مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

سورة يوسف

اشارة

مكّيّة إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة، ثلاث من أوّلها و الرابعة «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» قال أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنّه أيّما مسلم تلاها و علّمها ما ملكت يمينه من العبيد هوّن اللّه عليه سكرات الموت و أعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة بعثه اللّه يوم القيامة و جماله مثل جمال يوسف و لا يصيبه فزع يوم القيامة و كان من خيار عباد اللّه الصالحين و قال: إنّها كانت في التوراة مكتوبة.

و روى إسماعيل بن أبي زياد، عن أبي عبد اللّه عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تنزلوا نساءكم الغرف و لا تعلّموهنّ الكتابة و لا تعلّموهنّ سورة يوسف و علّموهنّ الغزل و سورة النور و فيها آية الحجاب و هي «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا، إلخ» أقول: قم يا رسول اللّه و انظر في تعليمهنّ البال، و نسخوا آية الحجاب في سورة النور فلعن اللّه من خالف سنتك.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لمّا ختم قصّة هود من أنباء الرسل افتتح هذه السورة بأنّ من تلك القصص قصّة يوسف.

[سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)

«قُرْآناً» بدل عن «الهاء» أو توطئة للحال و هو «عَرَبِيًّا» كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا.

قوله: [الر] قد سبق تفسيره في فواتح السور [تِلْكَ آياتُ في معنى الإشارة إشارة إلى ما سيأتي من ذكرها على وجه التوقّع لها. و قيل: إشارة إلى السورة أي سورة يوسف آيات الكتاب الظاهر المبين. الثالث أنّ معناه: هذه الآيات الّتي وعدتم بها في التوراة كما قال: «الم ذلِكَ الْكِتابُ» و المبين المظهر للحلال و الحرام و البيان هو الدلالة.

[إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن أي أنزلنا هذا الكتاب، أو أنزلنا قصّة يوسف و خبره لأنّ علماء يهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر و سلوه عن كيفيّة قصّة يوسف [قُرْآناً] بلسان العرب ليتمكّنوا من فهمها و المعرفة بها، و التقدير:

إنّا أنزلنا هذا الكتاب الّذي فيه قصّة يوسف الّتي طلبتموها في حال كونه قرانا عربيّا و «القرآن» اسم جنس يطلق على البعض و الكلّ.

و احتجّوا بحدوث الكلام بوجوه بهذه الآية:

الأوّل: قوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» يدلّ على الحدوث فإنّ القديم لا يجوز إنزاله و تحويله من حال إلى حال.

الثاني: وصفه بكونه عربيّا و القديم لا يكون عربيّا و لا فارسيّا.

ص: 3

الثالث أنّه لمّا قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» دلّ على أنّه كان قادرا على أن ينزله لا عربيّا و ذلك يدلّ على حدوثه.

الرابع أنّ قوله: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ» يدلّ على أنّه مركّب من الآيات و الكلمات و كلّما كان مركّبا كان محدثا.

[لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و كلمة «لعلّ» يجب حملها على الجزم أي أنزلنا لكي تعقلوا معانيه في أمور الدين و تعلموا أنّه من عند اللّه إذا كان عربيّا و قد عجزتم الإتيان بمثله.

[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ و نبيّن لك أحسن البيان كقولك: قمت أحسن القيام [بِما أَوْحَيْنا] أي بوحينا [إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ و إنّما وصف القرآن بأحسن القصص و دخلت الباء لتبيّن القصص، إذ القصص تكون قرآنا و غير قرآن و هذه القصص بوحي القرآن لأنّه بلغ النهاية في الفصاحة و حسن المعاني و عذوبة اللفظ مع التلازم المنافي للتنافر، و جميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة بأعذب لفظ و أحسن نظم.

و قيل: المراد بأحسن القصص سورة يوسف وحدها، و كيف كان و هو أيضا من القرآن و هل يجوز أن يقال في حقّه: «قاصّا» لا يجوز؟ لأنّ الأسماء توقيفيّ كما لا يجوز أن يقال:

معلّم أو مفتي و لأنّ هذه الإطلاقات و الاستعمالات في العرف إنّما يقال لمن تمسّك بهذه الطرق على أنّه سوء الأدب و إن وصف نفسه سبحانه بأنّه علّم القرآن و بأنّه يفتيكم في النساء.

قوله: [وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي و ما كنت من قبل أن أوحينا إليك هذا القرآن إلّا من الغافلين عن حكم الّتي في القرآن لا تعلم شيئا منها، أو المعنى من الغافلين عن قصّة يوسف و عن حكم الّتي فيها.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 4 الى 6]

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

ص: 4

و اذكر [إِذْ قالَ يُوسُفُ و يجوز أن يكون العامل في «إِذْ» نقصّ عليك و لكنّ هذا القول ليس بصحيح؛ لأنّ اللّه لم يقصّ على نبيّه هذا القصص في وقت قول يوسف. اذكر و اسمع هذه القصّة:

[إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب و هو إسرائيل اللّه و معناه عبد اللّه الخاصّ الخالص ابن إسحاق نبيّ اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه. في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إذا سئل عن الكريم فقولوا: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

[يا أَبَتِ أصله يا أبي أو أصله يا أبتا فحذف الياء أو الألف و لمّا كثرت هذه الكلمة في كلام العرب ألزموها الحذف و القلب و لذا قرئ بفتح التاء و بكسرها.

قال ابن عبّاس: إنّ يوسف عليه السّلام رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له و رأى الشمس و القمر نزلا من السماء فسجدا له قال:

فالشمس و القمر أبواه أي أبوه و خالته؛ لأنّ امّه راحيل قد ماتت. قال وهب: كان يوسف رأى و هو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة و إذا عصا صغيرة تشبّثت عليها حتّى اقتلعتها و غلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال له: إيّاك أن تذكر هذه لإخوتك. ثمّ رأى و هو ابن اثنتي عشرة سنة الرؤيا الثاني فقصّها على أبيه فقال له يعقوب: «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ» و قيل: إنّه كان بين رؤياه و بين مصير أبيه و إخوته إلى مصر أربعون سنة، و قيل: ثمانون سنة. و يقال: إنّ أخوته لمّا بلغهم رؤياه قالوا:

ما رضي أن يسجد له إخوته حتّى يسجد له أبواه.

قوله: [فَيَكِيدُوا] أي فيحسدوك و يقابلوك بما هو هلاكك، و ذلك أنّ رؤيا الأنبياء وحي و علم يعقوب أنّ إخوته يعرفون تأويلها و يخافون علو يوسف عليهم [إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ] ظاهر.

قوله: [وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي كما أراك ربّك هذه الرؤيا تكرمة لك كذلك يصطفيك و يختارك للنبوّة، و قيل: لحسن الخلق و الخلق [وَ يُعَلِّمُكَ من تعبير الرؤيا لأنّ فيه أحاديث الناس عن رؤياهم و يتحدّثون الناس ما يرون في مناماتهم، و سمّي تأويلا لأنّ ما يرى الإنسان في المنام يؤول إلى ما يعبّر صحيحا إذا كان التعبير صحيحا و تكون الرؤيا

ص: 5

بشرائطها، قال ابن زيد: كان أعبر الناس للرؤيا.

قوله: [وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوّة لأنّها منتهى النعمة. و قيل: و يتمّ نعمته عليك بأن يحوّج إخوتك إليك حتّى تنعمهم بعد إساءتهم إليك [وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ بأن يثبتهم على الإسلام و يجعل فيهم النبوّة.

[كَما أَتَمَّها] على إبراهيم بالخلّة و النبوّة و النجاة من النار، و على إسحاق بأن فداه بذبح عظيم عن الذبح، و هذا على قول من قال: إنّ الذبيح إسحاق مثل عكرمة. و لكن أكثر المفسّرين قالوا بإخراج الأنبياء من صلبه مثل يعقوب و أولاده و قالوا: ليس هو الذبيح و إنّما الذبيح إسماعيل عليه السّلام [إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يصلح للرسالة [حَكِيمٌ في اختيار الرسل و في أحكامه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 10]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)

ثم أنشأ سبحانه في ذكر قصّة [لَقَدْ كانَ فِي قصّة [يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ عبر [لِلسَّائِلِينَ عنهم و أعاجيب فمنها أنّهم اجتمعوا على إلقائه في البئر للحسد مع أنّهم أولاد الأنبياء فصفح عنهم لمّا مكّنه اللّه منهم و أحسن إليهم و لم يعيّرهم بما كان منهم، و في هذا العمل عبرة لمن اعتبر به، و منها الفرج بعد الشدّة و المنحة بعد المحنة، و منها الدلالة على صحّة نبوّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأنّه لم يقرء كتابا فعلم أنّه لم يأته ذلك إلّا من جهة الوحي فهو بصيرة للذين سألوه أن يخبرهم بذلك.

و كان ليعقوب اثنا عشر ولدا لصلبه، قال الزمخشريّ: أسماء أولاد يعقوب: يوسف يهودا، روبيل، شمعون، لاوي، زبالون، يشجر، دينة، دان، نفتالى، حاد، اشر.

فالسبعة الأوّلون من ليا بنت خالة يعقوب و الأربعة الآخرون من سرّيّتين: زلفة و بلهة. و لعلّ بنيامين اسمه في هؤلاء العدد.

ص: 6

و الحاصل أنّ إخوة يوسف [قالُوا] بعضهم لبعض: [لَيُوسُفُ و اللام جواب للقسم أي و اللّه ليوسف و أخوه من أمّه و أبيه بنيامين [أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا] لأنّه عليه السّلام شديد الحسن و كان يعقوب يحبّه كثيرا و يؤثره على أولاده فحسدوه، ثمّ لمّا سمعوا بالرؤيا اشتدّ حسدهم عليه و قيل: كان يعقوب لصغرهما يقرّ بهما عنده.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن السجّاد عليه السّلام: أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به و يأكل هو و عياله منه، و أنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعتبر ببابه عشيّة جمعة عند أوان إفطاره، و كان مجتازا غريبا فهتف على بابه و استطعمهم و هم يسمعون قوله فلم يصدّقوا فلمّا يئس الفقير و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكا جوعه إلى اللّه، و بات طاويا و أصبح صائما حامدا للّه و بات يعقوب و آل يعقوب بطّانا و أصبحوا و عندهم فضلة من طعامهم فابتلاه اللّه بيوسف و أوحى إليه أن استعدّ لبلائي و ارض بقضائي، و الصبر للمصائب فرأى يوسف تلك الليلة الرؤيا، و الحديث طويل.

قوله: [وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ] أي نحن جماعة يعين بعضنا بعضا و نحن أنفع لأبينا [إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ و خطاء من الراي و لا يعتدل بيننا في المحبّة و نحن أقوم له بأمور معاشه و مواشيه.

و قال أكثر المفسّرين: إنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء و قال بعضهم: لم يكونوا أنبياء لأنّ الأنبياء لا يقع منهم القبائح و قال المرتضى قدس سرّه: لم يقم لنا دليل بأنّ إخوة يوسف الّذين فعلوا ما فعلوا كانوا أنبياء و لا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة الّذين فعلوا بيوسف ما قصّه اللّه عنهم و ليس في ظاهر الكتاب أنّ جميع إخوة يوسف و سائر الأسباط فعلوا بيوسف من الكيد. و قال جماعة من مفسّري أهل الجماعة: إنّ هؤلاء الإخوة الّذين فعلوا و هم في ذلك الحال لم يبلغوا الحلم، و هذا قول البلخيّ و الجبّائيّ قالوا: و يدلّ عليه قوله: «نرتع و نلعب» و روى أبو جعفر بن بابويه في كتاب النبوّة بإسناده عن ابن سدير قال قلت لأبي جعفر: أ كان أولاد يعقوب أنبياء فقال: لا و لكنّهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء و لم يفارقو الدنيا إلّا سعداء تابوا و تذكّروا ما صنعوا.

و قال بعض من أهل الجماعة: كانوا رجالا بالغين و وقعت تلك منهم صغيرة. قال الرازيّ:

ص: 7

و هم أتوا بما يقدح في العصمة و النبوّة إلّا أنّ المعتبر عندنا عصمة الأنبياء في وقت حصول النبوّة و أمّا قبلها فذلك غير واجب.

قوله تعالى: [اقْتُلُوا يُوسُفَ لمّا قوي الحسد و بلغ النهاية قالوا: لا بدّ من تبعيد يوسف عن أبيه و ذلك لا يحصل إلّا بأحد امور: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه. ثمّ ذكروا الفائدة من هذا الأمر قالوا: الفائدة: [يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ و يكون بسبب بعد يوسف عن أبيه قرينا منه و إذا فعلنا هذا الفعل القبيح تبنا إلى اللّه و نصير من الصالحين بعد التوبة.

و اختلفوا في أنّ القائل الّذي أمر بالقتل من كان؟ قيل: أحد إخوته و هو شمعون.

و قيل: هو روبيل. و قيل: إنّهم شاوروا أجنبيّا فأشار عليهم بالقتل و [قالَ قائِلٌ من الإخوة إمّا روبيل و إمّا يهودا و كان أقدمهم في الرأي و السنّ [لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ و قرئ غيابات بلفظ الجمع و يجوز لأنّ للجبّ أقطار و نواحي و «الغيابة» كلّ ما غيّب شيئا و ستره فغيابة الجبّ غوره و ما غاب منه عن عين الناظر؛ فاشار إليهم أن ألقوه في قعر الجبّ و غوره و سمّي بالغيابة لغيبته عن عين الناظر، و الجبّ البئر الّتى لم يطو بعد لأنّها أرض جبّت جبّا من غير أن يزاد على ذلك شيئا [يَلْتَقِطْهُ و يتناوله [بَعْضُ السَّيَّارَةِ] و مارّة الطريق و المسافرين فيذهب به إلى ناحية اخرى.

ثمّ اختلفوا في ذلك الجبّ فقيل: هو بئر بيت المقدس. و قيل: بأرض الأردن. و قيل:

بين مدين و مصر. و قيل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب [إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شيئا ممّا تقولون في يوسف.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 11 الى 12]

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)

المعنى: ثمّ إنّهم عند اتّفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف سألوا أباهم فقالوا: [يا أَبانا ما لَكَ لا تثق بنا و لا تعتمدنا في أمر يوسف و إنّا مخلصون في إرادة الخير له؟ و في هذه دلالة على أنّه عليه السّلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم [أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً] إلى الصحراء [نرتع و نلعب (1) و قرئ بالياء أي نذهب و نجي ء و ننشط و نلهو و الرتع هو التردّد

ص: 8


1- كذا في الأصل.

يمينا و شمالا، و أرادوا اللعب المباح و قد روي أنّ كلّ لعب حرام إلّا ثلاثة: لعب الرجل بقوسه و فرسه و أهله [وَ إِنَّا] ليوسف [حافظون .

و قيل: في الآية تقديم و تأخير، و ذلك أنّ إخوة يوسف قالوا: أرسله. فقال أبوهم:

«إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ الآية» فحينئذ قالوا: «يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» و لكن إذا صحّ الكلام من غير تقديم و تأخير فلا معنى لحمله عليه.

قال الحسن: جعل يوسف في الجبّ و هو ابن سبع عشر سنة. و قيل: ابن اثنتي عشر سنة.

و قيل: ابن سبع سنين أو تسع و كان في البلاء و المشقّة إلى أن وصل إليه أبوه و هو ابن ثمانين سنة، و قيل: لمّا وصل إليه أبوه كان عمر يوسف أربعين سنة و لبث بعد الاجتماع ثلاث و عشرين سنة، و قيل: مات و هو ابن مائة و عشرين سنة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 13 الى 18]

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)

وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

المعنى: لمّا أظهروا النصح و الشفقة على يوسف همّ يعقوب أن يبعثه معهم و حثّهم على حفظه فقال: [إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي يغمني أن تغيبوه عنّي [وَ أَخافُ عليه إذا ذهبتم به إلى الصحراء [أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ في حال كونكم مشغولين عنه، و كانت أرضهم مذأبة، و كانت الذئاب ضارية في ذلك الوقت كثيرا.

قيل: إنّ يعقوب رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشر أذؤب ليقتلوه، و إذا ذئب يحمي عنه، فكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيّام.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: لا تلقّنوا الكذب أولاد كم فيكذبوا، فإنّ بني يعقوب

ص: 9

لم يعلموا أنّ الذئب يأكل الإنسان حتّى لقّنهم أبوهم، و هذا يدلّ على أنّ الخصم لا ينبغي أن يلقّن حجّة.

[قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ و نحن جماعة متعاضدون نرى الذئب قد قصده و لا نمنعه منه [إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ و العصبة الجماعة من عشرة فصاعدا و قيل: إنّ معناه إنّا إذا عجزة ضعفة.

[فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ و عزموا جميعا أن يجعلوه في قعر البئر فأخرجوه من البلدة مكرما فلمّا أصحروا أظهروا له العداوة و جعلوا يضربونه و هو يستغيث بواحد واحد منهم فلا يغيثه، و كان يقول: يا أبتاه، فهمّوا بقتله فمنعهم يهودا منه، و قيل: منعهم لاوي، فانطلقوا إلى الجبّ فجعلوا يدلونه في البئر و هو يتعلّق بشفير البئر، ثمّ نزعوا قميصه و هو يقول:

لا تفعلوا ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، فيقولون: ادع الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبا يؤنسنك فدلوه في البئر حتّى إذا بلغ نصفها ألقوه أرادوه أن يموت، و كان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها و كان يهودا يأتيه بالطعام.

و قيل: إنّ الجبّ أضاء له و عذب ماؤه، و كان الماء كدرا فصفا و وكّل اللّه به ملكا يحرسه و يطعمه، عن مقاتل. و قيل: إنّ جبرئيل كان يؤنسه.

و قيل: إنّ اللّه أمر بصخرة حتّى ارتفعت من أسفل البئر فوقع يوسف عليها و هو عريان كما أنّ إبراهيم لمّا القي في النار جرّد و هو عريان فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه فكان ذلك الثوب عند إبراهيم فلمّا مات ورثه إسحاق فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب فلمّا شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ و علّقه في عنق يوسف فكان لا يفارقه، فلمّا القي في البئر عريانا جاءه جبرئيل، و كان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص فألبسه إيّاه. روى ذلك مفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: و هو القميص الّذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت العير من مصر، و كان يعقوب بفلسطين فقال:

إنّي لأجد ريح يوسف.

و في الحديث عن مسمع عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا ألقى إخوة يوسف يوسف في

ص: 10

الجبّ نزل عليه جبرئيل فقال له: يا غلام من طرحك هنا؟ فقال: إخوتي لمنزلتي من أبي حسدوني، قال: أ تحبّ أن تخرج من هذا الجبّ قال: ذلك إلى إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب، فقال له جبرئيل: فإنّ إله إبراهيم يقول لك: قل: اللهمّ إنّي أسئلك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت بديع السماوات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تجعل لي في أمري فرجا و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

فجعل اللّه له من الجبّ مخرجا و فرجا و من كيد المرأة مخرجا و آتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ يوسف قال في الجبّ: يا إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري.

قوله تعالى: [وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أوحينا إلى يوسف في الجبّ قيل: أعطاه النبوّة و البشارة بالنجاة و الملك [لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا] أي لتخبرنّهم بقبيح فعلهم بعد هذا الوقت يريد بقوله: «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ» ... [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّك يوسف و لك جلالة الأمر و كان فيما أوحى اللّه إليه أن اكتم أمرك و اصبر على ما أصابك و قيل: معناه لتجازينّهم على فعلهم يقول العرب: حين يتوعّد لأنبأنّك أي لأجازينّك.

قوله: [وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً] و انقلب إخوة يوسف إلي أبيهم ليلا أو في آخر النهار ليلبسوا على أبيهم و إنّما أظهروا و البكاء ليوهموا أنّهم صادقون. و في هذا دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي لأنّه قد يكون البكاء حقيقة، و المراد من الباكي تمويه الأمر فلمّا سمع يعقوب بكاءهم فقال: ما بالكم [قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ و نعدوا على الأقدام لننظر أيّنا أعدى و أسبق لصاحبه. و قيل: معناه نتنصّل و نترامى فننظر إلى السهام أيّها أسبق إلى الغرض؟ [وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا] و تركناه عند الرحل ليحفظه [فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بمصدّق لنا و جواب «لو» محذوف أي و لو كنّا صادقين ما صدّقتنا.

و جاءوا و معهم قميص يوسف ملطّخا بدم فقالوا له: هذا دم يوسف حين أكله الذئب.

قيل: إنّهم ذبحوا سخلة و جعلوا دمها على قميصه. و قيل: ظبيا و لم يمزّقوا القميص و لم يخطر ببالهم أنّ الذئب إذا أكل إنسانا فإنّه يمزّق ثوبه. و قيل: إنّ يعقوب قال: لهم أروني

ص: 11

القميص فأروه إيّاه فلمّا رأى القميص صحيحا قال: يا بنيّ و اللّه ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني و لم يمزّق قميصه.

و روي أنّه ألقى ثوب يوسف على وجهه و قال: يا يوسف لقد أكلك ذئب رحيم أكل لحمك و لم يشقّ قميصك، و معنى قوله: «بِدَمٍ كَذِبٍ» أي مكذوب عليه كماء سكب أي مسكوب، و صبّ أي مصبوب.

و قيل: إنّه لمّا قال لهم يعقوب ذلك قالوا: بل قتله الصوص فقال عليه السّلام: فكيف قتلوه و تركوا قميصه و هم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.

قال يعقوب: و لكن زيّنت لكم أنفسكم أمرا في يوسف غير الّذي قلتموه حتّى سهل عليكم ففعلتموه، و قيل: إنّما ردّ عليهم يعقوب ذلك الجواب بوحي من اللّه و قيل: بحدس صائب و ذهن صادق، فصبري صبر جميل لا جزع فيه و لا شكوى إلى الناس أو المعنى فصبر جميل أحسن و أولى من الجزع من غير فائدة، و إنّ البلاء نزل بيعقوب على كبره و بيوسف على صغره بلا ذنب كان منهما فأكبّ يعقوب على حزنه و يوسف على رقّه، و كلّ ذلك بعين اللّه يرى و يسمع حتّى أتى المخرج و كلّ ذلك امتحان [وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ على دفع [ما تَصِفُونَ و على تحمّل المشقّة و الصبر و مكث يوسف في البئر ثلاثة أيّام.

[سورة يوسف (12): الآيات 19 الى 20]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

فأخبر اللّه عن حال يوسف بعد إلقائه في البئر، جاء جماعة مارّة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطئوا الطريق فانطلقوا على غير الطريق حتّى نزلوا قريبا من الجبّ و كان الجبّ في قفرة بعيدة من العمران [فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي بعثوا من يطلب لهم الماء رجلا يقال له مالك بن زعر فأرسل دلوه في البئر ليستقي فتعلّق يوسف بالحبل فلمّا خرج إذا هو بغلام من أحسن الغلمان، قال النبيّ: اعطي يوسف شطر الحسن و النصف الآخر لسائر الناس.

ص: 12

و قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلقة أبيض اللون، غليظ الساقين و العضدين خميص البطن صغير السرّة و كان إذا تبسّم رئيت النور في ضواحكه و إذا تكلّم رئيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه و كان حسنه كضوء النهار عند الليل، و كان يشبه آدم عليه السّلام يوم خلقه اللّه عزّ و جلّ و صوّره و نفخ فيه من روحه، قبل أن يصيب المعصية و يقال: إنّه ورث الجمال من جدّته سارة و كانت قد أعطيت سدس الحسن.

و بالجملة فلمّا رآه المدنيّ [قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ و قيل: إنّه نظر في البئر لمّا ثقل الدلو فرأى يوسف فقال: هذا غلام فأخرجوه. و قيل: إنّ «بُشْرى رجل من أصحاب المدنيّ ناداه. و أخفى يوسف الّذين وجدوه من رفقائهم و كتموا أمره مخافة أن يطلبوهم الشركة فقالوا: هذا بضاعة لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه عنهم، و قيل: معناه و أسرّ إخوته يكتمون أنّه أخوهم فقالوا: هو عبد أبق و اختفى منّا في هذا الموضع و قالوا له: لئن قلت: أنا أخوهم فقتلناك، فتابعهم يوسف على ذلك لئلّا يقتلوه [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بعمل إخوة يوسف.

قوله: [وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي باعوه بثمن ناقص قليل و قيل: معنى «البخس» الحرام لأنّ ثمن الحرام حرام و سمّي بخسا لأنّه لا بركة فيه و هو منقوص البركة [دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ] أي قليلة و ذكر العدد عبارة عن القلّة و كانت الدراهم عشرين درهما و هو المرويّ عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: و كانوا عشرة فاقتسموها درهمين درهمين و قيل: كانت اثنين و عشرين درهما و قيل: أربعين درهما.

و اختلف فيمن باعه فقيل: إنّ إخوة يوسف باعوه و كان يهودا منتبذا ينظر إلى يوسف فلمّا أخرجوه من البئر أخبر إخوته فأتوا مالكا و باعوه منه، و قيل: باعه الواجدون في بلدة مصر. و قيل: إنّ السيّارة اشتروه من الّذين أخرجوه من البئر.

[وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ يعني أنّ الّذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنّهم وجدوا علامة الأحرار و أخلاق أهل البرّ فيه فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة في استعباده.

ص: 13

و قيل: معناه المراد أنّ الّذين باعوه من إخوته ما كان مقصودهم الرغبة في ثمنه بل كان مقصودهم استبعاده و تبعيده عن يعقوب.

قال ابن عبّاس: إنّ إخوة يوسف لمّا طرحوا يوسف في الجبّ و رجعوا عادوا بعد ثلاثة أيّام يتعرّفون خبره فلمّا لم يروه في الجبّ و رأوا آثار السيّارة طلبوهم فلمّا رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منّا فقالت السيّارة لإخوة يوسف: بيعوه لنا فباعوه منهم و المراد من «وَ شَرَوْهُ» أي باعوه منهم لأنّ الضمير في قوله «و شروه» و في قوله: «وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» عائد إلى شي ء واحد، و إذا كان كذلك فمعنى «شروه» باعوه. قال محمّد بن إسحاق: ربّك أعلم أ إخوته باعوه أم السيّارة و الضمير في قوله: «فيه» يحتمل أن يكون راجعا إلى يوسف و يمكن أن يكون راجعا إلى الشمس.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 21 الى 22]

وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

. اعلم أنّه لمّا ثبت من الأخبار أنّ الّذي اشتراه إمّا من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر، و باعه بمصر، فاشتراه قطعير أو أطفير و هو العزيز الّذي كان يلي خزائن مصر و الملك حينئذ ريّان بن الوليد رجل من العماليق و قد آمن بيوسف و مات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى؛ فلمّا اشتراه العزيز أقام في منزله ثلاثة عشر سنة، و كان بلغ عمره ثلاثين سنة و استوزره ريّان بن الوليد و آتاه اللّه الملك و الحكمة و هو عليه السّلام ابن ثلاث و ثلاثين سنة و توفّي و هو ابن مائة و عشرين سنة، و كان فرعون موسى من أولاد قابوس بن مصعب فرعون يوسف.

و بالجملة فاشتراه العزيز بعشرين دينارا هذا على قول.

و قيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتّى بلغ ما يساوي في الوزن من المسك و الورق و الحرير فاشتراه قطعير بذلك الثمن فقال [لِامْرَأَتِهِ و كانت المرأة اسمها زليخا- و قيل: راعيل-: [أَكْرِمِي منزله و مقامه عندك و علّل ذلك بأن قال: [عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً] يقوم بإصلاح مهمّاتنا لأنّه كان لا يولد له ولد و كان حصورا.

ص: 14

قوله: [وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ مكّنّاه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتّى توصّل بذلك و تمكّن من الأمر و النهي في أرض مصر [وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي نوفّقه لتعبير المنامات الّتي من عمدتها رؤيا الملك و صاحب السجن فأدّى ذلك التعبير إلى الرياسة العظمى، و يمكن أن يكون المراد إرساله إلى الخلق بتبليغ الأحكام و تحقّق أمر نبوّته [وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ فعّال لما يريد لا دافع عن حكمه في أرضه و سمائه يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء كناية عن أنّ أمر يوسف إليها ليس بسعي إخوته لأنّهم أرادوا به كلّ سوء و اللّه أراد له الخير فكان كما أراد.

قوله: [وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لمّا صبر يوسف على تلك الشدائد و المحن مكّنه اللّه في الأرض، ثمّ لمّا بلغ أشدّه و منتهى شبابه و قوّته آتيناه الحكم و النبوّة و العلم الشريعة و قيل: الدعوة إلى دين اللّه. و قيل: أراد سبحانه الحكم على الناس و العلم بوجوه المصالح فإنّ النّاس كانوا إذا تحاكموا على العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله و إصابته في الرأي [وَ كَذلِكَ أي مثل ما جزينا يوسف بصبره نجزي كلّ من أحسن و صبر على الشدائد.

و قال ابن عبّاس: بلاغ الأشدّ ليوسف لمّا بلغ ثلاثا و ثلاثين سنة. و هذا القول شديد الانطباق على القوانين الطبيعيّة، و ذلك لأنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر و يتزايد كلّ يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي لغاية الكمال، ثمّ يأخذ في التراجع و الانتقاص فكانت حالته كالهلال ضعيفا، ثمّ لا يزال يزداد إلى أن يصير بدرا تامّا ثمّ يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم و المحاق، فبين مدّة دور القمر ثمانية و عشرون يوما و شي ء فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كلّ قسم منها سبعة أيّام فلا جرم رتّبوا أحوال الأبدان على الأسابيع؛ فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتمّ له سبع سنين، ثمّ إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم و الذكاء و لا يزال في الترقّي إلى أن يتمّ له أربع عشر سنة فإذا دخل في السنة الخامسة عشر دخل في الأسبوع الثالث، و هناك يكمل العقل و يبلغ إلى حدّ التكليف و تتحرّك فيه الشهوة.

ص: 15

ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتمّ السنة الحادية و العشرين و هناك يتمّ الأسبوع الثالث، و يدخل في السنة الثانية و العشرين و هذا الأسبوع آخر الأسابيع النشور و النماء.

فإذا تمّت الثانية و العشرون فقد تمّت مدّة النشو و النماء و ينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف و هو الزمان الّذي يبلغ فيه أشدّه و بتمام الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة و ثلاثون سنة ثمّ إنّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة و النقصان.

و هاهنا تحقيق و هو أنّ المراد بالحكم صيرورة النفس المطمئنة قاهرة و حاكمة على النفس الأمّارة بالسوء مستعلية عليها و متى صارت القوّة الشهوانيّة مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسيّة و الأضواء الإلهيّة من عالم القدس على جوهر النفس، و جوهر النفس خلقت قابلة للمعارف الكليّة و الأنوار العقليّة و جواهر الأرواح البشريّة مختلفة منها زكيّة و منها بليدة و منها خيرة و منها نذلة و شريفة و خسيسة و منها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيّات و عظيمة الرغبة في الجسمانيّات فهذه الأقسام كثيرة، و كلّ واحد من هذه المقامات قابل للأشدّ و الأضعف و الأكمل و الأنقص فإذا اتّفق بأن كان جوهر النفس الناطقة جوهرا مشرقا شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقليّة و اللوائح الإلهيّة فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال لأنّ النفس الناطقة إنّما يقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسديّة الّتي يعبّر بالحكمة العمليّة و هذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات و الموانع مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان و استولت الحرارة الغريزة على البدن نضجت تلك الرطوبات و اعتدلت و قلّت الموانع، فصارت تلك الآلات البدنيّة صالحة لأن يستعملها النفس الناطقة فإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنيّة تكمل معارفها و تقوى أنوارها و إلى هذا الإشارة بقوله: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً» و المراد من العلم و الحكم استكمال النفس في قوّتها العمليّة و النظريّة انتهى.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 23]

وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

.

ص: 16

ثمّ أخبر سبحانه عن امرأة العزيز و ما همّت به و طالب يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عن نفسه و هي راعيل الملقّبة بزليخا أو بالعكس أي طلبت منه أن يواقعها [وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ على نفسها بابا بعد باب، و كانت سبعة أبواب أو باب الدار و باب البيت [وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي هلمّ لك و أقبل و بادر. و في كلمة هيت لغات أجودها القراءة المعروفة؛ قال الشاعر:

أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيناإن العراق و أهله عنق إليك فهيت هيتا

أي أقبل و يقال: فعلى هذا كلمة «هيت» اسم فعل و أمّا على قراءة «هيئت لك» فهو فعل أي تهيئت لك من هاء يهيئ «و المراودة» المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و هي كناية عمّا تريده النساء من الرجال.

قال يوسف: [مَعاذَ اللَّهِ أي عياذا باللّه أن أجيب إلى هذا و أظهر الإباء [إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ قال أكثر المفسّرين: الضمير راجع إلى زوجها أي إنّ العزيز زوجك مالكي و أحسن تربيتي و إكرامي فلا أخونه. و إنّما سمّاه ربّا لما كان بحسب الظاهر رقّا له، و قيل: الضمير عايد إلى اللّه أي إنّ اللّه رفع من محلّي و أحسن مثواي و جعلني نبيّا فلا أعصيه أبدا [إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ و لو فعلت لكنت ظالما و في هذه الآية دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة لأنّ من همّ بقبيح لا يقول مثل ذلك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 24]

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

إنّ هذه الآية من المهمّات الّتي تجب الاعتناء بالبحث عنها لأنّ بعض من ادّعى العلم فسّر هذه الآية بما لا يجوز أن ينسب الأنبياء و الأولياء إلى مثله.

قال المحقّقون من المفسّرين و المتكلّمين كالفخر الرازيّ: إنّ يوسف كان بريئا عن العمل الباطل و الهمّ الحرام، و قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على وجوب عصمة الأنبياء الّتي قرّرناها في سورة البقرة في قصّة آدم فذكر وجوها.

الحجّة الاولى أنّ الزنا و الخيانة في معرض الأمانة و قصدها من منكرات الذنوب

ص: 17

و مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة العامّة و العار، غاية في القبح خصوصا الصبيّ إذا تربّى في حجر إنسان و هو مكفيّ المؤونة مصون العرض من أوّل صباه إلى زمان شبابه و كمال قوّته، فإقدام مثل هذا الإنسان على مثل هذا القصد السوء من أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم، و مثل هذا المعصية لو نسبوها إلى أفسق خلق اللّه و أبعدهم عن كلّ خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه السّلام المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة؟

ثمّ إنّه تعالى قال في عين هذه الواقعة: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ» و ذلك يدلّ على أنّ ماهيّة السوء و الفحشاء مصروفة عنه و لا شكّ أنّ هذه النسبة أعظم أنواع السوء و أفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق بربّ العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئا من السوء مع أنّه عليه السّلام قد أتى بأعظم أنواع السوء؟ و لو فرضنا أنّ الآية لا تدلّ على نفي هذه المعصية عنه إلّا أنّه لا شكّ أنّها تفيد المدح العظيم و الثناء البالغ فلا يليق بحكمة اللّه أن يحكي عن إنسان مقدم على مثل هذا الفعل الشنيع، ثمّ إنّه تعالى يمدحه و يثني عليه بأعظم المدائح و الأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك القبيح، و إنّ ذلك يستنكر جدّا مثل ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، ثمّ يذكره بأبلغ المدح.

على أنّ الأنبياء متى ما صدرت منهم زلّة استعظموا ذلك و أتبعوها بإظهار الندامة و التوبة، و لو كان يوسف أقدم على مثل هذا الأمر لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة و الاستغفار و لو أتى بالتوبة لحكى اللّه تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع فحيث لم يوجد شي ء من ذلك علمنا أنّه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب و لا معصية.

الدليل الرابع أنّ كلّ من كان له تعلّق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف من المعصية، و الّذين لهم تعلّق بهذه الواقعة يوسف و تلك المرأة و زوجها و النسوة و الشهود و ربّ العالمين و إبليس و الكلّ بيّنوا براءة يوسف، و إذا كان الأمر كذلك فكيف يبقى للمسلم توقّف في هذا الباب؟

أمّا بيان أنّ يوسف ادّعى البراءة عن الذنب فهو قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي»

ص: 18

و قوله: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ».

و أمّا بيان أنّ المرأة اعترفت بذلك فلأنّها قالت للنسوة: «وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» و أيضا «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ».

و أمّا بيان أنّ زوج المرأة أقرّ بذلك فهو قوله: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ».

و أمّا الشهود فقوله تعالى «وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ».

و أمّا شهادة اللّه بذلك فقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ».

فقد شهد اللّه في هذه الآية على طهارته أربع مرّات: أوّلها «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ» و اللام للتأكيد و المبالغة. و الثاني قوله: «وَ الْفَحْشاءَ» و الثالث قوله: «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا» مع أنّه قال: «وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (1) و الرابع قوله: «الْمُخْلَصِينَ» ورد باسم المفعول و الفاعل و بالفاعل يدلّ على أنّه آت بالطاعات و المقرّبات بصفة الإخلاص، و بصيغة المفعول يدلّ على أنّ اللّه استخلصه لنفسه و اصطفاه لحضرته و على المعنيين فإنّه من أدلّ الألفاظ على كونه منزّها عمّا أضافوا إليه.

و أمّا بيان إبليس فإنّه قال: «لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»* (2) فأفرّ بأنّه لا يمكنه إغواء المخلصين، و يوسف من المخلصين بشهادة اللّه؛ فكان هذا إقرارا بأنّ إبليس ما تمكّن من إغوائه.

قال الرازيّ: إنّ هؤلاء الجهّال الّذين نسبوا إلى يوسف هذا الأمر إن كانوا من أتباع دين اللّه فليقبلوا شهادة اللّه على طهارته، و إن كانوا من جند إبليس و أتباعه فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، و لقائل أن يقول: إنّهم كانوا من جند إبليس أوّل الأمر إلى أن تتحرّجنا عليه فردّنا عليه في السفاهة.

ص: 19


1- الفرقان: 63،
2- الحجر: 39- 40. ص 82- 83.

و لمّا ثبت بهذه الدلائل أنّ يوسف بري ء ممّا قاله بعض الجهّال؛ فنقوم بتفسير الآية:

قيل: إنّه عليه السّلام ما همّ بها و الدليل عليه أنّه تعالى قال: «وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» و «همّ» جواب «لو لا» هاهنا مقدّم كما يقال: قد كنت من الهالكين لو لا أنّ فلانا خلّصك.

و ردّ الزجّاج هذا القول و قال: تقديم جواب «لو لا» غير فصيح و «لو لا» يجاب جوابها باللام فلو كان المعنى على ما ذكرتم لقال: و لقد همّت و لهمّ بها لو لا أن رأى برهان ربّه.

و ذكر غير الزجّاج بيانا آخر و هو أنّه لو لم يوجد الهمّ لما كان لقوله: «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» فائدة.

و كلّها مردود بقوله تعالى: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» (1) و جواب «لو لا» باللام جائز لا يلزم من كونه بغير اللام غير جائز، ثمّ تأخير جواب «لو لا» حسن جائز لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب.

و في الآية بيان آخر و هو أن يقول: سلّمنا أنّ الهمّ قد حصل لكن لا يمكن حمله على ظاهره لأنّ تعليق الهمّ بذات المرأة محال لأنّ الهمّ من جنس القصد و القصد لا يتعلّق بالذوات الباقية و إنّما يتعلّق القصد بالفعل حتّى يكون ذلك الفعل متعلّق القصد، و ذلك الفعل غير مذكور فهم أي جند الإبليس زعموا هو إيقاع الفاحشة و نحن نضمر شيئا آخر يغاير ما ذكروه فوجب أن يحمل الهمّ فيهما على الهمّ الّذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد.

إلى تحصيل اللذّة و التمتّع فضلا عن القرائن في الكلام و اللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته و إلى النهي عن المنكر، فهمّ عليه السّلام بدفعها و ضربها و منعها.

فلو قيل: على هذه الصورة لا يبقى لقوله: «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» فائدة.

قلنا: فيه أعظم الفوائد لأنّ يوسف لو فعل ما كان همّ من ضربها أو دفعها لقتلته

ص: 20


1- القصص: 10.

أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله فأعلمه اللّه أنّ الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك أو أنّه لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربّما تعلّقت به فكان يتمزّق ثوبه من قدّام، و اللّه يعلم أنّ الشاهد يشهد بأنّ ثوبه لو تمزّق من قدّام لكان يوسف يحسب هو الخائن، و كان يقتل بهذه الشهادة و لو كان ثوبه ممزّقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة كما وقعت القصّة كذلك.

و في المسألة تحقيق آخر و هو أن يفسّر «الهمّ» بالشهوة و هذا مستعمل في اللغة الشائعة في العرف يقول القائل فيما لا يشتهيه: «ما يهمّني هذا» و فيما يشتهيه: «هذا أهمّ الأشياء إليّ» فسمّى اللّه شهوة يوسف همّا. معنى الآية: و لقد اشتهته و اشتهاها لو لا أن رأى برهان ربّه لدخل ذلك الميل إلى الوجود.

أو معنى «الهمّ» حديث النفس؛ و ذلك لأنّ المرأة الفائقة في الجمال إذا تزيّنت و تهيّأت للرجل الشابّ القويّ فلا بدّ و أن يقع هناك بين شهوة الطبيعة و بين النفس و العقل مجاذبات و منازعات تارة تقوى داعية الشهوة و الطبيعة و تارة تقوى داعية العقل و الحكمة، فالهمّ عبارة عن جواذب الطبيعة، و رؤية البرهان عبارة عن جواذب العبوديّة و التقوى، مثال ذلك أنّ الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الجلّاب المبرّد بالثلج فإنّ طبيعته تحمله و تميله على شربه إلّا أنّ دينه و هداه يمنعانه منه فهذا لا يدلّ على حصول الذنب بل كلّما كانت هذه الحالة أشدّ كانت القوّة في القيام بلوازم العبوديّة أكمل.

و بالجملة فالمحقّقون المثبتون للعصمة قد فسّروا رؤية البرهان بوجوه:

الاول حجّة اللّه في تحريم الزنى و العلم بما على الزاني من العقاب.

و الثاني طهر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة فالمراد برؤية البرهان حصول تلك الأخلاق و تذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.

و الثالث أنّه رأى مكتوبا في السقف «لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا» (1).

ص: 21


1- الإسراء: 32.

و الرابع أنّه النبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش لأنّ الأنبياء بعثوا لمنع الخلق عن القبائح و الفضائح فلو أنّهم منعوا ثمّ أقدموا بأنفسهم على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (1) و أيضا إنّ اللّه عيّر اليهود بقوله: «أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» (2) و ما يكون عيبا في حقّ اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيّد بالمعجزات؟

و أمّا الّذين نسبوا المعصية إلى الرسول يوسف عليه السّلام- أجارنا اللّه من هذه العقيدة الفاسدة- فقد ذكروا في تفسير البرهان أمورا:

الاول: قالوا: إنّ المرأة قامت إلى صنم مكلّل بالدرّ و الياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف: لمَ فعلت ذلك؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصيته.

فقال يوسف: أ تستحين من صنم لا يعقل و لا يسمع و لا أستحي من إلهي القائم على كلّ نفس بما كسبت؟ فو اللّه لا أفعل ذلك أبدا فقالوا: فهذا هو البرهان.

الثاني: نقلوا عن ابن عبّاس: أنّه تمثّل له يعقوب فرآه عاضّا على أصابعه و يقول له:

أ تعمل عمل الفجّار و أنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ فاستحيى منه، و هو قول عكرمة و مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و الضحّاك و مقاتل و ابن سيرين؛ قال سعيد بن جبير: تمثّل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

الثالث: قالوا: إنّه سمع في الهواء قائلا يقول: يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنى ذهب ريشه.

قال الرازيّ: و لمّا نقل الواحديّ في البسيط هذه البيانات تصلّف و قال: هذا الّذي ذكرناه قول أئمّة التفسير الّذين أخذوا التأويل عمّن شاهد التنزيل. فيقال له: إنّك لا تأتينا إلّا بهذه التصلّفات الّتي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجّة و الدليل؟ و أيضا فإنّ ترادف الدلائل على الشي ء الواحد جائز و إنّه عليه السّلام كان ممتنعا عن الزنى بحسب الدلائل الأصليّة؛ فلمّا انضاف إليها هذه الزواجر قوي الاحتراز عن مثل هذه الأقوال.

ص: 22


1- الصف: 2- 3.
2- البقرة: 44.

و العجب أنّهم نقلوا أنّ جروا (1) دخل حجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بقي هناك بغير علمه قالوا: فامتنع جبرئيل عليه السّلام من الدخول عليه صلّى اللّه عليه و آله أربعين يوما، و هاهنا زعموا أنّ يوسف حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبرئيل، فالأعجب أنّهم زعموا أنّه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبرئيل مع أنّه لو كان أفسق الخلق مشتغلا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل في زيّ الصالحين استحيا منه و فرّ و ترك ذلك العمل، و هاهنا أنّه رأى يعقوب عليه السّلام و عضّ على أنامله و لم يلتفت إليه ثمّ إنّ جبرئيل على جلالة قدره دخل عليه، و لم يمتنع أيضا بسبب حضوره حتّى احتاج جبرئيل إلى أن يركضه على ظهره- فنسأل اللّه أن يصوننا عن الغيّ- انتهى كلامه.

و الفرق بين السوء و الفحشاء قيل: إنّ السوء خيانة اليد و الفحشاء هو الزنى أو أنّ السوء مقدّمات الفاحشة كالقبلة و النظر بالشهوة، و الفحشاء هو الزنى [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ .

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 29]

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

المعنى: تبادرا إلى الباب و طلب كلّ واحد منهما السبق إلى الباب أمّا يوسف فإنّه كان بقصد أن يهرب منها و أمّا هي فإنّما كانت تطلب يوسف ليقضي حاجتها و تمنع يوسف من الخروج، و تراوده ثانيا عن نفسه و لحقت يوسف فجذبت قميصه فهرب يوسف و شقّته طولا من خلفه و هي تعدو من خلفه. قيل: إنّ يوسف رأى الأبواب قد انفتحت فعلم أنّ الصواب الخروج فلمّا خرجا و جدا زوجها عند الباب، و سمّاه سيّدها لأنّه مالك أمرها.

ص: 23


1- ولد الكلب.

[قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً] يعني أنّ المرأة سبقت بالكلام لتورك الذنب على يوسف فقالت: ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلّا السجن أو الضرب بالسياط ضربا وجيعا.

قال المحقّقون: و لو صدق حبّها لم تقل ذلك و لآثرته على نفسها و لكن كان حبّها له شهوة.

فقال يوسف: هي الّتي طالبتني بالسوء لأنّه عليه السّلام لم يجد بدّا من تنزيه نفسه بالصدق [وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها] و كان صبيّ في المهد ابن اخت زليخا و هو ابن ثلاثة أشهر، و قيل: إنّه شهد شاهد أي كان هناك رجل حكيم من أهلها بتبرئة يوسف قالوا:

و لو كان طفلا لكان قوله معجزا لا يحتاج معه إلى البيان. و قيل: إنّ ذلك الرجل الحكيم ابن عمّ زليخا و كان جالسا مع زوجها عند الباب.

ثمّ في هذا الأمر شواهد على براءة ساحة يوسف عن السوء غير شواهد المذكورة:

منها أنّ يوسف عليه السّلام في ظاهر الأمر كان عبدا لهم و العبد لا يمكنه أن يتسلّط على مولاه إلى هذا الحدّ.

و منها أنّهم شاهدوا أنّ يوسف عليه السّلام كان يعدو عدوا شديدا ليخرج إلى الباب و الرجل الطالب للمرأة لا يخرج من البيت على هذا الوجه بل يمنع طرفه عن الخروج.

و منها أنّهم رأوا أنّ المرأة تزيّنت نفسها على أكمل الوجوه و أمّا يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فإلحاق هذا الأمر و نسبته إلى المرأة أولى.

و منها أنّ المرأة ما نسبه إلى الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاما مجملا مبهما، و أمّا يوسف عليه السّلام فإنّه صرّح بالأمر و لو كان متّهما لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإنّ الخائن خائف.

و منها أنّ زوج المرأة كان عاجزا و آثار طلب الشهوة في حقّ المرأة كانت متكاملة، فإلحاق هذا الأمر بها أولى و هذه كلّها أمارات دالّة على صدق يوسف.

و بالجملة فعلى قول أنّ الشاهد كان لها ابن عمّ لها اتّفق في ذلك الوقت أنّه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب و شقّ القميص إلّا أنّا

ص: 24

لا ندري أيّكما قدّام صاحبه، فإن كان شقّ القميص من قدّامه فأنت صادقة و يوسف كاذب و إن كان من خلفه فيوسف صادق و أنت كاذبة، و قد أفتى بحكمته و عقله، و نعم ما أفتى! فلمّا نظروا إلى القميص و رأوا الشقّ من خلفه، قال ابن عمّها «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أي من عملكنّ ثمّ قال ليوسف: أعرض عن هذا الأمر و اكتمه، و قال لها: «اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ». و هذا قول طائفة عظيمة من المفسّرين.

و قيل: إنّ الشاهد كان صبيّا كما ذكرناه أنطقه اللّه كما أنطق عيسى في المهد.

و هاهنا قول ثالث بأنّ الشاهد من أهلها المراد شهادة القميص كونه مشقوقا من دبره، و هذا القول لا يخلو من الضعف؛ لأنّ إطلاق الشاهد على القميص تعسّف و لا ينسب إلى الأهل.

و قوله: [يُوسُفُ أَعْرِضْ قيل: إنّه قال العزيز و قيل: قال الشاهد و أمر يوسف بكتمان هذا الأمر للعار الشديد و أمر الزوجة بطلب العفو و الصفح عن العزيز. و قيل:

من اللّه لأنّهم و إن كانوا عابدي أصنام و لكنّهم يثبتون الصانع بدليل أنّ يوسف قال:

«أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (1) و يمكن على هذا أن القائل الزوج.

قوله: [إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ و هذا دليل على أنّ الزوج عرف أنّ الذنب للمرأة و أتى بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، و يحتمل أن يكون مراده أنّك من نسل الخاطئين فمن ذلك النسل يرى هذا العرق الخبيث فيك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 30 الى 31]

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)

. «النسوة» اسم مفرد لجمع المرأة و تأنيثه غير حقيقيّ فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث

ص: 25


1- السورة: 39.

كما أنّ «الثبه» اسم لجماعة من الرجال.

المعنى: [قالَ نِسْوَةٌ] جماعة من النساء أشعن [فِي الْمَدِينَةِ] أي مدينة مصر هذا الخبر أو المعنى أنّ نسوة من أهل المدينة هكذا قالت- و كنّ خمسا: امرأة الساقي و امرأة الخبّاز و امرأة صاحب الدوابّ و امرأة صاحب السجن و امرأه الحاجب-: إنّ [امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا] أي دخل حبّ الفتى الجلد المحيط بالقلب و تجاوز من الجلد و نفذ في القلب بل في حبّة سويداء قلبها، و هو كناية عن الحبّ الشديد و العشق العظيم، و قرئ بالعين المهملة أي بلغ إلى حدّ الاحتراق؛ قال ابن الأنباريّ: الشعف رؤوس الجبال أي ارتفعه حبّه إلى أعلى المواضع من قلبه. و «حبّا» مصدر على التمييز.

[فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا [بِمَكْرِهِنَ أي بمقالتهنّ هذه و إنّما سمّيت المقالة بالمكر لأنّ قصدهنّ من هذه المقالة الخدعة مستدعيات لرؤية يوسف و النظر إلى وجهه لأنّهنّ علمن أنّهنّ إذا قلن هذا الكلام، و سمعت زليخا تعرّض يوسف عليهنّ ليتمهّد عذرها في حبّه عندهنّ، أو أنّ زليخا أسرّهن بحبّ يوسف و طلبت منهنّ كتمان هذا السرّ، فلمّا أظهرن كان ذلك مكرا و غدرا منهنّ، و لمّا سمعت أنّهنّ يلمنها على تلك المحبّة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتّخذت مائدة و دعت جماعة من أكابرهنّ.

[وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً] قيل: المتّكأ النمرق الّذي يتّكأ عليه. و قيل: المراد من المتّكأ الطعام و الأصل فيه أنّ من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له و سادة فسمّي الطعام متّكأ على الاستعارة. و قيل: متّكأ طعاما يحتاج إلى القطع بالسكّين لأنّ الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتّكئ عليه عند القطع. و قيل: متّكا بغير الهمزة مشدّدة التاء أي أنواع الفواكه المحتاجة إلى القطع و الاترجّ. و قرء «متكا» خفيفة ساكنة التاء و حاصل ذلك أنّها دعت أولئك النسوة الخمسة مع نساء أخر يبلغ عددهنّ إلى الأربعين و هيّأت لكلّ واحدة منهنّ مجلسا معيّنا و مائدة معيّنة.

[وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً] لأجل أكل الفاكهة أو قطع اللحم، فأمرت يوسف بأن يخرج إليهنّ و أنّه عليه السّلام لا يقدر أن يخالفها لأنّها سيّدتها.

[فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ و في «أَكْبَرْنَهُ» قيل: أي أعظمنه. و قيل:

ص: 26

أي حضن؛ قال الأزهريّ: الهاء للسكت و أكبرت المرأة إذا حاضت و حقيقة: دخلت في الكبر لأنّها بالحيض تخرج عن حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، و السبب فيه أنّ المرأة إذا خافت و فزعت أو وقع عليها أمر شديد، ربّما أسقطت ولدها إن كانت حبلى أو تحيض.

[وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ من دهشتهنّ فكانت تظنّ أنّها تقطع الفاكهة و كانت تقطع يدها و لا تحسّ، و إنّما أكبرنه للجمال الفائق، و الحسن الكامل، و كان فضل يوسف على الناس كفضل البدر على الكواكب. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: مررت بيوسف ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبرئيل: من هذا؟ فقال: هذا يوسف. فسئل عنه صلّى اللّه عليه و آله: كيف رأيته؟ قال:

كالقمر ليلة البدر. و قيل: كان يوسف إذا سار في أزقّة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها، و كان يشبه آدم يوم خلقه ربّه.

قوله: [حاشا للّه بإثبات الألف بعد الشين و هي الأصل لأنّ المادّة من المحاشاة و هي التنحية و التبعيد، و الأكثر قرءوا بحذف الألف للتخفيف و هي كلمة تفيد التنزيه و المعنى هاهنا تنزيه اللّه من العجز حيث قدر على خلق جميل مثله.

قوله: [ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ لأنّه ركز في الطباع أن لا حيّ أحسن من الملك كما أنّه ركز فيها أن لا حيّ أقبح من الشيطان فلمّا أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف بالحسن لا جرم شبّهنه بالملك، و يمكن أنّه لمّا نظرن إلى يوسف و سيماه و أنّه لم يلتفت إليهنّ عرفن أنّه بري ء من القبائح و الشهوة فنزّهنه عن لوث البشريّة و صفة الإنسانيّة و نسبنه إلى الملكيّة صونا له عن الخطاء.

و بالجملة فقال بعض المفسّرين: إنّهنّ قلن: «حاش للّه» أي صار يوسف في حشى و ناحية ممّا قذفوه بهذه النسبة فحينئذ نزّهنه عن صفة البشريّة خلقا أي نعوذ باللّه أن نقول:

هذا بشر، بل إنّما هو ملك. و قال آخرون: هذا تنزيه له من شبه البشر لفرط جماله، و يدلّ على هذا المعنى سياق الآية «ما هذا بَشَراً» أي ليس هذه الصورة صورة البشر و لا خلقته، و لكن ملك كريم لحسنه و لطافته.

ص: 27

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 32]

قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

. المعنى: [قالَتْ امرأة العزيز للنسوة اللاتي عذلنها على محبّتها ليوسف: هذا هو ذلك [الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ فأصابكنّ في رؤيته مرّة واحدة ما أصابكنّ من ذهاب العقل و قطع الأيدي، أي جرح كثير في أيديكنّ، فكيف عذلتنّني في حبّي إيّاه؟ و أنا أنظر إليه آناء ليلي و نهاري. و الفاء في قوله «فَذلِكُنَّ» فاء فصيحة و الإشارة إلى يوسف و الخطاب للنسوة، و اسم الإشارة مبتدأ و الموصول خبر أو اسم الإشارة خبر لمبتدء محذوف أي هو العبد الكنعانيّ الّذي سبق القول منكنّ أنّ امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانيّ و قلتنّ فيه و فيّ ما قلتنّ فالآن علمتنّ من هو؟ و ما قلتنّ؟ و المراد تبكيتهنّ من هذه الدعوة من اللوم على ما صدر منهنّ، و الحقّ أنّها فعلت من التبكيت بما لا مزيد عليه.

قال ابن الأنباريّ: أشارت بصيغة ذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. ثمّ إنّها بعد هذه المقولات و الإشفاقات باحت لهنّ ببقيّة سرّها فأقرّت و قالت: [وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ حسبما سمعتنّ و قلتنّ [فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع طالبا للعصمة.

و في هذا الكلام دلالة على عصمة يوسف و أنّه عليه السّلام بري ء من هذه التهمة [وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ فهدّدته بقولها: و لو لم يفعل [ما آمُرُهُ و يوافقني مرادي [لَيُسْجَنَنَ و يقع في السجن [وَ لَيَكُوناً] من المستصغرين بالإهانة و من الأدلّاء. و الألف في «لَيَكُوناً» ألف الوقف بدل من نون الخفيفة كقوله: «لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ و اللَّهَ فَاعْبُدْ» أي فاعبدن فابدل في الوقف النون ألفا.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 33 الى 34]

قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

. المعنى: لمّا هدّدته امرأة العزيز بقولها المذكور و سمعت النسوة اجتمعن على يوسف و قلن: لا مصلحة لك في مخالفة أمرها و إلّا وقعت في السجن و في الهوان. فخاف يوسف على نفسه من هذه الأسباب القويّة من مكر النساء و الطاقة البشريّة أن لا تفي قوّة العصمة

ص: 28

التجأ إلى اللّه و قال:

يا [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي و تبيّن من هذا الكلام أنّ النسوة كنّ يدعون يوسف لأنفسهنّ كما تدعو زليخا فحينئذ قال: إلهي إن لم توفّقني لحفظ نفسي عن هذه المعصية أخاف من هذه الأسباب القويّة أن أميل إلى هذا الأمر و أنقلب من الجاهلين العاصين. لأنّه اجتمع له جميع أسباب المعصية و المقتضيات لهذا العمل من الخوف على نفسه و الطمع من المال ما لا يحصى و الجاه و التمتّع بالمنكوح و المأكول و اللذائذ بأجمعها و ذلك كلّه موجبات وقوع الفعل. و الصبوة لطافة الهوى و الميل، فأجاب له ربّه فيما دعا فعصمه من مكرهنّ.

فإن قيل: ما معنى سؤال يوسف اللطف من اللّه و هو عالم بأنّ اللّه يفعله لا محالة؟

فالجواب أنّه يجوز أن يتعلّق المصلحة بالإلطاف عند الدعاء (1) المجدّد و يستحبّ أن يسأل العبد من ربّه لطفا و العبد و لو علم أنّ في سؤاله لطف عند الدعاء. إنّه سميع الدعاء، العليم بإخلاص العبد عند الدعاء.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 35]

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

. ثمّ بعد هذه الوقائع ظهر لهم و بنوا، و إنّما لم يقل: لهنّ، مع تقدّم ذكر النسوة لأنّه أراد به الملك و زليخا و أعوانها فغلّب المذكّر، و المراد بالآيات العلامات الدالّة على براءة يوسف من قدّ القميص و جزّ الأيدي و إقرار زليخا عند النسوة و أمثالها. فبدالهم أن يسجنوه، و ذلك أنّ المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد قد فضحني في الناس من حيث أنّه يخبرهم أنّي راودته عن نفسه و لست أطيق أن اعتذر بعذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج و أعتذر و إمّا أن تحبسه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته و كان الغرض من حبسه أن يعلم للناس أنّ الذنب كان له لأنّه إنّما يحبس المجرم و إنّما اقترحت زليخا منه الحبس لأنّ المحبس كان قريبا منها فأرادت أن يكون بقربها حتّى تراه.

و [حَتَّى حِينٍ أي إلى سبع سنين أو خمس حتّى ينسى حديث الواقعة و تنقطع الخبر

ص: 29


1- كذا في الأصل.

بالاندراس. و هذه حيلة من العزيز للإقطاع و الانقراض بهذا الحديث و حيلة من زليخا لسبيل الوصول إلى يوسف. و قوله: «لَيَسْجُنُنَّهُ» أقيم الفعل مقام الاسم أي بدا لهم السجن، و إلّا جعل الفعل مخبرا عنه لا يجوز و هذا مبحث عميق ليس هنا موضع ذكره. و الحين اسم لوقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه و الطويل. و حبسوه و حذف ذلك. لدلالة قوله: «وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ».

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 36 الى 38]

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)

. المعنى: في الحديث: لا يقولنّ أحدكم: عبدي و أمتي، و لكن: فتاي و فتاتي و المملوك يسمّونه فتى. و سجن يوسف و سجن معه شابّان حدثان، و قيل: مملو كان لملك مصر الأكبر و اسم الملك وليد بن ريّان و كان أحدهما صاحب شرابه و الآخر طعامه فنمي إلى الملك أنّ صاحب طعامه يريد أن يسمّه و ظنّ أنّ الآخر ساعده على ذلك قال أحدهما ليوسف: إنّي رأيت في النوم- و هو الساقي- رأيت أصل حملة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها و عصرتها في كأس الملك و سقيته إيّاها و تقديره: أعصر عنب خمر أي العنب الّذي يكون عصيره خمرا، تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى، و لم يلتبس؛ يقولون: فلان يطبخ الآجرّ و يطبخ الدبس، و إنّما يطبخ اللبن و العصير. حكى الأصمعيّ أنّه لقي أعرابيّا معه عنب فقال له: ما معك؟ قال: خمر. فيكون معناه: أعصر عنبا. و قال صاحب الطعام: إنّي رأيت كان فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز و ألوان الأطعمة و سباع الطير تنتهش منه.

[نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ و أخبرنا بتعبيره، و التأويل ما يؤول و يرجع إليه المعنى و الأمر، و التعليم تفهيم الدلالة المؤدّية إلى العلم [إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ و تؤثر الأفعال الجميلة.

ص: 30

و هو كان عليه السّلام في الحبس جميل الأخلاق لأنّه إذا ضاق على رجل مكانه وسّع عليه و إذا احتاج جمع له و إن مرض قام عليه، و يعين المظلوم و ينصر الضعيف، و قيل: من المحسنين أي ممّن يحسن تأويل الرؤيا و إنّه لمّا دخل السجن أخبر بأنّي عالم في تأويل الرؤيا.

فائدة: لو قيل: ما حقيقة علم التعبير؟ الجواب: القرآن و البرهان يدلّان على صحّته أمّا القرآن فهو هذه الآية و أمّا البرهان فهو أنّه قد ثبت أنّ جوهر النفس الناطقة خلقه سبحانه بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك و مطالعة اللوح المحفوظ و المانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن، و في وقت النوم يقلّ هذا التشاغل فيقوى على هذه المطالعة و القوّة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحانيّ إلى عالم الخيال، فالمعبّر يستدلّ بتلك الآثار الخياليّة على تلك الإدراكات العقليّة، انتهى.

[قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ اعلم أنّ هذا البيان الّذي أجاب يوسف عليه السّلام ليس بجواب لما سألا عنه فلمّا كان هنا مطلب أهمّ من تعبير الرؤيا أعرض عن التعبير و بيّن ذلك المطلب ثمّ عبّر رؤياهم و ذلك الأهمّ هو أنّه لمّا علم بعلم النبوّة أنّ أحدهما يصلب و هو على الكفر ادّعى الحقّيّة و النبوّة و الإرشاد في الدين لعلّهم يؤمنون باللّه فلا جرم اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتّى لا يموت على الكفر و ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة، فقال عليه السّلام: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلّا أخبرتكما أي طعام و أيّ لون هو؟ و كم هو و كيف هو يكون عاقبته؟ و قيل: كان الملك إذا أراد أن يقتل إنسانا صنع له طعاما مسموما فأرسله إليه فقال يوسف: لا يأتيكما طعام إلّا أخبرتكما، و ادّعى عليه السّلام علما غير عاديّ من قبيل المعجزة و الغيب و هو يجري مجرى قول عيسى عليه السّلام: حيث قال: «وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» (1) و ليس ذلك هذا العلم من قبيل الكهانة و النجامة، و إنّما أخبرتكما بوحي و علم حصل بتعليم اللّه.

ثمّ قال: [إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فأظهر عليه السّلام أنّه ليس على دينهم و لعلّه إلى ذلك الوقت ما كان يظهر نبوّته أو إيمانه خوفا منهم على سبيل التقيّة لأنّه كان

ص: 31


1- آل عمران: 49.

مملوكا لهم، و تقديم لفظ «هم» للاختصاص لهم بالكفر، و التكرار للتأكيد و الجهة غير التأكيد؛ لأنّه لمّا دخل بينهما قوله «بِالْآخِرَةِ» صارت الأولى كالملغاة و صار الاعتماد على الثانية كما قال سبحانه: «أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» (1).

و بالجملة من تأمّل في القرآن المجيد و تفكّر في كيفيّة دعوة الأنبياء علم من إرسال الرسل و إنزال صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد و المبدء و المعاد و أنّ ما وراء ذلك عبث.

ثمّ قال: [وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ فبيّن عليه السّلام أنّه من أهل بيت النبوّة و جدّه و آباؤه كانوا أنبياء اللّه و رسله لأنّهم متى ما عرفوه عظّموه و وقّروا كلامه و يكون أقرب للقبول [ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] لأنّهم كانوا مختلفون في الشرك:

فمنهم من يعبد الأوثان، و منهم من يعبد النار، و منهم من يعبد الكواكب، و منهم من يعبد العقل و النفس و الطبيعة؛ فردّ عليه السّلام على كلّ هؤلاء الفرق.

و [ذلِكَ التوحيد و التوفيق لنا معاشر الأنبياء و المؤمنين [مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ اللّه هذه النعمة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 39 الى 40]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

يريد يا صاحبيّ في السجن، و هذا نداء يوسف للمستفتيين له عن تأويل رؤياهما يا ملازمي السجن [أَ أَرْبابٌ و أملاك متبانون من حجر و خشب و حيوان لا تضرّ و لا تنفع [خَيْرٌ] لمن عبدها [أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ] الضارّ النافع؟ لأنّه عليه السّلام لمّا ادّعى النبوّة في الآية السابقة و كان إثبات النبوّة مبنيّا على إثبات الإلهيّات فحينئذ شرع في تقرير الإلهيّات.

و لمّا كان أكثر الخلق مقرّين بوجود الإله العالم القادر، و إنّما الشكّ في جعل

ص: 32


1- المؤمنون: 35.

الشريك في العبادة و كانوا يتّخذون أصناما على صورة الأرواح الفلكيّة و يعبدونها و يتوقّعون حصول النفع و الضرّ منها و لذا كان أكثر الأنبياء سعيهم في المنع عن عبادة الأوثان، فاحتجّ عليه السّلام بالحجج فذكر:

الاولى: قوله: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ» و قد سبق بيانه.

الحجّة الثانية أنّ هذه الأصنام معمولة و لا عامله و مقهورة و لا قاهرة و لا تأثير لها إذا كانت معمولة و لا عاملة فعبادتها غلط و فاسد و قوله: «مُتَفَرِّقُونَ» أي الناحت و الصانع صنعه صغيرا و كبيرا و كلّا بشكل مخصوص.

الحجّة الثالثة أنّ كونه واحدا يوجب عبادته لأنّه لو كان له ثان لم نعلم من الّذي خلقنا و رزقنا و دفع المكروه عنّا فيقع الشكّ في أنّا نعبد هذا أم ذاك؟ و فيه إشارة إلى فساد عبادة الأصنام؛ و ذلك لأنّ بتقدير أن يحصل المساعدة منها على كونها نافعة ضارّة إلّا أنّها كثيرة فحينئذ لا نعلم أنّ نفعنا و دفع الضرر عنّا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الصنم أو بالمشاركة؟ فحينئذ يقع الشكّ في أنّ المستحقّ للعبادة هو ذاك أم هذا؟ فهذا وجه لطيف مستنبط في قوله: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».

الحجّة الرابعة أنّ بتقدير أن يساعد هذه الأصنام في النفع و الضرّ على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلّا أنّه لا نزاع في أنّها تنفع في أوقات مخصوصة و بحسب آثار معيّنة و الإله قادر على جميع المقدورات على الإطلاق لا على التقييد، فالاشتغال بعبادته أولى.

الحجّة الخامسة بكونه قهّارا و القهّار هو أن لا يكون يقهره أحد و يقهر غيره و ما سواه.

و هذا الوصف يقتضي أن يكون واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكن الوجود لكان مقهورا لا قاهرا، و أيضا يجب أن يكون واحدا إذ لو كان في الوجود واجبان لما كان قاهرا لكلّ ما سواه، و الإله القهّار لا يكون إذا كان واجبا لذاته و واحدا بذاته، فحينئذ يلزم أن يكون الإله غير الفلك و غير الكواكب و غير النور و غير الظلمة و غير العقل و النفس، و كلّما تراه و تتعقّله؛ لأنّ كلّما تراه تراه مقهورا و متغيّرا بنوع خاصّ و القاهر غيره و هو اللّه، فأرباب متفرّقون

ص: 33

كلّها حادثة متغيّرة مقهورة و لا تصلح للإلهيّة، و إنّما سمّاهم يوسف أربابا بزعمهم و بلسانهم على سبيل الفرض. انتهى.

ثمّ قال: [ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أي هذه الذوات المسمّية بالآلهة غير موصوفة بصفات الإلهيّة فحينئذ أسماء صرفة من غير المسمّيات، فاسم محض و الاسم لا يفيد شيئا، و يمكن نظر يوسف بهذا البيان أنّ عبدة الأوثان مشبّهة فإنّهم تصوّروا أنّ الإله هو النور الأعظم و أنّ الملائكة أنوار صغيرة فوضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأوثان و جعلوا معبودهم هو تلك الأنوار السماويّة، فصار هذا المتخيّل المعبود من الصنم و الوثن حينئذ غير موجود فصحّ أنّهم لا يعبدون إلّا مجرّد الأسماء و كان غرض يوسف عليه السّلام هذا البيان.

قوله: [ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ و ما جعل اللّه لهذه الأسماء المنتزعة عن المعاني من حجّة و سلطة و ليس الحكم إلّا للّه و قد أمر سبحانه أن لا يكون المعبود إلّا ذاته ذلك الّذي بيّنت لكم من توحيده و ترك عبادة غيره الدين المستقيم الّذي لا عوج فيه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما تهيّأ للمطيعين من الثواب و للمتمرّدين من العقاب لعدولهم عن النظر و الاستدلال.

قوله: [سورة يوسف (12): الآيات 41 الى 42]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

المعنى: لمّا أقام عليه السّلام الحجّة عليهم في التوحيد شرع في تعبير رؤياهما فقال:

أمّا العناقيد الثلاثة فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن ثمّ يخرجك الملك اليوم الرابع و تعود إلى ما كنت عليه. و أجرى على مالكه صفة الربّ فأضافه إليه كما يقال: ربّ الدار و ربّ الضيعة.

[وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ يريد بالآخر صاحب الطعام، فقال عليه السّلام له: أما السلال الثلاث فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك فيصلبك

ص: 34

فتأكل الطير من رأسك. فقال صاحب الطعام: ما رأيت شيئا، و مازحت و كنت ألعب.

قيل: إنّهما ما رأيا في النوم بل لمّا رأوا أنّ يوسف في السجن أظهر لهم علم الرؤيا أرادوا أن يمتحنوه فاخترعوا هذه الرؤيا امتحانا فعلى هذا تعبير يوسف لهما على جهة الوحي لا على جهة التعبير.

و بالجملة لمّا عبّر لهم يوسف و قالوا: كنّا نلعب و نمازح. قال لهما يوسف: [قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تطلبان الفتوى و هو كما قلت لكم و إنّه نازل بكم البتّة و كائن لا محالة [وَ قالَ يوسف: [لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناج، يمكن أن يفسّر الظنّ هاهنا بمعنى الظنّ و يمكن أن يكون بمعنى اليقين، فإذا حملنا بمعنى الظنّ فالمدار من علم التعبير، و إذا كان بمعنى اليقين فالمدار من الوحي، و الظنّ بمعنى اليقين استعمل كثيرا في القرآن و غيره كقوله:

«الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1) و قال: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ». (2) و قال للّذي ظنّ أنّه ناج: اذكرني عند سيّدك بأنّي محبوس ظلما [فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ و اختلف في عود الضمير في قوله: «فَأَنْساهُ» قالوا: يرجع إلى يوسف يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر اللّه في تلك الحال حتّى استغاث بمخلوق فالتمس من الساقي هذا الأمر أن يذكره عند سيّده، و كان من حقّه أن يتوكّل على اللّه في ذلك فلبث لهذه الجهة بضع سنين أي سبع سنين، روي ذلك عن عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: معناه فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك و لم يذكره حتّى لبث في السجن سبع سنين، و هذا القول عن جماعة كأبي مسلم و الجبّائيّ و غيره روي عنه عليه السّلام:

لو لا كلمته ما لبث في السجن سبع سنين، يعني «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء جبرئيل فقال: يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي، قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: ربّي، قال: فمن ساق إليك السيّارة؟

ربّي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال: ربّي، قال: فمن أنقذك من الجبّ؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي، قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن

ص: 35


1- البقرة: 46.
2- الحاقة: 20.

تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بما قلت بضع سنين. و في رواية اخرى قال:

فبكى يوسف عند ذلك بكاء بكى ببكائه أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما فكان في اليوم الّذي يسكت أسوء حالا. قال الطبرسيّ: فلو صحّت هذه الرواية عوتب يوسف في ترك عادته الجميلة من الصبر و التوكّل على اللّه.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: علّم جبرئيل يوسف في حبسه فقال: قل في عقب كلّ صلاة فريضة: اللهمّ اجعل لي فرجا و مخرجا و ارزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

و روى شعيب العقرقوفيّ عنه عليه السّلام قال: و لمّا انقضت المدّة و اذن له بالدعاء للفرج وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللّهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرّج اللّه عنه. قال:

فقلت له: جعلت فداك أ ندعو نحن بهذا الدعاء؟ فقال: ادعوا بمثله: اللهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت عندك وجهي فإنّي أتوجّه إليك بوجه نبيّك نبيّ الرحمة محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة (عليهم السّلام).

و اعلم أنّ الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة سببا لا أصالة، بشرط أن لا يغفلوا عن مسبّب الأسباب بالكلّيّة، و أمّا في حقّ يوسف من باب حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، و الأولى للصدّيقين يقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب، و لا شكّ أنّ الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائز في الشريعة لا إنكار عليه إلّا أنّه لمّا كان مستدركا عن المحقّقين المتوغّلين في بحار العبوديّة لا جرم صار يوسف مؤاخذا به.

فعند هذا نقول في جواب الّذين نسبوا بعض المزخرفات إلى يوسف: لمّا صار مؤاخذا بسبب هذه الكلمة للساقي كيف ما صار مؤاخذا بتلك الأمور العظيمة؟ فلمّا رأينا اللّه تعالى أخذه بهذا القدر و لم يؤاخذه في تلك القضيّة و ما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح و الثناء علمنا أنّه كان مبرّءا ممّا نسبه الحشويّة و الجهّال إليه.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه يوسف لو لا الكلمة الّتي قالها لما لبث في السجن هذه المدّة الطويلة. قال الحسن- و بكى و قال-: نحن إذا نزل بنا أمر تضرّعنا إلى الناس.

ص: 36

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 43 الى 44]

وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)

. و لمّا دنى فرج يوسف رأى ملك مصر و هو ريّان في النوم سبع بقرات ثمان خرجن من قهر يابس و سبع بقرات عجاف أي مهازيل فابتلعت العجاف السمان، و رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها و سبعا أخر يابسات فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها، فجمع الكهنة و ذكرها لهم، و هو المراد بقوله: [يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فقال القوم: هذه الرؤيا مختلطة و هو المراد بقوله [أَضْغاثُ جمع الضغث و هو الحزمة من النبت و الحشيش بشرط أن يكون ممّا قام على ساق و استطال؛ فشبّهوا هذه الرؤيا لاختلاطها من أشياء غير متناسبة بنظرهم بالضغث أي هذه أباطيل [أَحْلامٍ و تخاليط [وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ هذه [الْأَحْلامِ الفاسدة [بِعالِمِينَ .

و حكى الأزهريّ أنّ «التعبير» مأخوذ من العبر و هو جانب النهر يقال: عبرت النهر أي قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا: عابر لأنّه يتأمّل جانبي الرؤيا فيتفكّر في أطرافها و ينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر و بالجملة لمّا قالت الكهنة: إنّ هذه الرؤيا أضغاث أحلام تذكّر الشرابيّ واقعة الحبس فإنّه كان يعتقد فيه كونه متبحّرا لأنّه جرّبه.

[سورة يوسف (12): الآيات 45 الى 46]

وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)

قال الشرابيّ: إنّ في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير الطاعة قصصت أنا و الخبّاز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في لكلّ و لم بخط؛ فإن أذنت مضيت إليه و جئتك بالجواب فذلك قوله: [وَ قالَ الَّذِي أي تذكّر بعد مدّة ما وصّاه يوسف في الحبس.

قوله: [فَأَرْسِلُونِ و هاهنا حذف يدلّ الكلام على المحذوف و تقدير الكلام: فأرسل فأتى يوسف في الحبس و قال له: يا [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي كثير الصدق فيما تخبر به

ص: 37

[أَفْتِنا] إلخ فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا و اشتبه تأويله [لَعَلِّي أَرْجِعُ إلى الملك و أصحابه و العلماء الّذين جمعهم للتعبير و عجزوا عنه [لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك و علمك و يخرجونك من الحبس، فعبّر يوسف:

[سورة يوسف (12): الآيات 47 الى 49]

قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

[قالَ عليه السّلام في مقام التعبير: [تَزْرَعُونَ خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا كقوله: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ» (1) «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ» (2) و إنّما يخرج الخبر بمعنى الأمر و يخرج الأمر في صورة الحبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنّه وجد فهو يخبر عنه و الدليل على كونه بمعنى الأمر قوله: «فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ» قوله: [دَأَباً] أي مستمرّا متواليا في هذه السنين من غير فتور دائبين على عادتكم أو ازرعوا بجدّ و اجتهاد في هذه السنين السبع [فَما حَصَدْتُمْ من الزرع [فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لا تدوسوه و لا تذروه؛ لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس و إن بقي مدّة من الزمان و إذا ديس وصفي أسرع إليه الفساد [إِلَّا قَلِيلًا] تريدون أن تأكلوه.

[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ] أي سنين مجدبات صعبات يشدّ على الناس تأكلون فيها [ما قَدَّمْتُمْ في السنين المخصبة لتلك السنين الشديدة، و إنّما أضاف الأكل إلى السنين لأنّه يقع فيها كما قال الشاعر:

نهارك يا مغرور سهو و غفلةو ليلك نوم و الردى لك لازم

و قيل: أراد بالأكل الإفناء و الإهلاك كما يقال: أكل السير لحم الناقة، أي ذهب به. قال زيد بن أسلم: كان يوسف يصنع طعام اثنين فيقرّ به إلى رجل فيأكل نصفه حتّى كان ذات يوم قرّبه إليه فأكله كلّه فقال يوسف: هذا أوّل يوم السبع الشداد.

[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد هذه السنين الشداد [عامٌ فِيهِ يمطر الناس من الغيث و [يُغاثُ النَّاسُ فيه أي ينجون و ينقذون من القحط و في ذلك الطعام الممطر المخصب يعصرون الثمار

ص: 38


1- البقرة: 228.
2- البقرة: 233.

من العنب للدبس و الزيت من السمسم مثلا و أمثاله أي تكثر النعم، و هذا القول من يوسف بما اطّلعه اللّه عليه من علم الغيب ليكون من آيات نبوّته.

قال بعض المحقّقين في هذا: التعبير من يوسف يدلّ على بطلان قول من يقول: إنّ الرؤيا على ما عبّرت أوّلا لأنّهم كانوا قالوا: أضغاث أحلام، و عبّروها بالأضغاث فلو كان كذلك لكان يوسف لا يتأوّلها.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 50 الى 53]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

. لمّا رجع الساقي إلى الملك و عرض عليه التعبير الّذي شرحه يوسف استحسنه الملك؛ فقال: [ائْتُونِي بِهِ و هذا يدلّ على فضيلة العلم، فعاد الشرابيّ إلى يوسف عليه السّلام و قال: أجب الملك. فأبى يوسف أن يخرج من السجن إلّا بعد أن ينكشف أمره و تزول التهمة عنه لأنّه لو خرج في الحال فربّما كان يبقى في قلب الملك أثر التهمة، فالتمس من الملك أن يتفحّص عن تلك الواقعة.

و هذا يدلّ على براءة ساحته لأنّ من كان محبوسا في مدّة اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك، و أمر بإخراجه إذا كان فيه ما نسبوه إليه لما كان تجدّد الواقعة للتفحّص بل كان تبادر بالخروج فحيث لم يخرج عرف طهارته عن تلك النسبة، إذ لو كان ملوّثا لكان خائفا من مذاكرة هذا الأمر فلمّا جاء الشرابيّ جاذبه يوسف و قال: ارجع إلى سيّدك فاسأله أن يسأل النسوة ما شأن القصّة ليعلم براءتي. و إنّما أتى بهذا القسم من الكلام لئلّا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل مراعاة لحسن الأدب في الكلام لأنّ الصغير لا يأمر الكبير، و أيضا راعى عليه السّلام حسن الأدب لمولاتها زليخا و جعل المسؤول النسوة لا هي فاقتصر عليه السّلام على قوله: [ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ ثمّ قال:

[إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .

ص: 39

و إنّما نسب الكيد إليهنّ لأنّ كلّ واحدة منهنّ طمعت فيه فلمّا لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه و تنسبه إلى القبيح، و يمكن أنّ المعنى لمّا بالغ كلّ واحدة منهنّ على موافقة سيّدتها فامتنع يوسف فنسبهنّ إلى هذا الكيد. و قد حكي أنّه لمّا التمس يوسف هذا الأمر من الملك أمر الملك بإحضارهنّ و قال لهن: ما خطبكنّ؟ أي ما شأنكنّ و أمر كنّ إذ طلبتنّ يوسف و ما القصّة؟ فقلن:

[حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ] هذه الكلمة أي «حاشَ لِلَّهِ» كلمة تنزيه أي نزّهن يوسف ممّا اتّهم به فقلن: حاش للّه و عياذا باللّه من هذا الأمر و ما علمنا عليه من سوء و خيانة و اعترفن ببراءته و بأنّه حبس مظلوما.

[قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ] و كانت حاضرة، و تعلم أنّ هذه المناظرات إنّما وقعت بسببها فكشفت عن الغطاء و صرّحت بالقول الحقّ و قالت: [الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ و اشتقاقه من الحصّة أي بانت حصّة الحقّ من حصّة الباطل أي وضح الحقّ [أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و ليس له خيانة [وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

[ذلِكَ لِيَعْلَمَ ذلك الردّ من الرسول و امتناعي عن الخروج من الحبس ليعلم الملك أو العزيز [أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حال غيبته. و الضمير في «لَمْ أَخُنْهُ» إلى العزيز أي ليعلم الملك أنّي لم أخنه أي لم أخن وزيره لأنّ خيانة العزيز خيانة الملك. أو الضمير في قوله: «لِيَعْلَمَ» يرجع إلى «العزيز» يعني أردت أن يعلم العزيز أنّي لم أخنه.

و قيل: إنّ هذا الكلام في قوله: «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ» من قول امرأة العزيز أي ذلك الإقرار منّي ببراءة يوسف ليعلم يوسف أنّي لم أخنه بترتيب الذنب عليه في الغيبة كما رتّبت عليه في الحضرة. و ليعلم [أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ و هذه من بقيّة قول المرأة.

قوله: [وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي هذا بقيّة كلام يوسف عند أكثر المفسّرين. و قيل:

من كلام زليخا أي ما أبرّئ نفسي عن الخيانة في أمر يوسف [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي كلّ النفوس كذلك، أو للعهد أي إنّ نفسي الموصوفة بهذه الصفة

ص: 40

إلّا من رحمه اللّه فعصمه فيكون «ما» بمعنى «من» نحو «ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» (1) و يجوز أن يكون «ما» معناه إلّا مدّة ما عصم ربّي و من قال: إنّ هذا الكلام من قول يوسف معناه: لا أبرّئ نفسي ممّا لا تعتري منه طباع البشر و إنّما امتنعت عن الفاحشة بهدايته و لطفه لا بنفسي لأنّه عليه السّلام كره أن يكون قد زكّى نفسه [إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ] لعباده [رَحِيمٌ بهم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 54 الى 57]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57)

. المعنى: لمّا تبيّن أمانة يوسف و براءته من السوء أمر بإحضاره فقال: [ائْتُونِي بِهِ أجعله خالصا لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي و أعمل على صلاحه و إشارته، و هاهنا حذف أي فلمّا جاء الرسول و أخرجه من الحبس و أحضره عند الملك و كلّمه قال: إنّك عندنا ذو مكانة و شأن مأمون ثقة أي مكّنتك في ملكي و جعلت سلطانك فيه كسلطاني.

قال الكلبيّ: فلمّا خرج من السجن أقبل يوسف و تنظّف من درن السجن، و البس ثيابا جددا، و أتى الملك و هو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابّا حدث السنّ، قال: يا غلام هذا تأويل رؤياي و لم يعلمه الكهنة! قال: نعم. فأقعده قدّامه.

و لمّا خرج من السجن كتب يوسف على باب السجن: هذا قبور الأحياء و بيت الأحزان و تجربة الأصدقاء و شماتة الأعداء. و لمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي أسألك بخيرك من خيره و أعوذ بك من شرّه و شرّ غيره. و لمّا ورد على الملك سلّم يوسف عليه بالعربيّة، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل. ثمّ دعى له بالعبرانيّة فقال له الملك:

ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. و كان الملك يتكلّم سبعين لسانا فكلّما كلّم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان؛ فأعجب الملك ما رأى منه.

ص: 41


1- النساء: 3.

ثمّ قال له الملك: إنّي احبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال يوسف: نعم أيّها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب كشف لك عنهنّ النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلاقهنّ لينا فبينا تنظر إليهنّ و تعجبك حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه و بدا يبسه فخرج من حمئه و وحله سبع بقرات عجاف شعث غير مقلّصات البطون ليس لهنّ ضروع و لا أحلاف، و لهنّ أنياب و أضراس و أكفّ كأكفّ الكلاب، و خراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع فأكلن لحومهنّ و مزّقن جلودهنّ و حطمن عظامهنّ، فبينما أنت تنظر و تتعجّب إذا سبع سنابل خضر و أخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى و الماء فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذه السنابل خضر مثمرات و هؤلاء سود يابسات و النبت واحد و اصولهنّ في الماء؟ إذ هبّت ريح فذرّت الأرفات من اليابسات السود على المثمرات الخضر فاشتعلت فيهنّ النار و أحرقتهنّ و صرن سودا متغيّرات، فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا ثمّ انتبهت من نومك مذعورا.

فقال الملك: و اللّه ما شأن هذه الرؤيا و إن كانت عجبا بأعجب ممّا سمعته منك! فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال: أرى أن تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة و تبني خزائن و المحارز فتجمع فيها الطعام بقصبه و سنبله ليكون قصبه و سنبله علفا للدوابّ و تأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الّذي جمعته لأهل مصر و من حولها و يأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك بحكمك و يجتمع عندك من الكنوز ما لم تجمع لأحد ذلك. فقال الملك: و من لي بهذا الأمر؟ و من يجمعه و يرتّبه و يبيعه؟

فعند ذلك قال يوسف: [اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ حافظا لما استودعتني و عليما بوضع الأمور مواضعها.

قيل: معناه كاتب حاسب و حفيظ للحساب عالم بالألسن و في هذا دلالة على أنّه يجوز للإنسان أن يعرّف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه خصوصا لفائدة؛ فإنّه عليه السّلام عرّف نفسه عند الملك ليقيمه في الأمور الّتي في أيالتها صلاح العباد و البلاد و لم يدخل

ص: 42

بذلك تحت قوله تعالى تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» (1) فقال الملك: و من أحقّ به منك؟

فولّاه ذلك.

و اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز. و منهم من قال: بل هو الريّان الّذي كان يقال له: الملك الأكبر. و هذا هو الأظهر لقوله: «أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» و هو يدلّ على أنّه قبل ذلك ما كان خالصا و قد كان قبل ذلك خالصا للعزيز و لأنّ يوسف قال له: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» و لأنّ العزيز كان اسمه اطفير و الملك الأكبر اسمه ريّان.

فلو قيل: لم طلب يوسف الإمارة من سلطان كافر و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعبد الرحمن بن سمرة أو لأبي ذرّ: لا تسأل الإمارة؟ و لم طلب الخزائن مع أنّه يورث نوع تهمة؟ و كيف مدح نفسه بقوله: «حَفِيظٌ عَلِيمٌ» و ترك الاستثناء حيث يقول سبحانه: «وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (2)؟

فالجواب أنّ التصرّف في امور الخلق بطريق الصحّة كان واجبا عليه لأنّه كان رسولا من اللّه إلى الخلق و الرسول يجب عليه رعاية مصالح الامّة، و قد علم بالوحي أنّه سيحصل القحط و الضيق الشديد الّذي يفضي إلى هلاك الخلق العظيم لو لم يباشر الولاية و السعي إلى إيصال النفع و الخير إلى المستحقّين، و دفع الضرر عنهم أمر راجح عقلا و هو كان مكلّفا برعاية مصالح الخلق و ما كان يمكنه رعايتها إلّا بهذا الطريق فما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب فكان هذا الأمر واجبا عليه خصوصا إذا كانت السلطة الاولى سلطة كفر.

و أمّا ترك الاستثناء لأنّه لا يحصل ترديد للملك بأنّه لعلّ لا يتمكّن على ضبط هذه المصلحة فما استثنى. و لم مدح نفسه لأنّه لا نسلّم أنّه كان مقصوده مدح نفسه بل كان مقصوده بيان هاتين الصفتين النافعتين لحصول المطلوب الواجب عليه و قد غلب على ظنّه أنّه لا بدّ من ذكر هذين الوصفين ذهب أنّه وصف نفسه إلّا أنّ مدح النفس إنّما يكون مذموما إذا قصد الرجل به التطاول و التفاخر و التوصّل إلى غير ما يحلّ، فأمّا على غير هذا الوجه فلا نسلّم أنّه محرّم؛ فقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» المراد منه تزكية النفس حال ما يعلم كونها غير متزكّية، أو أن يكون المزكّي مرائيا، و الدليل عليه بعد

ص: 43


1- النجم: 32.
2- الكهف: 24.

الآية بقوله: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (1).

و بالجملة روي عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» لولّاه من ساعته و لكنّه أخّره إلى سنة فأقام يوسف في بيت الملك سنة فلمّا انصرفت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك و توجّه و ردّاه بسيفه و أمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلّل بالدرّ و الياقوت و يضرب عليه كلّة من إستبرق، ثمّ أمره أن يخرج متوّجا، لونه كالثلج و وجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء وجه يوسف فانطلق حتّى جلس على السرير، و دانت له الملوك فعدل بين الناس فأحبّه الرجال و النساء و باع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الاولى بالدنانير و الدراهم، و في الثانية بالحليّ و الجواهر، و في الثالثة بالدوابّ ثمّ بالضياع و العقار ثمّ برقابهم حتى استرقّهم جميعهم، ثمّ أعتقهم و ردّ إليهم أموالهم و ذلك قوله:

[وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا] أي و مثل ذلك الإنعام الّذي أنعمنا على يوسف أقعدنا يوسف على ما يريد في أرض مصر [يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ] أي يتصرّف في الملك من غير رجوع إلى الملك بحيث إنّه لا أمر عليه، و في الآية دلالة على أنّ ذلك التمكين أو الملك كان بلطف اللّه، و فيها دلالة على جواز تولّي القضاء و الحكم من جهة الباغي و الظالم بشرط أن يتمكّن بذلك من إقامة أحكام الدين، ثمّ بعد أن ملكهم و أعتقهم جميعا و ردّ ما أخذ منهم، قال للملك: ما ترى أيّها الملك فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها؟ أشر علينا برأيك فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم و لم انجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم و لكنّ اللّه أنجاهم على يدي. قال له الملك:

الرأى رأيك. قال يوسف: إنّي اشهد اللّه و أشهدك أنّي أعتقت أهل مصر كلّهم و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم و رددت عليك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي و لا تحكم إلّا بحكمي. قال له الملك: إنّ ذلك لفخري و زينتي، و فخري أن لا أسير إلّا بسيرك و لولاك لما قويت عليه و لا اهتديت له و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله؛ فأقم على ما ولّيتك فإنّك لدينا مكين أمين.

و قيل: إنّ يوسف كان في الأيّام المجدبة لا يمتلئ شبعا من الطعام فقيل له تجوع

ص: 44


1- النجم: 33.

و بيدك خزائن مصر؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.

و الحاصل أنّ المراد من تمكين اللّه ليوسف و تمكّنه في أرض مصر هذه الأمور العظيمة المذكورة ثمّ أكّد ثانيا بقوله: [نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ و هذه شهادة من اللّه على أنّ يوسف كان من المحسنين. لو صدق أقوال الحشويّة فيما نسبوه إليه لامتنع أن يقال: إنّه كان من المحسنين و الأمر متوقّف بين تكذيب اللّه و هو عين الكفر أو تكذيب الحشويّ و هو عين الإيمان.

قوله: [وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ المراد أنّ يوسف و إن كان وصل بصون نفسه إلى المنازل العالية و الدرجات الرفيعة في الدنيا إلّا أنّ الثواب الّذي أعدّه اللّه له في الآخرة خير و أفضل. و لفظ «الخير» قد يستعمل بمعنى التفضيل، و قد يستعمل بمعني نفس الخير كقولهم: «الثريد خير من ..» و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه يؤتي يوسف في الآخرة من الثواب ما هو خير ممّا آتاه اللّه من الملك في الدنيا و شهادة منه سبحانه على تقواه، فكيف يقال فيه ما قالوا؟ فتأمّل!

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 58 الى 61]

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (61)

لمّا عمّ القحط في البلاد و وصل إلى البلدة الّتي كان يسكنها يعقوب و نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس قال يعقوب لبنيه: إنّ بمصر رجلا صالحا يمير الناس فاذهبوا بدراهمكم و خذوا الطعام. فخرجوا إليه و هم عشرة و دخلوا على يوسف، و صارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته و ظهور صدق ما أخبر اللّه ليوسف حين ما ألقوه في الجبّ في قوله «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ» و كان كلّ من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحّص عنهم ليعرف أنّ الجائين و الواصلين هل فيهم إخوته أم لا؟

فلمّا وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحّص عن أحوالهم ظهر له أنّهم إخوته، و

ص: 45

أمّا أنّهم ما عرفوه لأنّه أمر حجّابه بأن يوصّفوهم من البعد و ما كان يتكلّم معهم إلّا بواسطة، لا سيّما مهابة الملك و شدّة الحاجة يوجبان كثرة الخوف.

ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ألقوه في الجبّ كان صغيرا ثمّ إنّهم رأوه بعد تغيير الزيّ و الهيئة و اللحية و لبس الملوك فنسوا العلائم لطول المدّة و كان بين أن قذفوه بالجبّ و بين أن دخلوا عليه أربعين سنة، و كان من عادة يوسف مع الكلّ أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه و لا أنقص فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا: إنّ لنا أبا شيخا كبيرا و أخا آخر بقي معه، و ذكروا أنّ أباهم لأجل سنّه و شدّة حزنه لم يحضر و أنّ أخاهم بقي في خدمة أبيه، و لا بدّ لهما أيضا شي ء من الطعام، فلمّا ذكروا ذلك قال يوسف: فهذا يدلّ على أنّ حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم، و هذا أمر عجيب لأنّكم مع جمالكم و أدبكم و عقلكم إذا كانت محبّة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبّته لكم، و هذا يدلّ على أنّ ذلك اعجوبة في العقل و في الفضل و الأدب فجيئوني به حتّى أراه.

و قيل: إنّهم لمّا دخلوا عليه و أعطاهم الطعام قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار. فقال: لعلّكم جئتم عيونا؟ فقالوا: معاذ اللّه نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صدّيق نبيّ اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنّا اثني عشر فهلك منّا واحد و بقي واحد مع الأب يتسلّى به عن ذلك المفقود و نحن عشرة، و قد جئناك. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة و ائتوني بأخ لكم من أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون أو يهودا و كان أحسنهم رأيا في يوسف فخلّفوه عنده.

ثمّ إنّ يوسف لمّا طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب و الترهيب أمّا الترغيب فهو قوله: [أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ و أمّا الترهيب فهو قوله: [فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ و ذلك لأنّهم في نهاية الاحتياج إلى الطعام فلمّا سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا: [سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنجتهد و نحتال على أن ننزعه من يده [وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ أن نجيئك به و فاعلون ما في وسعنا من هذا الباب.

قوله: [سورة يوسف (12): الآيات 62 الى 64]

وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

.

ص: 46

«الفتية» جمع فتى في العدد القليل و الفتيان للكثير و اتّفق الأكثرون على أنّ إخوة يوسف ما كانوا عالمين، فجعل البضاعة في رحالهم و منهم من قال: كانوا عالمين.

ثمّ اختلفوا في السبب الّذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم؛ لأنّهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كان كرما من يوسف و سخاء فيبعثهم ذلك على العود إليه. و قيل: لأنّه خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرّة اخرى. ثمّ إنّ أخذ الثمن من الطعام من أبيه و إخوته مع شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم أو لأنّه عليه السّلام أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب و لا منّة و أراد أن يقابل إساءتهم بالإحسان قال يوسف لعبيده و غلمانه الّذين يكيلون الطعام- و قيل: لأعوانه-: اجعلوا ثمن طعامهم و ما كانوا جاءوا به في أوعيتهم. قيل: كانت بضاعتهم النعال و الأدم. و قيل: كانت الورق [لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها] أي يعرفون متاعهم [إِذَا] رجعوا [إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لطلب الميرة مرّة اخرى.

[فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ في المستقبل لقول يوسف لهم: فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي [فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ و يكتل و إنّا ضامنون بحفظه [قالَ يعقوب [هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي إنّكم ذكرتم هذا القول و ضمنتم هذا الضمان في أخيه يوسف يعني كما لم يحصل الأمان هناك كذلك هنا.

ثمّ قال: [فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قرئ «حافظا» علي التمييز على تقدير:

هو خير لكم حافظا، كقولهم: هو خيرهم رجلا و للّه درّه فارسا. و قرئ على الحال و الأكثر قرءوا «حفظا» بغير ألف أي حفظ اللّه له خير من حفظكم. و قيل: معناه وثقت بكم في حفظ يوسف فكان ما كان فالآن أتوكّل على اللّه في حفظ بنيامين. ورد في الخبر أنّ اللّه سبحانه قال:

ص: 47

فو عزّتي لأردّنّهما عليك من بعد ما توكّلت عليّ.

قوله: [سورة يوسف (12): آية 65]

وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

. [وَ لَمَّا فَتَحُوا] أوعية الطعام [وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا] ما نطلب وراء هذا أوفى لنا الكيل و ردّ علينا الثمن [هذِهِ بِضاعَتُنا] فلا ينبغي أن تخاف على بنيامين ممّن أحسن إلينا هذا الإحسان و ما نريد منك دراهم تعطيناه نرجع بها إليه بل تكفينا في الرجوع إليه بضاعتنا هذه [وَ نَمِيرُ] و نجلب إلى أهلنا الطعام [وَ نَحْفَظُ أَخانا] حتّى نردّه إليك [وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ] لأجله؛ لأنّه كان يكال لكلّ رجل وقر بعير [ذلِكَ كَيْلٌ سهل ممكن، و هين على الملك. و قيل: معناه: أنّ ذلك الكيل قليل و نحتاج إلى أن يضيفه كيل بعير أخينا حتّى يزداد كيلنا.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 66]

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

. أي لن أرسله معكم حتّى تعطوني عهدا موثوق به. و «الموثوق» مصدر بمعنى الثقة أي عهد يوثق به، مصدر بمعنى المفعول أي عهدا مؤكّدا بإشهاد اللّه و بسبب القسم باللّه، أي تحلفوا باللّه لتأتنّي به و تردّنّه عليّ. قال ابن عبّاس: يعني حتّى تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيّين و سيّد المرسلين أن لا تغدروا بأخيكم.

[إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلّا أن تهلكوا جميعا أو إلّا أن يحال بينكم و بينه حتّى لا تقدرون على الإتيان به، فلمّا أعطوا مواثيقهم و حلفوا بمحمّد [قالَ يعقوب: [اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يريد أنّ اللّه شهيد و وكيل أي هذا العهد موكول إليه فإن وفيتم جازاكم و إن غدرتم كافأكم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 67 الى 68]

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)

ص: 48

و لمّا تجهّزوا للمسير [قالَ يعقوب: [يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا] مصر [مِنْ بابٍ واحِدٍ] خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذو جمال و غاية و هيئة و كمال، و هم إخوة بنو أب واحد. و أنكر الجبّائيّ خوف العين، بل خاف حسد الناس للطف الملك إيّاهم و جوّزه كثير من المحقّقين، و رووا فيه الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال: إنّ العين حقّ و العين تتنزّل الحالق. و الحالق المكان المرتفع من الجبل فجعل صلّى اللّه عليه و آله العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من قوّة أخذها و بطشها.

و أيضا ورد في الخبر أنّه عليه السّلام كان يعوّذ الحسن و الحسين بأن يقول: أعيذ كما بكلمات اللّه التامّة من كلّ شيطان و هامة و من كلّ عين لامة. و روي أنّ بني جعفر كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول اللّه إنّ العين إليهم سريعة أ فأسترقي لهم من العين فقال: نعم. و روي أنّ جبرئيل رقّى رسول اللّه و علّمه الرقية و هي بسم اللّه أرقيك من كلّ عين و حاسد اللّه يشفيك. و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو كان شي ء تسبق القدر لسبقته العين. و في كيفيّة إصابة العين اختلاف كثير:

قال عمرو بن بحر الجاحظ: إنّه لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشي ء المستحسن أجزاء لطيفة تتّصل به و تؤثّر فيه فيكون هذا المعنى خاصيّة في بعض الأعين كالخواصّ في الأشياء. و قد اعترض عليه بأنّه لو كان كذلك لما اختصّ ذلك ببعض الأشياء دون بعض، و لأنّ الأجزاء تكون جوهرا و الجواهر متماثلة، و لا يؤثّر بعضها في بعض.

و قال أبو هاشم: إنّه فعل اللّه بالعباد لضرب من المصلحة، و هو قول القاضي و رأيه.

و قال الشريف الرضيّ الموسويّ: إنّ اللّه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال الّتي يفعلها، فغير ممتنع أن يكون تغيير نعمة زيد مصلحة لعمرو، و إذا كان يعلم من حال عمرو أنّه لو لم يسلب نعمته من زيد أقبل على الدنيا بوجهه و يئس عن الآخرة و إذا سلب نعمة زيد للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه فيها و أعطاه بدلا منها عاجلا أو آجلا؛ فيمكن أن يتأوّل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «العين حقّ» على هذا الوجه، على أنّه قد روي عنه ما يدلّ على أنّ الشي ء إذا عظم في صدور العباد وضع اللّه قدره و صغّر أمره فلا ينكر تغيير الحال

ص: 49

لبعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه و استحسانه له، و فخامته في عينه.

و هاهنا تحقيق آخر- و هو قول الحكماء في هذا الباب- و هو أنّه قالوا: ليس من شرط المؤثّر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيّات المحسوسة أعني الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانيّا محضا، و لا يكون للقوى الجسمانيّة فيها تعلّق و الّذي يدلّ عليه أنّ اللوح الّذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان المشي عليه و لو كان موضوعا بين الجدارين لعجز الإنسان عن المشي عليه، و ما ذلك إلّا لأنّ خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أنّ التأثيرات النفسانيّة موجودة.

و أيضا إنّ الإنسان إذا تصوّر كون فلان موذيا له حصل في قلبه غضب، و يسخن مزاجه جدّا فمبدأ تلك الخولة ليس إلّا ذلك التصوّر النفسانيّ، و لأنّ مبدأ الحركات البدنيّة ليس إلّا التصوّرات النفسانيّة فلمّا ثبت أنّ تصوّر النفس يوجب تغيير بدنه الخاصّ لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدّى تأثيراتها إلى سائر الأبدان.

فثبت أنّه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثّرة في سائر الأبدان و جواهر النفوس مختلفة بالماهيّة؛ فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثّر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه و يتعجّب منه، و التجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه و النفوس النبويّة نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شكّ.

قوله: [وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ و لمّا دخلوا متفرّقين من أبواب متفرّقة، و كان لمصر خمسة أبواب [ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم يكن دخولهم مصر كما أمرهم أبوهم بالتفرّق يغني عنهم أو يدفع منهم شيئا من مكروه أراد اللّه إيقاعه بهم من ضرر أو عين أو بلاء، و هو عليه السّلام كان يعلم أنّه لا ينفع من قدر اللّه شي ء و التفرّق ليس مانع شيئا أراده اللّه، و لكن ما قاله لبنيه حاجة في قلبه فقضى تلك الحاجة؛ فيكون «إلّا» بمعنى لكنّ حاجة قضاها و أظهرها يعني أنّه عليه السّلام يعلم أنّ هذه التوصية و هي ورود مصر من أبواب متفرّقة لا تنفعهم إذا أراد اللّه بهم، لكن شفقة عليهم من أن يعانوا أظهرها و وصّى بها، و الاستثناء منقطع.

[وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ و إنّ يعقوب لذو يقين و معرفة باللّه بتعليمنا إيّاه [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ

ص: 50

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بتقديرنا و سرّ أمورنا أو لا يعلمون كعلمه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 69 الى 76]

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 100

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (73)

قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

ثمّ أخبر سبحانه عن دخولهم عليه [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا: هذا أخونا الّذي أمرتنا أن نأتيك به. فقال: أحسنتم. ثمّ أكرمهم و أضافهم و قال: يجلس كلّ بني أمّ على مائدة فجلسوا، فبقي ابن يامين قائما فردا فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال: إنّك قلت: ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة و ليس لي فيهم ابن أمّ، فقال يوسف: فما كان لك ابن امّ؟ قال: بلى، قال يوسف: فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أنّ الذئب أكله! قال: فما بلغ من حزنك عليه؟ قال:

ولد لي أحد عشر ابنا كلّهم اشتققت له اسما من اسمه فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء و شممت الولد من بعده. قال بنيامين: إنّ لي أبا صالحا و قد قال لي: تزوّج لعلّ اللّه يخرج منك ذرّيّة تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له يوسف: فاجلس معي على المائدة [قالَ له [إِنِّي أَنَا أَخُوكَ أي اطّلعه على أنّه أخوه، و قيل: إنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، و لم يعترف له بالنسبة، و لكنّه أراد أن يطيب قلبه. فلا تحزن بشي ء سلف من إخوتك.

[فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ و أعطاهم ما جاءوا لطلبه من الميرة و جعل لكلّ واحد منهم حمل بعير و يسمّى حمل التاجر جهازا [جَعَلَ الصاع في متاع [أَخِيهِ بنيامين، و قيل: إنّ السقاية الماعون الّذي كان الملك يشرب منه، أو الدوابّ كانت يشرب منها و يكال بها، ثمّ جعل يكال به الطعام، و كان من ذهب مرصّعة بالجواهر الثمينة. ثمّ ارتحلوا و انطلقوا.

ص: 51

[ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ و نادى مناد مسمعا معلما [أَيَّتُهَا الْعِيرُ] و القافلة أي يا أهل القافلة. و قيل: كانت القافلة من الحمير [إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من أتباع يوسف من غير أمره، و لم يعلم بما فعل يوسف من جعل الصاع في رحالهم.

و قيل: إنّ يوسف أمر المنادى بأن ينادي به، و لم يرد سرقة الصاع و إنّما عنى أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه و ألقيتموه في الجبّ. و الغرض التسبّب إلى احتباس أخيه عنده، و يجوز أن يكون هذا أمر من اللّه أو استفهام، و إذا كان إدخال هذا الحزن سببا مؤدّيا إلى إزالة غموم كثيرة عن الجميع، و تعلّق بهذا الأمر هذه المصلحة فقد ثبت جوازه. و [قالُوا] أصحاب العير [وَ أَقْبَلُوا] على أصحاب يوسف: ما الّذي فقدتموه من متاعكم؟ [قالُوا]:

صاعه و سقايته. و قال المنادي: [وَ لِمَنْ جاءَ] بالصاع فله [حِمْلُ بَعِيرٍ] من الطعام [وَ أَنَا] بالحمل كفيل و مؤدّ.

قال إخوة يوسف: [تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أيّها القوم [ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ قطّ أي ظهر لكم من حسن سيرتنا و معاملتنا معكم أنّه ليس من شأننا السرقة؛ قيل:

إنّهم لمّا دخلوا مصر شدّوا أفواه دوابّهم كيلا تتناولوا الحرث و الزرع و لهذا قالوا:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ» [قالُوا فَما جَزاؤُهُ أي قال الّذين نادوهم: فما جزاء السارق؟

[قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ قال: كان في ذلك الزمان يستعبدون كلّ سارق بسرقته، و كان استعباد السارق في شرعهم تجري مجرى وجوب القطع في شرعنا، أي ذلك السارق هو جزاء ذلك الجرم [كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون بقيّة كلام إخوة يوسف و يمكن أن يكون كلام أصحاب يوسف.

و لمّا اشترط إخوة يوسف بأنّ من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترقّ سنة قال لهم المؤذّن: إنّه لا بدّ من تفتيش أمتعتكم، فانصرف بهم إلى يوسف فبدأ يوسف في التفتيش بأوعيتهم لإزالة التهمة.

[ثُمَّ اسْتَخْرَجَها] يعني السقاية [مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ و أرجع ضمير المؤنّث إلى السقاية، و المذكّر إلى الصاع، و الصواع يذكّر و يؤنّث.

ص: 52

و قيل: إنّ حكم السارق في شريعة يعقوب أن يستخدم و يسترقّ على قدر سرقته و في دين الملك الضرب و الضمان ضعفين. فسألهم يوسف: ما جزاء السارق عندكم؟ فقالوا: أن يؤخذ بسرقته كذلك نجزي الظالمين، قال الإخوة: أي مثل ما ذكرنا جزاء السارقين نجزيهم. فأقبل الإخوة على بنيامين و وبّخوه، و قالوا له: قد فضحتنا و سوّدت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: وضع هذا الصاع في رحلي الّذي وضع الدراهم في رحالكم.

[كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد الّذي كاد الإخوة بيوسف ألهمنا يوسف ليكيد بأمر تهيّأ له أن يحبس أخاه ليكون سببا لوصول خبره إلى أبيه فجازيناهم على كيدهم بما فعلوا بيوسف من قبل. و قيل: معنى «كدنا» دبّرنا و دلّلنا بيوسف بدلالة قوله: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» لأنّه علم من صلاح هذا الأمر ما لم يعلمه غيره فحينئذ الكيد استسلامهم لهذا الحكم في حقّ السارق، و إلقاء اللّه في قلوب إخوته تقرير هذا الحكم لأنّه ما كان حكم الملك الاسترقاق، بل كان حكم السارق الضرب و الغرامة مضاعفة.

و لمّا أقرّوا أثبتوا على أنفسهم هذا الحكم لأنّ يوسف [ما كانَ يتمكّن [أن يأخذ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا] أنّه تعالى كادله و ألهمه هذا الأمر ليتوسّل به إلى أخذ أخيه، و لفظ «الكيد» مشعر بالحيلة و الخدعة، و ذلك في حقّ اللّه محال لكن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض المفيدة لا على بدايات الأغراض فالكيد إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه عنده و لا سبيل له إلى دفعه لتحقّق المصالح في إيقاعه، فالكيد في حقّ اللّه تعالى محمول على هذا المعنى لأنّه سبحانه شاء كذلك للمصالح المترتّبة عليه.

[نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ] من العلم و الحكمة كما وقع ليوسف من النبوّة و العلم [وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ لأنّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء إلّا أنّ يوسف كان زائدا عليهم بالعلم و المعرفة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 77 الى 80]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)

ص: 53

ثمّ أخبر سبحانه عن إخوة يوسف: أنّهم [قالُوا] ليوسف: [إِنْ يَسْرِقْ بنيامين [فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ أمّ و أب [قَبْلُ ذلك؛ فليست سرقته أمر بديع فإنّه اقتدى بأخيه يوسف.

و اختلف في كيفيّة ما وصفوه به من السرقة على أقوال:

فقيل: إنّ عمّة يوسف كانت تحضنه بعد وفات أمّه راحيل و تحبّه حبّا شديدا، فلمّا ترعرع أراد يعقوب أن يستردّه منها، و كانت أكبر أولاد إسحاق، و كان عندها منطقة إسحاق و كانوا يتوارثونها بالكبر فاحتالت بحيلة، و جاءت بالمنطقة و شدّتها على وسط يوسف و ادّعت أنّه سرقها، و كان من سنّتهم استرقاق السارق، فحبسه بهذا السبب.

و قيل: إنّه سرق صنما لجدّه من أمّه كان جدّه يعبده فأمرته أمّه أن يسرق ذلك الصنم و يكسره فلعلّه ترك عبادة الأوثان ففعل يوسف ما أمرته أمّه فهذا هو السرقة.

و قيل: إنّه يسرق من مائدة أبيه الطعام و يدفعه إلى الفقراء.

و قيل: سرق عناقا من أبيه و دفعه إلى مسكين و كان أبوه راضيا و لكن لا يظهر رضاه لإخوته حذرا من الحسد.

و قيل: إنّهم لحسدهم و عداوتهم القديمة نسبوا السرقة من دون هذه الدواعي.

قوله تعالى: [فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي فأخفى يوسف تلك الكلمة الّتي قالوها و لم يبدها لهم. قال الزجّاج: «فأسرّها» إضمار على شريطة التفسير لأنّ قوله: «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» بدل من «ها» في «أسرّها» و المعنى: فأسرّ يوسف في نفسه.

قوله: [أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً] و قال: أنتم شرّ مكانا، و التفسير بعد الإضمار يقع بمفرد كقولك: «نعم رجلا زيد» ففي «نعم» ضمير فاعلها و «رجلا» تفسير لذلك الفاعل المضمر و يقع بجملة مثل «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فمعنى ضمير القصّة و الشأن اللّه أحد. و بالجملة ليس

ص: 54

المعنى أنّه قال هذا الكلام، و هو «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» بل في نفسه قال ثمّ جهر بقوله: [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ .

و الصحيح في مذهبنا أنّهم ما كانوا أنبياء و الأسباط من أولادهم لأنّ النبيّ لا يجوز أن يقع منه القبيح أصلا حتّى أنّ أغلب أهل السنّة وافقونا على هذا القول؛ قال البلخيّ:

إنّهم كذبوا و اتّهموا أخاهم و لم يصحّ أنّهم كانوا أنبياء.

قوله: [يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ و سألوه أن يأخذ عنه بدلا شفقة على والدهم و رقّقوا في الاسترحام بالقول و أنّ أباه كثير السنّ و كبير القدر لا يحبس ابن مثله [إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في الكيل و ردّ البضاعة و في الضيافة و نحن نأمل منك هذا.

فأجابهم يوسف: أعوذ باللّه [أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا] و كيف يجوز أن نأخذ بريئا بمذنب؟ أي أعوذ باللّه من أخذ أحد بغيره، فحينئذ إذا فعلنا كذلك إنّا من الظالمين.

فلو قيل: كيف يجوز للرسول هذه الأمور؟ الجواب لعلّه كان مأمورا بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب و نهاه اللّه عن العفو و الصفح و أخذ البدل.

قوله تعالى: [فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا] أي لمّا آيسوا من قبول يوسف قولهم تفرّدوا عن سائر الناس و شرعوا يتناجون و يتشاورون فيما وقعوا فيه [قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ و هو روبيل أو يهودا، و هو الّذي نهاهم عن قتل يوسف [أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ .

قال ابن عبّاس: لمّا قال يوسف: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» غضب يهودا و كان إذا غضب و صاح فلا تسمع صوته حامل إلّا وضعت و تقوم شعره على جسده فلا يسكن حتّى يضع بعض آل يعقوب يده عليه أو يمسّه فقال يهودا لبعض إخوته:

اكفوني أسواق أهل مصر و أنا أكفيكم الملك، فقال يوسف لابن صغير له: مسّه، فمسّه فذهب غيظه. و قيل: كان الصبيّ بين يدي يوسف يلعب برمّانة الذهب فأخذ يوسف الرمّانة و دحرجها نحو يهودا فتبعها الصبيّ فمسّ يد الصبيّ يد يهودا فسكن غضبه، و فعل يوسف ذلك ثلاث مرّات، فقال يهودا: إنّ في البيت معنا لبعض ولد يعقوب إنسان.

ص: 55

ثمّ بعد اليأس [قالَ : لا أفارق أرض مصر [حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه [أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج أو بالانتصاف ممّن أخذ أخي بخلاصه منه بسبب من الأسباب [وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ و المراد ظهور عذر يزول حياؤه و خجله من أبيه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 81 الى 82]

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (82)

. فقال لهم كبيرهم روبيل أو يهودا في العلم أو في السنّ: [ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا ... إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ و قرئ بالتشديد [وَ ما شَهِدْنا] عندك بهذا إلّا بما شهدنا من الصاع استخرج من رحله [وَ ما كُنَّا] نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث ابن يامين معنا، و لم ندر أنّ أمره يؤول إلى هذا، و إنّما قصدنا الخير و لو علمنا ذلك ما ذهبنا به و ما كنّا بهذا الأمر و وقوعه عالمين.

و قيل: معنى الغيب الكيل بلغة حمير.

و نقل أنّ يعقوب قال لهم: فهب إنّه سرق و لكن كيف عرف الملك أنّ شرع بني إسرائيل أنّ من يسرق يسترقّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند هذا الكلام:

إنّا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة و ما كنّا نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها. فقوله: «وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: [وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ] أي اسأل أهل القرية [الَّتِي كُنَّا فِيها] و هي مصر أي سل من شئت من أهل مصر فإنّ هذا خبر شاع و كان بعض أهل مصر قد صاروا إلى الناحية الّتي أبوهم فيها، و اسأل أهل القافلة الّتي كمّا فيها، و كانوا من أهل كنعان راجعين من مصر خبر ابن يامين [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك، فلمّا رجعوا إلى أبيهم و قصّوا عليه القصّة، قال لهم: عندي ليس الأمر على ما تقولونه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): آية 83]

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)

. لمّا سمع يعقوب من أبنائه هذا الكلام [قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ قيل: معناه:

سوّلت لكم أنفسكم أمرا خيّلت لكم أنّه سرق و ما سرق. قال بعض المفسّرين: «بَلْ سَوَّلَتْ

ص: 56

لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ليس هاهنا المراد الكذب و الحيلة، كما في قوله في واقعة يوسف حين قال: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ» و مراد يعقوب ذكر التسويل الثاني لا التسويل الأوّل أي أردتم المنفعة فعاد ذلك شرّا و ضررا، و قد كنتم لا تعلمون أنّ قضاء اللّه جار على خلاف تدبيركم.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يجمعهم [جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي و [الْحَكِيمُ في أفعاله.

قيل: إنّ روبيل أو يهودا لمّا عزم على الإقامة بقوله: «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» أمره الملك أن يذهب مع إخوته سوى بنيامين فقال: اتركوني و إلّا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلّا و تضع حملها، فقال يوسف: دعوه.

و لمّا رجع القوم إلى يعقوب و أخبروه بالواقعة بكى، و قال: يا بنيّ لا تخرجون من عندي مرّة إلّا و نقص بعضكم: ذهبتم مرّة فنقص يوسف و في الثانية نقص روبيل و بنيامين، ثمّ بكى و قال: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي» لعلّه تعالى أخبره من بعد محنته أنّ يوسف حيّ أو قال ذلك بحسن ظنّه باللّه و بقوله: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (1).

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 84 الى 87]

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

. و لمّا سمع يعقوب كلام أبنائه ضاق صدره جدّا و أعرض عنهم و فارقهم و فرّ عنهم و عظم حزنه، و ذكر يوسف، و قال: [يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ و إنّما عظم حزنه لأنّ الحزن الجديد على بنيامين جدّد حزن يوسف لأنّهما من امّ واحدة و كلاهما متشابهان، فقال:

«يا أَسَفى أي يا طول حزني على يوسف و لمّا كان البكاء من أجل الحزن أضاف بياض البصر إليه فقال: [وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء من الغيظ و لا يشكوه لأحد.

قال ولد يعقوب لأبيهم: [تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تزال تذكر يوسف حتّى

ص: 57


1- الطلاق: 7.

تكون دنفا فاسد العقل أو قريبا من الموت. و قيل: معناه هرما باليا، أو تصير من الميّتين.

و إنّما قالوا له ذلك إشفاقا عليه و رحمة له؛ يقال: ما فتئت و فتيت إذا نسيت و حرف النفي مضمر على معنى ما تفتؤ؛ قال امرؤ القيس: «فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا» و المعنى: لا أبرح قاعدا. قال يعقوب: في جوابهم إنّما أشكوا همّي و حاجتي إلى اللّه.

و نقل الفخر الرازيّ رواية عن النبيّ أنّه قال: كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له يوما: ما الّذي أذهب بصرك و قوّس ظهرك؟ فقال: الّذي أذهب بصري البكاء على يوسف و قوّس ظهري الحزن على بنيامين.

فأوحى اللّه إليه أ تشكوني إلى غيري فقال: [إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي و البثّ ما أبداه من الهمّ و الحزن ما أخفاه [وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ و قال: يا ربّ أما ترحم الشيخ الكبير قوّست ظهري و أذهبت ريحانتيّ يوسف و بنيامين؟

و أتاه جبرئيل بالبشرى و قال: و لو كانا ميّتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإنّ أحبّ عبادي إليّ الأنبياء و المساكين أو تدري لم أذهبت بصرك و قوّست ظهرك؟ لأنّك ذبحت شاة و أتاك مسكين و هو صائم فلم تطعمه شيئا. فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغذاء أمر مناد ينادي: ألا من أراد الغذاء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب، و إذا كان صائما أمر مناد ينادي: ألا من أراد أن يفطر مع يعقوب فليحضر.

[وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي و أعلم من رحمة اللّه ما لا تعلمون. في كتاب النبوّة بالإسناد عن سدير الصيرفيّ عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: إنّ يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت فأجابه فقال له: ما حاجتك؟ فقال عليه السّلام: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح؟ فقال: لا، فعلم أنّه حيّ فقال: [يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ و استخبروا من شأنهما.

فلو قيل: كيف خفي أخبار يوسف على يعقوب في المدّة الطويلة مع قرب المسافة و كيف لم يعلم يوسف أباه بخبره لتسكن نفسه و يزول وجده؟

قال المرتضى قدّس سرّه: يجوز أن يكون ذلك له ممكنا و كان قادرا عليه لكنّ اللّه

ص: 58

سبحانه أوحى إلى يوسف بأن يعدل عن اطّلاعه عن خبره لتشديد المحنة على يعقوب، و للّه سبحانه أن يصعب التكليف و أن يسهّله.

و قد بلغ حزن يعقوب حزن سبعين ثكلى، قيل: عمي من البكاء. و قيل: ما عمي و لكن صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا و ما جفّت عينا يوسف من وقت فراق يعقوب يوسف إلى حين لقائه، و تلك المدّة قيل: ثمانون عاما- و ما كان على وجه الأرض عبد أكرم على اللّه من يعقوب- أو أربعون سنة.

[وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رحمة [اللَّهِ و من فرجه [إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رحمته [إِلَّا الْكافِرُونَ و في هذه الآية دلالة على أنّ الفاسق الملي ء لا يأس عليه من رحمة اللّه بخلاف ما يقول أهل الوعيد.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 88 الى 93]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

المعنى: و لمّا قال يعقوب لبنيه «اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ» خرجوا إلى مصر [فَلَمَّا دَخَلُوا] على يوسف [قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ] أي أصابنا و من يختصّ بنا الجوع و الحاجة من السنين الشداد [وَ جِئْنا] بمتاع قليل ندافع بها الأيّام دراهم رديئة زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام، و قيل: كانت البضاعة خلق الغرارة و الحبل و أمتعة رثّة. و قيل:

الصوف و السمن. و قيل: الحبّة الخضراء. و قيل: الأقط و النعال و الأدم و قيل: صوف المعز.

و قيل: دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف و الدراهم الّتي جاءوا بها ما كان فيها صورة يوسف، فما كانت مقبولة عند الناس و ما كانت رائجة. «و المزجاة» الشي ء القليل الّذي يدفع الإنسان في الزمان به.

و لمّا وصفوا شدّة حالهم قالوا: [فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ و مرادهم أن يساهلهم بأن يقيم

ص: 59

الناقص مقام الزائد و الردي ء مقام الجيّد [وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا] بالجيّد [إِنَّ اللَّهَ يثيب [الْمُتَصَدِّقِينَ على صدقاتهم.

و في كتاب النبوّة عن أبي عبد اللّه- بحذف الأسانيد- أنّ يعقوب كتب إلى يوسف:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم إلى عزيز مصر و مظهر العدل و موفي الكيل، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صاحب نمرود الّذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما، و أنجاه منها. أخبرك أيّها العزيز إنّا أهل بيت لم يزل البلاء إلينا سريعا من اللّه ليبلونا عند السرّاء و الضرّاء، و إنّ المصائب تتابعت عليّ سنين متطاولة أوّلها أنّه كان لي ابن سمّيته يوسف و كان سروري من بين ولدي و قرّة عيني و إنّ إخوته من غير امّه سألوني أن أبعثه معهم يرتع و يلعب فبعثته معهم بكره، فجاؤوا عشاء يبكون و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أنّ الذئب أكله؛ فاشتدّ لفقده حزني و كثر عن فراقه بكائي حتّى ابيضّت عيناي من الحزن.

و إنّه كان له أخ و كنت به معجبا و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري سكن بعض وجدي، و أنّ إخوته ذكروا لي أنّك سألتهم عنه و أمرتهم أن يأتوك به فإن لم يأتوك به منعتهم الميرة، و بعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا فرجعوا إليّ و ليس هو معهم و ذكروا أنّه سرق المكيال للملك، و نحن أهل بيت لا نسرق و قد حبسته عنّي و قد اشتدّ لفراقه حزني حتّى تقوّس ظهري لذلك، فمنّ عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك و طيّب لنا القمح و أسمح لنا في العسر و أوف لنا الكيل و عجّل سراح آل إبراهيم).

قال: فمضوا بكتابه حتّى دخلوا على يوسف في دار الملك و قدّموا الكتاب إلى يوسف فأخذ يوسف كتاب يعقوب و قبّله و وضع على عينيه و بكى و انتحت حتّى بلّت دموعه القميص الّذي عليه ثمّ أقبل عليهم و قال: [هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ أي بإذلاله و إبعاده عن أبيه و إلقائه في البئر و الاجتماع على قتله و بيعه بثمن و كس، و ما فعلتم بأخيه من امّه حتّى صار ذليلا بينكم؟ و لم يذكر إيّاه تعظيما له. و حاصل المعنى أنّ ما ارتكبتم ما أعظمه و أقبحه! و في هذا البيان مصدوق قوله: «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ» و قوله: [إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي فعلتم حين كنتم جاهلين، و كان هذا الكلام تلقينا

ص: 60

لهم لما يعتذرون به إليه و هذا هو الكرم إذ صفح عنهم و لقّنهم وجه العذر.

قيل: إنّ يوسف لمّا قال لهم: «هَلْ عَلِمْتُمْ الآية» تبسّم فلمّا أبصروا ثناياه و كانت كاللؤلؤ المنظوم شبّهوا بيوسف و [قالُوا] له: [أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ فرفع التاج عن رأسه فعرفوه [قالَ أَنَا يُوسُفُ و لم يقل: أنا هو [وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا] بالاجتماع [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّه [وَ يَصْبِرْ] على المعاصي و على المصائب [فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .

[قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ و فضّلك [عَلَيْنا] و ما كنّا إلّا مخطئين و آثمين فيما فعلنا [قالَ يوسف [لا تَثْرِيبَ و لا توبيخ و تقريع [عَلَيْكُمُ الآن فيما فعلتم و إنّي أطلب العفو من اللّه لكم [وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ في عفوه عنكم [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا] و قد مرّ تفسير القميص [فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ .

قال يوسف: إنّما يذهب بقميصي من ذهب به أوّلا فقال يهودا: أنا ذهبت به و هو ملطّخ بالدم فأخبرته أنّه أكله الذئب. قال: فاذهب به أنت أيضا فأفرحه كما حزنته. فحمل القميص و خرج حافيا حاسرا حتّى أتاه و كان معه سبعة أرغفة و كانت مسافة بينهما ثمانين فرسخا فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 94 الى 98]

وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

[وَ لَمَّا] خرجت القافلة و انفصلت من مصر متوجّهة نحو الشام [قالَ أَبُوهُمْ لأولاده الّذين كانوا عنده و لم يخرجوا إلى مصر: [إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

وجد ريح يوسف حين فصلت العير من مصر و هو عليه السّلام بفلسطين من مسير ثمانين فرسخا، و قيل: مسيرة شهر.

قال ابن عبّاس: إنّ الصبا استأذنت ربّها أن يأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير فأذن لها فأتته بها و لذلك يستروح كلّ محزون بريح الصبا؛ قال الشاعر:

ص: 61

فإنّ الصبا ريح إذا ما تنسّمت على نفس (قلب خ ل) محزون تجلّت همومها

قوله: [لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ و «التفنيد» تضعيف الرأي و تسفيه الشخص و «الفند» الكذب أي لو لا أن تكذّبوني و تقولون: إنّ هذا شيخ خرف و ذهب عقله. قالوا إشفاقا عليه: إنّك لفي ذهابك القديم عن الصواب في حبّ يوسف لأنّه باعتقادهم أنّ يوسف قد مات منذ سنين.

[فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ] و هو يهودا، و قيل: إنّه مالك بن زعر [أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فعاد [بَصِيراً] فعادت قواه أجمع، فقال يعقوب للبشير: ما أدري ما أثيبك به؟ هوّن اللّه عليك سكرات الموت.

[قالَ يعقوب: [أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي إنّي كنت أعلم أنّ اللّه يصدّق رؤيا يوسف و كنتم لا تعلمون قالوا: إنّ اللّه أعلمه بحياته و لم يعلمه بمكانه! روي أنّ يعقوب لمّا جاءه البشير قال للبشير: كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر! قال يعقوب:

ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمّت النعمة.

ثمّ إنّ أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه [و قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا] [قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ و ظاهر الكلام أنّه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم.

الأكثرون على أنّه أراد أن يستغفر لهم وقت السحر لأنّ هذا الوقت أوفق للإجابة.

و قال ابن عبّاس: أخّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة لأنّه أوفق للإجابة، أو أنّه أراد أن يعلم أنه هل تابوا على سبيل الحقيقة أم لا؟ و قد روي أنّ يعقوب كان يستغفر في كلّ ليلة جمعة من نيّف و عشرين سنة. و يقوم إلى الصلاة إلى وقت السحر و لمّا يفرغ من صلاته رفع يده إلى السماء و قال: اللهمّ اغفر جزعي على يوسف و قلّة صبري عليه و اغفر لأولادي ما فعلوه بيوسف. فأوحى اللّه إليه قد غفرت لك و لهم أجمعين.

و روي أن أبناء يعقوب قالوا ليعقوب و قد غلبهم الخوف و البكاء: ما يغني عنّا إن لم يغفر لنا فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو و يوسف خلفه يؤمّن و قاموا خلفهما أذلّة

ص: 62

خاشعين عشرين سنة حتّى قلّ صبرهم فظنّوا أنّها الهلكة فنزل جبرئيل و قال: إنّ اللّه تعالى أجاب دعوتك في ولدك.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 99 الى 100]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

المعنى هاهنا حذف تقديره: فلمّا خرج يعقوب و أهله من أرضهم و أتوا دخلوا على يوسف، فجنف السير إلى مصر فرحا و سرورا في تسعة أيّام فلمّا دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه و قبّله و بكى و رفعه و رفع خالته على سرير الملك، ثمّ دخل منزله و اكتحل و ادّهن و لبس ثياب العزّ و الملك فلمّا رأوه سجدوا إعظاما له و شكرا للّه عند ذلك و لم يكن يوسف في تلك المدّة يدّهن و لا يكتحل و لا يطيب.

و قيل: إنّ يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة مع ما يحتاج إليه في السفر فلمّا دنا يعقوب من مصر تلقّاه يوسف في الجند و أهل مصر، فقال يعقوب: يا يهودا أ هذا فرعون مصر؟ قال: هذا ابنك. ثمّ تلاقيا.

قال الكلبيّ: تلاقيا على يوم من مصر فلمّا دنا يعقوب بدأ بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

عن أبي عبد اللّه- بحذف الأسانيد- قال: لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله فلمّا رآه يوسف همّ بأن يترجّل له، ثمّ نظر إلى ما هو من الملك فلم يفعل فلمّا سلّم على يعقوب نزل جبرئيل عليه، و قال: يا يوسف إنّ اللّه جلّ جلاله يقول: هل منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه؟ أبسط يدك فبسطها فخرج من بين أصابعه نور فقال:

يا جبرئيل ما هذا؟ قال: هذا أنّه لا يخرج من صلبك نبيّ أبدا عقوبة على ما صنعت بيعقوب إذ لم تنزل إليه.

و قوله: [آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمّ يوسف إليه أبويه و أنزلهما عنده و عانقهما. و

ص: 63

قال أكثر المفسّرين: إنّه يعني بأبويه أباه و خالته أمّ يامين لأنّ يعقوب لمّا مضت أمّ يوسف في النفاس بأخيه بنيامين تزوّج خالة يوسف، و «بنيامين» بالعبرانيّة ابن الوجع، فسمّاها بأحد الأبوين لقيامها مقام الأمّ و لأنّ الخالة امّ كما أن العمّ يسمّى أبا، و منه قوله: «وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ» (1) و قيل: يريد أباه و امّه و كانا حيّين.

و قيل: إنّ راحيل امّه نشرت من قبرها حتّى سجدت له تحقّقا للرؤيا. و بالجملة قال لهم يوسف قبل دخولهم مصر: [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ و الاستثناء يعود إلى الأمن؛ لأنّهم ما كانوا يدخلون مصر إلّا بجواز ملوك مصر و كانوا يخافون من ملوك مصر و أنّهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثة و سبعون إنسانا، و خرجوا مع موسى و هم ستّمائة ألف و خمسمائة و بضع و سبعون رجلا.

[وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي رفعهما على سرير السلطنة إعظاما لهما و «العرش» السرير المرتفع و انحنوا على وجوههم و كان تحيّة الناس بعضهم للملوك يومئذ السجود و التكفير (2)، و لم يكونوا نهوا عن السجود لغير اللّه في شريعتهم. و قيل: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعل الأعاجم. و قيل: الهاء راجعة إلى اللّه أي سجدوا للّه شكرا على هذه النعمة. و هذا ينافي الرؤيا. و قيل: توجّهوا في السجود إليه كما يقال: صلّى للقبلة، و يراد استقبالها.

و قال عليّ بن إبراهيم: إنّ يحيى بن أكثم سأل مسائل و عرضوها على أبي الحسن عليّ بن محمّد الجواد عليهما السّلام، أحدها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن: أمّا سجود يعقوب و ولده فإنّه لم يكن ليوسف و إنّما كان ذلك طاعة للّه منهم و تحيّة ليوسف كما أنّ السجود من الملائكة كان منهم طاعة للّه و تحيّة لآدم عليه السّلام، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم، ألم تر أنّ يوسف يقول في ذلك الوقت: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ الآية» و قال يوسف: يا أبت هذا تأويل رؤياي و تصديق رؤياي الّتي رأيتها من قبل.ر.

ص: 64


1- البقرة: 133.
2- وضع اليدين على الصدر.

فائدة: إنّ من قرأ «يا أَبَتِ» بكسر التاء فعلى الإضافة إلى نفسه و حذف الياء لأنّ ياء الإضافة يحذف في النداء و أمّا إدخال تاء التأنيث في الأب فإنّما دخلت في النداء خاصّة و المذكّر قد يسمّى باسم فيه علامة التأنيث، فالاسم مثل عيسى و نفس، و الصفة نحو غلام لقيته و رجل ربعة فلزمت التاء في الأب عوضا من ياء الإضافة و الوقف عليها بأنّه يقول: يا أبه بالهاء. و أمّا يا «أبت» بالفتح فعلى أنّه أبدل من ياء الإضافة ألفا ثمّ حذف الألف كما حذف ياء الإضافة و بقيت الفتحة و قول رؤبة: «يا أبتا علّك أو عساكا» فلمّا كثرت هذه الكلمة ألزموها الحذف و القلب، و أمّا الوقف على الهاء لأنّ تاء التأنيث يبدل منها الهاء في الوقف فيغيّر الحرف بذلك في الوقف كما غيّر التنوين إذا انفتح ما قبله، بأن أبدل منه الألف.

و بالجملة فيقول الإمام: ثبت أنّ السجود من آل يعقوب إنّما كان للّه لا ليوسف قال يوسف: يا أبت هذا تعبير رءياي الّتي رأيتها من قبل قد جعلها حقّا و واقعا و صدقا في اليقظة. و قيل: كان بين الرؤيا و تأويلها ثمانون سنة. و قيل: سبعون، عن سلمان الفارسيّ. و قيل: اثنتان و عشرون. و قيل ثمانية عشر. و ولد ليوسف من زليخا: إفرائيم، و ميسان، و رحمة امرأة أيّوب، و كان بين يوسف و بين موسى أربع مائة سنة.

قوله: [وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ أي أخرجني من السجن إلى أن بلغني إلى هذه المرتبة [وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ] إلى هاهنا في هذا المقام فإنّهم كانوا يسكنون البادية و يرعون أغنامهم فيها، و «الْبَدْوِ» بسيط الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، سمّي المكان باسم المصدر فيقال: «بدو، و حضر» و قيل: إنّ «بدا» و «شعب» موضعان؛ قال كثيّر:

و أنت الّذي حبّبت شعبا إلى بداإليّ، و أوطاني بلاد سواهما

و على هذا القول ما كانوا بدويّين بل حضريّين. و إنّما بدأ يوسف بالسجن في تعداد نعم اللّه دون إخراجه من الجبّ، مع أنّه أهمّ في الذكر؟ كرما بصنيع إخوته به.

[مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و أفسد اللعين بيننا أي دخل بيننا بالحسد، و أصل النزع النخس للدابّة و حملها على الجري.

ص: 65

و احتجّوا العدليّة بهذه الآية على بطلان الجبر، لأنّه عليه السّلام أضاف الإحسان إلى اللّه و أضاف النزغ إلى الشيطان، و لو كان ذلك أيضا من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلّا إلى اللّه كما في النعم نسبها إلى اللّه إنّه هو الحكيم في أفعاله العليم بالمصلحة.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 101 الى 102]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102)

و في كتاب النبوّة بالإسناد عن أبي عبد اللّه قال: قال يعقوب ليوسف: يا بنيّ حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟ قال: يا أبه دعني، فقال: أقسمت عليك إلّا ما أخبرتني. فقال له: أخذوني و أقعدوني على رأس الجبّ، ثمّ قالوا: لي انزع قميصك، فقلت لهم: إنّي أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي و لا تبدوا عورتي، فرفع فلان السكّين عليّ و قال:

انزع، فصاح يعقوب و سقط مغشيّا عليه، ثمّ أفاق فقال: يا بنيّ كيف صنعوا بك؟ فقال يوسف: يا أبه إنّي أسألك بإله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلّا أعفيتني عن هذه المقالة، قال: فتركه يعقوب. و في رواية أنّ يوسف قال لأبيه: لا تسألني عن صنع إخوتي بي و اسأل عن صنع اللّه بي.

و بالجملة عاش يعقوب مائة و سبعا و أربعين سنة و دخل مصر على يوسف و هو ابن مائة و ثلاثين سنة، و كان بمصر سبع عشرة سنة، ثمّ توفّي و نقل إلى بيت المقدس في تابوت من ساج و وافق ذلك يوم مات عيصو أخوه فدفنا في قبر واحد، فمن ثمّ ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، ثمّ رجع يوسف إلى مصر بعد أن دفن أباه ببيت المقدس عن وصيّة منه، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة.

و في كتاب النبوّة عن أبي جعفر أنّه عليه السّلام قال: عاش يعقوب مع يوسف بمصر عامين، قال الراوي: سألته فمن كان الحجّة للّه في الأرض يعقوب أم يوسف؟ قال: كان الحجّة يعقوب و كان الملك ليوسف و كان ليوسف بعد يعقوب الحجّة و رسولا نبيّا، أما تسمع قول

ص: 66

اللّه: «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ». (1) قال أبو عبد اللّه: و لمّا جمع اللّه شمل يعقوب و أقرّ عين يوسف و أتمّ له رؤياه و وسّع عليه في ملك الدنيا و نعيمها، علم أنّ ذلك لا يبقى له و لا يدوم فطلب من اللّه نعيما لا يفنى و اشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنّى الموت و دعا به، و لم يتمنّ ذلك نبيّ قبله و لا بعده فقال:

[رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي أعطيتني ملك النبوّة و ملك مصر [وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تأويل الرؤيا خالق [السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و منشئهما لا على مثال سبق [أَنْتَ وَلِيِّي أي ناصري و حافظي [فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً] أي ثبّتني على الإيمان و أمتني مسلما [وَ أَلْحِقْنِي بأهل الجنّة.

فتوفّاه اللّه بمصر و هو نبيّ فدفن في النيل في صندوق من رخام؛ و ذلك أنّه لمّا مات تشاحّ الناس عليه كلّ يحبّ أن يدفن في محلّته لما كانوا يرجون من بركته فرأوا أن يدفنوه في النيل؛ فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل إلى جميع مصر فيكون كلّهم فيه شركاء و في بركته مستفيضون، فكان قبره في النيل في صندوق من رخام.

قوله: [ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ثمّ عاد سبحانه بعد تمام القصّة إلى خطاب النبيّ فقال: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» أي الّذي قصصت عليك من قصّة يوسف من جملة أخبار المجهولة عليك [نُوحِيهِ إِلَيْكَ على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك و يكون علمه دلالة على إثبات نبوّتك و معجزة على صدقك [وَ ما كُنْتَ يا محمّد عند أولاد يعقوب إذ عزموا على إلقائه في البئر و اجتمع آراؤهم عليه [وَ هُمْ يَمْكُرُونَ و يحتالون في أمر يوسف حتّى ألقوه.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 103 الى 107]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

المعنى: لمّا بيّن الآيات الّتي لو تفكّروا فيها عرفوا الحقّ من جهتها، و لم يتفكّروا،

ص: 67


1- المؤمن: 34.

بيّن في هذه الآية أنّ التقصير من جهتهم لا من جهته سبحانه و لا من جهتك لأنّك دعوتهم فقال: [وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ بمصدّقين نبوّتك [وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ - و «الحرص» طلب الشي ء باجتهاد في إصابته- لأنّ حرص الداعي لا يفيد إذا كان المدعوّ لا يجيب.

و سبب نزول الآية أنّ جماعة من اليهود طلبوا بيان هذه القصّة من رسول اللّه و ظنّ رسول اللّه أنّهم بعد سماع القصّة يؤمنون، فلمّا ذكرها صلّى اللّه عليه و آله أصرّوا على كفرهم؛ فنزلت.

و هذا القرآن يشتمل على منافع عظيمة و أنت لا تطلب منهم شيئا و مالا جعلا، فلو كانوا عقلاء لقبلوا و لم يتمرّدوا؛ لأنّ القرآن تذكرة لهم في دلائل التوحيد و النبوّة، و حاصل المعنى أنّك ما تطلب منهم أجرا و مالا حتّى يكون ذلك مانعا لقبولهم، فكيف لا يقبلون صلاحهم؟

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ] أي كم من آية و حجّة من العدد شئت من العلامات الدالّة على وحدانيّة اللّه من الشمس و القمر و النجوم و السماوات و الجبال و الشجر و ألوان النباتات و أحوال المتقدّمين [يَمُرُّونَ عَلَيْها] و يبصرونها [و هم معرضون عن التفكّر فيها.

قوله: [وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ قريش و عبدة الأصنام كانوا يقرّون باللّه خالقا و محييا و مميتا، و يعبدون الأصنام و يدعونها آلهة مع أنّهم كانوا يقولون: اللّه ربّنا و إلهنا و رازقنا. فكانوا مع هذه الإقرار مشركين بسبب عبادة الأصنام فحينئذ إيمانهم شرك.

و قيل: إنّها نزلت في مشركي العرب إذا سئلوا: من خلق السماوات و الأرض، و ينزل المطر؟ قالوا: اللّه؛ ثمّ هم في تلبيتهم يقولون: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.

و ثالث الأقوال أنّهم أهل الكتاب آمنوا باللّه و اليوم الأخر و التوراة و الإنجيل، ثمّ أشركوا بإنكار القرآن و إنكار نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، عن عليّ بن موسى عليه السّلام.

و رابع الأقوال أنّهم المنافقون يظهرون الإيمان و يشركون في السرّ.

ص: 68

و خامس الأقوال أنّ المراد شرك الطاعة لا شرك العبادة أطاعوا الشيطان في المعاصي الّتي يرتكبونها ممّا أوجب اللّه عليها النار، فأشركوا باللّه في طاعته و لم يشركوا باللّه شرك عبادة فيعبدون غيره، عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قول الرجل: «لو لا فلان لهلكت» و «لو لا فلان لضاع عيالي» جعل للّه شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه و هذا الشرك لا يبلغ به الكفر.

قوله: [أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ أي أ فاطمأنّوا و أمنوا هؤلاء الكفّار أن يأتيهم عذاب من اللّه يعمّهم و يحيط بهم كالغاشية الّتي تحيط و تستر السرج، مجلّلة، مجلّلة لجميعهم، و هو عذاب الاستئصال. و قيل: هي الصواعق و القوارع [أَوْ تَأْتِيَهُمُ القيامة [بَغْتَةً] فجاءة من غير ترقّب على غفلة منهم [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بقيامها، قال ابن عبّاس: تهجم الصيحة بهم و هم في الأسواق و اللقمة في فيهم و الميزان بيدهم.

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 108 الى 109]

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109)

المعنى: ثمّ أمر نبيّه أن يبيّن للمشركين ما يدعو إليه فقال: [قُلْ يا محمّد لهم [هذِهِ سَبِيلِي و طريقتي و سنّتي و منهاجي الّذي أدعوكم به و [أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ و توحيده و دينه على يقين و علم لا على وجه التقليد [أَنَا] أدعوكم [وَ مَنِ آمن بطريقتي يدعوكم إلى هذا الأمر و تنزيها للّه عمّا يشركون. و التقدير: قل هذه سبيلي و قل سبحان اللّه. و قيل: اعتراض بين الكلامين و الواو فيه مثل قولك: «قال اللّه و هو منزّه عن الشركاء».

و في هذه الآية دلالة على أنّ دعوة الخلق إلى دين اللّه لا بدّ و أن يكون على بصيرة من الداعي و يقين و فضيلة فضّلها اللّه بعض خلقه بها و هي حرفة الأنبياء قال صلّى اللّه عليه و آله: العلماء أمناء الرسل على عباد اللّه من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه.

قوله: [وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ أي إنّه سبحانه إنّما أرسل الرسل من أهل الأمصار لأنّهم

ص: 69

أرجح عقلا و علما من أهل البوادي لبعد أهل البوادي عن العلم؛ قال بعض العلماء: لم يبعث اللّه نبيّا قطّ من أهل البادية و لا من النساء.

[أَ فَلَمْ يَسِيرُوا] هؤلاء المشركون المنكرون لنبوّتك [فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين لرسلهم؟ و كيف أهلكم بعذاب الاستئصال؟

فيعتبروا و يحذروا مثل ما أصابهم [وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] يقول هذا صنيعنا بأهل الإيمان و الطاعة، و لدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا و ما فيها، أفلا تفهمون ما قيل لكم؟

قوله تعالى: [سورة يوسف (12): الآيات 110 الى 111]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

أخبر اللّه نبيّه في هذه الآية عن حال الرسل مع أممهم تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال- و في الكلام حذف لدلالة الكلام عليه و التقدير: إنّا أخّرنا العذاب عن الأمم السالفة المكذّبة لرسلنا كما أخّرناه عن امّتك يا محمّد حتّى إذا بلغوا إلى حالة يأس الرسل عن إيمانهم و تحقّق يأسهم بإخبار اللّه تعالى إيّاهم-:

[حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان القوم [فَظَنُّوا] و في هذا الضمير اختلاف قيل: إنّ الضمير راجع إلى القوم؛ إنّ القوم لمّا استبطئوا العذاب ظنّوا أنّ الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر و الظفر، فحينئذ «كذبوا» بالتخفيف.

فإن قيل: هذا إضمار قبل الذكر لأنّه لم يجر فيما سبق من الكلام ذكر المرسل إليهم فكيف يجوز عود هذا الضمير إليهم؟

قلنا: ذكر الرسل يدلّ على المرسل إليهم و إن شئت قلت: إنّ ذكرهم جرى في قوله: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» فيكون الضمير عائدا إلى الّذين من قبلهم من مكذّبي الرسل.

و أمّا قراءة التشديد فمعناه أنّ الرسل أيقنوا أنّ الأمم كذّبوهم تكذيبا لا يصدر منهم

ص: 70

الإيمان بعد ذلك فحينئذ دعوا عليهم فهنا لك أنزل اللّه سبحانه عليهم عذاب الاستئصال. و ورود الظنّ بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» (1) أي يتيقّنون. و فسّر وجوها أخر لا يليق و هو أنّ الظانّين الرسل.

روي أنّ سعيد بن جبير و الضحّاك اجتمعا في دعوة فسأل الضحّاك سعيد بن جبير عن هذه الآية فقال: «وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» بالتخفيف بمعنى و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم. فقال الضحّاك: ما رأيت كاليوم قطّ لو رحلت في هذه الآية و تفسيرها إلى اليمن لكان قليلا.

أقول: و لا يليق أن يقال: إنّ الأنبياء ظنّوا هذا الظنّ الفاسد؛ قالت عائشة:

ما وعد اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله شيئا إلّا و قد علم أنّه سيوفيه و لكنّ البلاء لم يزل بالأنبياء حتّى خافوا من أن يكذّبهم الّذين كانوا قد آمنوا بهم، و هذا الردّ و التأويل في غاية الحسن.

قوله: [جاءَهُمْ نَصْرُنا] أي لمّا بلغ الحال إلى الحدّ المذكور جاءهم نصرنا لهم [فَنُجِّيَ قرئ بنون و تشديد الجيم على البناء للمفعول و قرئ بنونين على الاستقبال بمعنى نحن نفعل بهم ذلك و نخلصهم، و إنّما حكي فعل الحال و القصّة ماضية كقوله: «هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ» (2) إشارة إلى الحاضر و القصّة ماضية.

قوله: [لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي في قصّة يوسف و قصص إخوته أو القصص من البدو إلى الختم اعتبارا لأهل العقل. و «العبرة» عبارة عن العبور عن الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، و يستنبط من المعلوم إلى المجهول بالتأمّل و التفكّر و هو أنّ التأمّل في مثل هذه الأمور مثل أن ينتهي حال رجل قد ألقوه في البئر و باعوه بثمن و كس، و حبسوه سنين متطاولة، و هو وصل من غير سبب و نسب إلى مثل هذه السلطنة العظيمة في الدنيا و الدين ليس إلّا أمر خارج عن حدّ العادة، و لا بدّ أن يكون بمشيئة غيره تحصّل هذا الأمر و ليس إلّا بتقدير القادر القاهر.

[ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان ما أدّاه محمّد حديثا يختلق كذبا، و [لكِنْ كان [تَصْدِيقَ

ص: 71


1- البقرة: 46.
2- القصص: 15.

الكتب [الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لأنّ هذه القصّة وردت على وجه الموافق للتوراة و سائر الكتب و نصب «تصديقا» على تقدير و لكن كان تصديقا كقوله: «وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» (1) أي هذه القصّة و سائر القرآن تصديق الكتب الّذي بين يديه، [وَ تَفْصِيلَ بيان [كُلِّ شَيْ ءٍ] من الحلال و الحرام و الشرائع للمؤمنين؛ لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم.

تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 72


1- الأحزاب: 40.

سورة الرعد

اشارة

مكّيّة كلّها إلّا آخر آية منها نزلت في عبد اللّه بن سلام، فإنّها مدنيّة، و قيل: إنّها مدنيّة إلّا اثنين فإنّهما مكّيّة.

فضلها: عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى و كلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، و كان يوم القيامة من الموفين بعهد اللّه.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من أكثر قراءة الرعد لم يصبه اللّه بصاعقة و إن كان مؤمنا ادخل الجنّة بغير حساب، و شفّع في جميع من يعرفه من أهل بيته و إخوانه.

ص: 73

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرعد (13): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

قد سبق ذكر فواتح السور، في المعاني عن الصادق عليه السّلام: «المر»: أنا اللّه المحيي المميت الرازق [تِلْكَ إشارة إلى أنّ هذه [آياتُ الْكِتابِ الّتي تقدّم الوعد بها، و ليست بمفتريات و لا بسحر بل قرآن و حقّ، و قيل: إنّ الكتاب عبارة عن التوراة و الإنجيل فيكون المعنى:

تلك الأخبار الّتي قصصتها عليك آيات التوراة و الإنجيل و الكتب المتقدّمة الدالّة على الأمور المؤدّية إلى المعرفة باللّه و أنّ القرآن لا يشبه شيئا من الكلام و لا يشبهه شي ء من الكلام في جامعيّته، و أنّه [الْحَقُ فاعتصم به [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يصدّقون بأنّه الحقّ و بأنّه منزّل من عند اللّه.

و لمّا ذكر أنّه منزّل منه تعالى و لكن لا يؤمنون به، ثمّ عرّف الدليل الّذي يوجب التصديق به و بخالقيّته: هو [الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] قيل: إنّ السماوات لها عمد و دعائم و لكن لا ترونها. و قيل: ليس لها دعائم و ترونها أنّها فارغة عن العمد. العيّاشيّ قال: قال الرضا عليه السّلام: فثمّ عمد و لكن لا ترونها. و العمد جمع العماد و يجوز أن يكون اسم جمع فاستدلّ سبحانه بأحوال السماوات ابتداء.

و المعنى أنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي بغير عمد، و يستحيل أن يكون بقاؤها بذواتها لأنّ الأجسام متساوية في الماهيّة و لو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز، و لو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أنّ الأحياز بأسرها متشابهة، فحصول

ص: 74

الأجرام الفلكيّة في أحيازها و جهاتها المعيّنة ليس أمر واجب لذاته، و الخلأ لا نهاية له فحصول جسم معيّن بحيّز معيّن من دون الأحياز مع أنّ الأحياز متساوية و الخلأ لا نهاية لا بدّ من تخصيص مرجّح و مخصّص.

و لا يجوز أن يقال: إنّها اختصّت و بقيت بسلسلة فوقها لأنّه يعود الكلام بتلك السلسلة و لزم المرور إلى ما لا نهاية له و هو محال؛ فثبت أنّ هذه الخصوصيّات بمدبّر غيرها تعالى شأنه العزيز، فهذا برهان قاهر على وجود الإله، و كذلك في الشمس و القمر و الأرض و النبات و ما سواه؛ لأنّ اختصاصيّتها بتحيّزاتها الخاصّ و تكيّفاتها بكيفيّات مختلفة يدلّ على تخصيص مخصّص متصرّف في ذواتها و خارج عنها قاهر عليها.

قوله: [ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى على العرش و استوى و استقرّ أمر العرش بعد خلقه، و الوجه في إدخال كلمة «ثُمَّ» في الكلام مع أنّه لم يزل كان مقتدرا أنّ المراد اقتداره على تصريفه و تقليبه و لا يوصف به إلّا بعد وجود العرش.

قوله: [وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] و ذلّلهما لمنافع خلقه و مصالح عباده، كلّ واحد منهما يجري و يتحرّك إلى وقت معيّن و هو فناء الدنيا و قيام الساعة الّتي تكوّر عندها الشمس و ينخسف القمر و ينكدر النجوم أو المراد بالأجل المسمّى منازلهما الّتي ينتهيان إليها و لا تجاوزانها، و للشمس مائة و ثمانون منزلا تنزل كلّ يوم منزلا حتّى تنتهي إلى آخر المنازل فلا يجاوزه، و ترجع إلى أوّل المنازل، و ينزل القمر كلّ ليلة منزلا حتّى ينتهي إلى آخر منازله، فهو سبحانه يدبّر الأمور كلّها من الإيجاد و الإعدام و الإغناء و الإفقار و يكلّف الخلق من أيّ جهة على كمال القدرة و الحكمة.

[يُفَصِّلُ الْآياتِ يأتي بآية في أثر آية فصلا فصلا مميّزا بعضها عن بعض ليكون أمكن للاعتبار و التفكّر [لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي توقنوا بالبعث و النشور، و في هذا دلالة على وجوب النظر المؤدّي إلى معرفة اللّه و على بطلان التقليد.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 3 الى 4]

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

ص: 75

لمّا قرّر الدلائل السماويّة أردفها بتقرير الدلائل الأرضيّة [وَ هُوَ الَّذِي بسطها طولا و عرضا ليتمكّن الحيوانات من الثبات عليها و الاستقرار فيها.

[وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جعل فوق الأرض جبالا ثابتة باقية متمكّنة في أحيازها يقال:

رسى الوتد و أرسيته، و طبيعة الأرض واحدة فاختصاص البعض بكونه الجبل دون البعض بتخليق الحكيم بالمصالح كما أنّ الأرض واحدة في الطبيعة، و الجبل واحد في الطبع، و تحصل من الأرض و الجبال الفلزّات المختلفة الأثر و المعادن المختلفة الكيفيّة كالزاج و الأملاح و القير و النفط و الكبريت، و هذه امور مختلفة من موضع واحديّ الطبع حتّى أنّه يوجد في جبل عين ماء حارّ سخين لا يمكن مسّه من شدّة الحرارة و بجنبه عين ماء زلال بارد كالثلج، و بينهما مسافة شبر بل فتر، و كيف يمكن أن يتصوّر أنّ طبيعة هذا الفتر من الأرض غير طبيعة ذلك الفتر في طرفيها فرق من جميع الجهات.

قوله: [وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي و شقّ فيها أنهارا تجري فيها المياه ليتمكّن من الشرب و السقي و لو لا الأنهار لضاع المياه؛ لأنّ الماء جسم سيّال و الأرض منبسطة. و من كلّ الثمرات [جَعَلَ فِيها] و في أصنافها صنفين أسود و أبيض و حلوا و حامضا و رطبا و يابسا و صيفيّا و شتويّا.

و الزوج قد يكون فردا و قد يكون اثنين يقال: زوج نعل و زوجين نعل. و إنّما قال:

اثنين إمّا باعتبار هذا المعنى أو للتأكيد و الزوج في الحيوان عبارة عن الذكر و الأنثى، و في الثمار عبارة عن لونين أو باعتبار الذكورة و الأنوثة؛ لأنّ جنس من النبات كذلك و إن خفي [يُغْشِي اللَّيْلَ ضياء [النَّهارَ] ليسكن الحيوانات فيه و يأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل لمعايشهم. [إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما سبق ذكره لدلالات واضحة على وحدانيّة اللّه لأهل الاستدلال و التعقّل.

[وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل منها جبل صلب لا ينبت شيئا، و منها سهل حرّ ينبت مع تقارب بعضها من بعض [وَ جَنَّاتٌ و بساتين

ص: 76

[مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ أي من أصل واحد يكون النخيل و من نخلات و اصول شتّى و «الصنو» الأصل و «الصنوان» النخلة تكون حولها النخلات و غير صنوان النخل المتفرّق.

[يُسْقى ما ذكرناه [بِماءٍ واحِدٍ] من الأنهار أو من السماء [وَ] مع ذلك [نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الطبع و الشكل و اللون و الطعم، فلو كانت بالطبع لما اختلفت طعومها و ألوانها مع كون الأرض و الماء و الهواء واحدا، و هذا دليل واضح.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يعرفون، مثلا إنّك ترى وردة واحدة من أصله واحدة في غاية الرقّة و النعومة في أرضة واحدة أحد وجهها في غاية الحمرة و الوجه الثاني في غاية السواد، أو نصف الوجه في غاية الحمرة و النصف الآخر في غاية البياض، و يستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني و نعلم أنّ نسبة الطباع و الأفلاك بالنسبة إلى هذا الورد المخصوص بالسويّة فمن أين حصل هذا الاختلاف؟

فهذا التدبّر و التعقّل يوجب لك العلم بوجود مخصّص و مدبّر، لأنّ العلم بافتقار الحادث إلى المحدث علم ضروريّ.

قوله: [سورة الرعد (13): الآيات 5 الى 6]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

العجب و التعجّب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس [وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من قول هؤلاء بتكذيبك في نبوّتك بعد أن حكموا و اعترفوا بصدقك، أو إن تعجب منهم بعبادتهم ما لا يضرّ و لا ينفع بعد أن عرفوا بهذه البيّنات من أنّه مدبّر السماوات و الأرض و خالق الشمس و القمر و الحيوان و النبات [فَعَجَبٌ إنكارهم البعث حيث قالوا: أ نبعث و نعاد بعد ما صرنا ترابا؟ و هذا منهم في غاية العجب.

و سمّي الإعادة خلقا جديدا فإذا جاز الإنشاء بالاستحالة الاولى حيث التراب صار إنسانا و الماء صار علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما ثمّ إنسانا فلم لا يجوز تعلّقه بالاستحالة الثانية بأن يجعل التراب ثانيا إنسانا لأنّ القادر على الأقوى الأكمل قادر على الأقلّ الأضعف.

ص: 77

هؤلاء المنكرون بالبعث [كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فكلّ من أنكر البعث و القيامة فهو كافر بنصّ الآية لأنّ إنكار البعث إنكار القدرة و الصدق و العلم [وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فيه قولان قيل: المراد بالأغلال كفرهم و ذلّتهم و انقيادهم للأصنام و نظيره قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» (1) قال الشاعر: «لهم عن الرشد أغلال و أقياد».

قال العاصي: هذا المعنى و إن كان محتملا إلّا أنّ حمل الكلام على الحقيقة أولى أو المراد أنّه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة و الدليل عليه قوله تعالى: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» (2).

[وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و في الآية صراحة على تأييد عذاب الكفّار.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 6]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

[وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا محمّد هؤلاء المشركون بالعذاب قبل الرحمة، و بالعقاب الّذي توعّدوا به على التكذيب قبل الثواب الّذي وعدوا به على الإيمان و ذلك حين قالوا: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» (3) و [قَدْ] مضت [مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي العقوبات و هو ما حلّ بهم من المسخ و الخسف و الغرق و قد سلك هؤلاء طريقتهم فكيف يتجاسرون على استعجالهم؟ و «المثلة» العقوبة المبيّنة في المعاقب شيئا من أثرها كتغيّر في الصورة تبقى تغيّر قبيح أو خزي و فضيحة، و المعنى: و قد وقعت المثلات بأقوام قبلهم.

[وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال المرتضى: في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمؤمنين من أهل القبلة؛ لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأنّ قوله تعالى: «عَلى ظُلْمِهِمْ» إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين كقولك:

«أنا أودّ فلانا على عيبه و أصله على هجره» و أصحاب السنّة و الجماعة تمسّكوا بهذه الآية

ص: 78


1- يس: 8.
2- غافر: 72.
3- الأنفال: 32.

على أنّه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن استحقّه.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 7]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

. [وَ يَقُولُ الكفّار لم لم ينزل عليك آية غير القرآن مثل الناقة و العصا؟ و السبب في هذا الاقتراح أنّهم أنكروا كون القرآن من المعجزات و طلبوا غير الآيات الّتي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى و عيسى و مثل أن اجعل الصفا لنا ذهبا حتّى نأخذ منه ما نشاء، و إنّما لم يظهر اللّه تلك الآيات لأنّه لو أجاب أولئك لاقترح قوم آخرون آية اخرى، و كذلك كلّ كافر فكان يؤدّي إلى غير نهاية.

[إِنَّما أَنْتَ مخوّف و هاد لكلّ قوم، و ليس إليك إنزال الآيات، و قيل: معناه إنّما أنت منذر يا محمّد [وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ] يهديهم و داع يرشدهم و في رواية اخرى عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية قال رسول اللّه: أنا المنذر و عليّ الهادي من بعدي يا عليّ بك يهتدي المهتدون.

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل بالاستناد عن إبراهيم ابن الحكم بن ظهير عن أبيه عن حكم الجبير عن أبي بردة الأسلميّ قال: دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالطهور، و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول اللّه بيد عليّ بعد ما تطهّر فألزمها بصدره، ثمّ قال: إنّما أنت منذر، ثمّ ردّها إلى صدر عليّ، ثمّ قال: و لكلّ قوم هاد، ثمّ قال: إنّك منارة الأنام و غاية الهدى و أمير القرى و أشهد على ذلك أنّك كذلك.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 8 الى 12]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12)

. النظم: إنّه تعالى لمّا قال: «وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» في إنكار البعث و ذلك

ص: 79

لأنّهم أنكروا البعث بسبب أنّ أجزاء الأبدان عند تفرّقها و تفتّتها يختلط بعضها ببعض و لا يبقى الامتياز فبيّن في هذه الآية أنّه إنّما لا يبقى الامتياز في حقّ من لا يكون عالما بجميع المعلومات.

ثمّ احتجّ على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات بأنّه [يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي يعلم ما تحمله من الولد أنّه من أيّ الأقسام أ هو ذكر أم أنثى تامّ أو ناقص حسن أم قبيح طويل أم قصير و غير ذلك من الحاضرة و المترقّبة فيه [وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ و ما تغيضه الأرحام و «الغيض» النقص و الضمير محذوف [وَ ما تَزْدادُ] أي تأخذه زيادة و منه قوله: «وَ ازْدَادُوا تِسْعاً» (1).

و اختلفوا فيما تغيضه الرحم و تزداده على وجوه: الأوّل: عدد الولد من زمن العلوق إلى زمن الولادة و المولود في أقل مدّة الحمل و المولود في أكثرها. قيل: إنّ الضحّاك ذو السلعة ولد في سنتين و هرم ابن حيان في أربع سنين و من ذلك سمّي هرما، و يروى في العدد أنّ شريكا كان رابع أربعة.

[وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ أي في علمه في كمّه و كيفه بقدر و حدّ لا يجاوزه و لا ينقص عنه، و عالم ما غاب عن الخلق علمه و ما شهدوه، و قيل: الغائب هو المعلوم و الشاهد هو الموجود.

و هو الكبير السيّد الملك القادر على كلّ شي ء بقدرته.

[سَواءٌ مِنْكُمْ و كلمة سواء يطلب في معناه اثنين و إلّا لا يفرض التساوي لأنّ التساوي لا يتحقّق إلّا في الاثنينيّة، و المعنى: ذو سواء أو متساو في علمه [مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ منكم في نفسه و أخفاه أو أعلنه و أبداه [وَ مَنْ هُوَ] مستتر بالليل و [مُسْتَخْفٍ أو ظاهر أي يعلم و يرى ما أخفاه الليل بظلمته و أظهره النهار بضوئه.

[لَهُ مُعَقِّباتٌ الضمير إمّا راجع إلى «مَنْ» في قوله: «مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ» أو إلى اللّه أو إلى النبيّ في قوله: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» و من كلّ شي ء ما خلف يعقّب ما قبله، و «المعقّبات» الملائكة الحفظة و وصفهم بالمعقّبات لأنّ ملائكة الليل يعقّب ملائكة النهار و بالعكس، أو لأنّهم يتعقّبون أعمال العباد و يتبعونها بالحفظ و الكتب من أعمالكم، و منه العقاب لأنّه يعقّب

ص: 80


1- الكهف: 25.

الجرم، و منه العقاب لأنّه يتبع الصيد، و أيضا معقّبات يحفظونكم عن وجوه المهالك و الجنّ و الإنس و الهوامّ، و يحفظونه بما لم يقدّر نزوله؛ فإذا جاء المقدّر بطل الحفظ؛ قال كعب: لو لا أنّ اللّه وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم و مشربكم و عوراتكم لتتخطّفكم الجنّ.

[إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة و الحال الجميلة [حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر.

قوله: [وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً] و بلاء و مرضا فلا مردّ لبلائه [وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ يلي أمرهم و يمنع العذاب عنهم.

فلو قيل: إنّ الملائكة ذكور فلم ذكر في جمعها جمع الإناث و هو المعقّبات؟

قال الفرّاء: واحد المعقّبات معقّب، و الجمع معقّبة، و معقّبات جمع الجمع كما قالوا: رجالات جمع الجمع من رجال، و قال الأخفش: إنّما انّثت لكثرة ذلك منها نحو علّامة و نسّابة، و هو ذكر.

و معنى يحفظونه من أمر اللّه على التقديم و التأخير و التقدير: له معقّبات من أمر اللّه يحفظونه أي أمرهم اللّه بحفظه. و قيل: فيه إضمار أي ذلك الحفظ ممّا أمر اللّه به، فحذف الاسم و بقي خبره كما يكتب على الكلس السفان و المراد الّذي فيه السفان، و قيل: «من» بمعنى الباء أي بأمر اللّه، و الدليل عليه أنّه لا قدرة للملائكة على أن يحفظوا أحدا من أمر اللّه و قضائه.

و هذا البيان يعني أنّ الملائكة الحفظة للإنسان معيّنين لحفظ البشر من المهالك و مدبّرة لأمورهم كلام مقبول عند الفلاسفة و الحكماء و أصحاب الطلسمات، النهاية أنّهم عبّروا بالأرواح الفلكيّة و خالفوا لسان الشرع بهذه الطريقة المقبوحة، و من المعلوم بالبداهة في العقل أن يكون الملك المشتعر الحيّ المقتدر بقدرة اللّه حافظا لنوع البشر أقرب للقبول من أن يكون الكوكب حافظا و مدبّرا للإنسان لأنّ المنجّمين يعتقدون على أنّ التدبير في كلّ يوم لكوكب على حدة، و كذلك في كلّ ليلة على حدة، و يقولون: إنّ لتلك الكواكب أرواحا و تلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح، و كذلك قولهم في تدبير القمر و الهيلاج و الكدخدا، و كذلك أصحاب الطلسمات، و كذلك يقولون: أخبرني الطباعيّ

ص: 81

التامّ و مرادهم بالطباعيّ التامّ أنّ لكلّ إنسان روحا فلكيّة يتولّى إصلاح مهمّاته و دفع بليّاته و آفاته.

و من هذه الأقوال لعلّ انتشاء مذهب التصابؤ. و باليقين أن يكون يؤيّدك و يحفظك ملك من ملائكة اللّه أحرى بالقبول من أن يؤيّدك و يحفظك المرّيخ مثلا لأنّ القوّتين ناشئتان من غيرهما، فإن قلت: منهما- عياذا باللّه- فقد تعدّدت الآلهة إلى عدد لا يتناهى، و إن قلت: من غيرهما. فتعلّق هذه القوّة بالملك أقبل بالقبول من تعلّقها بجرم كمد مجهول الماهيّة و الصورة كالقمر مثلا على أنّ تمام كتب السماويّة ناطقة بذلك، آمنت بما أنزل إليه في كتبه على لسان رسله.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 15]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (15)

لمّا بيّن في الآية السابقة بأنّ اللّه إذا أراد بقوم سوء لا مردّ لقضائه أخبر في هذه الآية كمال قدرته فقال: [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ تخويفا و إطماعا فأقام الخوف و الطمع مقام التخويف و الإطماع، و الخوف من الصواعق الّتي يكون معها و طمعا في الغيث الّذي ينزل، أو خوفا لمن يخاف ضرر المطر، و طعما لمن يرجو الانتفاع به فيشبه النعم و الإحسان من بعض الوجوه، و يشبه العذاب و القهر من بعض الوجوه؛ قال المتنبّي:

فتى كالسحاب الجون يخشى و يرتجى يرجّى الحيا منها و يخشى الصواعق

و اعلم أنّ حدوث البرق دليل عجيب على قدرة اللّه، و بيانه أنّ السحاب جسم مركّب من أجزاء رطبة مائيّة، و من أجزاء هوائيّة و ناريّة، و لا شكّ أنّ الغالب عليه الأجزاء المائيّة، و الماء جسم بارد رطب، و النار جسم حارّ يابس، و كوّن الضد في الضدّ، فظهور الضدّ من الضدّ التامّ على خلاف العقل و العادة، فلا بدّ من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ.

ص: 82

فإن قيل: إنّ الريح احتبس في داخل حرم السحاب و استولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه، ثمّ إنّ الريح يمزّقه تمزيقا عنيفا فيتولّد من التمزيق الشديد حركة عنيفة و الحركة موجبة للسخونة و هي البرق.

و هذا الكلام خلاف المعقول لأنّه لو كان كذلك لوجب أن يقال: أينما يحصل البرق يكون يحصل الرعد لأنّ الرعد صوت حادث من تمزّق السحاب و ليس الأمر كذلك؛ فإنّه كثيرا مّا يحدث البرق القويّ من غير حدوث الرعد، ثمّ إنّ السخونة الحاصلة بسبب قوّة الخرق و الحركة تعارضه القوّة المائيّة الموجبة للبرد و الرطوبة و عند حصول هذا العارض القويّ كيف تحدث الناريّة؟ بل نرى النيران العظيمة تنطفئ بصبّ الماء عليها و أنّ السحاب أكثره ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة ناريّة؟

على أنّ النار الصرفة لا لون لها بمذهبكم، فمن أين حدث ذلك اللون؟ فثبت أنّ حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالص لا يمكن إلّا بأمر خارج من الطبيعة، و ذلك بقدرة الحكيم القادر.

النوع الثاني من الدلائل في هذه الآية قوله تعالى: [وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ بالماء و «السحاب» اسم جنس و الواحدة سحابة، و اعلم أنّ هذا أيضا من دلائل القدرة و ذلك لأنّ هذه الأجزاء المائيّة إمّا أن نقول: إنّها حدثت في جوّ الهواء و يقال: إنّها تصاعدت من وجه الأرض؛ فإن كان الأوّل وجب أن يكون حدوثها بإحداث محدث قادر، و أمّا الثاني و هو أن يقال: إنّ تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض، فهذا باطل لأنّ الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة و تارة تكون صغيرة و تارة تكون متقاربة، و اخرى تكون متباعدة و تارة تدوم مدّة نزول المطر، و تارة تقصر المدّة فاختلاف هذه الكيفيّة مثلا في يوم واحد مع أنّ طبيعة الأرض واحدة و طبيعة الشمس المسخّنة للحارّات واحدة من غير تخصيص الفاعل المختار غير معقول، على أنّ التجربة دلّت على أنّ للتضرّع و الدعاء في نزول الغيث أثرا محسوسا فعلم أنّ المؤثّر فيه القدرة لا الطبيعة و الخاصّيّة.

و من آياته الدالّة على القدرة قوله: [وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ تسبيح الرعد دلالته على

ص: 83

تنزيه اللّه و وجوب حمده فكأنّه هو المسبح، و قيل: إنّ الرعد هو الملك الّذي يسوق السحاب و يزجره بصوته، و هو يسبّح اللّه تعالى و يحمده، روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ ربّكم سبحانه يقول: لو أنّ عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل و أطلعت عليهم الشمس بالنهار و لم أسمعهم صوت الرعد.

و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان من يسبّح الرعد بحمده. و روى سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: كان رسول اللّه إذا سمع الرعد و الصواعق قال: اللّهم لا تقتلنا بغضبك، و لا تهلكنا بعذابك و عافنا قبل ذلك. و قال ابن عبّاس: من سمع صوت الرعد فقال:

سبحان الّذي يسبّح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و هو على كلّ شي ء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته.

و في كيفيّة تسبيح الرعد أقوال: الأوّل أنّ الرعد اسم ملك من الملائكة و هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح و التهليل.

قال ابن عبّاس: إنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرعد ما هو؟ فقال: ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه. قالوا فما الصوت الّذي نسمع؟

قال: زجره السحاب.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه ينشئ السحاب الثقال فينطق أحسن النطق و يضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد و ضحكه البرق.

و اعلم أنّ البنية ليست شرطا لحصول الحياة مع الإرادة من اللّه، فيخلق الحياة و العلم و النطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له، و كيف يستبعد ذلك و نحن نرى أنّ السندل يتولّد في النار، و السمك في الماء، كما كان يسبّح الجبال في زمن داود و تسبيح الحصيّ في زمن محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: إنّ الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص و لو كان كذلك فإنّ الرعد يسبّح اللّه؛ لأنّ التسبيح و ما يجري مجراه ليس إلّا وجود لفظ يدلّ على حصول التنزيه للّه فلمّا كان حدوث هذا الصوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص و الإمكان فهو في الحقيقة تسبيح و هو معنى قوله: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) و هذا تأويل، و أيّ شي ء يلزمنا بهذه التأويلات مع علمنا بالقدرة الإلهيّة؟ فيحمل الكلام

ص: 84


1- الإسراء: 44.

على ظاهره كما نطقت به الشريعة الغرّاء و الكتاب المبين.

قوله: [وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ و خشيته قال ابن عبّاس: و الملائكة تسبّح اللّه من خيفته لا كخوف ابن آدم، و لا يشغلهم عن عبادة اللّه طعام و لا شراب و لا شي ء.

قوله: [وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ] و يصرفها عمّن يشاء إلّا أنّه حذف للدلالة. قال الباقر عليه السّلام: إنّ الصواعق تصيب المسلم و غير المسلم و لا تصيب ذاكرا. قوله: [وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي هؤلاء الجهلة مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد أي يفتلون عن مذهب الحقّ؛ لأنّ معنى الجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج.

و اعلم أنّ آية الصاعقة الناشئة من السحاب أمر عجيب جدّا و مع أنّها تتولّد من السحاب المملوءة من الماء ربما نزلت و غاصت في البحر و تحرق الحيتان مع أنّها تغوص في لجج البحر، و لا يؤثّر الماء فيها من قوّتها و حدّتها بل شاهدنا مرارا أنّها تحرق المسامير في الأبواب و تجعلها فحما. فكيف يمكن أن تتصوّر أنّها قد أحدثت من اصطكاك السحاب و الخرق! لأنّها لو كانت من أسباب عالم الطبيعة لا بدّ و أن تكون حرارتها أضعف من حرارة الموجودة لمجاورة ماء السحاب و مسّها فضلا عن غوص البحر، فاختصاصها بمزيد هذه القوّة الغريبة بتخصيص الفاعل و الأمر الغيبيّ علمه عنّا، فتأمّل (1).

و بالجملة لمّا بيّن هذه الآيات قال سبحانه: هؤلاء الكفّار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في اللّه، و يحرّفون الناس عن الإيمان به و الحال أنّه سبحانه شديد الحول و القوّة و العقوبة. و في لفظ المحال أقوال قيل: الميم زائدة و هو من الحول و نحوه مكان. و قيل:

أصليّة لأنّ الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوّله ميم مكسورة فهي أصليّة نحو «مهاد و مداس و ملاك و مداد» و قيل: أخذ مادّته من «محل» إذا عرضه للهلاك و يحمل إذا تكلّف استعمال الهلاك بطريق لا يتوقّعونه أو عبارة عن المدّة سنة، ماحلة أي شديدة.

قوله: [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ أي للّه دعوة الحقّ قيل: دعوة الحقّ قول «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* و دعوته و تنزيهه هي الحقّ و الصدق فذكر وجوده بالثناء عليه بالإلهيّة و الكمال هو الحقّ في الأذكار و اعتقاد جود واجبيّته هو الحقّ في الاعتقادات.

[وَ] الآلهة [الَّذِينَ يدعونهم الكفار غير اللّه [لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ] ممّا يطلبونه ه.

ص: 85


1- توغل رحمه اللّه فيما لا ينبغي له.

[إِلَّا] استجابة كاستجابة باسط [كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ] و هو عطشان و الماء جماد لا يشعر ببسط كفّيه و لا بعطشه و لا يقدر أن يجيب دعاءه و يبلغ فاه؛ لأنّه لا يحسّ بدعائه، و قيل: شبّهوا هؤلاء الداعين في قلّة فائدة دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشرا أصابعه و لم يصل كفّاه إلى ذلك الماء [وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ .

قوله: [وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً] اعلم أنّ في المراد بهذا السجود قولين:

الاول السجود الحقيقيّ أي وضع الجبهة على الأرض و على هذا المعنى ففيه و جهان:

أحدهما أنّ اللفظ و إن كان عامّا لكنّ المراد به الخصوص و هم المؤمنون في الأرض و الملائكة في السماء و بعض المؤمنين يسجدون للّه طوعا بسهولة و نشاط و ميل، و من المسلمين من يسجد كرها لصعوبة ذلك عليه مع أنّه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى.

و الثاني أنّ اللفظ عامّ و المراد أيضا العامّ. و على هذا ففي الآية إشكال؛ لأنّه كلّ من الأرض لا يسجدون لأنّ الكفّار لا يسجدون.

و الجواب من وجهين: الأوّل أنّ المراد «وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ» أي شأنهم وجوب السجود، و يجب عليهم أن يسجدوا فعبّر عن الوجوب بالوقوع و الحصول. و الثاني و هو أنّ المراد من السجود الاعتراف بالعبوديّة و كلّ من في السماوات و الأرض يعترفون بالعبوديّة على ما قال: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»* (1) و نظير هذه الآية «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» (2) أي في نفس الأمر كذلك (3).

قوله: [وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ أي كلّ شخص سواء كان مؤمنا أو كافرا فإنّ ظلّه يسجد للّه. في التفسير أنّ الكافر يسجد للصنم و ظلّه يسجد للّه. قال ابن الأنباريّ:

لا يبعد أنّ اللّه يخلق للظلال عقولا و أفهاما يسجد و يخشع للّه كما جعل اللّه للجبال أفهاما اشتغلت بتسبيح اللّه و يظهر فيها أثر للتجلّي. و قيل: إنّ المراد من سجود الظلال و أمثالها ميلانها من جانب إلى جانب فهي منقادة مستسلمة في طولها و قصرها.د.

ص: 86


1- العنكبوت: 61.
2- البقرة: 117.
3- لم يذكر القول الثاني من القولين في السجود.

و إنّما خصّص الغدوّ و الآصال بالذكر لأنّ الظلال إنّما تعظم و تكثر في هذين الوقتين.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

لمّا بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للعبادة عقّبه بما يجري مجرى الحجّة على ذلك فقال: [قُلْ يا محمّد لهولاء الكفّار [مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و مدبّرهما على ما فيهما من البدائع؟ فإذا استعجم عليهم الجواب و لا يمكنهم أن يقولوا: الأصنام المنحوتة، فقل أنت لهم: اللّه ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما من الأنواع.

فإذا أقرّوا بذلك [قُلْ لهم على وجه التبكيت و التوبيخ: [أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] توجّهون عبادتكم إليهم و الحال أنّهم [لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا]، و من لا يملك لنفسه فبالحريّ و الأولى أن لا يملك لغيره فكيف يستحقّ العبادة؟ و اعلم أنّ الأمر الّذي لا يجاب الخصم إلّا به لا يمتنع أن يبادر السائل إلى ذكره ثمّ يورد الكلام عليه تفاديا من التطويل.

ثمّ ضرب سبحانه مثلا بعد إلزام الحجّة فقال: كما لا يستوي الأعمى و البصير و الظلمات و النور كذلك لا يستوي الكافر و المؤمن؛ لأنّ المؤمن يعبد اللّه الّذي يملك النفع و الضرّ و الكافر بعكسه.

[أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ] أي هل هؤلاء الشركاء الّذين جعلهم الكفّار شركاء للّه في العبادة خلقوا أشياء أو أمورا مثل خلق اللّه من الأجسام و الألوان و الطعوم و الأرائيح و الحياة؟

[فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فاشتبه عليهم ذلك حتّى يشتبه لهم ما الّذي خلق اللّه و ما الّذي خلق الأصنام، فإذا لم يكن إلّا و كذلك و لم يبق شبهة فقل لهم: [اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ] القديم لذاته لا ثاني له القاهر سواه.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 17 الى 18]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (18)

ص: 87

المعنى: لمّا شبّه المؤمن و الكافر و الإيمان و الكفر بالأعمى و البصير و الظلمات و النور ضرب للإيمان و الكفر مثلا آخر فقال: [أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ] بقدرها و من حقّ الماء أن يستقرّ في الأودية المنخفضة عن الجبال بمقدار سعة تلك الأودية و ما زاد ينبسط على الأرض و من حقّ الزبد و الوغف الّذي يحتمله الماء أن يطغو و يربو عليه ثمّ يتبدّد في الأطراف و يضمحلّ.

شبّه سبحانه الحقّ و الإسلام بالماء الصافي النافع للخلق و الباطل بالزبد الذاهب الباطل الّذي لا ينفع للناس أبدا، فالماء مثل القرآن الّذي يوجب اليقين المفيد، و الوساوس الباطل مثل الزبد الّذي لا يفيد إلّا الشكّ. ثمّ ذكر نوعا آخر من الزبد غير المفيد الّذي لا يطّهر إلّا بالنار كالذهب و الفضّة و الرصاص ممّا يذاب لاتّخاذ الحلية و جواهر الأرض يتّخذ منها الأواني مثل زبد الماء؛ فإنّ هذه الأشياء الّتي تستخرج من المعادن و توقد عليها النار لتميّز الخالص من الخبيث لها فإنّه أيضا ينفصل عنها نوع من الزبد و الخبيث لا يفيد أصلا بل يضيّع و يبطل و يبقى الخالص، فكذلك الكفر و الإيمان فالزبد يجمع منها و يذهب و يترك هدرا و يلقى بحيث لا ينتفع به، و الماء الصافي و الأعيان من الجواهر فيمكث و ينتفع به الناس [كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ .

قوله: [لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى قيل: إنّه تمّ الكلام عند قوله: «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ثمّ استأنف بقوله: «لِلَّذِينَ». و قيل: متّصل بما قبله يعني أنّ الّذي يبقى مثل الّذين استجابوا لربّهم و الّذي يذهب جفاء مثل الّذين لا يستجيب. و المراد ب «الذين استجابوا» الّذين أطاعوه و آمنوا به فلهم الحسنى أي لهم الحالة الحسنة و هي الجنّة.

[وَ الَّذِينَ ما أطاعوه و آمنوا به [لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ] يضاعف [مِثْلَهُ جعلوا ذلك فدية عن أنفسهم من العذاب لا يقبل منهم، و مفعول «لَافْتَدَوْا» محذوف، هؤلاء الموصوفين لهم عدم قبول عذرهم بالفداء و عدم العفو- أجارنا اللّه من هذه العقوبة- و [لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لأنّ كفرهم أحبط أعمالهم [وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ المقرّ و المأوى و سوء الحساب، أخذهم بذنوبهم كلّها من دون أن يغفر لهم بشي ء، و من نوقش في الحساب عذّب و الكافر يحاسب

ص: 88

للتقريع و التوبيخ. و قيل: إنّ المراد من سوء الحساب سوء الجزاء.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 24]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

المعنى: [أَ فَمَنْ يَعْلَمُ بيّن الفرق بين المؤمن و الكافر. أخرج الكلام مخرج الاستفهام و المراد الإنكار إشارة إلى المثل المتقدّم ذكره. و لا يكون متساويا من يعلم [أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في هذا القرآن [مِنْ رَبِّكَ هو [الْحَقُ مع من هو كالأعمى الّذي لا يبصر.

إنّما يتعقّل و يبصر من هو ذو لبّ و إدراك فحال العالم كالبصير، و الجاهل كالأعمى و العالمون هم [الَّذِينَ يُوفُونَ و يؤدّون ما عهد اللّه إليهم بإتيانه و ألزمهم إيّاه عقلا و سمعا فالعقد العقليّ ما جعله في عقولهم من اقتضائه بصحّة امور و فساد امور كاقتضاء العقل للفاعل و المصنوع للصانع و أنّ للعالم خالق غير العالم، و العهد الشرعيّ ما أخذه النبيّ على المؤمنين من الميثاق المؤكّد بأن يطيعوه و لا يعصوه في الأوامر منه و النواهي.

قوله: [وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قيل: المراد الإيمان بجميع الأنبياء و الكتب و قيل: هو صلة محمّد و معاونته و قيل: صلة الرحم. و روى أصحابنا أنّ أبا عبد اللّه لمّا حضرته الوفاة أوصى قال: أعطوا الحسن بن الحسين بن عليّ بن الحسين و هو الأفطس سبعين دينارا. فقالت له امّ ولد له: أ تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ فقال لها: و يحك أما تقرئين قول اللّه: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» و قيل: هو ما يلزم من صلة المؤمنين بالأخوّة بأن يتولّوهم و ينصروهم و يذبّ عنهم، و يدخل فيه صلة الرحم و غير ذلك؛ قال رسول اللّه: صلة الرحم و برّ الوالدين يهوّنان الحساب ثمّ تلا هذه الآية. و روى محمّد بن الفضيل عن موسى بن جعفر في هذه الآية قال: صلة آل محمّد معلّقة بالعرش يقول: اللّهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كلّ رحم و روى الوليد بن أبان عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قلت له هل على الرجل في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم أين ما قال اللّه:

«وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلخ».

ص: 89

قوله: [وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ و يخافون عقاب ربّهم في قطعها [وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ أي المداقّة و المناقشة عند الحساب، فليكن المؤمن خائفا من المداقّة في الحساب.

قوله: [وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ] أي الّذين صبروا على القيام بما أوجبه اللّه عليهم و على البلاء من الأمراض و العقوبة و عن معاصي اللّه لطلب ثواب اللّه. و معنى الوجه عبارة عن الإخلاص و ترك غيره تقول في تعظيم الشي ء: هذا وجه الرأي و هذا نفس الرأي، للرأي المعظم، يريد خالصة و ماحضة [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] أي أدّوها بحدودها و داموا على فعلها [وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً] ظاهرا و باطنا [وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ] أي يدفعون بالطاعة المعصية و بالعمل الصالح العمل القبيح كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمعاذ بن جبل: إذا عملت سيّئة فاعمل حسنة بجنبها تمحها و قيل: معناه يدفعون إساءة من أساء إليهم بالإحسان و لا يكافئون، إذا أحرموا أعطوا، و إذا ظلموا عفوا، و إذا قطعوا و صلوا و قيل: يدفعون بالتوبة المعصية [أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] أي هؤلاء الموصوفين لهم ثوابهم الجنّة و العاقبة المحمودة أي الدار المحمودة هي جنّات عدن بساتين إقامة تدوم و لا تفنى. و قيل: هي الدرجة العليا و سكّانها الشهداء و الصدّيقون. و قيل: قصر من ذهب لا يدخله إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل.

ثمّ بيّن ما يتكامل به سرورهم من اجتماع قومهم معهم فقال: [يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ أي أولادهم من آمن منهم لأنّ من إتمام السرور اجتماعهم بشرط القابليّة [وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنّة الثمانية، و قيل: من كلّ باب من أبواب البرّ كالصلاة و الزكاة و الصوم أو أبواب قصورهم و بساتينهم بالتحيّة من اللّه و التحف و الهدايا و يقولون: [سَلامٌ عَلَيْكُمْ و القول محذوف لدلالة الكلام عليه أي سلّمكم اللّه من الأهوال و المكاره بصبركم على المكاره و الشدائد [فَنِعْمَ عاقبة [الدَّارِ] الجنّة ما أنتم فيه من الكرامة في داركم.

و اعلم أنّ الصبر على ترك المعاصي و أداء الطاعات مشروط بكونه ابتغاء لوجه اللّه لا أن يكون مقصود الصابر أن يقال له: ما أصبره و أشدّ قوّته على النوازل! أو يصبر لئلّا يعاب بسبب الجزع، أو يصبر لئلّا يحصل له شماتة الأعداء، أو يصبر لعلمه بأن لا فائدة في

ص: 90

الجزع، و كلّ هذه الأقسام خارج عن شمول الابتغاء. أمّا إذا صبر على البلاء لعلمه بأنّ ذلك البلاء قسمة حكم بها القسّام العلّام المنزّه من الباطل و السفه بل لا بدّ أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة و مصلحة و رضي بذلك حقيقة، فهذا وجه الابتغاء و مقام الصدّيقين.

قال الواحديّ: العقبى كالعاقبة و يحوز أن يكون مصدرا كالشورى و القربى و الرجعى، و قد يجي ء على فعلى كالنجوى و الدعوى و على فعلى كالضيزى و الذكرى.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 25 الى 29]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)

لمّا بيّن حال السعداء أتبعها بذكر الأشقياء ليكون البيان كاملا فقال:

[وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ و ذكرنا معنى العهد، و نقصوا العهد من أحكامه، و قطعوا أمورا أمروا بوصلها و أفسدوا في الأرض بالدعاء إلى غير اللّه، أو بقتال النبيّ و المؤمنين أو بالعمل فيها بمعاصي اللّه و الظلم لعباده و التخريب في بلاده [أُولئِكَ لَهُمُ الإبعاد من رحمة اللّه و التبعيد من جنّته [وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] ضدّ العقبى أي عذاب النار و الخلود فيها.

[اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ] أي يوسّع على من يشاء من عباده بحسب المصلحة و يضيّقه على آخرين إذا كانت المصلحة في التضييق [وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا] بما أتوا من حطام الدنيا فرح البطر أي و فرح الّذين بسط لهم الرزق في الحياة الدنيا فكأنّه قيل: لو كانوا أعداء اللّه هؤلاء المتنعّمين لما فتح اللّه عليهم أبواب النعم و اللّذات في الدنيا فأجاب اللّه عنه بأنّه يبسط الرزق و يقدر و لا تعلّق له بالكفر و الإيمان فقد يوجد الكافر مرزوقا و يوجد المؤمن مضيّقا عليه و الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالمتاع مثل القدح و القصعة و القدر و المعول يتمتّع به زمانا ثمّ ينكسر و يفنى.

ص: 91

قوله: [وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] هلّا انزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله آية نقترحها و لم يعتدّوا بتلك الآيات قل لهم: [إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] عن طريق الجنّة بعظم معاصيه و سوء اختياره [وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ و رجع إليه بالطاعة و هم الّذين آمنوا و تطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه و اعترفوا بتوحيد اللّه و نبوّة نبيّه، و استأنسوا بذكر اللّه، و المعنى الحاضر للنفس دائما و هو العمدة.

و معنى «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ» بيّنا هذا المعنى كرارا، أي يضلّ من يشاء عقوبة على كفره و هداية إلى رحمته و جنّته استحقاقا لإيمانه و ليس المراد: إضلالا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله: [الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بدل من قوله: «مَنْ أَنابَ» قال ابن عبّاس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم و اطمأنّت. و لا ينافي الوحل و الاطمينان و هما ضدّان لأنّهم لمّا فكّروا في المعاصي و ذكر العقاب و جلوا، و الطمأنينة حين اشتغالهم بالطاعات و تصوّر المثوبات. و قيل: المراد بالطمأنينة علمهم بكون القرآن حقّا و دين محمّد حقّا و أنّ اللّه صادق في وعده و وجلهم و شكّهم بأنّهم هل ارتكبوا المعاصي؟ أو هل أتوا بالطاعة المقبولة؟

[أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ و اعلم أنّ الإكسير إذا وقعت ذرّة منه على الجسم النحاسيّ انقلب باقيا على كرّ الدهور و الأزمان و لا يفسده التراب و تكون صابرا على الذوبان في النار فإكسير معرفة اللّه و جلاله إذا وقع في القلب كذلك يغلبه جوهرا صافيا باقيا نورانيّا لا يقبل التغيّر و الفناء و التبدّل فقال: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

و بعبارة اخرى الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثّر لا يتأثّر و متأثّر لا يؤثّر و موجود يؤثّر في شي ء و يتأثّر عن شي ء؛ فالمؤثّر الّذي لا يتأثّر هو اللّه و المتأثّر الّذي لا يؤثّر هو الجسم، فإنّه ذات قابلة للصفات المختلفة و الآثار المتنافية و ليس له إلّا القبول فقط، و أمّا الموجود الّذي يؤثّر تارة و يتأثّر اخرى فهي الموجود الروحانيّة و ذلك لأنّها إذا توجّهت إلى الحضرة الإلهيّة صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة اللّه و قدرته و تكوينه و إيجاده، و إذا توجّهت إلى عالم الأجسام اشتافت إلى التصرّف فيها لأنّ عالم الأرواح مدبّر لعالم الأجسام.

ص: 92

و إذا عرفت هذا فالقلب كلّما توجّه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب و الفلق و الميل الشديد إلى الاستيلاء عليها و التصرّف فيها، أمّا إذا توجّه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهيّة حصل فيه أنوار الصمديّة و الأنوار الإلهيّة فيكون هناك ساكنا فاطمئنّت القلوب بذكر اللّه.

ثمّ إنّ القلب كلّما وصل إلى شي ء يريده فإنّه يطلب الانتقال منه إلى حالة اخرى أشرف منها؛ لأنّه لا سعادة في عالم الأجسام إلّا و فوقها مرتبة اخرى من اللذّة أمّا إذا انتهى القلب إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهيّة بقي و استقرّ فلم يقدر على الانتقال منه لأنّه ليس هناك درجة اخرى في السعادة أعلى منها و إنّما هي الدرجة ليس فوقها غيرها، نعم هذه الدرجة قابلة للزيادة و التكميل فالاطمينان قد حصل بذكره و استقرّ القلب.

[ف الَّذِينَ آمَنُوا] و أعملوا الفكر في المعرفة و القلب بالذكر و الطاعة [طُوبى لَهُمْ عن رسول اللّه: أن طوبى شجرة في الجنّة غرسها اللّه بيد قدرته تنبت الحلل و الحليّ. قيل:

أصلها في دار النبيّ و أغصانها في دور المؤمنين، و سئل عنه صلّى اللّه عليه و آله عن طوبى قال: شجرة أصلها في داري و فرعها لأهل الجنّة، ثمّ سئل ثانيا فقال: أصلها في دار عليّ. فقيل له في ذلك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ داري و دار عليّ في الجنّة بمكان واحد. و في معنى طوبى أقوال أخر قيل: فرح و قرّة عين، عن ابن عبّاس. و قيل: نعم مالهم. و «طُوبى مصدر من طاب كبشرى و زلفى، و معنى طوبى لك أي أصبت خيرا و طيبا.

و الحاصل على كلّ التقادير معناه مبالغة في نيل الطيّبات، و يدخل فيه جميع اللذّات.

و قيل: ليست بعربيّة و إنّما هي هنديّة و معناها الجنّة.

قال صاحب الكشّاف: «الَّذِينَ آمَنُوا» مبتدأ و «طُوبى لَهُمْ» خبره.

[وَ حُسْنُ مَآبٍ أي مرجع.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 30 الى 31]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30) وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

ص: 93

الكاف للتشبيه و وجه التشبيه أي مثل ذلك الإرسال الّذي أرسلنا الأنبياء قبلك أرسلناك.

النزول: نزلت الأولى في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح، فقال رسول اللّه لعليّ: اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو، و المشركون قالوا: ما نعرف الرحمن إلّا صاحب اليمامة- يعنون مسيلمة الكذّاب- اكتب بسمك اللّهم، و هكذا كان أهل الجاهليّة يكتبون. فقال النبيّ: اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه. فقال:

مشركو قريش: لئن كنت رسول اللّه ثمّ قاتلناك و صددناك فقد ظلمناك، و لكن اكتب: هذا ما صالح محمّد بن عبد اللّه. فقال أصحاب رسول اللّه دعنا: نقاتلهم، قال صلّى اللّه عليه و آله: لا و لكن اكتبوا كما يريدون، فنزلت الآية.

[كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ] قد تقدّمتها امم [لِتَتْلُوَا] و تقرأ [عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم [الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ أي و حال هؤلاء أنّهم يكفرون بالرحمن الّذي رحمته وسعت كلّ شي ء، و كفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم و إنزال هذا القرآن الكريم، قل لهم: [هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم و إليه رجوعي. و قوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» نزلت في عبد اللّه بن اميّة المخزوميّ لمّا قال:

أمّا اللّه فنعرفه و أمّا الرحمن فلا نعرفه إلّا صاحب اليمامة.

[وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ :

النظم: روي: أنّ أهل مكّة قعدوا في فناء كعبة فأتاهم الرسول و عرض عليهم الإسلام، فقال له عبد اللّه بن اميّة: سوّلنا جبال مكّة حتّى ينفسح المكان علينا، و اجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها أو أحي لنا بعض موتانا لنسأله أحقّ ما تقول أم باطل؟ فإنّ عيسى كان يحيي الموتى و لست بزعمك بأهون على اللّه منه، و كذلك و لست بزعمك أهون على ربّك من داود حيث سخّر له الجبال تسبّح معه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليها جوائجنا ثمّ نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخّرت له الريح فكما

ص: 94

زعمت لست أهون على ربّك من سليمان فنزلت «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً» و آية بإنزاله سيّرت الجبال و زعزعت عن مقارّها كما فعل ذلك بالطور لموسى.

[أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ و شقّقت و جعلت أنهارا و عيونا كما فعل بالحجر حين ضربه عليه السّلام بعصاه.

[أَوْ كُلِّمَ بسبب تلاوته [الْمَوْتى و يحيون و يتكلّمون كما وقع لعيسى لكان ذلك هذا القرآن لعظم محلّه و جلالة قدره، و يمكن أن يكون المحذوف من جواب «لو» «لما آمنوا» و حذف جواب «لو» شائع كثير في الكلام؛ قال امرؤ القيس:

فلو أنّها نفس تموت سويّةو لكنّها نفس تساقط أنفسا

قوله: [بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ] أي لكنّ الأمر للّه: إن شاء فعل و إن يشأ لم يفعل.

قوله: [أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا] قيل: اليأس هاهنا العلم في لغة النخع و احتجّوا بقول الشاعر:

ألم ييأس الأقوام أنّي أنا ابنه و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا؟

و قال أبو عبيدة:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم؟

أي ألم يعلموا، و أنكر بعض هذه اللغة كالكسائيّ، و قيل: معناه أ فلم يعلم الّذين آمنوا علما يئسوا معه من أن يكون غير ما علموه. و قيل: معناه: أ فلم ييأس الّذين آمنوا من إيمان هؤلاء الّذين وصفهم اللّه بأنّهم لا يؤمنون، و هذا المعنى قاله الزجّاج؛ لأنّه قال: أن لو يشاء اللّه و كانوا قابلين للهداية [لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً] إلى الجنّة لكنّه كلّفهم لينالوا الثواب بالتكليف و قبوله لا على سبيل الإلجاء كما مرّ هذا المعنى في الآيات كرارا.

[وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا] من كفرهم و أعمالهم الخبيثة [قارِعَةٌ] و داهية تقرعهم من الحرب و الجدب و الأسر للتنبيه و الزجر [أَوْ تَحُلُ تلك القارعة قريبا من دورهم فتجاورهم حتّى تحصل لهم المخافة لتتنبّهوا. و قيل: إنّ التاء للخطاب أي أو

ص: 95

تحلّ أنت يا محمّد بنفسك [قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي ما وعد اللّه من فتح مكّة عن ابن عبّاس قال: و هذه الآية مدنيّة. و قيل: المراد حتّى يأتي يوم القيامة [إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ ميعاده.

قال بعض المعتزلة: كالقاضي عبد الجبّار و هذا يدلّ على بطلان قول من يجوّز الخلف على اللّه في ميعاده، قال: و هذه الآية و إن كانت واردة في حقّ الكفّار إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حقّ الفسّاق. و أجاب الرازيّ بأنّ الخلف غير و تخصيص العموم غير، و نحن لا نقول بالخلف و لكنّا نخصّص عمومات الوعيد بالآيات الدالّة على العفو. انتهى كلامه.

قوله: [سورة الرعد (13): الآيات 32 الى 34]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

المعنى: اعلم أنّ القوم لمّا طلبوا سائر المعجزات المذكورة من الرسول على سبيل الاستهزاء، و كان ذلك يشقّ على الرسول و كان يتأذّى من تلك الكلمات فاللّه أنزل هذه الآية تسلية له و تصبيرا على سفاهة قومه فقال: إنّ أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم فأطلت لهم المدّة بتأخير العقوبة و أمهلتهم فلم ينتهوا [ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عقابي لهم، و هو إشارة إلى تفخيم ذلك العقاب و تعظيمه.

ثمّ عاد سبحانه إلى الحجاج مع الكفّار قوله: [أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ بالتدبير [عَلى كُلِّ نَفْسٍ و حافظ على كلّ نفس أعمالها و يرزقها كمن ليس بهذه الصفة، و المراد الأصنام الّتي لا تضرّ و لا تنفع. و يدلّ على هذا الحذف قوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» يعني أنّ هؤلاء الكفّار جعلوا للّه شركاء في العبادة.

[قُلْ يا محمّد [سَمُّوهُمْ بما يستحقّون من الصفات أي كما يوصف اللّه بالخالق و الرازق و المحيي و المميت أي إن الصنم لو كان إلها لتصور منه أن يخلق الرزق فيحقّ حينئذ أن تسمّى بالخالق

ص: 96

أو الرازق، يعني سموّهم بالأسماء الّتي هي صفاتهم، ثمّ انظروا هل يدلّ صفاتهم على جواز عبادتهم و اتّخاذهم آلهة؟ أي سموّهم ماذا خلقوا أو هل ضرّوا أو نفعوا؟ هل [تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ يعني أ تخبرون اللّه بشريك له [فِي الْأَرْضِ و هو لا يعلمه على معنى أنّه ليس و لو كان يعلم، و إنّما يقال للشي ء الحقير المستحقر الّذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر و لا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمّه إن شئت يعني أنّ أخسّ من أن يسمّى و يذكر و لكنّك إن شئت أن تضع له اسما فافعل و إنّما خصّ الذكر بالأرض لأنّهم ادّعوا أنّ له له شركاء في الأرض لا في غيرها.

قوله: [أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ يعني تموّهون بإظهار قول لا حقيقة له صورة مجازا و قيل: المراد أم بظاهر كتاب أنزل اللّه سمّيتم الأصنام آلهة.

قوله: [بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ قال الواحديّ: بل هاهنا دع كأنّه يقول: دع ذكر ما كنّا فيه من الدليل فإنّه لا فائدة في ذكره؛ لأنّه زيّن لهم كفرهم و مكرهم، فلا ينتفعون بذكر هذه البيّنات قال القاضي: لا شبهة في أنّه ذكر ذلك في مقام الذمّ لهم، و إذا كان كذلك امتنع أن يكون المزيّن هو اللّه [وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ يعني صدّهم الشيطان أو أنفسهم و بعضهم لبعض، و قرئ بالمعلوم أي أعرضوا و صرفوا غيرهم، و هو لازم متعدّ، و حجّة القراءة الثانية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»* (1).

قوله: [وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي و من يضلّله اللّه عن ثواب الجنّة لكفره [فَما لَهُ مِنْ هادٍ] يهديه، منبئ بأنّ الثواب لا ينال إلّا بالطاعة خاصّة [لَهُمْ عَذابٌ في الدنيا بالقتل و الأسر [وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ و أغلظ للنفس لدوامه و كثرته [وَ ما لَهُمْ من دافع يدفع عنهم العذاب.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 35 الى 36]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)

ص: 97


1- النساء: 166.

لمّا ذكر سبحانه عذاب الكفّار أتبعه يذكر ثواب المتّقين فقال: [مَثَلُ الْجَنَّةِ] أي شبهها و صورتها و صفتها [الَّتِي وُعِدَ] بها [الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ و ثمارها غير منقطع كثمار الدنيا [وَ ظِلُّها] لا يزول و لذّتها و نعيمها لا ينقطع بموت و لا آفة، و قيل: معناه أنّ لذّة أكل الجنّة باقية في الأفواه [تِلْكَ الجنّة عاقبة المتّقين فالطريق إليها التقوى، و عاقبة الكافرين أمرهم يؤول إلى النار.

قوله: [وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فقيل: المراد بالكتاب القرآن و قيل: المراد التوراة و الإنجيل. فعلى معنى أن تكون الكتاب القرآن المراد أصحاب النبيّ و الّذين آمنو معه فرحوا بالقرآن، و المراد من الأحزاب بقيّة أهل الكتاب و سائر المشركين لأنّه بعض معاني القرآن يخالف أحكامهم، و لهذا ينكرون. و قيل: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» هم الّذين كانوا من أهل التوراة كعبد اللّه بن سلام و أصحابه ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فأنزل اللّه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» (1) ففرحوا بذلك و كفر المشركون بالرحمن و قالوا: ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة.

و المراد من الأحزاب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه بالمعاداة و [مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قيل:

المراد بذكر الرحمن فحينئذ هو كقوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» (2) [قُلْ يا محمّد [إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ في عبادته أحدا [إِلَيْهِ أَدْعُوا] و إلى الإقرار بتوحيده و صفاته و توجيه العبادة إلى اللّه نؤتي و أدعوا [وَ إِلَيْهِ مرجعي.

قوله: [سورة الرعد (13): آية 37]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)

. الخطاب للنبيّ و المراد الامّة لئن وافقت أهواءهم أي كما أنزلنا الكتب السابقة على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان قومك حكمة عربيّة بلسان العرب و لمّا كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم في التعبير على سبيل المبالغة، و وصف القرآن بالعربيّ دليل على حدوث الكلام كما أنّ الإنزال يدلّ على الحدوث.

ص: 98


1- الإسراء: 110.
2- السورة: 32.

قيل: سبب النزول أنّ المشركين كانوا يدعونه إلى ملّة آبائهم و أن يصلّي إلى قبلتهم، فنزلت الآية [لَئِنِ وافقت [أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ باللّه و المعجزات الموجبة للعلم مالك ناصر يعينك و يمنعك عن عذابه، و «مِنَ» زائدة للتأكيد.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 38 الى 40]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (40)

النزول: عيّروا رسول اللّه بكثرة التزويج قالوا: لو كان نبيّا لشغلتة النبوّة عن تزوّج النساء، فنزلت.

المعنى: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا] من قبل رسالتك رسلا [وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً] عديدة و نساء و أولادا أكثر من نسائك و أولادك. و كان لسليمان عليه السّلام ثلاثمائة امرأة مهيرة و سبعمائة سريّة و لداود مائة امرأة، فلا ينبغي أن يستنكر منك أن تتزوّج.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى و عيّروه بأنّه لو كان نبيّا من عند اللّه لكان أيّ شي ء طلبنا منه يأتي به فأجاب اللّه عنها [وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ] و معجزة إلّا بمشيئة اللّه و أمره أظهرها، و إن شاء منعها و لا اعتراض عليه.

ثمّ إنّه صلّى اللّه عليه و آله في تبليغاته كان يخوّفهم بنزول العذاب و ظهور النصرة و ذلك الموعود كان يتأخّر احتجّوا بالتأخير على الطعن في نبوّته و قالوا: لو كان نبيّا صادقا لما ظهر كذبه فأجاب اللّه اللّه عن شبهتهم بقوله: [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يعني نزول العذاب و ظهور النصرة و كلّ أمر له وقت مكتوب معيّن في اللوح، فالآية الّتي اقترحوا لها وقت أجّله اللّه لا على شهواتهم كتب وقته في كتابه كأجل الحياة و الموت و غيره. و قيل: معناه لكلّ كتاب وقت يعمل به فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و كذلك يمحو اللّه ما يشاء و يثبت.

ثمّ أوردوا شبهة اخرى قالوا: لو كان في دعوى الرسالة صادقا لما نسخ الأحكام الّتي كان في الشرائع المتقدّمة نحو التوراة و الإنجيل لكنّه نسخها و حرّفها نحو تحريف القبلة و أمثالها فوجب أن لا يكون نبيّا؛ فأجاب اللّه بقوله: [يَمْحُوا اللَّهُ بحسب ما اقتضته مصلحة العباد

ص: 99

[وَ يُثْبِتُ بحسب المصلحة لهم.

و في معنى المحو و الإثبات أقوال:

أحدها أنّ ذلك في الأحكام من الناسخ و المنسوخ.

و الثاني أنّه يمحو من كتاب الحفظة المباحات و ما لا جزاء فيه و يثبت ما فيه الجزاء من الطاعات و المعاصي.

و الثالث يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمن فضلا و رحمة، و يسقط عقابها، عن ابن عبّاس، و يثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا و استحقاقا، عن سعيد بن جبير.

الرابع أنّه عامّ في كلّ شي ء فيمحو من الرزق و يزيد فيه و من الأجل و يزيد فيه و يمحو السعادة و الشقاوة و يثبتهما، عن ابن مسعود. و روى أبو قلابة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء و أثبتني في السعداء فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك امّ الكتاب. و روي ذلك عن أئمّتنا في دعواتهم المأثورة.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: هما كتابان سوى امّ الكتاب يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت و أمّا امّ الكتاب لا يتغيّر منه شي ء و هو أصل الكتاب الّذي اثبت فيه الحادثات و الكائنات، و روى هذه الرواية عمر بن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: سألته عن ليلة القدر فقال: ينزل اللّه فيها الملائكة و الكتبة إلى السماء الدنيا فيكتبون في أمر السنة و ما يصيب العباد و أمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة، فيعدم منه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يمحو و يثبت و عنده امّ الكتاب.

و روى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: العلم علمان: علم علّمه الملائكة و رسله و أنبياء، و علم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحد يحدث فيه ما يشاء. و روى زرارة عن حمران عن الصادق عليه السّلام قال: هما أمران موقوف و محتوم فما كان من محتوم أمضاه فما كان من موقوف فله فيه المشيئة يقضي فيه ما يشاء.

و الخامس أنّه في مثل تقتير الأرزاق و المحن و الشدائد يثبته ثمّ يزيله بالدعاء و الصدقة.

ص: 100

و السادس معناه أنّه يمحو بالتوبة جميع الذنوب و يثبت بدل الذنوب حسنات يؤيّد هذا المعنى قوله: «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» (1) و السابع أنّه يمحو ما يشاء من القرون و يثبت ما يشاء من القرون كقوله: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ» (2) و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و الثامن أنّه يمحو ما يشاء يعني القمر، و يثبت يعني الشمس. «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (3) و قيل: إنّ ابن عبّاس سأل كعبا عن امّ الكتاب فقال: علم اللّه ما هو خالق و ما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا و سمّي امّ الكتاب لأنّه الأصل الّذي كتب فيه أوّلا سيكون كذا و كذا لكلّ ما يكون فإذا وقع بعد كتب أنّه قد كان ما قيل إنّه سيكون. و الوجه في ذلك ما فيه من المصلحة لمن تفكّرت من الملائكة الّذين يشاهدونه إذا قابلوا ما يكون بما هو مكتوب فيه و علموا أنّ ما يحدث على كثرته قد أحصاه اللّه.

قوله: [وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ يا محمّد [بَعْضَ الَّذِي نعد] هؤلاء الكفّار من العذاب.

لمّا تقدّم في الآية أنّ لكلّ أمر وقتا و أجلا بيّن أنّ لعذابهم وقتا سيفعله إمّا في حياتك أو بعد وفاتك. و قوله «إما» أصله «إن» الشرطيّة و «ما» مزيدة للتأكيد. و إن نريك ما أوعدناهم في حياتك أو بعد مماتك من العذاب ما عليك و إنّما [عَلَيْكَ الإبلاغ [وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ و لا عليك الحساب.

قوله تعالى: [سورة الرعد (13): الآيات 41 الى 43]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

ص: 101


1- الفرقان: 70.
2- الإسراء: 12.
3- السجدة: 26.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 149

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] هؤلاء الكفّار [أَنَّا] نقصد [الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها] و جوانبها بالفتوح على المسلمين فننقص من أهل الكفر و نزيد في المسلمين كما أنّا فتحنا لمحمّد ما حول مكّة من القرى. أو المعنى: أ و لم يروا ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمارة و الموت بعد الحياة و النقصان بعد الزيادة لا رادّ لحكمه [وَ هُوَ سَرِيعُ المجازات على أفعال العباد ثوابا و عقابا.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الكفّار الّذين قبلهم قد مكروا بالمؤمنين و احتالوا في كفرهم و دبّروا في تكذيب الرسل بما في وسعهم فأبطل اللّه مكرهم كذلك يبطل اللّه مكر هؤلاء [فَلِلَّهِ الْمَكْرُ] أي له التدبّر و الأمر [جَمِيعاً] فيردّ مكرهم بنصب الحجج عليهم. و قيل:

معناه: يملك الجزاء على المكر، و إنّما أتى بلفظ المكر كقوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (1).

[يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إلى النفس، و قد أسند الفعل إلى العباد و هذا صريح في بطلان قول المجبّرة، و لو كان حدوث الفعل بخلق اللّه لم يكن لقدرة العبد فيه أثر فوجب أن لا يكون للعبد كسب و قد أسند سبحانه الكسب إلى النفس [وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ] و لمن العاقبة المحمودة و المذمومة.

[وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا] لك يا محمّد [لَسْتَ مُرْسَلًا] من جهة اللّه إلينا [قُلْ لهم [كَفى بِاللَّهِ شاهدا [بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ بسبب ما أظهر لكم من الآيات الدالّة على نبوّتي [وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ و اختلف فيه:

قيل: إنّه اللّه على قراءة «من» بمعنى الموصول و من قرأ «من» بالكسر على الابتداء أي و من عنده علم الكتاب.

و قيل- على القراءة الأوّليّة المشهورة-: إنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الّذين آمنوا كابن سلام و أصحابه و سلمان الفارسيّ و تميم الداريّ.

و قيل: معناه و من عنده يعني الّذي يعلم علم القرآن، فمن علم الكتاب القرآن و عرف جامعيّته من المعارف يعرف أنّه معجزة و دليل على صدق نبوّتك فحينئذ شهادة اللّه

ص: 102


1- الشورى: 40.

على نبوّته عليه السّلام إنزال القرآن على وفق دعواه، و لا يعلم كون القرآن معجزا إلّا أن يعلم علم القرآن.

و قيل: إنّ المراد به عليّ بن أبي طالب و الأئمّة الهداة، و هذا القول الأخير عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه. و روي عن بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه أنّه قال: إيّانا عنى. و عنى أوّلنا، و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ. و روى عنه عبد اللّه بن كثير أنّه وضع يده على صدره ثمّ قال: عندنا و اللّه علم الكتاب كملا.

و يؤيّد ذلك ما روي عن الشعبيّ أنّه قال: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد النبيّ من عليّ بن أبي طالب و من الصالحين من أولاده.

و روى عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلميّ، قال: ما رأيت أحدا أقرأ من عليّ بن أبي طالب للقرآن أي أعلم. و روى أبو عبد الرحمن أيضا عن عبد اللّه بن مسعود قال:

لو كنت أعلم أنّ أحدا أعلم بكتاب اللّه منّي لأتيته، قال: فقلت له فعليّ؟ قال: و لم ير في كتاب و لم يسمع في حديث أنّ أحدا يدّعي الأعلميّة أو التساوي في علم القرآن من عليّ بن أبي طالب بعد النبيّ من الخلفاء و غيرهم.

تمّت السورة

ص: 103

سورة ابراهيم

اشارة

هي مكّيّة إلّا آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين: قوله: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إلى قوله- فَبِئْسَ الْقَرارُ».

فضلها عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة إبراهيم و الحجر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام و بعدد من لم يعبدها. روى عنبسة بن مصعب عن أبي عبد اللّه قال: من قرأ سورة إبراهيم و الحجر في ركعتين جميعا في كلّ جمعة لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى.

افتتح هذه السورة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب، فقال:

ص: 104

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

اعلم أنّ الكلام في هذه السورة مكّيّة أو مدنيّة طريقة الآحاد و متى لم يكن في السورة ما يتّصل بالأحكام الشرعيّة فنزولها بمكّة و المدينة سواء، و إنّما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ و منسوخ فذلك فيه فائدة عظيمة.

و قوله: [الر] معناه أنّ السورة المسمّاة بالر [كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لغرض أن تخرج جميع الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بأمر اللّه و إطلاقه، و في هذا دلالة على أنّه سبحانه يريد الإيمان من جميع المكلّفين، و اللام للغرض لا للعاقبة لأنّه لو كان كذلك لكان الناس كلّهم مؤمنين و المعلوم بخلافه.

ثمّ بيّن النور أنّه الصراط العزيز الحميد المؤدّي إلى معرفة اللّه المنيع في سلطانه المحمود في أفعاله، ثمّ في الآية دلالة في أنّ طرق الكفر متعدّدة، و طريق الإيمان و الخير واحد للجمع في الظلمات و الإفراد في النور، و كذلك طرق الجهل كثيرة و طريق العلم واحد و تكرير «إِلَى» على البدل كقوله: «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» (1).

[اللَّهِ هو [الَّذِي يتصرّف فيهما على وجه لا اعتراض عليه فيه، و أخبر أنّ الويل و العذاب للكافرين يجحدون نعم اللّه و لا يعترفون بوحدانيّته فلهم الويل و العذاب الشديد و كلمة «اللَّهِ» علم لذات اللّه، و ليس بمشتقّ لكونه لو كان مشتقّا لكان مفهومه صالحا لوقوع

ص: 105


1- الأعراف: 74.

الشركة فيه، و يدلّ على هذا القول قوله: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» (1) و المعنى هل تعلم من اسمه اللّه غير اللّه؟ و هذا يدلّ على أنّ قولنا: اللّه اسم لذاته المخصوصة.

و بالجملة قوله: [الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ وصف الكافرين، يحبّون المقام في هذه الدنيا العاجلة [عَلَى الكون في [الْآخِرَةِ] و يمنعون غيرهم من اتّباع الطريق المؤدّي إلى معرفة اللّه و يطلبون طريقا بعيدا عن الاستقامة و «السبيل» يذكّر و يؤنّث [أُولئِكَ الموصوفين [فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ] عن الحقّ.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 4]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

. شرع في بيان نعمه على الخلق حيث إنّه سبحانه أرسل إليهم رسولا من خلّصهم من ظلمات الكفر، و هو من أهل لسانهم [لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما ينفعهم و ما يضرّهم، و كذلك كان سنّة المرسلين فيما مضى من لأزمان لا بدّ و أن يكون لسانه لسان أهل بلده و قومه المجاورين له حتّى إذا فهموا عنه فهّموا غيرهم من الّذين لسانهم غير لسانهم، فكأنّه أهل بلده و قومه يكونون تراجمة للغير، و قد أرسل اللّه محمّدا إلى الخلق كافّة بلسان قومه و هم العرب بدلالة قوله:

«وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً» (2).

و قيل: المعنى أنّا كما أرسلناك إلى الناس بلغة العرب لتبيّن لهم الدين ثمّ إنّهم يبيّنونه للناس كذلك أرسلنا كلّ رسول بلغة قومه ليظهر لهم الدين.

ثمّ استأنف فقال: [فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ] من طريق الجنّة إذ كانوا مستحقّين للعقاب بكفرهم [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] إلى طريق الجنّة؛ و قيل: يلطف لمن يشاء بمن له لطف. و يضلّ عن ذلك اللطف من لا لطف له؛ فمن تفكّر و تدبّر اهتدى و ثبّته اللّه، و من أعرض عنه خذله اللّه و هو الغالب [الْحَكِيمُ في أفعاله.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 5 الى 6]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

ص: 106


1- مريم: 65.
2- سبا: 28.

. ثمّ ذكر سبحانه إرساله موسى فقال: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بالمعجزات الدالّة على نبوّته بأن [أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى سبيل الهداية يعنى أمرناه بذلك لأنّهم بسببه خرجوا من الكفر إلى الإيمان [وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فيه أقوال: أحدها أن يذكّرهم وقائع اللّه في الأمم الخالية و إهلاك من أهلك منهم ليحذروا بذلك. و الثاني: يذكّرهم بنعم اللّه أي يرغّبهم و يرهّبهم، مثلا أيّام موسى منها ما كان أيّام المحنة كما كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون، و منها أيّام المحنة و النعماء مثل إنزال المنّ و السلوى و غلبتهم على فرعون و كذا السابقين عن موسى. و كنّي عن الأيّام بالنعمة و النقمة لأنّ الأيّام ظرف لهما.

[إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير دلالات لكلّ من عادته الصبر و الشكر و هو المؤمن؛ لأنّه لا يخلو من الصبر على البلاء أو الشكر على النعماء.

قوله: [إِذْ قالَ مُوسى أي و اذكر يا محمّد إذ قال موسى: لهم [اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ حين كنتم معذّبين [مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ و يذيقونكم أنواع العذاب [وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ للاسترقاق و لغرض الاسترقاق و إبقاؤهنّ منفردات عن الرجال [بلاء عظيم للرجال و النساء.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 7 الى 10]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

.

ص: 107

قوله: [وَ إِذْ تَأَذَّنَ من بقيّة قول موسى حين قال: «اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» أي و اذكروا إذا أعلم [رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمتي [وَ لَئِنْ جحدتم نعمتي [إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ] لمن كفر بنعمتي. قال أبو عبد اللّه في هذه الآية: أيّما عبد أنعم اللّه عليه فأقرّ بها بقلبه و حمد اللّه عليها بلسانه ثمّ لم ينفد كلامه حتى يأمر اللّه له بالزيادة.

[وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا] و تجحدوا نعم اللّه [أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] من الخلق لم تضرّوا اللّه شيئا و إنّما يضرّكم ذلك بأن تستحقّوا عليه العذاب [فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن شكركم [حَمِيدٌ] في أفعاله لأنّه متى كان غنيّا لا يزداد بشكر الشاكرين و لا ينقص بكفر الكافرين، و حينئذ لا يتفاوت الكفر و الكفران، أي سواء حمل الآية على الكفر المقابل للإيمان أو الكفران المقابل للنعمة.

قوله: [أَ لَمْ يَأْتِكُمْ قيل: هذا الخطاب متوجّه إلى امّة نبيّنا. و قيل: إنّه قول موسى فالخطاب إلى امّته أي ألم يجئكم [نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم مثل [قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم تفاصيل أحوالهم و عددهم و ما فعلوه و ما فعل بهم إلّا اللّه، قال ابن الأنباريّ: إنّ اللّه أهلك امما من العرب و غيرها فانقطعت أخبارهم و عفت آثارهم فليس أحد يعرفهم إلّا اللّه.

و كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسّابون. و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان لا يتجاوز في انتسابه معدّ بن عدنان بن أدد و قال: تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم و تعلّموا من النجوم ما تستدلّون به على الطريق. قال بعض العلماء: و بهذا الطريق لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السّلام إلى هذا الوقت.

قوله: [جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ و الآيات و الأحكام من الحلال و الحرام [فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إلى [أَفْواهِهِمْ في معناه أقوال:

أحدها: عضّوا على أصابعهم من شدّة الإنكار و الغيظ لأنّه ثقل عليهم مكان الرسل و كلامهم، عن ابن عبّاس و ابن مسعود و الجبّائيّ.

و ثانيها: جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم و ردّا لما جاءوا به فالضمير في «أَيْدِيَهُمْ» إلى «الكفّار» و في «أَفْواهِهِمْ» إلى «الأنبيا» كأنّهم لمّا سمعوا كلام الأنبياء

ص: 108

أشاروا بأيديهم إلى أفواه الأنبياء تسكيتا لهم.

و ثالثها: وضعوا أيديهم على أفواههم مؤمين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا عمّا تدعوننا إليه كما يفعل الواحد منّا إلى غيره إذا أراد أن يسكته.

و رابعها: أنّ كلا الضميرين إلى المرسل أي أخذوا أيدي الرسل فوضعوها على أفواههم ليسكتوهم و ليقطعوا كلامهم.

هذا كلّه إذا حملنا معنى الأيدي و الأفواه على الحقيقة، و من حملها على التوسّع و المجاز، و إلّا فقيل: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج لأنّ الحجج يخرج من الأفواه.

و قيل: معناه كذّبوا رسلهم و تركوا ما أمروا به و بعض أنكروا هذا المعنى و قالوا: إنّما المعنى عضّوا على الأيدي حقدا أو غيظا كقول الشاعر:

«يردّون في فيه عشر الحسود» يعني أنّهم يغيظون الحسود حتّى يعضّ على أصابعه العشر.

قوله: [وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا] أي جحدنا ما [أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الدين نوقع في الريبة، الريبة قلق النفس و عدم الاطمئنان [قالَتْ رُسُلُهُمْ حينئذ:

[أَ فِي اللَّهِ شَكٌ مع هذه الحجج؟ [فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خالقهما لا يقدر على ذلك غيره فوجب أن يعبد وحده و لا يشرك به من لم يقدر أن يخلق [و يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان [لِيَغْفِرَ لَكُمْ و ينفعكم لا ليضرّكم و قال: [مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم لأنّه قد يغفر ما دون الشرك و لا يغفر الشرك [وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخّركم إلى الأجل الّذي ضرب اللّه و قدّره لكم أن يميتكم فيه.

[قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا] أي قال لهم قومهم: ما أنتم إلّا خلق [مِثْلُنا تُرِيدُونَ أن تمنعونا [عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا] من الأصنام [فَأْتُونا بِسُلْطانٍ و حجّة، و إنّما قالوا ذلك لأنّهم ما اعتقدوا بأنّ جميع ما جاءت به الرسل معجزة؛ لأنّهم طلبوا معجزات سوى ما ظهرت منهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ اللّه لا يريد الكفر و الشرك و إنّما يريد الخير و الإيمان، و إنّما بعث الرسل إلى الناس فضلا و رحمة، فإنّه سبحانه قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ».

[سورة إبراهيم (14): الآيات 11 الى 12]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

ص: 109

[قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ لسنا [نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الخلقة و الصورة [وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ] و ينعمه النبوّة و لقد منّ اللّه علينا، و ليس [لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بحجّة على صحّة دعوانا [إِلَّا] بأمر [اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المصدّقون به و بأنبيائه، و أيّ شي ء لنا إذا لم [نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ و لم نفوّض له أمورنا إليه؟ و لا عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه [وَ قَدْ] عرّفنا الطريق و [هَدانا] إلى سبيل الإسلام و دلّنا على معرفته و ضمن لنا على الإيمان جزيل الثواب [وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى أذا كم فإنّه تعالى يكفينا أمركم.

و روى الواقديّ عن أبي مريم عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا آذاك البراغيث فخذ قدحا من الماء فاقرأ عليه سبع مرات: «وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إلى آخر الآية» و قل: فإن كنتم آمنتم باللّه فكفّوا شرّكم و أذاكم عنّا، و ترشّ الماء حول فراشك فإنّك بتّ تلك الليلة آمنا من شرّها.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 18]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14) وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

المعنى: [وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و ما قبلوا الإيمان [لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ من بلادنا إلّا أن ترجعوا إلى أدياننا و مذاهبنا الّتي نحن عليها [فَأَوْحى اللّه إلى رسله لمّا ضاقت صدورهم بما لقوا من قومهم إنّا نهلك هؤلاء [الظَّالِمِينَ الكافرين [وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي نسكنكم أرضهم، يريد اصبروا فإنّي أهلك عدوّكم و أورثكم أرضهم. و في معناه ما جاء: من آذى جاره أورثه اللّه داره.

[ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي ذلك الفوز لمن خاف وقوفه في الحساب للجزاء بين يديّ

ص: 110

في الموضع الّذي أقيمه فيه، و أضاف المقام إلى نفسه سبحانه لأنّهم يقومون بأمره [وَ خافَ وَعِيدِ] و عقابي و إنّما قالوا: «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ظنّا منهم- بزعمهم الفاسد- أنّهم على ملّتهم فطاما و هذا الزعم لأنّهم نشأوا فيهم.

[وَ اسْتَفْتَحُوا] قيل: استفتح الرسل. و قيل: استفتح الأمم أي طلبوا النصر على الكافرين أو الأمم استفتحوا العذاب على وجه التكذيب لهم [وَ خابَ و خسر [كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ] أي خسر كلّ متكبّر معاند للحقّ من وراء هذا الجبّار المعاند نار [جَهَنَّمُ أي يأتيه العذاب من خلفه [وَ يُسْقى ماء ممّا يصيل من النار، و القيح عن فروج الزواني في النار لونه لون الماء و طعمه طعم الصديد. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: يقرب إليه ... فإذا دنى منه شوى وجهه و وقع فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه حتّى يخرج من دبره.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين يوما، فإن مات و في بطنه شي ء من ذلك كان حقّا على اللّه أن يسقيه من طينة خبال و هو صديد أهل النار و ما يخرج من فروج الزناة فيجتمع ذلك في قدور جهنّم فيشربه أهل النار فيصهر به ما في بطونهم و الجلود، رواه شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام.

قوله: [يَتَجَرَّعُهُ أي يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة [وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقارب أن يشربه كراهة له و هو يشربه، و «يَكادُ» نفيه إثبات و إثباته نفي فقوله: «وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ» أي و يسيغه بعد إبطاء؛ تقول العرب: ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء كقوله: «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» (1) يعني فعلوا بعد إبطاء.

قوله: [وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتيه شدائد الموت و سكراته من كلّ موضع جسده من ظاهره و باطنه حتّى يأتيه من أطراف شعره و من فوقه و من تحته و عن يمينه و شماله، و مع إتيان أسباب الموت و الشدائد الّتي يكون من الموت لا يموت فيستريح [وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ] أي يستقبله و يتلقّى بعد هذا العذاب المذكور عذاب أشدّ منه و هو الخلود في النار؛ قال المفضّل: المراد بعد العذاب الأوّل و قبل الخلود، قطع الأنفاس و حبسها في الأجساد (2).

[مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي مثل أعمال الّذين كفروا بربّهم، حذف المضاف س.

ص: 111


1- البقرة: 71.
2- اى و ذلك العذاب الغليظ قطع الأنفاس.

لدلالة الكلام الواقع بعد المضاف إليه في قلّة انتفاعها [أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ و ذرّته و نسفته [فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرّق فكذلك هؤلاء الكفّار لا يقدرون ممّا كسبوا على شي ء من أعمالهم و مثله قوله: «ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (1).

[ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ] عن النفع و الخطاء البعيد عن الصواب. و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة لأنّه سبحانه أضاف العمل إليهم و لو كان العمل مخلوقا له لما صحّ الإضافة إليهم.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 19 الى 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

المعنى: بيّن في هذه الآية أنّه إنّما خلق الخلق ليعبدوه و ليؤمنوا به لا ليكفروا فقال: [أَ لَمْ تَرَ] و تعلم، لأنّ الرؤية قد تكون بمعنى العلم كما يكون الإدراك للبصر [أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ على ما تقتضيه الحكمة، و الخلق معناه فعل الشي ء على تقدير و ترتيب [بِالْحَقِ أي للغرض الصحيح و هو الدين و العبادة [إِنْ يَشَأْ] يهلككم و يفنيكم [وَ يَأْتِ بقوم آخرين مكانكم لأنّ من قدر على بناء الشي ء كان على هدمه أقدر و ما هلاككم بأمر ممتنع و لا متعذّر على اللّه.

[وَ بَرَزُوا] إنّ الخلق يبرزون [لِلَّهِ جَمِيعاً] ورد بلفظ الماضي و إن كان معناه الاستقبال لأنّ كلّ ما أخبر اللّه صار كأنّه حصل و دخل في الوجود نظيره «وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ» (2) و المراد من البروز خروجهم من القبور و انكشفوا و قيل: برزت سرائرهم و الأحوال الكامنة فيهم للحاكم الحكيم، فإن كانوا من السعداء برزوا بصفاتهم القدسيّة و وجههم المشرقة و أرواحهم المستنيرة، فتجلّى لها نور الجلال فما أجلّ تلك الأحوال! و إن كانوا من الأشقياء

ص: 112


1- الفرقان: 23.
2- الأعراف: 49.

برزوا للمواقف العظيمة ذليلين مهينين خائفين واقعين في خزي الخجالة، و موقف الإهانة و الفزع، نعوذ باللّه منها.

ثمّ يقول الضعفاء للرؤساء من أهل الضلال: هل تقدرون على دفع عذاب اللّه عنّا؟

[إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً] في الكفر [فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ شيئا من عذاب واقع؟

قال المسّبعون للأتباع: [لَوْ هَدانَا اللَّهُ أي لو خلصنا لخلصناكم و لو هدانا اللّه إلى طريق الخلاص أو هدانا إلى طريق الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه [لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني أنّ الصبر و الجزع سواء، لا لنا مهرب من عذاب اللّه.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

. لمّا بيّن اللّه المناظرة الّتي وقعت بين الرؤساء و الأتباع من كفرة الإنسان بيّن في هذه الآية المناظرة الّتي وقعت بين الشيطان و أتباعه من الإنس فقال: [وَ قالَ الشَّيْطانُ أي لمّا استقرّ أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار أخذ أهل النار في لوم إبليس و تقريعه؛ فيقوم في النار خطيبا لهم على منبر من نار، فقال رسول اللّه: إذا جمع اللّه الخلائق و قضى بينهم يقول الكافر: قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلّا إبليس هو الّذي أضلّنا فيأتونه و يسألونه فعند ذلك يقول هذا القول:

[إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ و قوله: وعد الحقّ من باب إضافة الشي ء إلى نفسه كقوله: «حبّ الحصيد» و «مسجد الجامع» على قول الكوفيّين. و على قول البصريّين يكون التقدير وعد اليوم الحقّ فوعدكم و صدقكم و وعدتكم فأخلفتكم وعدتكم أن لا جنّة و لا نار و لا حشر و لا حساب [وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ من قدرة و قهر فأقهركم على الكفر و المعاصي و الجئكم إليها [إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ بوسوستي و تزييني.

[فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أنا بمغيثكم و لا أنتم بمغيثي و معيني. و في هذه الآية دلالة على أنّ الكفر و المعصية لو كان بتخليق اللّه لوجب أن يقول إبليس: لا تلوموني

ص: 113

و لا أنفسكم و إنّما اللّه قضى عليكم الكفر و أجبركم عليه. و كذلك تدلّ على أنّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان و على تعويج أعضائه و على إزالة العقل عنه كما يقوله العوامّ.

قوله: [إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي كفرت الآن بما كان من إشراككم إيّاي مع اللّه في الطاعة، يعني جحدت أن أكون شريكا للّه فيما أشركتموني فيه من قبل هذا اليوم. و لعلّ مراده استكباره عن سجود آدم [إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قيل: إنّه من تمام قول الشيطان. و قيل: استئناف وعيد اللّه لأهل النار.

و بقي هاهنا سؤال: كيف يتعقّل و يتمكّن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان و إلقاء الوسوسة إليه؟ فيه قولان:

الاول أنّ ما سوى اللّه بحسب القسمة العقليّة على أقسام ثلاثة: المتحيّز و الحالّ في المتحيّز و الّذي لا يكون متحيّزا و لا حالّا فيه. و هذا القسم الثالث هو المسمّى بالأرواح، فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدّسة في عالم الروحانيّات فهم الملائكة و إن كانت خبيثة شريرة داعية إلى الشرور و عالم الأجساد و منازل الظلمات فهم الشياطين، فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسما يحتاج إلى الولوج في داخل البدن، بل هو جوهر روحانيّ خبيث الفعل؛ فعلى هذا التقدير لا يبعد في أن يلقي شي ء من تلك الأرواح أنواعا من الوساوس و الأباطيل إلى جوهر النفس الناطقة بالمشاكلة و تلك الوسوسة تؤثّر في النفس الناطقة فيحصل الإضلال من غير ولوج؛ فهذه المشاكلة تختلف فإن كانت مشاكلة الخير و البركة كان ذلك من الملك إلهاما، و إن كانت المشاكلة من أبواب الشرّ كان وسوسة من الشيطان، و هذا التقرير على القول بإثبات جواهر مبرّأة عن الجسميّة و التحيّز، و القول بالأرواح الخبيثة و الطاهرة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لأحد أن ينكر وجود الشيطان و الجنّ و الملائكة على أن نطقت به الشرائع و الشريعة الأحمديّة فمن أنكر أنكر القرآن.

و القول الثاني و هو أنّ الملائكة و الشياطين لا بدّ و أن تكون أجساما لكن أجساما لطيفة و اللّه سبحانه ركّبها تركيبا عجيبا و هي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرّق و التمزّق

ص: 114

و الفساد و البطلان، و نفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد كما في الروح، فإنّه نفذ في داخل عمق البدن؛ فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن؟ كالشيطان مثلا و كماء الورد في الورد و دهن السمسم في السمسم فكذلك القول في الشيطان و الجنّ، فلمّا ثبت القول في إمكان وجودهما فحينئذ الأولى أنّ الملائكة يكونون من النور مخلوقين، و الشياطين مخلوقين من اللهب و الدخان كما قال اللّه:

«وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» (1). انتهى.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 23 الى 26]

وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26)

المعنى: لمّا تقدّم وعيد الكفّار عقّبه بالوعد للمؤمنين فقال سبحانه: [وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ صدّقوا باللّه و رسوله [وَ عَمِلُوا] الطاعات [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] بأمر [رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ بعضهم يحيّي بعضهم بهذه الكلمة و الملائكة يحيّونهم بهذه الكلمة و الربّ الرحيم يحيّيهم بهذه الكلمة كما قال: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2) و كذلك قال: «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (3) و التحيّة التلقّي بالكرامة في المخاطبة و الجمع التحيّات لأنّه كان الملوك يحيّون بتحيّات مختلفة يقال لبعضهم: أبيت اللعن. و لبعضهم: أسلم و أنعم. و لبعضهم: عش ألف سنة.

و بالجملة ثمّ [ضَرَبَ اللَّهُ مثالين للمؤمن و الكافر أي بيّن اللّه شبها و ضرب و جعل مثل الكلمة الطيّبة، و هي كلمة التوحيد أعني كلمة لا إله إلّا اللّه أو كلّ كلام أمر اللّه به من الطاعات، و إنّما سمّاها طيّبة لأنّها نامية زاكية لصاحبها بالخيرات مثل شجرة

ص: 115


1- الحجر: 27.
2- يس: 58.
3- الرعد: 25.

طيّبة المنظر و الشكل و الرائحة و الثمرة الّذيذة المستطابة المتولّدة منها، و كثيرة المنفعة بسبب أكلها جامعة لهذه الوجوه؛ لأنّ الطيّب يصدق على جميع هذه المراتب و يكون أصل الشجرة [ثابِتٌ راسخ في الأرض باق آمن من الانقلاع و الزوال لأنّ الطيّب إذا كان في معرض الانقراض و لو أنّه يحصل الفرح بسبب وجوده إلّا أنّه يعظم الحزن بسبب زواله فليس بطيّب. و يكون [فَرْعُها فِي السَّماءِ] و هذه الصفة تدلّ على قوّتها من التصاعد مرتفعة و بعيدة عن عفونات الأرض و قاذورات الأبنية فحينئذ ثمرتها نقيّة طاهرة عن جميع الشوائب.

[تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها] و الشجرة الموصوفة بهذه الصفات ثمراتها دائمة حاضرة في كلّ الأوقات و ليست مثل سائر الأشجار، و من المعلوم بالضرورة أنّ الرغبة في تحصيل هذه الشجرة بحسب أن تكون عظيمة و أنّ العاقل متى أمكنه تحصيلها و تملّكها فلا يجوز له أن يتغافل عنها في الفوز بها، فالمعرفة باللّه و الاستغراق في إطاعته و محبّته تشبه هذه الشجرة بهذه الصفات المذكورة، و هيهات من هذه اللذّة و الالتذاذ بالفاكهة أين الثرى و الثريّا؟ لأنّ المدرك من تلك اللّذة جوهر النفس القدسيّة و المدرك معرفة الجلال، و المدرك من هذه القوّة الذائقة الفانية و المدرك الفاكهة و نسبة أحد المدركين إلى الاخرى كنسبة أحد اللذّتين إلى الاخرى لأنّ اللذّه الحاصلة بتناول الفاكهة سريعة الاستحالة شديدة التغيّر، و لذّة المعرفة و كمال جلال اللّه ممتنع التغيّر. و بالجملة، فالمراد من هذه الشجرة روي عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ هذه الشجرة الطيّبة هي النخلة و قيل:

إنّها شجرة في الجنّة. و روى ابن عقدة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ الشجرة رسول اللّه و فرعها عليّ و عنصر الشجرة فاطمة و ثمرها أولادها، و أغصانها و أوراقها شيعتنا، ثمّ قال: إنّ الرجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة. و روي عن ابن عبّاس قال: قال جبرئيل للنبيّ: أنت الشجرة و عليّ غصنها و فاطمة ورقها و الحسن و الحسين ثمارها. و قيل: المراد بالكلمة الطيّبة الإيمان و بالشجرة الطيّبة المؤمن.

قوله: «تُؤْتِي أُكُلَها» أي تخرج هذه الشجرة ما يؤكل منها كلّ حين، قيل: المراد كلّ السنة. و قيل: كلّ غدوة و عشيّة. و قيل: معناه في جميع الأوقات لأنّ التمر يكون

ص: 116

أوّلا طلعا ثمّ بلحا ثمّ بسرا ثمّ رطبا ثمّ تمرا، فيكون تمره موجودا في كلّ الأوقات، و يدلّ على أنّ الحين بمنزلة الوقت، قول النابغة في صفة الحيّة:

يبادرها الراقون من سوء سمّهاتطلّقه حينا و حينا تراجع

و قيل: إنّ معنى آية «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» ما يفتي به الاثنا عشر من آل محمّد شيعتهم في الحلال و الحرام.

[وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتدبّروا.

[وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ] و هي كلمة الكفر و الشرك، و قيل: كلّ كلام في معصية اللّه [كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ] غير زاكية و هي شجرة حنظل. و قيل: شجرة لا قرار لها في الأرض. و قيل:

إنّها الكشوت. و عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ هذا مثل بني اميّة [اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي اقتطعت و استأصلت و اقتلعت جثّتها من الأرض ما لتلك الشجرة من ثبات؛ فإنّ الريح يكشفها و تذهب بها، فكما أنّ هذه الشجرة لا ثبات لها و لا ينتفع بها أحد فكذلك الكلمة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها، و لا يثبت له منها نفع و لا ثواب.

و روي عن ابن عبّاس أنّها شجرة لم يخلقها اللّه بعد و إنّما هو مثل ضربه بهذا و حقيقة الشجرة الخبيثة هي الجهل باللّه فإنّه أوّل الآفات و رأس الشقاوات. و قيل: المراد بالشجرة الخبيثة الثوم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله وصف الثوم بأنّها شجرة خبيثة. و قيل: الشوك. و بالجملة لمّا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): آية 27]

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)

. لمّا ذكر الكلمة الطيّبة عقّبه بذكر ما يحصل لصاحبها من المثوبة و الكرامة، فقال: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] و يثبّتهم في الآخرة في كرامته و ثوابه بقولهم الثابت الّذي قالوا، و هو كلمة الإيمان و كلمة التوحيد حتّى لا يزلّوا و لا يضلّوا عن طريق الحقّ في الدنيا و لا يضلّوا عن طريق الجنّة [فِي الْآخِرَةِ] و بإسكانهم فيها.

و قال أكثر المفسّرين: إنّ المراد بقوله: «فِي الْآخِرَةِ» في القبر و قالوا: الآية وردت في سؤال القبر، و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ص: 117

و روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب الكافي بإسناده عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له ماله و ولده و عمله فيلتفت إلى ماله فيقول: و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا فما لي عندك؟ فيقول: خذ منّي كفنك. فيلتفت إلى ولده فيقول: و اللّه إنّي كنت لكم محبّا و محاميا فمالي عندكم؟ فيقولون نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها. قال: فيلتفت إلى عمله فيقول و اللّه إنّي كنت فيك لزاهدا و إن كنت عليّ لثقيلا فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتّى اعرض أنا و أنت على ربّك.

قال: فإن كان للّه وليّا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا و رياشا فقال: ابشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و مقدمك خير مقدم! فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح قرينك أو تحلّ إلى الجنّة، و إنّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله فإذا ادخل قبره أتاه ملكا القبر يجرّان أشفارهما و يخدّان الأرض بأنيابهما أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهم كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول: اللّه ربّي و ديني الإسلام و نبيّي محمّد. فيقولان: ثبّتك اللّه بالقول الحقّ، و هو قوله سبحانه: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» ثمّ يفسحان له مدّ نظره ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم فإنّ اللّه يقول: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» (1).

قال: و إذا كان لربّه عدوّا فإنّه يأتيه أقبح خلق اللّه زيّا و أنتنه ريحا فيقول: ابشر بنزل من حميم و تصلية جحيم، و إنّه ليعرف غاسله و يناشد حملته أن يحبسوه فإذا ادخل القبر أتاه ملكا القبر فألقيا أكفانه، ثمّ يقولان له: من ربّك و ما دينك و من نبيّك؟ فيقول:

لا أدري. فيقولان: لا دريت و لا هديت، فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق اللّه دابّة إلّا تذعر بها ما خلا الثقلين ثمّ يفتحان له بابا من النار ثمّ يقولان له: نم بشرّ حال فيه مثل ما فيه القناة من الزحّ حتّى أنّ دماغه ليخرج من بين ظفره و لحمه و يسلّط اللّه حيّات الأرض و عقاربها و هوامّها، فتنهشها حتّى يبعثه اللّه من قبره و أنّه ليتمنّى قيام الساعة بسبب ما هو

ص: 118


1- الفرقان: 24.

فيه من الشرّ، نعوذ باللّه من عذاب القبر.

[وَ يُضِلُّ اللَّهُ عن هذه التثبيت في الدنيا و في الآخرة [الظَّالِمِينَ بسبب اختيارهم الظلم و إنّما فسّر الآخرة هاهنا بالقبر بسبب أنّ الميّت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا و دخل في أحكام الآخرة [وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ] من الإمهال و الانتقام و ضغطة القبر و مساءلة منكر و نكير و لا اعتراض عليه.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 30]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)

نزلت في أهل مكّة حيث أسكنهم اللّه حرمه الأمن و جعل عيشهم في السعة و الدعة و بعث فيهم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، ثمّ حكى عنهم أنواعا من الأعمال القبيحة من تبديل [نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً] أي بدّلوا الشكر بالكفر [وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ] الهلاك و هي جهنّم و أخرجوهم إلى بدر و أنزلوهم جهنّم بدعائهم إيّاهم إلى الكفر. و سئل عليّ عليه السّلام عن هذه الآية فقال: هم الأفجران من قريش بنو اميّة و بنو المغيرة. و قيل: إنّهم جبلة بن الأيهم و من اتّبعوه من العرب تنصّروا و لحقوا بالروم.

[جَهَنَّمَ يدخلونها [وَ بِئْسَ الْقَرارُ] قرارهم في النار [وَ جَعَلُوا] هؤلاء الكفّار [لِلَّهِ نظراء و أمثالا للعبادة زيادة على كفرهم [لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ و قرئ «ليضلوا» بفتح الياء فحينئذ معنى اللام للعاقبة أي صار عاقبة أمرهم الهلاك، و من قرأ بضمّ الياء أي ليضلّ الناس عن سبيل اللّه، و على هذه القراءة فاللّام لام «كي» للغرض. و كانوا يصرّحون الشريك للّه في القول و العمل لأنّهم كانوا يعبدون الأصنام و يقولون في الحجّ: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار: [تَمَتَّعُوا] و انتفعوا قليلا [فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ] و المراد التهديد و إن كان بصورة الأمر.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 31 الى 34]

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

ص: 119

المعنى: لمّا أمر الكافرين على سبيل التهديد و الوعيد بالتمتّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتّع بالدنيا و المجاهدة بالنفس و المال فقال:

[قُلْ يا محمّد [لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا] أقيموا و أنفقوا، و هو في المعنى أمر محذوف منه اللام أي ليقيموا و لينفقوا، و إنّما جاز حذف اللام لأنّ قوله: «قُلْ» عوض منه كقولك: قل لزيد يضرب عمرا، و إنّ الإنسان بعد الفراغ من الإيمان مأمور بالصلاة و أداء الزكاة، و هما بذل النفس في مجاهدة الصلاة و بذل المال في إنفاق الزكاة، فهذه الأمور الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، لقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (1).

[سِرًّا وَ عَلانِيَةً] أي قل لهم: أنفقوا في النوافل سرّا لتدفعوا عن أنفسكم تهمة الرياء و في الفرائض تهمة المنع [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ القيامة، و هو يوم لا يمكن فيه إعطاء الفدية للتخلّص عن النار و لا مصادقة و لا مخاللة لأنّ المصادقة و المخاللة إنّما تحصل بسبب ميل الطبيعة و رغبة النفس و في ذلك اليوم تنقرض هذه الموادّ الطبيعيّة.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (2)؟.

الجواب أنّ إثبات الخلّة للمؤمنين في تلك الآية بسبب عبوديّة اللّه و محبّة حاصلة لا بسبب ميل الطبيعة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للإلهيّة فقال: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما من غير شي ء و مثال و رويّة، و بدأ بذكرهما لعظم شأنهما في القدرة و لأنّهما مادّة كلّ شي ء [وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ أرزاقكم لأنّ الماء مادّة الثمرات [وَ سَخَّرَ لَكُمُ السفن و المراكب [لِتَجْرِيَ الفلك في البحر بأمر اللّه لأنّها تسير بالرياح

ص: 120


1- البقرة: 2.
2- الزخرف: 67.

و اللّه هو المنشئ للرياح [وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ] الّتي تجري بالمياه الّتي ينزلها من السماء و تجريها في الأودية و ينصبّ منها في الجداول و لو لا النهار لما انتفع الناس من المياه دائما و ذلّل لمنافعكم [الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ] في سيرهما لتنتفعوا بضوء الشمس نهارا و بضوء القمر ليلا و ليبلغ به الثمار و النبات في النضج الحدّ الّذي عليه يتمّ النعمة [دائِبَيْنِ و مستمرّين لا يفتران [وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و مهّدهما لمنافعكم لتسكنوا في الليل للراحة و لتبغوا المعاش و الرزق في النهار من فضله.

[وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ لأنّ الإنسان قد يسأل اللّه العافية فيعطى و النجاة من المهالك فيعطى و الغنى فيعطى و العزّ فيعطى فهذه الأمور من مسؤولاته يعطي اللّه له ما لم يكن مفسدة، فأين يذهب هذا الإنسان مع هذه النعم الّتي لا تحصى كثرة عن اللّه و يعبد غيره؟ و إنّما قال: «مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» لأنّه سبحانه لا يعطي جميع ما سأله العبد لاختلال عالم نظام الأمور في عالمه أو عالم غيره.

[وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها] لكثرتها و «النعمة» هنا اسم أقيم مقام المصدر، و لذلك لم يجمع و فيه معنى الجمع، و كيف يقدر العبد أن يحصي أمرا غير متناهي؟ لأنّ الشي ء إذا لم يتناهى لم تحص، كيف لا و ما من فرد من أفراد الناس و إن كان في أقصى مراتب الفقر و الإفلاس مبتلى بأنواع البلايا و الرزايا لو تأمّلته ألقيته منقلبا في نعم لا تحدّ و منن لا تحصى كأنّه قد اعطي كلّ ساعة و آن من اللّه لنعماء ما حواها حيطة الإمكان؟

و إن كنت في ريب من هذا فتأمّل في حال ملك ملك الأقطار و دانت له كافّة الأمم و أذعنت لطاعته السراة، و خضعت لهيبته رقاب العتاة، و نال كلّ منال و فاز بكلّ مراح و حاز جميع ما في الدنيا من أصناف الجواهر و الأموال و النفائس و الأغلاق، و صارت أحجار الجبال بأسرها يواقيت غالية و مدر الأرض درر نفيسة من غير ندّ يزاحمه، أو شريك يساهمه ثمّ اتّفق هذا الملك في فلاة قد نزل و فقد مشروب أو مطعوم في حالة بلغت نفسه الحلقوم فهل يشتري و هو في تلك الحال بجميع ماله من الدنيا بلقمة تنجيه عن جوعه؟ أو شربة ترويه من ظمائه أم يختار الهلاك؟ كلّا! بل يبذل لذلك كلّ ما يملك و ليس في صفقته شائبة الخسران فإذن تلك اللقمة و الشربة خير ممّا في الدنيا بألف رتبة. أو قدّر أنّ ذلك الملك احتبس عليه

ص: 121

النفس فلا دخل منه ما خرج و لا خرج منه ما ولج، و الحين حان و أتاه الموت من كلّ مكان أما يعطي ذلك كلّه بمقابلة نفس واحد؟ بل يعطيه و هو لرأيه حامد؛ فانظر حينئذ ذلك الفقير المبتلى يقدر أن يحصي نعم اللّه عليه؟ فكيف بغيره؟ على أنّ الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود و ما يتبعه من الكمالات اللائقة، بحيث لو انقطع ما بينه و بين العناية الإلهيّة من العلاقة لما استقرّ له القرار و لا اطمأنّت به الدار إلّا في مطمورة العدم، لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه في كلّ زمان يمضي و كلّ آن يمرّ و ينقضي من أنواع الفيوض المتعلّقة بقدرته المنيعة ما لا يحيط به نطاق التعبير و لا يعلم مقداره إلّا العليم الخبير.

و بالجملة قال طليق بن حبيب: إنّ حقّ اللّه تعالى أثقل من أن يقوم به العباد و نعمه أكثر من أن يحصيها الخلق، و لكن أصبحوا تائبين و أمسوا تائبين [إِنَّ الْإِنْسانَ كثير الظلم لنفسه كثير الكفران لنعم ربّه.

و النظم في الآية: لمّا ذكر ما هم عليه من اتّخاذ الأنداد بيّن في هذه الآية أنّ المستحقّ للعبادة واجب الوجود هو اللّه الّذي خلق السماوات، إلخ.

قوله: [سورة إبراهيم (14): الآيات 35 الى 41]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

لمّا بيّن سبحانه في الآيات السابقة المنع عن عبادة غيره حكى عن نبيّه إبراهيم مبالغته في إنكار عبادة الأصنام:

و اذكر يا محمّد [إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ] يعني مكّة و حولها من الحرم.

ص: 122

و إنّما دعا إبراهيم بهذا الدعاء لمّا فرغ من بناء الكعبة، و إنّما ذكر البلد هنا معرّفا و في البقرة منكّرا، لأنّ النكرة إذا تكرّرت و أعيدت صارت معرفة، و مثله: «مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ» (1) فاستجاب اللّه دعاءه حتّى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرّض له و يدنو الوحوش فيها من الناس فيأمن منهم.

قوله: [وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَ أي و الطف لي و لبنيّ لطفا نجتنب به عن عبادة الأصنام و كان سؤاله مخصوصا بمن علم اللّه من حاله أن يكون مؤمنا لا يعبد إلّا اللّه و قد أذن له في الدعاء؛ لأنّ النبيّ لا يدعو بدعاء بغير إذن اللّه، و استجاب دعاءه فيهم.

[رَبِ إنّ الأصنام بسببهنّ و عبادتهنّ ضلّ كثير من الناس كما يقال فتنتي فلانة و فلان أضلّ بعيره أي ضلّ بعيره لأنّ أحدا لا يضلّ بعيره قاصدا إلى إضلاله [فَمَنْ تَبِعَنِي من ذرّيّتي الّذي أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة اللّه و حاله كحالي [وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ ساتر على العباد معاصيهم [رَحِيمٌ بهم.

ثمّ قال إبراهيم: [رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ بعض أولادي أي إسماعيل مع امّه هاجر و هو أكبر ولده، و روي عن الباقر أنّه قال: نحن بقيّة تلك العترة، و قال عليه السّلام: كانت دعوة إبراهيم لنا خاصّة [بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يريد وادي مكّة و هو الأبطح لأنّه يومئذ لم يكن بها زرع و لا ضرع [عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ لأنّ البيت قد كان قبل ذلك و قد خربه طسم و جديس أو رفعه اللّه إلى السماء أيّام الطوفان و إنّما سمّاه اللّه محرّما؛ لأنّه حرّم فيه ما احلّ في غيره من البيوت من الجماع و الملابسة بشي ء من الأقذار و الدماء. و قيل:

معناه: العظيم الحرمة.

[رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ] أي أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة و يقيموا بشرائطها [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل اللّه قلوب الخلق تحنّ إلى ذلك الموضع ليكون ذلك انسا لذرّيّته بمن يرد عليهم من الوفود، إمّا للدين كالحجّ و العمرة و إمّا للتجارة، و روي عن مجاهد أنّه قال: إنّ إبراهيم لو قال: «أفئدة الناس» لازدحمت عليه فارس و الروم. قال سعيد بن جبير: لو قال: «أفئدة الناس» لحجّت اليهود

ص: 123


1- النور: 35.

و النصارى و المجوس و لكنّه قال: «مِنَ النَّاسِ» فهم المسلمون [وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لكي يشكروا لك و يعبدوك.

[رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ قال إبراهيم: لمّا طلب التيسير في المنافع لأولاده و تسهيلها عليهم ذكر أنّه لا يعلم عواقب الأمور أحد، و أنّك عالم بأحوالنا و مصالحنا من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني و بين إسماعيل و ما نعلن من البكاء، و ما نخفي من الحزن المتمكّن في القلب و «ما نُعْلِنُ» يريد ما جرى بينه و بين هاجر حيث قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى اللّه أكلكم، قالت: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت:

إذن لا نخشى.

ثمّ قال إبراهيم: [وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ] قيل: هذا من كلام إبراهيم. و قيل: كلام اللّه تصديقا لإبراهيم.

ثمّ استحمد اللّه و قال: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ] و الشيخوخة [إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ فأمّا مقدار السنّ فغير معلوم من القرآن لكنّ الروايات تدلّ على أنّه لمّا ولد إسماعيل كان سنّ إبراهيم تسعا و تسعين، و لمّا ولد إسحاق كان سنّه مائة و اثنتي عشرة سنة، و إنّما ذكر هذا الاستحماد بعد مدّة من الدعاء و ما كان متّصلا هذا الكلام بالدعاء.

[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ] و بعض [ذُرِّيَّتِي لأنّ «من» للتبعيض لأنّه علم بإعلام اللّه إيّاه أنّه يكون في ذرّيّته جمع من الكفّار و ذلك قوله: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (1) و لمّا دعا اللّه بهذا الدعاء فقال: [رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ] يريد أجب دعوتي فإنّ قبول الدعاء إنّما هو الإجابة و قبول الطاعة الإثابة.

[رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ و استدلّوا أصحابنا بهذه الآية على أنّ أبوي إبراهيم لم يكونا كافرين لأنّه إنّما يسأل المغفرة لهما ليوم القيامة فلو كانا كافرين لما سأل ذلك لأنّه يعلم أنّ اللّه لم يكن ليغفر الكافر أبدا؛ لأنّه قال: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (2) فصحّ أنّ أباه الّذي كان كافرا إنّما هو جدّه لأمّه أو عمّه على الخلاف فيه، و لا يمكن أن يكون حال أبويه مجهولا عنده و هو على سنّ الشيخوخة حتّى أنّه يقال:

ص: 124


1- البقرة: 124.
2- التوبة: 115.

إنّه بعد علمه تبرّأ منه [وَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و اغفر للمؤمنين يوم [يقوم الخلق للحساب كما يقول: قامت السوق.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 45]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)

المعنى: قوله: [وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ في الآية دلالة على وجود القيامة لأنّه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون إمّا غافلا عن ذلك المظلوم و الظالم أو عاجزا عن الانتقام أو كان راضيا، و الثلاثة محال على اللّه؛ فامتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم، و لمّا كان امتناع هذه الغفلة معلوما لا جرم عدم الانتقام كان محالا، و هذا البيان تهديد للظالم و تعزية للمظلوم و لمّا ثبت الانتقام ثبت المعاد.

[و إنّما يؤخّر] عقابهم [لِيَوْمٍ تبقى عيونهم مفتوحة لا يطرفها لأجل الدهشة و الهول و مع شخوص أبصارهم مسرعين إلى نحو ذلك العذاب على ما يقتضي حال المدهوش أذلّاء خاشعين [مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعين رؤوسهم على خلاف ما يقتضي حال الذليل؛ لأنّه من يشاهد العذاب يطرق رأسه لكي لا يراه أحد و هؤلاء على خلاف ذلك يرفعون رؤوسهم شاخصة أبصارهم على الدوام، و قلوبهم خالية عن الشواغل حيث لا قوّة فيها و لا تشغلها الخواطر و الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة، و من كلّ رجاء و أمل لما تحقّقوه من العذاب خوفا و فزعا و قيل: خالية من كلّ سرور و طمع في الخير كالهواء الّذي بين السماء و الأرض. و قيل:

معناه أنّ أفئدتهم زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج و لا تعود إلى أماكنها بمنزلة الشي ء الذاهب في جهات مختلفة، المتردّد في الهواء.

قوله: [وَ أَنْذِرِ النَّاسَ معناه دم يا محمّد على شغلك و إنذارك الناس بتخوّفهم يوم القيامة [فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب المعاصي [رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي ردّنا في الدنيا و اجعل ذلك مدّة قريبة [نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيها [وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما يدعوننا

ص: 125

إليه فيقول اللّه مخاطبا لهم أو يقول الملائكة بأمره:

[أَ وَ لَمْ تَكُونُوا] حلفتم [مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا [ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي كنتم تعتقدون أنّه ليس لكم انتقال من الدنيا إلى الآخرة، و تكذّبون بها.

قوله: [وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ كذّبوا رسلهم من قبلكم فأهلكهم اللّه و عرفتم ما أنزل بهم من البلاء و العذاب المعجّل لقوم عاد و ثمود، و المقتولون ببدر، و بيّنّا لكم أخبار الماضين قبلكم لتعتبروا بها [وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ في القرآن فلم تتّعظوا و هي الأمثال المنبّهة على الطاعة و الزاجرة عن المعصية.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الإيمان من فعل العباد و لو كان من فعل اللّه لم يكن لتمنّي العود إلى الدنيا معنى.

قوله تعالى: [سورة إبراهيم (14): الآيات 46 الى 52]

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

المعنى: ثمّ أبان سبحانه عن مكر الكفّار و دفعه عن رسله تسلية لنبيّه فقال:

[وَ قَدْ مَكَرُوا] بالأنبياء قبلك ما أمكنهم من المكر كما مكروا بك فعصمهم اللّه كما عصمك [وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم، و حذف المضاف كما حذف من قوله: «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ» (1) أي جزاؤه واقع بهم [وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ قرأ بعض بفتح اللام الاولى و رفع اللام الاخرى و الأكثر بكسر الاولى و نصب الثانية؛ أمّا القراءة الاولى فمعناها أنّ مكرهم كان مكرا عظيما معدّا لأن تزول منه الجبال، و ليس المراد الإخبار عن وقوعه بل المبالغة في الشدّة و التهويل أي إنّهم مكروا في إبطال الحقّ و إثبات الباطل مكرهم العظيم الّذي ينبغي من عظمه أن تزول الجبال عن مقارّها.

ص: 126


1- الشورى: 22.

فحينئذ تكون «إن» وصليّة و هو كقوله: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» (1) و أمّا القراءة الثانية و هي أن تكون اللام الاولى مكسورة و الثانية مفتوحة، فحينئذ «إن» إن النافية بمعنى «ما» و الجبال مثل لأمر الدين و الحجج الإلهيّة أي لم يكن مكرهم ليبطل أمرك يا محمّد الّذي هو كالجبال في الثبات و أثبت من الجبال.

[فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ من النصر و الظفر بالكفّار [إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ] غالب على أمره ينتقم من أعدائه.

قوله: [يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بيّن سبحانه زمان انتقامه، و عظّم في البيان حال ذلك اليوم؛ لأنّ تعبير السماوات و الأرض أمر عظيم في العقول و النفوس و ليس أمر بأعظم منه، يقال: بدّلت الحلقة خاتما إذا أذبتها و سوّيتها و نقلتها من شكل إلى شكل. و روي عنه قال:

تبدّل آكامها و آجامها و جبالها و أشجارها و الأرض تبقى أرضا نقيّة بيضاء كالفضّة لم يسفك عليها دم و لم يعمل عليها خطيئة، و تبدّل السماوات فيذهب بشمسها و قمرها و نجومها. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يبدّل اللّه الأرض غير الأرض فيبسطها و يمدّها مدّ الأديم العكاظيّ فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا، ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدّلة مثل مواضعهم من الاولى.

و قيل: إنّ المعنى تبدّل الأرض و تنشأ أرض غيرها و السماوات كذلك تبدّل بغيرها و تفنى هذه. و في تفسير أهل البيت بالإسناد عن زرارة و محمّد بن مسلم و حمران بن أعين عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، قالا: تبدّل الأرض خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب. و روى سهل بن ساعدة عن النبيّ أنّه قال: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد. و روي عن ابن مسعود أنّه قال:

تبدّل الأرض بنار فتصير الأرض كلّها يوم القيامة نارا و الجنّة من ورائها ترى كواعبها و أكوابها، و بلجم الناس العرق، و لم يبلغ الحساب بعد. و قال كعب: تصير السماوات أجنانا و يصير مكان النحر النار، و تبدّل الأرض غيرها.

و روى أبو أيّوب الأنصاريّ قال: أتى النبيّ حبر من أحبار اليهود فقال: أ رأيت إذ

ص: 127


1- مريم: 91.

يقول اللّه تعالى في كتابه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟

فقال: أضياف اللّه فلن يعجزهم ما لديه. و قيل: تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة، و لقوم بأرض النار و قال الحسن: يحشرون على الأرض الساهرة و هي أرض غير هذه و هي أرض الآخرة و فيها تكون جهنّم. و تقدير الكلام: و تبدّل السماوات غير السماوات، إلّا أنّه حذف لدلالة الكلام.

[وَ بَرَزُوا لِلَّهِ أي يظهرون من أرض قبورهم للمحاسبة لا يسترهم شي ء للّه الغالب الّذي لا يقهره شي ء، و لمّا وصف ذاته سبحانه بالقدرة و القهر بيّن عجزهم و ذلّتهم أي المجرمين يومئذ بصفات:

الاولى كونهم [مُقَرَّنِينَ في القبور يقال: قرنت الشي ء بالشي ء إذا شددته و وصلته و «القرآن» اسم للحبل الّذي يشدّ به الشيئان أي كلّ كافر مع شيطان. و قيل: قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم أو يقرن بعضهم إلى بعض، و هو المراد بقوله: «وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» (1).

و الثانية [سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ أي قميصهم من قطران و هو ما يطلى به الإبل شي ء أسود لزج منتن يطلّون به كالقميص عليهم، ثمّ يرسل النار فيهم ليكون أسرع عليهم و أبلغ في الاشتعال و أشدّ في العذاب. و قيل: نحاس أو صفر مذاب قد انتهى حرّه. و حوّزوا على المعنيين أن يسربلوا سربالين أحدهما من القطران، و الآخر من القطران الآني. و «القطران» بمعنى الأوّل شي ء يتجلّب من شجر اسمه الأبهل، فيطبخ و يطلى به الإبل الجربيّ فيحرق الجرب بحرارته و حدّته و قد تصل حرارته إلى داخل الجوف، و من شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار و هذا أسود اللون منتن الرائحة فتطلى به جلود أهل النار حتّى تصير ذلك الطلى كالسرابيل فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران و حرقته و إسراع النار في جلودهم و اللون الوحش و نتن الريح، و التفاوت بين قطران القيامة و قطران الدنيا كالتفاوت بين النارين، و إذا كان القطران معناه الصفر المذاب و الآني المتناهي حرّه و تلك النار لا تبطل ذلك القطران و لا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم و الأغلال الّتي كانت عليهم.

ص: 128


1- التكوير: 7.

و الثالثة [وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ] و إنّما خصّ الذكر لأنّ في هذا العضو تبين الأثر أكثر من سائر الأعضاء كما أنّ القلب كذلك. و معنى «تغشى» أي تتغشّى قوله: [لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ المراد أنفس الكفّار لأنّ ما سبق لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان، و يمكن إجراء اللفظ على عمومه لأنّ الجزاء لائق بالعمل و الكسب.

ثمّ قال: [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ و لا يزيد على عقابهم الّذي يستحقّونه. قوله:

[هذا بَلاغٌ إشارة إلى القرآن أي هذا القرآن عظة [لِلنَّاسِ بالغة كافية أو إشارة إلى الوعيد المذكور [وَ لِيُنْذَرُوا] و ليبلّغوا غيرهم بما فيه.

[وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ] لا شريك له [وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ و أهل النهى و العقل، و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في جميع ما يحتاج إليه الناس في أمر الدين جملها و تفاصيلها يعلم بالقرآن إمّا بنفسه و إمّا بواسطة؛ فيجب على المؤمن المجتهد لأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب فهم القرآن و يصرف عنايته بمعرفته مكتفيا به عمّا سواه، لينال السعادة.

و في قوله: «وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» دلالة على أنّه أراد عن الناس علم التوحيد خلافا لأهل الجبر في قولهم: إنّه سبحانه أراد من النصارى التثليث و من المجوس التشبيه و الاثنينيّة، تعالى اللّه عن ذلك.

تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 129

سورة الحجر

اشارة

مكّيّة إلّا آيتين.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين و الأنصار و المستهزئين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و لمّا ختم اللّه السورة أي سورة إبراهيم بأنّ القرآن بلاغ و كفاية لأهل الإسلام افتتح هذه السورة بذكر القرآن و أنّه مبيّن للأحكام فقال:

ص: 130

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

المعنى: قد تقدّم الكلام في [الر] كرارا. قوله: [تِلْكَ أي هذه السورة تلك الآيات [الْكِتابِ الموعود به محمّد صلّى اللّه عليه و آله [وَ قُرْآنٍ عطف على الكتاب و إن كان هو الكتاب باعتبار اختلاف اللفظين و وصفه بالقرآن لأنّه ممّا يؤلّف و يجمع بعض حروفه إلى بعض.

و «ربّ» لا يدخل على الفعل إلّا إذا فصلت كلمة «ما» بينها و بين الفعل، و يقال: لم جاز «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» و الكفّار كثيرون و هي للتقليل؟

و جوابه على وجهين: أحدهما أنّه أبلغ في التهديد كما يقول: ربّما ندمت على هذا، و أنت تعلم أنّه يندم ندما طويلا أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره؟ و الثاني أنّه يشغلهم العذاب عن تمنّي ذلك إلّا في أوقات قليلة لأنّهم يتمنّون الإسلام إذا صار المسلمون إلى الجنّة و الكفّار إلى النار.

و روي عن ابن عبّاس قال: ما يزال اللّه يدخل الجنّة و يرحم و يشفع حتّى يقول:

من كان من المسلمين فليدخل الجنّة فحينئذ [يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ و قال الصادق عليه السّلام: ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: إنّه لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فثم يودّ سائر الخلق أنّهم كانوا مسلمين. و روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اجتمع أهل النار في النار و معهم من يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا في النار؟ قالوا:

كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيسمع اللّه ما قالوا فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فاخرجوا

ص: 131

منها، فحينئذ يقول الكفّار: يا ليتنا كنّا مسلمين! قوله تعالى: [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا] أي دعهم يأكلوا في دنياهم أكل الأنعام و يستلذّوا حالا بعد حال و يشغلهم آمالهم الكاذبة عن اتّباع الدين و القرآن [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وبال ذلك حين يحلّ بهم العذاب يوم القيامة، و في هذه الآية دلالة على أنّ الإنسان يجب أن يكون مستعدّا للموت مسارعا إلى التوبة و لا يأمل الآمال المؤدّية إلى الصدّ عنها؛ قال أمير المؤمنين: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى و ملول الأمل؛ فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ و طول الأمل ينسي الآخرة».

قوله: [ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ] أي لم تكن امّة فيما مضى تسبق أجلها قبل ذلك و لا تأخّر عن أجلها الّذي قدّر لها، بل إذا استوفت أجلها أهلكها اللّه.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 18]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)

المعنى: و قال المشركون للنبيّ: [يا أَيُّهَا الَّذِي بزعمه أنّه [نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن [إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ و فيه احتمالان: الأوّل أنّه عليه السّلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فزعموا أنّها جنون. أو أنّهم (1) كانوا يستبعدون منه كلاما يسمعون منه كترك العبادة للآلهة و أمثاله فنسبوه إلى الجنون لبعد ما يذكره من طريقتهم.

قوله: [لَوْ ما تَأْتِينا] و لو ما و هلّا و لو لا للتحريض بمعنى واحد أي هلّا تأتينا الملائكة

ص: 132


1- هذا تأنى الوجهين.

يشهدون بصدق نبوّتك [إِنْ كُنْتَ صادقا في دعواك، و يحتمل أن يكون المعنى أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يخوّفهم بالعذاب النازل؛ فكانوا يقولون و يطالبوه بالعذاب: لو ما تأتينا بالملائكة ينزلون علينا بذلك العذاب الّذي تخوّفنا به.

فأجاب سبحانه [ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ الّذي هو الموت لا يقع فيه تقديم و تأخير أو هو عذاب الاستئصال، و نحن ما حكمنا عليهم بعد بعذاب الاستئصال للإمهال بهم و علمنا من إيمان بعضهم و من إيمان أولاد الباقين [وَ] إذا أنزلنا الملائكة [ما كانُوا] ممهلين و مؤخّرين أي لا يمهلون ساعة.

ثمّ زاد سبحانه في البيان [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ] أي القرآن [وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن الزيادة و النقصان و التحريف و مثله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ» عليه متكفّل يحفظه إلى آخر الدهر عصرا بعد عصر لقيام الحجّة به. و يحتمل أن يكون الهاء راجعة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لدلالة حافظون للنبيّ عن كيد المشركين. و في هذا دلالة على حدوث القرآن إذ المحفوظ المنزّل لا يكون إلّا حادثا.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد رسلا- فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه- في فرق الأوّلين و الأمم السابقين عليك [وَ ما] كان [يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا] كانت الأمم [بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و هنا تسلية للنبيّ و استهزاؤهم استنكارهم لهم.

قوله: [كَذلِكَ نَسْلُكُهُ و في إرجاع الضمير قولان:

الاول يرجع إلى الشرك و الاستهزاء و الكفر و هو قول علماء الجبريّة، و هذا كلام بديهيّ البطلان؛ لأنّه تعالى لو كان هو الّذي يسلك الكفر و الشرك في قلب الكافر و يخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفّار، و لكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمّهم في الدنيا و أن يعاقبهم في الآخرة عليه و لكان الكفّار محمود بن إذا كانوا لا يؤمنون، و لا خلاف في أنّ الآية وردت على سبيل الذمّ لهم و لو كان اللّه قد سلك الكفر في قلوبهم لسقط عنهم الذمّ و لما جاز أن يقول لهم: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ ... لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» (1) «و كيف ينكر عليهم هذا الإنكار و هو الواضع 0،

ص: 133


1- مريم: 90،

في قلوبهم ذلك الكفر؟ و كيف يأمرهم بإخراجه من حيث وضعه فيه؟ تعالى عن ذلك.

و القول الثاني- و هو الصحيح- أنّ الضمير في «نَسْلُكُهُ» عائد إلى الذكر و هو القرآن أي هكذا نسلك القرآن أي نسمعهم و نخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم.

و بعبارة أوضح كما سلكنا كتب رسل ممّن تقدّم دعوتهم في قلوب أممهم كذلك سلكنا القرآن و الذكر في قلوب قومك يا محمّد و مع ذلك [لا يُؤْمِنُونَ بِهِ و ماضين على سنّة الجهل في تكذيبهم أنبياءهم و قد مضت [سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ على هذه الطريقة.

قوله: [وَ لَوْ فَتَحْنا] على هؤلاء المشركين، اعلم أنّ هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام «وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (1) و هذه الآية في قوله: «وَ لَوْ فَتَحْنا» وقعت عن قوم مخصوصين سألوا الرسول إنزال الملائكة فبيّن اللّه في هذه الآية أنّه إنّا لو فتحنا عليهم [باباً مِنَ السَّماءِ] ينظرون إليه [فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يعني لو يرون الكفّار أنّ الملائكة تصعد و تنزل من ذلك الباب، أو المعنى أنّ هؤلاء المشركين يعرجون إلى السماء من ذلك الباب و شاهدوا ملكوت السماء [لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ و شدّت و غطّيت و عميت [أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ سحرنا محمّد فيخيّل الأشياء إلينا على خلاف حقيقتها.

ثمّ ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال: [وَ لَقَدْ] هيّأنا و [جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً] أي منازل الشمس و القمر [وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ بالكواكب النيّرة، و هي اثنا عشر برجا [و حفظنا] السماء [مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مرجوم مرميّ بالشهب أو ملعون مشؤوم، و حفظ الشي ء عبارة عن نفي تطرّق الفساد فيه، و حفظ السماء من الشيطان المنع من ورود الشياطين إليها لاستراق السمع، و المراد بالسمع المسموع [إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي حاول أخذ المسموع من السماء في خفية فلحقه شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض بيّن لمن رآه.

و روى ابن عبّاس أنّه كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان، فكان يقعد من السماع مقاعد للسمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل و يخبر به الكاهن

ص: 134


1- الانعام: 7.

فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلمّا بعث اللّه عيسى منعوا من ثلث من السماوات و لمّا بعث محمّدا منعوا من الكلّ و حرست السماوات بالنجوم، فالشهاب من معجزات نبيّنا لأنّه لم ير قبل زمانه و المارد من الشياطين يعلو فرمى بالشهاب فيحرقه و لا يقتله، و منهم من يخبله فيصير غولا يضلّ الناس في البراري.

قوله: [سورة الحجر (15): الآيات 19 الى 25]

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19) وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ (23)

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

لمّا تقدّم ذكر السماء و ما فيها من الأدلّة و النعم أتبعه بذكر الأرض فقال: [وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها] أي بسطناها و جعلنا لها طولا و عرضا [وَ أَلْقَيْنا] و طرحنا [فِيها] جبالا ثابتة [وَ أَنْبَتْنا] في الأرض [مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ مقدّر معلوم، و قيل: يعني من كلّ شي ء يوزون في العادة كالذهب و الفضّة و الصفر و نحوها، أو ما يخرج من الأرض و إنّما خصّ الموزون بالذكر دون المكيل لأنّ غاية المكيل تنتهي إلى الوزن.

[وَ جَعَلْنا لَكُمْ في الأرض مَعايِشَ من زرع و نبات و مطاعم و مشارب تعيشون، و قيل:

هي التصرّف في أسباب الرزق. قال ابن عبّاس: لمّا بسط اللّه الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها اللّه بالجبال الثقال لكي لا تميل و الضمير في قوله: «وَ أَنْبَتْنا فِيها» الضمير إلى الأرض، و قيل: إلى الجبال الرواسيّ لأنّ المعادن إنّما تتولّد من الجبال.

و اعلم أنّ هذا العالم عالم الأسباب و اللّه تعالى إنّما يخلق المعادن و النبات و الحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم فلا بدّ و أن يحصل من الأرض قدر مخصوص و من الماء و الهواء كذلك و من تأثير الشمس و الكواكب في الحرّ و البرد مقدار مخصوص، و لو قدّرنا حصول الزيادة على القدر المخصوص أو النقصان لم تتولّد المعادن و النبات و الحيوان فكأنّه تعالى وزنها بميزان الحكمة.

ص: 135

قوله: [وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي و جعل لكم من لستم له برازقين من العبيد و الدوابّ يرزقهم اللّه و لا ترزقونهم. و ليس [مِنْ شَيْ ءٍ] ينزل من السماء و ينبت في الأرض [إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ و نحن مالكوه و قادرون عليه، و خزائن اللّه مقدوراته. و قيل: المراد به الماء الّذي منه النبات و هو مادّة كلّ شي ء [وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ ملقحة للسحاب محملة بالمطر [فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً] أي مطرا فأسقيناكم ذلك الماء [وَ ما أَنْتُمْ أيّها الناس لذلك الماء [بِخازِنِينَ و حافظين بل اللّه يحفظه ثمّ يرسله من السماء ثمّ يحفظه في الأرض ثمّ يخرجه من العيون بقدر الحاجة.

قوله: «وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» المطر و قادرين على تحفّظه بأن تنزلوه على وفق الحاجة موقع الاحتياج لأنّه هو السبب الأتمّ لمعايش الخلق و الأرزاق لبني آدم و غيرهم.

قوله: [وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ هذه الآية من دلائل التوحيد أنّه لا يقدر أحد على الإحياء و الإماتة و أنّه إذا مات جميع الخلايق يزول ملك كل أحد أي تزول هذه الملكيّة العارية عن جميع الخلق و يكون اللّه باق المالك للكلّ وحده فكان هذا الأمر شبيها بالإرث فكان وارثا من هذا الوجه.

و أمّا قوله: [وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ يريد أهل الطاعة [و الْمُسْتَأْخِرِينَ يريد المتخلّفين عن طاعة اللّه، و قيل: أراد بالمتقدّمين الصفّ الأوّل من أهل الصلاة و بالمستأخرين الصفّ الآخر. روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله رغّب في الصفّ الأوّل في الصلاة فازدحم الناس عليه فأنزل اللّه هذه الآية. و المعنى أنّا نجزيهم على قدر نيّاتهم. و قيل: المراد في صفّ القتال. و قيل:- و القائل ابن عبّاس- قال في رواية أبي الجوزاء: كانت امرأة حسناء تصلّي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان قوم يتقدّمون إلى الصفّ الأوّل لئلّا يروها و آخرون يتخلّفون و يتأخّرون ليروها و إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل اللّه هذه الآية. و قيل: المراد بالمستقدمين الأموات و بالمستأخرين الأحياء. و قيل: المراد بالمستقدمين الأمم السالفة و بالمستأخرين امّة محمّد. و قيل: المستقدمين من خلق و المستأخرون من لم يخلق، يعنى لا يخفى على اللّه خافية منهم في الحدوث و الوجود و الطاعة و المعصية [وَ إِنَّ رَبَّكَ عالم بأحوالهم و [هُوَ يَحْشُرُهُمْ فيثيبهم و يعاقبهم، و [حَكِيمٌ في أفعاله [عَلِيمٌ باستحقاقهم.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 26 الى 35]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)

ص: 136

لمّا ذكر سبحانه عالم الحياة و الموت و البعث في الآية السابقة عقّبه ببيان النشأة الأولى فقال:

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم من طين يابس متصلصل أي له صوت يسمع عند النقر و يقعقع. و قيل: طين صلب يخالطه الكثيب. و قيل: منتن [مِنْ حَمَإٍ] متغيّر إلى السواد [مَسْنُونٍ أي مصبوب كأنّه افرغ كما يصبّ الذهب و الفضّة.

و اعلم أنّه ثبت بالدلائل و البراهين أنّه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوّل لها و إذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أوّل هو أوّل الحوادث، و إذا كان كذلك فلا بدّ انتهاء الناس إلى إنسان هو أوّل الإنسان، فذلك الإنسان الأوّل غير مخلوق من الأبوين فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة اللّه.

فقوله: «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» إشارة إلى ذلك الإنسان الأوّل، و المفسّرون أجمعوا على أنّ المراد منه هو آدم عليه السّلام و نقل حديث عن محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام أنّه قال: قبل آدم الّذي هو أبونا قد انقضى ألف ألف آدم أو أكثر. و هذا لا يقدح في حدوث العالم بل الأمر كيف كان فلا بدّ من الانتهاء إلى إنسان أوّل هو أوّل الناس. و اعلم أنّ الجسم محدث فوجب القطع بأنّ آدم و غيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض، فحينئذ بيّن أنّه خلقه أوّلا من تراب ثمّ من طين ثمّ من حمأ مسنون ثمّ من صلصال يتصلصل و هو غير مطبوخ و إذا طبخ فهو فخار.

قال المفسّرون خلق اللّه آدم من طين فصوّره و تركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالا يتقرقع كالخزف مصوّر بهذه الصورة الحسنة إلى أن نفخ فيه الروح فكانت الريح

ص: 137

إذا مرّت به سمع له صلصلة.

و قوله: «حَمَإٍ مَسْنُونٍ» و هو الطين الأسود المنتن، و المسنون المتغيّر من قوله: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» (1) أي لم يتغيّر و لا تناقض؛ لأنّ هذه الأمور مراتب من الترابيّة إلى الطينيّة إلى التصلصل إلى الحمئيّة إلى نفخ الروح.

قوله: [وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق آدم [مِنْ نارِ] لها ريح حارّة تقتل.

قيل: هي نار لا دخان لها، و الصواعق تكون منها. و الجانّ، قيل: إنّه إبليس. و قيل: هو أب الجنّ و سمّي جانّا لتواريه عن أعين الناس كما يسمّى الجنين جنينا لهذا السبب. فالجانّ يمكن أن يكون بمعنى الفاعل لأنّه تستر نفسه عن الأعين، و يمكن أن يكون بمعنى المفعول كماء دافق و عيشة راضية.

و اختلفوا في الجنّ فقيل: إنّهم جنس غير الشيطان. و الأصحّ أنّ الشياطين قسم من الجنّ فكلّ من كان منهم مؤمنا يسمّى الجنّ و كلّ من كان كافرا يسمّى الشياطين و ليس فيهم نتاج إنّما يبيض و يفرخ و ولده ذكور و ليس فيهم إناث.

و القميّ قال: الجنّ من ولد الجانّ منهم مؤمنون و كافرون يهود و نصارى، و يختلف أديانهم، و الشياطين من ولد إبليس، و ليس فيهم مؤمن إلّا واحد اسمه هام بن هيم بن لا قيس ابن إبليس، جاء إلى رسول اللّه فرآه جسيما عظيما و أمرا مهوّلا، فقال له: من أنت؟ قال:

أنا هام بن هيم كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما أبا أعوام، أنهى عن الاعتصام و امر بإفساد الطعام. فقال رسول اللّه: بئس لعمري الشباب المؤمّل و الكهل المؤمّر فقال: دع عنك هذا يا محمّد فقد جرت توبتي على يد نوح، و لقد كنت معه في السفينة، فعاتبته على دعائه على قومه، و لقد كنت مع إبراهيم حيث القي في النار فجعلها اللّه بردا و سلاما، و لقد كنت مع موسى حين غرق اللّه فرعون و نجّى بني إسرائيل، و لقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته، و لقد كنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه، و لقد قرأت الكتب فكلّها يبشّرني بك و الأنبياء يقرءونك و السلام، و يقولون: أنت أفضل الأنبياء و أكرمهم.

فعلّمني ممّا أنزل اللّه إليك شيئا فقال رسول اللّه لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: علّمه. فقال هام: إنّا

ص: 138


1- البقرة: 259.

لا نطيع إلّا الأنبياء أو وصيّ نبي فمن هذا؟ قال: هذا أخي و وصيّي و وزيري و وارثي عليّ ابن أبي طالب. قال هام: نعم نجد اسمه في الكتب إليا. فعلّمه أمير المؤمنين فلمّا كانت ليلة الهرير جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

قوله تعالى: [وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ] و اذكر يا محمّد إذ قال ربّك: [إِنِّي سأخلق [بَشَراً] أي آدم، و سمّي بشرا لأنّه ظاهر الجلد غير متوار بشعر و صوف و نحوه [مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قال سيبويه: المسنون هو المصوّر بصورة، مرّ معناه [فَإِذا سَوَّيْتُهُ بإتمام الخلقة و تعديل صورته و أجريت فيه الروح فخرّوا [لَهُ ساجِدِينَ و أضاف الروح إلى نفسه تكرمة له كسبة البيت إليه للتعظيم كإضافة الملك إليه.

[فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بعد تأكيد، و قيل: إنّ «أَجْمَعُونَ» تأكيد للسجود بأنّ السجود وقع في حالة واحدة دفعة و كلمة «كلّهم» تأكيد للساجدين [إِلَّا إِبْلِيسَ امتنع أن يسجد معهم [قالَ يا إِبْلِيسُ و هذا خطاب من اللّه أي أيّ شي ء وقع لك في امتناعك عن السجود كما سجدوا؟ و الخطاب وقع على لسان بعض رسله لأنّه لا يصحّ أن يكلّمه اللّه بلا واسطة في زمان التكليف [قالَ إبليس مجيبا [لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ] و لا ينبغي أن [أسجد لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ لأنّي أشرف أصلا منه. و لم يعلم الخبيث أنّ التفاضل بالدين و الامتثال لا بالبنية و الأصل.

[قالَ اللّه [فَاخْرُجْ مِنْها] من الجنّة [فَإِنَّكَ مطرود ملعون، و قوله تعالى: «فَاخْرُجْ مِنْها» قيل: المراد أي من جنّة عدن. و قيل: من السماوات قيل: من زمرة الملائكة. و قوله:

[وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ مشعر بأنّ اللعن ثابت له إلى يوم القيامة أي انتهاء الغاية يوم القيامة و عند القيامة يزول اللعن، و أجابوا بأنّ ذكر الغاية للتأبيد و ذكر القيامة لأنّها أبعد غاية يذكرها الناس في كلامهم كقولهم «ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ»* أو المراد أنّك مذموم ملعون إلى ذلك اليوم من غير عذاب فإذا جاء ذلك اليوم يفنى اللعن و يأتي العذاب و بسبب شدّة العذاب يذهل اللعن.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 36 الى 44]

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

ص: 139

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه ما سأله إبليس عند إياسه من الآخرة فقال: ربّي فأمهلني و أخّرني [إِلى يَوْمِ يحشرون للجزاء، استنظره لئلّا يموت إلى يوم القيامة فلم يجبه اللّه إلى ذلك بل [قالَ له [فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و غرض إبليس أن لا يموت أبدا لأنّه إذا أنظره سبحانه إلى يوم القيامة فحينئذ لا يموت أبدا لأنّ يوم القيامة لا يموت أحد و لذا لم يجبه اللّه إلى مسؤوله.

و إنّما أنظره إلى الوقت المعلوم عنده سبحانه و لا يعلم ذلك العلم غيره و هو وقت النفخة الاولى حين يموت جميع الخلائق و قيل: الوقت المعلوم يوم القيامة أنظره اللّه في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة. و قيل: هو الوقت الّذي قدّر اللّه أجله فيه.

قوله تعالى: [رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ الإغواء الأوّل و الثاني بمعنى الإضلال أي كما أضللتني لأضلّنّهم.

و هذا لا يجوز لأنّ اللّه سبحانه لا يضلّ عن الدين لأنّ هذه الصفة لو كان في إنسان لكان قبيحا عنه فكيف باللّه الغنيّ؟ إلّا أن يحمل على أنّ إبليس كان معتقده معتقد من فسّر هذه الآية بهذا المعنى و هو الجبر.

و ثانيها بمعنى التخيّب أي بما خيّبتني من رحمتك لأخيّبنّهم بالدعوة إلى معصيتك كما قال الجبّائيّ.

و ثالثها أنّ معناه بما أضللتني عن طريق جنّتك لأضلّنّهم بالدعاء إلى معصيتك، و رابعها بما كلّفتني السجود لآدم الّذي غويت عنده فسمّي ذلك غواية كما قال: «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (1)، وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ» (2) و الباء في قوله «بِما أَغْوَيْتَنِي» للقسم و قيل: بمعنى السبب أي بكوني غاويا لأزيّننّ كما يقال: بطاعته لتدخل الجنّة و بمعصيته

ص: 140


1- التوبة: 126.
2- الشورى: 40.

لتدخل النار، و مفعول التزيين محذوف أي لأزيّننّ الباطل لهم.

و اعلم أنّ إمهال اللّه إبليس هذه المدّة ما أجبر الخلق على الكفر و المعاصي و ما نفى الاختيار عن المكلّف، و إنّما للمكلّف الاختيار فإطاعته لإبليس من سوء اختيار المكلّف و حكم إمهال إبليس كحكم خلق السمّ و إنّما خلق السمّ لمصلحة اخرى فأنت إذا شربته و هلكت فهل على خالق السمّ بأس فالشيطان كذلك و إنّما أمهله جزاء على عبادته و منعك أيّها المكلّف عن إطاعته و أكّد البيان لك بأنّه عدوّ مبين فهلّا أطعت مولاك و خالفت عدوّك فتسعد؟

ثمّ إنّ الشيطان يعترف بأنّه ما كان له عليكم من سلطان و قدرة قاهرة. و إنّما يأتيكم بالوسوسة، و الكافر و العاصي بسبب ميله إلى ذلك الأمر يقبل تلك الوسوسة نهاية الأمر أنّ عدم الوسوسة أسهل حالا من الوسوسة، و التكليف لا بدّ فيه من صعوبة و لا يمنع الحكيم من فعله.

قوله: [إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ و هم الّذين أخلصوا عبادتهم للّه و امتنعوا عن إطاعة الشيطان و انتهوا عمّا نهاهم اللّه عنه، و من قرأ بصيغة المفعول فهم الّذين أخلصهم اللّه و وفّقهم لذلك ليس للشيطان عليهم سبيل.

قوله: [قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قيل: في تفسيره وجوها: الأوّل أنّ إبليس لمّا قال: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» فقوله «هذا» إشارة إلى الإخلاص، و المعنى أنّ الإخلاص طريق عليّ و إليّ و يؤدّي إلى كرامتي و هو طريق مستقيم: و قيل: «عَلَيَّ» بمعنى «إليّ» و قيل:

معناه هذا الإخلاص صراط من مرّ عليه فكأنّه مرّ عليّ و على رضواني و هو كقولك: طريقك عليّ. و قيل: «عليّ» بالتنوين بمعنى الصفة يعني صراط عال رفيع مستقيم لا عوج فيه. و قيل:

معناه أنّ هذا صراط حقّ عليّ أن اراعيه مستقيم و هو أن لا يكون لك سلطان على المخلصين. و قيل: «صراط عليّ» بالإضافة، عن السجّاد، أي صراط عليّ أمير المؤمنين مستقيم، قاله العيّاشيّ و جماعة.

قوله: [إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ لأنّ من قبل منه صار له عليه سلطانا يعدله عن الهدى فاستثنى من الّذين ليس له عليهم سلطة فصار متّصلا. و قيل: إنّ الاستثناء متقطع و المراد:

ص: 141

لكن من اتّبعك من الغاوين جعل لك على نفسه سلطانا.

[وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي موعد الإبليس و من تبعه [لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ فيه قولان: أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين أنّ جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض، و وضع إحدى يديه الشريفة على الاخرى فقال: هكذا، و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها «جهنّم» و فوقها «لظى» و فوقها «الحطمة» و فوقها «السقر» و فوقها «الجحيم» و فوقها «السعير» و فوقها «الهاوية». و في رواية الكلبيّ أسلفها «الهاوية» و أعلاها «جهنّم».

و قيل: سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها لأهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم و أعمارهم في الدنيا، ثمّ يخرجون. و الثاني فيه اليهود، و الثالث فيه النصارى، و الرابع فيه الصابئون، و الخامس فيه المجوس، و السادس فيه مشركو العرب، و السابع فيه المنافقون و ذلك قوله: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (1). [لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي من الغاوين [جُزْءٌ مَقْسُومٌ و نصيب مفروض و ذلك أنّ مراتب الكفر مختلفة بالشدّة و الخفّة.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 45 الى 50]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)

وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)

لمّا ذكر سبحانه عبادة المخلصين عقّبه بذكر حالهم في الآخرة فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ الّذين يتّقون عقاب اللّه باجتناب معاصيه في بساطين خلقت لهم [وَ عُيُونٍ من ماء و خمر و عسل تفور من الفوّارة ثمّ تجري في مجاريها يقال لهم: [ادخلوا] الجنّات بسلامة من الآفات و المكاره [آمِنِينَ من الإخراج منها ساكني النفس، و أزلنا عن صدور أهل الجنّة ما فيها من أسباب الحسد و العداوة و التنافس حال كونهم [إِخْواناً] متوادّين، فيصفو لذلك عيشهم كائنين [عَلى سُرُرٍ] متواجهين ينظر بعضهم إلى وجه بعض حتّى قيل: إنّ أهل الجنّة لا يرى الرجل قفا زوجته، و لا ترى زوجته قفاه لأنّ الأسرّة تدور بهم كيف ما شاؤوا حتّى يكونوا

ص: 142


1- النساء: 144.

متقابلين في عموم أحوالهم [لا يَمَسُّهُمْ في الجنّة عناء و تعب و يبقون فيها مؤبّدين.

[نَبِّئْ عِبادِي ثمّ أمر سبحانه نبيّه أن يخبر عباده بكثرة رحمته لأوليائه و شدّة عذابه لأعدائه. قال الرازيّ: و اعلم أنّه قد ثبت في اصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ففي الآية وصفهم بكونهم عبادا له ثمّ ذكر بعد هذا الوصف بكونه غفورا رحيما، و من خالف عبادته و أنكر كان مستوجبا للعقاب الأليم.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 51 الى 60]

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)

لمّا ذكر سبحانه الوعد للمتّقين و الوعيد للعاصين و شرح أحوال السعداء و الأشقياء أتبعه بذكر قصص الأنبياء ليكون سماعها مرغّبا في الطاعة و محذّرا عن المعصية فبدأ بقصّة إبراهيم عليه السّلام، و الضمير في قوله: «وَ نَبِّئْهُمْ» عائد إلى قوله: «عِبادِي» و الضيف الوارد إلى غيره لطلب القرى و هو في الأصل مصدر يقع على الواحد و الاثنين و الجمع وصف به، و قد تجمع على الضيفان و الضيوف و الأضياف.

قوله: [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ يعني الملائكة لأنّهم وردوا بصورة الضيف [فَقالُوا سَلاماً] أي سلّموا عليه سلاما على وجه التحيّة و بشّروه بالولد و بإهلاك قوم لوط [قالَ إبراهيم [إِنَّا مِنْكُمْ خائفون و إنّما خاف منهم لأنّهم وردوا بغير إذنه و لم يأكلوا [قالُوا] لا تخف [إِنَّا نُبَشِّرُكَ و نخبرك بما يسرّك بولد يكون غلاما و يكون عليما إذا بلغ.

[قالَ إبراهيم: [أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود في حال الكبر الّذي يوجب اليأس [فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أ بأمر اللّه فأثق به أم من جهة أنفسكم؟ و معنى «مَسَّنِيَ الْكِبَرُ» أي غيّرني الكبر

ص: 143

[قالُوا بَشَّرْناكَ على وجه الحقيقة بأمر اللّه [فَلا تَكُنْ مِنَ الآيسين فأجابهم إبراهيم: [وَ مَنْ يَقْنَطُ] أي و من الّذي ييئس [مِنْ رَحْمَةِ] اللّه [إِلَّا الضَّالُّونَ عن الحقّ الجاهلون بقدرته. و قولهم لإبراهيم: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» لا يدلّ على أنّ إبراهيم كان قانطا و نهي الإنسان عن الشي ء لا يدلّ على كون المنهيّ فاعلا للمنهيّ عنه كما في قوله: «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ»* (1).

ثمّ قال بعد ذلك للملائكة: [فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي ما شأنكم؟ و سمّاهم مرسلين لأنّه عليه السّلام علم أنّهم ملائكة [قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و أخبروه بهلاكهم [إِلَّا آلَ لُوطٍ] و هم خاصّته و إنّما استثناهم و ما كانوا مجرمين من حيث إنّهم كانوا من قوم لوط [إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ لأنّها كانت كافرة [قَدَّرْنا إِنَّها] و قضينا و حكمنا بحكم اللّه أنّها من الباقين في المدينة مع المهلكين.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 72]

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)

قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

ثمّ لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطا يخبرونه بهلاك قومه [فَلَمَّا جاءَ] المرسلون إلى لوط بهيئة حسنة و جمال لم ير مثلهم أنكر شأنهم و هيئتهم و ما عرفهم [قالَ إِنَّكُمْ غير معروفين عندي عرّفوني أنفسكم قالت الملائكة: [قالُوا بَلْ جِئْناكَ بأمر كانوا يشكّون في وقوعه إذا كنت تخوّفهم و لا يصدّقون بقولك [وَ أَتَيْناكَ بالعذاب المستقين به [وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك.

[فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الإسراء سير الليل أي سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل و تبقى

ص: 144


1- الأحزاب: 1.

قطعة منه و اقتف آثار أهل بيتك و كن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا تتخلّف أحد منهم [وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ] إلى ما خلّف وراءه في المدينة أي لا ينظر منكم وراءه لئلّا يرون العذاب فيفزعوا [وَ امْضُوا حَيْثُ أمركم اللّه بالذهاب إليه و هو الشام، و حاصل المعنى: إذا بقي من متاعكم شي ء في المدينة فلا ترجعوا إليه و امضوا حيث تؤمرون، لأنّ جبرئيل أمر لوطا أن ينزل قرية معيّنة لم يعملوا عمل قوم لوط [أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ أي آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح و مستأصلون بالعذاب على وجه لا يبقى منهم أثر و لا نسل و لا عقب.

[وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ] يبشّرون بعضهم بعضا بنزول من هو في صورة الأضياف بلوط طمعا في أن ينالوا الفجور منهم [قالَ لوط لهم: [إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي و لا تخزون في ضيفي [قالُوا] له: [أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ أن تجير أحدا؟ و إنّما قال لوط لهم هذا الكلام قبل أن يعلم أنّهم الملائكة بعثوا لإهلاك قومه [قالَ لوط لقومه لمّا قصدوا السوء: [هؤُلاءِ بَناتِي فتزوّجوهنّ لكم إن كان لكم رغبة و تطلبون التزويج، قيل: إنّه عرض بنات قومه عليهم و قد كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر، أو بناته من صلبه لرئيسهم حتّى يسلم من شرّهم.

[لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لعمرك قسمي أي و حياتك يا محمّد و مدّة بقائك و قال المبرّد: هو دعاء و معناه أسأل عمرك. قال ابن عبّاس: ما خلق اللّه عزّ و جلّ و لا ذرأ و لا برأ نفسا أكرم عليه من محمّد و ما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلّا بحياته. لفي غفلتهم يتحيّرون و يتردّدون فلا يبصرون طريق الرشد.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 77]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

[فَأَخَذَتْهُمُ صيحة جبرئيل أو مطلق الصيحة [مُشْرِقِينَ أي وقت بزوغ الشمس و طلوعها و عذّبوا بثلاثة أنواع من العذاب: أحدها الصيحة الهائلة المنكرة، و الثاني أنّه جعل عاليها سافلها، و الثالث أنّه أمطرنا عليهم حجارة من سجّيل [إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور الواقعة دلالات للمتفرّسين المتدبّرين، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسم. قال الصادق عليه السّلام: نحن المتوسّمون، و السبيل فينا مقيم و السبيل طريق الجنّة. و الوسم العلامة.

ص: 145

قوله: [وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ و الضمير عايد إلى مدينة قوم لوط أي هذه القرى و ما ظهر فيها من آثار قهر اللّه و غضبه لبطريق مسلوك ثابت يسلكها الناس في حوائجهم و يرونها، لأنّ آثارها باقية و هي مدن أربعة، أكبرها سدوم بين المدينة و الشام، و هي عبرة [لِلْمُؤْمِنِينَ و أمّا الّذين لا يؤمنون فإنّهم يحملونها على حوادث العالم و وقائع القرانات الكوكبيّة و الاتّصالات الفلكيّة.

قوله: [سورة الحجر (15): الآيات 78 الى 84]

وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)

هذه القصّة الثالثة، الاولى قصّة إبليس و آدم، الثانية قصّة إبراهيم و لوط، و هذه قصّة أصحاب الأيكة، و هم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض فكذّبوا شعيبا فأهلكهم اللّه بعذاب يوم الظلّة، و الأيكة الشجر الملتفّ يقال: أيكة و أيك كشجرة و شجر. و قيل: الأيك شجرة المقلّ. و قيل: الأيكة الغيض.

[وَ إِنْ كانَ «إن» هي المخفّفة أي إنّ الشأن كان [أَصْحابُ شعيب أهل [الْأَيْكَةِ] فكانوا ظالمين و متجاوزين عن الحدّ [فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب من الطائفتين من قوم شعيب و من قوم لوط و الانتقام نقيض الإنعام [وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي و إنّ مدينتي قوم لوط و شعيب بطريق يؤمّ و يتّبع و يهتدى به، و سمّي الطريق إماما لأنّ الإنسان يؤمّه. و قيل: معناه أنّ حديث مدينتيهما لمكتوب مذكور في اللوح المحفوظ نظير قوله: «وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» (1) و المبين الظاهر.

قوله: [وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ هذا هو القصّة الرابعة و هي قصّة صالح، الحجر اسم واد كان بسكنها ثمود. قوله: «الْمُرْسَلِينَ» المراد صالح وحده. لعلّ القوم كانوا براهمة منكرين لكلّ الرسل [وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا] يريد الناقة و كان في الناقة آيات كثيرة [فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أو المعنى أنّ المراد من تكذيب صالح تكذيب تمام المرسلين لأنّ تكذيب

ص: 146


1- يس: 12.

نبيّ واحد تكذيب الأنبياء لأنّهم بأجمعهم يدعون الناس إلى توحيد اللّه و ليس فيهم اختلاف.

و كان قوم صالح أقوياء [يَنْحِتُونَ لمساكنهم [مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً] و كانوا [آمِنِينَ من خرابها [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ] في وقت الصبح [فَما أَغْنى و نفع و دفع ما كانوا جامعين من الأولاد و المال و أنواع الملاذّ.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 91]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)

النظم: تصبير النبيّ على سفاهة قومه فإنّه إذا سمع مكرّرا أنّ الأمم السالفة يعاملون أنبياءهم بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل عليه تحمّل تلك السفاهات. و لمّا ذكر في الآيات السابقة الإهلاك و التعذيب فكأنّه قيل: الإهلاك و التعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم؟ فأجاب عنه بأنّي إنّما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة و الطاعة فإذا تركوها وجب في الحكمة إهلاكهم و تطهير وجه الأرض منهم فقال:

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي إنّا ما خلقنا خلقا عبثا بل لما اقتضته الحكمة و ما خلقنا أمرا باطلا، بل خلقناهم، ثمّ نجازيهم بما عملوا [وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ] و جائية للمجازاة و إنّ اللّه لينتقم ممّن خالف دين الحقّ. ثمّ صبّره و أمره أن يعرض عنهم في موضع الإعراض و يتحلّم و يعفو عنهم عفوا جميلا و يعظهم. قال أمير المؤمنين:

إنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب و توبيخ و تعنيف.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ للأشياء عليم بمصالح الأمور و هو يعلم المصالح فتارة يأمرك بالعفو و تارة يأمرك بالسيف، و هذه الآية صريحة على أنّ اللّه لم يخلق الباطل و الكفر أبدا و لا يرضى به و ما أبقى حجّة للجبريّة و نقضت غزلهم.

ص: 147

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي و لمّا أمر بالصفح و التجاوز أتبع بذكر النعم العظيمة الّتي خصّ اللّه محمّد بها فقال: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي» و المثاني جمع واحدته مثناه، و المثناة كلّ شي ء ينثى أي يجعل اثنين من قولك: ثنّيت الشي ء إذا عطفته أو ضممت إليه آخرا، و منه يقال لمرفقي الدابّة: مثاني، لأنّها تثنّى بالعضد، فمفهوم سبع المثاني سبعة أشياء من جنس الأشياء الّتي تثنّى.

و بالجملة للناس فيه أقوال:

الاول عن عليّ عليه السّلام و جمع من الصحابة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرأ الفاتحة و قال: هي السبع المثاني، و السبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنّها سبع آيات تثنّى في كلّ صلاة و يقرأ مرّتين و لأنّها قسّمت قسمان ثناء و دعاء يقول اللّه: قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين: نصف حقّ الربوبيّة و نصف حقّ العبوديّة و هو الدعاء. أو لأنّ كلماتها مثنّاة مثل الرحمن الرحيم إيّاك نعبد و إيّاك نستعين.

ثمّ هاهنا تحقيق و هو أنّ إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن بقوله:

«سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» يدلّ على مزيّة فضل و شرف في هذه السورة، ثمّ إنّه لمّا رأينا أنّ رسول اللّه واظب على قراءتها في جميع الصلوات و ما أقام سورة غيرها مكانها في شي ء من الصلوات و قوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب و لا يجوز الإبدال دلّ على خصوصيّة شرافتها، هذا هو القول الأوّل من الأقوال.

الثاني: هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف، و الأنفال و التوبة معا قالوا: و سمّيت هذه السور بالمثاني لأنّ الفرائض و الحدود و الأمثال و العبر ثنّيت فيها.

و أنكروا هذا القول و قالوا: هذه الآية مكّيّة و أكثر هذه السور السبعة مدنيّة فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها؟

و أجابوا بأنّ اللّه تعالى أنزل القرآن كلّه إلى السماء الدنيا ثمّ أنزله نجوما فلمّا أنزله إلى السماء الدنيا فهو من جملة ما أتاه و إن لم ينزل عليه بعد. و أجابوا عن هذا الجواب بأن الإتيان إنّما يصدق إذا وصل إلى محمّد فأمّا الّذي أنزله إلى السماء الدنيا و هو لم يصل إليه بعد لا يصدق عليه الإتيان.

ص: 148

و قيل أقوال آخر ذكرها يوجب التطويل.

قوله: [وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يعني و آتيناك القرآن العظيم لأنّه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من امور الدين بأوجز لفظ و أحسن نظم.

قوله: [لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر و لا ترفع عينيك من هؤلاء الكفّار إلى ما متّعناهم و أنعمنا عليهم من زهرات الدنيا فإنّها في معرض الزوال و الفناء مع ما يتبعها من الحساب و الجزاء به [أَزْواجاً مِنْهُمْ منصوبا على الحال و المراد به أشباها و أمثالا من النعم يشبه بعضها بعضا، و قيل: أزواجا منهم يعني أصنافا من الكفّار، و الزوج في اللغة الصنف.

و بالجملة فالمراد أنّه لا تنظر إلى ما متّعناهم من النعم، فإنّ ما أنعمنا عليك و على من اتّبعك من أنواع النعم خير و أحسن كالإسلام و القرآن و النبوّة و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا، و منه الحديث: ليس منّا من لم يستغن بالقرآن و من اوتي القرآن فرأى أنّ أحدا اوتي من الدنيا أفضل ممّا اوتي فقد صغّر عظيما و عظّم صغيرا.

و قيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير فيها أنواع البزّ و الطيب و الجواهر و سائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و لأنفقناها في سبيل اللّه، فقال اللّه لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى نعم بني المصطلق و قد عبست في أبو الها و أبعارها فتقنع في ثوبه و قرأ هذه الآية. و «عبست في أبوالها» المراد سمنها و كثرة شحومها و لحومها. الخطاب و إن كان له إلّا أنّ المراد أمّته.

قوله: [وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكفّار إن لم يؤمنوا أو نزل بهم العذاب و بما يصيرون إليه من عذاب النار بكفرهم و لما أنعمت عليهم دونك [وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي و ألن لهم جانبك و ارفق بهم، و فلان خافض الجناح إذا كان وقورا حليما، و أصله أنّ الطائر إذا ضمّ فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثمّ خفضه، أي تواضع للمؤمنين لكي يتّبعك الناس في دينك.

ص: 149

[وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي أنا المعلم بموضع المخافة، فيدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلّغا لجميع التكاليف؛ لأنّ كلّ ما كان واجبا ترتّب على تركه عقاب و كلّ ما كان حراما ترتّب على فعله عقاب، فكان الإخبار بحصول العقاب داخلا تحت لفظ النذير.

قوله: [كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قيل: هم الّذين اقتسموا طرق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان برسول اللّه و يقرب عددهم من أربعين. و قيل: كانوا ستّة عشر رجلا بعثهم الوليد ابن مغيرة أيّام الموسم فاقتسموا عقبات مكّة يقولون لمن يسلكها: لا تغترّوا بالخارج منّا يدّعي النبوّة؛ فإنّه مجنون. و كانوا ينفّرون الناس عنه بأنّه ساحر أو كاهن أو شاعر فأنزل اللّه عليهم خزيا فماتوا شرّميتة. و المعنى أنذرتكم مثل ما نزل على المقتسمين. و في بعض الروايات أنّ المقتسمين هم اليهود و النصارى و اختلفوا في أنّ اللّه لم سمّاهم مقتسمين؟ لأنّهم [جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ آمنوا بما وافق التوراة و كفروا بالباقي، و قيل: لأنّهم اقتسموا القرآن استهزاء به كقسمة الجزور، فقال بعضهم: سورة كذا لي و سورة كذا لي. أو قال بعضهم: سحر. و قال بعضهم: شعر. و قال بعضهم: أساطير الأوّلين، و أنزل اللّه على المقتسمين عذابا فرمتهم الملائكة بالحجارة حتّى ماتوا شرّ ميتة، فالتشبيه يرجع إلى هذا.

المعنى: و قل إنّي أنا النذير المبين عذابا كما أنزلنا على المقتسمين، أو المعنى إنّا آتيناك السبع المثاني كما آتينا العذاب على المقتسمين، و الجملة المعترضة بقوله: «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» وقعت بين المشبّه و المشبّه به للتسلية من حال الرسول. و مفرد «العضين» عضة مثل ثبة، و أصلها عضوة أي قطعة و التعضية التجزية فالمعنى جزّءوا القرآن أجزاء متفرّقه.

قوله تعالى: [سورة الحجر (15): الآيات 92 الى 99]

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

لمّا بيّن سبحانه كفرهم بالقرآن عقّبه بأنّهم المسؤولون أجمعون و أقسم بنفسه أنّهم المسؤولون أو جميع الخلق مسؤولون عن الكفر و غيره من عامّة أفعالهم [فَاصْدَعْ و فرّق بين

ص: 150

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 199

الحقّ و الباطل و أبن ما أمرتك لهم، و تكلّم جهارا لهم، و تأويل الصدع في الزجاج بتباين بعض عن بعض [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ و لا تلتفت إلى لومهم و لا تبال بهم.

[إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ و شرّهم بأن أهلكناهم، و بيان إهلاكهم أنّ جبرئيل أتى النبيّ و المستهزئون يطوفون بالبيت فأشار جبرئيل إلى بعض منهم بساقه و إلى بعض برأسه و بعينه فمرضوا في برهة قليلة من الزمان و ماتوا شرّميتة.

قوله: [وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ من سفاهة قومك و استهزائهم لك فقل: سبحان اللّه و بحمده و احمد ربّك على نعمه إليك، و كن من المصلّين، قال ابن عبّاس: كان رسول اللّه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة [وَ اعْبُدْ رَبَّكَ إلى أن [يَأْتِيَكَ الموت و هذا أمر بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيّا، و الفائدة في هذا التوقيت أنّ الإنسان يكون مادام عمره لا بدّ أن لا يخلو عن النظر في عبوديّته بلحظة واحدة.

تمّت السورة.

ص: 151

سورة النحل

اشارة

بعضها مكّيّة و بعضها مدنيّة.

فضلها أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها لم يحاسبه اللّه على النعم الّتي أنعمها عليه في الدنيا و اعطي من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة و إن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة النحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا و سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنّة عدن و هي وسط الجنان.

و اعلم لمّا ختم سورة الحجر بوعيد الكفّار افتتح هذه السورة بوعيدهم أيضا فقال:

ص: 152

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

البيان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخوّف المشركين بعذاب الدنيا، تارة بالقتل و الاستيلاء عليهم كما حصل، و تارة بعذاب يوم القيامة و هو الّذي يحصل عند قيام الساعة، ثمّ إنّ القوم لمّا لم يشاهدوا شيئا من ذلك أقاموا على تكذيبه و طلبوا منه الإتيان بالعذاب و قالوا له: ائتنا به.

في معنى الآية أقوال:

أحدها أنّ معناه قرب أمر اللّه و كلّما هو آت قريب أي قرب عقاب هؤلاء المشركين المقيمين على التكذيب.

و ثانيها أنّ أمر اللّه أحكامه و فرائضه.

و ثالثها أنّ أمر اللّه يوم القيامة فيكون «أَتى بمعنى «يأتي» و مستقبل هو محقّق الوقوع يأتي بلفظ الماضي فصار بمنزلة ما مضى لأنّ اللّه سبحانه قرّب أمر الساعة و قال: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» (1).

و بالجملة قال الكفّار فيما بينهم: إنّ محمّدا يزعم أنّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن، فلمّا امتدّت الأيّام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به، فنزلت:

[أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و رفع الناس رؤوسهم فنزل: [فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى هذه كلمة تنزيه عمّا لا يليق به و بصفاته من أن يكون له شريك في العبادة

ص: 153


1- القمر: 1.

[يُنَزِّلُ اللّه الملائكة بالوحي أو بالقرآن [مِنْ أَمْرِهِ لأنّه حياة القلوب بسبب الإرشاد إلى حسن العاقبة و الدين [عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن يصلح للنبوّة و السفارة بينه و بين خلقه [أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ هذا تفسير للروح المنزل و بدل منه. أي أيّها الأنبياء مروهم بتوحيدي و اتّقوا مخالفتي. و بيّن سبحانه أنّ الحال حال التكليف لا حال نزول العذاب و أنّه لا يأخذ أحدا حتّى يحتجّ عليه بالإنذار و بيان الأدلّة.

ثمّ شرع في ذكر الدليل فقال:

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 3 الى 7]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)

المعنى: خلقهما على سبيل الحقيقة فيستدلّ بهما على معرفته و يتوسّل بالنظر إليهما إلى العلم بكمال قدرته و ينتفعون بهما في الدين و الدنيا فليعمل العامل [بِالْحَقِ تقدّس من أن يكون له شريك. ثمّ بيّن دليلا آخر فقال: [خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ] و «النطفة» اسم للماء القليل ثمّ في العرف صار اسما لماء الفحل، حتّى صارت هذه النطفة في تقلّب الأحوال إنسانا يخاصم عن نفسه؛ فبيّن أضعف أحواله و أنقصها و أكملها منها على كمال قدرته، أو المعنى مجادل بالباطل مبين ظاهر الخصومة، و فيه تعريض لفاحش ما ارتكبه من تضييع حقّ نعمة اللّه عليه.

ثمّ بيّن سبحانه نعمته في خلق الأنعام فقال: [وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها] أكثر ما يتناول الأنعام الإبل و البقر و الغنم، و في اللغة هي ذوات الأخفاف و الأظلاف دون ذوات الحوافر [لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ] أي لباس و ما يستدفأ به ممّا يعمل من صوفها و وبرها و شعرها و منافع أخر من الحمل و الركوب و إثارة الأرض و الزرع و النسل [وَ مِنْها تَأْكُلُونَ من لحومها.

[وَ لَكُمْ فِيها] حسن منظر و زينة حين تردّونها من سراحها و حيث تأوي إليه ليلا

ص: 154

[وَ حِينَ تَسْرَحُونَ أي حين ترسلونها بالغداة إلى مراعيها و الجمال حين الإراحة أكثر من حين التسريح لأنّها تقبل ملائي البطون و الضروع مع الثغاء و الرغاء و يعظم موقعها عند الناظر [وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلى البلاد و لم تكونوا تبلغون لولاها إلّا بالمشقّة، و الشقّ نصف الشي ء و المشقّة، و المعنيان مناسبان. ثمّ عطف علي الأنعام:

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 8 الى 13]

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

لمّا ذكر في الآية السابقة منافع الحيوانات الّتي ينتفع بها الإنسان من المنافع الضروريّة و الحاجات الأصليّة ذكر في هذه الآية المنافع الغير الضروريّة فقال:

[وَ] خلق [الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ] للركوب و للزينة، و نصب «زينة» على المفعول له.

و احتجّ القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية فقالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان الأكل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر و حيث لم يذكر علمنا أنّه يحرم أكله، ثمّ إنّه سبحانه قال في صفة الأنعام: «وَ مِنْها تَأْكُلُونَ» و هذه الكلمة تفيد الحصر فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر.

و أجابوا بأنّه لو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسّرين و المحدّثين: «إنّ لحوم الحمير الأهليّة حرّمت عام خيبر» باطلا لأنّ التحريم لمّا كان حاصلا قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم فائدة. و قد روى البخاريّ في الصحيح مرفوعا إلى أسماء بنت أبي بكر قالت: أكلنا لحوم الفرس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

ص: 155

قوله: [وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ من أنواع الحيوان و النبات و الجماد لمنافعكم [وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي واجب على اللّه في عدله بيان الطريق المستقيم و الهداية من الضلالة ليتّبع الهداية و يترك الضلالة [وَ مِنْها جائِرٌ] أي و من السبيل ما هو جائر أي مائل عن الحقّ و هو أنواع الكفر، و السبيل يذكّر و يؤنّث [وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ على طريق الإلجاء و لكنّه ينافي التكليف، و الإيمان مقدور للمكلّفين.

و حاصل المعنى من هذه الآيات بيان فوائد نعم اللّه من النعم المفيدة لدينكم و لمعايشكم كخلق الأنعام للفوائد الّتي تحتاجونها لدنياكم و ترون فوائدها و خلق ما لا تعلمون فوائدها و هو مفيدة لكم، و قد ذكره بطريق الإجمال لأنّ أصنافها و أنواعها خارجة عن الإحصاء و لو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور في المجلدّات الكثيرة كالقطرة في البحر.

قال ابن عبّاس: إنّ على يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع و مثل الأرضين السبع و البحار السبعة، يدخل فيه جبرئيل كلّ سحر و يغتسل فيزداد نورا إلى نوره و جمالا إلى جماله ثمّ ينتفض فيخلق اللّه من كلّ نقطة تقع من ريشه كذا و كذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألفا البيت المعمور، و في الكعبة سبعون ألفا ثمّ لا يعودون إلى أن تقوم الساعة «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» (1).

و في الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يضلّ أحدا و لا يغويه و لا يصدّه عن الحقّ لأنّه لو كان فاعلا للضلال لقال: «و على اللّه قصد السبيل و عليه جائرها».

قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اعلم أنّه أشرف أجسام العالم السفلى بعد الحيوان النبات فاستدلّ سبحانه به، و مادّة النبات الماء، و المنزل المنزل من السحاب أو من السماء و [لَكُمْ من ذلك الماء [شَرابٌ تشربونه أي منه لشربكم [وَ مِنْهُ لشرب الشجر و سقيه و حذف المضاف كقول زهير: «أ من امّ أوفى دمنة لم تكلّم» أي أمن ناحية أمّ أوفى دمنة لم تكلّم [تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم، و السوم الرعي، من غير كلفة و التزام مؤونة لعلفها.

ص: 156


1- ابراهيم: 34. السورة: 18.

قال ابن قتيبة: المراد في هذه الآية من «الشجر» الكلاء و في حديث عكرمة: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنّه سحت» يعني الكلاء. و قيل: النجم ما ينجم من الأرض ممّا ليس له ساق و من الشجر ما له ساق، و عطف الجنس على النوع و النوع على الجنس شايع، و لفظ الشجر مشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصواتهم.

قوله: [يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ فذكر بعد ما ينفع للحيوان ما ينفع للإنسان، ينبت بالماء المنزل من السماء ما هو غذاء للإنسان و الغذاء للإنسان حيوانيّ و قد ذكر في خلق الأنعام، و نباتيّ و هو الحبوب و الفواكه من [الزَّيْتُونَ وَ ... الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من أنواعها و منافعها لا تعدّ و لا تحصى، مثلا العنب قشرة و عجمه باردان يابسان كثيفان و لحمه و ماؤه حارّان رطبان لطيفان و نسبة الطبائع السفليّة إلى هذا الجسم متشابهة و نسبة التأثيرات الفلكيّة و الكوكبيّة إلى الكلّ متشابهة و مع التشابه ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع و الطعم و اللون و لصفة و ليس ذلك إلّا لتقدير فاعل حكيم قادر [إِنَ في هذه الأمور لآيات لمن تفكّر و اعتبر.

قوله: [وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ في حركاتها المختلفة بأوقاتها و هي مقهوره بنسق لا يختلف بأمره القاهر فلو فرضنا أنّ حدوث الحوادث في العالم السفلى مستندة إلى الاتّصالات الفلكيّة و التشكّلات الكوكبيّة إلّا أنّه لا بدّ لحركاتها من أسباب، و أسباب تلك الحركات إمّا ذواتها و إمّا امور مغايرة لها و الأوّل باطل لأنّ ذات الجسم لو كانت علّة لحصول هذه الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات و لو كان كذلك لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغيّر أصلا و عدم التغيّر يوجب كونه ساكنا لذاته و يمتنع من كونه متحرّكا فالقول بأنّ الجسم متحرّك لذاته يوجب كونه ساكنا لذاته، و ما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا.

و بعبارة اخرى أوضح من هذا: إنّ الأجسام متماثلة في الجسميّة فلو كان جسم علّة لصفة لكان كلّ جسم واجب الاتّصاف بتلك الصفة و هو محال فثبت أنّ تخصّص ذلك المخصّص بغيره لا بذاته و لا بدّ من أن ينتهي لبطلان التسلسل؛ فثبت أنّ الغير قادر عليه مباين له متصرّف فيه كيف يشاء و هو اللّه [إِنَّ فِي ذلِكَ لدلالات للعقلاء.

ص: 157

[وَ ما ذَرَأَ] و خلق [لَكُمْ فِي الْأَرْضِ لقوام أبدانكم من المطاعم و الملابس و المناكح من الحيوان و النبات و المعادن [مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و أشكاله لا يشبه بعضها بعضا فيها دلالات للمتذكّرين و المتدبّرين. و اختلاف الألوان دليل قاهر على أنّ المؤثّر غير الطبيعة لأنّ الطبيعة الواحدة في المادّة الواحدة يجب أن يكون متشابها و متشاكلا مثلا إذا وضعت الشمعة فإذا استضاء ذراع من جوانب الشمع وجب أن يكون الضوء في هذا الذراع متساويا و لا يمكن أن يكون الضوء مختلقا في الفضاء من الذراع بحسب النور.

إذا ثبت هذا فنقول: إنّ نسبة الشمس و القمر و الأنجم و الأفلاك و الطبائع بالنسبة إلى ورقة لطيفة من الورد نسبة واحدة و متى كانت نسبة المؤثّر واحدة لا بدّ و أن يكون الأثر متشابها و نحن نرى أنّ الأثر غير متشابه فنصفه في غاية السواد و نصفه في غاية البياض فاختلاف الأثر دليل قاهر على أنّ الطبيعة بنفسها ليست مؤثّرة بل هي أيضا متأثّرة و المؤثّر غيرها و هو اللّه.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 14 الى 18]

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

ثمّ عدّد نوعا آخر من النعم فقال: [وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ] و إنّما عبّر بالتسخير لأنّه تعالى لمّا دبّر الأمور على طريقة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطاع فلذا أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير.

و اعلم أنّ علماء الهيئة قالوا: ثلاثة أرباع الأرض غائصة في الماء و ذاك هو المحيط و هو كلّيّة عنصر الماء و حصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال سبحانه: «وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» (1) و البحر الّذي سخّره اللّه تعالى للناس هو هذه البحار السبعة و معنى التسخير جعلها بحيث يتمكّن الإنسان من الانتفاع بها إمّا بالركوب أو بالغوص، و

ص: 158


1- لقمان: 27.

منافع البحر كثيرة لكن ذكر سبحانه ثلاثة أنواع في الآية:

الاول [لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا] و هو السمك مع أنّه خرج من البحر الملح الزعاق (1) مثل هذا الحيوان الّذي لحمه في غاية العذوبة فعلم أنّه إنّما حدث لا بحسب الطبيعة بل بقدرة اللّه حيث أظهر الضدّ من الضدّ.

و الثاني من منافع البحر قوله: [وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها] و المراد اللؤلؤ و المرجان و تزيّنون بها.

المنفعة الثالثة [وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ مخر السفينة شقّ الماء بصدرها؛ قال ابن عبّاس،: مواخر أي جواري لتركبوها للتجارة فتطلبوا الربح من فضل اللّه بسفر البحر و تحصيل التجارة فيه فلعلّكم إذا وجدتم فضل اللّه و إحسانه تقدمون بالشكر له.

قوله: [وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبال عاليات ثابتات لئلّا تميد و تتحرّك و تضطرب و جعل فيها أنهارا و طرقا لكم قوله: [أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كقوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (2) أي كراهة أن تضلّوا و معنى الإلقاء الجعل و الخلق كقوله تعالى: «وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» (3) و جعل في الأرض [سُبُلًا] و طرقا لكي تهتدوا و أظهر فيها [عَلاماتٍ حتّى يتمكّن الإنسان من الاستدلال بها فيصل بواستطها إلى مقصوده، و هذه العلامات هي الجبال و الرياح حتّى قيل: إنّ جماعة كانوا يشمّون التراب و يتعرّفون الطرق.

قوله: [وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ و قرئ بضمّتين و المراد بالنجم، قيل: المراد بالنجم الثريّا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي. قال ابن عبّاس: سألت رسول اللّه عن النجم فقال: الجدي علامة قبلتكم و به تهتدون في برّكم و بحركم. و قال أبو عبد اللّه: نحن العلامات و النجم رسول اللّه. و قال: إنّ اللّه جعل النجوم أمانا لأهل السماء و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض.

قوله تعالى: [أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ لمّا ذكر الدلائل على وجود القادر و شرح أنواع النعم أتبعه بذكر إبطال عبادة غيره و كيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة ما سواه؟

فقال: [أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ و لا يقدر؟ أفلا تنبّهون و تلتفتون!

ص: 159


1- ما كثر ملحه.
2- النساء: 175.
3- طه: 39.

[وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي إنّكم لا تعرفونها على سبيل التمام و الكمال، و إذا لم تعرفوها امتنع منكم الشكر كاملا و لذلك قال: [إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ] للتقصير الصادر عنكم في القيام بالشكر و [رَحِيمٌ بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم بسبب تقصيركم.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 19 الى 23]

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (19) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

لمّا تقدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه عقّبه بذكر علمه بسريرة كلّ أحد و علانيته و ذكر بطلان الإشراك في عبادته فقال: [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ و ما تظهرونه فيجازيكم على أفعالكم.

[وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ غيره، المراد به الأصنام الّتي لا يمكنها خلق شي ء بل هي مخلوقة منحوتة من الحجر و الخشب و نحوهما، ثمّ قال:

هي [أَمْواتٌ ثمّ أكّد بقوله: [غَيْرُ أَحْياءٍ] و نفى الحياة عنها على الإطلاق فإنّ من الأموات من سبقت له الحياة أو من الأشياء ما له حالة منتظرة في الحياة بخلاف الأصنام فإنّه ليس له حياة سابقة و لا منتظرة. و قيل: إنّ المراد إنّ الّذين يعبدون الأصنام أموات و في حكم الكفّار لذهابهم عن الدين و الحياة الأبديّة.

قوله: [وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ قيل: المراد الكفّار لا يعلمون متى يبعثون. و قيل: المراد الأصنام. و الضمير في «وَ ما يَشْعُرُونَ» عائد إلى الأصنام، و الضمير في «يبعثون» إلى الكفّار يعني أنّ الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم و لا تعلم وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبدتهم؟ و قيل: إنّ ناسا كانوا يعبدون الملائكة فقال اللّه: إنّهم أموات أي سيموتون و غير باقية حياتهم و ما يشعرون الملائكة متى يبعثون و لا علم لهم بموتهم و بعثهم.

ثمّ قرّر بأنّ [إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي الّذين يؤمنون

ص: 160

بالآخرة يرغبون في الفوز بالثواب الدائم و يخافون الوقوع في العذاب الدائم إذا سمعوا الدلائل و الترغيب و الترهيب، و أمّا الّذين لا يؤمنون بالآخرة و ينكرونها فيبقون منكرين لكلّ كلام يسمعونها و يخالف قولهم و يستكبرون عن الرجوع من كفرهم فلا [جَرَمَ و هذه الكلمة بمنزلة اليمين أي حقّا. و معنى الجرم الكسب يعني لا يحتاج علم هذا الأمر إلى اكتساب علم، بل هو معلوم [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرّهم و علنهم و إنّه لا يحبّ الّذين يأنفون أن يكونوا أتباعا للأنبياء و يتكبّرون.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 24 الى 29]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

[وَ إِذا قِيلَ لمشركي قريش [ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمّد؟ أجابوا هذا المنزل في زعمكم هو عندنا أحاديث الأوّلين الكاذبين، و روي أنّها نزلت في المقتسمين إذا سألهم الناس عمّا أنزل اللّه على رسول اللّه [قالُوا] أحاديث [الْأَوَّلِينَ ليصدّون الناس عن رسول اللّه، على كلّ عقبة على طريق مكّة أيام الحجّ أربعة منهم.

[لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ و اللام للعاقبة أي كان عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن حملوا أوزار كفرهم تامّة [يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يحملون بعض أوزار الّذين أضلّوهم عن الحقّ و أغووهم و هو وزر الإضلال، و لم يحملوا وزر غوايتهم و ضلالهم و على هذا ما روي عن النبيّ أنّه قال: أيّما داع دعى إلى الهدى فاتّبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا و أيّما داع دعى إلى ضلالة فاتّبع عليه فإنّ عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا [أَلا ساءَ] أي بئس الوزر و الحمل حملهم.

ص: 161

[قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قبل هؤلاء المشركين بأنبيائهم من جهة التكذيب. [فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ أمر اللّه الّتي بنوها من أطراف قواعد بنيانهم فهدمها، عن ابن عبّاس: المراد منهم نمرود بن كنعان، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع- و قيل: فرسخان- و رام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل اللّه ريحا فألقت رأس الصرح في البحر و خرّ عليهم الباقي، هو (1) البناء الّذي بناه بخت النّصر. و قيل: هو مثل لبناء الكفر. فحينئذ المعنى: عاد ضرر الكفر على الكافرين.

قوله: [فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ و إنّما قال: [مِنْ فَوْقِهِمْ مع أنّ السقف لا يكون إلّا من فوق لأحد وجوه: منها أنّه للتوكيد كقولهم: «مشيت برجلي» و منها أنّما قال ذلك ليدلّ على أنّهم كانوا تحتهم [وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي جاءهم عذاب الاستئصال من حيث لا يعلمون و لا يتوقّعون العذاب.

[ثُمَ مع ذلك [يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ و يفضحهم يوم القيامة [وَ يَقُولُ اللّه [أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمكم و اعتقادكم [تُشَاقُّونَ و تعادّون المؤمنين أو تعادّوني و تشاركونهم معي.

[قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه و بدينه من المؤمنين- و قيل: هم الملائكة-: [إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ و الجاحدين لنعم اللّه [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي يقبض ملك الموت و أعوانه أرواحهم ففارقوا الدنيا و هم ظالمون لأنفسهم [فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا و انقادوا حين لا ينفعهم الانقياد و يقولون عند الموت أو عند القيامة: [ما كُنَّا نَعْمَلُ من شرك، و المراد بالسوء الشرك فقالت الملائكة ردّا عليهم.

ثمّ اختلفوا فالّذين جوّزوا الكذب على أهل القيامة قالوا: هذا القول منهم على سبيل الكذب لغاية الخوف. و الّذين لا يجوّزون الكذب قالوا: معنى «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» باعتقادنا و عند أنفسنا.

فردّ عليهم [بَلى عملتم السوء و الشرك [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بعملكم [فَادْخُلُوا] طبقات [جَهَنَّمَ و دركاتها حال كونكم مؤبّدين فيها [فَلَبِئْسَ المثوى [مَثْوَى المتعظّم عن قبول الحقّ، و اللام للتأكيد.ل.

ص: 162


1- كذا في الأصل.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 30 الى 34]

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)

لمّا ذكر حال الكافرين و أقوالهم عقّبه بذكر أقوال المؤمنين فقال:

[وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] الشرك و المعاصي و هم المؤمنون [ما ذا] أي أيّ شي ء [أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا]: أنزل اللّه [خَيْراً] لأنّ القرآن كلّه هدى و شفاء و خير. قوله تعالى: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا] بجوز أن يكون هذه جملة مستأنفة ابتداء كلام من اللّه للمحسنين [فِي هذِهِ الدُّنْيا] حسنة و مكافاة لهم، و هي الثناء و المدح على ألسنة المؤمنين و التوفيق للإحسان.

[وَ لَدارُ الْآخِرَةِ] أي و ما يصل إليهم من ثواب الآخرة [خَيْرٌ] ممّا يصل إليهم في الدنيا، و يجوز أن يكون من كلام المتّقين [وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي و الآخرة نعم دار المتّقين الّذين اتّقوا عقاب اللّه.

و الظاهر أنّ هذا الكلام كان في أيّام الموسم يأتي الرجل مكّة فيسأل من المشركين عن محمّد صلى اللّه عليه و آله و أمره فيقولون: إنّه ساحر و كاهن و كذّاب. و يأتي المؤمنين و يسألهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ما أنزل اللّه عليه فيقولون: خيرا. و قيل: المراد «وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» المراد الدار الدنيا للمتّقين لأنّهم نالوا فيها الثواب الجزيل و الجزاء الحسن.

و قيل: المعنى: و لنعم دار المتّقين [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها] عدن دائم يدخلونها [تَجْرِي مِنْ تحت الجنات [الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ و يشتهون من النعم [كَذلِكَ يجازي اللّه الّذين اتّقوا الشرك و المعاصي و هم [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ الأعمال صالحين طاهرين القلوب من دنس المعاصي طيّبة نفوسهم لعلمهم بمالهم عند اللّه من الثواب يقول الملائكة لهم:

سلامة لكم من كلّ سوء [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ] أي حصلت لكم الجنّة، و قيل: إنّما يقولون ذلك عند خروجهم عن قبورهم.

ص: 163

قوله: [هَلْ يَنْظُرُونَ أي إنّ هؤلاء المكذّبين بنبوّتك، و لا يزجرون عن الكفر و لا يقبلون القرآن [إِلَّا] إذا جاءتهم [الْمَلائِكَةُ] يشهدون على صدق نبوّتك أو يأتيهم عذاب الاستئصال [كَذلِكَ فَعَلَ القوم [الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالأنبياء فأصابهم العذاب المعجّل.

[وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ و لكن هم ظلموا أنفسهم و استوجبوا ما نزل بهم [فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ أعمالهم [وَ حاقَ و نزل بهم على وجه الإحاطة بجوانبهم عقاب استهزائهم.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 35 الى 37]

وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

[وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] مع اللّه إلها آخر [لَوْ شاءَ اللَّهُ و أراد [ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ شيئا] من الأصنام و الأوثان [نَحْنُ وَ لا آباؤُنا] الّذين اقتدينا بهم كما تقوله الجبريّة [وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ من البحيرة و السائبة و غيرهما بل شاء منّا ذلك.

فأنكر اللّه سبحانه هذا القول عليهم و قال: [كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفّار كذّبوا رسل اللّه و قالوا مثل قولهم و فعلوا مثل فعلهم [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الظاهر، و هذا الإنكار من اللّه ردّ صريح على مذهب الجبريّة حيث وبّخهم على هذا القول.

[وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِ جماعة و قرن [رَسُولًا] كما بعثناك ليقول الرسول لهم [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ و يعني بالطاغوت الشيطان و كلّ داع إلى الضلالة [فَمِنْهُمْ مَنْ هداه [اللَّهَ بأن لطف له بما علم أنّه يؤمن عنده فآمن فسمّي ذلك اللطف هداية، و يجوز أن يريد: فمنهم من هداه اللّه إلى الجنّة بإيمانه. و لا يجوز أن يكون المعنى (1). و يريد بالهداية هنا نصب الأدلّة كما في قوله: «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ» (2) لأنّه سبحانه سوّى في ذلك بين المؤمن و الكافر و سوّى التوفيق بين الضعيف و الشريف.

ص: 164


1- كذا في الأصل.
2- حم السجدة: 17.

قوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] أي و منهم من أعرض عمّا دعا إليه الرسول فخذله اللّه فثبت عليه الضلالة و لزمته فلا يؤمن و وجبت عليه الضلالة و هي العذاب، و قد سمّى اللّه العقاب ضلالا بقوله: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ» (1) قوله: [فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الّذين عاقبهم اللّه إن لم تصدّقوني و انظروا كيف صارت عاقبتهم.

[إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي على أن يؤمنوا [فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ هذا تسلية للنبيّ في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة لأنهما كه في الكفر. و في هذا البيان إعلام للنبيّ بأنّهم لا يؤمنون أبدا و إذا كان الأمر كذلك فإنّ اللّه لا يهديهم بل يضلّهم على المعنى الّذي فسّرناه أي يعاقبهم، و ليس المراد ما فسّره أهل الجبر.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 38 الى 40]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

النزول: قالوا: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه فوقع في كلامه:

و الّذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا. فقال المشرك: و إنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت و اقسم باللّه «لا يبعث اللّه من يموت» فأنزل اللّه الآية، عن أبي العالية. أي حلفوا باللّه مجتهدين في أيمانهم و بلغوا في القسم كلّ مبلغ [لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ و لا يحشرهم يوم القيامة و لا يحيي من يموت بعد موته.

فكذّبهم اللّه بقوله: [بَلى يحشرهم اللّه وعدهم به و عليه سبحانه إنجازه و تحقيقه [حَقًّا] ذلك الوعد ليس فيه خلف إذ لو لا البعث لما حسن التكليف لأنّ التكليف إنّما يحسن لإثابة أو لعقوبة [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحّة ذلك و وجه الحكمة فيه؛ لأنّ اللّه إنّما يحشر الخلائق [لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الحقّ فيما كانوا فيه يختلفون [وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في الدنيا.

ص: 165


1- القمر: 47.

و إنّما أنكروا البعث بزعمهم يدّعون بالعلم الضروريّ بأنّ الشي ء إذا فنى و صار عدما محضا و نفيا صرفا فإنّه بعد العدم لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئا آخر، و الحال في أمر القدرة أنّ البنية ليست شرطا في الإيجاد و أنّه تعالى كونه موجدا للأشياء و مكوّنا لها لا يتوقّف على سبق مادّة و لا مدّة و لا آلة و إنّما يكوّنها بمحض مشيئته و قدرته فقال:

[إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ يكون [نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و لا يتعذّر عليه سبحانه شي ء.

و لو قال قائل: إنّ قوله: «كُنْ» إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال و إن كان خطابا مع الموجود كان أمرا بتحصيل الحاصل.

فالجواب أنّ هذا تمثيل لنفي الكلام من تعقّلاتهم و ليس خطابا للمعدوم لأنّ ما أراد اللّه كائن، و الغرض من الإيجاد الإسراع بالإرادة كقوله: «وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (1).

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 41 الى 44]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

نزلت الآية الاولى في المعذّبين بمكّة مثل صهيب و عمّار و بلال و خباب و غيرهم مكّنهم اللّه بالمدينة، و ذكر أنّ صهيبا قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم و إن كنت عليكم لم يضرّكم فخذوا مالي و دعوني فأعطاهم ماله و سار إلى رسول اللّه فقال له بعض أصحاب النبيّ: ربح البيع يا صهيب.

المعنى: [وَ الَّذِينَ فارقوا أوطانهم و ديارهم فرارا بدينهم و اتّباعا لنبيّهم في سبيله [مِنْ بَعْدِ ما] ظلمهم المشركون و عذّبهم الكافرون و بخسوا حقوقهم [لَنُبَوِّئَنَّهُمْ و ننزلنّهم بلدة [حَسَنَةً] بدل أوطانهم و هي المدينة أو لنعطينّهم حالة حسنة [وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ] ممّا أعطيناهم في الدنيا. و هذا صهيب هو الّذي قال عمر في حقّه: نعم الرجل صهيب لو لم يخف اللّه

ص: 166


1- القمر: 50.

لم يعصه. و هو ثناء عظيم يريد: لو لم يخلق اللّه النار لأطاعه و ما خالفه. و الضمير في قوله تعالى:

«يَعْلَمُونَ» عائد إلى الكفّار أو المستضعفين أو المهاجرين.

قوله: [الَّذِينَ صَبَرُوا] بدل من قوله: «الَّذِينَ هاجَرُوا» أي صبروا على الشدائد في طاعة اللّه و توكّلوا في أمورهم على اللّه.

[وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ من الأمم الماضية [إِلَّا رِجالًا] من البشر، و ذلك أنّ مشركي قريش كانوا ينكرون أن يرسل إليهم بشر مثله فبيّن اللّه سبحانه أنّه لا يصلح من يكون رسولا إلّا و أن يكون من جنسهم حتّى يخاطبهم و يخاطبونه و يباشرون و يعاشرون معه.

[فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و في أهل الذكر أقوال:

أحدها أنّ المقصود بأهل العلم العلماء بأخبار من مضى من الأمم سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، و سمّي العلم ذكرا لأنّ الذكر هو ضدّ السهو فهو بمنزلة السبب المؤدّي إلى العلم فحسن أن يقع موقعه.

و ثانيها أنّ المراد بأهل الذكر أهل الكتاب و يخاطب مشركي قريش و أنّهم كانوا يصدّقون أخبار اليهود و النصارى من كتبهم.

و ثالثها أنّ المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأنّ الذكر هو القرآن، و يقرب منه ما رواه جابر و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر أنّه قال: نحن أهل الذكر، و قد سمّى اللّه رسوله ذكرا في قوله: «ذِكْراً. رَسُولًا» (1).

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلّف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس و إن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها لظاهر هذه الآية، و لو كان القياس حجّة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنّه يمكنه استنباط الحكم بواسطة القياس فتجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية، فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتو القياس كالرازيّ بأنّ جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة و الإجماع أقوى.

ص: 167


1- الطلاق: 10.

قوله: [بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ] متعلّق بأرسلنا أي أرسلنا الرسل. و أرسلناك بالبشرى و الكتب، أو أرسلناهم بالبيّنات و الكتب [وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ القرآن [لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأحكام و الدلائل على توحيد اللّه و الشرائع [وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ بالنظر المؤدّي إلى المعرفة.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 45 الى 50]

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

المكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء، و التقدير في الآية: المكرات السيّئات. و المراد الّذين كانوا يسعون في إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على سبيل الخفية فهدّدهم اللّه بأمور أربعة:

الاول [أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون.

و الثاني أن [يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يعلمون و يفجؤهم بغتة كما فعل بقوم لوط.

و الثالث أن [يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم و يهلكهم و هم لا يعجزون اللّه بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم حيث كانوا أو يأخذهم بالليل و النهار في إقبالهم و إدبارهم و ذهابهم و مجيئهم.

و الرابع [أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ و قرئ بالحاء المهملة من الحافة إذا تنقّصته من حافاته. و قوله: «عَلى تَخَوُّفٍ» أي يعذّب أهل قرية و يخوّف به أهل قرية اخرى فيخافون أن ينزل بهم العذاب كما نزل بتلك أو بأن ينقص من أموالهم و أنفسهم بالبلايا و الأسقام إن لم يعذّبهم بعذاب الاستئصال. و إنّما أمهلكم لتتوبوا و ترجعوا [فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ بكم و [رَحِيمٌ عليكم.

ص: 168

قوله: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و ينظروا هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّة اللّه و كذّبوا نبيّه [إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ] له ظلّ من شجر و جبل و بناء و جسم فإذا يتميّل [ظِلالُهُ عَنِ جانب [الْيَمِينِ و جانب اليسار كالشمس مثلا إذا طلعت و أنت متوجّه إلى القبلة كان الظلال قدّامك و إذا ارتفعت الشمس كان الظلال عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا تفيّؤ الشي ء، و معنى سجود الظلّ دورانه من جانب إلى جانب لانقياده بالتسخير [وَ هُمْ داخِرُونَ و مسخّرون و ذليلون.

فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو و النون؟ لأنّه لمّا وصفهم بالانقياد و الطاعة أشبهوا العقلاء.

و السجود على قسمين: سجود على سبيل الحقيقة كسجود المسلمين للّه تعالى، و سجود هؤلاء عبارة عن الانقياد و يرجع حاصل هذا السجود إلى أنّها تذلّ بانقيادها بأنّها ممكنة الوجود و العدم قابلة لهما و أنّه لا يترجّح أحد الطرفين إلّا لمرجّح.

و بالجملة فمن الناس من قال: المراد بالسجود المذكور في الآية السجود بمعنى الانقياد و التواضع و الدليل عليه أنّ اللائق بالدابّة ليس إلّا هذا السجود. و منهم من قال:

المراد بالسجود هو المعنى الحقيقيّ، أو يكون السجود في حقّ الملائكة و المسلمين على سبيل الحقيقة و في الباقي بمعنى الانقياد الحقيقيّ، و قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ للّه تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة يرعد فرائصهم من مخافة اللّه لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا:

ما عبدناك حقّ عبادتك.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 51 الى 55]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

لمّا بيّن في الآية الأولى أنّ كلّ ما سوى اللّه سواء كان من عالم الأرواح أو من

ص: 169

عالم الأجسام منقاد خاضع لجلال اللّه أتبعه في هذه الآية بالنهى عن الشرك بقوله:

[لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي لا تعبدوا مع اللّه إلها آخر فتشركوا بالعبادة بينهما و ذكر اثنين- كما يقال: فعلت ذلك الأمرين اثنين- للتأكيد [فَإِيَّايَ فارهبوا عقابي وسطواتي و لا تخشوا غيري، و هذا رجوع من الغيبة إلى الحضور للالتفات، و يفيد الكلام الحصر لأنّ الموجود إمّا قديم و إمّا محدث فالقديم هو الإله فهو واحد فما سواه محدث، و حدث بتخليق ذلك القديم و إذا كان كذلك فلا رغبة إلّا إليه و لا رهبة إلّا منه.

ثمّ قال: و بتخليقه خلقت السماوات و الأرض و له الطاعة دائمة واجبة على الدوام أي إنّه يعبد دائما و غيره إنّما يعبد في وقت دون وقت. و قيل: معنى «واصبا» أي خالصا [أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تخشون؟ استفهام بمعنى التوبيخ أي كيف تعبدون غيره و لا تتّقونه؟

[وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ] و لكم من الصحّة و الرزق فكلّ من جهة اللّه [ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ] من المرض و البلاء و سوء الحال [فَإِلَيْهِ تتضرّعون و تستغيثون لصرفه [ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ و رفع ما حلّ بكم من الضرّ و الشدّة عاد طائفة منكم إلى الشرك بربّهم في العبادة جهلا منهم، و يقابلون النعمة بالكفران، و هذا عجب من فعل العاقل المميّز.

قوله: [لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قيل: إنّ اللام للعاقبة أي آل أمرهم في مقابلة إنعامنا عليهم إلى الكفر. و قيل: اللام للأمر على وجه التهديد أي ليفعلوا ما شاؤوا فإنّ اللّه يجازيهم جزاءهم و تمتّعوا أيّها الكفّار في الدنيا قليلا [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يحلّ بكم في العاقبة من العقاب و أليم العذاب.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 56 الى 60]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

ثمّ ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين فقال: [وَ يَجْعَلُونَ المشركون

ص: 170

[لِما لا يَعْلَمُونَ و لا يفهمون و لا يضرّون و لا ينفعون [نَصِيباً] من أموالهم من الحرث و الزرع و غيره بقولهم: هذا للّه و هذا لشركائهم، و ربّما اعتقدوا في بعض الأشياء أنّه إنّما حصل بإعانة بعض الأصنام كما أنّ المنجّمين يوزّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون بزعمهم: لزحل كذا من المعادن و النبات، و للمشتري كذا، فكذا هاهنا.

فأقسم اللّه سبحانه بنفسه أنّه يسألهم، و هذا تهديد شديد. قيل: هذا السؤال يقع عند الموت و معاينة ملائكة العذاب. و قيل: عند عذاب القبر. و قيل: في الآخرة.

[وَ] من كلماتهم الفاسدة أنّهم [يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ و هم خزاعة و كنانة الّذين يقولون: الملائكة بنات اللّه. و يضيفون إليه ما يكرهونه و يجعلون لأنفسهم ما يحبّونه و يشتهونه لأنّهم كانوا يكرهون البنات و يحبّون البنين، فنزّه نفسه عن هذه المقالة. و إنّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لأنّهم لمّا كانوا مستورين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار، كما أنّ قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث.

قوله: [وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بأنّه قد ولد لهم بنت [ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه متغيّرا إلى السواد لما يظهر فيه أثر الكراهة و الكأبة و هو ممتلئ غيظا و كراهة، و الكظيم المغموم الّذي يطبق فاه لا يتكلّم من الغيظ و الحزن، مأخوذ ممّا يشدّ به فم القربة.

قوله: [يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي من القوم الّذين يستخبرونه عمّا ولد له استنكافا منه و خجلا و حياء [مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من الأنثى، و قبحه عنده و بنظره يميل نفسه و يتدبّر في أمر البنت المولود له أ يمسك المولود على ذلّ و تحمّل العار؟ أم يخفيه في التراب و يدفنه حيّا؟ و هو الوئد الّذي كان من عادتهم دفنه [أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ في ارتكاب هذا الأمر الشنيع و كانوا يفعلون هذا الفعل خوفا من الفقر و خوفا من لحوق العار.

و كان الرجل في الجاهليّة إذا ظهر آثار الطلق بامرأته اختفى من القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكرا انبسط روح قلبه و وصل إلى الأطراف لا سيّما الوجه فأشرق الوجه و تلألأ و استنار و ظهر الفرح في بشرته من تلك البشارة، و إن كان أنثى احتبس الروح في

ص: 171

باطن القلب فاغبرّ و اسودّ وجهه و بشرته و كمد.

و روي أنّ قيس بن عاصم قال: يا رسول اللّه إنّي واريت ثماني بنات في الجاهليّة، فقال عليه السّلام: أعتق عن كلّ واحدة منهنّ رقبة. و قال صلّى اللّه عليه و آله: ما كان في الجاهليّة فقد هدمه الإسلام و ما في الإسلام يهدمه الاستغفار. و كانوا مختلفين في قتل البنات: فمنهم من يحفر الحفيرة و يدفنها حيّا فيها إلى أن تموت، و منهم من يرميها من شاهق جبل، و منهم من يغرقها، و منهم من يذبحها فبئس الحكم حكمهم.

ثمّ قال سبحانه: [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] أي إنّ لهؤلاء الكفّار الّذين وصفهم اللّه [مَثَلُ السَّوْءِ] و هي الصفة القبيحة كسواد الوجه و الحزن و الجهل و الاحتياج و الخوف من الفقر [وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى و الصفة الحسنة من السلطنة و القدرة و الاستغناء عن الولد و الصاحبة.

فلو قيل: كيف يمكن الجمع بين قوله: «وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى و قوله: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ»؟ (1) الجواب أنّ المراد بالأمثال الأشباه أي لا تشبّهوا اللّه بشي ء، و المراد بالمثل الأعلى الوصف الأعلى و هو كونه قادرا عالما حيّا قيّوما و أمثاله، و هو الغالب المقتدر على حكمه.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 61 الى 65]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

احتجّ الطاعنون بعصمة الأنبياء بقوله: [وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فأضاف الظلم إلى كلّ الناس و لا شكّ أنّ الظلم من المعاصي و هذا يقتضى كون كلّ إنسان آتيا بالذنب و المعصية.

ص: 172


1- السورة: 74.

و الجواب أنّه ثبت بالدليل و النصّ أنّ كلّ الناس ليسوا ظالمين لأنّه تعالى قال:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ» (1) و لو كان المقتصد و السابق ظالما لفسد ذلك التقسيم، فعلم أنّ المقتصدين و السابقين ليسوا ظالمين، و لا يجوز أن يقال: كلّ الخلق ظالمون.

و بالجملة المعنى: أخبر سبحانه أنّه لو كان يؤاخذ الكفّار و العصاة و يعاجلهم بالعقوبة لما ترك على ظهر الأرض من الظالمين من أحد و لكن يمهلهم و يؤخّرهم إلى وقت معلوم مسمّى و هو يوم القيامة أو وقت لا يكون في بقائهم مصلحة كما إذا كان يعرف أنّهم لا يؤمنون و لا يخرج من نسلهم مؤمن، و إنّما يؤخّرهم تفضّلا منه سبحانه ليراجعوا التوبة أو لما في ذلك من المصلحة.

قالت المعتزلة: إنّ الآية صريحة على أنّ الظلم و المعاصي ليست فعلا للّه بل يكون أفعال العباد لأنّه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم و ما أضافه إلى نفسه؛ فلو كان خلقا للّه لكانت مؤاخذتهم لها ظلما من اللّه تعالى، و لمّا منع اللّه الظلم عن العباد فبأن يكون سبحانه منزّها عن الظلم أولى.

و يدلّ أيضا دليل آخر على هذا المعنى و هو أنّ أعمالهم مؤثّرة في وجوب الثواب و العقاب.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ الّذي معلوم من حاله أنّه لا يؤمن فيما بعد هل يجوز اخترامه (2) أولا؟ فقال بعض: يجوز لأنّ التكليف تفضّل فلا تجب التبقية، و هو قول أبي هاشم و إليه ذهب المرتضى قدّس روحه. و قال آخرون: لا يجوز اخترامه و يجب تبقيته، و هو قول البلخيّ و أبي عليّ الجبّائيّ و إليه ذهب الشيخ المفيد أبو عبد اللّه.

فلو قيل: إنّ الظالم يستحقّ العقوبة بظلمه فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم كزمان نوح مثلا؟ لأنّ الظالم يظلم نفسه و غيره حتّى أنّ الحبارى تهلك في أو كارها بظلم الظالم.

فالجواب أنّه لها كالأمراض النازلة بالأولياء و غير المكلّفين فيعوّضون عنها، ثمّ إنّهاك.

ص: 173


1- فاطر: 32.
2- الاخترام: الإهلاك.

خلقت للمكلّفين فإذا هلك المكلّف فلا فائدة في بقائها بعدهم.

قوله تعالى: [فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ سبق معناه كرارا.

قوله: [وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ حكى عن الكفّار أنّهم يجعلون ما يكرهون لأنفسهم للّه أي البنات الّتي يكرهونها يصفون اللّه بذلك و يحكمون به له [وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ و هو ما يقولون: [أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي لهم البنون، و قيل: معناه أنّهم مع قبح قولهم يزعمون أنّهم فازوا برضوان اللّه بسبب هذا القول القبيح و أنّهم يعتقدون بأنّهم على الدين الحقّ و المذهب الحسن و يحكمون لأنفسهم بالجنّة و الثواب من اللّه.

فإن قيل: كيف يحكمون بهذا الحكم و هم كانوا منكرين للقيامة و الحشر؟

قلنا: كلّهم ما كانوا منكرين للقيامة و كان في العرب جمع يقرّون بالبعث، و كذلك كانوا يربطون البعير النفيس و الفرس الجواد على قبر الميّت و يتركونه إلى أن يموت و يقولون:

إنّه يحشر فيكون معه مركوبه. و كان بعضهم يقول: إن كان محمّد صادقا فيما يقول من أمر البعث و الآخرة فنحن أهل الجنّة، و هذا القول منهم كذب ألسنتهم.

و قرئ «الكذب» بضمّ الذال و الباء (1) على معنى الصفة للألسنة جمع كاذب.

فردّ سبحانه قولهم، فقال: [لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ] أي ليس الأمر على ما وصفوا و كسب فعلهم و قولهم حقّا أنّ لهم النار أو لا بدّ أنّ لهم النار [وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قرئ بصيغة الفاعل أي إنّهم مفرطون على أنفسهم بالذنوب و الافتراء على اللّه، أو المعنى أي صاروا ذوي فرط و سبقة و عجلة إلى النار، كأنّهم أرسلوا من يهيّئ مواضع في النار. و أمّا بصيغة المفعول المعنى أنّهم متروكون في النار؛ قال الكسائيّ: ما أفرطت أي ما تركت أو مفرطون أي معجّلون.

ثمّ أقسم سبحانه بأنّ هذا الصنع الّذي يصدر من مشركي قريش قد صدر عن سائر الأمم قبلك [فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ تسويلاتهم و كفرهم [فَهُوَ] أي الشيطان [وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ في الدنيا و يتّبعون إغواءه فأمّا يوم القيامة فيتبرّأ بعضهم من بعض. و قيل: المراد باليوم يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم [وَ لَهُمْ أي التابع و المتبوع [عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

قالت المعتزلة: الآية تدلّ على فساد قول المجبّرة من وجوه:ظ.

ص: 174


1- بضم الكاف و الذال. ظ.

الاول: لو لا كان خالق أعمالهم هو اللّه فلا فائدة في التزيين.

و الثاني أنّ ذلك التزيين لمّا كان بخلق اللّه لم يجز ذمّ الشيطان بسببه.

و الثالث أنّ التزيين هو الّذي يدعو الإنسان إلى الفعل، و إذا كان حصول الفعل فيه بخلق اللّه كان ضروريّا فلم يكن التزيين داعيا.

الرابع أنّ على قولهم، الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليّهم من الداعي لهم.

و الخامس أنّه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان، و لو كان ذلك المزيّن هو اللّه لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا.

قوله: [وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ثمّ بيّن أنّه ما أنزلنا عليك القرآن [إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء الّتي اختلفوا فيها، و ما اختلفوا فيه هو الدين مثل التوحيد و الشرك و الطاعة و المعصية و اثبات المعاد و نفيه و مثل الأحكام من الواجب و الحرام و غيره، و أنزلناه [هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ثمّ أخبر عن بعض نعمه فقال: [وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ] غيثا و مطرا فأحيا بذلك الماء الأرض بعد موتها أي أحياها بالنبات بعد جدوبها و قحطها و يبسها [إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال لحجّة و آية [لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ الأدلّة بعين الإنصاف و التدبّر.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 66 الى 70]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

اعلم أنّ المقصود الأعظم من القرآن العظيم الإلهيّات و النبوّات و المعاد و الأحكام فلا جرم يذكر في الأدلّة نفي الإلهيّات بالأجرام الفلكيّة و الإنسان و الحيوان و النبات و عجائب الأرض و البحار و أمثالها فعطف هذه الآية على ما تقدّم فقال:

ص: 175

[وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الأنعام الثلاثة من الإبل و البقر و الغنم لعظة و اعتبارا و دلالة على قدرة اللّه [نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي من بعض ما في بطونه، قال الكسائيّ:

لفظ «الأنعام» مفرد و معناه جمع كالرهط و القوم فيجوز أن يؤتى الضمير بالتذكير و التأنيث كما قال في سورة المؤمنين «فِي بُطُونِها» (1) [مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ قال ابن عبّاس: إذا استقرّ العلف في الكرش صار أسفله و ثفله فرثا أي سرجينا و أعلاه دما و أوسطه لبنا فيجري الدم في العروق و اللبن في الضرع و يبقى الفرث و هو السرجين فذلك قوله: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً» لا يشوبه الدم و لا الفرث [سائِغاً] مريئا في حلوقهم، و إنّ من قدر على إخراج لبن أبيض من بين الفرث و الدم من غير أن يختلط بهما قادر على إخراج الموتى من الأرض و أيضا لكم طريق استدلال و عظة فيما أخرج لكم.

[وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ ما [تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً] و ماء الموصولة مضمرة في الكلام كقوله سبحانه: «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً» (2) و التقدير: ما ثمّ رأيت نعيما، كذلك هاهنا.

و في تفسير السكر وجوه: الأوّل الخمر سمّيت بالمصدر من سكر سكرا و سكرا نحو رشدا و رشدا.

فإن قيل: الخمر محرّمة فكيف ذكرها اللّه في معرض الإنعام؟ فأجابوا أنّ هذه السورة مكّيّة و تحريم الخمر نزل في سورة المائدة فكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر.

و قيل: لا حاجة إلى إلزام النسخ لأنّه خاطب المشركين و عدّ أنعامه عليهم من الثمرات، و الخمر من أشربتهم فكانت نعمة عليهم.

و قيل: المراد بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة ممّا يحلّ و الرزق الحسن ممّا يؤكل فالمعنى حينئذ: تتّخذون منها أصنافا من الأشربة و الأطعمة.

و قال ابن عبّاس: السكر ما حرّم من ثمرها و الرزق الحسن ما احلّ من ثمرها و أنّه نبّه سبحانه في هذه الآية على تحريمها لأنّه ميّز بينهما و بين الرزق، فوجب أنّ الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة و هذا إنّما يكون كذلك إذا كانت محرّمة.

ص: 176


1- الآية ال: 21.
2- الدهر: 20.

قال الطبرسيّ: و قد أخطأ من تعلّق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنّه سبحانه إنّما أخبر أنّه خلق هذه الثمار لينتفعوا بها فاتّخذوا منها ما هو محرّم عليهم، و لا فرق بين قوله هذا و بين قوله: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» (1).

[إِنَّ فِي ذلِكَ و هذه الأحوال لا يقدر عليها إلّا إله، فيحصل بالتفكّر فيها حجّة لمن تفكّر و تعقّل.

و هاهنا تحقيق و هو أنّه أنّ اللبن و الدم يتولّدان في الكرش بمادّتهما و لذلك ما ترى في كرشها دما و لا لبنا و لكنّ الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك الغذاء إلى معدته إن كان إنسانا و إلى كرشه أن كان من الأنعام فإذا طبخ و حصل الهضم الأوّل فما كان صافيا انجذب إلى الكبد، و ما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء، ثمّ ذلك المجذوب منه في الكبد ينضج و ينطبخ في الكبد و يصير دما، و ذلك هو الهضم الثاني، و يكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء و السوداء و زيادة المائيّة، فما كان من الصفراء فيذهب إلى المرارة، و ما كان من السوداء فيذهب إلى الطحال، و ما كان من الماء فيذهب إلى الرئة و الكلية و منها إلى المثانة و ما صفى من الدم فإنّه يدخل في الأوردة و هي العروق النابتة من الكبد و هناك يحصل الهضم الثالث، و بين الكبد و الضرع عروق كثيرة فيصبّ الدم من تلك العروق إلى الضرع، و الضرع لحم غدديّ رخو أبيض فيقلّب اللّه الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الأبيض الغدديّ الرخو من صورة الدم إلى صورة اللبن.

فإن قيل: هذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر، فلم لم يحصل منه اللبن؟ لأنّ مزاج الذكر من كلّ حيوان يجب أن يكون حارّا يابسا و مزاج الأنثى باردا رطبا و الحكمة فيه أنّ الأنثى لا بدّ من مزيد الرطوبة و رطوبة كثيرة لتولّد الولد و لو لا الرطوبة الكثيرة غالبة لما كان بدن الأمّ قابلا لتمدّد الولد و ما كان يحصل الاتّساع لأن يكبر الولد، ثمّ إنّ الرطوبات تصير مادّة لنموّ بدن الجنين فحينئذ عند انفصال الجنين تنصبّ إلى الثدي و الضرع لتصير مادّة لغذاء الطفل فالسبب الّذي لأجله يتولّد اللبن من الدم في الأنثى غير حاصل في الذكر فظهر الفرق. فالمراد من قوله: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ» يعني هذه الثلاثة

ص: 177


1- السورة: 92.

تتولّد في موضع واحد و بداهة العقل يحكم بأنّ هذه الكيفيّات المختلفة المتفاوتة المتضادّة، لا تحصل إلّا بتدبير الفاعل الحكيم و المدبّر الرحيم.

قوله: [وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهمها، و الوحي على وجوه: منها وحي النبوّة، و منها الإلهام كقوله: «وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى (1) و منها الإشارة كقوله: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا» (2) و أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالإخفاء و الاستتار. و المعنى: ألهم اللّه النحل اتّخاذ المنازل و المساكن و الأوكار و البيوت في الجبال و الشجر بيوتا [وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ و يسقفون من الكروم و أمثالها لأجل الخلايا الّتي تعسل فيها. و إنّما أتى بلفظ الأمر و إن كانت النحل ممّا لا يعقل الأمر اتّساعا.

قوله: [ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فانظر أيّها الإنسان إلى هذه الدلائل كيف يهديك إلى معرفة الخالق؟! لأنّه سبحانه بيّن إخراج الألبان من النعم بذلك الترتيب المذكور، ثمّ إخراج السكر و الرزق الحسن من الأثمار، ثمّ إخراج العسل من هذا الحيوان الضعيف بهذا الترتيب الّذي ينبّه بأنّها تبني البيوت من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، و العقلاء من البشر لا يمكنهم مثل تلك البيوت إلّا بآلات و أدوات كالمسطر و الفرجار.

و قد ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكّلة بأشكال سوى المسدّسات فإنّه كان يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة، فإهداء هذا الضعيف ألى هذه الحكمة الخفيّة ليس إلّا بإلهام الخالق الحكيم.

ثمّ إنّ النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقيّة و هو عظيم الجثّة و نافذ الحكم على البقيّة و هم يخدمونه و يحملونه عند الطيران، و ذلك من الأعاجيب، ثمّ إنّها قد تنفر من و كرها و تذهب مع الجمعيّة إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى و كرها ضربوا الطنبور و الآلات الموسيقيا و بواسطة تلك الألحان يقدرون على عودها، و هذه حالة عجيبة فمعنى الوحي بالنسبة إلى الموحى إليه معنى خاصّ.

ص: 178


1- القصص: 7.
2- مريم: 11.

و إنّما سمّي هذا الحيوان نحلا لأنّ اللّه سبحانه نحل الناس العسل الّذي يخرج منها، و النحل يذكّر و يؤنّث، و بلغة أهل الحجاز مؤنّثة و كذلك كلّ جمع ليس بينه و بين واحده إلّا الهاء.

و بالجملة قوله: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» اعلم أنّ اللّه تعالى دبّر هذا العالم على وجه لطيف كلّه، مثلا يحدث في الهواء أحيانا طلّ لطيف في الليالي و يقع ذلك الطلّ على أوراق الأشجار و أزهارها و تكون تلك الأجزاء الطلّيّة صغيرة متفرّقة على الأزهار و الأوراق بحيث لا يرى، و قد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة كالترنجبين و المنّ، و القسم الأوّل من الطلّ فهو الّذي ألهم اللّه هذا النحل حتّى تلتقط تلك الذرّات غير المرئيّة في الأزهار بأفواهها و تأكلها و تغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرّة اخرى من تلك الأجزاء و ذهبت بها إلى بيوتها و وضعتها هناك مدّخرة لنفسها غذاءها فإذا اجتمعت المدّخرة فذاك هو العسل.

و من الناس من يقول: إنّ النحل يأكل من تلك الأجزاء الطلّيّة من الأزهار و الأوراق العطيرة أشياء ثمّ إنّه تعالى يقلّب المأكول في داخل بدنها عسلا ثمّ إنّها تقي ء مرّة اخرى فذاك هو العسل، و القول الأوّل أقوى لأنّ طبيعة الترنجبين أقرب من العسل لأنّا نشاهد أنّ هذا النحل إنّما يتغذّى بالعسل، و لذلك أنّا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقيّة من ذلك لأجل أن يتغذّى بها.

فقوله: «كُلِي» معناه ثمّ كلي من كلّ ثمرة تشتهينها من هذه الأجزاء الطلّيّة على الأزهار فإذا أكلتها فاسلكي في طريق الّذي ألهمك اللّه و ذلّل ذلك الطريق و سخّره لك.

و قيل: إنّ «ذُلُلًا» حال عن النحل لا عن الطريق أي فاسلكي منقادة و مقهورة لأمر ربّك هذا، و إنّ اللّه سبحانه جعل لنظم العالم لكلّ فئة و جماعة يعسوبا هو آمرها يقدّمها و يحامي عنها و يسوسها، و الجماعة تتبعه و تقتفي أثره و متى فقدته انحلّ نظامها و تفرّقت شذر مذر، و إلى هذا المعنى أشار عليّ عليه السّلام و قال: أنا يعسوب المؤمنين.

ثمّ قال: [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها] و هذا الكلام رجوع من الخطاب إلى الغيبة للالتفات

ص: 179

لأنّ الغرض من هذا البيان أن يحتجّ المكلّف به على قدرة اللّه و حسن تدبيره فكأنّه عدل عن خطاب النحل بما سبق ذكره و خاطب الإنسان أي إنّا ألهمنا النحل بذلك الترتيب لأجل أن يخرج من بطونها [شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ و المراد من بطونها أي من أفواهها و كلّ تجويف في داخل البدن فإنّه يسمّى بطنا أ لا ترى أنّهم يقولون: بطون الدماغ. هذا على معنى القسم الأوّل و على معنى القسم الثاني بكونها تقي ء، فالمعنى على سبيل الحقيقة و كونه شراب معلوم لأنّه تارة يشرب وحده و تارة يتّخذ منه الأشربة، و كونه مختلف اللون منه أحمر و أصفر و أبيض.

و المقصود من هذا الكلام إبطال القول بالطبع لأنّ هذا الجسم مع كونه متساوي الطليعة لمّا حدث على الألوان المختلفة دلّ على أنّ حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار لا لأجل الطبيعة لأنّ الطبيعة الواحدة لا تختلف. (1) قوله: [فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ و فيه قولان: الأوّل- و هو الصحيح- أنّه صفة للعسل، فإن قيل: كيف يكون شفاء للناس و هو يضرّ بالصفراء و يهيّج المرار؟ قلنا: إنّه لم يقل لكلّ الناس و لمّا كان شفاء للبعض صلح بأن يوصف. و القول الثاني أنّ الضمير عائد إلى القرآن و على هذا المعنى فقصّة النحل تمّت عند قوله: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» ثمّ ابتدأ و قال: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» أي في هذا القرآن ما هو شفاء للناس من الكفر و البدعة.

و يؤيّد قول من قال: إنّ الضمير عائد إلى العسل ما روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ أخي يشتكي بطنه فقال صلّى اللّه عليه و آله: اسقه عسلا.

فذهب الرجل و رجع و قال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئا، فقال صلّى اللّه عليه و آله: اذهب و اسقه عسلا.

فذهب فسقاه فكأنّما نشط من عقال فقال صلّى اللّه عليه و آله: صدق اللّه و كذب بطن أخيك. و حملوا قوله صلّى اللّه عليه و آله: على قوله تعالى: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ».

قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إنّ في تلك الدقائق و المعارف دلالات على وجود الواحد الأحد المدبّر للأمور لمن تفكّر و اعتبر.ت.

ص: 180


1- اختلاف الألوان ناش عن صغر النحل و كبرها. و الدليل على اللّه اظهر من ان نحتاج الى هذه التكلفات.

قوله: [وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] أي أوجدكم و أنعم عليكم بضروب النعم الدينيّة و الدنيويّة، ثمّ يميتكم و يفنيكم و منكم من يبقيه حتّى يصير إلى أدون العمر و يصل إلى حال الهرم و الخرف فيظهر النقصان في جوارحه و حواسّه، و رووا عن عليّ عليه السّلام أنّ أرذل العمر خمس و سبعون سنة. و قيل: تسعون سنة.

قوله: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ» أي ليرجع إلى حال الطفوليّة بنسيان ما كان يعلم لأجل الكبر فيصير كأنّه لا يعلم شيئا ممّا كان علمه، إنّ اللّه عليم بمصالح عباده قدير على تغيير أحوالهم.

و هاهنا تحقيق شريف: و هو أنّ الطباعيّين قالوا: إنّ بدن الإنسان مخلوق من المنيّ و من دم الطمث، و المنيّ و الدم جوهران رطبان حارّان و الحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلّلت رطوبته و أفادته نوع يبس فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوّة الحرارة يقلّل ما فيه من الرطوبة حتّى تتصلّب الأعضاء فإذا تمّ تكوّن البدن و كمل بتفصّل الجنين.

ثمّ إنّ ما في البدن من الحرارة يعمل في الرطوبة و يقلّلها و تحصل للبدن ثلاثة أحوال:

الاولى أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته و حينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدّد و النماء و الازدياد، و ذلك هو سنّ النشوء و النماء و ذلك نهايته إلى ثلاثين أو خمس و ثلاثين سنة.

الحالة الثانية أن تصير رطوبات البدن أقلّ ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة إلّا أنّها لا يكون زائدة على قدر الرطوبة و هذا هو سنّ الوقوف و غايته خمس سنين، و عند تمامه يتمّ الأربعون.

الحالة الثالثة أن تقلّ الرطوبات و تصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة و عند ذلك يظهر النقصان، ثمّ هذا النقصان قد يكون خفيّا و هو سنّ الكهولة، و تمامه إلى ستّين سنة، ثمّ يكون ظاهرا و هو سنّ الشيخوخية و تمامه إلى مائة و عشرين سنة. هذا تمام القول منهم.

ص: 181

قال الرازيّ: و هذا القول ضعيف جدّا لأنّا نقول: إنّ الحرارة الغريزيّة في بدن الإنسان الكامل إمّا أن يكون هي عين ما كان حاصلا في جوهر النطفة أو صارت أزيد ممّا كانت و الأوّل باطل، لأنّ الحارّ الغريزيّ الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النطفة و لا شكّ أن جرمها كان قليلا صغيرا فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزيّة إلّا ذلك القدر كان في غاية القلّة و لم يظهر فيه أثر في هذا البدن أصلا، و أمّا الثاني بأنّ الحرارة الغريزيّة تتزايد بحسب تزايد الجثّة و البدن و إذا تزايدت الحرارة الغريزيّه ساعة فساعة و ثبت أنّ تزايدها موجب تزايد القوّة و الصحّة ساعة فساعة فوجب أن يبقى البدن الحيوانيّ أبدا في التزايد و التكامل، و حيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنّ ازدياد حال البدن الحيوانيّ و انتقاصه ليس بحسب الطبيعة بل بسبب الفاعل المختار.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 71 الى 74]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)

و هذا بيان آخر من أحوال الإنسان حال حياته و ذلك أنّا نرى أكيس الناس و أكثرهم فهما و عقلا يفنى عمره في طلب القدر القليل من المال و لا يتيسّر له ذلك، و نرى أجهل الناس و أقلّهم عقلا تنفتح عليه أبواب الدنيا، و كلّ شي ء خطر بباله فإنّه يحصل له في الحال و لو كان السبب جهد الإنسان و عقله لوجب أن يكون الأعقل أغنى و أفضل، لكنّ الأمر ليس كذلك؛ قال المتنبّي:

بالجدّ لا بالمساعي يدرك الشرف تمشي الجدود أقوام و إن قعدوا

و قال ابن الراونديّ:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

ص: 182

فلمّا رأينا أنّ الأعقل أقلّ نصيبا و الأخسّ و الأجهل أوفر نصيبا علمنا أنّ ذلك بقسمة القسّام كما قال سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا». (1) قال الشافعيّ:

و من الدليل على القضاء و كونه بؤس اللبيب و طيب عيش الأحمق

و هذا التفاوت غير مختصّ بالمال بل في الذكاء و البلادة، و الحسن و القبح، و العقل و الحمق، و الصحّة و السقم، و بالجملة وسّع سبحانه على بعض و قتر على بعض على حسب المصلحة.

قوله: [فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي أي بجاعلي [رِزْقِهِمْ في المعنى قولان:

أحدهما أنّ الخلق لا يشركون عبيدهم و أزواجهم في أموالهم حتّى يكونوا سواء، و يرون ذلك نقصا فلا يرضون لأنفسهم هذا الأمر فكيف يشركون عبدي و مخلوقي في ملكي و سلطاني، و يوجّهون العبادة إليهم؟ و كيف أنتم أيّها النصارى تشركون عيسى عبدي معي شريكا في العبادة؟ قيل: نزلت في نصارى نجران.

و المعنى الثاني أنّ الّذين فضّلهم اللّه في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم، بل اللّه رازق المالك و المملوك؛ لأنّ الّذي ينفقه المولى على المملوك إنّما ينفقه ممّا رزقه اللّه فاللّه رازقهم جميعا.

[فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ] أي المالك و المملوك في ذلك الرزق. و لمّا كان المعطي لكلّ الخيرات و الرزق هو اللّه فمن أثبت شريكا للّه فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند اللّه كما أنّ أهل الطبائع و أهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع و إلى النجوم و هذا معنى [أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ .

قوله: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً] و هذا نوع آخر في تعداد نعم اللّه على عبيده، المراد أنّه سبحانه خلق حوّاء ابتداء ثمّ الحكم عامّ في جميع الذكور و الإناث أي إنّه خلق النساء من أنفسكم و أصلكم و سنخكم ليتزوّج بهنّ الذكور، و من أنفسكم أي بعضكم من بعض.

قال الطبيعيّون: إنّ المنيّ إذا انصبّ إلى الحصّة اليمنى من الذكر و انصبّ منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان النسل ذكرا تامّا في الذكورة، و إن انصبّ إلى الحصّة

ص: 183


1- الزخرف: 32.

اليسرى من الرجل و انصبّ منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان النسل أنثى تامّا في الأنوثيّة، و إن انصبّ إلى الحصّة اليمنى، ثمّ انصبّ إلى جانب الأيسر من الرحم كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث، و إن انصبّ إلى الحصّة اليسرى، ثمّ انصبّ منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان النسل أنثى في طبيعة الذكور، و كلّها بتقدير العزيز العليم.

قوله: [وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً] و الحفيد من يسرع في العمل بطاعتك و الأعوان و الخدام و المراد أنّه يحصل لكم من نسائكم لكم بنين و أعوان. و قيل:

الحفيد قوم المرأة.

[وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من المطعومات اللذيذة سواء كانت من النبات أو من الحيوان، و مع ذلك يصدّقون الباطل أنّ لي شريكا و صاحبة و ولدا، و يكفرون بنعمة اللّه أي يحرّمون ما أحلّ اللّه و يحلّلون ما حرّم اللّه [وَ يَعْبُدُونَ غير [اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ و لا يقدر على قليل و لا كثير [وَ لا يَسْتَطِيعُونَ و ذكر الجمع بالواو و النون، و هو مختصّ بأهل العلم لأنّه سبحانه عبّر على عقيدتهم كما أنّه سبحانه عبّر «بما» كما هو الحقيقة في نفس الأمر.

[فَلا] تجعلوا [لِلَّهِ الأشباه و الأمثال في العبادة [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ضرر عبادتكم للغير و إثبات الشريك [وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): آية 75]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)

. أكّد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثل، المراد أنّا لو فرضنا [عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ] و فرضنا حرّا كريما غنيّا كثير الإنفاق سرّا و جهرا فصريح العقل يحكم بأنّه لا يجوز التسوية بينهما في الإجلال و التعظيم فلمّا لم يجز التسوية بينهما مع أنّهما مستويان في البشريّة فكيف يجوز للعاقل أن يسوّي بين اللّه القادر على الرزق و الحياة و بين الأصنام الّتي لا تملك و لا تقدر؟ و قيل: إنّ هذا المثل للكافر و المؤمن لأنّ الكافر لا خير عنده و المؤمن يكسب الخير.

قوله: [وَ مَنْ رَزَقْناهُ يريد حرّا ملّكناه مالا و نعمة [فَهُوَ يُنْفِقُ من ذلك المال [سِرًّا

ص: 184

وَ جَهْراً] لا يخاف من أحد، و إنّما قيّد العبد بالمملوك احترازا عن المكاتب، أو المراد عباد اللّه لأنّهم أيضا عبيد.

و احتجّ الفقهاء بهذه الآية على أنّ العبد لا يملك شيئا، فإن قيل: ظاهر الآية تدلّ على أنّ عبدا من العبيد لا يقدر على شي ء، فلم قلتم: كلّ عبد كذلك؟ لأنّه ثبت في اصول الفقه أنّ الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلّيّة لذلك الحكم فكونه عبدا وصف مشعر بالمقهوريّة و الذلّة.

و قوله: «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» حكم مذكور عقيبه؛ فهذا يقتضي أنّ العلّة- لعدم القدرة على شي ء- كونه موصوفا بالعبديّة فثبت العموم.

و هاهنا دليل آخر و هو أنّه تعالى قال بعده: «وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» فميّز هذا القسم الثاني عن القسم الأوّل و هو العبد بهذه الصفة فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتّى يحصل الفرق بين القسم الثاني و القسم الأوّل، و لو ملك العبد لكان اللّه قد ملّكه رزقا حسنا.

ثمّ قال: [هَلْ يَسْتَوُونَ على سبيل الإنكار أي لا يستوون.

قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ المعنى: حقيقة الحمد للّه، و ليس الحمد للأصنام. أو قل يا محمّد:

الحمد للّه. و لكن مع هذه البيانات [أَكْثَرُهُمْ لا يفهمون.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 76 الى 77]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

ثمّ [ضَرَبَ سبحانه [مَثَلًا] آخر لإبطال عبدة الأصنام و هو أنّ الأبكم العاجز العيّ المعجم المقطوع اللسان، أو معنى «الأبكم» المطبق الّذي لا يسمع و لا يبصر مع أنّه غير قادر على أمر من الأمور حقيرا كان الأمر أو جليلا، الصفة الثانية [وَ هُوَ كَلٌ و ثقيل على مولاه.

الصفة الثالثة [أَيْنَما] يرسل [مَوْلاهُ لأمر يرجع خائبا [هَلْ يَسْتَوِي مثل هذا الرجل مع

ص: 185

رجل فصيح [يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و الحقّ و يدعو إلى الخير و الرشد [وَ هُوَ عَلى صِراطٍ] و دين قويم لا يستوون البتّة.

و حاصل المعنى أنّ الأبكم العاجز أذا لا يكون مساويا في الفضل مع الناطق الكامل مع استوائهم في البشريّة فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساويا لربّ العالمين في المعبوديّة كان أولى.

قوله: [وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ و لمّا مثّل المؤمن بالّذي يأمر بالعدل، و الكافر بالأبكم وصف نفسه سبحانه أنّه المختصّ بعلم الغيب و هو ما غاب عن جميع الخلائق. ثمّ قال بعد ذكر العلم ذكر القدرة: و ما أمرنا في الساعة إلّا كطرف العين أو كردّ البصر و لا يقتدر عليه شي ء. قيل: معنى «أو» بل هو في الأمر أقرب من ذلك؛ لأنّ اللّه على كلّ شي ء قدير.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 78 الى 80]

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

المعنى: ثمّ عدّد نعما بقوله تعالى: [وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ منعما عليكم بذلك و أنتم [لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً] من منافعكم و مضارّكم، و تفضّل عليكم بالحواسّ الصحيحة الّتي هي طرق المدركات، و أنعم عليكم بالقلوب الّتي تفقهون بها الأشياء لتعقلوا عظمة اللّه.

و الأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة و غراب و لم يجمع فؤاد على أكثر العدد و إنّما جمع على القلّة لأنّ السمع و البصر كثيران و إنّ الفؤاد قليل؛ لأنّ الفؤاد خلق للمعارف الإلهيّة و أكثر الخلق ليسوا كذلك بل مشغولون بالأفعال البهيميّة و الصفات السبعيّة فكأنّ فؤادهم ليس بفؤاد و لهذا أتى بجمع القلّة.

ص: 186

قوله: [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروه و تحمدوه.

قوله: [أَ لَمْ يَرَوْا] و قرئ بالتاء، ألم يتفكّروا و ينظروا [إِلَى الطَّيْرِ] مذلّلات للطيران من غير أن يعتمد على شي ء [ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ من السقوط على الأرض من الهواء فيمسك الهواء تحت الطير حتّى لا تقع كإمساك السابح في الماء حتّى لا ينزل فيه فخلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران و أعطاه جناحا يبسطه مرّة و يكسره مرّة مثل ما يسبح السابح في الماء، و خلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه و النفاذ فيه، و جسد الطير جسم ثقيل و الجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلّقا من غير دعامة تحته و لا علاقة فوقه فحينئذ الممسك هو اللّه.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لدلالات للمؤمنين لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ عدّد نعمة اخرى بقوله: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً] أي موضعا تسكنون فيه ممّا تتّخذون من الحجر و المدر و الخشب و الآلات و هذا القسم من البيوت لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه، و القسم الثاني القباب و الخيام و الفساطيط و إليها الإشارة بقوله: [وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ حركتكم [وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ و يمكن نقله و تحويله من مكان إلى مكان و كانت العرب تعمل البيوت من الأدم و الشعر [وَ مِنْ أَصْوافِها] و الصوف الغليظ منها و الوبر اللطيف منها للأكسية و الشعر منها للجول و أثاث البيت أو الصوف من الضأن، و الوبر من الإبل، و الشعر من المعزى، و المتاع ما يفرش و يزيّن به في البيت إلى زمان.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 81 الى 83]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

ثمّ عدّد نعما أخر أضافها إلى ما عدّده فقال: [وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الأشجار و الأبنية أشياء تستظلّون بها في الحرّ و البرد [وَ جَعَلَ لَكُمْ ... أَكْناناً] أي مواضع تسكنون بها من كهوف و ثقوب و تأوون إليها.

ص: 187

[وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ أي ما تلبسونه من قميص و كساء من القطن و الكتّان و غيرهما [تَقِيكُمُ الْحَرَّ] و لم يقل: و تقيكم البرد لأنّ ما يقي الحرّ من شأنه أن يقي البرد و الّذين خوطبوا بذلك أهل حرّ في بلادهم فحاجتهم إلى وقاية الحرّ أكثر و ذكر أحد الضدّين تنبيه على الآخر؛ لأنّ العلم بأحد الضدّين يستلزم العلم بالضدّ الآخر؛ لأنّ الإنسان متى خطر بباله الحرّ خطر بباله البرد [وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ شدّة الطعن و الضرب و يدفع عنكم سلاح أعدائكم يوم البأس و الشدّة.

[كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي مثل ما جعل لكم هذه الأشياء و أنعمها عليكم.

[لَعَلَّكُمْ يا أهل مكّة تعلمون و تدبّرون أنّ أحدا لا يقدر على هذا غيره فتوحّدوه و تصدّقوا رسله.

[فَإِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عن الإيمان و التصديق بك يا محمّد [فَإِنَّما عَلَيْكَ التبليغ و البلاغ اسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم.

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفار أنّهم [يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها] أي يعرفون نعم اللّه عليهم بما يجدونه من خلق نفوسهم و إكمال عقولهم و خلق المنافع الّتي ينتفعون بها، و مع ذلك ينكرون أنّها من جهة اللّه خاصّة بل يضيفونها إلى أوثان و يشكرون و يشركون الأوثان عليها و يقولون: رزقنا بشفاعة آلهتنا.

و قيل: المعنى أنّهم يعرفون محمّدا أنّه من نعم اللّه لهم ثمّ يكذّبونه و يجحدون نبوّته [وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لأنّ منهم من لم تقم الحجّة عليه إذ لم يبلغ حدّ التكليف لصغره، أو كان ناقص العقل أو لم تبلغه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر أو لأنّه علم سبحانه أنّ فيهم من يؤمن و يصدّق نبوّته. و قيل: إنّه من الخاصّ في الصيغة و العامّ في المعنى و أراد جميعهم الكافرون.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 84 الى 85]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

لمّا بيّن حال منكري النعمة و كفرهم عقّبه بوعيدهم فقال: و اذكر يا محمّد حين

ص: 188

[نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً] و هم الأنبياء و العدول من كلّ عصر يشهدون على الناس بأعمالهم، قال الصادق عليه السّلام: لكلّ زمان و امّة إمام، تبعث كلّ امّة بإمامهم. و فائدة الشهادة مع علم اللّه بذلك أنّ ذلك أهول للنفس و أعظم للعذاب و الخزي و الفضيحة بحضرة الملأ مع جلالة الشهود و لأنّ الناس إذا علموا أنّ العدول يشهدون عند اللّه بين يدي الخلائق فإنّ ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي.

[ثُمَّ لا يُؤْذَنُ للكفّار بالكلام و الاعتذار و لا يسمع لهم العذر و لا يسمع لهم [وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا عتاب هناك لهم لأنّه إنّما يقع العتاب إذا كان الأمر على طريق أنّه إذا عاتبه رجع إلى الرضا. و هذا دليل على أنّه سبحانه راسخ في غضبه و سطوته.

[وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] أنفسهم بالكفر و العذاب، و وصلوا إليه فعند ذلك لا [يُخَفَّفُ عَنْهُمْ و هم لا يمهلون و تحقيقه ما يقوله المتكلّمون من أنّ العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 86 الى 90]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

المعنى أنّه تعالى يبعث الأصنام الّتي كان يعبدها المشركون، و المقصود من إعادتها أنّ المشركين يشاهدونها في غاية الذلّة و الحقارة، و كلّ ذلك ممّا يوجب زيادة الغمّ و الحسرة و تكميل العذاب لهم و إنّما وصفهم بالشركاء لأنّهم جعلوها شركاء في العبادة مع اللّه، و جعلوا لها نصيبا من أموالهم فحكى اللّه عن المشركين أنّهم إذا رأوا تلك الشركاء. [قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ و المقصود من هذا القول من المشركين إحالة هذا الذنب على الأصنام و ظنّوا أنّ هذا القول ينجيهم من عذاب اللّه

ص: 189

او ينقص من عذابهم فعند ذلك تكذّبهم الأصنام.

[فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني أنّ اللّه يخلق الحياة و العقل و النطق في تلك الأصنام حتّى تقول هذا القول، و يقولون للمشركين: إنّا ما أمرناكم بعبادتنا و لكنّكم اخترتم الضلال لأنفسكم و أنّكم لكاذبون في قولكم: إنّا آلهة.

و قوله: [وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ يعني استسلم المشركون و ما عبدوهم من دون اللّه لأمر اللّه في ذلك اليوم، و انقادوا لحكمه قسرا لا اختيارا و اعترفوا بما ينكرونه من توحيد اللّه، و بطل ما كانوا يأملونه و يتمنّونه من الأمانيّ الكاذبة من أنّ آلهتهم تشفع لهم.

قوله: [الَّذِينَ كَفَرُوا] و أعرضوا غيرهم عن اتّباع الحقّ أو المراد صدّوا المسلمين عن البيت الحرام [زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ على صدّهم عن دين اللّه زيادة على كفرهم.

قيل: زدناهم الأفاعي و العقارب في النار لها أنياب كالنخل الطوال، عن ابن مسعود. و قيل:

هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذّبون بها أو زيدوا على عذاب الكفر حيّات كأمثال الفيلة و البخت و عقارب كالبغال الدلم تلسع إحداهنّ فيجد صاحبها سمّها أربعين خريفا.

و قيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدّة عذاب البرد إلى النار بصدّهم عن دين اللّه.

[وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من أمثالهم من البشر و يجوز أن يكون ذلك الشهيد نبيّهم الّذي أرسل إليهم و يمكن أن يكون المؤمنون يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي [وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد [شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ] أي قومك و امّتك و تمّ الكلام.

ثمّ قال: [وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بيانا لكلّ أمر مشكل و كلّ ما يحتاجون إليه فإنّه ما من شي ء يحتاج الخلق إليه في أمر دينهم إلّا و هو بيّن في الكتاب إمّا بالتنصيص عليه أو من بيان النبيّ الّذي يستنبطه منه و يستنبطه الحجج القائمون

ص: 190

مقامه بنصّه [وَ هُدىً وَ رَحْمَةً] أي القرآن هدى و رحمة و بشارة لهم بالنعيم المقيم.

[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و هو الإنصاف بين الخلق الّذي ليس فيه ميل و لا اعوجاج و قوله: [الْإِحْسانِ أي الإحسان إلى الناس و التفضّل و البذل في السعي الجميل لأمورهم.

و قيل: المراد من العدل التوحيد و من الإحسان أداء الفرائض. و قيل: العدل في الأفعال و الإحسان في الأقوال. و يأمركم بإعطاء الأقارب حقّهم و صلتهم، و قيل: المراد بذي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الّذين أرادهم اللّه بقوله: «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (1) و هو المرويّ عن أبي جعفر قال عليه السّلام: نحن هم.

و هذه الآية و هي «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ، إلخ» أجمع آية في القرآن من الفرائض و السنن و مكارم الأخلاق.

روي عن ابن عبّاس أنّ عثمان بن مظعون الجمحيّ قال: ما أسلمت أوّلا إلّا حياء من محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لم يتقرّر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدّثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء، ثمّ خفضه عن يمينه، ثمّ عاد لمثل ذلك؛ فسألته فقال: بينما أنا احدّثك إذا بجبرئيل نزل عن يميني فقال: يا محمّد إنّ اللّه يأمر بالعدل و الإحسان العدل شهادة أن لا إله إلّا اللّه و الإحسان القيام بالفرائض و إيتاء ذي القربى أي صلة ذي القربى [وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ] الزنى [وَ الْمُنْكَرِ] ما لا يعرف في شريعة و لا سنّة [وَ الْبَغْيِ الاستطالة قال عثمان: فوقع في قلبي الإسلام.

و عن ابن مسعود هي أجمع آية في القرآن، و ليس من خلق سيّئ إلّا نهى اللّه عنه في هذه الآية و ليس من خلق حسن كان يعمل و يستحبّ إلّا أمر اللّه به في هذه الآية.

و قال القاضي في تفسيره، عن ابن ماجة عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: أمر اللّه نبيّه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج صلّى اللّه عليه و آله و أنا معه و أبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر: ممّن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فدعا هم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الشهادتين و إلى أن ينصروه، فإنّ قريش كذّبوه، فقال يقرون بن عمر و الشيبانيّ إلى م تدعونا أخا قريش؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ إلخ» فقال يقرون بن

ص: 191


1- الأنفال: 42.

عمرو: دعوت و اللّه إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و لقد أفك قوم كذّبوك و ظاهروا عليك.

و عن عكرمة أنّه صلّى اللّه عليه و آله تلا هذه الآية على الوليد بن مغيرة فاستعاده، ثمّ قال:

و إنّ عليه لطلاوة و أنّ له لحلاوة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كتب الإحسان على كلّ شي ء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة و ليحدّ أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته.

و قيل: معنى قوله تعالى: «وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ» كلّ الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة و سواء كانت في القول أو في الفعل. و قيل في المنكر: إنّه الكفر. و قيل في البغي:

البغي مطلق الظلم.

و اعلم أنّ اللّه لمّا أمرك بالعدل فهو أحقّ بالعدل و أن لا يظلم أحدا بل يتفضّل.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 91 الى 94]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

المعنى: لمّا أمر اللّه سبحانه بالعدل و الإحسان و نهى عن المنكر و العدوان أمر في هذه الآية الأمر بالوفاء بالعهد و النهي عن نقض الإيمان فقال: [وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ قال ابن عبّاس: الوعد من العهد. و قال المفسّرون: العهد الّذي يجب الوفاء به و الوعد هو الّذي يحسن فعله و إذا عاهد اللّه ليفعلنّه فانّه يصير واجبا عليه.

[وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها] هذا نهي عن حنث الأيمان و حنث الأيمان هو أن ينقضها بمخالفة موجبها و ارتكاب ما يخالف عقدها. و المراد بقوله: «بَعْدَ تَوْكِيدِها»

ص: 192

أي بعد عقدها و إبرامها و توثيقها باسم اللّه و تشديدها بالعزم و العقد على اليمين بخلاف لغو اليمين.

قوله: [وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا] أي جعلتم اللّه حسيبا فيما عاهدتموه عليه و ذلك أنّ من حلف باللّه فكأنّه أكفل اللّه بالوفاء بما حلف [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض العهد و الوفاء به.

و هذه الآية نزلت في الّذين بايعوا النبيّ على الإسلام فقال سبحانه للمسلمين الّذين بايعوه: لا يحملنّكم قلّة المسلمين و كثرة المشركين على نقض البيعة أي أثبتوا على ما عهدتم عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: نزلت في قوم حالفوا قوما فجاءهم قوم آخر و قالوا: نحن أكثر عددا و أقوى، فنقضوا ذلك العهد.

قوله: [وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها] أي لا تكونوا كالمرأة الّتي غزلت ثمّ نقضت غزلها [مِنْ بَعْدِ] فتلها و إصرارا و إبراما. و هي امرأة حمقاء مشهورة بالحمق كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن و لا يزال دأبها، و اسمها ريطة بنت عمر بن كعب، و كانت تسمّى خرقاء مكّة. و [أَنْكاثاً] أي جعلت غزلها أنكاثا و أقطاعا و أجزاء أي ردّت المغزولة بعد الغرل بحالة الصوفيّة و «أَنْكاثاً» إمّا مفعول ثان لنقضت أو حال.

و قوله [تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي تجعلون يمينكم خيانة و مكرا لأنّهم كانوا حين يعاهدون و يحلفون يضمرون الخيانة و الناس يسكنون إلى عهدهم.

و قوله: [أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ] أي لا تنقضوا العهد بسبب أن تكونوا أعلى و أقوى و أكثر من قوم، أي لا تجعلوا أيمانكم سببا لخديعة و مكر في أموركم لمداراة مقاصدكم بل عليكم الوفاء بالعهد و اليمين و [إِنَّما] يختبركم [اللَّهُ بالأمر بالوفاء. و الهاء في «به» على الأمر بالوفاء و هذا الاختبار ليقع الجزاء بحسب العمل. و ليفصّلنّ [لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ في صحّته [تَخْتَلِفُونَ .

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ كلّكم مهتدين، و يعني بالمشيئة القدرة على سبيل الإلجاء [وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ] بالخذلان و بالحكم على الضلال بسبب سوء اختيارهم و استحقاقهم

ص: 193

[وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ] بالتوفيق و الحكم عليه بالهداية بسبب الإطاعة و الاستحقاق؛ و الدليل على أنّ المراد من المشيئة الإلجاء أنّه تعالى قال: بعده [لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و لو كانت أعمال العباد بخلق اللّه لكان سؤالهم عنها عبثا.

قوله: [وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا] نهى سبحانه عن إضمار الخلف و الحنث في العهد و اليمين فتضلّوا عن الرشد بعد أن كنتم على هدى من الإيمان [وَ تَذُوقُوا] العذاب بما منعتم الناس عن دين اللّه.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: نزلت هذه الآية في ولاية عليّ عليه السّلام، و ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث قال: صلّى اللّه عليه و آله سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين. و روي عن سلمان أنّه قال: تهلك هذه الامّة بنقض مواثيقها.

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 100]

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

ثمّ أكّد هذا التحذير بقوله تعالى:

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ رجلا من حضرموت يقال له: «عبدان الأسوع» قال: يا رسول اللّه إنّ امرأ القيس الكنديّ جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي و القوم يعلمون أنّي لصادق و لكنّه أكرم عليهم منّي، فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امرأ القيس عنه فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف فقال عبدان: إنّه لفاجر لا يبالي أن يحلف. فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه، فلمّا قام يحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله تعالى: «وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ الآيتان» فلمّا قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال امرأ القيس:

أمّا ما عندي فينفد و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه و لم أدركم هي، فليأخذ من

ص: 194

أرضي ما شاء و مثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً».

المعنى: [وَ لا تَشْتَرُوا] أي لا تخالفوا عهد اللّه بسبب شي ء يسير تنالوه من حطام الدنيا فتكونوا قد بعتم عظيم ما عند اللّه بالشي ء الحقير، إنّ الّذي عند اللّه من الثواب على الوفاء بالعهد [خَيْرٌ لَكُمْ و أشرف ممّا تأخذونه من عرض الدنيا فإنّ القليل الّذي يبقى خير من الكثير الّذي يفنى، فكيف بالكثير الّذي يبقى في مقابلة القليل الّذي يفنى؟ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و تميّزون بين الخير و الشرّ [ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ] و يفنى [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا] علي الطاعات [أَجْرَهُمْ و ثوابهم.

و إنّما قيّد سبحانه بقوله: [بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنّ الجزاء يترتّب بالطاعات من الواجبة و المندوبة و أمّا المباحة لا تقع عليه الجزاء و لذا قال: «بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

و قوله: [مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى سواء كان العامل ذكرا أو أنثى.

فإن قيل: إنّ لفظة «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر و الأنثى؟

الجواب أنّ الآية في الوعد للخيرات و المبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم و الرحمة، و إثباتا للتأكيد و دفعا لإزالة و هم التخصيص.

و قوله: [وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يفيد أنّ العمل الصالح يفيد الأثر بشرط الإيمان، و ظاهر قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» (1) يفيد العموم و يدلّ على أنّ العمل الصالح يفيد الأثر، سواء كان مع الإيمان أو مع عدم الإيمان.

فالجواب أنّ إفادة العمل الصالح للحياة الطيّبة الباقية الدائمة مشروطة بالإيمان، و أمّا الجزاء المنقطع أو تخفيف العذاب و أمثاله، فيقع أيضا للكافر و المؤمن.

[فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً] قيل: المراد الرزق الحلال. و قيل: القناعة و الرضا بما قسم اللّه. و قيل: إنّها الجنّة لأنّه لا يطيب لأحد حياة إلّا في الجنّة و قيل: رزق يوم بيوم و قيل: حياة طيّبة في القبر.

قوله: [فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي إذا أردت يا محمّد أن تقرأ القرآن [فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ

ص: 195


1- الزلزلة: 7.

[مِنَ شرّ [الشَّيْطانِ المرجوم المطرود. و الاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع و التذلّل و تأويله: استعذ باللّه من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم عند قراءتك من الزلل و الخلل و الوسواس.

[إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ يعني أنّ الشيطان ليس له قدرة قاهرة [عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا] باللّه و المتوكّل عليه، أي لا يقدر على أن يكرههم على المعاصي [إِنَّما] سلطته [عَلَى الَّذِينَ يطيعونه و يقبلون دعاءه و يتّبعون إغواءه [وَ الَّذِينَ هُمْ بسبب طاعة الشيطان [مُشْرِكُونَ باللّه و يشاركون غير اللّه مع اللّه في العبادة. و إنّما خصّ القرآن لأنّ القرآن هو العمدة في امور الدين.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 101 الى 105]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)

النزول: قال ابن عبّاس: كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثمّ نزلت آية فيها لين قالت كفّار قريش: إنّ محمّدا يسخر بأصحابه يأمر هم اليوم بأمر و غدا يأمر بأمر و إنّه لكاذب و يقول من عند نفسه، فأجاب سبحانه عن شبهتهم بأنّ اللّه أعلم بمصالحهم و ينزّل ما ينزّل على ما توجب المصلحة و هم [لا يَعْلَمُونَ سبب و رود النسخ.

المعنى: ثمّ أخبر عن حال الكفّار [وَ إِذا] نسخنا [آيَةً] و آتينا آية اخرى مكانها.

[قُلْ يا محمّد [نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ أي أنزل الناسخ جبرئيل [مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ الصحيح الثابت [لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا] بما فيه من الحجج و البيّنات فيزدادوا يقينا، و معنى تثبيته سبحانه معونته و توفيقه عزّ و جلّ إلى الثبات على الإيمان و الطاعة [وَ هُدىً وَ بُشْرى أي و هو أي النازل هدى و بشارة بالجنّة و الثواب.

قوله: [وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ] ثمّ أجاب سبحانه عن شبهة

ص: 196

اخرى من المشركين أي إنّا نعلم أنّ الكفّار يناقشون و يقولون: إنّ القرآن ليس من عند اللّه و إنّما يعلّم النبيّ إنسان.

و اختلفوا في ذلك الإنسان قيل: هو عبد لبني عامر بن لؤي اسمه «يعيش» و كان يقرأ الكتب. و قيل: «عداس». و قيل: كان بمكّة نصرانيّ أعجميّ اللسان اسمه بلقام يتكلّم بالروميّة.

و قيل: سلمان الفارسيّ. و قال عبد اللّه بن سلام: كان غلامان نصرانيّان من أهل عين التمر كانا يقرءان كتابا لهما بلسانهم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ربّما مرّ بهما و استمع لقراءتهما فقالت قريش: إنّما يتعلّم منهما.

فألزمهم اللّه الحجّة و أكذبهم بهذه الآية بأن قال: [لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ و يضيفون إليه التعليم و يميلون و ينسبون إليه القول [أَعْجَمِيٌ و لم يقل سبحانه: عجميّ لأنّ العجميّ هو المنسوب إلى العجم و إن كان فصيحا، و الأعجميّ هو الّذي لا يفصح و إن كان عربيّا. فردّ سبحانه قولهم بأنّ لسان هذا البشر الّذي يزعمون أنّه يعلمك أعجميّ لا يفصح و لا يتكلّم صحيحا و فصيحا، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات الفصاحة و البيان؟

[وَ هذا] القرآن [لِسانٌ عَرَبِيٌ ظاهر و قد عجز جميعهم عن الإتيان بسورة و آية مثله، و هو بلغتهم فكيف يأتي الأعجميّ الخارج عن الفصاحة بمثله؟ ثمّ إنّ أمر التعليم و التعلّم لا يتأتّى بجلسة و لا جلستين و لا يتمّ بالخفية بل التعليم و التعلّم يحتاج إلى أزمنة متطاولة، و لو كان كذلك لاشتهر فيما بين الخلق، ثمّ الاحتجاج بهذه الكلمات الركيكة دلالة على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ أتبع بالوعيد لهم على ما قالوه بقوله: [إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ و معجزات القرآن [لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الجنّة بسبب عدم الإيمان و القابليّة، و المراد بالهداية الهدى الّذي يكون ثوابا على الإيمان.

ثمّ قال: [إِنَّما يَفْتَرِي و يخترع [الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يصدّقون [بِآياتِ اللَّهِ دون من آمن لأنّ الإيمان يحجز عن الكذب [وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لا أنت يا محمّد، فحصر سبحانه فيهم الكذب بمعنى أنّ الكذب لازم لهم و من عادتهم و هذا كقولك للكاذب:

ص: 197

كذبت و أنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب كما قال: إنّما يفتري الكذب.

و في الحديث مرفوعا أنّه قيل: يا رسول اللّه المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك، قيل:

يا رسول اللّه المؤمن يسرق؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قد يكون ذلك، قيل: يا رسول اللّه المؤمن يكذب؟ قال:

لا، ثمّ تلا هذه الآية.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 106 الى 110]

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

في هذه الآية بيان من يكفر بلسانه و قلبه و من يكفر بلسانه دون قلبه.

النزول: قيل: نزل قوله: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» في جماعة اكرهوا و هم عمّار و ياسر أبوه و امّه سميّة و صهيب و بلال و خباب عذبوا و قتل ياسر و امرأته و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر سبحانه بذلك رسول اللّه، فقال قوم: كفر عمّار! فقال: كلّا إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه.

و جاء عمّار إلى رسول اللّه و هو يبكي، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما وراءك يا عمّار؟ فقال شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير. فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت الآية.

و قيل: نزلت في ناس من أهل مكّة آمنوا و خرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش و فتنوهم فتكلّموا بكلمة الكفر كارهين. و قيل: إنّ ياسرا و سميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام.

و جواب الشرط في قوله: «مَنْ كَفَرَ» قوله: «فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» بمعنى أنّه جواب من قوله: «مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» و هذا الجواب الثاني يغني عن جواب قوله: «مَنْ

ص: 198

كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» مثل قولهم: «من يأتينا فمن يحسن نكرمه» فجواب الأوّل محذوف.

و قوله: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا] نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة و أبي جندل بن سهيل بن عمرو و الوليد بن مغيرة و غيرهم من أهل مكّة فتنتهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا، ثمّ إنّهم هاجروا بعد ذلك و جاهدوا، فنزلت الآية.

و بالجملة فتلخيص المعنى أنّ من كفر باللّه و ارتدّ بعد الإسلام و شرح بالكفر صدرا، أي فتحه و وسّعه لقبول الكفر.

فلو قيل: إنّ المكره ليس بكافر فكيف صحّ الاستثناء؟ لأنّ المكره لمّا ظهر منه الكفر كرها و الكافر طوعا فصحّ المشاكلة فصحّ الاستثناء.

و هؤلاء المكرهين قد عذّبوا و أخذوا و البسوا الدروع الحديد و اجلسوا في الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد و الشمس، و أتاهم أبو جهل يشمتهم و يوبّخهم و يشتم سميّة، ثمّ طعن الحربة في عضوها. و قيل: ما نالوا غير بلال فإنّهم جعلوا يعذّبونه فيقول: أحد أحد حتّى ملّوا فكتفوه و جعلوا في عنقه حبلا من ليف و دفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتّى ملّوه فتركوه، قال عمّار: كلّنا نكلّم بالّذي أرادوا غير بلال، فهانت عليه نفسه. قال خباب: لقد أوقدوا لي نارا على ودك ظهري.

قوله: [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على وجه التقيّة خوف الإتلاف مكرها و قوله: [وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ساكن ثابت بالإيمان، و هذا يدلّ على أنّ محلّ الإيمان هو القلب إمّا الاعتقاد و إمّا كلام النفس.

قوله: [ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ] و التلذّذ فيها و الركون إليها طلبا لها دون الآخرة [وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ و ختم [عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ بسوء اختيارهم الكفر، و أنّهم بمنزلة الغافلين.

ثمّ قال: [لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ و هذا تأكيد لحكم الخسار عليهم لأنّهم المحرومون من الجنّة و عذّبوا بالنار. ثمّ قال سبحانه: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا] و عذّبوا في اللّه فأعطوا بعض ما أرادوا الكفّار ليسلموا من شرّهم، [ثُمَّ جاهَدُوا] مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ صَبَرُوا] على الدين و الجهاد [إِنَّ رَبَّكَ من بعد] تلك الفتنة

ص: 199

و الفعلة الّتي فعلوها من التفوّه بكلمة الكفر [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 111 الى 115]

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

الظرف إمّا متعلق بقوله: «إِنَّ رَبَّكَ ... لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» أو الكلام على سبيل العظة و التذكير أي اذكر [يَوْمَ تَأْتِي و المراد باليوم يوم القيامة [تُجادِلُ و تخاصم الملائكة [عَنْ نَفْسِها] كلّ نفس و يقول: «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» (1) و يحتجّ بما ليس فيه حجّة و [تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء [ما عَمِلَتْ من خير و شرّ [وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك [وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا] و المراد أنّ مثلكم يا أهل مكّة كمثل تلك القرية، أي مثل قرية [كانَتْ آمِنَةً] مأمون أهلها لا يقارّ عليهم قارّة ساكنة لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق يحمل إليه الرزق الواسع [مِنْ كُلِ بلد [فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي كفر أهل تلك القرية، و لم يؤدّ شكرها فأخذهم اللّه بسوء صنيعهم بالخوف و الجوع، و سمّي أثر الجوع و الخوف لباسا لأنّ أثر المشقّة يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس و الزيّ على الإنسان، و يشملهم المشقّة كما يشمل اللباس البدن. و قيل:

المراد بالقرية مكّة فعذّبهم اللّه بسوء صنيعهم بالجوع سبع سنين حتّى أكلوا القدّ و العلهز و الجيف و هو الوبر يخلط بالدم و هم مع ذلك خائفون وجلون من أصحاب النبيّ، و ذلك حين دعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اللهمّ اشدد وطأتك على مضر و اجعل عليهم سنين كسني يوسف عليه السّلام.

و نقل: أنّ ابن الراوندي الزنديق المعروف قال لابن الأعرابيّ الأديب: هل

ص: 200


1- الانعام: 32.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 249

يذاق اللباس؟ فقال ابن الأعرابيّ: لا بأس أيّها النسناس هب أنّك تشكّ أنّ محمّدا ما كان نبيّا أمّا كان عربيّا؟ و كان مقصود ابن الراونديّ الطعن في الآية، و هذا الأحمق كأنّه ما قرع سمعه الاستعارة أمّا سمع قول الشاعر الأعرابيّ حيث قال:

و من يذق الدنيا فإنّي طعمتهاو سيق إلينا عذبها و عذابها

و العذاب ليس من المذوقات و قد استعمل كثيرا، فالمراد بهذه الاستعارة أنّ الجوع أحاط بهم من الجهات و أشملهم فأشبه اللباس.

قوله [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ لمّا ذكر سبحانه المثل ذكر الممثّل فقال: «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ» يعني أهل مكّة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» أي من سنخهم يعرفونه بأصله و نسبه [فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قيل: القتل يوم بدر. و قيل: المجاعة المعروفة الّتي أكلوا الجيف و العظام. و ذلك بسبب ظلمهم و كفرهم فاتركوا الكفر و الشرك حتّى تأكلوا فلهذا السبب قال: [فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً] و خاطب المؤمنين و الراجعين عن الكفر، و المراد من الأمر الإباحة أي كلوا من الغنائم و ما رزقكم اللّه و أحلّها لكم [وَ اشْكُرُوا] عليه [إِنْ كُنْتُمْ ... [تَعْبُدُونَ اللّه.

قوله: [إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الآية] أي إنّكم لمّا آمنتم و تركتم الكفر فكلوا الحلال الطيّب و اتركوا الخبائث و هي [الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ] و ما لم يذكر اسم اللّه عليه حين الذبح، و ذكر اسم الآلهة عليه- و التفصيل و ذكر في سورة البقرة- إلّا حين الاضطرار، فإنّه يجوز حين الاضطرار من غير تعدّ في حدود اللّه و بغي فحينئذ [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 116 الى 117]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)

أكّد سبحانه بهذه الآية أن لا يخالفوا الأوامر و النواهي في التحليل و التحريم، أي [لا تَقُولُوا لِما] أحللتموه بلسانكم [الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ كالميتة تقولون: هذا حلال، و كالصائبة تقولون: هذا حرام، لتكذبوا [عَلَى اللَّهِ في إضافة التحليل و التحريم إليه،

ص: 201

[إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ و «الكذب» وصف للألسنة بمعنى الكاذب أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذّاب أي المفترين على اللّه لا ينجون من عذاب اللّه و لا ينالون خيرا [مَتاعٌ قَلِيلٌ ينتفعون به أيّاما قلائل [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

قوله: [سورة النحل (16): الآيات 118 الى 119]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

لمّا بيّن ما يحلّ و يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خصّ به اليهود من المحرّمات فقال: [وَ عَلَى اليهود [حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ في سورة الأنعام بقوله: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» (1) إلى آخر الآية و هي نزلت قبل [وَ ما ظَلَمْناهُمْ و لكن ظلموا بالكفر و العصيان و الجحود بأنبياء اللّه و استحقّوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم.

ثمّ ذكر حال التائبين فقال: [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ الّذي خلقك [لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ] و المخالفة لأمر اللّه لا يمنعهم من التوبة و حصول المغفرة و الرحمة [بِجَهالَةٍ] السيّئات أو بجهالتهم العاقبة و عدم التدبّر بعقابه لغلبة الشهوة [ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ] ما عملوا و علموا [وَ أَصْلَحُوا] أعمالهم أو دخلوا في الصلاح و أصلحوا أحوالهم و أفعالهم [إِنَّ رَبَّكَ من بعد التوبة و الجهالة أو المعصية [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و أعاد قوله: «إِنَّ رَبَّكَ» للتأكيد، و الضمير في «بعدها» يعود إلى الفعلة و المقصود التأكيد و المبالغة بأنّ ربّك من بعد الرجوع عن السوء و التوبة لغفور لذلك السوء، رحيم يثيب على طاعته، و الغرض إظهار العناية من حضرته الكريم، و التعريض لوصف الحال و الربوبيّة، و الإضافة إلى ضميره عليه السّلام مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أنّ إفاضة آثار الربوبيّة من المغفرة و الرحمة عليهم بتوسّطه عليه السّلام، و كونهم من أتباعه و امّته.

و حاصل الكلام أنّ الإنسان و إن كان قد أقدم على المعاصي دهرا دهيرا و أمدا مديدا فإذا تاب عنه و آمن و أتى بالأعمال الصالحة فهو غفور له و رحيم به، و يخلصه من العذاب.

ص: 202


1- آية: 146.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 120 الى 124]

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

المعنى: [إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً] أي قدوة و معلّما للخير، قال ابن الأعرابيّ:

يقال للرجل العالم: امّة- أو المعنى إمام هدى. و قيل: سمّاه امّة لأنّ قوام الامّة كان به و قام بأمر الأمّة و انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا و الناس كلّهم كانوا كفّارا. و إنّ إبراهيم حاز من الفضائل البشريّة ما لا تكاد توجد في أحد بزمانه حسبما قيل. ليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد فكيف لا و هو رئيس أهل التوحيد و قدوة أهل التحقيق، جادل أهل الشرك و ألقمهم الحجر ببيّنات باهرة لا تبقي و لا تذر و أبطل مذاهبهم الزائفة بالبراهين القاطعة.

[قانِتاً] و مطيعا و دائما على عبادة اللّه [حَنِيفاً] مستقيما غير مائل عن الحقّ و هو الإسلام [وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً] لأنعم اللّه معترفا بها [اجْتَباهُ اللّه و اختاره [وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو الإسلام و التوحيد.

[وَ آتَيْناهُ و أعطيناه [فِي الدُّنْيا حَسَنَةً] و نعمة سابقة في نفسه و في أولاده و هو قول الامّة: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم. أو النبوّة و الرسالة. و قيل: المراد بالنعمة هي أنّه ليس من أهل دين إلّا و هو يرضاه و يتولّاه.

و قد اجتهد في تقرير دلائل التوحيد مع ملك زمانه بقوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ» (1) ثمّ أبطل عبادة الأصنام و الكواكب بقوله: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» (2) ثمّ كسر الأصنام حتّى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار [وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ و لم يقل في أعلى منازل الصالحين مع اقتضاء حاله ذلك ترغيبا في الصلاح و درجة الصالحين، و ناهيك بهذا الترغيب في الصلاح و بهذا المدح لإبراهيم.

قوله: [ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي أمرناك باتّباع [مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] أي مائلا إلى

ص: 203


1- الحج، 256.
2- الانعام: 76.

الحقّ و خلع الأنداد، و متى قيل: إنّ نبيّنا كان أفضل منه فكيف أمر الفاضل باتّباع المفضول؟ فالجواب أنّ إبراهيم سبق إلى اتّباع الحقّ لسبقة زمانه و لا يكون في سبق المفضول إلى متابعة الحقّ نقص الفاضل في اتّباعه، و لمّا وصف سبحانه بأنّ إبراهيم [ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيقتضي أن يكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله مأمورا بهذا الأمر و ليس المعنى أنّه صلّى اللّه عليه و آله مأمور بجميع شريعة إبراهيم.

قوله: [إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ و بيان الآية أنّ موسى عليه السّلام أمر اليهود أن يجعلوا في الأسبوع يوما واحدا للعبادة، و أن يكون ذلك اليوم الجمعة، فأبوا عليه و قالوا: نريد اليوم الّذي فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض و هو السبت، إلّا شرذمة منهم رضوا بالجمعة، فأذن اللّه لهم في السبت و ابتلاهم بتحريم الصيد فيه، ثمّ جاءهم عيسى بالجمعة أيضا فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، و اتّخذوا الأحد.

فالمراد من قوله: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» على نبيّهم موسى حين أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت، فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيّهم موسى في ذلك اليوم.

و ليس المعنى أنّ اليهود اختلفوا فيه، فمنهم من قال بالسبت، و منهم من لم يقل به؛ لأنّ اليهود اتّففوا على ذلك.

و في العقل وجه يدلّ على أنّ الجمعة أفضل من السبت، و ذلك لأنّ أهل الملل اتّفقوا على أنّه تعالى خلق العالم في ستّة أيّام، و بدأ بالخلق و التكوين من يوم الأحد و تمّ في يوم الجمعة و هو يوم الكمال و التمام، و حصول الكمال يوجب الفرح الكامل و السرور العظيم، فحينئذ جعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من غيره.

و في الآية قول آخر في معنى اختلافهم بأنّهم أي اليهود أحلّوا الصيد في السبت تارة و حرّموه تارة و كان الواجب عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي سيحكم للمحقّين بالثواب و للمبطلين بالعقاب.

ص: 204

و النظم أنّه لمّا أمر سبحانه باتّباع الحقّ حذرا من وقوع الاختلاف ذكر في هذه الآية مفاسد الاختلاف الّذي وقع لليهود في اختلاف السبت، و آل أمرهم بأن مسخوا قردة و خنازير.

قوله تعالى: [سورة النحل (16): الآيات 125 الى 128]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

المعنى: أمر اللّه نبيّه بالدعوة إلى الخلق فقال: [ادْعُ الخلق إلى دين اللّه لأنّه الطريق إلى مرضاته [بِالْحِكْمَةِ] أي بالقرآن، و سمّي القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن و النهي عن القبيح، و أصل الحكمة معناه المنع، و إنّما قيل لها: حكمة، لأنّها بمنزلة المانع عن الفساد و ما لا ينبغي أن يختار، و قوله: [وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] أي الوعظ الحسن و تليين القلوب بما يوجب القبول و الخشوع [وَ جادِلْهُمْ و ناظرهم بالقرآن و بأحسن ما عندك من الحجج، و الكلمة الّتي [هِيَ أَحْسَنُ و التقدير: أن ادع الناس بأحد هذه الطرق الثلاث بالقرآن و بالموعظة الحسنة و المجادلة بالطريق الأحسن.

و لمّا كان سبحانه عالما بأنّ جواهر النفوس البشريّة مختلفة فبعضها مشرقة صافية قليل التعلّق بالجسمانيّات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيّات و بعضها مظلمة كدرة قويّة التعلّق بالجسمانيّات عديمة الالتفات إلى الروحانيّات، و يمتنع زوالها فقال:

اشتغل أنت بالدعوة و لا تطمع في حصول الهداية للكلّ فإنّه تعالى أعلم بضلال النفوس الضالّة الجاهلة، و بإشراق النفوس المشرقة الصافية المهتدية.

قوله: [وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي و إن أردتم معاقبة غيركم على وجه المكافاة، فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به و لا تزيدوا عليه.

قيل: إنّ المشركين لمّا قتلوا حمزة و مثّلوا بقتلى احد و بحمزة عليه السّلام فشقّوا بطنه و أخذت هند بنت عتبة بن أبي سفيان كبد فجعلت تلوكه، و جدعوا أنفه و اذنه، قال

ص: 205

المسلمون: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلن بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت الآية. و قيل:

نزلت الآية قبل أن يؤمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقتل المشركين على العموم و امر بقتال من قاتله في هذه الآية.

قوله: [وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ و تركتم المكافاة و القصاص و جرعتم مرارته [لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ و أنفع لهم، و ليس يا محمّد إلّا بتوفيق اللّه و تيسيره [وَ لا تَحْزَنْ يا محمّد على المشركين في إعراضهم عنك؛ فإنّه يكون الظفر لك عليهم. [وَ لا تَكُ صدرك [فِي ضَيْقٍ من مكرهم بك و بأصحابك، فإنّ اللّه يردّ كيدهم في نحورهم و يحفظكم من شرورهم [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا] الشرك و الفواحش و الكبائر بالنصرة و الحفظ، و مع الّذين أحسنوا بالقيام فيما فرض عليهم.

ص: 206

سورة بنى إسرائيل

اشارة

مكّيّة إلّا خمس آيات أو ثمان آيات، عدد آيها مائة آية و عشر آيات.

روي ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة بني إسرائيل ثمّ رقّ قلبه عند ذكر الوالدين اعطي من الجنّة قنطارين من الأجر، و القنطار ألف أوقية و مائتا أوقية، و الأوقية منها خير من الدنيا و ما فيها. و روي الحسن بن أبي العلا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم و يكون من أصحابه.

ص: 207

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (17): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

. «سبحان» منصوب على المصدر أي اسبّح اللّه تسبيحا و سبحانا، فالتسبيح هو المصدر و «سبحان» علم للتسبيح كعثمان للرجل، و حيث كان المسمّى معنى لا عينا و جنسا لا شخصا لم تكن إضافته مثل حاتم طيّ. و انتصابه بفعل محذوف من جنسه و معنى التسبيح التباعد و التنزّه.

نزلت الآية في إسرائه، و كان ذلك بمكّة صلّى المغرب في المسجد الحرام، ثمّ اسري به في ليلته ثمّ رجع فصلّى الصبح في المسجد الحرام. فأمّا الموضع قيل: اسري به من المسجد بعينه، و هو الّذي يدلّ عليه القرآن، و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم و اليقظان إذا أتاني جبرئيل بالبراق. و قيل: اسري به من دار أمّ هاني بنت أبي طالب. فعلى هذا القول المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد.

و عن ابن عبّاس: الحرم كلّه مسجد لالتباسه به. و لمّا وصل صلّى اللّه عليه و آله إلى الدرجات العالية في المعارج أوحي اللّه عزّ و جلّ يا محمّد بم اشرّفك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: بأن تنسبني إلى نفسك بالعبوديّة فأنزل اللّه سبحانه فيه:

[سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ و قوله [لَيْلًا] مع أنّ الإسراء لا يكون إلّا بالليل أراد بالتنكير تقليل مدّة الإسراء أي بعض الليل؛ فإنّ قولك: سرت ليلا، كما يفيد بعضيّة زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيّة من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت: سرت الليلة، فإنّه يفيد استيعاب السير له جميعا.

و القول بمعراج الروح دون الجسد باطل جدّا من وجوه:

ص: 208

الأوّل تصدير الآية بالتنزيه و ما يتضمّن من التعجّب فإنّ الروحانيّ ليس بمثابة الاستنكار و الاستبعاد و المعجزة، و لو لم يكن مستبعدا ما كذّبت قريش.

و اختلفوا في ذلك الليل، قيل: كان قبل الهجرة بسنة و قبل البعثة. و المسجد الأقصى البيت المقدّس، و إنّما قال: «الْأَقْصَى» لبعد المسافة بين المسجد الحرام و بينه مسيرة أربعين ليلة.

و قوله: [بارَكْنا حَوْلَهُ بالثمار و الأزهار و الخصب و الفواكه، أو بسبب أنّه مقرّ الأنبياء و مهبط الملائكة.

و قد وردت روايات كثيرة في عروج نبيّنا إلى السماء، رواها كثير من الصحابة، مثل ابن عبّاس، و ابن مسعود، و أنس، و جابر بن عبد اللّه، و حذيفة، و عائشة، و امّ هانئ و غيرهم، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و زاد بعضهم و نقص بعض و ينقسم جملتها إلى أربعة أوجه:

أحدها: ما يقطع على صحّته لتواتر الأخبار به و إحاطة العلم بصحّته.

و ثانيها: ما ورد في ذلك ممّا يجوّزه العقول و لا تأباه الأصول فنحن نجوّزه، ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه.

و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلّا أنّه يمكن تأويلها علي وجه يوافق المعقول، فالاولى أنّ نأوّله على ما يطابق الحقّ.

و رابعها: ما لا يصحّ ظاهره و لا يمكن تأويله إلّا على التعسّف فالأولى أن لا نقبله، و لكنّ الكلّ متّفقون على الجملة أنّه صلّى اللّه عليه و آله عرج بجسده إلى السماوات، إنّما الاختلاف في بعض الكيفيّات.

أمّا الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة المقطوع به أنّه اسري به على الجملة.

و أمّا الثاني فمنه ما روي أنّه أطاف في السماوات و رأي الأنبياء و العرش و السدرة المنتهى و الجنّة و النار، و نحو ذلك و ذلك أيضا مقبول. و أمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأي قوما في الجنّة يتنّعمون فيها و قوما يعذّبون فيها، فيحمل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله رأي صفتهم أو أسماءهم. و أمّا الرابع الغير المقبول فنحو ما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه

ص: 209

و قعد معه على سريره، و نحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه و التجسّم و اللّه تعالى تقدّس عن ذلك، و كذلك ما روي أنّه شقّ بطنه و غسل إلّا أنّه كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء و عيب، و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء؟ و لو أنّ هذه الفقرة أي شقّ البطن ممكن التأويل.

و بالجملة فمن جملة ما روي في قصّة المعراج أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: أتاني جبرئيل و أنا بمكّة فقال: قم يا محمّد فقمت معه، و خرجت إلى الباب فإذا جبرئيل و معه ميكائيل و إسرافيل فأتى جبرئيل بالبراق و كان فوق الحمار دون البغل خدّه كخدّ الإنسان و ذنبه كذنب البقر و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنّة، و له جناحان من فخذيه، فقال لي جبرئيل: اركب، فركبت و مضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدس.

ثمّ ساق الحديث إلى أن قال صلّى اللّه عليه و آله: فلمّا انتهيت إلى بيت المقدس إذا بملائكة من السماء نزلت بالبشارة و الكرامة من عند ربّ العزة و صلّيت في بيت المقدس. و في بعض الروايات بشّرني إبراهيم في رهط من الأنبياء ثمّ وصف موسى و عيسى، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا، فصعدت إلى السماء الدنيا و رأيت عجائبها و ملائكتها يسلّمون عليّ، ثمّ صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا، ثمّ صعد بي إلى الثالثة فرأيت فيها يوسف، ثمّ إلى الرابعة فرأيت فيها إدريس، ثمّ إلى الخامسة فرأيت فيها هارون، ثمّ صعد بي إلى السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض و فيها الكرّوبيّين، ثمّ إلى السماء السابعة رأيت إبراهيم. قال: ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين و وصف صلّى اللّه عليه و آله ذلك إلى أن قال: ثمّ كلّمني ربّي و كلّمته، و رأيت الجنّة و النار و العرش و السدرة، ثمّ رجعت إلى مكّة فلمّا أصبحت حدّثت به الناس فكذّبني أبو جهل و المشركون، و قال مطعم ابن عديّ: أ تزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنّك كاذب، ثمّ قالت قريش:

أخبرنا عمّا رأيت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: مررت بعير بني فلان و قد ضلّوا بعيرا لهم و هم في طلبه و في رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثمّ غطّيته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟

ص: 210

قالوا: هذه آية، قال صلّى اللّه عليه و آله: مررت بعير بني فلان فنفر بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك، فقالوا: هذه آية اخرى، ثمّ خرجوا يشتدّون نحو الثنيّة، و هم يقولون: لقد قضى محمّد بيننا و بينه قضاء بيّنا و جلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبوه، فقال قائل:

و اللّه إنّ الشمس قد طلعت. و قال الآخر: و اللّه هذه الإبل قد طلعت يقدمها أورق فبهتوا و لم يؤمنوا.

و في تفسير العيّاشيّ عن أبي عبد اللّه قال: لما اسري برسول اللّه إلى السماء الدنيا لم يمرّ بأحد من الملائكة إلّا استبشر، قال: ثمّ مرّ بملك حزين كئيب، فلم يستبشر به فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشربي إلّا هذا الملك فمن هذا؟ فقال:

هذا مالك خازن جهنّم و هكذا جعله اللّه، فقال له النبيّ: يا جبرئيل اسأله أن يرينا، قال:

فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد شكا إليّ فقال: ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشربي إلّا هذا فأخبرته أنّ هكذا جعله اللّه و قد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم، قال: فكشف له عن طبق من أطباقها، قال: فما رئي بعد ذلك رسول اللّه ضاحكا حتّى قبض.

و عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادق أنّ جبرئيل احتمل رسول اللّه حتّى انتهى به إلى مكان من السماء، ثمّ تركه و قال له: ما وطئ نبيّ قطّ مكانك.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ عن الباقر عليه السّلام أنّه عليه السّلام- أي الباقر- كان جالسا في المسجد الحرام فنظر إلى السماء مرّة و إلى الكعبة مرّة و قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» و كرّر ذلك ثلاث مرّات ثمّ التفت إلى إسماعيل الجعفيّ فقال: أيّ شي ء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقيّ؟ قال:

يقولون: اسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون و لكنّه اسري من هذه إلى هذه- و أشار بيده إلى السماء- و قال: ما بينهما حرم.

و العيّاشيّ عن الصادق أنّه سئل عن المساجد الّتي لها الفضل فقال: المسجد الحرام و مسجد الرسول. قيل: و المسجد الأقصى؟ فقال: ذلك في السماء اسري إليه رسول اللّه. فقيل

ص: 211

له: إنّ الناس يقولون: إنّه بيت المقدس. فقال: مسجد الكوفة أفضل منه.

و في الكافي عنه عليه السّلام أنّه سئل: كم عرج برسول اللّه؟ فقال: مرّتين.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه سخّرلي البراق و هي من دوابّ الجنّة فلو أنّ اللّه أذن لها لجالت الدنيا و الآخرة في جرية واحدة.

و القميّ عن الصادق: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللّه فأخذ واحد بالركاب و سوّى الآخر ثيابه عليه فتضعضعت البراق فلطمها جبرئيل ثمّ قال: اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله و لا يركبك بعده، فرفعته ارتفاعا ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات في السماوات و الأرض قال صلّى اللّه عليه و آله: فبينا أنا في سيري إذ نادى مناد عن يميني:

يا محمّد، فلم اجبه و لم ألتفت اليه، ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد، فلم اجبه و لم ألتفت إليه، ثمّ استقبلني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد انظرني حتّى اكلّمك.

فلم ألتفت إليها ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ، فصلّيت، فقال: تدري أين صلّيت؟ فقلت: لا، فقال: صلّيت بطيبة و إليها مهاجرك.

ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه، ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صلّيت، فقال: أ تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، قال: صلّيت بطور سينا حيث كلّم اللّه موسى تكليما. ثمّ ركبت فمضينا ما شاء اللّه ثمّ قال لي: انزل فصلّ، فنزلت و صلّيت، فقال: أ تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، قال:

صلّيت ببيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حيث انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة الّتي كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فمن شاء من أنبياء اللّه فقد جمعوا إليّ و أقيمت الصلاة فلمّا اصطفّوا و استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أمّمتهم و لا فخر، ثمّ أتاني الخازن بثلاث أوان: إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر، و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرق امّته و إن أخذ الخمر غوى و غوت امّته و إن أخذ اللبن هدي و هديت امّته، قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال جبرئيل:

هديت و هديت امّتك، ثمّ قال جبرئيل: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني، فقال: أو أجبته؟ قلت: لا، فقال: ذاك داعي اليهود و لو أجبته لتهوّدت امّتك من بعدك. ثمّ

ص: 212

قال: ماذا رأيت؟ قلت: ناداني مناد عن يساري، فقال: أو أجبته؟ قلت: لا، فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصّرت امّتك من بعدك. ثمّ قال: ماذا استقبلك؟ قلت: رأيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا، و قالت لي: انظرني اكلّمك يا محمّد. فقال لي:

أ و كلّمتها؟ قلت: لا، فقال: تلك الدنيا و لو كلّمتها لاختارت امّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني فقال جبرئيل: هذه صخرة قذفتها في جهنّم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرّت- قالوا: فما ضحك رسول اللّه حتّى قبض- قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة الّذي قال اللّه: «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» (1) و تحت حكمه سبعون ألف ملك، فقال إسماعيل: يا جبرئيل من هذا معك؟ فقال: محمّد، قال: أو قد بعث؟ قال: نعم، ثمّ فتح الباب فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال لي: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح.

و تلقّتني الملائكة حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلّا ضاحكا مستبشرا حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه كريه المنظر ظاهر الغضب، فقال لي مثل ما قالوا من التحيّة إلّا أنّه لم أر فيه الاستبشار فيمن رأيت من البشارة من الملائكة، فقلت:

من هذا يا جبرئيل؟ فإنّي قد فزعت منه، فقال جبرئيل: ينبغي أن تفزع منه فكلّنا نفزع منه، إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قطّ و لم يزل منذ ولّاه اللّه جهنّم يزداد غيظا و غضبا على أعداء اللّه فينتقم اللّه به منهم، و لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك، فقلت لجبرئيل- و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه اللّه «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (2)- أ لا تأمره أن يريني النار؟ فقال جبرئيل: أر محمّدا النار، فكشف عنها غطاء و فتح منها بابا و خرج لهيب ساطع في السماء و فارت فارتفعت حتّى ظننت لتناولني ممّا رأيت، فقلت: يا جبرئيل: قل له فليردّ عليها غطاءها، فأمرها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلا آدم جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم، فإذا هو يعرض عليه ذرّيّته، فيقول: روح طيّب و ريح طيّبة من جسد طيّب، ثمّ تلا

ص: 213


1- الصافات: 10.
2- التكوير: 21.

رسول اللّه سورة المطفّفين على رأس سبع عشر آية: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» (1) إلى آخرها، قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال: مرحبا بالابن الصالح و النبيّ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح.

ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس، و إذا جميع الناس بين ركبتيه و بيده لوح من نور ينظر فيه، مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتف يمينا و شمالا مقبلا عليه كهيئة الحزين، فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح.

فقلت: يا جبرئيل ادنني منه حتّى اكلّمه فأدناني منه فسلّمت عليه، فقال له جبرئيل:

هذا محمّد نبيّ الرحمة الّذي أرسله اللّه إلى العباد فرحّب بي و حيّاني بالسلام، و قال: ابشر يا محمّد فإنّي أرى الخير كلّه في امّتك، فقلت: الحمد للّه المنّان ذي النعم على عباده، ذلك من فضل ربّي و رحمته عليّ. فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملا. فسألت منه أ كلّ من مات أو يموت فيما بعد هذا يقبض روحه؟ قال: نعم، قلت: و يراهم حيث كانوا و يشهدهم بنفسه؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها اللّه لي و مكّنني عليها إلّا كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء و ما من دار إلّا و أنا أتصفّحه كلّ يوم خمس مرّات و أقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم: لا تبكوا عليه فإنّ لي فيكم عودة و عودة حتّى لا يبقى منكم أحد. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالموت طامّة يا جبرئيل، فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فإذا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيّب، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من امّتك.

فقال رسول اللّه: ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل اللّه أمرا عجيبا نصف جسده النار و نصف الآخر ثلجا فلا النار يذيب الثلج، و لا الثلج يطفئ النار، و هو ينادي بصوت رفيع: سبحان الّذي كفّ حرّ هذه النار و كفّ برد هذا الثلج، اللّهمّ مؤلّف بين الثلج و

ص: 214


1- آية: 18- 21.

النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك و كلّه اللّه بأكناف السماء و أطراف الأرض و هو أنصح ملائكة اللّه لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق. و ملكان يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهمّ أعط كلّ منفق خلفا. و الآخر يقول: اللّهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرضون اللحوم من جنوبهم و يلقون في أفواههم، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام يرضخ رءوسهم بالصخر، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الّذين ينامون عن صلاة العشاء ثمّ مضيت فإذا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (1).

ثمّ مضيت بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربى لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا و عشيّا يقولون: ربّنا متى تقوم الساعة؟

قال: ثمّ مضيت فإذا بنسوان معلّقات بثديهنّ فقلت: من أولات؟ فقال: النساء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم، ثمّ قال النبيّ: و اشتدّ غضب اللّه على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطّلع على عورتهم و أكل خزائنهم.

ثمّ مررنا بملائكة اللّه خلقهم اللّه كيف شاء و وضع وجوههم كيف شاء ليس من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية اللّه، فسألت جبرئيل عنهم، فقال: كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ و لا رفعوا رءوسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا للّه و خشوعا.

فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برءوسهم لا ينظرون إليّ من شدّة الخشوع فقال لهم جبرئيل:

ص: 215


1- النساة: 9.

هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه على العباد رسولا و نبيّا، و هو خاتم النبوّة أفلا تكلّموه؟ فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و أكرموني و بشّروني بالخير لي و لأمّتي.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان؟ قال: أبناء الخالة يحيى و عيسى فسلّمت عليهما و سلّما عليّ و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل قمر ليلة البدر على سائر النجوم، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري مثل ما قال للآخرين و صنعوا لي مثل ما صنعوا.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس رفعه اللّه مكانا عليّا، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لأمّتي، ثمّ رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت يد كلّ ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه هو فصاح به جبرئيل و قال: قم، فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلّة من امّته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا؟ فقال: هذا هارون بن عمران، فسلّمت عليه و سلّم عليّ، و كذلك.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل عليه سمرة و لو لا أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما. و سمعت يقول: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكبر ولد آدم على اللّه و هذا رجل أكبر على اللّه منّي، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران، فسلّمت عليه و سلّم عليّ و كذلك من الملائكة مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا: يا محمّد احتجم

ص: 216

و أمر امّتك أن يحتجموا. و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسيّ فقلت:

يا جبرئيل من هذا الّذي في السماء السابعة؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من امّتك، ثمّ قرأ «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (1) فسلّمت عليه و سلّم عليّ و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح. و إذا فيها من الملائكة الخشّع مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لأمّتي.

قال رسول اللّه: و رأيت في السماء السابعة بحار من نور يتلألأ يكاد تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار مظلمة فكلّما فزعت و رأيت سألت جبرئيل فقال: ابشر يا محمّد و اشكر كرامة ربّك و اشكر اللّه ما صنع إليك، قال: فثبّتني اللّه بعونه و قوّته حتّى كثر قولي لجبرئيل و يعجبني فقال جبرئيل: يا محمّد تعظم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربّك فكيف بالخالق الّذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربّك إنّ بين اللّه و بين خلقه تسعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل بيننا و بينه أربعة حجب: حجاب من نور و حجاب من ظلمة و حجاب من الغمام و حجاب من ماء.

قال صلّى اللّه عليه و آله: و رأيت من العجائب الّذي خلقه اللّه و سخّر به على ما أراد ديكا و رجلاه في تخوم الأرضين السابعة و رأسه عند العرش و له جناحان إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الملك القدّوس سبحان اللّه الكبير المتعال لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، فإذا قال ذلك صاح ديك الأرض كلّها، و لذلك الديك زغب (2) أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياض. و بالجملة فالحديث طويل فأسقطت منه بعضا إلى أن ينتهي الحديث:

قال رسول اللّه: فلمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظلّ امّة من الأمم فكنت منها كما قال اللّه: «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (3) فناداني «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ» (4) و قد مضى شرحه في سورة البقرة؛ ثمّ سمعت الأذان فإذا ملك يؤذّن فقال:

ص: 217


1- آل عمران: 68.
2- الزغب: صغار الشعر.
3- النجم: 9.
4- البقرة: 285.

اللّه أكبر اللّه أكبر، فقال اللّه: صدق عبدي. فقال: أشهد أنّ لا إله إلّا اللّه، فقال اللّه: صدق عبدي أنا اللّه لا إله غيري، فقال: أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، فقال اللّه: صدق عبدي، إنّ محمّدا عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته، فقال: حيّ على الصلاة، فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت كفّارة لمّا مضى من ذنوبه، فقال: حيّ على الفلاح، فقال اللّه: هي الصلاح و النجاح و الفلاح.

ثمّ أمّمت الملائكة في السماء كما أمّمت الأنبياء في بيت المقدس.

ثمّ غشيني ضبابة (1) فخررت ساجدا فناداني ربّي أنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على امّتك فقم بها أنت في امّتك. فقال النبيّ: فانحدرت إلى إبراهيم فلم يسألني عن شي ء حتّى انتهيت إلى موسى، فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت: قال ربّي:

فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على امّتك. فقال موسى: إنّ امّتك آخر الأمم و أضعفها و إنّ ربّك لا يردّك شيئا فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف لأمّتك فرجعت إلى ربّي حتّى انتهيت إلى السدرة فخررت ساجدا، ثمّ قلت: فرضت عليّ و على امّتي خمسين صلاة فخفّف عنّي، فوضع عنّي عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال:

ارجع و اسأل التخفيف، و هكذا في كلّ رجعة أفعل حتّى وصلت إلى خمس فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق امّتك، فقلت: قد استحيت من ربّي و لكن أصبر عليها، فناداني مناد كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كلّ صلاة بعشر و من همّ من امّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ بسيّئة من امّتك فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه. فقال الصادق صلّى اللّه عليه و آله: جزى اللّه موسى عن هذه الامّة خيرا.

فهذا مختصر تفسير قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، الآية» فكلمة «سبحان» معناه إبراء اللّه و تنزيهه عمّا لا يليق به من الصفات، و قد يراد به التعجيب يعني سبحان الّذي سيّر عبده محمّدا! و هذا الأمر من عجيب قدرة اللّه، تعجيب ممّن لم يقدّر اللّه حق قدرته و أشرك في عبادته غيره، و لمّا كان هذا الأمر مشاهدة العجب حسن التسبيح.ض.

ص: 218


1- الغمام الرقيق يغشى الأرض.

قال أكثر المفسّرين: اسري برسول اللّه من دار امّ هانئ اخت عليّ بن أبي طالب و زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزوميّ و كان صلّى اللّه عليه و آله نائما تلك الليلة في بيتها، و إنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة و الحرم، و مكّة كلّها مسجد. و قيل: الإسراء من نفس المسجد الحرام.

[إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي بعيد المسافة و قد بورك حوله من الأثمار و الأشجار و الزرع و النبات و الأمن، أو لأنّه مقرّ الأنبياء و معبد لهم و مقدّس عن الشرك، و اجتمع فيه بركة الدين و الدنيا [لِنُرِيَهُ مِنْ عجائب حججنا لأنّ كلّما رآه صلّى اللّه عليه و آله في تلك اللّيل آيات باهرات [إِنَّهُ تعالى [سميع بأقوال من صدق بذلك أو كذب، البصير فيما فعل من الإسراء و المعراج.

و هاهنا تحقيق للرازيّ و هو إثبات الجواز العقليّ لأنّ الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحدّ ممكنة في نفسها و اللّه قادر على جميع الممكنات و الدليل على أنّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدّ من السرعة ممكنة أنّ الفلك الأعظم يتحرّك من أوّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور فعلى هذا أن يقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارتفع من مكّة إلى ما فوق الفلك الأعظم فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر، فلمّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور، فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان؛ فهذا برهان قاطع على أنّ الارتقاء من مكّة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه، و إذا كان كذلك كان حصوله في كلّ الليل أولى بالإمكان.

ثمّ إنّه ثبت في الهندسة أنّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة و ستّين و كذا مرّة و إنّا نشاهد أنّ طلوع الشمس و القمر يحصل في زمان سريع أقلّ من دقيقة، فذلك يدلّ على أنّ بلوغ الحركة في السرعة إلى الحدّ المذكور أمر ممكن في نفسه.

و هاهنا وجه آخر و بيان أوضح و هو أنّه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الثقيل من مركزه إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحانيّ الخفيف من فوق العرش إلى مركز الأرض، فإن كان القول بمعراج محمّد صلّى اللّه عليه و آله في الليلة الواحدة ممتنعا في العقل كان القول بنزول جبرئيل من العرش إلى مكّة في اللحظة الواحدة ممتنعا و لو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوّة جميع الأنبياء و طعنا في أصل النبوّة فثبت أنّ القائلين بامتناع

ص: 219

حصول حركة سريعة إلى هذا الحدّ يلزمهم القول بامتناع نزول جبرئيل في اللحظة الواحدة من العرش إلى مكّة، و لمّا كان ذلك باطلا كان ما ذكروه باطلا.

فإن قالوا: نحن لا نقول: إنّ جبرئيل جسم ينتقل من مكان إلى مكان و إنّما نقول: المراد من نزول جبرئيل هو زوال الحجب الجسمانيّة عن روح محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى يظهر في روحه من المكاشفات و المشاهدات بعض ما كان حاضرا متجلّيا في ذات جبرئيل.

قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء و أمّا جمهور أهل الإسلام مطلقا فهم مقرّون أنّ جبرئيل جسم و أنّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكّة كما أنّ الّذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس مع حجمه من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر، و إذا كان هذا ممكنا كان ذاك ممكنا؛ على أنّ الأمور الإعجازيّة لا بدّ و أن يكون خارجة عن الطبيعة العاديّة و إلّا لم يكن معجزة كما في عصا موسى، فلمّا صحّ حصول مثل هذه الحركة السريعة في بعض الأجسام صحّ إمكانها في سائر الأجسام و الأجسام متماثلة في تمام الماهيّات، و إذا كانت الرياح تسير بسليمان إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة كما قال سبحانه: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ» (1) فكيف لا يتعقّل أنّ البراق مع أمر اللّه أقلّ قوّة من الهواء المتموّج.

و على قول من يقول: الحيوان إنّما يبصر المبصرات لأجل أنّ الشعاع يخرج من عينيه و يتّصل بالمبصر في لحظة واحدة و هذا الأمر من الحسّيّات فالّذي أودع في إنسان العين هذه القوّة السريعة أسرى بعين الإنسان أعني أحمد صلّى اللّه عليه و آله هذا السرى، و في هذا المقدار من البيان كفاية لمن أسلم وجهه لقدرة اللّه؛ فثبت أنّ هذا الأمر ممكن الوجود في نفسه و قد نطق به الكتاب و السنّة و أقصى ما في الباب أنّه من العجائب فانقلاب عصى صغيرة ثعبانا يبلع سبعين ألف حبلا و خروج الناقة العظيمة من الجبل الأصمّ أيضا عظيم، فيلزم للمنكر بفساد القول بجميع المعجزات و النبوّات.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)

ص: 220


1- سبا: 12.

لمّا ذكر في الآية السابقة إكرامه محمّدا بالإسراء ذكر في هذه الآية إكرام موسى بالكتاب يعني التوراة، و جعلنا بواسطة التوراة خروج بني إسرائيل من ظلمات الجهل إلى هداية الإيمان، و قلنا لهم: لا تتّخذوا غيري ربّا، و قرئ «يتّخذوا» بالياء. و في هذه الآية صنعة الالتفات و صنعة الالتفات كقوله تعالى: «وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا» (1) فكذلك الصرف من الغيبة إلى الخطاب و النهي بقوله: «أَلَّا تَتَّخِذُوا» و حاصل الكلام من ذكر تشريف محمّد بالإسراء و من تشريف موسى بالتوراة و حاصل هذا التشريفات و الهدايات التمحّض في التوحيد و النهي عن الاتّكال بغير اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ و في نصب ذرّيّة قولان: قيل:

منصوب على النداء يعني لا تتّخذوا يا ذريّة من حملنا مع نوح في السفينة؛ لأنّ الناس كلّهم ذرّيّته لأنّه كان معه في السفينة سام و حام و يافث كقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ»* (2). و قيل:

النصب على المفعوليّة و التقدير: لا تتّخذوا ذرّيّة نوح من دوني تكلون إليهم أموركم أي لا تكلون أموركم إلى غير اللّه.

ثمّ وصف نوحا بالشكر و قال: [إِنَّهُ كانَ عَبْداً] كثير الشكر، و روي أنّه عليه السّلام كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره به، و روي أنّه عليه السّلام كان إذا أكل قال: الحمد للّه الّذي أطعمني و لو شاء أجاعني، و إذا شرب قال: الحمد للّه الّذي أسقاني و إن شاء أظمأني، و إذا اكتسى قال: الحمد للّه الّذي كساني و لو شاء أعراني، و إذا احتذى قال: الحمد للّه الّذي حذاني و لو شاء أحفاني.

و وجه ملاءمة الآية لما قبله تفسير لما قال تعالى: «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» و وحّدوني، و أنّ العبد لو يرى حصول نعمة و شكر ربّه و لا يرى تلك النعمة إلّا من فضل اللّه فوحّده فقال: اقتدوا به و وحّدوني و لا تشركوا بي شيئا.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 4 الى 6]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)

ص: 221


1- ص: 6.
2- الحج: 1.

القضاء فصل الأمر على إحكام و بمعنى الخلق و الإحداث قال: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» و بمعنى الإيجاب كما قال: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» (1) و بمعنى الإعلام و الإخبار بما يكون من الأمر و هو المعني هاهنا.

أي أوحينا إليهم و أخبرناهم في التوراة أنّ أنتم يا بني إسرائيل [لَتُفْسِدُنَ و ستفسدون في البلاد الّتي تسكنونها و هي بيت المقدس كرّتين، و المراد بالفساد الظلم و أخذ المال و سفك الدماء و قتل الأنبياء. و فسادهم الأوّل: قتل زكريّا، و الثاني: قتل يحيى.

و تستعلون على الناس استعلاء عظيما.

[فَإِذا جاءَ] وقت انتقام فساد الأوّل [بَعَثْنا عَلَيْكُمْ قوما [أُولِي بَأْسٍ و نجدة أي خلّينا بينكم و بينهم و غلبوكم و خذلوكم. و اختلف أنّهم من هم؟ فقيل: شابور ذو الأكتاف من ملوك فارس في قتل زكريّا و سلّط عليهم في قتل يحيى بخت نصّر. و قيل: الفساد الأوّل قتل شعيا و الثاني قتل يحيى و أنّ زكريّا مات حتف أنفه. و قيل: كان الأوّل داود قتل جالوت، و الثاني بخت نصّر.

قوله: [فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ] أي فطافوا وسط الديار يتردّدون و ينظرون هل بقي منهم أحد لم يقتلوه؟ و كان موعود اللّه كائنا لا خلف فيه.

قوله: [ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ] يا بني إسرائيل و عاد ملككم على ما كان [وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ و أكثرنا لكم أموالكم و أولادكم و رددنا لكم الكرّة و العدّة و القوّة [وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ] عددا و أنصارا من عدوّكم، قالوا: إنّ في الفساد الأوّل سلّط اللّه عليهم بخت نصّر فقتل منهم أربعين أو سبعين ألفا ممّن يقرأ التوراة و ذهب بالبقيّة إلى بابل فبقوا هناك في الذلّ إلى أنّ قيّض اللّه ملكا آخر فغزا أهل بابل و اتّفق أن تزوّج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل و بعد مدّة قامت فيهم الأنبياء و رجعوا إلى أحسن ما كانوا فهو قوله: «ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ». و قيل:

ص: 222


1- السورة: 23.

إنّ اللّه ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلمّا كثرت معاصيهم أزال الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم و بالغوا في قتلهم و إهلاكهم.

و حاصل الكلام أنّ إضافة هذا الفعل من حيث الأمر جزاء على فعلهم و المراد من هذا البعث التخلية و عدم المنع و هذه التخلية بسبب إقدامهم على الفساد و سوء اختيارهم، فوقع الأمر جزاء أو عقوبة.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 7 الى 8]

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)

شرح اللّه في الآية بأن إذا أطعتم فقد أحسنتم إلى أنفسكم و إن أصررتم على المعصية و الكفر فقد أسأتم على أنفسكم، أي إذا أطعتم يفتح اللّه لكم أبواب الخيرات و البركات و إذا خالفتم يفتح اللّه لكم أبواب العقوبات. و معنى «فلها» أي فإليها و عليها، و حروف الإضافه و النسبة يقوم بعضها مقام بعض كقوله: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (1) أي أوحى إليها. و إنّما قال: «فَلَها» للتقابل و ذكر الإحسان في الآية مرّتان و الإساءة مرّة إشعارا بأنّ جانب الرحمة غالب على جانب العقوبة.

قوله: [فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ] معناه وعد المرّة الأخيرة و هي إقدامهم على قتل يحيى [لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ و إنّما عزّ الإساءة إلى الوجوه لأنّ آثار الأعراض النفسانيّه الحاصلة في القلب إنّما تظهر على الوجه، فحسنت النسبة إلى الوجوه، لأنّ المبعوثين هم الّذين يسوءونهم بالقتل و الأسر فتبيّن أوّلا هذا الأثر في الوجه. و قرئ «ليسوء» بفتح الهمزة، و قرئ بالنون «لنسوء» و القراءة المشهورة «ليسوءوا» بقرينة «وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ» أي مسجد بيت المقدس و نواحيه.

أي و ليستولوا على البلد لأنّه لا يمكنهم دخول المسجد إلّا بعد الاستيلاء على البلد [كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أولئك [وَ لِيُتَبِّرُوا] و يدمّروا ما غلبوا و يهلكوا من بلادكم

ص: 223


1- الزلزلة: 5.

تدميرا، مدّة علوّهم و غلبتهم [عَسى رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل [أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامه منكم إن تبتم و رجعتم إلى طاعته [وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد [عُدْنا] بكم إلى العقاب لكم و التسليط عليكم كما فعلنا فيما مضى. قيل: إنّهم عادوا بعد الاولى و الثانية فسلّط اللّه عليهم المؤمنين يقتلون و يأخذون منهم الجزية.

[وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ سجنا، و محبسا، و كان بين الفساد الأوّل و الثاني الّذي قتل في الفساد الثاني يحيى مائة سنة، و قتل بخت النّصر من بني إسرائيل مائة ألف و ثمانين ألفا و خرّب بيت المقدس إلى أن بناه أصحاب رسول اللّه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 12]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

النظم: لمّا بيّن في الآية السابقة إنّا آتينا موسى الكتاب كذلك آتيناك يا محمّد القرآن [إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي إلى الأحسن الأقوم من جميع الأديان و الكتب، و يرشد إلى الكلمة الّتي هي أعدل الكمالات و هي كلمة التوحيد و الإيمان به و برسله و العمل بطاعته [وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ بأنّ لهم ثوابا عظيما على طاعتهم و يبشّر أيضا بأنّ [الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] هيّأنا لهم عذاب النار الموجع و إنّما سمّي الثواب الأجر؛ لأنّه يستحقّ في مقابلة العمل كالاجرة الّتي في مقابلة العمل.

قوله: [وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ] أي إنّ الإنسان ربّما يدعو في حال الغضب و الزجر على نفسه و أهله و ولده بما لا ينبغي أن يستجاب له فيه كما يدعو لنفسه بالخير فلو أجاب إليه دعاءه لأهلكه لكنّه لا يجيب دعاءه بفضله و رحمته، و قيل: معناه أنّ الإنسان قد يطلب الشرّ لاستعجاله المنفعة المتصوّرة عند نفسه و يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح [وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا] بالدعاء في الشرّ عجلته بالدعاء في الخير أي إنّ

ص: 224

الإنسان ضجر لا صبر له لا على ضرّاء و لا على سرّاء، و روي عنه أنّه أراد به آدم عليه السّلام لمّا انتهت النفخة إلى سرّته أراد أن ينهض فلم يقدر فشبّه اللّه ابن آدم بأبيه في الاستعجال و طلب الشي ء قبل وقته، و القياس في «يدع» بالواو إلّا أنّه حذف في المصحف عن الكتابة لكن لم يحذف في المعنى لأنّها في موضع الرفع و نظيره «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» (1) و نظير «وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ» (2) و نظير «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» (3) و لو كان بالواو لكان صوابا أيضا، هذا كلام الفرّاء.

[وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ] و لمّا ذكر في الآية السابقة النعمة الدينيّة من القرآن و الرسول أتبعه بذكر النعم الدنيويّة، أي كما أنّ القرآن ممتزج من المحكم و المتشابه، فكذلك الدهر مركّب من الليل و النهار، فالمحكم كالنهار، و المتشابه كالليل، و أردف بذكر الدلائل التوحيديّة و هو عجائب العالم العلويّ و السفليّ أي جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين و الدنيا، أمّا الدين فمن تغييرهما يستنبط الإنسان على وجود الإله القادر المقدّر لأنّ كونهما متعاقبين على الدوام و متغيّرين أقوى دليل على أنّهما غير موجودين لذاتهما، و لا بدّ لهما من فاعل، و أمّا في الدنيا فلأنّ مصالح الدنيا لا تتمّ إلّا بالليل و النهار.

[فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالنهار و آية النهار بالليل يعني طمسنا آية الليل و هي القمر و محونا نورها [وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ] أي الشمس [مُبْصِرَةً] و نيّرة مضيئة للأبصار يبصر أهل النهار بها، و المراد من المحو ما لا يبصر كالشي ء الممحوّ من الكتاب و آية الليل نفسه و ظلمته و آية النهار ضوؤه.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض في ذلك فقال: [لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ و لتسكنوا و تستريحوا بالليل و تطلبوا المعاش في النهار بأنواع الأمور المباحة، و هذا الاختلاف فيه فائدة اخرى و هي أنّه تعلمون منه عدد أشهركم و سنينكم و حسابكم بعضكم بعضا لأوقات معاملاتكم و صومكم و صلاتكم و حجّكم و سائر الأمور المتعلّقة بالأوقات.

ص: 225


1- العلق: 18.
2- النساء: 145.
3- ق: 41.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 15]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)

المعنى: الإنسان يقع على المذكّر و المؤنّث و إذا أردت الفصل قلت: رجل و امرأة.

و كذلك فرس يقع على المذكّر و المؤنّث، و اشتقاقه من الإنس، و هو فعلان عند البصريّين، و عند الكوفيّين هو من النسيان حذفت الياء تخفيفا، و الطائر هاهنا عمل الإنسان شبّه بالطائر الّذي يسنح و يتبرّك به، و الطائر الّذي يبرح فيتشاءم به، و عند العرب أنّه إذا كان الطير سانحا أمكن الرأي و إذا كان بارحا لا يمكنهم بزعمهم، قال الكميت:

و لا أنا ممّن يزجر الطير همّه أصاح غراب أم تعرّض ثعلب

و إنّما خصّ العنق بالذكر أي لازم و لاصق العمل بالعنق كلزوم القلادة للعنق، و العرب يقيم هذا العضو مقام الذات يقال: أعتقت الرقبة، أي كلّ العبد. يريد أنّ الطوق يزين المحسن و الغلّ يشين المسي ء فعمل الإنسان شبه الطائر الميمون و الطائر المشئوم.

[وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً] كتبه الحفظة من أعمالهم يرى ذلك الكتاب مفتوحا [مَنْشُوراً] عليه ليقرأه و يعلمه، و الهاء في «له» عائد إلى العامل أو العمل يقال له: [اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ أن جعل نفسك محاسبا لنفسك و ذلك اليوم يقرأ من لم يكن في الدنيا قارئا.

[مَنِ اهْتَدى في الدنيا إلى دين اللّه و طاعته فمنفعته اهتدائه راجعة إليه [وَ مَنْ ضَلَ عن الدين في الدنيا فإنّما ضرره و ضرر ضلاله راجع إلى نفسه، و لا تحمل نفس حاملة حمل اخرى و ثقل ذنوب غيره أي لا يعاقب أحد بذنوب غيره، و في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يقول: إنّ أطفال الكفّار يعذّبون مع آبائهم في النار.

[وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أي ما نعذّب قوما بعذاب الاستئصال إلّا بعد الإعذار إليهم و الإنذار لهم بأبلغ الوجوه و هو إرسال الرسل إليهم مظاهرة في العقل و إن كان يجوز مؤاخذتهم على العقليّات معجّلا كالإيمان باللّه.

ص: 226

و بالجملة قال بعض: إنّ الآية عامّة في العقليّات و السمعيّات، و قال الأكثرون من المفسّرين- و هو الأصحّ-: إنّ المراد من الآية أنّه لا يعذّب أحدا في الدنيا و لا في الآخرة إلّا بعد البعثة. فتكون الآية خاصّة فيما يتعلّق بالسمع في الشرعيّات، و أمّا ما كانت الحجّة فيه من جهة العقل و هو الإيمان باللّه فإنّه يجوز العقاب بتركه و إن لم يبعث الرسول عند من قال: التكليف العقليّ ينفكّ من السمعيّ. على أنّ المحقّقين منهم يقولون: إنّه و إن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسل لكنّه سبحانه لا يفعل ذلك و لا يعاقب أحدا حتّى ينفذ المنبّهين إلى الحقّ الهادين إلى الرشد تقوية للحجّة و زوالا للريبة، و قد أخبر سبحانه في هذه الآية عن هذا الأمر و هذا لا يدلّ على أنّه لو لم يبعث رسولا لم يحسن منه أن يعاقب العبد إذا ارتكب القبائح العقليّة.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 22]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

اللغة: قرئ «آمرنا» بالمدّ و «أمّرنا» بالتشديد، و على القراءة المشهورة يكون المعنى [إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ أهل [قَرْيَةً أَمَرْنا] رؤساءهم و متنعّميهم و متموّليهم بالطاعة و الإيمان و اتّباع الرسل أمرا بعد أمر تكريرا عليهم، و بيّنة بعد بيّنة إعذارا لهم و توكيدا للحجّة عليهم [فَفَسَقُوا فِيها] بالخلاف و التمادي في العصيان [فَحَقَّ عَلَيْهَا] الوعيد [فَدَمَّرْناها] و أهلكناها إهلاكا.

و إنّما خصّ المترفين بالذكر لأنّ غيرهم تبع لهم فيكون الأمر لهم أمرا لأتباعهم فيكون حينئذ قوله: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» جوابا لإذا، و إليه يؤول ما روي عن ابن عبّاس و سعيد

ص: 227

ابن جبير أنّ معناه: أمرناهم بالطاعة فعصوا و فسقوا، كقولك: أمرتك فعصيتني. و يشهد بصحّة هذا المعنى الآية المتقدّمة و هي قوله: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ إلى قوله- وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» على أنّه لم يجز في العقول تقديم إرادة العذاب على المعصية لأنّه عقوبة عليها و يستحقّه لأجلها، فمتى لم توجد المعصية لم يحسن فعل العقاب، و إذا لم يحسن فعله لم يحسن إرادته.

و قد ذكروا وجوها أخر و هو أنّ قوله: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» من صفة القرية و تقديره:

و إذا أردنا أن نهلك قرية صفتها أنّا كنّا قد أمرنا مترفيها ففسقوا فيها. فلا يكون لإذا جواب ظاهر في اللفظ للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه، و نظيره «حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها- إلى قوله- وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» (1) فلم يأت لإذا جواب في طول الكلام للاستغناء عنه.

و وجه آخر أنّ الآية محمولة على التقديم و التأخير و تقديرها: إذا أمرنا في قرية بالطاعة فعصوا أردنا إهلاكهم. و ممّا يمكن أن يكون شاهدا لهذا الوجه قوله: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» (2) و الطهارة إنّما تجب قبل القيام إلى الصلاة، و الأصحّ القول الأوّل.

قال الكعبيّ: إنّ سائر الآيات دلّت على أنّه لا يبتدئ بالتعذيب و الإهلاك لقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ الآية» (3) و قوله: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ» (4) و قوله: «وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ» (5) و قوله:

«مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (6) و من المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات، و لأنّه تعالى لا يعذّب أحدا بما يعلمه منه ما لم يعمل به.

قوله: [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي وجب حينئذ على أهلها الوعيد و الهلاك.

قوله: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ و الأمم الماضية المكذّبة [مِنْ بَعْدِ] زمان [نُوحٍ إلى

ص: 228


1- الزمر: 73.
2- المائة: 7.
3- الرعد. 12.
4- النساء: 146.
5- القصص: 59.
6- الأسراء: 15.

زمانك هذا، لأنّ «كم» للتكثير كما أنّ «ربّ» للتقليل. و القرن مائة و عشرون سنة، و قيل: مائة سنة. و قيل: أربعون سنة. و قيل: ثمانون سنة. و [كَفى ربّك عالما [بِذُنُوبِ خلقه [بَصِيراً] بها يجازيهم عليها.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة فقال: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ] أي النعم العاجلة و هي الدنيا فعبّر عنها بصفتها [عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ] من البسط و التقتير، و علّق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد و قد يشاء العبد ما لا يشاؤه اللّه فلا يعطيه لكونه مفسدة لمن يريد إعطاءه بحسب المصلحة [ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها] و يحترق بنارها [مَذْمُوماً مَدْحُوراً] مبعّدا من الرحمة.

قوله: [وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ] بشرط أن ينبغي لها بالأعمال الصالحة و النيّات الصادقة لأنّ الأعمال بالنيّات و أنّ استفادة القلب بمعرفة اللّه لا تحصل إلّا بعد الخلوص، و بكون السعي و العمل بموجب ما اقتضته الشريعة النبويّة من غير تبديل و تحريف كعبدة الأوثان، فهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات يصير [سَعْيُهُمْ مقبولا و مبرورا و يكونون مشكورون على طاعتهم.

قوله: [كُلًّا نُمِدُّ] التنوين عوض عن المضاف إليه أي كلّ واحد من الفريقين ممّن يريد الدنيا و ممّن يريد الآخرة أيّ البرّ و الفاجر، و المؤمن و الكافر نعطيهم في الدنيا من المال و النعمة، و أمّا الآخرة فللمتّقين خاصّة [وَ ما كانَ رزق [رَبِّكَ ممنوعا عن الكافر لكفره و عن الفاجر لفسقه.

فإن قيل: هل يجوز أن يريد المكلّف بعمله العاجل و الآجل؟ نعم إذا جعل العاجل تبعا للآجل كالمجاهد في سبيل اللّه يقاتل لإعزاز دين اللّه و يجعل الغنيمة تبعا و لكن بالعكس لا يجوز.

[انْظُرْ] يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله [كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن جعلنا بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء و بعضهم موالي و بعضهم عبيدا و بعضهم أصحّاء و بعضهم مرضى حسب ما علمناه من المصلحة [وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ أي درجات الآخرة و مراتبها أعلى و أفضل و هي مستحقّة على قدر الأعمال فينبغي أن يكون سعيهم لها أكثر.

ص: 229

و [لا تَجْعَلْ أيّها الإنسان [مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] في عملك و اعتقادك و في رغبتك و رهبتك فإنّك إن فعلت ذلك بقيت ما عشت [مَذْمُوماً] على لسان العقلاء و الأنبياء و الملائكة و [مَخْذُولًا] في الآخرة و لا ينصرك اللّه و يكلك اللّه إلى ما أشركت به. و معنى القعود الذلّ و الخزي و الخسران.

و النظم في الآية مربوط بعضه ببني إسرائيل و ما فعل بهم في الكرّة الاولى و الثانية فبيّن سبحانه أنّه من عادته أنّ من يستحقّ العذاب و يريد إهلاكه فإنّما يهلك القرى بعد أن أمر مترفيها بالطاعة ففسقوا، فيكون إهلاكهم بالاستحقاق لا على الابتداء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 25]

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

لمّا ذكر في الآية السابقة ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هومن شعائر الإيمان فقال سبحانه: [وَ قَضى رَبُّكَ أي أمر ربّك أمرا باتّا و ألزم و أوجب [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فإن قيل: إنّ الأمر لا يكون أمرا بأن لا يكون الشي ء؛ لأنّ الأمر يقتضي إرادة المأمور به و الإرادة لا تتعلّق بأن لا يكون الشي ء و إنّما تتعلّق الإرادة بحدوث الشي ء. فالجواب أنّه أراد منكم عبادته على وجه الإخلاص و كره عبادة غيره و عبّر من ذلك بقوله:

أمر أن لا تعبدوا إلّا إيّاه [وَ] قضى و أمر [بِالْوالِدَيْنِ و أوصى لهما [إِحْساناً] لأنّ الوصيّة أمر، و أردف هذا الأمر بالأمر الأوّل لأنّ السبب الحقيقيّ في وجود الإنسان هو تخليق اللّه و إيجاده و السبب الصوريّ و الظاهريّ هو الأبوان، و الشكر للمنعم الحقيقيّ واجب و المنعم الحقيقيّ في كلّ النعم هو اللّه، و قد يكون أحد من المخلوق منعما عليك بالسببيّة و شكره حسن لقوله صلّى اللّه عليه و آله: من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه.

فإن قيل: الوالدان إنّما طلبا تحصيل اللذّة لنفسهما فلزم منه دخول الولد في

ص: 230

الوجود و حصوله في عالم الآفات فأيّ إنعام للأبوين على الولد؟

حكي أنّ واحدا من المتّسمين بالحكمة كان يضرب أباه و يقول: هو الّذي أدخلني في عالم الكون و الفساد و عرض للموت و الفقر، و أظنّ أنّه أخ لأبي العلاء المعرّى في طريقة الزندقة؛ لأنّ أبا العلاء لمّا مات أوصى أن يكتب على قبره: هذه جناة أبي عليّ و ما جنيت على أحد:

و ليت شعري كيف نطق هذا الجاهل في الدين؟ حيث اعتقد هذا الإعتقاد الرجس، فهو عارض اللّه في ملكه و أمره؛ لأنّ الروح من أمره. فالجواب من هذه المناقشة الملعونة أنّه هب أنّهما في أول الأمر طلبا اللذّة إلّا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات و دفع الآفات من أوّل دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه أو أكثر أليس إنّه أعظم و أشدّ من جميع ذلك.

و الحاصل أنّ المعنى أمر ربّك أن تحسنوا إلى الوالدين. و أتى بكلمة «إحسانا» منكّرا ليدلّ على العموميّة في الإحسان.

و قوله: [إِمَّا يَبْلُغَنَ و «إن» كلمة شرطيّة و «ما» أيضا شرطيّة كقوله: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ» (1) فلمّا جمع هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط إلّا أنّ علامة الجزم لم تظهر مع نون التأكيد لأنّ الفعل مبنيّ مع نون التأكيد أي إن عاش [عِنْدَكَ أيّها الإنسان [أَحَدُهُما] من الوالدين حتّى يكبر، يريد أن يبلغ [أَوْ] يبلغا [كِلاهُما] في السنّ مبلغا يصيران في السنّ بمنزلة الطفل الّذي يحتاج إلى متعهّد و خصّ بحال [الْكِبَرَ] و إن كان من الواجب إطاعة الوالدين على كلّ حال لأنّ الحاجة في تلك الحالة أكثر إلى التعهّد و الخدمة. و قيل: إنّ الكبر في الآية راجع إلى المخاطب أي أنت إذا بلغت الكبر و قد بقي معك أبواك أو أحدهما [فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ قال الصادق عليه السّلام: لو علم اللّه لفظة أو جز في عقوق الوالدين لأتى به. و في خبر آخر: أدنى العقوق افّ و لو علم اللّه شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه، فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة. و قيل:

معنى قوله: بلغا من الكبر ما يبولان و يحدثان فلا تتقذّر منهما و أمط عنهما كما كانا يميطان عنك في صغرك. و كلمة افّ فيها سبع لغات: كسر الفاء و فتحها، و ضمّها منوّنا و غير

ص: 231


1- البقرة: 106.

منوّن فهذه ستّة، و السابعة بالياء «افّي» بالإضافة إلى نفسه، و هي كلمة تدلّ على الضجر و كلمة كراهة.

قوله: [وَ لا تَنْهَرْهُما] أي لا تزجرهما بصياح و غلظة و لا تمتنع من شي ء أراداه كما قال: «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (1) و خاطبهما بقول رقيق حسن بعيد عن اللغو و القبيح. و قيل:

معناه: قل لهما قول العبد المذنب للسيّد و المولى [وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ أي بالغ لهما في التواضع و الخضوع قولا و فعلا و شفقة عليهما، من خفض الطائر جناحه إذا ضمّ فرخه إليه كأنّه قال تعالى: ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك و أنت صغير. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معناه لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برأفة و رحمة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق يديهما و لا تتقدّم قدّامهما و ادع لهما بالمغفرة و الرحمة في حياتهما و بعد مماتهما جزاء لتربيتهما إيّاك في صباك و هذا إذا كانا مؤمنين.

و [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ تضمرون من البرّ و العقوق [إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ و طائعين للّه ممّن بدرت منه نادرة، و هو لا يضمر عقوقا فإنّ اللّه للراجع عن دينه غفور.

و روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: صلاة أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة خمسين مرّة سورة التوحيد هي صلاة الأوّابين. و قيل: الّذين يصلّون بين المغرب و العشاء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 30]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)

قيل في تفسير العامّة: وصّى سبحانه لغير الوالدين من القرابات و المساكين و أبناء السبيل بأن توفّى حقوقهم بعد أن وصّى للوالدين. و قيل: المراد بذي القربى قرابة

ص: 232


1- الضحى: 11.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و القميّ: عنى قرابة رسول اللّه خاصّة فاطمة و نزلت الآية فيها فجعل لها فدك، و المراد بالمسكين من ولد من فاطمة و ابن السبيل من ذرّيّتها. و سنورد قصّة فدك مفصّلة في سورة الروم إن شاء اللّه.

و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام في حديث له مع المهديّ العبّاسيّ: إنّ اللّه لمّا فتح على نبيّه فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فأنزل اللّه هذه الآية على النبيّ «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» و لم يدر رسول اللّه من هم، فراجع في ذلك جبرئيل و راجع جبرئيل ربّه فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة فدعاها رسول اللّه و قال: يا فاطمة إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه و منك، الحديث.

و في العيون عن الرضا في حديث له مع المأمون، و الآية الخامسة قول اللّه: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى خصوصيّة خصّهم اللّه العزيز الجبّار بها و اصطفاهم على الامّة فلمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ادعوا لي فاطمة فدعيت له فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا فاطمة، قالت:

لبّيك، فقال: هذه فدك هي ممّا لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب و هي لي خاصّه دون المسلمين فقد جعلتها لك لمّا أمرني اللّه به، فخذيها لك و لولدك. و بالجملة فالأخبار في هذا المعنى مستفيضة.

قوله تعالى: [وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً] قيل: إنّ المبذّر الّذي ينفق المال في غير حقّه و التبذير في اللغة إفساد المال و إنفاقه في السرف، قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف في المسجد مع مجاهد فرفع رأسه إلى أبي قبيس و قال: لو أنّ رجلا أنفق مثل هذا في طاعة اللّه لم يكن سرفا و لو أنفق درهما واحدا في معصية اللّه كان من المسرفين، و أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.

ثمّ قال تعالى: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ و المراد من هذه الاخوّة التشبّه بهم في هذا الفعل القبيح أي قرناؤهم في الدنيا و الآخرة، كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (1) قوله: [وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] أي كان الشيطان من قديم مذهبه كثير الكفر يكفر مرّة بعد اخرى. قال بعض العلماء:

ص: 233


1- الزخرف: 36.

خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب و ذلك لأنّهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب و الغارة، ثمّ كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء و التفاخر و كان المشركون ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام و توهين أهله، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.

قوله: [وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها] أي إنّك إن اعتراك الاضطرار بأن تعرض عنهم حياء فلا تعرض عنهم و قل لهم إلخ؛ لأنّه صلّى اللّه عليه و آله إذا سئل و لم يكن له شي ء يعرض حياء. إنّك إن أعرضت عن ذي القربى و المسكين و ابن السبيل حياء من التصريح بالردّ بسبب الفقر و القلّة [فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا] سهلا ليّنا و قوله: «ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ» كناية عن الفقر لأنّ فاقد المال يطلب إحسان اللّه فلمّا كان فقد المال سببا لهذا الطلب أطلق اسم السبب على المسبّب فسمّي الفقر بابتغاء رحمة اللّه، و الحاصل أنّ عند حصول الفقر لا تترك تعهّدهم بالقول الجميل و الكلام الحسن بل تعدهم بالوعد الجميل و الردّ بالطريق الأحسن في القول.

قوله: [وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً] لمّا أمر سبحانه رسوله بالإنفاق في الآية المتقدّمة علّمه أدب الإنفاق نظير ما وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال في السورة:

«وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (1) فهنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ» أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيّق على نفسك و أهلك في وجوه صلة الرحم و سبيل الخيرات للفقراء كالمغلولة الممنوعة من الانبساط كالّذي يداه مشدودة و لا تتوسّع توسّعا مفرطا بحيث لا يبقى في كفّك شي ء و تعطي جميع ما عندك [فَتَقْعُدَ] من العمل و تلوم نفسك و تلام [مَحْسُوراً] كالبعير المنقطع له وسط الطريق، و تبقى متحسّرا مغموما.

روي أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: قل له: إنّ امّي تستكسبك درعا فإن قال: حتّى يأتينا شي ء، فقل له: إنّها يطلب قميصك، فأتاه و قال له ما قالت له، فنزع صلّى اللّه عليه و آله قميصه و دفعه إليه و لم يجد صلّى اللّه عليه و آله شيئا يلبسه و لم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار، و قالوا: إنّ محمّدا اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة.

ص: 234


1- الفرقان: 67.

[إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ و يوسّع تارة [وَ يَقْدِرُ] اخرى بحسب المصلحة مع سعة خزائنه إنّه عليم بأحوالهم بصير بمصالحهم.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 31 الى 35]

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32) وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)

النظم: لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة أنّه المتكفّل بالرزق حيث قال: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ» و علّم البرّ بالوالدين أتبعه في هذه الآية كيفيّة البرّ بالأولاد و عدم الخوف من الفقر بقوله: [وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خوف الفقر لأنّ العرب كانوا يئدون البنات خوف الفقر لعجز البنات عن الغزو و الكسب و عدم قدرتهنّ على النهب و الغارة و يخافون أنّ فقرها ينفّر كفاءها عن الرغبة فيها، فيحتاجون و يضطرّون إلى إنكاحها بغير كفوها فيلحقهم بذلك عار فقال تعالى: «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ» و الولد وصف مشترك بين الذكور و الإناث، ثمّ قال: [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ و أخبر سبحانه بأنّه متكفّل برزقهم و رزق آبائهم [إِنَّ قَتْلَهُمْ في الجاهليّة [كانَ إثما عظيما عند اللّه و هو اليوم كذلك.

قوله: [وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى و هو وطي المرأة حراما بلا عقد و لا شبهة عقد [إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً] و معصية كبيرة عظيمة و بئس الطريق الزنى. و فيه إشارة إلى أنّ العقل يقبّح الزنى من حيث إنّه لا يكون للولد نسب معلوم إذ ليس بعض الزناة أولى به من بعض فيؤدّي ذلك إلى قطع الأنساب و إبطال المواريث وصلة الرحم و حقوق الآباء على الأولاد و ذلك مستنكر في العقول.

قال عثمان بن الخطّاب المعروف بأبي الدنيا: سمعت عليّا أمير المؤمنين يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: في الزنى ستّ خصال ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة؛ فأمّا اللواتي

ص: 235

في الدنيا فيذهب بنور الوجه، و يقطع الرزق، و يسرع الفناء، و أمّا اللواتي في الآخرة فغضب الربّ، و سوء الحساب، و الدخول في النار، أو الخلود في النار.

قوله: [وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ و هو أن يجب عليه القتل إمّا لكفره أو لردّته أو لأنّه قتل نفسا بغير حقّ أو زنى و هو محصن [وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً] بغير حقّ [فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً] أي آتينا لوليّه سلطان القود على القاتل أو الدية أو العفو، و أكبر الكبائر بعد الكفر باللّه القتل قال صلّى اللّه عليه و آله: الآدميّ بنيان الربّ، ملعون من هدم بنيان الربّ. و الوليّ من يلي أمره بعد وفاته. سلطانا أي تسلّطا بالقصاص و المؤاخذة، و ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص دون الزيادة.

و في الكافي عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية قيل: ما هذا الإسراف الّذي نهى اللّه عنه؟ قال عليه السّلام: نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل، قيل: فما معنى «إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» قال: و أيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة تلزمه من قتله في دين و لا دنيا.

و في الكافي و العيّاشيّ عنه عليه السّلام إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد حكم الوليّ أن يقتل أيّهم شاء و ليس له أن يقتل أكثر من واحد، إنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» إلى قوله: «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ».

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام نزلت في الحسين عليه السّلام لو قتل أهل الأرض به ما كان مسرفا.

قوله تعالى: [وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ هذا هو النوع الثالث من المنهيّات، الأوّل الزنى لأنّه كان يوجب انقطاع النسل و ذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود لأنّ اختلاط الأنساب موجب لمنع الاهتمام بتربية الأولاد و ذلك يوجب انقطاع النسل فثبت أنّ الزنى و القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس فلمّا ذكر اللّه هذين الأمرين أتبعه بالنهى عن إتلاف الأموال و أحقّ الناس بالنهى عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنّه لصغره و كمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله لأنّه لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه فلهذا خصّهم بالنهي عن إتلاف أموالهم.

ص: 236

و في تفسير قوله: [إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و جهان: الأوّل إلّا بالتصرّف الّذي ينميه و يكثره. الثاني إذا احتاج احتياجا شديدا أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه كما قال سبحانه: «وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» (1) و اعلم أنّ الوليّ تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشدّه و هو بلوغ النكاح كما بيّنه في آية اخرى قال: «وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (2) و المراد بالأشدّ بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله و رشده القيام بمصالح ماله و عند ذلك تزول ولايته عن اليتيم.

قوله تعالى: [وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ] و اعلم أنّ كلّ عقد يقدم لأجل توثيق الأمر و توكيده فهو عهد، و بالجملة مقتضى الآية أنّ كلّ عقد و عهد مشروع جرى بين إنسانين فإنّه يجب عليهما الوفاء بمقتضاه كعقود البيع و الشركة و اليمين و الصلح و النكاح إلّا ما خرج بدليل منفصل فإنّه غير مشروع.

و يؤكّد هذا النص أيضا آيات أخر دالّة على الوفاء بالعهود و العقود كقوله:

«وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» (3) و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ»* (4) فالأصل في العقود الصحّة و وجوب الالتزام به نعم لو وجدنا نصّا أخصّ من هذه النصوص يدلّ على البطلان و الفساد قضينا به تقديما للخاصّ على العام و بهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها مضبوطة معلومة و يكون الإنسان مطمئنّ القلب في العمل، ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا] يراد صاحب العهد كان مسئولا عنه.

[وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ و المقصود منه إتمام الكيل و ذكر الوعيد الشديد في نقصانه في موضع آخر بقوله: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» (5) [وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ و هو الميزان صغر أم كبر و المستقيم الّذي لا بخس فيه و لا غبن و هو العدل أي ما يكال و ما يوزن فلا بدّ و أن يكون بالتمام من دون نقص، و [ذلك خَيْرٌ ثَواباً] و أقرب إلى اللّه [وَ أَحْسَنُ عاقبة و مرجعا،

ص: 237


1- النساء: 5.
2- النساء: 5.
3- البقرة: 177.
4- المؤمنون: 8. المعارج: 32.
5- المطفّفين: 1.

و القسطاس في معنى الميزان. و قيل: القبّان. و قيل: إنّه بالروميّة و استعملته العرب و الأصحّ أنّه لغة العرب و مأخوذ من القسط و الاستقامة و الاعتدال الّذي لا يميل إلى أحد الجانبين.

قوله: [سورة الإسراء (17): آية 36]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)

. قوله: [وَ لا تَقْفُ مأخوذ من القفا أي لا تتبّع و لا تقف ما لا علم لك به من قول أو فعل و حاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما و هذه قضيّة كلّيّة يندرج تحتها أنواع كثيرة. و فيه وجوه و كلّ واحد من المفسّرين حمله على واحد من تلك الأنواع:

الاول نهى المشركين عن المذاهب الّتي كانوا يقلّدون آباءهم في الإلهيّات فقال:

«إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» (1).

و القول الثاني نقل عن محمّد بن الحنفيّة أنّ المراد منه شهادة الزور. قال ابن عبّاس:

لا تشهدوا إلّا بما رأته عيناك و سمعته اذناك و وعاه قلبك.

و القول الثالث المراد منه النهي عن القذف و رمي المحصنين و المحصنات بالأكاذيب.

و القول الرابع المراد منه النهي عن الكذب أي لا تقل: سمعت و لم تسمع و علمت و لم تعلم.

و القول الخامس أنّ القذف هو البهت أي لا تقل في قفا غيرك كلاما يسوؤه، و هو معنى الغيبة.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية قالوا: القياس لا يفيد إلّا الظنّ، و الظنّ مغاير للعلم فالحكم في دين اللّه بالقياس حكم بغير المعلوم فوجب أن لا يجوز لقوله: «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».

و أجاب مثبتو القياس بأنّ الحكم في الدين بمجرّد الظنّ جائز بإجماع الامّة في صور كثيرة: أحدها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ و هو جائز، و العمل بالشهادة عمل

ص: 238


1- النجم: 23.

بالظنّ و إنّه جائز، و الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلّا الظنّ و أنّه جائز، و قيم المتلفات و اروش الجنايات لا سبيل إليها إلّا بالظنّ و هو جائز، و كون هذه الذبيحة ذبيحة المسلم مظنون لا معلوم و بناء الحكم عليه جائز. و قوله عليه السّلام: «نحن نحكم بالظاهر» تصريح بأنّ الظنّ معتبر في مثل هذه الأنواع.

قوله: [إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ] يسأل عمّا سمع و البصر عمّا رأى و القلب عمّا عزم عليه؛ إنّ أصحابها مسؤولون و كلّ أولئك الجوارح و أصحابها مسؤولون.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزول قدم عبد يوم القيامة بين يدي اللّه حتّى يسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته و جسدك فيما أبليته؟ و مالك من أين كسبته؟ و أين وضعته؟ و عن حبّنا أهل البيت.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 40]

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)

«المرح» شدّة الفرح أي [لا تَمْشِ على وجه البطر و الخيلاء و التكبّر [إِنَّكَ أيّها الإنسان [لَنْ تشقّ [الْأَرْضِ من تحت قدمك بكبرك [وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ بتطاولك، فما وجه هذه المنابزة؟ لأنّ من الناس من يمشي في الأرض بطرا يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنّه ضعيف لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه على الأرض حتّى ينتهى إلى آخرها و أنّ طوله كلّما يتطاول لا يبلغ طول الجبال، فعلّم اللّه عباده التواضع و الوقار.

قوله: [كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى جميع ما تقدّم من المنهيّات كان معصيته عند اللّه [مَكْرُوهاً] لا يريدها و لا يرضاها، و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة بأنّه تعالى يكره السيّئات و إذا كرهها فكيف يريدها و يخلقها؟ و هذا أمر ممتنع.

ص: 239

قوله: [ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ] إشارة إلى جميع ما تقدّم في هذه الآيات من الأوامر و النواهي و هي تقرب من واحد و عشرين حكما:

فأوّلها قوله: «وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» و قوله: «وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فهذا اثنان و الثالث قوله: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» و الرابع «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» و الخامس «وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» و السادس «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ» و السابع «وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما» و الثامن و التاسع و العاشر «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ» و الحادي عشر «وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» و الثاني عشر «وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» و الثالث عشر «وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ» و الرابع عشر «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ» و الخامس عشر «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» و السادس عشر «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» و السابع عشر «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» و الثامن عشر «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ» و التاسع عشر «وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ» و العشرون «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» و الواحد و العشرون «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً».

و بالجملة هذه الأمور ممّا أوحى اللّه من الحكمة المؤدّية إلى المعرفة بالحسن و القبيح.

[وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] في إقرارك و اعتقادك و فعلك، و الخطاب للنبيّ و المراد به الامّة فإنّك إذا فعلت ذلك طرحت [فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً] مبعدا عن رحمة اللّه.

قوله: [أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً] هذا خطاب لمن جعل الملائكة بنات اللّه. قوله: «أَ فَأَصْفاكُمْ» أي أخلصكم اللّه بالبنين و خصّكم بهم و اتّخذ لنفسه البنات، و أضفتم إلى اللّه ما لم ترضوا لأنفسكم؟ نظير قوله: «أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (1) و نظير قوله: «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ» (2) و في جعل الشريك جعلوا الأرفع لأنفسهم و الأدون له أي اختصّ الاتّخاذ بالبنين لكم و اتّخذ لنفسه البنات و الإناث، و جعلها مشتركة بينه و بينكم أي اختصّ لنفسه الأدون و لكم الأرفع [إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً]

ص: 240


1- النجم: 21.
2- الطور: 39.

كثير الإثم و هو جعل الشريك و الجزء للّه سبحانه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 41 الى 44]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

التصريف عبارة عن صرف الشي ء من جهة إلى جهة نحو تصريف الرياح و تصريف الأمور ثمّ تستعمل لفظ التصريف كناية عن التبيين لأنّ من حاول بيان شي ء فإنّه يصرف كلامه من نوع إلى نوع، و من مثال إلى مثال ليقوى و يوضح البيان.

قوله: [وَ لَقَدْ صَرَّفْنا] أي بيّنّا [فِي هذَا الْقُرْآنِ ضروبا من كلّ بيان و مثل.

و مفعول «صرّفنا» محذوف [لِيَذَّكَّرُوا] و يتفكّروا فيها فيعلمون الحقّ و ليؤمنوا و لكنّهم يعكسون الأمر [وَ ما يَزِيدُهُمْ تصريف البيان [إِلَّا] تباعدا عن الحقّ. و شبّههم اللّه بالدوابّ النافرة.

قوله: [قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ] أي لو فرضنا وجود آلهة مع اللّه لغلب بعضهم بعضا و حاصله، يرجع إلى دليل التمانع و لطلبوا الآلهة سبيلا إلى مغازة مالك العرش و مغالبة و منازعته و الكفويّة معه ليصفو له الملك.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه من أن يكون له شريك في الإلهيّة فقال: [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عن قولهم [عُلُوًّا كَبِيراً] و ليس المراد من هذا التعالي العلوّ المكافي بل التعالي عن النظير و الشريك و جعل مصدرا مكان مصدر كقوله: «أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (1) و كقوله: «وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» (2).

قوله: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ معنى التسبيح هاهنا الدلالة على توحيد اللّه و عدله و جرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ و ربّما يكون التسبيح من طريق الدلالة أقوى لأنّه يؤدّي إلى العلم و ليس في شي ء من الموجودات إلّا و يسبّح بحمد اللّه من جهة خلقته إذ كلّ موجود سوى القديم حادث، و حدوثه يدعو إلى صانع غير مصنوع و قيل: إنّ كلّ شي ء

ص: 241


1- نوح: 17.
2- المزمّل: 8.

على العموم من الحيوان و النبات و الجماد يسبّح اللّه حتّى صرير النبات و خرير الماء [وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ حيث لم تنظروا فتعلموا كيف دلالتها على توحيده [إِنَّهُ كانَ حَلِيماً] يمهلكم على كفركم [غَفُوراً] لكم إذا تبتم.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 45 الى 48]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)

نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا قرأ القرآن على الناس: روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان و عن يساره آخران من ولد قصيّ يصفقون و يصفرون و يخلطون عليه بالأشعار.

و عن أسماء أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و معه رجل من أصحابه إذا أقبلت امّ جميل امرأة أبي لهب و بيدها فهر تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي تقول: مذمّما أتينا، و دينه قلينا، و أمره عصينا، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه معها حجر أخشاها عليك، فتلا صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية فجاءت و ما رأت رسول اللّه.

و روي ابن عبّاس أنّ أبا سفيان و النضر بن الحرث و أبا جهل و غيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يستمعون إلى حديثه فقال النضر يوما: ما أدري أنّ محمّدا ما يقول، غير أنّي أرى شفتيه يتحرّك بشي ء. و قال أبو جهل: هو مجنون. و قال أبو لهب: هو كاهن.

و قال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات و هي قوله في سورة الكهف: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً» (1) و في النحل «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) و في حم الجاثية «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» (3) إلى

ص: 242


1- آية: 58.
2- آية: 108.
3- آية: 22.

آخر الآية، فكان اللّه يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين و هو المراد من قوله:

[جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً].

فلو قيل: يقتضي أن يقال: حجابا ساترا، الجواب: حجاب يخلقه اللّه في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبيّ و ذلك الحجاب شي ء لا يراه أحد فكان مستورا من هذا الوجه، أو كما يجوز أن يقال: لابن و تامر يعني ذو لبن و ذو تمر فكذلك يقال:

مستور معناه ذو ستر، و الدليل عليه قولهم: مرطوب أي ذو رطوبة، و لا يقال: رطيبة. و يقال:

جارية مغنوجة أي ذات غنج. و قال الأخفش: هاهنا المستور بمعنى الساتر، فإنّ الفاعل قد يجي ء بلفظ المفعول كما يقال: مشؤوم و ميمون و إنّما هو شائم و يامن.

[وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ... وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] و سترا بسبب عدم قبولهم قول الحقّ و شدّة امتناعهم عن قبول نبوّته، و إنّما نسب اللّه ذلك الكنّ و الحجاب إلى نفسه لأنّه لمّا خلّاهم مع أنفسهم و ما منعهم بطريق الإلجاء صارت تلك التخلية كأنّها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، كما أنّ السيّد إذا لم يراقب حال عبده بسوء فعله فإذا ساءت سيرته فيقول السيّد: أنا الّذي ألقاك في هذه الحالة بسبب أنّه ما رقبت حالك. لكنّ السبب الواقعيّ هو سوء فعل العبد و اختياره، فلذلك صحّت الإضافة.

قوله: [وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي و إذا ذكرت اللّه بالتوحيد و أبطلت الشرك تركوا ذلك المجلس و [وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً] نافرين فيكون المصدر بمعنى الفاعل أو «نفور» جمع نافر مثل شهود جمع شاهد و قعود جمع قاعد.

ثمّ قال سبحانه: [نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ليس يخفى علينا حال هؤلاء المشركين و غرضهم من الاستماع إليك بل معلوم عندنا و نعلم حال ما يصغون إلى سماع قراءتك و حال ما يقومون من عندك و يتناجون فيما بينهم و يستهزءون، و يقولون: هو شاعر و كاهن و مجنون.

قوله: [وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي ذوي نجوى و يقولون: ما [تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا] قد سحر و اختلط عليه أمره و إنّما كانوا يقولون ذلك للتنفير عنه. و قيل: المسحور هاهنا بمعنى

ص: 243

الساحر. و قيل: المسحور الفاسد المخدوع المعلّل. ثمّ قال سبحانه: على وجه التعجّب من قبيح فعالهم:

[انْظُرْ] يا محمّد [كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي شبّهوا لك الأشباه بقولهم: شاعر و ساحر. و ضلّوا بهذه الأقوال عن قبول الحقّ [فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا] أي لا يجدون حيلة و طريقا إلى بيان تكذيبك إلّا البهت الصريح و ضلّوا عن الطريق المستقيم و هو دين الإسلام.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 49 الى 52]

وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)

قال المنكرون للبعث من المشركين: إنّا إذا متنا و انتشر لحومنا و صرنا عظاما و ترابا و غبارا أ نبعث بعد ذلك [خَلْقاً جَدِيداً]؟ و إنّما قالوا ذلك على وجه الإنكار بصورة الاستفهام [قُلْ لهم يا محمّد [كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً] أي اجهدوا في أن تكونوا حجارة أو حديدا في الشدّة و القوّة [أَوْ خَلْقاً] هو أعظم من ذلك عندكم و أصعب فإنّكم لا تفوتون اللّه و سيحييكم بعد الموت.

و قال ابن عبّاس: المراد بقوله: [أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ هو الموت و المقصود المبالغة أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فاللّه يعيدها فضلا عن التراب و الرفات مثل أن يقال: لو كنت عين الموت فاللّه يحييك.

و حاصل المعنى أنّ القوم استبعدوا أن يردّهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاما و رفاتا، لأنّها صفات منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر فبيّن اللّه سبحانه بأنّه قدّروا أنّ انتهاء أجسامكم بعد الموت إلى صفة اخرى أشدّ منافاة لقبول الحياة من التراب و العظام مثل أن تصير حجارة أو حديدا فإنّ المنافاة بين الحجريّة و الحديديّة و بين قبول الحياة أشدّ من المنافاة بين العظميّة و الترابيّة و بين قبول الحياة؛ فبتقدير أن تصير

ص: 244

أبدان الناس موصوفة بالحديديّة بعد الموت أو أكبر فاللّه تعالى يعيد الحياة إليها و يجعلها حيّا عاقلا كما كان.

قوله: [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا] أي إنّك يا محمّد إذا قلت لهم: البعث، سيقولون لك من بحيينا؟ [قُلِ الَّذِي خلقكم [أَوَّلَ مَرَّةٍ] فإنّ من قدر على ابتداء الشي ء كان على إعادته أقدر، و إنّما قال ذلك لهم لأنّهم كانوا يقرّون بأنّ النشأة الاولى خلقها اللّه [فَسَيُنْغِضُونَ أي يتحرّكون [إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تحريك المستهزئ المستخفّ المستبطئ و يقولون: [مَتى يكون البعث؟ [قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً] لأنّ ما هو آت قريب، قال الحسن:

و كأنّك بالدنيا لم تكن و كأنّك بالآخرة لم تزل.

قوله: [يَوْمَ يَدْعُوكُمْ معناه عسى أن يكون بعثكم قريبا أيّها المشركون يوم يدعوكم من قبوركم إلى الموقف على ألسنة الملائكة فيقولون: أيّها العظام النخرة و الجلود البالية عودي كما كنت [فَتَسْتَجِيبُونَ مضطرّين معترفين بأنّ الحمد للّه هناك لأنّ المعارف يومئذ ضروريّة، قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم يقولون: سبحانك و بحمدك، لكن لا ينفعهم الحمد في ذلك اليوم، لأنّ إبليس ذلك اليوم موحّد.

قوله: [وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا] أي تظنّون أنّكم لبثتم قليلا في الدنيا لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة و إنّما استقصروا لبثهم في الدنيا لعلمهم بطول مكثهم في الآخرة. و قيل: إنّ معنى الآية من قوله: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ إلخ» خطاب للمؤمنين لأنّهم يستجيبون اللّه و يحمدونه على إحسانه و يستقلّون مدّة لبثهم في البرزخ لكونهم في قبورهم منعّمين غير معذّبين، و أيّام السرور و الرخاء قصار.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 53 الى 55]

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

المراد من العباد في الآية المؤمنون لأنّ لفظ العباد في أكثر الآيات مختصّ بالمؤمنين

ص: 245

كقوله: «فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» (1) و قال: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» (2) و قال:

«عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» (3).

و لمّا ذكر سبحانه الحجّة اليقينيّة في إبطال الشرك بقوله: «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (4) بدليل التمانع و ذكر الحجّة اليقينيّة في صحّة المعاد بقوله: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» قال في هذه الآية بقوله: [وَ قُلْ لِعِبادِي إذا أردتم إيراد الحجّة على المخالفين فاذكروا الدليل بالطريق الأحسن و هو أن لا يكون ذكر الحجّة بالشتم و السبّ، و ذلك لأنّ ذكر الحجّة لو اختلط به شي ء من السبّ و الشتم لقابلوكم بمثله كما قال: «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» (5) و يزداد الغضب و تتكامل النفرة، و يمتنع حصول المقصود [إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي متى صارت الحجّة ممزوجة بالبذائة صارت سببا لثوران الفتنة، ثمّ قال سبحانه: [إِنَّ الشَّيْطانَ عداوته مع الإنسان قديمة.

و سبب النزول أنّ المشركين كانوا يؤذون النبيّ و أصحابه و كان الأصحاب يقولون للنبيّ: ائذن لنا في قتالهم. فأنزل اللّه هذه الآية، ثمّ قال سبحانه: [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بإخراجكم من مكّة و تخليصكم من إيذائهم [أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بتسليطهم عليكم و هو أعلم بالمصلحة. و قيل: معناه إن يشأ يرحمكم بفضله و إن يشأ يعذّبكم بعدله، فيكون الخوف منه و الرجاء إليه.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً]* لأعمالهم بل إنّا أرسلناك داعيا لهم إلى الإيمان شاءوا أم أبوا فإن أجابوك، و إلّا فلا شي ء عليك فإنّ عقاب ذلك يحلّ بهم. و قيل: إنّ المراد من قوله: «وَ قُلْ لِعِبادِي» هاهنا الكفّار و لا يبعد في هذا الخطاب ليكون سببا لجذب قلوبهم و ميل طباعهم إلى الدين.

قوله: [وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لمّا ذكر «ربّكم أعلم بكم» ذكر أنّ علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلّق بجميع الموجودات السماويّة و الأرضيّة و لهذا

ص: 246


1- الزمر: 17، 18.
2- الفجر: 31.
3- الدهر: 6.
4- السورة: 42.
5- الانعام: 108.

السبب فضّل بعض الناس على بعض و بعض النبيّين على بعض.

و إنّما خصّ داود بالذكر لوجوه:

الاول أنّ داود كان ملكا عظيما، ثمّ إنّه لم يذكر ما آتاه من الملك تنبيها على أنّ التفضيل الّذي ذكره التفضيل بالعلم لا بالمال.

و الوجه الثاني في التخصيص أنّه كتب في الزبور أنّ محمّدا خاتم النبيّين و أنّ امّته خير الأمم كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (1) و هم محمّد و امّته، و الزبور عبارة عن المزبور.

و الوجه الثالث أنّ كفّار قريش ما كانوا أهل نظر بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، و اليهود كانوا يقولون: إنّه لا نبيّ بعد موسى و لا كتاب بعد التوراة، فنقض اللّه كلامهم بإنزال الزبور على داود.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 56 الى 57]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

النزول: كان بعض المشركين يقولون: نحن نعبد بعض المقرّبين من عباد اللّه فقوم عبدوا الملائكة، و قوم عبدوا عزيرا، و قوم عبدوا المسيح، و قوم عبدوا نفرا من الجنّ؛ فنزلت الآية: إنّ [الَّذِينَ تزعمونهم آلهة لا [يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ و جلب النفع لكم [وَ لا تَحْوِيلًا] للحالة الّتي تكرهونها إلى حالة تحبّونها و من كان بهذه الصفة فإنّه لا يصلح للإلهيّة و لا يستحقّ العبادة.

ثمّ رجع سبحانه إلى ذكر الأنبياء و الموحّدين في الآية الاولى فقال: [أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلى اللّه و يطلبون القربة و [الْوَسِيلَةَ] بالعبادة إليه [أَيُّهُمْ أفضل و [أَقْرَبُ و ذكر ذلك حثّا على الاقتداء بهم و ترك هذه الطريقة الخبيثة. فليكن الإنسان يرجو رحمة اللّه و يخاف عذابه [إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يجب أن يحذر منه.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 60]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

ص: 247


1- الأنبياء: 105.

ثمّ أرشد سبحانه الخلق فقال: [وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها] بإماتة أهلها [أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً] و هو عذاب الاستئصال فيكون هلاك الصالحين بالموت و هلاك الطالحين بالعذاب في الدنيا فإنّه يفنى الناس و يخرب البلاد قبل يوم القيامة ثمّ يقوم القيامة. و قيل: المراد بذلك قرى الكفر و الضلال دون قرى الإيمان و المراد بالهلاك التدمير.

[كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً] و ذلك كائن البتّة و هذا الحكم في الكتاب الكبير مكتوب و واقع لا محالة.

قوله: [وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الّتي يقترحونها المشركون منك كقولهم: «اجعل لنا الصفا ذهبا» و أمثاله، إلّا تكذيب الأمم المتقدّمة لأنّهم اقترحوا من أنبيائهم و آتيناهم الآيات الّتي اقترحوها و لم يؤمنوا مع ذلك فاستحقّوا معاجلة العذاب فعذّبناهم بعذاب الاستئصال فحال قومك كذلك لو نأتيهم ما يقترحون لوجب أن نعذّبهم بعد الإتيان و عدم إيمانهم و الحكمة اقتضت إمهالهم فلذلك السبب منعنا بإتيان الآيات المقترحة كما أنّه [آتينا قوم [ثمود] آية المقترحة و هي [النَّاقَةَ] و ما آمنوا فعذّبناهم لأنّهم ظلموا بالآية و أنكروها، لكنّ الحكمة اقتضت أن تكون شريعتك مؤبّدة إلى يوم القيامة و هذا ينافي عذاب الاستئصال.

و قوله: [مُبْصِرَةً] أي آية يستدلّ بها على صدق الرسول [فَظَلَمُوا] و جحدوا بأنّها من عند اللّه و ظلموا أنفسهم بوقوع العذاب عليهم [وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا] زجرا و [تَخْوِيفاً] لهم من عذاب اللّه.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: و اذكر الوقت الّذي [قُلْنا لَكَ يا محمّد [إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ علما بأحوالهم و بما يفعلون من الطاعة و المعصية أي إنّ حكمته و قدرته محيطة بالناس فهم

ص: 248

في قبضته و المقصود أنّهم لا يقدرون على أمر من الأمور في إيذائك و نحن ننصرك حتّى تبلغ رسالتك و تظهر ديني كما قال في موضع: «وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (1) و قيل: معنى قوله:

«إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» المراد بالناس في هذه الآية أهل مكّة و إحاطة اللّه بهم هو أنّه يفتحها للمؤمنين و يظهر دولتك عليهم.

قوله: [وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا] فيه أقوال:

أحدها أن المراد بالرؤيا رؤية العين و هي ما ذكره في أوّل السورة من إسراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى بيت المقدس و إلى السماوات في ليلة إلّا أنّه لمّا رأى ذلك ليلا و أخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا و سمّاها فتنة لأنّه أراد بالفتنة الامتحان ليعرض للمصدّق بذلك جزيل ثوابه و المكذّب به أليم عقابه.

و ثانيها أنّها رؤيا نوم رآها صلّى اللّه عليه و آله أنّه سيدخل مكّة و هو بالمدينة فقصدها فصدّها المشركون في الحديبيّة عن دخولها حتّى شكّ قوم منهم عمر، و دخلت عليهم الشبهة فقالوا:

يا رسول اللّه أليس قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أو قلت لكم أنّكم تدخلونها العام؟ قالوا: لا؛ فقال: لندخلنّها إن شاء اللّه، و رجع ثمّ دخل مكّة في العام القابل فنزل: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» (2) و إنّما كان ذلك فتنة و امتحانا.

و ثالثها أنّ ذلك رؤيا رآها النبيّ في منامه أنّ قرودا تصعد منبره و تنزل، فساءه ذلك و اغتمّ به، و لم ير بعد ذلك ضاحكا حتّى مات صلّى اللّه عليه و آله و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالوا: إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو اميّة. و روي عن منهال ابن عمرو قال: دخلت على عليّ بن الحسين فقلت له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟ فقال:

أصبحنا بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و أصبح خير البريّة بعد رسول اللّه يلعن على المنابر و أصبح من يحبّنا منقوصا و مغصوبا حقّه بحبّه إيّانا، ثمّ بكى و قال عليه السّلام: وا ذلّاه لامّة قتل ابن دعيّها ابن بنت نبيّها.

ص: 249


1- المائدة: 70.
2- الفتح: 27.

و ممّا يؤكّد هذا المعنى قول عائشة لمروان: لعن اللّه أباك و أنت في صلبه فأنت بعض من لعنه اللّه.

فلو قيل: إنّ رسول اللّه ما كان له منبر بمكّة. فالجواب أنّه رأى أنّ له بالمدينة منبرا يتداوله بنو اميّة.

و قيل: إنّ الشجرة الملعونة في القرآن أي الزقّوم و إنّما سمّي فتنة لأنّ المشركين كانوا يقولون: إنّ محمّدا يوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثمّ يزعم أنّه تنبت فيها الشجرة.

و قوله: [فِي الْقُرْآنِ معناه: الّتي ذكرت في القرآن، قوله: [وَ نُخَوِّفُهُمْ أي نرهبهم بما نقصّ عليهم في هلاك الأمم الماضية و بما نرسل من الآيات [فَما يَزِيدُهُمْ ذلك [إِلَّا طُغْياناً] و عتوّا في الكفر عظيما لأنّهم لا يرجعون عن كفرهم.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 65]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)

النظم: لمّا وصفهم بقوله: «فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» و إنّ القوم نازعوا رسول اللّه و أنكروا رسالته لأجل الكبر و الحسد شرح في هذه الآية أنّ الّذي حملهم على هذا الأمر و هو الكبر حمل إبليس على ما حمل.

قوله: [وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ] قد مرّ تفسيره في سورة البقرة [قالَ إبليس [أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً] و هو استفهام بمعنى الإنكار، استكبر عن السجود نظر بأصله حيث إنّه من نار و أصل آدم من طين، و لم يعرف أنّ الأصل ليس بالبنية بل بالإطاعة، و إنّما جاز أن يأمرهم بالسجود لأنّ السجود يترتّب من التعظيم و ليس كذلك العبادة، و العبادة خاصّة للّه.

ص: 250

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 299

ثمّ قال اللعين: أخبرني عن هذا الّذي فضّلته عليّ؛ لم فضّلته عليّ و أنا خير منه؟

و اختصر الكلام لكونه مفهوما من سياق الكلام، و الكاف لتأكيد الخطاب لا محلّ لها من الإعراب، أي أخبرني أنت عن هذا الّذي كرّمته عليّ و أمرتني بالسجود له، لم كرّمته عليّ و مقصوده الاستصغار و الاستحقار أي أ هذا من الّذين كرّمته عليّ؟ و حذف حرف الاستفهام من هذا استغناء عنه بسبب الاستفهام الأوّل في «أَ رَأَيْتَكَ».

[لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيّا [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] و اللام توطئة للقسم، و جوابه [لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلهم [إِلَّا قَلِيلًا] مأخوذ من احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها، أو المعنى لأقودنّهم، من حنكت الدابّة و احتنكتها إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلا تقودها به، و إنّما ادّعى اللعين هذا الأمر لأنّه قد جرت بوسوسة آدم فلم يجد له عزما فعلم أنّ أولاده أضعف منه.

[قالَ تعالى [اذْهَبْ يا إبليس [فَمَنْ تَبِعَكَ من ذرّيّته و اقتفى أثرك و قبل منك [فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً] كاملا [وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ أي استزلّ من اقتدرت [مِنْهُمْ بوسوستك و أضلّهم بدعوتك و هذا تهديد بصورة الأمر [بِصَوْتِكَ أي بالغناء و المزامير و الملاهي أو كلّ صوت يدعا به إلى الفساد فهو من صوت الشياطين.

[وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ أي اجمع عليهم من مكائدك و أتباعك و أعوانك، و كلّ راكب أو ماش في معصية اللّه من الإنس و الجنّ فهو من جند إبليس من خيله و رجله. و «الباء» زائدة و قوله: «وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ» أي استعن على إغوائهم بخيلك و رجلك، و قرئ بكسر الجيم و بضمّها و على هذا المعنى يكون الباء غير زائدة [وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ] أمّا المشاركة في الأموال عبارة عن كلّ تصرّف قبيح في المال سواء كان ذلك التصرّف بسبب أخذه من غير حقّه أو وضعه في غير حقّه فيدخل فيه المعاملات الفاسدة كالربى و الغصب و السرقة و غيرها و البحيرة و السائبة و تبتّك آذان الأنعام و جعل المال لغير اللّه، و أمّا المشاركة في الأولاد الدعاء إلى الزنى و تسمية أولادهم بعبد اللات و العزّى و ترغيب أولادهم في الأديان الباطلة

ص: 251

و قتل الأولاد و وأدهم و كلّ تصرّف في الأولاد على وجه يؤدّي ذلك إلى ارتكاب منكر أو قبيح.

[وَ عِدْهُمْ بالأمانيّ الكاذبة و طول الأمل [وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً] أي يزيّن لهم الخطاء أنّه صواب [إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ يعني الّذين يطيعونني لا نفاذ لك [عليهم وَ كَفى بِرَبِّكَ حافظا لعباده من الشرك إن أطاعوه.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 66 الى 69]

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)

لمّا تقدّم ذكر الشيطان و عبدته من المشركين احتجّ في هذه الآية بدلائل التوحيد؛ فقال:

[رَبُّكُمُ أي خالقكم الّذي يجري لكم السفن في البحر بما خلق على وجه يمكن جري السفن على الماء لتطلبوا من فضل اللّه بركوب السفن لصلاح دنياكم من التجارة و الأمن من الغرق [إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً] حيث أنعم عليكم بهذه النعمة.

[وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ] و الخوف الشديد من الغرق فسد [مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي في تلك الحالة لا يتضرّع إلى الصنم و الشمس و القمر و إنّما يتضرّع إلى اللّه [فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من المهلكة و الغرق و أخرجكم [إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ من اللّه و الإخلاص [وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً] لنعم اللّه بسبب أنّه عند الشدّة يتمسّك برحمته و عند الراحة يعرض عنه و يتمسّك بغيره.

قوله تعالى: [أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ] و المراد أنّه كما هو قادر على أن يغيبهم و يغرقهم من جانب البحر تحت الماء كذلك قادر على أن يغيبكم في الأرض تحت التراب أي هبوا أنّكم نجوتم من هول الغرق فكيف أمنتم من هول البرّ؟ فمن جانب البحر إذا حصل الهلاك فبالغرق، و من جانب البرّ يحصل بالخسف فكيف تأمنون أن يأتيكم من جانب الفوق بإمطار الحجارة عليكم؟ و «الحاصب» التراب الّذي فيه حصباء و الحاصب كاللابن و التامر أي ذو الحصباء [ثُمَّ لا تَجِدُوا] ناصرا ينصركم و يصونكم من عذاب اللّه أو يرسل عليكم ريحا كاسرا قويّا تكسركم و تكسر أشجاركم بسبب

ص: 252

كفركم، ثمّ لا تجدوا لكم من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم و يؤاخذنا و يطالبنا بدمائكم و يقول: لم فعلت هذا بهم؟ و ليس لكم ثائر و ناصر.

و قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 70 الى 72]

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)

لمّا تقدّم قول «إبليس هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» ذكر في هذه الآية تكرمة بني آدم بأنواع الإكرام و فنون الإنعام فقال: [وَ لَقَدْ كَرَّمْنا] بأمور بالقوّة المدركة و النطق و امور عديدة منها تسليطهم على غيرهم و تسخير الحيوانات لهم و جعل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من البشر و أنّهم يعرفون اللّه و يأتمرون بأمره اختيارا و أشياء كثيرة لا تعدّ، بها فضّل اللّه بني آدم على غيره، و الأناس يذكر بعضها.

اعلم أنّ الإنسان جوهر متركّب من النفس و البدن فالنفس الإنسانيّ أشرف النفوس السفليّة و بدنه أشرف الأجسام السفليّة و للإنسان و الحيوان قوى متشاركة كالاغتذاء و النموّ و التوليد و الحسّاسيّة و الحركة فهذه القوى الخمسة متشاركان.

ثمّ إنّ الإنسان اختصّ بقوّة اخرى و هي القوّة العاقلة المدركة للكلّيّات و حقائق الأشياء كما هي و هذه القوّة من تلقيح الجواهر القدسيّة الإلهيّة فهذه القوّة لا نسبة لها في الشرف إلى تلك القوى الخمسة النباتيّة و الحيوانيّة؛ فظهر أنّ الإنسان أشرف النفوس الموجودة في عالم السفليّ.

و أمّا شرافة الّتي تتعلّق بالبدن الإنسانيّ بالنسبة إلى أبدان غيره من الشرف أحدها: روى ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في تفسير قوله: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا» قال: كلّ شي ء يأكل إنّما يأكل بقيه غير ابن آدم فإنّه يأكل بيده. قيل: إنّ الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق و عنده أبو يوسف فقال له: قد جاء في التفسير عن جدّك في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فردّ الرشيد الملاعق و أكل بعد ذلك بيده و أصابعه.

ثمّ إنّ الإنسان فضّل بالكلام و قادر على بيان مقصوده كاملا من بيان حاجة أو

ص: 253

ألم أو لذّة فيستريح نفسه بالبيان و إن كان أخرسا فبالإشارة يريح نفسه و يظهر مقصوده بخلاف سائر الموجودات. ثمّ فضّل الإنسان بحسن الصورة و الدليل عليه قوله تعالى:

«وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ*، (1) فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (2).

و الخامس من الفضائل المختصّة للإنسان أن آتاه اللّه الخطّ لأن يتمكّن أن يودع معلوماته في الكتاب و لا يضيع علمه المستنبط، و إلى هذه الفضيلة الكاملة أشار سبحانه «اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (3).

و الفضيلة السادسة أنّ أجسام هذا العالم من البسائط و المركّبات مسخّرة و خادمة للإنسان، أمّا البسائط كالأرض و الماء و الهواء و النار مسخّرة لفوائد الإنسان و هو دائما ينتفع بها فالأرض كالامّ المربّية و المهد و تربية المنافع للإنسان، و أمّا الماء فمعلوم نفعه للزرع و الضرع، و أمّا الهوى فهو مادّة حياتنا و لو لا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة، و أمّا النار ففيها طبخ الأغذية و قائمة مقام الشمس و القمر في ليالي مظلمة، و الدافعة لضرر البرد، و أمّا المركّبات فهي أيضا مسخّرة لهذا العالم الّذي ينتفع منه الإنسان من المعادن و آثار العلويّة و النبات و الحيوان و أمثالها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة و جميع منافعها مصروفة و معدّة للإنسان، فهو كالرئيس المخدوم و الملك المطاع و الباقي كالخدم و كلّ ذلك يدلّ على كونه مخصوصا من عند اللّه بمزيد التكريم و التفضيل. بقي القول في أفضليّته من الملك أم لا فهو على القول بالاختلاف.

و السابعة أنّ الموجودات إمّا أن يكون أزليّا و أبديّا معا و هو اللّه سبحانه، و إمّا أن يكون لا أزليّا و لا أبديّا و هو عالم الدنيا مع كلّ ما فيه من النبات و الحيوان و الجماد و هذا أخس الأقسام، و إمّا أن يكون أزليّا لا أبديّا و هو ممتنع الوجود؛ لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، و إمّا أن لا يكون أزليّا و لكنّه أبديّ و هو الإنسان و الملك و لا شكّ أنّ هذا القسم أفضل من القسم الثاني و الثالث فثبت أنّ الإنسان أشرف أكثر المخلوق.

و الثامن أنّ العالم العاويّ أشرف من العالم السفليّ و روح الإنسان من جنس

ص: 254


1- التغابن: 3.
2- المؤمنون: 14.
3- اقرأ: 3- 5.

الأرواح العلويّة و الجواهر القدسيّة و ليس في موجودات العالم السفليّ شي ء حصل فيه شي ء من العالم العلويّ إلّا الإنسان؛ فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفليّ.

و التاسع أنّ أشرف الكلّ من الموجودات هو اللّه و كلّ موجود كان قربه من معرفة اللّه أتمّ وجب أن يكون أشرف فلا شكّ أنّ الإنسان إذا كان قلبه مستنيرا بمعرفة اللّه و لسانه مشرّفا بذكر آلاء اللّه و جوارحه مكرّمة بطاعة اللّه أشرف من غيره من الموجودات السفليّة. و لمّا ثبت أنّ الإنسان موجود ممكن لذاته و الممكن لذاته لا يوجد إلّا بإيجاد الواجب لذاته فكلّما حصل للإنسان من المراتب العالية فهي حصلت بإحسان اللّه إليه و إنعامه تعالى فلهذا المعنى قال: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ».

قوله: [وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ] على الخيل و البغال و الحمير و الإبل [وَ] في [الْبَحْرِ] على السفن و هذا من مؤكّدات التكريم لأنّه تعالى سخّر هذه الدوابّ له حتّى يركبها و يغزو و يحمل عليها و كذلك تسخير السفن و المياه له [وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لأنّ الأغذية إمّا حيوانيّة و إمّا نباتيّة و كلا القسمين إنّما يتغذّى الإنسان منها بألطفها و أطيبها بعد التنقية الكاملة و النضج التامّ البالغ بخلاف غيره [وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا] بأمور خلقيّة ذاتيّة كالعقل و اكتساب المعارف الإلهيّه.

و الّذين توقّفوا على أفضليّة البشر من الملك كابن عبّاس و الزجّاج استدلّوا بهذه الآية؛ لأنّ قوله تعالى: «وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» يدلّ على أنّه قد حصل في مخلوقات اللّه شي ء لا يكون الإنسان مفضّلا عليه و كلّ من أثبت هذا القسم قال:

إنّه هو الملائكة فيقتضي أنّ الملك أفضل من البشر. و أجابوا عن هذا القول و قالوا: إنّ المراد بالتفضيل ما فضّلهم اللّه من فنون النعم الّتي عددنا بعضها، و قالوا: إنّ المراد بالكثير في الآية الجميع بوضع الكثير موضع الجميع، ثمّ إنّه إذا سلّم أنّ المراد بالتفضيل زيادة الثواب و أنّ لفظة «من» في قوله: «مِمَّنْ خَلَقْنا» يفيد التبعيض فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم و الفضل من بني آدم يختصّ بالأنبياء بقليل من كثير

ص: 255

فعلى هذا غير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة و إن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم.

و احتجّوا في تفضيل بني آدم بما روي عن زيد بن أسلم أنّه قال: قالت الملائكة ربّنا إنّك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها و يتنعّمون و لم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة فقال اللّه: و عزّتي و جلالي لا أجعل ذرّيّة من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان.

قوله تعالى: [يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ و قرئ بالياء و النون أي أن ينادي يوم القيامة هاتوا متّبعي إبراهيم هاتوا متّبعي موسى هاتوا متّبعي محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوا أنبياءهم فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثمّ ينادي هاتوا متّبعي الشيطان و هاتوا متّبعي رؤساء الضلال. و روي عن عليّ عليه السّلام: إنّ الأئمّة إمام هدى و إمام ضلالة.

و قيل: معناه المراد من الإمام كتابهم الّذي انزل عليهم من أوامر اللّه و نواهيه فيقال يا أهل القرآن و يا أهل الإنجيل و هكذا. و قيل: معناه: بمن يأتمّون به عن علمائهم و أئمّتهم.

و يجمع هذه الأقوال ما روي عن الرضا عليّ بن موسى عليهما السّلام بالأسانيد الصحيحة أنّه روى عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يدعى كلّ أناس بإمام زمانهم و كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم. و روي عن الصادق أنّه قال: ألا تحمدون اللّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ قوم إلى من يتولّونه و دعينا إلى رسول اللّه و دعيتم إلينا قال: فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة قالها ثلاثا. و قيل: يعني بكتابهم الّذي فيه أعمالهم. و قيل: بامّهاتهم صونا عن افتضاح أولاد الزنى و رعاية لشرف عيسى و الجنين، فحينئذ إمام جمع أمّ.

[فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ و اعطي كتاب عمله الّذي فيه طاعاته بيمينه [فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا] فرحين مسرورين لا يستنكفون عن قراءته لما يرون فيه الجزاء من الثواب و لا ينقصون ثواب أعمالهم مقدار فتيل و هو المفتول الّذي في شقّ النواة، و الفتيل الّذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير قشر النواة، و إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا و الخلاص، و باليسار و من وراء الظهر علامة الهلاك.

ص: 256

قوله: [وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى هذه إشارة إلى ما تقدّم من النعم أي و من كان من هذه النعم و العبر أعمى [فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى و قيل: إشارة إلى الدنيا أي من كان في الدنيا عن آيات اللّه أعمى ضالًّا عن الحقّ ذاهبا عن الدين فهو في الآخرة أشدّ تحيّرا عن طريق الجنّة؛ فإنّ من ضلّ عن معرفة اللّه في الدنيا يكون يوم القيامة منقطع الحجّة فالأوّل اسم و أعمى الثاني أفعل التفضيل من العمى. و قيل: المعنى من كان في الدنيا أعمى القلب فإنّه في الآخرة يحشر أعمى العين عقوبة له على ضلالته في الدنيا. و قيل: من كان في الدنيا ضالًّا فهو في الآخرة أضلّ لأنّه لا يقبل توبته، و التأويل أنّه إذا عمي في الدنيا و قد عرّفه اللّه الهدى و جعل له التوبة وصلة فعمي عن رشده فلم يتب فهو في الآخرة أشدّ عمى و أضلّ سبيلا.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 73 الى 75]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)

سبب النزول فيه أقوال:

الاول: أنّ قريشا قالت للنبيّ: لا ندعك تستلم الحجر حتّى يستلم بآلهتنا فحدّث نفسه و قال: ما عليّ في أن ألمّ بها و اللّه يعلم أنّي لكاره لها و يدعو إلى استلام الحجر، فنزلت و هذا قول سعيد بن جبير.

و ثانيها: أنّهم قالوا: كفّ عن آلهتنا و شتمها و اطرد هؤلاء السقاط الّذين رائحتهم رائحة الصنان حتّى نجالسك و نسمع ما تقول، فطمع صلّى اللّه عليه و آله في إسلامهم فنزلت.

و ثالثها: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخرج الأصنام من المسجد فطلبت قريش منه أن يترك صنما كان على المروة فهمّ بتركه ثمّ أمر بعده بكسره فنزلت. رواه العيّاشيّ بأسناده.

و رابعها: أنّها نزلت في وفد ثقيف قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال:

ص: 257

لا ننحني أي لا نصلّي، و نكسر أصنامنا بأيدينا و تمتّعنا باللات سنة فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا خير في دين ليس فيها ركوع و لا سجود، فأمّا كسر أصنامكم بأيديكم فذاك لكم و أمّا الطاعة للّات فإنّي غير ممتّعكم بها. و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و توضّأ فقال عمر بن الخطّاب: ما بالكم آذيتم رسول اللّه إنّه لا يدع الأصنام في أرض العرب؟ فما زالوا به حتّى أنزل اللّه هذه الآية، عن ابن عبّاس.

و خامسها: أنّ وفد ثقيف قالوا: أجّلنا سنة حتّى نقبض ما يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا ذلك كسرناها و أسلمنا. فهمّ صلّى اللّه عليه و آله بتأجيلهم، فنزلت، عن الكلبيّ عن عطيّة عن ابن عبّاس.

المعنى: «إن» مخفّفة و اللام هي الفارقة بينها و بين النافية أي إنّ الشأن قاربوا أن يفتنوك و يخدعوك فاتنين فيوقعوك في الفتنة و يصرفونك عمّا [أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي القرآن و حكمه لأنّ إعطاءهم ما سألوا مخالف لحكم القرآن [لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا] غير ما اوحي إليك [وَ إِذاً] لو فعلت ما يريدون [لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا].

[وَ لَوْ لا] و لو لا عصمتنا لك و تثبيتنا إيّاك على الحقّ [لَقَدْ كِدْتَ تميل [إِلَيْهِمْ ركونا [قَلِيلًا] أي لقد قاربت بسبب سكوتك عن جوابهم طمعا في إيمانهم أن تعطيهم بعض سؤالاتهم و لم تفعله، و لو فعلته لعذّبناك العذاب المتضاعف ألمه، لأنّ الذنب منك أعظم، أو المراد عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و لا شكّ أنّ مراده سبحانه تخويف امّته لئلّا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شي ء من امور الدين و أحكام اللّه، و إنّ رسول اللّه معصوم، و لو أنّه لو حدثت نفسه لهذا الأمر أيضا ليس معصية لأنّه رفعت عن امّته ما حدثت به نفسهم ما لم تعمل به، أو تتكلّم به.

قوله: [ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا] ناصرا ينصرك، فلمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

ص: 258

النزول: نزلت في أهل مكّة لمّا همّوا بإخراج النبيّ من مكّة، و قيل: نزلت في اليهود بالمدينة لمّا قدم رسول اللّه المدينة قالوا: إنّ هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء و إنّما أرض الأنبياء الشام فامض إلى الشام.

المعنى: أرادوا و قربوا أن يزعجوك من أرض مكّة بالإخراج. و قيل: «لَيَسْتَفِزُّونَكَ» معناه ليقتلوك، و إنّهم لو أخرجوك لكانوا لا يلبثون بعد خروجك [إِلَّا قَلِيلًا] من الزمان و مدّة يسيرة. و قيل: المراد إلّا ناسا قليلا منهم، يريد من انفلت منهم يوم بدر و أسلموا. و الّذين سعوا في إخراجه من مكّة قتلوا يوم بدر و ما لبثوا. كما أنّه [سُنَّةَ] من قبلك من الأمم الّذين فعلوا بأنبيائهم كذلك و أخرجوا أنبياءهم عذّبناهم و استأصلناهم و هذه عادتنا من قبل في الأمم [وَ لا تَجِدُ] لعادتنا تغييرا.

قوله: [سورة الإسراء (17): الآيات 78 الى 81]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

النظم: لمّا قال سبحانه: «وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» أخرج الكلام في مخرج هذا المعنى أنّك يا محمّد لا تبال بسعيهم في إخراجهم إيّاك من بلدك و لا تلتفت إليهم و اشتغل بعبادة اللّه و داوم على الصلاة؛ فإنّه يدفع عنك شرّهم و يجعل دينك غالبا على أديانهم نظير قوله: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها» (1).

و اختلفوا في معنى الدلوك قيل: معناه دلوكها أي غروبها، و سمّي الغروب دلوكا لأنّ الناظر يدلّك عينيه ليتبيّنها. و قيل: الدلوك زوالها و ميلها إلى غروبها لأنّ الناظر إليها أيضا يدلّك عينيه لشدّة شعاعها و عليه الأكثرون؛ فعلى هذا يتعلّق الحكم بميلها عن كبد السماء إلى وقت الظلمة. و غسق الليل هو أوّل بدء الظلمة و سواده. و قيل: غسق

ص: 259


1- طه: 130.

الليل انتصاف الليل، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. فحينئذ المراد من الآية بيان الصلوات الخمس لا بيان صلاة واحدة بأنّ اللّه جعل من دلوك الشمس الّذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلّا أنّ الظهر و العصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى الغروب و المغرب و العشاء الآخرة اشتركا في الوقت من الغروب إلى الغسق أي شدّة سواد الليل و انتصافه.

ثمّ أفرد سبحانه صلاة الصبح بالذكر و عطف على قوله: [وَ] أقم [قُرْآنَ الْفَجْرِ] فهذا بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها، و يؤيّد ذلك ما رواه العيّاشيّ بالإسناد عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه قال في هذه الآية: إنّ اللّه افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه. و إلى هذا ذهب المرتضى في أوقات الصلاة، و قال في قوله تعالى: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ» يدلّ على أنّ الصلاة لا يكون إلّا بقراءة لأنّ قوله: أقم الصلاة و أقم قرآن الفجر قد امر فيه أن يقيم الصلاة بالقراءة حتّى سمّيت الصلاة قرآنا فلا يكون الصلاة إلّا بقراءة.

قوله: [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً] أي إنّ صلاة الصبح تشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار.

و اعلم أنّ منشأ الاختلاف في الآية أنّ قوله: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» هل بيان أوقات الصلوات الأربع أو الثلاث راجع إلى اختلاف معنى الدلوك و الغسق كما عرفت؛ فإن حملت معنى الغسق على أوّل دخول الظلام لم يدخل فيه إلّا الظهر و العصر و المغرب، و إن حملت معنى الغسق على اشتداد الظلمة و انتصاف الليل دخلت فيه الصلوات الأربع كما هو الصحيح، فعلى هذا بأن يكون الزوال وقتا و الغسق وقتا و الفجر وقتا و هذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر و العصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين و أن يكون أوّل المغرب وقتا للمغرب و العشاء، فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين؛ فهذا يقتضي جواز الجمع على الترتيب أي بين الظهر و العصر و بين المغرب و العشاء مطلقا.

و سئل عن الصادق عليه السّلام عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر فقال: مع طلوع الفجر

ص: 260

إنّ اللّه يقول: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» يعني صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل و النهار. و معنى الفجر انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح، و هذا يدلّ على أنّ التغليس أفضل من التنوير و الفقهاء بيّنوا أنّ السنّة أن يكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في غيرها و لعلّ معنى قوله: «حتّى يعرف الصديق من العدوّ» لا ينافي كون التغليس أفضل من التنوير لطول القراءة فينتهي إلى التنوير؛ لأنّ الإنسان إذا شرع في الصلاة في الظلمة و امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة و تكثيرها زالت الظلمة و ظهر الضوء و حضرت الملائكتان و عرجت و نزلت و شهدت لهم عند اللّه بصلاتهم فيقول اللّه للملائكة:

اشهدوا أنّي قد غفرت لهم. و هذا معنى قوله: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً».

قوله: [وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ الهجود في اللغة النوم، و قال ابن الأعرابيّ:

هجد الرجل إذا نام، و هجد الرجل إذا صلّى من الليل. فعند هذا يكون من الأضداد.

و قيل: الهجود لغة النوم و شرعا لمن قام من النوم إلى الصلاة يقال له: المتهجّد؛ فحينئذ يحمل على إلقاء الهجود عن نفسه للصلاة يقال: رجل متحرّج متأثّم و متحوّب أي ملقي الحرج و الإثم و الحوب عن نفسه.

و قال الحجّاج بن عمر المازنيّ: أ يحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلّى حتّى يصبح أنّه قد تهجّد إنّما تهجّد الصلاة بعد الرقاد ثمّ صلاة اخرى بعد رقده هكذا كانت صلاة رسول اللّه. إذا عرفت هذا فلا يبعد أنّه سمّي تهجّدا لهذا السبب. و قوله: «من» في قوله: «وَ مِنَ اللَّيْلِ» لا بدّ له من متعلّق، و الفاء في قوله: «فَتَهَجَّدْ» لا بد له من معطوف عليه، و التقدير قم: من الليل أي في بعض الليل فتهجّد بالصلاة المشتملة على القرآن.

و معنى النافلة زيادة على الأصل.

و اختلفوا بأنّ صلاة الليل هل كانت واجبة على النبيّ أم لا؟

في التهذيب عن الصادق عليه السّلام فقال: فريضة على رسول اللّه.

و في الخصال فيما أوصى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا: يا عليّ ثلاث فرحات للمؤمن في الدنيا: لقاء الإخوان و الإفطار من الصيام و التهجّد في آخر الليل. و في العلل عن

ص: 261

الصادق عليه السّلام: عليكم بصلاة الليل فإنّها سنّة نبيّكم و دأب الصالحين قبلكم، و مطردة الداء من أجسادكم.

و عن السجّاد عليه السّلام أنّه سئل ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجها؟

قال: لأنّهم خلوا باللّه فكساهم اللّه من نوره.

و بالجملة في أخبارنا أنّ اللّه أوجب على نبيّه صلاة الليل له نافلة و لأمّته غير واجبة، و لهم كفّارة و فضيلة؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن له ذنب حتّى تكون له كفّارة بل زيادة الدرجات و لأمّته كفّارة الذنوب. و وجوب صلاة الليل عليه صلّى اللّه عليه و آله من خصائصه من الخلق و تبيّن من قوله: «نافِلَةً لَكَ» أنّ وجوب التهجّد مخصوص به، و وجوب الصلوات الخمس به و بامّته لتقييد الأمر بالتهجّد بهذا القيد و إلّا لم يكن لهذا القيد فائدة في الكلام.

ثمّ قال: [عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً] قال أهل المعاني «عسى» كلمة من اللّه واجب لأنّها يفيد الإطماع و من أطمع إنسانا ثمّ حرّمه كان عارا. و في معنى المقام قيل: إنّه الشفاعة. قال المفسّرون: على أنّه مقام الشفاعة كما قال صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية:

هو المقام الّذي أشفع لأمّتي فيه، و قالوا: إنّ الحمد إنّما يكون على الإنعام و هذه الشفاعة أنعم اللّه رسوله فحمدوه على الإنعام. و ممّا يؤكّد هذا المعنى الدعاء: و ابعثه المقام المحمود الّذي يغطبه به الأوّلون و الآخرون، و اتّفقوا على أنّ المراد منه الشفاعة، و قيل- و القائل حذيفة-: يجمع الناس في صعيد فلا تتكلّم نفس؛ فأوّل مدعوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيقول صلّى اللّه عليه و آله:

لبّيك و سعديك و الشرّ ليس إليك، و المهديّ من هديت و عبدك بين يديك و بك و إليك لا ملجأ و لا منجا منك إلّا إليك تباركت و تعاليت سبحانك ربّ البيت؛ فهذا هو المراد من المقام.

و في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يذكر فيه أهل المحشر: ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو المقام المحمود؛ فيثني على اللّه بما لم يثن عليه أحد قبله، ثمّ يثني على كلّ مؤمن و مؤمنة يبدأ صلّى اللّه عليه و آله بالصدّيقين و الشهداء ثمّ بالصالحين فيحمد أهل السماوات و أهل الأرض فذلك قوله عزّ و جلّ: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ» فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم حظّ و نصيب، و ويل لمن لم يكن له حظّ و نصيب.

ص: 262

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هو المقام الّذي أشفع لأمّتي، قال: و قال صلّى اللّه عليه و آله:

إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امّتي فيشفّعني اللّه فيهم و اللّه لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيّتي.

و عنه عليه السّلام أنّه سئل عن شفاعة النبيّ يوم القيامة فقال: يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون انطلق بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربّنا، فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح؛ فيأتون نوحا فيردّهم إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول: عليكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، فيعرضون أنفسهم عليه فيقول: انطلقوا.

فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرحمن و يخرّ ساجدا، فيمكث ما شاء اللّه فيقول:

ارفع رأسك و اشفع تشفّع، و سل تعط، و ذلك قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» و هو المقام الّذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع.

قوله تعالى: [وَ قُلْ يا محمّد [رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال صدق [وَ أَخْرِجْنِي منه إخراج [صِدْقٍ أي أعنّي على الوحي و الرسالة.

و قيل: معناه أدخلني المدينة و أخرجني منها إلى مكّة للفتح. و قيل: إنّه امر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر أو خرج من أمر. و قيل: أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق و أخرجني منه عند البعث مخرج صدق ما يحمد عاقبته. و قيل: أدخلني في الصلاة مع الصدق و الإخلاص و أخرجني مع الإخلاص و القبول.

[وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً] أي اجعل لي عزّا أمتنع به ممّن يحاول صدّي عن إقامة أمرك أو حجّة على أن أتقوّى بها على من عاداني فيك أقهر بها العصاة فنصر صلّى اللّه عليه و آله بالرعب حتّى خافه العدوّ على مسيرة شهر.

[وَ قُلْ يا محمّد [جاءَ الْحَقُ و هو الإسلام [وَ زَهَقَ الْباطِلُ و هو الكفر و الشرك.

و قيل: الحقّ القرآن و الباطل الشيطان. روي عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: دخل النبيّ مكّة و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما فجعل يطعنها و يقول: جاء الحقّ و زهق الباطل،

ص: 263

فجعل الصنم ينكبّ لوجهه حين يقرأ صلّى اللّه عليه و آله هذه الآية، و يقولون أهل مكّة: ما رأينا رجلا أسحر من محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 82 الى 84]

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)

المعنى: اعلم أنّ «مِنَ» في الآية للجنس لا للتبعيض أي [وَ نُنَزِّلُ مِنَ هذا الجنس من الكلام الّذي هو القرآن [ما هُوَ شِفاءٌ] من الأمراض الروحانيّة و العقائد الفاسدة و الأخلاق المذمومة؛ لأنّ أشدّ المفاسد فساد العقائد الفاسدة في الإلهيّات و النبوّة و البعث، و القرآن مشتمل على رفع هذه المفاسد بالدلائل الواضحة و يدفع العيوب الباطنة فكان شفاء من هذا النوع من المرض.

و أمّا كونه شفاء من الأمراض الجسمانيّة فلأنّ التبرّك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض و اعترف الجمهور من الفلاسفة و أصحاب الطلسمات بأنّ لقراءة الرقيّ المجهولة و العزائم الّتي لا يفهم منها شي ء آثار عظيمة في تحصيل المنافع و دفع المضارّ فلأن تكون القراءة من القرآن سببا لحصول المنافع و دفع المضارّ كان أولى، على أن وردت أخبار في بعض الآيات لأمور، و يؤيّد هذا المعنى ما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه.

و أمّا كونه رحمة للمؤمنين و نعمة لهم لأنّهم المنتفعون من القرآن، و لكنّ الظالمين لا يزدادون عنده إلّا الخسار و العقاب لكفرهم به و لعلّ المعنى أنّ القرآن يظهر ما هم فيه من الكيد و المكر فيفتضحون بذلك.

قوله: [وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ و كثرت نعمته [أَعْرَضَ عن ذكرنا و ولّى و بعد بنفسه و جانبه عن القيام بحقوق إنعامنا و شكرنا و تباعد عنّا عن الشكر و الدعاء و تكبّر [وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ] و أسباب المحنة و أصابه الفقر لم يصبر و يكون قنوطا و مأيوسا من رجاء

ص: 264

الفرج بخلاف المؤمن فإنّه يرجو الفرج و الروح على هذا، فيكون المراد بالآية خاصّا و إن كان اللفظ عامّا.

[قُلْ يا محمّد لهم: [كُلٌّ يَعْمَلُ على طبيعته و طريقته الّتي تخلّق بها من المؤمن و الكافر حسب عادته و لهذا قال: [فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا] أي يعلم أيّ الفريقين على الهدى و أيّهما على الضلالة. و قال بعض أرباب اللسان: هذه الآية أرجى آية في كتاب اللّه؛ لأنّ الأليق بكرمه العفو عن عبادة فهو يعمل به.

[سورة الإسراء (17): الآيات 85 الى 89]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

اختلف في الروح المسئول عنه قيل: إنّهم سألوا عن الروح الّذي في بدن الإنسان و هو سبب الحياة ما هو؟ و السائلين هم اليهود. و قيل: إنّهم سألوا عن قدمها و حدوثها أ هي مخلوقة محدثة أم قديمة؟ و قيل: سألوا عن جبرئيل أو عن ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكلّ وجه سبعون ألف لسان يسبّح اللّه بجميع ذلك على ما روي عن عليّ عليه السّلام، أو عيسى فإنّه سمّي بالروح. و قيل: سألوا عن الروح الّذي هو القرآن كيف يتلقّن منه بالملك؟ و كيف صار نظمه و ترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب و الأشعار، و قد سمّى اللّه تعالى القرآن روحا في قوله: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (1) فقال سبحانه: [قُلِ يا محمّد: إنّ [الروح الّذي هو القرآن [مِنْ أَمْرِ رَبِّي أنزله عليّ دلالة على نبوّتي و ليس من فعل المخلوقين و لا ممّا يدخل في إمكانهم الإتيان بمثله كالخطب و الأشعار الّتي يأتون بها فعلى هذا القول فقد وقع الجواب موقعه.

و أمّا على معنى سؤالهم من حدوث الروح أم قدمه أيضا فقد وقع الجواب أيضا موقعه

ص: 265


1- الشورى: 52.

فقال: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» أي من فعله و خلقه أي حادث و ليس بقديم، و معنى الأمر الفعل و لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال: «وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» (1) و أمّا على كون سؤالهم عن ماهيّة الروح الّذي تتعلّق الحياة بها و هي سارية في البدن فقد عدل عن جوابهم لعلمه بعدم فهمهم هذا الأمر، و أدعى إلى الصلاح لأنّهم لا يستفيدون من الجواب شيئا فكلّمهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم فقال: من أمر «كن» و تعلّق القدرة بإيجادها.

و بالجملة اختلف العلماء في ماهيّة الروح فقيل: إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان و هو مذهب أكثر المتكلّمين، و اختاره الأجلّ المرتضى قدّس سرّه.

و قيل: جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة في كلّ جزء منه حياة عن عليّ بن عيسى، قال:

فلكلّ حيوان روح و بدن إلّا أنّ فيهم من الأغلب عليه الروح و منهم من الأغلب عليه البدن.

و قيل: إنّ الروح عرض، ثمّ اختلف فيه فقيل: هو الحياة الّتي يتهيّأ به المحلّ لوجود القدرة و العلم و الاختيار، و هو مذهب الشيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان و البلخيّ و المعتزلة البغداديّة.

و قال بعض العلماء: إنّ اللّه خلق الروح من ستّة أشياء من جوهر النور و الطيب و البقاء و الحياة و العلم و العلوّ أ لا ترى أنّه مادام في الجسد كان نورانيّا يبصر بالعينين و يسمع بالأذنين و يكون طيّبا فإذا خرج عن الجسد نتن الجسد، و يكون باقيا فإذا فارقه الروح بلى و فنى، و يكون حيّا و بخروجه يصير ميّتا، و يكون عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا، و يكون علويّا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله في صفة الشهداء: «بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (2).

قوله: [وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] قيل: هو خطاب للنبيّ و غيره أي ما أوتيتم العلم، المنصوص عليه شي ء يسير بالنسبة إلى غير المنصوص عليه؛ فإنّ معلومات اللّه لا نهاية لها. و قيل: الخطاب لليهود الّذين سألوا عن الروح فقالت اليهود عند ذلك: قد أعطانا

ص: 266


1- هود: 98.
2- آل عمران: 169.

اللّه التوراة؛ فقال صلّى اللّه عليه و آله: التوراة في علم اللّه قليل.

و اعلم أنّ للناس في حقيقة الإنسان مذاهب فجمهور المتكلّمين يقولون: إنّ الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة و عن هذا الجسم المحسوس، و يقولون: إنّ الإنسان يحتاج تعريفه إلى ذكر حدّ أو رسم. و بعض أنكروا هذا القول، و يقولون: إنّ العلم الضروريّ يحكم بأنّ هاهنا شيئا غير الإنسان بقوله: أنا، و علمت، و سمعت، و فرحت، و غضبت فالمشار إليه بقوله: أنا إمّا جسم أو عرض أو مجموع الجسم و العرض أو شي ء مغاير للجسم و العرض.

و الّذي يدلّ على أنّه لا يمكن أن يكون الإنسان هو هذا الجسم المحسوس وجوه:

الوجه الاول: أنّ العلم البديهيّ حاصل بأنّ أجزاء هذه الجثّة متبدّلة بالزيادة و النقصان تارة بحسب النموّ و الذبول و تارة بحسب السمن و الهزال، و المتبدّل المتغيّر غير الثابت الباقي.

الثاني أنّ الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر نحو أمر معيّن مخصوص فإنّه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه و أعضائه و أبعاضه مجموعها و مفصّلها و هو مع ذلك غير غافل عن نفسه المعيّنة بدليل أنّه في تلك الحالة قد يقول: غضبت و اشتهيت و أبصرت، و تاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه و غافل عن جملة بدنه و عن كلّ من أعضائه و المعلوم غير ما هو غير معلوم فالإنسان يجب أن يكون مغايرا لجملة هذا البدن.

الوجه الثالث أنّ الإنسان قد يكون حيّا حال ما يكون البدن ميّتا فوجب كون الإنسان مغايرا لهذا البدن؛ قال اللّه: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (1) فهذا النصّ صريح في أنّ أولئك المقتولين أحياء و الحسّ يدلّ على أنّ هذا الجسد ميّت و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنبياء اللّه لا يموتون و لكن ينقلون من دار إلى دار. و كذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله: من مات فقد قامت قيامته. و كلّ هذه النصوص

ص: 267


1- آل عمران: 169.

تدلّ على أنّ الإنسان يبقى بعد موت الجسد، و إذا ثبت أنّ الإنسان حيّ و كان الجسد ميّتا لزم أنّ الإنسان شي ء غير هذا الجسد، و قوله صلّى اللّه عليه و آله في خطبة طويلة له: «حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش، و يقول: يا أهلي و يا ولدي جمعت المال من حلّه و غير حلّه» و معلوم أنّ الّذي كان الأهل أهلا له ليس إلّا ذلك الإنسان و هذا الأمر في وقت كان الجسد ميّتا محمولا و ذلك الإنسان حيّا باقيا.

الوجه الرابع أنّ الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإنّ ذلك الإنسان يجد من قلبه و عقله أنّه هو عين ذلك الإنسان و لم يقع في ذلك الإنسان تفاوت؛ حتّى أنّه يقول: أنا ذلك الإنسان الّذي كنت موجودا قبل ذلك إلّا أنّهم قطعوا يدي و رجلي، و ذلك برهان يقينيّ على أنّ ذلك الإنسان شي ء مغاير لهذه الأعضاء و ذلك يبطل قول من يقول: الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة، و أنت إذا تكلّمت مع زيد و قلت له: افعل كذا و لا تفعل كذا، فالمخاطب و المأمور و المنهيّ ليس هو جبهة زيد و لا أنفه و لا عينه و المأمور شي ء مغاير لهذا البدن.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: المأمور جملة هذا البدن لا شي ء من أعضائه؟

قلنا: توجّه التكليف على الجملة إنّما يصحّ لو كانت الجملة فاهمة عالمة؛ فلو كانت الجملة فإمّا أن يقوم بمجموع البدن علم واحدأ و يقوم بكلّ واحد من الأجزاء علم على حدة، و الأوّل يقتضي قيام العرض بالمحالّ الكثيرة و هو محال. و الثاني يقتضي أن يكون كلّ واحد من أجزاء البدن عالما مدركا على سبيل الاستقلال و العلم الضروريّ يحكم بأنّ الجزء المعيّن من البدن ليس فاهما عالما على سبيل الاستقلال فيسقط السؤال.

قوله: [وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لمّا بيّن سبحانه في الآية الاولى أنّه ما آتاهم من العلم إلّا قليلا بيّن في هذه الآية أنّه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل لقدر عليه أي إنّي أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعته غيرك لكن دبّرت لك بالرحمة فأعطيتك ما تحتاج إليه من العلم و منعت ما لا تحتاج إليه، و أثبت القرآن في قلبك و قلوب المؤمنين و لو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك و صدر امّتك حتّى لا يوجد له أثر [ثمّ لا تجد له حفيظا يحفظه عليك و يحفظ ذكره على قلبك.

ص: 268

و في هذه الآية دلالة على أنّ السؤال عن الروح وقع عن القرآن.

و احتجّ القائلون بحدوث القرآن و أنّه مخلوق و ليس بقديم قالوا: و الّذي يقدر على إزالته و الذهاب به يستحيل أن يكون قديما.

قوله: [إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ على الاستثناء المنقطع يعني لكن رحمة ربّك تركته لك و ما ذهب به و هذه منّة من اللّه عليه [إِنَّ فَضْلَهُ و امتنانه بسبب إبقاء القرآن و العلم [عَلَيْكَ كَبِيراً] بسبب إنزال القرآن عليك و جعلك سيّد ولد آدم و ختم بك النبيّين و أعطاك المقام المحمود.

قوله تعالى: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ قل يا محمّد لهؤلاء الكفّار: لئن اجتمعت الإنس و الجنّ متعاونين متعاضدين [عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ و جامعيّته وجودة المعاني و الخلوّ من التناقض، و كونه من الطبقة العليا [لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ معينا مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه، و للناس فيه قولان:

منهم من قال: القرآن في نفسه معجز. و منهم من قال: إنّه ليس في نفسه معجزا إلّا أنّه تعالى لمّا صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته مع أنّ تلك الدواعي كانت قويّة فكانت هذه الصرفة و المنع معجزة.

و البيان في هذه المسألة: أنّ القرآن إمّا في نفسه يكون معجزا أو لا يكون؛ فإن كان معجزا فقد حصل المطلوب و إن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته و كانت الدواعي متوفّرة على الإتيان بهذه المعارضة و ما كان لهم عنها صارف و مانع، و على هذا التقدير فإنّ الإتيان بمعارضته عندهم واجب فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضا للعادة فيكون مع التحدّي معجزا فثبت الإعجاز.

و في هذه الآية أيضا دلالة على أنّ السؤال بالروح وقع عن القرآن لأنّه من تمام الآية و من تمام ما أمر اللّه نبيّه أن يجيبهم.

[وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ أي و لقد أخبرناهم و بيّنّا لهم في هذا القرآن من كلّ ما يحتاجون إليه في دينهم و دنياهم ليتفكّروا فيها [فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ من القبول و زادوا جحودا للحقّ كأنّه قيل: فلم يرضوا [إِلَّا كُفُوراً] لأنّ لفظ «أبى» معناه النفي.

ص: 269

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 96]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)

قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ جماعة من قريش و هم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و أبو سفيان بن الحرب و النضر بن الحارث و الأسود بن المطّلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن مغيرة و أبو جهل بن هشام و عبد اللّه بن هشام و عبد اللّه بن اميّة و اميّة بن خلف و العاص بن الوائل و بنيه و منبّه ابنا الحجّاج و أبو البحتريّ بن هشام اجتمعوا عند الكعبة و قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكلّموه و خاصموه؛ فبعثوا إليه أنّ أشراف قريش قومك قد اجتمعوا لك، فبادر إليهم ظنّا منه صلّى اللّه عليه و آله أنّهم بدا لهم في أمره و كان حريصا على رشدهم فجلس إليهم فقالوا: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله إنّا دعوناك لنعذر إليك فلا نعلم قوما أدخل على قومه ما أدخلت على قومك: شتمت الآلهة و عبت الدين و سفّهت الأحلام و فرّقت الجماعة فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك و إن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا و إن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطبّاء. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ليس شي ء من ذلك بل بعثني اللّه إليكم رسولا و أنزل كتابا فإن قبلتم ما جئت به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة و إن تردّوه أصبر حتّى يحكم بيننا. قالوا: فإذن بلدتنا مكّة ضيّقة فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال و يجري لنا أنهارا كأنهار الشام و العراق و أن يحيي و يبعث من مضى و ليكن فيهم قصيّ فإنّه شيخ صدوق لنسألهم عمّا تقول أ حقّ أم باطل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما بهذا بعثت.

قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكا يصدّقك و يجعل لنا جنّات و كنوزا و قصورا من ذهب. فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما بهذا بعثت و قد جئت بما بعثني اللّه به فإن قبلتم و إلّا فهو يحكم بيني و بينكم. قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت إنّ ربّك إن شاء فعل ذلك. قال:

ص: 270

ذاك إلى اللّه إن شاء فعل. و قال قائل منهم: لا نؤمن لك حتّى تأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قام معه عبد اللّه بن اميّة المخزوميّ ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطّلب فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل، ثمّ سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به فلم تفعل فو اللّه لا أؤمن بك أبدا حتّى تتّخذ سلّما في السماء و ترقى فيه و أنا أنظر و يأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك و كتابا يشهد لك. و قال أبو جهل بن هشام المخزوميّ: إنّه أبى إلّا سبّ الآلهة و شتم الآباء و أنا أعاهد اللّه لأحملن حجرا فإذا سجد ضربت رأسه فانصرف رسول اللّه حزينا لما رأى من قومه، فنزلت الآية.

المعنى: لمّا بيّن إعجاز القرآن عقّب البيان بأنّهم أبوا إلّا الكفر و الطغيان و اقترحوا من الآيات ما ليس لهم ذلك و قالوا: [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ و نصدّقك [حَتَّى تشقّق [لَنا] من أرض مكّة علينا ينبع منه الماء في وسط مكّة [أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ] تجنّها و تسترها الأشجار [مِنْ نَخِيلٍ و أعناب [فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ] من الماء وسطها تشقيقا حتّى يجري الماء تحت الأشجار [أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ] علينا قطعا قد تركّب بعضها على بعض.

و قوله: [كَما زَعَمْتَ أي كما كنت تخوّفنا من انشقاق السماء و انفطارها بزعمك [أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ] قبيلة قبيلة أو متقابلين حتّى نشاهدهم و يشهدون بأنك نبيّ و دعوتك حقّ و هذا يدلّ على أنّ القوم كانوا مشبّهة مع شركهم [أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ من ذهب و نقوش أو تصعد [فِي السَّماءِ] و إذا صعدت لم نصدّقك [حَتَّى تُنَزِّلَ على كلّ واحد منّا [كِتاباً] من اللّه شاهدا بصحّة نبوّتك [نَقْرَؤُهُ و هو مثل قوله: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» (1).

[قُلْ يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله تنزيها للّه من كلّ قبيح و براءة من كلّ سوء، لأنّهم لمّا قالوا:

تأتي باللّه أو ترقى في السماء إلى عند اللّه لاعتقادهم أنّ اللّه جسم قال: قل: [سُبْحانَ رَبِّي عن كونه بصفة الأجسام و تعظيما له و طيّبا عن أن يحكم عليه عبيده حتّى يفعل المعجزات باقتراحاتكم و يجوز عليه المقابلة و النزول [هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا] أي هذه الأشياء

ص: 271


1- المدثر: 52.

ليس في طاقة البشر أن يأتي بها فلا أقدر بنفسي أن آتي بها كما لم يقدر من كان قبلي من الرسل فلا تطالبوني بما لا يطالب به البشر.

قوله: [وَ ما مَنَعَ النَّاسَ بيان الآية أنّ القوم استبعدوا أن يكون الرسول من جنس البشر بل كانوا يقولون: إنّ اللّه لو أرسل رسولا فينبغي أن يكون من الملائكة، فأجاب عن قولهم: و ما يمنعهم أن يؤمنوا بمن أرسلنا من البشر إذ معه الهدى و المعجزة، و المعجزة سواء أظهرت على يد البشر أو على يد الملك لا بدّ و أن يصدّقوا و وجب الإقرار برسالته؟ فهذا القول منهم تحكّم فاسد.

و الجواب الثاني عن استبعادهم و هو أنّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة لكان من الواجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأنّ الجنس إلى الجنس أميل و كذلك لو كانوا بشرا لكان رسولهم بشرا.

ثمّ بعد نقض شبهاتهم هدّدهم سبحانه بقوله: [قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً]* في صدقي و ادّعائي و حاكم بيني و بينكم [إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً] أخبر و أبصر بظواهرهم و بواطنهم و يعلم أنّهم إنّما يوردون هذه الشبهات لمحض الحسد و العناد و حبّ الدنيا و الاستنكاف عن الانقياد للحقّ. و قيل: معنى الآية أنّ العرب قالوا: كنّا ساكنين مطمئنّين فجاء محمّد فأزعجنا و شوّش علينا أمرنا. فبيّن سبحانه قل لهم: لو كانوا ملائكة مطمئنّين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم فكذلك أهل الأرض لا بدّ و أن يرسل إليهم رسولا منهم للهداية و إنّهم أحوج إلى الرسول من الملائكة.

و هاهنا سؤال: إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبيّ ملكا ليس من جنسه فجاز أن يكون الرسول إلى الناس أيضا ملكا ليس من جنسهم.

فالجواب أنّ النبيّ و صاحب الرسالة و المعجزة قد اختير من بينهم للنبوّة فصارت حاله مقاربة حال الملك و ليس كذلك غيره من الناس و يجوز له أن يرى الملائكة كما يرى بعضهم بعضا بخلاف الامّة و له مزيّة على الامّة و اختصاصات دون غيره. و أيضا فإنّ النبيّ بنفسه يحتاج إلى معجزة يعرف بها رسالة نفسه كما احتاجت الامّة إلى معجزة فجعل اللّه موجب يقينه و معجزة نفسه رؤيته للملك.

ص: 272

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 97 الى 100]

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)

لمّا أجاب سبحانه عن شبهاتهم و اقتراحاتهم و أردفها بالوعيد الإجماليّ و هو قوله:

«إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ذكر في هذه الآية الوعيد الشديد على سبيل التفصيل بقوله: [وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ و الأشاعرة فسّروا الآية بسبق حكم اللّه عليهم بالهداية و الضلال تعالى اللّه عن هذه النسبة و إنّما المعنى و المراد: من يحكم اللّه له بسبب قبوله الإيمان و إطاعته أمره على الحقيقة [فَهُوَ الْمُهْتَدِ] و من يحكم اللّه عليه بسبب جحوده و إنكاره ليس له وليّ و لا ناصر. و المعتزلة فسّروا الإضلال و الضلال في مطلق أمثال هذه الآيات الإضلال عن طريق الجنّة و على منع الألطاف لعدم الاستحقاق و على التخلية و عدم التعرّض بالمنع عن الكفر كما هو الحقّ في مذهب أهل الحقّ و العدليّة.

قوله: [وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون على وجوههم في النار، أو المعنى يمشون حقيقة من وجوههم.

روى أبو هريرة أنّه قيل: يا رسول اللّه كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إنّ الّذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم [عُمْياً] عمّا يسرّهم [وَ بُكْماً] لا ينطقون بحجّة تنفعهم [وَ صُمًّا] عمّا يمتّعهم كأنّهم عدموا هذه الجوارح لأنّهم لا يسمعون و لا يرون و لا يتكلّمون لأنّ اللّه يقول: «وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ» (1) و قال: «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً» (2) و قال: «دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» (3) و قيل: على الحقيقة يحشرون على هذه

ص: 273


1- الكهف: 54.
2- الفرقان: 12.
3- الفرقان: 13.

الصفة عميا كما عموا عن الحقّ في الدنيا، بكما كما سكتوا عن كلمة الإخلاص و الحقّ، صمّا لتركهم سماعهم القرآن و إصغائهم الباطل. و لا ينافي الأمرين لأنّ مواقف القيامة كثيرة.

[مَأْواهُمْ و مستقرّهم [جَهَنَّمُ كُلَّما] سكن التهابا [زِدْناهُمْ اشتعالا فيكون كذلك دائما سرمدا.

[ذلِكَ الّذي تقدّم ذكره من العذاب [جَزاؤُهُمْ استحقّوه [بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا] و جحدوا و كذّبوا بآيات اللّه، و من تكذيبهم أنّهم قالوا: إذا صرنا مترضرضين مثل هذا التراب نبعث و نحيى ثانيا؟ ليس الأمر كذلك من مات فات.

[أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و يعلموا [أَنَّ اللَّهَ الَّذِي يقدر على [خَلَقَ ما هو أعظم و هو [السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يخلقهم ثانيا بعد الفناء. و عبّر بالمثل أي الإعادة مثل الابتداء و الإعادة أسهل و أهون من الإنشاء، و إذا كان قادرا على أمثالهم كان قادرا على إعادتهم بأعيانهم إذ البنية و المادّة ليس شرطا في القدرة. و أراد بمثلهم إيّاهم عينا؛ لأنّ مثل الشي ء مساوله في جهاته و يعبّر بالمثل عن الشي ء نفسه يقال: مثلك لا يفعل كذا أي أنت لا تفعل كذا.

ثمّ قال: [وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي جعل لإعادتهم وقتا لا شكّ في وقوعه كائن لا محالة، أو جعل لهم أجلا يعيشون في الأجل ثمّ يخترمون عنده [فَأَبَى الظَّالِمُونَ لأنفسهم بفعل المعاصي [إِلَّا] جحودا بآيات اللّه و نعمه.

ثمّ قال: [قُلْ لهم يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله: [لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ أرزاق اللّه و ملكتم مقدورات نعمة [رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ عن البذل و الإسخاء خشية الفقر و الفاقة [وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً] شحيحا بخيلا، و لمّا كان الأكثر في طباعهم البخل جاز الإطلاق و لو أن يكون بعضهم أجوادا كرماء.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 104]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

ص: 274

المقصود من هذا الكلام الجواب عن اقتراحاتهم عن قولهم: «لن نؤمن لك حتّى تأتينا بهذه المعجزات الّتي اقترحناها» فجاوبهم سبحانه بأنّا [آتَيْنا مُوسى معجزات مساوية لما طلبتموها بل أعظم منها؛ فلو حصل في علمنا أنّها مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حقّ موسى. و قد ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السّلام منها: إزالة العقدة من لسانه و ذهبت العجمة و صار فصيحا، و انقلاب العصا ثعبانا، و تلقّف الحيّة حبالهم و عصيّهم مع كثرتها، و اليد البيضاء، و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم، و شقّ البحر و الحجر و إظلال الجبل و إنزال المنّ و السلوى عليه و على قومه، و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات، و الطمس على أموالهم من الأطعمة و الدقيق و الدراهم و الدنانير.

روي أنّ عمر بن عبد العزيز سأل محمّد بن كعب عن الآيات لموسى؛ فقال: منها حلّ عقدة اللسان و الطمس ثمّ قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور و جوز مكسور و فول و حمّص و عدس كلّها حجارة. و تخصيص التسعة بالذكر لا يقدح ثبوت الزائد عليه.

و قد قيل في الآيات التسع: الأحكام التسع، كما روى صفوان بن غسّال أنّه قال:

إنّ يهوديّا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبيّ و سألاه عنها فقال صلّى اللّه عليه و آله: هنّ أن لا تشركوا باللّه شيئا و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا و لا تسحروا و لا تأكلوا الربى و لا تقذفوا المحصنة و لا تولّوا الفرار يوم الزحف، و عليكم خاصّة اليهود أن لا تعتدوا في السبت. فقام اليهوديّان فقبّلا يديه و رجليه و قالوا: نشهد أنّك نبيّ و لو لا نخاف القتل لاتّبعناك.

قوله: [فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ و المراد من الأمر عن هذا السؤال ليس للاستفادة من العلم بالآيات و إنّما المقصود أن يظهر لعامّة اليهود صدق ما ذكره الرسول فالسؤال سؤال استشهاد و قرئ «فسأل» بصيغة الماضي. روي عن ابن عبّاس أنّه قرأ فسأل بني إسرائيل أي فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أن يرسلهم معه.

فقال له فرعون لمّا جاءه موسى: [إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً] أي ساحرا و وضع المفعول موضع الفاعل كما يقال: مشئوم و ميمون في معنى شائم و يامن. و قيل: معناه أنّه سحر بك و أنت مخدوع فقال له موسى: [لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون أنّه [ما أَنْزَلَ هذه الآيات

ص: 275

[إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الّذي خلقهنّ أنزلها [بَصائِرَ] و حججا و براهين للناس يبصرون بها امور دينهم، و أدلّة على نبوّتي لأنّك تعلم أنّها ليست من السحر. و روي أنّ عليّا عليه السّلام قال: إنّ الضمير في «علمت» للمتكلّم، قال: و اللّه ما علم عدوّ اللّه و لكن موسى هو الّذي علم.

[وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ هالك لكفرك و ينادى لك بالويل و الثبور، و المراد بالظنّ هاهنا الظنّ لا العلم.

[فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي أراد فرعون أن يزعج موسى و من معه من أرض مصر و فلسطين و اردنّ بالنفي عنها، و قيل: أراد بأن يقتلهم [فَأَغْرَقْناهُ و جنوده [جَمِيعاً] بحيث لم ينج منهم أحد و لم يهلك من بني إسرائيل أتباع موسى أحد [و قلنا من بعد] هلاك فرعون و قومه [لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا] أرض مصر و الشام [فَإِذا جاءَ وَعْدُ] الكرّة [الْآخِرَةِ] أو نزول عيسى [جِئْنا بِكُمْ من القبور إلى الموقف الحساب مختلطين التفّ بعضكم ببعض لا تتعارفون و قيل: معناه جميعا أوّلكم و آخركم.

و النظم في الآية أن قوم موم موسى لمّا اقترحوا الآيات و آتيناهم و لم يؤمنوا فعذّبناهم بعذاب الاستئصال فلو نأتي لقومك ما اقترحوا و لم يؤمنوا يجب أن نعذّبهم أيضا و الحكمة لا تقتضي ذلك.

[سورة الإسراء (17): آية 105]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105)

. أي القرآن عليك [أَنْزَلْناهُ بالصواب و يكون أن يعمل به. و يؤمن به و قيل: الضمير في أنزلناه إلى موسى كقوله: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» [وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً] بالجنّة لمن أطاعك و منذرا بالنار لمن عصاك.

قوله تعالى: [سورة الإسراء (17): الآيات 106 الى 111]

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

ص: 276

المعنى ثمّ عطف على «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ» أي و أنزلنا عليك: [قُرْآناً فَرَقْناهُ بالتشديد و التخفيف أي فضّلناه سورا و آيات، أو المعنى فرقنا به الحقّ عن الباطل، أو بعضه خبرا و بعضه أمرا و نهيا و بعضه وعدا و وعيدا فأنزلناه متفرّقا لم ننزله جميعا إذ كان بين أوّله و آخره نيّف و عشرون سنة [لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى تؤدة و تثبّت ليكون أمكن في قلوبهم و يكونوا أقدر على التأمّل فيه و العمل به و لا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك و تقرأه عليهم شيئا فشيئا [وَ نَزَّلْناهُ على حسب الحوائج و وقوع الحوادث، قال ابن عبّاس: لئن أقرأ سورة البقرة و ارتّلها أحبّ إليّ من أقرأ القرآن. و عن عبد اللّه بن مسعود قال: لا تقرءوا القرآن في أقلّ من ثلاث و اقرءوا في سبع.

[قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين: [آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن [أَوْ لا تُؤْمِنُوا] فإنّ إيمانكم ينفعكم و لا ينفع غيركم و ترككم الإيمان يضرّكم و لا يضرّ غيركم [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي الّذين اعطوا علم التوراة من قبل نزول القرآن كعبد اللّه ابن سلام و أمثاله و علموا و عرفوا صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل مبعثه [إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يسقطون على الوجوه ساجدين. و إنّما خصّ الذقن لأنّ من سجد كان أقرب شي ء من جبهته إلى الأرض الذقن. و الذقن مجمع اللحيتين، ثمّ إنّ الإنسان إذا استولى عليه الخوف من اللّه أو الشوق فربّما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشيّ عليه و متى كان كذلك كان خروره على الذقن فقوله: [يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كناية عن غاية ولهه و خوفه و خشيته، و العرب يقول إذا خرّ الرجل و وقع على وجهه: فلان خرّ للذقن، و لا يقال:

خرّ على الذقن.

قوله: [وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا] أي يقولون في سجودهم:

سبحان ربّنا، أي ينزّهونه و يعظّمونه إنّه كان وعد ربّنا حقّا يقينا أي وعد الّذي وعدنا بإرسال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إنزال القرآن حقّ و ثبت. و هذا يدلّ على أنّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأنّ الوعد ببعثة محمّد صلّى اللّه عليه و آله سبق في كتابهم؛ فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد.

ثمّ قال: [وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ و الفائدة في هذا التكرار اختلاف الحالتين و هما خرورهم للجسود و خرورهم حال كونهم باكين عند استماع القرآن

ص: 277

و يدلّ عليه قوله: [وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] و المقصود من بيان الآية تحقير الكفّار و عدم الاعتناء بشأنهم و الاكتراث بإيمانهم و امتناعهم بأنّهم إن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم و هم الموصوفون.

قوله: [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا] المراد الاسم لا المسمّى، و الواو للتخيّر بمعنى ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن سمّوا بهذا الاسم أو بهذا الاسم. و التنوين في «أيّ» عوض عن المضاف إليه أي هذا الاسمين سمّيتم فللمسمّى [الْأَسْماءُ الْحُسْنى و هو ذاته عزّ و جلّ.

و «ما» موصولة كرّرت مع «أيّ» لاختلاف اللفظين تأكيدا كما قالوا: ما رأيت كاللّيلة ليلة، و تقديره: أيّ شي ء و اسم من أسمائه تدعونه به جائز.

و «أو» معناه الإباحة؛ فإنّ أسماءه تنبئ عن صفات حسنة أو أفعال حسنة فأمّا أسماؤه المنبئة عن صفات ذاته فهو القادر العالم الحيّ السميع البصير القديم. و أسماؤه المنبئة عن صفات أفعاله الحسنة فنحو الخالق و الرازق و العدل و المحسن و المجمل و المنعم و الرحمن و الرحيم.

و أمّا ما أنبأ عن المعاني الحسنة فنحو الصمد فإنّه يرجع إلى أفعال عباده و هو أنّهم يصمدونه في الحوائج و نحو المعبود و المشكور. بيّن اللّه في هذه الآية أنّه واحد و إن اختلف أسماؤه و صفاته.

و في الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يفعل القبائح مثل الظلم و غيره لأنّ أسماءه حينئذ لا تكون حسنة فإنّ الأسماء قد تكون مشتقّة من الأفعال فلو فعل الظلم لاشتقّ منه اسم كالظالم كما اشتقّ من العدل العادل.

و احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية فقال: لو كان هو الخالق للظلم يصحّ أن يقال:

يا ظالم، و صدق عليه هذا الاسم و حينئذ يبطل ما ثبت من هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.

و ذكروا في سبب نزول هذه الآية قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو: يا رحمن يا رحيم. فقال المشركون: هذا يزعم أنّ له إلها واحدا و هو يدعو مثنى مثنى، عن ابن عبّاس.

ص: 278

و ثانيها أنّ المشركين قالوا: أمّا الرحيم فنعرفه و أمّا الرحمن فلا نعرف إلّا رحمن اليمامة. و قيل: إنّ اليهود قالوا: إنّ ذكر الرحمن في القرآن قليل و هو في التوراة كثير. و قد شرحنا هذا البيان في سورة الأعراف.

قوله تعالى: [وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها] اختلف في معناه: روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله كان إذا صلّى جهر في صلاته و المشركون يسمعونه فشتموه و آذوه فأمره سبحانه بترك الجهر و كان ذلك بمكّة في أوّل الأمر، روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه. و قيل: إنّ معناه:

لا تجهر بإشاعة صلاتك عند من يؤذيك و لا تخافت بها عند من يلتمسها منك. و قيل: المراد بالصلاة الدعاء و المسألة، لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعيّر بها؛ فالجهر بالدعاء منهيّ عنه و المبالغة في الإسرار غير جائزة و المستحبّ التوسّط و هو أن يسمع نفسه؛ قال ابن مسعود: لم يخافت من أسمع أذنيه. و قيل: معنى [وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا] بأن تجهر بصلاة الليل و تخافت بصلاة النهار. و قيل: معناه لا تجهر جهرا يشتغل به من يصلّي بقربك و لا تخافت بها حتّى لا تسمع نفسك. و قريب من هذا المعنى ما رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه أنّه قال: الجهر بها رفع الصوت شديدا و المخافة ما لم تسمع أذنيك.

[وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً] فيكون الولد هو الشي ء المتولّد من جزء من أجزاء شي ء آخر؛ فكلّ من له ولد فهو مركّب من الأجزاء و المركّب محدث- و اللّه سبحانه قديم- فلا يستحقّ الربوبيّة؛ فهذا المنفيّ من صفة السلوب [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ بدليل التمانع و هذا أيضا من السلوب [وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ و ناصر لأنّه حينئذ محتاج إلى الغير و لا يستحقّ خصوص الحمد له [وَ كَبِّرْهُ عن النقائص و القبائح فكبّره و نزّهه عنها تنزيها.

و هذه الآية ردّ على اليهود و النصارى حين قالوا: اتّخذ اللّه ولدا. و على مشركي العرب حيث قالوا: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك. و على الصابئين و المجوس حين قالوا:

لو لا أولياء اللّه لذلّ اللّه.

و في كيفيّة تكبير اللّه و تعظيمه اختلاف شديد بين الأشاعرة أي الجبريّة و المعتزلة أي العدليّة فقال: أهل الجبر و السنّة: إنّا نحمد اللّه و نكبّره عن أن يجري في سلطانه شي ء لا على وفق حكمه و إرادته؛ فالكلّ واقع بقضاء اللّه. و قالت المعتزلة: إنّا نكبّر اللّه

ص: 279

عن أن يكون فاعلا لهذه الأمور القبيحة بل نعتقد أنّ حكمته يقتضي التنزيه عنها و عن إرادتها.

قيل: إنّ الأستاذ أبا إسحاق الإسفراينيّ كان جالسا عند الصاحب بن عباد الوزير فدخل القاضي عبد الجبّار بن أحمد الهمدانيّ فلمّا رآه قال: سبحان من تنزّه عن الفحشاء. فقال الأستاذ أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء. أقول:

بداهة العقل يحكم بأنّ قائل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال له: الأستاذ؛ لأنّ قوله ما أقربه إلى الشعوذة! لأنّه سبحانه إذا أراد و خلق الكفر و شاء له القبيح فبما ذا يعاقبه؟

فلو صدر مثل هذا الأمر من عبد أسود لقبّحه جميع أهل الدنيا؛ على أنّ التنزيه و التكبير لا بدّ و أن يكون بصفات مقدّسة عالية من جلاله و لطفه و عدله و أين هذا الأمر من العدل؟ هيهات!

ألقاك في اليمّ مكتوفا و قال لك إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

و كثرة الذكر و التعظيم للّه من خصائص المؤمنين و لهذا شرّفوا بالتشريفات المخصوصة.

تمّت السورة

ص: 280

سورة الكهف

اشارة

مكيّة إلّا آية «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» فإنّها نزلت في المدينة.

عدد آيها مائة و إحدى عشر.

فضلها: ابيّ بن كعب قال: من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من الفتن فإن خرج الدجّال حتّى في تلك الثمانية عصمه اللّه من فتنته و من قرأ الآية الّتي في آخرها و هي «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ» حين يضجع في منامه كان له نور يتلألأ إلى الكعبة حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم من مضجعه فإن كان في مكّة فتلاها كان له نور يتلألأ إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ.

عن سمرة بن جندب قال: من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم يضرّه فتنة الدجّال، و من قرأ السورة كلّها دخل الجنّة.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك حين نزلت عظّمتها ما بين السماوات و الأرض؟ قالوا: بلى. قال صلّى اللّه عليه و آله: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر اللّه له إلى الجمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام و اعطي نورا يبلغ السماء و وقي فتنة الدجّال.

و روى الواقديّ بإسناده عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثمّ أدرك الدجّال لم يضرّه و من حفظ سورة البقرة كانت له نورا يوم القيامة.

و روى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمّد المجرميّ عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة يكون فإن خرج الدجّال عصم منه.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة الجمعة لم يمت إلّا شهيدا أو بعثه اللّه مع الشهداء و وقف يوم القيامة مع الشهداء.

ص: 281

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)

ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)

ختم اللّه سورة بني إسرائيل بالتحميد و بدأ اللّه هذه السورة بالتحميد لاتّصال الجنس بالجنس.

المعنى: يقول اللّه لخلقه: قولوا و اعتقدوا أنّ كلّ [الْحَمْدُ] و حقيقته [لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمّد صلّى اللّه عليه و آله القرآن حال كون القرآن قيّما معتدلا مستقيما لا تناقض فيه. و جعله قيّما لأمور الدين يلزم الرجوع إليه كقيّم الدار الّذي يرجع إليه في أمرها.

و قيل: قيّما أي قائما دائما. يدوم و يثبت إلى يوم القيامة لا ينسخ.

[وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً] و ملتبسا لا يفهم و معوجا لا يستقيم و لم يجعل فيه اختلافا كما قال سبحانه. «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (1) و معنى العوج في الكلام أن يخرج من الصحّة إلى الفساد و من الحقّ إلى الباطل.

[لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ معناه ليخوّف العبد الّذي أنزل عليه الكتاب الناس عذابا شديدا و أنكالا و سطوة من عند اللّه إن لم يؤمنوا [وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ و المصدّقين بآيات اللّه العاملين بالطاعات و المنتهين عن المعاصي [أَنَّ لَهُمْ ثوابا [حَسَناً] في الآخرة على إيمانهم و ذلك الأجر هو الجنّة [ماكِثِينَ فِيهِ و لابثين في ذلك الثواب مؤبّدين لا ينتقلون عنه.

[وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً] أي ليحذر الّذين قالوا: الملائكة بنات اللّه

ص: 282


1- النساء: 81.

و هم قريش أو اليهود و النصارى. و الإنذار في الآية الاولى يعمّ جميع الكفّار و في هذه الآية القائلين باتّخاذ الولد و ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع علم و مأخذ إلّا التقليد لآبائهم الجهلة من غير حجّة.

[كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ قرئ بالرفع على الفاعليّة و بالنصب على التميز، و النصب أبلغ لأنّ فيه معنى التعجّب كأنّه قيل: ما أكبرها كلمة! و معنى التميز أنّك إذا قلت:

كبرت الكلمة أو المقالة، يتوهّم أنّها كبرت كذبا أو جهلا فلمّا قلت: كلمة، ميّزتها من محتملاتها فانتصب على التميز. و وصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسّع و مجاز و إن كانت الكلمة عرضا لا يجوز عليه الدخول و لا الخروج و الحركة و السكون و لكن لمّا كانت الكلمة قد تحفظ و تثبت و تقرأ فجاز وصفها بالخروج، و ذكر الأفواه تأكيدا و تصريحا في القبح [إِنْ يَقُولُونَ أي ما يقولون [إِلَّا كَذِباً] و افتراء على اللّه.

[فَلَعَلَّكَ مهلك [نَفْسَكَ يا محمّد [على آثار] قومك إن لم يصدّقوا [بِهذَا الْحَدِيثِ أي القرآن الّذي انزل عليك تلهّفا و حزنا. و قيل: معنى «عَلى آثارِهِمْ» أي بعد موتهم لشدّة شفقتك عليهم، و هذه معاتبة من اللّه لرسوله على شدّة وجده و كثرة حرصه على إيمان قومه حتّى بلغ ذلك به مبلغا يقرّبه إلى الهلاك. و إطلاق القرآن على الحديث يدلّ على حدوثه و يدلّ على فساد القول بالقدم.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 7 الى 8]

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

ثمّ بيّن سبحانه ابتداء خلقه بالنعم [إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار و الأشجار و أنواع المخلوقات من الحيوان و النبات و الجماد حلية و زينة للأرض و لأهلها لنختبرهم أنّ أيّهم [أَحْسَنُ عَمَلًا] بطاعة اللّه و الأطوع له ليظهر المطيع و العاصي، و إنّا لمخربون الأرض بعد عمارتها و جاعلون ما على الأرض مستويا يابسا لا نبات عليها بلقع.

فتبيّن بهذا التقرير أنّ اللّه سبحانه أراد من الخلق العمل الصالح و على أنّ أفعالهم هي الصادرة من جهتهم و لو لا ذلك لما صحّ الابتلاء، و في ذلك بطلان قول أهل الجبر.

ص: 283

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 9 الى 12]

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

«الكهف» المغارة في الجبل إلّا أنّه واسع فإذا صغر فهو غار، و الرقيم الكتابة و العلامة و النقش للتعرفة.

النزول: عن ابن عبّاس و جماعة: أنّ النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة و قالوا لهما: سلاهم عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفا لهم وصفه و أخبراهم بقوله؛ فإنّهم أهل الكتاب الأوّل و عندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى أتيا المدينة فسألا أحبار اليهود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالا ما قالت قريش فقال لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل و إن لم يخبر فهو رجل متقوّل:

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم فإنّه قد كان لهم حديث عجيب، و سلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبأه؟ و سلوه عن الروح ما هو؟ و في رواية اخرى فإن أخبركم عن الثنتين و لم يخبركم بالروح فهو نبيّ. فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معاشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمّد و قصّا عليهم القصّة، فجاءوا إلى النبيّ فسألوه فقال: أخبركم بما سألتم عنه غدا و لم يستثن فانصرفوا عنه فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث إليه في ذلك وحيا و لا يأتيه جبرئيل، حتّى أرجف أهل مكّة و تكلّموا في ذلك فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يتكلّم أهل مكّة عليه ثمّ جاءه جبرئيل عن اللّه بسورة الكهف و فيها ما سألوه من أمر الفتية و الرجل الطوّاف و أنزل عليه «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية.

و بالجملة قوله: [أَمْ حَسِبْتَ أحسبت [أَنَ قصّة [أَصْحابَ الْكَهْفِ كان أمرا عجيبا [مِنْ آياتِنا] فلا تحسبنّ ذلك فإنّ من كان قادرا على تخليق السماوات و الأرض كيف يستبعدون من قدرته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة أو أكثر في النوم؟ و المراد بالكهف

ص: 284

كهف الجبل الّذي آوى إليه القوم الّذين قصّ اللّه أخبارهم. و اختلف في معنى الرقيم، فقيل: إنّه اسم الوادي الّذي كان فيه الكهف. و قيل: الكهف هو الغار في الجبل، و الرقيم نفس الجبل. و قيل: الرقيم القرية الّتي خرج منها أصحاب الكهف. و قيل: هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصّة أصحاب الكهف ثمّ وضعوه على باب الكهف.

و قيل: جعل ذلك اللوح في خزائن الملوك لأنّه من عجائب الأمور. و قيل: إنّ أصحاب الرقيم هو النفر الثلاثة الّذين دخلوا في الغار فانسدّ عليهم. و قيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في جانب الجبل. و قيل: الرقيم اسم الكلب. «و العجب» مصدر بمعنى المعجوب منهم.

قوله: [إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي اذكر لقومك إذا التجؤوا أولئك الشّباب إلى المغارة الوسيعة و جعلوها مأواهم هربا بدينهم إلى اللّه [فَقالُوا] حين آووا إليه [رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً] أي نعمة ننجو بها عن قومنا و فرّج عنّا ما نزل بنا [وَ هَيِّئْ و أصلح [لَنا مِنْ أَمْرِنا] ما نصيب به الرشد و مخرجا من الغار بسلامة من ديننا و يسّر لنا من أمرنا ما نصل به رضاك. و كان هؤلاء الفتية آمنوا باللّه تعالى و كانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم، و كان اسم الملك دقيانوس و اسم مدينتهم أقسوس و كان ملكهم يعبد الأصنام و يقتل من خالفه. و قيل: إنّه كان مجوسيّا يدعوا إلى دين المجوس و الفتية كانوا على دين المسيح. و قيل: كان الفتية من خواصّ الملك و كان يستر كلّ واحد منهم إيمانه عن صاحبه ثمّ اتّفق أنّهم اجتمعوا و أظهروا أمرهم و هربوا بدينهم إلى الكهف خوفا من الملك. و قيل:

إنّهم كانوا قبل بعث عيسى.

[فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً] أي أجبنا دعاءهم و سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن نفوذ الأصوات إليها سنين كثيرة؛ لأنّ النائم إنّما ينتبه بسماع الصوت. و بيّن سبحانه بهذه العبارة على أنّهم لم يموتوا و كانوا نياما في أمن و راحة، و هذا من فصيح لغات القرآن الّتي لا يمكن أن يترجم بمعنى أحسن من هذا المعنى، و كناية عن الإنامة الثقيلة الشبيهة بالموت من دون الموت. و المفعول في قوله: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ» محذوف أي فضربنا حجابا على آذانهم سنين ذات عدد كثيرة.

ص: 285

[ثُمَّ بَعَثْناهُمْ و أيقظناهم من نومهم [لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً] معناه: ليظهر معلومنا بموجب علمنا و لننظر أيّ الحزبين من المؤمنين و الكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ أمد لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بيتهم. و قيل: المراد بالحزبين لمّا استيقظوا اختلفوا في مقدار لبثهم. و قرئ ليعلم على البناء للمجهول و على هذا التقدير لا يلزم محذور تجدّد العلم.

و النظم في الآية للحثّ على الاقتداء بهم و لبيان أنّه لا يضرّك كفر قومك و اللّه ناصرك و حافظك من أعدائك كما حفظ أصحاب الكهف. و قيل: اتّصل بقوله: «وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ» أي و ينصر المؤمنين كما نصر أصحاب الكهف.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 13 الى 16]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13) وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

شرح سبحانه قصّة أصحاب الكهف أي نتلو عليك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله خبرهم بالصدق و الصحّة.

[إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ] شباب أحداث [آمَنُوا] باللّه [وَ زِدْناهُمْ نصرة في الدين و رغبة في الثواب و الثبات بالألطاف المقوّية لدواعيهم بحسن اختيارهم. و عبّر عنهم بالفتية لأنّ أصل الفتوّة الإيمان باللّه و المراد بالفتوّة بذل الندى و ترك الأذى و الشكوى و اجتناب المحارم و استعمال المكارم.

قوله: [وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قوّينا قلوبهم بالتوفيق و الألطاف حتّى وطّنوا أنفسهم على إظهار الحقّ و الصبر على المشاقّ و مفارقة الوطن [إِذْ قامُوا] بين يدي ملكهم الجبّار العاتي دقيانوس الّذي كان يفتن أهل الإيمان عن دينهم [فَقالُوا] بين يديه [رَبُّنا

ص: 286

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الّذي نعبده [لَنْ نَدْعُوَا] غيره و إن دعونا غيره و عبدنا إلها آخر فقد [قُلْنا] حينئذ قولا مجاوزا للحدّ غاية في البطلان [هؤُلاءِ قَوْمُنَا] و أهل بلدنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها [لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ أي هلّا يأتون هؤلاء الّذين يعبدون غير اللّه بحجّة ظاهرة و دليل على إلهيّة آلهتهم [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] و زعم أنّ له شريكا في العبادة و الإلهيّة.

قوله: [وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ و هذا القول من قول تمليخا و هو رئيس أصحاب الكهف قال لهم أي لأصحابه: و إذا تنحّيتم و اعتزلتم و برأتم عن عبدة الأصنام و عن أصنامهم فإنّكم لن تتركوا عبادة اللّه فأووا و صيروا [إِلَى الْكَهْفِ و اجعلوا مأواكم هناك [يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ من نعمته و يبسط لكم رحمته [وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً] أي يسهّل عليكم ما تخافون من الملك و ظلمه و يأتيكم باليسر و الرفق.

و كلّما ارتفقت به فهو مرفق، و في هذا دلالة على عظم منزلة الهجرة في الدين و على قبح المقام في دار الكفر إذا لا يمكن المقام فيها إلّا بالمتابعة لأهل الكفر.

و إيّاك و مجالسة الجليس السوء الأحمق الفاجر فإنّك تكتسب منه الشرّ و القساوة و عدم المبالات بالمعاصي و قلّة الخوف الّذي هو سوط اللّه و إذا قلّ الخوف كثر المعاصي.

[سورة الكهف (18): الآيات 17 الى 18]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه حالهم في الكهف أي لو رأيتها لترى [الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تميل وقت طلوعها عن كهفهم إلى جهة اليمين [وَ إِذا غَرَبَتْ الشمس أي وقت غروبها تعدل و تجاوز عنهم جهة [الشِّمالِ من الكهف أي لا تدخل كهفهم و تجاوزهم منحرفة عنهم [وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ من الكهف أي في فضاء منه بحيث لا يراهم من كان ببابه و ينالهم نسيم الريح.

و قوله: [ذاتَ الْيَمِينِ و أصله أنّ ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنّها تأنيث «ذو»

ص: 287

في قوله: «رجل ذو مال و امرأة ذات مال» و التقدير كأنّه قيل: «تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ» جهة موصوفة باليمين. و المقصود من هذا البيان أنّ الشمس إذا طلعت منع اللّه ضوء الشمس من الوقوع على أبدانهم حتّى تفسد أبدانهم و إذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف.

و [ذلِكَ الحفظ في هذه المدّة الطويلة [مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالّة على عجائب قدرته و بدائع حكمته، و كان رغبتهم في الإيمان بإعانة اللّه و لطفه مع وجود قدرة دقيانوس الكافر و أصحابه و كذلك قال: [مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ] بحسن إيمانه و اختياره مثل أصحاب الكهف [و من يضلله عن طريق الجنّة و الخير بسبب عدم قبوله الإيمان مثل دقيانوس و أصحابه فلا يوجد له ناصر و مرشد.

[وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ] يعني لو رأيتهم حسبتهم منتبهين و هم في الحقيقة نائمون لأنّهم مفتّحة العيون يتنفّسون كأنّهم يتكلّمون و لا يتكلّمون و ينقلبون أحيانا كما ينقلب اليقظان.

قوله: [وَ نُقَلِّبُهُمْ تارة عن اليمين إلى الشمال و تارة عن الشمال إلي اليمين كما ينقلب النائم؛ لأنّهم لو لم ينقلبوا لأكلتهم الأرض و لبليت ثيابهم لطول مكثهم على جانب واحد.

و قيل: كانوا يقلّبون كلّ عام مرّتين. و قيل: مرّة.

قوله: [وَ كَلْبُهُمْ قال ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: إنّهم هربوا من ملكهم ليلا فمرّوا براع معه كلب فتبعهم الراعي على دينهم و معه كلبه. و قيل: إنّهم مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي لا تخشوا خيانتي فأنا احبّ أولياء اللّه فناموا حتّى أحرسكم. و قيل: كان ذلك الكلب كلب صيدهم أصفر اللون. و قيل: أنمر و اسمه قطمير و مكث معهم ثلاث مائة و تسع سنين بغير طعام و لا شراب و لا نوم و لا قيام.

[باسِطٌ ذِراعَيْهِ كافتراش السبع بالفناء من الكهف أو من الفجوة؛ لأنّ الكفّار خرجوا إلى باب الكهف في طلبهم ثمّ انصرفوا و لو رأوا الكلب على باب الغار لدخلوه.

ص: 288

و لمّا انصرف الكفّار آيسين عنهم و لم يجدوا أحدا سدّوا باب الغار بالحجارة فجاء رجل بماشية إلى باب الغار و أخرج الحجارة و دفعها و اتّخذ لماشيته كنّا عند باب الغار و هم كانوا في فجوة من الغار.

قوله: [لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ يعني لو أشرفت عليهم أيّها الناظر عليهم و رأيتهم في كهفهم لفررت عنهم هربا لاستيحاشك الموضع و لملئ قلبك روعا لأنّ اللّه منعهم بالرعب لئلّا يصل إليهم أحد حتّى يبلغ الكتاب أجله، كما نصر نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالرعب مسيرة شهر أو شهرين. و لا يمتنع أنّ الكفّار لمّا أتوا باب الكهف فزعوا من وحشة المكان حيث جعل اللّه هذه الوحشة في قلوبهم فسدّوا باب الكهف ليهلكوا فيه و جعل سبحانه هذا الأمر لطفا لهم لئلّا ينالهم مكروه من سبع و غيره و ليكونوا محروسين من كلّ سوء.

و قيل: إنّه قد طالت أظفارهم و شعورهم و لذلك يأخذ الرعب منهم. و هذا لا يصحّ لقوله سبحانه: حكاية عنهم «لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: غزوت مع معاوية نحو الروم فمرّوا بالكهف الّذي فيه كان أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم.

فقلت له: ليس هذا لك فقد منع ذلك من هو كان خير منك قال اللّه: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» فقال معاوية: لا أنتهي حتّى أعلم علمهم؛ فبعث رجالا فلمّا دخلوا الكهف أرسل اللّه عليهم ريحا فأحرقتهم.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 19 الى 20]

وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

المعنى: كما فعلنا بهم الأمور العجيبة و حفظناهم تلك المدّة المديدة بعثناهم من تلك الرقدة و أيقظناهم من تلك النومة الّتي أشبهت الموت ليكون بينهم مساءلات و حكايات في اختلاف مدّة لبثهم فينبّهوا بذلك على معرفة صانعهم و يزدادوا يقينا إلى يقينهم.

ص: 289

[قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ في نومكم؟ [قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال المفسّرون:

إنّهم هربوا في الليل و دخلوا الكهف غدوة و بعثهم اللّه آخر النهار فلذلك قالوا: يوما، فلمّا رأوا الشمس قالوا: أو بعض يوم، و كان قد بقيت من النهار بقيّة [قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و هذا القائل تمليخا و هو رئيسهم ردّ علم ذلك إلى اللّه.

[فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ و الورق الدراهم من الفضّة، و كان معهم دراهم عليها صورة الملك الّذي كان في زمانهم [إِلَى الْمَدِينَةِ] أي المدينة الّتي خرجوا منها [فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً] أي أطهر و أحلّ ذبحه. قال ابن عبّاس: لأنّ عامّتهم كانت مجوسا و فيهم شرذمة مؤمنون يحفظون إيمانهم و قيل أطيب طعاما أو أكثر [فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يعني فليأتكم بما ترزقون أكله [وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليدقّق النظر و يتحيّل حتّى لا يطّلع عليه أحد أو يتلطّف في الشراء فلا يماكس البائع و لا ينازعه [وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ و لا يخبر بكم و لا بمكانكم [أَحَداً] من أهل المدينة.

[إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا] و يطّلعوا [عَلَيْكُمْ و بمكانكم يقتلوكم بالرجم و هو من أخبث القتل. أو المعنى: يرجموكم باللسان و يشتموكم أو يردّوكم إلى [مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً] إذا رددتم عن دينكم.

فإن قيل: من اكره على الكفر فأظهره فإنّه يفلح فكيف يصحّ الآية؟ فالجواب:

أنّ «يعيدوكم» دون الإكراه و يمكن أن يكون ذلك الوقت ما كان يجوز التقيّة في إظهار الكفر.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 21 الى 24]

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)

ص: 290

أعثر على غيره أي أعلمه و عثر اطّلع. و دخل الواو في قوله «وَ ثامِنُهُمْ» و لم يدخل في الأوّلين لأنّ هاهنا عطف جملة على جملة و بيانه: أنّ الجملتين الملتبسة إحداهما بالأخرى و هي أن تكون إحداهما غير أجنبيّة مع الاخرى فهو على ضربين: إحداهما أن تعطف بحرف العطف و الآخر أن توصل بها بغير حرف العطف مثل أن تكون إحدى الجملتين صفة و الاخرى حالا أو الثانية تفسير الاولى فما كان من قبيل هذه الجمل المذكورة يؤتى بغير حرف العطف مثل الجملتين الأوليين في الآية فإنّ «رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وصف لثلاثة و كذلك «سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» صفة لخمسة و لا وجه لإدخال حرف العطف لأنّ الصفة تبيّن الموصوف و تخصّصه؛ فلو عطفت لخرجت بالعطف من أن يكون صفة و الصفة هو الموصوف في المعنى و لذلك لا يدخل العطف بين الحال و ذي الحال الّتى تكون تفسيرا لما قبلها و نحو قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» (1). ثمّ قال: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فالمغفرة تفسير الوعد الّذي وعدوا. و بحرف العطف نحو قوله [وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم سبعة و ثامنهم كلبهم. و قيل: إنّ الأصل في المبالغة في العدد السبعة لأنّ جلائل الأمور سبعة سبعة فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدلّ على الاستيناف فقالوا: و ثمانية. و هذه الواو تسمّى واو الثمانية كقوله: «وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (2) لأنّ هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدّمة. و ردّ القفّال هذا القول و الدليل عليه قوله: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ» (3) و لم يذكر الواو في النعت الثامن و لكن على موجب التقرير الّذي قرّرناه من أنّ مثل هذه الجمل يجوز إتيان حرف العطف و تركه ففي الآية من مواضع الّذي اتي بحرف العطف، انتهى.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ المعنى: أي كما أعنّاهم و ربطنا على قلوبهم و قلّبناهم و بعثناهم عن نومهم لما فيها من الحكم و الاعتبار فكذلك أعثرنا و اطّلعنا غيرهم على أحوالهم

ص: 291


1- المائدة: 10.
2- التوبة: 113.
3- الحشر: 24.

فكان الإعثار سببا لحصول العلم للغير.

و السبب في ذلك أنّ الرجل منهم لمّا ذهب إلى السوق ليشتري الطعام و أخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام: هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم و إنّها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدّة طويلة و دهرا داهرا فلعلّك وجدت كنزا، و اختلف الناس فيه و حملوا ذلك الرجل إلى الملك؛ فقال الملك: من أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال: بعت بها أمس شيئا من التمر و خرجنا فرارا من الملك دقيانوس فعرف الملك أنّه ما وجد كنزا و أنّ اللّه بعثه بعد موته.

و لنعيد شطرا من أحوالهم و هو أنّه لمّا هرب أصحاب الكهف على اختلاف عددهم من الملك دقيانوس المجوسيّ و كانوا وزراء الملك قيل: ثلاثة عن يمينه و أربعة عن يساره.

فهربوا بدينهم إلى الكهف. قيل: إنّه استحضر دقيانوس بأمرهم في الكهف بعد مدّة فأمر أن يسدّ عليهم باب الكهف و يدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا و جوعا ليكن كهفهم الّذي اختاروه قبرا لهم، و هو يظنّ أنّهم أيقاظ. ثمّ إنّ الرجلين المؤمنين كتبا شأن الفتية و أنسابهم و أسماءهم و خبرهم في لوح من رصاص و جعلاه في تابوت من نحاس و جعلا التابوت في البنيان الّذي بنيا على باب الكهف حين بنيا و قالا: لعلّ يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا اللوح. ثمّ انقرض أهل ذلك الزمان و خلقت بعدهم قرون و ملوك كثيرة و ملك تلك البلاد ملك صالح يقال له «ندليس» و قيل «بندوسيس» فتحزّب الناس في زمانه أحزابا منهم من يعلم أنّ الساعة حقّ و يؤمن، و منهم من يكذّب؛ فكبر ذلك على الملك الصالح و بكى إلى اللّه و تضرّع و قال: أي ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبيّن بها أنّ البعث حقّ و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها؛ فألقى اللّه في نفس رجل من أهل ذلك البلد الّذي فيه الكهف أن يهدم بنيان الّذي على فم الكهف فيبنى به حظيرة لغنمه و كان راعيا ففعل ذلك و بعث اللّه الفتية من نومهم فأرسلوا أحدهم ليطلب طعاما لهم ففعل؛ فاطّلع الناس على أمرهم من الدراهم القديمة و اتي به الملك الصالح فلمّا بلغه الخبر استحمد اللّه و ركب الملك هو و أهل

ص: 292

مدينته حتّى أتوا الكهف فدلك قوله:

[وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الثواب و العقاب [حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ] كذلك [آتية لا رَيْبَ فِيها] لأنّ من قدر على أن يقيم جماعة تلك المدّة المديدة أحياء ثمّ يوقظهم قدر على أن يميتهم ثمّ يحييهم بعد ذلك.

قوله تعالى: [إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أعثرنا عن هؤلاء حين يتنازعون بينهم أمرهم.

و اختلف في المراد بهذا التنازع فقيل: يتنازعون في صحّة البعث فالقائلون به استدلّوا بهذه الواقعة على صحّة البعث و الحشر.

و قيل: إنّ الملك و قومه لمّا رأوا أصحاب الكهف و وقفوا على أحوالهم عادوا إلى كهفهم فأماتهم اللّه؛ فعند هذا اختلف الناس فقال قوم: إنّهم نيام كالكرّة الاولى. و قال آخرون: الآن ماتوا، فهذا أمر التنازع على هذا القول الثاني.

و القول الثالث في التنازع أنّ بعضهم و هم الكفّار قال: الأولى أن يسدّ باب الكهف لئلّا يدخل عليهم أحد و لا يقف على أحوالهم إنسان و قال آخرون و هم المسلمون: بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد. و هذا القول يدلّ على أنّ القائلين بهذا القول كانوا عارفين بتوحيد اللّه و معترفين بالعبادة.

و القول الرابع أنّهم تنازعوا في قدر مكثهم و عددهم و أسمائهم؛ و ذلك أنّه لمّا دخل الملك عليهم مع الناس سقطوا ميّتين دفعة، فقال الملك: إنّ هذا الأمر عجيب فما ترون؟

فاختلفوا فيما يرون فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا و استروهم في البنيان كالقبر. و قال غيرهم غيره. فقال سبحانه: «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» و يمكن هذا الكلام من كلام المتنازعين لمّا لم يهتدوا إلى حقيقة الأمر قالوا: ربّهم أعلم بهم. و يمكن أن يكون من كلامه سبحانه ردّا للخائضين في حديثهم.

ثمّ [قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي الملك المسلم أو رؤساء البلد [لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً] نعبد اللّه و نستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد فيعبد الناس فيه ببركاتهم.

و روي أنّ أصحاب الكهف لمّا دخل صاحبهم إليهم و أخبرهم بما كانوا عنه غافلين في مدّة

ص: 293

مقامهم سألوا اللّه أن يعيدهم إلى حالتهم الاولى فأعادهم إليها و حال بين من قصدهم و بين الوصول إليهم بأن أضلّهم عن الطريق إلى الكهف فلم يهتدوا إليه.

ثمّ بيّن تنازعهم في عددهم فقال: [سَيَقُولُونَ أي سيقول من المختلفين في عددهم [ثَلاثَةٌ] أي هم ثلاثة [رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ و روي أنّ السيّد و العاقب و أصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجرى ذكر أصحاب الكهف؛ فقال السيّد- و كان يعقوبيّا-: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم أي جاعلهم أربعة كلبهم. و قال العاقب- و كان نسطوريّا-: كانوا [خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ .

و قال المسلمون: كانوا [سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال أكثر المفسّرين: هذا الأخير هو الحقّ و يدلّ عليه وجوه:

الاول أنّ الواو في قوله «وَ ثامِنُهُمْ» هي الواو الّتي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الجملة الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر. و فائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف فكانت هذه الواو دالّة على صدق الّذين قالوا: إنّهم كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم. و يدلّ بالتأكيد على أنّ قول الآخر قول ثابت متقرّر عن ثبات و علم.

الوجه الثاني: أنّه خصّ هذا القول بهذا الحرف الزائد و هو الواو فوجب أن يحصل به فائدة زائدة و هذه الفائدة تخصيص هذا القول بالإثبات و التصحيح.

الوجه الثالث أنّه تعالى أتبع القولين الأوّلين بقوله: «رَجْماً بِالْغَيْبِ» و تخصيص الشي ء بالوصف يدلّ على أنّ الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظنّ و الرجم هذان القولان الأوّلان و أن يكون القول الثالث مخالفا لهما في كونهما رجما بالغيب.

الوجه الرابع أنّه تعالى قال: [قُلْ يا محمّد [رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ و القائل بالقول الأخير كان المسلمون و هم كانوا قليلين فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء المسلمون؛ قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: كانوا سبعة و أسماؤهم تمليخا، مكسلمينا، مسلثينا، و هؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك؛ و كان عن يساره مرنوس، و دبرنوس و سبادنوس، و كان الملك يستيشر هؤلاء الستّة في مهمّاته، و السابع هو الراعي الّذي وافقهم لمّا هربوا من ملكهم و اسم كلبهم قطمير. و كان ابن عبّاس يقول: أنا من

ص: 294

أولئك العدد القليل و كان يقول: إنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم.

قوله تعالى: [فَلا تُمارِ فِيهِمْ أي لا تجادل الخائضين في عددهم و شأنهم [إِلَّا مِراءً ظاهِراً] أي جدالا بحجّة مختصرة من دون خصومة و جدل بيّن، و هو أن تقول لهم:

أثبتهم عددا و خالفكم غيركم و العلم عند اللّه [وَ لا تَسْتَفْتِ في عدد أهل الكهف من أهل الكتاب و من جهتهم [أَحَداً] و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المراد غيره.

[وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا أن تقول: إن شاء اللّه، و هذا معنى الاستثناء [وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الاستثناء أي إذا حلفت مثلا و قلت: و اللّه لأفعلنّ كذا. و لم تستثن فمتى ما ذكرت فاستثن و إن كان قد تذكّرت بعد أربعين صباحا. و في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: للعبد أن يستثن ما بينه و بين أربعين يوما متى ما ذكر.

و أصل القصّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن ثلاث مسائل فقال لهم: تعالوا غدا أجيبكم و لم يستثن فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثمّ أتاه فقال: «وَ لا تَقُولَنَ الآية».

و في الكافي عن الباقر في قول اللّه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (1): إنّ اللّه لمّا قال لآدم و زوجته: «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ»* (2) و لا تأكلا منها، فقالا: نعم لم نقربها و لم نأكل منها، و لم يستثنيا في قولهم: نعم، فوكلهما اللّه في ذلك إلى أنفسهما.

في المجمع إذا استثنى الإنسان بعد النسيان فإنّه يحصل له ثواب المستثنى إن يؤثّر الانفصال في الاستثناء و إبطال الحنث و سقوط الكفّارة.

و في الكافي عن الصادق أنّه أمر بكتاب في حاجة فكتب ثمّ عرض عليه و لم يكن فيه استثناء فقال عليه السّلام: كيف رجوتم أن يتمّ هذا و ليس فيه استثناء؟ انظروا في كلّ موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه. و في التهذيب ما يقرب منه و زاد: ثمّ دعا

ص: 295


1- طه: 115.
2- البقرة: 35. الأعراف: 18.

بالدواة و قال: الحق فيه إن شاء اللّه.

قوله تعالى: [وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي أرجو أن يأتيني بالآيات و الحجج و العلوم المستورة أقرب رشدا و كمالا من قصّة أصحاب الكهف، و قيل: معنى الآية أنّه إذا وعد بشي ء و قال معه: إن شاء اللّه، فيقول: عسى أن يهدين ربّي بشي ء أحسن و أكمل ممّا وعدتكم به كما فعل اللّه به حيث آتاه من العلوم و البيّنات و قصص الأنبياء و الأخبار المغيبة ما هو أعظم من قصّة الكهف.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 25 الى 27]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

المعنى: قيل: إنّ هذا من كلام القوم و تتمّة كلامهم حيث قال: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» و كذا إلى أن قال: [وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أي إنّ أولئك الأقوام قالوا:

ذلك، و يؤكّده أنّه تعالى قال بعده: [قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا] و قيل: و هو من كلام اللّه لأنّ قوله: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» هو كلام قد تقدّم و تخلّل بينه و بين هذا الكلام ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر و هو قوله: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً» و كذلك قوله:

«قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» يفيد أنّكم ارجعوا إلى خبر اللّه دون ما يقوله أهل الكتاب.

و هاهنا بحث و هو أنّ حمزة و الكسائيّ قرءا بثلاثمائة سنين بغير تنوين بطريق الإضافة و جعلوا سنين عطف بيان أو التميز لقوله: ثلاثمائة؛ لأنّ ثلاثمائة لم يعرف أنّها أيّام أم شهور أم سنون؟

فلمّا قال: سنين، صار هذا بيانا لقوله: «ثَلاثَ مِائَةٍ». فلو قيل: إنّ الواجب في الإضافة أن يقال:

ثلاثمائة سنة على الإفراد. فالجواب أنّه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله:

«بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» (1) أي عملا على أنّ هذا الضرب من العدد الّذي يضاف إلى الأجساد

ص: 296


1- السورة: 104.

غالبا نحو ثلاثمائة رجل و أربعمائة ثوب، فقد جاء كثيرا مضافا إلى الجمع قال أبو العلاء:

«يد بخمس مئين عسجد اوديت» و في نصب سنين على البدليّة أو عطف البيان أو التمييز و يجوز بالجرّ فيكون نعتا للمائة.

قوله تعالى: [وَ ازْدَادُوا تِسْعاً] فإن قيل: لم لم يقل سبحانه: ثلاثمائة و تسع سنين، و ما الفائدة في قوله: «وَ ازْدَادُوا تِسْعاً»؟ قيل: إنّه حكاية كلام أهل الكتاب و اختلافهم في المدّة فقال بعضهم: ثلاثمائة و ازدادوا بعضهم تسعا و قيل: هو من كلام اللّه؛ روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال عند أهل الكتاب أنّهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسيّة و اللّه تعالى ذكر السنة القمريّة، و التفاوت بينهما في كلّ مائة سنة ثلاث سنين فيكون العدد ثلاثمائة و تسع سنين و إذا كان المراد هذا المعنى فوجب أن يكون سوق الكلام كما سبق.

ثمّ اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف قيل: إنّهم كانوا قبل موسى عليه السّلام و إنّ موسى ذكرهم في التوراة و بهذا السبب سألوا أهل التوراة عن النبيّ هذا السؤال. و قيل:

إنّهم دخلوا الكهف بعد المسيح.

و بالجملة و [اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا] و أخبر بغيبه و هو الحقّ و الصدق. [لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ هذا لفظ التعجّب كقولك: ما أحسنه أي كثر تعجّب بصيرة اللّه و علمه و لا يخفى عليه شي ء فيعلم ما غاب في السماوات و الأرض فليس لأهل السماوات و الأرض من دون اللّه من ناصر يتولّى نصرتهم [وَ لا يُشْرِكُ سبحانه [فِي حُكْمِهِ أَحَداً] و لا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم اللّه، أو المعنى أنّه سبحانه لا يشرك في حكمه بما يخبر به من الغيب أحدا، و على قراءة الخطاب معناه: و لا تشرك أنت أيّها الإنسان في حكمه أحدا.

قوله تعالى: [وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ أي اقرأ و اتّبع ما اوحي إليك من هذا القرآن و الزم العمل به لأنّ التلاوة يتناول القراءة و المتابعة.

ثمّ قال سبحانه: [لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي يمتنع تطرّق التبديل إليه؛ فلو قيل:

على هذا فيجب أن لا يتطرّق النسخ إليه، قلنا: النسخ ليس تبديلا؛ لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت الناسخ فالناسخ الغاية فكيف يكون تبديلا؟ [وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً]

ص: 297

أي إن لم تتبّع القرآن فلن تجد من دون اللّه ملجأ و حرزا و جانبا تميل إليه، مأخوذ من اللحد و هو الميل.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 28 الى 29]

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

النزول: نزلت في سلمان و أبي ذرّ و عمّار و صهيب و خباب و غيرهم من فقراء الأصحاب و بيان ذلك أنّ بعض الأشراف من قريش و المؤلّفة قلوبهم جاءوا إلى رسول اللّه مثل عيينة الحصن و الأقرع بن حابس و ذويهم و قالوا: يا رسول اللّه إن جلست في صدر المجلس و نحّيت عنّا هؤلاء و أرواح صنائهم- و كانت عليهم جبّات الصوف- جلسنا نحن إليك و أخذنا عنك فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حريصا على إيمان عظماء المشركين طمعا في إيمان أتباعهم و لم يمل إلى الدنيا و زينتها قطّ و لا إلى أهلها و إنّما كان بليّن في بعض الأحايين للرؤساء لهذه الجهة فخوطب بهذه الآية.

[وَ اصْبِرْ] أي احبس [نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يداومون على الدعاء و الصلاة عند الصباح و المساء لا شغل لهم غيره و يستفتحون يومهم بالدعاء و يختمونه بالدعاء [يُرِيدُونَ وَجْهَهُ و رضاه و رضوانه و تعظيمه و القربة إليه من دون السمعة و الرياء.

[وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ أي لا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا [تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا] أي مريدا مجالسة أهل الشرف. و الغرض بيان أنّ الإقبال يكون على فقراء المؤمنين و أن لا يرفع نظره عنهم، و الخطاب له لئلّا يكترث للأغنياء من الكفّار و يكون عذرا له لكنّ المراد الامّة.

[وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي و لا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا بسبب تعرّضه للغفلة و سوء اختياره المعصية على الطاعة و لهذا قال سبحانه: [وَ اتَّبَعَ هَواهُ و مثله: «فَلَمَّا

ص: 298

زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (1) أو يكون معنى «أغفلنا» نسبنا قلبه إلى الغفلة كما يقال: أكفره أي نسبه إلى الكفر قال الكميت:

و طائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا مسي ء و مذنب

أو معنى «أغفلنا قلبه» أي جعلنا غفلا و لم نسمّه بسمة قلوب المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة تقول العرب: فلان أغفل ماشيته، إذا لم يسمّها بسمة تعرف أو المعنى: لا تطع من تركنا قلبه و خلّينا بينه و بين الشيطان بتركه أمرنا و بسبب ترك الأمر أعرضنا عنه قوله: «وَ اتَّبَعَ هَواهُ» في شهواته [وَ كانَ أَمْرُهُ سرفا و إفراطا و تجاوزا عن الحدّ.

[وَ قُلِ يا محمّد لهؤلاء الّذين أمروك بتنحية الفقراء: [الْحَقُ هذا القرآن و الحكم [مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ و يقبل [وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ] و يأبى له الاختيار، و هذا تهديد و وعيد بصورة الأمر و لذلك عقّبه بقوله سبحانه:

[إِنَّا أَعْتَدْنا] و هيّأنا للكافرين [الظالمين أنفسهم بعبادة غير اللّه و مخالفة أو امره [ناراً أَحاطَ بِهِمْ سرادق و حائط من نار يحيط بهم، و السرادق هو الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط تحيط من جميع الجهات. و المراد أنّه لا مخلص من النار، و قيل: المراد من هذا السرادق الدخان الّذي وصفه اللّه في قوله: «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» (2) و قالوا:

هذه الإحاطة بهم إنّما يكون قبل دخولهم النار فيغشاهم و يحيط بهم كالسرادق.

و صفة اخرى لهذه النار و هي قوله: [وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ و اختلف في معنى المهل قيل: إنّه درديّ الزيت، عن ابن مسعود. و قيل: كلّ شي ء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضّة فهو المهل. و قيل: إنّه الصديد و القيح. و قيل: إنّه ضرب من القطران.

و هذه الاستغاثة لأجل العطش فيعطون هذا المهل.

ثمّ قال سبحانه: [بِئْسَ الشَّرابُ هذا الماء الّذي هو المهل [يَشْوِي الْوُجُوهَ يذهب بفروة الرأس [وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً] أي ساءت النار منزلا و مجتمعا للرفقاء لأنّ أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنّة و الرفقاء فهم الكفّار و الشياطين. و قيل: المراد من قوله: «مُرْتَفَقاً» أي

ص: 299


1- الصف: 5.
2- المرسلات: 30.

متّكئا لأنّ الاتّكاء يكون بالمرفق و المرتفق موضع الاستراحة.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

لمّا ذكر الوعيد للكفّار أردفه بوعد المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الطاعات [إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا] أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا بل نجازيهم و نوفّيهم من غير بخس.

و الآية تدلّ على أنّ العمل شرط لحصول هذه المثوبات لأنّ العطف يدلّ على المغايرة، و كذلك تدلّ على أنّ المؤمن يستوجب بحسن عمله، و لكن عند أهل السنّة أنّ الاستيجاب يحصل بحكم الوعد، و عند المعتزلة لذات الفعل. و تكرير كلمة «إنّ» لبيان تأكيد تحقّق الوعد و العمل كقول الشاعر:

إنّ الخليفة إنّ اللّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم

و لمّا أثبت الأجر لهم أردفه بالتفصيل: الأوّل صفة مكانهم و هو قوله: [أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ و «العدن» عبارة عن الثبوت و الإقامة أي دار الإقامة لأنّهم يبقون فيها ببقاء اللّه دائما. و قيل: المراد بالعدن بطنان الجنّة و وسطها و هي جنّة من الجنان، و إنّما جمع لسعتها و كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة تجري من تحتها الأنهار لأنّهم على غرف فيها و الأنهار تجري في أخاديد من الأرض فلذلك قال: مِنْ تَحْتِهِمُ ... [يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي يجعل لهم فيها حليّ من أساور: سوار من فضّة و سوار من ذهب و سوار من لؤلؤ و ياقوت يحلّيهم اللّه أو تحلّيهم الملائكة؛ فالسوار من الذهب في هذه الآية و من فضّة لقوله تعالى: «وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» (1) و سوار من لؤلؤ لقوله: «وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ»* (2) و هذه الثلاثة لباس الزينة و أمّا لباس التستّر فقوله: [وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ

ص: 300


1- الدهر: 21.
2- الحج: 25، الفاطر: 31.

مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر ج 6 339

و هو الديباج الرقيق اللطيف. و الثاني الإستبرق فارسيّ معرّب «استبره» بالفارسيّة أي غليظ. و الحاصل أنّ ملبوسهم على قسمين رقيق غاية، و غليظ منسوج بالذهب.

تراهنّ يلبسن المشاعر مرّةو إستبرق الديباج طورا لباسها

[مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ الأريكة السرير و الفرش في الحجال، و إنّما خصّ الاتّكاء في الذكر لأنّه يفيد معنى الأمن و الراحة و السلامة قوله: [نِعْمَ الثَّوابُ أي طاب ثوابهم و عظم [وَ حَسُنَتْ الأرائك موضع ارتفاق و مجتمعا و منزلا.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 32 الى 44]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

النزول: إنّ الكفّار افتخروا على المسلمين بثروتهم و أموالهم فبيّن اللّه في هذه الآية أنّه ذلك ممّا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغنيّ فقيرا و الفقير غنيّا، و أمّا الّذي يوجب الافتخار بطاعة اللّه و تقواه، و ضرب مثلا لهذا المعنى في الآية فقال:

ص: 301

[وَ اضْرِبْ يا محمّد [لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين و المؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما كافر اسمه براطوس و الآخر مؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية ألف دينار فأخذ كلّ واحد منهما النصف و اشترى الكافر أرضا بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي أشتري منك أرضا في الجنّة بألف دينار فتصدّق به ثمّ بنى أخوه دارا بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي أشتري منك دارا في الجنّة بألف فتصدّق به ثمّ تزوّج أخوه امرأة بألف دينار فقال المؤمن: اللهمّ إنّي جعلت ألفا لصداق حور العين، ثمّ اشترى أخوه خدما و ضياعا بألف فقال المؤمن: اللهمّ إنّي اشتريت منك الولدان بألف، فتصدّق به ثمّ أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به أخوه في حشمة فتعرّض له فطرده و وبّخه على التصدّق بما له.

قوله تعالى: [جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ وصف سبحانه تلك الجنّة بصفات كونها جنّة أي مستترة بظلّ الأشجار، و أصل الكلمة من الستر و التغطية و الصفة الثانية [وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطا بالجنّتين نظير قوله: «حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» (1) أي محيطين به و المحافّة جانب الشي ء [وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً] المقصود أنّ تلك الأراضي جامعة لأقسام المنافع من الأقوات و الفواكه.

و قوله: [كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً] أي كلّ واحدة من البستانين آتت ثمرتها و غلّتها، و سمّاه أكلا لأنّه مأكول «و لم تظلم» أي و لم تنقص منه شيئا بل تثمر على التمام و الكمال [وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما] و وسطهما شققنا [نَهَراً] يسقيهما من غير كدّ و تعب بدوام الماء فيهما.

[وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ] قرئ بفتح الثاء أي كان للرجل ثمر ملكه، أو الضمير راجع إلى النخل أي كان للنخل ثمر. و قرئ بضمّ الثاء و الميم و المعنى كان للرجل الذهب و الفضّة مع هذين البستانين [فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أي قال الكافر لصاحبه المؤمن و هو يخاطبه و يراجعه في الكلام من الحور و هو الرجوع: [أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً] و المسلم كان يحاوره بالوعظ

ص: 302


1- الزمر: 75.

و الدعوة بالإيمان و البعث و قال الكافر: أنا أكثر منك مالا و عشيرة و أصحابا و ترفّع عليه بجاهه و ماله.

ثمّ أخبر اللّه عن حاله فقال: [وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ لجحوده الإيمان و البعث و أفرد الجنّة بعد التثنية و أضافها إليه لأنّ المراد ملكه و لم يقصد الجنّة و لا الجنّتين. ثمّ حكى سبحانه عن الكافر أنّه قال: و [ما أَظُنُّ أَنْ تفني هذه الجنّة لإعجابه بها و غروره ببهجتها و المراد أنّها لا تبيد مدّة حياته لكثرة ثمارها و حسن بهجتها ثمّ قال الكافر: [وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي كما تزعم أنت و بعثت بعقيدتك لا بعقيدتي؛ لأنّي ما أظنّ أنّ الساعة تقوم فعلى زعمك لئن قامت [لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً] أي كما أعطاني هنا يعطيني هناك لكرامتي كما أكرمني في الدنيا، و ظنّ جهلا أنّه اوتي ما اوتي لكرامته على اللّه.

[قالَ لَهُ صاحِبُهُ المؤمن و هو يخاطبه و يرشده [أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا] و إنّما كفّره لأنّه أنكر القيامة حيث قال: «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» و هذا يدلّ على أنّ منكر البعث كافر باللّه. و قوله: «خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ» إشارة إلى بدو خلق الإنسان و قوله: «ثُمَّ سَوَّاكَ» أي هيّأك هيئة تعقل و تصلح للتكليف.

ثمّ قال المؤمن: [لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قال أهل اللغة: لكنّا، أصله لكن أنا فحذفت الهمزة و ألقيت حركتها على نون لكن فأجمعت النونان فأدغمت نون لكن في نون البعد و تحذف الألف في الوصل و تثبت في الوقف و إثبات الألف في لكنّا عوض عن الهمزة من أنا، و يمكن أنّ هذه الألف تلحق للوقف مثل الهاء في قوله: «ما هِيَهْ ...، حِسابِيَهْ»* (1) قوله: «هُوَ اللَّهُ» الضمير ضمير الشأن تقديره: لكن أنا أقول: هو اللّه ربّي و خالقي [وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً] في عبادتي، و إنّما استحال الشرك في العبادة لأنّها لا تستحقّ إلّا بأصول النعم و ذلك لا يقدر عليه أحد إلّا اللّه فلا يجوز أن يعبد غير المنعم.

قوله: [وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ و قال له: هلّا حين دخلت بستانك فرأيت تلك الثمار و النعمة و الزرع شكرت اللّه و قلت: الّذي شاء اللّه كان و حصل و إنّي و إن تعبت جمعه و ليس ذلك إلّا بقدرة اللّه و تيسيره، و لو شاء فحال بيني و بين ة.

ص: 303


1- سورة الحافة و القارعة.

ذلك و لنزع عنّي هذه النعمة.

ثمّ رجع إلى نفسه و قال: [إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي إن كنت تراني اليوم فقيرا و أقلّ منك فلعلّ اللّه أن يؤتيني بستانا في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة [وَ يُرْسِلَ على جنّتك عذابا أو نارا من السماء فيحرقها، و ذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. و حسبان مثل غفران و بطلان أي مقدار ما قدّره اللّه.

و قيل: معنى الحسبان مرامي من عذابه إمّا برد و إمّا حجارة أو غيرهما من أنواع العذاب [فَتُصْبِحَ جنّتك أرضا مستوية لا نبات عليها تزلق عنها القدم فتصير أضرّ أرض بعد أن كانت أنفع أرض [أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها] غائرا ذاهبا في باطن الأرض [فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لطلب الماء إذا غار في الأرض أثرا تطلبه و لن تستطيع ردّه. و بالجملة إلى هنا انتهى مناظرة الصاحبين.

ثمّ قال سبحانه: [وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أهلك الأشجار و نخيله فهلكت عن آخرها في الخسر، إنّ اللّه أرسل عليها نارا فأهلكها و غار ماؤها [فَأَصْبَحَ هذا الكافر [يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ تحسّرا و تأسّفا [عَلى ما أَنْفَقَ في الجنّة من المال، و تقلّب الكفّين عبارة عن شدّة الندم و التحسّر [وَ هِيَ أي الجنّة ساقطة على سقوفها و ما عرش لكرومها و ما بني من البناء فيها و ندم على الكفر لفناء ما له لا لوجوب الإيمان فلم ينفعه، و لو ندم على الكفر فآمن باللّه تحقيقا لانتفع به.

[وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ أي لهذا الكافر جماعة يدفعون عذاب اللّه عنه أو جند ينفعونه [وَ ما كانَ مُنْتَصِراً] و ممتنع و روى هشام بن سالم و أبان بن عثمان عن الصادق عليه السّلام: عجبت لمن خاف أمر أ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ» (1)؟ فإنّي سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول بعقبها: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ» (2) و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»؟ (3) فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» (4) و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: «وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ

ص: 304


1- آل عمران: 173.
2- آل عمران: 175.
3- الأنبياء: 87.
4- الأنبياء: 88.

بِالْعِبادِ»؟ (1) فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا» (2) و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع إلى قوله: «ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»؟ فإنّي سمعت اللّه يقول: بعقبها «فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ» و «عسى» موجبة من اللّه.

قوله: [هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ هنالك أي يوم القيامة و ذلك الموضع الولاية و النصرة للّه ينصر بها أوليائه على أعداءه هذا كقوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (3) و بعض القرّاء قرءوا الولاية بالفتح قالوا: لأنّ الكسر في فعالة يجي ء فيما كان صنعة كالكتابة و الإمارة و الخلافة و أشباهها و ليس هنا تولّي أمر بل إنّما هو الولاية من الدين و كذلك الّتي في الأنفال.

قوله: [ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] ففي هذين الموضعين يفتح الواو، و أيضا الحقّ قرئ بكسر القاف صفة للّه، و قرئ بالرفع صفة للولاية، و كذلك «عقبا» قرئ بسكون القاف كفعلى، و بضمّ القاف و كليهما بمعنى العاقبة.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): آية 45]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45)

. المقصود ضرب مثل آخر لحقارة الدنيا و زينتها فقال سبحانه: [وَ اضْرِبْ يا محمّد لهؤلاء المفتخرين بأموالهم على فقراء المؤمنين أنّ مثل الحياة الدنيا [كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ] فنبت بسبب ذلك الماء نبات الأرض و التفّ بعضه ببعض بروق حسناء و غضاضة، و بعد مدّة قليلة يصبح هذا النبات كسيرا مفتّتة [تَذْرُوهُ الرِّياحُ و تنقله من موضع إلى موضع و الذرو و التذرية يطير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة أي انقلاب الدنيا بأهلها كانقلاب هذا النبات [وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً] قادرا لا يجوز عليه المنع. ثمّ قال:

ص: 305


1- المؤمن: 44.
2- المؤمن: 45.
3- المؤمن: 16.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 46 الى 49]

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46) وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

قوله: [الْمالُ وَ الْبَنُونَ أي إنّ الإنسان يتفاخر بهما و يتزيّن بهما في الدنيا و لا ينتفع منهما في الآخرة، و إنّما سمّا هما زينة لأنّ في المال جمالا و في البنين قوّة و دفعا فصارا زينة لكن لا يبقيان [وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و العبادات الدينيّة و الطاعات و الحسنات [خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً] و أصدق [أَمَلًا] لأنّها غير فانية و سائر زهرات الدنيا و الآمال الكاذبة المنقطعة فانية، و من المعلوم أنّ الباقي خير من الفاني.

روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لجلسائه: خذوا جنّتكم، قالوا: أحضر عدوّ يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: جنّتكم من النار، قولوا: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإنّهن المقدّمات و هنّ المجيبات و هنّ المعقّبات و هنّ الباقيات الصالحات.

و رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: و لذكر اللّه أكبر، قال:

ذكر اللّه عند ما أحلّ أو حرّم.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إن عجزتم عن اللّيل أن تكابدوه و عن العدوان تجاهدوه فلا تعجزوا عن قول سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر؛ فإنّهن من الباقيات الصالحات. و قيل: هي الصلوات الخمس، عن ابن مسعود و جماعة، و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و روي عنه أيضا أنّ من الباقيات لقيام الليل. و قيل: إنّ الباقيات الصالحات هنّ النيّات الصالحة. و الأولى حملها على العموم فيدخل فيها جميع الخيرات و الطاعات. و في كتاب ابن عقدة أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام قال للحصين بن عبد الرحمن: يا حصين لا تستصغر مروّتنا فإنّها من الباقيات الصالحات، قال: يا ابن رسول اللّه ما أستصغرها و لكن أحمد اللّه عليها.

ص: 306

قوله تعالى [وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قيل: ابتداء كلام: و اذكر يوم نسيّر الجبال، يعني يوم القيامة، و تسيير الجبال قلعها عن أماكنها فإنّ اللّه يجعلها هباء منثورا. و قيل:

يسيّرها على وجه الأرض كما يسيّر السحاب في السماء ثمّ يجعلها كثيبا مهيلا ثمّ يصيّرها هباء منثورا في الهواء. و قيل: متعلّق قوله: «وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» ما قبله و تقديره: الصالحات خير ثوابا في هذا اليوم.

قوله: [وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً] أي ظاهرة ليس عليها شي ء من جبل أو بناء أو شجر يسترها عن عيون الناظرين. و قيل: معناه و ترى باطن الأرض ظاهرا قد برز من كان في بطنها فصاروا على ظهرها فهو مثل قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ترمي الأرض بأفلاذ كبدها [وَ حَشَرْناهُمْ و بعثناهم من قبورهم و جمعناهم في الموقف [فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً] أي لم نترك منهم أحدا إلّا حشرناه.

[وَ عُرِضُوا] أي المحشورين يعرضون على اللّه يوم القيامة [صَفًّا] أي مصفوفين صفّا بعد صفّ كالصفوف في الصلاة. و قيل: صفّا واحدا جميع أهل الدنيا لا يحجب بعضهم بعضا و يقال لهم:

[لَقَدْ جِئْتُمُونا] فرادى [كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] عراة حفاة بغير أموال و لا أعوان؛ قالت عائشة بعد الحديث: أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (1). ثمّ قال: [بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً] أي كنتم مع التعزّز على المؤمنين بالأموال و الأنصار تنكرون البعث و القيامة.

[وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي وضع الكتب فإنّ الكتاب اسم جنس يعني وضعت الصحائف من بني آدم في أيديهم، و قيل: وضع الحساب فعبّر عن الحساب بالكتاب [فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ خائفين [مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيّئة [وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا] احضري هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة فيدعو على نفسه بالويل و الثبور، يحصل لهم خوف العقاب من الحقّ و خوف الفضيحة عند الخلق [ما لِهذَا الْكِتابِ و صحيفة العمل [لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها] لا يترك الصغيرة و لا الكبيرة، و انّث الصغيرة و الكبيرة مع أنّه وصف الذنب لمعنى الفعلة و الخصلة.

ص: 307


1- عبس: 37.

قوله: [وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً] أي مكتوبا مثبتا و يجدون جزاء ما عملوا حاضرا فجعل وجود الجزاء كوجود الأعمال توسّعا [وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] أي لا ينقص ثواب ما عملوا من الحسنات و لا يزيد في عقاب مسي ء. و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب الأطفال لأنّه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب؟

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 50 الى 52]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)

المقصود من ذكر الآيات المتقدّمة أنّ المشركين كانوا يتكبّرون و يفتخرون على فقراء المؤمنين بأموالهم و شرفهم فذكر أنّ الكبر طريقة إبليس و أنتم لا تقتدوا به و لا تتولّوه، و بيان ما أورث الكبر للشيطان من سوء العاقبة حتّى تحترزوا من هذه الطريقة السيّئة. و التكرّر في القرآن في هذه المسألة و أشباهها لأجل أهمّيّة الأمر؛ فإن الاستكبار إشراك و معارضة مع الربوبيّة.

اذكر يا محمّد [إِذْ قُلْنا] و أمرنا [لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد مرّ تفسيره فيما تقدّم.

قوله: [كانَ مِنَ الْجِنِ و مجمله أنّ للناس في هذه المسألة أقوال:

الأوّل أنّه من الملائكة و كونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنّ و لهم فيه وجوه: الأوّل أنّ قبيلة من الملائكة يسمّون بذلك لقوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» (1) «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» (2) لقولهم: الملائكة بنات اللّه. الثاني: الجنّ سمّوا جنّا للاستتار و الملائكة كذلك فهم لهذا المعنى داخلون في الجنّ. الثالث: أنّه كان ملكا خازن الجنّة و نسب إلى الجنّة كنسبة البصريّ و الكوفيّ و الشاميّ. و عن سعيد بن جبير

ص: 308


1- الصافات: 157.
2- الانعام: 100.

أنّه كان من الجنانين الّذين يعلمون في الجنان حيّ من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنّة مذ خلقوا؛ رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير.

و القول الثاني من الأقوال الثلاثة: أنّه من الجنّ الّذين هم الشياطين الّذين خلقوا من نار و هو أبوهم.

و القول الثالث من الأقوال الثلاثة كان من الملائكة فمسخ.

و دليل من قال: إنّه ليس من الملائكة، أنّه تعال أثبت له ذرّيّة و نسلا في هذه الآية و هو قوله: «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» و الملائكة ليس لهم ذرّيّة و لا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة. بقي أن يقال: إنّ اللّه أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر؟ و أيضا لو لم يكن من الملائكة كيف يصحّ استثناؤه منهم؟ و قد شرّح هذه المسألة في سورة البقرة. و في كيفيّة ذرّيّة إبليس قيل:

يتولّدون كما يتوالد بنو آدم. و قيل: يدخل ذنبه في دبره فيبيض و تنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.

قوله: [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج بترك السجود عن طاعة ربّه.

ثمّ خاطب اللّه الكافرين فقال: [أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ] و ذرّيّته أعداء لكم و العاقل حقيق بأن يتّهم عدوّه على نفسه و لا يتولّاه. بئس البدل طاعة الشيطان عن طاعة الرحمن، و ولاية الشيطان عن ولاية الرحمن، و تقدير الآية: بئس البدل من اللّه إبليس. و المخصوص بالذمّ مضمر فسّر بقوله: «بدلا» على البدليّة.

قوله: [ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ معناه ما أحضرت إبليس و ذرّيّته حين خلقت السماوات و الأرض مستعينا بهم أو ما أحضرت المشركين وقت خلق السماوات و لا استعنت ببعضهم على خلق بعضهم و لم يكونوا موجودين وقت خلق السماوات فمن أين جعلوا لي شريكا، و نسبوا أنّ الملائكة بنات اللّه، و من أين ادّعوا ذلك؟ [وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي الشياطين الّذين يضلّون الناس أو ما اتّخذت المضلّين من الشيطان و الإنسان عونا لي على خلقتهم و ما كانوا فمن أين لهم قابليّة الولاية و الإطاعة منكم إليهم؟ و الولاية للّه.

ص: 309

قوله: [وَ يَوْمَ يَقُولُ يريد يوم القيامة يقول اللّه للمشركين و عبدة الأصنام: [نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أنّهم شركائي ليدفعوا عنكم العذاب [فَدَعَوْهُمْ المشركون أي يدعونهم أي يدعون الأصنام فلا يستجيبون لهم و لا ينفعونهم.

[وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي المؤمنين و الكافرين [مَوْبِقاً] و هو اسم واد عميق فرّق اللّه به بين المؤمنين و الكافرين و أهل الهدى و أهل الضلالة، و قيل: معناه جعلنا حاجزا بين المعبودين و عبدتهم و أدخلنا من كان من المعبودين مثل الملائكة و المسيح الجنّة و أدخلنا العابدين النار. و قيل «موبقا» أي عداوة مهلكة.

و عن أنس بن مالك أنّه قال: الموبق واد في جهنّم من قيح و دم، و المقصود من هذه الآية إلزام المشركين بالحجج الظاهرة و بيان أنّه المتفرّد بالحقّ و الابتداع لا شريك له فيه، و يوم خلق السماوات و الأرض ما كنتم و لا كان إبليس؛ فلا ينبغي أن تشركوا معه في العبادة غيره إلها.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 53 الى 56]

وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

ثمّ بيّن سبحانه حال المجرمين يعني المشركين أو هو عامّ في أصحاب الكبائر، لمّا رأوا النار و هي تتلظّى عليهم حيفا و إحاطة [فَظَنُّوا] أي علموا [أَنَّهُمْ داخلون فيها و واقعون في عذابها [وَ لَمْ يَجِدُوا] بدّا و معدلا ينصرفون إليه ليتخلّصوا منها. و قيل: معنى «مواقعوها» أي مخالطوها.

[وَ لَقَدْ صَرَّفْنا] و بيّنّا [فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و تصريفها ترديدها من نوع واحد و أنواع مختلفة ليفكّروا فيها و مع ذلك يكون [الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا] قيل: المراد بالإنسان في الآية الكافر و يدلّ عليه قوله: «وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 310

بِالْباطِلِ». و قيل: المراد بالإنسان النضر بن الحارث لأنّه كان كثير الجدل في آيات النبيّ. و قيل: يريد ابيّ بن خلف، و هو كان كذلك قوله: [وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي ما منعهم من الإيمان بعد مجي ء الدلالة [وَ] من أن [يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ على ما سبق من معاصيهم إلّا أن تطلب أن [تَأْتِيَهُمْ عذاب الاستئصال، و تأتيهم من حيث لا يشعرون كالأمم المتقدّمة [أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ عيانا مقابلة يرونها حتّى يؤمنوا إلجاء، أو هذا كقول القائل لغيره: ما منعك أن تقبل قولي إلّا أن تضرب. و «قبلا» قرئ بضمّ القاف و الباء و بفتح القاف و سكون الباء، و المعنى على قراءة الضمّتين معنى المقابلة، و بالفتح و السكون معنى القبل و السابق.

قوله: [وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ أي لم نرسل الرسل إلى الخلق [إِلَّا مُبَشِّرِينَ إذا أطاعوا و مخوّفين لهم بالنار إذا عصوا [وَ يُجادِلُ الكفّار دفعا عن مذاهبهم و يخاصم [الَّذِينَ كَفَرُوا] و أتوا بالباطل و غرضهم أن يزيلوا الحقّ عن مقرّه؛ قال ابن عبّاس: يريد المستهزئين و المقتسمين، و جدالهم [بِالْباطِلِ اقتراحاتهم الآيات على أفواههم ليبطلوا ما جاء به محمّد. يقال: أدحضت حجّته إذا أبطلتها، فإذا [اتَّخَذُوا آياتِي أي القرآن [وَ ما أُنْذِرُوا] و تخوّفوا به من البعث و النار [هُزُواً] به.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 57 الى 59]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

لمّا حكى عن الكفّار جدالهم بالباطل شرح في بيان مخازيهم و ظلمهم فقال:

[وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ترد عليه الحجج و الآيات الواضحة و وعظ بالقرآن و أدلّة التوحيد [فَأَعْرَضَ عَنْها] جانبا [وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الأعمال المنكرة الّتي صدرت منه؛ و المراد من

ص: 311

النسيان التشاغل و التغافل عن كفره و عصيانه استخفافا به.

ثمّ قال: [إِنَّا] بسبب إعراضهم عن الآيات استحقّوا أن نجعل [عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً] و أغطية أن تفقه [وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً] أن تسمع [وَ إِنْ تَدْعُهُمْ أنت يا محمّد [إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا] ما داموا معرضين عن الحق [أَبَداً] و قد خرج مخبره موافقا لخبره لأنّهم ماتوا على كفرهم.

[وَ رَبُّكَ الساتر على عباده الغافر لذنوب المؤمنين و الإفضال على خلقه، و قيل: معناه [الْغَفُورُ] للتائب و [ذُو الرَّحْمَةِ] للمصرّ بأن يمهل و لا يعجل. و قيل:

الغفور لا يؤاخذهم عاجلا، ذو الرحمة يؤخّرهم ليتوبوا. قوله: [لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا [بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ] و هو يوم القيامة و البعث [لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا] أي ملجأ و محرزا. و قيل: منجأ ينجيهم؛ يقال: لا وألت نفسه أي لا نجت.

قوله: [وَ تِلْكَ الْقُرى إشارة إلى قرى عاد و ثمود و غيرهما [أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا] بتكذيب أنبياء اللّه و جحود آياته [وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي لوقت إهلاكهم [مَوْعِداً] معلوما يهلكون فيه لمصلحة اقتضت تأخيره إليه، و إنّما قال: «تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ» و لم يقل:

أهلكناها؛ لأنّ القرية لا يستحقّ الهلاك و إنّما يستحقّ الهلاك أهلها.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 60 الى 64]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)

النزول: القميّ: لمّا سأل اليهود النبيّ عن قصّة أصحاب الكهف و أجابهم صلّى اللّه عليه و آله سألوا و قالوا: أخبرنا من العالم الّذي أمر اللّه موسى أن يتبعه و ما قصّته فأنزل اللّه الآية.

ص: 312

و كان سبب ذلك أنّه لمّا كلّم اللّه موسى تكليما و أنزل عليها الألواح كما قال اللّه: «وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» (1) و رجع موسى إلى بني إسرائيل صعد المنبر فأخبرهم أنّ اللّه قد أنزل التوراة و كلّمه، قال في نفسه: ما خلق اللّه خلقا أعلم منّي! فأوحى اللّه إلى جبرئيل: أدرك موسى فقد هلك و أخبره أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجل أعلم منك فسر إليه و تعلّم من علمه، فنزل جبرئيل على موسى و أخبره فذلّ موسى في نفسه و علم أنّه أخطأ و دخله الرعب فقال لوصيّه يوشع ابن نون: إنّ اللّه قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين و أتعلّم منه فتزوّد يوشع حوتا مملوحا و خرجا.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: بينا موسى قاعد في ملأ من أصحابه بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحدا أعلم باللّه منك! قال موسى: ما أرى؛ فأوحى اللّه إليه: بل عبدي الخضر فتوجّه إليه، فكان له آية الحوت أن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ اللّه في هذه الآية.

المعنى: [وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ أكثر المفسّرين على أنّه موسى بن عمران و فتاه يوشع بن نون و سمّاه فتاه لأنّه صحبه و خدمه و لازمه سفرا و حضرا و تلمّذه كما خاطبه «آتنا غداءنا» و يوشع ابن نون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، لكنّ اليهود يقولون:

إنّ موسى الّذي طلب الخضر هو موسى بن ميثا بن يوسف و كان قبل موسى بن عمران إلّا أنّ الجمهور على أنّه موسى بن عمران، لأنّ إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران.

قال عليّ بن إبراهيم: حدّثني محمّد بن عليّ بن بلال، قال: اختلف يونس و هشام بن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان، و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته و هو حجّة اللّه على خلقه؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسألونه عن ذلك فكتب عليه السّلام في الجواب: أتى موسى إلى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، فسلّم عليه موسى فتعجّب من السلام إذ كان بأرض ليس بها هذه التحيّة، قال: من أنت؟ قال:

ص: 313


1- الأعراف: 144.

أنا موسى بن عمران إلى خضر، قال له خضر: أنت موسى بن عمران الّذي كلّم اللّه موسى تكليما؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشدا، قال: إنّي و كلت بأمر لا تطيقه و وكلت أنت بأمر لا أطيقه، الخبر بطوله.

قوله: [لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ معناه لا أزال ثابتا أمضي و أمشي و لا أسلك طريقا آخر حتّى أبلغ ملتقى البحرين: بحر الروم و بحر فارس، و ممّا يلي المغرب بحر الروم و ممّا يلي المشرق بحر فارس. و قيل: هو طنجة و إفريقيّة و كان وعد أن يلقى الخضر بذلك المكان.

قوله: [أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً] أي دهرا طويلا. و قيل: «الحقب» سبعون سنة. و قيل:

ثمانون سنة [فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما] أي الموضع الّذي يجتمع فيه رأس البحرين [نَسِيا حُوتَهُما] أي تركاه. و قيل: إنّه ضلّ الحوت عنهما حين [اتّخذ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً] أي مسلكا يذهب فيه، و ذلك أنّ موسى و فتاه تزوّدا حوتا مملوحا أو طريّا- على قول- ثمّ انطلقا يمشيان على شاطئ البحر حتّى انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر فأويا إليها.

و قيل: عنده ماء تسمّى عين الحياة فجلس يوشع بن نون و توضّأ من ذلك العين فانتضح على الحوت شي ء من ذلك الماء فعاش و وثب في الماء و جعل يضرب بذنبه الماء فكان لا يسلك طريقا في البحر إلّا صار ماء جامدا فذلك معنى قوله: «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً».

و قيل: إنّ موسى عليه السّلام سأل ربّه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الّذي يذكرني و لا ينساني، قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الّذي يقضي بالحقّ و لا يتّبع الهوى. قال:

فأيّ عبادك أعلم؟ قال: الّذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى أو تردّه عن ردى، فقال موسى: إن كان في عبادك من هو أعلم منّي فادللني عليه.

فقال: أعلم منك الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة، قال: يا ربّ كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان و رقد موسى و اضطرب الحوت و طفر إلى البحر فلمّا جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوع الحوت في البحر فرجع موسى من ذلك الموضع إلى الموضع الّذي طفر الحوت في البحر فإذا رجل مسجّى بثوبه فسلّم عليه موسى فقال: و أنّى بأرضك السلام؟ فعرّفه نفسه، فقال: يا موسى أنا على علم علّمني اللّه لا تعلمه أنت، و أنت

ص: 314

على علم علّمك اللّه لا أعلمه أنا. فلمّا ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقب هذا العصفور من هذا البحر، مقدار علمي و علمك بالنسبة إلى علم اللّه أقلّ و أقلّ من هذه القطرة.

و بالجملة لمّا بلغ موسى و فتاه مجمع بينهما و موضع الموعود به طفرت السمكة إلى البحر و سارت.

و في كيفيّة طفرها أقوال:

قيل: إنّ الفتى كان يغسل السمكة لأنّها كانت مملحة فحين الغسل طفرت و سارت.

و قيل: إنّ يوشع توضّأ في ذلك المكان فنضح الماء على الحوت المالح فعاش و وثب في الماء «فاتّخذ سبيله في البحر سربا» أي سلكا كالسرب و هو النفق.

قيل: أمسك اللّه جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزة لموسى أو لخضر.

[فَلَمَّا جاوَزا] مجمع البحرين الّذي كان الموعد هناك و أدلجا و سارا الليل كلّه و الغد إلى الظهر و جاع موسى عليه السّلام فعند ذلك قال لتلميذه يوشع: [آتِنا غَداءَنا] أي ما نتغدّى به و هو الحوت [لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا] تعبا و إعياء. قيل: إنّه عليه السّلام لم ينصب و لم يجع قبل ذلك.

[قالَ فتاه: [أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ] و استرحنا عندها [فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ و قوله: «أَ رَأَيْتَ» الهمزة للاستفهام؛ و «رأيت» على معناه الأصليّ و مراده تعجيب الأمر و غرابته، و هذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه- إذا نابه أمر غريب-: أ رأيت و شاهدت ما وقع لي من الأمر؟ و هذا التعجّب لأجل أنّ هذه كانت علامة لوصولهم إلى العالم و أنّ موسى كان يعلم هذه العلامة لكن يوشع ما كان يعلم هذه العلامة لكن استغرابه من نسيانه هذا الأمر العظيم و عدم ذكره لموسى. و لعلّ نسبة النسيان إليهما في أمر الحوت بالنسبة إلى موسى عدم بيان هذه العلامة ليوشع.

و بالجملة إنّ موسى لمّا طلب الغداء من يوشع تذكّر يوشع قصّة الحوت، و ذكر

ص: 315

لموسى أنّه لمّا نزلنا إلى الصخرة تركت الحوت و فقدته. و قيل: معناه نسيته أن أذكر لك قصّة الحوت عند الصخرة.

ثمّ اعتذر فقال: [وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ لأنّه لو ذكرها لموسى لما جازها موسى و لما نالهما النصب الّذي أشكاه.

قوله: [وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً] أي سبيلا عجبا، و اتّخاذا عجيبا و «عجبا» صفة لمصدر محذوف و هو اتّخاذا عجبا و هو انقلابه من المكتل و إلقاء نفسه في البحر على الغفلة و هو مملوح، بل مأكول منه على قول.

و قيل: إنّ «عجبا» من كلام موسى تعجّبا منه و من نسيانه من هذا الأمر. و يمكن أن يكون هذا النسيان يكون الإنساء من اللّه فإنّه لمّا استعظم علم نفسه بالوحي و التكلّم و العلم بالتوراة و أحكامها أزال اللّه عن قلبه هذا العلم الضروريّ تنبيها لموسى على أنّ العلم لا يحصل إلّا بتعليمه و حفظه على القلب و الخاطر.

قوله تعالى: [قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى: ذلك الأمر ما كنّا نطلب من العلامة [فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما] أي آثار نفسهما و عادا عودهما على بدئها في الطريق الّذي جاءا منه يقتصّان آثار المسير [قَصَصاً] و يتبعانها- و يوشع أمام موسى- حتّى انتهيا إلى مدخل الحوت.

قال ابن عبّاس: دخل موسى الكوّة على أثر الحوت و في الطاق الّذي وقع في الماء بقدرة من ورود السمكة فيه فلقي الخضر هناك. قوله: «نَبْغِ» أصله نبغي حذفت الياء تخفيفا لدلالة الكسرة و كان القياس عدم الحذف لأنّ الحذف مع الساكن بعده لا المتحرّك كقوله: «ما نبغى اليوم» فلمّا حذفت مع الساكن حذفت مع غير الساكن.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 65 الى 70]

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

ص: 316

المعنى [فَوَجَدا] موسى و فتاه و هو يوشع و صادفا [عَبْداً مِنْ عِبادِنا] قائما على الصخرة يصلّي و هو الخضر و اسمه بنيا بن ملكان، و إنّما سمّي خضرا لأنّه إذا قعد أو نزل في مكان اخضرّ ما حوله. و روي مرفوعا أنّه قعد على فروة بيضاء فصارت تحته خضراء.

و قيل: إنّه رآه على طنفسة خضراء فسلّم عليه فقال: و عليك السلام يا نبيّ اللّه نبيّ بني إسرائيل، فقال له موسى: و ما أدراك من أنا؟ و من أخبرك أنّي نبيّ؟ قال: من دلّك عليّ.

و اختلف في هذا العبد فقيل: إنّه كان ملكا أمر اللّه موسى أن يأخذ عنه ما حمله إيّاه من بواطن الأشياء و علومها. و قال الأكثرون: إنّه من البشر، ثمّ اختلفوا فقال جماعة: إنّه كان نبيّا لأنّه لا يجوز أن يتّبع النبيّ غير النبيّ. و متى قيل: كيف يكون نبيّ أعلم من موسى في وقته؟ قلنا: يجوز أن يكون الخضر خصّ بعلم ما لا يتعلّق بالأداء فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط و إن كان موسى أعلم منه في العلم الّذي يؤدّيه من قبل اللّه.

و قال الأكثرون: إنّه كان نبيّا و استدلّوا بوجوه:

الاول: قوله تعالى: «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» و الرحمة هي النبوّة بدليل قوله تعالى: «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» (1) و قوله: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (2) و المراد من هذه الرحمة النبوّة. و لقائل أن يقول: سلّمنا أنّ النبوّة رحمة أمّا لا يلزم أن يكون كلّ رحمة نبوّة.

الوجه الثاني: قوله: «وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» و هذا يقتضي أنّه تعالى علّمه لا بواسطة تعليم البشر بل علّمه بالوحي من اللّه و هذا معنى النبوّة.

الوجه الثالث: أنّ ذلك العبد أظهر الترفّع على موسى حيث قال له: «وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» و أمّا موسى فإنّه أظهر التواضع له حيث قال: «لا أَعْصِي

ص: 317


1- الزخرف: 32.
2- القصص: 86.

لَكَ أَمْراً» و هذا يدلّ على أنّ ذلك العالم كان فوق موسى و من لا يكون نبيّا لا يكون يتفوّق على النبيّ.

و الوجه الرابع: في أثناء القصّة يقول: «وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» معناه فعلته بوحي اللّه و هو يدلّ على النبوّة.

و بالجملة قوله تعالى: [آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا] هي الوحي [وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً] قيل: علّمناه ممّا يختصّ بنا من العلم و هو بعض علم الغيب قال الصادق عليه السّلام:

كان عنده علم لم يكتب لموسى في الألواح. و كان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء في تابوته و أنّ جميع العلم كتب له في الألواح.

قوله: [قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] فعظّم موسى عليه السّلام خضرا بهذا القول غاية التعظيم حيت أضاف العلم إليه و رضي باتّباعه لجلالة العلم و لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نجيّ اللّه موسى، و يدلّ على أن لا ينبغي لأحد أن يترك العلم و طلبه و إن كان قد بلغ نهايته، و أنّه يجب أن يتواضع لمن هو أعلم منه.

قوله: [قالَ إِنَّكَ أي قال خضر لموسى: يثقل عليك الصبر و لا يخفّ عليك تحمّله، و لم يرد أنّه لا يقدر على الصبر لأنّ خضر كان يعلم أنّ موسى يأخذ الأمور على ظواهرها و هو مأمور بذلك و الخضر كان يحكم بما أعلمه اللّه من بواطنها، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك.

ثمّ قال: [وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً] أي كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر و أنت لم تعرف باطنه؟ و المراد بالخبر هاهنا العلم.

فقال موسى عليه السّلام: و هو خاضع له يستلطفه على نفسه كي يقبله [سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً] و لا أخالفك في أمر بشرط المشيئة.

القميّ: عن أحدهما عليهما السّلام في حديث: و لم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى إلى العالم و سأله الصحبة ليتعلّم منه العلم و يرشده. قال الصادق: كان موسى أعلم من الخضر.

و في الكافي عنه عليه السّلام: لو كنت بين موسى و الخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما و

ص: 318

أنبأتهما بما ليس في أيديهما لأنّ موسى و الخضر أعطيا علم ما كان و لم يعطيا علم ما يكون و ما هو كائن حتّى تقوم الساعة و قد ورثناه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

[قالَ خضر لموسى: [فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي و اقتفيت أثري [فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ] و لا يخفى أنّ هذا الخضوع من موسى لخضر عليهما السّلام لا يستلزم أن يكون خضر أعلى شأنا من موسى لأنّ الخضر إمّا أن يقال: كان من بني إسرائيل أو ما كان؛ فإن قلنا: كان من بني إسرائيل كان من امّة موسى و تابعا له، و الامّة لا تكون أعلى حالا من النبيّ. و إن قلنا: إنّ خضر ما كان من بني إسرائيل، لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله لبني إسرائيل: «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»* (1) و بالجملة فلا تسألني عن شي ء أفعله ممّا تنكره حتّى افسّره لك.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 71 الى 75]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)

[فَانْطَلَقا] يمشيان في الساحل يعني موسى و الخضر و لم يذكر يوشع و لعلّ أنّ موسى عليه السّلام بعثه لأمر و لذلك تأخّر عنهما.

فانطلقا على الساحل و أرادا أن معبرا في البحر إلى أرض اخرى فأتيا معبرا، فعرف صاحب السفينة الخضر فحملهما فلمّا ركبا في السفينة خرق الخضر السفينة حتّى دخلها الماء. و قيل: إنّ خضر قلع لوحين ممّا يلي الماء فحشاهما موسى بثوبه و قال منكرا عليه: [أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها] و ما قال: لنغرق؛ لأنّه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه جريا على عادة الأنبياء.

ثمّ قال: بعد إكباره هذا الأمر [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً] أي منكرا عظيما؛ يقال:

أمر الأمر إمرا إذا كبر و عظم.

ص: 319


1- البقرة: 47، 122.

فقال له الخضر عليه السّلام: [أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً] أي ألم أقل لك حين رغبت في اتّباعي: إنّ نفسك لا تطاوعك على الصبر معي؟ فتذكّر موسى ما بذل له الشرط.

ثمّ قال معتذرا مستقيلا: [لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي غفلت عن التسليم لك و ترك الإنكار عليك. قيل: المراد من النسيان معناه الحقيقيّ و هو ضدّ الذكر. و قيل: المراد ترك العهد لا بمعنى الغفلة و السهو. و قال موسى: [وَ لا تُرْهِقْنِي و تكلّفني [عُسْراً] و مشقّة و لا تضيّق عليّ الأمر في صحبتي إيّاك.

[فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ فخرجا من البحر و انطلقا يمشيان في البرّ فلقيا غلاما يلعب مع الصبيان، و كان من أحسن الغلمان و أصبحهم و أجملهم، و قيل: كان شابّا بالغا حتّى يستحقّ القتل، و الرجل يسمّى غلاما قالت ليلي الأخيليّة:

شفاها من الداء العضال الّذي بهاغلام إذا هزّ الفتاة شفاها

فذبحه بالسكّين. و قيل: صرعه و نزع رأسه من جسده.

[قالَ موسى للخضر [أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً] بريئة من الذنوب [بِغَيْرِ] قتل [نَفْسٍ تريد القود [لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً] منكرا فظيعا غاية و إنّما قال ذلك لأنّ قلبه صار كالمغلوب عليه حين رأى قتله [قالَ العالم: [أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً].

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 76 الى 82]

قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80)

فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

ص: 320

المعنى: قال له موسى جوابا له: [إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ] بعد هذه المرّة فلا تتركني أصحبك أو اصاحبك فقد وجدت من عند نفسي عذرا و المانع حينئذ من قبلي لا من قبلك لأنّه خالفتك ثلاث مرّات. روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: رحم اللّه أخي موسى استحى قال ذلك و لو لم يقل ذلك و لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب.

[فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ] و هي أنطاكية. و قيل: ايلة. و قيل: ناصرة.

و هو المرويّ عن الصادق. سألاهم الطعام [فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما] و لم يضيّفهما أحد من أهل القرية، و عن النبيّ كانوا أهل قرية لئام. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و لا يضيّفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة. يقال: ضافه إذا كان له ضيفا و حقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض.

قيل: إنّ أهل تلك القرية لمّا سمعوا نزول هذه الآية استحيوا من هذا العار و جاءوا إلى رسول اللّه بحمل من الذهب و قالوا: يا رسول اللّه نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء في الآية تاءا حتّى تصير القراءة هكذا «فأتوا أن يضيّفوهما» أي أتوا أن يضيّفوهما و كان إتيان أهل القرية إليهما لأجل الضيافة و قالوا: غرضنا منه أن يندفع عنّا هذا اللؤم. فامتنع رسول اللّه و قال: تغيّر النقطة الواحدة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه و ذلك يوجب القدح في العبوديّة بالنسبة إلى الربوبيّة.

و الحاصل [فوجدا جدارا] في القرية مائلا، و نسبة الإرادة إلى الجدار استعارة كقول الشاعر:

يريد الرمح صدر أبي براءو يرغب عن دماء بني عقيل

مع أنّ الإرادة و الرغبة من صفة الأحياء. و قوله: [يَنْقَضَ إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر. أو المعنى: انشقّ طولا [فَأَقامَهُ خضر قيل: رفع الجدار بيده و سوّاه [قالَ موسى إنّهم لمّا بخلوا بالطعام [لَوْ شِئْتَ لعملت هذا بأجر تأخذه منهم حتّى كنّا نسدّ به جوعنا

ص: 321

[قالَ خضر: [هذا] وقت [فِراقُ اتّصالنا أو هذا الّذي قلته سبب الفراق [بَيْنِي وَ بَيْنِكَ .

ثمّ قال: سأخبرك بتفسير الأشياء الّتي لم تستطع على الإمساك عن السؤال عنها [صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ] أي السبب في خرق السفينة فهو أنّها كانت لفقراء لا شي ء لهم ما يكفيهم قدر معاشهم [يَعْمَلُونَ بهذه السفينة [فِي الْبَحْرِ] و يتعيّشون بها [فَأَرَدْتُ أَنْ أحدث عيبا فيها و كان قدّامهم و قصدهم [مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ] صحيحة [غَصْباً] و الوراء كما يطلق على الخلف يطلق على بين أيديهم و يمكن أن يكون المعنى الخلف أي يتعاقبهم ملك يأخذ السفائن الصحيحة، و لم يعلم أصحاب السفينة و علم به الخضر ففعل ذلك للمصلحة.

[وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و أمّا الغلام فكان كافرا و إنّما قتلته لكفره و لعلمي بأنّه لو بقي برهق أبويه طغيانا فكرهت أن يرهق الغلام الكافر أبويه إثما و ظلما و هذا من كلام الخضر [فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً] أي ولدا خيرا منه دينا و طهارة و صلاحا [وَ أَقْرَبَ رُحْماً] أي أقرب عطفا على والديه و رحمة في الكافي و الفقيه و المجمع عن الصادق عليه السّلام و العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام: أنّهما ابد لا عن الغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيّا. و قيل: لو عاش كان فيه مهلكتهما و معلوم أنّ رضى المرء بما قسّم اللّه له خير له ممّا رضي لنفسه؛ في الحديث: ما قضي لك يا ابن آدم فيما تكره خير لك ممّا قضي و أنت تحبّ فاستخر اللّه و ارض بقضائه.

و في قتل الغلام دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه لأنّ المفهوم من الآية أنّه بتدبير اللّه لم يكن يجوز خلافه، و أنّه إذا علم من حال الإنسان أنّه يفسد عند شي ء يجب عليه في الحكمة أن يذهب بذلك الشي ء حتّى لا يقع هذا الفساد.

و متى قيل: إنّه لو حصل لنا العلم بذلك كما حصل لذلك العالم هل كان يحسن منّا القتل؟

قلنا: إنّ هذا العلم لا يحصل إلّا للأنبياء و عند حصول العلم به يحسن ذلك.

و متى قيل: إنّ اللّه كان قادرا على إزالة الحياة من الغلام بالموت من غير ألم

ص: 322

فيزول التبقية الّتي هي المفسدة من غير إدخال إيلام عليه بالقتل فلم أمر بالقتل؟

فجوابه أنّ اللّه قد علم أنّ أبويه لا يثبتان على الإيمان إلّا بقتل هذا الغلام فتعيّن وجه وجوب القتل و أنّ تبقية الغلام إذا كانت مفسدة فاللّه مخيّر في إزالتها بالموت من غير ألم و بالقتل لأنّ القتل و إن كان فيه ألم يلحق المقتول كان بإزائه أعواضا كثيرة يوازي ذلك الألم فيصير القتل في مقابلة المنافع العظيمة كأنّه ليس بألم و يدخل في قبيل الإحسان.

[وَ أَمَّا] سبب بناء [الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تحت الجدار [كَنْزٌ] لليتيمين [وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما] و اختلف في هذا الكنز:

فقيل: المراد بالكنز المال. و قيل: العلم.

في المعاني عن أمير المؤمنين، و القميّ عن الصادق عليهما السّلام: كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه؛ عجبت لمن يعلم أنّ الموت حقّ كيف يفرح؟ عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك؟ عجبت لمن يرى الدنيا و تصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها؟

و في الكنز روايات أخر بزيادة و نقيصة.

و العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام: إنّ اللّه ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة و إنّ الغلامين كان بينهما و بين أبويهما سبعمائة سنة.

و عنه عليه السّلام: إنّ اللّه ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظ في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ اللّه لكرامة المؤمن على اللّه ثمّ ذكر الغلامين و قال عليه السّلام:

ألم تر أنّ اللّه شكر صلاح أبويهما لهما؟

و في العوالي عنه عليه السّلام: لمّا أقام العالم الجدار أوحى اللّه إلى موسى إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إن خيرا فخير إن شرّا فشرّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، من وطئ فراش مسلم وطئ فراشه كما تدين تدان فبيّن سبحانه حفظ الكنز للغلامين بصلاح أبيهما و لم يذكر منهما صلاحا.

ص: 323

و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه كان بين ذلك الأب الصالح و بينهما سبعة آباء.

[فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ ينتهيا إلى الوقت الّذي يعرفان فيه نفع أنفسهما و يكبرا و يعقلا [وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما و ما] فعلت ذلك من قبل نفسي و إنّما فعلته من قبل اللّه يريد أنّه انكشف لي علم من اللّه [ذلِكَ بيان ما ثقل عليك يا موسى مشاهدته و وقوعه و استنكرته، و نسب هذه الأمور إلى أمر اللّه و هناك نسب الإرادة في قوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» إلى نفسه.

في العلل عن الصادق عليه السّلام: و إنّما نسبها إلى نفسه لعلّة ذكر التعييب. تأمّل في حسن المحاورة و حفظ الأدب في الكلام.

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا لأنّه لو كان لعرفه الناس و لم يخف مكانه و لأنّه لا نبيّ بعد نبيّنا.

قال صاحب المجمع: و هذا القول غير صحيح؛ لأنّ تبقيتة في مقدرة اللّه و يمكن أن يكون و الناس يشاهدونه و لا يعرفونه و يكون هذه خرق العادة و مثل هذه الأمور الغريبة بالنسبة إلى الأنبياء و الأولياء غير مستبعد، و قوله: «لا نبيّ بعد نبيّنا» مسلّم و لكن نبوّة الخضر كانت قبل نبوّة نبيّنا و أمّا شرعه- لو كان له شرع خاصّ- فإنّه منسوخ بشريعة نبيّنا و لو كان داعيا إلي شريعة من تقدّمه من الأنبياء فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها فلا يؤدّي إلى ما قاله الجبّائيّ، انتهى كلامه.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 87]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)

المعنى: قد بيّنّا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن قصّة أصحاب الكهف و عن الروح و عن قصّة ذي القرنين.

فالمراد من قوله: [وَ يَسْئَلُونَكَ هو ذلك السؤال و يسألونك بصيغة الاستقبال للدلالة

ص: 324

على إصرارهم على السؤال إلى ورود الجواب.

و في ذي القرنين أقوال:

الاول هو الإسكندر بن فيلقوس اليونانيّ و الدليل عليه أنّ القرآن دلّ على أنّ الرجل المسمّى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» و أيضا بلغ ملكه إلى أقصى المشرق بدليل قوله:

«حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ» و أيضا بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أنّ يأجوج و مأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، و بدليل أنّ السدّ المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ: إنّه مبنيّ في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمّى بذي القرنين في القرآن قد دلّ القرآن على أنّ ملكه بلغ أقصى المغرب و المشرق و الشمال، و هذا هو تمام القدر المعمور في الأرض.

و الملك الّذي اشتهر بهذا العنوان من بسط الملك و القدرة ليس مذكور في التاريخ و الدنيا إلّا الإسكندر. و ذلك- على ما قيل- لمّا مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثمّ جمع ملوك المغرب و قهرهم و أيعن حتّى انتهى إلى البحر الأخضر، ثمّ عاد إلى مصر فبنى الإسكندريّة و سمّاها باسم نفسه، ثمّ دخل الشام و قصد بني إسرائيل و ورد بيت المقدس و ذبح في مذبحه، ثمّ انعطف إلى أرمينيّة و باب الأبواب و دانت له العراقيّون و و القبط و البربر ثمّ توجّه نحو دارا بن دارا و هزمه مرّات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس.

ثمّ قصد الهند و الصين و غزا الأمم البعيدة و رجع إلى خراسان و بنى المدن الكثيرة و رجع إلى العراق و مرض بشهر زور و مات بها.

فلمّا ثبت بالقرآن أنّ ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلّيّة أو ما قرب منها و ثبت بعلم التواريخ أنّ الّذي هذا شأنه ما كان إلّا الإسكندر وجب القطع بأنّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس اليونانيّ.

و ذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم وجوها: الأوّل لأجل بلوغه قرني الشمس مطلعها

ص: 325

و مغربها كما لقّب أردشير بن بهمن بطول اليدين لنفوذ أمره حيث أراد و إلّا ما كان طول في يديه.

و قيل: اسمه مرزبان بن مرزويه بن يافث بن نوح.

و قيل: من أحفاد كهلان سبأ بن يعرب بن قحطان.

و قيل: هو تبّع الأكبر أوّل التبايعة.

و قيل: إنّه أفريدون بن النعمان الّذي قتل الضحّاك.

و ذكر أبو الريحان المنجّم البيرونيّ في كتابه المسمّى بالآثار الباقية من القرون الخالية أنّ ذا القرنين هو أبو كرب الحميريّ و أنّ ملكه بلغ مشارق الأرض و مغاربها و هو الّذي افتخر به التبّع اليمانيّ حيث قال:

قد كان ذا القرنين جدّي تبّعاملكا علا في الأرض غير مفنّد

بلغ المشارق و المغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد

و يمكن أن يكون هذا القول قريبا من الصحّة لأنّ الأذواء كانوا من اليمن مثل ذي المنار و ذي نواس و ذي النون و ذي رعين و ذي يزن و ذي جدن.

و لكنّ القول الصحيح الأوّل الّذي بيان سعة ملكه في القرآن حسبما يستفاد من التاريخ إنّما هو الإسكندر الروميّ، و روي: أهل النجوم قالوا له: إنّك لا تموت إلّا على أرض من حديد و تحت سماء من خشب. و كان يدفن كنز كلّ بلدة فيها و يكتب ذلك بصفته و موضعه فبلغ بابل و سقط عن دابّته فرعف فبسطت له دروع فنام عليها فآذته الشمس فأظلّوه بترس فقال: هذه أرض من حديد و سماء من خشب، فأيقن بالموت فمات و هو ابن ألف و ثمانية سنة. و قيل: ثلاثة آلاف سنة.

و اختلف في نبوّته بعد الاتّفاق على إسلامه و ولايته فقيل: كان نبيّا لقوله تعالى:

«إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» و ظاهر أنّه متناول للتمكين في الدين و كماله بالنبوّة و لقوله «وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» و جملة الأشياء النبوّة.

و الصحيح أنّه ما كان نبيّا و لا ملكا بل كان ملكا عادلا صالحا كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن ذي القرنين أ نبيّا كان أم ملكا؟ فقال عليه السّلام:

ص: 326

لا نبيّا و لا ملكا بل هو عبد أحبّ اللّه فأحبّه اللّه و نصح للّه فنصح له فبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء اللّه أن يغيب ثمّ بعثه اللّه ثانية فضربوه قرنه الأيسر فغاب عنهم ثمّ بعثه الثالثة فمكّن اللّه له في الأرض، و لعلّ البعثة الولاية لا النبوّة، ثمّ قال أمير المؤمنين: و فيكم مثله، يعني نفسه الشريفة.

و معنى قوله: [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له مكنة و قدرة على التصرّف في الأرض من حيث التدبير و الرأي و الأسباب حيث سخّر له السحاب و مدّ له في الأسباب و بسط له النور و كان الليل و النهار عنده سواء و سهل عليه المسير في الأرض و ذلّل له طريقها حتّى تمكّن منها أنّى شاء.

قوله: [وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً] أي أعطيناه من كلّ شي ء علما يتسبّب به إلى إرادته و بلوغ حاجته و يستعين به الملوك على فتح البلاد و الغلبة عليهم [فَأَتْبَعَ سَبَباً] أي كلّما أراد حصوله أتبع سببا من الأسباب الّتي اوتي في المسير من بلد إلى بلد و من قوم إلى قوم حتّى يفوز بمرامه و مقصده.

[حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي انتهى إلى آخر العمارة من جانب المغرب من الشمس و بلغ قوما لم يكن وراءهم أحد إلى موضع غروب الشمس و لم يرد بذلك أنّه بلغ إلى موضع الغروب لأنّه لا يصل إليه أحد أي تراءى له كأنّ الشمس تغرب في عين كما أنّ من كان في البحر رأى الشمس كأنّها تغرب في الماء و من كان في البرّ يراها كأنّها تغرب في الأرض الملساء لأنّ الشمس لا تزايل الفلك و لا تدخل عين الماء [وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً] أي إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكّن أحد من بلوغه فضلا عن مجاوزته و وقف على حافّة البحر المحيط الغربيّ المسمّى باقيانوس الّذي فيه جزائر الخالدات وجد الشمس تغرب في عين ذات طين أسود ذات حمئة و ماء حارّ، و قرئ «حامية» أي حارّة و لا تنافي. و وجد عند العين أو الشمس أناسا.

[قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ و استدلّ الذاهبون بنبوّته بهذا الخطاب لأنّ الوحي و الخطاب لا يجوز إلّا على الأنبياء. و كانوا قوما لباسهم جلود الوحوش و طعامهم من البحر و ما لفظه البحر و كانوا كفّارا فخيّر اللّه ذا القرنين بين أن يعذّبهم بالقتل إن أقاموا على كفرهم و

ص: 327

بين المنّ عليهم و العفو عنهم. و هذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين كما خيّر محمّدا بين المنّ على المشركين و بين قتلهم.

و قال الأكثرون: التعذيب هو القتل و أمّا اتّخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء و الدعوة إلى الإسلام بالإرشاد إلى الشرائع، هذا على قول من قال بنبوّته و من لم يقل بنبوّته قال: ذلك الخطاب بواسطة نبيّ ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبيّ.

و قيل: إنّ ذا القرنين خيّر بين القتل و الأسر. و قيل: «إمّا» و «أمّا» للتوزيع دون التخيير أي ليكن شأنك إمّا التعذيب و إمّا الإحسان فالتعذيب لمن بقي على الكفر و أمّا الإحسان لمن تاب فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء اللّه.

و [قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ و بقي على كفره [فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل و فعل، و عن قتادة:

أنّه كان يطبخ من كفر في القدور و لم يؤمن بالقدر، و من آمن فأعطاه و كساه، فقال ذو القرنين: من لم يؤمن اعذّبه و بعد عذابي [ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة [فَيُعَذِّبُهُ في الآخرة [عَذاباً نُكْراً] فظيعا و هو عذاب النار، و فيه دلالة ظاهرة على أنّ الخطاب لم يكن بطريق الوحي و أنّ مقاولته كانت مع نبيّ عصره أو مع من كان بحضرته.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 88 الى 92]

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

المعنى: فقضى ذو القرنين بأن [مَنْ آمَنَ منهم [وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ المثوبة [الْحُسْنى جزاء [وَ سَنَقُولُ و نأمر له بأمر سهل ميسور من الخراج و الزكاة و غيرهما أي أمرا ذا يسر.

قوله: [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً] أي قصد طريقا آخر ليؤدّيه ذلك السبب إلى [مَطْلِعَ الشَّمْسِ كما أنّ السبب الاولى أدّاه إلى مغرب الشمس فأراد أن يصل أقصى شرق الأرض فبلغ موضع ابتداء العمارة من الجانب الّذي تطلع من ذلك الجانب الشمس [ف وَجَدَها] أي الشمس [تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً] أي لم يكن في تلك الأرض جبل

ص: 328

و لا شجر و لا بناء يسترهم و لم يعلموا صنعة البناء و لا صنعة اللبوس.

العيّاشيّ عن أمير المؤمنين: هم قوم قد أحرقهم الشمس و غيّرت أجسادهم و ألوانهم حتّى صيّرتهم كالظلمة. قال في المجمع: كانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه و الأتراب و إذا غربت تصرّفوا في أمورهم فيكون عند طلوع الشمس يتعذّر عليهم التصرّف في المعاش و عند غروبها يشغلون بتحصيل مهمّات المعاش حالهم بالضدّ من حال الناس.

و قيل: معنى قوله: «لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» أنّه لا ثياب على جلودهم و أبدانهم كسائر الحيوانات عراة أبدا كما قيل: إنّ حال أكثر من يسكن البلاد القريبة من خطّ الاستواء كذلك. و قد ذكر في بعض كتب التواريخ أنّ ذا القرنين مع أنّ اللّه هيّأ له الأسباب و ذلّل له السحاب للسير قطع هذه المسافة في اثني عشرة سنة حتّى بلغ مطلع الشمس.

و ذكر في التفسير: أنّ بعضهم قال: سافرت سنين حتّى جاوزت الصين غاية فسألت عن هؤلاء القوم فقيل لي: بينك و بينهم مسيرة يوم و ليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش اذنه الواحدة و يلبس الاخرى، و لمّا قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي عليّ ثمّ أفقت و هم يمرخوني و يمسحوني بالدهن فلمّا طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربا لهم فلمّا ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك و يطرحونه في الشمس فينضج و إنّما لم يكن لهم بناء قيل: لأنّه لا يثبت لهم بناء.

قوله: [كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً] أي حكم هؤلاء الّذين في المطلع حكم أولئك الّذين في المغرب. و قيل: معنى «كذلك» أي أتبع سببا لبلوغ المشرق مثل ما أتبع سببا لبلوغ المغرب. و ثمّ الكلام عند قوله: «كذلك» ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: و قد علمنا ما كان عند ذي القرنين من العدّة و العدد و الآلات و السياسة.

أو المعنى: قد علمنا بصلاحه و استقلاله بما ملّكناه قبل أن يفعله كما علمناه بعد فعله و لم يخف علينا حاله. و «كذا» إشارة إلى حسن صنيع ذي القرنين و على المعنى الثاني «كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» جملة واحدة.

ص: 329

قوله تعالى: [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً] أي ثمّ أتبع مسلكا ثالثا ممّا يبلغه قطرا من أقطار الأرض و أخذ في طريق آخر.

قوله: [سورة الكهف (18): الآيات 93 الى 98]

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)

قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

اعلم لمّا بلغ المشرق و المغرب أتبع مسلكا ثالثا [حَتَّى إِذا بَلَغَ موضع [السَّدَّيْنِ قرئ بالضمّ و الفتح و قيل: بالضمّ ما فعله اللّه و بالفتح ما أحدثه الناس.

و اختلف في موضع السدّين قيل: في ناحية الشمال. و قيل: جبلان بين أرمينيّة و آذربايجان. و قيل: هذا الموضع في مقطع أرض الترك. و حكى محمّد بن جرير الطبريّ في تاريخه: أنّ صاحب آذربايجان أيّام فتحها وجّه إنسانا أتى إليه من ناحية الخزر فشاهده و وصف أنّه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

و ذكر ابن خرداد في كتاب المسالك و الممالك: أنّ الواثق باللّه رأى في المنام كأنّه فتح هذا الردم فبعث الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتّى و صلوا إليه و شاهدوه و وصفوا أنّه بناء من لبن من حديد مشيود بالنحاس المذاب و عليه باب مقفّل.

ثمّ إنّ ذلك الإنسان لمّا حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

قال أبو الريحان البيرونيّ المنجّم: مقتضى هذا البيان أنّ موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة.

و بالجملة لمّا بلغ ذو القرنين موضع السدّين [وَجَدَ] بقربهما أو ورائهما و مجاوزا عنهما امّة من الناس [لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ و قرئ يفقهون من باب المتعدّي، أي قوما لا يعرفون

ص: 330

غير لغة أنفسهم و ما كانوا يفقهون لسان ذي القرنين، و على معنى تعدية الفعل أي لا يقدرون إفهام غيرهم قولا.

فإن قيل: إذا كانوا لا يعرفون لغة غير لغتهم أو لا يقدرون إفهام غيرهم كيف قالوا «يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» و كيف فهم منهم ذو القرنين هذا المعنى؟

الجواب أنّ قوله «لا يَكادُونَ» أنّه لا يدلّ على أنّهم لا يفهمون شيئا أبدا بل كلمة «كاد» يدلّ على أنّهم يفهمون و يفهمون لكن على صعوبة و مشقّة أي لا يكادون يفهمونه و يفتهمون إلّا بعد مشقّة و صعوبة شديدة كالإشارة و القرينة و نحوها.

و في اشتقاق يأجوج و مأجوج و أنّهما من أيّ الطائفة اختلاف قيل: إنّهما اسمان أعجميّان موضوعان بدليل منع الصرف. و قيل: مشتقّان: فيأجوج مشتقّ من تأجّج النار و تلهّبها فلسرعتهم في الحركة سمّوا بذلك و مأجوج من موج البحر. و قيل: من تأجّج الملح لمناسبة الشدّة. و قيل: من أجّ الظليم إذا هرول و سمعت حفيفه في عدوه. و أمّا أنّهم من أيّ الأقوام فقيل: إنّهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح. و قيل: يأجوج من الترك و مأجوج من جيل. و قال الضحّاك: هم جيل من الترك. و قال السدّيّ: الترك سريّة من يأجوج و مأجوج، خرجت لأمر فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة عن السدّ فجميع الترك منهم.

و عن قتادة: أنّ يأجوج و مأجوج اثنتان و عشرون قبيلة سدّ ذو القرنين على إحدى و عشرين قبيلة منهم و بقيت واحدة فسمّوا الترك لأنّهم تركوا خارجين. قال أهل التاريخ:

أولاد نوح ثلاثة: سام و حام و يافث؛ فسام أبو العرب و العجم و الروم، و حام أبو الحبشة و الزنج و النوبة، و يافث أبو الترك و الخزر و الصقالبة و يأجوج و مأجوج.

و الحاصل [قالُوا] بواسطة مترجمهم على قول، أو بالذات على قول، فكان فهم ذو القرنين كلامهم من الأسباب الّتي آتاه اللّه [يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ خلف هذين الجبلين يفسدون أرضنا لأنّهم إذا كان أبان زرعنا و ثمارنا خرجوا علينا من هذين الجبلين و يأكلون زروعنا حتّى لا يبقون منها شيئا.

ص: 331

و قيل في كيفيّة إفسادهم لهؤلاء الساكنين في موضع السدّين: إنّ يأجوج و مأجوج يقتلونهم و يأكلون لحومهم فضلا عن زروعهم، و هم أقسام.

ثمّ من الناس من وصفوهم بقصر القامة و صغر الجثّة لكن لكثرتهم لا يتمكّنون هؤلاء منهم.

و من الناس وصفهم بطول القامة و كبر الجثّة و أثبتوا لهم مخاطب في الأظفار و أضراسا كأضراس السباع.

فحكى اللّه مقول قولهم لذي القولين أنّهم قالوا له: [فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا] و المراد بالخرج الخرج الّذي يأخذه السلطان. و قيل: معناه الجعل. و الخرج و الخراج معناه واحد. و قيل: الخرج الجزية و الخراج في الأرض كالزكاة.

فقال ذو القرنين: [ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ] أي ما أعطاني من المال و السعة و الأسباب خير ممّا تبذلون لي من الخراج فلا حاجة بي إليه [فَأَعِينُونِي و امددوني برجال و آلة أبني بها سدّا بينكم و بينهم، و الردم هو السدّ؛ ردمت الباب أي سددته و ردمت الثوب بالرقعة أي سددت خرقه [آتُونِي بقطع كبار من الحديد فأتوه بالزبر و القطع الكبيرة فوضعوا بعضها على بعض حتّى صارت بحيث تسدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثمّ وضع المنافخ عليها حتّى صارت الزبر كالنار ثمّ صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض و صار جبلا صلدا.

و هذا الأمر خارق على العادة بل كرامة قاهرة باهرة لأنّ هذه الزبر الكثيرة الّتي تسدّ بين الجبلين من الأسفل إلى أعلاهما إذا نفخ عليها بحيث تصير مثل النار كيف يقدر الإنسان على القرب منها و النفح عليها فكأنّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة من أبدان النافخين عليها و الملتزمين بأفعالها.

قال صاحب الكشّاف الزمخشريّ: قيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، و الصدفان بفتحتين جانبا الجبل لأنّهما يتصادفان و يتقابلان. و القطر النحاس المذاب و تقدير الآية:

آتوني قطرا افرغ عليه قطرا، و سمّي قطرا لأنّه يقطر من شدّة ميعانه.

ص: 332

[فَمَا اسْطاعُوا] فحذف التاء لقرب المخرج من الطاء أي فما قدروا بعد على الصعود لملاسته و ارتفاعه و ما قدروا على تخريبه و نفيه لأجل صلابته و ثخانته.

ثمّ حمد اللّه ذو القرنين و [قالَ هذا] إشارة إلى السدّ أي هذه النعمة من اللّه عليّ بإتمامه و على عباده براحتهم من شرّ المفسدين [فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي القيامة و دنت جعل السدّ [دَكَّاءَ] بالمدّ أي مدكوكا و مسوّى بالأرض و كلّ ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندكّ؛ و قرئ بغير المدّ [وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا] هذا آخر قول ذي القرنين و حكايته.

القميّ: إذا كان قبل يوم القيامة في آخر الزمان انهدم ذلك السدّ و خرج يأجوج و مأجوج إلى الناس و أكلوا الناس و هو قوله: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» (1).

و عن الصادق عليه السّلام: ليس منهم رجل يموت حتّى يولد له من صلبه ألف ولد ذكر، ثمّ قال: هم أكثر خلق خلقوا بعد الملائكة.

في الخصال عن الصادق عليه السّلام: الدنيا سبعة أقاليم يأجوج و مأجوج و الروم و الصين و الزنج و قوم موسى و إقليم بابل.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه عدّ من الآيات الّتي يكون قبل الساعة خروج يأجوج و مأجوج.

و عن النبيّ: سئل عن يأجوج و مأجوج فقال: يأجوج و مأجوج امّتان و كلّ امّة أربعمائة امّة لا يموت الرجل منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح، قيل: يا رسول اللّه صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم مثل الأرز- و الأرز شجر بالشام طويل- و صنف منهم طولهم و عرضهم سواء، و صنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى و لا يمرّون بفيل و لا جمل و لا وحش و لا الخنزير إلّا أكلوه و من مات منهم أكلوه و مقدّمتهم بالشام و ساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق و بحيره طبريّة.

و قيل: إنّ آدم عليه السّلام احتلم ذات يوم و امتزجت نطفته بالتراب فخلق اللّه من ذلك

ص: 333


1- الأنبياء: 96.

الماء يأجوج و مأجوج، فهم متّصلون بنا من جهة الأب.

و جاء في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله في الأمالي: أنّهم لينقرون بمعاولهم دائبين فإذا كان الليل قالوا: غدا نفرغ، فيصبحون و هو أقوى منه بالأمس حتّى يسلم رجل منهم حين يريد اللّه أن يبلغ أمره فيقول ذلك الّذي أسلم: غدا نفتحه إن شاء اللّه، فيصبحون ثمّ يغدون عليه فيفتحه اللّه، فو الّذي نفسي بيده فيخرجون على الناس، إلخ.

و في حديث آخر: فيخرجون على الناس فيشربون المياه و يتحصّن الناس في حصونهم منهم فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع السهام و فيها كهيئة الدماء فيقولون: قد قهرنا أهل الأرض و علونا أهل السماء! فيبعث اللّه بققا- و في نسخة نققا بالنون، و بالباء جمع البقّ، و بالنون جمع النق و هو العقرب أو الضفادع- في أقفائهم فيدخل البقق في آذانهم فيهلكون بها.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ دوابّ الأرض لتسمن و تسكر من لحومهم سكرا، قيل له:

يا رسول اللّه متى كان كذلك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: حين لا يبقى من الدنيا إلّا مثل صبابة الإناء.

و العيّاشيّ: عن الصادق عليه السّلام في تأويل قوله تعالى: «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» قال في تأويل الآية: الردم التقيّة «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» قال:

إذا عملت بالتقيّة لم يقدروا لك على حيلة، و العمل به هو الحصن الحصين صار بينك و بين أعداء اللّه سدّ لا يستطيعون له نقبا. «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ» مدكوكا قال: رفع التقيّة عند الكشف فينتقم من أعداء اللّه.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 106]

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106)

ص: 334

المعنى: الضمير في «تَرَكْنا بَعْضَهُمْ» قيل: راجع إلى الخلق من الجنّ و الإنس. و قيل:

راجع إلى يأجوج و مأجوج يوم انقضاء السدّ يموجون في الدنيا بين الناس مختلطين لكثرتهم كحال الموج في البحر باضطراب أمواجه و ذلك لقرب الساعة.

ثمّ ذكر سبحانه فقال: [وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] لأنّ خروج يأجوج و مأجوج من أشراط الساعة.

و اختلف في الصور قيل: هو قرن ينفخ فيه. و قيل: صور جمع صورة فإنّ اللّه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام ثمّ ينفخ فيهم كما نفخ و هم في أرحام امّهاتهم. و قيل:

إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات؛ فالنفخة الاولى نفخة الفزع و الثانية نفخة الّتي يصعق من في السماوات و الأرض بها فيموتون، و الثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم.

[فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً] أي حشرناهم يوم القيامة كلّهم في صعيد واحد [وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ و أبرزناها لهم حتّى شاهدوها و رأوا ألوان عذابها قبل دخولها.

ثمّ وصف سبحانه الكافرين فقال: [الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ذكر السبب الّذي استحقّوا به النار أي الّذين غفلوا عن الاعتبار بقدرتي الموجب لذكري و التفكّر في آياتي و دلائل توحيدي فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه عن الإدراك [وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً] أي من كثرة الغفلة كان يثقل عليهم سماع القرآن و ذكر اللّه كما يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إليك و لا يتمكّن من استماع كلامك و يثقل عليه ذلك.

القميّ: عن الصادق في هذه الآية قال عليه السّلام: يعني بالذكر ولاية عليّ عليه السّلام قال:

كانوا لا يستطيعون إذا ذكر عليّ عليه السّلام عندهم أن يسمعوا ذكره لشدّة بغضهم له و لأهل بيته. و على هذا فتمام الآية يؤول معناه في حقّ المنكرين للولاية.

قوله: [أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ جحدوا، و قرئ «أ فحسب» بسكون السين و رفع الباء بقراءة أمير المؤمنين عليه السّلام أي أ فكافيهم الّذين اتّخذوا و عبدوا إلها غيري، أو أ فظنّوا الّذين اتّخذوا عبادا غيري عبدوهم كالمسيح و الملائكة الّذين عبدوهم و اتّخذوهم أربابا ينصرونهم و يدفعون

ص: 335

عقابي عنهم ليس الأمر كذلك بل هم براء منهم و من كلّ مشرك باللّه [إِنَّا أَعْتَدْنا] و هيّأنا لهم [جَهَنَّمَ معدّة مهيّاة منزلا لهم كما يهيّؤ النزل للضيف و هو ما يقام للضيف ممّا حضر من الطعام.

[قُلْ لهم يا محمّد: [هَلْ نخبركم [بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا] و الجمع في صيغة المتكلّم للإيذان بمعلوميّة الخبر عند المؤمنين و إنّما أتى بصيغة الجمع في العمل و قال: «أَعْمالًا» للإيذان بتنوّعها من أعمالهم الحسنة بزعمهم الباطل، و هم كفّار أهل الكتاب اليهود و النصارى [الَّذِينَ يظلّ و [ضَلَّ سَعْيُهُمْ و اجتهادهم [فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بفعلهم محسنون و أنّ أفعالهم طاعة و قربة.

القميّ: نزلت في اليهود و جرت في الخوارج. و عن الباقر عليه السّلام: هم النصارى و القسّيسون و الرهبان و أهل الشبهات و الأهواء من أهل القبلة و الحروريّة و أهل البدع.

و في الاحتجاج عن امير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: كفرة أهل الكتاب اليهود و النصارى و قد كانوا في زمانهم على الحقّ فابتدعوا في أديانهم و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

ثمّ قال عليه السّلام: و ما أهل النهروان منهم ببعيد. و العيّاشىّ عنه عليه السّلام مثله. و في الجوامع عنه عليه السّلام: هي كقوله: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» (1) و قال: منهم أهل حرورا من الخوارج.

قوله: [أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أي أولئك جحدوا بحجج اللّه و بيّناته. و المراد باللقاء لقاء جزائه في الآخرة فبطلت و ضاعت [أَعْمالُهُمْ الّتي عملوها لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم اللّه به فلا قيمة لعملهم عندنا و لا قدر و لا وزن لها.

[ذلِكَ أي حبوط الأعمال و خيبة القدر. و الإشارة إلى هذه الأمور المذكورة ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: [جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بسبب كفرهم و اتّخاذهم آياتي من الرسل و القرآن مهزوءا به فقوله تعالى «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» من شواهد

ص: 336


1- الغاشية: 3.

القائلين بالحبط و التكفير حبوطا كلّيّا لعلّ لا ينصب لعملهم ميزان لانحباط أعمالهم و الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات و السيّئات ليتميّز به مقادير الطاعات و المعاصي و ذلك في الموحّدين بطريق الكمّيّة و أمّا الكفر و إنكار آيات اللّه و رسله و أوليائه فإحباطه للعمل بحسب الكيفيّة دون الكمّيّة، فحينئذ لا يوضع لهم الميزان لأنّها قد حبطت.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين في حديث يذكر فيه أهل الموقف و أحوالهم: و منهم أئمّة الكفر و قادة الضلالة فأولئك لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا و لا يعبأ بهم لأنّهم لم يعبئوا بأمره و نهيه و هم في جهنّم خالدون تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه للمأمون: و يجب البراءة من أهل المتقدّمين من غير مقدّم و من أبي موسى الأشعريّ و أهل ولايته الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا أولئك الّذين كفروا بآيات ربّهم بولاية أمير المؤمنين، و لقائه أي كفروا بأن لقوا اللّه بغير إمامته فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فهم كلاب أهل النار.

قوله تعالى: [سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 110]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

لمّا تقدّم ذكر حال الكافرين عقّبه بذكر حال المؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ صدقوا اللّه و رسله [وَ عَمِلُوا] الأعمال الصالحة من أداء الفرائض و السنن، و العطف يدلّ على المغائرة [كانَتْ لَهُمْ جنّة [الْفِرْدَوْسِ قيل: الفردوس وسط الجنّة و أفضلها. و عن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنّة الفردوس، و فيها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر. و عن مجاهد: «الفردوس» هو البستان بالروميّة. و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين مسيرة مائة عام و الفردوس أعلاها درجة و منها الأنهار الأربعة و الفردوس من فوقها فإذا سألتم اللّه الجنّة فاسألوه الفردوس فإنّ فوقها عرش الرحمن و منها يتفجّر أنهار الجنّة.

ص: 337

قوله: [نُزُلًا] على المعنيين يمكن عبارة عن المأوى أو عبارة عمّا يحضر للضيف من الطعام و التشريفات. دائمين في تلك الجنّات لا يطلبون عن تلك الجنات تحوّلا إلى موضع آخر لطيبتها و حصول مرادهم فيها.

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه فقال: [قُلْ يا محمّد لجميع المكلّفين بعد ما ذكر في هذه السورة من أنواع الدلائل و البيّنات و شرح بعض أقاصيص الأوّلين: إنّ البحار كيف ما فرضت في الاتّساع و العظمة لو جعلت بمنزلة المداد- و المداد اسم لما تمدّ به الدواة من الحبر و لما يمدّ به السراج من السليط- و أردت أن تكتب كلمات اللّه و حكمه و علمه لنفدت، و معلوم أنّ المتناهي لا يفي البتّة لغير المتناهي.

روي أنّ حييّ بن أخطب قال: في كتابكم «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (1) ثمّ تقرءون «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (2) فنزلت هذه الآية يعني أنّ ذلك خير كثير و لكنّه قطرة من بحر كلمات اللّه.

و روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا نزل «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» قالت اليهود:

أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و فيها علم كثير؛ فأنزل اللّه هذه الآية. ثمّ علّم اللّه نبيّه التواضع فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه مع أنّه مخاطب الوحي و مكرّم بالقرآن و النزول عليه فإنّه آدميّ كغيره.

و [أَنَا] في البشريّة [مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ] لا شريك له و لا فضل إلّا بالدين و النبوّة و لا علم إلّا ما علّمنيه اللّه [فَمَنْ كانَ يطمع في [لِقاءَ] ثواب [رَبِّهِ و يأمل الوقوف بين يديه و يخشى لقاء عقابه؛ لأنّ الرجاء يشتمل المعنيين الخوف و الأمل قال الشاعر:

فلا كلّ ما ترجو من الخير كائن و لا كلّ ما ترجو من الشرّ واقع

[فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً] خالصا للّه يتقرّب به و لا يجعل بعبادة اللّه أحدا شريكا من ملك أو نبيّ أو بشر أو حجر أو شجر، لا يرائي في عبادته أحدا.

عن سعيد بن جبير و غيره: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّي أتصدّق و أصل

ص: 338


1- البقرة: 269.
2- الإسراء: 75.

الرحم و لا أصنع ذلك إلّا للّه فيذكر ذلك منّي و احمد عليه فيسرّني ذلك و اعجب به، فسكت رسول اللّه و لم يقل شيئا فنزلت الآية.

قال عطا عن ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى قال: «وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و لم يقل:

«و لا يشرك به» لأنّه أراد العمل الّذي يعمل للّه و يحبّ أن يحمد عليه، قال: و لذلك يستحبّ للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظّمه من يصله بها.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال اللّه عزّ و جلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بري ء فهو الّذي أشرك.

و روي عن عبادة الصامت و شدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك و من صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية.

و روي أنّ أبا الحسن الرضا عليه السّلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة و الغلام يصبّ على يده الماء فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا فصرف المأمون الغلام و تولّى إتمام وضوئه بنفسه.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: العمل الصالح المعرفة بالأئمّة و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا التسليم لعليّ و لا يشرك معه بالخلافة من ليس ذلك لها أهل.

و القميّ عنه: و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا، قال: لا يتّخذ مع ولاية آل محمّد غير ولايتهم، و العمل الصالح ولايتهم.

و قيل: إنّ هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن. و في الكافي: آخر سورة نزلت «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و أوّل ما نزلت بسم اللّه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ».

و روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه عن جدّه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ما من عبد يقرأ «قُلْ إِنَّما أَنَا» إلى آخره إلّا كان له نور في مضجعه إلى بيت اللّه الحرام فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نور إلى بيت المقدس.

و قال أبو عبد اللّه الصادق: ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا تيقّظ في الساعة الّتي يريدها.

ص: 339

هنا ينتهي الجزء السادس من الكتاب مشتملا على سور يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء و الكهف. و بهذا الجزء ينتصف القرآن الكريم، وفّقنا اللّه لإتمامه

ص: 340

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.