صنف كان من الناس: أعجم و قال أبو علي: الأعجميّ الّذي لا يفصح في كلامه من العرب كان أو من العجم قالوا «زياد الأعجم» لآفة كانت في لسانه و كان عربيّا و قالوا: صلاة النهار عجماء أي تخفى فيها القراءة و لا تبيّن.

و بالجملة بيّن اللّه إنّه أنزل الكتاب بلغتهم و أرسل الرسول من عشيرتهم ليكون أبلغ في الحجّة و أقلع للمعذرة.

[قُلْ يا محمّد: [هُوَ] أي القرآن [لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة [وَ شِفاءٌ] للقلوب من كلّ ريب و شبهة و سمّي اليقين شفاء كما سمّي الشك مرضا كما قال سبحانه: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ»*.

قوله: [وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ] ثقل و صمم عن سماعه فلا ينتفعون به فكأنّهم صمّ عنه [وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و عميت قلوبهم عنه لأنّهم لمّا ضلّوا عنه و جازوا عن تدبّر القرآن فكأنّه عمي لهم [أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ] أي إنّهم لا يسمعون و لا يفهمون كما أنّ من دعي من مكان بعيد لم يسمع و لم يفهم لبعد أفهامهم و شدّة اعتراضهم و بعد قلوبهم عنه.

و الغرض من البيان في الآية تمثيل لهم في عدم قبولهم و استماعهم للقرآن بمن ينادي من مسافة نائية لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات.

قوله تعالى: [وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة [فَاخْتُلِفَ فِيهِ لأنّه آمن به قوم و كذّب به آخرون و هذه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جحود قومه له و إنكار نبوّته بأنّ الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختصّ بقومك.

[وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حقّ امّتك المكذّبة و هي العدة بتأخير عذابهم و الفصل بينهم و بين المؤمنين يوم القيامة حيث قال سبحانه: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ» (1) و قوله تعالى: «وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى»* (2) و أنّه سبحانه لا يعذّبهم و أنت

ص: 310


1- القمر: 46.
2- النحل: 61.

فيهم [لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لحكم باستيصالهم و عذابهم [وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي إنّ قومك لفي شكّ ممّا ذكرناه موقع لهم الريبة و هو أفظع الشكّ. و الضمير في «مِنْهُ» راجع إلى القرآن.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 46 الى 50]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

ثمّ بيّن حال من عمل صالحا و آمن بالكتب بموجبها فلنفسه يعمله و نفعه راجع إلى نفسه [وَ مَنْ أَساءَ] ضرره راجع إليه لا لغيره و لا يؤخذ أحد بذنب غيره [وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] و هذا الكلام على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه للعبيد و إنّما قال ذلك مع أنّه سبحانه لا يظلم مثقال ذرّة لأنّ من فعل الظلم و إن قلّ و هو عالم بقبحه و بأنّه غنيّ عن فعله لكان ظلّاما كما أنّه لو صدر أمر جزئيّ من القباحة من شخص كامل شريف لكان ذلك القبيح الجزئيّ من ذلك الشريف كثيرا و عظيما جدّا.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه العالم بوقت القيامة فقال: [إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ] الّتي يقع فيها الجزاء للمطيع و العاصي و لما هدّد الكفّار بأنّ جزاء كلّ أحد يصل إليه يوم القيامة كأنّ سائلا يقول: و متى يكون ذلك اليوم للجزاء فقال: لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك الوقت إليه يردّ ذلك العلم.

ثمّ مثّل من علمه بمثالين فقال: [و ما يخرج من ثمرة] و إفراد الثمرة يدلّ على الكثرة و استغنى به عن الجمع أي عمّا يخرج ثمرة من أوعيتها و علقها، و الأكمام جمع كم و كم جمع كمّه و هي الكفريّ.

[وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ هذا هو المثال الثاني أي لا تحمل أنثى

ص: 311

من حمل ذكرا كان أم أنثى إلّا في الوقت الّذي علم سبحانه أنّها تحمل فيه فيعلم قدر الثمار و كيفيّتها و أجزاءها و طعومها و روائحها و يعلم ما في بطون الحبالى و كيفية انتقالها حالا بعد حال و أنّه عالم بالجزئيّات.

[وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي اللّه المشركين [أَيْنَ شُرَكائِي في قولكم و زعمكم [قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ] أي يتبرّءون يومئذ من أن يكون مع اللّه شريك قال ابن عبّاس: «آذَنَّاكَ» أي أسمعناك كقوله: «وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ»* (1) بمعنى سمعت أي أعلمناك ما من أحد منّا يشهد لهم بالشركة إذ تبرّأنا عنهم لمّا عاينّا الحال، أو المعنى إنّه ما منّا من يشاهد الشركاء لأنّهم ضلّوا عنّا و ضلّت عنهم آلهتهم لا يبصرونها و قيل: المعنى أنّك علمت من قلوبنا و عقائدنا الآن أنّا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة بالشركة لأنّه إذا علمه من نفوسهم فكأنّهم أعلموه أو المعنى الإنشاء لا الإخبار بما قد كان قبل ذلك.

[وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ أي يعبدون [مِنْ قَبْلُ و ظهر عدم نفعهم فكان حضورهم كغيبتهم [وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ فبطل عنهم ما كانوا أملوه من أصنامهم و علموا و تيقّنوا أن لا مخلص من عذاب اللّه و قد يعبّر بالظنّ عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان و قيل: ظنّوا أوّلا ثمّ أيقنوا أنّه لا محيص لهم عن النار.

ثمّ بيّن سبحانه حال الإنسان و قيل: المراد الإنسان في الآية الكافر و هو متبدّل الأحوال متغيّر المنهج فإن أحسن بخير و نعمة انتفخ و تعظّم و إن أحسن ببلاء و محنة ذبل و تصغّر كما قيل في المثل: هو كالقرلّى إن رأى خيرا تدلّى و إن رأى شرّا تولّى فقال سبحانه:

[لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ] أي إنّه في حال الإقبال و مجي ء المراد لا ينتهي قطّ إلى درجة إلّا و يطلب الزيادة عليها و يطمع بالفوز بها و بأكثر منها و في حال الإدبار و الحرمان يصير آيسا قانطا و الحاصل إنّه لا يزال يسأل الخير الّذي هو المال و الغنى و الصحّة و الولد و إن مسّه الشر أي الشدّة و الفقر فهو شديد اليأس قنوط من الرحمة و من إجابة الدعاء و قيل: القنوط سيّئ الظنّ بربّه.

ص: 312


1- الانشقاق: 2 و 5.

[وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا] أي خيرا و عافية و غنى [مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي هذا بعملي و محقوق به و قيل: هذا لي أبدا دائما [وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً] أي كائنة [وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي أي لست على يقين من البعث فإن كان الأمر على ما يقولون و حمل البعث و رددت في القيامة [إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الحالة الحسنة و هي الجنّة أي سيعطين في الآخرة مثل ما أعطيت في الدنيا.

ثمّ هدّد سبحانه من هذه صفته أن قال: [فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا] أي لنقفنّهم يوم القيامة على مساوي أعمالهم و عقائدهم [وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ] شديد متراكم.

قوله تعالى: [سورة فصلت (41): الآيات 51 الى 54]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)

ثمّ أخبر عن حال الإنسان الّذي تقدّم ذكره فقال:

[وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر [وَ نَأى و صرف وجه و تجبّر عن الاعتراف بنعم اللّه و من قرأ «ناء» فمقلوب «نائي» كقول الشاعر:

«أقول و قد ناءت به غربة النوى» [وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] أي الفقر أو المرض و الشدّة فهو [ذو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير و إنّما قال: «عَرِيضٍ» و لم يقل: طويل لأنّه أبلغ فإن العرض يدلّ على الطول و الطول لا يدلّ على العرض إذ قد يصحّ طويل و لا عرض له و لا يصحّ عريض و لا طول له فإنّ العرض الانبساط في خلاف جهة الطول و الطول الامتداد في أيّ جهة كان و حاصل المعنى أنّ الكافر سيّال ربّه بالتضرّع أن يكشف ما به من الضرّ و البلاء و يعرض عن الدعاء في الرخاء و النعمة و الخصب قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ قل يا محمّد لهم: أخبروني إن كان القرآن من عند اللّه ثمّ كفرتم به فبتقدير أن يكون صحيحا يكون دفعكم و إصراركم في عدم قبوله مع تعاضد موجبات الإيمان به [مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ] أي من أضلّ منكم فوضع الموصول موضع الضمير

ص: 313

تعليلا لمزيد ضلالهم.

ثمّ قال سبحانه: [سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ الأفق ناحية من نواحي الأرض و كذلك آفاق السماء نواحيها و أطرافها و المراد من آيات الآفاق الآيات الفلكيّة و الكوكبيّة و آيات الليل و النهار و الأضواء و الاضلال و عالم العناصر الأربعة قال ابن عبّاس: «فِي الْآفاقِ» أي منازل الأمم الخالية و آثارهم و «فِي أَنْفُسِهِمْ» يوم بدر و قيل: في الآفاق ما يفتح اللّه له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القرى و «فِي أَنْفُسِهِمْ» فتح مكّة و قيل:

«فِي أَنْفُسِهِمْ» المراد ما دبّر سبحانه من لطيف صنعه و بديع حكمته في تكوين الأجنّة في ظلمات الأرحام و التركيبات الغريبة.

[حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ أي يظهر أنّ تعالى الحقّ و نريهم في هذه الدلائل مرّة بعد اخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم و يحصل فيها الجزم و القطع بوجود الإله القادر.

فإن قيل: أنّ كلمة «سَنُرِيهِمْ» يقتضي إنه تعالى ما اطّلعهم على تلك الآيات إلى الآن و سيطّلعهم عليها بعد ذلك و الآيات الموجودة في العالم الأعلى و الأسفل قد كان اللّه اطّلعهم عليها قبل ذلك.

فالجواب أنّ القوم و إن كانوا قد رأوا هذه الأشياء العجيبة إلّا أنّ عجائبها ممّا لا نهاية لها فهو تعالى يطّلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا و كلّما يزداد المتأمّل في هذه التركيب يزداد وقوفا فصحّ هذا الكلام.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] و المعنى أولم يكفهم أنّ ربّك شهيد على الأشياء و محقّق لكلّ شي ء و قوله: «بِرَبِّكَ» في موضع الرفع على الفاعليّة أو البدليّة و قيل: المعنى أولم يكف ربّك شاهدا أنّ القرآن من عند اللّه.

[أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ «أَلا» كلمة تنبيه و تأكيد بأنّ الكفّار في شكّ من لقاء ربّهم و عقابه أي في شكّ من مجازاة ربّهم [أَلا إِنَّهُ تعالى [بِكُلِّ شَيْ ءٍ] محيط أي أحاط علمه بكلّ شي ء فلا يخفى عليه شي ء. تمّت السورة بعون اللّه.

انتهى الجزء التاسع و يتلوه العاشر ان شاء اللّه.

ص: 314

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.