مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

اشارة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تتمة تفسير سورة الأعراف

[سورة الأعراف (7): آية 103]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

ذكر سبحانه في هذه القصّة من الشرح ما لم يذكر بهذا التفصيل في سائر القصص لأنّ معجزات موسى أقوى و أبسط و جهل أمّته كان أعظم.

و ضمير «من بعدهم» يجوز أن يرجع إلى الأنبياء أو إلى أممهم الّذين تقدّم ذكرهم بإهلاكهم.

قال ابن عبّاس: أوّل آياته العصا ثمّ اليد؛ ضرب بالعصا باب فرعون فنزع منها فشاب رأسه فاستحيا فخضب بالسواد فورا؛ فهو أوّل من خضب، و كان للعصا مآرب قال اللّه: «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» قال ابن عبّاس: إنّه كان يضرب بها الأرض فتنبت، ثمّ هي تحرب السباع الّتي تقصد غنمه، تشتعل بالليل كالشمعة و تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة.

[فَظَلَمُوا بِها] بالآيات الّتي جاءتهم لأنّ الظلم وضع الشي ء في غير موضعه و هؤلاء بعد رؤية الآيات عوضا أن يقرّوا بنبوّته أنكروا و وضعوا الإنكار مكان الإقرار [فَانْظُرْ] بعين عقلك [كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف فعلنا بهم؟

[سورة الأعراف (7): الآيات 104 الى 106]

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)

ص: 2

و بعد أن بعث موسى أتى فرعون و قال له: [إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و واجب عليّ أن لا أقول على اللّه إلّا الحقّ. و العرب تستعمل «على» بمعنى الباء كما تستعمل الباء بمعنى «على» كقوله: «بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ» أي على كلّ صراط.

و لمّا قرّر رسالته فرّع و شرع لفرعون تبليغ رسالته قال: [فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلق عنهم، و كان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقّة مثل نقل التراب و ضرب اللبن فعند هذا الكلام قال فرعون: [إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها] و أحضر عندي آيتك ليصحّ دعواك في الرسالة.

و كان فرعون استعبد بني إسرائيل بعد انقراض الأسباط، فأفقدهم اللّه بموسى، و كان بين اليوم الّذي دخل يوسف مصر و اليوم الّذي دخل موسى أربعمائة عام و ألفا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 107 الى 110]

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110)

الفاء فاء الجواب أي فكان جواب موسى لفرعون إلقاء العصا. و «إذا» ظرف مكان و يسمّى ظرف المفاجاة، و هي بخلاف «إذا» الّتي ظرف زمان، و ظرف المكان في موضع نصب. و «العصا» عود كالقضيب يابس و أصله الامتناع بيبسه، و ليست المعصية مشتقّة من العصا لأنّ العصا من بنات الواو و المعصية من بنات الياء.

و الثعبان الحيّة العظيمة الضخمة الطويلة أعظم الحيّات و هو الذكر، و أمّا مقدارها فغير مذكور في القرآن لكن نقل عن المفسّرين في صفتها أشياء: فعن ابن عبّاس أنّها ملأت ثلاث و ثمانين ذراعا فشدّت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا، و أحدث و انهزم الناس و مات منهم خمسة و عشرون ألفا. و قال غيره: كان بين لحييها أربعون ذراعا وضع لحيها الأسفل على الأرض و الأعلى على سور القصر فصاح فرعون- و كان اسمه الوليد ابن مصعب، و قيل: قابوس، و فرعون لقبه- و «ثعبان» مشتقّ من ثعبت الماء إذا فجرته و «المثعب» موضع انفجار الماء فسمّي الثعبان لأنّه تجري كعنق الماء عند الانفجار فصاح فرعون: يا موسي خذها فأنا او من بك، فلمّا أخذها موسى عادت عصا كما كانت.

ص: 3

و أمّا تفصيل العصا فقيل: إنّه أعطاه ملك حين توجّه إلى مدين. و قيل: إنّه عصا آدم من أسّ الجنّة حين اهبط، و كان تدور في أولاد آدم حتّى انتهت النبوّة إلى شعيب فكان ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه فلمّا استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصيّ و قال له: خذ عصا من تلك العصيّ فوقع تلك العصا بيده فاستردّه شعيب و قال: خذ غيرها، حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات في كلّ مرّة تقع يده عليها دون غيرها فتركها بيده في المرّة الرابعة.

فلمّا خرج من عنده متوجّها إلى مصر رأى في الطريق نارا نحو الشجرة فناداه اللّه أن يا موسى: إنّي أنا اللّه و أمره بإلقائها كما تقدّم بيانه في غير هذا الموضع.

و كان الأنبياء يتّخذون العصا تجنّبا من الخيلاء؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: تعصّوا فإنّها من سنن إخواني المسلمين، عن أمير المؤمنين قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من خرج في سفر و معه عصا من لوز و تلا هذه الآية: «وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إلى قوله- وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (1) آمنه اللّه من كلّ لصّ و ضارّ و من كلّ ذات حمة حتّى ترجع إلي أهله، و كان معه من المعقّبات يستغفرون له حتّى يرجع و يضعها. و قيل: أوّل من أخذ العصا في الخطبة قسّ بن ساعدة الأياديّ.

و بالجملة قال له فرعون: هل لك آية اخرى؟ قال موسى: نعم فأدخل موسى يده في جيبه ثمّ أظهرها- و «النزع» إزالة الشي ء عن مكانه المتمكّن فيه كنزع الرداء عن الإنسان- فلمّا أخرج يده من جيبه و من تحت إبطه فإذا هي بيضاء. قال ابن عبّاس: و كان لها نور ساطع يضي ء ما بين السماء و الأرض غلب شعاعه شعاع الشمس، ثمّ أعاد اليد إلى إبطه فعادت إلى لونها الأوّل.

فإن قيل: إنّ اللّه وصف أنّ العصا صارت حيّة عظيمة و قال في موضع آخر: «كأنّها جانّ» و الجانّ الحيّة الصغيرة و اختلف الوصفان؟

فالجواب أنّ الآيتين ليستا عن قصّة واحدة بل الحالتان مختلفتان، و الحالة الّتي

ص: 4


1- القصص: 21- 29.

يصفه الجانّ كانت في ابتداء النبوّة عند الشجرة، و هذه عند لقاء موسى فرعون و يمكن أنّ وجه التشبيه بالجانّ لسرعة حركتها و خفّتها مع أنّها في جسم الثعبان.

قال الأشراف من قوم فرعون: إنّ موسى كثير العلم بالسحر و يريد أن يستميل لقلوب بني إسرائيل إليه و يتقوّى بهم و يخرجكم من ملككم فماذا رأيكم تأمرون به؟

قيل: هذا الخطاب من الأشراف إلى فرعون و ضمير الجمع لتفخيم الملوك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 111 الى 114]

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

قرأ نافع و الكسائيّ بغير همزة و كسر الهاء، و قرأ عاصم و حمزة بالهمزة و ضمّ الهاء قال الواحديّ: «أرجه» مهموز و غير مهموز لغتان أي أخّره و أخّر حكمه و حكم أخيه، و قال الكلبيّ: أي احبسه، و هذا قول ضعيف؛ لأنّ الإرجاء في اللّغة التأخير لا الحبس.

[وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ و البلدان الّتي حولك [حاشِرِينَ جامعين للسحرة فيجمعون من يعلمونه منهم، و «الياء» إذا كانت غير أصليّة همّزت في الجمع كقبائل و إذا كانت أصليّة لم تهمز في الجمع كمعايش و قيل: المراد من «حاشرين» أصحاب الشرط أرسلهم في جمع السحرة، و كان السحرة اثنين و سبعين رجلا، عن ابن عبّاس.

[يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ليعارضوا موسى فجاؤوا من مدائن الصعيد و كان رئيسهم رجلا مجوسيّا من أهل نينوا بلدة يونس عليه السّلام، و هي قريبة من الموصل، و هذا بعيد لأنّ المجوس أتباع زردشت، و زردشت إنّما جاء بعد موسى.

[وَ جاءَ السَّحَرَةُ] و قالوا للفرعون: هل لنا أجر إن غلبنا موسى عليه السّلام؟ قال فرعون:

لكم أجر و بعد الأجر أنّكم يصيرون عندي من المقرّبين.

و هذه الآية دليل على أنّ السحر ليس له حقيقة أصليّة و أنّ الساحر لا يقدر أن يقلّب الأعيان. و إلّا لما احتاجوا إلى الأجر و ما طلبوه، و لو أنّهم كانوا قادرين على قلب الأعيان فلم يجعلون السحر كسبهم؟ و لم يقلّبوا التراب ذهبا؟ و لم لم يقلّبوا ملك فرعون إلى أنفسهم و يصيرون ملوك العالم؟.

ص: 5

[سورة الأعراف (7): الآيات 115 الى 122]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)

وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)

قال علماء النحو في باب إمّا و أمّا: إذا كنت آمرا أو ناهيا أو مخبرا فهي مفتوحة، و إذا كنت مشترطا أو شاكّا أو مخيّرا فهي مكسورة؛ تقول في المفتوحة: أمّا اللّه فاعبدوه و أمّا الخمر فلا تشربوها، و في المكسورة فتقول إذا كنت مشترطا: فإمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم، و تقول في الشكّ: لا أدري من قام إمّا زيد أو عمرو، و تقول في التخيّر: لي بالكوفة دار فإمّا أن أسكنها و إمّا أن أبيعها.

قال السحرة لموسى: اختر أن تلقي أو نلقي، فرزقهم الإيمان ببركة رعاية الأدب.

و يتبيّن من الكلام أنّ القوم كان رغبتهم في الإلقاء ابتداء لأنّهم ذكروا الضمير المتّصل و أكّدوه بالمنفصل.

فلمّا رأى موسى رغبتهم في الإلقاء قال: ألقوا ما أنتم ملقون؛ فلو قيل: إنّ أمر موسى إيّاهم بالإلقاء مع أنّ هذا الفعل معارضة للمعجزة و هو حرام؛ لأنّ موسى علم أنّهم يفعلون و إنّما التخيّر في التقديم و التأخير، و أنّه عليه السّلام يريد إبطالهم ما يكون بالسحر و ما كان يتحقّق هذا الإبطال إلّا بالإلقاء فأذن لهم بالتقديم ثقة بما وعده اللّه و هو كمن يريد سماع شبهة منهم ليجيب عنها فكذا هاهنا، و كان عملهم مجرّد التمويه و لو كان له حقيقة ثابته لما قيل: [فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ و لم يقل: سحروا قلوب الناس فقلّبوا الأعين عن صحّة إدراكها و قد أتوا بالحبال و العصيّ و لطخوها بالزيبق و جعلوا الزيبق في دواخل العصيّ فلمّا أثّر تسخين الشمس فيها كقمر ابن المقفّع تحرّكت و التوى بعضها ببعض و الناس تخيّلوا أنّها تتحرّك باختيارها و قدرتها.

[وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ قيل: السين زائدة، قال الزجّاج: ليست بزائدة بل إنّ السحرة بعثوا جماعة من الناس ينادون عند إلقاء ذلك: أيّها الناس احذروا و هذا هو الاسترهاب

ص: 6

[وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ قيل: إنّهم كانوا بضعة و ثلاثين ألفا، و اختلفت الروايات حتّى روي إلى سبعين ألفا.

و لمّا ألقوا أوحى اللّه إلى موسى أو ألهمه: [أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فيه حذف و إضمار و التقدير: فألقاها. و تلقف قرئ مشدّدة، و اللّقف الأخذ السريع إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته. فصارت العصا ثعبانا و ابتلعت ما ألقوا، و «ما» موصولة أي الّذي أفكوه؛ لأنّ ما ألقوه و أفكوه كذب لا حقيقة، فلقفت الحيّة إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك قيل: المأفوك كان حمل ثلاثمائة بعير؛ فقال السحرة: لو كان ما صنع سحرا مثل ما صنعنا لبقيت حبالنا و عصيّنا و لم تفقد، و ذلك إنّما حصل بقدرة اللّه لا السحر.

[فَغُلِبُوا هُنالِكَ و رجعوا صاغرين و ذليلين؛ فاستدلّوا بهذا الأمر على أنّ موسى نبيّ صادق فلأجل علمهم و استدلالهم خرجوا عن عطلة الكفر و دخلوا في هداية الإيمان.

[وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ و لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين و آمنوا في حال السجود فسجدوا شكرا للّه على هدايتهم أوّلا لنعمة الإيمان، ثمّ [قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال فرعون: إيّاي يعنون لأنيّ ربّيت موسى! قالوا و هارون فزالت الشبهة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)

قرئ «ء أمنتم» بهمزتين على سبيل الاستفهام.

لمّا رأى فرعون أنّهم أقرّوا بنبوّة موسى عند اجتماع الخلق العظيم فألقى في الحال شبهتين إلى أسماع الناس:

الاولى أنّ هذا لمكر مكرتموه، و أنّكم تواطأتم مع موسى أنّه إذا كان كذا و كذا فنحن نؤمن بك.

و الثانية أنّهم تواطؤوا مع موسى لأجل إخراج القوم من المدينة و إبطال ملكهم فيصيرون ملوكا.

ص: 7

و عن محمّد بن جرير عن السدّيّ في حديث عن ابن عبّاس و ابن مسعود و غير هما أنّ موسى و أمير السحرة التقيا فقال موسى: أ رأيتك إن غلبتك أ تؤمن بي؟ قال الساحر: لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه سحر، لئن غلبتني لأومننّ بك، و فرعون ينظر إليهما و يسمع قولهما، فهذا قول فرعون: [إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ .

فهدّدهم فرعون بالوعيد فقال: [فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ و ما اقتصر على هذا الوعيد المجمل فقال: [لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ و قطع اليد و الرجل من خلاف هو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين إمّا من اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو من اليد اليسرى و الرجل اليمنى.

و هل هذا الوعيد حصل أم لا؟ قال ابن عبّاس: حصل لقوله تعالى حكاية عنهم:

«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» يدلّ على أنّه قد نزل بهم بلاء شديد. و قال بعض: ما حصل. و قالوا لفرعون: [وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا] و قولهم: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» أي صبّ علينا كلّ الصبر لأنّ الإفراغ صبّ جميع ما في الإناء و توفّنا على حالة الإسلام و التسليم لدينك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 129]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

روي أنّه لمّا أسلم السحرة و آمنوا آمن من بني إسرائيل ستّمائة ألف نفس فقال الأمراء من أصحاب فرعون: أ تذر موسى و قومه ليظهروا مخالفتك بعبادة غيرك؟ و كان فرعون يستعبد الناس و هو بنفسه يعبد الأصنام. قال السدّيّ يعبد ما يستحسن من البقر و قيل: إنّه كان يأمر بعبادة البقر و لذلك أخرج السامريّ لهم عجلا جسدا له خوار لكن قال مجاهد:

فرعون يعبد و لا يعبد.

قال فرعون: [سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ الّذين فيهم النجدة و القوّة و نستبقي بناتهم و نساءهم إذ لا يكون فيهنّ النجدة و القوّة و قد انقطع طمعه عن موسى لما رأى من علوّ قدرته و قوّته فانتقل إلى عذاب المستضعفين [وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ .

ص: 8

فشرع ثانيا بقتل بني إسرائيل فشكى بنو إسرائيل إلى موسى فأمرهم بالاستعانة باللّه و الصبر على دينكم و على أذى فرعون [إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ .

[قالُوا] أي بني إسرائيل لموسى: قد أوذينا قبل مجيئك بالنبوّة بقتل أولادنا، و أوذينا بعد مجيئك هذا اليوم بهذا القتل الثاني فجدّد موسى لهم بالوعد قال: [عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ مكانهم [فِي الْأَرْضِ فيرى بوقوعه فيكم ليجازي عباده بالوقوع لا على ما يعلم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 131]

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)

اللّام للقسم أي و لقد عاقبنا قوم فرعون بالجدب و القحط و نقصان من ثمراتهم، و إنّما انزل عليهم هذه المضارّ ليتذكّروا و ينقادوا و مع ذلك أقدموا على ما يزيد في عصيانهم.

[فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ] أي النعمة و الثمار و الخصب قالوا: هذه النعم لاستحقاقنا [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ] يريد القحط و المرض. و الشدّة يتشأّموا بموسى و قومه ألا إنّ طائرهم و شؤمهم لقضاء اللّه و حكمه و يقال للشؤم: طيرة و طائر، و العرب كانوا في عنافة الطير و زجرها رغبة و يزعمون التطيّر ببارحها و نعيق غربانها و الأخذ بذات اليسار إذا أثاروها من أوكارها فقالوا: بارح و ربّ الكعبة، و إذا أخذت ذات اليمين قالوا: سارح و ربّ الكعبة و تفأّلوا بها فأبطل اللّه بقوله: «إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» أنّه بقضائه و أنّ طيرتهم باطلة.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا طيرة و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يتفأّل و لا يتطيّر، و الفال الكلمة الحسنة كقول الرجل من غير قصد في كلامه: يا سالم فيتفأّل به للمريض أو المسافر بالسلامة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 132 الى 133]

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)

حكى سبحانه من جهالاتهم بأنّهم لم يميّزوا المعجزة من السحر، و جعلوا انقلاب العصا ثعبانا من باب السحر فقالوا:

[مَهْما تَأْتِنا بِهِ و كلمة «مهما» أصلها ماما، و ما الاولى ما الجزاء و الثانية تأكيد للجزاء كما يراد في «كيفما» ثمّ أبدلوا من ألف ما الاولى هاء كراهة تكرار اللفظ فصار مهما، هذا قول

ص: 9

البصريّين، و قال الكوفيّون: ما الأولى أصلها «مه» بمعنى اكفف دخلت على ما الّتي للشرطيّة فصيّر المعنى اكفف فيكون المعنى أي شي ء تأتي به فهو سحر و نحن لا نؤمن بها البتّة.

و لمّا قالوا هذا الكلام لموسى قال ابن عبّاس: و كان موسى عليه السّلام رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب اللّه دعاءه فأرسل اللّه عليهم الطوفان عقوبة لجرائمهم أي الماء الّذي طاف بهم و غشي أماكنهم و حروثهم من مطر و سيل. و قيل: الجدري. و قيل: الطاعون.

قال الصادق عليه السّلام: الماء طاف بهم و الطاعون و أرسل الطوفان من سبت إلى سبت و من اسبوع إلى اسبوع ليلا و نهارا.

فاستغاثوا و صرخوا إلى فرعون، فأرسل فرعون إلى موسى و قال: اكشف عنّا العذاب فقد صارت المصر بحرا واحدا لئن كشفت عنّا العذاب آمنّا بك، فأزال اللّه عنهم العذاب و أرسل الرياح فجفّفت الأرض و خرج من النبات ما لم يروا مثله قطّ. فقالوا: هذا الّذي جزعنا منه خير لنا لكنّا لم نشعر به فلا و اللّه لا نؤمن بك و لا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد.

فأرسل اللّه عليهم الجراد، فأكل النبات و عظم الأمر عليهم حتّى صارت عند طيرانها تغطى الشمس و وقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا فأكلت النبات فصرخ أهل مصر، فدعا موسى فأرسل اللّه ريحا فألقته في البحر فنظر أهل مصر إلى أنّ بقيّة من زروعهم تكفيهم، فقالوا: هذا الّذي بقي يكفينا و لا نؤمن بك يا موسى، و بين كلّ عذاب و عذاب سنة.

فأرسل اللّه عليهم القمّل من سبت إلى سبت و هي السوس و قيل: صغار الجراد فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلّا أكلته فصاحوا و استغاثوا لموسى و عاهدوا بالإيمان فأرسل اللّه عليها ريحا حارّة فأحرقتها، و أماتتها و احتملتها الريح فألقتها في البحر فلم يؤمنوا.

فأرسل اللّه عليهم الضفادع فصرخوا إلى موسى و حلفوا بإلهه لئن رفعت عنّا هذا العذاب لنؤمن بك فدعا موسى فأمات اللّه الضفادع و أرسل عليها المطر و السيل فأزالها إلى البحر ثمّ أظهروا الكفر و الفساد.

فأرسل اللّه عليهم الدم فجرت أنها رهم دما فكان للقبطيّ دما و للإسرائيليّ يراه ماء فإذا شربه الإسرائيليّ كان ماء و القبطيّ كان دما، و كان القبطيّ يقول للإسرائيليّ: خذ

ص: 10

الماء في فيك و صبّه في فمي فكان إذا صبّه في فم القبطيّ تحوّل دما، و إنّ فرعون اعتراه العطش حتّى أنّه اضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها تصير في فمه دما، فمكثوا سبعة أيّام يشربون الدم و قيل: الدّم الّذي سلّط اللّه عليهم الرعاف.

فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربّك أن يكشف عنّا هذا الدم فنؤمن و نرسل بني إسرائيل معك، لأنّ فرعون كان قد حبس بني إسرائيل عنده، فلمّا رفع اللّه عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلّوا عن بني إسرائيل.

و مكث موسى فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات بين برهة من الزمان «مفصّلات» فصّل بين بعضها و بعضها، فاستكبروا مع ذلك و صاروا قوما مجرمين أو كان بمعناه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 135]

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

اختلفوا في المراد من الرجز فقال بعضهم: المراد الأنواع الخمسة المذكورة. قال سعيد بن جبير: المراد الطّاعون الّذي أصابهم في يوم واحد فمات منهم سبعون ألف قبطيّ فتركوا بغير دفن فقالوا: [ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي المعاهدة الّتي بيننا بأن إذا آمنّا رفع العذاب عنّا.

و قيل: الباء للقسم و جوابه «لنؤمننّ» و قيل: معنى قوله: «بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» أي بما تقدّم لك أنّك إن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في تلك المرّات.

قال الصادق عليه السّلام: إنّه قد أصابهم فلج أحمر و لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه.

قوله: [فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ] إلى وقت معيّن هم بالغوه لا مطلقا و بالكلّيّة فاجؤوا النكث و الخلف.

[سورة الأعراف (7): آية 136]

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

لمّا كشفنا عنهم العذاب من قبل مرّات و كرّات و لم يمتنعوا عن كفرهم ثمّ بلغوا الأجل الموقّت انتقمنا، و الانتقام سلب النعمة بالعذاب. و «اليمّ» البحر و معظم مائه و اشتقاقه من التيمّم لأنّ المستقين به يقصدونه و كانوا عن هذه النقمة غافلين.

ص: 11

و الضمير عائدة و مرجعه إلى النقمة الّتي دلّ عليها قوله «انتقمنا» أو إلى الآيات، و المراد عن الغفلة عدم الاعتناء.

[سورة الأعراف (7): آية 137]

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

المراد بالاستضعاف اتّخاذ فرعون بني إسرائيل عبيدا و قتل أبنائهم و أخذ الجزية منهم.

قوله: [مَشارِقَ الْأَرْضِ قيل: مشارق أرض الشام و مصر لأنّها هي الّتي كانت تحت تصرّف فرعون و هي الّتي بوركت بالخصب و النعمة. و قيل: المراد جملة الأرض و ذلك لأنّه خرج من جملة بني إسرائيل داود و سليمان و قد ملك الأرض.

و [الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة، المراد إنجاز الوعد الّذي تقدّم بإهلاك عدوّهم و استخلافهم في الأرض، و ذلك بسبب صبرهم على البلاء. و من قابل البلاء بالجزع وكله اللّه إليه، و من قابله بالصبر ضمن اللّه له بالفرج.

قوله: [ما كانَ يَصْنَعُ يريد معروشات فرعون من الجنّات و بنائه المشيّد كصرح هامان.

[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 139]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

و لمّا ضرب موسى عصاه على البحر و فلقه و جعله اللّه يبسا، و جاوز بنو إسرائيل البحر شاهدوا قوما ملازمين على أصنام يعبدونها. يقال: عكف أي لزم شيئا، و المعتكف ملازم المسجد.

قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم و كانوا نزولا بالرّيف و كانت الأصنام تماثيل بقر، و ذلك أوّل بيان قصّة العجل و منشؤه.

فلمّا رأوا تلك التماثيل قالت بنو إسرائيل لموسى: [اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ]

ص: 12

و طلبوا من موسى أن يعيّن لهم تمثالا يتقرّبون بعبادته إلى اللّه و هذا القول هو الّذي حكاه عن عبدة الأوثان حيث قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى و من المعلوم أنّ هذا القول ما صدر من جميع بني إسرائيل لأنّه كان مع موسى السبعون المختارون و كان فيهم من يرتفع شأنه عن مثل هذا السؤال الباطل، فأجابهم موسى أنّكم قوم جاهلون.

ثمّ بيّن لهم موسى أنّ هؤلاء العاكفين على عبادة الأصنام متبّرون و هالكون، من تفتّت التبر و الذّهب المتكسّر و أنّ عملهم باطل.

[سورة الأعراف (7): آية 140]

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)

قال موسى على سبيل التعجّب و الإنكار: أغير اللّه أطلب لكم إلها، و بعض جعلوا «إلها» حالا و «غيرا» مفعولا به، و بعض بالعكس. و هو فضّلكم على أهل زمانكم و أنتم اختصصتم بهذه الآيات على تمام أهل عالمكم.

[سورة الأعراف (7): آية 141]

وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

و تفسير هذه الآية مرّ في سورة البقرة لا حاجة إلى الإطالة. و الغرض في بيان نعم اللّه على بني إسرائيل فكيف يليق مع هذه النعم عبادة غيره؟

[سورة الأعراف (7): آية 142]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

قرئ «و وعدنا» روي أنّ موسى و هو بمصر وعد بني إسرائيل أن إذا أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلمّا هلك فرعون سأل موسى ربّه الكتاب، فهذه الآية بيان كيفيّة نزول التوراة.

فإن قيل: و ما الحكمة هاهنا في ذكر الثلاثين ثمّ إتمامها بعشر؟

و أيضا لو قيل: إنّ قوله: [فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] يتبيّن أنّه كلام عار عن الفائدة؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر يكون أربعين؟

فالجواب أنّه أمر تعالى موسى بصوم ثلاثين يوما و هو شهر ذي القعدة و أن يعمل فيها ما يقرّبه إلى اللّه فبعد أن أتمّ الثلاثين أنزلت التوراة في العشرة البواقي، و كلّمه و

ص: 13

ناجاه في العشرة الرابعة فتمّت النعمة بهذا الترتيب فهذه هي الفائدة في تفصيل الأربعين بهذا البيان.

و يمكن أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين فلمّا أعلمه اللّه خبر قومه مع السامريّ رجع فورا إلى قومه، ثمّ عاد إلى الميقات في عشرة أخرى، فتمّ أربعون ليلة.

و يمكن أن يكون الوعد الأوّل لموسى وحده و حضره، و الوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام اللّه فصار الموعد اثنان لاختلاف حال الحاضرين.

قال الرازيّ في المفاتيح و العلّامة أبو السعود في تفسيره: إنّه تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوما فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة: كنّا نشمّ عن فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى اللّه إليه أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ثمّ أمره أن يزيد عليها عشرة أيّام ذي الحجّة لهذا السبب.

و عن الجواب الثاني أجابوا أنّه تعالى: قال «أربعين» إزالة لتوهّم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنّه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنّه كان عشرين ثمّ أتمّه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإبهام.

و قوله: [أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] نصب على الحال أي تمّ بالغا هذا العدد.

[اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي كن خليفتي فيهم [وَ أَصْلِحْ ما يجب أن يصلح لهم، و من دعاك إلى الفساد فلا تطعهم.

فإن قيل: إنّ هارون كان نبيّا و النبيّ لا يفعل إلّا الصلاح؛ فالمقصود التأكيد.

و «الميقات» يمكن أن يكون ظرف زمان، و يمكن أن يكون ظرف مكان كما استعمل في مواقيت الإحرام، فإنّها ظروف للأمكنة المخصوصة لأهل الآفاق.

[سورة الأعراف (7): آية 143]

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

دلّت الآية على أنّه سبحانه كلّم موسى في الميقات و هاهنا بيانات عالية من العلوم الالهيّة، و من المعلوم أنّه سبحانه ما كلّمه بلسانه فإنّه منزّه من أن يكون له لسان و فم

ص: 14

يتكلّم به، بل إنّ اللّه أحدث الكلام في الشجرة و جعل الكلام منبعثا منها فسمع كلامه من جميع الأطراف من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام.

قوله: [وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ أي من غير واسطة سفير من الملائكة كما يكلّم الملائكة كما يكلّم الملائكة من غير سفير.

و اختلفوا في أنّه تعالى كلّم موسى وحده أو كلّمه مع أقوام آخرين؟ و ظاهر الآية يدلّ على الأوّل. و قال جماعة منهم القاضي عبد الجبّار: بل السبعون المختارون سمعوا أيضا؛ لأنّ الغرض من إحضارهم أن يخبروا قوم موسى و يشهدوا عمّا يجري هناك.

[قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ في العيون عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل كيف يجوز أن يكون موسى لا يعلم أنّ اللّه لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟ فقال عليه السّلام:

إنّ كليم اللّه علم أنّ اللّه سبحانه منزّه عن أن يرى بالأبصار و لكنّه لمّا كلّمه اللّه و قرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم بذلك، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته.

و كان القوم سبعمائة ألف فاختار منهم سبعين ألف ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل، و صعد موسى إلى الطور و سأل اللّه أن يكلّمه و يسمعهم كلامه فكلّمه اللّه و سمعوا كلامه من جميع الجهات، فقالوا: لن نؤمن بأنّ الّذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه عيانا! فلمّا قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا بعث اللّه عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا:

إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تك صادقا فيما ادّعيت؟

فأحياهم اللّه و بعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يراك تنظر إليه لأجابك كما أجابك في الكلام فقال موسى: يا قوم إنّ اللّه لا يرى بالأبصار و لا كيفيّة له و إنّما يعرف بآياته، فقالوا: لن نؤمن حتّى تسأله فقال موسى: يا ربّ إنّك سمعت ما قاله بنو إسرائيل، فأوحى اللّه إليه: يا موسى سل ما سألوك فلن اؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى: [رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ و هو لا يهوي- فَسَوْفَ تَرانِي . [فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته [جَعَلَهُ دَكًّا] و قرئ دكّاء فمعنى دكّا أي رميما متفتّتا و دكّاء أي صار ربوة عالية أو معنى الدكّ: مدقوقا و صار ترابا مع

ص: 15

الأرض استوى و وقع موسى مغشيّا عليه، فلمّا أفاق من غشيته قال: منزّه عن الأبصار أنت يا ربّ و رجعت إلى معرفتك عن سؤال قومي و جهلهم.

و في تفسير العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام أنّ موسى بن عمران لمّا سأل ربّه النّظر إليه وعده اللّه أن يقعد في موضع ثمّ أمر الملائكة أن تمرّ عليه موكبا موكبا بالبرق و الرعد و الصواعق فكلّما مرّ به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل أ فيكم إلخ؟

ثمّ قالت الملائكة: سألت أمرا عظيما يا ابن عمران.

و عنه و عن الباقر عليه السّلام: لمّا سأل موسى ربّه انظر قال: «لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» قال: فصعد موسى الجبل و فتحت له أبواب السماء و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد و في رأسها النور يمرّون به فوجا بعد فوج يقولون: يا ابن عمران أثبت فقد سألت أمرا عظيما، فلم يزل موسى واقفا حتّى تجلّى ربّنا جلّ جلاله فجعل الجبل دكّا و خرّ موسى صعقا، فلمّا أفاق قال: «سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».

و في رواية أنّ النار أحاطت بموسى لئلّا يهرب هول ما رأى، فلمّا أن ردّ اللّه روحه أفاق فقال: سبحانك. القميّ في قوله: «وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ»، قال: فرفع اللّه الحجاب و نظر إلى الجبل فساخ الجبل فهو يهوي إلى الساعة، و نزلت الملائكة و فتحت أبواب السماء فأوحى اللّه إلى الملائكة أن أدركوا موسى لا يهرب، فأحاطت الملائكة بموسى و قالوا:

أثبت يا ابن عمران فقد سألت اللّه أمرا عظيما فلمّا نظر موسى أنّ الجبل قد ساخ و الملائكة قد نزلت وقع على وجهه من خشية اللّه و هول ما رأى فردّ اللّه إليه روحه و أفاق و قال:

«سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي أنا أوّل من آمن بأنّك لا ترى.

و في البصائر عن الصادق عليه السّلام إنّ الكرّوبين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل جعلهم خلف العرش لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ثمّ قال عليه السّلام: إنّ موسى لمّا سأل ربّه ما سأل أمر اللّه واحدا من الكرّوبين فتجلّى للجبل و جعله دكّا.

و قيل في الآية وجه آخر و هو أن يكون المراد بقوله: «رَبِّ أَرِنِي» أي عرّفني نفسك تعريفا جليّا واضحا بإظهار آية من بعض الآيات الّتي تضطرّ الخلق إلى معرفتك حتّى أعرفك معرفة ضروريّة كأنّي أنظر إليك، فقال سبحانه: لن تطيق معرفتي على هذه

ص: 16

الطريق و لن تحتمل قوّتك تلك الآية فإنّى أورد على الجبل آية من تلك الآيات فإن احتمل لتجلّيه و استقرّ فسوف تثبت أنت لها.

و تحقيق القول في الرؤية ما أفاده مولى العالمين أمير المؤمنين حيث قال: لم تر ما لعيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس و لا يدرك بالحواسّ و لا يشبه بالنّاس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، فقال: أنا لم أعبد ربّا لم أره؛ تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون و الملحدون علوّا كبيرا.

و هذه الأخبار مرويّة عن أئمّتنا بطريق الخاصّة.

و أمّا ما رواه العامّة فالاختلاف في المسألة كثير فزعمت الحنابلة و الحشويّة أنّ الكلام المركّب من الحروف و الأصوات قديم، و هذا القول أخسّ من أن يلتفت إليه العاقل كما قال الرازيّ في المفاتيح قال: لأنّه تعالى إمّا أن يتكلّم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب و التوالي.

و الأوّل باطل؛ لأنّ هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنّما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية و أمّا إذا كانت توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيدا البتّة.

و الثاني يوجب كونها حادثة؛ لأنّ الحروف إذا كانت متوالية فعند مجي ء الثاني ينقضي الأوّل فالأوّل حادث؛ لأنّ كلّ ما ثبت عدمه امتنع قدمه، و الثاني أيضا حادث؛ لأنّ كلّ ما كان وجوده متأخّرا عن وجود غيره فهو حادث.

فإذا ثبت هذا البيان فللناس قولان: الأوّل أنّ محلّ تلك الحروف و الأصوات الحادثة هو ذات اللّه، و هو قول الكراميّة. الثاني أنّ محلّها جسم مبائن لذات اللّه كالشجرة و أمثالها، و هو قول المعتزلة.

و القول الثاني قول أكثر أهل السنّة و هو أنّ كلام اللّه صفة مغايرة لهذه الحروف و الأصوات و يقولون: إنّه قديم أزلي.

و القائلون بهذا القول اختلفوا في الشي ء الّذي سمعه موسى فقالت الأشاعرة: إنّ موسى سمع تلك الصفة الأزليّة و قالوا: و كما لا يتعذّر رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسما و لا عرضا فكذلك لا يبعد سماع كلامه، مع أنّ كلامه لا يكون حرفا، و لا صوتا.

ص: 17

و الحقّ أنّ هذا التفصيل و البيان ما أقر به إلى الشعوذة! لأنّ العقل لا يتصوّر أن يسمع الإنسان كلاما و يفهم منه معنى و لا يكون الكلام صوتا و لا حرفا. و قال أبو منصور الماتريديّ: إنّ الّذي سمعه موسى أصوات مقطّعة و حروف مؤلّفة قائمة بالشجرة فالصفة الأزليّة الّتي ليست بحرف و لا صوت ما سمعه موسى عليه السّلام البتّة و هذا القول يمكن أن يتصوّره الإنسان، و ليس خارجا عن قوّة التصوّر.

و قد قيل في سؤال موسى الرؤية قول آخر: و هو أنّ موسى ما عرف أنّ الرؤية غير جائزة على اللّه. قالوا: و مع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربّه و بعد له و توحيده و لم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية و جوازها موقوفا على السمع و لم يسمع موسى بعد.

و قال أبو بكر الأصمّ: إنّ مقصود موسى من سؤال الرؤية أن يذكر تعالى من الدلائل السمعيّة ما يدلّ على امتناع رؤيته حتّى يتأكّد الدليل العقليّ بالدليل السمعيّ، و تعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء.

و أقول: إنّ من الدلائل على امتناع الرؤية مطلقا لا في الدنيا و لا في الآخرة لا لنبيّ مرسل و لا لمؤمن صالح هو أنّ النبيّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله و هو أعظم الأنبياء و أكرم الخلق أجمعين إذا لم يطق أن يرى جبرئيل بصورته الأصليّة حين نزول الوحي مع هذا الأمر المهمّ و هو يتصوّر بغير صورته كدحية الكلبيّ و غيره فكيف يتمكّن البشر أن يرى اللّه أو يرى موسى أو يرون الملائكة؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

على أنّ في القرآن ما يدلّ على امتناع الرؤية كقوله: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» (1) و قوله:

«لن تراني» يدلّ على أنّ موسى لا يرى اللّه لا في الدنيا و لا في الآخرة.

فإن قيل: من أين ثبت معنى التأبيد من كلمة لن؟

فالجواب أنّ قوله: «لن تراني» يتناول الأوقات كلّها بدليل صحّة الاستثناء و مقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ و نحن نرى أنّ كلمة «لن» متى استعملت أريد منها تأبيد النفي؛ فإنّ قولنا «لا أفعل» و «لن أفعل» بين معناهما فرق بعيد و

ص: 18


1- الانعام: 103.

ليس الفرق إلّا التأبيد كقوله: «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» (1).

ثمّ إن كانت الرؤية ممكنة و جائزة فلم خرّ عند سؤالها صعقا، و لمّا أفاق قال:

«سُبْحانَكَ» و المراد من هذه الكلمة تنزيه اللّه عمّا لا يليق؟ و الّذي تقدّم ذكره هو الرؤية و تنزيه اللّه إنّما يكون عن النقائص؛ فوجب كون الرؤية من النقائص و ذلك محال على اللّه في الدنيا و في الآخرة، و بهذه الدلائل القطعيّة وجب صرف بعض الآيات الدالّة على الرؤية إلى التأويل مثل قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» (2) و أمثالها.

[سورة الأعراف (7): آية 144]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)

هذه الآية تسلية لخاطر موسى أن منعه اللّه من الرؤية، كأنّه يقول: إذا طلبت لقومك الرؤية و منعتك فقد أعطيتك من النعم العظيمة الّتي خصصتك بها، فاشتغل بشكرها، و هي أنّي اتّخذتك صفوة على الناس و منتخبا برسالاتي، و قرئ «برسالتي» و يجوز إفراده لأنّه مصدر في موضع الجمع «و بكلامي» أي أنت كليمي.

فإن قيل: كيف اختصاصه مع أنّ كثيرا من الناس ساواه في الرسالة؟

الجواب أنّ الاختصاص وقع بمجموع الأمرين و هو الرسالة و الكلام بغير واسطة الملائكة، و هذان الأمران مجموعا لم يتّفق لغيره إلى زمانه. فخذها و اشتغل لشكرها و القيام بلوازمها علما و عملا.

[سورة الأعراف (7): آية 145]

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

قال الزمخشريّ عن المفسّرين: إنّ موسى خرّ صعقا يوم عرفة، و أعطاه اللّه التوراة يوم النحر.

و ذكروا في عدد الألواح و في جوهرها أنّها كانت عشرة ألواح. و قيل: سبعة و أنّها

ص: 19


1- الحج: 72.
2- القيامة: 22- 23.

من زمرّدة جاء بها جبرئيل: و قيل: من زبرجدة و ياقوتة حمراء. و قيل: من خشب. قال وهب: كانت من صخرة صمّاء.

و أمّا كيفيّة الكتابة فقال ابن جريح: كتبها جبرئيل بالقلم الّذي كتب به الذكر و استمدّ من نهر النور و لكن ليس في الآية ما يدلّ على كيفيّة الألواح و كيفيّة الكتابة، فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به.

و المراد بقوله: [مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي من كلّ ما يحتاج به موسى و قومه في دينهم من الحلال و الحرام، و المحاسن و المقابح.

و قوله: [مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ] بيان للجملة السابقة.

قوله: [وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها] و هاهنا سؤال و هو أنّه تعالى لمّا تعبّد بكلّ ما في التوراة وجب كون الكلّ مأمورا به و قوله: «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» يقتضي أنّ فيه ما ليس بأحسن و أنّه لا يجوز لهم الأخذ به، و ذلك متناقض؛ فذكروا وجوها:

الأوّل أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن و منها ما هو أحسن: كالقصاص و العفو، قال اللّه: فمرهم يأخذوا بأحسنها و هو العفو، و يحمل الأحسن على الندب و الحسن على الإباحة فيزول التناقض.

الوجه الثاني قال: يأخذوا بأحسنها أي لحسنها كقوله: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (1) أي كبير؛ قال الفرزدق:

إنّ الّذي رفع السماك بنى له بيتا دعائمه أعزّ و أطول

قوله: [سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال ابن عبّاس: المراد التهديد و الوعيد كي لا يخالفوا التوراة و يكونوا من الفسّاق و يستوجبوا بالمخالفة دارهم. قال قتادة: المراد: سأدخلكم الشام و أراكم منازل الكافرين الّذين كانوا متوطّنين بها من الجبابرة لتعتبروا بها و ما صاروا إليه من النكال. قال الكلبيّ: دار الفاسقين هي المساكن الّتي كانوا يمرّون عليها إذا سافروا مثل منازل عاد و ثمود و القرون الهالكة. و قيل: المراد الوعد و البشارة بأنّه تعالى سيورّثهم أرض أعدائهم و ديارهم كما أورثهم.

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَ

ص: 20


1- العنكبوت: 44.

[سورة الأعراف (7): آية 146]

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

النظم: لمّا تقدّم ذكر المعجزات لموسى و ما طلب فرعون من إبطال معجزات موسى بالسحر بيّن في هذه الآية بأنّه يمتنع عن إيصال آياتي المكذّبون و المتكبّرون كفرعون و أمثاله و لا يظهر المعجزات إلّا على يد نبيّ.

و قيل: إنّها خطاب لموسى عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه و صرفهم عن الاعتراض له أي خذ التوراة و اعمل أنت و قومك آمنا على قوّة و لا تخف من عدوّ لك، و قد صرفت المعارضة عن آياتي الّتي جعلتها حجّة لك و سوف أصرف.

و قيل: الآيتان اعتراض بين قصّة موسى، و الخطاب لمحمّد صلى اللّه عليه و آله أنّه يصرف المنكرين عن نبوّتك كما صرف فرعون عن موسى.

و الأشاعرة احتجّوا بهذه الآية على أنّه تعالى يمنع عن الإيمان بظاهر الآية و هذا قول فاسد؛ لأنّه من المعلوم أنّ العقوبة على الكفر بعد خلق الكفر فيهم لا يجوز و لو صرفهم عن الإيمان و صدّهم عنه كيف يمكن و يجوز أن يقول مع ذلك: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (1) و في موضع آخر يقول: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» (2) و في موضع قال: «وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا* (3)»؟ فثبت أنّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن بل المراد و المعنيّ إعلام النبيّ بمنع أعدائه من إيذائه و أمره بالقيام بما يلزمه في تبليغ النبوّة و الرسالة، و ذلك مثل قوله تعالى: «بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (مِنْ رَبِّكَ) وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (4).

و قال الجبّائيّ: معنى الآية: سأصرف هؤلاء المتكبّرين عن نيل ما في آياتي من العزّ و الكرامة المعدّة للأنبياء و المؤمنين عقوبة على كفرهم و كبرهم عليّ. ثمّ من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلّا بعد سبق الإيمان فإذا تكبّروا و كفروا فقد صيّروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بها فحينئذ يصرفهم عنها، و أنّ اللّه إذا علم من حال بعضهم أنّه لا يؤمن بتلك الآيات و يستخفّ بها صحّ من اللّه أن يصرفه عنها. انتهى.

ص: 21


1- الانشقاق: 20.
2- المدثر: 50.
3- الكهف: 53.
4- المائدة: 71.

قوله: [بِغَيْرِ الْحَقِ لأنّ إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحقّ لأنّ للمحقّ في أدلّة الدين أن تتكبّر على الكافر و المبطل.

قوله: [وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ] أي سبيل استقامة الدين و الصواب في العلم و العمل لا يقبلوه [وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ و الضلالة أعرضوا عن سبيل الهداية و تمرّنوا على سبيل الضلالة حتّى صاروا بمنزلة الغافل عنها.

[سورة الأعراف (7): آية 147]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

و لأجل أن لا يتوهّم متوهّم أنّ بعض المكذّبين بسبب أعمال البرّ الّتي يصدر عنهم لا يعذّبون بيّن سبحانه في هذه الآية أنّ المكذّبين أجمع يجازون سواء تكبّروا أو تواضعوا أو كانوا قليلي الإحسان أو كثيريه لمّا كذّبوا نبيّهم و جحدوا المعاد فأعمالهم بسبب الجحود و التكذيب محبطة.

[هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ استفهام بالصورة و المراد التوبيخ و الإنكار.

[سورة الأعراف (7): آية 148]

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

بيان قصّة السامريّ. قرئ «حليّهم» بكسر الحاء و اللّام و بفتح الحاء و سكون اللام و بضمّ الحاء و كسر اللام. و الاتّخاذ اجتباء الشي ء لأمر من الأمور فهؤلاء اتّخذوا العجل المصوغ من الذهب و الفضّة لأن يعبدوه. و الخوار الصراخ و صوت غليظ.

و مختصر القصّة أنّ بني إسرائيل كان لهم عيد يتزيّنون فيه، فاستعاروا من قوم فرعون حليّهم- و الحليّ اسم لما يتزيّن به لذلك اليوم- فلمّا أغرق اللّه فرعون و القبط بقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل فجمع السامريّ تلك الحليّ و كان رجلا مطاعا فيهم، ذا قدر و شرف و كانوا قد سألوا موسى قبل أن يجعل لهم إلها يعبدونه. فصاغ السامريّ عجلا من تلك الحليّ.

قيل: قد أخذ السامريّ كفّا من تراب حافر فرس جبرئيل فألقاه في جوف ذلك العجل المجسّد بلا روح فانقلب لحما و دما، و ظهرت منه الخوار مرّة واحدة (و قرئ جوار

ص: 22

بالجيم) فقال السامريّ: هذا إلهكم و إله موسى.

و قال أكثر المفسّرين من المعتزلة: إنّه لا يمكن هذا الأمر بل جعل السامريّ ذلك العجل مجوّفا و وضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص و كان قد وضع ذلك التمثال على مهبّ الريح فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب و يظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل. و قال آخرون: إنّه جعل ذلك التمثال أجوف و جعل تحت التمثال في الموضع الّذي ينصب فيه العجل رجلا ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس له فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار كما صنع بعده ابن المقفّع شبيه هذا التمويه في الخشب على ما قيل.

و بالجملة فأرجف أنّ موسى عليه السّلام قد مات لمّا لم يرجع بعد الثلاثين فأمرهم السامريّ بعبادة العجل فأطاعوه و لم يطيعوا هارون، و عبدوه كلّهم إلّا هارون، لأنّ موسى قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» و ذلك يدلّ على أنّ من كان عابدا لها ما كان أهلا للدّعاء و قيل قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه و الدليل عليه قوله: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» (1).

و الحاصل أنّ سبحانه لمّا حكى عنهم هذا المذهب احتجّ على فساده بقوله: [أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ و لا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب فكيف يصلح للإلهيّة؟ و هم بسبب عبادة العجل كانوا لأنفسهم ظالمين.

[سورة الأعراف (7): آية 149]

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)

و قرئ «سقط» على البناء للفاعل، هذه العبارة بطريق الاستعارة و التمثيل أي ندموا على ما فعلوا لأنّ النادم المتحسّر يسقط يده زلّة و حسرة فتصير يده مسقوطا فيها.

قال الواحديّ: إنّ هذه الاستعارة مأخوذ من السقيط و هو ما يغشى الأرض بالغدوات وقت الشتاء شبه الثلج أي وقع في يده السقيط و هو يذوب فورا بأدنى حرارة و لا يبقى، فمن وقع في يده السقيط لم يحصل له منه شي ء، فصار هذا مثلا لكلّ من عمل عملا و خسر في عاقبته و النادم يقال له: سقط في يده و يتحيّر في أمره و الآلة الأصليّة في الأعمال في أكثر الأمور

ص: 23


1- الآية ال 159.

هي فتسقط اليد عن العمل و رأوا أنّهم قد ضلّوا أي تبيّن ضلالهم كأنّهم أبصروه.

قال القاضي: تقدير الآية: لمّا رأوا قد ضلّوا سقط في أيديهم؛ لأنّ الندم إنّما يقع بعد المعرفة فلمّا تبيّن لهم ضلالتهم أظهروا الانقطاع إلى اللّه فقالوا: «لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا، إلخ» و هذا الندم و الاستغفار إنّما حصل بعد رجوع موسى من الميقات.

[سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

أخبر سبحانه عمّا فعله بعد رجوعه من الميقات و رأى عكوف قومه على عبادة العجل.

قيل: لم يكن موسى عالما بعمل قومه من عبادة العجل، الصحيح أنّه كان عالما و قد أخبره اللّه بوقوع الواقعة في الميقات و قال له: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» في سورة طه. يقال:

رجل أسيف أي حزين، و الأسف الغضب الّذي فيه تأسّف على فوت ما سلف. قال الواحديّ:

الغضب و الأسف معناهما متقاربان، و إذا جاءك ما تكره ممّن هو دونك أسفت و إذا جاءك ممّن هو فوقك حزنت، فسمّي إحدى الحالتين غضبا و الأخرى حزنا.

فرجع موسى من الميقات غضبانا على قومه لأجل عبادتهم العجل حزينا قال: [بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي و التقدير: بئس خلافة خلفتموني، و المخصوص بالذمّ هو الفاعل مضمر يفسّره «ما خلفتموني» و الخطاب قيل: لعبدة العجل، و قيل: لوجوه بني إسرائيل هارون و المؤمنين معه.

فلو قيل: أيّ معنى لقوله: [مِنْ بَعْدِي بعد قوله «خلفتموني»؟

فالجواب: من بعد ما رأيتم من الآيات و الشواهد.

قوله: [أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ و الفرق بين العجلة و السرعة أنّ العجلة التقدّم بالشي ء قبل وقته، و لذا صارت مذمومة، و السرعة عمل الشي ء في أوّل وقته، و لذا غير مذمومة و قد يستعمل العجلة بمعنى السرعة و هي غير مذمومة كقوله: «وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِ

ص: 24

لِتَرْضى (1).

روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع فلمّا ألقى الألواح تكسّرت فرفع منها ستّة أسباع و بقي سبع. و في البصائر عن أمير المؤمنين: تكسّر منها شي ء و تفرّق و رفع منها شي ء و بقي لهم شي ء. و عن الباقر عليه السّلام: إنّ صخرة باليمن التقمت ممّا ذهبت و تكسّرت من التوراة حين ألقاها موسى فلمّا بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله حمله إليه و هي عندنا.

و الطاعنون في عصمة الأنبياء تشبّثوا بهذه الآية أنّه صلى اللّه عليه و آله ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه على سبيل الإهانة. و ليس الأمر كذلك، و إلقاء الألواح من شدّة غيرته على دين اللّه و بيان قبح عمل العبادة لغير اللّه و أمّا جرّ رأس أخيه ليسارّه و يستكشف منه كيفيّة الواقعة ليعالج الأمر.

و قرئ «ابن أمّ» بكسر الميم ليدلّ على الإضافة إلى تاء المتكلّم. و قرئ «ابن أمّ» بفتح الميم المبنيّ و جعلا اسما واحدا كخمسة عشر و حضر موت، أو على تقدير «أمّا» على تقدير حذف الألف المبدلة من تاء الإضافة.

و اعتذر هارون بأنّ القوم جعلوني ضعيفا، و ما قدرت عليهم فلا تشمت بي أعداءك و أعدائي و لا تجعلني شريكا مع القوم الظالمين الّذين عبدوا العجل فعند هذا قال موسى:

[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي حين أظهر براءته و هذه حالة الانقطاع إلى اللّه و عادة الأنبياء هكذا، لا أنّه وقع منه أمر قبيح يحتاج إلى الاستغفار. و كان هارون أخاه من أبيه و امّه و إنّما نسب إلى الأمّ لأنّ حقّ الأمّ أولى بالمراعاة و في مثل هذه المقامات وقوع النسبة إلى الأمّ أكثر.

[سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 153]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

شرح حال من عبد العجل و المفعول الثاني من «اتّخذ» محذوف أي اتّخذ العجل إلها و يدلّ على المحذوف قوله: «هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى و هم الّذين باشروا عبادة العجل قال

ص: 25


1- طه: 86.

فيهم: [سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ .

فإن قيل: إنّ أولئك الأقوام تاب اللّه عليهم بسبب أنّهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة و إذا تابوا كيف يمكن أن يقال في حقّهم: إنّه سينالهم غضب من ربّهم؟

الجواب أنّ ذلك الغضب إنّما حصل في الدنيا لا في الآخرة بأمرهم بقتل أنفسهم و بسبب الضلالة أصابتهم ذلّة في الحياة الدنيا.

فإن قيل: إنّ السين للاستقبال؛ فالجواب أنّ هذا الكلام صدر حين أخبر سبحانه موسى بافتتان قومه في الميقات، و الغضب وقع بعد ذلك فصحّ الكلام. و يمكن أنّ المراد أن سينال أبناءهم غضب و ذلّة الدين في زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و العرب يعيّر الأبناء بقبائح الآباء كما يفعل في المناقب.

[وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ و كلّ مفتر في دين اللّه فجزاؤه غضب و ذلّة. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلّا و يجد ذلّة و قرأ هذه الآية.

و أمّا قوله: [وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها] يدلّ على أنّ التوبة من السيّئات بأسرها و حصول الإيمان بعد التوبة مقبولة فلو كان أمر لا يقبل التوبة فذلك بدليل منفصل.

[سورة الأعراف (7): آية 154]

وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

أي لمّا سكن، أو استعارة كأنّ الغضب قواه و أمره على فعل فلمّا سكت عن الأمر و زال الغضب أخذ موسى الألواح. قال عكرمة: إنّ المعنى سكت موسى عن الغضب و فيه قلب كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي [وَ فِي نُسْخَتِها] معنى النسخ النقل و التحويل فإذا كتبت كتابا عن كتاب حرفا بحرف قلت: نسخت ذلك الكتاب.

قال ابن عبّاس: لمّا ألقى موسى الألواح تكسّرت فصام أربعين يوما فأعاد اللّه الألواح و فيها عين ما في الاولى، و على هذا القول يكون المعنى: و فيها نسخ منها، و على قول من قال: لم تتكسّر و كانت بأعيانها موجودة بعد أن ألقاها لا شكّ أنّها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ، فهي أيضا منسوخة و مستنسخة من اللوح، و قوله: [هُدىً وَ رَحْمَةٌ] هدى

ص: 26

من الضلالة، و رحمة بدل العذاب [لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ و خائفون من ربّهم.

و وجوه فائدة اللام في «لربّهم» مع أنّ تقدير المعنى: للّذين يرهبون ربّهم لأنّ تأخّر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا، فدخلت اللام للتقوية كما في قوله: «لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» (1).

الثاني لام الأجل لأنّ المعنى: لأجل ربّهم يرهبون لا للرياء و السمعة.

الثالث أنّه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول و إن كان الفعل متعدّيا: نحو ألقى يده و ألقى بيده و قوله: «أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (2) فعلى هذا اللام تأكيد: كقوله: ردف لكم و مثل قوله: «وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» (3).

[سورة الأعراف (7): آية 155]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

اختار الشي ء إذا أخذ خيره. المعنى: من قومه، حذفت «من» و اتّصل بالفعل فنصب يقال: اخترت من الرجال زيدا، و اخترت الرجال زيدا.

[وَ اخْتارَ مُوسى من [قَوْمَهُ المعمّرين [سَبْعِينَ رَجُلًا] من اثني عشر سبطا من كلّ سبط ستّة نفر؛ فقال موسى: ليتخلّف منكم رجلان فتشاجروا فقال موسى: إنّ لمن يقعد منكم مثلي أجر من يخرج فقعد كالب و يوشع. و قيل: إنّه لم يوجد إلّا ستّين شيخا فأوحى اللّه إليه أن يختار من الشبّان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا فأمرهم أن يصوموا و يتطهّروا ثيابهم، ثمّ خرج بهم إلى الميقات.

و هنا مسألة: و هي أنّه هل هذا الاختيار و الانتخاب هو للخروج إلى الميقات الّذي كلّم اللّه موسى فيه و سأل موسى الرؤية أو هو خروج إلى موضع آخر؟

للمفسّرين أقوال: الأوّل أنّه لميقات الكلام و الرؤية و أنّه عليه السّلام خرج بهؤلاء

ص: 27


1- يوسف: 43.
2- العلق: 14.
3- آل عمران: 66.

السبعين إلى طور سيناء، و لمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتّى أحاط بالجبل كلّه، و دنا موسى و دخل فيه و قال للقوم: ادنوا فدنوا حتّى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجّدا فسمعوا صوتا خلفه، و هو يتكلّم موسى يأمره و ينهاه: افعل و لا تفعل، ثمّ انكشف الغمام فأقبلوا إليه و طلبوا الرؤية، فأخذتهم الصاعقة و هي المراد من الرجفة المذكورة في الآية.

و القول الثاني أنّ المراد من الميقات هذا غير ميقات الكلام و طلب الرؤية بل ميقات آخر، و ذلك لمّا وقع عبادة العجل اختار موسى قومه سبعين رجلا ليعتذروا عن عبادة العجل.

قال ابن عبّاس: إنّ السبعين الّذين قالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» كانوا قبل السبعين الّذين أخذتهم الرجفة، و إنّما أمر اللّه موسى أن يختار من قومه سبعين فاختار و برز بهم ليدعوا ربّهم؛ فكان في ما دعوا أن قالوا: اللّهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا و لا تعطيه أحدا بعدنا؛ فكره اللّه ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة.

قال أمير المؤمنين: إنّما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل هارون و ذلك أنّ موسى و هارون و شبر و شبير ابناه انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون، فتوفّاه اللّه فلمّا مات دفنه موسى فلمّا رجع إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه اللّه.

فقالوا: بل أنت قتلته و حسدته على أخلاقه و لينه فقتلته، قال موسى: فاختاروا من شئتم؛ فاختاروا منهم سبعين رجلا و ذهب بهم إلى القبر؛ فقال موسى: يا هارون أقتلت أم ميّت؟

فقال هارون: ما قتلني أحد و لكنّي توفّاني اللّه؛ فأخذتهم الرجفة و صعقوا. و قيل: ماتوا فأحياهم اللّه و جعلهم أنبياء.

ثمّ في الآية دلالة اخرى على أنّ هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية و الكلام؛ لأنّ في ميقات الكلام و هو الأوّل لم يظهر منهم سوى طلب الرؤية، فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنّما حصلت بسبب قولهم: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» لوجب أن يقول موسى:

أ تهلكنا بما يقوله السفهاء منّا، بل قال: «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ» علم أنّ هذه الرجفة إنّما حصلت بسبب الفعل و هو عبادة العجل لا طلب الرؤية.

ثمّ إنّ اللّه ذكر في ميقات الكلام و الرؤية أنّ موسى خرّ صعقا، و أنّ الجبل اندكّ،

ص: 28

و أمّا الميقات المذكور في هذه الآية أنّ القوم أخذتهم الرجفة، و لم يذكر أنّ موسى اعتراه أمر شديد، بل يدلّ على أنّه ما أصابه أمر، حيث قال: [لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ فاختصاص كلّ واحد من هذين الميقاتين بهذه الكيفيّة يفيد أنّ أحدهما غير الآخر. انتهى.

[أَ تُهْلِكُنا] قيل: استفهام بمعنى الجحد أي إنّك لا تفعل كذا و قيل: استفهام استعطاف أي لا تهلكنا.

و قوله: [إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الضمير راجع إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلّا زيد، و المعنى أنّ تلك الفتنة و الامتحان لم يكن إلّا امتحانك، و أظهرت الرجفة و كلّفتهم بالصبر عليها.

قوله: [تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ] فسّر الأشاعرة على مسلكهم الجبر أي أضللت بها قوما فافتتنوا، و عصمت قوما فثبتوا على الحقّ، و أيّدوا مذهبهم الباطل بظاهر الآية، تعالى اللّه عن ذلك؛ فإنّ العقل السليم يأبى بأنّ اللّه يجبر طائفة بالضلالة و طائفة بالإيمان؛ فيعاقبهم بالضلالة و يثيبهم بالإيمان، و كيف يعاقب على الكفر و هو جاعله؟

فهذا العبد المجبور المضطرّ المجعول فيه الكفر على سبيل القهر كيف يجوز عقابه؟ و أين العدل و هذا الأمر الشنيع؟

قالت المعتزلة: المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بهذه الرجفة و تصرفها عمّن تشاء، كما فسّر ابن عبّاس و جماعة؛ فقالوا: المراد أنّ هي عذابك و قد سمّى اللّه العذاب فتنة في قوله تعالى: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» (1) أي يعذّبون؛ فيكون معنى الآية:

ليس هذا الإهلاك إلّا عذابك لهم بما فعلوه من المعصية و عبادة العجل و عدم منعهم الشديد عن المعصية.

قال سعيد بن جبير و جماعة: المراد من الفتنة التشديد في التعبّد و التكليف كقوله تعالى: «أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» (2) و عنى بذلك الأمراض و الشدائد، قال: ما قال: تضلّ بها من تشاء من عبادك عن الدين، بل قال: تضلّ

ص: 29


1- الذاريات: 13.
2- التوبة: 127.

بها أي بالرجفة، و من المعلوم أنّ الرجفة لا يضلّ اللّه بها؛ فإنّ الرجفة عذاب و العذاب لا يصير سببا للإضلال بل الضلالة موجبة للعذاب و العذاب موجب للإهلاك.

قوله: [أَنْتَ وَلِيُّنا] فطلب موسى لهم و له الغفران [وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ فإنّ كلّ من سواه إذا تجاوز عن الذنب إمّا طلبا للثناء الجميل أو الأجر، و لكن غفرانك يا إلهي محض التفضّل و الكرم.

[سورة الأعراف (7): آية 156]

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

و قرئ من أساء بالسين المهملة. بقيّة دعاء موسى.

[وَ اكْتُبْ أي أوجب و إنّما لم يقل: و أوجب أو و اجعل؛ لأنّ الكتابة أثبت [فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً] أي النعمة و التوفيق للأعمال الصالحة [وَ فِي الْآخِرَةِ] حسنة أي المغفرة و الجنّة [إِنَّا هُدْنا] و رجعنا و تبنا [إِلَيْكَ و الهود الرجوع.

[قالَ اللّه مجيبا لموسى: [عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ] أو أساء ممّن عصاني و استحقّ عقوبتي، و إنّما علّقه بالمشيئة لجواز الغفران [وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ] و إنّ رحمته في الدنيا وسعت للبرّ و الفاجر، و في الآخرة للمتّقين خاصّة أي إنّ رحمتي تسع كلّ شي ء إن دخلوها، بحيث لو دخلوها لو سعتهم إلّا أنّ فيهم من لا يدخلها لضلاله.

في الحديث قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قام في الصلاة فقال أعرابيّ و هو في الصلاة: اللّهم ارحمني و محمّدا و لا ترحم أحدا معنا فلمّا سلّم النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال للأعرابيّ: لقد تحجّرت واسعا. يريد رحمة اللّه؛ أورده البخاريّ في الصحيح.

[فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك و المعاصي و يجتنبون الكبائر و يخرجون زكاة أموالهم، لأنّه أشقّ الفرائض، و بهذا خصّ بالذكر. و قيل: معناه: يزكّون أنفسهم عن لوث المعاصي و يصدّقون بآياتنا و حججنا، قال ابن عبّاس: لمّا نزلت: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ» قال إبليس: و أنا من ذلك الشي ء فنزعها اللّه عن إبليس بقوله: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ».

ص: 30

[سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

لمّا بيّن أنّ من يكتب له الرحمة لا بدّ أن يكون موصوفا بالتقوى و إيتاء الزكاة أتبعه بأنّ أعظم الآيات و أقوى الإيمان اتّباع محمّد، بل لا يحصل الإيمان إلّا باتّباعه و شرائعه، الّذي وجدوا صفته في التوراة، و بنو إسرائيل كانوا محكومون في التوراة بأن يواطئوا أنفسهم أنّ كذا إنسان متى ظهر و ظهرت شرائعه أن يؤمنوا به، إذا كانوا في زمانه.

و وصفه بصفات تسع كما في الآية:

الاولى: كونه رسولا و اختصّه اللّه برسالته إلى الخلق لتبليغ الأحكام.

الثانية: كونه نبيّا و رفيع القدر عند اللّه.

الثالثة: كونه امّيّا، قيل: معناه أنّه لا يكتب و لا يقرء و الصحيح: المراد نسبته إلى أمّ القرى و هي مكّة؛ لأنّها بالنسبة امّ الأرض.

في العلل: عن الجواد عليه السّلام أنّه سئل عن ذلك فقال: ما يقول النّاس؟ فقيل له:

يزعمون أنّه لم يحسن القراءة و الكتابة فقال عليه السّلام: كذبوا عليهم لعنة اللّه أنّى يكون كذلك؟ و اللّه يقول: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» (1) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟ و اللّه لقد كان رسول اللّه يقرء و يكتب باثنين و سبعين لغة.

الرابعة: «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» و هذا يدلّ على أنّ وصفه و صحة نبوّته مكتوب في التوراة و الإنجيل، لأنّ ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفّرات لليهود و النصارى لأنّ الإصرار على الكذب و البهتان في مثل هذا الأمر العظيم ممّا تبيّن فساده، و العاقل لا يسعى في نقض غرضه.

ص: 31


1- الجمعة: 2.

و في المجالس عن أمير المؤمنين في حديث قال يهوديّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّي قرأت نعتك في التوراة محمّد بن عبد اللّه مولده بمكّة و مهاجرته بطيّبة ليس بفظّ و لا غليظ و لا ضخّاب (1) و لا مترنّن بالفحش و لا قول بذي ء، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، هذا مالي؛ فاحكم فيه بما أنزل.

و في الكافي عن الباقر: لمّا أنزلت التوراة على موسى بشّر بمحمّد؛ فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث اللّه المسيح فبشّر بمحمّد، فذلك قوله: «يَجِدُونَهُ (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» و هو قول اللّه تعالى مخبرا عن عيسى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (2) و في الكافي مرفوعا: إنّ موسى ناجاه ربّه فقال له في مناجاته: أوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم و من بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيّب الطاهر المطهّر فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها، و أنّه راكع ساجد راغب راهب، إخوانه المساكين و أنصاره قوم آخرون.

الخامسة: أمرهم بالمعروف، قوله: «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» يجوز أن يكون استينافا و يجوز أن يكون المعنى: يجدونه أنّه يأمر بالمعروف إذ جاء بكلّ ما هو حسن في العالم و ينزل من عند اللّه.

السادسة: «وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيشمل ما هو قبيح، منها عبادة الأوثان.

السابعة: «وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» المستلذّة إلّا ما خرج بالدليل؛ فهذا أصل في الإباحة.

الثامنة: «وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة و الدم و الفسوق المستقذرات و ما يوجب الضرر على النفس.

التاسعة: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ» و قرئ «آصارهم» على الجمع و «الإصر» الثقل الّذي يمنع صاحبه و يحبسه عن الحراك لثقله، و المراد أنّ شريعته سمحة؛ فإنّ شريعة موسى كانت شديدة. و هذه صفات تسع، و قد وجدوا الصفات و صدّق بعضهم، و المنهمكون في الدنيا و الرياسة منهم أنكروا و غيّروا العلامات.

ص: 32


1- الشديد الصياح.
2- الصف: 6.

قال الطبرسيّ: مكتوب في التوراة في السفر الخامس: يا موسى إنّي ساقيم لهم نبيّا من إخوتهم مثلك و أجعل كلامي في فيه فيقول لهم كلّ ما أوصيه به. و في الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها: نعطيكم بالفارقليط آخر ما يكون معكم آخر الدهر كلّه.

و في الإنجيل أيضا قول المسيح للحواريّين: أنا أذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الّذي لا يتكلّم من قبل نفسه، إنّه نذيركم بجميع الخلق، يخبركم بالأمور المرجعة و يمدحني و يشهد بي. و فيه أيضا: إذا جاء خير أهل العالم يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر.

قوله: [فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ من اليهود و النصارى و غيرهم [وَ نَصَرُوهُ على أعدائه، و أصل التعزير معناه المنع، و منه التعزير، و هو الضرب دون الحدّ؛ لأنّه منع عن معاودة القبيح [وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن، هؤلاء الجماعة [هُمُ الْمُفْلِحُونَ النّاجون.

روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربّهم فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا: فالنبيّون، قال: فالنبيّون يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا: فنحن يا رسول اللّه، قال: و أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟

إنّما هم قوم يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به فهذا معنى قوله: «وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» و المراد من «مع» أي مع نبوّته و إلّا فالقرآن انزل مع جبرئيل.

[سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

لمّا وعد اللّه في الآية السابقة لمّا قال: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» بيّن في هذه الآية أنّ من شرط حصول الرحمة و التقوى اتّباع الرسول. قل يا محمّد لجميع الناس: إنّكم مأمورون باتّباعي، و أنا رسول اللّه إليكم جميعا للتأكيد و إزالة لشبهة طائفة من اليهود و هم أتباع عيسى الإصبهانيّ يقال لهم العيسويّة كان يقول: إنّ محمّدا صادق لكنّه مبعوث

ص: 33

على العرب لا إلى بني إسرائيل. و هذا الكلام منهم بديهيّ البطلان؛ لأنّ الّذي عندهم مقبول الرسالة على العرب بزعمهم لا يمكن أن يكذب و هو يقول في كتابه: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» فإمّا أن يكون لا يقبلون نبوّته مطلقا، و إمّا أن يكون يصدّقونه بما يقول.

و تمسّك جمع من العلماء من أنّ أحدا غيره من الأنبياء ما كان مبعوثا إلى جميع الخلق لقوله صلى اللّه عليه و آله: أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي: أرسلت إلى الأحمر و الأسود، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرعب على عدوّي يرعب منّي مسيرة شهر، و أطعمت الغنيمة دون من قبلي، و قيل لي: سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمّتي.

و لو كان نبيّ رسالته عامّة على قول مثل نوح حين نزل من السّفينة فإنّ جميع الناس ذلك اليوم هم الّذين معه في السفينة، على أنّ رسالة محمّد على الخلق أجمعين من الملك و الجنّ، بل الجمادات مأمورة بتصديق نبوّته صلى اللّه عليه و آله في عالم الجماديّة، و ما كان موسى رسولا على الملائكة و الجنّ؛ فإذا لا يساويه أحد من الأنبياء في الاختصاص.

قوله: [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ و من المعلوم أنّ دعوى النبوّة لا تظهر فائدتها و لا تتمّ إلّا بإثبات أنّ للعالم إلها حيّا قادرا عالما؛ فذلك قوله: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ» لأنّ أجسام السماوات تدلّ على افتقارها إلى الصانع المختار، و هذا هو الأصل الأوّل.

و أصل ثان: هو أنّ إله العالم واحد منزّه عن الشريك؛ لأنّ بتقدير أن يكون للعالم إلهان و أرسل أحد الإلهين رسولا إلى الخلق فلعلّ هذا الإنسان الّذي يدعوه الرسالة إلى طاعته و اتّباعه ما كان مخلوقا للإله الّذي أرسل هذا الرسول بل هو مخلوق للإله الآخر، و على هذا التقدير هل يطيع هذا الإنسان لهذا الرسول أم يخالفه؟ أمّا إجابة الطاعة له ظلم لأنّه مخلوق الإله الثاني و هو يجب عليه إطاعة ربّه و خالقه؛ فلا بدّ أن يخالفه فهذا الرسول رسالته لغو و تصرّف في ملك الغير، ثمّ يتحقّق الفساد بين العالم؛ لأنّ الإله الأوّل مثلا يحكم و يأمر و الإله الثاني يحكم و يأمر؛ فإن كان حكم الثاني عين حكم الأوّل فحكم الثاني لغو، و إن كان حكم الثاني نقيض حكم الأوّل فيقع الخلف بين التكليفين و المكلّفين و ما نعني بالفساد إلّا هذا؛ فثبت أنّ الإله واحد.

ص: 34

و الأصل الثالث إثبات أنّه قادر على الحشر و البعث و أنّه لا بدّ من وقوعه؛ لأنّ بتقدير أن لا يثبت ذلك كان الاشتغال بالطاعة و الاحتراز عن المعصية عبثا و لغوا و إلى هذا الأصل إشارة بقوله: [يُحيِي وَ يُمِيتُ لأنّه لمّا أحيا أوّلا ثبت كونه قادرا على الإحياء ثانيا، و لمّا كان الإحياء الأوّل لغرض إيصال الخير إلى المخلوق و هو إنعام عظيم و يجب على المخلوق شكر النعمة فيطالبه بشكر النعمة و وظائف العبوديّة لحصول ذلك الغرض و قابليّة العبوديّة فحينئذ يحسن منه أن يرسل رسولا يبيّن لهم طريق أداء شكره و ما يصلح به أمورهم لئلّا يقع الهرج و المرج فعيّن الرسول بقوله: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و كلماته أي شواهد ربوبيّته و صدق رسالة رسوله من المعجزات و الكمالات الّتي ظهرت على يده.

فمن كمالاته و معجزاته أنّه صلى اللّه عليه و آله لم يتعلّم من استاد و لم يشتغل بمطالعة كتاب و لم يتّفق له مدارسة العلماء: لأنّ مكّة أهلها يومئذ امّيّين و ما غاب صلى اللّه عليه و آله عن مكّة غيبة طويلة يمكن أن يتحصّل فيها علما جزئيّا فضلا عن علوم كثيرة، ففتح اللّه عليه باب العلم بالقرآن المشتمل على علوم الأوّلين و الآخرين؛ فكان ظهور هذا الأمر من أعظم المعجزات لذاته الشريفة صلى اللّه عليه و آله. و أنّه يرى من خلفه كما يرى من قدّامه و تنام عينه و لا ينام قلبه و هذه من خواصّ ذاته الشريفة، و نوع آخر مثل انشقاق القمر و نبوع الماء من بين أصابعه.

و مثل هذه الأمور تسمّى بكلمات اللّه؛ ألا ترى أنّ عيسى عليه السّلام لمّا كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سمّاه اللّه كلمة؟ و هو المراد في الآية [يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ كما قالوا: نحن كلمات اللّه العليا.

ثمّ بيّن سبحانه طريق التكليف فقال: [اتَّبِعُوهُ و معنى المتابعة الإتيان بمثل ما ما أتى المتبوع به سواء كان في طريق الفعل أو في طريق الترك، و ظاهر الأمر للوجوب؛ فثبت وجوب متابعته في كلّ أمر و نهي إلّا ما خصّه الدليل مثل امور خاصّة فمتابعته أصل من اصول الإيمان و قانون كلّي في معرفة التكليف و الأحكام و بقوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (1). وَ اتَّبِعُوهُ [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فاتّباعه متلازم بصريح الآية.

ص: 35


1- النجم: 3 و 4.

[سورة الأعراف (7): آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)

لمّا ذكر في الآية أنّ المهتدين من اتّبع النبيّ الأمّيّ ذكر في هذه الآية أنّ من قوم موسى عليه السّلام أيضا من اتّبع الحقّ و هدى، و بيّن أنّهم جماعة؛ لأنّ لفظ الامّة ينبئ عن الكثرة.

قيل: هم اليهود الّذين كانوا في زمن محمّد صلى اللّه عليه و آله و أسلموا مثل ابن صوريا و عبد اللّه ابن سلام.

و اعترض على هذا القول بأنّهم كانوا قليلين في العداد، و لفظ الامّة تقتضي الكثرة.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لمّا كانوا مختلفين في الدين جاز إطلاق لفظ الامّة عليهم كما في قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» (1).

و قيل: إنّهم قوم مشوا على الدين الحقّ الّذي جاء به موسى و ما حرّفوا في زمن تفرّق بني إسرائيل و التزموا بالعمل بالتوراة حتّى جاء عيسى.

و قال السدّيّ و جماعة من المفسّرين كابن عبّاس و الربيع و عطاء و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام قالوا: إنّهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد جار من الرمل لم يغيّروا و لم يبدّلوا، و ذلك أنّه إنّ بني إسرائيل لمّا كفروا و قتلوا الأنبياء و الأسباط فبقي سبط من جملة الاثني عشر ما صنعوا مثل ما صنع بنو إسرائيل، و سألوا اللّه أن ينقذهم منهم ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصين فهم حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا.

ثمّ اختلف المفسّرون فمنهم من قال: إنّهم متمسّكون بشريعة موسى إلى الآن، و منهم من قال: إنّهم على دين محمّد صلى اللّه عليه و آله الآن، و ذلك أنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله ليلة المعراج إليهم فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكّة فآمنوا به و صدّقوه و أمرهم أن يقيموا و يتركوا السبت، و أمرهم بالصلاة و الزكاة، و لم يكن فريضة نزلت غير هما ففعلوا و قبلوا. قال ابن عبّاس: و ذلك قوله تعالى: «وَ قُلْنا (مِنْ بَعْدِهِ) لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا

ص: 36


1- النحل: 121.

جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» (1) يعني عيسى بن مريم يخرجون معه و روى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و روي أنّ ذا القرنين رآهم و قال لهم: لو أمرت بالمقام لتسرّني أن أقيم بين أظهركم.

و بالجملة، و من قوم موسى جماعة يدعون الناس إلى الحقّ و بالحقّ يحكمون و يعدلون في حكمهم.

في الحديث عن أبي حمزة الثماليّ و الحكم بن ظهير أنّ موسى لمّا أخذ الألواح قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي خير امّة أخرجت للنّاس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي الآخرون في الخلق السابقون إلى الجنّة فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد.

قال: إنّي أجد في الألواح امّة كتبهم في صدورهم يقرءونها فاجعلهم امّتي؛ قال:

تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح امّة يؤمنون بالكتاب الأوّل و بالكتاب الآخر و يقاتلون الأعور الكذّاب فاجعلهم امّتي؛ قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة و إن عملها كتبت له عشرة، و إن همّ أحدهم بسيّئة و لم يعملها لم يكتب عليه و إن عملها كتبت عليه سيّئة فاجعلهم امّتي؛ قال: تلك امّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح امّة هم الشافعون المشفّعون فاجعلهم امّتي؛ قال اللّه: تلك امّة أحمد. قال موسى: اجعلني من أمّة محمّد صلى اللّه عليه و آله لأشكر هذه النعمة.

[سورة الأعراف (7): آية 160]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل:

ص: 37


1- الإسراء: 106.

أحدهما: جعلهم اثني عشر سبطا أي صيّرناهم اثنتي عشرة فرقة، لأنّهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميّز سبحانه لئلّا يتحاسدوا فيقع فيهم الفساد. و جعلنا كلّ قبيلة سبطا، و وضع «أسباطا» موضع «قبيلة».

فلو قيل: إنّ مميّز ما بعد عشرة يكون مفردا فما وجه مجيئه جمعا؟

فالجواب أنّ «أسباطا» ليس تمييزا بل بدل من اثنتي عشرة أو صفة لموصوف محذوف و هو الفرقة. و إنّما قال: «اثنتي عشرة» بالتأنيث مع أنّ السبط مذكّر فباعتبار معنى الأمم.

و النوع الثاني من شرح بني إسرائيل قوله: [وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ إلخ هذه القصّة قد تقدّم ذكرها في سورة البقرة لا حاجة إلى الإطالة، و فعلنا لهم هذا التقطيع ليعلم كلّ سبط مشربهم و مسقاهم كي لا يتشاجروا بينهم. و «الانبجاس» خروج الماء بقلّة و الانفجار بكثرة.

[وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ عن حرّ الشمس في التيه، و كان ينزل عليهم بالليل عمود من نار يسرون و يعيشون بضوئه.

[وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ و السماني و كان ينزل عليهم المنّ- و هو الترنجبين أو منّ السماء مثل ما ينزل الثلج من الفجر إلى الطلوع- لكلّ إنسان صاع و تبعث الجنوب عليهم السماني فيدع الرجل منه ما يكفيه ليومه و ليلته، و قلنا لهم: [كُلُوا] من مستلذّات الرزق فكفروا بتلك النعم الجليلة و ظلموا أنفسهم، و ما ظلمونا بكفرانهم. و عدم قبول الإطاعة إمّا لأنّهم ادّخروا من طعامهم مع أنّ اللّه كان منعهم من الادّخار، أو لأنّهم سألوا اللّه غير ذلك من الطعام كالبقل و القثّاء و غيره أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم اللّه الأكل في ذلك الوقت.

[سورة الأعراف (7): الآيات 161 الى 162]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)

و اذكر و بيّن على الجماعة يا محمّد وقت قولنا لهم: [اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ] و القرية

ص: 38

بيت المقدس، اتّخذوها موطنا على سبيل الإقامة. و قيل: المراد بالقرية قرية أريحا [وَ كُلُوا مِنْها] و من نواحيها من أين ما أردتم من غير أن يزاحمكم أحد [وَ قُولُوا حِطَّةٌ] أي يكون مسألتكم حطّة لذنوبنا أي يكون قولكم الاستغفار. و «حطّة» فعلة من الحطّ كالجلسة.

[وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية متطامنين متذلّلين ساجدين شكرا على إخراجكم من التيه، و قيل: المراد من الباب باب القبّة الّتي يصلّون إليها، و دخل ذراريهم و هم ما دخلوها في حياة موسى. فإذا فعلتم كذلك [نَغْفِرْ] و قرئ «تغفر» بالتاء على البناء للمجهول. و قرئ «خطيئتكم» على الإفراد و [سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ بالمغفرة [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا] منهم بما أمروا بالاستغفار و أعرضوا عن هذه الكلمة و وضعوا موضعها قولا آخر ممّا لا خير فيه. روي أنّهم دخلوها زاحفين على أستاههم و قالوا مكان «حطّة»: حنطة، و قيل:

قالوا بالنبطيّ: «حطّا شمقاثا» أي حنطة حمراء، استهزاء بكلام اللّه أو نبيّه.

[فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا أي غير متأخّر عذابا من السماء و هو الطاعون.

روي أنّه مات في ساعة واحدة منهم سبعون ألفا أو أربعة و عشرون ألفا بسبب كفرهم و ظلمهم.

[سورة الأعراف (7): آية 163]

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

و اسأل يا محمّد اليهود المعاصرين و هم ذراري السابقين سؤال تقريع و توبيخ لهم ببيان كفرهم. و فائدة هذا السؤال أنّ هذا الأمر من علومهم الّتي لا يقف عليها الّا من مارس في كتبهم، و هو صلى اللّه عليه و آله قد أحاط علمه بما تضمّن كتبهم، و هو صلى اللّه عليه و آله ما تلقّى من كتبهم و بمعزل عنهم و عن كتبهم بل يوحي اللّه إليه و «القرية» قيل: هي إيلة بين مدين و الطور، و قيل: هي طبرية [حاضِرَةَ الْبَحْرِ] أي على شاطئ البحر واقعة إذ يعدون و يتعدّون حدود اللّه بالصيد، و هم ممنوعون عن الصيد في يوم السبت و ينهون عن الاشتغال من الأمور بغير العبادة و «الحيتان» جمع حوت، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كنون و نينان لفظا و معنى.

ص: 39

[إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً] أي دانية ظاهرة قريبة من الساحل و يوم الّذي ليس عليهم حكم لا يأتي الحيتان قريبة لهم حتّى يصيدون بالسهولة [كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ مثل هذا الامتحان نختبرهم بسبب فسقهم الدائم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 164 الى 165]

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)

و [إِذْ قالَتْ عطف على قوله إذ يعدون أي اذكر وقت قول جماعة من صلحائهم الّذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيّادين حتّى يئسوا من قبولهم لأقوام آخرين من الصلحاء الّذين ما تركوا الموعظة [لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي هؤلاء متمادين في الكفر و لا ينفع الوعظ، و اللّه سبحانه مطهّر الأرض ختما على كفرهم؛ لأنّهم علموا أنّ الوعظ لا يفيدهم.

قالوا في جوابهم: [مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرئ «معذرة» بالنصب أي لنعذر معذرة و أمّا من رفع أي هذه معذرة إلى اللّه أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا: قد فعلنا فنكون بذلك مقبولين العذر؛ فعلى هذا التقرير صاروا ثلاث فرق: فرقة صائدة مذنبة، و فرقة واعظة و فرقة ناهية للواعظة.

و لفظ الآية يدلّ على أنّ الفرقة المذنبة هلكت، و الفرقة الناهية نجت و أمّا الفرقة الّتي قالوا: لم تعظون؟ فقد اختلف المفسّرون في أنّهم من أيّ الفريقين؟ فنقل عن ابن عبّاس أن هلكت الفرقتان و نجت الناهية. و قيل: نجت القرقتان و هلكت الثالثة. و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّهم ثلاثة أصناف نجى منهم صنف و هو الصنف الناهية، و هلك صنفان: الساكتة و الصائدة.

[فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فلمّا نسوا هؤلاء المذنبون وعظ الواعظين أنجينا المنكرين لعمل المذنبين و أخذنا الظالمين بعذاب شديد بسبب تماديهم و استمرارهم على المعصية و الخروج عن الطاعة و لعلّه سبحانه عذّبهم بعذاب شديد فلم يقلعوا عمّا كانوا عليه فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى:

ص: 40

[سورة الأعراف (7): آية 166]

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)

لمّا بغوا و أبوا أن يتركوا ما نهوا عنه [قُلْنا لَهُمْ قيل: المراد الأمر التكوينيّ لا القوليّ. و قيل: الأمر القوليّ؛ قال الزجّاج: أمروا بأن يكونوا قردة بقول سمع ليكون أبلغ في القدرة. و قيل: بترتيب المسخ على العنف للإيذان بأنّه ليس لخصوصيّة الحوت بل للاستمرار على المخالفة.

و ابتداء الصيد أنّ رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت و ربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثمّ شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلّع على تنوّره، فقال له: إنّي أراك ستعذّب، فلمّا لم يره عذّب أخذ في السبت القابل حوتين، فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم استمرّوا على ذلك فصادوا و أكلوا و ملحوا و باعوا فصاروا نحوا من سبعين ألفا فلعنهم داود عليه السّلام فأصبح الناهون و قالوا: نحن لا نساكنكم و قسّموا القرية بجدار بينهم و بين المعتدين، فمسخهم اللّه قردة. أكلوا أوخم أكلة ما أثقلها ضربا في الدنيا و أطولها عذابا في الآخرة! أقول: و ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند اللّه من قتل مسلم و لكنّ اللّه جعل موعدا و الساعة أدهى و أمرّ.

[سورة الأعراف (7): آية 167]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

إذن نادى و صاح و أعلم و «تأذّن» بمعنى أذن أي حكم و أعلم و اللام في «ليبعثنّ» جواب للقسم؛ لأنّ قوله: [وَ إِذْ تَأَذَّنَ جار مجرى القسم في كونه جازما للوقوع، أي و اذكر يا محمّد إذ حكم: [لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ الضمير يقتضي بحسب الظاهر أن يرجع إلى جماعة العاتين لكن لمّا علم أنّهم هلكوا و مسخوا قيل: المراد ذرّيّتهم و نسلهم فألحق الذلّ بالبقيّة.

و الصحيح كما عليه الأكثرون: المراد اليهود الّذين أدركهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و دعاهم إلى شريعته و لم يقبلوا و بقوا على اليهوديّة و أداء الجزية و القتل في خيبر و قريظة و النضير؛ فإنّ العذاب و الذلّ لزمهم.

و حاصل المعنى أن اذكر لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله وقت إيجابه سبحانه على نفسه أن يسلّط

ص: 41

على اليهود البتّة [مَنْ يَسُومُهُمْ و يطلب لهم [سُوءَ الْعَذابِ و قد بعث اللّه عليهم بعد داود بختنصّر فخرّب ديارهم و قتل رجالهم و سبى ذراريهم، و ضرب الجزية على من بقي منهم و كانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس حتى بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله ففعل معهم ما فعل، فلا تزال الذلّة فيهم و لا يكون لهم سلطان و سلطة إلى يوم القيامة [إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن يستوجب بكفر و إن كان العقاب مؤخّرا لأنّ ما هو آت قريب و سريع [وَ إِنَّهُ سبحانه [لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن رجع عن المعصية و دخل في الإيمان باللّه و برسله.

[سورة الأعراف (7): آية 168]

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

أي فرّقناهم تفريقا شديدا في الأرض اليهود كما أنّه نشاهد لا أرض مسكونة إلّا و منهم فيها جماعة، ثمّ قال: [مِنْهُمُ أي من اليهود [الصَّالِحُونَ الّذين تبعوا موسى لأنّه كان فيهم جماعة يهدون بالحقّ، قال ابن عبّاس: المراد الّذين صدّقوا برسالة محمّد. و قوله: [وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ المراد من أقام على اليهوديّة.

فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد من قوله: «دُونَ ذلِكَ» من يكون صالحا إلّا أنّ صلاحه كان دون صلاح الأوّلين؟ قلنا: قوله: «لعلّهم يرجعون» يدلّ على أنّ المراد بذلك من ثبت على الكفر و التهوّد.

قوله: [وَ بَلَوْناهُمْ أي عاملناهم معاملة المختبر بالنعم و الخصب و العافية و بالجدب و القحط و الشدائد لكي يرجعوا و يتوبوا.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 169 الى 170]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169) وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قال بعض أهل العربيّة: إنّ «الخلف و الخلّف» يذكر في الصالح و الردي و بعض يقولون:

بفتح اللام يستعمل في الصالح، و بسكون اللام للردي ء. المعنى: فخلف من بعد المذكورين

ص: 42

من اليهود بدل سوء في عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ورثوا التوراة من أسلافهم يقرءونها و يقفون على ما فيها يأخذون حطام الأدنى من الدنيا الدني ء، و المراد به ما يأخذونه من الرشا في الحكومات و على تحريف الكتاب [وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا] و لا يؤاخذنا اللّه بذلك.

قوله: [وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ و المراد إصرارهم على هذا الأمر القبيح و عدم اكتفائهم بمرّة؛ متى ما أشرفوا على عرض و شي ء من مال الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما.

ثمّ وبّخهم اللّه بقوله: [أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي التوراة، و قد حكموا في التوراة [أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ و لا يغيّرونها لأجل أخذ الرشوة [وَ دَرَسُوا] و قرءوا و حفظوا ما في التوراة و ما هم بناسين و جاهلين به، ثمّ قال: [وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المخالفة، و الشهوة الخبيثة المحقّرة أفلا تفتهمون؟ و ضمير الالتفات تشديد في التوبيخ.

[وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ و يعملون به و لا يتجاوزون حكمه و لم يحرّفوه و لم يكتموه [وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] و إنّما أفردت الصلاة بالذكر لعلوّ مرتبتها. فإنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

[سورة الأعراف (7): آية 171]

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

«النتق» قلع الشي ء من موضعه و الرمي به أي قلعناه من أصله و جعلناه فوقهم كأنّه ظلّة سقيفة و علموا و أيقنوا أنّه إن خالفوا يقع عليهم فرفع اللّه الطور على رؤوس مقدار عسكرهم، و كان فرسخا في فرسخ و قيل لهم: إن قبلتم أحكام التوراة فبها و إلّا ليقعنّ عليكم. فلمّا نظروا إلى الجبل خرّ كلّ واحد منهم على حاجبه الأيسر و هو ينظر بعينه اليمنى، و كانوا يقولون: هي السجدة الّتي رفعت منّا العذاب.

[خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ] أي قلنا لهم: خذوا و اعملوا ما آتيناكم من التوراة بقوّة و عزم و ثبات على احتمال مشاقّه و تكاليفه [وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر و النواهي [لَعَلَّكُمْ تحترزون المعصية، و قيل: المعنى محتمل أن يكون: خذوا ما آتيناكم من هذه الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه فادفعوا عن أنفسكم و ذلك كقوله: «إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا

ص: 43

مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا» (1)

[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

و اذكر لهم يا محمّد إذ أخرج ربّك من ظهور بني آدم ذرّيّتهم. و لفظ «الذرّيّة» كالبشر يقع على الواحد و الجمع.

و اختلف العلماء من العامّة و الخاصّة في معنى الإخراج و الإشهاد على وجوه:

أحدها أنّ اللّه أخرج ذرّيّة آدم من صلبه كهيئة الذرّ فعرضهم على آدم، و قال:

إنّي آخذ على ذرّيّتك ميثاقهم أن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا و عليّ أرزاقهم.

ثمّ قال لهم: [أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا أنّك ربّنا فقال للملائكة: اشهدوا فقالوا:

شهدناه.

و الوجه الثاني أنّ اللّه جعلهم عقلاء فهماء يسمعون خطابه و يفهمونه ثمّ ردّهم إلى صلب آدم و الناس محبوسون بأجمعهم حتّى يخرج كلّ من أخرجه في ذلك الوقت؛ فكلّ من ثبت على الإسلام و هو على الفطرة الاولى و من كفر فقد تغيّر عن الفطرة الاولى.

و روى المحقّقون هذا التأويل و قالوا: إنّه ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأنّه تعالى قال: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» و لم يقل: من آدم و قال: «مِنْ ظُهُورِهِمْ» و لم يقل:

من ظهره و قال: «ذرّيّتهم» و لم يقل «ذريّته».

و القول الثاني أنّ المراد بالآية أنّ اللّه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام امّهاتهم، ثمّ رقاهم درجة درجة علقة، ثمّ مضغة ثمّ أنشأ كلّا منهم بشرا سويّا حيّا مكلّفا و أراهم آثار صنعه و مكّنهم من معرفة دلائل التوحيد حتّى كأنّه أشهدهم و قال لهم:

أ لست بربّكم؟ فقالوا: بلى؛ فعلى هذا يكون معنى «أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» أي دلّهم بخلقه

ص: 44


1- الرحمن: 33.

على توحيده، و جعل في عقولهم ما يدلّ على وحدانيّته فكأنّه بمنزلة المشهد بهم على أنفسهم و إن لم يكن هناك شهادة صورة حقيقة.

نظير قوله: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (1) و إن لم يكن منه سبحانه قول و لا منهما جواب و مثله قوله تعالى: «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» (2) و معلوم أنّ الكفّار لم يعترفوا بألسنتهم لكنّه لمّا ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من إنكاره و دفعه فكأنهم اعترفوا به، و مثله في الشعر كثير:

«و قالت له العينان سمعا و طاعة» و كقول القائل: جوارحي يشهد بنعمتك. و كما روي عن بعض الخطباء من قوله: سل الأرض من شقّ أنهارك و غرس أشجارك و أينع ثمارك إن لم يجبك خوارا أجابتك اعتبارا.

و القول الثالث أنّه تعالى إنّما عنى بذلك جماعة من ذرّيّة آدم خلقهم و أكمل عقولهم و قرّرهم على ألسن رسله بمعرفته فأقرّوا و أشهدهم على أنفسهم به لئلّا يقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنّما أشرك آباؤنا من قبل فقلّدناهم في ذلك و على هذا القول الثالث يكون هذا الأمر في قوم خاصّ من بني آدم و هذا اختيار الجبّائيّ و القاضي عبد الجبّار.

و قوله: [شَهِدْنا] قيل: حكاية عن قول الملائكة أنّهم يقولون: «شهدنا» و هذا القول في غاية الضعف و خلاف ما عليه المفسّرون؛ لأنّ سوق الآية من قوله «شهدنا» أنّ هذا القول من قول من قال: «بلى» على أنّ الملائكة لم يجر لهم ذكر في الآية.

و قوله: [أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي لئلّا يقولوا: أ فتهلكنا بما فعل آباؤنا من الشرك و تقديره: إنّا لا نهلككم بما فعلوه و إنّما نهلككم بفعلكم أنتم [وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما بيّنّا تلك الآيات كذلك نميّزها و نفصّلها للعباد ليتمكّنوا من الاستدلال بها ليرجعوا من الباطل إلى الحقّ.

قال الفيض في الصافي في معنى قوله: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ» يعني نشر حقائقهم بين يدي علمه فاستنطق الحقائق بألسنة قابليّات جواهرها و استعداد ألسن ذرّاتها فركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بالربوبيّة حتّى صار بمنزلة الإشهاد على طريق التمثيل نظير

ص: 45


1- فصلت: 10.
2- التوبة: 17.

«أَتَيْنا طائِعِينَ» فكانوا بتلك القوّة العقليّة يسمعون الخطاب كما يسمعون الخطاب في الدنيا بالقوّة البدنيّة، و لا يبعد أنّ ذلك النطق باللسان الملكوتيّ في العالم المثاليّ الّذي دون عالم العقل. و قول الفيض قريب من القول الثاني.

[سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 176]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

أمر اللّه سبحانه بأن يقرأ على الناس خبرا آخر من قصّة بني إسرائيل. قال ابن عبّاس و مجاهد و ابن مسعود: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعورا؛ لأنّ موسى عليه السّلام قصد بلده الّذي هو فيه و غزا أهله و كانوا كفّارا فطلبوا منه أن يدعو على موسى و قومه و كان مجاب الدعوة و عنده اسم اللّه الأعظم فامتنع منه فما زالوا يطلبون منه حتّى دعا عليه فاستجيب له و وقع موسى و قومه في الشدّة بدعائه فقال موسى: يا ربّ بأيّ ذنب وقعنا في الشدائد؟

فقال: بدعاء بلعم بن باعورا فقال موسى: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه. ثمّ دعا موسى أن ينزع اللّه منه اسمه الأعظم و الإيمان فسلخه اللّه ممّا كان عليه و نزع عنه المعرفة بسوء فعله فخرجت في صورة كحمامة بيضاء.

قال سعيد بن المسيّب و زيد بن أسلم و عبد اللّه بن عمر و أبو روق و أبو حمزة الثماليّ و جماعة من المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في اميّة ابن أبي الصلت و كان قد قرأ الكتب و علم أنّ اللّه يرسل في ذلك الوقت رسولا و رجا أن يكون هو فلمّا أرسل اللّه محمّدا حسده، ثمّ مات كافرا و لم يؤمن باللّه، و هو الّذي قال فيه النبيّ: آمن شعره و كفر قلبه.

و قيل: نزلت في أبي عامر الراهب الّذي سمّاه النبيّ صلى اللّه عليه و آله بالفاسق كان يترهّب في الجاهليّة فلمّا جاء الإسلام خرج إلى الشام و أمر المنافقين باتّخاذ مسجد ضرار و أتى قيصر و استنجده على النبيّ صلى اللّه عليه و آله فمات هناك طريدا وحيدا و قيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قيل: هو عامّ فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه.

ص: 46

قوله: [فَانْسَلَخَ أي فارق بالكلّيّة عمّا كان عليه و عرى. و ذكر الآية لتحذير الناس عن مثل حالته. قوله: [وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بأن نحول بينه و بين الكفر قهرا و جبرا إلّا أنّ ذلك ينافي التكليف بينه و بين الكفر [وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ و مال إلى الدنيا و مستلذّاتها من الضياع و الأمتعة، لأنّ الدنيا تطلق على الأرض؛ لأنّ كلّ الأمتعة تحصل من الأرض في الدنيا، و اتّبع هوى نفسه [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ شبّهه اللّه بالكلب [إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ و اللهث هو أنّ الكلب إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو و شدّة الحرّ فإنّه يدلع لسانه من العطش و التعب إن تطرده يلهث و إن تتركه أيضا يلهث لأنّ هذه الطبيعة صارت له عادة، إن وعظته فهو ضالّ و إن تركته فهو ضالّ و هذا مثل المكذّبين بآيات اللّه لأنّهم كذّبوا محمّدا و لم يهتدوا لمّا جاءهم و نصحهم و هم مشركوا قريش. فاقصص و بيّن لهم لعلّ بعضهم يتّعظون.

[سورة الأعراف (7): آية 177]

ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)

بعد تمثيلهم الجماعة بالكلب تقدير الآية: ساء مثلا مثل القوم. انتصب «مثلا» على التمييز و «ساء» لازم متعدّ، تقول: ساء الشي ء و تقول: ساءه و «القوم» يمكن أن يكون مبتدءا و جملة «ساء مثلا» خبره و يمكن أن يكون «القوم» خبرا لمبتدأ محذوف لأنّك لمّا قلت: ساء مثلا قيل لك: من هو؟ قلت: القوم الموصوفون بالتكذيب و بظلم أنفسهم.

[سورة الأعراف (7): آية 178]

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

أي من يهديه اللّه إلى الثواب و الجنّة فهو المهتدي طريق الرشد فيما كلّفه اللّه بيّن اللّه أنّه تعالى لا يهدي إلى الجنة في الآخرة إلّا من كان يأتي بما كلّف و من يضلله عن طريق الجنّة [فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و حاصل المعنى: من يهده اللّه فقبل و تمسّك بهداه فهو المهتدي، و من يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر، و ذلك بسبب عدم قبوله و سوء اختياره فاخرج من الألطاف و الهداية بهذا السبب فأبقاه بينه و بين ما اختاره و لم يمنعه عن الكفر عن البلخيّ و جماعة من المفسّرين و هذا معنى الإضلال لا كما فسّر الأشاعرة.

[سورة الأعراف (7): آية 179]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)

ص: 47

لمّا بيّن أمر الكفّار. و ضرب لهم الأمثال عقّبه بمصير مآلهم فقال: [وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ فقال: و لقد خلقناهم فكان عاقبتهم المصير إلى النار بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان و اللّام في قوله: «لجهنّم» لام العاقبة نحو قوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (1) و المراد من أهل الآية كلّ من علم اللّه أنّه لا يؤمن و يصير إلى النار. و من المعلوم أنّ كثيرا من الآيات دالّة على أنّه سبحانه أراد من الكلّ الطّاعة و الخير و الصلاح قال اللّه: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (2) و قال أيضا: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (3) و قال أيضا: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (4) و قال: «وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» (5) و قال: «وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (6) و قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» (7) و قال سبحانه: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (8) و أمثال هذه الآيات كثيرة.

قالت المعتزلة: و نحن نعلم بالضرورة أنّه لا يجوز التناقض في القرآن و هذا أحد الدلائل على أنّه لا يمكن حمل الآية في قوله: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ» على ظاهرها.

و الدليل الثاني: قال في هذه الآية: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» و هو تعالى ذكر ذلك في معرض الذمّ لهم، و لو كانوا مخلوقين للنّار لما كانوا قادرين على الإيمان؛ فحينئذ يقبح ذمّهم على ترك الإيمان.

الوجه الثالث من الدليل و هو أنّه لو كان خلقهم للنّار لما كان له نعمة على أحد من الكفّار أصلا؛ لأنّ منافع الدنيا بالقياس إلى عذاب الآخرة كالقطرة في البحر و كان كمن دفع إلى إنسان حلوا مسموما فإنّه لا يكون منعما عليه فكذا هاهنا، مع أنّ القرآن مشحون من بيان كثرة نعم اللّه على كلّ الخلق علمنا أنّ الأمر ليس كما ذكروه الأشاعرة في تفسير الآية، و استدلّوا بها و أمثالها على صحّة مذهب الجبر، على أنّ المدح و الذمّ و الثواب

ص: 48


1- القصص: 7.
2- الفتح: 8 و 9.
3- النساء: 67.
4- الحديد: 9.
5- الفرقان: 62.
6- «: 25.
7- ابراهيم: 12.
8- الذاريات: 56.

و العقاب و الترغيب و الترهيب يبطل هذا المذهب الّذي ينصرونه ثمّ إنّه لو خلقهم للنّار لوجب أن يخلقهم ابتداء في النّار؛ لأنّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم؛ فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها بل إنّما اللّام في الآية لام العاقبة لا لام الأجل. و له نظائر كثيرة في القرآن كما ذكرنا قبيل ذلك، و قد جاء في الشعر أيضا نحو قولهم:

و للموت تغذو الوالدات سخالهاكما لخراب الدهر تبنى المساكن.

و قال الآخر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعهاو دورنا لخراب الدهر نبنيها. (1)

قوله: [لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها] الحقّ؛ لأنّهم لا يتدبّرون بيّناته [وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها] رشدهم [وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها] و يعرضون عن استماعها، و المراد أنّه سلب عنهم إدراكاتهم بسبب غفلتهم عن حججي و آياتي، و بسبب شهوات أنفسهم.

قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 180]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)

ودع الّذين يعدلون بأسماء اللّه غير الأسماء فيسمّون بها أصنامهم بالتحريف و الزيادة و النقصان؛ فاشتقّوا اللات من اللّه، و العزّى من العزيز، و مناة من المنّان، و يصفون اللّه بما لا يليق و ما لا يجوز. و يشمل هذا قول النصارى بتسمية المسيح ابن اللّه و اليهود بتسمية العزير ابن اللّه. سيجزون هؤلاء بعملهم.

و نظم الآية أنّه لمّا وصف الغافلين بورود جهنّم أمر و بيّن ما يوجب التخلّص عن عذاب اللّه فليدعون اللّه بأسمائه، فإنّ الجماد لا يخاطب بالألوهيّة؛ فانّ الإنسان إذا وجّه قلبه و لسانه إلى ذكر خالقه و إطاعة أوامره و دعاه كما هو سمّى نفسه تخلّص عن الدركات، و تباعد عن حضيض الشهوات و استشعر بمعرفة خالقه.

و المراد من الأسماء الحسنى نعوت الجلال و هي محصورة في نوعين: عدم افتقاره إلى غيره و ثبوت افتقار غيره إليه، و يشتقّ من هذين النوعين أسماء لا نهاية لها؛ لأنّ الاسم إمّا

ص: 49


1- و منه ايضا: لدوا للموت و ابنوا للخراب.

اسم الذات فهو المسمّى بالاسم الأعظم، و إمّا اسم لصفة خارجة عن الذات قائمة بها فكونه تعالى موصوفا بصفة فاعليّته لما ينبغي و غير فاعل لما لا ينبغي تحقّق الثوابت و السلوب فيحصل بسبب هذا النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها؛ لأنّ مقدوراته غير متناهية. و هذا بحر لا ساحل له فلا نهاية لمعرفة أسماء اللّه الحسنى و هذا معنى قوله صلى اللّه عليه و آله: ما عرفناك حقّ معرفتك.

و بالجملة «الحسنى» تأنيث الأحسن أي ادعوا اللّه بأحسن الأسماء و أجلّها. و اللحد و الإلحاد الانحراف. و قرئ «يلحدون» من الثلاثي أي يميلون في شأن الأسماء عن الحقّ إلى الباطل إمّا بأن يسمّوه تعالى بما لا يليق و ما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا؛ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نحن و اللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها.

و تقديم الخبر في قوله: «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ» يدلّ على الحصر؛ في الكافي عن الرضا عليه السّلام إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، و أنّى يوصف الّذي يعجز الحواسّ أن تدركه و الأوهام و الخواطر أن تناله و تحدّه؟ جلّ عما يصفه الواصفون و تعالى عمّا ينعته الناعتون؛ الحديث. العيّاشيّ عن الرضا عليه السّلام قال: إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا.

و بالجملة فالأسماء توقيفيّ فمتى ثبت أنّه ما ورد من الشارع لا يجوز أن يسمّى تعالى به و الأسماء الحسنى منها ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم و القادر و الإله و الحيّ و القديم، و منها ما هي صفات فعله كالخالق و الرازق و المحيي و المميت.

قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 181]

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

لمّا قال: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كذلك يقول: [وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ] و عصبة يدعون الناس إلى دينه و هو الحقّ و بالحقّ يحكمون.

و اعلم أنّه لمّا ذكر سبحانه في قصّة موسى قوله: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» و أعاد اللّه سبحانه في هذه الآية حمله أكثر المفسّرين على أنّ المراد منه امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن قتادة و ابن جريح. عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّها هذه الامّة. قال ابن عبّاس: يريد المهاجرين و الأنصار، و من المعلوم أنّ المراد بعضهم، قال الجبّائيّ هذه الآية تدلّ على أنّه لا يخلو زمان عمّن يقوم بالحقّ و يعمل به و يهدي إليه. روى العيّاشيّ بإسناده

ص: 50

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذي نفسي بيده ليفترقنّ هذه الامّة على ثلاث و سبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة؛ و ممّن خلقنا امّة يهدون بالحقّ و به يعدلون فهذه الّتي تنجو. و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: نحن هم.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 186]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

و قرئ «و نذرهم» بالنون.

النظم: لمّا ذكر اللّه في الآية السابقة المؤمنين بمحمّد- صلى اللّه عليه و آله- ذكر حال المكذّبين به و بآياته فقال:

[وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا] الّتي هي القرآن و المعجزات الدالّة على صدق النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كفروا بها [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي نقرّبهم إلى عذاب الآخرة درجة إلى أن يقعوا فيه و أصله من الدرجة. و قيل: معناه: سنطويهم في الهلاك و نرفعهم من وجه الأرض فيكون معناه مأخوذا من الدرج بمعنى الطيّ. و قيل معناه: كلّما جدّدوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة و جعل الاستدراج جزاء على كفرهم.

و ما فسّره المجبّرة غلط فاسد؛ فإنّه كيف يخلق فيهم الكفر و يخلق فيه كفرا آخر و يكون الكفر فعله و هو يعاقب بفعل نفسه؟! قوله: [وَ أُمْلِي لَهُمْ معناه: و ابقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر، و امهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة؛ لأنّهم لا يفوتونني [إِنَّ كَيْدِي و عذابي غليظ محكم. و سمّاه كيدا لنزوله من حيث لا يشعرون.

قوله: [أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ] الجنّة حالة من الجنون كالجلسة.

و دخل كلمة «من» لإفادة أنّه ليس به نوع من أنواع الجنون، و ذلك بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش يقول: يا بني فلان يا بني فلان و كان يدعوهم إلى توحيد اللّه و يخوّفهم من عذاب اللّه و واظب طول ليلته إلى الصباح فقال بعضهم لبعض:

إنّ صاحبكم هذا لمجنون.

ص: 51

و قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله عند نزول الوحي تغشاه حالة عجيبة يتغيّر وجهه و يصفرّ لونه و يعرض له حالة شبيهة بالغشي فالجهّال كانوا يقولون: إنّ به جنونا فاللّه يقول: إنّهم لا يتأمّلون أنّ هذا النبيّ الحسن الخلق، مرضيّ الطريقة، طيّب العشرة، نقيّ السيرة، مواظبا على المكارم كيف يتصوّرون في حالة الجنون؟

و لمّا كان شأنه الدعوة إلى الدين كان نذيرا مبينا لهم أمرهم.

و لمّا كان أمر النبوّة متفرّعا على تقدير دلائل التوحيد عقّبه بذكر ما يدلّ على التوحيد؛ قوله: [أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ .

ثمّ قال: [وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ] المقصود أنّ دلائل التوحيد غير مقصورة على السماوات و الأرض، بل كلّ ذرّة من ذرّات الوجود من عالم الأجسام و الأرواح شاهد معرفته و برهان باهر و دليل قاهر.

و ذلك لأنّ وقوع كلّ ذرّة من الذرّات بحيّز معيّن مع أنّ الأحياز غير متناهية كما أنّ الأجسام غير متناهية يدلّ على وجود محيّز و مخصّص و هو اللّه.

و لمّا قرّر هذه الدقيقة أردفه بما يوجب الترغيب في الإتيان بالنظر و التفكّر فقال:

[وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ و تقديره: و إنّه عسى، و الضمير ضمير الشأن و المعنى:

لعلّ آجالهم قربت فهلكوا على الكفر و إذا كان هذا الاحتمال قائما فيوجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة و تخليص النفس من هذا الخوف الشديد.

ثمّ قال سبحانه: [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد هذا القرآن و هذه الدلائل [يُؤْمِنُونَ ؟

و الآية تدلّ على حدوث القرآن، و لفظ الحديث يفيد من جهة اللّغة و من جهة الاصطلاح و العادة حدوثه عن قرب؛ يقال: إنّ هذا الشي ء حديث و ليس بعتيق؛ فيجعلون الحديث ضدّ العتيق الّذي طال زمانه و زمان وجوده.

قوله: [مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ عاد إلى ذكر المكذّبين الضالّين. المعنى: من اختار الضلالة على الهدى بسوء اختياره و أبقاه اللّه على ضلالته و خلّى بينه و بين اختياره فلا هادي له، و يدعهم في عمههم و تحيّرهم. و العمه في القلب كالعمى في البصر. و إذا قرئ بالنّون فجملة مستأنفة.

ص: 52

[سورة الأعراف (7): آية 187]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

النظم: لمّا قال سبحانه «وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» ترغيبا في مسارعة التوبة قال بعده:

[يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ] ليتحقّق أنّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق فيصير ذلك حاملا للمكلّفين على أداء الواجبات و قيل: إنّ قوما من اليهود جاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبيّا؟ فنزلت الآية و قيل: إنّ قريشا سألوا هذا السؤال. قال صاحب الكشّاف: الساعة من الأسماء الغالبة للقيامة كالنجم للثريّا و سمّيت القيامة بالساعة لأنّ حساب الخلق يقضى في ساعة واحدة أو لوقوعها بغتة.

«أيّان» معناه الاستفهام عن زمان المستقبل بمعنى متى و أصله أيّ ان. و «أرسى» اى اثبت و لا يستعمل إلّا في الشي ء الثقيل و «أيّان» خبر مقدّم و «مرساها» مبتدأ مؤخّر.

[قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي و لا يعلمه غيره، و قوله: [لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها] بيان لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها و إقناط كلّي للكلّ في عدم العلم بوقتها لاقتضاء الحكمة التشريعيّة كإخفاء الأجل قوله: [ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ثقلت وقوع القيامة على السماوات و الأرض لأجل أنّ عند مجيئها شقّقت السماوات و تكوّرت الشمس و القمر و انتثرت النجوم و تبدّل الأرض غير الأرض و تندكّ الجبال و تفنى البحار، و ثقيل هذا اليوم على أهل السماوات فضلا على أهل الأرض، لأنّ فيه فناءهم، و ثقيل على القلوب من الخوف و قيل معنى ثقلت:

خفيت واقعتها.

ثمّ قال سبحانه: [لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً] على حين غفلة من الخلق قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

يفجأ الناس و الرجل يسقي ماشيته و يصلح موضعه و يقوم بسلعته في السوق و الرجل يطفئ نيرانه و يرفعه قال صلى اللّه عليه و آله و الّذي نفسي بيده لتقومنّ الساعة و الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه و بين ذلك.

[يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها] المراد يعني أنّك أكثرت في المسألة عنها و تتبّعت و

ص: 53

علمت وقتها. و هو من الإحفاء و هو الإلحاح في السؤال [قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: [إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أمره سبحانه بإعادة الجواب الأوّل تأكيدا للحكم بعدم العلم و تمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله: [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعلّة اختصاص هذا العلم به تعالى.

[سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

النظم: روي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمّد أ لا يخبرك ربّك بالرخص و الغلاء حتى تشتري فتربح؟ و بالأرض الّتي تجدب لترتحل إلى الأرض الخصبة؟ فنزلت الآية و قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا رجع من غزوة بني المصطلق و جاءت ريح في الطريق نفرت الإبل و الدوابّ منها فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بموت رفاعة بالمدينة و كان فيه غيظ المنافقين و قال: انظروا أين ناقتي؟ فقال عبد اللّه بن ابيّ: ألا تعجبون من حال هذا الرجل يخبر بموت رجل بالمدينة و لا يعرف أين ناقته؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت و كيت و ناقتي في هذا الشعب قد تعلّق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فانزل الآية.

أي ما بيدي و اختياري من أمر إلّا بإذن اللّه و لا أعلم إلّا بتعليمه إيّاي و ما أنا إلّا نذير لكم من عذاب اللّه و بشير لكم برضوان اللّه لقوم آمن باللّه و صدّق بنبوّتي و ما أقدر على شي ء إلّا ما أقدرني اللّه عليه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 190]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

لمّا تقدّم ذكر اللّه ذكر عقبيه التوحيد و إبطال الشرك فقال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ الخطاب لبني آدم [مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] أي آدم [وَ جَعَلَ من جنسها أو من جسدها على قول:

و «جعل» بمعنى خبر أو إنشاء [زَوْجَها] أي حوّاء ليستأنس بها فلمّا أصابها و جامعها- و الغشيان إتيان الرجل المرأة و قد غشاها إذا علاها، و ذلك لأنّه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها و يجلّلها و هو يشبه التغطّي- [حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً] يريد حمل النطفة لأنّها في أوّل الأمر خفيفة

ص: 54

[فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرّت بالماء و الحمل على سبيل الخفّة أي تقوم و تقعد و تمشي من غير ثقل و قرئ «فمرت به» بالتخفيف و قرئ «فمارت به» أي ارتابت بالحمل.

[فَلَمَّا أَثْقَلَتْ و دنت ولادتها [دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما] أي آدم و حوّاء: [لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً] سويّا مثلنا [لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائك.

[فَلَمَّا آتاهُما] اللّه [صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما] و اختلف في ضمير «جعلا» في تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام: الضمير راجع إلى آدم و حوّاء:

أي كان شركهما شرك طاعة لا شرك عبادة.

قيل: لمّا آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على طاعة اللّه و عبوديّته ثمّ بدا لهما في ذلك فتارة ينتفعون به في مصالح الدنيا و منافعها و تارة بخدمة اللّه و عبادته و هذا العمل و إن كان منّا قربة و طاعة إلّا أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين فلهذا قال: [فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا أحد الأقوال.

و قيل: إنّه يرجع الضمير إلى أولاد هذا الصالح الّذي آتاهما و المراد بعض ذرّيّة هذا النسل الصالح، و إنّما ثنّى لأنّ حوّاء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا و أنثى فحاصل المعنى أنّ هذا النسل الّذين هم ذكروا أنثى جعلا للّه شركاء فالمراد من الجاعلين الّذين اتّخذ الآلهة من الأوثان من أولاد آدم، و لذلك أتى بضمير الجمع في قوله «يشركون» و باعتبار الذكوريّة و الإناثيّة أو باعتبار أنّهم من أصلين عبر بالتثنية.

و قد روى بعض العامّة في تفسير هذه الآية ما لا يليق بالأنبياء و هو أن حوّاء لمّا ثقلت بالحمل أتاها إبليس في صورة و قال: ما هذا يا حوّاء إنّي أظنّ أن يكون كلبا أو بهيمة و ما يدريك أن يخرج من دبرك فيقتلك أو من بطنك فخافت حوّاء و ذكر ذلك لآدم فلم يزالا في همّ من ذلك ثمّ أتاها إبليس و قال: إن سألت اللّه أن يجعله صالحا سويّا مثلك و يسهل خروجه من بطنك فسمّيه بعبد الحارث و كان اسم إبليس الحارث عند الملائكة فلمّا آتاهما اللّه ولدا سويّا جعلا له شركاء أي جعل آدم و حوّاء شريكا له و المراد بالشريك الحارث.

قال الرازيّ: و هذا القول فاسد لوجوه:

ص: 55

الأوّل أنّه تعالى قال بعده: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» و ذلك يدلّ على أنّ الّذين أتوا بالشرك جماعة.

الثاني أنّه تعالى قال بعده: «أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ» و هذا يدلّ على أنّ المقصود من هذه الآية الردّ على من جعل الأصنام شركاء للّه و ما جرى لإبليس ذكر في الآية.

الثالث: لو كان المراد من الشركاء إبليس لقال: يشركون من لا يخلق فإنّ الغالب أن يذكر العاقل بصيغة «من» لا بصيغة «ما».

الرابع أنّ آدم كان أشدّ عداوة لإبليس و أعرف بعداوة إبليس له و كان عالما بجميع الأسماء، فلا بدّ و أن يعلم أن اسم إبليس الحارث فمع تلك العداوة الشديدة و العلم الكامل كيف سمّى ولده بعبد الحارث؟ و أنّ آدم بسبب الزلّة الّتي وقعت منه و حصول التجربة كيف لم يتنبّه لهذا مع أنّه كان نبيّا؟ و مع علمه بالأسماء حيث يقول: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» (1).

ثمّ بتقدير أنّ آدم سمّاه بعبد الحارث فلا يخلو أنّه إمّا أن جعل هذا اللّفظ علما له أو جعله صفة له فإن كان الأوّل لم يكن هذا شركا باللّه لأنّ أسماء الأعلام لا يفيد في المسميّات فائدة فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الشرك و إن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم اعتقد أنّ للّه شريكا في الإيجاد و التكوين و ذلك موجب للقول بتكفير آدم فثبت فساد هذا القول.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام: ثمّ إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن في كلّ بطن ذكرا و أنثى و أنّ آدم و حوّاء دعواه و عاهداه «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» فلمّا آتاهما صالحا من النسل خلقا سويّا بريئا من العيب و الزمانة كان ما آتاهما صنفان ذكرا و أنثى فالصنفان جعلا شركاء للّه فيما آتاهما و لم يشكر اللّه كشكر أبويهما، قال اللّه «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» فقال المأمون: أشهد انّك ابن رسول اللّه انتهى.

و في قوله: «خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» قال بعض: يقتضي ظاهر الآية كون حوّاء مخلوقة

ص: 56


1- البقرة: 29.

من نفس آدم و يقولون: خلقها من ضلع من أضلاع آدم، و يقولون: الحكمة فيه أنّ الجنس إلى الجنس أميل و الجنسيّة علّة الضمّ.

قال الرازيّ: هذا الكلام مشكل؛ لأنّه تعالى لمّا كان قادرا على أن يخلق آدم ابتداء فما الّذي حملنا على أن نقول أنّه خلق حوّاء من جزء من أجزاء آدم؟ و لم لا يقولوا: إنّه تعالى خلق حوّاء أيضا ابتداء؟ لأنّ الّذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحدة يقدر على خلقه ابتداء بقي أنّ إذا لم نقل بذلك فما المراد من كلمة «من» في قوله: «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» نقول:

الإشارة إلى الشي ء تارة يكون بحسب شخصه و اخرى بحسب نوعه قال عليه السّلام هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة الّا به و ليس المراد ذلك الفرد المعيّن بل المراد ذلك النوع و المراد: خلق من نوع الإنسان زوجته.

[سورة الأعراف (7): الآيات 191 الى 195]

أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)

هذه الآية من أقوى الدلائل على أنّه ليس المراد بقوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ما ذكروه من قصة إبليس؛ إذ لو كانت قصّة إبليس صحيحة لكانت هذه الآية أجنبيّة عنها بالكلّيّة بل المراد من الآية السابقة الردّ على عبدة الأوثان قوله [يُشْرِكُونَ المراد أنّ الأصنام لا يصلح للالهيّة أي أ يعبدون ما لا يقدر على أن يخلق و هو مخلوق؟ و أفرد في قوله «يخلق» لأنّ لفظة «ما» يقع على الواحد و الجمع و جمع سبحانه بقوله: «يخلقون» مراعاة لجانب المعنى و هي الأصنام.

فلو قيل: إنّ الجمع بالواو و النون للعاقل و الأصنام لا تعقل؟ فالجواب أنّ المشركين بزعمهم أنّها تعقل فحكى الآية زعمهم السخيفة؛ نظيره «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» (1) و حاصل الكلام أنّ المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع و دفع الضرر و هذه الأصنام ليست كذلك.

ص: 57


1- النمل: 18.

ثمّ أكّد هذا المعنى بقوله تعالى: [سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ و عطف الجملة الاسميّة على الفعليّة لثبوت الاستمرار في الجملة الاسميّة و حصول التجدّد و الحدوث في الجملة الفعليّة أي إذا تتضرّعون للأصنام لرفع المعضلات عنكم ساعة فساعة أو تكفون لا فرق في الأثر لأنّ المشركين كانوا ذا وقعوا في شديدة تضرّعوا إلى أصنامهم، و إذا لم تحدث حادثة سكتوا فقال سبحانه:

[إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فلو قيل: إنّ الجماد كيف يحسن وصفها بالعباد فهذا المعنى ورد على وفق معتقدهم بأنّها عاقلة فاهمة فقال اللّه لهم على سبيل التهكّم: إن كان الأمر كذلك فهم أيضا عباد أمثالكم و أنتم عبيد فلم جعلتم أنفسكم عبيدا لهم بل أنتم و هم فرضكم سواء فلم جعلتموهم آلهة و أربابا ثمّ قال: [فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ بزعمكم [صادِقِينَ .

ثمّ شرح عجز الأصنام بقوله تعالى: [أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ بيان نوع آخر من تقرير قباحة عبدة الأصنام فذكر قوى أربعة تنبئ عن القوّة و الحياة و الإدراك و كلّها مسلوبة، و حاصل الآية أنّ المعبود أعجز من العابد فكيف يليق ذلك بالأشرف أن يعبد الأخسّ؟ و كانوا يخوّفون الرسول بآلهتهم بأنّها تفعل كيت فقال سبحانه تعالى: [قُلِ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لا تمهلوني و أعجلوا في كيدي مع آلهتكم [ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ و كيدون بحذف الياء بسب أنّ الفواصل تشبه القوافي فيحذفوها و يبقوها على الأصل.

[سورة الأعراف (7): الآيات 196 الى 198]

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

و المعنى ان ناصري اللّه الّذي نزل القرآن و يؤيّدني بنصره كما انزل القرآن عليّ و هو ينصر المطيعين له المجتنبين معاصيه تارة بالدفع عنهم و اخرى بالحجّة و الّذين تدعونه من غير اللّه لا يستطيعون نصرتكم و لا نصرة أنفسهم [وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى قيل: المعنى: و إن

ص: 58

دعوتهم هؤلاء الّذين تعبدونهم من الأصنام إلى المنافع و الرشد [لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ فضلا عن المساعدة و هذا القول أبلغ في نفي الاتّباع.

قوله: [وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع ترى الأصنام يشبهون الناظرين إليك و يخيّل إليك أنّهم يبصرون لمّا أنّهم صنعوا لها أعينا مركّبة من الجواهر المضيئة المتلألئة و صوّروها بصورة من يقلّب و الحال أنّها لا تبصر و حينئذ الرؤية بمعنى الحسبان واردة.

و قيل: المعنى و إن دعوتم المشركين إلى الدين لا يسمعوا دعاءكم ينظرون إليك.

ضمير الجمع راجع إلى المشركين الّذين هم عمى القلب و لفظ «وليّي» بثلث ياءات ياء فعيل و هي ساكنة و الثانية لام الفعل و هي مكسورة قد أدغمت الاولى منها فصارت مشدّدة و الثالثة باء الإضافة و قرئ وليّ اللّه بياء مشدّدة و حذف ياء الّتي هي لام الفعل ثمّ أدغمت ياء فعيل في ياء الإضافة فقيل وليّ اللّه و هذه الفتحة فتحة ياء الإضافة و الباقون جازوا اجتماع ثلث ياءات.

قيل: إنّ رجلا من الصالحين ما كان يدّخر لأولاده شيئا مع أنّه كان من الأغنياء فقيل له في ذلك فقال: ولدي إن كان من الصالحين فوليّه اللّه بموجب هذه الآية و من كان وليّه اللّه فلا حاجة له في مالي و إن كان من المجرمين فقد قال اللّه «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (1) و من ردّ اللّه لم أشتغل بإصلاح مهمّاته.

[سورة الأعراف (7): آية 199]

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)

لمّا بين أنّه يتولّى الصالحين بيّن في هذه الآية الصلاح و حقيقته فقال: [خُذِ الْعَفْوَ] قال أهل اللغة: «العفو» الفضل و ما أتى من غير كلفة إذا عرفت هذا فالحقوق مطلقا إمّا أن يجوز فيها المسامحة و المساهلة و إمّا لا يجوز: أمّا الفرد الأوّل فهو المراد بقوله: «خذ العفو» و يدخل فيه ترك التشدّد في كلّ ما يتعلّق بالحقوق الماليّة، و يدخل فيه التخلّق مع الناس بترك الغلظة و المعاشرة بالخلق الطيّب، و من هذا الباب أن يدعو الخلق إلى دين الحقّ باللطف و الرفق.

ص: 59


1- القصص: 16.

و القسم الثاني و هو الّذي لا يجوز فيه المساهلة فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف و هو كلّ خصلة حميدة بيّنها الشارع و تعرف صوابها العقول السليمة فعلّم رسوله في هذه الآية بمحاسن الأفعال و مكارم الخصال.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سأل رسول اللّه جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل: لا أدرى حتّى أسأل العالم ثمّ أتاه فقال: يا محمّد صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك و تعطى من حرمك و تصل من قطعك [وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ و هو كلّ ما حسن في الشرع و العقل و لم يكن منكرا [وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ بعد قيام الحجّة عليهم إذا قابلوك بالسفه صيانة على قدرك و لمّا نزلت هذه الآية قال: يا ربّ كيف و الغضب فنزل قوله:

[سورة الأعراف (7): آية 200]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

نزغ الشيطان عبارة من وساوسه و نخشه (1) في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي و نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم و قيل: «النزغ» الإزعاج و هو الحركة إلى الشرّ و أكثر ما يكون عند الغضب.

و لمّا كان من المعلوم أنّ عند إقدام السفيه على السفاهة يهيّج الغضب فعند ذلك يجد الشيطان مجالا فينزغ و يحرّك الإنسان على ما لا ينبغي؛ فقال سبحانه دواء هذا الداء بقوله:

[فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و هو أن يتفكّر الإنسان عظم نعمته و شديد عقابه و هو التذكّر يدعوه إلى الإعراض عن مقتضى الطبع و الغضب و بهذا النصّ ثبت أنّ لهذه الاستعاذة أثرا في دفع نزغ الشيطان فالمواظبة على هذا الأمر لازمة في أكثر الأحوال [إِنَّهُ سَمِيعٌ بدعائك [عَلِيمٌ بحالك.

[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 202]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

وصف سبحانه حال المتّقين من نزغ الشيطان فقال: إنّه [إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ من طاف به الخيال و ألمّ به و أحاط كأنّها تطوف و تدور حولهم لتوقعهم بالمهلكة [تَذَكَّرُوا] بالاستعاذة و استعاذوا به تعالى و توكّلوا عليه [فَإِذا هُمْ بسبب ذلك التذكّر و الاستعاذة [مُبْصِرُونَ واقع الخطاء و مكائد اللعين و معنى «إذا» هاهنا للمفاجاة.

ص: 60


1- نخشه: حثه على امر.

و قوله: [وَ إِخْوانُهُمْ الضمير إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأوّل أي إخوان الشياطين من الإنس يعينون شياطين الجنّ في إغواء الناس في الإضلال ثمّ لا يكفّون و لا يقصرون عن الضلال و الإضلال. و القول الثاني أنّ الضمير راجع إلى الكفرة و شياطينهم يكونون مددا لهم في الإغواء فإن لكلّ كافر أخا من الشيطان و لأنّ للمؤمن ايضا شيطانا لكنّه ليس بأخ له.

[سورة الأعراف (7): آية 203]

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

بيان نوع آخر من ضلالات الكافرين و هو أنّهم كانوا يطلبون آيات و معجزات على سبيل الاقتراح و التعنت مثل قولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» (1) و أمثاله فقال: و إذا لم تأت بآية الّتي هم اقترحوها قالوا: هذا اقترحت على إلهك إن كنت صادقا في أنّ اللّه يقبل دعاءك فعند هذا أمر نبيّه أن يذكر لهم الجواب الشافي بقوله:

[قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: [إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ و ليس لي أن اقترح على ربي في الأمور بل إنّما أنتظر الوحي فكلّ شي ء أمرني و أكرمني به قلته و إلّا فالواجب السكوت ثمّ بيّن أنّ عدم الإتيان بما يقترحون لا يقدح في الغرض لأنّ هذا القرآن معجزة بالغة في تصحيح أمر النبوّة فكان طلب الزيادة من باب التعنّت لأنّ القرآن سبب لبصائر العقول في دلائل التوحيد و النبوّة و المعاد تسمية للسبب باسم المسبّب و به الكفاية لأنّه سبب الهدى و البصيرة لمن آمن به و القرآن في حقّ الّذين بلغوا في معارفه غاية إلى حيث صاروا كالمشاهدين فهم أصحاب عين اليقين، و الّذين ما بلغوا إلى ذلك الحدّ و لكنّهم و صلوا إلى درجات المستدلّين بدلائل التوحيد و النبوّة؛ فهم أصحاب علم اليقين. فالقرآن في حقّ الطائفة الاولى بصائر و في حقّ القسم الثاني هدى و هداية، و في حقّ عامة من أمن به رحمة و لمّا كانت الفرق الثلاثة من المؤمنين لا جرم خصّهم بذكر الإيمان لأنّهم المنتفعون به دون الكفّار.

و في هذه الآية دلالة على أنّ أفعال النبيّ و أحواله تابع للوحي و القرآن و أنّه لا يجوز العمل بالرأي و القياس.

ص: 61


1- الإسراء: 92.

[سورة الأعراف (7): آية 204]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

لمّا بيّن شأن القرآن بقوله: «بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» أردفه بقوله: [وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ و الإنصات السكوت و الكفّ عن الكلام، و فيه أقوال و اختلاف في وجوب الأمر بالاستماع و ندبه و كذا في وقت القراءة فقيل: حكم الإنصات و الاستماع في وقت الصلاة خاصّة خلف الإمام الّذي يؤتمّ به إذا سمعت قراءته، و هذا القول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيّب و مجاهد و الزهريّ، و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام.

قالوا: و كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم و يسلّم بعضهم على بعض، و إذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه فنهوا عن ذلك و أمروا بالاستماع، و قيل: إنّه في الخطبة أمروا بالإنصات و الاستماع إلى الإمام يوم الجمعة و قيل: إنّه في الخطبة و في الصلاة أيضا.

و قال الشيخ أبو جعفر الطوسيّ: أقوى الأقوال القول الأوّل. و روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و غيرها، قال الشيخ: و ذلك على وجه الاستحباب. و في الآية قول آخر و هو أنّ قوله: «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا» خطاب للكفّار يمكن أن يكون أمر اللّه الكفّار بالاستماع و الإنصات إذا قرأ النبيّ القرآن في حالة الصلاة أو غيرها حتّى يقفوا على ما فيه من البيان و المعنى و الفصاحة و يحيطوا بما فيه من العلوم فيظهر لهم حينئذ كونه معجزا دالّا على صدق نبوّته و أمّا ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ هذا الأمر محمول على الاستحباب.

قوله:

[سورة الأعراف (7): الآيات 205 الى 206]

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله، و المراد به عامّ، و قيل: الخطاب لمستمع القرآن أي اذكر ربّك في نفسك بالكلام من التسبيح و التهليل و التحميد. روى زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال:

معناه إذا كنت خلف الإمام تأتمّ به فأنصت و سبّح في نفسك و قيل: اذكره في نفسك بصفاته العليا و أسمائه الحسنى تضرّعا بالذلّة و الخوف و أظهر ذلّتك له بالخوف لأنّه أقرب إلى الإجابة و إنّما خصّ الذكر في النفس لأنّه أبعد من الرياء [وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي ارفعوا أصواتكم قليلا و لا تجهروا بها جهارا بليغا ليكون عدلا بين ذلك كما قال: «وَ لا تَجْهَرْ

ص: 62

بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها» (1) و قيل أمر للإمام أن يرفع صوته في الصلاة بالقراءة مقدار ما يسمعه من خلفه [بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ أي بالغدوات و العشيّات. خصّ هذين الوقتين لأنّهما حال الفراغ من طلب المعاش ليكون القلب أفرغ و البال أجمع [وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن هذا الأمر.

ثمّ ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر فقال: [إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ و هم الملائكة مع علوّ أمرهم يعبدون اللّه أي إنّكم إذا استكبرتم عن العبادة فمن هو أعظم حالا منكم لا يستكبرون و قال: «عند ربّك» تعريفا و شأنا للملائكة بإضافتهم الى نفسه و لم يرد قرب المكان و قيل: معناه أنّهم في المكان الّذي شرّفه اللّه أو لقربهم من رحمته يسبّحونه و ينزّهونه عمّا لا يليق و له يخضعون و يسجدون و يصلّون و ذكر اللّه جلية و خفية حسن. العيّاشيّ عن أحدهما: لا يكتب الملك إلّا ما يسمع قال اللّه: «وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً» فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير اللّه لعظمته، قال أمير المؤمنين: من ذكر اللّه في السرّ فقد ذكر اللّه كثيرا إنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية و لا يذكرونه سرّا فقال اللّه:

«يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» (2) العيّاشيّ عنه عليه السّلام في هذه الآية قال تقول عند المسائل: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و يميت و يحيي و هو حيّ لا يموت و هو على كلّ شي ء قدير قيل: بيده الخير؟ قال عليه السّلام: إنّ بيده الخير و لكن قل كما أقول لك عشر مرّات، و قل: أعوذ باللّه السميع العليم عشر مرّات حين تطلع الشمس، و حين تغرب. في الحديث إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي و يقول: يا ويله امر هذا بالسجود فسجد له الجنّه و أمرت بالسجود فعصيت فلي النار.

في ثواب الأعمال عن الصادق من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن قرأها في كلّ جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة، و اعلم أنّ اللّه أمر بالذكر مقيّدا بقيود: القيد الأوّل في نفسك، و المراد كون الذاكر عارفا بمعاني الأذكار الّتي يقوله بلسانه مستحضرا و معتقدا بصفات الكمال و العزّ و العظمة

ص: 63


1- الإسراء: 110.
2- النساء: 141.

فإنّ الذكر باللسان إذا كان القلب عاريا عنه كان عديم الأثر أو قليل الفائدة، و اللسان يكون حاكيا عن القلب. أ ما ترى إذا قال الرجل: بعت و اشتريت مع أنّه لا يعرف معناه و لا يقصده فإنّه لا ينعقد البيع و الشرى؟ و كذا هاهنا، أما ترى أنّ أصحاب القلوب إذا أرادوا أن يأمروا واحدا بعمل و ذكر أمروه بالتصفية مدّة ثمّ بعد استكمال المدّة و حصول التصفية يقرء عليه الأسماء التسعة و يقول لذلك الطالب السالك: اعتبر حالك و حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكلّ اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثيره فاعرف أنّه يفتح لك أبواب السعادات بالمواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، و هذا القيد معتبر في الذكر لأنّه به يظهر عزّة الربوبيّة و ذلّة العبوديّة و هو الأصل في كلّ عبادة.

القيد الثاني: و يكون الدعاء في حال الضراعة و الخوف، المراد خوف التقصير في العمل و خوف الذنوب و خوف الخاتمة و خوف بعضهم من السابقة لقوله: «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» و أما قراءة بعضهم و «خفية» فالإخفاء للمبتدي لصون الطاعات عن الرياء و في حقّ المنتهي القصور قال: من عرف اللّه كلّ لسانه.

القيد الثالث: أن يكون الذكر متوسّطا بين الجهر و الإخفات. و القيد الرابع: الإصباح و الإمساء و المراد الدوام و المواظبة و يؤيّد هذا المعنى أنّه تعالى قال: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ» (1) قال ابن عبّاس: لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال أمر اللّه بالذكر عندها.

تمّت سورة الأعراف بحمد اللّه و تليها سورة الأنفال إن شاء اللّه.

ص: 64


1- آل عمران: 188.

سورة الأنفال

اشارة

هي خمس و سبعون آية و هي مدنية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له و شاهد يوم القيامة أنّه بري ء من النفاق و اعطى من الأجر بعدد كلّ منافق و منافقة في الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات، و كان العرش و حملته تصلّون عليه أيّام حياته في الدنيا و عن أحدهما عليهما السّلام: من قرأ الأنفال و سورة براءة في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا و كان من شيعة عليّ حقّا و يأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتّى يفرغ الناس من الحساب و في قراءة الأنفال جدع الأنوف.

ص: 65

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

قوله: [يَسْئَلُونَكَ عمّن لم يسبق ذكرهم، و حسن ذلك هاهنا؛ لأنّ حال نزول الآية كان السائلون معيّنون حاضرون من الصحابة فانصرف إليهم.

و النفل و النافلة ما كان زيادة على الأصل و سمّيت الغنائم أنفالا لأنّها عطيّة و فضل عطيّة من اللّه لرسوله.

في التهذيب عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: الفي ء و الأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم و لم تفتح بالسيف فهو يكون من الفي ء و الأنفال، فهذه للّه رسوله فما كان للّه فهو لرسوله يضعه حيث يشاء و هو للإمام بعد الرسول، و في الكافي عن الصادق: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب أو قوم صالحوا أو أعطوا بيدهم إلخ. و عنه في عدّة أخبار: من مات و ليس له وارث فماله من الأنفال، و عنه عليه السّلام: نحن قوم فرض اللّه طاعتنا لنا الأنفال و لنا صفو المال. و في الجوامع عن الصادق:

الأنفال كلّ ما أخذ من دار الحرب بغير قتال و كلّ أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال و الأرضون الموات و الآجام و بطون الأودية و قطائع الملوك و ميراث من لا وارث له فهي للّه و رسوله و لمن قام بنصّه و من مات و ليس له مولى فما له من الأنفال.

و قال: نزلت الآية يوم بدر و كان أصحاب الرسول ثلاث فرق: فصنف كانوا عند خيمة الرسول و صنف أغاروا على النهب و فرقة طلبت العدوّ و أسروا و غنموا فلمّا جمعوا الغنائم و الأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى فأنزل اللّه: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» (1) فلمّا أباح اللّه لهم الأسارى و الغنائم تكلّم سعد بن معاذ و كان ممّن أقام بالخيمة عند النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد و لا جبنا من العدوّ

ص: 66


1- السورة: 68.

و لكنّا خفنا أن يرى موضعك فيميل عليك خيل المشركين، و قد أقام بالخيمة وجوه المهاجرين و الأنصار و الناس كثير و الغنائم قليلة، و متى تعطي هؤلاء لم يبق لأصحابك شي ء و خاف أن يقسّم رسول اللّه الغنائم و أسلاب القتلى بين من قتل و لا يعطي على من تخلّف على الخيمة شيئا فاختلفوا فيما بينهم حتّى سألوا النبيّ فقالوا: لمن هذه الغنائم؟ فأنزل اللّه هذه الآية و خصّها اللّه لرسوله فرجع الناس، و ليس لهم في الغنيمة شي ء ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الآية» (1) فقسّمه رسول اللّه بينهم فقال سعد بن وقّاص: يا رسول اللّه أ تعطى فارس ما تعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ثكلتك أمّك و هل تنصرون إلّا بضعفائكم؟ قال: و لم يخمّس رسول اللّه ببدر و قسّم بين أصحابه ثمّ استقبل بأخذ الخمس بعد البدر.

و بالجملة يعلم من الآية أنّه قد وقعت مشاجرة في كيفيّة القسمة في الغنائم بين الأصحاب لأنّ قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» و كذلك قوله: «وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2) قال ابن عبّاس في بعض الروايات: المراد من الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابّة أو عبد أو متاع فهو إلى النبيّ يضعه حيث يشاء. و بالجملة فما صحّ من الاخبار المنقولة عن أئمتنا في معنى الأنفال فهو الصحيح و قضى به. قوله: [وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ و المراد المضمرات في الصدور و ما وقع من الأقوال المكدّرة بين الطرفين، و يسمّى ذات البين. عليكم بإصلاحها كي لا تبقى العداوة بينكم ثمّ أكّد سبحانه بقبول الأمر و طاعة الرسول و نهاهم عن مخالفته بقوله: [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

و احتجّ من قال: ترك الطاعة يوجب زوال الايمان بهذه الآية و تقريره أنّ المعلّق بكلمة «إن» على شي ء عدم عند عدم ذلك و موجود عند وجود ذلك الشي ء و هاهنا الإيمان معلّق على الطاعة بكلمة «إن» فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة.

[سورة الأنفال (8): الآيات 2 الى 4]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

ص: 67


1- السورة: 42.
2- كذا.

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ الإيمان مستلزم للطاعة شرح في هذه الآية علائم المؤمنين بقوله: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي إنّما يكون المؤمن مؤمنا إذا كان خائفا من اللّه و الخوف على قسمين: خوف العقاب و خوف العظمة و الجلال أمّا خوف العقاب للعصاة و أمّا خوف الجلال فينبغي أن لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين سواء كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا لأنّ المحتاج إذا حضر عند الملك الغنيّ يهابه و يخافه [وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ و يفوّضون أمورهم إليه فيما يخافون و يرجون. فبعد أن تقرّر هذا امر بالتوطين على النفس في رعاية العمل من آثار العبوديّة و الإيمان و رأس الطاعات الصلاة و بذل المال في مرضات اللّه؛ فقال:

[الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في مرضات اللّه.

ثمّ أخبر سبحانه إخبار حقّ أنّ الموصوفين بهذه الصفات [لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنّة و قوله: لهم درجات يفيد أنّ سعادة أهل الإيمان في الجنّة متفاوتة كما أنّ درجات الإيمان متفاوتة و الموصوف بهذه الآية من الكاملين في الإيمان فحينئذ كلمة الحصر في قوله لحصر كمال الإيمان لا لحصر وجوده فلا تدلّ الآية على أنّ من كان دونهم في المنزلة خارج عن الإيمان و ايضا إثبات هذه الصفات لا يلزم منه أن لا يكون عليه تكليف آخر من سائر الواجبات كالحجّ و الجهاد.

قوله تعالى:

[سورة الأنفال (8): الآيات 5 الى 6]

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6)

أي حالهم هذه في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب و لمّا حكم اللّه في الأنفال في الآية بأنّها للرسول يصنع فيها ما يشاء امسك المسلمون عن الطلب و في أنفس بعضهم شي ء من الكراهة، و حين خرج صلى اللّه عليه و آله إلى قتال البدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة فشرح اللّه أنّ تلك الكراهة مثل خروجك من المدينة للقتال يوم بدر و هو قتال حقّ، أو كما أنّ حكم الأنفال حقّ كذلك حكم القتال و الخروج حقّ. روي أنّ عير قريش أقبلت من الشام و المراد بالعير القافلة الراجعة و فيها أموال التجارة للقريش و كان مع العير أربعون

ص: 68

راكبا منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و أقوام آخرون فأخبر جبرئيل رسول اللّه فأخبر الرسول المسلمين فأعجبهم تلقّي العير لكثرة المال و قلّة القوم فلمّا أزمعوا على الخروج و بلغ أهل مكّة خروجهم نادى ابو جهل فوق الكعبة يا أهل مكّة النجا النجا على كلّ صعب و ذلول إن أخذ محمّد صلى اللّه عليه و آله عيركم لن تفلحوا ابدا و قد رأت اخت العبّاس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها إنّي رأيت كانّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق لها فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا أصابه حجر من تلك الصخرة فقال أبو جهل ما يرضى رجالهم بالنبوّة حتّى ادّعا نساؤهم النبوّة فخرج أبو جهل بصناديد أهل مكّة هم النفير، و في المثل السائر لا في العير و لا في النفير فقيل له: العير أخذت طريق الساحل و نجت فارجع بالناس إلى مكّة فقال: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا ننحر الجزور و نشرب الخمور و تغني القينات ببدر فتتسامع العرب بخروجنا و أنّ محمّدا لم يصب العير إلى بدر بالقوم.

و بدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة فنزل جبرئيل، و قال: يا محمّد إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين إما العير و إما النفير من قريش و استشار النبيّ صلى اللّه عليه و آله أصحابه و قال: العير أحبّ إليكم أم النفير، قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ فتغيّر وجه رسول اللّه و قال:

إنّ العير مضت على ساحل البحر و هذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول اللّه عليك بالعير ودع النفير و العدوّ. فقام عند غضب النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعض الصحابة و قال سعد بن عبادة: امض يا رسول اللّه إلى ما أمرك اللّه فإنّا معك حيثما أردت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (1) و لكنّا نقول: اذهب أنت و ربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال: سيروا على بركة اللّه و كأني أنظر إلى مصارع القوم.

و بالجملة كانت كراهية القوم لبعضهم لا لكلّهم لقوله تعالى [وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ و المراد من قوله [يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ هو الّذي جادلوا فيه رسول اللّه، تلقّي النفير لإيثارهم و ميلهم إلى العير و قوله [بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ المراد إعلام رسول اللّه بأنّهم ينصرون و ما كانوا يقولون لرسول اللّه ما كان خروجنا إلّا للعير و هلّا قلت لنا: اخرجوا إلى الأعداء

ص: 69


1- المائدة: 27.

لنتأهّب للقتال؟ فهذا كان جدالهم ثمّ إنّه تعالى شبّه حالهم من فرط الفزع بحال من يجرّ إلى القتل و يساق إلى الموت و هو شاهد لأسبابه ناظرا إلى موجباته.

قوله: [وَ هُمْ يَنْظُرُونَ كناية عن الجزم و القطع لأنّه من نظر إلى شي ء يعلم به و كان سبب خوفهم أمورا: منها قلّة العدد و أنّهم كانوا رجّالة روي أنّه ما كان فيهم إلّا فارسان و قلّة السلاح.

[سورة الأنفال (8): آية 7]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)

و اذكر وقت الّذي يعدكم اللّه و المراد بالطائفتين العير و النفير، و المراد بغير ذات الشوكة العير و بذات الشوكة الحدّة و القوّة، مستعارة من الشوك لحدّته و شوك القنا سنانه و منه قولهم: شاكي السلاح أي تودّون الطائفة الّتي لا قوّة لها و لا تريدون الطائفة القويّة و لكنّ اللّه أراد التوجّه إلى الطائفة القويّة.

[يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ فإن قيل: الحقّ حقّ لذاته و الباطل باطل لذاته، فامتنع تحصيله لأنّه حاصل فالمراد إبانة الحقّ و إظهار كون الحقّ حقّا و الباطل باطلا. و المعتزلة تمسّكوا بهذه الآية بأنّ اللّه لا يريد تحقيق الباطل و إبطال الحقّ بصريح الآية.

و ذلك يبطل قول من يقول: إنّه لا باطل و لا كفر إلّا و اللّه مريد له. قوله بكلماته أي بتقويته للرّسول في الغزوة و قيل: بالأئمّة و حاصل المعنى أنتم تريدون المال و تريدون أن لا تصلون إلى مكروه و اللّه يريد إعلاء دينه و ما يحصل لكم الفوز في الآخرة.

قوله:

[سورة الأنفال (8): آية 8]

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

يفعل ما يفعل و ليس بتكرار لأنّ الأوّل بيان مراد اللّه و تفاوت ما بين مراده و مرادهم، و الثاني لبيان حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة لنصرة الحقّ و لذا قال بعده [وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ و هو الشرك [وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

[سورة الأنفال (8): الآيات 9 الى 10]

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

ص: 70

العامل في «إذ» قيل: «وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ» و قيل: بفعل محذوف تقديره: و اذكر.

النزول: قيل: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا نظر إلى كثرة المشركين و قلّة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال: اللّهم أنجز لي ما وعدتني اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه عن منكبيه فأنزل اللّه الآية. المعنى: و اذكروا إذ تستجيرون بربّكم يوم بدر من أعدائكم لقلّتكم و الفرق بين المستنصر و المستغيث أنّ المستنصر طالب الظفر و المستغيث طالب الخلاص.

[فَاسْتَجابَ لَكُمْ فأغاثكم و أجابكم بانّي مرسل إليكم مددا [بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ] متتابعين بعضهم في اثر بعض و ما جعل اللّه الإمداد بالملائكة إلّا بشارة للمسلمين بالنصر و تشجيعا لقلوبهم بكثرة السواد لهم لأن في مقاتلة الملائكة مع الكفّار خلاف، قيل: ما قاتلت و لكن كثر السواد و زيد الرعب في قلوب الكفّار و إلّا ملك واحد كاف في هلاكهم كما فعل جبرئيل بقوم لوط فأهلكهم بريشة من جناحه. و قيل: قاتلت. و أمّا ما قاله سبحانه في آل عمران بثلاثة آلاف و بخمسة آلاف فإنّها للبشارة و [مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ليست بالقلّة و الكثرة بل هي من عند اللّه الغالب الحكيم في أفعاله يجريها على ما يقتضيه الحكمة.

[سورة الأنفال (8): الآيات 11 الى 13]

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)

النعاس أوّل النوم، و هذه إظهار نعمة اخرى من قوله: إذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين [إِذْ يُغَشِّيكُمُ بالتشديد و يغشيكم بالتخفيف بالبابين أي أذكروا إذ جعل اللّه النوم غاشيا لكم و محيطا بكم لأجل الأمن من الخوف من العدوّ فإنّ الخوف مسهر و الأمن منيم و الامنة الدعة الّتي تنافي المخافة.

[وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ و ذلك لان المسلمين قد سبقهم الكفّار إلى الماء، و أنتم تصلّون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل فمطرهم اللّه حتّى اغتسلوا به من الجنابة و تطهّروا من الحدث و تبلّدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوّهم و ذهب

ص: 71

عنكم رجز الشيطان من الاحتلام و الوسوسة و لتقوى قلوبكم و بثبت أقدامكم في الحرب بتبلّد أرضكم.

و بيان وسوسة الشيطان أنّه وسوس إليهم أنّكم أصحاب محمّد تزعمون أنّكم على الحقّ و أنّكم تصلّون على غير الوضوء بالجنابة و قد عطشتم و لو كنتم على الحقّ ما غلبكم هؤلاء على الماء و ما ينتظرون بكم إلّا أن يجهدكم العطش فقتلوا من أرادوا قتله و ساقوا بقيّتكم إلى مكّة فحزنوا حزنا شديدا و خافوا خوفا شديدا؛ فأنزل اللّه المطر فمطروا حتّى جرى الوادي فطابت نفوسهم فاغتسلوا و شربوا و صلّوا و تبلّدت أرضهم.

قوله: [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ] و في التعرض لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و آله من التعظيم و التشريف ما لا يخفى. المعنى: اذكر يا محمّد صلى اللّه عليه و آله وقت إيحائه إلى الملائكة أى مع الملائكة حال ما أرسلهم ردءا للمسلمين أو المراد أنّه تعالى أوحى إلى الملائكة أنّي مع المؤمنين فانصروهم و ثبّتوهم. و اختلفوا في كيفيّة هذا التثبيت؛ قيل:

إنّ الملائكة عرّفوا الرسول أنّ اللّه ناصر المؤمنين و الرسول عرّفهم فذلك هو التثبيت في هذا الباب.

و قيل: إنّ الشيطان كما يمكنه الوسوسة إلى الإنسان فكذلك الملك يمكنه الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. و قيل: إنّ الملائكة كانوا يشتبهون بصور رجال من معارف المؤمنين و كانوا يمدّونهم بالنصر و الفتح.

قوله: [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ و هذا نوع من النعم الّتي أنعم اللّه البدريّين لأنّ أمير النفس هو القلب فلمّا بيّن اللّه أنّه ربط قلوب المؤمنين بإزالة الخوف ذكر أنّه تعالى ألقى الخوف في قلوب الكافرين [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ و لمّا وقع للمسلمين موجبات النصر فعند هذا أمرهم بمحاربة الكفّار. و ما فوق العنق الرأس فكان أمر بإزالة الرأس من الجسد يريد الهام و الجمجمة قيل: هذا الأمر للمؤمنين و قيل: للملائكة على قول من قال:

إنّ الملائكة قاتلت.

قوله: [وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي الأطراف و اليدين و الرجلين و الحاصل أن اضربوا كل عضو تمكّنتم منه بسبب أنهم جانبوا و صاروا في شقّ غير شقّ المسلمين [وَ مَنْ

ص: 72

يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي هذا الّذي نزل بهم في ذلك اليوم شي ء قليل بالنسبة إلى ما أعدّه اللّه لهم من عذاب الآخرة.

[سورة الأنفال (8): آية 14]

ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

التقدير: الأمر ذلكم و «لكم» خبر مبتدأ محذوف و تقدير المعنى: أنّ العذاب على قسمين، معجّل و مؤجّل فذلك القتل و الأسر و النهب عذاب معجّل كذوق طعم الشي ء للاختبار، و هذا العذاب بالنسبة إلى عذاب النار في الآخرة و ما أعدّ اللّه للكافرين من شدائد العذاب كذوق القليل بالنسبة.

و مجمل قصّة بدر أنّه لمّا أصبح النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم بدر عبّأ أصحابه فكان في عسكره فرسان فرس لزبير بن العوّام و فرس لمقداد بن أسود الكنديّ و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس و قيل: مائتا فرس فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال أبو جهل: ما هم إلّا اكلة لو بعثنا عليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا بابد فقال عتبة: أ ترون لهم كمينا أو مددا؟

فبعثوا عمر بن وهب و كان فارسا بطلا، فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول اللّه ثمّ رجع فقال: ليس لهم مدد ثم صعد الوادي و صوّت و قال لأبي جهل: ما لهم كمين و لا مدد و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون تلمّظ الأفاعى ما لهم ملجأ غير سيوفهم و ما أراهم يولّون حتّى يقتلوا و لا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتؤوا برأيكم فقال له أبو جهل: كذبت و جبنت.

ثمّ بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى قريش و قال: يا معشر قريش إنّي أكره أن ابدأ بكم فخلّوني و العرب فان أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا و إن أك كاذبا كفاكم ذئبان العرب أمري فارجعوا. فقال عتبة: ما أفلح قوم قط ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه النبيّ يجول في العسكر و ينهى عن القتال فقال صلى اللّه عليه و آله: ان يك عند أحد خير فعند صاحب هذا الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا و اقبل عتبة يقول:

يا معشر قريش اجتمعوا و اسمعوا ثمّ خطبهم فقال: يمن مع رحب و رحب مع يمن يا معشر قريش أطيعوني اليوم و ارجعوا إلى مكّة و اشربوا الخمور فإنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله له إلّ و ذمّة و هو ابن عمّكم فارجعوا و لا تردّوا رأيي.

ص: 73

فلمّا سمعه أبو جهل ذلك قال: إنّ عتبة أطول الناس لسانا و أبلغهم في الكلام، و لئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيّد القريش إلى آخر الدهر، ثمّ قال: يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب و جبنت و تأمر الناس بالرجوع و قد رأينا ثارنا بأعيننا- لأنّهم كانوا يطالبون بدم ابن الحضرميّ و قد عقله عتبة- فنزل عن جمله بعد هذا الكلام و حمل على أبي جهل على فرس و أخذ بشعره و عرقب فرسه و قال: أ مثلي يجبن؟ و سيعلم قريش اليوم أينا الألأم و الأجبن و أيّنا المفسد لقومه ثمّ قال:

هذا جناي و خياري فيه و كلّ جان يده في فيه

ثمّ أخذ بشعره و يجرّه فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا أبا الوليد تنهى عن شي ء تكون أوّله فخلّصو أبا جهل من يده.

فنظر عتبة إلى أخيه شيبة و نظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بنيّ فقام و لبس درعه و طلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوا لعظم هامة فاعتمّ بعمامتين ثمّ أخذ سيفه و تقدم هو و أخوه و ابنه و نادى يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.

فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار عوذ و معوذ و عوف بني عفراء فقال عتبة من أنتم انتسبتموا لنعرفكم؟ فقالوا: نحن بنو عفراء أنصار اللّه و أنصار رسوله فقال: ارجعوا فإنّا لسنا إيّاكم نريد و إنّما نريد الأكفاء من قريش فبعث إليهم رسول اللّه أن ارجعوا فرجعوا و كره أن يكون أوّل الكره بالأنصار.

ثمّ نظر رسول اللّه إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب و كان له سبعون سنة فقال له:

يا عبيدة قم فقام بين يديه بالسيف ثمّ نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب فقال له: قم يا عمّ ثم نظر إلى عليّ عليه السّلام أمير المؤمنين فقال له: قم يا عليّ و كان أصغر القوم فاطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها و تريد أن تطفئ نور اللّه و يأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره.

ثمّ قال رسول اللّه: يا عبيدة عليك بعتبة و قال لحمزة: عليك بشيبة و قال لعليّ عليه السّلام عليك بالوليد بن عتبة فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقال عتبة: من أنتم انتسبوا لنعرفكم؟

فقال: أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقال كفو كريم ثمّ قال: من هذان؟ فقال حمزة

ص: 74

ابن عبد المطلب و عليّ بن أبي طالب فقال: كفوان كريمان لعن اللّه من أوقفنا و إيّاكم هذا الموقف فقال شيبة لحمزة من أنت؟ فقال: أنا حمزة أسد اللّه و أسد رسوله فقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء فانظر كيف يكون صولتك يا أسد اللّه؟

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلق هامته و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها و سقطا جميعا و حمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيف حتّى انثلم سيفهما و كل واحد منهما يتّقى بدرقته و حمل عليّ عليه السّلام على الوليد بن عتبة خال معاوية فضربه على عاتقه فاخرج السيف عن إبطه قال عليّ عليه السّلام: فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض ثمّ اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون: يا عليّ أما ترى الكلب قد قهر عمّك فحمل عليّ عليه ثم قال: يا عمّ طأطأ رأسك و كان حمزة عليه السّلام أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ على رأسه فطار نصف رأسه.

و حمل عبيدة بين حمزة و عليّ حتّى أتيا رسول اللّه فنظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى عبيدة فاستعبر صلى اللّه عليه و آله فقال عبيدة: يا رسول اللّه أ لست شهيدا؟ بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتي فقال عبيدة: أما لو انّ عمّك كان حيّا لعلم أنّى أولى بما قال منه قال صلى اللّه عليه و آله و أيّ أعمامي تعني؟ قال:

أبا طالب حيث يقول:

و نسلمه حتّى نصرّع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

فقال رسول اللّه: أما ترى ابنه كالليث الضاري بين يدي اللّه و رسوله و ابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة فقال عبيدة: أسخطت عليّ في هذه الحالة؟ فقال: ما سخطت عليك و لكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك.

ثمّ قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا و لا تبطروا كما عجل و بطر أبناء ربيعة، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة نعرّفهم ضلالتهم الّتي كانوا عليها و كان فئة من قريش أسلموا بمكّة فاجلاهم آباؤهم فخرجوا مع قريش إلى بدر و هم على الشكّ و النفاق منهم أبو قبيس بن الفاكهة و قيس بن وليد بن المغيرة و الحارث بن ربيعة و ابن اميّة بن خلف و العاص بن منبه فلما نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلى اللّه عليه و آله قالوا: مساكين هؤلاء غرّهم محمّد صلى اللّه عليه و آله دينهم فيقتلون الساعة فأنزل اللّه على رسوله:

ص: 75

«إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (1).

و جاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوها إليه و جاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر رسول اللّه إليه فقال رسول اللّه لأصحابه: غضّوا أبصاركم و عضّوا على النواجذ و لا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم ثمّ رفع يده إلى السماء فقال: يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ثمّ أصابه الغشي ثمّ برى ء عنه و هو يسلت العرق عن وجهه و يقول: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين قال: فنظرنا إلى سحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه و قائل يقول: أقدم حيزوم أقدم حيزوم و سمعنا قعقعة السلاح من الجوّ.

و نظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع و رمى باللواء فأخذ منبّه بن الحجّاج و قال: ويلك يا سراقه فركله إبليس ركلة في صدره و قال: إنّي بري ء منكم إنّي أرى ما لا ترون و حمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر و قال: ربّ أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى الوقت المعلوم و في رواية أنّ إبليس التفت الى جبرئيل و هو في الهزيمة فقال: يا هذا بدا لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبد اللّه أ ترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال لا و لكنّه كان يضربه ضربة يشينه إلى يوم القيامة و انزل اللّه «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ، إلخ».

بالجملة خرج أبو جهل من بين صفّين و قال: إن محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- قطعنا الرحم و أتانا بما لا نعرفه.

ثمّ أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كفّا من حصى فرمى به في وجوه قريش و قال: شاهت الوجوه فبعث اللّه رياحا فضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة. ثمّ قال رسول اللّه: اللّهم لا يفلتن فرعون هذه الامّة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعون و أسر منهم سبعون و التقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه و ضرب أبو جهل عمروا على يده فأبانها من العضد فتعلّقت بجلده فاتّكى عمرو على يده برجله حتّى انقطعت الجلدة.

ص: 76


1- الأنفال: 51.

قال عبد اللّه بن مسعود انتهيت إلى أبي جهل و هو يتشخّظ بدمه فقلت: الحمد للّه الّذي أخزاك فرفع رأسه فقال: إنّما أخزى اللّه عبد ابن امّ معبد لمن الدين ويلك؟ قلت: للّه و لرسوله و إنّي قاتلك و وضعت رجلي على عنقه و صدره فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم أما إنّه ليس شي ء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم هلّا يولّي قتلي رجل من المطّلبيّين أو رجل من الأحلاف فانقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته و أخذت رأسه و جئت به إلى رسول اللّه فقلت: يا رسول اللّه البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام فسجد صلى اللّه عليه و آله شكرا للّه.

و أسر أبو بشر الأنصارى العبّاس بن عبد المطّلب و عقيل بن أبي طالب و جاء بهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لأبي بشر هل أعانك عليهما أحد قال نعم رجل عليه ثياب مضي ء فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذلك من الملائكة فقال النبيّ للعباس افد بنفسك و ابن أخيك فقال يا رسول اللّه قد كنت أسلمت و لكنّ القوم استكرهوني فقال النبيّ: اللّه أعلم بإسلامك إن يكن كما تقول فاللّه يجزيك عليه فأمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا.

ثمّ قال: يا عبّاس إنّكم خاصمتم اللّه فخصمكم اللّه افد بنفسك و ابن أخيك و كان العبّاس أخذ معه أربعين أوقية من ذهب و أخذها رسول اللّه فلمّا قال رسول اللّه: افد بنفسك قال العبّاس للنبيّ: أحسبها في فدائي فقال صلى اللّه عليه و آله: لا ذاك شي ء أعطانا اللّه عنك افد نفسك و ابن أخيك فقال العبّاس: ليس لي مال غير الّذي ذهب منّي قال: بلى المال الّذي خلفته عند أمّ الفضل بمكّة و قلت لها: إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم فقال العباس تتركني و أنا أسأل الناس بكفّي فأنزل اللّه على رسوله في ذلك «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (1) ثمّ قال اللّه: «وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فيك» (2).

ثمّ قال رسول اللّه لعقيل: قد قتل اللّه أبا جهل بن هشام و عتبة بن ربيعه و شيبة بن ربيعة و منبّه و بنيه ابني الحجّاج و نوفل بن خويلد و أسر سهيل بن عمرو و النضر بن الحارث بن كلدة

ص: 77


1- الأنفال: 71.
2- «: 72.

و عقبة بن أبي معيط و فلان و فلان فقال عقيل: إذا لا تنازعوا في تهامة فإن كنت قد أثخنت القوم و إلّا فاركب أكتافهم فتبسّم رسول اللّه.

و كان القتلى ببدر سبعين و الأسرى سبعين، قتل عليّ عليه السّلام سبعة و عشرين و لم يأسر أحدا فجمعوا الأسرى و قرنوهم في الحبال و جمعوا الغنائم و قتل من اصحاب رسول اللّه تسعة رجال فيهم سعد بن خيثمة و كان من النقباء ثمّ رحل رسول اللّه و نزل الأثيل عند غروب الشمس و هو من بدر على ستّة أميال.

فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلى عقبة بن أبي معيط و إلى النضر بن الحارث في قران واحد فقال النضر لعقبة: يا عقبة أنا و أنت مقتولان. قال عقبة: نعم، لأنّ محمّدا- صلى اللّه عليه و آله- نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يا عليّ- عليه السّلام- علي بالنضر و عقبة و كان النضر رجلا جميلا عليه شعر فجاء عليّ- عليه السّلام- فأخذه بشعره فجرّه إلى رسول اللّه فقال النضر: يا محمّد أسألك بالرحم الّذي بيني و بينك إلّا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني و إن فاديتهم فاديتني و إن أطلقتهم اطلقتني فقال رسول اللّه: لا رحم بيني و بينك قطع اللّه الرحم بالإسلام قدّمه يا عليّ فاضرب عنقه فقال عقبة يا محمّد الم تقل لا تصبر قريش أي لا يقتلون صبرا قال: و أنت من قريش؟ إنّما أنت علج من أهل صفورية و لأنت في الميلاد اكبر من أبيك الّذي تدعى له قدّمه يا عليّ و اضرب عنقه فضرب عنقه.

فلمّا قتل رسول اللّه النضر و عقبة خافت ان يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قالوا: لقد قتلتا سبعين و أسرنا سبعين و هم قومك و أساراك هبهم لنا يا رسول اللّه و خذ منهم الفداء و أطلقهم فأنزل اللّه عليهم: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ».

قوله:

[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

«الزحف» للصبيّ أن يزحف على استه قبل أن يقوم، شبّه سبحانه الطائفتين اللّتين تذهب كلّ واحدة منهما إلى صاحبها للقتال قبل التداني للضراب بزحف الصبيّ قال ثعلب: الزحف المشي قليلا قليلا إلى الشي ء و منه الزحاف في العروض و الشعر فيسقط

ص: 78

ممّا بين حرفين حرف واحد فيزحف أحدهما إلى الآخر.

قوله: [إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] متزاحفين خطاب لأهل بدر أو هو عامّ أي إذا لقيتم الكفّار معدّين لقتالكم و تواقفتم للقتال مع الكفّار فلا تنهزموا و تجعلوا ظهوركم إليهم بالفرار و من يجعل ظهره إليهم و وجهه إلى جهة الانهزام ...

و المراد بقوله: «يومئذ» لم يرد النهار و اللّيل بل المراد الوقت إلّا أن يكون تولّيكم لحركة من موقف إلى موقف أحسن و أسلط منه أو تكونون تضمّون إلى جماعة من المسلمين يريدون العود إلى القتال فتتحيّزون بهم للاستعانة على القتال فالمتولّي و المتدبّر عن القتال غير هاتين الصورتين المستثنيتين فقد وقع في محلّ غضب اللّه و مرجعه إلى جهنّم و بئس المحلّ جهنّم.

قال بعض المفسّرين: هذا الحكم خاصّ لأهل بدر و بعض قال: عامّ في جميع الأوقات؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. و الحاصل أنّ الانهزام محرّم إلّا في حالتين:

إحداهما أن يكون يخيّل إلى عدوّه أنّه منهزم ثمّ ينعطف عليه و هو أحد أبواب الحرب، و الثانية أنّ المتحيّز إذا كان كالمنفرد و في الكفّار كثرة و غلب على ظنّه أنّه لو ثبت قتل من غير فائدة و إن يحيّز إلى جمع كان راجيا للخلاص و الغلبة. «و التحيّز» أصله من الحوز و هو الجمع.

قوله:

[سورة الأنفال (8): آية 17]

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

النظم: اختلف بعض أهل بدر فقال: هذا أنا قتلت، و قال الآخر: أنا قتلت فأنزل اللّه أنّ هذه الكسرة ما حصلت منكم و إنّما حصلت بنصرتي لكم.

روي أنّه لمّا طلعت قريش بخيلائها قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: اللّهم إنّي أسألك ما وعدتني فنزل جبرئيل و قال: خذ قبضة من التراب فارمهم بها فقال لعليّ عليه السّلام: أعطني قبضة من التراب من حصاة الوادي فأعطاه عليّ فرمى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في وجوههم و قال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينه فانهزموا. قال صاحب الكشّاف: «الفاء» في «فلم تقتلوهم» جواب لشرط محذوف تقديره: إن زعمتم و افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم و لكنّ اللّه قتلهم.

ص: 79

ثمّ قال: [وَ ما رَمَيْتَ القبضة الّتي رميتها و لكنّ اللّه في الحقيقة رمى؛ لأنّ رميك لا يبلغ أثره إلى هذا المبلغ الّذي لا يبقى عين من عيون المشركين إلّا وقذت؛ فصورة صدرت منك و أثرها من اللّه فلهذا المعنى صحّ الإبقاء و الإثبات.

قوله: [وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أى و ليمنّ اللّه النعمة على المؤمنين ليشكروا و البلاء هاهنا اطلق للنعمة، و يقال للنعمة: بلاء كما يقال للمضرّة: بلاء؛ لأنّ أصل البلاء الاختبار و ذلك يكون من النعمة ليحصل الشكر و يكون من النقمة ليحصل الصبر. و البلاء الحسن في هذه الآية النّصر و الظفر و ضمير «منه» راجع إلى النصر أو إلى اللّه إنّ اللّه سميع بأقوالكم عليم بأحوال قلوبكم.

و قيل: إنّ هذه الآية نزلت يوم خيبر، روي أنّه صلى اللّه عليه و آله أخذ قوسا و هو على باب خيبر فرمى سهما فأقبل السهم حتّى قتل ابن أبي الحقيق و هو على فرسه فنزلت الآية:

«وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» و قيل نزلت يوم احد في قتل ابيّ بن خلف، و ذلك أنّه أتى النبيّ بعظم رميم و قال: يا محمّد من يحيي هذا و هو رميم؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: يحييه اللّه ثمّ يميتك ثم يحييك و يدخلك النار؛ فاسر يوم بدر فلمّا افتدى قال لرسول اللّه: إنّ عندي فرسا أعتلفها كلّ يوم فرقا من ذرّة كي أقتلك عليها فقال صلى اللّه عليه و آله: بل أنا أقتلك إن شاء اللّه، فلمّا كان يوم احد أقبل الملعون يركض على ذلك الفرس حتّى دنا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه فقال صلى اللّه عليه و آله: استأخروا و رماه بحربة فكسّر ضلعا من أضلاعه فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية.

و الأصحّ أنّها نزلت في يوم بدر و إلّا لدخل في أثناء القصّة كلام أجنبيّ بلى لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

[سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 19]

ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

و «لكم» إشارة إلى البلاء الحسن، خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر ذلك و أنّ اللّه أوهن كيد الكافرين بغلبة المؤمنين على الكافرين و تفريق كلمتهم. ينبئ اللّه رسوله و يقول:

ص: 80

إنّي قد أوهنت كيد عدوّك حتّى قتلت أبطالهم و أسرت أشرافهم.

قوله: [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا] قيل: خطاب للمشركين، روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر لمّا أراد الخروج من مكّة، و المشركون أخذوا أستار الكعبة و قالوا: اللّهم انصر أعلى الجندين و أهدى الفئتين و أكرم الحزبين و أفضل الدينين. المعنى: إن تستفتحوا لإحدى الفئتين فقد جاء النصر لهم و قيل: إنّ الخطاب للمؤمنين.

روي أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا رأى المشركين كثروا استغاث باللّه و كذلك الصحابة فقال اللّه:

«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» و حصل لكم ما أردتم و وعدتم به.

قوله: [وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي إن تمتنعوا من الكفر و قتال الرسول فهو خير لكم [وَ إِنْ تَعُودُوا] بالقتال و الكفر [نَعُدْ] أي ننصرهم أيّها الكفّار و لن تفيدكم جماعتكم شيئا و إن كثرت [وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر و الغلبة و على قول من قال: إنّ الخطاب للمؤمنين فمعناه: إن تنتهوا أيّها المسلمون عمّا كان منكم في الغنائم و في الأسارى من مخالفة الرسول فهو خير لكم، و إن تعيدوا إلى ذلك الصنع نعود إلى ترك نصرتكم فحينئذ [لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ .

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 20 الى 23]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

لمّا ذكر في الآية السابقة بقوله: «إن تنتهوا» أكّد في هذه الآية و أمرهم بإطاعته و إطاعة رسوله فخاطب الّذين من شأنهم الإيمان بإطاعته و بإطاعة رسوله في الأمور، و في الجهاد بقرينة قوله: [وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ بأن تعرضوا عن قبول أمره و معاونته في الجهاد. قوله: [وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دعوته.

[وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا] كالمنافقين و هم ما قبلوا؛ لأنّ السماع قد يكون السامع قابلا و قد يكون منكرا. و «سمع» بمعنى قبل كقوله: «سمع اللّه لمن حمده» أي قبل اللّه من حامده قوله: [إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الشرّ نقيض الخير أي إنّ شرّ من دبّ و تحرّك على وجه الأرض هؤلاء المشركون الّذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحقّ و لا يقرّون و لا يتكلّمون به و لا يتعقّلون فصاروا بمنزلة الدوابّ؛

ص: 81

فهم صمّ و بكم بجهلهم، شبّههم اللّه بجهلهم و عدم تدبّر هم بالدابّة و قيل: إنّه تعالى لم يذكرهم في معرض التشبيه بل وصفهم بالوصف الّذي يليق بهم على جهة الذمّ.

ثمّ قال: [وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا] أي إنّ كلّ ما كان حاصلا فإنّه يجب أن يعلمه اللّه فعدم علم اللّه بوجوده من لوازم عدمه بمعنى أنّ القبول لا يوجد فيهم، فالإسماع لا يحصل لهم، و ذلك لأنّهم سألوا الرسول أن يحيي لهم قصّي بن كلاب و غيره من أمواتهم ليخبروهم بصحّة نبوّته فبيّن سبحانه أنّه إذا أحياهم حتّى يسمعوا كلامه لتولّوا عن قبول الحقّ و لأعرضوا عنه.

[سورة الأنفال (8): آية 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

الاستجابة هاهنا بمعنى الإجابة؛ قال الشاعر:

«فلم يستجبه عند ذاك مجيب» . كرّر في هذه الآية الأمر بإجابة الرسول و إطاعته فيما يأمركم به إذا دعاكم إلى أمر يوجب حياتكم «و لما». هاهنا بمعنى «إلى» و ما يوجب الحياة هو الإيمان. و قيل: المراد الجهاد و الشهادة لأنّكم إمّا تقتلون أو تقتلون؛ فإن قتلتم فإنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون و إن قتلتم فيقوى و يعظم أمر الدين و القرآن و هو حياة القلوب، و القرآن سبب العلم و العلم حياة فجاز أن يسمّى سبب الحياة بالحياة. و يوصل القرآن إلى الحياة الباقية الطيّبة، قال اللّه: «وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» (1).

قوله: [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ و فسّروا الأشاعرة هذه الآية بظاهرها و هو غلط محض؛ قالوا: إنّ اللّه يحول بين المرء الكافر و طاعته و بين المرء المؤمن و معصيته؛ فالسعيد من أسعده اللّه و الشقيّ من أضلّه اللّه، تعالى عن ذلك، قالوا: فإذا أراد الكافر أن يؤمن و اللّه لا يريد إيمانه حال بينه و بين قلبه، و إذا أراد المؤمن أن يكفر و اللّه لا يريد كفره حال بينه و بين كفره، و هذا المعنى و التفسير باطل بالبداهة و بيانه: قال الجبّائيّ: إنّ من حال اللّه بينه و بين الإيمان فهو عاجز عن الإتيان و القبول بالإيمان، و أمر العاجز لغو و سفه و لو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا اللّه بالصعود إلى السماء

ص: 82


1- العنكبوت: 64.

و قد أجمعوا على أنّ المؤمن لا يؤمر بالصلاة نائما، و قد قال: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (1) و الّذي يأمر في المظاهر بقوله: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» (2) و أسقط فرض الصوم عمّن لا يستطيعه، فكيف يحول و يمنع الكافر عن الإيمان و يأمر به؟ فما أقرب هذا القول من الشعوذة! بل المعنى أنّه إذا أمركم اللّه و رسوله بأمر فأطيعوه و لا تؤخّروه لأنّ اللّه قد يكون يحول بينه و بين الطاعة و الانتفاع بسبب الموت فيدرككم فتمتنعون عن الإيمان أو التوبة أو الامتثال؛ فبادروا الإجابة قبل أن يأتيكم الحائل؛ فلا تغترّوا بالبقاء فإنّ ذلك غير موثوق به. و إطلاق لفظ القلب على الأمانيّ تسمية المظروف باسم الظرف و هذا شائع:

كقولك: سال الوادي. و إنّ الشأن و القصّة الحشر و الجمع إليه.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 25]

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)

كما حذّر سبحانه الناس بحيلولة امور بينه و بين ما يتمنّاه كذلك حذّره من بعض الفتن فقال: و احذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصّة بل تتعدّى إليكم و تصل إلى الصالح و الطالح أي يعمّكم كالمداهنة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و افتراق الكلمة و ظهور البدع.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: أصابت الناس فتنة بعد ما قبض رسول اللّه حتّى تركوا عليّا و بايعوا غيره و هي الفتنة الّتي فتنوا بها، و قد أمرهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله باتّباع عليّ و الأوصياء بعده. و قرئ «لتصيبنّ».

قال ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من ظلم عليّا بعد وفاتي فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي. القميّ في تفسيره و الرّازيّ في المفاتيح عن الحسن: نزلت في عليّ و طلحة و الزّبير لمّا حاربا عليّا يوم الجمل خاصّة.

فإن قيل: كيف يليق برحمة الرحيم أن يوصل العذاب إلى من لا يذنب؟ قلنا:

ص: 83


1- البقرة: 286.
2- المجادلة: 4.

اللّه تعالى قد ينزل الفقر و الموت و العمى و البلاء بعبده و إن لم يكن عاصيا، إلّا أنّه يشتمل على نوع من أنواع الصلاح، إمّا لتخفيف العذاب أو لرفع الدرجة أو مصالح اخرى لا يعلمها إلّا هو و إذا جاز ذلك جاز هنا.

[سورة الأنفال (8): آية 26]

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

الخطاب للمهاجرين، شرح لهم نعمه لأنّهم بعد ظهور أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله صاروا في غاية الرفعة و القوّة و كانوا قبل في غاية القلّة و الذلّة، بسبب هذه النعمة يوجب عليهم الشكر و كثرة الطاعة و ترك المخالفة؛ لأنّهم في أوّل الأمر كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطّفهم العرب، ثمّ قلبت تلك الأحوال بالقوّة و السعادات، أوّلها أنّه آواهم و نقلهم من مكّة إلى المدينة فصاروا آمنين من مشركي العرب، ثمّ نصرهم ببدر، و الثالث رزقهم من الطيّبات و هو أنّه احلّ لهم الغنائم بعد أن كانت محرّمة على من كان قبل هذه الامّة؛ فهذه النعم الجليلة يقتضي الشكر و لا يليق بكم أن تشتغلوا بالخصومات بسبب الأنفال.

[سورة الأنفال (8): الآيات 27 الى 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

اختلفوا في المراد بتلك الخيانة، و سبب النزول في الآية: قال عطاء: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل و أخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّ أبا سفيان في مكان كذا و كذا؛ فاخرجوا إليه و اكتموا، قال: فكتب إلى أبي سفيان رجل من المنافقين: إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل اللّه هذه الآية.

و قيل: إنّ المنافقين يسمعون النبيّ من الشي ء فيفشونه، حتّى يبلغ المشركين.

و قال الزهريّ و الكلبيّ: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ و ذلك أنّ رسول اللّه حاصر بني قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحا من بلاد الشّام، فأبى رسول اللّه أن يعطيهم

ص: 84

ذلك إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم؛ لأنّ عياله و ماله كانت عندهم، فبعثه رسول اللّه فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنّه الذّبح فلا تفعلوا؛ فأتاه جبرئيل و أخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت اللّه و رسوله، فنزلت الآية؛ فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد فمكث سبعة أيّام لا يذوق طعاما حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه و تصدّق بثلث ماله بحكم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بالجملة منع الناس مطلق الخيانة في الدين و الدنيا.

قال القاضي: الأقرب أنّ خيانة اللّه غير خيانة الرسول، و خيانة الرسول غير خيانة الأمانة؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، أمرهم اللّه أن لا يخونوا الغنائم، و جعل ذلك خيانته و خيانة لرسوله؛ لأنّه القيّم بقسمها و تصرّفها؛ فمن خانها خان الرسول. و يشمل كلّ أمانة؛ لأنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. و «الخون» معناه النّقص كما أنّ الوفاء معناه التمام.

[وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي يحصل الخيانة منكم عن تعمّد لا عن سهو. و المعنى: أنتم تعلمون بعقولكم قبح الخيانة من الذّم و العقاب و اعلموا أنّ أولادكم و أموالكم بليّة عليكم ابتلاكم اللّه بها فإنّ حبّ أبي لبابة و أمواله حمله على ما فعله لأنّها كانت في أيدي اليهود، و إلى هذا أشار أمير المؤمنين في قوله: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّا و هو مشتمل على فتنة و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن».

[سورة الأنفال (8): آية 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

لمّا حذّر عن الفتنة بالأولاد و الأموال رغّب في التقوى الّتي يوجب ترك الميل و الهوى في محبّة الدّنيا فقال: يا أيّها المؤمنون الّذين بصراط الإيمان [إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ باتّقاء معاصيه أي الكبائر و تؤدّوا فرائضه [يَجْعَلْ لَكُمْ نورا في قلوبكم تفرّقون به بين الباطل و الحقّ و مخرجا في الدّنيا و الآخرة [وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الّتي عملتموها و

ص: 85

صغائركم، أو عامّ من الصغائر و الكبائر.

[وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على خلقه بما أنعم عليهم فإذا ابتدأ بالفضل من غير استحقاق فإذا استحقّوا بطاعتهم فذلك بطريق أولى.

و المراد من التكفير سترها و من المغفرة إزالتها، و من المعلوم أنّ التقوى يوجب انشراح الصدر و زوال الظلمة عن القلب و ذلك يوجب معرفة الباطل عن الحقّ و هو الفرقان.

[سورة الأنفال (8): آية 30]

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

نزلت في قصّة دار النّدوة و ذلك أنّ نفرا من قريش اجتمعوا فيها، و هي دار قصيّ بن كلاب، و تؤامروا في أمر النّبيّ؛ فقال عروة بن هشام: نتربّص به ريب المنون، و قال أبو البحتريّ: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه؛ فقال أبو جهل: ما هذا الرّأي، و لكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كلّ بطن غلام فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد؛ فيرضى بنو هاشم حينئذ بالدّية.

العيّاشيّ عن أحدهما عليهما السّلام: إنّ إبليس صوّب لهم هذا الرّأي، و تصوّر لهم بصورة شيخ نجديّ، لكنّ القاضي أنكر هذا القول، و قال: لا يتمكّن إبليس إلى هذا الحدّ من السّلطة. فاتّفقوا على هذا الرأي و أعدّوا الرّجال و السّلاح فنزل جبرئيل و أخبر رسول اللّه فخرج إلى الغار و أمر عليّا فبات على فراشه؛ فلمّا أصبحوا و فتّشوا عن الفراش وجدوا عليّا، و قد ردّ اللّه كيدهم و مكرهم؛ فأرسلوا في طلبه و اقتفوا أثره؛ فلمّا بلغوا الجبل و مرّوا بالغار رأوا على باب الغار نسج العنكبوت؛ فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.

المعنى: و اذكر يا محمّد صلى اللّه عليه و آله إذ أراد و إهلاكك و هم مشركو المعرب، منهم عتبة و شيبة أبناء ربيعة و النّضر بن الحارث و أبو جهل بن هشام و ربيعة الأسود و حكيم بن حزام و اميّة بن خلف و غيرهم [لِيُثْبِتُوكَ في الوثاق و الحبس في بيت، و قرئ «ليبيتوك» أو المعنى: ليثخنوك من الجرح بحيث لا تقدر على الحركة بحيث تثبت في مكان؛ قال الشّاعر:

ص: 86

فقلت ويحك ماذا في صحفيتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا

[أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة أو يخرجوك على بعير، و يطردونه حتّى يذهب في وجهه و يدبّرون في إهلاكك و يدبّر اللّه في أمرهم [وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ و هذا من باب المقابلة في الكلام مثل: و جزاء سيّئة سيّئة؛ لأنّه لا يمكر إلّا ما هو حقّ و صواب، و هو إنزال المكروه بمن يستحقّه، أو المعنى: خير المجازين على المكر.

النظم: اتّصلت الآية بقوله: «وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ».

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 34]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

بقيّة شرح هؤلاء المشركين المكذّبين بأنّهم ما قنعوا بالمكر من نفس محمّد صلى اللّه عليه و آله بل مكروا في كتاب محمّد صلى اللّه عليه و آله. روي أنّ النّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، و اشترى حكايات كليلة و دمنة، و كان يقعد مع المستهزئين- و هو منهم- فيقرأ عليهم قصص كليلة و دمنة، و كان يقول ما تقوّل محمّد مثل هذه المقالات.

و بالجملة [إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا] الّتي من حقّها أن تخرّ لها الجبال الصمّ [قالُوا قَدْ سَمِعْنا] و أدركنا بآذاننا [لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا] مثلها قاله اللّعين النضر بن الحارث، و إسناده إلى الكلّ لأنّه كان رائسهم و يأخذ بالراية، و لو استطاعوا شيئا من ذلك فما الّذي كان يمنعهم أن يأتوا بمثله، و قد تحدّوا عشر سنين؟ و قورعوا بالسّيف مع فرط استنكافهم و ميلهم بالغلبة و قد عجزوا، و هذا الملعون أسر يوم بدر، فقال النّبيّ لعليّ عليه السّلام: عليّ بالنّضر؛ فأمر عليّا بقتله فقتله. و قد سبق شرح قتله هذا.

قوله: [وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ إلخ. المعنى: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لقريش: إنّ اللّه بعثني أن أقاتل من يعبد غيره، و أجرّ الملك إلى أهل الإسلام فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا العرب و تدين لكم به العجم و تكونوا ملوكا في الجنّة. فقال أبو جهل: إن

ص: 87

كان هذا هو الحقّ و هذا الّذي يقوله محمّد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، حسدا لرسول اللّه، ثمّ قال اللّعين: كنّا و بنو هاشم كفرسي رهان فنحمل إذ حملوا و نظعن إذا ظعنوا و نوقد إذا أوقدوا؛ فلمّا استوى بنا و بهم الركب، قال قائل منهم: منّا نبيّ، و لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم و لا يكون في بني مخزوم، ثمّ قال: غفرانك اللّهم فأنزل اللّه في ذلك:

[وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حين قال:

غفرانك اللّهمّ فلمّا همّوا بقتل رسول اللّه و أخرجوه من مكّة قال اللّه: [وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا] يعني قريشا [أَوْلِياءَهُ أولياء البيت [إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أنت يا محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابك الصّادقون فعذّبهم اللّه يوم بدر فقتلوا.

في الكافي عن أبي بصير قال: بينما رسول اللّه جالس إذا أقبل أمير المؤمنين؛ فقال له رسول اللّه: إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم و لو لا أن يقول النّاس من امّتي ما قالت النّصارى في عيسى لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من النّاس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون البركة، قال: فغضب الأعرابيّان و المغيرة بن شعبة و عدّة من قريش معهم؛ فقالوا: ما رضي لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم فأنزل اللّه على نبيّه: «وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي من بني هاشم- مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» (1) فغضب الحارث بن عمرو الفهريّ؛ فقال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك من أنّ بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل فأرسل علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم؛ فنزلت الآية: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ» (الآية) فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله يا ابن عمرو أما تبت و أما رحلت فدعا براحلته فركبها؛ فلمّا كان بظهر المدينة أتته جندلة فرضّت هامته. فقال رسول اللّه لمن حوله من المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به قال اللّه: «وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» (2).

ص: 88


1- الزخرف: 57- 60.
2- ابراهيم: 18.

و في المجمع عن الصّادق عن آبائه: لمّا نصب النّبيّ عليّا يوم الغدير شاع ذلك في البلاد؛ فقدم النّعمان بن الحارث الفهريّ فقال: أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصّوم و الصّلاة و الزّكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصبت لنا هذا الغلام و قلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ فهذا أمر منك أم من اللّه، فقال عليه السّلام: و اللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه فولّى نعمان و هو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء: فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله، و أنزل اللّه: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» (1) و في نهج البلاغة: «كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه فرفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الّذي رفع فهو رسول اللّه، و أمّا الأمان الباقي فهو الاستغفار ثمّ تلا الآية.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام: كان رسول اللّه و الاستغفار حصنين لكم من عذاب اللّه فمضى أكبر الحصنين و بقي الاستغفار، فأكثروا منه فإنّه ممحاة الذّنوب.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

لمّا ذكر سبحانه أنّهم ليسوا أولياء البيت بل أولياء البيت المتّقون بيّن في هذه الآية أنّهم ليسوا من أهل الإيمان و الصّلاة، لأنّ صلاتهم و عبادتهم مكاء يقال «مكأ بفيه» أي صفر كانوا يصفرون و يصفقون و يعارضون النّبيّ و يستهزئون به و يخلطون عليه طوافه، و إذا صلّى يقومون عن يمينه و يساره بالتّصفير و التّصفيق للإيذاء.

فلو قيل: إنّ التصفير و التّصفيق ليس من جنس الصّلاة فكيف الاستثناء؟ قيل:

على معتقدهم شباهة، أو المراد أنّ من كان المكاء صلاته فلا صلاة له كقولك: ما لفلان عيب إلّا السّخاء و معلوم أنّ من كان السّخاء عيبه فلا عيب له. ثمّ قال: [فَذُوقُوا الْعَذابَ بكفركم، إمّا عذاب السّيف أو عذاب النّار أو كليهما.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

ص: 89


1- المعارج: 1.

أي كما أنّ الكفّار يخالفون الرّسول في الصّلاة و الطّاعات البدنيّة كذلك يصرفون أموالهم في المخالفة معه لانحلال أمره. قال سعيد بن جبير و مجاهد: نزلت في أبي سفيان و إنفاقه المال في حرب محمّد صلى اللّه عليه و آله؛ فإنّ اللّعين كان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، و أنفق عليهم أربعين أوقية ذهبا- و الأوقية اثنان و أربعون مثقالا- بيّن سبحانه أنّ غرضهم من هذا الإنفاق صدّ النّاس من دين اللّه و سبيله، و سبيل اللّه اتّباع محمّد صلى اللّه عليه و آله.

قال سبحانه: [فَسَيُنْفِقُونَها] و يكون عليهم حسرة و لا يفيد لغرضهم، و عاقبتهم أنّهم مغلوبون و الّذين بقوا منهم على الكفر إلى جهنّم يجمعون. و تقديم الخبر للحصر. قوله [لِيَمِيزَ اللَّهُ ليتميّز نفقة الكافرين من نفقة المؤمنين. و المعنى: ليتميّز المؤمن عن الكافر، و الفريق الخبيث عن الفريق الطّيب [وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فيضمّه و يجعله حتّى تراكموا كالسحاب المتراكم فيلقيها في جهنّم و يعذّبهم و هم الخاسرون.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 38]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

[قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله هذا القول: [إِنْ يَنْتَهُوا] عن الكفر و عداوة الرّسول و دخلوا الإسلام غفر اللّه لهم ما سلف من كفرهم، و إن عادوا و بقوا على كفرهم و أصرّوا، و يمكن أن يكون من العود القتال و المعارضة مع النّبيّ [فَقَدْ مَضَتْ أحوال أمثالهم من الّذين تحزّبوا على الأنبياء و حاربوهم من الخذلان و الهلاك كما جرى على قوم موسى و غيره و الوعيد الّذي أوعدهم من العذاب الدّائم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 39 الى 40]

وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

الخطاب للنّبيّ صلى اللّه عليه و آله و المؤمنين و هو أنّ الأنصار لمّا بايعوا الرّسول في العقبة تؤامرت قريش أن يفتّنوا المؤمنين عن دينهم فابتلي بعض المؤمنين و أصاب بعضهم جهد شديد

ص: 90

من قريش، و أمر النّبيّ أن يخرجوا إلى الحبشة فأمر اللّه بقتالهم حتّى يزول هذه الفتنة و يكون الدّين كلّه للّه.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال لم يجي ء تأويل هذه الآية، و لو قام قائمنا يأتي تأويلها، و ليبلغنّ دين محمّد صلى اللّه عليه و آله ما بلغ اللّيل حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض، كما قال سبحانه «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» (1) و المقصود من أمر القتال رفع الفتنة من إيذاء الكفّار المؤمنين، و هذا الغرض قد حصل بالقتال قوله: فإن انتهوا عن الكفر بالإيمان و الرجوع باللّه لا يخفى عليه شي ء و يعلم و يرى.

[وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا [فَاعْلَمُوا] أيّها المؤمنون [أَنَّ اللَّهَ صاحبكم و ناصركم؛ فثقوا به و لا تخافوا من معاداتهم و هو نعم الصّاحب و النّاصر.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 41]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41)

الغنيمة عند أهل السّنّة ما دخلت في أيدى المسلمين من أموال الكفّار على سبيل القهر بالخيل و الركاب، و الفي ء ما أخذ من غير قتال، و عندهم يجب في الغنيمة الموصوفة بهذا الوصف الخمس، و عندنا الخمس واجب في كلّ فائدة يحصّل الإنسان من المكاسب و أرباح التجارات و في الكنوز و المعادن و الغوص و غير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

و يقسّم الخمس ستّة أسهم: سهم للّه و هو للرسول، و سهم للرسول و سهم الرسول يرثه الإمام المنصوب بنصّه، و سهم للإمام المنصوب فيكون للإمام ثلاثة أسهم من ستّة، و الثّلاثة الأخيرة لأيتام آل الرّسول و مساكينهم و أبناء سبيلهم، و إنّما صارت للإمام وحده ثلاثة أسهم لأنّ اللّه ألزمه بما ألزم الرّسول من تربية الضّعفاء و الفقراء و مؤونتهم و قضاء ديونهم و عملهم في الجهاد و الحجّ و مصالح الإسلام، و ذلك من قول اللّه لمّا أنزل عليه: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (2) و هو أب لهم؛ فلمّا جعله أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد فقال عند

ص: 91


1- النور: 54.
2- الأحزاب: 6.

ذلك: من ترك مالا و لم يكن له وارث يورّثه و من ترك دينا أو ضياعا فعلى وليّ. و كلمة «ما» في «ما غنمتم» موصولة. و إنّما جعل الثّلاثة الأسهم الأخيرة للأيتام و المساكين و أبناء السّبيل من بني هاشم خاصّة؛ لأنّ اللّه حرّم عليهم الصّدقات لكونها أوساخ النّاس و هم أجلّ خطرا.

هذا عند الإماميّة: و أمّا عند الجماعة: ففيه أقوال:

قيل- و القائل أبو العالية و الرّبيع-: إنّه يقسّم على ستّة إلّا أنّ سهم اللّه للكعبة و الباقي لمن ذكره اللّه عملا بظاهر الآية.

و القول الثاني: يقسّم على خمسة أسهم و سهم اللّه و الرّسول واحد و يصرف هذا السّهم إلى الكراع (1) و السّلاح و هو المرويّ عن ابن عبّاس و إبراهيم و قتادة و عطاء.

و القول الثّالث: قال الرّازيّ في المفاتيح: و أمّا بعد وفاة الرّسول فعند الشّافعيّ أنّه يقسّم على خمسة أسهم: سهم لرسول اللّه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين لعدّة الغزاة من الكراع و السّلاح. و سهم لذوي القربى من أغنيائهم و فقرائهم يقسّم بينهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين، و الباقي للفرق الثلاثة و هم اليتامى و المساكين و ابن السّبيل.

و قال أبو حنيفة: إنّ بعد وفاة الرّسول سهمه ساقط بسبب موته و كذلك سهم ذوي القربى و إنّما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء، و لا يعطى أغنياؤهم فيقسّم على اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و قال مالك: الأمر في المجلس مفوّض إلى رأي الإمام: إن رأى قسمه على هؤلاء يعمل و إن رأى أعطاه بعضهم دون بعضهم.

و اعلم أنّ القائلين بأنّ سهم اللّه و رسوله واحد يقولون: إنّ قوله: «لِلَّهِ» ليس المقصود إثبات نصيب للّه؛ فإنّ الأشياء كلّها ملك للّه و إنّما المقصود افتتاح الكلام بذكر اللّه على سبيل التعظيم كما في قوله «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» (2) و احتجّ القفال على صحّة قوله بقوله صلى اللّه عليه و آله لهم في غنائم خيبر: مالي ممّا أفاء اللّه عليكم إلّا الخمس. و روى الحسن و قتادة أنّ

ص: 92


1- يطلق على الخيل و البغال و الحمير.
2- السورة: 1.

سهم اللّه و سهم الرّسول و سهم ذي القربى للإمام من بعد الرّسول ينفقه على نفسه و عياله و مصالح المسلمين و هو مذهبنا.

[وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ قالوا: إنّ هذه الأسهم الثلاثة لجميع النّاس و إنّه يقسّم على كلّ فريق منهم بقدر حاجتهم، و لكن عندنا الإماميّة يختصّ باليتامى و المساكين و ابن السّبيل من بني هاشم انتهى. قوله: [إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ إنّ هذه وجوه أقسام الغنيمة و طريق قسمتها إن كنتم مؤمنين آمنتم باللّه، و عرفتم أنّ اللّه ناصركم.

و أنزلنا نصرنا على محمّد صل اللّه عليه و آله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و هم ثلاثمائة و تسعة عشر رجلا، و جمع الكافرين و هم قدر المتّفق عليه تسع مائة إلى ألف من شجعان قريش فهزموهم و علمتم أنّ ظفركم كان بنا يوم الفرقان و المراد يوم بدر؛ لأنّ اللّه فرّق بين المسلمين و المشركين بإعزاز المؤمنين و قمع المشركين و ذلّلهم، و كان يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ].

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 42 الى 43]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)

«العدوة» شفير الوادي و للوادي عدوتان و هما جانباه و «الدنيا» تأنيث الأدنى من دنوت و «القصوى» تأنيث الأقصى جانب مكّة، و ما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو فإنّ العرب تحوّله إلى الياء نحو الدّنيا و العليا استثقالا للواو مع ضمّ الأوّل.

المعنى: إذا أنتم أقلّة أذلّة نازلين بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة [وَ هُمْ أي المشركون نازلين بالشفير الأبعد من المدينة [وَ الرَّكْبُ و العير أي أبو سفيان و أصحابه، في موضع [أَسْفَلَ مِنْكُمْ قريب ساحل البحر على ثلاثة أميال، و أنتم أيّها المسلمون في قلّة الماء و الرمل فيها رؤوس أموالهم مع هذا كلّه كان الفتح لكم.

ص: 93

[وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و أهل مكّة على القتال لخالف بعضكم بعضا لكثرتهم و قلّتكم [وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا] أي ينصركم و يخرج و يحصل هذا الأمر إلى الفعل، و صار الدمار على المشركين؛ فهذا من عظيم المعجزات على صدق نبوّته صلى اللّه عليه و آله من وعده بالنصر و قد وقع. «و اللّام» في «ليهلك» لام الغرض و الأجل أي لأنّ الّذي يهلك يهلك عن بيّنة و تتمّ عليه الحجّة و كذلك من يحيى يحيى بالبيّنة و المعرفة و هو [لَسَمِيعٌ دعوتكم و [عَلِيمٌ بحاجتكم.

قوله: [إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ هذا هو النّوع الثاني من النعم الّتي أنعم اللّه بها على أهل بدر. و العامل في قوله «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ» قيل: «أتاكم النصر» و قيل بفعل محذوف تقديره:

و اذكر يا محمّد إذ يريكهم اللّه في نومك بأنّ المشركين قليلون فأخبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله رؤياه للأصحاب فأجرأ المسلمون على قتال الكفّار.

فإن قيل: رؤية الكثير قليلا خلاف الواقع فكيف يجوز من اللّه؟ فالجواب أنّه أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الّذين رآهم بأنّهم قليلون، ثمّ إنّ الرؤيا تصوّر يتوهّم معه الرؤية، و لا يكون إدراكا و لا علما كما يتخيّل السراب ماء من غير قطع أنّه ماء، و هذا يجوز في الرؤيا. و الرؤيا على أربعة أقسام: رؤيا من اللّه، و لها تأويل و رؤيا من وساوس الشيطان، و رؤيا من غلبة الأخلاط، و رؤيا من الأفكار، و كلّ هذه الثلاثة أضغاث أحلام.

هذا قول بعض المفسّرين و قال قليل من المفسّرين: معنى «فِي مَنامِكَ» أى عينك تسمية للظرف باسم المظروف لأنّ العين موضع النّوم و قالوا: ليس المراد من الرّؤيا في النوم، و هذا قول الحسن و البلخيّ.

قوله: [وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً] على ما كانوا عليه [لَفَشِلْتُمْ و جبنتم على قتالهم و ضعفتم [وَ لَتَنازَعْتُمْ في أمر القتال؛ فبعض منكم كان يقول نقاتلهم، و بعض أخر يخالفونهم [وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ المسلمين عن اختلاف الكلمة بلطفه [إِنَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوبكم.

[سورة الأنفال (8): آية 44]

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

ص: 94

و لمّا رأى النبيّ قلّة عدد المشركين و أخبر المسلمين أكّد هذا المعنى في اليقظة بأن رأى المسلمون عدد المشركين قليلين حتّى يجترئوا على القتال معهم، و كذلك رأى المشركون عدد المسلمين قليلين حتّى لا يتأهّبوا في الحرب من السلاح و الكراع؛ لأنّهم لمّا استقلّوا المسلمين لم يبالغوا في التأهّب و هذه معجزة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ذلك قوله «و يقلّلكم» و قد روي أنّ أبا جهل كان يقول: خذوهم بالأيدي أخذا و لا تقاتلوهم، و ذلك الأمر حصل ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا بجهادكم و غلبتكم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 46]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

علّم اللّه البدريّين بعد فتحهم أنّه إذا التقوا جماعة من المحاربين الثبات بأن يوطّنوا أنفسهم على اللّقاء و لا يتولّون، و يذكرون اللّه كثيرا.

و في تفسير هذا الذكر قولان: أحدهما أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين اللّه و بألسنتهم قال ابن عبّاس: أمر اللّه أولياءه بذكره في أشدّ الأحوال تنبيها على أنّ الإنسان ينبغي أن لا يخلّي قلبه و لسانه عن ذكر اللّه، و لو أنّ رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء و الآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل اللّه كان الذاكر أعظم أجرا.

و القول الثاني أنّ المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر و الظفر.

ثمّ قال: [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فالفلاح حاصل إذا كانت المقاتلة لسبيل دين اللّه؛ لأنّه إن غلب العدوّ فاز بالثواب و الغنيمة، و إن صار مغلوبا فاز بالشهادة و الدّرجات العالية ثمّ قال مؤكّدا لذلك بقوله: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأمور؛ لأنّ الجهاد ينفع مع التمسّك بسائر الطاعات. ثمّ قال [وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا] لأنّ الاختلاف و النزاع يوجب الوهن و الضعف [وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و المراد بالرّيح الدّولة و الشوكة، و هذه كناية مستعارة يقال: هبّت رياح بني فلان إذا دانت لهم الدولة، أو المراد بالرّيح حقيقة كما في الحديث، قال صلى اللّه عليه و آله: نصرت بالصّبا و أهلكت عاد بالدبور و القول الأوّل أقوى [وَ اصْبِرُوا] و تثبّتوا في

ص: 95

الأمور إنّه يحبّ من صبر على الشدائد.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 47]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

قال المفسّرون: إنّ قريشا لمّا خرجوا من مكّة لحفظ العير و وردوا الجحفة بعث الحفاف الكنانيّ- و كان صديقا لأبي جهل- بهدايا إليه مع ابن له؛ فلمّا أتاه قال: إنّ أبي ينعمك صباحا و يقول: إن شئت أن أمدّك بالرّجال أمددتك، و إن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت؛ فقال أبو جهل: قل لأبيك: جزاك اللّه و الرّحم خيرا إن كنّا نقاتل اللّه كما يزعم محمّد فو اللّه لا طاقة لنا به، و إن كنّا نقاتل الناس فو اللّه إنّ بنا على الناس لقوّة، و اللّه ما نرجع عن قتال محمّد حتّى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور بالمضارب و القيان، فإنّ بدرا موسم من مواسم العرب و سوقا من أسواقهم حتّى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسّرون: فوردوا بدرا و شربوا كؤوس المنايا دون الخمور، و ناحت عليهم النوائح عوض القيان! و اللّه وصفهم بثلاثة أشياء: البطر و هو الطغيان في النعمة. و الثاني قوله:

[وَ رِئاءَ النَّاسِ و الرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أنّ باطنه قبيح، و معناه قريب من النفاق لأنّ النّفاق إظهار صورة معناها غيرها و باطنها غير ظاهرها. و الثالث:

[وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

فلو قيل: عطف الفعل على الاسم غير حسن؟ فجوابه إمّا الاسم بمعنى الفعل أي يبطرون و يراءون، و إمّا الفعل بمعني الاسم أي صادّين ليكون العطف من جنس الكلمة و كانوا يمنعون الناس عن الإيمان باللّه و الجهاد في سبيله، و اللّه بعملهم محيط من الرياء و سوء القصد.

قوله: [سورة الأنفال (8): آية 48]

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)

[و اذكر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ عطف على حال المشركين الّذين خرجوا من ديارهم

ص: 96

بطرا، و في كيفيّة هذا التزيين وجهان. و قد أشرنا به قبل. قيل: إنّ الشيطان زيّن بالوسوسة، و قيل: تحوّل في صورة الإنسان بصورة سراقة بن مالك و كان سراقة الكنانيّ من أشرافهم فجاء و أخذا لراية [وَ قالَ لقريش: [لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ و إنّي مجير لكم من بني كنانة و ذلك لأنّهم كانوا قبل ذلك قتلوا من بني كنانة واحدا فلم يأمنوا قريش أن يأتوهم من ورائهم فلمّا رأى إبليس نزول الملائكة، عرفهم و عرفوه ولّى اللّعين بطريق القهقرى [و نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ فقال له الحارث: أتخذ لنا في هذه الحالة؟ فقال: [إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ و وقع في صدر الحارث و انهزم و لمّا رجعوا إلى مكّة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: و اللّه ما علمت بمسيركم، حتّى بلغتني هزيمتكم.

و أنكر بعض أنّ الشيطان ليس له القدرة إلى هذا الحدّ بأن يتصوّر بصورة الإنسان. و لم يقدره اللّه بهذه القدرة. قال الشيخ المفيد أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان قدس سرّه: يجوز أن يقدر اللّه الجنّ و من جرى مجراهم على أن يتجمّلوا ببعض جواهرهم حتّى يتمكّن الناس من رؤيتهم، و يتشبّهوا بغيرهم من أنواع الحيوان، و قد استفاض هذا الخبر أنّ اللّعين تراءى لأهل البدر في صورة سراقة و لأهل الندوة في صورة شيخ نجديّ و جبرئيل ظهر لأصحاب الرّسول في صورة دحية الكلبيّ.

أقول: و قد يكون يقع بمثل هذه الموارد اتّفاقا بتغيير اللّه صورهم للامتحان لكن لا على سبيل الكلّيّة بأن يقدر إبليس في كلّ حين من الأحيان هذا الأمر. و قيل: لمّا رأى اللّعين نزول الملائكة خاف أن يكون الوقت المعلوم قد حضر فخاف، و خوفه لأجل هذا الاحتمال.

قوله: [وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يمكن أن يكون من بقيّة قول إبليس، و يحتمل أن ينقطع كلامه عند قوله: أخاف اللّه، ثمّ قال تعالى: وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ

قوله تعالى: [سورة الأنفال (8): آية 49]

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

إنّما لم يدخل الواو في «إذ يقول» و دخلت في قوله: «و إذ زيّن» لأنّ قوله: «و إذ زيّن» عطف على ما قبله و هذه الآية كلام مبتدأ منقطع عن ما قبله، و العامل في «إذ»: «وَ اللَّهُ شَدِيدُ

ص: 97

الْعِقابِ» بيان الآية: أمّا المنافقون فهم قوم من الأوس و الخزرج، و أمّا الّذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا و ما قوي إسلامهم في قلوبهم و لم يهاجروا.

ثمّ إنّ قريشا لمّا خرجوا لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال أولئك: نخرج مع قومنا فإن كان محمّد صلى اللّه عليه و آله في كثرة خرجنا إليه و إن كان في قلّة أقمنا في قومنا قال محمّد بن إسحاق: قتل هؤلاء مع المشركين و هم جماعة منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، و عليّ بن اميّة بن خلف و العاص بن منبّه بن الحجّاج، و الحارث بن زمعة، و أبو قبيس بن فاكهة؛ فلمّا رأوا قلّة المسلمين قالوا: «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» أي غرّ المسلمين دينهم حتّى خرجوا مع قلّتهم لأجل دينهم و اغترّوا بقول محمّد صلى اللّه عليه و آله، و لم يحسنوا التدبير و النظر لأنفسهم؛ فبيّن اللّه سوء عقيدتهم، فإنّ من سلّم أمره إلى اللّه فإنّ اللّه غالب على أمره و حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 50 الى 51]

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)

لمّا شرح اللّه حال هؤلاء الكفّار في الدنيا شرح أحوال موتهم، و العذاب الّذي يصل إليهم. و قرئ «إذ تتوفّى» بالتاء على تأنيث الجماعة، و جواب «لو» محذوف، و التقدير:

لرأيت أمرا هائلا. قوله [وَ لَوْ تَرى أي و لو عاينت و شاهدت فإنّ «لو» تردّ المضارع إلى الماضي كما تردّ كلمة «إن» الماضي إلى المضارع، و يجوز أن يكون الفاعل في «يتوفّى»:

«اللّه». «و الملائكة» مرفوعة بالابتداء «و يضربون» خبره أي يقبضون أرواحهم أي الذّوات الكافرة تستوفي من بدنه و جسده، قوله [يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ قال ابن عبّاس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف و إذا ولّوا ضربوا أدبار المسلمين؛ فلا جرم قابلهم اللّه بمثله وقت النّزع.

قوله: [ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي يبشّرهم و يقول لهم: «ذوقوا» و نظيره في القرآن كثير كقوله: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» (1) أي و يقولان: ربّنا تقبّل منّا. قال ابن عبّاس: و يقول الملائكة لهم: «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ»

ص: 98


1- البقرة: 121.

لأنّه كان مع الملائكة مقامع، و كلّما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء و الأبعاض؛ فذلك قوله: «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ».

ثمّ قال: [ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من أعمالكم و عقائدكم، يقال لهم هذا القول، و القائل إمّا اللّه أو الملائكة، أي فعلنا ذلك بسبب تقديمكم الكفر على الإيمان، و إنّما عبّر باليد مع أنّ الإيمان و الكفر أمر متعلّق بالقلب، لأنّ اليد مظهر القدرة و آلة كلّ أمر؛ فحسن هذا المجاز؛ فإنّ الإنسان جوهر واحد و هو الفعّال و الدرّاك و هو المؤمن و هو الكافر و هو المطيع و هو العاصي، و هذه الأعضاء آلات له و أدوات له في الفعل؛ فأضيف الفعل في الظاهر إليها لكنّ الجسم أي الأدوات و الجوهر أي الإنسان مشتركان في النعيم و الجحيم؛ لأنّ ذلك الجوهر لا يتحقّق وجوده الخارجيّ إلّا بتحقّق وجود الآلات، و الآلات لا تتمكّن من الورود في أمر من الأمور إلّا بإشارة ذلك الجوهر؛ فهما مشتركان في العمل فحينئذ لا يجوز أن يعذّب أو يتنعّم أحدهما دون الآخر [وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لعبيده و أنّهم أقدموا على أنفسهم فاستوجبوا العذاب.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 52 الى 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

«كدأب» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: دأبهم كدأب و عادة أتباع فرعون في الكفر و كدأب الكافرين من قبلهم بالرسل و بما انزل إليهم، أو المعنى أنّ عقوبة هؤلاء المشركين في زمانك كعقوبة تلك؛ فأخذهم اللّه بسبب كفرهم فجوزي هؤلاء في بدر بالقتل و السّبي كما جوزي أولئك بالإغراق. و معنى الدّأب العادة و إدامة العمل و المواظبة على أمر، و السّبب في ذلك بأنّ اللّه لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم؛ لأنّه سبحانه أنعم عليهم بالعقل و القدرة و إزالة الموانع لأن يشتغلوا بما أريد منهم؛ فإذا عكسوا الأمر و صرفوا هذه الأحوال إلى المعصية و الكفر، فقد غيّروا نعمة اللّه على أنفسهم؛ فلا جرم استحقّوا تبديل النعم بالنقم و المنح بالمحن.

ص: 99

و ذكروا في تكرار قوله: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» وجوها كثيرة: أحدها أنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ و الكلام الأوّل ذكر أخذهم و في الثاني ذكر كيفيّة أخذهم بالإغراق، أو أنّه أريد بالأوّل ذكر ما نزل بهم من العقوبة حال الموت و بالثاني ما ينزل بهم في القبر و الآخرة.

و بالجملة شبّه اللّه حال المنكرين لنبوّة محمّد من المشركين بقوم فرعون؛ فإنّهم عذّبوا بجحودهم نبوّة موسى كذلك قومك عذّبوا يوم بدر و ذلّوا فحال هؤلاء كحال أولئك في التكذيب و التبديل و ورود العذاب في الدنيا و الآخرة فانظر أيّها العاقل في اشتراكات وجه الشبه من الفريقين الخبيثين [وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ و تشابه الفريقان في الظلم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

النظم: لمّا وصف كلّ الكفّار بالظلم فردّ بمزيّة بعضهم في الشرّ و الفساد على البعض فقال: [إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه و علمه من حصلت له صفتان: الّذي يستمرّ على كفره مصرّا عليه و الّذين ينقضون عهد اللّه مرّة بعد مرّة. و أتى بصيغة الاستقبال لبيان أنّهم دائما ناقضون العهد، و المراد بهم بنو قريظة؛ فإنّهم نقضوا عهد الرسول، و أعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر، ثمّ قالوا: أخطأنا فعاهدهم رسول اللّه مرّة اخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق و هم لا يتّقون نقض العهد.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

لمّا ذكر سبحانه الّذين ينقضون عهدهم في كل مرّة بيّن في هذه الآية حكمهم و ما يجب أن يعاملوا بهم. ثقفنا به أي ظفرنا به أي إنّك إن ظفرت في الحرب بهولاء الناقضين فافعل بهم فعلا يتفرّقون من مناصبتك تفرّقا عنيفا موجبا للاضطرار من النكاية و التعذيب ما يوجب أن تنكل [مَنْ خَلْفَهُمْ أي من وراءهم من الكفرة قال عطا: المعنى: ثخّن فيهم القتل حتّى يخافك غيرهم الّذين من وراء هؤلاء لأن يعتبروا بهم و لا يفعلون فعلهم و يتذكّرون.

قوله: [وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين معك [خِيانَةً] منهم و نكثا بأمارات ظاهرة

ص: 100

فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر أي أظهر لهم نبذ العهد و تخبرهم خبرا ظاهرا مكشوفا بيّنا أنّك قطعت ما بينك و بينهم و لا تبادرهم الحرب، و هم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ في العهود. و حاصل الآية المنع عن الخيانة و نقض العهد.

[سورة الأنفال (8): الآيات 59 الى 60]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

لمّا اتّفق لأصحاب النبيّ في قصّة بدر بأن قصد الكفار بلا آلة و لا عدّة أمرهم اللّه أن يعدّوا للكفّار ما يمكنهم من الآلات و السلاح و القوّة، و قيل: المراد من القوّة الحصون.

لكنّ الظاهر أنّ ما هو آلة للغزو فهو من جملة القوّة و قوله صلى اللّه عليه و آله: القوّة هي الرمي لا ينافي كون غير الرمي قوّة مثل قوله: الحجّ عرفة و الندم توبة لا ينفي اعتبار غيره، و لا شكّ أنّ ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. و «رباط» جمع «ربيط» كفصال جمع فصيل، و المراد الخيل المربوطة في سبيل اللّه و فسّر الخيل هنا بالإناث لتناسلها و نمائها؛ قالت العرب: «إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى» و لمّا علم العدوّ أنّ طرفه متأهّب للقتال و مستكمل الآلات فذلك يفيد خوفا للعدوّ فقال: [تُرْهِبُونَ بِهِ الكفّار [عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ و ربما يكون ذلك الخوف داعيا إلى الإيمان.

ثمّ قال: [وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أي ترهبون بالرباط و القوّة كفّار العرب و مشركيهم غير هؤلاء. و اختلفوا في الآخرين، قيل: أهل فارس، و قيل: هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنّهم أعداء اللّه و أعداؤهم و اللّه يعلم بواطنهم و أنتم لا تعرفونهم لأنّهم يصلّون و يصومون و يختلطون بالمسلمين.

[وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و طاعته [يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه في الآخرة [وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ و لا ينقص منه شي ء و يصلكم وافيا.

[سورة الأنفال (8): آية 61]

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

ص: 101

لمّا بيّن ما يرهب به العدوّ بيّن أنّه من بعد الإرهاب إذا مالوا للصلح و السلم فالحكم قبول الصلح. و تأنيث المضمر باعتبار الفعلة و الجنحة كقوله: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»* (1) أي من بعد فعلتهم. قال الزمخشري: «السلم» تؤنّث تأنيث نقيضها و هي الحرب قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (2) و قوله:

«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (3) و قال بعض المفسّرين: الآية غير منسوخة و الآية متضمّنة بالصلح إذا كان الصلاح فيه و المهادنة تكون بنظر الرسول و الإمام. قوله: [وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض الأمر في المعاقدة معهم إلى اللّه ليكون عونا لك، إنّه سميع و عليم بما يضمره العباد.

[سورة الأنفال (8): الآيات 62 الى 63]

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

لمّا أمر في الآية السابقة بقبول الصلح إن صالحوا بيّن في هذه الآية أنّهم إذا أرادوا الصلح و قصدهم أن يخدعوك في الصلح و هم يتأهّبون للقتال فيتقوّون و يبدؤون بالقتال معكم من غير استعداد منكم فإنّ الّذي يتولّى كفايتك اللّه هو الّذي قوّاك بالنصر و أيّدك بالمؤمنين على أعدائك. و المراد بالمؤمنين الأنصار و هم الأوس و الخزرج و أراد بتأليف القلوب ما كان بين الأوس و الخزرج من المعاداة و القتال سنين متطاولة فإنّه لم يكن حيّان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيّين فألّف اللّه بينهم حتّى صاروا متوارثين متحابّين ببركة محمّد صلى اللّه عليه و آله. و لو أنفقت يا محمّد ما في الأرض جميعا لم يمكنك جمع قلوبهم على الالفة و إزالة ضغائن الجاهليّة إنّه غالب في أمره حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 64 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

ص: 102


1- الأعراف: 152.
2- التوبة: 5.
3- التوبة: 29.

و لمّا وعده النصر في الآية السابقة على تقدير خدعة الكفّار وعده بالنصر في هذه مطلقا في كلّ ما يحتاج إليه في الدين و الدنيا بقوله: حسبك اللّه و حسب من اتّبعك من المؤمنين فهو كافئكم و مؤيّدكم [يا أَيُّهَا النَّبِيُ رغّب المؤمنين و شوّقهم على القتال بذكر مثوبات الجهاد و وعد النصر و اغتنام الأموال [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال [يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ و كذلك إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الكفّار. و اللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و يدلّ على الأمر به ما بعد الآية بقوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ» لأنّ التخفيف لا يحصل إلّا بعد التكليف.

قوله: [بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ معناه أنّ ذلك النصر لكم بسبب أنّ الكفار لا يفقهون امر اللّه و لا يصدّقونه، و أنتم تصدّقونه و تفهمون و لمّا علم اللّه أنّ ذلك يشقّ عليهم بأنّ واحدا منهم يثبت في القتال على العشرة و كان قد أمرهم للامتحان فتغيّرت المصلحة في ذلك فقال [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ الحكم في الجهاد بوجوب قتال العشرة على الواحد، و ثبات الواحد للعشرة، و علم أنّ فيكم ضعف البصيرة و العزيمة لا ضعف البدن فإنّ الّذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلّهم أقوياء البدن بل كان فيهم القويّ و الضعيف، و لكن كانوا أقوياء في العزيمة و اليقين.

ثمّ لمّا كثر المسلمون و اختلط بهم من كان ضعيف اليقين و البصيرة نزل قوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان يبعث العشرة إلى وجه المائة، بعث حمزة عليه السّلام في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكبا و أرادوا قتالهم؛ فمنعهم حمزة، و بعث رسول اللّه عبد اللّه بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذليّ و كان في جماعة فابتدر عبد اللّه و قال: يا رسول صفه لي فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّك إذا رأيته ذكرت الشيطان و وجدت لذلك قشعريرة، و قد بلغني أنّه جمع لي فاخرج إليه و اقتله قال عبد اللّه: فخرجت نحوه فلمّا دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: ممّن الرجل؟ قلت له: من العرب سمعت بك و تجمّعك

ص: 103

و مشيت معه حتّى إذا تمكّنت منه قتلته بالسيف و أسرعت إلى الرسول و ذكرت أنّي قتلته، فأعطاني صلى اللّه عليه و آله عصا و قال: أمسكها فإنّها آية بيني و بينك يوم القيامة.

ثمّ هذا التكليف شقّ على المسلمين فأزاله اللّه بهذه الآية، قال عطا: عن ابن عبّاس لمّا نزل التكليف الأوّل ضجّ المهاجرون، و قالوا: يا ربّ نحن جياع و أعداؤنا شباع، و نحن في غربة و عدوّنا في أهليهم و قال الأنصار: شغلنا بعدوّنا و واسينا إخواننا فنزل التخفيف.

و احتجّ هشام بهذه الآية بأنّ اللّه لا يعلم الجزئيّات إلّا عند وقوعها، تعالى اللّه عن ذلك، بل معنى الآية أنّه تعالى قبل حدوث الشي ء لا يعلمه حاصلا واقعا بل يعلم أنّه سيحدث و عند حدوثه و وقوعه فإنّه يعلمه حادثا؛ فيكون معنى الآية أنّ الآن حصل العلم بوقوعه و حصوله و كان قبل الحصول العلم بأنّه سيقع و «ضعف» بالضمّ و الفتح لغتان صحيحتان.

قوله: [سورة الأنفال (8): الآيات 67 الى 69]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو و الجهاد. قرئ «تكون» بالتاء و الياء لأنّ الأسرى مذكّر في المعنى و مؤنّث في اللفظ.

النزول: روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله اتي بسبعين أسيرا فيهم العبّاس عمّه و عقيل بن أبي طالب و لم يؤسر من أصحاب النبيّ؛ فجمعوا الأسارى و قرنوهم في الحبال، و لمّا أمسى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و الناس محبوسون أي الأسارى محبوسون بالوثاق بات صلى اللّه عليه و آله ساهرا أوّل الليلة؛ فقال له: أصحابه مالك لا تنام فقال صلى اللّه عليه و آله: سمعت أنين العبّاس عمّي فأطلقوه فسكت فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله.

و في كتاب عليّ ابن إبراهيم: لمّا قتل رسول اللّه النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى؛ فقالوا: يا رسول اللّه قتلنا سبعين و هم قومك و أسرتك

ص: 104

فخذ يا رسول اللّه من هؤلاء الفداء و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش، فنزلت الآية.

[ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف، فبعث قريش بالفداء أوّلا فاوّلا و قيل: كان الفداء عشرين أوقية من الفضّة، و الأوقية أربعون درهما أو ستّة دنانير و فداء العباس أربعون أوقية قال محمّد بن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية. قال الباقر عليه السّلام: كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقية و الأوقية أربعون مثقالا إلّا العبّاس فإنّ فداءه كان مائة أوقية، و كان قد أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا، و قال النبيّ: ذاك غنيمة، فاد نفسك و ابني أخيك عقيلا و نوفلا فقال العبّاس: ليس معي شي ء؛ فقال صلى اللّه عليه و آله: أين الذهب الّذي سلّمته إلى امّ الفضل و قلت: إن حدث حدث بي فهو لك و للفضل و قثم و عبد اللّه؟ فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: اللّه تعالى. قال: أشهد أنّك رسول اللّه ما اطّلع على هذا إلّا اللّه.

و كان النبيّ يكره أخذ الفداء و لا يرضى إلّا القتل و الأنصار لأجل الطمع كانوا يلحفون و يصرّون بأخذ الفداء طمعا فنزلت: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ» أي ما ينبغي لنبيّ [أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ليفديهم و يأخذ منهم الفداء، أو يمنّ عليهم إلّا بعد أن بالغ في القتل و الغلبة ليرتدع من يسمع [تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا] هذا خطاب للمؤمنين دون النبيّ لأنّهم كانوا راغبين في أخذ الفداء من الأسرى و عرض الدنيا مال الدنيا [وَ اللَّهُ يُرِيدُ] لكم [الْآخِرَةَ] و اللّه غالب على أمره بما تقتضيه الحكمة.

قوله: [لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لو لا ما مضى من حكم اللّه ان لا يعذّب قوما حتّى يتبيّن لهم ما يحترزون و أنّه لم يتبيّن لكم أن لا تأخذوا الفدية، لعذّبكم بأخذ الفداء. هذا قول في معنى الآية، و قيل: لو لا أن حكم اللّه لكم بإباحة الغنائم و الفداء في امّ الكتاب و هو اللوح المحفوظ [لَمَسَّكُمْ فِيما] استحللتم قبل الإباحة [عَذابٌ عَظِيمٌ فإنّ الغنائم لم تحلّ قبلكم لأحد و هذا قول ابن عبّاس، و ثالث الأقوال أنّ المعنى: لو لا ما كتب اللّه في القرآن أو في اللوح أنّه لا يعذّبكم و النبيّ بين أظهركم لمسّكم العذاب بأخذ الفدية، و عدم إقدامكم على قتل المشركين و [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] لكم [رَحِيمٌ بكم.

ص: 105

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

لمّا أخذ الرسول الفداء من الأسارى و شقّ عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر اللّه هذه الآية تسلية لبعضهم الّذين أسلموا، قال عبّاس بن عبد المطّلب: فأبدلني اللّه خيرا ممّا أفديت لي الآن عشرون عبدا و إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألف و أعطاني زمزم و ما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة و أنا أنتظر المغفرة من ربّي.

و اختلف المفسّرون في أنّ هذه الآية نازلة في العبّاس خاصّة أو في جميع الأسارى و ظاهر الآية عامّة في الأسارى لقوله: «في قلوبكم» بلفظ الجمع و يغفر لكم و يؤتكم خيرا فما الموجب للتخصيص؟

و بالجملة حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد للأسرى الّذين في وثاقكم: إن يعلم اللّه أنّكم آمنتم و كسبتم الإيمان يعطيكم اللّه أحسن ممّا أخذ منكم في الدنيا و في الآخرة. و قرئ بصيغة المعلوم و الفاعل النبيّ و يغفر اللّه لكم و هو غفور لمعاصيكم رحيم بكم.

قوله: [وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ و نقض العهد [فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ روي أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته و إلى معاهدة المشركين فقال: و إن يريدوا خيانتك و نقض العهد فقد خانوا اللّه من قبل و أمكن اللّه رسوله منهم فإن عادوا كذلك يمكن اللّه رسوله من الناقضين و هو عليم بضمائرهم و حكيم في أفعاله.

[سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 75]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)

ص: 106

المعنى أنّه تعالى قسّم المؤمنين في زمان الرسول إلى أربعة أقسام و ذكر حكم كلّ واحد منهم و التقرير أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا ظهرت نبوّته بمكّة و دعا الناس إلى التوحيد؛ ثمّ انتقل من مكّة إلى مدينة فحين هاجر صار المؤمنون على قسمين، منهم من وافقه في الهجرة و منهم من لم يوافقه بل بقي هناك.

أمّا القسم الأوّل؛ فهم المهاجرون الأوّلون و كانوا يتوارثون بالهجرة و جعل اللّه الميراث للمهاجرين و الأنصار دون ذوي الأرحام و كان الّذي آمن و لم يهاجر لم يرث من أجل عدم المهاجرة و عدم النصرة و كانوا يعملون بذلك حتّى أنزل اللّه تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» فنسخت هذه الآية بقوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ» فصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين و لا يتوارث أهل ملّتين.

و بالجملة وصف القسم الأوّل بقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

و أمّا القسم الثاني فهم الأنصار لأنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا هاجر إليهم فلو لا أنّهم آووا و نصروا و بذلوا المال في خدمة الرسول لما تمّ المقصود لكن حال المهاجرين أعلى من حال الأنصار في الفضيلة لأنّهم تحمّلوا العناء أكثر من الأنصار من مفارقة الأهل و الوطن و لسبقهم كما أنّ في الذكر قدّم المهاجرين على الأنصار، و لمّا ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال:

[أولئك بعضهم أولى ببعض .

و اختلفوا في المراد من الولاية في الآية فنقل الواحديّ عن ابن عبّاس و أغلب المفسّرين أنّ المراد هو الولاية في الميراث و قالوا: جعل اللّه سبب الإرث الهجرة و النصرة دون القرابة و كان القريب الّذي آمن و لم يهاجر لم يرث و قيل: المراد من الولاية التناصر و التعاون لا الميراث.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا] إلى المدينة [ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا] أي مالكم من ميراثهم من شي ء حتّى يهاجروا فحينئذ بعد الهجرة يحصل بينكم التوارث قوله: [وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] أي فإن طلبوا منكم الّذين لم يهاجروا النصرة لهم على الكفّار فيجب عليكم معاونتهم و ليس عليكم النصر لهم

ص: 107

في غير أمر الدين [إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إلّا أن يطلبوا منكم القتال و النصرة على قوم من الكفّار و المشركين الّذين تعاهدتم معهم و أعطيتهم الأمان و العهد إلى مدّة فحينئذ لا يجوز أن تنصروا المؤمنين عليهم لما فيه من نقض العهد.

و بالجملة إنّ الّذين حملوا الآية في معنى الولاية على الإرث قالوا: نسخت بقوله:

«وَ أُولُوا الْأَرْحامِ» و قالوا: الدليل على أنّ معنى الولاية الإرث؛ و لا يجوز أن يكون بمعنى النصرة لأنّه تعالى عطف عليه قوله: «وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» و لا شكّ أنّ ذلك عبارة عن الموالات في الدين و المعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمرا مغايرا لمعنى النصرة و اللّه عليم بأفعالكم «و الولاية» قرئ بكسر الواو و فتحها فمن قرءها بالفتح جعلها من النصرة و النسب و من قرءها بالكسر بمعنى السلطان.

قوله: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعضهم أنصار بعض إذا كان الولاية بمعنى الايتراث أي بعضهم يرثون بعضا و الآية تدلّ على أنّ الكافر يرث الكافر مع اختلاف مللهم لأنّهم مع الاختلاف يصدق عليهم الكفر؛ فالمجوسيّ يرث النصرانيّ و النصرانيّ يرث اليهوديّ.

و لمّا بيّن هذه الأحكام قال: [إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ] و وقوع هذه الفتنة من وجوه: الأوّل أنّ المسلمين إذا اختلطوا بالكفّار و يتناصر و يتوارث بعض الكافرين بعض المؤمنين و بالعكس فهذه المخالطة موجبة لالتحاق المسلمين بالكافرين لكثرة الكافرين. الثاني أنّ المسلمين إذا لم يتّفقوا و يتناصر و الا يتبيّن جمعهم في العدّة و العدد فيصير ذلك سببا لجرأة الكفّار عليهم.

و بالجملة، ثمّ عاد سبحانه إلى بيان تعظيم شأن القسم الأوّل و الثاني و هذا التكرار لبيان علوّ درجتهم و شرفهم بقوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا] و هم القسم الثاني، فأثنى على القسمين بقوله: [أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا] فعند الحصر بقوله «هم» و المبالغة بقوله: حقّا [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] و تنكير المغفرة يدلّ على الكمال أي لهم مغفرة كاملة عن الذنوب [وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ قيل: المراد طعام الجنّة لأنّه لا يستحيل

ص: 108

طعام الجنّة بسوء و اختلفوا في أنّ الهجرة هل حكمها باقية أم لا؟ قيل: لا لأنّه صلى اللّه عليه و آله قال:

لا هجرة بعد الفتح و قيل: إنّ هجرة الأعراب إلى الأمصار ليحصل الدين باقية إلى يوم القيامة و الأقوى البقاء لأنّ من أسلم في دار الحرب أو دار الكفر، ثمّ هاجر إلى بلاد الإسلام كان مهاجرا أو أنّ البلدة كانت جماعتها مسلمة ثمّ ارتدّت بسبب فالمؤمن الّذي لم يرتدّ فيها إذا هجر عنها إلى بلد آخر مسلمة فقد كان مهاجرا.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ] إيمانكم [وَ هاجَرُوا] بعد هجرتكم [وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ أيّها المؤمنون [فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي مؤمنين من جملتكم في وجوب موارثتهم و موالاتهم و إن تأخّر إيمانهم و هجرتهم و ذو أرحامهم و قرابتهم أحقّ بميراثهم من غيرهم، قيل: إنّ هذه الآية أبطلت التوارث بالمؤاخاة و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله آخى بين المهاجرين و الأنصار قوله:

[فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح أو حكم اللّه و قيل: في القرآن. [إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و يعلم مصالحكم.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 109

سورة البراءة

اشارة

مدنيّة كلّها و قيل: سوى آيتين: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» و آية بعدها.

هذه السورة لها أسامي: الاولى براءة، سمّيت بذلك لأنّ هذه الكلمة مفتحها التوبة لكثرة لفظ التوبة فيها. «الفاضحة» لأنّها فضحت المنافقين. «المبعثرة» لأنّها تبحث عن أسرار المنافقين. «المقشقشة» و أيضا يقال لسورتي قل يا أيّها الكافرون و قل هو اللّه: المقشقشتان لأنّهما تبرء من آمن بها من الشرك و النفاق يقال: تقشقش المريض إذا برى ء من علّته «البحوث» تبحث عن عقائدهم. «المدمدمة» أي المهللة الحافرة لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسرّونه. «المثيرة» لأنّها أثارت قبائحهم «العذاب» لأنّها نزلت بعذاب الكفّار. «المخزية» تخزي الكفار. «المنكّله» بورود النكال عليهم.

و في سبب ترك التسمية في أوّلها قراءة و كتابة أقوال: أحدها أنّها ضمّت إلى الأنفال بالمقاربة فصارتا كسورة واحدة إذ الاولى في ذكر العهود و الثانية في رفع العهود.

و الثاني أنّه لم ينزّل باسم اللّه في أوّلها؛ لأنّ بسم اللّه للأمان و الرحمة و نزلت براءة لرفع الأمان بالسيف، عن عليّ عليه السّلام و غيره و ذكروا وجوها أخر لا حاجة إلى الإطالة.

ص: 110

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)

[بَراءَةٌ] واصلة [مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه الآيات براءة. أو مبتدأ و خبره الظرف و جاء المبتدأ نكرة لأنّها موصوفة.

«إلى الّذين» أي انقطاع للعصمة. و رفع للأمان و خروج من العهود إلى الّذين عاهدتم من المشركين و الخطاب للنبيّ و المسلمين و حاصل المعنى: تبرّؤوا ممّن كان بينكم و بين المشركين عهد و لمّا ختم اللّه الأنفال بإيجاب البراءة لكلّ من آمن افتتح بهذه السورة بأنّه و رسوله بريئان منهم.

فإن قيل: كيف يجوز نقض العهد؟ بلى يجوز بثلاث أوجه: إمّا أن يكون العهد مشروطا بالبقاء إلى أن يرفعه اللّه بوحي و قد حصل، و إمّا أن يكون قد ظهر من المشركين خيانة و نقض، و إمّا أن يكون العهد مؤجّلا إلى مدّة فتنقضي و قد شرط النبيّ عليهم هذا الأمر و المشركون نقضوا العهد و قصدوا التطاول و قيل: إنّ المشركين نقضوا العهد إلّا أناسا منهم و هم بنو ضمرة و بنو كنانة فأمر اللّه نبيّه أن ينبذ إليهم عهدهم.

و المقصود من إظهار هذه البراءة للمشركين أن يعرفوا أنّه صلى اللّه عليه و آله معهم على عزم القتال و الحرب حتّى لا يجرى مجرى الغدر و خلف القول، كما أنّه وقع منهم الخلف في العهد؛ و لهذا المعنى قال سبحانه: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ».

قوله تعالى: [فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا على وجه المهل و تصرّفوا في أموركم آمنين من السيف [أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] فإذا انقضت المدة و لم تسلموا انقطعت العصمة عن دمائكم و أموالكم [وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ و غير فائتين عن قدرة اللّه و أنتم في سلطانه و ملكه [وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ و مذلّهم و مخزيهم.

قيل: ابتداء هذه الاربعة يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قيل: من شوّال إلى آخر المحرّم، و أجمع المفسرون أنّه لما نزلت دفعها النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر ثمّ استردّها و دفعها إلى عليّ بأمر من اللّه و سبب تفضيل عليّ قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله بعث أبا بكر و أمره أن يقرأ عشر آيات من أوّل السورة و أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده ثم بعث خلفه عليّا ليأخذها و يقرأها على الناس، و ذلك لأنّ جبرئيل نزل عليه

ص: 111

و قال: لا يحملها إلّا أنت أو رجل من أهل بيتك فخرج عليّ على ناقة رسول اللّه العضباء حتّى أدرك أبا بكر بذي الحليفة؛ فأخذها عنه فرجع أبو بكر، و قال: هل نزل فيّ شي ء فقال صلى اللّه عليه و آله: لا و لكن لا يؤدّي إلّا أنا أو رجل منّي، عن عروة بن الزبير و أبي سعيد الخدريّ و أبي هريرة.

و روى الشعبيّ عن محرز بن أبي هريرة قال: كنت انادي مع عليّ عليه السّلام حين أذن المشركين فكان إذا صحل صوته فيما ينادي دعوت مكانه و كان عليّ عليه السّلام يقول: لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك و لا يدخل البيت إلّا مؤمن و من كانت بينه و بين رسول اللّه مدّة فإنّ أجله إلى أربعة أشهر.

و روى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: خطب عليّ عليه السّلام للناس و اخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان و لا يحجّنّ البيت مشرك و من كانت له مدّة فهو إلى مدّته و من لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر.

و روي أنّه عليه السّلام لما نادى فيهم «أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» قال المشركون:

نحن نتبرّأ من عهدك و عهد ابن عمّك.

[سورة التوبة (9): الآيات 3 الى 4]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

«الأذان» الإعلام و أصله النداء الّذي أوقعه المنادي في الإذن فحينئذ الأذان اسم يقوم مقام الإيذان و هو المصدر و منه أذان الصلاة أي إعلام من اللّه و رسوله صادر إلى الناس المؤمن و المشرك، و فيه معنى الأمر أي يجب إعلام المشركين في يوم الحجّ الأكبر، و فيه اختلاف قيل: عرفة. و قيل: الحجّ الأكبر الّذي فيه الوقوف و الحجّ الأصغر الّذي ليس فيه وقوف و هو العمرة. و قيل: الحجّ الأكبر يوم النحر و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه، و قيل:

جميع أيّام الحجّ، أو لأنّ في ذلك اليوم حجّ المشرك و المسلم و لم يحجّ بعدها مشرك،

ص: 112

و الإعلام بانّ اللّه بري ء من عهد المشركين و حذف المضاف و رسوله بري ء منه.

فلو قيل: لا فرق بين قوله: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و بين قوله: «أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» فما الفائدة في هذا التكرار؟

فالجواب أنّ المقصود من الكلام الأوّل إخبار ثبوت البراءة، و من الثاني الأمر بإعلام الناس هذا المعنى. أو البراءة الاولى براءة العهد و البراءة الثانية براءة الّتي هي نقيض الموالات لأنّ في الاولى بدل براءة العهد و في الثانية بدل البراءة من نوعهم أعمّ من أن يكونوا بصفة العهد بل مطلقا يجب ترك الموالات.

قوله: [فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في هذه المدّة و رجعتم عن الشرك إلى توحيد اللّه فاستدركم الخير من اللّه و تنجون عن عذاب اللّه. و إن بقيتم على الشرك فاعلموا أنّكم لا تعجزونه عن تعذيبكم، و هذا الإمهال ليس من العجز بل هو لإتمام الحجّة. و أوعدهم بعذاب الآخره بقوله: [بشرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ و لفظ البشارة للتهكّم و ورد على سبيل الاستهزاء كما يقال:

إكرامهم الشتم و تحيّتهم الضرب [إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ و هم قوم من بني كنانة و بني ضمرة كما ذكرنا سابقا؛ فإنّهم لم ينقصوا و كان بقي من أجلهم تسعة أشهر أمر اللّه بإتمامها لهم و أوفى لهم الرسول، فإنّهم لم يضرّوكم شيئا، و لم يعاونوا عليكم أيّها المؤمنون أحدا من أعدائكم [فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى انقضاء مدّتهم الّتي وقعت المعاهدة [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ لنقض العهود.

[سورة التوبة (9): آية 5]

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

يقال: سلخت الشهر إذا خرجت منه و أهللت الشهر إذا دخلت فيه قال الشاعر:

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قائلا سلخي الشهور و إهلالي

و السلخ اسم لانفصال الشي ء عن مكانه المعيّن فلذلك إذا تمّ الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به و دخل في شهر آخر.

و بالجملة فإذا تمّت الأشهر المحرّمة الأربعة أذن في أربعة أشياء: أوّلها فاقتلوهم

ص: 113

على الإطلاق في أيّ زمان و أيّ مكان و في الأشهر الحرم اختلاف قيل: ذو القعدة و ذو الحجّة و محرّم و رجب و قيل: هي الأشهر الأربعة الّتي جعل اللّه للمشركين مهلة بقوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ» و هي من يوم العاشر من ذي الحجّة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر.

و بالجملة أوّلها القتل في أيّ زمان و مكان في الحلّ و الحرم. الثاني و خذوهم بالأسر. و الثالث: و احصروهم أي امنعوهم و احبسوهم و أحيطوا بهم أن تحصنوا. و الرابع [وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] و طريق لهم إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة.

ثمّ قال سبحانه: [فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ و دعوهم يتصرّفون في بلاد المسلمين لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين و قيل: معناه دعوهم يحجّوا إلى البيت معكم [ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و استدلّوا بهذه الآية على أنّ من ترك الصلاة متعمّدا يجب قتله لأنّ اللّه أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا و يقيموا الصلاة فإذا لم يقيموها وجب قتلهم فلو قيل: فالحكم في الزكاة كذلك و لا يحكم لتبارك الزكاة بالقتل فأجابوا أنّ تارك الزكاة دخله التخصيص و في الصلاة ليس كذلك.

و بالجملة وسّع اللّه عليهم بهذه الأمور الثلاثة، و التوبة إحدى امور الثلاثة و التوبة عبارة عن تطهير القوّة النظريّة عن الضلالة و الجهل، و الصلاة و الزكاة عبارة عن تطهير القوّة العمليّة و اشغالها بهاتين العملين.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 6]

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

المعنى: و إن طلب أحد من المشركين الّذين أمرتك بقتلهم الأمان من القتل بعد الأشهر الأربعة ليسمع دعوتك و احتجاجك عليه بالقرآن فأمنه و أجره و بيّن له ما تريد حتّى يسمع كلام اللّه. و إنّما خصّ كلام اللّه لأنّ معظم الدلالة فيه، ثمّ أبلغه مأمنه و بلده الّذي خرج منه فإن دخل في الإسلام فنعم و إن لم يدخل في الإسلام فلا تقتله فتكون قد غدرت به و لكن واصله إلى ديار قومه. و ذلك الأمان لأجل أنّهم لا يعلمون الإيمان و الدلائل فآمنهم لعلّ يتدبّروا و يعلموا. و كلمة «أحد» مرفوع بفعل مقدّر تقديره: و إن استجارك أحد و لا يجوز الرفع بالابتداء؛ لأنّ «إن» من عوامل الفعل و لا يدخل على الاسم

ص: 114

قال الزجّاج: معنى الآية: إن طلب منك أحد من المشركين إن تجيره من القتل أن يسمع كلام اللّه و بيّناته فأجره.

[سورة التوبة (9): الآيات 7 الى 8]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)

لمّا أمر اللّه نبذ العهد إلى المشركين بيّن أنّ العلّة ما ظهر منهم من الغدر و النكث فقال في هذه الآية على سبيل التعجّب أو الجحد: [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ] صحيح من اللّه و رسوله و الحالة أنّهم نكثوا فحينئذ كيف يجوز أن يأمر اللّه نبيّه عن كفّ القتال عنهم؟ [إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم [عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنّ لهم عهدا عند اللّه فإنّهم لم يضمروا الغدر بك قيل: هم بنو كنانة و بنو ضمرة، و قيل: هم أهل مكّة الّذين عاهدهم رسول اللّه يوم الحديبية فلم يستقيموا و نقضوا العهد بأن أعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد الفتح أربعة أشهر يختارون أمرهم إمّا أن يسلموا، و إمّا أن يلحقوا بأيّ بلاد شاؤوا فأسلموا قبل الأربعة و قيل: هم من قبائل بكر بنو خزيمة و بنو مدلج و بنو ضمرة و بنو الدئل و هم الّذين دخلوا عهد قريش يوم الحديبية إلى المدّة الّتي كانت بين رسول اللّه و بين قريش، فلم يكن نقضها إلّا قريش فأمر النبيّ بإتمام العهد لمن لم يكن له نقض عهد و هذا القول أقرب للصواب؛ لأنّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد و بعد فتح مكّة.

قوله: [فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي ماداموا باقين على العهد فكونوا معهم مستقيمين [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ للنكث و الغدر.

قوله: [كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً] هاهنا حذف أي كيف يكون لهم عهد؟ و كيف لا تقتلونهم و هم إن يظفروا بكم لا يراعون فيكم عهدا و لا قرابة؟

«الإلّ» قيل: اليمين، و قيل: العهد، و قيل: القرابة، و قيل: «الإلّ» من أسماء اللّه و «الذمّة» كلّ أمر لزمك بحيث لو ضيّعته لزمتك مذمّة و منقصة.

قوله: [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ و بألسنتهم كلاما حلوا طيّبا و الّذي في قلوبهم بالعكس و لا يضمرون إلّا الشرّ و الإيذاء إن قدروا عليه [وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فلو قيل: إنّ الكفّار

ص: 115

كلّهم فاسقون فما معنى أكثرهم؟ لأنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه و قد يكون خبيث النفس في دينه؛ فالمراد أنّ هؤلاء فاسقون في كفرهم و دينهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 9]

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)

أصل الاشتراء استبدال المتاع بالثمن، و نقيضه بيع الثمن بالمتاع.

المعنى: أعرضوا عن دين اللّه و منعوا الناس عن دين الحقّ بشي ء يسير نالوه، و هذه الآية نزلت في قوم من العرب، جمعهم أبو سفيان على طعامه ليستميلهم على عداوة النبيّ صلى اللّه عليه و آله، و لمّا أكلوا الاكلة تركوا الحلف و العهد و نقضوا عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله بسبب تلك الاكلة و ربّ اكلة أفسدت الدين و الدنيا فبئس العمل عملهم.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 10]

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

تأكيد لقباحة نقض عهدهم بانّهم لا يحفظون عهود المؤمنين و أولئك المتعدّون عن حدود اللّه. و التكرار للتأكيد و التعجّب من قباحة فعلهم، و قيل: المراد اليهود و لو كان المراد اليهود لم يكن تكرار لكنّ الكلام أجنبيّ لأنّه لم يكن ذكر اليهود في الآيتين، و اللّه أعلم.

[سورة التوبة (9): الآيات 11 الى 12]

فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

المعنى: فإن تابوا و ندموا من الشرك و عزموا على ترك العود إليه و قبلوا الإسلام و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أدّ و هما فعاملوهم معاملة إخوانكم من المؤمنين. و نبيّن الآيات و الأحكام للّذين يتطلّبون بيانه دون الجهّال الّذين لا يتفكّرون. و إن نقضوا عهودهم من بعد إن عقدوا العهد و عابوا و طعنوا في دينكم و ما قبلوه فقاتلوا رؤساء الضلال و الكفر. و خصّهم بالذكر لأنّهم يضلّون اتباعهم لا أنّهم مخصوصون بالقتل دون المرؤوسين بل الرئيس و المرؤوس في حكم واحد.

و قرأ عليّ عليه السّلام هذه الآية يوم البصرة ثمّ قال: أما و اللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الناكثة و الفئة الباغية و الفئة المارقة.

[إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ و قرئ بكسر الهمزة [لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن الكفر قيل: معناه

ص: 116

قاتلوهم و ليكن قصدكم بالقتال انتهاؤهم عن الكفر و الشرك.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

لمّا أمر اللّه بقتال أئمّة الضلال أتبعه بذكر السبب. «الهمزة» للاستفهام و المراد التحضيض و الإيجاب أي هلّا تقاتلونهم؟ فذكر ثلاثة أسباب كلّ واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بالجمع؟ أحدها: نكث العهد؟ قيل: هم اليهود الّذين نقضوا العهد و خرجوا مع الأحزاب. الثاني: همّوا بإخراج الرسول من المدينة، و قيل: المراد مشركو قريش، و قيل: المراد من الإخراج إخراجه من مكّة حين هاجر، و ثالثها: و هم بدءوكم أوّل مرّة بالقتال يوم بدر و البادي أظلم، و قيل: بدءوكم بقتال حلفاء النبيّ من بني خزاعة و تخافون أن ينالكم من قتالكم مكروه [فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هذا الكلام جمع بين التقريع و التشجيع.

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 15]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

أكّد الأمر بالقتال و بشّرهم بالنصر و الظفر عليهم. يعذّبهم اللّه قتلا و أسرا و يعينكم أيّها المؤمنون عليهم [وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ الّذين هم حلفاء رسول اللّه كبني خزاعة فإنّ بني خزاعة أسلموا فأعانت قريش بني بكر عليهم فشفى اللّه صدورهم من بني بكر [وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بتشفّي درك الثار لأنّه من المعلوم أنّ من طال تأذّيه من خصمه ثمّ مكّنه اللّه منه فإنّه يعظم سروره [وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ] أي يقبل توبة من تاب منهم.

و وجه النظم في اتّصال قوله: «وَ يَتُوبُ اللَّهُ» بما قبله بشارة بأنّه ليس في قتالهم اقتطاع لأحد منهم عن التوبة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأفعالهم و [حَكِيمٌ في تدبيره.

[سورة التوبة (9): آية 16]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

أ ظننتم أن تتركوا أن تكلّفوا الجهاد دون الإخلاص ليس الأمر كذلك بل لا بدّ أن تجاهدوا و يكون غرضكم الإخلاص؛ و ليس المراد القتال فقط بل القتال و الانقياد و الخلوص لأمر اللّه و لا يتخلّص من هذا التكليف إلّا أن يعلم اللّه الّذين جاهدوا حقيقة و خالصا.

ص: 117

و ذكر العلم و أراد وقوع المعلوم.

قوله: [وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً] و وسيلة و المقصود من هذا الشرط أنّ المجاهد قد يجاهد و لا يكون جهاده خالصا بل باطنه غير ظاهره و هو الّذي يتّخذ الوليجة من دون اللّه. و «الوليجة» الدخيلة في القوم و ليس منهم. و ينافقون مع المؤمنين و يفشون إلى الكفّار أسرار المؤمنين و اللّه خبير بأعمالكم فيجازيكم عليها.

[سورة التوبة (9): الآيات 17 الى 18]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

و لمّا أمر اللّه بقتال المشركين و قطع الموالات عنهم أمر بمنعهم عن المساجد، فقال:

لا ينبغي للمشركين أن يكونوا قوّاما على عمارة مساجد اللّه و متولّين لأمر اللّه، و ينبغي أن يكون يتولّاها المسلمون قيل: هي عامّة، و قيل: المسجد الحرام خاصّة. في حال شهادتهم على أنفسهم بالكفر بمعنى أنّه يسأل النصرانيّ من أنت: فيقول: أنا نصرانيّ، و اليهوديّ يقول: أنا يهوديّ إذا سئل عنه و كذا المجوسيّ؛ فهذه شهادتهم على أنفسهم بالكفر، و ليس المعنى بأن يقول: أنا كافر؛ فإنّ الكافر لا يعترف بكونه كافرا.

و اختلف في عمارة المسجد قيل: دخوله و خروجه و يتردّد إليه؛ لأنّ المسجد عمارته بطاعة اللّه فيه و قيل: باستصلاحه و رمّ ما استرمّ منه بالبناء و مثله. و قيل: في قوله:

[شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ] معناه قولهم في التلبية: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك، و قيل: شهادتهم سجودهم لأصنامهم مع إقرارهم بأنّها مخلوقة [أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الّتي من جنس الطاعة و مقيمون و مؤبّدون في النار، و المراد من الحبط أنّه إن كان قد صدر منهم عمل من الأعمال البرّ مثل إكرام الوالدين و بناء الرباطات و إطعام الجائع فذلك باطل لأنّ عقاب كفرهم لا يدفعه مثل هذه الأمور.

[إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ أي المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون يعرف مسجوده و يقرّ بوحدانيّته و اليوم الآخر و يكون موقنا بالمعاد، و يقوم بالصلاة و آدابها و يعطي الزكاة إن وجبت عليه و لم يخف سوى اللّه [فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي من جمع هذه الأمور قريب من الهداية و الجنّة لأنّها اصول الدين.

ص: 118

فان قيل: كيف قال: [وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ و المؤمن قد يخاف من المفسد و الظالم؟

المراد من هذه الخشية الخوف و التقوى في الدين و أن لا يختار على رضى اللّه رضا غيره و إلّا فالإنسان قد يخاف من المؤذيات كالحيّة.

و في الآية إشعار على أنّ المسجد يجب صونه عن غير العبادة؛ فيدخل فيه فضول الدنيا و فضول الكلام؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يأتي في آخر الزمان أناس من امّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا و حبّها، لا تجالسوهم فليس للّه بهم حاجة. و في الحديث: الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش. و في حديث آخر قال اللّه: إنّ بيوتي في الأرض المساجد و إنّ زوّاري فيها عمّارها؛ طوبى لعبد تطهّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره. و عنه صلى اللّه عليه و آله: من ألف المسجد ألفه اللّه و عنه صلى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان. و عنه صلى اللّه عليه و آله: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة و حملة العرش يستغفرون له مادام في المسجد ضوؤه، و هذه الحديث نقلها الزمخشريّ في الكشّاف.

[سورة التوبة (9): آية 19]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

في النزول قال ابن عبّاس في بعض الروايات: إنّ عليّا لمّا أغلظ الكلام على عبّاس قال العبّاس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد فلقد كنّا نعمر مسجد الحرام و نسقي الحاجّ فنزلت الآية. و قيل: إنّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحاجّ و عمّار البيت فنحن أفضل أم محمّد و أصحابه؟ فقالت اليهود: أنتم أفضل. و قيل: افتخر طلحة بن شيبة و العبّاس و عليّ قال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه و لو أردت بتّ فيه. قال العبّاس:

أنا صاحب السقاية و القائم عليها. قال عليّ: أنا صاحب الجهاد.

و عن أبي بريدة قال: بينا شيبة و العبّاس يتفاخران إذ مرّ عليّ عليه السّلام فقال: بما ذا تفتخران؟ قال العبّاس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاجّ. قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد؛ فقال عليّ: أوتيت على صغري ما لم تؤتيا فقالا: و ما أوتيت؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما. فقام العبّاس مغضبا يجرّ ذيله حتّى دخل على النبيّ

ص: 119

صلى اللّه عليه و آله، و قال: أما ترى ما يستقبلني عليّ- عليه السّلام-؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: ادعو الي عليّا، و قال له: ما حملك على ما استقبلت عمّك؟ قال: على صدمته بالحقّ؛ فنزلت الآية.

«و السقاية «و» العمارة» مصدران من سقي و عمر كالصيانة و الوقاية، و معلوم أنّ السقاية و العمارة فعل، و قوله: «من آمن» إشارة إلى الفاعل و تشبيه الصفة بالذات و الفعل بالفاعل غير صحيح، و لا بدّ من محذوف في الكلام، و تقديره: أ جعلتم أهل سقاية الحاجّ، التقدير:

أ جعلتم سقاية الحاجّ كإيمان من آمن باللّه. و كانت السقاية نبيذ الزبيب و كانوا يسقون الحاجّ الشراب و الماء!

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 20 الى 22]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

لمّا ذكر في الآية السابقة ترجيح الإيمان و الجهاد على السقاية و العمارة بالتلويح بيّن في هذه الآية بالتصريح أنّ من كان موصوفا بهذه الصفات أعظم درجة عند اللّه لأنّ الإنسان ليس له إلّا مجموع امور ثلاثة: الروح و البدن و المال: أمّا الروح لمّا زال عنه الكفر و حصل له الإيمان فقد حصل له غاية السعادة و أمّا المال و البدن فبسبب الجهاد و الهجرة وقعا في النقصان و لمّا رضي بإهدار النفس و المال لطلب مرضاة اللّه فمثل هذا الإنسان وصل إلى آخر درجة الإنسانيّة و أوّل درجة الملائكة؛ فأين السقاية مع هذه الدرجة؟ أين الثرى و الثريّا؟

قوله [عِنْدَ اللَّهِ المراد الاستغراق في المكانة و العبوديّة لا العنديّة بحسب الجهة.

و حصر الفوز لهم بقوله: [أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لأنّ من آمن باللّه و عرفه قلّ أن يبقى ملتفتا إلى الدنيا الفانية و يسعى بالتفريق بين النفس و بين لذّات الدنيا؛ فإنّها شواغل و يستحقر الدنيا فيوجب على نفسه تركها فيعرف ما يضرّه و ما ينفعه، و يتمّ عرفانه كما قيل:

المعرفة مبتدأ من تفريق و نقص و ترك و رفض؛ فلمّا بذل النفس و المال بجزئيّته أقبل اللّه عليه بكلّيّته، و ذلك قوله: [يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً] مؤبّدا و يستحق الأجر العظيم من عنده تعالى.

[سورة التوبة (9): آية 23]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

ص: 120

لمّا أمر اللّه المؤمنين بالهجرة و أرادوا الهجرة، فمنهم من تعلّق به أبواه و أولاده و إخوانه و زوجته فكانوا يمنعونه عن الهجرة فيتركون الهجرة لأجلهم، فبيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب إذا قطع قرابة الأبوين فالأجنبيّ أولى إن استحبّوا الكفر و آثروه على الإيمان. قال الحسن البصريّ: من تولّى المشرك فهو مشرك و هذا إذا كان راضيا بشركه.

[وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي من يتولّى من المؤمنين المشركين [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ على نفوسهم و وضعوا الموالات في غير موضعها.

[سورة التوبة (9): آية 24]

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

بيان الآية أنّ جماعة من المسلمين قالوا: يا رسول اللّه كيف يمكن البراءة منهم بالكلّيّة و هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا و إخواننا و عشيرتنا و ذهاب تجارتنا و هلاك أموالنا؟ فأجابهم اللّه أنّه يجب تحمّل هذه المضارّ الدنيويّة للدين فإن كانت رعاية هذه الأمور عندكم أولى من طاعة اللّه و رسوله و من المجاهدة في سبيله فانتظروا حتّى يأتي اللّه بأمره أي بعقوبة عاجلة أو آجلة أو فتح مكّة و اللّه لا يهدي القوم الخارجين عن الدين.

و هذه الآية تدلّ على أنّه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين و بين جميع مهمّات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 26]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)

لمّا فتح النبيّ صلى اللّه عليه و آله مكّة و قد بقيت من شهر رمضان خرج متوجّها إلى قتال هوازن و ثقيف لحنين، و هو اسم واد بين مكّة و طائف و اختلفوا في عسكر النبيّ قال ابن عبّاس:

كانوا ستّة عشر ألفا، و قال قتادة: اثني عشر ألفا، و قال الكلبيّ: عشرة آلاف و عدد عسكر

ص: 121

المخالف أربعة آلاف، فلمّا التقوا، قال رجل من المسلمين اسمه سلمة: لن نغلب القوم عن قلّة؛ فهذه الكلمة ساءت رسول اللّه. و قيل: قالها أبو بكر.

قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، و في المثل: قد أنصف القارة من راماها قال البراء: لمّا حملنا انكشفوا و أكببنا على الغنائم فرجعوا و استقبلونا بالسهام و انكشف المسلمون عن رسول اللّه و لم يبق معه صلى اللّه عليه و آله إلّا العبّاس بن عبد المطّلب و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و العبّاس أخذ بلجام بغلته و أبو سفيان بركابه، قال البراء: ما ولّى رسول اللّه دبره قطّ و هو يقول: أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب، و طفق يركض بغلته الشهباء نحو الكفّار لا يبالي و عليّ عليه السّلام في المعركة مع نفر قليل يحارب ثمّ قال النبيّ للعبّاس:

ناد المهاجرين و الأنصار و كان العبّاس رجلا صيّتا فجعل ينادي: يا عباد اللّه يا أصحاب بيعة الشجرة يا أهل سورة البقرة؛ فجاء المسلمون حتّى سمعوا صوته عنقا واحدا و أخذ رسول اللّه كفّا من حصى فرماهم بها، و قال: شاهت الوجوه؛ فما زال أمر الكفار مدبرا و حدّهم كليلا حتّى هزمهم اللّه و لم يبق منهم أحد إلّا امتلأت عيناه من ذلك التراب قيل:

فذلك قوله: [ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و السكينة ما يسكن به القلب و النفس، و يوجب الطمأنينة، و وجه الاستعارة أنّ الإنسان إذا خاف اضطرب قلبه. و إذا أمن الإنسان سكن قلبه فجعل لفظ السكينة كناية عن السكون و الأمن. و من النعمة الّتي أنعم اللّه عليهم:

قوله: [وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها] و المراد: أنزل الملائكة، قال سعيد بن جبير: أمدّ اللّه نبيّه بخمسة آلاف من الملائكة و اختلفوا في أنّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ منهم من قال: قاتلوا، و منهم من قال: ما قاتلوا بل يوم بدر قاتلوا، قال سعيد بن المسيّب: حدّثني رجل من المشركين يوم حنين قال: لمّا غلبنا على المسلمين جعلنا نسوقهم فلمّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقّانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا.

قوله: [وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و هذا الأمر الثالث من نعم اللّه لهم في ذلك اليوم و المراد من هذا التعذيب قتلهم و أسرهم و أخذ أموالهم و سبي ذراريهم. قوله: [ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عَلى

ص: 122

مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عطف علي «أنزل» أي ثمّ يقبل اللّه توبة من تاب عن الشرك و المحاربة و رجع إلى طاعة الرسول و الإسلام، و يجوز أن يكون المراد من قبول توبة الّذين انهزموا من عسكر الرسول أو إعجابهم بالكثرة و إنّما علّق بالمشيئة؛ لأنّ القبول تفضّل منه و هذا ردّ لقول الوعيديّة حيث يقولون: قبول التوبة واجب و لو كان واجبا لما علّقه بالمشيئة.

و روي عن الصادقين عليهم السّلام أنّهم قالوا: كانت مواطن النصرة لرسول اللّه ثمانين موطنا. روي أنّ المتوكّل اشتكى شديدة فنذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه اللّه فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير فاختلف أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبي الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا و قد كان الإمام في حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب عليه السّلام يتصدّق بثمانين دينارا فسألوه عن العلّة فقرأ هذه الآية و قال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين موطنا.

و مختصر قصّة حنين أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة خرج معنا إلى حنين عن سنة ثمان من الهجرة، و قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضريّ، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، و نزلوا بأرطاس و كان دريد بن صمة في القوم، و كان شيخا كبيرا مطاعا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأيّ واد أنتم؟ قالوا: بأرطاس قال: نعم مجال الخيل لا حزن (1) ضرس و لا سهل وهن، ما لي أسمع رغاء البعير و خوار البقر و نهيق الحمير و شقاء الشاة و بكاء الصبيان؟ فقالوا: إنّ مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم و أبناءهم و نساءهم ليقاتل كلّ منهم عن أهله و ماله فقال دريد: راعي ضأن و ربّ الكعبة. ثمّ قال: ائتوني بمالك فلمّا جاءه قال: يا أبا ملك إنّك أصبحت رائس قومك ردّ قومك إلى عليا بلادهم و ألق الرجال على متون الخيل فإنّه لا ينفعك إلّا رجل بسيفه و فرسه فإن كانت لك لحق بك ما وراءك و إن كانت عليك لا تكون فضحت في أهلك و عيالك فقال: له مالك إنّك قد كبرت و ذهب علمك و عقلك.

ثمّ عقد رسول اللّه اللواء الأكبر و دفعه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و خرج بعد أن أقام بمكّة خمسة عشر يوما، و بعث إلى صفوان بن اميّة فاستعار منه مائة درع فقال:

ص: 123


1- الحزن بالفتح فالسكون: الأرض الغليظة.

صفوان: عارية أم غصب؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: عارية مضمونة مؤدّاة؛ فأعاره و خرج صلى اللّه عليه و آله من مكّة في اثني عشر ألفا.

فبعث صلى اللّه عليه و آله رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف فسمعه و هو يقول لقومه:

ليصيّر كلّ رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره و اكسروا جفون سيوفكم و اكمنوا في شعاب هذا الوادي و في الشجر فإذا كان في الطليعة من الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهذّوا القوم فإنّ محمّدا لم يلق أحدا ممّن يحسن الحرب.

و لمّا صلّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية فانهزمت بنو سليم و هم كانوا في المقدّمة من عسكر رسول اللّه، و كذلك انهزم ما وراءهم و خلّى اللّه بينهم و بين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم و بقي عليّ عليه السّلام و معه الراية يقاتلهم في نفر قليل، و مرّ المنهزمون برسول اللّه لا يلوون على شي ء، و كان العبّاس عن يمينه و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عن يساره و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم و عاشرهم أيمن بن امّ أيمن و قتل يومئذ و في ذلك يقول العبّاس:

نصرنا رسول اللّه في الحرب تسعةو قد فرّ من قد فرّ عنه و أقشفوا

و لما رأى النّبيّ هزيمة قومه أمر العبّاس أن يصوّت كما ذكرنا سابقا؛ فلمّا سمع المسلمون صوت العبّاس قالوا: لبّيك و تبادر الأنصار خاصّة و قاتلوا المشركين حتّى قال رسول اللّه: الآن قد حمى الوطيس و نزل النصر و انهزمت هوازن هزيمة قبيحة و مزّقوا في كلّ وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم؛ و فرّ مالك بن عوف فدخل حصن الطائف و أغنم المسلمون أموالهم و نساءهم و أمر رسول اللّه بالذراري و الأموال أن ينحدروا إلى الجعرّانة و ولّى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعيّ.

و مضى صلى اللّه عليه و آله في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك فحاصر أهل الطائف بقيّة شوّال، فلمّا دخل ذو القعدة انصرف إلى الجعرّانة، و قسّم غنائم حنين و كان معه من بني هوازن ستّة آلاف من النساء و الذراري، و من الإبل و الشاة ما لا يدرى عدّته.

قال أبو سعيد الخدريّ: قسّم النبيّ صلى اللّه عليه و آله للمتألّفين من قريش و من سائر العرب ما قسّم و لم يكن في الأنصار منها شي ء لا قليل و لا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول اللّه

ص: 124

أنّ هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك و في سائر العرب و لم يكن فيهم من ذلك شي ء فقال صلى اللّه عليه و آله: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلّا امرء من قومي، فقال صلى اللّه عليه و آله: اجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم؛ فخرج رسول اللّه و قام فيهم خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال:

يا معاشر الأنصار أ و لم آتيكم ضلّالا فهداكم اللّه و عائلا فأغناكم اللّه و أعداء فألّف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى.

ثمّ قال: ألا تجيبوني يا معاشر الأنصار؟ فقالوا: و بما ذا نجيبك المنّ للّه و لرسوله؟

فقال رسول اللّه: لو شئتم لقلتم و صدقتم جئتنا طريدا فآويناك و عائلا فأغنيناك و خائفا و آمنّاك، و مخذولا فنصرناك؟ فقالوا: المنّ للّه و لرسوله.

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله: تألّفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى ما قسّم اللّه لكم من الإسلام أفلا ترضون يا معاشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة و البعير و تذهبون برسول اللّه إلى رحالكم؟ فو الّذي نفسي بيده لو أنّ الناس سلكوا شعبا لسلكت شعب الأنصار و لو لا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. اللّهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتّى اخضلّت لحاهم و قالوا: قد رضينا باللّه قسما، ثمّ تفرّقوا و قد أمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله مناديا ينادي يوم أرطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة.

ثمّ أقبلت وفود هوازن و قدمت على رسول اللّه مسلمين، فقام خطيبهم و قال: يا رسول اللّه من السبايا خالاتك و حواضنك اللاتي كنّ يكفلنك؛ فلو أنّا ناكحنا ابن أبي السمراء أو النعمان بن المنذر ثمّ أصابنا مثل الّذي أصابنا منك رجونا عائدتهما، و أنت خير المكفولين ثمّ أنشد أبياتا فقال صلى اللّه عليه و آله: أيّ الأمرين أحبّ إليكم السبيّ أو الأموال؟ قالوا: خيّرتنا بين الحبّ و بين الأموال و الحبّ أحبّ إلينا و لا نتكلّم في الشاة و البعير؛ فقال النبيّ:

أمّا الّذي لبني هاشم فهو لكم و سوف أكلّم المسلمين و أتشفّع لكم فكلّموهم و أظهروا إسلامكم، فلمّا صلّى الرسول الهاجرة قام و تكلّم فقال: قد رددت الّذي لبني هاشم و الّذي بيدي عليهم فمن أحبّ منكم أن يعطي غير مكره فليفعل و من كره أن يعطي فليأخذ

ص: 125

الفداء و عليّ فداؤهم فأعطى الناس ما في يدهم إلّا قليلا من الناس سألوا الفداء.

و أرسل رسول اللّه إلى مالك بن عوف و قال: إن جئتني مسلما رددت إليك أهلك و مالك و لك عندي مائة من الإبل، فخرج إليه من الطائف فردّ صلى اللّه عليه و آله عليه أهله و ماله و أعطاه مائة من الإبل و استعلمه على من أسلم من قومه.

[سورة التوبة (9): آية 27]

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

و «ثمّ» عطف على «أنزل سكينته» كما أنّ «ثمّ أنزل سكينته» عطف على «ثمّ ولّيتم مدبرين» كما أنّ «ثمّ ولّيتم» عطف على قوله: «ضاقت عليكم» أي يقبل اللّه توبة من تاب عن الشرك و رحيم بهم.

[سورة التوبة (9): آية 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

النظم: لمّا نبذ العهد عليّ عليه السّلام بأمر الرسول قال: أناس من أهل مكّة: يا أهل مكّة ستعلمون ما تلقونه من الشدّة لانقطاع السبيل و فقد الحمولات فنزلت الآية لإزالة الخوف.

المعنى: وصف «المشركون» بالمصدر بقوله «نجس» مبالغة في النجاسة أي عين النجاسة أو هم ذو نجس لخبث كفرهم و شركهم، قال الزّمخشريّ: عن ابن عبّاس: إنّ أعناقهم نجسة كالكلاب و الخنازير [فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا] أي العام المشار إليه و هو السنة التاسعة الّذي نادى عليّ عليه السّلام بالبراءة.

و اختلفوا في أنّ المراد من المسجد الحرام هو نفس المسجد أو جميع الحرم؟ و الأقوى جميع الحرم عند العامّة و أمّا عندنا الإماميّة فجميع المساجد، و الّذين قالوا: المراد جميع الحرم قالوا: لقوله: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (1) مع أنّه قد أجمعوا على أنّه إنّما رفع من بيت امّ هاني.

قوله: [وَ إِنْ خِفْتُمْ فقرا و حاجة بسبب انقطاع المتاجر بمنع المشركين أو أمر آخر [فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ رحمة منه و فضلا، قال قتادة: أسلم أهل نجدة و صنعاء و جرثن في اليمن و حملوا الطعام إلى مكّة على ظهور الإبل و الدوابّ و كفاهم اللّه ما كانوا يتخوّفون أو

ص: 126


1- الإسراء: 1.

المراد: بغنيكم بإباحة الغنائم و أخذ الجزية من أهل الكتاب و بالمطر و النبات و إنّما علّقه بالمشيئة لأنّ اللّه قد علم أنّ منهم من يبقى إلى وقت فتح البلاد و اقتناء الأموال من الأكاسرة فيتغنّى، و منهم من لا يبقى إلى ذلك الوقت فلذا علّقه بالمشيئة. و هو [عَلِيمٌ بالمصالح و [حَكِيمٌ في أفعاله.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

لمّا ذكر حكم المشركين من إظهار البراءة عنهم و وجوب مقاتلتهم و تبعيدهم عن المسجد الحرام في الآيات السابقة شرع في بيان حكم الكافرين من أهل الكتاب و هو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية، فحينئذ يقرّون على ما هم عليه و ذلك إذا كانوا موصوفين بصفات:

الاولى: كونهم لا يؤمنون بتوحيد اللّه.

الصفة الثانية أنّهم لا يقرّون بالبعث و الحشر كما يقرّون المسلمون من القرآن قال الرّازيّ: المنقول عن اليهود و النصارى إنكار الحشر الجسمانيّ و يميلون إلى البعث الرّوحانيّ.

الصفة الثالثة: لا يحرّمون ما حرّم اللّه و رسوله في القرآن و سنّة الرسول بل لا يعملون بما في التوراة و الإنجيل بل حرّفو هما و أتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم. و تحريف نعت محمّد في كتابهم و كتمان أمر نبوّته صلى اللّه عليه و آله.

الصفة الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ أي دين اللّه و دين الحقّ عند اللّه الإسلام و المقصود تميز هؤلاء اليهود و النصارى حكمهم عن حكم المشركين لأنّ الواجب في المشركين الإسلام أو القتال و الواجب في الموصوفين القتال أو الإسلام أو الجزية، و هذا حكمهم دون المشركون «و الجزية» مشتقّ من جزى دينه أي قضاه أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

قوله: [عَنْ يَدٍ] أي حال الإعطاء يكون المعطي منقادا طائعا مستصغرا بيدهم لا بيد

ص: 127

غيرهم بأن يكونوا حال الإعطاء أذلّاء ماشيا غير راكب و يسلّمها و هو قائم و يتسلّمها الآخذ و هو قاعد و يؤخذ بتلبيبه و لحيته و يقال له: أدّ الجزية و إن كان يؤدّيها و يرجّ في قفاه.

و المجوس حكمهم حكم أهل الكتاب في إعطاء الجزية لقوله: صلى اللّه عليه و آله سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب. قال عليّ عليه السّلام: إنّه كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا و قد اسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم. لكن اتّفقوا على تحريم ذبائحهم و مناكحهم لقوله صلى اللّه عليه و آله: في آخر ما نقل من الحديث: غير ناكحي نسائهم و آكلي ذبائحهم.

و في الكافي عن الصادق أنّه سئل عن المجوس أ كان لهم نبيّ؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول اللّه إلى أهل مكّة أن أسلموا و إلّا فأذنوا بحرب من اللّه. فكتبوا إلى رسول اللّه أن نعم خذ منّا الجزية و دعنا على عبادة الأصنام فكتب إليهم: أنّي لست آخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب فكتبوا إليه- يريدون بذلك تكذيبه-: زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب، ثمّ أخذت من مجوس هجر؟ فكتب إليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه و كتاب فاحترقوه أتاهم نبيّهم بكتابها في اثني عشر ألف جلد نور.

في الفقيه و التهذيب و العلل عنه عليه السّلام أنّه سئل عن النساء كيف سقطت الجزية عنهنّ؟ فقال: لأنّ رسول اللّه نهى عن قتال النساء و الولدان في دار الحرب إلّا أن تقاتل و إن قاتلت فأمسك عنها ما أمكنك فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى؛ إلى آخر الحديث.

و في الكافي و الفقيه عنه عليه السّلام: جرت السنّة أنّه لا يؤخذ الجزية من المعتوه و لا من المغلوب على عقله، و مقدار الجزية و حدّها سئل عنه عليه السّلام فقال: ذلك إلى الإمام يأخذ منهم ما شاء على قدر ماله ما يطيق و يؤخذ منهم على قدر ما يطيقون، و إنّما قيّد بالاستصغار ليتألّم بالاستصغار فيسلم.

و قال أنس بن مالك: قسّم رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله- على كلّ بالغ دينارا و قسّم عمر على فقراء أهل الذمّة اثني عشر درهما و على الأوساط أربعة و عشرين درهما و على الأغنياء أربعة دنانير في السنة. و هذا الإمهال لأجل أن يقف على محاسن الإسلام و يرى ذلّة الاستصغار بالكفر

ص: 128

فينتقل منه إلى دار الإسلام.

[سورة التوبة (9): آية 30]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ اليهود و النصارى بأنّهم لا يؤمنون باللّه شرح في هذه الآية بيان كفرهم بأنّهم أثبتوا للّه ابنا و من جوّز ذلك في حقّ الإله فهو في الحقيقة أنكر الإله و هو داخل في الشرك مع المشركين، و لا فرق بين من يعبد الصنم و من يعبد المسيح و غيره لأنّه لا معنى للشرك إلّا أن يتّخذ الإنسان مع اللّه معبودا بل إنّ كفر عابد الوثن أخفّ من كفر النصارى؛ لأنّ عابد الوثن لا يقول: إن هذا الوثن خالق العالم و اله العالم بل يتوسّل به إلى طاعة اللّه.

و أمّا النصارى فإنّهم يثبتون الحلول و الاتّحاد و ذلك كفر قبيح جدّا. و إنّما خصّهم بقبول الجزية لأنّهم نسبوا أنفسهم إلى الكتابين و نسبوا أنفسهم بهذين الرسولين الجليلين فلأجل نسبتهم و رجاء رجوع البعض في مدّة الجزية حكم اللّه لهم هذا الأمر.

[وَ قالَتِ الْيَهُودُ] قال ابن عبّاس في رواية سعيد بن جبير و عكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و هم سلام بن مشكم و النعمان بن أوفى و مالك بن الصيف و غيرهم قالوا: كيف نتّبعك و قد تركت قبلتنا، و لا تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه؟ فنزلت هذه الآية.

و قيل: قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا و تبعه آخرون.

و الصحيح أنّه كان هذا المذهب فاشيا فيهم، ثمّ لعلّ انقطع فحكى اللّه عنهم و لا عبرة بإنكار اليهود ذلك لأنّ حكاية اللّه عنهم أصدق.

و السبب الّذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عبّاس أنّ اليهود أضاعوا التوراة و عملوا بغير الحقّ فأنساهم اللّه التوراة و نسخها عن صدورهم أو أنّ بخت نصّر أحرق التوراة فتضرّع عزير إلى اللّه فنزله جبرئيل فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه فلمّا وجدوه صادقا فيه قالوا: ما تيسّر لعزير إلّا أنّه ابن اللّه. قال السدّيّ: قتل العمالقة علماءهم فلم يبق أحد يعرف التوراة. و قيل: فقدت نسخ التوراة غير نسخة واحدة كانت مدفونة في البيت المقدّس أخرجها عزير.

ص: 129

قوله: [وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ السبب فيه أنّه وقع حرب بين أتباع عيسى و اليهود و كان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعا كثيرا من أصحاب عيسى ثمّ قال: إن كان الحقّ مع عيسى فقد كفرنا و النار مصيرنا و نحن مغبونون إن دخلوا الجنّة و دخلنا النار و إنّي أحتال فاضلّهم فعرقب فرسه و أظهر الندامة ممّا كان يصنع و وضع التراب على رأسه و قال: نوديت من السماء يا بولس ليس لك توبة إلّا أن تتنصّر و قد تبت و تنصّرت فأدخله النصارى في الكنيسة و مكث سنة لا يخرج و تعلّم الإنجيل فصدّقوه و أحبّوه غاية.

ثمّ مضى إلى بيت المقدس و استخلف عليهم في الكنيسة رجلا اسمه نسطور و علّمه أنّ عيسى و مريم و الإله كانوا ثلاثة، و توجّه إلى الروم و علّمهم اللاهوت و الناسوت و قال: ما كان عيسى إنسانا و لا جسما و لكنّه اللّه و علّم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك، ثمّ دعا رجلا آخر يقال له ملكا فقال له: إنّ الإله لم يزل و لا يزال عيسى، ثمّ دعا لهؤلاء الثلاثة و قال لكلّ واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك و لقد رأيت عيسى في المنام و رضي عنّي و أنّي غدا أذبح نفسي فداء لعيسى، ثمّ دخل في الغد المذبح و ذبح نفسه.

ثمّ دعا كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله و مذهبه و صار هذا الأمر السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى، هذا ما حكاه الرازيّ عن الواحديّ.

و قال الرازيّ في المفاتيح: لعلّ ورود لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حقّ إبراهيم على سبيل التشريف، ثمّ إنّ النصارى لأجل عداوة اليهود و لأجل أن يقابلوا غلوّهم الفاسد في أحد الطرفين بغلوّ فاسد في الطرف الثاني فبالغوا و فسّروا لفظ الابن ببنوّة الحقيقيّة و الجهّال قبلوا ذلك، و فشى هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى و اللّه عالم.

قوله: [ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يقولون هؤلاء هذه الأقاويل الفاسدة بأفواههم فلو قيل كلّ قول يقال بالفم فما معناه؟ المراد أنّ هذا القول ما هو إلّا قول متفوّه به فارغ عن المعنى من غير تعقّل و تدبّر:

كلامك يا هذا كبندق فارغ خلّي من المعنى و لكن يقلقل

.

ص: 130

قوله: [يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قرئ بالهمزة و بغير الهمزة. «المضاهاة» المشابهة مشتقّ من قولهم: «امرأت ضيهاء و هي الّتي لا تنبت لها ثدي» أي يشابه هذا القول قول المشركين قبلهم حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه، أو قول اليهود: عزير ابن اللّه.

[قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قال ابن عبّاس: أي لعنهم اللّه، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. كيف يصرفون عن الحقّ إلى الإفك و الكذب؟ أي أيّ داع لهذا القول الفاسد؟

[سورة التوبة (9): آية 31]

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

شرح سبحانه في هذه الآية بضرب آخر من شركهم قال ابن السكّيت: «حبر» و «حبر» يقال للعالم ذمّيّا كان أو مسلما بشرط أن يكون من أهل الكتاب، و لكن في عرف الاستعمال صار الأحبار مختصّا بعلماء اليهود من ولد هارون و الرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصومعة.

و الأكثرون من المفسّرين قالوا: ليس المراد من اتّخاذهم أربابا أنّهم اعتقدوا أنّهم آلهة العالم، بل المراد أنّهم أطاعوهم في أوامرهم و نواهيهم. نقل أنّ عديّ بن حاتم كان نصرانيّا فانتهى إلى رسول اللّه و هو يقرء سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال عديّ: لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فيحرّمونه و يحلّلون ما حرّم اللّه فيستحلّونه؟ فقال: بلى قال: فتلك عبادتهم.

قال الربيع لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبيّة من الأحبار في بني إسرائيل؟

فقال: ربّما وجدوا في كتاب اللّه ما يخالف أقوال الأحبار و الرهبانيّة فكانوا يأخذون بأقوالهم و ما كانوا يقبلون كتاب اللّه.

أقول: و هذا الداء قد سرى في عروق بعض من الحمقاء من أهل الدنيا في زماننا فإنّهم يعظّمون شيخهم و قدوتهم، و قد يكون يميل طبع الشيخ إلى الاتّحاد و الحلول و يميل طباعهم إلى الشيخ و ذلك الشيخ الخبيث يلقي إليهم أنّ الأمر كذلك و لعلّ يأمر أتباعه بأن يسجدوا له و يقول لهم: أنتم عبيدي و قد يكون في الخلوة يدّعي الحلول و الإلهيّة مع أصحابه.

ص: 131

[سورة التوبة (9): آية 32]

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)

بيان نوع آخر من قبائح اليهود و النصارى و هو سعيهم في إبطال أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله المراد من النور القرآن و علائم خاتميّته مع أنّه صلى اللّه عليه و آله ليس له إلى غير اللّه حاجة و ما غيّر طريقته في استحقار الدنيا و عدم الالتفات إليها إلى آخر عمره فكانوا قد قصدوا إبطال نبوّته كمن يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها و هذا هو المراد من الآية.

ثمّ إنّه تعالى وعده بالنصر و إعلاء الكلمة فقال: [وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و معنى «يأبى» في الآية جار مجرى: لم يرد.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 33]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

أرسل محمّدا صلى اللّه عليه و آله و حمّله الرسالات الّتي يؤدّيها إلى الخلق بالحجج و البيّنات و القرآن و بدين الحقّ و هو الإسلام؛ لأنّ كلّ دين باطل و منسوخ بدينه و أرسله ليعلى الإسلام على الأديان بالحجّة أو الغلبة، أمّا الغلبة بالحجّة فمعلوم لأنّ كتابه أحكم كلّ كتاب و أحسن كلّ طريقة.

و أما ظهوره بالغلبة و القهر فإنّه ما حصل بعد و إن كان كلّ طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك و لحق أكثرهم قهر من جهة المسلمين إلّا أنّه لم يحصل كاملا و ما غلب لسائر الأديان مثل أرض الهند و الصين و الروم و سائر أراضي الكفر، لكن وعد اللّه من اللّه أن يجعل ذلك.

قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمّد و هو قول السدّيّ.

و قال الكلبيّ: لا يبقى دين إلّا ظهر عليه الإسلام و سيكون بعد ذلك و لا تقوم الساعة حتّى يكون.

قال المقداد: سمعت رسول اللّه يقول: لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل أي إمّا طوعا أو كرها يدينون له.

ص: 132

و قيل: إنّ ضمير الهاء في «ليظهره» راجع إلى الرسول أي ليوقفه و يعلّمه جميع الأديان و هذا بعيد.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 34 الى 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

لمّا وصف رؤساء اليهود و النصارى بالتكبّر و الربوبيّة و صفهم في هذه الآية بالطمع و الحرص و قيّد بقوله: «كثيرا» ليدلّ على أنّ هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكلّ و عبّر بالأكل لأنّ المقصود الأعظم من جمع المال هو الأكل، فسمّى الشي ء باسم ما هو أعظم المقصود، و من أكل الشي ء فقد ضمّه إلى نفسه و يمتنع الوصول لغيره إليه، فإذا طولب بردّه قال: أكلته فلا أقدر على ردّه؛ فلهذا السبب سمّي الأخذ بالأكل.

و قوله: [بِالْباطِلِ أي إنّهم كانوا يأخذون الرشا بالتحريفات و تخفيف الأحكام و كانوا يدّعون عند العوامّ أنّه لا سبيل إلى مرضاة اللّه إلّا بخدمتهم و إطاعتهم و بذل الأموال في مرضاتهم، و آيات كانت في التوراة و الإنجيل دالّة على مبعث محمّد صلى اللّه عليه و آله فكانوا هؤلاء يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة، و كانوا يقرّرون عند عوامّهم أنّ الدين الحقّ هو الّذي هم عليه و بهذا الطريق يكتسبون أموالا خطيرة فهذا هو الباطل المراد في الآية.

ثمّ قال: [وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأنّهم بهذه الأمور منعوا الناس عن قبول الإسلام لأنّهم إذا أقرّوا بمحمّد بطل حكمهم و مقاصدهم.

ثمّ قال: [وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ] يحتمل أن يكون المراد بهم هو الأحبار و الرهبان و يحتمل أن يكون جملة مستأنفة أي الّذين يجمعون المال و لا يؤدّون زكاتها؛ فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله كلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز و إن كان المال ظاهرا و غير مدفون، و كلّ مال ادّيت زكاته فليس بكنز و إن كان مدفونا في الأرض، قال ابن عباس و الحسن و الشعبيّ و السدّيّ. قال الجبائيّ: و هو إجماع.

ص: 133

[فَبَشِّرْهُمْ و أخبرهم بعذاب أليم.

و روي عن أمير المؤمنين: ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدّي زكاته أم لم يؤدّ و ما دونها فهو نفقة. و معنى الحديث أنّ هذا المقدار من المال يصدق عليه الكنز و ليس معناه أنّ هذا المقدار من المال يجب عليه الزكاة و ما دونه لا يجب، و بالجملة المراد مانعو الزكاة.

روى سالم بن أبي الجعد أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: تبّا للذهب تبّا للفضّة يكرّرها ثلاثا فشقّ ذلك على أصحابه فسأله عمر يا رسول اللّه أيّ المال نتّخذه؟

فقال صلى اللّه عليه و آله: لسانا ذاكرا و قلبا شاكرا و زوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.

قوله: [يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوقد على الكنوز أو على الذهب و الفضّة حتّى تصير نارا فتكوى بتلك الكنوز المحماة و الأموال الّتي منعوا حقوق اللّه فيها بأعيانها جباههم و جنوبهم و ظهورهم و إنّما خصّ هذه الأعضاء لأنّها معظم البدن. و كان أبو ذرّ الغفاريّ يقول:

بشّر الكافرين أو قال: بشّر الكفّارين بكيّ في الجباه و كيّ في الجنوب و كيّ في الظهور حتّى يلتقى الجمر في أجوافهم و المراد الّذين لم يؤدّوا الزكاة.

و لعلّ السبب باختصاص المواضع للكيّ لأنّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و زوي ما بين عينيه و طوى عنه كشحه و ولّاه ظهره، عن أبي الورّاق.

قوله: [هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي يقال له في حال الكيّ: هذا جزاء ما كنزتم و لم تؤدّوا حقوق اللّه فيها و جعلتموها ذخيرة لأنفسكم فذوقوا العذاب بسبب كنزكم.

قال النبيّ: ما من عبد له مال لا يؤدّي زكاته إلّا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جبهته و جنباه و ظهره حتّى يقضي اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا في الجنّة و إمّا في النّار أورده مسلم بن الحجّاج في الصحيح.

و روى ثوبان عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من ترك كنزا مثّل له شجاعا أقرع له زبنتان يتبعه فيقول له: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الّذي تركت بعدك فلا يزال يتبعه حتّى يلقمه يده فيقضمها، ثمّ يتبعه سائر جسده.

قال القاضي عبد الجبّار: تخصيص الآية بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال:

ص: 134

الكنز هو المال الّذي ما اخرج عنه ما وجب إخراجه عنه، و لا فرق بين الزكاة و بين ما وجب إخراجه من المال من الكفّارات و نفقة الحجّ و بين ما يجب إخراجه في الدين و الحقوق و الأنفال الواجب و ضمان المتلفات و اروش الجنايات، و يجب في كلّ هذه الأقسام أن يكون داخلا في الوعيد و الحكم.

و فصّل بعض بأنّ الرّجل إذا جمع مالا و لم يؤدّ زكاته فحكمه الكيّ و ما بقي فالمنع عن الجمع المال الكثير، و ما ورد في بعض الأخبار أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا مات رجل و وجد في مأرزه دينار قال صلى اللّه عليه و آله: «كيّه» محمول على التقوى، و إنّ اللّه خلق الأموال ليتوسّل بها إلى دفع الحاجات فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثمّ جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لأنّها زائدة عن قدر حاجته و منعها من الغير الّذي يمكن أن يدفع حاجته فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعا عن ظهور حكمته و مانعا عن وصول إحسان اللّه إلى عبيده، ثمّ إذا كثر ماله اشتدّ حرصه على الأكثر فيلتهي دائما إلى جمعه و حفظه و يكثر ميله و حبّه يوما فيوما؛ لأنّ المال اشتقاقه من الميل فلا جرم صار هذا الميل مانعا عن تحصيل امور الآخرة، و ليس المراد من حبّ الدنيا إلّا هذا و هو رأس كلّ خطيئة.

و يجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس فضلا عن الغير على أنّ كثرة المال يوجب كثرة الطغيان قال اللّه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (1) هذا كلّه في المال الّذي أدّي زكاته و إلّا «فالكيّ» قوله: «وَ لا يُنْفِقُونَها» فالتأنيث باعتبار الفضّة و ذكر واحد منهما مغن عن الآخر كقوله: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» (2).

قوله: [سورة التوبة (9): آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

من قبائح أفعال اليهود و المشركين إقدامهم على السعي في تغيير بعض أحكام اللّه و

ص: 135


1- العلق: 6- 7.
2- الجمعة: 11.

هو زيادة في الكفر و بيانه أنّ السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهرا من الشهور القمريّة و الدليل عليه هذه الآية و هي: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ» (1).

و ذلك إنّما يصحّ إذا كانت السنة معلّقة بسير القمر. و عند سائر الطوائف السنة عبارة عن المدّة الّتي تدور الشمس فيها دورة تامّة، و السنة القمريّة أقلّ من السنة الشمسيّة بمقدار معلوم، و بسبب ذلك النقصان ينتقل الشهور القمريّة من فصل إلى فصل فيكون الحجّ و الموسم واقعا في الشتا مرّة و في الصيف مرّة، و كان يشقّ عليهم ذلك بهذا السبب.

و أيضا إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة فربّما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف، و كان يخلّ أسباب تجاراتهم بهذا السبب فلهذا أقدموا على عمل الكبيسة و اعتبروا السنة الشمسيّة، و عند ذلك بقي وقت الحجّ مختصّا بوقت واحد موافقا لمصلحتهم التجاريّة فهذا التأخير و النسي ء و إن كان أصلح لتجارتهم و دنياهم إلّا أنّه لزم تغيّر حكم اللّه منه لأنّه تعالى خصّ الحجّ بأشهر معلومة، و كذلك يقع النسي ء في سائر الشهور بتغيير حكم اللّه.

ثمّ إنّ السنّة الشمسيّة لمّا كانت زائدة على السنة القمريّة جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهرا فأنكر اللّه ذلك عليهم فقال: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ (عِنْدَ اللَّهِ) اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ» لا أزيد و لا أقلّ، و كان طريقة العرب من الزمان الأوّل أن يكون السنة قمريّة و توارثوه عن إبراهيم و إسماعيل. و أمّا عند النصارى و اليهود السنة شمسيّة، ثمّ إنّ العرب تعلّم منهم و ظهر في بلاد العرب.

قوله: [عِدَّةَ الشُّهُورِ] اسم «إنّ» مبتدأ «اثنا عشر» خبر. و «عند اللّه» و «فِي كِتابِ اللَّهِ» و «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ» ظروف أي ذلك العدد واجب متقرّر في كتاب اللّه و علمه من أوّل ما خلق اللّه العالم. و المراد من كتاب اللّه قيل: «اللوح» أو المراد القرآن، أو المراد في حكم اللّه [مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ من هذه الاثني عشر. و معنى «حرم» أي يعظّم انتهاك المحارم فيها أكثر من بعض لانطفاء النائرة و انكسار الحميّة. و شهور السنة المحرّم سمّى بذلك لتحريم القتال فيه و

ص: 136


1- يونس: 5.

«صفر» لأنّ مكّة تصفرّ من الناس فيه أو وقع وباء عظيم فيه فصفرت وجوههم.

قال أبو عبيدة: لأنّه صفرت و طابهم عن اللبس و شهرا «ربيع» لإنبات الأرض فيهما أو ارتباع القوم و إقامتهم فيهما و «جماديتان» لجمود الماء فيهما.

أقول: ارتباع القوم أنسب في التسمية من إنبات الأرض فيهما بل لا مناسبة بين إنبات الأرض فيهما و جمود الماء في الجماديين لأنّ انجماد الماء لا يكون بعد الربيع بلا فاصلة بل بين الفصلين الخريف و هو ثلاثة أشهر لأنّ الماء لا ينجمد إلّا في الشتاء و بالجملة «فرجب» سمّي بذلك لأنّهم كانوا يعظّمونه أو لترك القتال فيه من قولهم: رجل أرجب أي أقطع لا يمكنه العمل.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّ في الجنّة نهرا يقال له رجب، ماؤه أشدّ بياضا من الثلج و أحلى من العسل من صام يوما من رجب شرب منه. و «شعبان» لتشعّب القبائل فيه.

و روى زياد بن ميمون أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سمّي شعبان لأنّه يتشعّب فيه خير كثير. و «رمضان» لأنّه يرمض الذنوب أو لشدّة الحرّ أو رمضان من أسماء اللّه، و «شوّال» لأنّ القبائل تشول و تبرج عن أمكنتها، أو لشولان النوق أذنا بها فيه. و «ذو القعدة» لقعودهم عن القتال فيه. و «ذو الحجّة» لقضاء الحجّ فيه.

قوله: [ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح و الطريقة المشروعة لا ما كانت العرب تفعله من النسي ء، و سمّي الحساب دينا لوجوب الدوام عليه و لزومه كلزوم الدين و العبادة، و منه قوله: الكيّس من دان نفسه أي حاسبها. قال القاضي: حمل الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب.

فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة فما السبب في التخصيص في هذه الأربعة؟ فالجواب أنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع و أمثلته كثيرة كما ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد، و الجمعة عن سائر الأيّام و ليلة القدر عن سائر الليالي.

ثمّ قال: [فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ و اختلفوا في الضمير في قوله: «فيهنّ» قال ابن عبّاس: يرجع إلى «الاثنا عشر» يقول في الآية: المنع من الإقدام على الفساد مطلقا في

ص: 137

جميع العمر. و قال أكثر المفسّرين: إنّ الضمير عائد إلى «الأربعة» و قد قرّرنا أنّ لبعض الأوقات أثرا خاصّا في الثواب و العقاب و الطاعة و المعصية، قال الفرّاء: العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة «فيهنّ» فإذا جاوز العدد تقول «فيها». و في تفسير هذا الظلم أقوال قيل: المراد منه النسي ء الّذي يعملونه فينقلون الحجّ من الشهر الّذي أمر اللّه بإقامته إلى الشهر الآخر و يغيّرون حكم اللّه. و قيل: إنّه تعالى نهى عن المقاتلة في هذه الأربعة و هم غيّروا الشهر.

قوله: [وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً] أي قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين [كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] مجتمعين و لا تتمسّكوا منهم بعهد و لا ذمّة إلّا من كان من أهل الجزية و قيل:

معناه قاتلوهم خلفا بعد سلف كما أنّه يخلف بعضهم بعضا في قتالكم [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصرة و الولاية.

[سورة التوبة (9): آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

قرئ «النسيّ» بالتشديد من غير همزة و قرئ «النسي ء» مخفّفا في وزن الهدى و «النسي ء» بالمدّ و الهمزة. اللغة: نسأت الإبل في ضمئها يوما أو يومين أخّرتها عنه؛ فالمعنى أنّ الإنساء و التأخير في شهر يجب حرمته إلى شهر ليست له حرمة سبب ازدياد في الكفر، و السبب فيه أنّ العرب كانت أصحاب غارات و حروب فشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها و قالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنهلكنّ فلهذا كانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون الصفر و يستحلّون المحرّم.

و هذا التأخير ما كان يختصّ بشهر و أحد بل كان حاصلا في كلّ الشهور قال الكلبيّ:

أوّل من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة بن كنانة و كان إذا همّ الناس بالصدور من الموسم يقوم خطيبا و يقول: لا مردّ لما قضيت و أنا الّذي لا أعاب و لا أجاب؛ فيقول المشركون: لبّيك ثمّ يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول: إنّ صفر العامّ حرام فإذا قال ذلك حلّوا الأوتار

ص: 138

من القسيّ و نزعوا الأسنّة و الأزجّه، و إن قال: حلال عقدوا الأوتار و أغاروا.

و قيل: أوّل من وضع ذلك جنادة بن عوف الكنانيّ. و قيل: رجل من كنانة يقال له القلمسيّ.

و قال ابن عبّاس: أوّل من وضع و سنّ النسي ء عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف.

قوله: «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» قرئ بفتح الياء و بضمّ الياء بناء على إسناد الإضلال إلى رؤسائهم الّذين اخترعوا هذا الأمر، أو هم ضالّين بسبب النسي ء و يضلّون لغيرهم.

قال مجاهد: كان يقول الرئيس: إنّي قد نسأت المحرّم العام و هما العام صفران فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما محرّمين، و كانوا يحجّون في كلّ شهر عامين فحجّوا في ذي الحجّة عامين ثمّ حجّوا في المحرّم عامين ثمّ حجّوا في صفر عامين و كذلك في الشهور حتّى وافقت الحجّة الّتي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله في العام القابل حجّة الوداع فوافقت في ذي الحجّة فذلك حين قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ذكر في خطبته: ألا و إنّ الزمان قد استدار كهيئة «يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» أراد صلى اللّه عليه و آله بذلك أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة و بطل النسي ء.

قوله: [لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فعلوا هذا الأمر أحلّوا الحرام و حرّموا الحلال ليكون موافقا لمقصودهم زيّن لهم هذا العمل السوء و زيّنت لهم أنفسهم سوء هذا العمل بميلهم و هواهم [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و لا يرشد الكفور العنود.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 39]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)

النزول: نزلت في غزوة تبوك، و ذلك لأنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا رجع من الطائف أقام بالمدينة و امر بجهاد الروم، و كان ذلك الوقت زمان شدّة الحرّ و طابت ثمار المدينة و أينعت و استعظموا غزو الروم و هابوه فنزلت الآية و عاتب اللّه المؤمنين على التثاقل عن الجهاد، فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ و أمركم النبيّ بأن اخرجوا إلى الجهاد تباطئتم

ص: 139

و تثاقلتم. و «النفر» في اللغة الخروج إلى الشي ء لأمر هيّج عليه [اثَّاقَلْتُمْ و ملتم إلى الإقامة في الأرض الّتي أنتم فيها.

قال الجبّائيّ: هذا التثاقل من بعض المؤمنين لا كلّهم [أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا] و آثرتم الفانية على الباقية؟ فما فوائد الدنيا بالنسبة إلى فوائد الآخرة إلّا قليل. ثمّ بيّن سبحانه مفاسد التثاقل بأن قال: إن لا تخرجوا إلى الجهاد الّذي أمركم الرسول يعذّبكم اللّه عذابا مولما في الآخرة، و قيل: في الدنيا. قال ابن عبّاس: لمّا تثاقلوا أمسك اللّه المطر عنهم.

[وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ و اختلف المفسّرون أنّ المراد من الغير منهم، قيل: هم أهل اليمن. و قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس. و قيل: هم الّذين أسلموا بعد.

[سورة التوبة (9): آية 40]

إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

لمّا هدّدهم في الآية السابقة بسبب التثاقل بيّن في هذه الآية إن تركتم النصرة للرسول لم يضرّه ذلك شيئا كما لم يضرّه قلّة ناصريه حين كان بمكّة و همّ به الكفّار فتولّى اللّه نصرته [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا] من مكّة فخرج منها يريد المدينة. «ثاني اثنين» نصب على الحال أي و هو أحد اثنين و صاحبه أيضا أحد اثنين، تعني به أبا بكر و ليس معهما ثالث و العرب يقول: هذا ثاني اثنين و هذا ثالث ثلاثة و رابع أربعة و خامس خمسة، يعني أحد اثنين و أحد ثلاثة و أحد أربعة و أحد خمسة، كما تقول العرب أيضا: هو ثالث اثنين و رابع ثلاثة و خامس أربعة. و المراد أنّه صلى اللّه عليه و آله كان و أبو بكر و ليس معها ثالث و الغار غار ثور و «ثور» اسم جبل بمكّة [إِذْ هُما فِي الْغارِ] بدل من قوله «إذ أخرجه» جعل أحد الزمانين في موضع الآخر لتقاربها.

و حاصل معنى الآية ترغيب الناس بالجهاد بأنّ إن لم تنفروا باستنفاره فإنّ اللّه نصره حال ما لم يكن معه إلّا رجل واحد فخرج صلى اللّه عليه و آله مضطرّا أوّل الليل إلى الغار و بعث اللّه حملتين فباضتا في أسفله، و العنكبوت نسجت عليه فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما

ص: 140

إلى الغار فرأى بيض الحمام و بيت العنكبوت، قال: لو دخله أحد لأنكر البيض و تفسّخ بيت العنكبوت فانصرف و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: اللّهم أعم أبصارهم و جعلوا يضربون يمينا و شمالا حول الغار.

و روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: كان رجل من خزاعة فيهم يقال له أبو كرز فما زال يقفو أثر رسول اللّه حتّى وقف باب الحجر، فقال: هذه قدم محمّد صلى اللّه عليه و آله هي و اللّه و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه و ما جاوزوا هذا المكان إن صعدوا إلى السماء أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار و هو يقول: اطلبوا في هذا الشعاب.

و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول اللّه قال صلى اللّه عليه و آله:

لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم.

[فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي ألقى على قلب محمّد ما سكن به، و علم أنّهم غير واصلين إليه و قوّاه بملائكة يمنعون أبصارهم عن أن يروه.

و قيل: المراد في تأييد الملائكة يوم بدر، و المناسبة أنّ التأييد وقع في هذا المكان بصرف أعدائه عنه.

قوله: [وَ جَعَلَ كَلِمَةَ] الكفّار السفلى نازلة دنيئة و كلمة اللّه هي المرتفعة المنصورة. و كلمتهم الشرك و كلمة اللّه هي كلمة التوحيد و هي لا إله إلّا اللّه. و اللّه غالب على أمره و انتقامه من أهل الشرك [حَكِيمٌ في تدبيره.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 41 الى 43]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

لمّا توعّد في الآية السابقة من لا ينفر أكّد في هذه الآية بهذا الأمر فقال: [انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا] و هذا الأمر يدخل فيه امور ذكروها أي خفافا في النفور و ثقالا يعني شبابا و شيوخا نشّاطا أو غير نشّاط مشاغيل أو غير مشاغيل أغنياء أو فقراء.

ص: 141

و قيل: الخفاف أهل العسرة و قلّة العيال و بالثقال أهل الميسرة و الحاشية و العيال.

و قيل: ركبانا و مشاة. و قيل: ذا ضيعة أو غير ذي ضيعة، عن ابن زيد. و قيل: عزّابا أو متأهّلين أو خفافا من السلاح أو ثقالا منه فعلى هذا ظاهر الأعمّ جميع الرجال. و عن ابن امّ مكتوم أنّه قال لرسول اللّه: أ عليّ أن أنفر قال صلى اللّه عليه و آله: ما أنت إلّا خفيف أو ثقيل. فرجع إلى أهله و لبس سلاحه و وقف بين يديه فنزل: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ»* (1).

و عن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمّص فلقيت شيخا قد سقط حاجباه على عينيه و هو على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عمّ أنت معذور عند اللّه فرفع حاجبيه بيده عن عينه، و قال: استنفرنا اللّه خفافا و ثقالا ألا إنّ من أحبّه اللّه ابتلاه. و عن الزهريّ: خرج سعيد بن المسيّب إلى الغزو و قد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنّك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر اللّه الخفيف و الثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثّرت السواد و حفظت المتاع.

و قيل: هذه الآية منسوخة بقوله: «ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» (2) قال السدّيّ: لمّا نزلت: «انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا» اشتدّ شأنها على الناس فنسخها اللّه بقوله: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى الآية (3).

قوله: [وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ لمرضاة اللّه و هذا يدلّ على أنّ الجهاد بالنفس و المال على من استطاع بهما، و من لم يستطع على الوجهين فعليه بما استطاع [ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من التثاقل إن كنتم عالمين بأنّه تعالى صادق في وعده و تعرفون الخير.

[لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً] أي لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة [وَ سَفَراً] هيّنا سهلا غير شاقّ [لَاتَّبَعُوكَ طمعا في المال و الغنيمة [وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ] أي المسافة و «الشقّة» من الأرض الّتي يشقّ ركوبها على صاحبها لبعدها. و المراد غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام.

[وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أي هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم

ص: 142


1- الفتح: 17.
2- السورة: 123.
3- السورة: 92.

عن الجهاد، و يحلفون لو قدرنا من الخروج لخرجنا معكم، ثمّ أخبر سبحانه أنّهم [يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بما أسرّوه من اليمين الكاذبة و العذر الباطلة.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ في هذا الاعتذار و الحلف. ثمّ خاطب نبيّة بما فيه بعض العتاب في إذنه لمن استاذنه في التأخّر عن الخروج معه إلى تبوك، و كان الّذين استأذنوه منافقين و منهم جندب بن قيس و معتب بن قشير و هما من الأنصار فقال في عتابه: لم أذنت لهم في التخلّف عنك؟ و هذا من لطيف المعاتبة لأنّه تعالى بدأ بالعفو قبل العتاب.

و هل هذا الإذن كان قبيحا أم لا؟ قال الجبّائيّ: وقع صغيرا لأنّه لا يقال في المباح:

لم فعلته؟ قال الطبرسيّ: و هذا التعليل غير صحيح لأنّه بجوز أن يقال فيما غيره أفضل منه: لم فعلته؟ و معناه أنّه لو لم يأذنهم حتّى يتبيّن نفاقهم و تعرفهم كان أحسن و كيف يكون إذنه صلى اللّه عليه و آله قبيحا و قد قال سبحانه في موضع آخر: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» (1).

و قيل: إنّه صلى اللّه عليه و آله خيّرهم بين الظعن و الإقامة متوعّدا فاغتنم القوم ذلك، و يجوز العتاب فيما غيره أولى منه لا سيّما للأنبياء و حاشا سيّد الأنبياء و خير بني آدم من أن ينسب إليه المعصية.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 45]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

ثمّ بيّن حال المؤمنين بأنّهم لا يستأذنوك في القعود عن الجهاد لأنّهم متى أمروا بالخروج تبادروا و لم يتوقّفوا، و المنافقون بالعكس و كان الأكابر من المهاجرين و الأنصار يقولون: لا نستأذن النبيّ في الجهاد فإنّ ربنا ندّبنا إليه مرّة بعد اخرى، فأيّ فائدة في الاستيذان؟ و كانوا بحيث لو أمرهم بالقعود لشقّ عليهم.

ص: 143


1- النور: 62.

قال الفخر الرازيّ: إنّ عليّا عليه السّلام لمّا أمره النبيّ صلى اللّه عليه و آله بأن يبقى في المدينة شقّ ذلك عليه و لم يرض فقال له الرسول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. فصار تقدير الآية في أن لا يجاهدوا و حذف حرف النفي كقوله «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (1) ثمّ قال: [إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي إنّ هذا الاستيذان لا يصدر إلّا عند عدم الإيمان باللّه و المعاد.

ثمّ بيّن أنّ عدم الإيمان منهم بسبب الشكّ و الريب، و هذا يدلّ على أن الشاكّ المرتاب غير مؤمن باللّه و المراد بالتردّد القبول و العذر مثل المتحيّر و لو كانوا مؤمنين لو ثقوا بثواب اللّه و بادروا في الجهاد.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 46]

وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

أي لو أرادوا الخروج لكانوا يعدّون أهبتهم و استعدادهم للخروج من الكراع و السلاح و لكن كره اللّه خروجهم إلى الغزو لعلمه تعالى أنّهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالفساد و النميمة للمسلمين، و كانوا عيونا للمشركين و كان الضرّ في خروجهم أكثر من النفع فوقفهم اللّه عن الخروج الّذي عزموا عليه لا من الخروج الّذي أمرهم اللّه به لأنّ الأوّل كفر و الثاني إيمان و طاعة.

[وَ قِيلَ لهم: [اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي الصبيان و النساء. يحتمل أن يكون القائلون لهم أصحابهم الّذين نهوهم عن الخروج مع النبيّ أو يكون القائل النبيّ صلى اللّه عليه و آله على وجه التهديد و التوبيخ.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 47]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

ثمّ بيّن على وجه الحكمة في كراهية انبعاثهم فقال: لو خرجوا هؤلاء المنافقون معكم إلى الجهاد ما زادوا بخروجهم إلّا الفساد و الشرّ و «الخبل» فساد الإعطاء و الجنون.

و قيل: مكرا و غدرا أو عجزا و جبنا و سعوا بالتفريق بين المسلمين و أوضعوا إبلهم خلالكم [يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ] بعد و الإبل وسطكم [سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي يكونوا فيكم عيونا

ص: 144


1- النساء: 176.

للمشركين أو المعنى أنّ فيكم ضعفة المسلمين يقبلون قولهم.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بهؤلاء المنافقين الّذين ظلموا أنفسهم و هم جماعة منهم عبد اللّه بن ابيّ و جندب بن قيس و أوس بن قبطيّ. ثمّ أقسم اللّه فقال:

[سورة التوبة (9): الآيات 48 الى 49]

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)

بيّن حالهم بأنّهم طلبوا الفتنة و اختلاف الكلمة لكم من قبل غزوة تبوك أي يوم احد حين انصرف عبد اللّه بن ابيّ بأصحابه و خذل النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و قيل: المراد بالفتنة الفتك بالنبيّ في ليلة العقبة و كانوا اثني عشر رجلا وقفوا على الثنيّة ليفتكوا بالنبيّ [وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ] و احتالوا في توهين أمرك و لم يقدروا و كانوا يدبّرون في كيدهم وجوها فإذا لم يتمّ ذلك قلّبوا كيدهم بوجه آخر. و هذا معنى التقليب و كانوا يعملون هذه الأعمال [حَتَّى جاءَ الْحَقُ أي النصر و الظفر و ظهر دين اللّه على الكفّار على رغمهم [وَ هُمْ كارِهُونَ و مرغومون.

قوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ النزول: قيل: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا استنفر الناس إلى تبوك قال: انفروا لعلّكم تغتنمون بنات الأصفر فقام جندب بن قيس أخو بني سلمة فقال:

يا رسول اللّه ائذن لي و لا تفتنّي ببنات الأصفر أي ائذن لي في القعود و لا تفتنّي بنساء الروم و لقد علمت الأنصار أنّي مغرم بالنساء، و أنا أعينك بالمال فاتركني.

و قيل في معنى «و لا تفتنّي»: أي لا توقعني في الإثم لمخالفة أمرك بالخروج إلى الجهاد و لا تكلّفني بالخروج في شدّة الحرّ؛ فأخبر اللّه أنّهم وقعوا في الفتنة و أنّ نار جهنّم لمحيطة بهم يوم القيامة.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 50 الى 51]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

بيّن في هذه الآية خبث بواطن المنافقين بأنّه إن تصبك في بعض الغزوات ظفر و

ص: 145

غنيمة أو انقياد من بعض الرؤساء و الملوك يسؤهم ذلك و إن تصبك شدّة و مكروه يفرحوا بها [قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا] و هو التيقّظ و الحزم، و احترزنا بالقعود عن الجهاد [مِنْ قَبْلُ هذه المصيبة [وَ يَتَوَلَّوْا] راجعين إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المسلمين [قُلْ لهم يا محمّد: [لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا] في اللوح أو في القرآن [وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ من هو مؤمن به.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 52]

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

[هَلْ تَرَبَّصُونَ و تنظرون لنا إلّا إحدى النعمتين إمّا الغلبة و الغنيمة في العاجل و إمّا الشهادة و الثواب الدائم في الآجل [وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ و نتوقّع [بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا] بأن ينصرنا عليكم [فَتَرَبَّصُوا] صورة الآية أمر و المراد التهديد [إِنَّا مَعَكُمْ كلانا منتظرون أمّا نحن منتظرون بالشهادة و الجنّة و إمّا الغنيمة و الفوز، و أمّا أنتم إمّا البقاء في الخزي و إمّا القتل و المصير إلى النار.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 55]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

[أَنْفِقُوا] لفظه أمر و معناه معنى الشرط و الجزاء أي إن أنفقتم طائعين أو مكروهين لا تنتفعون بإنفاقكم مع إقامتكم على الكفر قل لهم يا محمّد: إنّ هذا الأمر لن يتقبّل منكم لأنّ اللّه يتقبّل من المتّقين المخلصين و أنتم فاسقون و متمرّدون عن طاعة اللّه.

فإن قيل: كيف يكون الأمر في معنى الخبر؟

قيل: إذا كان في الكلام دليل عليه جاز كما تكون لفظ الخبر في معنى الأمر و الدعاء كقولك: غفر اللّه لزيد أي اللّهم اغفره.

قوله: [وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ أي و ما يمنع هؤلاء المنافقين أن يثابوا على نفقاتهم إلّا كفرهم باللّه و برسوله فذلك ممّا يحبط الأعمال و كذلك لا يأتون الصلاة إلّا و هم متثاقلين

ص: 146

و لا يؤدّوها على الوجه الّذي أمروا بها [وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ يصلّون و ينفقون للتستّر بالإسلام و للرياء.

و في الآية دلالة على أنّ الكفّار محكومون بالشرائع لأنّه سبحانه ذمّهم على ترك الصلاة و الزكاة، و لو لا وجوبهما عليهم لما ذمّوا بتركهما.

[فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ الخطاب للنبيّ و المراد الامّة أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين و كذلك كثرة [أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] قد ذكر في معناه وجوها:

أحدها: أنّ فيه تقديما و تأخيرا أي لا يسرّك أموالهم و أولادهم في الحياة الدنيا إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الآخرة، عن ابن عبّاس و قتادة، فيكون على هذا الظرف متعلّقا بأموالهم و أولادهم و مثله قوله تعالى «فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ» (1) و التقدير:

فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم.

و ثانيها: أنّ معناه إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الدّنيا بحفظها و جمعها و يكائدون لتحصيلها و جمعها مع حرمان المنفعة بها.

و ثالثها: أنّ معناه إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الدنيا بسبي الأولاد و غنيمة الأموال عند تمكّن المسلمين من أخذها فيتحسّرون عليها جزاء على كفرهم.

و رابعها: يعذّبهم بجمعها و الحزن عليها و خروجهم عنها بالموت و كلّ هذا عذاب.

و اللام في قوله «لِيُعَذِّبَهُمْ» بمعنى أن أو لام العاقبة و التقدير إنّما يريد اللّه أن يملي بهم ليعذّبهم و تزهق و يهلك أنفسهم بالموت و هم كافرون. و الإرادة تعلّقت بالزهوق لا بالكفر و هذا كما تقول: أريد أن أضربه و هو عاص، فالإرادة تعلّقت بالضرب لا بالعصيان.

قالت الأشاعرة: إنّ اللّه أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر و من أراد ذلك فقد أراد الكفر. و أجاب الجبّائي أنّ معنى الآية أنّه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين و هذا لا يقتضي كونه تعالى مريدا للكفر، ألا ترى أنّ المريض قد يقول للطبيب: أريد أن تدخل عليّ وقت مرضي؛ فهذه الإرادة لا توجب كونه مريدا للمرض. و قد يقول: السلطان

ص: 147


1- النمل: 28.

لعسكره: اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب. و هذا لا يدلّ على كون السلطان مريدا لذلك الحرب فكذا هاهنا.

و بالجملة منع اللّه المؤمنين الإعجاب بكثرة الأموال و الأولاد من المنافقين و المقصود الزجر عن الارتكان إلى الدنيا و التهالك في حبّها.

قال صلى اللّه عليه و آله: من كثر ماله اشتدّ حسابه، و من ازداد من السلطان قربا ازداد من اللّه بعدا.

و قال صلى اللّه عليه و آله: مالك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت.

و الموجودات بحسب القسمة العقليّة على أربعة أقسام:

الاول: أن يكون أزليّا أبديّا و هو اللّه جلّ جلاله.

و الثاني: الّذي لا يكون أزليّا و لا أبديّا و هو الدنيا.

و الثالث: الّذي يكون أزليّا و لا يكون أبديّا و هذا محال الوجود؛ لأنّه ثبت بالدليل أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

و الرابع: الّذي يكون أبديّا و لا يكون أزليّا و هو جميع المكلّفين و الآخرة؛ لأنّ الآخرة لها أوّل و ليس لها آخر و كذلك المكلّف سواء كان مطيعا أو عاصيا فلحياته أوّل و لا آخر له.

و إذا ثبت هذا ثبت أنّ المناسبة بين الإنسان المكلّف و بين الآخرة أشدّ من المناسبة بينه و بين الدنيا؛ و يظهر من هذا أنّه خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ إعجابه و سروره بالدنيا و أن لا يميل قلبه إليها؛ فإنّ المسكن الدائميّ الأصليّ له الآخرة.

ثمّ إنّ الإنسان إذا عظم حبّه بالأموال و الأولاد فإمّا أن تبقى له هذه إلى آخر عمره أو لا تبقى و تهلك؛ فإن كان الأوّل فعند الموت يعظم حسرته لأنّ مفارقة المحبوب شديدة و إن كان الثاني و هو أن تهلك و تبطل حال الحياة عظم أسفه عليها و اشتدّ ألم قلبه؛ فثبت أنّ الإنسان إذا عظم حبّه بالأموال حصل له العذاب في الدنيا أيضا. على أنّ الدنيا حلوة خضرة و النفس مائلة إليها يستلذّ منها فكلّما كثرت استغرقت النفس فيها و اشتغلت بها؛ فهذا الاشتغال سبب لحرمانه عن ذكر اللّه و طاعته، و يحصل في قلبه قسوة و

ص: 148

غفلة فصار ذلك سببا قويّا في زوال حبّ اللّه و الميل إلى الآخرة عن القلب فهذا الإنسان المستغرق عند الموت ينتقل من البستان إلى السجن فيقوى حسرته ثمّ عند الحشر حلالها حساب و حرامها عقاب.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)

أي يقسم هؤلاء المنافقون أنهم لمن جملتكم [وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يخافون القتل و الأسر إن لم يظهروا الإسلام [لَوْ يَجِدُونَ حرزا أو حصنا أو غيرانا في الجبال.

و قيل: سراديب أو موضعا يأوون إليه أو نفقا يدخلونها على خلاف رسول اللّه [لَوَلَّوْا] و عدلوا [إِلَيْهِ و أعرضوا عنكم [وَ هُمْ يَجْمَحُونَ و يسرعون في الذهاب إليه فلا تظنّوا موافقتهم إيّاكم عن الحقيقة بل عن الاضطرار.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

بيان نوع آخر من قبائحهم و هو أنّه كانوا يقولون: يأخذ الرسول صلى اللّه عليه و آله الصدقات من الأغنياء و يؤثر بها من يشاء من أقاربه و أهل مودّته و لا يراعي العدل.

النزول: قال أبو سعيد الخدريّ: بينا يقسّم رسول اللّه مالا من هوازن إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميميّ، و حرقوص بن زهير أصل الخوارج، فقالا: اعدل يا رسول اللّه. فقال: ويلك و من يعدل إذا لم أعدل؛ فنزلت الآية.

قال الكلبيّ: كان رجل من المنافقين يقال له أبو الجواض قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

تزعم أنّ اللّه أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء و المساكين و لم تضعها في رعاة الشاء؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لا أبا لك! أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا؟ فلمّا ذهب قال صلى اللّه عليه و آله: احذروا هذا و أصحابه فإنّهم منافقون و صار حرقوص رئيس الخوارج. و لمّا قال لرسول اللّه: اعدل يا رسول اللّه قال بعض الصحابة للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: ائذن لي أن أضرب عنقه.

فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله: دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صومه مع

ص: 149

صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود في إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة و يخرجون على فترة من الناس.

و بالجملة [وَ مِنْهُمْ من هؤلاء المنافقين من يعيبك يا محمّد و يطعن عليك في قسمة الصدقات [فَإِنْ أُعْطُوا] من تلك الصدقات أقرّوا بالعدل و [رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها] يغضبون.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أهل هذه الآية ثلثا الناس.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ لكان خيرا لهم. و جواب «لو» محذوف، و حذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ. و الهمّاز و اللمّاز أوعده اللّه الويل.

فتأمّل في حسن ترتيب الآية من بيان مراتب العبوديّة و درجاتها: أوّلها الرضا بما قسم لهم لأنّه حكيم في مصالحه. و ثانيها إظهار باللسان بقولهم حسبنا اللّه. و ثالثها الاعتماد و الوثوق و اليقين بمواعيد اللّه في الآخرة و هي أولى و أفضل. و رابعها أن يقول:

«إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» أي نحن لا نطلب من الإيمان و الطاعة أخذ الأموال و إنّما نطلب الاستغراق في العبوديّة لأنّه قال: «إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» و لم يقل: إنّا إلى ثواب اللّه راغبون.

روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بقوم يذكرون اللّه فقال عيسى عليه السّلام ما الّذي يحملكم على الذكر؟ قالوا: الخوف من عقاب اللّه، فقال: أصبتم. ثمّ مرّ على قوم آخرين يذكرون اللّه فقال: ما الّذي حملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في ثواب اللّه فقال: أصبتم. ثمّ مرّ على قوم آخرين فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب و لا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلّة العبوديّة و عزّة الربوبيّة و تشريف القلب بمعرفته، فقال: عيسى عليه السّلام أنتم المحقّون المحقّقون.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

لمّا لمزوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الصدقات شرح اللّه لهم مصارف الصدقات و المراد من الصدقات في الآية الزكاة المفروضة أي ليست إلّا لهؤلاء القوم.

قيل: الفرق بين «الفقير» و «المسكين» أنّ الفقير هو المتعفّف الّذي لا يسأل، و المسكين الّذي يسأل.

ص: 150

و قيل: بالعكس. و جاء في الحديث ما يدلّ على القول الثاني؛ فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ليس المسكين الّذي يرده الاكلة و الاكلتان و التمرة و التمرتان، و لكنّ المسكين الّذي لا يجد غنيّا فيغنيه و لا يسأل الناس شيئا و لا يفطن منه فيتصدّق عليه.

و قيل: الفقير هو الزمن المحتاج و المسكين هو الصحيح المحتاج.

و قيل: إنّ الفقير هو الّذي أسوأ حالا من المسكين؛ فإنّ الفقير هو الّذي لا شي ء له و المسكين الّذي له بلغة من العيش لا يكفيه؛ محتجّين بهذه الآية و هي «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (1) و بأنّ الفقر مشتقّ من فقار الظهر فكأنّ الحاجة و الاضطرار قد كسرت فقار ظهره.

و يمكن أنّهما صنف واحد و إنّما ذكر الصنفين تأكيدا للأمر.

[وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها] و المراد سعاة الزكاة و جباتها [وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ و كان هؤلاء قوما من الأشراف في زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كان يعطيهم سهما من الزكاة ليألفهم على الإسلام و يستعين بهم على قتال العدوّ.

ثمّ اختلف في هذا السهم هل هو ثابت أم لا؟ فقيل: هو ثابت في كلّ زمان و اختاره الجبّائيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام إلّا أنّه قال: من شرطه أن يكون إمام عادل يتألّفهم على ذلك. و قيل: إنّ ذلك كان خاصّا بزمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله، ثمّ سقط بعده لأنّ اللّه أعزّ الإسلام.

[وَ فِي الرِّقابِ أي و في فكّ الرقاب بالعتق و أراد به المكاتبين، و يشمل قوما قد لزمهم كفّارات في قتل الخطاء و في الظهار و قتل الصيد في الحرم و في الأيمان و ليس لهم ما يكفّرون و هم مؤمنون فجعل اللّه لهم سهما في الصدقات ليكفّر عنهم و يفكّون رقابهم من الرقّيّة و من الكفّارات.

[وَ الْغارِمِينَ و هم قوم ركبهم الدين و أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف و معصية فيجب على الإمام أن يقضي ذلك من الصدقات.

[وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هو الجهاد و يدخل فيه عند أصحابنا جميع مصالح المسلمين

ص: 151


1- الكهف: 78.

كالمساجد و أمثالها أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجّون به أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتّى يتقوّون به.

[وَ ابْنِ السَّبِيلِ أبناء الطريق الّذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيذهب مالهم و يقطع عليهم، فعلى الإمام أن يعطيهم و يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات. و الصدقات تنقسم ثمانية أجزاء فيعطى كلّ إنسان من هذه الثمانية على قدر ما يحتاجون إليه بلا سرف و لا تقتير.

و الحكمة في إيجاب الزكاة امور بعضها مصالح عائدة إلى معطي الزكاة و بعضها عائدة إلى آخذها.

أمّا الراجعة إلى المعطي أنّ المال محبوب بالطبع و أنّ القدرة صفة محبوبة لذاتها لأنّه لا يمكن أن يقال: إنّ كلّ شي ء فهو محبوب لمعنى آخر و إلّا لزم إمّا الدور أو التسلسل و هما محالان فوجب في الأشياء المحبوبة الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته، و أنّ القدرة و الكمال صفة محبوبة لذاتها كما أنّ النقصان مكروه لذاته فهذه المحبوبيّة يوجب الاستغراق في الدنيا و يذهل النفس عن التأهّب للآخرة و عن حبّ اللّه.

ثمّ إنّ النفس الناطقة لها قوّتان نظريّة و عمليّة فالنظريّة كمالها في التعظيم لأمر اللّه و العمليّة كمالها الشفقة على خلق اللّه فبالزكاة يحصل لجوهر الروح هذا الكمال و هو اتّصافه بكونه محسنا إلى الخلق فيتخلّق بأخلاق اللّه.

ثمّ إنّ الناس إذا علموا أنّه ساع في إيصال الخير إليهم أحبّوه طبعا؛ قال صلى اللّه عليه و آله:

جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها و بغض من أساء إليها. خصوصا إذا كانوا فقراء أمدّوهم بالدعاء و للقلوب آثار و للأرواح. و قد يكون تصير تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير و النعمة و إليه الإشارة بقوله «وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (1) و بقوله عليه السّلام: حصّنوا أموالكم بالزكاة. و لا تغفل عن دعاء الخير؛ فقد قيل:

سهام أيدي القانتين في السحرأنفذ في الأحشاء من و خز الإبر

ثمّ أمر اللّه بالزكاة مقصوده أنّه يحصل للمزكّي حالة اخرى و هي أنّه كان له الاستغناء بالشي ء فبعد الأداء صار له حالة الاستغناء عن الشي ء، و هذا المقام أعلى و أشرف.

ص: 152


1- الرعد: 18.

و المال إذا أنفقه الإنسان في وجوه الصلاح و البرّ بقي بقاء لا يمكن زواله، بخلاف ما إذا بقي في يده كالمشرف على الهلاك و التلف لأنّه على كلّ حال لا يحمل معه إلى قبره و إذا أنفقه في طلب الرضوان فقد ذهب به إلى يوم القيامة و نفع المال يكون لذلك اليوم.

ثمّ إنّ شكر النعمة عبارة عن صرف النعمة إلى رضاء المنعم و مرضاته على أنّه إذا فضل المال عن قدر الحاجة و حضور إنسان آخر محتاج فحينئذ للمالك سلطة و له حقّ لأنّه سعى في تحصيله و اكتسابه و للفقير حقّ لاحتياجه فاقتضت الحكمة الإلهيّة إبقاء الأكثر للمالك و المكتسب و اليسير منه للفقير و هو الزكاة، و معلوم أنّ المال الفاضل عن الحاجات الأصليّة إذا أمسكه الإنسان و حبسه في بيته بقي المال معطّلا عن المقصود الّذي لأجله خلق، و ذلك منع عن ظهور حكمة اللّه و هو غير جائز.

ثمّ إنّ الفقراء عيال اللّه لقوله: «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ (فِي الْأَرْضِ) إِلَّا عَلَى (اللَّهِ) رِزْقُها» (1) و الأغنياء خزّان اللّه لأنّ الأموال الّتي في أيديهم أموال اللّه و لو لا أنّ اللّه ألقاها في أيديهم ما ملكوا حبّة فكم عاقل يسعى و لا يملئ بطنه طعاما و كم أبله جلف تأتيه الدنيا صفوا و صحيح أنّ الملك أن يقول لخازنه اصرف شيئا من الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي. و المال إذا كان بالكلّيّة في يد الغنيّ مع أنّه غير محتاج إليه، و إهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم فوجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.

ثمّ إنّ الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح الفقراء ربّما حملهم شدّة الحاجة على الالتحاق بأعداء المسلمين أو الإقدام على الأفعال القبيحة كالسرقة و غيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفوائد.

قال صلى اللّه عليه و آله: الإيمان نصفان صبر و شكر، فالمال محبوب بالطبع فوجدانه يوجب الشكر و فقدانه يوجب الصبر فأعطيتك أيّها الغنيّ المال و النعمة فإن شكرت و صرفت النعمة في رضاي فصرت من الشاكرين، و بسبب فقدان بعض مالك في أداء الزكاة فصبرت على فقده فصرت من الصابرين، و أما أنت أيّها الفقير ما أعطيتك المال فصبرت فصرت من الصابرين و حكمت على الغنيّ أن يصرف إليك طائفة من ذلك و أدخلته في ملكك و ارتفعت حاجتك

ص: 153


1- هود: 7.

و فاقتك فشكرتني فصرت من الشاكرين. فكان إيجاب الزكاة موجبا لصلاح المكلّفين من الطائفتين لتتّصفوا بصفة الصبر و الشكر و إن كان الغنيّ قد أنعم على الفقير بهذا الدينار فقد أنعم الفقير على الغنيّ بأن خلّصه بهذا الدينار عن عذاب النار، فهذه وجوه في بيان حكمة الزكاة بعضها يقينيّة و بعضها إقناعيّة.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

النزول: بيان نوع آخر من جهالات المنافقين كانوا يطعنون النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه اذن أي يقبل كلّما يقال له و يصدّق و «اذن خير» مرفوعين قرئ، و قرئ بالإضافة إلى «خير» أي هو اذن خير لا اذن شرّ. قال ابن عبّاس: إنّ جماعة من المنافقين ذكروا النبيّ صلى اللّه عليه و آله بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم: لا تقولوا فإنّا نخاف أن يبلغه ما نقول. فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما نشاء، ثمّ نذهب إليه و نحلف أنّا ما قلنا فيقبل قولنا و إنّما محمّد اذن سامعة. فنزلت الآية و قيل: إنّ المنافقين كانوا يقولون: ما هذا الرجل إلّا اذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له.

قوله: [وَ رَحْمَةٌ] فمن رفع «رحمة» كان المعنى: هو اذن خير و رحمة و أمّا الجرّ في «رحمة» فعلى العطف على «خير» فإن قيل: هلّا استغني بشمول الخير الرحمة؛ فالقول منه تخصيص الرحمة بالذكر كقوله تعالى «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» (1) ثمّ خصّ خلق الإنسان و إن كان قوله: «خلق» يعمّ الإنسان و غيره فكذلك الرحمة.

و بالجملة المعنى أنّ بعض المنافقين يؤذون النبيّ و الاذن هاهنا بالقول، يقولون:

هو يستمع إلى ما يقولون له و يصغي إليه و يقبله.

[قُلْ يا محمّد: هو [أُذُنُ خَيْرٍ] أي يستمع إلى ما هو [خَيْرٍ لَكُمْ و هو الوحى و قيل: المراد هو يسمع الخير و يعمل به، و من قرأ بعدم الإضافة فمعناه قل: كونه إذنا أصلح لكم لأنّه يقبل

ص: 154


1- العلق: 1.

عذركم و يستمع إليكم و لو لم يقبل عذركم لكان شرّا لكم فكيف تعيبونه بما هو خير لكم؟

[يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و عدّي الإيمان إلى اللّه بالباء و إلى المؤمنين باللام لأنّ المراد بإيمان اللّه التصديق الّذي هو نقيض الكفر، و الإيمان المعدّى باللام معناه التسليم و التصديق كقوله: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» (1) و قوله تعالى:

«وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا» (2) و قوله: «أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (3).

[وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ معناه أنّ هذا النبيّ الّذي تعيبون عليه بأنّه اذن، هذه الصفة صفة مدح لوجوه:

الاول هو اذن الخير، و بيّن الخيريّة أنّه يؤمن باللّه و كلّ من آمن باللّه هو خائف من اللّه و لا يقدم على الإيذاء بالباطل و يتسلّم للمؤمنين قولهم إذا توافقوا على الصلاح، فيقبل قولهم.

و الثاني أنّه رحمة للّذين آمنوا و هذا أيضا يوجب الخيريّة لأنّه يجري أمركم على الظاهر و لا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم و لا يسعى في هتك أستاركم. و أمّا على قراءة التنوين أي اذن سامعة واعية خير لكم من أن لا يكون كذلك و رحمة لكم لأنّ من آمن باللّه بسبب هدايته إيّاكم خير لكم. و الّذين يؤذونه صلى اللّه عليه و آله [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

بيّن قباحة أفعال المنافقين بأنّهم يقدمون على الأيمان الكاذبة. نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك فلمّا رجع النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتوه و اعتذروا و حلفوا ليرضوا المؤمنين بيمينهم الكاذبة بأنّ الّذي بلغكم عنّا باطل، فاللّه يخبر بأنّ هذه الاعتذار منهم لطلب رضى الناس و اللّه أحقّ أن يرضوه و رسوله أحقّ أن يرضوه و حذف لدلالة الكلام

ص: 155


1- يونس: 83.
2- يوسف: 17.
3- الشعراء: 111.

عليه كقول الشاعر:

نحن بما عندنا و أنت بماعندك راض و الرأي مختلف

و المعنى نحن بما عندنا راضون.

ثمّ قال سبحانه: على وجه التقريع لهم قوله سبحانه تعالى:

[سورة التوبة (9): آية 63]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

أي و ما علموا أنّ من يجاوز حدود اللّه الّتي أمر اللّه المكلّفين أن لا يتجاوزوها فإنّ للمتجاوز خلود النار و ذلك الخلود هو الخزي العظيم و الهوان و الذلّ الشديد.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 64]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

النزول: قال الحسن: اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبرئيل بأسمائهم فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّ أناسا اجتمعوا على كيت و كيت فيقرموا و ليستغفروا حتّى أشفع لهم فلم يقوموا فقال صلى اللّه عليه و آله: بعد ذلك: قم يا فلان و يا فلان حتّى أتى على آخرهم فقالوا: نعترف و نستغفر فقال صلى اللّه عليه و آله: أنا كنت أوّل الأمر أطيب نفسا بالشفاعة و اللّه كان أسرع في الإجابة و أمّا الآن فلا، اخرجوا عنّي اخرجوا عنّي فلم يزل يقول حتّى خرجوا بالكلّيّة.

و قيل: إنّ سبب النزول أنّ عند رجوع النبيّ صلى اللّه عليه و آله من تبوك وقف على العقبة اثنا عشر رجلا ليفتكوا به فأخبره جبرئيل و كانوا متلثّمين في ليلة مظلمة و أمره أن يرسل صلى اللّه عليه و آله إليهم من يضرب وجوه رواحلهم؛ فأمر صلى اللّه عليه و آله حذيفة بذلك فضربها حتّى نحّاهم، ثمّ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لحذيفة: من عرفت من القوم؟ فقال: لم أعرف منهم أحدا فذكر صلى اللّه عليه و آله أسماءهم و عددهم له، و قال: إنّ جبرئيل أخبرني بذلك فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم ليقتلوا فقال: أكره أن تقول العرب: قاتل محمّد بأصحابه حتّى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا اللّه ذلك.

فإن قيل: المنافق كافر و الكافر كيف يحذر نزول الوحي على الرسول؟

فالجواب أنّ القوم و إن كانوا كافرين بدين الرسول إلّا أنّهم لمّا شاهدوا مرارا أنّ

ص: 156

الرسول يخبرهم بما يضمرونه فلهذه التجربة كانوا يخافون و يحذرون و بعضهم كانوا شاكّين في صحّة نبوّته صلى اللّه عليه و آله و ما كانوا قاطعين بفسادها، و الشاكّ خائف لا محالة.

روي عن أبي عبد اللّه الصادق صلوات اللّه عليه و على آبائه أنّهم ائتمروا بينهم ليقتلوه، و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّا كنّا نخوض و نلعب و إن لم يفطن نقتله.

[سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 66]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

النزول: قيل: إنّ جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظنّ هذا الرجل أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فقال صلى اللّه عليه و آله: احبسوا عليّ الركب فدعاهم فقال لهم قلتم كذا و كذا؟ فقالوا: كنّا نخوض و نلعب و حلفوا على ذلك فنزلت الآية.

و قيل: كان عند منصرفه عن غزوة تبوك إلى المدينة بين يديه أربعة نفر ثلاثة يستهزئون و يتحدّثون و يضحكون، و واحدهم يضحك و لا يتكلّم فنزل جبرئيل و أخبر رسول اللّه فدعا عمّار و قال: إنّ هؤلاء يستهزئون بي و بالقرآن أخبرني جبرئيل و لئن سألتهم ليقولنّ كنّا نتحدّث بحديث الركب فأتبعهم عمّار و قال لهم: لم تضحكون؟ قالوا: نتحدّث بحديث الركب فقال عمّار: صدق اللّه و رسوله.

أي إذا سألتهم عن طعنهم في الدين و استهزائهم بالنبيّ و بالمسلمين يقسمون و يحلفون إنّا كنّا نخوض خوض الركب في الطريق لا على طريق الجدّ و لكن على طريق اللعب و اللهو، قل يا محمّد: أ بآياته و حججه و كتابه [كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا] بالمعاذير الكاذبة فإنّكم بما فعلتموه [قَدْ كَفَرْتُمْ بعد أن كنتم مظهرين للإيمان.

[إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ] عن قوم منهم إذا تابوا [نُعَذِّبْ طائِفَةً] اخرى لم يتوبوا و أقاموا على النفاق و «الطائفة» اسم للجماعة لأنّه اسم لما تطيف و تحيط بغيره، و روي أنّ هاتين الطائفتين كانوا ثلاثة فهزأ اثنان و ضحك واحد و هو الّذي تاب من نفاقه، و اسمه محشّى بن حمير فعفى اللّه عنه. و قد يسمّى الواحد طائفة على معنى أنّها نفس طائفة.

ص: 157

قوله: [تَسْتَهْزِؤُنَ المراد الاستهزاء بتكاليف اللّه أو بذكر اللّه أو بقدرة اللّه كما هو عادة بعض الجهلة و الملاحدة.

و المراد من الاعتذار محو الذنوب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست، يقال:

مررت بمنزل معتذر أي مندرس. أخذ هذا المعنى بهذه المناسبة لأنّ المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.

و قيل: الاعتذار القطع و منه يقال للقلفة عذرة لأنّها تقطع. و عذرة الجارية من هذا المعنى لأنّها تقطع، فالعذر لمّا صار سببا لقطع اللوم سمّي عذرا.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 67 الى 68]

الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)

المعنى: المنافقون و المنافقات بعضهم من جملة بعضهم، و بعضهم مربوط ببعضهم في الاجتماع على النفاق و الشرك كقولك: أنا من فلان و فلان منّي أي أمرنا واحد و كلمتنا واحدة. أو بعضهم على دين بعض ذكورهم كإناثهم في العقيدة الخبيثة.

[يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ] و لفظ المنكر يدخل فيه كلّ قبيح إلّا أنّ هاهنا المراد تكذيب الرسول [وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ و يدخل فيه كلّ حسن إلّا أنّ المراد هاهنا الإيمان بالرسول [وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ من كلّ خير واجب من زكاة و صدقة و إنفاق في سبيل اللّه و الغرض تخلّفهم عن الجهاد.

[نَسُوا] طاعة [اللَّهَ فترك رحمته لهم و جعلوا اللّه كالمنسيّ حيث لم يطيعوه فجعلهم اللّه في حكم المنسيّ عن الثواب، و ذكر ذلك لازدواج الكلام و إلّا فالنسيان لا يجوز عليه سبحانه على سبيل الحقيقة.

ثمّ أخبر سبحانه بأنّ المنافقين خارجون عن الإيمان و هم المتمردّون الفاسقون و وعد الّذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر و هم المنافقون و الكفّار نار جهنّم.

و إنّما فصّل النفاق من الكفر و إن كان النفاق هو الكفر؟ ليتبيّن الوعيد على كلّ

ص: 158

واحد من الصنفين [خالِدِينَ و دائمين فيها و حسبهم العقاب فيها كفاية ذنوبهم أي على قدر فعلهم عقوبتهم و أبعدهم من رحمته و خيره [وَ لَهُمْ عَذابٌ لا يزول عنهم.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 69]

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

قوله: «كَالَّذِينَ» هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب للالتفات أي فعلتم كأفعال الّذين من قبلكم. شبّه المنافقين بالكفّار الّذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر و القبائح مع أنبيائهم.

ثمّ قال سبحانه: أولئك الكفّار [كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ (أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ) أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا] في الدنيا ثمّ بادوا و هلكوا و انقلبوا إلى عذاب الدائم، فاستمتعوا أولئك بنصيبهم و حظّهم من الدنيا بأن صرفوها في شهواتهم المحرّمة و فيما نهاهم اللّه.

فأنتم أيضا استمتعتم بحظّكم من الدنيا و خضتم في الكفر و الاستهزاء كما خاض الأوّلون.

[أُولئِكَ الذين هم كذلك أعمالهم محبوطة، أي كما أنّ المؤمنين يثابون بأعمال الخير من البرّ و الإنفاق و صلة الرحم هؤلاء ليسوا كذلك؛ لأنّ الكفر يحبط العمل و لا فائده لهم بها في الآخرة و لهم الخسران.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة كالّذين من قبلكم هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم لا أعلم إلّا أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لتتّبعنّهم حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه.

و روي مثل ذلك عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا بباع حتّى لو أنّ أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول اللّه: كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب قال: فهل الناس إلّا هم؟

ص: 159

و قال عبد اللّه بن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل تتّبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

قوله: [سورة التوبة (9): آية 70]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

المعنى: ألم يأت هؤلاء المنافقين الموصوفين أخبار الكفّار الّذين كانوا قبلهم الطوائف الستّة الّذين خالفوا أنبياءهم و عذّبهم اللّه بطرق العذاب.

فأوّلهم: قوم نوح، و اللّه أهلكهم بالإغراق.

و ثانيهم: عاد، و اللّه أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم.

و ثالثهم: ثمود، و اللّه أهلكهم بإرسال الصيحة و الصاعقة.

و رابعهم: قوم إبراهيم، و اللّه أهلكهم بسلب النعمة عنهم، و سلّط اللّه البعوضة على دماغ نمرود.

و خامسهم: قوم شعيب و هم أصحاب مدين، و اللّه أهلكهم بعذاب يوم الظلّة.

و سادسهم: قوم لوط أهل المؤتفكات، أهلكهم اللّه بأنّ جعل عالي أرضهم سافلها. و معنى «الائتفاك»: الانقلاب، و تلك القرى انقلبت. و «المؤتفكات» صفة القرى [أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالدلائل الواضحة.

و قوله: «أَ لَمْ يَأْتِهِمْ» و إن كان بصيغة الاستفهام إلّا أنّ المراد التقرير. و ما كان عذابهم ظلما من اللّه بل باستحقاقهم.

[سورة التوبة (9): آية 71]

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

لمّا وصف حال الكفّار و عذابهم شرع في وصف المؤمنين و ما أعدّ لهم من الثواب و النعيم أي كما أنّ المنافقين و المنافقات بعضهم من جنس بعض كذلك المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض.

ص: 160

و هذا البيان اتّصال النقيض بالنقيض أي يتولّون بعضهم بعضا و يلتزم كلّ واحد منهم نصرة صاحبه.

[يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي ما أوجب اللّه فعله عليهم [وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] و هو ما نهى اللّه عن فعله. و يداومون على فعل الصلاة و إخراج الزكاة و يمتثلون أوامر اللّه [أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي الّذين هذه صفتهم سيرحمهم اللّه في الآخرة [إِنَّ اللَّهَ قادر على الرحمة و العذاب.

[سورة التوبة (9): آية 72]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

لمّا ذكر اللّه الوعد في الآية السابقة على سبيل الإجمال ذكر في هذه الآية على سبيل التفصيل أي إنّ تلك الرحمة أشياء:

أولها: [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أراد بها البساتين الّتي يتناولها المناظر لأنّه قال بعده: «وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» فحينئذ تكون منازلهم في جنّات عدن و مناظرهم الجنّات الّتي هي البساتين بدليل تغاير العطف. و قد كثر الكلام في صفة [جَنَّاتِ عَدْنٍ .

و سأل عمران بن الحصين و أبو هريرة عن رسول اللّه عن قوله: [وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً].

قال صلى اللّه عليه و آله: قصر في الجنّة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء في كلّ بيت سبعون سريرا على كلّ سرير سبعون فراشا على كلّ فراش زوجة من الحور العين في كلّ بيت سبعون مائدة على كلّ مائدة سبعون لونا من الطعام و في كلّ بيت سبعون و صيفة، يعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع. و عن ابن عبّاس أنّها دار الّتي لم ترها عين و لم تخطر على قلب بشر. و لعلّ مراده أنّها دار المقرّبين عند اللّه لأنّه كان أعلم من أن يثبت له دارا.

و قال عبد اللّه بن عمر: إنّ في الجنّة قصرا يقال له عدن، حوله البروج و له خمسة آلاف باب، على كلّ باب خمسة آلاف حرّة لا يدخلها إلّا نبيّ أو وصيّ أو صدّيق أو شهيد.

و «العدن» بمعنى الإقامة، و على هذا الاشتقاق و المعنى الجنّات كلّها جنّات عدن و لكنّه

ص: 161

اسم علم لموضع مخصوص.

[وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ] روي أنّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟ فيقولون:

و ما لنا أن لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: أما أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: و أيّ شي ء أفضل من ذلك؟ قال: احلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.

فدلالة هذا الحديث أنّ السعادة الروحانيّة أفضل من سعادة الجسمانيّة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

الآية تدلّ على أنّ النبيّ مأمور بالجهاد مع الكفّار و المنافقين. و المنافق هو الّذي يظهر الإيمان و يبطن الكفر و متى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته.

و ذكروا أقوالا بسبب هذا الإشكال:

فالقول الأوّل أنّ الجهاد مع الكفّار، و تغليظ القول مع المنافقين و هذا بعيد؛ لأنّ ظاهر القول يقتضي الأمر بجهادهما معا و كذا ظاهر قوله: «وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ» راجع إلى الفريقين.

و القول الثاني: قال الرازيّ- و هو الصحيح-: أنّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد و ليس في اللفظ ما يدلّ على أنّ ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر. و في المجمع في قراءة أهل البيت: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ» لأنّ النبيّ لم يجاهد المنافقين بالسيف و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ» هكذا نزلت، فجاهد رسول اللّه الكفّار و جاهد عليّ عليه السّلام المنافقين فجاهد عليّ عليه السّلام جهاد رسول اللّه.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)

هذه الآية تدلّ على أنّ أقواما من المنافقين قالوا كلمات فاسدة.

ثمّ لمّا قيل لهم: إنّكم ذكرتم هذه الكلمات حلفوا أنّهم ما قالوا.

و المفسّرون ذكروا في أسباب النزول وجوها:

ص: 162

قيل: إنّ رسول اللّه كان جالسا في ظلّ حجرة فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان فلم يلبثوا أن جاء رجل أزرق فدعاه رسول اللّه، فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما قالوا: فأنزل اللّه الآية، عن ابن عبّاس.

و قيل: خرج المنافقون مع رسول اللّه إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول اللّه و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فقال لهم:

ما هذا الّذي بلغني عنكم؟ فحلفوا باللّه ما قالوا شيئا من ذلك، عن الضحّاك.

و قيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، و ذلك أنّ رسول اللّه خطب ذات يوم بتبوك و ذكر المنافقين فسمّاهم رجسا و عابهم فقال الجلاس: و اللّه لئن كان محمّد صادقا فيما يقول فنحن شرّ من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل و اللّه إنّ محمّدا لصادق و أنتم شرّ من الحمير، فلمّا انصرف النبيّ صلى اللّه عليه و آله إلى المدينة أتاه فأخبره بما قال الجلاس. فقال الجلاس: كذب يا رسول اللّه فأمر هما النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف باللّه ثمّ قام عامر فحلف باللّه لقد قاله، ثمّ قال: اللّهم أنزل على نبيّك منك الصدق، فقال:

النبيّ و المؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل قبل أن يتفرّقا بهذه الآية حتّى بلغ: [فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ فقام الجلاس فقال: يا رسول اللّه قد عرض عليّ التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك لقد قلته و أنا أستغفر اللّه و أتوب إليه، فقبل رسول اللّه منه.

و قيل: نزلت في عبد اللّه بن ابيّ بن سلول حين قال: «لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» (1).

و قيل: نزلت في أهل العقبة فإنّهم ائتمروا أن يغتالوا يقتلوا رسول اللّه في عقبة عند مرجعهم من تبوك و قصدوا أن يقطعوا أنساع راحلته، ثمّ ينخّسوا بها فاطّلعه اللّه على ذلك و كان ذلك من جملة معجزاته؛ لأنّه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلّا بوحي من اللّه. و بالجملة أظهر اللّه أسرار المنافقين فقال: [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كاذبين [ما قالُوا] ما حكي عنهم.

ثمّ حقّق عليهم ذلك و أقسم بأنّهم قالوا و طعنوا في الإسلام و كفروا بعد إظهار إسلامهم.

ص: 163


1- المنافقون: 8.

[و همّوا بأمر لم ينالوا] الأمر إمّا همّهم بفتك الرسول ليلة العقبة و التنفير لراحلته و إمّا قصدهم بإخراج النبيّ من المدينة أو الفساد و التضريب بين أصحابه.

[وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ أي فعلوا بخلاف ما يقتضي فإنّ إغناءهم يوجب شكر النعمة و أنّهم قابلوا الشكر بالكفران و النقمة فإنّه قبل ذلك كانوا في ضنك العيش لا يركبون الخيل و لا يحوزون الغنيمة، و بعد قدومه صلى اللّه عليه و آله أخذوا الغنائم و وجدوا الدولة و ذلك يوجب أن يكونوا محبّين له، و هم قابلوا بالنقمة و الفساد و هذا كقول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ قال: [فَإِنْ يَتُوبُوا] هؤلاء المنافقون خير لهم و إن يعرضوا عن الحقّ يعذّبهم اللّه عذابا أليما و ليس لهم وليّ و لا ناصر.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

و من المنافقين من عاهد اللّه. نزلت في ثعلبة بن خاطب قال لرسول اللّه: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا فقال صلى اللّه عليه و آله: يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه و قال: و الّذي بعثك بالحقّ لئن رزقني اللّه مالا لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه.

فدعا له فاتّخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود حتّى ضاقت بها المدينة فنزل واديا بها فجعل يصلّي الظهر و العصر و يترك ما سواهما، ثمّ نمت و كثرت حتّى ترك الصلاة إلّا الجمعة ثمّ ترك الجمعة و طفق يسأل الركبان و يتلقّى الركبان عن الأخبار فسأل رسول اللّه عنه فأخبره بخبره فقال: يا ويح ثعلبة فنزل: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» فبعث إليه برجلين و قال: مرّا بثعلبة و خذا صدقاته فعند ذلك قال ثعلبة لهما: ما هذه إلّا جزية أو اخت الجزية و لم يدفع الصدقة، فأنزل اللّه هذه الآية.

فقيل له: قد أنزل اللّه فيك كذا و كذا فأتى رسول اللّه و سأله أن يقبل صدقته فقال صلى اللّه عليه و آله:

ص: 164

إنّ اللّه منعني من قبول صدقتك فحثا التراب على رأسه فقال صلى اللّه عليه و آله: قد قلت لك فما أطعتني فرجع إلى منزله و قبض رسول اللّه.

و قيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام و أبطأ عليه و جهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه اللّه ذلك المال ليصّدّقنّ فآتاه اللّه ذلك و لم يفعل.

و «المعاهدة» أن تقول: عليّ عهد اللّه لأفعلنّ كذا أو عاهدت اللّه لأفعلنّ كذا فإنّه بذلك قد عقد على نفسه وجوب ما ذكره و قصده.

قوله: [فَلَمَّا آتاهُمْ و أعطاهم اللّه ما اقترحوه [بَخِلُوا بِهِ أي شحّت نفوسهم عن الوفاء بالعهد [وَ تَوَلَّوْا] عن ما عهدوا [وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن أمر اللّه [فَأَعْقَبَهُمْ و أورثهم بخلهم بما أوجبوا على أنفسهم [نِفاقاً] في قلوبهم فصار البخل سببا لحصول النفاق في قلوبهم بحرمان التوبة [إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء البخل و نقض العهد أو يوم يلقون اللّه و هو اليوم الآخر. و هذا إخبار من اللّه أنّ هؤلاء المنافقين يموتون على الكفر بما أخلفوا اللّه ما وعدوه و بتكذيبهم أحكامه.

[أَ لَمْ يَعْلَمُوا] هؤلاء المنافقون [أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يخفون في أنفسهم و ما يتناجون بينهم؟ أي يجب أن يعلموا أنّه عالم بكلّ ما غاب عن علم كلّ عالم.

ثمّ هاهنا مسألة؛ هل من شرط المعاهدة أن يحصل التلفّظ بها باللسان أولا حاجة إلى التلفظ حتّى لو نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد؟ قال جماعة: إنّ أصحاب هذا القول الّذي بالنيّة ينعقد العهد قالوا: إنّ قوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ» كان شيئا نووه في أنفسهم؛ ألا ترى أنّه تعالى قال: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ»؟

و قال المحقّقون: هذه المعاهدة مقيّدة بالتلفّظ و الدليل عليه قوله صلى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه قد عفى عن امّتي ما حدثت به نفوسها و لم يتلفّظوا به. و أيضا فقوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» إخبار عن من تكلّمه فهذا القول و ظاهره مشعر بالقول باللسان.

و بالجملة قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ثلاث من كنّ فيه فهو منافق و إن صلّى و صام و زعم أنّه مؤمن: إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان.

ص: 165

و عنه صلى اللّه عليه و آله قال: تقبّلوا لي ستّا أتقبّل لكم الجنّة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا، و إذا وعدتم فلا تخلفوا، و إذا ائتمنتم فلا تخونوا، و كفّوا أبصاركم و أيديكم و فروجكم؛ أبصاركم عن الخيانة و أيديكم عن السرقة و فروجكم عن الزنا.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 79]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللّه خطبهم ذات يوم و حثّ على الصدقات القوم فجاءه عبد الرحمن بصرّة من دراهم تملأ الكفّ منها، و جاء عاصم بن عديّ الأنصاريّ بسبعين وسق من التمر و جاء علبة بن زيد الحارثيّ بصاع من تمر و قال: آجرت نفسي ليلتي الماضية لرجل لإرسال الماء على نخيله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي و أقرضت الآخر ربّي فأمر النبيّ صلى اللّه عليه و آله بوضعه في الصدقات، فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلّا رياء و سمعة و أمّا أبو عقيل فقد جاء بصاعه لتذكر مع سائر الأكابر؛ فعيّبوا على المكثر بالرياء و على المقلّ بالقلّة و قالوا: إنّ اللّه غنيّ عن صاعه فنزلت هذه الآية أي إنّ المنافقين الّذين يعيبون على المطّوّعين المتنفّلين لطاعة اللّه و مرضاته و يعيبون على فقرائهم مثل أبي عقيل الّذي جهده إتيان صاع من تمر و يسخرون منهم بهذا الفعل أولئك قوم اللّه يسخر بهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

قوله: [سورة التوبة (9): آية 80]

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

قال ابن عبّاس: إنّ عند نزول آية «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ إلخ» في حقّ المنافقين قالوا:

يا رسول اللّه استغفر لنا فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: سأستغفر لكم و عزم بالاستغفار لهم فنزلت فترك صلى اللّه عليه و آله الاستغفار.

الصيغة صيغة الأمر و المراد به الإخبار في مبالغة الإياس من المغفرة أي لو طلبت الاستغفار أو تركته سواء في أنّ اللّه لا يقبلها [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً] المراد بالسبعين مرّة المبالغة لا العدد المخصوص كقول القائل: لو تقول لي ألف مرّة ما قبلت منك، و جاء في كلام العرب المبالغة في عدد

ص: 166

السبع و السبعين، و لهذا قيل: للأسد السبع لأنّهم تأوّلوا منه لقوّته أنّه ضوعفت له سبع مرّات، و أمّا ما روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: و اللّه لأزيد على السبعين فإنّه خبر واحد لا يعوّل عليه.

و يحتمل أن يكون النبيّ صلى اللّه عليه و آله يرجو أن يكون لهم لطف يصلحون به فعزم على الاستغفار لهم فلمّا نزلت الآية عرف أنّه ليس لهم لطف و ترك العزم.

و يحتمل أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يخبر بأنّ الكافر لا يغفر له أو قبل أن يمنع منه و يجوز أن يكون استغفاره لهم واقعا بشرط التوبة عن الكفر، فمنعه اللّه منه و أخبره بأنّهم لا يؤمنون أبدا فلا فائدة في الاستغفار لهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ حرمان المغفرة لهم بكفرهم باللّه و رسوله [وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ .

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

بيان نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين أخبر سبحانه أنّ جماعة منهم الّذين خلّفهم رسول اللّه و لم يخرجهم معه إلى تبوك لمّا استأذنوه في التأخير و القعود فأذن لهم فرحوا بقعودهم عن الجهاد خلاف رسول اللّه أي بعده. و قيل: معناه لمخالفتهم الرسول [وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا للمسلمين لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ] و مقصودهم صدّ المسلمين عن الغزو و كانوا يقولون للمسلمين: لا تخرجوا إلى الغزو سراعا في هذا الحرّ [قُلْ لهم يا محمّد: [نارُ جَهَنَّمَ الّتي وجبت لهم بالتخلّف عن الرسول و أمر اللّه [أَشَدُّ حَرًّا] من هذا الحرّ فهي أولى بالاحتراز، إذ لا يعتد بهذا الحرّ بالنسبة إلى ذلك الحرّ [لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ وعيد اللّه و وعده.

ص: 167

فلو قيل: إنّ هؤلاء المنافقين كانوا متخلّفين لأنّهم احتالوا في التخلّف فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلّفون؛ و أجابوا بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله منع أقواما من الخروج معه لعلمه بأنّهم يشوّشون و يفسدون فحينئذ كانوا مخلّفين لا متخلّفين. ثمّ هؤلاء المتخلّفين صاروا مخلّفين في الآية الآتية و هي قوله: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» فلمّا منعهم اللّه من الخروج معه صاروا بسبب المنع مخلّفين.

و قوله: «بِمَقْعَدِهِمْ» قال ابن عبّاس: يريد المدينة فعلى هذا «المقعد» اسم للمكان، و قال غيره: بمقعدهم أي بقعودهم و على هذا اسم للمصدر «و خلاف» قيل: معناه خلف أي بعد «رسول اللّه» و على هذا الخلاف اسم للجهة المعيّنة كالخلف الّذي يقابل القدّام في المعنى، و أنّ الإنسان متوجّه إلى قدّامه فجهة خلفه مخالف لجهة قدّامه في كونها جهة متوجّها إليها.

قوله: [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً] هذا تهديد لهم في صورة الأمر أي فليضحك هؤلاء المنافقون في الدنيا قليلا؛ لأنّ ذلك يفنى و إن دام إلى الموت و ليبكوا كثيرا في الآخرة لأنّ ذلك يوم مقداره خمسين ألف سنة و هم فيه يبكون فصار بكاؤهم كثيرا جزاء بما كسبوا من النفاق و الكفر و التخلّف عن الجهاد.

قال ابن عبّاس: إنّ أهل النفاق في النار عمر الدنيا فلا يرقى لهم دمع و لا يكتحلون بنوم.

و روى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا.

قوله تعالى: [فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يا محمّد و ردّك من غزوتك هذه أي غزوة تبوك إلى طائفة منهم أي من هؤلاء المنافقين الّذين تخلّفوا عنك و عن الخروج معك و استأذنوك للخروج معك في غزوة اخرى [فَقُلْ لهم: [لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً] إلى غزوة [وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا].

ثمّ بيّن سبحانه سبب ذلك فقال: [إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] أي عن غزوة

ص: 168

تبوك [فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ بعد هذا في كلّ غزوة قيل: معناه مع الصبيان و النساء و قيل:

مع الّذين تخلّفوا من غير عذر و قيل: أي مع الخالفين قال الفرّاء: يقال: عبد خالف إذا كان مخالفا.

و قيل: معناه اقعدوا مع الأخسّاء و الأدوناء؛ يقال: فلان خالفة أهله إذا كان أدونهم أو فاسدهم، و منه خلوف فم الصائم إذا تغيّرت و فسدت رائحته.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): آية 84]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)

المراد من الآية تحذير المنافقين لأنّ في الآية السابقة منعهم عن الخروج مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله و في هذه الآية منع الرسول من أن يصلّي على من مات منهم و هذا سبب قويّ في إذلالهم و إهانتهم.

قال ابن عبّاس: إنّه لمّا مرض عبد اللّه بن ابيّ بن أبي سلول عاده رسول اللّه فطلب منه أن يصلّي عليه إذا مات و يقوم على قبره.

ثمّ إنّه أرسل إلى الرسول فطلب منه قميصه ليكفّن فيه فأرسل صلى اللّه عليه و آله القميص الفوقانيّ فردّه و طلب منه الّذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر: لم تعطي قميصك الرجس النجس فقال: إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا فلعلّ اللّه أن يدخل به ألفا في الإسلام و كان المنافقون لا يفارقون عبد اللّه فلمّا رأوه يطلب القميص و يرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف كما ظنّ رسول اللّه ببركة الثوب فلمّا مات عبد اللّه جاء ابنه و هو اسمه عبد اللّه- و كان مؤمنا- و قال لرسول اللّه: إنّ أبي مات فقال صلى اللّه عليه و آله له: صلّ عليه و ادفنه فقال: إن لم تصلّ عليه لم يصلّ عليه مسلم فقام صلى اللّه عليه و آله ليصلّي عليه فنزلت الآية.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: إنّ رسول اللّه رغب في أن يصلّي عليه بعد أن علم كونه كافرا و قد مات على كفره و إنّ صلاة الرسول تجري مجرى الإجلال و التعظيم له و ذلك محظور لأنّ اللّه أعلمه أنّه لا يغفر للكفّار البتّة و كذلك دفع القميص إليه؟.

الجواب: لعلّ السبب فيه أنّه لمّا طلب من الرسول صلى اللّه عليه و آله أن يرسل إليه قميصه غلب على ظنّه أنّه انتقل إلى الإيمان لأنّ هذا الطلب أمارة للإيمان و ذلك وقت يتوب

ص: 169

فيه الفاجر و يؤمن فيه الكافر فلمّا رأى منه هذا الأمر غلب على ظنّه أنّه أسلم و رغب في أن يصلّي عليه فلمّا نزل جبرئيل عليه السّلام و أخبره أنّه مات على كفره و نفاقه امتنع من الصلاة عليه.

و أمّا دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوها. قيل: إنّ العبّاس عمّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا أخذ أسيرا يوم بدر لم يجدوا له قميصا و كان رجلا طويلا فكساه ذلك اليوم عبد اللّه قميصه. و قيل: إنّ المشركين يوم صلح الحديبية قالوا العبد اللّه: إنّا لانتقاد لمحمّد صلى اللّه عليه و آله، و لكنا ننقاد لك، فقال: لا إنّ لي في رسول اللّه أسوة حسنة، فشكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله له ذلك ثمّ إنّ اللّه سبحانه أمره أن لا يردّ السائل بقوله: «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (1) فدفعه لهذا المعنى. و منع القميص لا يليق بأهل الكرم. على أنّ ابنه عبد اللّه كان من صلحاء الصحابة و أنّ الرسول أكرم ابنه بهذا الأمر. و لعلّ اللّه أوحى إليه: إذا دفعت إليه قميصك صار ذلك الأمر حاملا لإسلام ألف نفر من المنافقين ففعل ذلك لهذه المصلحة و قد أسلم ألف.

قوله: [وَ لا تُصَلِ أي لا تصلّ على من مات على الكفر أبدا [وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لأنّه صلى اللّه عليه و آله كان إذا دفن الميّت وقف على قبره و دعاله فمنع منه.

و علّل المنع بسبب أنّهم ماتوا على الكفر و الفسق و لمّا علل المنع بسبب الكفر فما الفائدة في وصفه إيّاهم بالفسق و الفسق أدنى من الكفر؟ فالجواب أنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه و قد يكون خبيثا ممقوتا بالنفاق و الخداع و الكذب و المكر فهؤلاء كانوا كذلك و لذا وصف الفسق. و يوضح بأنّ طريقة النفاق طريقة قبيحة عند أهل العالم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 85]

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85)

اعلم أنّ هذه قد سبق ذكرها في هذه السورة ثمّ ذكرت هاهنا مع تفاوت في الجملة، ففي الآية الاولى: «فَلا تُعْجِبْكَ» بالفاء، و هاهنا بالواو. و في الآية الاولى: «أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ» و هاهنا كلمة «لا» محذوفة. و في الآية الاولى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ» و هنا «أن يعذّبهم» و هناك: «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» و هنا «الحياة» محذوفة و المعنيان متقاربان فما

ص: 170


1- الضحى: 10.

الحكمة في التكرير؟ و هي أنّ أشدّ الأشياء جذبا للقلوب في الاشتغال بالدنيا هو الإعجاب و الاشتغال بالأموال و الأولاد و ما كان كذلك يجب التحذير و التنبيه عليه مرّة بعد اخرى و هذا التكرير للمبالغة في التحذير.

ثمّ إنّه لمّا كان أحبّ الأشياء للرجل المؤمن في المطلوبيّة الرجاء و الغفران أعاد اللّه قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* في سورة النساء مرّتين للتصريح كذلك مع الإعجاب بالمال و الأولاد هاهنا مرّتين للمبالغة و التنبيه على لزوم هذا الأمر.

و قيل: التكرير أراد بالأولى قوما من المنافقين لهم أموال في وقت نزول الآية و أراد بهذه الآية أقواما آخرين، و الكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام مختلفين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره تكرارا بل يجب ذكره و قد ذكرنا أنّ الإرادة تعلّقت بالإزهاق لا بالكفر في تفسير الآية السابقة.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 87]

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)

في هذه الآية بيان تقاعد رؤساء المنافقين عن الجهاد و السورة تطلق على تمام السورة و على بعضها كما أنّ القرآن و الكتاب يقع على كلّه و على بعضه، أي متى نزلت آية أو سورة مشتملة على الأمر بالإيمان و بالجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة و المال منهم في التخلّف عن الغزو و قالوا لرسول اللّه: [ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع الضعفاء و الساكنين في البلد و في تخصيص اولي الطول بالذكر أنّ الذمّ لهم ألزم لكون وجود القدرة على الجهاد و السفر و أنّ من لا مال له و لا قدرة له على السفر لا يحتاج إلى الاستيذان غالبا.

ثمّ عيّرهم بقوله: [رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قال الفرّاء: الخوالف عبارة عن النساء الّتي تخلّفن في البيت فلا يبرحن و قد ذكرنا قبيل هذا معنى الخالف. و كان يصعب على المنافقين هذا التشبيه و على العرب. ثمّ قال: سبحانه: [وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ و معنى الطبع ذكر مرارا في القرآن و هو عبارة عن بلوغ القلب في الميل إلى الكفر

ص: 171

إلى الحدّ الّذي لا يقبل الإيمان و علامة و سواد في القلب يحصل في القلب بسبب اختيار الكفر بحيث إنّه لا يعالج و لا يفقهون حكمة اللّه.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 88 الى 89]

لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

لمّا بيّن حال المنافقين في التخلّف عن الجهاد و الدوام على النفاق بيّن في هذه الآية أنّ حال الرسول و الّذين آمنوا به على سبيل الحقيقة بالضدّ حيث بذلوا الأموال و الأنفس في طلب مرضاة اللّه، أي إذا تخلّف المنافقون فقد توجّه إلى القبول من هو خير منهم و أخلص عقيدة و نيّة.

فذكر ما حصل للمؤمنين به من الفوائد بقوله: [أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ و لفظ «الخيرات» يتناول منافع الدارين و قيل: المراد من الخيرات الحور العين لقوله: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» (1).

ثمّ قال: [وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي متخلّصون من العذاب و العقاب.

ثمّ قال: [أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب قبولهم هذه المرتبة العالية و الدرجات الرفيعة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

هذه الآية شرح حال المنافقين الّذين كانوا خارجين من المدينة من أعراب البوادي.

«المعذر» بالتخفيف الّذي له عذر، و بالتشديد الّذي يعتذر بلا عذر و قال: (لعن اللّه المعذّرين) و قرئ «معذورون» فمن قرأ بالتخفيف أراد الّذين باقون بالعذر و من قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحد هما أن يكون المراد المعتذرون سواء كان لهم عذر أو لم يكن و إنّما أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجهما و الثاني المقصّرين من التعذير.

و بالجملة صنّف اللّه الأعراب صنفين: صنف اعتذروا بالباطل و ليس لهم عذر و صنف قعدت عن الاعتذار و ما اعتذروا مطلقا لا بباطل و لا بحقّ جرأة على اللّه.

و قيل: إنّ الصنف الأوّل اعتذروا بالحقّ و كان لهم عذر و هم نفر من بني غفار و يدلّ

ص: 172


1- الرحمن: 70.

على هذا المعنى قوله: «وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» فدلّ على أنّ الأوّلين كانوا صادقين.

قيل: معناه أنّ الأوّلين تصوّروا بصورة العذر و ليسوا كذلك و كلا الفريقين كانوا كاذبين. سيصيب الّذين لا عذر لهم و كفروا عذاب موجع.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

لمّا بيّن الوعيد في حقّ من توهّم الإعذار مع أنّه لا عذر له بيّن أصحاب الأعذار المقبولة أنّه ليس عليهم حكم الجهاد و هم معذورون في الحقيقة و هم أقسام.

الأوّل: الصحيح في بدنه الضعيف مثل الشيوخ و من خلق في أصل الخلقة ضعيفا نحيفا و هم المرادون بالضعفاء، و الدليل عليه أنّه عطف عليهم المرضى و المعطوف مبائن للمعطوف عليه.

و أمّا المرضى فيدخل فيهم أصحاب العمى و العرج و الزمانة و كل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكّن من المحاربة.

و القسم الثالث الّذين لا يجدون الأهبة من الزاد و الراحلة؛ لأنّ حضوره في الغزو إنّما ينفع إذا قدر على أمر يعينه، فإن لم تحصل قدرة له صار كلّا و وبالا على المجاهدين حتّى يمكن أن يمنعهم وجوده من الاشتغال بالمقصود فقال: سبحانه: لا حرج على هؤلاء أي يجوز أن يتخلّفوا عن الجهاد لكن ليس في الآية ما يدلّ على تحريم خروجهم؛ لأنّ الواحد منهم لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القوّة إمّا بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يكون كلّا كان ذلك طاعة مقبولة.

ثمّ إنّه شرط في جواز هذا التأخير [إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إذا أقاموا بالبلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف و إثارة الفتنة و سعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الّذين

ص: 173

سافروا إمّا بأن يقوموا بإصلاح مهمّات بيوتهم إلى المجاهدين؛ فإنّ جملة هذه الأمور إعانة على الجهاد.

ثمّ قال: [ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ و قد اتّفقوا على أنّه دخل تحت قوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ» هو أنّه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.

و اختلفوا في أنّه هل يفيد العموم في كلّ الوجوه أم لا: فمنهم من زعم أنّ اللّفظ مقصور على هذا المعنى لأنّ هذه الآية نزلت فيهم. و منهم من زعم أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب و قالوا: المحسن هو الآتي بالإحسان، و رأس أبواب الإحسان قول: لا إله إلّا اللّه؛ فكلّ من قالها و اعتقد بها كان من المسلمين و من المحسنين؛ فهذه الآية بعمومها يقتضي أنّ الأصل في كلّ مسلم عدم توجّه الغير عليه في نفسه أو ماله أو عرضه إلّا بدليل منفصل فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة في تقرير أنّ الأصل براءة الذمّة؛ فإن ورد نصّ خاصّ يدلّ على وجوب حكم خاصّ في واقعة خاصّة قضينا بذلك النصّ تقديما للخاصّ على العامّ و إلّا فهذا النصّ كاف في تقرير البراءة الاصليّة. و هذا تقرير أصحاب الظواهر مثل داود الإصفهانيّ و أصحابه و نفاة القياس.

قوله: [وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ إلخ فإن قيل: أليس هؤلاء داخلون تحت قوله:

«وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» فما الفائدة في إعادته؟ نعم فيه فرق؛ لأنّ الّذين لا يجدون هم الفقراء الّذين ليس لهم النفقة و هؤلاء المذكورون في قوله: «وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ» هم الّذين ملكوا قدر النفقة إلّا أنّهم لم يجدوا المركوب.

قال مجاهد: هم ثلاثة إخوة: معقل و سويد و النعمان بنو مقرن سألوا النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يحملهم على الخفاف المدبوغة و النعال المخصوفة، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا أجد ما أحملكم عليه فتولّوا و هم يبكون قال ابن عبّاس: سألوا أن يحملهم على الدوابّ فقال: لا أجد ما أحملكم عليه لأنّ الشقّة (1) بعيدة و الرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه و بعير يحمل عليه ماءه و زاده.

قوله: [إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ] لمّا نفى السبيل عن الفقراء و المرضى في الآية السابقة أثبت في هذه الآية أنّ السبيل المنفيّ عنهم ثابت في هؤلاء المنافقين

ص: 174


1- المسافة البعيدة.

الأغنياء الّذين يستأذنوك في التخلّف. «و رضوا» جملة مستانفة أي رضوا بالدناءة و الضعة و الانتظام في جملة الخوالف و طبع على قلوبهم و بسبب الطبع لا يعلمون شيئا.

[سورة التوبة (9): الآيات 94 الى 96]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)

النزول: نزلت في جماعة من المنافقين و هم جندب بن قيس و معتب بن قشير و أصحابهما و هم ثمانون رجلا و لمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة راجعا من تبوك قال: لا تجالسوا هؤلاء القاعدين المتخلّفين و لا تكلّموهم. و قيل: نزلت في عبد اللّه و أصحابه حلف للنبيّ أن لا يتخلّف عنه بعدها و طلب إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يرضى عنه.

و بالجملة هؤلاء المتأخّرون القاعدون عن الجهاد مع النبيّ [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ من من تأخّرهم عنكم بالمعاذير و الأباطيل الكاذبة [إِذا رَجَعْتُمْ إلى المدينة من تبوك [قُلْ يا محمّد: [لا تَعْتَذِرُوا] لسنا نصدّقكم على ما تقولون [قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ و حقيقة أمركم فأعلمنا كذبكم بقوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» [وَ سَيَرَى اللَّهُ رسوله فيما بعد [عَمَلَكُمْ هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ثمّ ترجعون بعد الموت إلى اللّه سبحانه الّذي يعلم ما غاب و ما حضر ليجزيكم بأعمالكم كلّها حسنها و قبيحها فيجازيكم عليها أجمع.

قوله: [سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيقسم هؤلاء المنافقون [لَكُمْ أيّها المؤمنون إذا رجعتم إليهم أنّهم إنّما يحلفوا العذر و هذه اليمين الكاذبة لأجل أن تصفحوا عنهم حيث إنّ الرسول أمر الأصحاب أن لا يجالسوهم و لا يكلّموهم.

ثمّ أمر اللّه نبيّه و المؤمنين فقال: [فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أعراض ردّ و إنكار و مقت. ثمّ بيّن سبحانه عن سبب الإعراض فقال: [إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي نجس أي إنّهم كالشي ء الّذي هو نفس النجاسة و القذارة فاجتنبوهم كما تجتنبون النجاسة.

ص: 175

ثمّ قال: [يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فإن رضيتم عنهم لجهلكم بحالهم فإنّ اللّه لا يرضى عن من خرج دينه أي لا ترضوا عنهم و باعدوهم كما تجتنبون من النجاسات أي إنّ ظاهرهم نجس و باطنهم أيضا خبث و نجس؛ فكما أنّه يجب التحرّز عن الأرجاس الجسميّة كذلك يجب الاجتناب عن الأرجاس الروحانيّة بل أولى خوفا من سريانها إلى الإنسان و حذرا من أن يميل الطبع إلى تلك العقائد و الأعمال.

ثمّ قال: [وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً] على ما اكتسبوا من النفاق و الكفر.

و هذه المعاني مذكورة في الآية السابقة و قد أعادها اللّه هاهنا مرّة اخرى يمكن أن يكون الأوّل خطابا مع المنافقين الّذين كانوا في المدينة و هذه الآية خطاب مع المنافقين من الأعراب و أصحاب البوادي و لمّا كانت طرقهما متقاربة من أهل الحضر و البودي لا جرم كان الكلام معهما على مناهج متقاربة و يؤيّد هذا التأويل آية بعدها.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 97 الى 98]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

«رجل عربيّ» إذا كان من العرب و إن سكن البلاد، و «رجل أعرابيّ» إذا كان ساكنا في البادية و العرب صنفان عدنانيّة و قحطانيّة و الفضل للعدنانيّة برسول اللّه، يقال: رجل عربيّ إذا كان نسبه في العرب و جمعه العرب. و رجل أعرابيّ إذا كان بدويّا يطلب مساقط الغيث و الكلاء سواء كان من العرب أو من مواليهم، و يجمع الأعرابيّ على الأعراب و الأعاريب فالأعرابيّ إذا قيل له: يا عربيّ فرح، و العربي إذا قيل له: يا أعرابيّ غضب فالعرب سكّان الأمصار و الأعراب سكّان البوادي.

و إنّما سمّي العرب عربا قيل: لأنّ أولاد إسماعيل نشئوا بعربة و هي موضع تهامة فنسبوا إلى موطنهم و قيل: سمّي العرب عربا لإبانة كلامهم و فصاحة نطقهم لأنّ ألسنتهم معربة عمّا في ضمائرهم.

قيل: إنّ حكمة الروم في أدمغتهم و حكمة الهند في أوهامهم، و حكمة اليونان في أفئدتهم لكثرة مالهم من المباحث العقليّة، و حكمة العرب في ألسنتهم و ذلك لجزالة ألفاظهم و عذوبة عباراتهم كقوله مثلا: لا و أيّد اللّه الأمير.

ص: 176

و بالجملة شرح اللّه حال منافقي الأعراب بأنّهم أشدّ كفرا و نفاقا لأنّهم يشبهون الوحوش ثمّ استيلاء الهواء الحارّ اليابس عليهم و ذلك يوجب مزيد التكبّر و النخوة و الفخر. على أنّهم ما كانوا تحت سياسة سائس و لا تأديب مؤدّب فنشؤوا كما شاؤوا و من كان كذلك خرج على أشدّ الجهات من الفساد؛ و من أصبح و أمسى شاهدا لمشاهد المجرّبين المهذّبين، و تأديبات المحاضر الكاملة كيف يكون مساويا لمن كان حليّه الودعم، و عطره القطران، و صيده اليربوع الأرؤل و إذا أردت أن تعرف الفرق بينهما قابل الفواكه الجبليّة بالفواكه البستانيّة فحينئذ هؤلاء أولى بالجهل و أجدر بأن لا يعرفوا حدود أحكام اللّه من الحلال و الحرام [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم [حَكِيمٌ فيما يحكم عليهم.

قوله: [وَ مِنَ منافقي [الْأَعْرابِ من يعتقد أنّ الّذي ينفقه في سبيل اللّه غرامة و خسران- و «المغرم» مصدر كالغرامة- لأنّه لا ينفقه إلّا تقيّة و رياء لا لابتغاء ثوابه و ينتظر بكم الموت و القتل و يتوقّع أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول و يظهر عليكم المشركون فأعاده سبحانه إليهم فقال: [عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ] و الدائرة إمّا صفة أو مصدر كالعاقبة و العافية و الصفة أكثر استعمالا و هي خلّة تحيط بالإنسان بحيث لا يكون للإنسان منها مخلص، و أضيف إلى السوء على وجه التأكيد و الزيادة و لو لم يضف لعلم هذا المعنى كقولك شمس النهار.

و «السوء» قرئ بضم السين و بفتح السين، فبالفتح المصدر و بالضمّ الاسم أي عليهم دائرة البلاء و العذاب و إحاطته أي يكونون محاطون بالعذاب و البلاء و المضرّة و يدور عليهم البلاء فلا يرون في محمّد و أصحابه إلّا ما يسوؤهم [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بأقوالهم و [عَلِيمٌ بنيّاتهم.

[سورة التوبة (9): آية 99]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ من الأعراب من يتّخذ ما ينفق مغرما بيّن في هذه الآية أنّ منهم قوما مؤمنين صالحين مجاهدين يتّخذ إنفاقه في سبيل اللّه مغنما.

و في هذا البيان دلالة على أنّ الأصل في جميع الطاعات الإيمان باللّه و رسوله. ثمّ

ص: 177

في البيان دلالة على أنّه شرط في جميع أقسام الإنفاق في سبيل اللّه أن يكون خالصا لوجهه.

و «قربات» مفعول ثان ليتّخذ أي ما ينفقه لأجل القربات و «القربات» جمع قربة أي يتقرّب إلى اللّه بإنفاقه و يطلب به رضاه و يطلب به دعاء الرسول بالخير و البركة.

قوله: [أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ أي انتبهوا أنّ أدعية الرسول يقرّبهم إلى اللّه و إلى ثوابه و يمكن أنّ الضمير راجع إلى النفقات أي النفقات سبب تقرّب رضاء اللّه.

و هذه شهادة من اللّه للمتصدّق بحصول القرب إذا كان خالصا لوجهه و أكّدها بحرف التنبيه ثمّ بحرف التحقيق و هو قوله: «إنّها» ثمّ زاد في التأكيد بقوله: [سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ .

و معلوم أنّ إدخال حرف السين يوجب مزيد التأكيد. و قرئ «قربة» بضمّ الراء و هو الأصل ثمّ خفّفت نحو كتب و رسل و طنب.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 100]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

لمّا ذكر أنّ بعض الأعراب صالحون في الآية السابقة شرح في هذه الآية أنّ بعضا منهم أعلى درجة في الفضل و هم السابقون الأوّلون قال ابن عبّاس: هم الّذين صلّوا إلى القبلتين و شهدوا بدرا. و عن الشعبيّ: هم الّذين بايعوا بيعة الرضوان و هي بيعة الحديبية.

و قيل: الّذين أسلموا قبل الهجرة و نصروا رسول اللّه و كذلك الّذين اتّبعوا المهاجرين الأوّلين بالدخول في الإسلام و متابعة منهاجهم و سلوك مدارجهم و يدخل في ذلك من يجي ء بعدهم بشرط متابعتهم إلى يوم القيامة هؤلاء الجماعة الموصوفون بهذه الكيفيّة رضي اللّه عنهم بقبولهم الإسلام و أوامر الرسول و هم رضوا عن اللّه لمّا أجزل لهم الثواب.

و قوله: [رَضِيَ اللَّهُ خبر لقوله «السابقون» [وَ أَعَدَّ] اللّه [لَهُمْ جَنَّاتٍ يبقون فيها منعّمين ببقاء اللّه [ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي يصغر في جنبه كلّ نعيم.

و أوّل من أسلم عندنا عليّ عليه السّلام من الرجال و خديجة من النساء و به قال ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه و أنس بن مالك و زيد بن أرقم و مجاهد و قتادة و أبي إسحاق و جماعة كثيرة غيرهم؛ قال أنس: بعث النبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم الاثنين و صلّى عليّ عليه السّلام و أسلم يوم الثلثاء،

ص: 178

أسلم و هو ابن عشر سنين. و كان عليه السّلام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أخذه من أبي طالب و ضمّه إلى نفسه يربيه في حجره و كان معه قبل أن يبعث صلى اللّه عليه و آله و قيل: أسلم و هو ابن تسع سنين. و قيل:

اثنتي عشر سنة؛ و هو الصحيح.

و في تفسير الثعلبيّ روى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن جدّه عفيف قال: كنت امرءا تاجرا فقدمت مكّة أيّام الحجّ فنزلت على العبّاس بن عبد المطّلب و كان العبّاس لي صديقا و كان يختلف إلى اليمن يشري العطر و يبيعه في أيّام الموسم، بينما أنا و العبّاس بمنى إذ جاء رجل شابّ حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثمّ استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتّى جاء غلام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة فخرّ الشابّ ساجدا فسجدا معه فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة؛ فقلت: يا عبّاس أمر عظيم فقال: أمر عظيم فقلت: ويحك ما هذا؟ قال:

هذا ابن أخي محمّد بن عبد اللّه يزعم أنّ اللّه بعثه رسولا و أنّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه و هذا الغلام عليّ بن أبي طالب و هذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد بايعاه على دينه و أيم اللّه ما على ظهر الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء؛ فقال: عفيف الكنديّ بعد ما أسلم: ليتني كنت رابعهم.

و روي أنّ أبا طالب قال لعليّ: أي بنيّ ما هذا الّذي أنت عليه؟ قال: يا أبتاه آمنت باللّه و رسوله و صدّقت محمّدا فيما جاء به و صلّيت معه للّه فقال له: ألا إنّ محمّدا لا يدعو إلّا إلى خير فألزمه.

و روى عبد اللّه بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمر عن عبّاس بن عبد المطّلب قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: أنا عبد اللّه و أخو رسوله أنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر صلّيت قبل الناس بسبع سنين.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 101 الى 102]

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

ص: 179

كان جماعة حول المدينة من الأعراب و هم أربع قبائل: أسلم و أشجع و جهينة و غفار.

المراد في الآية ممّن حول المدينة هؤلاء [مَرَدُوا] على النفاق و «المارد» العاتي و المتطاول بالكبر و المعاصي و «المرود» الملاسة مأخوذ من الأرض الرملة الّتي لا تنبت شيئا.

[لا تَعْلَمُهُمْ مع حدسك و صفاء فهمك [نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ أي عذاب الدنيا بالقتل و السبي و الثاني عذاب القبر. و قيل: المراد بالدبيلة و عذاب القبر. و قيل: إحدى العذابين ضرب الملائكة وجوههم و أدبارهم عند النزع و الآخر عند البعث قبل الورود إلى جهنّم يوكّل بهم عنق من النار في الموقف. و بيان عذاب الدبيلة أنّه صلى اللّه عليه و آله أسرّ إلى حذيفة اثني عشر رجلا من المنافقين و قال: ستّة يبتليهم اللّه بالدبيلة، سراح من نار يأخذ أحدهم حتّى يخرج من صدره و ستّة يموتون.

[ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ أي النار المؤبّدة المخلّدة.

قوله: [وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا] قيل: إنّهم قوم من المنافقين تابوا عن النفاق. و قيل قوم من المسلمين تكاسلوا و تخلّفوا عن غزوة تبوك ثمّ ندموا على ما فعلوا و تابوا. روي أنّهم كانوا عشرة، فسبعة منهم ندموا على قعودهم و تخلّفهم عن الجهاد في غزوة تبوك لمّا بلغهم ما نزل في المتخلّفين فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول اللّه فدخل المسجد و صلّى ركعتين.

و هذه كانت عادته لمّا يقدم عن سفر فرآهم موثوقين سأل عنهم فذكر له صلى اللّه عليه و آله أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: و أنا اقسم أنّي لا احلّهم حتّى أومر فيهم فنزلت الآية، فأطلقهم صلى اللّه عليه و آله بعد الآية فقالوا بعد ما انتحلوا: هذه أموالنا و إنّما تخلّفنا عنك بسببها فخذها و تصدّق بها و طهّرنا فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ إلخ».

و بالجملة [وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا] المراد بهم من الأعراب و أهل المدينة و ليس المراد منهم المنافقين أقرّوا [بِذُنُوبِهِمْ و يخلطون و يفعلون أفعالا حسنة و أفعالا قبيحة. و أتى بكلمة «عسى» حتّى يكونوا بين إشفاق و طمع فيكون ذلك أبعد من الاتّكال على العفو و إهمال التوبة.

ص: 180

و في هذا دلالة على بطلان القول بالإحباط بأنّه لو صحّ الإحباط لكان أحد العملين إذا طرأ على الآخر أحبطه و أبطله فلم يجتمعا فلا يكون لقوله: «خلطوا» معنى. قال بعض التابعين: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمّة من هذه الآية. (1) قوله: [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة أي لأنّه غفور رحيم.

و عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ هذه الآية نزلت في حقّ أبي لبابة الّذي شدّ نفسه بسارية المسجد لقضيّة بني قريظة و قد ذكر سابقا.

[سورة التوبة (9): آية 103]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه و أمره بأخذ الصدقة قيل: المراد بأخذ الصدقة من هؤلاء التائبين تشديدا للتكليف، و ليست الصدقة المفروضة الّتي تسمّى بالزكاة و قد أخذ ثلث مال هؤلاء التائبين و ترك ثلثي الباقي لهم حيث إنّهم بذلوا جميع مالهم كفّارة أوّلا.

و قال جماعة من المفسّرين: المراد من الصدقة في هذه الآية هي الزكاة المفروضة و هو الأصحّ؛ لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له فعلى هذا القول أمر سبحانه نبيّه أن يأخذ من المالكين النصاب الزكاة فمن الورق مثلا إذا بلغ مائتي درهم ربع العشر و من الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا و من الغنم إذا بلغت أربعين رأسا و من الإبل إذا بلغت خمس نفر و من البقر إذا بلغ ثلاثين رأسا و من الغلّات و الثمار إذا بلغت خمسة أوسق، تطهّرهم تلك الزكاة عن دنس الذنوب و تزكّيهم.

و هاهنا قيل ضمير الخطاب أي أنت تزكّيهم بأخذك منهم هذا المال. و قيل: معنى الخطاب في كلا الضميرين في الفعلين أي أنت تطهّرهم و تزكّيهم أي تدعو لهم بما يصيرون أزكياء مطهّرين.

و قوله: [صَلِّ عَلَيْهِمْ هذا أمر للنبيّ أن يدعو لمن أخذ منه الزكاة كقوله: بارك اللّه لك. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان إذ أتاهم قوم بصدقتهم دعا لهم كما قال: اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى؛ حين أتوه بصدقة.

ص: 181


1- و اما عند الائمة عليهم السّلام فارجى آية في القرآن هو قوله تعالى خطابا لنبيه: «و لسوف يعطيك ربك فترضى» كما ورد عنهم عليهم السّلام.

[إِنَّ صَلاتَكَ أي دعواتك رحمة و اطمينان لنفوسهم بأنّ اللّه قد قبل منهم [وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بدعائك و [عَلِيمٌ بنيّاتهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 104]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

لمّا حكى عن القوم الّذين تقدّم ذكرهم أنّهم تابوا عن ذنوبهم و تصدّقوا و لم يذكر إلّا قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» و ما صرّح سبحانه بقبول التوبة رغّب جميع العصاة و من لم يتب بالتوبة و الطاعة و بشّر هؤلاء بقبول توبتهم. و قوله: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا» و إن كان بصيغة الاستفهام إلّا أنّ معناه التقرير و الأمر.

و «الإله» هو الّذي يمتنع تطرّق الزيادة و النقصان إليه و يمتنع أن يزداد و يتغيّر حاله بطاعة المطيعين و أن ينتقص حاله بمعصية المذنبين، و يمتنع أيضا أن يكون له شهوة إلى الطاعة و نفرة عن المعصية حتّى يقال: إنّ نفرته و غضبه يحمله على الانتقام، و شهوته و ميله يحمله على الإنعام. و المذنب لا يضرّ إلّا نفسه و المطيع لا ينفع إلّا نفسه كما قال: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» (1).

و قبول التوبة و ردّها راجع إلى اللّه و ليس إلى غيره هذا الأمر و قالت المعتزلة:

قبول التوبة واجب عقلا على اللّه. و قالت الأشاعرة: قبول التوبة واجب بحكم الوعد و التفضّل و الإحسان، و أمّا عقلا فلا.

و قوله: [وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي هو عزّ شأنه أخذ الصدقات و هذا تشريف عظيم لهذه الطاعة، و أضاف الأخذ إلى نفسه كما أضاف التوفّي إلى نفسه بقوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» (2) في الحديث: إنّ اللّه يقبل الصدقة و لا يقبل منها إلّا الطيّب و إنّه يقبلها بيمينه و يربيها لصاحبه كما يربّي أحدكم مهره و فصيله، حتّى أنّ اللقمة تكون عند اللّه أعظم من احد و قال صلى اللّه عليه و آله: و الّذي نفس محمّد بيده ما من عبد مسلم يتصدّق بصدقة فتصل إلى الّذي يتصدّق بها عليه حتّى تقع في كفّ اللّه و يمين اللّه، و كفّه لا يوصف، ليس كمثله شي ء.

ص: 182


1- الإسراء: 7.
2- الانعام: 60.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 105]

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

هذه الآية ترغيب عظيم للمطيعين و ترهيب عظيم للعاصين أي اجتهدوا في أعمالكم فإنّ عملكم له حكم في الدنيا و في الآخرة حكم أمّا في الدنيا فإنّه يراه اللّه و يعلمه الرسول و يراه المؤمنون فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم و إن كان معصية حصل منه الذمّ في الدنيا و العقاب الشديد في الآخرة.

فلو قيل: إنّه في قوله: «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» أنّ عملهم لا يراه كلّ أحد.

و الجواب أنّه يصل خبر عملهم غالبا إلى الناس؛ قال صلى اللّه عليه و آله: لو أنّ رجلا عمل عملا في صخرة لا باب لها و لا كوّة يخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان. و لو أنّ العطف يقتضي التشريك لكنّ التسوية في كلّ مراتب الرؤية فغير لازم، و معلوم أنّ رؤية اللّه غير رؤية الرسول و رؤية الرسول غير رؤية المؤمنين. و «الرؤية» إذا عدّيتها إلى مفعول واحد بمعنى الإبصار و إذا عدّيتها إلى مفعولين فمعناه العلم.

فإن قيل: ما الفائدة في رؤية المؤمنين أو علمهم؟

الفائدة أنّ المؤمنين شهداء اللّه يوم القيامة كما قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (1) و الرسول كذلك شهيد الامّة كما قال: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (2) و الشهادة لا تصحّ إلّا بعد الرؤية و يشهدون يوم القيامة عند حضور الأوّلين و الآخرين بأنّكم أهل السداد و الرشاد [فَيُنَبِّئُكُمْ و يجازيكم بما أسررتم و أعلنتم و ما عملتم من خير و شرّ.

فحينئذ إذا حملت معنى الرؤية على الإبصار فيكون قوله: «وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ» معناه أنّ ما يرى منكم يتبيّن نفعه و ضرره بعد الردّ إلى عالم الغيب، و إذا حملت على العلم فيكون جملة «وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ» جاريا في مجرى التفسير لقوله:

«فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ».

ص: 183


1- الاولى أن يذكر بعده و هو: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ». البقرة: 137.
2- النساء: 45.

و في هذه الآية دلالة صريحة بأنّ اللّه عالم بالجزئيّات.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

قرئ «مرجون» بالهمزة و بغير الهمزة.

اعلم أنّ اللّه قسّم المتخلّفين عن الجهاد ثلاثة أقسام: أوّلهم المنافقون الّذين مردوا على النفاق و بقوا على نفاقهم. و الثاني: التائبون و هم المرادون بقوله: «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» و بيّن تعالى قبول توبتهم. و القسم الثالث: الّذين بقوا موقوفين، و هم المذكورون في هذه الآية. و الفرق بين القسم الثاني و الثالث أنّ الثاني سارعوا إلى التوبة، و الثالث لم يسارعوا إليها.

نزلت هذه الآية في ثلاثة: كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن اميّة و كانوا متخلّفين عن الجهاد. قال كعب: أنا أفره أهل المدينة جملا فمتى شئت لحقت الرسول؛ فتأخّر أيّاما و أيس بعدها من اللحوق به صلى اللّه عليه و آله، فندم على صنيعه و كذلك صاحباه.

فلمّا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قيل لكعب: اعتذر إليه من صنيعتك. فقال: لا و اللّه حتّى تنزل توبتي. و أمّا صاحباه فقد اعتذر إليه صلى اللّه عليه و آله فقال صلى اللّه عليه و آله: ما خلّفكما عنّي؟ فقالا:

لا عذر لنا إلّا الخطيئة، فنزلت «وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا، إلخ» فوقفهم رسول اللّه بعد نزول الآية و نهى الناس عن مجالستهم و أمرهم باعتزال نسائهم و أرسلهنّ إلى أهلهنّ؛ فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنّه شيخ كبير فأذن صلى اللّه عليه و آله لها في ذلك خاصّة.

و جاء رسول من الشام إلى الكعب يرغّبه في اللحوق بهم فقال كعب: بلغ من خطيئتي أن طمع فيّ المشركون! قال: فضاقت عليّ الأرض بما رحبت و بكى هلال بن اميّة حتّى خيف على بصره.

فلمّا مضى خمسون ليلة نزلت توبتهم بقوله: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ» و بقوله: «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ إلخ». و قوله: [إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ .

و كلمة «إمّا» للشكّ و اللّه منزّه عنه و المراد منه: ليكن أمرهم على الخوف و الرجاء؛ فجعل أناس يقولون: هلكوا، و آخرون يقولون: عسى اللّه أن يغفر لهم. و في هذه الآية دلالة على

ص: 184

أنّ قبول التوبة على اللّه ليس بواجب بل هو تفضّل إن شاء قبل و إن لم يشأ لم يقبل؛ لأنّه لو كان قبولها عليه واجبا لما علّقه بالمشيئة و ما جاز تعليقه بها.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 107]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)

النزول: قال ابن عبّاس و عامّة أهل التفسير: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا و بعثوا إلى رسول اللّه أن يأتيهم فأتاهم و صلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجدا نصلّي فيه و لا نحضر جماعة محمّد صلى اللّه عليه و آله و كانوا خمسة عشر رجلا منهم ثعلبة بن خاطب و معتب بن قشير فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه و هو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول اللّه قد بنينا مسجدا لذوي العلّة و الحاجة و الليلة المطيرة و الليلة الشاتية (1) و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّي على جناح سفر فلو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه فلمّا انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من غزوة تبوك نزلت الآية في شأن المسجد فبيّن أنّ جماعة من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين و طلب الغوائل للمؤمنين. و المسجد في الأصل موضع السجود و في العرف اسم لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة فالاسم عرفيّ فيه علاقة معنى اللغة.

[ضِراراً] أي مضارّة، أي بنوا هذا المسجد للضرر بأهل مسجد قبا أو مسجد الرسول ليقلّ الجمع فيهما.

[وَ كُفْراً] و لإقامة الكفر فيه و ليكفروا فيه بالطعن على الرسول و الإسلام [وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لاختلاف الكلمة و إبطال الالفة عن رسول اللّه في الناس [وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي اتّخذوا ذلك المسجد رصدا لهذه الأمور.

و أعدّوا هذا المسجد لأبي عامر الراهب و هو الّذي ترهّب في الجاهليّة و لبس المسوح (2) فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة حين الهجرة حسده و حزّب عليه الأحزاب و

ص: 185


1- اى الليلة الباردة في الشتاء.
2- جمع المسح: البلاس، ينسج من الشعر و يلبس قهرا للجسد.

حارب اللّه و رسوله ثمّ هرب بعد فتح المكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام و خرج إلى الروم و تنصّر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الّذي قتل يوم احد و كان جنبا فغسلته الملائكة، و سمّى رسول اللّه أبا عامر الفاسق و كان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا و ابنوا مسجدا فإنّي أذهب إلى قيصر و آتي من عنده بجنود و اخرج محمّدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون مجي ء أبي عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.

[وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة للمسلمين و الترفّه للمزمنين و المرضى فأخبر اللّه نبيّه على فساد طويّتهم و خبث سريرتهم [وَ اللَّهُ يَشْهَدُ] بكذبهم فوجّه النبيّ عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلانيّ و مالك بن الدخشم فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه و حرّقاه. و روي أنّه بعث عمّار بن ياسر و وحشيّا فحرّقاه، و أمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

[سورة التوبة (9): آية 108]

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

ثم نهى اللّه أن يقوم في هذا المسجد فقال: [لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً] أي لا تصلّ فيه أبدا؛ يقال: فلان يقوم بالليل أي يصلّي بالليل ثمّ أقسم فقال: [لَمَسْجِدٌ] أي و اللّه لمسجد [أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى و بني أصله على تقوى اللّه و طاعته [مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي منذ أوّل يوم وضع أساسه أولى أن تصلّي فيه.

و اختلف في هذا المسجد فقيل هو مسجد قبا، عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: هو مسجد رسول اللّه، عن زيد بن ثابت و جماعة. و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: هو مسجدي أو كلّ مسجد بني لوجه اللّه.

ثمّ وصف المسجد فقال: [فِيهِ أي في هذا المسجد [رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يصلّون للّه تعالى متطهّرين بأبلغ الطهارة أو [يَتَطَهَّرُوا] من الذنوب و قيل: يحبّون أن يتطهّروا بالماء عن الغائط و البول. و روي عن النبي أنّه سأل أهل قبا: ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أثنى عليكم؟ قالوا: نغتسل أثر الغائط.

ص: 186

قال الزمخشريّ: لمّا نزلت هذه الآية مشى رسول اللّه و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا فإذا الأنصار جلوس فقال صلى اللّه عليه و آله: أ مؤمنون أنتم فسكت القوم ثمّ أعادها فقال أحد من الصحابة: إنّهم لمؤمنون يا رسول اللّه. فقال صلى اللّه عليه و آله: أ ترضون بالقضاء؟

قالوا: نعم. قال: أ تصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أ تشكرون في الرخاء؟ قالوا:

نعم قال صلى اللّه عليه و آله: مؤمنون و ربّ الكعبة. ثمّ قال: يا معشر الأنصار إنّ اللّه أثنى عليكم فما الّذي تصنعون في الوضوء؟ قالوا: نتبع الماء الحجر فقرأ النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، إلخ».

و في هذه الآية أي قوله: «لا تَقُمْ فِيهِ» نكتة دقيقة فتأمّل فيها يزيدك آية و هي أنّه إذا لم يكن يجوز أن يصلّي في مسجد ما كان أساسه بني على التقوى، و كون الصلاة في مسجد بني أساسه علي التقوى أولى و أحقّ بالصلاة فيه؛ و ثبت أنّ عليّا عليه السّلام ما كفر باللّه طرفة عين فوجب أن يكون هو الأولى بالقيام بالإمامة ممّن كفر باللّه في أوّل مرّة؛ لأنّ أمر الإمامة و الخلافة الكلّيّة أهمّ من الصلاة حتما و إنّ الصلاة تقوم و تبقى بالإمامة و بمن نصبه النبيّ صلى اللّه عليه و آله علما للدين.

و بالجملة «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ إلخ» فإن قيل: لم قال: «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مع أنّه لا يجوز قيامه في الأخير؟ قلنا: المعنى: أنّه لو كان ذلك جائزا لكان هذا أحقّ أن يقوم فيه فكيف بأنّه لا يجوز فبطريق الأولى عدم الجواز.

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 109 الى 110]

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

اعلم أنّه أرجح سبحانه مسجدهم على مسجد ضرار بأمرين: أحدهما أنّه بني على التقوى، و الثاني بأهلها؛ فإنّ أهلها رجال متطهّرون. و المراد بهذه الطهارة طهارة عن القذارة و النجاسات الظاهريّة و قد سبق بيانه و طهارة عن الكفر لأنّ اللّه وصف أهل مسجد الضرار بمضارّة المؤمنين و تفريق بين المؤمنين و الكفر، فوجب كون هؤلاء- أهل مسجد

ص: 187

قبا- بالضدّ في صفاتهم، و ما ذاك إلّا كونهم مبرّئين عن هذه الصفات فقال سبحانه:

[أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ و البنيان مصدر كالغفران و المراد به المبنيّ و إطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور، تقول هذا نسج زيد أي منسوجه، أي من أسّس بناء على تقوى من اللّه أي للخوف من عقاب اللّه و رغبة في ثواب اللّه أكمل و أفضل أم من بنى بناء لداعية الكفر و الإضرار بعباد اللّه؟

و «الشفا جرف» الشي ء و طرفه، و «الجرف» بسكون الراء و ضمّه هو ما إذا سال السيل و الجرف الوادي و يبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط يهور إذا انصدع و اندفع من خلفه و هو ثابت بعد في مكانه؛ يقال: فيه جرف هار هائر فإذا سقط فقد انهار و تهوّر.

إذا عرفت هذه الألفاظ فالمعنى أنّ الّذي بنى بنيان دينه على قاعدة قويّة محكمة و هي تقوى اللّه و رضوانه ليس كمن بناه و أسّسه على أضعف القواعد و أقلّها بقاء و هو الباطل و النفاق الّذي مثله مثل الجرف الهائر على طرف جهنّم و مشرف على السقوط فيها إذا انهار؛ فإنّه متى يسقط فإنّما ينهار في جهنّم؛ بناء الأول واجب الإبقاء و بناء الثاني واجب الهدم.

و بالجملة لمّا أمر الرسول بتخريب مسجدهم ظنّوا أنّه إنّما أمر بتخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه و عظم خوفهم منه صلى اللّه عليه و آله في كلّ الأوقات و صاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم على ما هم عليه أم يأمر بقتلهم؟

قوله تعالى: [لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ أي لا يزال هدم بنيانهم خوفا و غيظا أثبت في قلوبهم و لا ينفكّ عنهم [إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قرئ معلوما بحذف التاء و قرئ مجهولا أي هذا الحزن و الغيظ باق إلّا أن تقطّع قلوبهم و تتفرّق أجزاء أجزاء فحينئذ يسلمون عنها، و إلّا فما دامت قلوبهم سالمة هذا الريب و الحزن باق. و يجوز أن يكون المراد بالتقطّع على سبيل الحقيقة أي عند قتلهم أو في القبور أو في العذاب من النار يفنى هذا الغيظ. و قرئ على صيغة الخطاب يعني أنت يا محمّد- صلى اللّه عليه و آله- تقطّع قلوبهم بالسيف و القتل. و قيل: المراد من الريب الشكّ في أنّ اللّه هل يغفر تلك المعصية الّتي هي بناء هذا المسجد أم لا؟ و قيل: معناه: إلّا أن يتوبوا توبة تنقطع لها قلوبهم ندما و أسفا على تفريطهم.

ص: 188

قوله: [سورة التوبة (9): آية 111]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قال المفسّرون: لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة العقبة بمكّة و هم سبعون نفسا قال عبد اللّه بن رواحة: اشترط لنفسك يا رسول اللّه و لربّك ما شئت فقال صلى اللّه عليه و آله: أشترط لربّي أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا و لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم و أموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما ذا لنا؟ قال: الجنّة. قالوا: ربح البيع لا نقيل و لا نستقيل؛ فنزلت الآية.

قال أهل المعاني: لا يجوز أن يشتري اللّه شيئا في الحقيقة؛ لأنّ المشتري إنّما يشتري ما لا يملك، و كيف يشتري أنفسا هو خلقها، و أموالا هو أوجدها و رزقها؟

لكنّ هذا البيان لحسن التلطّف في الترغيب إلى الطاعة، و بيّن سبحانه أنّ المؤمن متى قاتل في سبيل اللّه حتّى يقتل فيذهب روحه، و ينفق مالا في سبيله أخذ من اللّه الأجر الجنّة جزاء لما فعل؛ فجعل هذا الأمر استبدالا و شراء.

و هذا معنى [اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ] أي بالجنّة و هذه و اللّه بيعة رابحة و كفّة راجحة بايع اللّه فيها كلّ مؤمن و ما على الأرض مؤمن إلّا و دخل في هذه البيعة؛ قال الصادق عليه السّلام: ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها و قوله: «وَ أَمْوالَهُمْ» يريد الّتي ينفقونها في سبيل اللّه و على طاعة اللّه في المثوبات. و المشتري لا بدّ له من بايع و هاهنا بحسب الواقع البايع و المشتري هو اللّه، و بحسب الظاهر المشتري هو اللّه و البايع الّذين بذلوا أنفسهم و أموالهم في مرضات اللّه بالجهاد.

و أضاف سبحانه الأنفس و الأموال إليهم؛ لأنّ الإنسان عبارة عن الجوهر الأصليّ الباقي و هذا البدن يجري مجرى الآلة و الأدوات و المركب، و كذلك المال خلق وسيلة لرعاية مصالح هذا المركب؛ فاللّه سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب و هذا المال بالجنّة؛ لأنّ ذلك الإنسان الّذي عبّرنا عنه بالجوهر الأصليّ ما دام يبقى متعلّق الإرادة و القلب بمصالح عالم الجسم المتغيّر المتبدّل و هو البدن و المال امتنع وصوله إلى السعادات

ص: 189

العالية و الدرجات الشريفة لاشتغاله بهذين فإذا انقطع التفاته منهما و بلغ ذلك الانقطاع بحيث أن عرض البدن للقتل و الفناء و المال عرضه للإنفاق في طلب رضوان اللّه فقد بلغ أعلى درجة الهدى و فاز بالقدح المعلّى.

قوله: [فَيَقْتُلُونَ المشركين و يقتلهم المشركون فالجنّة جزاؤهم عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا.

قوله: [وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا] أي إنّما يستحقّ الثمن بتسليم المبيع و إيجاب الجنّة لهم وعدا على اللّه حقّا لا شكّ فيه. و «وعدا» مصدر منصوب أي وعدهم اللّه الجنّة وعدا صدقا لا خلف فيه. و بقيّة الآية تأكيدات كلّها بعضها تلو بعض.

قوله: [فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ أي هذا الوعد وعد ثابت قد أثبته اللّه في التوراة و الإنجيل، و قيل: المراد أنّ اللّه تعالى بيّن في التوراة و الإنجيل أنّه اشترى من امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله أنفسهم و أخبر موسى و عيسى بهذه المبايعة من امّة محمّد صلى اللّه عليه و آله. و قيل: معناه أنّ الأمر بجهاد الكفّار هو موجود في جميع الشرائع.

ثمّ أكّد هذا الوعد و صدّقه بقوله: [وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي إنّ نقض العهد كذب و خدعة و هو من القبائح في حقّ الإنسان المحتاج فكيف بالغنيّ بالذات؟ فهو أولى بإيفائه أي لا أحد أو في من اللّه ثمّ أكّد بقوله: [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ أي ابشروا بهذا الربح الّذي هو من عظيم الفوز.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 112]

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

اعلم أنّه لمّا اشترى من المؤمنين أموالهم و أنفسهم بالجنّة بيّن في هذه الآية أنّ أولئك المؤمنين موصوفون بهذه الصفات التسعة أي هم التائبون.

قال الزجّاج: لا يبعد أن يكون «التائبون» مبتدءا و خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنّة و إن لم يجاهدوا لقوله: «وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى * (1) فحينئذ

ص: 190


1- النساء: 97.

يكون الوعد حاصلا لجميع المؤمنين. و يمكن أن يكون «التائبون» مبتدءا و قوله «العابدون، إلخ» خبرا بعد خبر أي التائبون من الكفر هم الجامعون لهذه الخصال.

و بالجملة الصفات التسع:

فالصفة الاولى: [التَّائِبُونَ قال ابن عبّاس: المراد التائبون من الكفر و الشرك و النفاق. و قال الاصوليّون: التائبون عن كلّ معصية. و هذا أولى؛ لأنّ التوبة أعمّ قد تكون من الكفر و قد تكون من المعصية، و «التائبون» صيغة عموم محلّاة بالألف و اللّام فيتناول الكلّ؛ فالتخصيص بالتوبة عن الكفر تحكّم.

و حقيقة التوبة إنّما يحصل عند حصول امور أربعة: أوّلها: احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه. و ثانيها: ندمه على ما مضى. و ثالثها: عزمه على الترك في المستقبل. و رابعها أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان اللّه و عبوديّته، فإن كان غرضه منها دفع مذمّة الناس أو سائر الأغراض فهو ليس من التائبين.

و الصفة الثانية: ثمّ قال: [الْعابِدُونَ و العبادة عبارة عن إتيان فعل مشعر يدلّ على تعظيم اللّه حسبما قرّره الشارع. قال قتادة و الحسن: هم قوم عبدوا اللّه في السرّاء و الضرّاء و أخذوا من أبدانهم في ليلهم و نهارهم.

و الصفة الثالثة قوله: [الْحامِدُونَ و هم الّذين يقومون بحقّ شكر اللّه على نعمه دينا و دنيا و يجعلون إظهار ذلك عادة لهم و اشتغالهم بالتسبيح و التهليل و التحميد و هذه الصفة كانت صفة الملائكة قبل أن يخلق اللّه الدنيا لأنّه تعالى أخبر عنهم بقوله: «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» (1).

و الصفة الرابعة: [السَّائِحُونَ و فيه أقوال: قال عامّة المفسّرين: هم الصائمون.

قال ابن عبّاس: كلّ ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: سياحة امّتي الصيام. و قيل: هم الّذين يديمون الصيام. و المناسبة في المعنى أنّ السائح لمّا كان يسيح في الأرض متعبّدا لا زاد معه كان ممسكا عن الأكل، و الصائم يمسك عن الأكل فلهذه المشابهة سمّي الصائم سائحا. ثمّ إنّ الإنسان إذا امتنع من الأكل و الشرب و أمثاله

ص: 191


1- البقرة: 28.

و سدّ على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكمة و تجلّت له أنوار الجلال فيصير من السائحين في عالم جلال اللّه و كماله، و من المنتقلين من درجة إلى درجة و من مقام إلى مقام فيحصل له سياحة في عالم الروحانيّات.

و القول الآخر في السائحين قال عكرمة و وهب بن منبّه: المراد طلّاب علم الشريعة ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم. و للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس بشرط أن تكون السياحة لاستفادة العلم و تحصيل معرفة اللّه و شواهد الربوبيّة لا لتفرّج شواهد الكفر كما هو معمول عندنا كأسفار الفرنج و إنّما هي التعرّب بعد الهجرة و هو من الكبائر.

و كانت السياحة في بني إسرائيل أنّ الرجل منهم إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون و قد يكون السائح يلقى في سياحته من الضرّاء و البأساء و يصبر عليها و قد ينقطع زاده فيحتاج إلى التوكّل على اللّه و قد يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد منهم فوائد مخصوصة و كذلك يرى الأكابر من الناس في الدين فيستحقر نفسه في مقابلتهم فيصل إلى مقامات عالية و تقوى معرفته.

الصفة الخامسة و السادسة: [الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ و المراد منه إقامة الصلاة و إنّما جعل الركوع و السجود كناية عن الصلاة، لأنّ سائر أشكال الصلاة في المصلّي موافق للعادة كالقيام و القعود و الّذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع و السجود و به يتبيّن الفضل و التميّز بين المصلّي و غيره.

الصفة السابعة و الثامنة: [الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ] و اعلم أنّ كتاب أحكام الأمر و النهي و تفصيله لا يسعه هذا المختصر و في هذا إشارة إلى وجوب الجهاد سيفا أو عظة لأنّ رأس المعروف الإيمان باللّه و رأس المنكر الكفر باللّه، و الجهاد يوجب الترغيب في الإيمان و المنع و الزجر عن الكفر و الجهاد داخل في بابيه.

و الواو في قوله: «وَ النَّاهُونَ» للتسوية؛ فإنّ التسوية قد يجي ء بالواو تارة و بغير الواو اخرى؛ قال تعالى: «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» (1) و جاء بغير الواو مع معنى التسوية؛ قال تعالى: «شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ» (2) فجاء بعض بالواو و بعض بغير الواو و وجه آخر ذكروا

ص: 192


1- المؤمن: 2.
2- المؤمن: 2.

لإدخال الواو تنبيها على ما يحصل فيها لأهلها المشقّة و المحنة من دون سائر العبادات لظهور الخصومات و تحمّل المشقّات للمكلّف.

الصفة التاسعة: [وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ و المقصود أنّ فيه تكاليف كثيرة و هي محصورة في نوعين: أحدهما ما يتعلّق بالعبادات و الثاني ما يتعلّق بالمعاملات.

أمّا العبادات فهي لمصالح مرعيّة في الدين و هي الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و الإعتاق و النذر و أمثالها.

و أمّا المعاملات فهي إمّا لجلب المنافع أو لدفع المضارّ: أمّا القسم الراجع لجلب المنافع فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواسّ الخمسة كالمذوقات و يدخل فيها كتاب الأطعمة و الأشربة من الفقه، و لمّا كان الطعام قد يكون نباتا و قد يكون حيوانا؛ فدخل فيه كتاب الصيد و الذبائح و الضحايا و ما يحلّ أكله و ما يحرم. و ثانيها الملموسات و يدخل فيها باب أحكام الوقاع و لوازم النكاح كالمهر و النفقات، و أحوال القسم و النشوز و الطلاق و الخلع و الإيلاء و الظهار و اللعان و الأمور المتعلّقة بالملبوس و ما يجوز لبسه و لا يحلّ استعماله كأواني الفضّة و الذهب. و ثالثها المبصرات و هي باب ما يجوز النظر إليه و ما لا يجوز و هي راجعة إلى المحارم و غير المحارم. و رابعها المسموعات و هو باب ما يحلّ سماعه و ما لا يحلّ. و خامسها المشمومات و ليس للفقهاء فيها مجال.

و أمّا ما يتعلّق بالمنافع للدنيا فهو المعاملات و هو البيع و أمثاله و البيع إمّا بيع الأعيان أو منفعة الأعيان فأمّا بيع الأعيان كبيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين و هو السلم، و أمّا بيع المنفعة فيدخل فيه الإجارة و الجعالة و المضاربة أو الأسباب الموجبة للملك كالإرث و الهبة و الوصيّة و إحياء الموات و الالتقاط و الفي ء و الغنائم و أخذ الزكوات و أمثال هذه الأمور فمثل هذه الأمور المذكورة ضبط امور حدود اللّه و تكاليفه في باب جلب المنافع.

و أمّا تكاليف اللّه و حدوده في باب دفع المضارّ فأقسام المضارّة كثيرة؛ إن حصلت في النفوس ففيها أقسام و أحكام منها القصاص أو الدية أو الكفّارة أو الأرش.

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأموال كالغصب أو السرقة و أمثاله.

ص: 193

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأديان فهي إمّا الكفر أو البدعة فله أحكام.

و أمّا المضارّ الحاصلة في الأنساب فيتّصل به تحريم الزناء و اللواط و العقوبة عليهما، و حدّ القذف و أحكام اللعان.

و لمّا كان أنّ كلّ أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع و دفع المضارّ بنفسه لضعفه أو لعدم علم طريقه أو لوقوع الهرج و المرج إذا باشر بنفسه؛ فلهذا السبب نصب اللّه الإمام لتنفيذ الأحكام و للإمام نوّاب و قضاة.

و لمّا لم يجز أن يكون قول الغير على الغير مقبولا إلّا بالحجّة فقرّر سبحانه لإثبات الحقّ حجّة مخصوصة و هي الشهادة و البيّنة أو اليمين فهذا ضبط معاقد تكاليف اللّه و حدوده على وجه الإجمال فالمؤمن هو الّذي يحفظ لحدود اللّه فهذه الآية تتناول جملة هذه التكاليف المذكورة على سبيل الاختصار.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الصفات التسعة قال: [وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .

قوله تعالى: [سورة التوبة (9): الآيات 113 الى 114]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لمّا كان من أوّل السورة الأمر بالبراءة عن المشركين أمر سبحانه أنّه يجب البراءة عن أمواتهم أيضا أي ليس للنبيّ و المؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين الّذين يعبدون مع اللّه إلها آخر و لا يوحّدونه في العبادة [وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي و لو كان الّذين يطلبون لهم المغفرة أقرب الناس إليهم من بعد أن يعلموا أنّهم كفّار مستحقّون للخلود في النار.

النزول: إنّ المسلمين قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: أن نستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في الكفر فنزلت فبيّن أنّه «ما كان». و إنّما عبّر سبحانه بقوله: «ما كان» أي ليس له حقّ أصلا و لم يجعل اللّه في حكمه و دينه أن يستغفروا للمشركين و لو دعتهم رقّة القرابة إلى الاستغفار لهم.

ثمّ بيّن أنّ الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه- سواء كان أبوه لأمّه أو عمّه على ما

ص: 194

رواه أصحابنا أو أبوه على قول العامّة- أنّ استغفاره عن موعدة وعدها إيّاه أي استغفاره كان عن موعدة.

و اختلف في أنّ الواعد هل هو إبراهيم أو أبوه؟ قيل: إنّ الموعدة كانت من الأب وعد بها إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له فاستغفر له لذلك.

و قيل: إنّ الموعدة كانت من إبراهيم قال لأبيه: إنّي أستغفر لك ما دمت حيّا، و كان يستغفر له مقيّدا بشرط الإيمان فلمّا أيس من إيمانه تبرّأ منه، و هذا المعنى يوافق قراءة من قرأ «أباه» بالباء لا بالياء و يقوّيه قوله تعالى: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ». (1) قوله: [إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي دعّاء كثير الدعاء و البكاء و قيل: «الأوّاه» بلغة الحبشة المؤمن. و قيل: معناه الموقن المستيقن. و قيل: معناه الرّاجع عن كلّ ما يكره اللّه.

و قيل: أي المسبّح الكثير الذكر للّه. و قيل: هو المتأوّه شفقا و فرقا المتضرّع و لزوما للطاعة. و قيل: معناه الصبور على الأذى، الصفوح عن الذنب. و قد بلغ من حلم إبراهيم أنّ رجلا قد أذاه و شتمه فقال له: هداك اللّه.

و لمّا أمر اللّه النبيّ و المؤمنين بالبراءة عن المشركين و نهاهم من الموالات لهم و القيام بأمورهم و على قبورهم و الصّلاة على موتاهم فمنعهم في هذه الآية الاستغفار و الدعاء لموتاهم كناية عن البراءة عن حيّهم و ميّتهم سواء كانوا اولي قربى أو غير اولي القربى أي رحم ماسّة أو غير رحم ماسّة؛ فبيّن عذر استغفار إبراهيم لأبيه و بيّن أنّ إبراهيم مع أنّه كان حليما و رؤوفا و كونه على هذه الصفة يقتضي أن يكون على خلاص أقربائه أحرص و مع ذلك تبرّأ منه حيث يئس من فلاحه.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 115 الى 116]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116)

النزول: قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن ينزّل الفرائض فقال

ص: 195


1- الممتحنة: 4.

المسلمون: يا رسول اللّه إخواننا الّذين ماتوا قبل الفرائض كيف حالهم؟ فنزلت. و قيل:

لما نسخ بعض الشرائع و قد غاب أناس و هم يعلمون بالأمر الأوّل و يعملون به إذ لم يعلموا بالأمر الثاني مثل تحويل القبلة و غيره و قد ماتوا على الحكم الأوّل؛ فسئل النبيّ عن ذلك فنزلت و بيّن أنّه لا يعذّب هؤلاء على التوجّه إلى القبلة الاولى أو عدم العمل بما شرّع بعد النسخ و لا يضلّهم عن الثواب و الكرامة بعد إذ دعاهم إلى الإيمان حتّى يسمعوا النسخ و الحكم فيما لم يسمعوا فإذا سمعوا و علموا بالحكم و الناسخ فحينئذ إذا لم يعملوا يعذّبهم اللّه. و حاصل الأمر أنّ اللّه لا يؤاخذ بعمل إلّا بعد أن يبيّن لهم أنّه يجب عليهم أن يتّقوه.

و معنى قوله: [لِيُضِلَّ قَوْماً] أي ليصرفه عن طريق الصلاح و الجنّة. و لا يحكم عليهم بالضلال إلّا بعد البيان منه تعالى و عدم القبول عنهم فحينئذ يحكم عليهم بالضلال إنّه عالم بجميع المعلومات.

قوله: [لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ لمّا أمر بالبراءة عن المشركين حيّهم و ميّتهم بيّن في هذه الآية أنّ له ما في السماوات و الأرض و هو غنيّ عن كلّ شي ء و قادر على كلّ شي ء، فإذا كان كذلك و هو معكم و ناصركم فالكفّار لا يقدرون على إضراركم إذا تبرّأتم منهم و لو كان الكفّار آباءكم و أقاربكم؛ فإنّ المالك للسماوات و الأرض و المحيي و المميت لكم يعاونكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم، و لكون اللّه إلهكم و لكونكم عبيده وجب عليكم أن تنقادون لحكمه و تكليفه و تعرضون عن الكفّار.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 117]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

أقسم اللّه تعالى بأنّه قبل توبتهم و إنّما ذكر النبيّ مفتاحا للكلام؛ لأنّه سبب توبتهم و إلّا فلم يكن منه صلى اللّه عليه و آله ما يوجب التوبة. روي أنّ عليّ بن موسى الرضا قرأ: لقد تاب اللّه بالنبيّ على المهاجرين و الأنصار الّذين اتّبعوه في الخروج معه إلى تبوك.

[فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ] و المراد من «الساعة» الوقت و هي صعوبة الأمر حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف اللّه. و حصلت عسرة الظهر و عسرة الماء و عسرة الزاد و عسرة الحرّ، و كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبون بينهم و يتناوبونه في الركوب.

ص: 196

و أمّا عسرة الزاد فربّما مصّ التمرة الواحدة جماعة حتّى لا يبقى من التمرة إلّا النواة و كان معهم من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة.

و أمّا عسرة الماء: قال عمر: خرجنا في قيظ شديد و أصابنا فيه عطش شديد حتّى أنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه و يشربه. و المراد من العسرة هذه الأمور. و بلغ الجهد بهم كادت قلوب بعضهم تزيغ و تضلّ و تميل. و معنى الزيغ ميل القلب عن الحقّ.

و لمّا اشتدّ الأمر عليهم وقعت الوساوس في قلوب بعضهم و كادوا لا يثبتون على اتّباع الرسول في الغزوة. و «كاد» عند بعضهم يفيد المقاربة فقط و عند آخرين يفيد المقاربة مع عدم الوقوع. و يمكن هذه التوبة توبة عن تلك المقاربة.

قيل: كان عبد اللّه بن خيثمة تخلّف عن تبوك إلى أن مضى رسول اللّه من مسيره عشرة أيّام ثمّ دخل يوما على امرأتين له في يوم حارّ في عريشين لهما و قد رتّبتاهما و برّدتا الماء و هيّأتا له الطّعام فقام على العريشين و قال: سبحان اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قد غفر اللّه ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر في الضحّ و الريح و الحرّ و القرّ (1) يحمل سلاحه على عاتقه و أبو خيثمة في ظلال بارد و طعام مهيّأ و امرأتين حسناوين؟ اما هذا بالنصف! ثمّ قال: و اللّه لا اكلّم واحدة منكما كلمة و لا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله فأناخ بعيره و اشتدّ عليه و ارتحل و امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما ثمّ سار حتّى إذا دنى من تبوك قال الناس هذا راكب على الطريق. فقال النبيّ: كن أبا خيثمة. فلمّا دنا قال النّاس: هذا أبو خثيمة فأناخ راحلته و سلّم على رسول اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: أولى لك، فحدّثه الحديث فقال له خيرا و دعا له، و هو الّذي زاغ قلبه للإقامة أوّلا ثمّ ثبّته اللّه اللّه و قبل توبته.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 118]

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

و قرئ خالفوا.

النزول: نزلت في كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن اميّة، و ذلك

ص: 197


1- الضح: الشمس و ضوؤها. و القر شدة البرد.

أنّهم تخلّفوا عن رسول اللّه و لم يخرجوا معه لا عن نفاق و لكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه و آله المدينة جاءوا إليه يعتذرون إليه فلم يكلّمهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله و تقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّموهم بهجرهم الناس حتّى الصبيان، و جاءت نساؤهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقلن:

يا رسول اللّه نعتزلهم فقال: لا و لكن لا يقربوكنّ. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال و كان أهاليهم يجيؤون إليهم بالطّعام و لا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس و لا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرّقوا و لم يجتمع منهم اثنان و بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرّعون إلى اللّه و يتوبون إليه فقبل اللّه توبتهم و نزلت الآية.

قوله: [وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ هذه عبارة عن المبالغة في الغمّ أي ضيّق أنفسهم ضيق صدورهم [وَ ظَنُّوا] أي أيقنوا أنّه لا يعصمهم من اللّه موضع يعتصمون به و يلتجئون إليه غيره تعالى، و أن لا محيص لهم من عذاب اللّه إلّا التوبة [ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا] أي سهّل لهم التوبة حتّى تابوا و عادوا إلى حالتهم الاولى. و قيل: معناه: ثمّ تاب على الثلاثة و أنزل توبتهم على النبيّ صلى اللّه عليه و آله «ليتوبوا» أي ليتوب المؤمنون من ذنوبهم و يعلمون أنّه سبحانه قابل التوب.

قال المفسّرون: أما و اللّه ما سفكوا من دم و لا أخذوا من مال و لا قطعوا من رحم و لكنّ المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول اللّه و تخلّف هؤلاء، و كان أحدهم بسبب ضيعة له و الآخر لأهله و الآخر طلبا للراحة ثمّ ندموا و تابوا فقبل اللّه توبتهم.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 119]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

لمّا حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر في هذه الآية ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى و هو التخلّف عن رسول اللّه في الجهاد بقوله: [اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة الرسول [وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي مع الرسول و أصحابه في الغزوات.

و هذه الآية دالّة على فضيلة الصدق؛ روي أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قال:

إنّي رجل أريد أن او من بك إلّا أنّي احبّ الخمر و الزنا و السرقة و الكذب و الناس يقولون: إنّك تحرّم هذه الأشياء و لا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت بترك واحد منها آمنت بك فقال صلى اللّه عليه و آله: اترك الكذب فقبل ذلك ثمّ أسلم، فلمّا خرج عرضوا عليه الخمر

ص: 198

فقال: إن شربت و سألني الرسول عن شربها و كذبت فقد نقضت العهد و إن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثمّ عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه و كذلك السرقة فعاد إلى رسول اللّه و قال: يا رسول اللّه ما أحسن ما فعلت! لمّا منعتني عن الكذب انسدّت عليّ أبواب المعاصي؛ و تاب عن الكلّ. روي عن ابن مسعود أنّه قال: عليكم بالصدق فإنّه يقرّب إلى البرّ و البرّ يقرّب إلى الجنّة، و إنّ العبد ليصدق فيكتب عند اللّه صدّيقا و إيّاكم و الكذب؛ فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور و الفجور يقرّب إلى النار.

و قالوا في قباحة الكذب: إنّ إبليس إنّما ذكر هذا الاستثناء في قوله: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»* (1) لأنّه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعائه فكأنّه استنكف عن الكذب و استثنى؛ فإذا كان الكذب شيئا يستنكف إبليس منه فالمسلم أولى بالاستنكاف.

و اختلف الناس في أنّ المقتضي لقبحه ما هو؟ فقال جماعة: المقتضي لقبحه هو كونه مخلّا لمصالح العالم و مصالح النفس. و قالت المعتزلة: المقتضي لقبحه هو كونه كذبا لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (2) أي لا تقبلوا قول الفاسق فربّما كان كذبا فيتولّد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه، و أيّ قبح أقبح من أن يكون الفعل مبغوضا عند اللّه؟

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 120 الى 121]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

لمّا قصّ اللّه أحوال الّذين تأخّروا و تقاعدوا عن الخروج مع النبيّ في غزوة تبوك ذكر في هذه الآية على وجه التوبيخ بأنّه لا يجوز لأهل المدينة و لا يجوز لمن حول المدينة من سكّان البوادي من طوائف الأعراب. قيل: إنّهم مزينة و جهينة و أشجع و غفار و أسلم.

و قيل: بل جميع الأعراب الّذين كانوا أطراف المدينة؛ فإنّ الّلفظ عامّ و التخصيص تحكّم.

ص: 199


1- الجحر: 40.
2- الحجرات: 6.

و على القولين ليس لهم أن يتخلّفوا عن رسول اللّه و لا يجوز لهم أن يطلبوا لأنفسهم الراحة و الدعة حال ما يكون النبيّ في الحرّ و المشقّة و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه.

و بعد أن منعهم في صدر الآية عن التأخّر شرع في الترغيب لهم بذكر مثوبات الموافقة في الجهاد بأمور خمسة: أوّلها: [ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ] أي ذلك النهي عن التأخّر بأنّهم لا يصيبهم عطش في الجهاد [وَ لا نَصَبٌ و عناء و عيّ و تعب [وَ لا مَخْمَصَةٌ] أي جوع و ضمور بطن من الجوع. و لا يضعون أقدامهم و لا يضع حافر فرسه و لا يضع خفّ بعيره بحيث يصير ذلك سبيلا لغيظ الكفّار [وَ لا يَنالُونَ أعداءهم [نَيْلًا] أي أسرا أو قتلا أو هزيمة قليلا كان أو كثيرا [إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ و قربة إلى اللّه. و في الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة اللّه فقيامه و قعوده و مشيته و حركته و سكونه كلّها حسنات مكتوبة عند اللّه و كذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة و شؤم المعصية، و إنّ اللّه لا يضيع أجر من أحسن و لا يضيع عمل عامل.

و كذلك [وَ لا يُنْفِقُونَ في طاعة اللّه و جهاده [من نفقة صَغِيرَةً] كانت كالتمرة فما فوقها [وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً] و الوادي كلّ مفرج بين جبال و آكام يكون مسلكا للسيل إِلَّا [كُتِبَ اللّه [لَهُمْ ذلك الإنفاق و ذلك لمسير و كتب لهم ذلك [لِيَجْزِيَهُمُ على أحسن الجزاء من أعمالهم و أجلّ و أفضل و هو رضاء اللّه و ثوابه.

[سورة التوبة (9): آية 122]

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

اعلم أنّه يمكن أن يقال: هذه الآية من بقيّة أحكام الجهاد و يمكن أن يكون كلاما مبتدءا مستأنفا لا تعلّق له في الجهاد، أمّا الأوّل لمّا بالغ اللّه في تحذير المتخلّفين عن الجهاد في غزوة تبوك قال المؤمنون: و اللّه لا نتخلّف في غزوة من الغزوات بعد هذا و لا عن سريّة فلمّا قدم رسول اللّه المدينة و أرسل السرايا إلى الكفّار نفر المسلمون جميعا إلى الغزو و تركوه وحده بالمدينة فنزلت الآية.

المعنى: أنّه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكلمتهم إلى الجهاد و يتركون النبيّ وحده

ص: 200

بل يجب أن يصيروا طائفتين تبقى طائفة في خدمة الرسول و تنفر اخرى إلى الغزو و ذلك لأنّ الإسلام حينئذ كان محتاجا إلى الجهاد و قهر الكفّار و أيضا كانت التكاليف تحدث و الشرائع تنزل وقتا بعد وقت و كان بالمسلمين حاجة إلى جماعة مقيمين بحضرة الرسول عليه السّلام فيتعلّم الشرائع النازلة و يبلّغها إلى الغائبين فكان الواجب انقسام الأصحاب إلى قسمين أحد القسمين ينفرون إلى الغزو و الاخرى لحفظ الأحكام و إيصالها إلى الناس فالنافرة نائبون عن المقيمين، و المقيمون نائبون عن النافرين في التفقّه و بهاتين الطائفتين يتمّ أمر الدين.

«فلو لا» كلمة تستعمل للتحريض و التهديد مثل «هلّا» و «لو ما» و هذه الكلم الثلاثة للترغيب و «هل» كلمة استفهام و عرض و «لا» كلمة جحد فلو ركّبته صارت مركّبا من الأمرين:

الاستفهام و الجحد فكأنّك قلت: هل فعلت؟ ثمّ قلت: لا؟ يعني ما فعلت فينبّه المتكلّم على وجوب ذلك الفعل أي افعل و لم ما فعلت؟ فقوله تعالى: [فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ و يتعلّموا المسائل و بعد التعلّم يعلّموا قومهم الّذين لا يعلمون فيحذّرون الجاهلين و يتعلّمون منهم. (1) و اختلفوا في أنّ النافرة إلى الغزو متفقّهة أم المقيمة متفقّهة قيل: النافرة هم المتفقّهة لأنّهم يرون في الغزو من النصرة و الإعجاز و الظفر من اللّه لهم أمورا فيثبّطون شواهد الدين ثمّ يرجعون و يبيّنون للناس ما رأوا فيهتدون الناس بهم.

و قيل: المقيمة هي المتفقّهة، و على كلا التقديرين كانوا مأمورين بالتبعيض و الطائفتان هم المجاهدون منهم بالسيف و منهم بالعلم و بيان العلم و اللسان، فكلاهما مجاهدان و إليه الإشارة بقوله: مداد العلماء- إلى آخره-.

و المراد بالنفر في قوله: «فلو لا نفر» الخروج لطلب العلم، و في هذا دلالة على أنّ العلم لا يحصل إلّا في الغربة غالبا.

[سورة التوبة (9): آية 123]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

ص: 201


1- كذا.

المعنى: قاتلوا من قرب منكم من الكفّار الأقرب منهم فالأقرب في النسب و الدار. قيل:

إنّ هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافّة ثمّ إنّها نسخت بقوله: «قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً» و لكنّ المحقّقون أنكروا هذا النسخ و قالوا: هذه الآية بيان الأصلح و الأصوب و هو أن يبتدأ من الأقرب فالأقرب منتقلا إلى الأبعد فالأبعد، ألا ترى أنّ أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب؟ قال تعالى: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (1) و أمر الغزوات وقع على هذا المنهاج لأنّه حارب قومه ثمّ انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثمّ انتقل منهم إلى غزو الشام، و المسلمون لمّا فرغوا من أمر الشام دخلوا العراق؛ ثمّ إنّ مقابلة الكلّ دفعة واحدة متعذّرة و لمّا تساوى الكلّ في وجوب القتال معهم لما فيهم من الكفر و امتنع الجميع وجب الترجيح و القرب مرجّح ظاهر كما في الدعوة و سائر الواجبات كالنهي عن المنكر مثلا فالابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة.

ثمّ إنّ النفقات في القريب أقلّ من الأبعد، و المجاورين من الكفّار لدار الإسلام إمّا أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء؛ فإن كانوا أقوياء كان إيذاؤهم و تعرّضهم لدار الإسلام أشدّ و أكثر، و إن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل و حصول عزّ الإسلام بسبب انكسارهم أقرب و أيسر فكان الابتداء بهم أولى و إذا اجتمع واجبان و كان أحدهما أيسر حصولا وجب تقديمه و هذا الحكم جار في جميع الموارد لأنّ الأقرب سهل التناول؛ أما ترى أنّ الأعرابيّ لمّا جلس على المائدة و كان يمدّ يده إلى الجوانب في المائدة الجوانب البعيدة قال صلى اللّه عليه و آله له: كلّ ممّا يليك. فإن قيل: ربّما كان التخطّي من الأقرب إلى الأبعد أصلح قلنا: ذاك منفصل بدليل منفصل و المصالح مبنيّة على ما هو أكثر.

قوله: [وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] فيها ثلاث لغات بفتح الغين و الكسر و الضمّ، أي يجدون الكفّار منكم شجاعة و شدّة، و الغلظة ضدّ الرأفة؛ لأنّ في الغلظة أثرا في الزجر و المنع، ثم إنّ الأمر في هذا الباب ليس على سبيل الاطّراد بل يحتاج تارة إلى الرفق و اللطف و اخرى إلى العنف فقوله: «وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» يدلّ على تعليل الغلظة و

ص: 202


1- الشعراء: 214.

هذه الغلظة في امور يرجع إلى الجهاد و القتال و أمّا ما يتّصل بالمعاشرة و المجالسة و المؤاكلة و البيع و الشراء و أمثال هذه فلا بل بالعكس [وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي من جاهد بسبب تقوى اللّه لا بسبب الغنائم و طلب الجاه و المال.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 124 الى 125]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125)

لمّا ذكر مخازي الكافرين ذكر من جملة مخازيهم فقال: [وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ] فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعضهم: أيّكم زادته إيمانا بنزول هذه الآية؟ و مقصودهم تثبّت قومهم على الكفر و النفاق. و قيل: كان المنافقون يقولونه لأقوام من المسلمين و غرضهم صرف المسلمين عن الإيمان. و قيل: بل ذكروه على وجه الهزء فحصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران و حصل للكافرين أمران: أمّا ما حصل للمؤمنين أنّهم زاد إيمانهم و أقرّوا و اعترفوا بأنّها حقّ من عند اللّه و الثاني ما يحصل لهم من الاستبشار بثواب الآخرة و النصر و الغلبة و الفرح و السرور.

ثمّ جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين للمؤمنين فقال: [وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ و المراد من الرجس العقائد الباطلة أي كانوا مكذّبين بالسور النازلة قبل ذلك و الآن صاروا يكذّبون بهذه السورة فانضمّ كفر إلى كفر و قيل: إنّهم كانوا قبل ذلك في الحسد و العداوة و إعمال وجوه الكفر و المكر و الآن بسبب نزول هذه السورة ازدادت. و الأمر الثاني أنّهم يموتون على كفرهم فكان هذه الحالة ضدّ الاستبشار الّذي حصل للمؤمنين؛ فالحالة الاولى من الكفّار كونهم على الرجاسة بسبب الكفر و الحالة الثانية ازدياد الرجاسة بمداومتهم و موتهم عليه لحصول الحسد الّذي أورث مزيد الكفر في قلوبهم، و من المعلوم أنّ نزول السورة ما أوجب زيادة الكفر في قلوبهم بدليل أنّ الآخرين سمعوا تلك السورة و ازدادوا إيمانا فثبت أنّ الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم و اللّه تعالى ما صدّهم عن الإيمان كما قالت الأشاعرة.

قوله: [سورة التوبة (9): آية 126]

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

.

ص: 203

و قرئ «ترون» بالخطاب للمؤمنين، و في الآية تقريع للمنافقين عن الاعتبار و النظر كأنّ المعنى أنّهم لا يشعرون أنّ في كلّ سنة مرّة أو مرّتين يرون أمورا يبتغي أن يعتبرون بها؛ يمتنحون بالجهاد مع رسول اللّه و يرون من نصره اللّه و ما ينال أعداء اللّه من القتل و السبي. و قيل: بالشدّة و المرض و الجوع و القحط. و قيل: يبيّن اللّه سرائرهم و يخبر اللّه نبيّه بنفاقهم بنزول الوحي و الآيات في حقّهم و مع ذلك لا ينتبهون و لا يتناهون و لا يتوبون عن نفاقهم.

قوله: [سورة التوبة (9): الآيات 127 الى 129]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

هذا نوع آخر في ذكر مخازي المنافقين و هو أنّه كلّما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين تأذّوا من سماعها و نظر بعضهم إلى بعض نظرا مخصوصا دالّا على الطعن و الهزء بها و أخذوا في التغامز و التضاحك ثمّ قال بعضهم لبعض: [هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ] أي لو يراكم أحد على هذا النظر و الشكل لضرّكم جدّا لأنّ ذلك النظر دلّ على الإنكار الشديد منهم و النفرة التامّة فكانوا يخافون أن يراهم أحد من المسلمين على هذه الحالة فإذا تحقّق لهم أنّهم لا يراهم أحد بالغوا فيه و إن علموا أنّه يراهم أحد من المسلمين كفّوا.

[ثُمَّ انْصَرَفُوا] عن مجلس النبيّ [صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الفوائد الّتي يستفيدها المؤمنون. أو المعنى: صرف اللّه قلوبهم عن رحمة اللّه و عن ثوابه عقوبة لهم عن الانصراف عن الإيمان بالقرآن و عن مجلس النبيّ. و قيل: إنّه على وجه الدعاء و دعاء اللّه على عباده و عيد لهم و إخبار بوقوع العذاب لهم بسبب أنّهم لا يفقهون خطاب اللّه.

ثمّ خاطب جميع المكلّفين و أكّد خطابه بالقسم فقال: [لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ .

عنى به محمّدا أي جاءكم رسول من جنسكم من البشر من العرب ثمّ من بني إسماعيل من نكاح لم يصبه شي ء من ولادة الجاهليّة؛ لأنّ نسب إسماعيل غير مدخول فصاعدا فنازلا و إنّما منّ اللّه عليهم بكونه منهم لأنّهم إذا عرفوا مولده و مخبره و منشأه و شاهدوه صغيرا و كبيرا

ص: 204

و عرفوا صدقه و أمانته و لم يعثروا بنقيصة منه فبالحريّ أن يكونوا أقرب إلى القبول منه و الانقياد له [شديد عليه عنتكم و ضرركم بترك الإيمان و لا يرضى بهلاكتكم حريص على إيمانكم رؤوف و ذو رقّة بالمؤمنين. و أقرّ بأنّه رؤوف بمن رآه و رحيم بمن لم يره. و لم يجمع اللّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا محمّدا صلى اللّه عليه و آله فإنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، و قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ»*.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا] و ذهبوا عن الحقّ و اتّباع الرسول و أعرضوا عن قبول نبوّتك [فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني اللّه فإنّه القادر على كلّ شي ء [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و عليه اعتمدت و فوّضت اموري [وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ و خصّ العرش بالذكر تفخيما لشأنه و لأنّه إذا كان ربّ العرش و مدبّره مع عظمته كان ربّ ما دونه.

و قيل: إنّ العرش عبارة عن الملك و القدرة و السلطان. و قيل: هذه الآية آخر آية نزلت من السماء و آخر سورة و آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان.

خاتمة سورة البراءة.

ص: 205

سورة يونس

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة يونس (10): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)

السورة مكّيّة إلّا قوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» أو ثلاث آيات فإنّها نزلت في اليهود بالمدينة.

قرئ بفتح الراء على التفخيم و بكسر الراء على الإمالة، و قرئ بين الفتح و الكسر و اتّفقوا على أنّ «الر» وحده ليس آية و على أنّ «طه» آية لأنّ «الر» لا يشاكل مقاطع الآيات الّتي بعده بخلاف «طه» فإنّه يشاكل مقاطع الآي الّتي بعده قال ابن عبّاس: «الر» معناه أنا اللّه أرى. و قيل: معناه أنا الربّ لا ربّ غيري. و الأصحّ أنّ فواتح السور علمها عند النبيّ صلى اللّه عليه و آله و مرموزات. و قيل: «الر» و «حم» و «ن» اسم الرحمن.

فعلى بناء أنّ هذه الحروف المقطّعة اسم للسورة فتقديره: هذه السورة مسمّاة؛ (الر) و الإشارة إليها قبل جريان ذكرها باعتبار كونها على جناح الذكر فصارت في حكم الحاضر و بصدده كما يقال: هذا ما اشترى فلان.

[تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات و يمكن أن يكون إشارة إلى ما تقدّم هذه السورة من الآيات. و الكتاب الحكيم يمكن أن يكون المراد القرآن، و يمكن أن يكون المراد الكتاب المكنون المخزون عند اللّه الّذي نسخ كلّ كتاب منه و هو اللوح المحفوظ و امّ الكتاب فتقدير المعنى: تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب الحكيم لأنّه سبحانه وعد رسوله بل وعد أنبياءه قبل أن

ص: 206

ينزل على محمّد كتابا لا يمحوه الماء و لا يغيّره كرور الدهر، فحينئذ المعنى أنّ تلك الآيات الّتي في سورة «الر» هي ذلك الكتاب المحكم الموعود به الّذي لا يمحوه شي ء.

و على هذا تكون الإشارة إلى الحاضر و «تلك» يشاربها إلى الغائب فكيف يحسن الإشارة بتلك؟

و أجيب عن هذا في أوّل سورة البقرة في قوله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» قالوا:

إنّه لمّا وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك و قد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك. ثمّ إنّ القرآن لمّا اشتمل على حكم عظيمة و علوم كثيرة يتعسّر اطّلاع القوّة البشريّة عليها بأسرها و الآيات و إن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنّه غائب نظرا إلى أسراره و حقائقه؛ فجاز و صحّ أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب و الإشارة وقعت بالغائب لعلوّ شانه و كونه في الغاية القاصية من الشرف و جعله في حكم المتباعد. هذا إذا كان الإشارة إلى هذه الآيات الّتي في هذه السورة و أمّا إذا كان لفظ «تلك» إشارة إلى ما تقدّم هذه السورة من آيات القرآن فالمعنى أنّ تلك الآيات المتقدّمة هي آيات ذلك الكتاب المكنون الّذي يعبّر عنه بامّ الكتاب و يكون المعنى حينئذ إشارة إلى البعيد و يندفع الإشكال.

و أمّا وصف الكتاب بالحكيم لأنّه يشتمل على الحكمة و الصلاح أو أنّه بمعنى الحاكم لأنّه يميّز الحقّ عن الباطل و الصواب عن الخطاء و حاكم لمحمّد بالنبوّة لأنّ القرآن معجزته الكبرى و يبيّن صدق نبوّته و يحكم برسالته. أو المراد وصف الكلام بصفة من تكلّم به؛ قال الأعشى:

و غريبة تأتي الملوك حكيمةقد قلتها ليقال من ذا قالها؟

و يمكن أن يكون الحكيم معناه المحكم و الممتنع عن الفساد و الخلل أي لا يغيّره طول الدهر و الحكيم في أصل اللغة عبارة عن الّذي يفعل الحكمة و الصواب و لمّا كان القرآن يدلّ على الحكمة و الصواب فوصف القرآن به مجازا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 2]

أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)

.

ص: 207

إنّ كفّار قريش تعجّبوا من تخصيص اللّه محمّدا بالرسالة و الوحي فأنكر اللّه عليهم ذلك التعجّب و الكفّار بلغوا في الجهالة إلى أن تعجّبوا من كون الإله واحدا كما في قوله: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ» (1) فإذا كان الحال كذلك فغير بعيد أن يتعجّبوا من تخصيص النبيّ بالوحي و الرسالة. و كان أهل مكّة يقولون: إنّ اللّه ما وجد رسولا إلى خلقه إلّا يتيم أبي طالب! فأنكر اللّه عليهم هذا التعجّب بقوله:

[أَ كانَ لِلنَّاسِ إلخ، أي أ كان إيحاؤنا إلى رجل من الناس بأن ينذرهم يكون عجبا و ليس هذا موضع التعجّب، و أمر إرسال الرسل أمر ما أخلى اللّه شيئا من أزمنة وجود المكلّفين كما قال: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»* (2) فكيف يتعجّب و قد سبق نظائره؟ و لو كان تعجّبهم اختصاص محمّد بالوحي أيضا غلط؛ لأنّه تعالى بعث رجلا منهم مسلّم عندهم بالأمانة و الصدق و طهارة النسب و حسن الأخلاق عند العدوّ و الصديق و إذا كان فقره موجبا لتعجّبهم فاللّه أغنى الأغنياء فيغنيه فحينئذ لا وجه لتعجّبهم.

ثمّ بيّن الوجه الّذي لأجله بعث و ما الّذي أوحى إليه أن أخبرهم بالعذاب و خوّفهم به [وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا] أي عرّفهم ما فيه من الشرف و الخلود في نعيم الجنّة على وجه الإلزام لصالح الأعمال و قوله: [أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ أي أجرا حسنا و منزلة رفيعة.

و قيل: إنّ المعنى: سبقت لهم الحسنى في الذكر الأوّل. و قيل: تقديم اللّه إيّاهم في البعث يوم القيامة بيانه: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة.

[قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ يعنون النبيّ، أي هذا ساحر مظهر للسحر و ما أتى به سحر بيّن، و السحر فعل يخفى فيه وجه الحيلة و إنّما قدّم الإنذار في الآية على التبشير؛ لأنّ التخلية مقدّمة على التحلية و إزالة ما لا ينبغي مقدّم على فعل ما ينبغي.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 3 الى 4]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

ص: 208


1- ص: 5.
2- الرعد: 109.

لمّا حكى عن الكفّار أنّهم تعجّبوا من رسالة رجل منهم أزال تعجّبهم بأنّه لا يبعد البتّة أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشّرهم على الأعمال الصالحة و ينذرهم عن الأعمال القبيحة و يؤدّبهم بأدب المعروف. و هذا إنّما يصحّ إذا كان لهذا العالم إله قاهر قادر حكيم يضع كلّ شي ء بعد الخلق موضعه، و يأمرهم و ينهاهم.

ثمّ لا بدّ أن يكون الحشر و القيامة و البعث ثابتا حتّى يحصل الثواب و العقاب اللّذان أخبر الأنبياء عن وقوعهما، فلا جرم سبحانه ذكر في الآية ما يدلّ على تحقّق هذين الأمرين.

أمّا الأوّل و هو إثبات الإلهيّة فبقوله: [إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أمّا الثاني و هو إثبات الحشر و النشر و البعث و القيامة فبقوله: [إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا].

و الاستدلال في الآية بخلق السماوات و الأرض من وجوه؛ لأنّهما مادّة كلّ شي ء و معلوم أنّ الأجرام الفلكيّة مركّبة من الأجزاء الّتي لا تتجزّى لأنّها قابلة للقسمة العقليّة و كلّما كان مركّبا من الأجزاء و الأبعاض وجب افتقارها إلى مقدّر و خالق لأنّها لمّا تركّبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم و بعضها حصلت على سطحها، فلها داخل و خارج و فوق و تحت و تلك الأجزاء متساوية في الطبع و الماهيّة و الحقيقة. و الفلاسفة أيضا أقرّوا بصحة هذه المقدّمة حيث قالوا: إنّها بسائط و قالوا: يمتنع كونها مركّبة من أجزاء مختلفة الطبائع.

و إذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل و بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز و يمكن أن ينقلب الظاهر باطنا و الباطن ظاهرا و إذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبّر و قاهر و مسخّر يخصّص بعضها بالداخل و بعضها بالخارج، فثبت أنّ الأجرام السماويّة و الأرضيّة في تركيبها و شكلها و صفاتها مفتقرة (ظ) إلى مدبّر قاهر متصرّف عليم حكيم.

ص: 209

و الوجه الثاني في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر هو أنّه إنّا نرى بالحسّ و العيان أنّ الأفلاك لها حركات و تغيّرات؛ لأنّ المراد من الحركة و التغيّر التغيّر من حال إلى حال و هذه الحالة أي الحركة و التغيّر تقتضي المسبوقيّة بالحالة المنتقل عنها و الأزليّة تنافي المسبوقيّة بالغير فكان الجمع بين الحركة و بين الأزل محالا فثبت أنّ لحركات الأفلاك و تغييراتها لها بداية و أوّل و أوّليّتها و حركاتها مسبوقة بالعدم في الأوّل فافتقرت حركاتها إلى محرّك خالق فيها الحركة و الوجود و هو الإله.

ثمّ قد حصل من هذا الاستدلال و البيان دليل آخر، و هو أنّه لمّا ثبت افتقارها إلى مدبّر قاهر و تخصيص الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعيّن دون ما قبله و دون ما بعده لا بدّ و أن يكون بتخصيص مخصّص و ترجيح مرجّح، و ذلك المخصّص يتصرّف فيها كيف يشاء و هو اللّه. ثمّ إنّ أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر و أجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأوّل فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن و لا بدّ للتخصيص من مرجّح فثبت المطلوب. فبيان الآية مغن و مبيّن دلائل التوحيد و لذا بعد بيان الإلهيّة ذكر دلائل ألوهيّته بذكر السماوات و الأرض اللتين موادّ الموجودات.

و بالجملة [إِنَّ رَبَّكُمُ إلخ أي خالقكم و منشئكم و مالك تدبيركم و الّذي يجب عليكم عبادته [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ اخترعهما و أنشأهما من غير مثال على ما فيهما من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ بلا زيادة و نقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة، و الوجه فيه أنّ في ذلك مصلحة للملائكة و عبرة لمن استخبر عن ذلك، و كذا تصريف الإنسان حالا فحالا من النطفة و العلقة و المضغة، ثمّ و ثمّ، و إخراج الثمار و الأزهار شيئا بعد شي ء مع قدرته على ذلك في أقلّ من لمح البصر لأنّ ذلك أبعد من توهّم الاتّفاق فيه، و في «الأيّام» قيل: من أيّام الدنيا و قيل: من أيّام الآخرة.

[ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قيل: إنّ العرش المذكور هنا هو السماوات و الأرض لأنّهن من بنائه و العرش البناء، و أمّا العرش العظيم الّذي تعبد اللّه الملائكة حوله و يعظّمونه و عناه بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ» فهو غير هذا «ثمّ استوى» أي استولى عليه بإنشاء التدبير من جهة العرش كما يستوي الملك على سرير مملكته بالاستيلاء على

ص: 210

تدبيره فإنّ تدبير الأمور كلّها ينزل من عند العرش و لهذا ترفع الأيدي في دعاء الحوائج نحو العرش [يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] أي يقدّره على وجهه و يرتّبه على مراتبه على أحكام عواقبه. و هو مأخوذ من الدبور.

[ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ و إنّما قال هذا و لم يجر ذكر للشفعاء لأنّ الكفّار كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤنا عند اللّه فبيّن اللّه أنّ الشفعاء إنّما يشفعون عنده إذا أذن لهم فالأصنام الّتي لا تعقل فكيف تكون شافعة؟ [ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ إنّ الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم [فَاعْبُدُوهُ وحده لأنّه لا إله لكم سواه و لا تعبدوا الأصنام [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ .

و تتفكّرون؟

[إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «المرجع» يحتمل فيه أن يكون بمعنى المصدر الّذي هو الرجوع و الآخر أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي إليه موضع رجوعكم يكوّنه إذا شاء [وَعْدَ اللَّهِ ذلك وعدا [حَقًّا] صدقا [إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موتهم ليؤتيهم جزاء أعمالهم بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء حارّ انتهى حرّه في النار [وَ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع جزاء على كفرهم و اعلم أنّ في هذه الآية دلالات صريحة علي المبدأ و المعاد أمّا المبدأ فقد أشرنا إليه في تحقيق حركات الأفلاك و وضعها و أمّا المعاد فإليه الإشارة بقوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» لأنّا إمّا نقول بثبوت النفس الناطقة أولا؛ فإن قلنا به فزال الإشكال لأنّه كما لا يمتنع تعلّق هذه النفس بالبدن في المرّة الاولى لم يمتنع تعلّقها بالبدن مرّة اخرى و إن أنكرنا القول بالنفس فنقول: إنّه سبحانه يركّب تلك الأجزاء المفرّقة تركيبا ثانيا كما خلقها أوّلا، و يخلق الإنسان الأوّل بجمع تراكيبها و أجزائها مرّة اخرى كما ترى الأرض وقت الخريف و الشتاء، و ترى اليبس مستوليا عليها.

ثمّ إنّه ينزل المطر عليها في الشتاء و الربيع فتصير متحلّية بالأزهار و الأنوار كعام الماضي من غير اختلاف في الصورة و المادّة كما قال تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ... فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» (1) و قال تعالى

ص: 211


1- فاطر: 10.

«أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» (1).

قال صلى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور و نعمت المشابهة بين الربيع و النشور و كذلك كلّ إنسان يرى في نفسه من الزيادة و النقيصة و النموّ و الذبول بسبب الهزال و المرض، ثمّ يعود إلى حالته الاولى من السمن و الصحّة فما جاز كون بعضه جاز كون كلّه فظهر أنّ الإعادة غير ممتنعة، و أنّه تعالى لمّا كان قادرا على إنشاء ذواتكم ثمّ على إنشاء أجزائكم ثانيا حال تركّبكم و حياتكم شيئا فشيئا وجب القطع أيضا بأنّه لا يمتنع عليه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة. و أيضا كان قادرا على خلقكم أوّلا من غير مثال سبق فلأن تكون قادرا على إيجاده اخرى مع سبق المثال أولى و أحرى كما قال:

«قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» (2).

و هذا المعنى قرّره سبحانه في آيات كثيرة منها في هذه الآية قوله: «يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» و كذلك قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إلى قوله- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» (3) و كذلك قوله: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (4).

و من الآيات الدالّة على وقوع الحشر قوله: «أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» (5) و كذلك قوله: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (6) و أمثال هذه الآيات كثيرة و هي الوجوه المستنبطة على وقوع المعاد فكيف يستنكر الحياة بعد الموت. و وجه الاستبعاد من حيث إنّه

ص: 212


1- الزمر: 22.
2- يس: 79.
3- الحج: 9- 6.
4- الإسراء: 53.
5- يس: 81.
6- الأحقاف: 32.

يحصل الضدّ بعد حصول الضدّ و هذا غير مستنكر من قدرة اللّه كما أنّه نجد النار و مادّتها مع حرّها و يبسها توجد و تتولّد من الشجر الأخضر مع برده و رطوبته فحصل الضدّ من الضدّ فقال سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (1).

و الامّة فريقان منهم من يقول: إنّ المعاد واجب على اللّه عقلا، و فريق يقول: لا يجب شي ء عليه أصلا. و القول الثاني ضعيف جدّا و على القول بالوجوب قالوا: يجب أن يكون إله العالم رحيما عادلا منزّها عن الإيلام و الإضرار إلّا لمنافع أجلّ و أعظم منها؛ و من الواجب في حكمته و عدله سبحانه أن يأمرهم بما هو خير لهم و ينهاهم عمّا يضرّهم فإنّه لو لم يمنع عن القبائح و لم يرغّب في الخيرات قدح ذلك في كونه محسنا عادلا و من المعلوم أنّ الترغيب في الطاعات لا يمكن إلّا بربط الثواب بفعلها و الزجر عن القبائح لا يمكن إلّا بربط العقاب بفعلها، و ذلك الثواب المرغّب فيه و العقاب المهدّد به غير حاصل في دار الدنيا فلا بدّ من دار اخرى يحصل هذا الثواب و هذا العقاب و هو المطلوب و هذا هو الدليل الأوّل.

قوله: [لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ] ثم إنّا نرى في هذه الدنيا أنّ أزهد الناس و أعلمهم و أعلمهم مبتلى بأنواع الغموم و الأحزان و الظلم و الابتلاء و أجهلهم و أظلمهم في أعظم اللّذّات و المسرّات فيحصل القطع بأنّ دار الجزاء يمتنع أن يكون هذه الدار و لا بدّ من دار اخرى و من حياة اخرى حتّى يتدارك للمحسن و المسي ء و أن لا يجعل من كفر به و جحده و ظلم الخلق بمنزلة من أطاعه، و لمّا وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التمايز إمّا في دار الدنيا أو في دار الآخرة، و الأوّل باطل فحقّ الثاني، و ثبت أنّه لا بدّ بعد هذه الدار من دار اخرى و هو المراد من قوله تعالى في سورة طه: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (2) و في سورة ص: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (3).

ثمّ إنّا نشاهد بعقولنا أنّه لو كان لسلطان قادر قاهر جمع من العبيد و الحشم و كان

ص: 213


1- يس: 80.
2- الآية: 15- 16.
3- الآية: 27.

بعضهم أقوياء و بعضهم ضعفاء وجب على ذلك السلطان إذا كان عادلا رحيما شفيقا عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القويّ فإن لم يفعل ذلك كان ذلك نقصا في عدله و كان راضيا بذلك الظلم و حاشاه؛ فوجب الانتصاف و ما وقع في الدنيا فلا بدّ من أن يقع في دار اخرى.

و حجّة اخرى هاهنا نذكرها أنّه تعالى خلق هذا العالم و ما فيه إمّا لمنفعة و مصلحة أولا و خلقهم لغوا، و الثاني لا يليق به و هو منزّه عنه. و الأوّل فذلك النفع و الصلاح إمّا أن يحصل في هذا العالم أو في دار اخرى، و الأوّل باطل من وجهين: الأوّل أنّ لذّات هذا العالم لا حقيقة لها إلّا إزالة الألم و إزالة الألم أمر عدميّ و هذا العدم كان حاصلا حال كون كلّ واحد من الخلائق معدوما و حينئذ لا يبقى للتخليق فائدة. و الثاني أنّ لذّات هذا العالم ممزوجة بالآلام و المحن بل الدنيا طافحة بالشرّ و الآفات و المحن و البليّات، و اللذّة فيها كالقطرة في البحر فعلم أنّ الدار الّتي فيه الصلاح و النفع غير هذه الدار.

فإن قيل: أليس أنّه تعالى يولم أهل النار بأشدّ العذاب لا لأجل مصلحة و لا لحكمة؟

قلنا: أوّلا لا نسلّم هذه الصغرى ثمّ على فرض التسليم الفرق في ذلك أنّ الألم و الضرر ضرر مستحقّ على أعمالهم الخبيثة و أمّا الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحقّ فوجب أن يعقّبه خيرات عظيمة و منافع جابرة لتلك المضارّ السالفة لهذا الزاهد الطائع المظلوم و لو لم يقع جزاء هذا المظلوم و ذلك الظالم لينا في أن يكون أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين.

و أيضا هاهنا حجّة اخرى و هي أنّه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخسّ من جميع الحيوانات في المنزلة و الشرف و اللازم باطل و الملزوم مثله؛ بيان الملازمة أنّ مضارّ الإنسان في الدنيا أكثر من مضارّ جميع الحيوانات فإنّ سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام و الأسقام، تكون فارغة البال طيّبة النفس لأنّه ليس لها فكر و تأمّل، أمّا الإنسان فإنّه بسبب ما حصل له من العقل يتفكّر أبدا في الأحوال الماضية و الأحوال المستقبلة؛ فيحصل له بسبب التعقّل في الأحوال الماضية الحزن و التأسّف و بسبب التعقّل في الأمور

ص: 214

المستقبلة الخوف فبحصول العقل و كونه فيه يتألّم بالآلام النفسانيّة الشديدة القويّة و أمّا اللذّات الجسمانيّة فهي مشتركة بين الإنسان و بين سائر الحيوان لأنّ السرقين في مذاق الجعل طيّب كما أنّ اللوز في مذاق الإنسان طيّبة.

إذا ثبت هذا فلو لم يحصل للإنسان معاد- و به تكمل حالته و تظهر سعادته- لوجب أن يكون كمال العقل سببا لمزيد الهموم و الغموم من غير جابر يجبر، و كلّ ما كان كذلك يوجب مزيد الشقاء و التعب الخالي عن المنفعة فثبت أنّه لو لا سعادة الآخرة لكان الإنسان أخسّ من الحيوانات حتّى الخنافس و الديدان فثبت أنّ الإنسان خلق للبقاء و الآخرة لا للفناء و الدنيا.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّه لا شكّ أنّ الإنسان و بدن الحيوان إنّما تولّد من النطفة و هذه النطفة اجتمعت من البدن، و مادّة النطفة إنّما تولّدت من الأغذية المأكولة و الأغذية تولّدت من الأجزاء العنصريّة و تلك كانت متفرّقة في مشارق الأرض و مغاربها و ألفت الأجزاء إذا اجتمعت فتولّد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان فتولّد منه دم فتوزّع الدم على أعضائه فتولّد منها أجزاء لطيفة منويّة فعند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار في فم الرحم فتولّد منه هذا الإنسان فثبت أنّ الأجزاء الّتي تولّد منها بدن الإنسان كانت متفرّقة في العناصر فلمّا اجتمعت بالطريق المذكور تولّد منها هذا البدن، فإذا مات تفرّقت تلك الأجزاء على مثال تفرّق الأوّل و إذا ثبت هذا وجب القطع بأنّه لا يمتنع أن يجتمع مرّة ثانية على مثال الاجتماع الأوّل مع أنّا نقطع بأنّ هذا الإنسان الشيخ المنحني هو عين ذلك الإنسان الّذي كان في بطن امّه ثمّ انفصل و كان طفلا ثمّ شابّا و أنّ الأجزاء البدنيّة دائمة التحلّل و أن الإنسان هو هو بعينه فالإنسان إمّا أن يكون جوهرا مفارقا مجرّدا و إمّا أن يكون جسما نورانيّا لطيفا باقيا مع تحلّل هذا البدن، و على التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثّة مرّة اخرى فيكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأوّل.

و اعلم أنّ إثبات الشي ء لا يعقل إلّا بطريقين: أحدهما أن يكون مثله ممكنا فيكون

ص: 215

هذا أيضا ممكنا. و الثاني أن يقال: إنّ ما هو أعظم منه و أعلى حالا منه ممكن فهو أيضا ممكن.

فذكر الطريق الأوّل فقال: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (1) إشارة إلى العود و إلى كمال القدرة و العلم و منكر و الحشر و النشر لا ينكرونه إلّا لجهلهم بهذين الأصلين لأنّهم تارة يقولون: إنّه يمتنع كونه عالما بالجزئيّات فيمتنع منه تميّز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو. و تارة يقولون: إنّه موجب بالذات و الموجب بالذات لا يصحّ منه القصد إلى التكوين و شبهتهم الفلاسفة في المعاد من هذين الأصلين لا جرم لمّا ذكر اللّه المعاد أردفه بدفع هذين الأصلين.

ثمّ ذكر بعده الطريق الثاني و هو الاستدلال بالأعلى على الأدنى بقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، إلخ» (2) و هو أنّ الحرارة الناريّة أقوى في الحرارة من الحرارة الغريزيّة فلمّا لم يمتنع تولّد الحرارة الناريّة عن الشجر الأخضر مع كمال مضادّتهما؛ فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزيّة في جرم الشراب و هو أولى؟.

ثمّ حسم مادة الشبهات بقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (3) أي تخليقنا ليس بالأدوات و لا يتوقّف على الآلات، و الدليل عليه أنّه خلق الأب الأوّل لا عن أب سابق عليه، ثمّ تأمّل في هذه الحجّة و هي أنّه قد دلّت الدلائل على أنّ العالم محدث، و إذا كان كذلك فلا بدّ له من محدث قادر عالم بمصالح حدوثه و أوضاعه فحينئذ لا يجوز في حقّ هذا الحكيم أن يهمل عبيده من غير أن يأمرهم بما ينفعهم و ينهاهم عمّا يضرّهم و لا يجوز له أن يتركهم سدى حتّى يفعلوا ما يشاءوا من القتل و النهب و الفساد في العالم، و إيقاع الهرج و المرج، و يجحدوا ربوبيّته و يأكلوا نعمته و يعبدوا الجبت و الطاغوت؛ لأنّ مثل هذه الأمور لا يقع و لا يليق إلّا بالسفيه البعيد من الحكمة، و بداهة العقل يحكم بفساده فلا بدّ له من أن يأمر و ينهى فإذا أمر و نهى و لم يقرن الأمر بالوعد و الثواب و لم يقرن النهي بالوعيد و العقاب لم يتأكّد الأمر و النهي و لم يحصل المطلوب و الأثر.

فثبت أنّ الوعد و الوعيد لا بدّ أن يقع من الحكمة، و هل يجوز له أن لا يفي بوعده

ص: 216


1- يس: 79- 80.
2- يس: 79- 80.
3- النحل: 42.

لأهل الثواب؟ و لا بوعيده لأهل العقاب من الكافرين؟ و لا شكّ أنّه لا يجوز عليه الكذب لأنّه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده و وعيده بل بعدله و بصدقه، و هو أصدق الصادقين؛ فحينئذ تحقّق الثواب و العقاب أمر لا بدّ منه و ذلك لا يتمّ إلّا بالحشر و النشر و ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب، و هذه مقدّمات تتعلّق بعضها ببعض كالسلسلة متى صحّ بعضها صحّ كلّها و متى فسد بعضها فسد كلّها، و دلّ مشاهدة أبصارنا لهذه التغيّرات الحاصلة على حدوث العالم و حدوث العالم على وجود المحدث و الصانع، و ذلك يكون غنيّا قادرا عالما فحينئذ فإن لم يثبت الحشر أدّى ذلك إلى بطلان جميع المقدّمات المذكورة و لزم إنكار العلوم البديهيّة و إنكار العلوم النظريّة العقليّة فثبت أنّه لا بدّ لهذه الأجساد البالية، و العظام النخرة و الأجزاء المتفرّقة من البعث بعد الموت، و هي المراد من الآية لقوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» هذه البيانات كلّها تقرير المعادو به الكفاية.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 5]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

هذه الآية تكملة للدلائل الدالّة على الألوهيّة أي كما أنّ خلق السماوات و الأرض دالّة في الإلهيّة كذلك جعل الشمس و القمر نوع آخر من الأدلّة، و بهما يتوصّل المكلّف إلى معرفة السنين و الحساب فيمكنه ترتيب مهمّاته و معاملاته من الحرث و النسل و غيرهما في الأمور الدينيّة و الدنياويّة و لمّا وجب في الحكمة للمكلّف معرفة الشهور و الأعوام خلق الشمس و القمر مضيئة و منيرا فخصّص جسم الشمس بضوئها الباهر و شعاعها القاهر، و جسم القمر بنوره المخصوص الضعيف بالنسبة إلى ضوء الشمس.

و قد قرّرنا أنّ الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهيّة، و إذا ثبت هذا فالأشياء المتساوية في تمام الماهيّة تكون متساوية في جميع لوازم الماهيّة فكلّ ما يصحّ على بعضها وجب أن يصحّ على الباقي فلمّا صحّ جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر وجب أن يصحّ مثل ذلك الضوء على جرم القمر و بالعكس؛ فاختصاص الشمس بضوئه و القمر بنوره بقسم آخر غير نور الشمس بتخصيص مخصّص و تقدير مقدّر و هو المطلوب لأنّ هذا الاختصاص بجعل جاعل.

ص: 217

قال أبو عليّ الفارسيّ: «الضياء» لا يخلو من أحد أمرين إمّا جمع ضوء كسوط و سياط و حوض و حياض، أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك: قام قياما و صام صياما و على أيّ الوجهين فالمضاف محذوف أي ذات ضياء و ذا نور، و يمكن أن يقال: لمّا عظم الضياء و النور فيهما جعلا نفس الضياء و النور مثل زيد عدل، و الضياء و النور كيفيّة قابلة للشدّة و الضعف فإنّ الضوء الحاصل في أوّل النهار أضعف من ضوء الحاصل في وسط النهار و كذلك النور القائم بالقمر. و اختلف الناس في أنّ الشعاع الحاصل و النور الساطع هل هو جسم أو عرض.

قال الرازيّ: و الحق أنّه عرض لقوله: «قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» أي قدّر مسيره منازل أو المعنى و قدّره ذا منازل، و الضمير لهما و إنّما و حدّ للاتّحاد و إلّا فهو بمعنى التثنية اكتفاء بالمعلوم لأنّ عدد السنين و الحساب إنّما يعرف بسير الشمس و القمر و نظيره: «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» (1) و قيل: الضمير راجع إلى القمر وحده لأنّ بسير القمر تعرف الشهور. و الشهور و السنين المعتبرة في الشريعة هي الشهور القمريّة.

و اعلم أنّ انتفاع الخلق بضوء الشمس و نور القمر عظيم و بحركتهما يحصل الفصول و باختلاف أحوالهما تختلف أحوال رطوبات هذا العالم و يبوساته و تنتظم مصالحه و يتعيّن زمان التكسّب و الطلب و الدعة و الراحة و باختلاف حركاتهما ينشأ النباتات و الأغذية من الحيوان و النبات و كلّ ذلك يدلّ على كثرة رحمة اللّه على الخلق و لمّا تحقّق أنّ الأجسام متساوية فاختصاص كلّ جسم بشكله المخصوص و حيّزه المعيّن و أثر معلوم ما حصل إلّا بتدبير المقدّر العالم الحكيم. و التقرير الّذي قرّرنا يدلّ على أنّ جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك و مسير الشمس و القمر و الكواكب و قد حصل بتدبيره سبحانه.

و لمّا قرّر سبحانه هذه الدلائل على وجوه ختمها بقوله: [ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ .

أي خلقها على وفق الحكمة و الحقيقة كقوله: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا» (2) قال حكماء الإسلام هذه الآية تدلّ على أنّه أودع في أجرام الأفلاك و الكواكب

ص: 218


1- التوبة: 63.
2- ص: 26.

خواصّا و قوى مخصوصة باعتبارها تنتظم هذا العالم السفلى إذ لو لم يكن لها آثار و فوائد لكان خلقها عبثا و باطلا ثمّ الفوائد لها في هذا العالم نراها عيانا و مشهودا.

قوله: [يُفَصِّلُ الْآياتِ و التفصيل ذكر هذه الدلائل الباهرة [لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يعقلون حتّى يعمّ الكلّ لأنّ العقل يشمل الجميع، و قيل: المراد العلماء و لا يمتنع أنّ يخصّ اللّه العلماء لهذا الذكر و الأوّل أليق.

قوله: [سورة يونس (10): آية 6]

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

استدلّ سبحانه أوّلا على التوحيد و الإلهيّات بتخليق السماوات و الأرض، ثمّ بأحوال الشمس و القمر، ثمّ في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل و النهار و بأقسام الحوادث الواقعة في هذا العالم.

و الحوادث أقسام: منها في العناصر الأربعة و يدخل فيها أحوال الرعد و البرق و السحاب و الأمطار و الثلوج و أحوال البحار و المدّ و الجزر و الصواعق و الزلازل و الخسف و أمثالها.

و منها أحوال المعادن. و منها أحوال النبات و اختلافاتها و خواصّ وجودها و نفعها.

و منها اختلاف الحيوان و جملة هذه الأمور داخلة في قوله: «وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و جملتها لا تسع في ألف مجلّد بل كلّ ما ذكره العقلاء و الحكماء جزء عن ألف و أقلّ في هذا الباب.

ثمّ قال سبحانه: إنّ هذه الآيات للمتّقين لأنّهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر و التدبير و لذا خصّها بالذكر بهم، قال القفال: إنّ من تدبّر في أحوال هذا العالم و في بيان هذه الآية علم أنّ الدنيا مخلوقة للعمل و العمل لأمر آخر و هو الثواب و العقاب، فلا بدّ من أمر و نهي ليتميّز المحسن من المسي ء و كلّها آلة على صحّة القول بإثبات المبدء و المعاد.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

ص: 219

لمّا تبيّن من الآيات صحّة هذه الأمور الإلهيّة من عجيب الخلقة و الحشر و الثواب و العقاب شرع في بيان أحوال من يكفر بها و هذه الآية و من يؤمن بها فيما بعد هذه الآية فوصف الكافرين بصفات:

الاولى: و هم [الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا] و فسرّ «الرجاء» هاهنا بالخوف أي لا يخافون البعث لا يؤمنون بها و تفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» (1) قال الهذليّ: «إذا لسعته النحل لم يرج لسعها» و قيل: معنى «الرجاء» معناه الأصليّ و المراد الطمع أي لا يطمعون في ثوابنا و هذا القول أصحّ لأنّ حمل الرجاء على الخوف و بمعنى الضدّ بعيد و لا مانع هاهنا من حمل الرجاء على ظاهره البتّة و حسن جعل عدم الرجاء كناية عن عدم الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و المراد من اللقاء رؤية ثواب اللّه و لقاء نعم اللّه من السعادات الأبديّة.

الثانية: [وَ رَضُوا] هؤلاء [بِالْحَياةِ الدُّنْيا] و استغرقوا باللذّات الجسمانيّة و أعرضوا عن كسب السعادات الروحانيّة.

و الثالثة: [وَ اطْمَأَنُّوا بِها] أي ما حصل لهم عند ذكر اللّه نوع من الوجل و الخوف بعكس السعداء لأنّهم إذا ذكروا اللّه و جلت قلوبهم، و هؤلاء حصلت الطمأنينة لهم من الدنيا، و اشتغلوا بها و لم يبالوا امور الآخرة مطلقا فلو قيل: مقتضى اللغة أن يقال: اطمأنّوا إليها إلّا أنّ حروف الجرّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض فلهذا السبب قال: «وَ اطْمَأَنُّوا بِها».

الرابعة: [وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ بحيث لا يخطر بباله طول عمره ذكر اللّه و لمّا وصفهم سبحانه بهذه الصفات قال: [أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ].

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 9 الى 11]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

لمّا شرح حال الكافرين ذكر حال المؤمنين المحقّين. اعلم أنّ النفس الإنسانيّة

ص: 220


1- نوح: 12.

لها قوّتان نظريّة و عمليّة و النظريّة كما لها من معرفة الأشياء معرفة اللّه، و العمليّة كما لها العمل بخدمة اللّه من الطاعات و العبادات أي صدقوا بقلوبهم بقوّة النظر و حقّقوا الإيمان بعمل الجوارح، فشغلوا قلوبهم و أرواحهم بتحصيل المعرفة و شغلوا جوارحهم بالخدمة و العبادة فعينهم مشغولة باعتبار كما قال: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (1) و إذنهم بسماع كلام اللّه كما قال: «وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» (2) و لسانهم مشغول بذكر اللّه كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ» (3) و جوارحهم مشغولة بطاعة اللّه كما قال:

«أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (4).

و لمّا بيّن مقامهم ذكر درجات كراماتهم و مراتب سعاداتهم قوله: [ليهديهم ربّهم إلى الجنة] ثوابا لهم و الّذي يدلّ على هذا المعنى قوله: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» (5) و ما روي أنّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك فيكون له نورا و قائدا إلى الجنّة و الكافر كذلك إلى الجحيم، و العمل الصالح عبارة عن العمل الّذي تحمل النفس على ترك الدنيا و طلب الآخرة و العمل المذموم بخلافه؛ و كلّما كان العمل أكمل كان النور و الهداية أكمل.

قوله: [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ] المراد أنّهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين و الأنهار تجري من بين أيديهم و نظيره قوله تعالى: «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» (6) كالجدول و كذلك قوله: «وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» (7) المعنى بين يديّ و إلّا لا يقعد الإنسان على النهر الجاري أي تجري الأنهار بين أيديهم و من تحت اسرتهم و قصورهم.

ص: 221


1- الحشر: 2.
2- المائدة: 76.
3- الأحزاب: 41.
4- النمل: 25.
5- الحديد: 12.
6- مريم: 24.
7- الزخرف: 50.

[دَعْواهُمْ فِيها] أي دعاء المؤمنين في الجنّة أن يقولوا: [سُبْحانَكَ اللَّهُمَ لا على وجه العبادة بل يلتذّون بالتسبيح و قيل: المراد من دعواهم أي ما حصل من التمنّي في قلوبهم من المشتهيات قالوا: «سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ» فيؤتون بما أرادوا فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا:

«الحمد للّه».

و قال بعض المفسّرين كالكلبيّ: هذه الكلمة علامة ما يشتهونه بين أهل الجنّة و الخدام فإذا سمعوا ذلك أتوهم به. و هذا القول ضعيف جدّا؛ لأنّه تعالى وعدهم بما يشتهون في الجنّة و يجعلون هذا الذكر المقدّس العالي علامة المأكول و المشروب هذا بعيد.

و الأنسب في المعاني أنّ تمنّي أهل الجنّة في الجنّة ليس إلّا في تسبيح اللّه و تنزيهه أي النهاية في سرورهم و عيشهم هذا الذكر و لكن لا على سبيل العبادة بل على سبيل الميل و الإرادة فيكون مفتتح كلامهم في كلّ شي ء التسبيح و التنزيه، و مختتم كلامهم التحميد فيكون التسبيح في الجنّة بدل التسمية.

و تحيّتهم في الجنّة من اللّه [سَلامٌ و قيل: تحيّة بعضهم لبعض سلام أو تحيّة الملائكة لهم سلام يقولون: سلام عليكم أي سلمت عن الآفات و المكاره الّتي ابتلى بها أهل النار [وَ آخِرُ دَعْواهُمْ التحميد، و ليس المراد أن يكون ذلك آخر كلامهم حتّى لا يتكلّموا بعد بشي ء بل المراد أنّهم يجعلون هذا التحميد آخر كلامهم في كلّ ما ذكروا.

و «إن» في قوله: «إن الحمد» هي المخفّفة فلذلك لم تعمل لخروجها عن شبه الفعل كقوله:

«أن هالك كلّ من يحفى و ينتعل» على معنى أنّه هالك و قيل: «إن» الزائدة و التقدير: و آخر دعواهم. و قرئ بنصب الحمد و تشديد «إن».

قوله: [سورة يونس (10): آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

يمكن أن يكون نظم الآية بهذا التقرير و هو أنّه لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّ القوم تعجبّوا من تخصيص اللّه محمّد بالرسالة فدفع تعجّبهم بقوله: «أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ» (1) و ذكر دلائل صحّة التوحيد و المعاد و لازمهما أن يبعث رسولا من جنسهم فما بقي

ص: 222


1- السورة: 2.

حينئذ للتعجّب من نبوّته موقع، ثمّ إنّ بعض القوم من شدّة كفرهم و حسدهم على النبيّ كانوا يقولون: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد صلى اللّه عليه و آله حقا في ادّعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فأجاب اللّه عن أحوالهم بما ذكر في هذه الآية قيل: هذا هو الكلام في كيفيّة النظم.

قوله: [وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ] أي إجابة دعوتهم في الشرّ إذا دعوا بالشرّ على أنفسهم و أهاليهم عند الغيظ و الغضب كقوله: أماتني اللّه أو لعنة اللّه عليّ مثلا أولا أبقاني اللّه ساعة كاستعجالهم بالخير، أي كما يعجّل لهم إجابة الدعوة بالخير [لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ .

أجلهم و هلكوا و لكنّ اللّه لا يعجّل لهم الهلاك، بل يمهلهم حتّى يتوبوا و يرجعوا.

و قيل: معنى الآية و لو يعجّل اللّه للناس العقاب الّذي استحقّوه بالمعاصي و الكفر كما يستعجل لهم خير الدنيا لفنوا؛ لأنّه لو تعجّلت العقاب لزال التكليف بالموت و إذا عوجلوا بالموت لم يبق أحد [فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ و لا يخافون البعث و الحساب يتحيّرون في كفرهم و عدولهم عن الحقّ إلى الباطل لسوء اختيارهم لأنّ تركهم في الدنيا لا يوجب ذلك و لا صلاح في إماتتهم فربّما آمنوا بعد ذلك و ربّما خرج من صلبهم من كان مؤمنا و ذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال الشرّ و العقاب إليهم كما استعجلوا لقوله تعالى: «وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»* (1).

ثمّ إنّهم لمّا توعّدوا في الآية السابقة و هو قوله: «أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» استعجلوا ذلك العذاب و قالوا: متى يحصل ذلك؟ كما قال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ». (2) فلو قيل: كيف قابل التعجيل بالاستعجال؟

الجواب أنّ في التعجيل معنى الطلب فقولك: عجلت فلانا طلبت عجلته، و كذلك عجّلت الأمر إذا أتيته عاجلا فطلبت فيه العجلة فصحّ مقابلة الاستعجال بالعجل لأنّ في كليهما معنى الطلب فحينئذ يصير معنى الآية: لو أراد اللّه عجلة الشرّ للناس كما أرادوا

ص: 223


1- يس: 48.
2- الشورى: 17.

عجلة الخير لهم لقضي إليهم أجلهم و لكن لا يتعجّل للمصالح المذكورة و يمهلهم للمصالح و إلزاما للحجّة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

المقصود من هذه الآية بيان جهل الإنسان و غفلته، و لذلك بيّن كذبهم في استعجال العذاب بأنّهم في هذا الطلب كاذبون لأنّه إذا مسّهم أدنى شي ء يضرّه و يؤذيه؛ فإنّه يتضرّع إلى اللّه في كشفه و إزالته من محن الدنيا و دعانا لرفع ذلك الضرّ في حال أنّه مضطجعا كان أو قاعدا كان أو قائما، و اجتهد في الدعاء و سؤال العافية فلمّا أزلنا عنه ذلك الضرّ و وهبنا له العافية استمرّ على طريقته الاولى معرضا عن شكرنا [كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا] قطّ لكشف ضرّه.

[كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ يعني كما زيّن لهم الشيطان و لاقترانهم من المشركين ترك الدّعاء و الشكر كذلك زيّن للمسرفين عملهم. و يحتمل أن يكون المعنى: زيّن المسرفون بعضهم لبعض هذا العمل و إن لم يضف التزيين إليهم فهو كقولهم: فلان معجب بنفسه و هذه الآية حثّ للذين منحوا الرخاء بعد الشدّة، و العافية بعد البليّة على أن يتذكّروا حسن صنع اللّه إليهم و يشكروا له؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من سرّه أن يستجاب له دعوة عند الكرب و الشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء.

و اعلم أنّ المؤمن إذا ابتلي ببليّة و محنة وجب عليه رعاية امور.

أولها أن يكون راضيا بقضاء اللّه غير معترض بالقلب و اللسان لأنّه سبحانه مالك على الإطلاق فله أن يفعل في ملكه ما شاء و ما يشاء و لأنّه حكيم على الإطلاق و هو منزّه عن الباطل و العبث فعله حكمة و صواب فإن أبقى على عبده المحنة فهو عدل و إن أزال فهو فضل؛ فحينئذ يجب عليه الصبر و السكوت و ترك القلق و الاضطراب.

و ثانيها أنّ العبد في ذلك الوقت يشتغل بذكر اللّه و الثناء عليه بدلا عن الدعاء و هو أفضل من الدعاء حيث يقول عزّ و جلّ: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي السائلين، و لأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحقّ و الاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظّ

ص: 224

النفس و نيل الآمال و لا شكّ أنّ الأوّل أفضل.

و ثالثها أنّه سبحانه إذا أزال عنه البليّة يجب عليه أن يبالغ في الشكر و لا يشتغل بالنعم عن المنعم. و قوله: [كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا] حذف الضمير في «كأن» للتخفيف و الوضوح.

قال أبو بكر الأصمّ في السبب الّذي لأجله سمّى اللّه سبحانه الكافر في هذه الآية مسرفا: لأنّ الكافر مسرف في نفسه و ماله و مضيّع لهما، أمّا في النّفس فقد جعلها عبدا للوثن و أمّا في المال فلأنّهم يصرفونه في البحيرة و السائبة و أمثالها و لا شبهة في أنّ المرأ كما يكون مسرفا في ماله كذلك يكون مسرفا فيما يتركه من واجب، أو يقدم من قبيح و محرّم إذا تجاوز الحدّ فيه.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

لما بيّن في الآية السابقة أنّ إهلاكهم و إجابة دعائهم ليس مصلحة لهم لعلّ يتوبون أو يكون من أولادهم مؤمنون- على أنّ هم في دعائهم كاذبين- ذكر هذه الآية على سبيل التهديد بأنّه قد ينزل بهم عذاب الاستيصال و لا يزيله عنهم.

قوله: [وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا] قال الزمخشري: «لمّا» في الآية ظرف «لأهلكنا» و الواو في قوله «و جاءتهم» للحال أي أهلكنا القرون من قبلكم بأنواع العذاب لمّا ظلموا أنفسهم بأنواع العذاب بأن أشركوا و عصوا أنبياءهم مع أنّ الأنبياء أتوا لهم بالمعجزات و الدلالات الواضحة. قوله: [وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا] هذا الكلام إخبار من اللّه بأنّ هذه الأمم إنّما اهلكوا لمّا كانوا في المعلوم أنّهم لو بقوا لم يكونوا يؤمنون بالرسل.

و استدلّ أبو علي الجبّائيّ بهذا على أنّ تبقية الكافر واجبة إذا كان المعلوم أنّهم لو بقوا يؤمنون فيما بعد.

قوله: [كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كذلك نعذّب المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا بعد قيام الحجّة عليهم و علمنا أنّهم لا يؤمنون و لا يصلحون [ثُمَّ جَعَلْناكُمْ .

يا امّة محمّد خلائفهم [فِي الْأَرْضِ من بعد القرون الّتي أهلكناهم أي أسكنّاكم الأرض خلفهم

ص: 225

لننظر كيف عملكم، يعني نرى عملكم كيف يقع من عمل أولئك؛ أ تقتدون بهم فتستحقّون العذاب مثل ما استحقّوه أم تؤمنون فتستحقّون الثّواب؟ و اللّام في «ليؤمنوا» لتأكيد النفي.

فلو قيل: كيف يطلق النظر على اللّه و فيه معنى المقابلة، ثمّ «كيف تعملون» مشعرة بأنّ اللّه ما كان عالما بأحوالهم قبل وجود عملهم.

فالجواب أنّ اللّه يعامل العبد معاملة المختبر الّذي لا يعلم الشي ء فيجازيه على ما يظهر و لا يجازيهم على ما علم منهم أنّهم يفعلون أو لا يفعلون، و النظر في الحقيقة لا يجوز على اللّه لأنّ النظر إمّا يكون بالقلب و هو التفكّر أو بالعين و هو تقليب الحدقة نحو المرئيّ طلبا للرؤية مع سلامة الحاسّة و المقابلة و كلّها لا يجوز على اللّه حقيقة بل يستعمل في صفاته على وجه المجاز و التوسّع؛ فإنّ النظر يطلب العلم و هو سبحانه يعامل عباده معاملة مثل من يطلب العلم بالوقوع و اللاوقوع؛ لأنّ الجزاء فرع الوقوع و اللّاوقوع و ليس الجزاء فرع العلم فتأمّل.

قوله: [سورة يونس (10): آية 15]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

النزول: قال ابن عبّاس: إنّ خمسة من الكفّار كانوا يستهزئون بالرسول صلى اللّه عليه و آله و بالقرآن: الوليد بن مغيرة المخزوميّ، و العاص بن وائل السهميّ، و الأسود بن المطّلب، و الأسود بن عبد يغوث، و الحرث بن حنظلة؛ فقتل اللّه كلّ رجل منهم بطريق آخر كما قال: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ». (1) فشرح اللّه في هذه الآية حالهم و حال من مثلهم فقال في حالهم: إنّه كلّما تلي عليهم آيات القرآن [قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا] أي كونهم مكذّبين للحشر و البعث و القيامة و لا يعتقدون منها فحينئذ حسنت الاستعارة بقوله: «لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» لأنّ من كان

ص: 226


1- الحجر: 95.

معتقدا بالقيامة يرجو الثواب و يخاف العقاب، و من لم يكن كذلك لا يعتقد الملاقاة أصلا.

ثمّ إنّهم طلبوا من رسول اللّه أحد الأمرين على البدل: الأوّل أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن قيل: إنّ هؤلاء المقترحين غير أولئك الخمسة المستهزئين الّذين ذكروا و هم عبد اللّه اميّة، و مكرز بن حفص و عمرو بن عبد اللّه أبي قيس العامريّ، و العاص بن عامر ابن هاشم، و الوليد بن مغيرة قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزّى و منات و هبل و لا يكون فيه عيب الأصنام أو بدّله من تلقاء نفسك و غيّر أحكامه من الحلال و الحرام و سائر الشرائع. أرادوا بذلك زوال الحظر عنهم و سقوط الأمر منهم و أن يخلّي بينهم و بين ما يريدون.

[قُلْ لهم يا محمّد [ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي و ناحيتي و ما [أَتَّبِعُ إِلَّا].

الّذي اوحي [إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي في اتّباع غيره [عَذابَ يَوْمٍ القيامة.

ثمّ هاهنا بحث و هو أنّهم طلبوا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن أو التبديل و هذا يؤول إلى أمر واحد لأنّه إذا بدّل هذا القران بغيره فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن و إذا كان كذلك كان كلّ منهما شيئا واحدا و أمرا واحدا، و الجواب من اللّه أيضا يدلّ على أنّ كلّ منهما عين الآخر؛ لأنّه سبحانه اقتصر في الجواب على نفي أحدهما و هو قوله: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» و لمّا كان كلّ واحد من هذين الأمرين نفس الآخر فإلقاء اللفظ على التخيّر باطل.

و الجواب أنّ أحد الأمرين غير الآخر لا عين الآخر حتّى يرد الإيراد فالإتيان بكتاب آخر لا على ترتيب هذا القرآن و لا على نظمه يكون إتيانا بقرآن آخر أو يأتي بهذا القرآن و لكن يضع المدح مثلا محلّ الذمّ كعبادة الأصنام، أو الرحمة محلّ العذاب و هذا القسم الثاني تبديل و تغيير، و هذا القسم غير القسم الأوّل فصار اقتراحهم أحد الأمرين.

و أمّا الاكتفاء بالجواب عن أحد الأمرين لا يدلّ على أنّ الأمرين أمر واحد بل الجواب عن الأمر الواحد يكتفي بذكره عن ذكر الجواب الثاني لأنّ الجواب عن أحد

ص: 227

القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني لأنّ علّة المنع في كلا الأمرين واحد و هو عدم القدرة في تبديله أو الإتيان بغيره من تلقاء نفسه.

قوله: [سورة يونس (10): آية 16]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

لمّا ظنّ بعض الجاهلون منهم أنّ هذا القرآن هو الّذي يأتي به من عند نفسه فرفع اللّه فساد هذا الظنّ و الوهم بهذه الآية بأنّ هؤلاء الكفّار كانوا قد شاهدوا الرسول من أوّل عمره إلى ذلك الوقت و كانوا عالمين بأحواله و رأوا أنّه صلى اللّه عليه و آله ما طالع كتابا و لا تلمّذ لأستاذ و ما تعلّم من أحد، ثمّ بعد انقراض أربعين سنة بهذا الحال جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على أخبار الماضين و نفائس الحكمة و عمدة علم الأصول و الأخلاق المرضيّة و عجز عن معارضته العلماء من اليهود و النصارى و الفصحاء و البلغاء فكلّ من كان له عقل يعرف أنّ مثل هذا لا يحصل إلّا بالوحي من اللّه.

قوله: [لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ يعني لو شاء اللّه ما تلوت هذا القرآن عليكم بأن كان لا ينزله عليّ و لا أعلمكم اللّه به بأن لا ينزله عليّ فلا أقرؤه عليكم فلا تعلمونه. و قرئ «و لا أدرأتكم به» بصيغة المتكلّم و قرأ ابن عبّاس: و لا أنذرتكم به [فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ مدّة من العمر من قبل هذا الوقت فلم لا أتيتكم بكتاب [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتفكّرون و تستدلّون.

قال عليّ بن عيسى: العقل هو العلم الّذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب و الناس يتفاضلون فيه بالأمر المتفاوت فبعضهم أعقل من بعض إذا كان أقدر على الاستدلال من بعض.

قوله: [سورة يونس (10): آية 17]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

أي لا أحد أظلم ممن اخترع على اللّه كذبا و كذّب بآياته و رسله إنّه لا يفلح المشركون الكافرون.

فإن قيل: أليس من ادّعى الربوبيّة أعظم ظلما ممّن ادّعى النبوّة كذبا؟

ص: 228

قلنا: إنّ المراد بقوله: «مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» من كفر باللّه و قد دخل فيه من ادّعى الربوبيّة و غيره من أنواع الكفر و الكفّار فكأنّه قال: لا أحد أظلم من الكفّار. و نظم الآية و تعليقها بما قبلها واضح.

قوله: [سورة يونس (10): آية 18]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

لمّا التمسوا من النبيّ صلى اللّه عليه و آله تبديل القران لأنّ فيه شتم آلهتهم ذكر اللّه في هذه الآية ما يدلّ على قبح عبادة الأصنام و حكى عنهم أمرين: الأوّل أنّهم يعبدونها. و الثاني أنّهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه؛ أمّا الأوّل فقد بيّن اللّه و نبّه اللّه على فساده بقوله: «ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» إن عبدوها و إن تركوها لا يضرّهم بشي ء و إذا كان العابد أنفع من المعبود فالعبادة غلط لأنّ العبادة لا يليق إلّا للمنعم و هؤلاء لا يضرّ و لا ينفع. و أمّا أمر الثاني و هو الشفاعة فاعلم أنّ من الناس من قال: إنّ أولئك الكفّار توهّموا أنّ عبادة الأصنام أشدّ في تعظيم اللّه من عبادة اللّه سبحانه؛ فقالوا: ليست لنا أهليّة أن نشتغل بعبادة اللّه بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام و إنّها رابطة و واسطة و شفعاء لنا عند اللّه.

ثمّ اختلفوا في أنّهم كيف قالوا في الأصنام: إنّها شفعاءنا و ذكروا فيه أقوالا كثيرة فأحدها أنّهم اعتقدوا في أنّ المتولّي لكلّ إقليم من أقاليم العالم روح معيّن من أرواح عالم الأفلاك؛ فعيّنوا لذلك الروح صنما معيّنا و اشتغلوا بعبادة ذلك الصنم و مقصودهم عبادة ذلك الروح ثمّ اعتقدوا أنّ ذلك الروح يكون عبدا للإله الأعظم و مشتغلا بعبوديّته.

و ثاني الأقوال أنّهم كانوا يعبدون الكواكب و زعموا أنّ الكواكب هي الّتي لها أهليّة عبوديّة اللّه، ثمّ إنّهم لمّا رأوا أنّ الكواكب تطلع و تغرب وضعوا لها أصناما بعينه و اشتغلوا بعبادتها و مقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب.

و ثالثها أنّهم وضعوا طلسمات معيّنة على تلك الأصنام و الأوثان؛ ثمّ تقرّبوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات.

ص: 229

و رابعها أنّهم وضعوا هذه الأصنام و الأوثان على صور أنبيائهم و أكابرهم و زعموا أنّهم متى اشتغلوا بعبادة هذه الصور و التماثيل فإنّ أولئك الأكابر يكون شفعاءهم عند اللّه.

و خامسها أنّهم اعتقدوا أنّ الإله نور عظيم، و أنّ الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم و على صور الملائكة صور أخر.

و سادسها لعلّ القوم حلوليّة و جوّزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة.

و قد أبطل كلّ هذه الوجوه الباطلة بقوله تعالى: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» و تقريره الوجوه الثلاثة المذكورة قوله: [أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ المعنى: أمر نبيّه أن يقول لهم على وجه الإلزام: أ تخبرون اللّه بما لا يعلم من حسن عبادة الأصنام و كونها شافعة؟ لأنّ ذلك لو كان صحيحا لكان تعالى عالما ففي نفي علمه بذلك نفي المعلوم. و قيل:

معناه: أ تخبرون اللّه بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا و لا يفهم؟ كما قال سبحانه: «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً» (1) فكذلك وصفهم هاهنا بأنّهم لا يعلمون في السماوات و الأرض شيئا [سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ و هو منزّه عن الشريك و المثيل.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 19]

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

المعنى: لمّا بيّن سبحانه الدلائل القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كفرهم اختلافهم و سوء اختيارهم فقال: [وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً] و ظاهر الآية لا يدلّ على أنّهم أمّة واحدة فيما ذا، و فيه أقوال: القول الأوّل أنّهم كانوا جميعا على دين الإسلام.

و احتجّوا عليه بأمور: الأوّل أنّ المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلا و تزييف طريقة عبادة الأوثان و تقرير أنّ الإسلام هو الدين الفاضل فحينئذ لا يناسب أن يقال:

إنّهم كانوا امّة واحدة في الكفر فبقي أنّهم كانوا امّة واحدة في الإسلام و لا يجوز أن يقال: إنّهم

ص: 230


1- الخل: 73.

كانوا امّة واحدة في الكفر لقوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ» (1) و شهيد اللّه لا بدّ و أن يكون مؤمنا عدلا فثبت أنّه ما خلت امّة من الأمم إلّا و فيهم مؤمن، ثمّ إنّ الأحاديث وردت بأنّ الأرض لا تخلو عمّن يعبد اللّه و عن أقوام بهم يمطر أهل الأرض و بهم يرزقون على أنّ الحكمة الأصليّة في الخلق العبوديّة فخلوّ أهل الأرض بالكليّة عن هذا المقصود بعيد.

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ اللّه تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلّا بقيّة من أهل الكتاب. و هذا يدلّ على قوم تمسّكوا بالإيمان قبل مجي ء الرسول عليه السّلام، فكيف يقال: إنّهم كانوا امّة واحدة في الكفر؟

ثمّ على كون الامّة مؤمنة اختلف القائلون بهذا القول أنّهم متى كانوا كذلك؟

فقال ابن عبّاس و مجاهد و جماعة: كانوا على دين الإسلام في عهد آدم و في عهد ولده و اختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الآخر. و قال قوم: إنّهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح و كانوا عشر قرون مسلمين ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث اللّه نوحا إليهم. و قال آخرون:

كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق إلى أن ظهر الكفر فيهم. و قال آخرون:

كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السّلام إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ. و هذا القائل قال: المراد من الناس في قوله: «و ما كان الناس» العرب خاصّة.

إذا عرفت هذا فالمراد من بيان الآية على هذا التقرير أنّ عبادة الأصنام ما كان أصليّا فيهم و أنّه إنّما حدث بعد أن لم يكن؛ فعلى هذه الصورة كيف لم يتزيّفوا هذا المذهب و لم تنفر طباعهم عنه؟ هذا كلّه على بيان أنّ الناس كانوا امّة واحدة في الإيمان و يصحّ الوعيد حينئذ؛ لأنّ الاختلاف وقع بسبب الكفر و ذلك يقضي الوعيد.

و أمّا إذا فسّرنا بأنّ الناس كانوا امّة واحدة في الكفر كما هو منقول عن بعض المفسّرين ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنّه تعالى بيّن للرسول أنّه لا تطمع في أن يصير كلّ من تدعوه إلى الدين مجيبا لك قابلا لدينك فإنّ الناس كلّهم كانوا على الكفر، و إنّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في إيمان كلّهم و اتّفاقهم جميعا علي الإيمان.

ص: 231


1- النساء: 45.

و قول آخر و لعلّ هو الصحيح و هو أنّ المراد أنّهم كانوا امّة واحدة في أنّهم خلقوا على فطرة الإسلام ثمّ اختلفوا في الأديان، و إليه الإشارة بقوله: عليه السّلام كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه كما قال تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» (1) و قوله: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من أنّه لا يعاجل العصاة و الكفّار بالعقوبة إنعاما منه في التأنّي بهم [لَقُضِيَ و فصّل بينهم فيما اختلفوا بأن يهلك العصاة و ينجي المؤمنين لكنّه أخّرهم إلى يوم القيامة.

ثمّ حكى عن حال الكفّار بقوله:

[سورة يونس (10): آية 20]

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

قال الكفّار: هلّا انزل على محمّد آية من ربّه تضطرّ الخلق إلى المعرفة بصدقه فلا يحتاجون مع تلك الآية إلى الاستدلال و النظر و لم يطلبوا معجزة تدلّ على صدقه، و إنّما لم يلجئهم اللّه إلى ما التمسوه لأنّ التكليف يمنع من الاضطرار، و لو كانت المعرفة ضرورة و قهريّة لما استحقّوا ثوابا و كان ذلك الأمر نقضا للغرض. فقل يا محمّد: إنّ الّذي يعلم الغيب و يعلم بالمصالح قبل كونها هو اللّه العالم فما يعرف في إنزاله صلاحا أنزله و ما لم يعرف لا يفعل الآية الّتي اقترحوها ذلك الوقت فانتظروا عقاب اللّه بسبب تمرّدكم و العقاب القهر و الغلبة و القتل، و الأسر في الدنيا، لأنّ اللّه وعدني بالنصرة عليكم و في الآخرة العذاب الأليم، و الحاصل أنّهم طلبوا من الرسول آية قاهرة يقهرهم على الإيمان و التصديق بالرسول غير القرآن لأنّه في بدو الأمر كان فيهم من يزعم أنّه يتمكّن من معارضة القرآن كما أخبر اللّه عنهم أنّهم قالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا. و إذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن فأمر اللّه رسوله أن يقول لهم: «إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» فصلاح إتيان آية و عدم صلاحها منوط بعلمه و أنتم بعد القرآن لا تحتاجون إلى آية اخرى [فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ .

ص: 232


1- الروم: 29.

قوله: [سورة يونس (10): آية 21]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)

المعنى: بيّن اللّه عادة هؤلاء القوم المكر و اللجاج و عدم الإنصاف و إذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إرسال آية اخرى فإنّهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم كما روي أنّ اللّه سلّط القحط على أهل مكّة سبع سنين ثمّ رحمهم و أنزل الأمطار النافعة فخصبت أرضهم.

ثم إنّهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام و الأنواء، فقابلوا النعمة بالكفران فقوله. [وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً] أي تلك الأمطار النافعة الّتي خلصهم من أكل الزهق و القحط الشديد [إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا] أي أضافوا إلى الكواكب و الأصنام و هذا المعنى ذكر في قبل هذه حيث يقول: «وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» (1) إلّا أنّه في هذه الآية هذه الدقيقة مذكورة، و هي أنّهم عند وجدان الرحمة و الشواهد يمكرون الآية و ينسبونها إلى الغير و كلمة «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ» جواب الشرط كقوله: «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» (2) و يفيد المفاجأة معناه أنّهم فورا أقدموا على المكر.

و إنّما سمّي تكذيبهم آيات اللّه بالمكر لأنّ المكر عبارة عن صرف الشي ء عن وجه الظاهر بطريق الحيلة و هؤلاء دفعوا آيات اللّه بإلقاء الشبهات بالسحر و بالأنواء و الكواكب و الأصنام [قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً] لمّا قابلوا نعم اللّه بالمكر قابلهم اللّه بالجزاء و النكال؛ فإنّ رسل اللّه يكتبون مكرهم و يحفظونه و يصير ذلك سببا لمقابلة مكرهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

ص: 233


1- التوبة: 13.
2- الروم: 35.

اعلم أنّ هذه الآية كالمفسّرة للآية السابقة على سبيل التمثيل لأنّه سبحانه لمّا قال: «وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ» فذكر اللّه مثالا جليّا يكشف عن حقيقة المعنى بقوله: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أي يمكّنكم من السير [فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ] بما هيّأ لكم من أدوات السير من غير تعب كخلق الدوابّ و تسخيرها لكم و تحملون عليها أثقالكم و هيّأ لكم السفن في البحر [حَتَّى إِذا كُنْتُمْ ركبتم [فِي الْفُلْكِ و خصّ الخطاب براكب البحر أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر.

[وَ جَرَيْنَ السفن بالناس لمّا ركبوا و عدل من الخطاب إلى الغيبة قيل: للإيذان بما لهم من سوء الحال الموجب للإعراض لأنّ ضمير الخطاب إذا عدل عنه و انقلب إلى الغياب يفيد هذا المعنى و بالعكس يفيد التقرّب و العلوّ كقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (1) و الأوّل مثل الآية و هو يدلّ على المقت و التبعيد و الطرد، و بالجملة أي جرين السفن بالناس [بِرِيحٍ ليّنة يستطبّونها و سرّوا [وَ فَرِحُوا] بتلك الريح لأنّها تبلغهم إلى مقاصدهم و منازلهم و قيل: إنّ الضمير في «بها» راجعة إلى السفينة حيث حملتهم و أمتعتهم جاءت السفينة ريح شديد الهبوب هائلة و جاءهم اضطراب البحر و أيقنوا أنّهم دنوا على الهلاك أو غلب على ظنّهم الهلاك لمّا أحاط بهم من الأمواج فدعوا اللّه عند هذه الشدائد و الأهوال و التجؤوا إليه على سبيل الخلوص من الاعتقاد من دون تشريك من الأوثان و غيره، و لم يذكروا الأوثان و قالوا: يا ربّ [لَئِنْ أَنْجَيْتَنا] عن ما نحن فيه من الكرب و البلاء [لَنَكُونَنَ من جملة من يشكرك على نعمك قوله: «جاءتها ريح» جواب قوله: «إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ» فلمّا خلّصهم اللّه من الشدّة [إِذا هُمْ يَبْغُونَ و يعملون المعاصي و يشتغلون بالظلم على أنفسهم و على الناس.

[يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ المعنى أنّهم بعد التضرّع و التخلّص عن المهلكة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحقّ و معنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم و الترقّي في الفساد.

فإن قيل: ما معنى قوله «بغير الحقّ» و البغي لا يكون حقّ؟

قلنا: البغي قد يكون بالحقّ و هو استعلاء المسلمين على أرض الكفرة و هدم دورهم

ص: 234


1- الفاتحة: 4.

و إحراق زروعهم و قطع أشجارهم كما فعل رسول اللّه ببني قريظة، و الحاصل أنّه سبحانه نهى عن البغي بأنّه أمر باطل و يؤول ضرره على أنفسكم و [مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا] خبر لقوله «بغيكم» أي بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا: الفانية، و لا يصلح لكم.

و البغي من منكرات المعاصي قال عليه السّلام: أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، و أعجل الشرّ عقابا البغي و اليمين الفاجرة. و روي: ثنتان يعجّلهما اللّه في الدنيا: البغي و عقوق الوالدين. قال ابن عبّاس: لو بغى جبل على جبل لاندكّ الباغي؛ قال الشاعر:

فلو بغى جبل يوما على جبل لاندكّ منه أعاليه و أسفله

[ثُمَّ إِلَيْنا] يرجع الباغي و المبغيّ عليه و الغرض الوعيد على العذاب.

قوله: [سورة يونس (10): آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ البغي أمر قبيح و لا يحصل منه إلّا متاع الحياة الدنيا و هو فاسد أتبعه بهذا المثل العجيب لمن يغترّ بالدنيا و يبغي في الأرض فقال: [إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ بسبب هذا الماء النازل من السماء و ذلك لأنّه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع من النبات و تكون الأنواع مختلفة و يكون المنبوت قبل المطر لم يترعرع و لم يهتزّ فإذا نزل المطر عليه اختلط النابت و اتّصل بذلك المطر و نمى و ربا ذلك النبات و اكتسى كمال الرونق و الزينة و هو المراد بقوله: [حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها] و تزيّنت بجميع الألوان من حمرة و خضرة و صفرة و بياض و لا شكّ أنّه متى صار البستان على هذا الوجه و بهذه الصفة فإنّه يفرح المالك به و يعظم رجاؤه في الانتفاع منه.

ثمّ إنّه تعالى يرسل على هذا الزرع و البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة من برد أو ريح أو سيل فصارت تلك الأشجار و الزروع باطلة هالكة، فكذلك من وضع قلبه على لذّات الدنيا فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه فشبّه سبحانه الحياة الدنيا بهذا النبات أي عاقبة هذه الحياة الدنيا كعاقبة هذا النبات لأنّ المتمسّك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه

ص: 235

و عظمت رغبته فيها يأتيه الموت و هو معنى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» (1) و بالجملة قوله: [فَاخْتَلَطَ بِهِ أي اختلط بذلك المطر نبات الأرض لأنّ المطر يدخل في خلل النبات و قيل: معناه فاختلط بسبب المطر بعض النبات بالبعض فاختلط ما يأكل الناس بما يأكل الأنعام، و ما يقتات بما يتفكّه فقال: [مِمَّا يَأْكُلُ الإنسان كالحبوب و الثمار و البقول [و الْأَنْعامُ كالحشيش و أنواع المراعي.

[وَ ظَنَّ أَهْلُها] و مالكها [أَنَّهُمْ قادِرُونَ على الانتفاع بها [أَتاها أَمْرُنا] أي عذابنا من برد و آفة و غيره [فَجَعَلْناها] محصورة مقطوعة ذاهبة يابسة [كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن لم تقم و تكن على تكل الصفة بالأمس و لم توجد من قبل [كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك نميّز الآيات [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي نذكر آية بعد آية ليكون تواليها و كثرتها سببا لقوّة اليقين و موجبا لزوال الشكّ و الشبهة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 25]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)

النظم: لمّا نفّر العاقلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغّبهم في هذه الآية بالآخرة. قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّما مثلي و مثلكم مثل سيّد بنى دارا و وضع مائدة و أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار و أكل من المائدة و رضي عنه السيّد، و من لم يجب لم يدخل و لم يأكل و لم يرض منه السيّد فاللّه السيّد و الدار دار الإسلام و المائدة الجنّة و الداعي محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من يوم تطلع فيه الشمس إلّا و بجنبها ملكان يناديان بحيث يسمع كلّ الخلائق إلّا الثقلين: أيّها الناس هلمّوا إلى ربّكم.

[وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ و المراد من دار السّلام الجنّة و اختلفوا في السبب الّذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه: الأوّل أنّ السّلام هو اللّه، و الجنّة داره و تسميته تعالى بالسلام لأنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء و التغيّر، و سلم من احتياجه ذاتا و صفة إلى الغير، ثمّ إنّه يوصف بالسلام بمعنى أنّ الخلق سلموا من ظلمه حيث يقول: «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ». (2)

ص: 236


1- الانعام: 44.
2- فصلت: 46.

قال المبرّد: إنّه تعالى يوصف بالسلام أي هو ذو السّلام و السّلام عبارة عن تخليص العاجزين من المكاره، و على هذا التقدير مصدر سلم. و قيل: «سلام» جمع سلامة؛ فمعنى دار السّلام دار السلامة من الآفات كالرضاع بمعنى الرضاعة أو سمّيت الجنّة بدار السّلام؛ لأنّه يسلم على أهلها قال تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (1) و الملائكة يسلّمون عليهم و يقولون: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» (2) قوله: [وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

أي من أجاب الدعوة و أطاع و اتّقى فإنّ اللّه يهدي إلى تلك الدار و مشيئته تحصل بإجابة الدعوة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 26]

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)

لمّا دعا عباده إلى دار السّلام ذكر السعادات الّتي تحصل لهم فيها قال ابن عبّاس:

أي الّذين ذكروا كلمة لا إله إلّا اللّه. و قال آخرون: الّذين أحسنوا في كلّ ما تعبّدوا به و أتوا بالمأمور به كما ينبغي و اجتنبوا المنهيّات على وجه ما نهوا عنها. و «الحسنى» تأنيث الأحسن و العرب يوقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة الكاملة المرغوب فيها و لذلك لم تؤكّد و لم تنعت بشي ء.

و قوله: [وَ زِيادَةٌ] و هذه الكلمة مبهمة و لهذا اختلف في تفسيرها:

قيل: المراد منها التفضّل على قدر المستحقّ على الطاعات من الثواب و هي المضاعفة المذكورة في قوله: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (3) هذا أحد الأقوال.

و ثانيها: الزيادة ما أعطاهم اللّه من النعم في الدنيا لا يحاسبهم به في الآخرة عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ثالثها: أنّ الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب عن عليّ عليه السّلام.

و رابعها: الزيادة النظر إلى وجه اللّه أي وجه حمته لأنّ النظر إلى اللّه أمر ممتنع

ص: 237


1- يس: 58.
2- الرعد: 24.
3- الانعام: 161.

و لا يجوز حمل الزيادة على الرؤية كما فسّره بعض الأشاعرة و الدلائل العقليّة دلّت على الامتناع على أنّ نفس الآية تدلّ على امتناع هذا المعنى لأنّ الزّيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه و رؤية اللّه ليست من جنس نعيم الجنّة على أنّ النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئيّ و ذلك يقتضي كون المرئيّ في الجهة و ذلك يلزم التجسّم و المقابلة و التحيّز و كلّها ممتنع على اللّه.

قوله: [وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ و الرهق لحاق الأمر و منه راهق الغلام إذا لحق بالرجال و رهقه بالحرب إذا أدركه و الإرهاق حمل الإنسان على ما لا يطيقه و منه «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (1) و المعنى في الآية: لا يغشى و لا يلحق وجوههم سواد و غبرة، و لا أثر ذلّة و هوان و كسوف و كأبة.

و روى الفضل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ما من عين ترقرقت بمائها إلّا حرّم اللّه ذلك الجسد على النار فإن فاضت من خشية اللّه لم يرهق ذلك الوجه قتر و لا ذلّة.

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] مرّ معناه مرارا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 27]

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)

لمّا شرح حال المؤمنين في الآية السابقة شرح في هذه الآية من أقدم على السيّئات و ذكر أمورا أربعة من أحوالهم:

أوّلها: [جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها] و المقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات و السيّئات و ذكر سبحانه من فضله أنّه يوصل في أعمال البرّ الثواب مع الزيادة، و في أعمال الشرّ بالمثليّة تأكيدا للترغيب في الطاعة و ذاك تفضّل و هو حسن و لكنّ الزيادة على قدر الاستحقاق في المعصية، فهو ظلم و لا يفعل سبحانه.

و الثاني من الأمور الأربعة: [تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ] و ذلك كناية عن التحقير و الهوان لأنّ الإنسان العاصي ناقص عن درجة الإنسانيّة فإذا مات بقيت روحه ناقصة عن الكمالات

ص: 238


1- المدثر: 17.

فإدراكه و علمه بنقصه يوجب له مذلّة و هوانا.

و ثالثها قوله: [ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فإنّ قضاءه سبحانه محيط بجميع الكائنات و ليس شي ء ينفعه عن قضاء اللّه.

و رابعها: [كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً] من ظلمة المعاصي و الجهل بعكس ما للمؤمنين من الضياء و العلم و نورهم يسعى بين أيديهم.

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ] مرّ تفسيره مرارا.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 28 الى 29]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29)

هذا شرح نوع آخر من فضائح أولئك الكفّار و الضمير في قوله: [وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ .

عائد إلى المذكور السابق و ذلك قوله: «وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» في الآية السابقة و حاصل الكلام: يحشر العابد و المعبود، ثمّ إنّ المعبود يتبرّأ من العابد و يتبيّن له أنّه ما فعل ذلك بعلمه و إرادته. و المقصود أنّ القوم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه فبيّن اللّه في هذه الآية أنّهم لا يشفعون لهؤلاء الكفّار بل يتبرّؤون منهم. و نظير هذا المعنى قوله تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» (1).

و معنى الحشر الجمع من كلّ جانب إلى موقف واحد و «جميعا» نصب على الحال أي نحشر الكلّ حال اجتماعهم «و مكانكم» منصوب بإضمار فعل محذوف أي ألزموا و أثبتوا مكانكم «و أنتم» تأكيد للضمير «و شركاؤكم» عطف عليه و المراد أنّه تعالى يقول: للعابدين و المعبودين أثبتوا مكانكم حتّى تسألوا و قوله: [فَزَيَّلْنا] جاءت على لفظ الماضي لأنّ الّذي حكم اللّه فيه بأنّه سيكون صار كالكائن الراهن الآن نظير قوله: «وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» (2) «زيّلنا» أي ميّزنا و فرّقنا و «الزيل» التفريق أي فرّقنا بين المشركين و بين شركائهم من الأصنام و الآلهة و انقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.

و أمّا قوله: [وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ و إنّما أضاف الشركاء إليهم لأنّهم

ص: 239


1- البقرة: 161.
2- الأعراف: 42.

جعلوا نصيبا في أموالهم لأصنامهم فصيّروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال فلهذا قال تعالى:

«وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ» و قيل: المراد بالشركاء الملائكة و استشهدوا بقوله تعالى: «يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» (1) و قيل: المراد من الشركاء الأصنام لأنّ الخطاب مشتمل على الوعيد و التهديد و ذلك لا يليق بالملائكة.

ثمّ قالوا: إنّ اللّه يخلق في الأصنام الحياة و العقل و النطق فلا جرم تنطق. و قال آخرون: بل يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة و العقل. و قيل: المراد من الشركاء كلّ من عبد من دون اللّه من صنم و شمس و قمر و إنسيّ و جنيّ و ملك.

و هاهنا مسألة و هي أنّ هذا الخطاب تهديد في حقّ العابدين فهل يكون في حقّ المعبودين؟

أمّا المعتزلة فإنّهم قطعوا بأنّ ذلك لا يجوز لأنّه لا ذنب للمعبود، و من لا ذنب له فإنّه يقبح من اللّه أن يوجّه التخويف و التهديد إليه.

و أمّا الأشاعرة قالوا: إنّه تعالى لا يسأل عمّا يفعل كسائر أقوالهم في الأفاعيل.

و الحاصل: و قال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون أي يحييهم اللّه و ينطقهم فيقولون: ما كنّا نشعر بأنّكم إيّانا تعبدون أي إنّكم لم تعبدونا بأمرنا و دعوتنا و لم يرد أنّهم لم يعبدوهم أصلا بل بيان أنّ العبادة لم تكن بأمرنا.

[فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] و فاصلا للحكم بيننا و بينكم أيّها المشركون [إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» و هذا إذا كان الملائكة فإنّهم ما كان لهم أمر و علم و رضاء منهم و إن كان الأصنام فما كان للأصنام حسّ و إدراك حتّى يعلموا و يأمروا فهم صادقون فيما ادّعوا.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 30]

هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

هذه الآية تتمّة لما قبلها فقوله: [هُنالِكَ أي في ذلك المقام و الموقف [تَبْلُوا] و تعلم و قرئ نبلو بالنون، و قرئ تتلو بالتائين و يختلف المعنى باختلاف القراءة فبالتاءين المعنى: كلّ نفس يقرأ ما في صحيفتها. و بالنون أي نختبر كلّ نفس [ب ما أَسْلَفَتْ من العمل

ص: 240


1- سبا: 39.

أي نفعل بها فعل المختبر لقوله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»* (1).

قوله: [وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي و ردّوا إلى حيث لا حكم إلّا للّه و إلى ما يظهر لهم من اللّه من ثواب و عقاب و يلجئون إلى الإقرار بإلهيّته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، و لذلك قال تعالى: [مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي أعرضوا عن المولى الباطل و رجعوا قهرا إلى المولى الحقّ قوله تعالى: [وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يعلمون أنّ كلّ ذلك من أعمالهم باطل و افتراء و كذب لا حقيقة له.

[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 33]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

لمّا بيّن فضائح عبدة الأوثان و ما يؤول في القيامة أمرهم شرع بذكر الدلائل الدالّة على فساد مذهبهم و هو أحوال الرزق و الحواسّ و أحوال الموت و الحياة، أمّا الرزق فإنّه ينزل من السماء و الأرض، أمّا من السماء فبنزول الأمطار النافعة الموافقة، و أمّا من الأرض لأنّ الغذاء إمّا أن يكون نباتا او حيوانا أمّا النبات فلا ينبت إلّا من الأرض، و أمّا الحيوان فهو يتوقّف وجوده و بقاؤه أيضا إلى الغذاء و لا يمكن أن يكون غذاء كلّ حيوان حيوانا آخر و إلّا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له و ذلك محال فلزم أن يكون غذاء الحيوان ينتهي إلى النبات و تولّد النبات من الأرض.

فثبت أنّ الأرزاق لا تحصل إلّا من السماء و الأرض و مدبّر السماوات و الأرض هو اللّه فثبت أنّ الرزق ليس إلّا من اللّه، و أمّا أحوال الحواسّ فكذلك لأنّ أشرفها السمع و البصر؛ قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: سبحان من بصّر بشحم و أسمع بعظم، و أنطق بلحم.

و أمّا أحوال الموت و الحياة قوله: [وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي يخرج الإنسان و الطائر من النطفة و البيضة و يخرج الميّت من الحيّ أي يخرج النطفة

ص: 241


1- الملك: 2.

و البيضة من الإنسان و الطائر، أو المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن لكنّ معنى الأوّل إلى الحقيقة أقرب.

ثمّ ذكر كلاما كلّيّا و هو قوله: [وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] لأنّ تمام مراتب الأمور هو مدبّره و خالقه من العالم العلويّ و السفليّ، من الأرواح و الأجساد كأنّه لمّا ذكر بعض الأفراد عقّبها بالكلام الكلّيّ الشامل على البواقي.

ثمّ بيّن و قال: إذا سألهم الرسول مثلا عن خالق هذه الأمور فسيقولون: إنّه اللّه.

و هذا يدلّ على أنّ المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعترفون باللّه و لكن كانوا جاعلين أصنامهم شفعاءهم و شركاء اللّه فعند ذلك [قُلْ لهم يا محمّد [أَ فَلا تَتَّقُونَ الشرك و الإشراك في المعبوديّة و لم تجعلون هذه الأوثان الّتي لا تنفع و لا تضرّ شركاء اللّه في العبادة؟

قوله: [فَذلِكُمُ اللَّهُ أي و من كان قدرته و رحمته كذلك هو ربّكم الحقّ الثابت ربوبيّته و إذا كان كذلك وجب أن يكون سواه باطلا لأنّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقّين [فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي كيف تستجيزون العدول عن هذا الحقّ الظاهر؟ و استدلّ الجبّائيّ بهذه الآية على بطلان قول المجبّرة حيث يقولون:

إنّ اللّه يصرف الكفّار عن الإيمان تعالى اللّه عن ذلك؛ لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: «فإنّى تصرفون» و بالجملة لمّا ثبت أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال لأنّه ليس واسطة بينهما.

قوله: [كَذلِكَ أي مثل انصرافهم عن الإيمان وجبت العقوبة لهم أي جازاهم اللّه بمثل انصرافهم عن الحقّ. و قيل: معناه أنّه كما ثبت و حقّ أنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال كذلك حقّت كلمة ربّك. و قرئ بالجمع كلمات ربّك [عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا] و خرجوا من الحقّ [أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و يعلم أنّهم يبقون على الكفر.

[سورة يونس (10): آية 34]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

احتجاج آخر على التوحيد [قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين [هَلْ من هذه الأصنام الّتي جعلتموها شركاء في عبادتي أو جعلتموها شركاء في أموالكم كما قال: «وَ هذا

ص: 242

لِشُرَكائِنا» (1) [مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالإنشاء بعد أن لم يكن و هو النشأة الاولى [ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الثانية فإن قالوا: ليس من شركائنا من يفعل ذلك و يقدر عليه أو سكتوا- و يفهم هذا الكلام من الكلام عند الاحتجاج؛ لأنّ الدليل إذا كان جليّا فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ثمّ يقول المستدلّ: الأمر كذلك كان تنبيها على وضوح الأمر حيث لا يحتاج فيه إلى إقرار الخصم سواء أقرّ أو أنكر- فقل أنت يا محمّد: اللّه الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده [فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ و كيف تصرفون عن الحقّ و تقلبون عن الإيمان؟

و اعلم أنّ جمهور العقلاء يقرّون بالصانع سوى جماعة قليلة من ملاحدة الفلاسفة.

و من أقرّ بالصانع صنفان: موحّد يعتقد أنّ اللّه واحد لا يستحقّ العبادة غيره، و مشرك و هم ضربان: فضرب جعلوا للّه شريكا في ملكه يضادّه و يوازيه و هم الثنويّة و المجوس، ثمّ اختلفوا فمنهم من يثبت للّه شريكا قديما كالمانويّة و منهم من يثبت شريكا محدثا كالمجوس، و ضرب آخر لا يجعل للّه شريكا في حكمه و ملكه، و لكن يجعل له شريكا في العبادة يكون متوسّطا بينه و بين اللّه، و هم أصحاب المتوسّطات ثمّ اختلفوا فمنهم من جعل الوسائط من الأجسام العلويّات كالنجوم و الشمس و القمر، و منهم من جعل المتوسّط من الأجسام السفليّة كالأصنام و نحوها فهؤلاء أجمع مشركون، تعالى اللّه عن الشرك علوّا كبيرا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 35]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

احتجاج آخر إلزاما لهم بعد إلزام و إفحام [قُلْ يا محمّد لهم [هَلْ مِنْ نوع [شُرَكائِكُمْ و أصنامكم من يكون له أدنى مراتب المعبوديّة بوجه من الوجوه و أدنى مراتب المعبوديّة لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم؟ و يهديكم إلى طريق الحقّ، و كيف يهدي الجماد الّذي لا حياة له و لا روح و لا حسّ و لا شعور؟ فحينئذ [قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ قال الزجّاج:

هديت إلى الحقّ و هديت للحقّ بمعنى واحد و اللّه تعالى ذكر هاتين اللغتين.

قوله تعالى [أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي و قوله «لا يهدّي» أصله يهتدي قرئ ستّ لغات:

ص: 243


1- الانعام: 137.

الاولى: بفتح الياء و الهاء و تشديد الدال، أصله «يهتدي» أدغمت التاء في الدال و نقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء.

الثانية: ساكنة الهاء مشدّدة الدال أدغمت التاء و تركت الهاء على حالها. و هذه قراءة نافع فجمع في هذه القراءة بين ساكنين كما في قوله: «يخصّمون» و لهذا غلّطوا بعض على نافع في هذه القراءة.

الثالثة: بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح و الجزم للتخفيف.

الرابعة: بفتح الياء و كسر الهاء و تشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين، و الجزم يحرّك بالكسر.

الخامسة: بكسر الياء و الهاء أتبع الكسرة للكسرة.

السادسة: يهدي ساكنة الهاء و تخفيف الدال على معنى يهتدي و العرب يقول: «يهدي» بمعنى يهتدي يقال: هديته فهدى أي اهتدى.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام و أنّها جمادات لا تقبل الهداية فكيف تليق بها نسبة الهداية؟

و الجواب من وجوه: الأوّل لا يبعد أن يكون المراد من قوله: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» هو الأصنام و المراد من قوله: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» رؤساء الكفر و الدعاة إليها و الدليل عليه قوله سبحانه: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله:- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (1) فحينئذ المراد و معنى الآية أنّهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلّا إذا هداهم اللّه؛ فكان التمسّك بدين اللّه و قول الأنبياء المهتدين بهداية اللّه أولى من قبول قول هؤلاء الجهّال.

و الوجه الثاني في الجواب أنّ القوم لمّا اتّخذوا هذه الأصنام آلهة لا جرم عبّر عنها كما يعبّر عمّن يعلم و يعقل، ألا ترى أنّه تعالى قال: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» (2) مع أنّها جمادات و قال: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» (3) فأجرى

ص: 244


1- التوبة: 31.
2- الأعراف: 193.
3- فاطر: 15.

اللّفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل و يعلم، فكذا هاهنا وصفهم اللّه بصفة من يعلم و إن لم يكن الأمر كذلك.

الثالث أنّا نحمل على التقدير و الفرض، يعني أنّها لو كان بحيث يمكنها أن يهدي فإنّها لا يهدي غيرها إلّا بعد أن يهديها غيرها، و إذا حملنا الكلام على التقدير فزال السؤال بالكلّيّة.

الرابع أنّ الهدي عبارة عن النقل و الحركة يقال: هديت المرأة إلى زوجها هداية إذا نقلت إليه، و سمّيت الهديّة هديّة لانتقالها من رجل إلى غيره، و الهدي ما يهدي إلى الحرم من النعم فحينئذ قوله: «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى يحتمل أن يكون معناه أنّ هذه الأصنام لا ينتقل إلى مكان إلّا إذا نقل إليه و هي جمادات خالية عن القدرة و الحياة، فكيف يهدي غيره؟

ثمّ لمّا قرّر سبحانه هذه الحجج الباهرة على الكفّار قال سبحانه [فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا تعجّب من حالهم كيف يقضون بالوهيّة هذه الأصنام و يعتقدون أنّها تستحقّ العبادة.

قوله: [سورة يونس (10): آية 36]

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)

ثمّ قال: [وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ الكفّار [إِلَّا ظَنًّا] و فيه وجهان: الأوّل: و ما يتّبع أكثرهم في إقرارهم باللّه إلّا ظنّا من غير تعقّل و برهان بل سمعوه من أسلافهم. الثاني قوله: و ما يتّبع أكثرهم في قولهم و عقيدتهم أنّ الأصنام آلهة و أنّها شفعاء عند اللّه إلّا الظنّ.

و القول الأوّل أقوى لأنّا على القول الثاني نحتاج إلى أن نفسّر الأكثر بالكلّ.

ثمّ قال: [إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً].

و تمسّك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: العمل بالقياس عمل بالظنّ فوجب أن لا يجوز.

و أجاب مثبتو القياس فقالوا: الدليل الّذي دلّ على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع؛ فكان وجوب العمل بالقياس معلوما، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا بل كان معلوما.

و أجابوا بأن لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما للّه لكان ترك العمل

ص: 245

به كفرا لقوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (1) و لمّا لم يكن كذلك بطل العمل به.

و قد يعبّرون عن هذه الحجّة بأن قالوا: الحكم المستفاد من القياس إمّا أن يعلم كونه حكما للّه أو يظنّ أو لا يعلم و لا يظنّ و الأوّل باطل و إلّا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ»* و بالاتّفاق ليس كذلك. و الثاني باطل لأنّ العمل بالظنّ لا يجوز لقوله: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي» و الثالث باطل لأنّه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما و لا مظنونا كان مجرّد التشهّي فكان باطلا.

و أجاب مثبتوا القياس بأنّ حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسّك بالعمومات و التمسّك بالعمومات لا يفيد إلّا الظنّ فلمّا كانت هذه العمومات دالّة على المنع من التمسّك بالظنّ لزم كونها دالّة على المنع من التمسّك بها، و ما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا انتهى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 37 الى 39]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

هذه الآية تتمّة جواب الكافرين حيث قالوا: «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» و كانوا يعتقدون أنّ القرآن ليس بمعجز و أنّ محمّدا إنّما أتى به من عند نفسه على سبيل الاختلاق، و ذكر سبحانه عن هذا الكلام أجوبة كثيرة فبيّن في هذه الآية أنّ إتيان محمّد بهذا القرآن ليس على سبيل الكذب و الافتراء عليّ بل هو وحي منزل.

ثمّ إنّه تعالى قال: إذا كان الأمر على ما يزعمون [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ قوله: [وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ بيان هذا المعنى.

و قوله: [أَنْ يُفْتَرى في تأويل المصدر، و المعنى ما كان افتراء، أو كلمة «أن» هاهنا بمعنى اللام و التقدير: ليفترى كقوله: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا» (2) و «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ

ص: 246


1- المائدة: 48.
2- التوبة: 123.

الْمُؤْمِنِينَ» (1) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك فكذلك هاهنا أي ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى.

و الافتراء من فريت الأديم إذا قدّرته للقطع، ثمّ استعمل في الكذب [وَ لكِنْ هذا القرآن وحي و [تَصْدِيقَ للكتب الّتي بين يديه من التوراة و الإنجيل و غيرهما، أي شاهد لما تقدّم من الكتب قبله بأنّها حقّ كما أنّها شاهدة لصدقه، أو المعنى أنّ القرآن و الكتب الّتي قبله مصدّقة و شاهدة بالتوحيد و الثواب و الجزاء و البعث و القيامة.

قوله: [وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي هذا القرآن تبيّن المعاني المجملة من الحلال و الحرام و الأحكام و الأدلّة الكلاميّة، و فيه جميع ما تحتاجون إليه من الأصول و الفروع شارح و مميّز بعضه بعضا و يبلّغكم من انزل عليه لأنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به، و بالجملة لا شكّ أنّه من عند اللّه و لا يقدر أحد على مثله أن يأتي به من البشر.

قوله: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ هذا تقرير على موضع الحجّة بعد مضيّ حجّة اخرى. بل أ يقولون افتراه؟ و التقدير: إذا قالوا: افتراه محمّد فقل و ألزمهم بإتيان سورة مثله [وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من الفصحاء للمعاونة و استعينوا بهم للمعاضدة بآية منه [إِنْ كُنْتُمْ في دعواكم [صادِقِينَ و هذا البيان غاية في التعجيز و التحدّي.

و اعلم أنّ الناس اختلفوا في أنّ القرآن معجز من أيّ الوجوه للنبيّ:

فقال بعضهم: لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة و إليه الإشارة بقوله:

«تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ».

و منهم من قال: إنّه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة و إليه الإشارة بقوله: «و تفصيل كلّ شي ء» و لا شكّ أنّ كتابا يشتمل على تمام علوم الأوّلين و الآخرين من المعاشيّة و المعاديّة و يكون فيه أحكام جميع من يحتاج إلى حكم من غير إبقاء نكتة أو إهمال دقيقة من الخلق بأسرها بحيث لا يشذّ عنه حكم واحد من الأفراد حكما و محكوما لا يكون إلّا من عند اللّه و لا يتمكّن أحد سواء كان نبيّا أو ملكا أو بشرا أن يأتي به، و ما نعني بالمعجزة إلّا هذا الأمر؛ لأنّه متى ثبت العجز ثبت المعجز.

و قال بعضهم: إنّ إعجاز القرآن مع قطع النظر إلى اشتماله على العلوم و الدقائق

ص: 247


1- آل عمران: 173.

و قطع النظر عن الغيوب الماضية و المستقبلة عجزوا عن تركيب هذه الألفاظ على هذا الأسلوب مع أنّه لسانهم و هم كانوا أفصح العرب، و قال بعض: مع قطع النظر عن هذه الدلائل لمّا أراد اللّه أن يكون القرآن معجزا لنبيّه منع اللّه أفواه جميع الخلق إلى يوم القيامة أن يتمكّنوا من إتيان آية أو سورة منه.

و هذا القول لا يمكن المناقشة فيه؛ حيث ما ادّعى أحد و لا تمكّن منه مخلوق و ما سمع أن يدّعي أحد فضلا عن أن يأتي به. و أظنّ القائل بهذا القول الأخير السيّد المرتضى رحمة اللّه عليه.

قوله: [بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا] أي كذّبوا بما لم يدركوا علمه من القرآن و لم يأتهم تفسيره؛ لأنّهم لم يراجعوا رسول اللّه حتّى يتعلّموا منه و في القرآن علوم لا يمكنهم معرفتها إلّا بالرجوع إلى النبيّ لأنّ فيه أمورا يحتاج إلى الفكر و التدبّر و السؤال عن النبيّ، فالكفّار لمّا لم يعرفوا المراد منه كذّبوا به لعدم إحاطة علمهم بتأويله و النبيّ يعرف ذلك و لا بدّ أن يستكشفوا منه، و لو راجعوه صلى اللّه عليه و آله لعلموه.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: خصّ هذه الامّة بآيتين في القرآن أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون، و أن لا يردّوا ما لا يعلمون، ثمّ قرأ «أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» (1).

قيل: إنّ من هنا أخذ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» من قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ».

و أخذ قوله: «قيمة كلّ امرى ما يحسنه» من قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (2) و أخذ قوله: «تكلّموا تعرفوا» من قوله: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (3) قوله تعالى: [كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل تكذيب هؤلاء الّذين في زمانك كذّبت الأمم السالفة رسلها [فَانْظُرْ] يا محمّد كما كان عاقبة أولئك المكذّبين الهلاك كذلك

ص: 248


1- الأعراف: 168.
2- النجم: 31.
3- محمّد: 32.

يكون عاقبة هؤلاء الظالمين.

هاهنا مسألة بيانيّة و هي أنّ المعتزلة تمسّكوا بهذه الآية على أنّ القرآن مخلوق حادث و قالوا: إنّه صلى اللّه عليه و آله تحدّى العرب بالقرآن و طلب منهم أن يأتوا بمثله، فلمّا عجزوا عنه ظهر كونه من عند اللّه، و ظهر صدقه صلى اللّه عليه و آله، و هذا التحدّي إنّما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الوجود و لو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر فوجب أن لا يصحّ التحدّي به.

تحقيق شريف و هو أنّه قال سبحانه في سورة البقرة: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» (1) و هاهنا قال: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» فما السبب في ذكر «من» هناك و هنا بغير «من»؟ و السبب أنّ محمّدا صلى اللّه عليه و آله كان رجلا امّيّا لم يتلمّذ عند أحد، و لم يطالع كتابا لا بمعنى أنّه ما كان يعرف اللغات أو لا يعرف العلوم، أي تحصيله ما كان بطريق التلمّذ بل من لدن حكيم عليم، و كان أعلم من عليها.

و الحاصل: فليأت بسورة من مثله أي فليأت إنسان يساوي محمّدا في عدم التلمّذ و عدم مطالعة الكتب و ممارسة العلماء بسورة تساوي هذه السورة و هذا لا يدلّ على أنّ السورة في نفسها معجزة و لكنّه يدلّ على أنّ ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمّد صلى اللّه عليه و آله معجز. أمّا في هذه السورة بيّن أنّ تلك السورة في نفسها معجز، و أنّ الخلق و إن تلمّذوا و تعلّموا و تفكّروا و طالعوا فإنّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور؛ فلا جرم قال: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ».

و اعلم أنّ الكفّار إنّما كذّبوا القرآن و فرضوه افتراء لأمور:

منها- و هو الأعظم حبّ-: الدنيا الفانية و أنّ القرآن مشحون بذمّ الدنيا و بيان مفاسدها و هذا الأمر على خلاف ميلهم و إراداتهم و يبيّن أنّ الدنيا فاسدة و نهاية كلّ متحرّك سكون و موت، و غاية كلّ متكوّن أن لا يكون، و كذلك القرآن مملوء من إثبات الحشر و النشر، و القوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت و لم يتقرّر ذلك

ص: 249


1- البقرة: 21.

في قلوبهم الفاسدة و عقولهم السخيفة فظنّوا أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله إنّما يذكر ذلك على سبيل الكذب.

و كذلك لمّا رأوا أنّ في القرآن أحكاما راجعة إلى العبادات كالصلاة و الصوم و نحوهما و يقولون بأنّ اللّه غنيّ عنّا و عن عبادتنا و يقيسون برأيهم و باجتهادهم الفاسد أنّ الغنيّ أجلّ من أن يأمرنا بشي ء لا فائدة فيه، ثمّ يجرون الأمور على الأحوال المألوفة في عالم المحسوسات و الطبيعيّات و لا يعرفون أسرارها و لا يطلبون حكمها و علمها، و وجوه تأويلها عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلا جرم وقعوا في التكذيب و الجهل.

و لهذا قال سبحانه: [بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ و هذه الآية إشارة إلى أنّ هذه الأمور من جهلهم في الأسرار.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

لمّا ذكر في الآية السابقة قوله: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» و كان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا شرح أحوال بعضهم بقوله: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ منبّها على أنّ الصلاح عنده تبقية هذه الطائفة دون الاستيصال من حيث كان المعلوم أنّ منهم من يؤمن به. و الأقرب و الأولى إرجاع الضمير إلى القرآن، و قيل: إلى الرسول يعني أنّ منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر و يبدّله بالإيمان و منهم من يصرّ على كفره و يبقى عليه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ يا محمّد لهم: [لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أي عملي الطاعة لي و عملكم الشرك لكم، أو المعنى: لي جزاء عملي و لكم جزاء عملكم [أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ .

قال بعض المفسّرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف. و أنكروا جماعة النسخ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ و مدلول هذه الآية اختصاص كلّ واحد بأفعاله، و ثمرات أفعاله من الثواب و العقاب، و آية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات الآية فالقول بالنسخ باطل.

ص: 250

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 42 الى 44]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

في الآية قسّم اللّه الكفّار على قسمين: منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و في هذا القسم ممّن لا يؤمن على قسمين: منهم من يكون على غاية البغض و العداوة للرسول، و هو في نهاية النفرة عن قبول دينه، و منهم من لا يكون كذلك.

فوصف القسم الأوّل فقال: [وَ مِنْهُمْ مَنْ يستمع كلامك مع أنّه كالأصمّ من حيث إنّه لا ينتفع من الاستماع بذلك الكلام فإنّ الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر و عظمت نفرته عنه، صارت نفسه متوجّهة إلى طلب مقابح كلامه، معرضة عن جميع جهات محاسن الكلام فالصمّ في الاذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف للمحاسن لذلك الكلام، و العمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك العداوة ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه و الوقوف على ما آتاه اللّه من الفضائل.

فبيّن تعالى أنّ في أولئك الكفّار من بلغت حالته في البغض و العداوة إلى هذا الحدّ فكما أنّه لا يمكن جعل الأصمّ سميعا، و لا جعل الأعمى بصيرا فكذلك لا يمكن جعل العدوّ البالغ في العداوة إلى هذا الحدّ صدّيقا تابعا للرسول صلى اللّه عليه و آله و المقصود تسلية الرسول بأنّ هذه الطبقة من الكفّار قد بلغوا في مرض الجهل إلى حيث لا يقبلون العلاج، و الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه فلا تستوحش أيّها النبيّ.

و هاهنا مسألة: احتجّ جماعة بهذه الآية على أنّ السمع أشرف من البصر؛ قالوا:

إنّ اللّه قرن ذهاب السمع بذهاب العقل و لم يقترن بذهاب النظر إلّا ذهاب البصر فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر لأنّ العقل أشرف الأشياء للإنسان.

ثمّ قالوا: إنّ اللّه كلّما ذكر السمع و البصر فإنّه قدّم ذكر السمع على البصر، و كذلك إنّ العمى قد وقع على الأنبياء و أمّا الصمم فغير جائز عليهم لأنّه يخلّ بأداء الرسالة من حيث إنّه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذّر عليه الجواب فعجز عن تبليغ رسالته و شرائع اللّه على أنّ القوّة السامعة تدرك المسموعات من جميع الجوانب و الباصرة لا تدرك المرئيّ

ص: 251

إلّا من جهة واحدة و هي المقابل.

ثمّ إنّ الإنسان إنّما يستفيد العلم بالتعليم من الأستاذ و ذلك لا يمكن إلّا بقوّة السمع، و استكمال النفس بالكمالات العلميّة لا يحصل إلّا بقوّة السمع و لا يتوقّف على قوّة البصر فكان السمع أشرف.

و من الدلائل على أشرفيّة السمع قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» (1) و المراد من القلب هاهنا العقل فجعل السمع قرينا للعقل.

و يتأكّد هذا بقوله تعالى: «وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» (2).

و من الدلائل أنّ متعلّق السمع النطق و هو شرف الإنسان و متعلّق البصر إدراك الأشكال و الألوان، و ذلك مشترك فيه بين الإنسان و سائر الحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.

و من الدلائل على أفضليّة السمع أنّ الأنبياء عليهم السّلام يراهم الناس و يسمعون كلامهم و نبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئيّة، و إنّما حصلت بسبب ما معهم من الكلمات و الأصوات المسموعة فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيّ. فهذا جملة ما تمسّك به القائلون بأنّ السمع أفضل من البصر.

و من الناس من قال: البصر أشرف من السمع و استدلّوا بوجوه:

الحجّة الاولى أنّهم قالوا: آلة القوّة الباصرة هي النور و آلة القوّة السامعة هي الهواء و النور أشرف من الهواء فالقوّة الباصرة أفضل من السامعة و في المثل المشهور: ليس وراء العيان بيان و ذلك يدلّ على أنّ أكمل وجوه الإدراك البصر.

الحجّة الثانية أنّ عجائب حكمة اللّه في تخليق العين أكثر من عجائب خلقته في الاذن فركّب العين من سبع طبقات و ثلاث رطوبات و خلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة، و الاذن ليس كذلك و كثرة العناية في تخليق الشي ء تدلّ على كونه أشرف من غيره.

ص: 252


1- ق: 36.
2- الملك: 10.

الحجّة الثالثة أنّ البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات و هو فلك الكرسيّ و نجومها و السمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ فكان البصر أقوى لرؤيته شواهد الربوبيّة.

قال ابن الأنباريّ: كيف يكون السمع أفضل من البصر و بالبصر يحصل جمال الوجه و بذهابه عيبه و ذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا ظاهرا مكشوفا و العرب تسمّي العينين: الكريمتين و لا تصف السمع بمثل هذا؛ و منه الحديث يقول اللّه: من أذهبت كريمتاه فصبر و احتسب لم أرض له ثوابا دون الجنّة. انتهى.

فقوله تعالى: [أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ معناه أنّ هؤلاء الكفّار الّذين يستمعون و يطلبون السمع للردّ عليك لا للفهم فلذلك لزمهم الذمّ و على هذا الوجه من الاستماع هم صمّ لم يستمعوه حيث لم ينتفعوا به، فأنت لا تقدر على أسماع الصمّ فهذا الكلام في حدّ التربية و الإرشاد لنبيّه صلى اللّه عليه و آله لإنكار استماعهم و أوقع الكلام في معرض الاستحالة.

و أكّده بقوله: [وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي و لو انضمّ إلى صممهم عدم العقل و الإدراك فبالحريّ أن لا يسمعوا، لأنّ الأصمّ العاقل ربّما يتفرّس إذا وصل إلى صماخه هوت و أمّا إذا اجتمع فقدان السمع و العقل جميعا فقد تمّ الأمر و كذلك الأعمى كيف تهديهم أنت و تبيّن لهم الطريق للهداية و ليس لهم أعين؟ فكيف ينظرون خصوصا إذا انضمّ إلى العمى عدم البصيرة؟ فإذا اجتمع عدم البصر و عدم البصيرة فحينئذ تمّ الأمر؛ لأنّه اجتمع فيه الحمق و العمى.

و جواب «لو» محذوف في الجملتين لدلالة الكلام و هو قوله تعالى: «تُسْمِعُ الصُّمَ و تَهْدِي الْعُمْيَ» عليه أي أ فأنت تسمع الصمّ لو كانوا يعقلون، و لو كانوا لا يعقلون لا تسمع أ فأنت تهدي العمي لو كانوا يبصرون و لو كانوا لا يبصرون؟ أي على كلّ حال مفروض.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ المعتزلة و العدليّة احتجّوا بهذه الآية على صحّة مذهبهم و ردّ مذهب القدريّة أي الجبريّة و وجه الاستدلال به أنّه يدلّ علي أنّه تعالى ما ألجأ أحدا بالكفر و لا بهذه القبائح و المنكرات لكنّهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها و يباشرونها لأنّ الآية صريحة الدلالة على هذا المعنى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 45 الى 46]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)

ص: 253

المعنى: لمّا وصف هؤلاء الكفّار بقلّة الإصغاء و ترك التعقّل و التدبّر أتبعه بذكر الوعيد فقال: [وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا] مشابهين حالا من حال ممن يلبث ساعة من النهار و قوله: [يَتَعارَفُونَ يجوز أن يكون متعلّقا بيوم يحشرهم و يجوز أن يكون حالا بعد حال و «كأن» مخفّفة من المثقّلة و التقدير: كأنّهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا ساعة من النهار.

و حاصل المعنى: يوم نجمعهم من كلّ مكان إلى الموقف كأنّهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا مقدار ساعة أي استقلّوا أيّام الدنيا فإنّ المكث في الدنيا و إن طال كان بمنزلة مكث ساعة في جنب الآخرة.

و قيل: إنّهم استقلّوا مدّة لبثهم في القبور، عن ابن عبّاس و جماعة؛ و قد دلّ القرآن بذلك الوجهين؛ قال اللّه: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» (1) و ذكروا في سبب الاستقلال وجوها؛ قيل: لمّا شاهدوا من أهوال الآخرة و دوامها و عظم خوفهم نسوا زمان الدنيا و استقلّوه، و لمّا طال وقوفهم في الحشر استقلّوا بقاءهم في الدنيا.

قوله: [يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي إنّ الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت كما كانوا في الدنيا كذلك و قيل: معناه: يعرف بعضهم ممّا كانوا عليه من الخطاء و الكفر.

قال الكلبيّ: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثمّ ينقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب و يتبرّأ بعضهم من بعض فحينئذ لا يسأل حميم حميما أو المراد من قوله: [يَتَعارَفُونَ يوبّخ بعضهم بعضا فيقول كلّ فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا و زيّنت لي الفعل الفلانيّ من القبائح فهذا تعارف بين اثنين في التقبيح و التعنيف و التقاطع لا تعارف عطف و شفقة. و كلمة التعارف يشمل القسمين فلا منافاة بين هذه الآية و بين آية «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» (2).

قوله: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا] فيه وجهان: الأوّل: أن يكون التقدير: و يوم يحشرهم

ص: 254


1- المؤمنون: 115.
2- المعارج: 10.

رجال كونهم متعارفين و حال كونهم قائلين: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» و الوجه الثاني أن يكون «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا» كلام اللّه فيكون شهادة من اللّه عليهم بالخسران أي من باع آخرته بدنياه «فقد خسر» لأنّه أعطى الكثير الشريف الباقي و أخذ الخسيس الفاني.

[وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى رعاية مصالح هذه التجارة لأنّهم اغترّوا بالظاهر و غفلوا عن الحقيقة كمن رأى زجاجة صافية حسنة فظنّها جوهرة نفيسة فاشتراها بكلّ ما ملكه فلمّا عرضها على الناقدين خاب سعيه و أخبروه بأنّها زجاجة لا تعادل فلسا، فوقع في حرقة الروع و عذاب القلب.

قوله: [وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ في الدنيا و قيل: إنّه سبحانه وعد محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن ينتقم له من أعدائه إمّا في حياته أو بعد وفاته و لم يعيّن سبحانه الوقت فقال في هذه الآية: إنّ ما وعدناه حقّ إمّا نرينّك يا محمّد في حياتك بعض الّذي نعد هؤلاء الكفّار من العقوبة في الدنيا، قالوا: و منها وقعة بدر و بعض الغزوات على الكفّار.

[أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نميتك قبل أن ينزل ذلك بهم، و ينزل ذلك بهم بعد موتك و ستراه في الآخرة أكثروا إلى حكمنا مصيرهم في الآخرة فلا يفوتنا.

[ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ] عليهم بأفعالهم و يوفّيهم كفرهم و معاصيهم.

و قوله: [سورة يونس (10): آية 47]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)

لمّا بيّن حال محمّد صلى اللّه عليه و آله مع قومه بيّن حال الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول.

و هذه الآية تدلّ على أنّ كلّ جماعة ممّن تقدّم قد بعث اللّه إليهم رسولا، و أنّه ما أهمل امّة من الأمم قطّ و يؤيّده قوله تعالى: «وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (1) فإن قيل: كيف يصحّ هذا مع ما نعلمه من أحوال الفترة؟ و مع قوله سبحانه: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» (2) فالجواب أنّ كون كلّ امّة أن يكون لها نذير لا يوجب أن يكون الرسول حاضرا مع القوم لأنّ تقدّم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم و حكمه باقيا

ص: 255


1- فاطر: 22.
2- يس: 5.

فيهم كما لا يمنع تقدّم رسولنا من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد. و يحمل معنى الفترة على ضعف الدين و ارتداد الناس عن الحقّ و وقوع موجبات التخليط فيها.

و الحاصل في معنى الآية: لكلّ امّة كأمّة محمّد و امّة موسى و امّة إبراهيم و امّة عيسى بعث اللّه إليهم و حمل رسله الرسالة الّتي كان مأمورا لتبليغه.

قوله: [فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ هاهنا حذف و إضمار و التقدير فإذا جاء رسولهم و بلغ الرسالة فكذّبه قوم و صدّقه آخرون [قُضِيَ بَيْنَهُمْ يهلك المكذّبون و ينجي المؤمنون و فصل الأمر بينهم بالعدل و هم لا ينقصون عن ثواب طاعاتهم و لا يزدادون في عقاب سيّئاتهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 48 الى 49]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

المعنى: لمّا أوعد اللّه المكذّبين بيّن في هذه الآية أنّهم استعجلوا ذلك الوعيد على سبيل التكذيب و الردّ.

قل يا محمّد في جوابهم: [لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً] و لا أقدر لنفسي على ضرّ أو نفع إلّا ما شاء اللّه أن يملكني أو يقدرني عليه و حينئذ فكيف أقدر لكم ضرّا أو نفعا أو تقديم القيامة و تعجيل العقوبة قبل الوقت المقدّر؟ لكلّ امّة أجل لعذابها في تكذيب الرسل و موتها فلا يتأخّرون عن ذلك الوقت، و لا يتقدّمون. و كلمة «متى» سؤال عن الزمان كما أنّ «أين» سؤال عن الزمان.

و احتجّ المعتزلة بقوله: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» قالوا: هذا الاستثناء يدلّ على أنّ العبد لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا إلّا ما شاء اللّه» قالوا: هذا الاستثناء يدلّ على أنّ العبد لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا إلّا الطاعة و المعصية فهذا الاستثناء يدلّ على كون العبد مستقلّا بهما.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 50 الى 52]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)

المعنى: هذا جواب آخر لقول الكفّار الّذين يكذّبون النبيّ و كانوا يقولون

ص: 256

لأنبيائهم: أنتم تخوّفونا بالعذاب و البعث و القيامة متى هذا الوعد و لم لم يأتنا؟ و يستعجلون العذاب.

[قُلْ يا محمّد لهم: [أَ رَأَيْتُمْ أي أعلمتم [إِنْ أَتاكُمْ عذاب اللّه ليلا أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي أيّ شي ء الّذي يستعجل من العذاب المجرمون؟

و حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفّار الّذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوب ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم: نؤمن عنده؛ فذلك باطل؛ لأنّ الإيمان في ذلك الوقت إيمان إلجاء و قسر، و ذلك لا يفيد قطعا.

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: يريد بذلك عذابا ينزل على فسقة أهل القبلة في آخر الزمان أجارنا اللّه.

قوله: [أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي أحين وقع بكم العذاب المقدّر الموقّت آمنتم باللّه أو بالقرآن أو بالعذاب الّذي كنتم تنكرونه؟ فيقال لكم: [آلْآنَ تؤمنون و تصدّقون و قد اضطررتم لحلوله و قد كنتم بالعذاب من قبل تستعجلون و كنتم تستهزءون.

ثمّ يقال يوم القيامة للّذين ظلموا أنفسهم على وجه التقريع: ذوقوا عذاب الدائم. و قوله: [ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] عطف على الفعل المضمر قبل كلمة «آلآن» قيل لهم: «آلآن» نظير قوله: «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ» (1) فذوقوا عذاب الدائم بعد عذاب الدنيا.

قوله: [هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا بسبب ما كسبتم و أنّكم هديتم من قبل فما اهتديتم، و بيّن لكم الأدلّة و ازيحت عنكم العلّة فأبيتم إلّا التمادي في الكفر و الامتناع و الانهماك في الغيّ؛ فحينئذ ذوقوا جزاء أعمالكم. و الذوق طلب الطعم و إحساس الكيفيّة. و قيل: لأنّهم يتجرّعون العذاب بدخول أجوافهم.

قوله: «بياتا» أى ليلا يقال: بتّ ليلتي أفعل كذا. و السبب فيه أنّ الإنسان يكون في الليل غالبا في بيته؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل و «البيات» مصدر كالوداع و السراج.

و يقال في النهار: ظللت أفعل كذا؛ لأنّ الإنسان في النهار ظاهر في الظلّ. و «ماذا» قيل:

كلمة واحدة و يكون منصوب المحلّ، نحو: «ما ذا أَرادَ اللَّهُ»* (2) و قيل: كلمتين و محلّ «ما»

ص: 257


1- السورة: 91.
2- البقرة: 25.

الرفع على الابتداء و خبره «ذا» بمعنى الّذي فيكون معناه: ما الّذي يستعجل منه. و دخول حرف الاستفهام على «ثمّ» كدخوله على الواو و الفاء نحو قوله: «أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى (1) للتقريع و إفادة التوبيخ.

و اعلم أنّ الآية صريحة الدلالة على أنّ العبد هو المكتسب لأفعاله التكليفيّة و ليس إجبار من اللّه تعالى أبدا خلافا للجبريّة.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 53 الى 54]

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

المعنى: قوله: [وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ عطف على «و يستعجلونك» و وقوع الاستعجال حين قالوا: «متى هذا الوعد» أي يقولون: متى تكون القيامة و العذاب و يستخبرونك أحقّ ما تقول؟ و اختلفوا في الضمير في قوله: «أحقّ هو» قيل: أحقّ ما جئتنا من القرآن و النبوّة و الشرائع؟ و قيل: أحقّ ما تعدنا من البعث و العذاب و القيامة؟ و قيل: ما تعدنا من عذاب الدنيا و نزوله. فأمر سبحانه نبيّه أن يجيبهم بقوله: [إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ .

و الفائدة أن يستميلهم و يتكلّم معهم بكلام المعتاد، و أنّ من أخبر عن شي ء و أكّده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل و الشبهة، و أدخله في الجدّ و الحقيقة و الناس طبقات: فمنهم من لا يقبل الشي ء إلّا بالبرهان الحقيقيّ، و منهم من لا ينتفع بالبرهان بل ينتفع و يقنع بالبيانات الإقناعيّة نحو القسم؛ فإنّ الأعرابيّ الّذي جاء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سأل عن نبوّته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم. قل يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لهم: نعم و حقّ اللّه إنّ ما وعدتكم بمجيئه لحقّ لا شكّ فيه.

ثمّ أكّد سبحانه بقوله: [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ و سابقين و فائتين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزّله عليكم، لا يمكن لأحد أن يمانع ربّه و يدافعه عمّا أراد و قضى.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هذا الجنس من الكلمات إنّما ينفع لهم ما داموا في الدنيا فأمّا إذا حضروا محفل القيامة و عاينوا قهر اللّه تعالى و ماتوا على كفرهم لا ينفعهم شي ء أبدا فقال:

ص: 258


1- الأعراف: 96.

[وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ و الافتداء إيقاع الشي ء بدل غيره لدفع المكروه أي لو أنّ لهم جميع ما في الأرض و يعطون بدل عذابهم لا يمكن ذلك؛ لأنّه في ذلك الوقت لا يملك شيئا كما قال سبحانه: «وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» (1) و بتقدير أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» (2).

و قال في صفة هذا اليوم: «لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ» (3).

قوله: [وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ و جاء بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه. و «الإسرار» معناه الإخفاء و الإظهار ضدّان فإذا كان بمعنى الإخفاء فظاهر، و أمّا بمعنى الإظهار من قولهم: سرّ الشي ء و أسرّه إذا أظهره فقيل: المراد إخفاء تلك الندامة لأنّهم لمّا رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيّرين فلم يطيقوا عنده بكاء و لا صراخا سوى إسرار الندم كحالة من يذهب به إلى الصلب؛ فإنّه يبقى مدهوشا متحيّرا لا ينطق بكلمة، أو لأنّهم أسرّوا الندامة من سفلتهم و أتباعهم حياء منهم و خوفا توبيخهم.

فإن قيل: إنّ مهابة ذلك الموقف يمنع الإنسان عن مثل هذه الأمور.

قيل: إنّ ذلك قبل الورود في النار و إلّا فبعد الورود استصرخوا و أظهروا لقوله تعالى:

«قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» (4).

و أمّا من قال: المراد بالإسرار الإظهار فظاهر لأنّهم إنّما أخفوا الندامة في الدنيا إمّا لأجل رئاستهم و ميلهم أو أنّ الندامة ما حصلت لهم حتى يخفوا أو يظهروا و لكن لمّا رأوا العذاب و تقطّعت بهم الأسباب فحينئذ أظهروا الندامة.

قوله: [وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ] و العدل قيل: قضي بين المؤمنين و الكافرين. و قيل:

بين الرؤساء و الأتباع من أهل الكفر لأنّهم و إن اشتركوا في العذاب لكن لا بدّ أن يقضى بينهم بالعدل لأنّه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضا في الدنيا فيكون في ذلك القضاء

ص: 259


1- مريم: 96.
2- البقرة: 45.
3- «: 255.
4- المؤمنون: 108.

تخفيف بعضهم دون بعض و تثقيل بعضهم دون بعض لأنّ العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين و لا سبيل إليه إلّا بأن يخفّف من عذاب المظلومين و يثقل في عذاب الظالمين.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 55 الى 56]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

تعلّق الآية بما قبلها هو أنّه قال قبل هذه الآية: «وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ» فلا جرم بيّن في هذه الآية أنّه ليس للظالم شي ء يفتدي به فإنّ كلّ الأشياء ملك اللّه تعالى و ملكه.

و هاهنا دقيقة اخرى و هي كلمة «ألا» و هذه الكلمة إنّما تذكر عند تنبيه الغافلين و إيقاظ النائمين و أهل هذا العالم غالبا مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون:

البستان للأمير، و الدار للوزير، و الغلام لزيد، و الجارية لعمرو؛ فيضيفون كلّ شي ء إلى مالك آخر و الخلق لكونهم في رقدة الغفلة يظنّون صحّة تلك الإضافات؛ فاللّه سبحانه ينبّه الغافلين بقوله: [أَلا إِنَّ لِلَّهِ و ذلك لأنّه لمّا ثبت بالعقل أنّ ما سوى الواحد الأحد ممكن لذاته و الممكن مستند إلى الواجب لذاته فما سواه ملكه أجدّه فما سواه له و ليس لغيره في الحقيقة.

ثمّ نبّه ثانيا بقوله تعالى أنّ المالك الغنيّ عن كلّ شي ء جميع ما وعد به من العذاب و الحشر و النشر حقّ و واقع لا محالة.

[وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لغفلتهم و لاقتصار فهمهم على المحسوسات المعتادة [لا يَعْلَمُونَ .

فيقولون ما يقولون و يفعلون ما يفعلون [هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ من غير دخل لأحد في ذلك [وَ إِلَيْهِ .

لا إلى غيره في الآخرة [تُرْجَعُونَ بالبعث و الحشر.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

المعنى: [يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع الخلق و المكلّفين [قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ].

يعني القرآن. و الموعظة بيان ما يجب أن يحذر عنه و يرغب فيه و يدعو إلى الصلاح و يزجر

ص: 260

عن الفساد [وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ] كالدواء لإزالة الداء فداء الجهل أضرّ من داء البدن، و علاجه أعسر و أطبّاؤه أقلّ و الشفاء منه أجلّ و الصدر موضع القلب، و هو أجلّ موضع من البدن لشرف القلب [وَ هُدىً أي القرآن دلالة تؤدّي إلى معرفة الحقّ [وَ رَحْمَةٌ] أي نعمة لمن تمسّك به و عمل بما فيه.

و إنّما خصّ المؤمنين بالذكر و إن كان القرآن موعظة لجميع الخلق لأنّهم الّذين انتفعوا به.

و قد وصف اللّه سبحانه القرآن بأوصاف أربعة الموعظة و الشفاء لما في الصدور و بالهدى و بالرحمة.

[قُلْ يا محمّد بإفضال اللّه و نعمته، و وضع الفضل موضع الإفضال كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله: «وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (1) أي إنباتا [فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا].

بدل من قوله: «بفضل اللّه» أي بالقرآن فليفرحوا لأنّه خير لكم يا أمّة محمّد و هو أحسن لكم [مِمَّا يَجْمَعُونَ الكفّار من الأموال.

و حاصل المعنى أنّه قل يا محمّد لهؤلاء الفرحين بأموال الدنيا الجامعين لها: إذا فرحتم بشي ء فافرحوا بفضل اللّه و رحمته: بهذا القرآن و بإرسال محمّد صلى اللّه عليه و آله إليكم فحينئذ إنّكم تحصلون بهما نعيما دائما مقيما. و قيل: «فضل اللّه» هو القرآن و رحمته الإسلام عن أبي سعيد الخدريّ. و روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: من هداه اللّه للإسلام و علّمه القرآن ثمّ شكا الفاقة كتب اللّه الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة.

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: فضل اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و رحمته عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس كذلك. و في الآية بيان آخر و طريق صحيح لإثبات النبوّة و هو أنّا نعلم بعقولنا أنّ من جاء و دعى الخلق إلى الحقّ و نهاهم عن الباطل و الفساد، و نقل الناس من الكفر و الفساد إلى الإيمان و الصلاح و معه آية و معجزة لا يتمكّن غيره أن يأتي بها فهو النبيّ الحقّ الصادق المصدّق.

و من المعلوم أنّ نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع الجهل و النقص و حبّ الدنيا

ص: 261


1- نوح: 16.

و طالبين لاستدراك مشتهيات طباعهم و مستلذّاتهم بأيّ نحو كان و من أيّ وجه حصل.

و لا شكّ أنّ هذا الميل يستدعي إلى ارتكاب جهالات و ضلالات غير متناهية؛ و إذا كان كذلك فالخلق يحتاجون إلى إنسان كامل قويّ النفس مشرق الروح علويّ الملكة بحيث يقوى بكماله نقل هؤلاء الناقصين و الجاهلين الفاسدين المفسدين إلى مقام الكمال حتّى لا يقع الهرج و المرج ليأمر بالمعروف و ينهى عن المنكرات.

و نحن نرى أنّ الناس طبقات: الناقصون و هم الجهلة الفسدة، و الكاملون الّذين لا يقدرون على تكميل الناقصين، و الأكملون الّذين يقدرون على تكميل الناقصين؛ فالطبقة الاولى هي عامّة الخلق، و القسم الثاني بعض الأولياء، و الثالث هم الأنبياء.

و لمّا كانت القدرة على نقل الناقصين إلى درجة الكمال متفاوتة و مراتبها مختلفة لا جرم كانت درجة الأنبياء في قوّة النبوّة مختلفة؛ و لهذا السرّ قال صلى اللّه عليه و آله: علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل.

إذا عرفت هذه المقدّمات و ظهر لك إعجاز القرآن ثبت لك نبوّته و هذه الاستدلال أي المعجزيّة على نبوّته برهان الإنّ على اصطلاح المنطقيّين، و هذه البيانات الّتي نذكرها في تفسير هذه الآية برهان اللّم و هو أشرف و أعلى فائدة.

اعلم أنّ نور العقل يضعف حيث قويت العلائق الحسّيّة و الحوادث الجسدانيّة، و يوجب ذلك الاستغراق حصول العقائد الفاسدة و الأخلاق الذميمة في جوهر الروح، و هذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة للروح و البدن فلا بدّ لها من طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات المفيدة و ربّما حصلت الصحّة و زال السقم؛ فكان محمّد صلى اللّه عليه و آله كالطبيب الحاذق و القرآن عبارة عن مجموع الأدوية الّتي بتركّبها تتعالج القلوب المريضة و الأرواح الفاسدة.

و الطبيب له مع المريض في المعالجة أحوال أربعة:

الاولى أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي و يأمره بالاحتراز عن امور بسببها وقع ذلك المرض و هذا هو الموعظة فإنّه لا معنى للموعظة إلّا الزجر و المنع عمّا يبعّد الإنسان عن مرضاة اللّه.

و الثاني من حال الطبيب الشفاء و هو أن يسقيه أدوية يزيل المرض و أخلاط الفاسدة

ص: 262

عن باطنه ليبرأ المرض فهذا النبيّ الطبيب بهذا الدواء الّذي هو شفاء للصدور يتداوى ذلك المريض كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ» (1) فصار جوهر الروح مطهّرا من النقوش المانعة.

و المرتبة الثالثة حصول الهداية كما يحصل للمريض حصول العافية، و يحصل لجوهر النفس الناطقة فيض السعادة و الأضواء الإلهيّة، و فيض عامّ غير منقطع قال عليه السّلام: إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها. و المنع في حقّه تعالى ممتنع فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانيّة إنّما كان للعقائد الفاسدة و الأخلاق الذميمة و الظلمة فحينئذ يمتنع حصول النور فإذا زالت تلك الأحوال فيقع ضوء عالم القدس و المريض يصحّ.

و أمّا الحال الرابع للطبيب فهي أن تصير النفس بالغة إلى هذه الدرجات العالية و المعارج الربّانيّة بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر ضياء الشمس على أجرام هذا العالم، و هو المراد بقوله: «وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» و هو وجود محمّد صلى اللّه عليه و آله الّذي جعله اللّه رحمة انتهى.

[سورة يونس (10): الآيات 59 الى 60]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)

النظم: قيل: لمّا وصف القرآن بأنّه هدى و رحمة و أمرهم بالتمسّك به عقّبه في هذه الآية بذكر مخالفتهم.

و قيل: إنّها اتّصلت بقوله: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» فإذا أقرّوا أنّه الرزّاق [قُلْ لهم يا محمّد لكفّار مكّة و غيرهم من المشركين و «ما» بمعنى «الّذي» منصوب «برأيتم» قل لهم على وجه التقريع و لو كان بصورة الاستفهام: الّذي [أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ و إنّما قال:

أنزل اللّه لأنّ أرزاق العباد من المطر الّذي ينزله اللّه. لم جعلتم بعضه حلالا و بعضه حراما أي ما حرّموا من قبل أنفسهم كالسائبة و البحيرة و الوصيلة و الزروع.

[آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذه الأمور؟ و معناه أنّ اللّه لم يأذن لكم في شي ء من ذلك بل أنتم

ص: 263


1- النحل: 92.

تكذبون في ذلك على اللّه سبحانه. و أيّ شي ء يظنّ الّذين يكذبون على اللّه يوم القيامة؟

أي لا ينبغي أن يظنّوا أن نصيبهم على افترائهم على اللّه إلّا العذاب الشديد. و قرئ «ظنّ» بصيغة الماضي.

قوله: [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بما فعل بهم من ضروب الإنعام [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمه و يجحدونها و قيل: معناه أنّه لذو فضل على خلقه بترك معاجلته العذاب على من افترى عليه بالعقوبة، و يمهلهم لعلّهم ينتبهون.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهاله إيّاهم ليس لجهل بحالهم، فقال:

قوله: [سورة يونس (10): آية 61]

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

[وَ ما تَكُونُ أنت يا محمّد و امّتك في حال من الأحوال من الدين و الدنيا [وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير إلى اللّه أو ضمير الشأن و ما تقرء من اللّه [مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا].

عالمين به شاهدين عليكم متى ما دخلتم في ذلك العمل. و «الإفاضة» الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه مأخوذ من انصباب الماء من الإناء من جوانبه.

[وَ ما يَعْزُبُ و يغيب عن علم [رَبِّكَ وزن نملة صغيرة [فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ].

من وزن نملة و [لا أَكْبَرَ إِلَّا] هو مثبوت و مبيّن في كتاب بيّنه اللّه فيه، و هو اللّوح المحفوظ.

أو المراد الكتاب الّذي كتبه الملائكة السفرة و الحفظة. قال الصادق عليه السّلام: كان رسول اللّه إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا.

و هذه الآية ردّ على قول من يقول: إنّ اللّه ليس عالما بالجزئيّات.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 62 الى 65]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّه سبحانه عالم بجميع ما تعملون شرح أحوال الصادقين الصدّيقين و نفى الخوف و الحزن عنهم بقوله: [أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ إلخ و لا بدّ أن نعرف

ص: 264

الوليّ فعرّفه سبحانه بقوله: [الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ و عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله: هم الّذين يذكر اللّه برؤيتهم. و السبب فيه أنّ مشاهدتهم تذكّر أمر الآخرة لما يشاهد منهم من الخشوع و الخضوع كما قال سبحانه: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» (1).

قال أبو بكر الأصمّ: أولياء اللّه هم الّذين تولّى اللّه هدايتهم باليقين و تولّوا القيام بحقّ عبوديّة اللّه و الدعوة إليه.

و ظهر في علم الاشتقاق أنّ تركيب الواو و اللّام و الياء تدلّ على القرب؛ فوليّ كلّ شي ء هو الّذي يكون قريبا منه و القرب من اللّه بالمكان و الجهة محال؛ فالقرب منه إنّما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة اللّه فإن رأى دلائل معرفة اللّه، و إن سمع سمع آيات اللّه، و إن نطق نطق بالثناء على اللّه، و إن تحرّك تحرّك في خدمة اللّه فهنالك يكون هذا الإنسان في غاية القرب من اللّه و يكون وليّ اللّه و إذا كان كذلك كان اللّه وليّه كما قال سبحانه: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (2) و القرب لا يحصل إلّا من الجانبين.

و قال المتكلّمون: وليّ اللّه من يكون بالاعتقاد الصحيح المبنيّ على الدليل و يكون آتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة. و بالجملة فهؤلاء [لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لأنّ الخوف إنّما يكون في المستقبل و الحزن إنّما يكون على الماضي إمّا لأجل أنّه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنّه فاته شي ء أحبّه.

و ليس المراد أنّ الأولياء لا يلحقهم في الدنيا خوف و حزن، بل المراد في الآخرة؛ لأنّ المؤمن و إن صفا عيشه في الدنيا فإنّه لا يخلو من همّ بأمر الآخرة شديد و حزن على ما يفوته في القيام بطاعة اللّه، و قلّما يتّفق أن يكون المؤمن خاليا من قلّة أو ذلّة أو علّة كما في الحديث: الدنيا سجن المؤمن.

قال ابن عطا: بين العبد و الربّ بحران عميقان: أحدهما بحر النجاة و هو القرآن و الآخر بحر الهلاك و هو الدنيا؛ فمن ركن إليها هلك، ليذهب بلال الحبشيّ بالتاج و الحلية إلى الفردوس و يذهب بمولاه صاحب الطيلسان الحرير اميّة بن خلف بالأنكال و الحديد و

ص: 265


1- الفتح: 29.
2- البقرة: 258.

معلوم أنّ ترك اللّذائذ يخفض القوى الجسمانيّة لكي تقوى القوى الروحانيّة؛ إنّ الملوك إذا دخلوا ...

قوله: [وَ كانُوا يَتَّقُونَ مع ذلك المعاصي [لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ].

فيه أقوال:

أحدها أنّ البشرى في الحياة الدّنيا هي ما بشّرهم اللّه تعالى به في القرآن على الأعمال الصالحة نظير قوله: «وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ» (1) و نظير قوله تعالى:

«يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» (2) و ثانيها أنّ البشارة في الحياة الدنيا بشارة الملائكة للمؤمنين عند موتهم بأن لا تخافوا و لا تحزنوا و ابشروا بالجنّة.

و ثالثها أنّها في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، و في الآخرة بالجنّة و هي ما يبشّرهم الملائكة عند خروجهم من القبور و في القيامة إلى أن يدخل الجنّة حالا فحالا و هو المرويّ عن أبي جعفر، و روي ذلك في حديث مرفوع عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و روى عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الّذي أنتم عليه و ما بين أحدكم و بين أن ترى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه- و أومأ بيده إلى الوريد- الخبر بطوله. ثمّ قال: إنّ هذا في كتاب اللّه و قرأ «الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» و قد بيّنّا البشرى أنّ من معناها الرؤيا الصالحة و عنه صلى اللّه عليه و آله قال: الرؤيا الصالحة من اللّه و الحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوّذ منه و ليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنّه لا يضرّه.

و عنه صلى اللّه عليه و آله ذهبت النبوّات و بقيت المبشّرات. و عنه صلى اللّه عليه و آله: الرؤيا الصالحة جزء من ستّة و أربعين جزءا من النبوّة.

و عن ابن مسعود: الرؤيا ثلاثة قصد و همّ يهمّ به الرجل في النهار فيراه في الليل و حلم الشيطان و الرؤيا الصادقة؛ فإذا رأى منكم رؤيا غير صالحة فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة

ص: 266


1- السورة: 2.
2- التوبة: 21.

اللّه من شرّ الرؤيا الّتي رأيتها أن تضرّني في دنياي أو في آخرتي.

قوله: [لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف فيها و الكلمة و القول سواء نظيره «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» (1) و هذا دليل على أن المراد بالبشرى وعد اللّه بالثواب و الكرامة إنّ هذا [هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

قال القاضي عبد الجبّار: قوله «لا تبديل» يدلّ على أنّ كلمات اللّه غير قابلة للتبديل و كلّ ما قبل العدم امتنع القدم (؟).

قوله: [وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

النظم: كما أنّه سبحانه أزال الخوف و الحزن عن أوليائه في الآخرة بقوله:

«لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» أزال الخوف و الحزن في الدنيا عن قلبه صلى اللّه عليه و آله بهذه الآية حيث كان المشركون يهدّدونه بالكثرة و القوّة و المال، و كانوا يقولون: إنّا أصحاب المال و التبع و نسعى في قهرك و إبطال أمرك.

فإن قيل: فكيف آمنه و لم يزل خائفا حتّى احتاج إلى الهجرة و الهرب.

قلنا: إنّ اللّه وعده الظفر و النصرة مطلقا و الوقت ما كان معيّنا؛ فهو كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعيّن ذلك الوقت؛ فحينئذ يحصل الانكسار و الانهزام في هذا الوقت.

قوله: [سورة يونس (10): آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

ذكر في الآيات السابقة «إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فدلّ على أنّ كلّ ما لا يعقل فهو ملك اللّه.

و أمّا في هذه الآية فكلمة «من» و هي مختصّة بمن يعقل فدلّت على أنّ كلّ العقلاء من الثقلين و الملائكة ملك للّه فحينئذ ما سواه ملكه و ذلك قدح في جعل الأصنام شركاء للّه تعالى.

ثمّ قال: [وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ] و في كلمة «ما» قولان:

ص: 267


1- ق: 28.

الأوّل أنّه نفي و جحد. و المعنى: أنّهم ما اتّبعوا شريكا و إنّما اتّبعوا شيئا ظنّوه شريكا للّه لأنّ شريك اللّه ممتنع. الثاني أنّ «ما» استفهام كأنّه قيل: أيّ شي ء يتّبع الّذين يدعون من دون اللّه شركاء؟ و المقصود تقبيح فعلهم يعنى أنّهم ليسوا على شي ء.

ثمّ قال سبحانه: [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي اتّبعوا ظنونهم الباطلة و أوهامهم الفاسدة.

ثمّ بيّن أنّ هذا الظنّ لا حكم له [وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ و «الخرص» الكذب و التقدير بالتخمين أي يقدّرون تقديرا باطلا.

قوله: [سورة يونس (10): آية 67]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

المعنى: أي الّذي مالك السماوات و الأرض و مالككم [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ .

و جعله لسكونكم و لأن يزول التعب و الكلال عنكم بالسكون فيه، و جعل [النَّهارَ مُبْصِراً].

مضيئا تبصرون و تهتدون به في معاشكم [إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق و الجعل [لَآياتٍ و حججا لقوم يسمعون الحجج، و يفتهمون البيّنات سماع تدبّر و تعقّل. «و المبصر» الّذي يبصر و النّهار يبصر فيه.

و إنّما جعله مبصرا على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبّب.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 68 الى 70]

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

و إنّما قال: «قالوا» و إن لم يكن سبق ذكرهم لأنّهم كانوا بحضرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كان يعرفهم، و يصحّ الضمير و الكناية عن المعلوم كما يصحّ عن المذكور. ثمّ حكى اللّه سبحانه عن صنف من الكفّار أنّهم أضافوا إليه سبحانه اتّخاذ الولد و هم طائفتان: إحداهما كفّار قريش و العرب فإنّهم قالوا: الملائكة بنات اللّه. و الطائفة الاخرى النصارى الّذين قالوا:

المسيح ابن اللّه [سُبْحانَهُ أي تنزيها له تعالى عن اتّخاذ الولد.

ثمّ بيّن الوجه فيه فقال: [لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي إذا كان له ما في السماوات

ص: 268

و الأرض ملكا و خلقا فهو غنيّ عن اتّخاذ الولد ليقوى به من ضعف أو يستغني به عن فقر و إذا استحال اتّخاذ الولد حقيقة عليه لاستغنائه بالذات عن كلّ شي ء استحال عليه اتّخاذ الولد على وجه التبنّي.

قوله: [إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا] أي ما عندكم من حجّة و برهان بهذا [أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ هذا توبيخ لهم على قولهم.

ثمّ بيّن وعيدهم على ذلك فقال: [قُلْ لهم يا محمّد [إِنَّ الَّذِينَ يكذبون [عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتّخاذ الولد و غير ذلك [لا يُفْلِحُونَ و لا يفوزون بشي ء من الثواب.

و أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أي يقطعون بالكذب الّذي يكذبون به على اللّه هو [مَتاعٌ فِي الدُّنْيا] يتمتّعون به أيّاما قلائل ثمّ تنقضي ثمّ إلى ما حكمنا مصيرهم [و نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ].

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 71 الى 73]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

لمّا بالغ سبحانه في تقرير الأدلّة للكفّار و الجواب عن شبهاتهم شرع في قصص بعض الأنبياء لإثبات المطلوب بنوع آخر و هذه صناعة الافتنان و هو الخروج عن فنّ إلى فنّ لأنّ الكلام إذا طال فربّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل عنوان الكلام يحصل للمتكلّم به شرح صدر و طاب قلبه و وجد رغبة في الاستماع و قوّة حادثة، على أنّ في الآية تسلية للرسول بمن سلف من الأنبياء لأنّه صلى اللّه عليه و آله إذا سمع معاملة الكفّار مع كلّ الرسل خفّت المصيبة عليه، لأنّ المصيبة إذا عمّت طابت.

ثمّ إذا سمعوا هذه القصص و أنّ ما فعل الجهّال قبلهم بأنبيائهم لعلّ أن يقع الخوف في قلوبهم و يرتدعون عمّاهم عليه و هم كانوا يعلمون أنّ هذا النبيّ امّيّ و لم يتعلّم من أحد فإخباره لهم بأمثال هذه الأمور دلائل على نبوّته خصوصا إذا بيّن لهم هذه الأقاصيص من

ص: 269

غير تفاوت و زيادة و نقصان فلا يكون حينئذ إلّا من الوحي و التنزيل.

و الحاصل أنّه أمر اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن يقرأ عليهم أخبار نوح [إِذْ قالَ نوح [لِقَوْمِهِ .

الّذي بعث إليهم: [يا قَوْمِ إِنْ كانَ ثقل و شقّ و عظم عليكم إقامتي بين أظهركم و فيكم و بينكم و ثقيل عليكم تذكيري و وعظي بآيات اللّه و بحججه و بيّناته على اصول دينكم من التوحيد و العدل و النبوّة و المعاد و بطلان ما تدينون به.

و في الكلام حذف و إضمار و هو قوله: و عزمتم على قتلي و طردي و تبعيدي [فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ مع أنّه متوكّل عليه كان في جميع الأحوال ليتبيّن لهم أنّه متوكّل عليه. و في هذا الإعلام موعظة و زجر لهم أي إلى اللّه فوّضت أمري فاعزموا على أمركم و اجتماعكم و اتّفقوا على أمر واحد من قتلي و طردي. و هذا تهديد في صورة الأمر [وَ شُرَكاءَكُمْ أي الأوثان الّتي تعبدونها و جعلتموها معبودا لكم أو المراد من شاركهم من أصحابهم في عداوته و قوله: «فعلى اللّه» جواب الشرط.

[ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً] أي مبهما و ملتبسا و يكون ظاهرا و منكشفا [ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ أي ثمّ امضوا إليّ بمكروهكم و اقطعوا ما بيني و بينكم. و قرئ بالفاء أي انتهوا.

و هذا القول من نوح يدلّ على توكّله و يقينه بربّه. و من قرأ بالفاء معناه أن اسرعوا إلى الفضاء لأنّه إذا صار إلى الفضاء تمكّن من الإسراع و تسلّط على قتله و كان هذا من معجزات نوح لأنّه كان في نفر يسير أو ما كانوا يقدرون أن يقتلوه نعم كانوا يؤذونه، لكن لم يتمكّنوا من قتله.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي إن أعرضتم عن قبول قولي فإنّي ما كنت طامعا منكم شيئا و ما طلبت منكم أجرا ليس أجري إلّا على اللّه و أنا أطلب الأجر منه، و أمرني اللّه أن أكون من المستسلمين لأمره.

[فَكَذَّبُوهُ و نسبوا إليه الكذب في أنّه نبيّ اللّه [فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ في السفينة و جعلنا الّذين نجوا مع نوح خلفاء لمن هلك بالغرق قيل: إنّهم كانوا ثمانين نفسا.

و أهلكنا المكذّبين بنوح جميعا من أهل الأرض [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ] المخوّفين باللّه و عذابه

ص: 270

كيف أهلكهم اللّه؟!

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 74]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

ثمّ بعد نوح بعثنا رسلا و لم يسمّهم، و كان منهم هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب عليهم السّلام بالمعجزات و الشواهد القاهرة؛ فأخبر تعالى عنهم أنّهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب فما كانوا هؤلاء الأقوام الّذين بعث اللّه إليهم الرسل و لم يصدّقوا بسبب ما كذّبت به أوائلهم الّذين هم قوم نوح أي كذّبوا هؤلاء كما كذّبوا أولئك لأنّهم كانوا مثلهم في العتوّ و الكفر و كانت الحالتان سواء عندهم قبل البيّنات و بعد البيّنات.

قوله: [كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي نجعل على قلوب الظالمين لأنفسهم الّذين تعدوا حدود اللّه سمة و علامة على كفرهم يلزمهم الذمّ كما فعلنا ذلك بقلوب هؤلاء الكفّار حتّى تعرفهم الملائكة.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 75 الى 78]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)

المعنى: ثمّ بيّن قصّة من بعثه بعد الرسل أو بعد الأمم [مُوسى وَ هارُونَ نبيّين مرسلين [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي رؤساء قومه بأدلّتنا و معجزاتنا فاستكبروا عن الانقياد لها و كانوا قوما عاصين لربّهم. فلمّا جاء قوم فرعون الحقّ من عندنا أي جاءهم موسى بالبيّنات و البراهين قالوا إنّ هذا لسحر ظاهر قال: لهم موسى أ تقولون للمعجز و الحقّ إنّه سحر؟

و السحر باطل و المعجز حقّ و هما متضادّان و لا يظفرون السحرة بحجّة و لا يأتون على ما يدّعونه ببيّنة و إنّما هو تمويه على الصفة.

و [قالُوا] يعني فرعون و قومه لموسى: [أَ جِئْتَنا] لتصرفنا عن ذلك و لتلوينا عن ديننا الّذي كان آباؤنا على ذلك الدين و [تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ] أي السلطنة و الملك؛ لأنّ

ص: 271

النبيّ إذا اعترف القوم بنبوّته صارت مقاليد أمر الامّة إليه فصار أكبر القوم، و الرياسة تنتقل إليه في الأرض؛ و لذا صرّحوا بأن لا نؤمن لكما ثمّ لمّا ذكروا هذه المعاني حاولوا في معارضة موسى بأنواع السحر ليظهروا عند الناس و يموّهوا في الأمر.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 79 الى 82]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)

ثمّ جمع فرعون السحرة و أحضرهم [ف قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ .

فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر و السحر و الأمر بالكفر كفر؟

قلنا: إنّه عليه السّلام أمرهم ليظهر للخلق أنّ ما أتوا به عمل فاسد لا على طريق أنّه عليه السّلام أمرهم بالسحر [فَلَمَّا أَلْقَوْا] حبالهم و عصيّهم [قالَ لهم [مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ].

و هو الباطل و التمويه و أخبرهم بأنّ اللّه يحقّ الحقّ و يبطل الباطل و يظهر فضيحة صاحبه و قد أخبر اللّه سبحانه إبطاله في سائر السور و [اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ و لا يقوّيه و لا يكمّله، بل يحقّ الحقّ و يكمّله بكلماته أي بحكمه و قضائه.

و في هذه الآية دلالة على أنّ اللّه لا يهيّئ عمل من قصد إفساد الدين و لا يمضي له و لا يرضى به، و ينصر المحقّين.

و النصرة على وجهين: تارة بالحجّة الحقّة و هي مستمرّة على كلّ حال، و تارة بالغلبة و القهر و هذا يختلف بحسب المصلحة قد تكون بالتخلية و بالحيلولة اخرى.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 83 الى 86]

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)

ثمّ بيّن سبحانه من آمن من قوم موسى. أي لم يصدّق موسى فيما ادّعى من النبوّة مع ما أظهره عن المعجزات إلّا ذرّيّة أي أولاد من قوم فرعون. و قيل: من قوم موسى

ص: 272

و هم بنو إسرائيل الّذين كانوا بمصر.

و اختلف من قال بالأوّل فقيل: إنّهم قوم كانت امّهاتهم من بني إسرائيل و آباؤهم من القبط؛ فاتّبعوا امّهاتهم و أخوالهم عن ابن عبّاس. و قيل: إنّهم ناس يسير من قوم فرعون منهم امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون و جارية و امرأة هي مشّاطة امرأة فرعون.

و اختلف من قال بالثاني فقيل: هم جماعة من بني إسرائيل أخذهم فرعون لتعلّم السحر و جعلهم في أصحابه فآمنوا بموسى. و قيل: أراد مؤمني بني إسرائيل؛ و كانوا ستّمائة ألف؛ و كان يعقوب دخل مصر باثنين و سبعين إنسانا فتوالدوا حتّى بلغوا ستّمائة ألف و إنّما سمّاهم ذرّيّة لضعفهم.

قوله: [عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ يعني آمنوا و هم خائفون من معرّة فرعون و من معرّة أشرافهم و رؤسائهم. و قيل: إنّ الضمير في «ملائهم» راجع إلى الذرّيّة؛ لأنّ آباءهم كانوا من القبط و كانوا يخافون قومهم من القبط أن يعذّبوهم و أن يفتنهم فرعون عن الدين و يمتحنهم لمحنة لا يمكنهم الصبر عليها فينصرفون عن الدين و كان جنود فرعون يعذبون بني إسرائيل فكان خوفهم منه و منهم.

[وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ و مستكبر باغ طاغ في أرض مصر و نواحيها و من المجاوزين الحدّ في العصيان؛ لأنّه ادّعى الربوبيّة و أسرف في القتل و الظلم.

[وَ قالَ مُوسى لقومه الّذين آمنوا به [يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ كما تظهرون فأسندوا أموركم إليه [إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ على الحقيقة. و إنّما أعاد قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» بعد قوله: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ» لتبيّن المعنى أنّ اجتماع الصفتين واجب: التصديق و الانقياد؛ فأخبر اللّه عن طاعتهم [فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا و لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً] أي لا تمكّن الظالمين من ظلمنا بما يحملنا على الانصراف عن ديننا و لا تظهر علينا فرعون و قومه، و لا تسلّطهم علينا فنفتتن بهم [وَ نَجِّنا] برحمتك من فرعون و استعباده إيّانا و أخذهم جماعتنا بالأعمال الشاقّة.

و المصدر هاهنا في قوله «فتنة» بمعنى المفتون، و المصدر بمعنى المفعول شائع كالخلق بمعنى المخلوق.

قوله: [سورة يونس (10): آية 87]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

.

ص: 273

لمّا ظهر من التوكّل على اللّه من المؤمنين بموسى أمر سبحانه موسى و هارون عليهما السّلام باتّخاذ المساجد و الإقبال على الصلوات فقال: [تَبَوَّءا] أي اتّخذاه مكانا كقوله: «توطّنه» أي اتّخذه وطنا.

قوله: [وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً] قال الفرّاء: معناه: و اجعلوا بيوتكم إلى القبلة. و اختلفوا في أنّ هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر لفظ القرآن لا يدلّ على تعيّنه إلّا أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: كانت الكعبة قبلة موسى. و بعضهم يقول: الكعبة قبلة كلّ الأنبياء.

و قال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدّس. و خصّ موسى بالتبشير ليدلّ بذلك الخطاب على أنّ الأصل في الرسالة موسى و أنّ هارون تبع له و كأنّ موسى و قومه كانوا في أوّل الأمر مأمورين بأن يصلّوا في بيوتهم خفية عن الكفرة كما كان المسلمون كذلك في أوّل الإسلام في مكّة.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 88 الى 89]

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

المعنى: لمّا بالغ موسى في إظهار البيّنات و رأى القوم مصرّين على الجحود و العناد أخذ يدعو عليهم، و لمّا علم أنّ سبب إنكارهم و جحودهم اشتغالهم بزينة الدنيا من الصحّة و الجمال و اللّذّات [قالَ مُوسى يا ربّ [إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ و أشراف قومه [زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ .

قالت الأشاعرة: اللام هاهنا للتعليل و غرضهم من هذا المعنى إثبات مذهبهم الجبر.

و ذلك فاسد لأنّا قد علمنا بالأدلّة الواضحة أنّ اللّه سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلالة و لا يريد منهم الكفر و الضلال، و كذلك لا يؤتيهم المال ليضلّوا.

قال القاضي عبد الجبّار المعتزليّ: لا يجوز أن بكون اللام بمعنى الغرض و الأجل

ص: 274

قطعا؛ لأنّه ثبت أنّه سبحانه منزّه عن فعل القبيح و لا شكّ أنّ إرادة الكفر قبيحة.

ثمّ دليل آخر هاهنا: و هو أنّه سبحانه لو أراد ذلك لكان الكفّار مطيعين لإرادته سبحانه بسبب كفرهم لأنّه لا معنى للطاعة إلّا الإتيان بما يوافق الإرادة، و لو كانوا كذلك لما استحقّوا العذاب و الدعاء عليهم بطمس الأموال و شدّ القلوب كما دعا عليهم موسى و هو سبحانه يجيب.

ثمّ دليل آخر: أنّا لو جوّزنا أن يريد اللّه إضلال العباد لجوّزنا أن يبعث اللّه الأنبياء للدعاء إلى الضلال و في هذا الأمر هدم الدين و هذا باطل.

ثمّ لو كان الأمر كذلك كيف يقول سبحانه لموسى و هارون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ؟ (1) و كيف يجوز أن يقول: «وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ»؟ (2) ثمّ إنّه تعالى أراد الضلالة منهم و أعطاهم النعم لكي يضلّوا، لأنّ ذلك عين المناقضة؛ فلا بدّ من حمل أحدهما على موافقة الآخر فوجب أن يتأوّل هذه الكلمة، و ذلك من وجوه:

الاول: أنّ اللام للعاقبة في قوله «ليضلّوا» كقوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» (3) و لمّا كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال و قد أعلمه اللّه لا جرم عبّر عن هذا المعنى بهذا اللّفظ.

الثاني: أنّ قوله: «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» أي لئلّا يضلّوا عن سبيلك فحذف «لا» لدلالة المفعول عليه كقوله «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (4) و المراد: أن لا تضلّوا. و كقوله تعالى: «قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» (5) و المراد: أن لا تقولوا. و مثل هذا الحذف كثير في الكلام.

ص: 275


1- طه: 44.
2- الأعراف: 129.
3- القصص: 8.
4- النساء: 175.
5- الأعراف: 171.

الثالث: أن يكون موسى عليه السّلام ذكر ذلك على سبيل التعجّب المقرون بالإنكار، و التقدير: كأنّك آتيتهم ذلك لهذا الغرض؛ فإنّهم لا ينفقون هذه الأموال إلّا فيه فالمعنى يصير:

أنّهم يصرفون لأجل الضلال، ثمّ حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطغلس الظلام من الرباب خيالا

أرادا: أ كذبتك عينك؛ فكذا هاهنا.

الرابع: هذه اللام لام الدعاء و هي لام مكسورة تجزم المستقبل و تفتح بها الكلام فيقال: ليغفر اللّه المؤمنين، و ليعذّب اللّه الكافرين فحينئذ يكون المعنى: ربّنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك.

الخامس: أنّ الضلال جاء في القرآن بمعنى الهلاك و في غير القرآن: أمّا القرآن في سورة البقرة «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» (1) و فسّر بمعنى الهلاك و في غير القرآن يقال: ضلّ الماء في اللبن أي هلك.

إذا ثبت هذا فنقول: قوله «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» معناه ليهلكوا و ليموتوا فحينئذ أيضا اللام بهذا المعنى للعاقبة.

قوله: [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ المراد من الطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها قال عامّة أهل التفسير: صارت جميع، أموالهم حجارة حتّى السكر و الفانيذ أي الحلوا [وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ قيل: معناه أمتهم بعد سلب أموالهم. و قيل: اطبع على قلوبهم بأن يموتوا على الكفر. و قيل: معناه ثبّتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم فيكون ذلك أشدّ عليهم. قال ابن عبّاس: بلغنا أنّ الدراهم و الدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا و أنصافا و أثلاثا. و الطمس معناه المسخ.

ثمّ قال: [فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ يجوز أن يكون معطوفا على قوله: «ليضلّوا» و التقدير: ربّنا ليضلّوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم.

قال اللّه سبحانه: [قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما] و الداعي موسى و كان هارون يؤمّن على دعائه؛ لأنّ المؤمّن أيضا الداعي [فَاسْتَقِيما] و أثبتا على أمركما في دعوة الناس على الإيمان قال ابن جريح: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

ص: 276


1- الآية ال 26.

قوله: [وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نهاهما عن أن يتّبعا طريقة من لا يؤمن باللّه و لا يعرفه و لا يعرف أنبياءه.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 90 الى 92]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

المعنى: أنّه سبحانه لمّا استجاب دعاءهما و اقتضت المصلحة أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، و يسّر لهم أسبابه و فرعون كان غافلا عن ذلك فلمّا سمع بخروجهم خرج على عقبهم.

و قوله: [فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم مع جنوده و هو كان مظاهرا للعزّ و شاكي السلاح [بَغْياً وَ عَدْواً] مفعول له أي للعدو و البغي.

روي أنّ موسى عليه السّلام لمّا خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر و قرب فرعون مع عسكره منهم فوقع أصحاب موسى في خوف شديد لأنّهم وقعوا بين بحر مغرق و جند مهلك؛ فأنعم اللّه عليهم بأن أظهر لهم في البحر طريقا يبسا.

ثمّ إنّ موسى عليه السّلام مع أصحابه دخلوا و خرجوا من البحر، و أبقى اللّه ذلك الطريق يبسا ليطمع فرعون و جنوده في التمكّن من العبور، فلمّا دخل مع جمعه أغرقه اللّه بأن أوصل أجزاء المال ببعضها و أزال الفلق.

ثمّ إنّ سبحانه ذكر أنّه لمّا أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظنّا منه أنّه ينجيه من تلك الآفة.

و هاهنا بيان و هو أنّه لو قيل: كيف يتمكّن الغريق عن هذه المقالة المفصّلة؟

يمكن أن يكون لمّا كان مشرفا و مشفيا على الغرق قال هذه الكلمات أو قال بكلام النفس لا بكلام اللّسان.

السؤال: إنّ فرعون آمن ثلاث مرّات أي بثلاث تقرير آمن أوّله قوله «آمنت»

ص: 277

و ثانيه قوله: «لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» و ثالثها قوله: «وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» فما السبب في عدم قبوله توبته، و اللّه متعال عن أن يلحقه غيظ عياذا باللّه حتّى يقال: ما قبل توبته و إنّما لم تقبل توبته لأنّ هذه التوبة توبة إلجاء و لا تفيد البتّة لا منه و لا من غيره؛ لأنّه رأى نزول العذاب فليس من مثل هذه التوبة مقبولة قطعا، و لهذا السبب قال تعالى:

«فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (1) على أنّه إنّما ذكر هذه الكلمات لدفع تلك البليّة الحاضرة و ما كان مقصوده من هذا الكلام الإقرار بتوحيد اللّه و الاعتراف بعزّة الربوبيّة و ذلّة العبوديّة، و لمّا لم يكن الكلام مقرونا بالإخلاص فلهذا السبب ما كان مقبولا.

و وجه آخر: ذكروا جماعة من المفسّرين أنّ بعض الأقوام من بني إسرائيل اشتغلوا بعبادة العجل فلمّا قال فرعون: «آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل» انصرف ذلك إلى العجل الّذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقّه سببا لزيادة الكفر.

و الحقّ أنّ هذا الوجه غير وجيه؛ لأنّ قوله: «آلآن و قد عصيت قبل» ينافي هذا المعنى.

و وجه آخر و هو أنّ الإيمان إنّما كان يتمّ بالإقرار بالوحدانيّة و بالإقرار بنبوّة موسى فههنا لمّا أقرّ بالوحدانيّة و لم يقرّ بالنبوّة لا جرم لم يصحّ إيمانه كما أنّ أحدا من الكفّار يقول ألف مرّة بالتوحيد و لا يقرّ بنبوّته صلى اللّه عليه و آله فحينئذ لا يصحّ إيمانه و هو كافر.

قال الزمخشريّ في الكشّاف: إنّ جبرئيل عليه السّلام أتى بفتيا فيها: ما قول الأمير في عبد نشأ من مال مولاه و نعمته فكفر نعمته و جحد حقّه و ادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيها: يقول أبو العبّاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيّده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر. ثمّ إنّ فرعون لمّا غرق رفع جبرئيل عليه السّلام فتياه إليه.

ص: 278


1- غافر: 85.

و بالجملة قوله: [آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الأخبار دالّة على أنّ القائل بهذا القول جبرئيل. و قيل: هو اللّه قاله له على وجه التوبيخ. و في الآية إضمار و التقدير: قيل له: آلآن آمنت حين لا ينفع الإيمان هلّا آمنت قبل ذلك و كنت من المفسدين بادّعاء الإلهيّة و قتل النفوس؟

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ما أتى جبرئيل عليه السّلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلّا كئيبا حزينا و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمر اللّه سبحانه بنزول هذه الآية نزل ضاحكا مستبشرا فقال صلى اللّه عليه و آله له: يا جبرئيل ما أتيتنى إلّا و الحزن في وجهك ظاهر حتّى الساعة. قال: نعم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله لمّا أغرق اللّه فرعون قال: «آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثمّ قلت له:

«الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين» ثمّ خفت أن تلحقه رحمة من عند اللّه فيعذّبني اللّه على ما فعلت فلمّا كان الآن و أمرني أن أؤدّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت و علمت أنّ ذلك كان اللّه راضى.

قوله تعالى: [فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ اختلف معناه و قرئ بالحاء المهملة.

قال المفسّرون: لمّا أغرق اللّه فرعون و قومه أنكر بعض بني إسرائيل غرق فرعون و قالوا: هو أعظم شأنا من أن يغرق؛ فأخرجه اللّه حتّى رأوه فذلك قوله: «فاليوم ننجّيك ببدنك» أي نلقيك على نجدة و مكان مرتفع من الأرض بجسدك من غير روح؛ و ذلك أنّه طغا عريانا.

و قيل: معناه نخلّصك من البحر ببدنك أي بدرعك و البدن الدرع.

قال ابن عبّاس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها، فالمعنى: نرفعك فوق الماء بدرعك المشهور ليعرفوك [لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً] فلا يقولوا مثل مقالتك. و قرئ «لمن خلقك» بالقاف؛ لأنّه كان يدّعي أنّه الربّ.

و المعنى الثالث: ننجّيك ببدنك أي نخرجك من البحر عريانا من غير لباس.

الرابع بالحاء أي نلقيك بناحية ممّا يلي البحر، و ذلك أنّه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب الساحل كأنّه ثور و ما أخرج اللّه جثّة غيره من هذا الجمع الكثير أحدا بل خصّه بالإخراج.

ص: 279

[وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ قال الرازيّ: الأظهر أنّه سبحانه في ختم هذه الآية خاطب قوم محمّد صلى اللّه عليه و آله ليكون ذلك زاجرا لهم عن كفرهم.

قوله: [سورة يونس (10): آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون و إنجائهم بقوله تعالى:

«مكّنّاهم مكانا محمودا» و هو بيت المقدس و الشام و «مبوّء» يجوز أن يكون مصدرا و مفعولا ثانيا لبوّأت و إنّما قال: [مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أنزلناهم في موضع خصب و أمن بصدق ما يدلّ عليه من جلالة النعمة. و قيل: مبوّأ صدق لأنّ فضل ذلك المنزل على غيره كفضل الصدق على الكذب. و قيل: يريد به مصر و ذلك أنّ موسى عبر ببني إسرائيل البحر ثانيا و رجع إلى مصر و تبوّأ مساكن آل فرعون. و قيل: الشام و مصر.

[وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الأشياء اللذيذة المستطابة.

[فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ معناه: فما اختلفوا في تصديق محمّد صلى اللّه عليه و آله يعني اليهود كانوا مقرّين به من بني قريظة و بني النضير و اليهود الساكنين ما بين المدينة و الشام قبل مبعثه حتّى جاءهم العلم و هو القرآن الّذي جاء به محمّد صلى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس. و قال الفرّاء: «العلم» محمّد صلى اللّه عليه و آله لأنّه كان معلوما عندهم بنعته فلمّا جاءهم اختلفوا في تصديقه فكفر به أكثرهم.

و قيل: إنّ معناه: فما اختلف بنو إسرائيل إلّا من بعد ما جاءهم العلم بالحقّ على يد موسى و هارون؛ فإنّهم كانوا مطيعين و متّفقين على الكفر قبل مجي ء موسى فلمّا جاءهم آمن بعضهم به و ثبت على الكفر بعضهم فصاروا مختلفين.

[إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و هو تعالى يتولّى الحكم يوم القيامة لأنّ هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في الدنيا فلا بدّ أن يقضى في القيامة بينهم و يميّز المحقّ عن المبطل و الصدّيق من الزنديق.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 94 الى 97]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)

ص: 280

المراد إثبات نبوّته صلى اللّه عليه و آله بشهادة الأحبار من اليهود كعبد اللّه بن سلام و ابن صوريا و تميم الدارميّ و غيرهم للناس و الشاكّين و المتوقّفين في نبوّته و إنّما خاطبه كقولهم:

«إيّاك عني و اسمعي يا جارة» أي أيّها الشاكّين استخبروا من علماء أهل الكتاب.

اختلف المفسّرون في أنّ المخاطب من هو؟ قيل: هو صلى اللّه عليه و آله. و قيل: غيره. فأمّا من قال: هو قالوا: إنّ الخطاب معه ظاهرا و المراد غيره و أمثال هذا العنوان في القرآن كثير كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ» (1) و معلوم أنّه صلى اللّه عليه و آله ما كان يطيعهم و كقوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (2) و كقوله: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ». (3) و الّذي يدل على صحّة هذا التأويل قوله في آخر السورة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» (4) فبيّن أنّ المذكور في أوّل السورة على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.

ثمّ إذا كان صلى اللّه عليه و آله فرضا شاكّا في نبوّته لكان غيره أولى بالشكّ في رسالته، و هذا باطل.

ثمّ بتقدير أن يكون صلى اللّه عليه و آله شاكّا في نبوّة نفسه؛ فكيف يزول هذا الشكّ بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته؟ مع أنّهم في الأكثر كفّار؛ فثبت أنّ المراد بالخطاب امّته و لو أنّ صورة الخطاب هو، و مثل هذا معتاد في الكلام فإنّ السلطان إذا كان له أمير و كان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعيّة بأمر مخصوص فإنّه لا يوجّه خطابه عليهم بل يوجّه الخطاب إلى الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم.

و بالجملة في تمام التقرير أنّ قوله تعالى: [فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ

ص: 281


1- الأحزاب: 1.
2- الزمر: 65.
3- المائدة: 119.
4- السورة: 104.

فَسْئَلِ الَّذِينَ إلخ قضيّة شرطيّة و القضيّة الشرطيّة لا إشعار فيها البتّة بأنّ الشرط وقع أو لم يقع، و كذلك لا إشعار فيها بأنّ الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلّا بيان أنّ ماهيّة ذلك الشرط مستلزمة لماهيّة ذلك الجزاء فقط، مثلا إنّك إذا قلت: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين؛ فهذا الكلام حقّ لكن لا يدلّ على أنّ الخمسة زوج و لا يدلّ على أنّها منقسمة بمتساويين فكذا هاهنا الآية تدلّ على أنّه لو حصل هذا الشكّ لكان الواجب فيه السؤال عن أهل الكتاب، و أمّا وقع الشكّ أو لم يقع فلا دلالة عليه.

فالفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول تسكين قلوب المتوقّفين في نبوّته و تقوية لخاطرهم و طمأنينة النفس لهم بتكثير الدلائل و تقريبهم إلى الإيمان بالرسول لأنّهم طالبوه مرّة بعد اخرى بما يدلّ على نبوّته.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لم يشكّ و لم يسأل. و الخطاب لرسول اللّه و إن لم يشكّ لكنّ الكلام خرج مخرج التقرير و الإفهام للناس، كما يقول القائل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني أو يقول لأبيه: إن كنت والدي فتعطّف عليّ. و ربّما خرجوا في مبالغة الكلام إلى ما يستحيل كقولهم: بكت السماء لموت فلان أي لو كان سماء تبكي على ميّت لبكت عليه.

قوله تعالى: [لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يعني بالحقّ القرآن و الإسلام. و رأيت في تفسير أبي السعود العلّامة في الآية أنّه قال: و إن كنت أيّها السامع في شكّ ممّا أنزلنا إليك على لسان نبيّنا فاسأل الّذين يقرءون الكتاب فلا تكوننّ من الممترين الشاكّين.

قوله تعالى: [وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و اعلم أنّ فرق المكلّفين ثلاثة مصدّقة و متوقّفة و مكذّبة، و لا شكّ أنّ الفرقة المتوقّفة الشاكّة أمرهم أسهل من أمر المكذّبة فبيّن تعالى أنّهم من الخاسرين.

قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي إنّ الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم لا يؤمنون، فنفى الإيمان عنهم و لم ينف القدرة عنهم؛ فإنّ نفي الفعل لا يكون نفيا للقدرة كما أنّ اللّه نفى عن نفسه مغفرة المشركين و لم يكن ذلك نفيا لقدرته على مغفرتهم.

ص: 282

و قيل: المعنى: إنّ الّذين وجبت عليهم سخط ربّك لا يؤمنون [وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ] و معجزة [حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الموجع فيصيروا ملجئين إلى الإيمان.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): آية 98]

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

هذه الآية بيان قصّة ثالثة في هذه السورة: الاولى قصّة نوح، و الثانية قصّة فرعون، و هذه قصّة قوم يونس بن متى. و روى الواحديّ في البسيط قال: قال أبو مالك: كلّ ما في كتاب اللّه من ذكر «لو لا» فمعناه «هلّا» و للتحضيض إلّا حرفين أي إلّا في موضعين:

واحد من الموضعين هذه الآية و معناه النفي أي فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها و كذلك. «فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ» (1) أي فما كان من القرون؛ فعلى هذا تقدير الآية:

فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلّا قوم يونس. و انتصب قوله: «إلّا قوم يونس» على أنّه استثناء منقطع عن الأوّل و وقع استثناء القوم من القرية و قرئ بالرفع على البدل. و قيل:

إنّ «هلّا» معناه أي هلّا كانت قرية واحدة من القرى الّتي أهلكناها تابت عن الكفر و أخصلت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلّا قوم يونس.

و فسّروا المعنى جماعة بأنّه لم يكن فيما خلا من الأمم أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتّى لا يشذّ منهم أحد إلّا قوم يونس فلا كانت القرى كلّها هكذا. و قيل: معناه لم أفعل هذا الأمر بامّة من الأمم قطّ إلّا قومه لمّا آمنوا عند نزول العذاب كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم العذاب [كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا].

و كان من قصّة يونس أنّ قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل و كان يدعوهم يونس إلى الإسلام فأبوا فأخبرهم أنّ العذاب مصبحهم إلى ثلثين أو إلى أربعين إن لم يتوبوا فقالوا:

إنّا نجرّب عليه فإن بات فيكم ليلة العذاب فليس بشي ء فإن لم يبت فيكم فاعلموا أن العذاب مصبحكم.

فلمّا كان في جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلمّا أصبحوا أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتّى غشى مدينتهم و اسودّت سطوحهم. قال ابن عبّاس:

ص: 283


1- هود: 117.

كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ثلثي ميل فلمّا رأوا ذلك طلبوا نبيّهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابّهم و ألبسوا المسوح و أظهروا الإيمان و التوبة و أخلصوا النيّة و فرّقوا بين كلّ والدة و ولدها من الناس و الأنعام فحنّ بعضها إلى بعض و علت أصواتها و اختلطت أصواتها بأصواتهم و تضرّعوا إلى اللّه، و قالوا: آمنّا بما جاء به يونس.

فرحمهم ربّهم و كشف عنهم العذاب بعد ما أظلّهم.

قال عبد اللّه بن مسعود: بلغ من قومه أهل نينوى ان يردّ و المظالم بينهم حتّى أن كان الرجل ليأتي الحجر و قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه و يردّه. و روي عن أبي مخلّد أنّه لمّا غشيهم العذاب مشوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم فقالوا: لقد نزل العذاب بنا فما ترى؟

قال: قولوا: يا حيّ يا قيّوم يا حيّ حين لا حيّ و يا حيّ يا محيي الموتى و يا حيّ لا إله إلّا أنت. فقالوا؛ فكشف اللّه العذاب عنهم. و عن الفضل بن عبّاس أنّهم قالوا: اللّهم إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت و أنت أعظم منها و أجلّ افعل بنا ما أنت أهله و لا تفعل بنا ما نحن أهله.

في الحديث- بحذف الأسانيد- عن أبي عبد اللّه قال: كان فيهم رجل اسمه مليخا عابد و آخر اسمه روبيل عالم، و كان العابد يشير إلى يونس بالدعاء عليهم و العالم ينهاه عن الدعاء عليهم و يقول: إنّ اللّه يستجيب دعائك فلا تدع عليهم و اللّه لا يحبّ إهلاك عباده؛ فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم فأوحى اللّه إليه أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا و في يوم كذا. فلمّا قرب الوقت خرج يونس مع العابد و بقي العالم فيهم فلمّا كان اليوم الّذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم: افزعوا فلعلّه يرحمكم و يردّ العذاب عنكم فاخرجوا إلى المفازة و فرّقوا بين النساء و الأولاد و بين سائر الحيوانات و أولادها، و تضرّعوا إلى اللّه و ابكوا؛ ففعلوا فصرف عنهم العذاب و كان قد قرب منهم.

و مرّ يونس على وجهه مغاضبا كما حكى اللّه عنه حتّى انتهى إلى ساحل البحر فإذا سفينة قد شحنت و أرادوا أن يدفعوها فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه فلمّا توسّطوا البحر بعث عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة فتساهموا فوقع من بينهم السهم على يونس فأخرجوه و ألقوه في البحر فالتقمه الحوت و مرّ به في الماء. و قيل: إنّ الملّاحين قالوا: نقترع فمن أصابته

ص: 284

القرعة ألقيناه في البحر فإنّ هاهنا عبدا آبقا فوقعت القرعة سبع مرّات على يونس فقام يونس قال: أنا العبد الآبق و ألقى نفسه في الماء فابتلعه الحوت فأوحى اللّه إلى ذلك الحوت لا تؤذ شعرة منه فإنّي جعلت سجنه بطنك و لم أجعله طعامك فلبث في بطنه ثلاثة أيّام. و قيل:

سبعة أيّام. و قيل: أربعين يوما.

و قد سأل بعض اليهود عليّا عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه فقال عليه السّلام له: هو الحوت الّذي حبس يونس في بطنه فدخل في بحر قلزم حتّى خرج إلى بحر مصر ثمّ إلى بحر آخر ثمّ خرج من الدجلة.

قال عبد اللّه بن مسعود: ابتلع الحوت حوتا آخر فأهوى به إلى قرار الأرض و كان في بطنه أربعين ليلة «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ» (1) فاستجاب له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر و هو كالفرخ المتمعّط فأنبت اللّه له شجرة من يقطين فجعل يستظلّ تحتها و وكّل اللّه به و علا يشرب من لبنها فيبست الشجرة فبكى عليها فأوحى اللّه إليه تبكي على شجرة يبست و لا تبكي على مائة ألف أو يزيدون و أردت أن أهلكهم.

فخرج يونس فإذا بغلام يرعى فقال: من أنت؟ قال: من قوم يونس قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنّك لقيت يونس؛ فأخبرهم الغلام و ردّ اللّه عليه بدنه و عافيته و رجع إلى قومه و آمنوا به. و قيل: إنّه أرسل إلى قوم آخرين غير قومه الأوّلين.

و هاهنا مسألة: و هي أنّ فرعون تاب في آخر الأمر و لم يقبل توبته و حكى سبحانه عن قوم يونس أنّهم تابوا و قبل توبتهم فما الفرق؟

الجواب أنّ فرعون قد ذكرنا قبيل هذا بآيتين سبب عدم قبول توبته على أنّ فرعون لو فرضنا أنّه تاب تاب بعد أن شاهد العذاب و بعد مشاهدة العذاب و الإلجاء لا يقبل التوبة البتّة. و أمّا قوم يونس فإنّهم ظهرت لهم أمارات دلّت على قرب وقوع العذاب، و تابوا قبل أن شاهدوا؛ فظهر الفرق.

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 99 الى 100]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

ص: 285


1- الأنبياء: 87.

المعنى: لمّا تقدّم أنّ إيمان الإلجاء غير نافع بيّن في هذه الآية أنّ ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه فقال: [وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمّد لآمن أهل الأرض جميعا و أكرههم قهرا على الإيمان أي بقدر على هذا الأمر كما قال في موضع آخر: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» (1) و كذلك قال بعده:

[أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنّك لا تقدر عليه؛ لأنّ اللّه تعالى يقدر عليه و لا يريده لأنّه ينافي التكليف.

و أراد بهذا المعنى سبحانه تسلية الرسول و تخفيف ما يلحقه من التحسّر و الحرص على إيمانهم.

و في هذا أيضا دلالة على بطلان قول المجبّرة: «إنّه تعالى لم يزل كان شائيا و إنّه لا يوصف بالقدرة على أن يشاء» و هذا باطل لأنّه تعالى أخبر أنّه لو شاء لقدر لكنّه لم يشأ فلذلك لم يوجد و لو كانت مشيئته أزليّة لم يصحّ تعليقها بالشرط فصحّ أنّ مشيئته فعليّة ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لو علم و لو قدر كما صحّ أن يقال: لو شاء و لو أراد.

قوله: [وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ المعنى أنّه لا يمكن أحد أن يؤمن إلّا بإطلاق اللّه له في الإيمان و تمكينه منه و دعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك و قيل: إنّ إذنه هاهنا أمره. و قيل: إنّ إذنه هنا علمه. أي لا تؤمن نفس إلّا بعلم اللّه.

[وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ و العذاب [عَلَى الَّذِينَ لا] يتفكّرون حتّى [يَعْقِلُونَ و المراد من الرجس قيل: السخط و الغضب. و قيل: النتن. و الرجز و الرجس واحد. قال أبو عليّ الفارسيّ: الرجس على ضربين أحدهما بمعنى العذاب، و الآخر بمعنى القذر و النجس.

فحينئذ المعنى يحكم بأنّهم رجس كما في قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (2)

قوله تعالى: [سورة يونس (10): الآيات 101 الى 103]

قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

ص: 286


1- الشعراء: 4.
2- التوبة: 29.

المعنى: [قُلِ يا محمّد في مقام الإرشاد لمن يسألك الآيات و الشواهد [انْظُرُوا].

و النظر طلب الشي ء من جهة الفكر كما يطلب إدراكه بالعين أي انظروا [ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الدلائل و العبر من اختلاف اللّيل و النهار و مجاري النجوم و الأفلاك و ما خلق من الجبال و إنبات الأشجار و الثمار و أنواع الحيوانات و فوائدها الّتي يستفيدون منها فإنّ النظر و التدبّر فيها في أفرادها و جملتها يدعو إلى معرفة الصانع و الإيمان بوحدانيّته و قدرته و حكمته.

قوله: [وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ] و هو جمع النذير أي الرسل و الأنبياء أو الإنذارات.

و المعنى: و ما تغني هذه الآيات و البراهين الواضحة مع ظهورها و لا الرسل المخوّفة عن قوم لا ينظرون في الأدلّة و لا يتدبّرون و لا يريدون الإيمان. و قيل: «ما» استفهاميّة يعني أيّ شي ء يغني عنهم إذا لم يستدلّوا بهذه الدلائل؟

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: تفكّروا في الخلق و لا تتفكّروا في الخالق. و لو أنّ الإنسان أخذ يتفكّر في كيفية حكمة اللّه في تخليق جناح بعوضة لا نقطع عقله قبل أن يصل إلى أقلّ مرتبة من مراتب تلك الفوائد و الحكم فنبّه سبحانه على القاعدة الكلّيّة و أمر بالنظر إلى ما في السماوات و الأرض حتّى أنّ الإنسان بقدر القوّة البشريّة يشرع في فهم تحصيل حكمته فحينئذ يوجب النظر له اليقين.

و كان الحسن إذا قرأ هذه الآية هتف بها و قال: و ما تغني الحجج عن قوم لا يقبلونها.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لمّا أسرى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جبرئيل بالبراق فركبها فأتى بيت المقدّس فلقي من لقي من الأنبياء ثمّ رجع فأصبح يحدّث أصحابه أنّي أتيت بيت المقدس و لقيت إخواني من الأنبياء فقالوا: يا رسول اللّه كيف أتيت بيت المقدس اللّيلة؟ قال: جاءني جبرئيل بالبراق فركبتها و آية ذلك أنّي مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان و قد أضلّوا جملا لهم أحمر و هم في طلبه.

فقال القوم بعضهم لبعض: إنّما جاءه راكب سريع و لكنّكم أتيتم الشام و عرفتموها فاسألوه عن أسواقها و أبوابها و تجّارها؛ فسألوه عن ذلك، و كان صلى اللّه عليه و آله إذا سئل عن الشي ء

ص: 287

لا يعرفه شقّ ذلك عليه حتّى يرى ذلك في وجهه على جهة التفصيل.

قال: فبينا هو كذلك إذ أتاه جبرئيل فقال: يا رسول اللّه هذه الشام قد رفعت لك فالتفت النبيّ فإذا هو بالشام فقالوا له: أين بيت فلان و مكان كذا؟ فأجابهم كلّ ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلّا قليل و هو قول اللّه تعالى: «وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ».

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فنعوذ باللّه أن لا نؤمن باللّه و رسوله.

قوله: [فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ المعنى أنّ الأنبياء قبلك كانوا يتوعّدون كفّار زمانهم بمجي ء أيّام العذاب و هم كانوا يكذّبون بها و يستعجلونها على سبيل السخريّة و كذلك كفّار زمانك هكذا يفعلون و أمر نبيّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله أن يقول: لهم فانتظروا و أنا كذلك منتظر.

ثمّ أخبره بأنّه لو نزل العذاب، و اقتضت الحكمة بنزوله ننجي رسلنا و أتباعهم فهم أهل النجاة.

ثمّ قال سبحانه: مثل ذلك الإنجاء الرسل السابقة ننظر المؤمنين من امّتك و ننظرك و نهلك المشركين و حقّ علينا حقّا بنجاتهم.

قوله: [سورة يونس (10): الآيات 104 الى 106]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)

أمر سبحانه نبيّه بإظهار دينه و بإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشبهات و تخرج عبادته من طريقة السرّ إلى الإظهار. و ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ هؤلاء الكفّار ما كانوا يعرفون دين رسول اللّه.

و في الخبر أنّهم كانوا يقولون فيه: قد صبأ و هو صابئ.

المعنى: إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا ابيّنه لكم و إنّما أثبت تقديم النفي لقوله:

[فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ لأنّ بيان إزالة النقوش الفاسدة عن اللّوح مقدّمة لا محالة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللّوح.

ص: 288

[وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ و المقصود ترك عبادة الأوثان و الأحجار و يجب الاشتغال بعبادة المعبود الحقّ الموصوف بهذه الصفة أي يتوفّاكم. و إنّما خصّ هذا الوصف بالذكر في هذا المقام لأنّ الموت أقوى من الزجر و الردع، أو المراد: أعبد الّذي خلقكم أولا ثمّ يتوفّاكم ثانيا ثمّ يعيدكم ثالثا و اكتفى بذكر التوفّي من المراتب الثلاثة لكونه منبّها على البواقي.

قوله: [وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي إنّا مأمورون بعبادة الجوارح و قبول الإيمان بالقلب، يعني لا بدّ أن يكون الظاهر مزيّنا بالأعمال الصالحة و القلب منوّرا بالمعرفة و القبول.

قوله: [وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي و أمرت بإقامة الوجه إلى طلب الدين كناية عن توجيه العقل بالكلّيّة إلى طلب الدين لأنّ من يريد أن ينظر إلى شي ء نظرا بالاستقصاء فإنّه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه و الحاصل أي استقم في الدين على ما أمرت به من القيام بأعباء الرسالة و تحمّل أمر الشريعة بوجهك. و قيل: المعنى: و أقم وجهك في الصلاة بالتوجّه نحو الكعبة [حَنِيفاً] أي مائلا إليه ميلا كلّيّا معرضا عمّا سواه إعراضا كلّيّا بإخلاص تامّ و ترك الالتفات إلى غيره.

[وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لا يكون في العبادة شرك لغير اللّه.

قال الرازيّ: لا يمكن أن يكون هذا نهيا عن عبادة الأوثان لأنّ ذلك صار مذكورا بقوله: «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة و هو الشرك الخفيّ؛ لأنّ من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا، و تسمّيه أصحاب القلوب الشرك الخفيّ.

قوله: [وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ و كلّ شي ء هالك إلّا وجهه فلا نافع و لا ضارّ سوى اللّه لأنّ غيره ممكن و معدوم أو سيعدم فما سواه لا وجود له إلّا بإيجاده فلا حكم إلّا له و الرجوع إليه فحينئذ إن اشتغلت بطلب المنفعة أو دفع الضرر من غيره [فَإِنْ فَعَلْتَ ذلك الأمر [فَإِنَّكَ إِذاً] وضعت الشي ء في غير موضعه و كنت ظالما؛ فإنّ ما سوى الحقّ معزول عن التصرّف لعدم القدرة.

ص: 289

فإن قيل: طلب الشبع من الأكل و الريّ من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص و التوجّه؟

قلنا: لا لأنّ حصول الشبع من الأكل بتكوين اللّه و طلب الانتفاع بشي ء قدّره اللّه للانتفاع به لا يكون منافيا للرجوع بالكلّيّة إلى اللّه بشرط أن يشاهد بعين عقله أنّها معدومة بذواتها و هالكة بأنفسها و باقية بإبقاء الحقّ و يرى ما سوى الحقّ عدما محضا بحسب أنفسها و يرى فيض وجوده و إحسانه غالبا على الكلّ.

قوله: [سورة يونس (10): آية 107]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ ما تدعونه و تعبدونه من الأوثان لا يضرّ و لا ينفع عقّبه ببيان أنّه تعالى هو النافع الضارّ أي إن أحلّ اللّه بك ضرّا من بلاء أو شدّة أو مرض لا يقدر على كشفه أحد غيره و إن يردك بخير من صحّة و نعمة و خصب و نحوها لا يقدر أحد على منعه.

[يُصِيبُ بالخير [مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيعطيه على ما تقتضيه الحكمة و المصلحة [وَ هُوَ الْغَفُورُ] لذنوب عباده [الرَّحِيمُ بهم.

و في الآية نكتة دقيقة حيث إنّ المسّ نسبه إلى الضرّ و الإصابة نسبها إلى الخير حيث إنّ جانب الخير و الرحمة أقوى و أغلب و هذا يؤيّد قوله سبحانه: «سبقت رحمتي غضبي» و الخير مراد بالذات و الشرّ مراد بالعرض.

قوله: [سورة يونس (10): آية 108]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

المعنى: لمّا قرّر الدلائل من أوّل السورة في التوحيد و النبوّة و المعاد بالدلائل و البراهين و الأمثلة لتقريب المعنى في الأذهان ختم السورة بقوله: [قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ أي إنّه بيّن التكاليف و أزاح العلّة و قطع المعذرة [فَمَنِ قبل و [اهْتَدى فالنفع راجع إليه و الهداية تنفعه، و من لم يصغ بسمع القبول و خالف الهداية و اتّبع الضلالة فخاصم نفسه، و لا يجب عليّ من السعي في إلجائكم إلى الثواب العظيم.

ص: 290

قال بعض المفسّرين كابن عبّاس: إنّ هذه الآية منسوخة بآية القتال.

قوله: [سورة يونس (10): آية 109]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

ثمّ أمر نبيّه باتّباع الوحي و التنزيل فإن وصل إليه صلى اللّه عليه و آله بسبب ذلك الاتّباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم اللّه فيه و هو حكم عدل لا جور في قضيّته.

تمّت السورة بحمد اللّه تعالى.

ص: 291

سورة هود

اشارة

هذه السورة مكّيّة كلّها إلّا آية و هو قوله: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» فإنّها نزلت بالمدينة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و هود و صالح و شعيب و إبراهيم و موسى و كان يوم القيامة من السعداء.

و روى الثعلبيّ بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي حجيفة قال: قيل: يا رسول اللّه قد أسرع إليك الشيب؟ قال صلى اللّه عليه و آله: شيّبتني هود و أخواتها. و في رواية أنّه سئل عن إسراع الشيب، قال: شيّبتني هود و أخواتها: الحاقّة و الواقعة و عمّ و هل أتاك حديث الغاشية.

روى العيّاشيّ بحذف الأسانيد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة هود في كلّ جمعة بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين و حوسب حسابا يسيرا و لم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة.

ص: 292

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4)

لمّا ختم اللّه سورة يونس بذكر الوحي و أمر النبيّ باتّباع الوحي افتتح هذه السورة ببيان الوحي.

قوله: [الر] اسم للسورة و هو مبتدأ و [كِتابٌ خبره و «أحكمت آياته» صفة «للكتاب» قال الزجّاج: لا يجوز أن يكون «الر» مبتدءا و قال: «كتاب» خبر بإضمار هذا كتاب.

و قوله: [أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي لا يتطرّق إليها الفساد و آياته محكمة و مفصّلة ببيان الحلال و الحرام و الأمر و النهي [ثُمَّ فُصِّلَتْ بالوعد و الوعيد و الثواب و العقاب. و قيل:

معناه: أحكمت آياته جملة لا يتطرّق إليها الفساد.

[ثُمَّ فُصِّلَتْ أي فرّقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلّف أمكن في النظر و التدبّر و قيل: معناه أحكمت في ترتيبها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتّى عجزوا عن الإتيان بمثله ثمّ فصّلت بالشرع و البيان المفروض.

و الحاصل يعني هذا الكتاب محكم النظم مفصّل الآيات من الأمور فليس فيها خلل و لا باطل و تتابعت آياته بعضها على إثر بعض [مِنْ لَدُنْ أي أتاكم هذا الكتاب الموصوف بهذه الصفات من عند [حَكِيمٍ في تدابيره عليم بأحوال خلقه و مصالحهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كلام محدث لأنّه وصفه بأنّه أحكمت آياته ثمّ

ص: 293

فصّلت و الإحكام و التفصيل من صفات الأفعال لأنّه قال: هذا التفصيل و الإحكام من لدن حكيم وقعت و صدرت و هذه الإضافة لا تصحّ إلّا في المحدث لأنّ القديم يستحيل أن يكون صادرا من غيره. و الحقّ أنّه نعم الدليل على حدوث الكلام.

قوله: [أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع نصب تقديره فصّلت آياته لأن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا إلّا اللّه و أنّ هذا الأصل ثابت في كلّ الشرائع و لا محيص عنه.

و حاصل المعنى: انزل هذا الكتاب المحكم المفصّل ليأمركم لكي لا تعبدوا الّا اللّه [إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ] هذا إخبار من النبيّ أنه مخوّف من مخالفة اللّه بأليم العذاب و مبشّر على طاعة اللّه بجزيل الثواب.

قوله: [وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم و مقصدكم و استغفروا من ذنوبكم الماضية ثمّ توبوا إليه في المستأنف و ارجعوا إليه. و قيل:

إنّ «ثمّ» هاهنا بمعنى «الواو» و الاستغفار و التوبة واحد فحينئذ على هذا المعنى يكون التوبة تأكيدا للاستغفار.

[يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إنّكم إذا استغفرتموه و تبتم إليه يمتّعكم في الدنيا بالنعم السابغة من الخفض و الدعة و الأمن و السعة إلى الوقت الّذي قدّر لكم أجل الموت فيه و يبقيكم و لا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الّذين كفروا من قبلكم.

[وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي و يعط كلّ ذي إفضال على غيره بمال أو كلام أو عمل بيد أو رجل جزاء إفضاله و الهاء في [فَضْلَهُ راجع إلى ذي الفضيلة. و قيل: إنّ معناه يعطي اللّه كلّ ذي عمل صالح ثوابه على قدر عمله و على هذا فالأولى أن تكون «الهاء» في «فضله» عائدا إلى اسم اللّه [وَ إِنْ تَوَلَّوْا] و أعرضوا عمّا أمروا. به و قرئ بالتائين و المراد الخطاب [فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ] شأنه و هو يوم القيامة و هذا الخوف ليس في معنى الشكّ بل بمعنى اليقين أي قل لهم: إنّي أعلم أنّ لكم عذابا عظيما.

و إنّما وصف اليوم بالكبير لعظم ما فيه من الأهوال. و في ذلك اليوم رجوعكم إلى حكم اللّه و مصيركم إليه و يعيدكم للجزاء و هو قادر على الإعادة و الجزاء فاحذروا مخالفته.

ص: 294

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 5]

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)

قرئ «يثنوني» على يفعوعل للمبالغة مثل احلولى و اخشوشن.

و أصل «الثنّ» العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته و منه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى و منه الثناء لعطف المناقب في المدح و منه الاستثناء لأنّه عطف عليه بالإخراج منه.

قوله: [أَلا إِنَّهُمْ «ألا» حرف تنبيه و لا نصيب لها من الإعراب.

النزول: قيل: نزلت في الأخنس بن شريق كان حلو الكلام يلقى رسول اللّه بما يحبّ، و ينوي بقلبه على ما يكره. و عن أبي جعفر أنّ المشركين إذا مرّوا برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله طأطأ بعضهم رأسه و ظهره هكذا و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية. لمّا تقدّم ذكر القرآن بيّن سبحانه فعلهم عند سماعه فقال: ألا إنّ المنافقين و الكفّار يطوون صدورهم و يطأطئونها و يحنون صدورهم لكي لا يسمعوا كلام اللّه.

و حاصل المعنى أنّ طائفة من المنافقين و المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا و أرسلنا ستورنا و استغشينا ثيابنا و ثنينا صدورنا على عداوة محمّد فكيف يعلم بنا؟ أي نضمر خلاف ما نظهر ليستخفوا من اللّه، فاللّه سبحانه نبّه بأنّهم لو تولّوا ظاهرا و باطنا لا فائدة لهم بذلك التولّي باطنا لأنّي أعلم سرّهم و علنهم و أعلم خطرات ما في صدورهم و حديث نفسهم.

قوله: [سورة هود (11): آية 6]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

لمّا ذكر سبحانه في الآية السابقة على أنّه عالم بجميع المعلومات ذكر آية علمه بأنّه لو لم يكن عالما لما كان يوصل رزق كلّ حيوان إليه و ما حصلت لها هذه المهمّات فقال: [وَ ما مِنْ دَابَّةٍ] أي ليس ما يدبّ على وجه الأرض من الجنّ و الإنس و الأنعام و الطير و الهوامّ و الوحوش إلّا و اللّه يتكفّل برزقها و يعلم موضع قرارها من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات و مسكن الأرض و يعلم سبحانه حيث تأوي هذه الأنواع إليه من الأرض و حيث تموت و تبعث منه و أين مكان يستقرّ عملها و إلى أيّ مكان تصير إليه و تستودع فيه و جميع

ص: 295

ذلك مكتوب في كتاب ظاهر و هو اللوح المحفوظ.

و قيل في معنى المستقرّ و المستودع: إنّ المستقرّ هو مكانه في الأرض و المستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة أو أصل.

قوله: [سورة هود (11): آية 7]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

لمّا أثبت بالدليل المتقدّم كونه عالما أثبت بهذا الدليل كونه قادرا على جميع المقدورات فقال: [وَ هُوَ الَّذِي إخبار عن قدرته بأنّه خلق هذه الأجرام العظيمة في هذا المقدار من الزمان لو كان زمان لأنّه لم يكن هناك أيّام تعدّ فإنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الشمس و غروبها، و الحكمة اقتضت أن ينشئهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر.

[وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ] و في هذا دلالة على أنّ العرش و الماء كانا موجودين قبل خلق السماوات و الأرض و كان الماء قائما بقدرة اللّه على غير موضع قرار بل كان اللّه يمسكه بقدرته و بناء العرش و السماوات و الأرض على الماء أبدع و أعجب في القدرة.

قال بعض المفسّرين: خلق اللّه ياقوتة خضراء ثمّ نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثمّ خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثمّ وضع العرش على الماء.

و قالت المعتزلة: في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما لأنّه خلقهما لمنفعة و تلك المنفعة عائدة إلى غيره سبحانه لأنّه غنيّ عن أن ينتفع بشي ء و لا بدّ أن يكون المنتفع حيّا و ذلك كان في جنس الملائكة.

و بالجملة ففي مقام إثبات القدرة شرح أنّ العرش الّذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه اللّه فوق سبع سماوات من غير دعامة تحته و لا علاقة فوقه.

[لِيَبْلُوَكُمْ و يمتحنكم. و معنى «الاختبار» في حقّ اللّه ذكرناها مرارا أي يعاملكم معاملة المختبر ليظهر إحسان المحسن و إساءة المسي ء لئلا يتوهّم أنّه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه بل يجازي بعد وقوع العمل و قوله: [أَحْسَنُ لأنّه قد يكون فعل

ص: 296

حسن أحسن من حسن آخر.

و مع هذه الدلائل [لَئِنْ قُلْتَ لهم يا محمّد [إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب و الجزاء [لَيَقُولَنَ هؤلاء الكفّار ليس هذا القول إلّا باطلا و تمويها ظاهرا و لا حقيقة له. و من قرأ «ساحر» أي أنت ساحر و الساحر معناه الكذّاب. قال القفال: كانوا يقولون: إنّ هذا القول خدعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذّات الدنيا و إحرازا لهم إلى الانقياد لكم و الدخول تحت طاعتكم كما قال بعض الزنادقة في زماننا و يقولون. أجارنا اللّه من هذه العقائد الرجسة و الأقوال النجسة.

قوله: [سورة هود (11): آية 8]

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

المعنى: لمّا حكى سبحانه عن الكفّار أنّهم يكذّبون الرسول و نسبوا إليه أنّه قوله سحر أو هو ساحر و كاذب حكى في هذه الآية أنّه متى تأخّر عنهم العذاب الّذي توعّدهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله أخذوا في الاستهزاء و كانوا يقولون: ما السبب الّذي حبسه عنّا العذاب؟

فأجاب اللّه بأنّه إذا جاء الوقت الّذي عيّنه اللّه لنزول العذاب لم ينصرف ذلك العذاب عنهم.

و اختلفوا في ذلك العذاب أهل التفسير؛ فمنهم قال: عذاب الدنيا من الأسر و القتل و أمثاله. و قيل: عذاب الآخرة. فنبّه سبحانه بأنّه يوم يأتيهم في القيامة ليس مصروفا عنهم و ليس له صارف و حاق بهم. و إنّما أتى بلفظ الماضي لتقريره و تحقّق وقوعه.

و المراد من قوله: [إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ] قيل: المراد من «امّة» الحين و الوقت كما في قوله: «وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (1) أي بعد زمان. و قيل: المراد بعد طائفة مجتمعة أي إلى حين تنقضي امّة من الناس بعد هذا الوعيد لقالوا: ما ذا يحبسه عنّا؟ و قد انقرض من الناس.

و هذا من باب تسمية الشي ء باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الوقت.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

ص: 297


1- يوسف: 45.

المراد من الإنسان مطلق الإنسان لأنّه تعالى استثنى منه قوله: «إلّا الّذين» و الاستثناء يخرج من الكلام ما لو لاه لدخل فيشمل المؤمن و الكافر كقوله. «وَ الْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ» (1) فبيّن تعالى: عادة الإنسان أن يقابل النعم بالكفران أي إذا أحللنا به نعمة من الصّحة و السعة من المال و غير ذلك من نعيم الدنيا، ثمّ سلبنا تلك النعمة عنه للمصلحة فيه فعادته اليأس و كفران النعمة.

[وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ أي أحللنا به بعد أن مسّته الضرّاء و أعطيناه نعمة ثانية [لَيَقُولَنَ .

عند نزول النعماء ذهبت عنّي الخصال الّتي تسوؤني أي الشدائد و الأمراض و الآلام ذهبت عنّي و لا تعود إليّ و يغفل و لا يؤدّي شكرها للّه الّذي أعطاه [إِنَّهُ لَفَرِحٌ به و [فَخُورٌ].

به على الناس فلا يصبر في المحنة و لا يشكر عند النعمة. إلّا بعض الناس من المؤمنين يقابلون الشدّة بالصبر و النعمة بالشكر، و يواظبون على الأعمال الصالحة أولئك لهم الجنّة.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

النزول: روي عن ابن عبّاس أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالوا:

يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة تشهد لك بالنبوّة فأنزل اللّه الآية.

و روى العيّاشيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: إنّي سألت اللّه أن يؤاخي بيني و بينك ففعل و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل فقال بعضهم: و اللّه لصاع من تمر في شنّ بال أحبّ إلينا ممّا سأل محمّد صلى اللّه عليه و آله ربّه فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستعين به على فاقته؟ فنزلت الآية.

ص: 298


1- العصر: 1- 3.

المعنى: ثمّ أمر سبحانه رسوله بالثبات على الأمر و حثّه على حجاج القوم بما يقطع العذر فقال: [فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ القرآن و هو ما فيه سبّ آلهتهم و لا تبلّغهم إمّا دفعا لشرّهم أو خوفا منهم أي و لعلّك يضيق صدرك بما يقولونه و يلحقك من أذاهم و تكذيبهم مخافة [أَنْ يَقُولُوا] لو لا يعني هلّا [أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ] من المال [أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يشهد له.

و الحاصل: الحثّ للنبيّ على أداء الرسالة كما يقول أحدنا لغيره و قد علم من حاله أنّه يطيعه و لا يعصيه، لكن لأجل ترغيبه و حثّه يقول له: لعلّك تترك بعض ما آمرك لقول فلان. فيقول اللّه لنبيّه: لا تترك بعض ما يوحى إليك و لا يضيق صدرك بسبب مقالتهم هذه.

[إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ يجلب النفع و يدفع الضرّ إن أراد.

[أَمْ يَقُولُونَ الكفّار اختلقه و اخترعه و أتى به من عند نفسه. قيل: هاهنا حذف و إنّما الحذف لدلالة ما ابقي على ما القي و تقديره: أ يكذّبونك فيما أتيتهم به من القرآن.

أم يقولون افتريته أنت على ربّك [قُلْ لهم يا محمّد: إن كان على زعمكم مفترى [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الترتيب و النظم و الفصاحة فإنّ القرآن نزل بلغتكم و قد نشأت أنا بين أظهركم فاجتمعوا و أتوا من عندكم بمثل هذه المفتريات، فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنّه من عند اللّه و هذا صريح في التحدّي.

و اعلم أنّه قد أجمع المسلمون على أنّه لا يجوز للرسول أن يخون في الوحي و لا قصّر و لا خان أبدا و ما ترك بعض ما يوحى إليه فما المراد في قوله «فلعلّك»؟ و هو أنّه لمّا علم سبحانه أنّ قلب النبيّ صلى اللّه عليه و آله ضاق بسبب كلماتهم الفاسدة فكان يضيق صدره أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه فأيّده اللّه و هيّجه بهذا العنوان لطرح المبالات بكلماتهم الفاسدة و بشرح صدره لا أنّه صلى اللّه عليه و آله ما بلّغ بعض الوحي. فإن عجزتم عن الإتيان فاعلموا أنّ القرآن انزل بعلم اللّه و ليس مفترى و لا شريك في خلقه. فهل أنتم بعد قيام الحجّة و العجز عن الإتيان مستسلمون و منقادون و لتوحيده معتقدون، أو بعد في ضلالتكم.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 15 الى 16]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

ص: 299

المعنى: من كان يريد حسن بهجة الدنيا و زهرتها و لا يريد الآخرة نوفّر عليهم جزاء أعمالهم في الدنيا تامّا و لا ينقضون شيئا منها.

و المراد المشركون الّذين لا يصدّقون بالبعث و يعملون أعمال البرّ كإعطاء السائل و صلة الرّحم و الكفّ عن الظلم و إغاثة المظلوم و الأعمال الّتي يستحسنها العقل كبناء المرابط و القناطير فإنّ اللّه يعجّل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بالاستمتاع بما خوّلهم و بصحّة أبدانهم و توسعة المعاش و صرف المكاره عنهم حتّى قيل: إنّ من مات على كفره قبل استيفاء العوض وضع اللّه عنه في الآخرة من العذاب بقدره و أمّا ثواب الآخرة فلا حظّ لهم فيه.

و قيل: المراد من الآية المنافقون الّذين كانوا يغزون مع النبيّ للغنيمة دون نصرة الدين جازاهم اللّه على ذلك بأن جعل لهم ثواب الدنيا.

و قيل: المراد منهم أهل الرياء [أُولئِكَ الَّذِينَ كذا حالهم [لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا] في الدنيا من الخير إنّهم ما عملوا للّه و ماتوا على كفرهم و بطل عملهم بالكفر.

و ذكر الحسن في تفسيره أنّ رجلا من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه و آله خرج من عند أهله فإذا بجارية عليها ثياب و هيئة فجلس عندها؛ فقامت الجارية فأهوى بيده إلى عارضها فمضت فأتبعها بصره و مضى خلفها؛ فلقيه حائط فخمش وجهه فعلم أنّه أصيب بسبب ذلك الذنب فأتى الرسول صلى اللّه عليه و آله و ذكر له ذلك فقال صلى اللّه عليه و آله: أنت رجل عجّل اللّه عقوبة ذنبك في الدنيا إنّ اللّه إذا أراد بعبد شرّا أمسك عنه عقوبة ذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة، و إذا أراد به خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدنيا.

و النظم: لمّا قال سبحانه: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» كأنّ قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام سلامة المال و النفس تكون ماذا؟ فقال اللّه: من أراد الدنيا دون الآخرة فسبيله هذا.

و القائلون بأنّ المراد المراؤون ذكروا أخبارا كثيرة في هذا الباب.

روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: تعوّذوا باللّه من جبّ الحزن قيل: و ما جبّ الحزن؟ قال صلى اللّه عليه و آله:

واد في جهنّم يلقى فيها القرّاء المراؤون. و قال صلى اللّه عليه و آله: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من يري الناس أنّ فيه خيرا و لا خير فيه.

ص: 300

و روى أبو هريرة أيضا أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: يا ربّ قمت به آناء اللّيل و النهار فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان قارئ و قد قيل.

و يؤتى بصاحب المال فيقول اللّه: ألم اوسّع عليك؟ فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول:

وصلت الرحم و تصدّقت؛ فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان جواد و قد قيل ذلك.

و يؤتى بمن قتل في سبيل اللّه فيقول: قاتلت في الجهاد حتّى قتلت فيقول اللّه: كذبت بل أردت أن يقال: فلان جري ء و قد قيل ذلك.

قال أبو هريرة: ثمّ قرب رسول اللّه ركبتي و قال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق تسعر بهم النار يوم القيامة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 17]

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

تعلّق هذه الآية بما قبلها ظاهر و التقدير: أ فمن كان علي بيّنة من ربّه كمن يريد الحياة الدنيا و زينتها؟ إلّا أنّه حذف الجواب لظهوره.

و اختلفوا في أنّ الّذي وصفه اللّه بأنّه على بيّنة من هو؟ قيل: المراد به النبيّ صلى اللّه عليه و آله. و قيل: المراد من آمن به من القوم و هو الأظهر لقوله في الآية «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» و هذا صيغة جمع، فلا يجوز رجوعه إلى النبيّ. و المراد بالبيّنة هو البيان و البرهان الّذي عرف به صحّة الدين الحقّ.

و الضمير في «يتلوه» راجع إلى معنى البيّنة و هو البرهان. و المراد بالشاهد القرآن و [مِنْهُ أي من اللّه [وَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن و قبل مجيئه التوراة [كِتابُ مُوسى و حاصل المعنى أنّ اللّه يقول: اجتمع في صحّة هذا الدين امور ثلاثة: أوّلها البيّنات العقليّة و الثاني شهادة القرآن بصحّته و الثالث شهادة توراة، فلا يبقى ريب مع هذه الأمور.

و اختلف في معنى الشاهد أنّه من المراد به؟ فقيل: الشاهد جبرئيل يتلو القرآن على

ص: 301

النبيّ صلى اللّه عليه و آله من اللّه، عن ابن عبّاس و مجاهد و الزجّاج.

و قيل: الشاهد من اللّه محمّد صلى اللّه عليه و آله، عن الحسين بن علي عليه السّلام و اختاره الجبّائيّ.

و قيل: الشاهد عليّ بن أبي طالب يشهد للنبيّ و هو منه و من صنوه و أصله و هذا غاية التشريف لعليّ عليه السّلام.

و هو المرويّ عن أئمّتنا أبي جعفر و عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام، رواه الطبريّ بإسناده، عن جابر بن عبد اللّه، عن عليّ عليه السّلام.

و من قبل القرآن التوراة و قد وصف اللّه كتاب موسى بأنّه [إِماماً وَ رَحْمَةً] أي كان مقتدى الخلق و رحمة لهم أي لما كان سببا للرحمة إطلاقا لاسم المسبّب باسم السبب [أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي إنّ الموصوفين بالبيّنة و الهدى في صحّة هذا الدين يؤمنون بالقرآن أو بمحمّد صلى اللّه عليه و آله.

و قيل: المعنى المراد أنّ صورة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و وجهه و خصائله كلّ ذلك يشهد له بالصدق فالتقدير أنّ حصول هذا الشاهد عقيب تلك البيّنة؛ فحينئذ يكون الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلّقة بذات النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

و هاهنا بيان آخر و هو أنّ المطالب على قسمين: منها ما يعلم صحّتها بالبداهة و الضرورة و منها يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب و اجتهاد، و هذا القسم الثاني على قسمين؛ لأنّ طريق تحصيل المعارف إمّا الحجّة و البرهان المستنبط بالعقل و إمّا الاستفادة من الوحي فهذان الطريقان هما الطريقان اللّذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات، فإذا اجتمعا و اعتضد كلّ واحد منهما بالآخر بلغا في غاية القوّة.

ثمّ إنّ في الأنبياء كثرة فإذا توافقت كلماتهم على صحّته و كان البرهان اليقينيّ قائما على صحّته.

فقوله: [أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فالمراد الدلائل العقليّة اليقينيّة و قوله:

[وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ إشارة إلى الوحي الّذي حصل لمحمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى .

إشارة إلى الوحي الّذي حصل لموسى فقد بلغ هذا الدليل و البرهان في القوّة إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.

ص: 302

ثمّ قال: [وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن و بمحمّد صلى اللّه عليه و آله من أصناف الناس [فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ .

فيدخل فيهم اليهود و النصارى و المجوس و سائر الطبقات من الكفر. روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و الراوي أبو موسى روى عنه سعيد بن جبير أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: لا يسمع بي يهوديّ و لا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلّا كان من أهل النار. قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إنّ النبيّ لا يقول مثل هذا إلّا عن القرآن فوجدت اللّه يقول: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ».

قوله: [فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُ أي لا تكن في مرية من صحّة هذا الدين و من كون هذا القرآن نازلا من عند اللّه. و قيل: إنّ المعنى: لا تك في مرية من أنّ موعد الكفّار النار.

ثمّ قال: [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ فلا تبال بالجهّال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 18 الى 19]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)

المعنى: في الآية دلالة على أنّ الافتراء على اللّه من أعظم أنواع الظلم.

ثمّ إنّه تعالى بيّن وعيد هؤلاء بقوله: [أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ و ما وصفهم بذلك لأنّهم مختصّون بذلك العرض لأنّ العرض عامّ في كلّ العباد كما قال سبحانه:

«وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» (1) و إنّما أراد أنّهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم: هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم فيحصل لهم من الخزي و النكال ما لا مزيد عليه.

فإن قيل: إذا لم يجز أن يكون اللّه تعالى في مكان فكيف يعرضون على ربّهم؟

فالجواب أنّهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب الّتي أعدّها اللّه للحساب و الأشهاد الّذين أضيف إليهم القول قيل: الناس و قيل: هم الأنبياء و الملائكة الحفظة. و «الأشهاد» جمع شاهد مثل صاحب و أصحاب و ناصر و أنصار و يجوز أن يكون شهيدا مثل شريف و أشراف.

ص: 303


1- الكهف: 49.

ثمّ بيّن سبحانه عن حالهم بأنّهم في تلك الحال لملعونون من عند اللّه و هذه اللّعنة ابتداء خطاب من اللّه و قيل: من كلام الأشهاد. و المراد من اللّعنة إبعادهم عن رحمته.

ثمّ وصف سبحانه الملعونين الظالمين فقال: [الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و يغوون الخلق و يصرفونهم عن دين اللّه، و قد يكون بإلقاء الشبهة إليهم و يطلبون لسبيل اللّه زيغا عن الاستقامة و زيادة و نقيصة في الكتاب ليتغيّر الأدلّة كما فعله اليهود في وصف النبيّ و التحريفات في التأويل و البدع.

[وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قال الزجّاج: كلمة «هم» كرّرت على جهة التأكيد بشأنهم في الكفر.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 20 الى 22]

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

المعنى: أولئك الموصوفون من الكفّار لم يكونوا معجزين اللّه بالهرب مفلتين بأنفسهم من أخذه لو أرادوا ذلك في الأرض مع سعتها و أن يهربوا منها كلّ مهرب.

و إنّما خصّ الأرض بالذكر و إن كانوا لا يفوتون اللّه و لا يخرجون عن قبضته على كلّ حال؛ لأنّ معاقل الأرض مهرب البشر و معصمهم عند المخاوف.

قوله: [وَ ما كانَ لَهُمْ أي ليس لهم وليّ و لا ناصر ينصرهم و يحميهم عن عذاب اللّه في الدنيا و الآخرة [يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي كلّما مضى ضرب من العذاب يعقّبه ضرب آخر مثله أو فوقه دائما مؤبّدا على قدر الاستحقاق. و قيل: معناه يضاعف العذاب على رؤسائهم للإضلال و الصدّ عن الدين.

قوله: [ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ في معناه وجوه:

أحدها: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون عنادا و ذهابا عن الحقّ فأسقطت الباء عن الكلام؛ كما في قول الشاعر:

ص: 304

نغالي اللّحم للأضياف نيّاو نبذله إذا نضج القدور

أراد: نغالي باللحم، فحينئذ «ما» مصدريّة و ليست بنافية.

و ثانيها أنّه لاستثقالهم استماع آيات اللّه و كراهتهم تذكّر هاجروا مجرى من لا يستطيع السمع و كذلك أبصارهم لم يبصروا كقول الأعشى:

ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل و هل تطيق وداعا أيّها الرجل؟

و قد علمنا أنّ الأعشى كان يقدر على الوداع، و إنّما نفى الطاقة عن نفسه من حيث الكراهة.

و ثالثها: إنّما عنى بذلك آلهتهم و أوثانهم أي أولئك الكفّار الموصوفون العابدون لآلهتهم إنّ آلهتهم جمادات ليس لها سمع و لا بصر، و فيه تعسّف.

و رابعها أنّ «ما» ليست للنفي بل يجري مجرى قولهم: لأواصلنّك ما لاح نجم و المعنى أنّهم معذّبون ما داموا أحياء.

[أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من حيث فعلوا ما استحقّوا به العذاب فهلكوا فذلك خسران النفس، فأخذوا الخسيس من الدنيا و بدّلوا الشريف [وَ ضَلَ و بطل مفترياتهم و أكاذيبهم [لا جَرَمَ من عمل هذه التجارة الخاسرة [هُمُ الْأَخْسَرُونَ و خسارتهم أضرّ من كلّ تجارة.

قال الزجّاج: كلمة «لا جرم» كلمة «لا» حرف نفي و «جرم» معناه كسب فمعناه لا كسب لهم في النفع بل هذا الكسب خسران الدنيا و الآخرة؛ فيؤول المعنى من كلمة «لا جرم» أنّه حقّ كفرهم وقوع العذاب و الخسران بهم.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 23]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)

لمّا شرح خسارة الكفّار و شقاوتهم بيّن في هذه الآية سعادة المؤمنين. و «الإخبات» مأخوذ من الخبت و هو الأرض المطمئنّة كناية عن من يطمئنّ إلى ربّه و يخضع له أي المؤمنون المطمئنّون إلى اللّه الخاضعون، و يعبدون اللّه و قلوبهم مطمئنّة بذكر اللّه و الخضوع له، فارغة عن الالتفات إلى ما سوى اللّه، و تيقّنوا بصدق ما وعدهم اللّه.

ص: 305

و أمّا إذا فسّرنا الإخبات بالخشوع كان المعنى: أنّهم يأتون بالأعمال الصالحة لكنّهم خائفون و خاشعون من أن يكونوا لم يأتوا بها من الوجوه الصحيحة، و وجلون من أن يكون وقوع التقصير و الإخلال، فأولئك الموصوفون بهذه الصفات أصحاب الجنّة و يحصل لهم الخلود.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 24]

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

لمّا ذكر اللّه حال الفريقين من المؤمن و الكافر ذكر لهما مثالا في الآية مطابقا لها أي مثل فريق المؤمنين كالبصير و السميع و مثل فريق الكافرين كالأعمى و الأصمّ، و أنّ المؤمن ينتفع بهاتين الحاسّتين في الدين و الكافر الّذي ليس له هاتان الحاسّتان لا ينتفع بها فصارت حاسّته بمنزلة المعدوم. و إنّما دخل الواو ليبيّن أنّ حال الكافر كحال الأعمى عليحدة، و كحال الأصمّ عليحدة، و حال من يكون قد جمع بين الصفتين جميعا.

[هَلْ يَسْتَوِيانِ فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء كذلك لا تستوي حال الكافر و المؤمن [أَ فَلا تَذَكَّرُونَ و تتفكّرون.

[سورة هود (11): الآيات 25 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)

اعلم أنّه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصّة في سورة يونس و قد أعادها في هذه السورة أيضا لما فيها من زوائد الفكر و بدائع الحكم.

[وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا] و بعثنا [نُوحاً إِلى أهل زمانه و [قَوْمِهِ ... أَنْ لا تَعْبُدُوا] أي: أنذركم أن لا تعبدوا إلّا اللّه، و وحّدوا اللّه، و تتركوا عبادة غيره. و بدأ بالدعوة إلى الإخلاص في العبادة له سبحانه لأنّه من أهمّ الأمور، و لا تصحّ العبادات إلّا بعد التوحيد [إِنِّي أَخافُ .

و إنّما قال: أخاف مع أنّ عقاب الكفّار مقطوع عليه و ليس مظنونا به لأنّه ألطف في

ص: 306

الدعوة و أقرب إلى القبول و الإجابة في الغالب.

[فَقالَ الْمَلَأُ] و الأشراف [الَّذِينَ يملؤون المجالس بحاشيتهم و غاشيتهم [مِنْ قوم نوح لنوح: [ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا] ظنّا منهم أنّ الرسول إنّما يكون من غير جنس المرسل إليه و لم يعلموا أنّ البعثة من الجنس قد يكون أصلح و من الشبهة أبعد.

ثمّ قالوا: [وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ أي: لم يتّبعك الملأ و الأشراف و الرؤساء منّا و إنّما اتّبعك أخسّاؤنا الّذين لا مال لهم و لا جاه [بادِيَ الرَّأْيِ أي في ظاهر الأمر و الرأي لم يتدبّروا و لم يتعمّقوا فيما قلت.

و قال الزّجّاج: معناه اتّبعوك في الظاهر و باطنهم على خلاف ذلك. و من قرأ بالهمزة فالمعنى: أنّهم اتّبعوك ابتداء الرأي، و لو فكّروا و تأمّلوا لم يتّبعوك. و قيل: معناه أنّ في مبتدء وقوع الرؤية عليهم يعلم أنّهم أراذلنا و أسافلنا.

قوله: [وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي: ما نرى لك و لقومك علينا من فضل؛ لأنّ الفضل عندهم بكثرة المال و المنزلة في الدنيا و الشرف في النسب و هكذا عادة أهل الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء و يسترذلونهم و إن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند اللّه.

[بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ هذه بقيّة كلام كفّار قوم نوح، قالوه لنوح و من آمن به.

[قالَ نوح لقومه: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي .

و اختلفوا أنّ قول نوح هذا جواب عمّا ذا من كلامهم؟ قيل: جواب عن قولهم:

«بل نظنّكم كاذبين» و قيل: جواب عن قولهم: «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» فالمعنى كأنّه عليه السّلام قال: أخبروني أنّكم إن تظنّوني كاذبا فما ذا تقولون إذا أتيتكم بحجّة من اللّه واضحة؟ ألا تصدّقونني؟

هذا إذا كان قوله عليه السّلام جوابا عن قولهم «بل نظنّكم كاذبين». و إذا كان جوابا عن قولهم: «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً» فالمعنى: إن كنت بشرا فماذا تقولون إذ أتيتكم بحجّة دالّة على صدقي؟ و الرسالة تظهر بالمعجزة فلا معنى لاعتبار البشريّة.

قوله: [وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ و المراد بالرحمة هنا النبوّة أي و أعطاني نبوّة من

ص: 307

عنده [فَعُمِّيَتْ و خفيت [عَلَيْكُمْ لقلّة تدبّركم فيها. أ تريدون أن أكرهكم و ألزمكم بطريق الإلجاء على تصديق نبوّتي على كره منكم؟ ذلك غير مقدور لي؛ لأنّ إلزامي إيّاكم على قبول نبوّتي ذلك الإيمان الاضطرارىّ و ليس من شأني.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 29 الى 31]

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

المعنى: ثمّ أنكر نوح استثقالهم التكليف؛ لأنّ العاقل يستثقل الأمر إذا لزمته مؤونة ثقيلة فقطع عذرهم فقال: إني لا أطلب منكم مالا لدعوتي إيّاكم إلى اللّه حتّى تمتنعوا إجابتي خوفا من بذل المال؛ لأنّي أطلب أجري من اللّه و لست أطرد المؤمنين من عندي، و لا ابعدهم عنّي على وجه الإهانة؛ لأنّهم سألوه طردهم ليؤمنوا له آنفة من أن يكونوا مع الفقراء سواء.

فكأنّه عليه السّلام أجاب عن جميع سؤالاتهم بهذه الآية أي أنّي لا أطلب المال حتّى إذا كان المستجيب لنبوّتي إذا كان فقيرا لم ينفعني، و إذا كان غنيّا نفعني و يتفاوت لي؛ فإن ظننتم أنّي فقير و اشتغلت بهذه الحرفة لأتوصّل بها إلى أخذ أموالكم فاعلموا أنّ هذا الظنّ خطاء منكم و لا أطرد الصعاليك عنّى؛ لأنّهم ملاقوا ربّهم ما وعدهم من البعث و الجزاء فإن طردتهم استخصموني عند اللّه. و نبّه بهذا المعنى لهم وجود البعث و الجزاء و القيامة؛ فحينئذ إن فعلت ذلك و خاصموني فمن ينصرني عند اللّه من مخاصمتهم؟ و أراكم جاهلين؛ لأنّ تعظيم البرّ المتّقي المؤمن و إهانة الفاجر الكافر حكم بهما الشرع و العقل؛ فإذا قلبت القضيّة كنت على صدّ أمر اللّه فحينئذ من يجيرني من هذا الإثم و العصيان؟

[أَ فَلا] تفقهون و [تَذَكَّرُونَ و الفرق بين التفكّر و التذكّر أنّ التذكّر طلب معنى قد كان حاضرا للنفس و التفكّر طلب معرفة الشي ء بالقلب و إن لم يكن حاضرا للنفس.

ص: 308

قوله: [وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي هذا تمام الحكاية عمّا قاله نوح لقومه أي إنّي لا أرفع نفسي فوق قدرها فأدّعي أنّ عندي مقدورات اللّه فأفعل ما أشاء و اعطي من أشاء و أمنع من أشاء و مفاتيح اللّه في الرزق و خزائنه عنده و لا أدّعي علم الغيب حتّى أدلّكم على منافعكم و مضارّكم. و لا أقول إنّي ملك فأخبركم بخبر السّماء من قبل نفسي، و إنّما أنا بشر لا أعلم الأشياء إلّا بتعليم اللّه.

ثمّ أكّد عليه السّلام بيانه بقوله: [وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ و تستقلّونهم و تستخفّونهم و تنظرون إليهم بعين الحقارة و العيب لما ترونهم من الفقر: لا يعطيهم اللّه في المستقبل خيرا [اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي قلوبهم من الإخلاص إن قلت منهم ما لم أعلم و طردتهم [إِذاً].

أنا [لَمِنَ الظَّالِمِينَ .

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

لمّا جاوب الكفّار بهذه الآية السابقة و صفوه بكثرة المجادلة و حملوا كلامه على الجدل. و المجادلة المقابلة بما يقبل الخصم من مذهبه بحجّة أو شبهة، و الجدل شدّة القتل.

و الفرق بين الحجاج و الجدال أنّ المطلوب بالحجاج ظهور الحجّة، و المطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب.

و بالجملة [قالُوا يا نُوحُ حاججتنا و أكثرت الجدل فأتنا بما تخوّفنا من العذاب فلسنا نؤمن بك إن كنت صادقا فيما تدّعي.

[قالَ نوح: لا يأتي بالعذاب إلّا اللّه متى شاء، فإن شاء عجّل و إن شاء أخّر و أنتم لا تفوتونه بالهرب و التأخير. و إذ أراد اللّه عذابكم و أن يعاقبكم لكفركم، و يجنّبكم من رحمته بسبب سوء اختياركم، و يحرّمكم ثوابه، و أغواكم لا ينفعكم نصحي إذا أردت أن أنصح، لأنّكم عامدون على العناد و الإنكار.

ص: 309

و قد سمّى اللّه سبحانه العقاب و العذاب غيّا بقوله: «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» (1) و يشهد بذلك قول الشّاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

و قال بعض المفسّرين: إنّ معنى الآية: إن كان اللّه يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إيّاهم أي يريد عقوبتكم على ذلك الإغواء. و من عادة العرب أن تسمّي العقوبة باسم الشي ء المعاقب عليه كقوله: و جزاء سيّئة سيّئة مثلها، و مكروا و مكر اللّه.

و قيل: معنى الإغواء: الإهلاك إذا أراد اللّه إهلاككم بسبب كفركم لا ينفعكم نصحي عند نزول العذاب و إن قبلتم نصحي و آمنتم؛ لأنّ اللّه حكم بأن لا يقبل الإيمان بعد نزول العذاب. و قد حكي عن العرب أنّهم قالوا: أغويت فلانا أي أهلكته، و يقال: غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللّبن.

و قيل: إنّ قوم نوح كانوا يعتقدون أنّ اللّه يضلّ عباده عن الدّين و أنّ ما هم عليه بإرادة اللّه و لو لا ذلك لأجبرهم على خلافه؛ فقال نوح على وجه التعجّب من قولهم: إن كان القول كما تقولون و تعتقدون فنصحي لا ينفعكم.

و اعلم أنّه لا يجوز أن يكون المراد بالإغواء في الآية فعل الكفر و الدعاء إلى الكفر أو الحمل عليه على ما يعتقده المجبّرة؛ لقيام الأدلّة على أنّ خلق الكفر و إرادته من أقبح القبائح و كالأمر به، و كما لم يجز أن يأمر به فكذلك لا يجوز أن يفعله أو يريده. و لأنّه لو جاز منه الإضلال لجاز منه أن يبعث من يدعو إلى الضلال [هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.

قوله: [سورة هود (11): آية 35]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

المعنى: قيل: أ يؤمن كفّار محمّد صلى اللّه عليه و آله بما أخبرهم به محمّد صلى اللّه عليه و آله من نبأ قوم نوح [أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ من تلقاء نفسه [ف قُلْ لهم يا محمّد صلى اللّه عليه و آله: إن اختلقته و افتريته كما تزعمون فعليّ عقوبتي و لا تؤخذون به و أنا لا أؤاخذ بجرمكم.

ص: 310


1- مريم: 60.

و قيل: يعني به نوحا و أنّه يقول على اللّه الكذب، عن ابن عبّاس.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 36 الى 39]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)

المعنى: أخبر اللّه نوحا أنّه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل فلا تغتمّ و لا تحزن.

و لأنّ العقل لا يدلّ و لا يحكم على أنّ قوما لا يؤمنون في المستقبل و إنّما طريق ذلك السمع فأخبره اللّه؛ فلمّا علم أنّ أحدا منهم لا يؤمن فيما بعد و لا من قبلهم دعا عليهم «فقال:

«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (1) فلمّا أراد اللّه إهلاكهم أمر نوحا باتّخاذ السفينة له و لقومه المؤمنين فقال سبحانه:

[وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ و اعمل السفينة [بِأَعْيُنِنا] و بمرأى منّا أي بحفظنا إيّاك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه. و ذكر الأعين لتأكيد الحفظ و قيل: المراد بالأعين الملائكة الموكّلون بك و هم ينظرون إليك بأعينهم. و إنّما أضاف ذلك إلى نفسه إكراما و تعظيما لهم.

و قوله: [وَ وَحْيِنا] معناه: على ما أوحينا إليك من صنعتها و كيفيّتها أو المراد:

بوحينا إليك أن اصنعها؛ و ذلك أنّه لم يعلم صنعة الفلك فعلّمه اللّه بأنّا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله و عرضه و هيئته [وَ لا تُخاطِبْنِي أي و لا تسألني العفو عن هؤلاء [الَّذِينَ .

كفروا من قومك و لا تشفع لهم [ف إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عن قريب و هذا غاية في الوعيد.

فجعل نوح يصنع الفلك كما أمر اللّه بيده فجعل ينحت و يسوّيها و أعرض عن قومه.

و كلّما مرّ عليه أشراف قومه و رؤساؤهم و هو يعمل السفينة هزءوا بفعله؛ لأنّه كان يعملها في البرّ على مبلغ من الطول و العرض و لا ماء هناك يحمل مثلها، فكانوا يتضاحكون و يتعجّبون

ص: 311


1- نوح: 27- 28.

من عمله، و كانوا يقولون له: يا نوح صرت نجّارا بعد النبوّة؟ على طريق الاستهزاء. و قيل:

إنّ استهزاءهم له بأن كانوا يقولون: لو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاقّ. أو أنّهم ما رأوا السفينة قبل ذلك و ما عرفوا السفينة إلّا ينتفاع بها فيسخرون و يعدّون عمله سفها. و لمّا طالت مدّته مع القوم، و كان ينذرهم بالغرق و ما شاهدوا من ذلك المعنى خبرا غلب على ظنونهم كونه كاذبا في ذلك المقال.

ثمّ إنّه سبحانه حكى عن نوح أنّه كان يقول: [إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ أي إذا وقع الغرق و العذاب نحن نسخر منكم.

فإن قيل: السخريّة من آثار المعاصي فكيف يليق بالأنبياء؟

قلنا: سمّي المقابلة سخريّة كما في قوله: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» (1).

[فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا أحقّ بالسخريّة، و تعلمون عاقبة سخريّتكم [مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يفضحه في الدنيا و ثبت عليه عذاب دائم في الآخرة، القصّة.

قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع و مأتي ذراع و عرضها ستّمائة ذراع.

و قيل: أقلّ. قال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس و طبقة للأنعام و الدوابّ و طبقة للوحش و الهوامّ، و جعل أسفلها للوحوش و السباع و الهوامّ، و أوسطها للدوابّ و الأنعام، و ركب هو و من معه في الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، و كانت من خشب الساج، و قيل: من النخل.

و بالجملة لمّا فرغ نوح من عمل السفينة و أراد اللّه إهلاكهم، روى عليّ بن إبراهيم بحذف الأسانيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لمّا أراد اللّه إهلاك قوم نوح عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يولد لهم مولود، و أمر اللّه نوحا أن ينادي بالسريانيّة أن يجمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان إلّا و قد حضر؛ فأدخل من كلّ نوع من أنواع الحيوان زوجين ما خلا الفأر و السنّور.

ثمّ لمّا شكوا القوم من سرقين الدوابّ دعا الخنزير و مسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فأرة فتناسلوا و لمّا كثروا و شكوا إليه منها دعا بالأسد و مسح جبينه؛ فعطس فسقط من أنفه زوج سنّور.

ص: 312


1- الشورى: 40.

و كان الّذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين نفرا. و روى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوّة بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: آمن مع نوح ثمانية نفر.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 40 الى 41]

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)

كلمة «حتّى» وقعت غاية لقوله: «و يصنع الفلك» أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت العذاب.

و في «التنوّر» قولان: أحدهما أنّه التنوّر الّذي يخبز فيه. و الثاني أنّه غيره؛ فعلى الأوّل قيل: إنّه تنّور لنوح عليه السّلام، كانوا يخبزون فيه. و قيل: كان لآدم و حوّاء حتّى صار لنوح. و اختلفوا في موضعه؛ قال الشعبيّ: كان بناحية الكوفة. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه في مسجد الكوفة؛ قال عليه السّلام: و قد صلّى نحوه سبعون نبيّا. و قيل: بالشام بموضع يقال له وردان. و لكنّ الصحيح ما قاله عليّ عليه السّلام؛ و قيل: فار التنوّر بالهند. و قيل: إنّ امرأته كانت تخبز في ذلك التنوّر خبزا ورده من أرض الشام في دار نوح، فأخبرت نوحا بخروج الماء فاشتغل في الحال بوضع الأشياء في السفينة، هذا كلّه على القول الأوّل.

و على القول الثاني إنّ المراد وجه الأرض و العرب تسمّي وجه الأرض تنّورا. و قيل: إنّ التنوّر أعلى مكان في الأرض و أشرفها؛ و قد أخرج اللّه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له. و قيل: فار التنوّر أي طلع الصبح عن عليّ عليه السّلام. و قيل: فار التنوّر كقولهم:

«حمى الوطيس» بمناسبة وقوع العذاب. و فار أي. نبع على قوّة و شدّة تشبيها بغليان القدر.

و قد وعد اللّه المؤمنين النجاة؛ و جعل هذه الحالة علامة لحدوث الواقعة.

قال الليث: «التنوّر» لفظة عمّت بكلّ لسان و وافقت اللغات بهذا المعنى و صاحبه تنّار. لكنّ الأزهريّ قال: إنّ الاسم قد يكون أعجميّا في الأصل فتعربه العرب فصار عربيّا نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم كالديباج و الدينار و السندس و الإستبرق فإنّ العرب لمّا تكلّموا بهذه الكلمات صارت عربيّة.

ص: 313

قوله: [قُلْنَا احْمِلْ أي قلنا لنوح لمّا فار التنوّر: احمل في السفينة [مِنْ كُلٍ نوع من الحيوان [اثْنَيْنِ .

فإن قيل: الزوجان قد فهم أنّهما اثنان فكيف جاز وصفهما بقوله «اثنين»؟ إنّما جاز للتأكيد كقوله: «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ» (1) تقول: أمس الدابر و نفخة واحدة و نعجة واحدة، و الحاصل: احمل في السفينة من الحيوان ذكرا و أنثى.

[وَ] احمل [أَهْلَكَ و ولدك [إِلَّا مَنْ سَبَقَ القول بإهلاكه إلّا امرأته الخائنة، و اسمها واغلة، و ابنه كنعان. و احمل [مَنْ آمَنَ بك من قومك، و أخبر اللّه أنّه ما آمن معه إلّا نفر قليل و هم ثمانون إنسانا. و قيل: اثنان و سبعون رجلا و امرأته و بنوه الثلاثة و نساؤهم فهم ثمانية و سبعون نفسا و حمل معه جسد آدم و قيل: ثمانية أنفس، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و كان فيهم بنوه الثلاثة: سام، و حام و يافث. و ثلاث كنائن (2) لهم، فالعرب، و الروم، و فارس و أصناف العجم ولد سام، و السودان و الحبش و الزنج و أمثالهم ولد حام، و الترك و الصين و الصقالبة و يأجوج و مأجوج ولد يافث.

قوله: [وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها] أي قال نوح لأهله و قومه: اركبوا في السفينة متبرّكين [بِسْمِ اللَّهِ أو قائلين: بسم اللّه وقت إجرائها و حركتها و وقت إرسائها و ثبوتها. و قيل: كانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: بسم اللّه جرت، و إذا أرادوا أن تقف السفينة قالوا:

بسم اللّه فوقفت.

[إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هذا القول حكاية عمّا قاله نوح لقومه. و وجه اتّصالها بما قبلها: لمّا ثبت النجاة بالسفينة ذكرت النعمة بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 42 الى 43]

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

المعنى: إنّ السفينة كانت تجري بنوح و من معه على الماء في أمواج كالجبال في

ص: 314


1- النحل: 51.
2- جمع الكن بالفتح: امرأة الابن.

عظمها. و ارتفاعها و من التشبيه تبيّن أنّ الموج لم يكن واحدا بل كان كثيرا. و روي أنّ الماء ارتفع فوق كلّ جبل عال ثلاثين ذراعا. و قيل: إنّ السفينة سارت لعشر مضين من رجب، فسارت ستّة أشهر، فطافت الأرض كلّها لا تستقرّ في موضع حتّى أتت الحرم فطافت بموضع الكعبة اسبوعا، ثمّ سارت بهم حتّى انتهت إلى الجوديّ. و من المعلوم أنّ الأمواج العظيمة في البحر لا تحدث إلّا بعد هبوب رياح عاصفة، و حدوث هول عظيم و الفزع. ثمّ [نادى نُوحٌ ابْنَهُ يا بنيّ [وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ من السفينة و إنّه كان يظنّ أنّ الجبل يمنعه عن الغرق. و قيل: إنّه كان بمعزل أي في معزل من الكفّار، و إنّه انفرد عنهم. فظنّ نوح أنّ ذلك إنّما كان لأنّه أحبّ مفارقتهم فطمع في إيمانه و ركوبه معه، و لهذه الجهة ناداه، و إلّا لما قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (1) كيف يناديه مع كفره؟ بل قيل: إنّه كان ينافق أباه فظنّ نوح أنّه مؤمن و لو لا ذلك لما أحبّ نجاته.

و القول الصحيح أنّه كان ابن امرأته (2)، و يروى أنّ عليّا عليه السّلام قرأ: و نادى نوح ابنها. قال الباقر عليه السّلام: إنّه كان ابن امرأته. قال قتادة: سألت الحسن البصريّ عنه فقال: و اللّه ما كان ابنه، فقلت إنّ اللّه حكى عنه قال: إنّ ابني من أهلي و أنت تقول: ما كان ابنا له؟ فقال الحسن: لم يقل: إنّه منّي و لكنّه قال: من أهلي و هذا يدلّ على قولي و ابن المرأة يدعى بالابن.

و بالجملة فأجابه ابنه فقال: سأرجع و أستقرّ إلى جبل يمنعني من الماء. قال نوح:

[لا عاصِمَ و لا مانع و لا دافع اليوم من عذاب اللّه إلّا من رحمه اللّه بإيمانه فآمن باللّه يرحمك، فما قبل قول نوح [وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فصار كنعان و قيل: اسمه يام [مِنَ الْمُغْرَقِينَ .

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 44]

وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

قال اللّه للأرض: انشفي ماءك الّذي نبعت به العيون، و اشربي ماءك حتّى لا يبقى على وجهك شي ء منه. و هذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض بأوجز مدّة فجرى مجرى

ص: 315


1- نوح: 27.
2- رواه القمي في تفسيره عن العلاء عن الصادق عليه السّلام.

أن قيل لها: ابلعي فبعلت و قال اللّه للسماء: أمسكي عن المطر و هذا إخبار عن إقشاع السحاب في أسرع زمان فكأنّه قال: له أقلعي فأقلعت.

و المقصود من هذا الكلام وصف آخر لمّا انتهى الطوفان، بلع الماء إذا شربه دفعة من غير تروّ، و بلع الطعام إذا لم يمضغه، و أقلع الرجل عن عمله إذا كفّ و أمسك عن شغله، و غاض الماء إذا نقص، لازم متعدّ. و «الغيض» النقص الّذي ما بقي منه شي ء.

و هذه الآية مشتملة على عظمة اللّه و كبريائه غاية فقوله: «قيل» يدلّ على أنّه سبحانه في القدرة بحيث إنّه متى قيل: «قيل» لم ينصرف العقل إلّا إليه و لم يتوجّه الفكر إلّا إلى أنّ ذلك القائل هو هو. و هذا البيان تقرير في العقول أنّه لا حاكم في العوالم العلويّ و السفلي إلّا هو و قوله: [يا أَرْضُ فإنّ الحسّ يدلّ على عظمة هذه الأجسام و شدّتها و قوّتها فإذا شعر العقل بوجود قاهر لهذه الأجسام يتصرّف فيها فصار ذلك البيان لوقوف القوّة العقليّة على كمال قوّة الجلال و علوّ قهره و مشيئته سبحانه.

ثمّ إنّ السماء و الأرض من الجمادات فقوله: «يا أرض» و «يا سماء» مشعر بحسب الظاهر على أنّ أمره نافذ في الجمادات. فلأن يكون أمره نافذا على العقلاء كان أولى.

فإن قيل: كيف يليق بحكمة اللّه أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفّار؟

فالجواب أنّ كثيرا من المفسّرين يقولون: إنّ اللّه أعقم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يغرق إلّا من بلغ أربعين سنة فما فوق.

فلو قيل: فما قولكم في إهلاك الطير و الوحش مع أنّه لا تكليف عليها؟ فالجواب على مذهب الأشاعرة: لا اعتراض على فعله، لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون. و على مذهب المعتزلة و العدليّة. ذلك يجري مجرى ذبح البهائم و إعمالها في الأعمال الشاقّة؛ و اللّه يعوّضهن عوض ألم الذبح و الغير بأنواع اللذّة على حسب مراتبها بنوع يتداركه، و كذلك القول في الأطفال.

قوله: [وَ قُضِيَ الْأَمْرُ] أي وقع الهلاك على القوم و استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجوديّ. و قيل: الجوديّ اسم لكلّ جبل. قال الزجّاج: هو لناحية أسل. و

ص: 316

قيل: بقرب الموصل. و في كتاب النبوّة مسندا إلى أبي بصير عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: كان نوح لبث في السفينة ما شاء اللّه و كانت مأمورة فخلّى سبيلها؛ فأوحى اللّه إلى الجبال أنّي واضع سفينة نوح على جبل منكنّ، فتطاولت الجبال و شمخت و تواضع الجوديّ و هو جبل بأرض الموصل فضرب جؤجؤ السفينة الجبل فقال نوح عند ذلك: يا ماريا أتقن و هو بالعربيّة يا ربّ أصلح. و في رواية اخرى يا رهمان اتقن و تأويله: يا ربّ أحسن. قيل:

و أرسلت السفينة على الجوديّ شهرا و كان ذلك اليوم عاشوراء.

[وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قال اللّه: و أبعد اللّه الظالمين من رحمته. أو قال نوح أبعد اللّه الظالمين من رحمته، أو قالت الملائكة هذا الكلام.

و لا يخفى على ما قال أهل الفصاحة من الفصاحة في هذه الآية من حسن تقابل المعنى و ائتلاف الألفاظ و لطف البيان و الإيجاز من غير إخلال و غير ذلك ممّا يعرفه أهل الأدب و من له معرفة بكلام العرب و محاوراتهم في الدواوين.

و يروى أنّ كفّار قريش أرادوا في وقت أن يتعاطوا معارضة القرآن؛ فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر (1) أربعين صباحا لتصفو أذهانهم؛ فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية. فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شي ء من الكلام و ليس كلام المخلوق و تركوا ما أخذوا فيه فافترقوا.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 45 الى 47]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)

المعنى: [نادى نُوحٌ رَبَّهُ إنّك وعدتني و أهلي بالنجاة فقال سبحانه: [إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الّذين وعدتك أن انجيهم معك؛ لأنّه ليس من أهل دينك؛ فالآية تدلّ على أنّ العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب؛ لأنّه نفاه اللّه بأبلغ الألفاظ بقوله: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ

ص: 317


1- بالضم ما سال قبل عصر العنب و هو أفضل الخمر.

أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» و قرئ «إنّه عمل غير صالح» على صيغة فعل الماضي. و «غير» منصوب و نعت لمصدر محذوف أي إنّ ابنك عمل عملا غير صالح، و هذا غلط؛ لأنّه يمتنع أن يقع على الأنبياء شي ء من القبائح و هذا السؤال قبيح. و اختار المرتضى رحمه اللّه أنّه ذو عمل غير صالح كقول الخنساء: «فإنّما هي إقبال و إدبار» أي هي ذات إقبال و ذات إدبار.

فإن قيل: فلم قال سبحانه: [فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و كيف قال نوح [رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ؟

قال: لا يمتنع أن يكون نهى عن سؤال ما ليس لك به علم و إن لم يقع ذلك منه و أن يكون تعوّذ من ذلك و إن لم يوقعه كما نهى اللّه عن الشرك في قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و إن لم يجز وقوع ذلك منه و إنّما سأل نوح نجاة ابنه بشرط المصلحة لا على سبيل القطع. و قوله: [إِنِّي أَعِظُكَ و أحذّرك [أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي إنّي أعظك لئلّا تكون من الجاهلين.

و قيل في معنى «إنّه عمل غير صالح»: الضمير يرجع إلى ابن نوح كأنّه جعل عمل غير صالح للمبالغة كما يجعل الشي ء الشخص لكثرة ذلك منه كقولهم: الشعر زهير، من كثرة حذقه بالشعر.

و قوله: [وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ و إنّما قال ذلك على سبيل التخشّع و الاستكانة للّه و إن لم يسبق منه ذنب؛ لأنّه دلّت الدلائل الكثيرة بل ضرورة الإسلام عندنا أن ننزّه الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أم كبيرة، و حصول العقاب و الأمر بالاستغفار لا يدلّ على سابقة الذنب كما قال تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ» (2) و معلوم أنّ مجي ء نصرة اللّه و الفتح و دخول الناس في دين اللّه أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار؛ و قال: في موضع آخر: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (3) و ليس جميعهم مذنبين.

ص: 318


1- الزمر: 65.
2- الفتح: 1- 3.
3- محمّد: 19.

و الحاصل أنّه تعالى لمّا نهاه عن ذلك السؤال بقوله: «فلا تسألن ما ليس لك به علم» قال نوح: «ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به و إلّا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين» فقال نوح: عند ذلك قبلت يا ربّ هذا التكليف و لا أعود إليه إلّا أنّي لا أقدر على الاحتراز منه إلّا بإعانتك و هدايتك؛ فقال: في الابتداء: إنّي أعوذ بك أن أسألك في المستقبل ما ليس لي به علم أي لا أعود لمثل هذا، ثمّ اشتغل بالاعتذار عمّا مضى فقال:

«وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» و قد حصلت حقيقة التوبة من غير ذنب، و هذا معنى: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

و من غيرنا من نسب هذه الزلّة إلى نوح و حاشا منه لم ينصبه إلى معصية بل قال:

إنّه أخطأ في اجتهاده حيث ظنّ أنّ ابنه مؤمن كما أنّهم قالوا: إنّ آدم أخطأ في ظنّه بإبليس أنّه لم يقسم على اللّه كذبا.

قوله: [سورة هود (11): آية 48]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ثمّ بعد ما استقرّت السفينة على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان امر نوح و قومه بالخروج من السفينة و الهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية و وعده اللّه بالسلامة و البركة؛ لأنّ ذلك الغرق لمّا كان عامّا في جميع الأرض و أنّه ما كان في الدنيا شي ء ينتفع به نوح بشّره اللّه بالبركة و السلامة حتّى يستقرّ قلبه، و يعلم حصول السلامة من الآفات.

و «البركة» هي الثبات و الدوام مأخوذ من بروك الإبل و منه البركة لثبوت الماء فيها. و من البركة الحاصلة لنوح أنّ اللّه جعله آدم الأصغر و أبا البشر؟ لأنّ الخلق كلّهم من نسله لأنّه على قول من قال: إنّه ما كان في السفينة من البشر غير أولاده قالوا: لم يبق منهم ذرّيّة و أنّ من بقي من أولاد نوح و الدليل عليه قوله: «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (1) فهذا هو المراد من البركات.

قوله: [وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي الأمم الّذين كانوا معه في السفينة. و «الامّة» الجماعة المتّفقة على ملّة واحدة. و قيل: معناه: يعني بالأمم الّذين معه سائر الحيوان الّذين

ص: 319


1- الصافات: 77.

معه في السفينة بأن يزودون في الدنيا و يكثرون كالأوّل.

قوله: [وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي من نسلهم سنمتّعهم في الدنيا بضروب النعم فيكفرون و نهلكهم [ثُمَّ يَمَسُّهُمْ بعد الهلاك بسبب كفرهم [عَذابٌ مولم. و إنّما ارتفع في قوله «و امم» لأنّه استأنف الإخبار عنهم.

ثمّ أشار سبحانه بقوله:

[سورة هود (11): آية 49]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

فأشار و قال: تلك الأنباء من أخبار ما غاب عنك معرفتها. و لو قال ذلك بالتذكير جاز لأنّ المصادر يكنى عنها بالتذكير و التأنيث يقال: قدوم فلان فرحت بها و فرحت به أي بقدمته و بقدومه و هذه الأخبار الّتي أخبرناكها لم تكن تعلم و كذلك قومك لم يكونوا يعلمون من قبل إيحائنا؛ لأنّهم لم يكونوا أهل كتاب و سرّ من قبل هذا القرآن.

[فَاصْبِرْ] على القيام بأمر اللّه و على أذى قومك يا محمّد صلى اللّه عليه و آله كما صبر نوح على أذى قومه. و هذا أحد الوجوه الّتي لأجلها كرّر اللّه قصص الأنبياء ليصبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله على ما يقاسي من الكفّار و الجهلة [إِنَّ الْعاقِبَةَ] المحمودة و النصرة [لِلْمُتَّقِينَ كما كانت لنوح.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 50 الى 55]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)

مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)

هذا هو القصّة الثانية في هذه السورة عطف إلى قوله: «و لقد أرسلنا نوحا» أي و لقد أرسلنا [إِلى قوم عاد أخاهم في النسب لا في الدين [هُوداً] لأنّ هود كان رجلا من قبيلة عاد و هي قبيلة من العرب و كانوا بناحية اليمن، و هذه العبارة مصطلحة يقال: يا أخا تميم، و يا أخا سليم.

ص: 320

ثمّ حكى سبحانه عن هود ما قال لهم و أمرهم:

الأوّل أنّه أمرهم بالتوحيد و نهاهم عن عبادة غيره [إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم إلّا كاذبون في قولكم: إنّ الأصنام آلهة [يا قَوْمِ لست أطلب منكم على دعوتي لكم بعبادة اللّه جزاء، ليس جزائي إلّا على الّذي خلقني [أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتعقّلون أنّ الأمر ما أقوله.

و الأمر الثاني الّذي أمرهم هود: دعاهم إلى الاستغفار ثمّ إلى التوبة أي سلوه سبحانه أن يغفر لكم ما قدّمتم من شرككم، ثمّ ارجعوا إليه بعد الندم؛ إنّكم متى ما فعلتم ذلك فاللّه تعالى يكثر النعم. و إنّما يحصل تكثير النعم في الدنيا بالأمطار؛ لأنّ الأمطار الموافقة مادّة النعم [وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي مع أنّكم متبرّزون و معروفون بالقوّة تزداد قوّتكم. و كانوا صاحب بساتين خصبة مونقة طيّبة لأنّ هذين الحالين كانوا طالبين لأنّ اللّه لمّا بعث هودا عليه السّلام إليهم و كذّبوه حبس اللّه عنهم المطر سنين، و أعقم أرحام نسائهم، فوعدهم هود بأن إذا آمنوا تنعكس القضيّة فقالوا:

[يا هُودُ ما جِئْتَنا] بحجّة واضحة- و قد أظهر المعجزات إلّا أنّ القوم بجهلهم أنكروها- و لسنا بتاركين عبادة أصنامنا لأجل قولك. و معنى «عن» هاهنا معنى الباء [وَ ما نَحْنُ لَكَ .

بمصدّقين في شي ء ممّا تأتي به من التوحيد و ترك عبادة الأصنام- و في هذه العبارة دلالة على شدّة الشكيمة و العتوّ- و لو لا تقول إلّا قولنا أصابك بعض آلهتنا بجنون و تغيّر مزاج بسبّك إيّاها و صدّك عن عبادتها و حطّك لها عن رتبة الألوهيّة.

و بالجملة زعموا بيانات هود من جملة الخرافات فضلا عن أن يصدّقوا بقوله. أي لا نعدّ كلامك إلّا من الهذيانات الصادرة من المجانين.

و قد سلكوا في طريق المخالفة و العناد إلى سبيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حيث أخبروا بالأوّل أنّ ما جئتنا ليست بحجّة واضحة ثمّ بعد هذا البيان تركوا الامتثال بقولهم: [ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ و نفوا تصديق قوله، ثمّ نسبوه إلى الجنون.

قال هود لقومه: [إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا] أي أشهدكم بعد إشهاد اللّه [أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ أي أنا بري ء من أصنامكم الّذي تعبدونها و تزعمون أنّها عاقبتني لطعني عليها. و إنّما أشهدهم على ذلك و إن لم يكونوا من أهل الشهادة من حيث

ص: 321

إنّهم كانوا كفّارا فسّاقا إقامة للحجّة عليهم لا لتقوم الحجّة بهم.

[فَكِيدُونِي جَمِيعاً] و احتالوا و اجتهدوا أنتم و آلهتكم في إنزال مكروه بي ثمّ لا تمهلوني. قال الزجّاج: و هذا من عظيم الآيات أن يكون الرسول وحده و امّته متهاونة عليه فيقول لهم: «فكيدوني» و لا يستطيع واحد منهم ضرّه، و كذلك نوح عليه السّلام قال مثل هذه الكلمة لقومه حيث قال: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ» (1) و قال نبيّنا صلى اللّه عليه و آله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ» (2) و لا يصدر هذا الكلام إلّا ممّن يكون واثقا بنصر اللّه.

ثمّ قال هود:

[سورة هود (11): الآيات 56 الى 60]

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

قوله تعالى: [ما مِنْ دَابَّةٍ] و ذي حياة يدبّ على وجه الأرض إلّا و اللّه مالك لها.

و جعل الأخذ بالناصية كناية عن القهر و القدرة لأنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره و أذلّه و مع كونه تعالى قاهرا يعدل و لا يجور و صراطه عدل مستقيم لا عوج فيه.

قوله: [فَإِنْ تَوَلَّوْا] يمكن أن يكون حكاية عن قول هود فالمعنى: فإن تتولّوا أنتم. و يجوز أن يكون قول اللّه أي فإن تولّوا هم فقل لهم: [فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ .

و ليس لتقصير منّي في إبلاغكم و إنّما هو لسوء اختياركم في إعراضكم عن نصحي [وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ و يهلككم ربّي بكفركم و يستبدل قوما غيركم يوحّدونه و لا ضرر يترتّب عليه في إهلاككم [إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ] يحفظه من الهلاك

ص: 322


1- يونس: 71.
2- المرسلات: 39.

إن شاء و يهلكه إذا شاء. و قيل: معناه: إنّ ربّي يحفظني عنكم و عن أذاكم و حفيظ من أعمال عباده يجازيهم عليها.

[وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا] بهلاك عاد [نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الهلاك قيل: إنّهم كانوا أربعة آلاف [بِرَحْمَةٍ مِنَّا] بما أريناهم من الهداية [وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ] أي من عذاب الثقيل العظيم في الآخرة. و يحتمل أن يكون المراد من عذاب الدنيا الّذي عذّب به قوم هود.

ثمّ ذكر سبحانه كفر قوم عاد فقال: [وَ تِلْكَ أي تلك القبيلة [جَحَدُوا] معجزات الدالّة على صحّة نبوّة هود و عصوا رسله. و إنّما جمع الرسل مع أنّه بعث إليهم هودا؛ لأنّ من كذّب رسولا واحدا فقد كذّب جميع الرسل؛ لأنّ جميع الرسل يدعون الناس إلى الإيمان باللّه و بما أنزل إليهم من الكتب فلذلك فقد عصوهم و اتّبع السفلة و إسقاط الرؤساء الّذين يقتلون و يضربون على غضبهم و المعاندين في الدين.

قوله: [وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ] رديفا لهم و متابعا في الدنيا و الآخرة أي الأبعاد من الرحمة و من كلّ خير [أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا] بنعمة [رَبَّهُمْ فحذف الباء كما في قوله: «أمرتك الخير» أي بالخير [أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ] من الرحمة. و إنّما فسّر بآخر الآية بكلمة «قوم هود» لأنّ عادا عادان: القديمة و هو قوم هود، و الثانية عاد إرم ذات العماد؛ فذكر ذلك لإزالة الاشتباه.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 61 الى 63]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

عطف على قوله تعالى: «وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ» و أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم صالحا.

سمّوا باسم أبيهم الأكبر و هو ثمود بن غابر بن إرم بن سام بن نوح، أو أنّهم سمّوا بذلك

ص: 323

لقلّة مائهم من «الثمد» و هو الماء القليل من نزّ الأرض.

و هذا هو القصّة الثالثة في هذه السورة، فأمرهم بالتوحيد، و منعهم عن عبادة الأصنام و ذكر عليه السّلام في تقريره دليلين:

الأوّل: [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ لأنّكم من صلب آدم و هو مخلوق من الأرض، أو الإنسان مخلوق من النطفة و هي تتولّد من الأغذية، و مادّتها من الأرض. و قيل: «من» هاهنا بمعنى في الأرض و هذا بعيد.

الدليل الثاني قوله: [وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها] أي جعلكم عمّار الأرض و مكّنكم من عمارتها، أو المعنى أطال أعماركم و كانت أعمارهم من الألف إلى ثلاثمائة سنة.

ليس الفتى بفتى لا يستضاء به و لا يكون له في الأرض آثار

[فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك و الذنوب. ثمّ دوموا على التوبة [إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ برحمته [مُجِيبٌ لمن دعاه. [قالُوا يا صالِحُ قبل ذلك كنّا نرجو منك الخير، فالآن قد يئسنا منك و من خيرك بهذا القول، و كنّا نظنّ بك عونا لنا في ديننا. و قالوا على سبيل الإنكار:

[أَ تَنْهانا]؟ كأنّهم أنكروا أن ينهى الإنسان عن عبادة ما عبده آباؤه.

[وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من الدين شكّ موجب للتهمة و الريب؛ لأنّ آباءنا لم يكونوا في جهالة و ضلالة. و الفرق بين الشكّ و الريب أنّ الشاكّ متوقّف بين النفي و الإثبات و المريب هو الّذي يظنّ به السوء أي نرجّح في اعتقادنا فساد قولك.

قال صالح: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني [إِنْ كُنْتُ يعني قدّروا و افرضوا إن كنت في الحقيقة على حجّة ظاهرة و نصرة من ربّي [وَ آتانِي من قبله سبحانه نبوّة فخالفت نبوّته و عصيته فعذّبني من ينصرني منه؟ و إنّما أورد كلامه بحرف الشكّ و هو قوله:

«إن كنت» مع أنّه عليه السّلام كان على يقين من أمره؛ لأنّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب للقبول و الإلزام.

ثمّ قال في هذه الصورة: [فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ] يعني تخسرون أعمالي و تبطلونها.

ص: 324

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 64 الى 65]

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)

قد جرت العادة لمن يدّعي النبوّة بأن يأمرهم بعبادة اللّه، و لا بدّ أنّ قومه يطلبون منه المعجزة. يروى أنّ قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية و أن يخرج لهم من صخرة معيّنة أشاروا إليها ناقة؛ فدعا صالح ربّه فخرجت الناقة كما سألوه. و هي كانت معجزة من وجوه: كونها من صخرة، و خلقها من جوف الجبل، ثمّ شقّ عنها الجبل، و حامل من غير ذكر، و خلقها بتلك الصورة من غير ولادة و لها شرب يوم و للقوم كلّهم شرب يوم، و يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم و كلّ واحد من هذه الوجوه معجزة قويّ.

ثمّ قال عليه السّلام: [فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ و رفع عن القوم مؤونتها فصارت تنفع و لا تضرّهم، و كان عليه السّلام يخاف من إقدامهم على قتلها بسبب إخفاء هذه المعجزة فلهذا احتاط و قال لهم: [وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ] و توعّدهم في وقوع مسّ السوء بعذاب قريب و مع ذلك عقروها لإبطال الحجّة و لأنّها ضيّقت الشرب على القوم و رغبوا في شحمها و لحمها.

فلمّا عقروها قال: تلذّذوا بالمنافع في دنياكم ثلاثة أيّام من غير كذب واقع بكم العذاب بعد المدّة لا محالة- و المصدر يقع بلفظ المفعول كالمجلود و المفتون- فلمّا كان اليوم الرابع أتتهم الصيحة و الصاعقة.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 66 الى 68]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

[فَلَمَّا جاءَ] أمر العذاب [نَجَّيْنا صالِحاً] و المؤمنين معه بسبب [رحمة منا] للمؤمنين و نجّيناهم من الخزي و العار الّذي لزمهم ذلك اليوم و ظهر فضيحته [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ الغالب على ما يشاء [الْعَزِيزُ] الّذي لا يمتنع عليه شي ء [وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ] قيل: إنّ اللّه أمر جبرئيل فصاح بهم صيحة فماتوا عندها. و يجوز أنّ اللّه خلق تلك الصيحة فماتوا عند

ص: 325

الصياح فأصبحوا في منازلهم ميّتين واقعين على وجوههم أو قاعدين على ركبهم.

و إنّما قال: [فَأَصْبَحُوا] لأنّ العذاب أخذهم عند الصباح [كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها] أي كأن لم يكونوا في تلك المنازل قطّ لانقطاع آثارهم بالهلاك إلّا ما بقي من أجسادهم الدالّة على الخزي. [أَلا إِنَّ ثَمُودَ] بكفرهم نالوا هذا العذاب، و بعدا لهم.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 69 الى 73]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

هذا هو القصّة الرابعة في هذه السورة.

قال النحويّون: دخلت «قد» هاهنا لأنّ السامع للقصّة يتوقّع قصّة بعد قصّة و «قد» للتوقّع، و دخلت اللام للتأكيد في الخبر و «رسلنا» جمع و أقلّه ثلاثة، و كانوا جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و قيل: أربعة و الرابع كرّوبيل. و قيل: اثنا عشر بصورة الغلمان الحسنة.

[بِالْبُشْرى و البشارة فأبشره اللّه بعد ذلك بقوله: «فبشّرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب» و قيل: المراد بالبشارة سلامة لوط و بإهلاك قومه.

و أمّا قوله: [قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ و قرئ «سلم» بكسر السين و بكون اللام بغير ألف؛ قال الفرّاء: لا فرق بين القراءتين كما قالوا: حلّ و حلال لأنّ في التفسير: أنّهم لمّا جاءوا سلّموا عليه. و قيل: المراد بالسلم خلاف العدو و الحرب، و على قراءة المشهور «قالوا سلاما» أي سلّمنا عليك سلاما قال إبراهيم: سلام، تقديره: أمري سلام و لست مريدا غير السلامة. أو المراد: سلام عليكم، و حذف الخبر كما حذف من قوله: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ»* (1) أجمل و يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوما بعد الحذف و نظيره قوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ» (2) على حذف الخبر. و اعلم أنّه إنّما سلّم بعضهم على بعض لقوله تعالى: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً

ص: 326


1- يوسف: 18.
2- الزخرف: 89.

غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» (1) و أكثر ما يستعمل سلام عليكم بغير الألف و اللّام.

فإن قيل: كيف جاز جعل المبتدأ نكرة. فالنكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدءا فالتنكير في هذا الموضع أتمّ و أكمل فكانّه قيل: سلام كامل شامل تامّ عامّ عليكم نظيره «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» (2) و أمّا مع الألف و اللّام فصحيح كقوله: «وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (3) و المراد مع الألف و اللّام الماهيّة و الحقيقة؛ فحينئذ بدون الألف و اللام يفيد الكمال و المبالغة، و مع الألف و اللام لا يفيد إلّا الماهيّة.

قوله: [فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتمّ لذلك، ثمّ جاءه ملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فجعل فما لبث في المجي ء به.

و «الحنيذ» هو الّذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، و هو من فعل أهل البادية و أصله محنوذ مثل طبخ و مطبوخ: و قيل: «الحنيذ» الّذي يقطر دسمه عرقا و مرقا.

[فَلَمَّا رَأى إبراهيم [أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إلى العجل استنكرهم [وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً].

أي أضمر منهم خوفا. و اختلف في سبب الخوف فقيل: إنّه لمّا رآهم شبّانا أقوياء و كانوا نازلين بطرف من المكان، و امتنعوا من تناول الطعام لم يأمن أن يكون ذلك لبلاء؛ و ذلك لأنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه و ماله، و كذلك كان يقال: تحرّم فلان بطعامنا أي أثبت الحرمة بأكله الطعام.

و قيل: إنّ سبب خوف إبراهيم أنّه ظنّ أنّهم ليسوا من البشر و أنّهم جاءوا لأمر عظيم فخاف أن يكون قومه المقصودين بالعذاب حتّى [قالُوا] له [لا تَخَفْ يا إبراهيم [إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ] بالإهلاك قيل: إنّ إبراهيم ما عرفهم أنّهم الملائكة. و قيل: عرفهم لكن ما عرف أنّهم لأيّ أمر أتوا فكان خوفه من هذه الجهة. و الصحيح أنّه ما عرفهم أنّهم من الملائكة.

ص: 327


1- النور: 27.
2- يس: 58.
3- طه: 49.

[وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ هي سارة بنت آزر بن باحورا بنت عمّ إبراهيم عليه السّلام.

و قوله: «قائمة» من وراء الستر تستمع إلى الرسل. و اختلفوا في الضحك: منهم من حمله على نفس الضحك و منهم من حمل على الطمث أي حاضت لشدّة سرورها. و قيل: ضحكت سرورا من البشارة بإسحاق لأنّها قد هرمت و هي ابنة ثمان و تسعين سنة، و كان قد شاخ زوجها و كان ابن تسع و تسعين أو مائة سنة أو مائة و عشرين سنة و لم يرزق لهما ولد في حال شبابهما. فعلى هذا المعنى يكون في الكلام تقديم و تأخير.

و تقديره [فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ بابن يسمّى إسحاق و من بعد [إِسْحاقَ يَعْقُوبَ - قيل:

معنى «و من وراء إسحاق يعقوب» الوراء ولد الولد- فضحكت بعد البشارة [قالَتْ سارة [يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ] و لم ترد بهذه الكلمة الدعاء على نفسها بالويل و لكنّها كلمة تجري على أفواه النساء إذا طرأ عليهنّ ما يتعجّبن [وَ هذا] الّذي تعرفونه [بَعْلِي شَيْخاً إِنَ هذه البشارة لأمر [عجيب .

قالت الملائكة لها حين تعجّبت من أن تلد بعد الكبر: [أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من أن يفعل بك و بزوجك كذلك و ليس هذا موضع تعجّب لأنّ التعجّب إنّما يكون من الأمر الّذي لا يعرف سببه، و نعمة اللّه و كثرة خيراته النامية الباقية عليكم. و يحتمل أن يكون دعاء لهم بالرحمة و البركة من اللّه.

فقالوا: [رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يا [أَهْلَ الْبَيْتِ كما يقال: أ تتعجّب من هذا بارك اللّه لك أو يرحمك اللّه. روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم فسلّم عليهم فقالوا: و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه. فقال عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم: «رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت».

[إِنَّهُ حَمِيدٌ] أي محمود في أفعاله [مَجِيدٌ] أي مبتدئ بالعطيّة قبل الاستحقاق أو المعنى واسع القدرة و النعمة. روي أنّ سارة قالت لجبرئيل: ما آية ذلك فأخذ بيده عودا يابسا فلوّاه بين أصابعه فاخضرّ.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 74 الى 76]

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

ص: 328

قوله: [فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ و الخوف و الفزع الّذي دخله من الرسل [وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد [يُجادِلُنا] أي يجادل رسلنا و يسألهم عن قوم لوط، و تلك المجادلة أنّه قال لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟

قالوا: لا. فما زال بنقص و يقولون: «لا» حتّى قال: فواحد؟ قالوا: «لا» فاحتجّ عليهم بلوط.

و أعلم أنّ هذه المجادلة من إبراهيم- و مقصوده منها التخفيف لهم في حكم العذاب- لاحتمال أن يتوبوا لا لكونه ما كان راضيا بقضاء اللّه و يطلب من الرسل مخالفة أمر اللّه، و الدليل عليه أنّه سبحانه مدحه عليه السّلام بقوله: [إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ و لو كان هذا الجدل غير هذا لما ذكر عقيبه ما يدلّ على المدح العظيم؛ أو كانت المجادلة بسبب مقام لوط فيهم.

و بالجملة لمّا رأى و علم أنّ مجي ء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك و أخذ يتأوّه عليه فلذلك وصفه اللّه بهذه الصفة و وصفه بأنّه منيب و راجع إلى اللّه. فقالت الملائكة له: [يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذه المجادلة لأنّه [قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإيصال العذاب بهم، و لا سبيل إلى دفعه عنهم و آتيهم العذاب لا محالة.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 77]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

فانطلقوا الرسل من عند إبراهيم إلى لوط- و بين القريتين أربع فراسخ- و دخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، و كانوا في غاية الحسن و لم يعرف لوط أنّهم من الملائكة و ظنّ أنّهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه و أيضا ساءه مجيئهم لأنّه ما كان يجد ما ينفقه عليهم و أيضا ساءه لأنّ قومه منعوه من إدخال الضيف داره.

[وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً] الذراع يوضع موضع الطاقة و الأصل في معناه أنّ البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف و مدّ عنقه؛ فيقال: ما لي به ذرع أي ما لي به طاقة. و قال: إنّ هذا اليوم عصيب عليّ

ص: 329

أي شديد و «العصيب» الشديد في الشرّ خاصّة و أصله من الشدّ قال الراجز:

يوم عصيب يعصب الأبطالاعصب القويّ سلّم الطوالا.

و حاصل المعنى: أي يوم شديد التفّ الشرّ فيه بالشرّ. و إنّما قال ذلك لأنّه لم يعلم أنّهم رسل اللّه و خاف من قومه أن يفضحوهم.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 78 الى 83]

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

المعنى: لمّا دخلت الملائكة دار لوط قال الصادق عليه السّلام: جاءت الملائكة لوطا و هو في ذرعه قرب القرية فسلّموا عليه، و رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض، فقال لهم: المنزل؛ فتقدّمهم و مشوا خلفه. فقال لوط في نفسه: أيّ شي ء صنعت إذا آتي بهم قومي و أنا أعرفهم فالتفت و قال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه فقال جبرئيل: هذه واحدة- و كان قد قال اللّه لجبرئيل: لا تهلكهم حتّى يشهد عليهم ثلاث مرّات- ثمّ مشى لوط و التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل هذه ثنتان. ثمّ مشى فلمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل:

هذه الثلاثة.

ثمّ دخل و دخلوا معه حتّى دخل منزله فلمّا رأتهم امرأة لوط رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخّنت- و هذه كانت علامة بينهم- فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يسرعون بعدو و عجلة لطلب الفاحشة.

قوله: [وَ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه من قبل بعثة لوط إليهم [كانُوا يَعْمَلُونَ الفواحش مع الذكور.

ص: 330

و لمّا رأى لوط أنّهم همّوا بأضيافه من قصد السوء و جاهروا بذلك عرض عليهم نكاح بناته. و اختلف في ذلك فقيل: أراد نكاح بناته لصلبه. و قيل: أراد النساء من امّته لأنّهنّ كالبنات له؛ فإنّ كلّ نبيّ أبو امّته و أزواجه امّهاتهم، و كان يجوز في شرعه تزويج المؤمنة من الكافر و كذلك كان يجوز أيضا في بدو الإسلام، و قد زوّج النبيّ صلى اللّه عليه و آله بنته من أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلم ثمّ نسخ اللّه ذلك. و قيل: إنّه كان لهم سيّدان مطاعان فيهم فأراد أن يزوّجهما بنتيه اسمهما زعوراء و ريثاء.

و قال لهم: [فَاتَّقُوا] من عقابه من هذا العمل الخبيث و لا تلزموني عارا بالهجوم على أضيافي فإنّ الضيف إذا نزل به معرّة لحق عارها للمضيف [أَ لَيْسَ مِنْكُمْ و في جملتكم رجل يعرف الرشد و يعمل به و يزجر هؤلاء عن قبح فعلهم.

[قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ فجاوبوه قومه حين أمر نكاح البنات: [ما لَنا فِي بَناتِكَ من حاجة [وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ] و تعلم ميلنا إلى الغلمان دون النساء؛ فلمّا رأى لوط أنّ الموعظة لم يقبلوها تأسّف على عدم قدرة دفاعهم بأن قال: [لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً] و منعة و جماعة أتقوّى بها عليكم [أَوْ آوِي و أنضمّ إلى عشيرة منيعة تنصرني و لكن لا يمكنني أن أفعل كذلك.

فكابروه حتّى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل أن يا لوط دعهم يدخلوا، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قوله: [فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ .

و لمّا رأت الملائكة ما لقيه لوط من قومه [قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أرسلنا لهلاكهم فلا تغتمّ به [لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ و لا ينالونك بسوء أبدا [فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ليلا [بِقِطْعٍ .

أي بظلمة من اللّيل أو بعد طائفة من اللّيل، أو نصفه و لا ينظر أحد منكم وراءه، أو المعنى لا يلتفت أحد منكم إلى ماله و متاعه بالمدينة. و قيل: إنّ معناه أنّهم أمروه أن لا يلتفتوا إذا سمعوا الوجبة و الهدّة [إِلَّا امْرَأَتَكَ قيل: إنّها التفتت حين سمعت الوجبة فقالت: يا قوماه فأصابها حجر فقتلها. و قيل: «إلّا امرأتك» أي لا تسر بها [إِنَّهُ مُصِيبُها] أي يصيبها من العذاب ما يصيبهم فأمروه أن يخلفها في المدينة.

[إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ لمّا أخبرت الملائكة لوطا بأنّهم يهلكون قومه قال لهم لوط:

أهلكوهم الساعة لضيق صدره عليهم فقالوا: إنّ موعد إهلاكهم الصبح [أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

ص: 331

و إنّما قالوا هذه الكلمة تسلية له.

[فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا] بالعذاب [جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها] أي قلّبنا القرية أسفلها أعلاها؛ فإنّ اللّه أمر جبرئيل فأدخل جناحه تحت الأرض فرفعها حتّى سمع أهل السماء صياح الديكة و نباح الكلاب، ثمّ قلبها، ثمّ خسف بهم الأرض يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة.

[وَ أَمْطَرْنا] على القرية على الغائبين منها [حِجارَةً] و قيل: مطرت الحجارة على تلك القوية حين رفعها جبرئيل و إنّما أمطرت عليهم الحجارة بعد أن قلّبت قريتهم تغليظا للعقربة. و قيل: كانت أربع مدائن و هي المؤتفكات: سدوم، و عامورا، و ذادوما، و صبوايم و أعظمها سدوم كان يسكنها لوط و هي الأربعة كانت من الشامات. قوله: [مِنْ سِجِّيلٍ أي «سنگ و گل» المتصلّب بمرور الزمان. و قيل: «السجّيل» موضع الحجارة و هي جبال مخصوصة، و منه قوله: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» (1) [مَنْضُودٍ] و النضد وضع الشي ء بعضه على بعض فعلى هذا يمكن أنّه سبحانه كان قد خلقها في معادنها و نضد بعضها فوق بعض و أعدّها لإهلاك الظالمين و [مُسَوَّمَةً] أي معلمة بعلامة كان عليها أمثال الخواتيم قال أبو صالح: رأيت منها عند امّ هاني حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع و قيل: مكتوب على كلّ حجر اسم من رمي به.

[وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] يعني به كفّار مكّة عن أنس أنّه قال: سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جبرئيل عن هذه فقال: يعني عن ظالمي امّتك ما من ظالم منهم إلّا و هو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة، أراد بذلك إرهاب قريش. و قال قتادة: ما أجار اللّه منها ظالما بعد قوم لوط فكونوا منها على حذر. و ذكر أنّ حجرا بقي معلّقا بين السماء و الأرض أربعين يوما يتوقّع به رجلا من قوم لوط كان في الحرم حتّى خرج منها فأصابه. قال بعض المفسّرين: و كانوا أربعة آلاف ألف.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 84 الى 88]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

ص: 332


1- النور: 43.

هذا هو القصّة السادسة في هذه السورة.

«مدين» اسم لابن إبراهيم، ثمّ صار اسما لقبيلة ثمّ صار اسما لمدينة بناها مدين ابن إبراهيم عليه السّلام و عادة الأنبياء كلّهم ان يشرعوا في أوّل الأمر بالدعوة إلى التوحيد.

المعنى: [وَ] أرسلنا [إِلى أهل [مَدْيَنَ أَخاهُمْ و نسيبهم؛ لأنّ شعيبا ابن ميكيل بن يشجر بن مدين جدّهم، و كان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته و خطابته قومه.

[قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .

ثمّ شرع في الأهمّ من الدعوة لأنّ المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال و الميزان فدعاهم إلى ترك هذه العادة فقال: [وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ و النقص فيه على وجهين:

أحدهما الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره و الآخر أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من المقدار، و في القسمين النقص في حقّ الغير. ثمّ قال لهم: [إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ] أي إذا لم تتركوا هذه العادة أراكم بزوال الخير و النعمة عنكم، أو المعنى أنّي أراكم بالخير الكثير و الخصب فلا حاجة لكم بالتطفيف، و أنّي أخاف عليكم عذابا يحيط بكم بحيث لا يخرج أحد منه، و المحيط في الظاهر صفة اليوم و في المعنى صفة العذاب.

ثمّ قال: [وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ و هذه الكلام الأوّل فما الفائدة في هذا التكرار؟ لأنّ القوم كانوا مصرّين على هذا العمل فاحتيج إلى التأكيد و المبالغة في المنع، و أمّا قوله تعالى ثالثا: [وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ليس بتكرير لأنّه تعالى نهى في المرّة الاولى عن التطفيف و التنقيص، و في آية الثانية أمر بالإيفاء على سبيل الكمال و التمام حتّى أنّه لا يحصل ذلك باليقين القطعيّ إلّا إذا أعطى قدرا زائدا على الحقّ لحصول البراءة، و في الآية الثالثة النهي عن التنقيص في كلّ الأشياء: لأنّ في العنوانين خصّوا بالمكيال و الميزان، و في الثالثة عمّ الأشياء فحينئذ لا تكرار.

قوله تعالى: [وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن قيل: «العثو» الفساد التامّ فقوله:

«وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» جار مجرى قوله: و لا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ المراد من هذا البيان أنّ في البخس و التطفيف و عبادة غير اللّه فساد دينكم و دنياكم.

ص: 333

ثمّ قال: [بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ و قرئ «تقيّة اللّه خير لكم» أي تقواه خير لكم، المراد:

ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل و الوزن خير من البخس و التطفيف أي مال الحلال يبقى لكم من تلك الزيادة من التطفيف الحرام و حظّكم من ربّكم خير لكم؛ فإن حملنا البقيّة من موادّ امور الدنيويّة فواضح فإنّ الناس إذا عرفوا الإنسان بالأمانة و البعد عن الخيانة اعتمدوا عليه و رجعوا في المعاملات إليه فيفتح باب الرزق عليه، كما أنّه إذا عرفوه بالخيانة و التطفيف انصرفوا عنه فتضيق أبواب النعمة و الرزق عليه، و أمّا إذا حملنا هذه البقيّة على الأمور الاخرويّة من ثواب اللّه فالأمر ظاهر؛ لأنّ كلّ الدنيا يفنى و ينقرض و ثواب اللّه باق.

[إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و مقرّين بالثواب و العقاب [وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] أي إنّي نصحتكم و أرشدتكم إلى الخير، و لا قدرة لي على منعكم، أو المعنى ما أنا بحافظ نعم اللّه عليكم إذا أراد أن يزيلها عنكم بمعصيتكم إيّاه فاطلبوا بقاء نعمته بطاعته، أو المعنى ما أنا بحافظ كيلكم و وزنكم حتّى توفّوا الناس حقوقهم و لا تظلموهم، و إنّما عليّ أن أنهاكم عنهم.

[قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا] و إنّما قالوا ذلك لأنّ شعيبا كان كثير الصلاة و كان يقول: إنّ الصلاة رادعة عن الشرّ ناهية عن الفحشاء و المنكر.

فقالوا: أ صلاتك الّتي تزعم أنّها تأمر بالخير و تنهى عن الشرّ أمرتك بهذا الأمر؟ و دينك يأمرك بترك دين السّلف؟ و كنّي عن الدين بالصلاة لأنّها من أجلّ امور الدين و إنّما قالوا ذلك على وجه الاستهزاء و أنّها كانت ضحكة لهم حين كان يصلّي [أو أَنْ نَتْرُكَ فعل ما نشاء في أموالنا من البخس و التطفيف [إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ] و إنّهم قالوا هذا القول على وجه الهزء و التهكّم و أرادوا به ضدّ ذلك أي السفيه الغاوي كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم لسجد لك.

و قيل: إنّهم قالوا ذلك على وجه التحقيق أي إنّك الحليم في قومك و لا تعاجل العقوبة لمستحقّها و معروف عند الناس بالحكم و الرشد و مع ذلك كيف تنهانا عن دين أسلافنا و طريقة آبائنا؟ و يستبعد منك من حلمك و رشدك هذا الأمر.

ص: 334

قال شعيب: [يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ] و جواب الشرط محذوف يدلّ عليه فحوى الكلام و المعنى: أ تقولون في شاني ما تقولون، و نظمتوني في سلك السفهاء و الغواة و حسبتم ما صدر عنّي من الأوامر من قبيل ما لا يصلح أن يتفوّه به عاقل و جعلتموه من أقسام السفه و الجنون و استهزأتم بي حتّى قلتم ما قلتم؟ فأخبروني إن كنت على بيّنة [مِنْ .

جهة [رَبِّي ثابتا على النبوّة و الحكمة و رزقني بذلك رزقا حسنا هل تقولون ما تقولون أيضا؟ أو المعنى: أخبروني إن كنت على بيّنة و معجزة ممّا آتاني اللّه من العلم و الهداية و النبوّة [وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً]- لأنّه كان عليه السّلام كثير المال- فهل ينبغي و يجوز لي مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه و أخالفه في أمره و نهيه؟

قوله: [وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها و أريد أن أدخل فيه و إنّما أختار لكم ما أختاره لنفسي و ما أقصد بخلافكم إلى ارتكابه؛ قال الشاعر:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيما

[إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ و لست أريد إلّا إصلاح دينكم و دنياكم ما قدرت عليه و تمكّنت منه، و ليس توفيقي إلّا باللّه فلا يوفّق غيره بل بمعاونته سبحانه و نصرته [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و تقديم الخبر يفيد الحصر أي لا ينبغي لأحد أن يتوكّل على أحد إلّا اللّه فأعظم مراتب معرفة المبدأ هو اللّه جلّ ذكره.

و أمّا قوله: [وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد و هو أيضا يفيد الحصر و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إذا ذكر شعيب عليه السّلام قال: ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته في قومه.

قوله: [سورة هود (11): الآيات 89 الى 95]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

ص: 335

المعنى: «جرم» مثل كسب يتعدّى إلى مفعول واحد و إلى مفعولين، و المراد أنّه قال لقومه: لا تكسبنّكم معاداتكم إيّاي [أَنْ يُصِيبَكُمْ عذاب الاستيصال في الدنيا [مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من عذاب الغرق، و لقوم هود عن الربح العقيم، و لقوم صالح من الرجفة، و لقوم لوط من الخسف.

و أمّا قوله: [وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ] المراد إمّا نفي البعد في المكان لأنّ قوم لوط قريبة من مدين، و إمّا نفي البعد في الزمان لأنّ إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات زمانا من زمان شعيب؛ فكأنّه قال: اعتبروا بأحوالهم و احذروا مخالفة اللّه [وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ .

عن عبادة الأوثان [ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بأوليائه [وَدُودٌ] محبّ لعباده.

[قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ لأنّهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدّة نفرتهم عن كلامه، أو أنّهم فهموه و لكنّهم ما أقاموا له وزنا فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بكلامه: ما أدري ما تقول. و المراد من الفقه الفهم أي ما نفهم [وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً] قيل: ضعيف البصر. و قيل: ضعيف البدن.

و قيل: أعمى- و كان أعمى- و حمير سمّى المكفوف ضعيفا كما قيل: ضرير أي ضرّ ببصره.

و قيل: معنى «ضعيفا» أي مهينا. و اختلف في أنّ النبيّ هل يجوز أن يكون أعمى: قيل:

لا، لأنّه يوجب النفرة. و قيل: يجوز كسائر الأمراض.

[وَ لَوْ لا رَهْطُكَ أي و لو لا حرمة عشيرتك و قومك لقتلناك بالحجارة، و قيل: لشتمناك و سببناك و لم ندع قتلك لعزّتك علينا، و لكن لأجل عشيرتك. و كان شعيب في عزّ من قومه و كان من أشرافهم.

[قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أ عشيرتي و قومي أعظم حرمة عندكم من اللّه فتتركون أذاي لأجل قومي و اتّخذتم اللّه وراء ظهوركم و نسيتموه؟ و الضمير إلى اللّه أو

ص: 336

إلى ما جاء به شعيب [إِنَّ رَبِّي محص أعمالكم و خبير بها.

[وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ و حالتكم هذه و «المكانة» الحالة الّتي يتمكّن بها صاحبها من عمل- و هذا تهديد في صورة الأمر- أو المعنى: اعملوا أنتم على ما تقولون و أنا أعمل على ما أقول كقوله: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» (1) و فيه دلالة على يأسه من قومه [ف سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا المخطئ و أيّنا الجاني على نفسه و تبيّن لكم عاقبة الأمر [مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ .

يهينه و [يُخْزِيهِ و يظهر الصادق من الكاذب، و انتظروا ما وعدكم ربّكم من العذاب، إنّي معكم من المنتظرين.

[وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ] صاح بهم جبرئيل صيحة فماتوا [فَأَصْبَحُوا فِي دارهم ملازمين مكانهم باركين على ركبهم لا يتحوّلون عن أمكنتهم. و إنّما ذكر «الصيحة» بالألف و اللام إشارة إلى المعهود السابق و هي صيحة جبرئيل في قوم صالح، فزهق روح كلّ واحد منهم بحيث وقعوا في مكانهم ميّتين كأن لم يقيموا في ديارهم و ما كانوا أحياء أبدا. فبعدا بعدا لهم كما لثمود.

[سورة هود (11): الآيات 96 الى 103]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100)

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

هذه هي القصّة السابعة من القصص في هذه السورة.

و المراد بالآيات التوراة مع ما ضمّها من الشرائع و الأحكام و من السلطان المبين

ص: 337


1- الجحد: 6.

المعجزات الظاهرة و التقدير: و لقد أرسلنا موسى بشرائع و تكاليف و أيّدناه بمعجزات باهرة له على صدق نبوّته، و هي تسع آيات: العصا، و اليد، و الطوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و نقص من الثمرات و الأنفس- و منهم من أبدل بإظلال الجبل- و التاسع فلق البحر.

و الحجّة سمّيت بالسلطان لأنّ صاحب الحجّة يقهر من لا حجّة له كما يقهر السلطان غيره، قيل: إنّ اشتقاق السلطان من السليط ما يضاء به، و من هذا قيل للزيت السليط، و من هذا المعنى يقال للسلطان: «ظلّ اللّه في الأرض» و قيل: إنّ السلطان مشتقّ من التسليط، و العلماء سلاطين بسبب كمال قوّتهم العلميّة، و الملوك سلاطين بسبب تسلّطهم بقدرتهم.

قوله: [إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ و جماعته من الأشراف [فَاتَّبَعُوا] الملأ و الناس [أَمْرَ فِرْعَوْنَ و تركوا أمر اللّه [وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بهاد لهم إلى رشد و لا قائد إلى خير؛ إنّ فرعون [يَقْدُمُ قَوْمَهُ و يمشي بين يدي قومه [يَوْمَ الْقِيامَةِ] على قدميه حتّى هجم بهم على النار كما تقدّمهم في الدنيا و يدعوهم إلى النار [فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ] أتى بلفظ الماضي و المراد المستقبل لأنّ ما عطفه عليه من قوله: «يقدم قومه» يدلّ عليه. [وَ بِئْسَ الماء الّذي يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم النار. و إنّما أطلق سبحانه على النار اسم «الورد المورود» ليطابق ما يرد عليه أهل الجنّة من الأنهار و العيون. و قيل: معناه بئس الشي ء الّذي يرده النار، و بئس النصيب المقسوم لهم النار. و إنّما أطلق لفظ «بئس» و إن كان عدلا حسنا لما فيه لهم من البؤس و الشدّة.

[وَ أُتْبِعُوا] و الحقوا في الدنيا [لَعْنَةً] و هي الغرق [وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ] بإبعادهم عن الرحمة و ورود العذاب. و قيل: معناه أتبعهم اللّه في الدنيا لعنة و أتبعهم الأنبياء و المؤمنون بالدعاء عليهم باللعنة [بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ] بئس العطاء المعطى النار و اللعنة. و إنّما سمّاه رفدا لأنّه في مقابلة ما يعطى أهل الجنّة من أنواع النعيم. قال قتادة: ترافدت عليهم لعنتان من اللّه: لعنة الدنيا و لعنة الآخرة. قال ابن عبّاس و الضحّاك: اللعنتان اللتان أصابتهما رفدت

ص: 338

إحداهما الاخرى.

[ذلِكَ النبأ الّذي ذكرناه [مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي من أخبار البلاد [نَقُصُّهُ عَلَيْكَ .

و نذكره لك تسلية لخاطرك [مِنْها قائِمٌ أي من تلك البلاد معمور و منها [حَصِيدٌ] و خراب قد أتى عليه الإهلاك و لم يعمر فيما بعد و اندرس أثره كالشي ء المحصود. و قيل: المعنى: منها قائم أصولها ينظرون إليها، و حصيد قد هلك و باد أهلها.

[وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم [وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن كفروا و ارتكبوا ما استحقّوا به الهلاك فما أغنتهم و نفعتهم [آلِهَتُهُمُ و أوثانهم [الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من فائدة [لَمَّا جاءَ].

عذاب ربّك، أو [أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم لم يزيدوا تلك الأصنام إيّاهم غير الهلاك و الخسار.

و إنّما أضاف الهلاك إلى الأصنام لأنّها السبب في ذلك و لو لم يعبدوها لم يهلكوا. و إنّما قال: «يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأنّهم كانوا يسمّونها آلهة و يطلبون الحوائج منها كما يطلبها الموحّدون من اللّه.

قوله: [وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى أي كما فعل بأمم من تقدّم من الأنبياء لمّا خالفوا الرسل و ردّ عليهم من عذاب الاستيصال، بيّن أنّ عذابه ليس مقتصرا على من تقدّم بل الحال في أخذ كلّ الظالمين كذلك. قوله: [وَ هِيَ ظالِمَةٌ] الضمير بحسب الظاهر عائد إلى القرى و لكنّ المراد أهلها و نظائره كثيرة كقوله: «وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» (1).

ثمّ أكّد سبحانه هذا البيان بقوله: [إِنْ أَخَذَ] ربّك [أَلِيمٌ شَدِيدٌ] و شرح بأن لا ينبغي أن يظنّ أحد أنّ هذه الأحكام مختصّة بأولئك المتقدّمين لأنّه تعالى قال: «و كذلك أخذ ربّك» فحكم بأنّ من شاركهم في فعل ما لا ينبغي فلا بدّ و أن يشاركهم في ذلك الأخذ الشديد.

قوله: [إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً] أي إنّ في ما قصصنا عليك من إهلاك الجماعة تبصرة عظيمة لمن خشي عقوبة اللّه يوم القيامة. و خصّ الخائف بذلك لأنّه هو الّذي ينتفع به بالتدبر.

و يوم الآخرة يوم يجمع له الناس و فيه الناس كلّهم الأوّلون و الآخرون منهم للجزاء و الحساب. و الهاء راجعة إلى اليوم [وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ] يشهده الجنّ و الإنس و أهل السماء

ص: 339


1- الأنبياء 6: 11.

و الأرض، و في هذا دلالة على إثبات المعاد و حشر الخلق.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 104 الى 108]

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

المعنى: أخبر سبحانه عن اليوم المشهود فقال: [و ما نؤخّر] هذا اليوم [إِلَّا لِأَجَلٍ .

قد عدّه اللّه لعلمه أنّ صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت و إنّما قال:

«لأجل» و لم يقل: «إلى أجل» لأنّ اللام يدلّ على الغرض، و أنّ الحكمة اقتضت تأخيره، و كلمة «إلى» لا تدلّ على ذلك. [يَوْمَ يَأْتِ القيامة و الجزاء لا يتكلّم أحد إلّا بأمره و إذنه؛ لأنّ الخلق ملجؤون هناك إلى ترك القبائح. و المراد أنّه لا يتكلّم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلّا بإذنه.

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (1) و قوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (2) و في موضع آخر «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (3) و هل هذا إلّا التناقض؟

فالجواب أنّ يوم القيامة يشتمل على مواقف عديدة قد اذن لهم في الكلام في بعض تلك المواضع و لم يؤذن لهم في بعض المواضع. و بالجملة و يوم يأتي الأمر الهائل المهيب المستعظم أي القيامة.

قال صاحب الكشّاف: فاعل يأتي «اللّه». و هذا غير صحيح لأنّه قاس على قوله تعالى: «وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا» (4) و الكلام فيهما نقول في هذه نقول في تلك؛ لأنّه إذا تأوّل قوله: «و جاء ربّك» و جاء مرأ ربّك مع صراحة الفاعل ففي هذه الآية بطريق أولى.

ص: 340


1- المرسلات: 35- 36.
2- الرحمن: 38.
3- الصافات: 24.
4- الفجر: 23.

و الّذي أوجب لصاحب الكشّاف هذا القول قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ» (1) و الحال أنّه حكى اللّه هذه الآية عن أقوام و هم اليهود، و إسناد الفعل إلى اللّه غلط. انتهى.

قوله: [فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ] إخبار من اللّه بأنّهم قسمان: أشقياؤهم المستحقّون للعقاب، و سعداؤهم المستحقّون للثواب؛ و الشقيّ من شقي بسوء عمله في معصية اللّه، و السعيد من سعد بحسن عمله في طاعة اللّه. و الضمير في قوله: «فمنهم» راجع إلى المجتمعين من الناس و المكلّفين. و قيل: راجع إلى النفس و المعنى واحد.

[فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا] باستحقاقهم العذاب داخلون في النار، و أمّا ما روي عنه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «الشقيّ من شقي في بطن امّه و السعيد سعيد» فإنّ المراد بذلك أنّ المعلوم من حاله أنّه سيشقى بارتكاب القبائح الّتي تؤدّيه إلى النار كما في السعيد، كما يقال لابن الشيخ الهرم: إنّه يتيم أي سييتم.

قوله: [لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ «الزفير» و «الشهيق» أصوات المكروبين المحزونين و «الزفير» من شديد الأنين بمنزلة ابتداء صوت الحمار. و «الشهيق» الأنين المرتفع جدّا بمنزلة آخر صوت الحمار. و على قول الأطبّاء الزفير استدخال الهواء الكثير و الشهيق استخراج الهواء الكثير عند انحصار الطبيعة. عن ابن عبّاس: يريد ندامة و نفسا عاليا و بكاء لا ينقطع [خالِدِينَ فِيها] في النار [ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ .

اختلف العلماء في تأويل هاتين الفقرتين- و هما من المواضع المشكلة في القرآن- فيه من وجهين أحدهما: تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات و الأرض، و الآخر معنى الاستثناء بقوله: «إلّا ما شاء ربّك» فالأوّل فيه أقوال:

أحدها أنّ المراد ما دامت السماوات و الأرض مبدّلتين أي ما دامت سماء الآخرة و أرضها و هما لا ينفيان إذا أعيدا بعد الإفناء.

و ثانيها أنّ المراد ما دامت سماوات الجنّة و النار و أرضهما و كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء و كلّما أقلّك و استقرّ عليه قدمك فهو أرض؛ و هذا قريب من قول الأوّل.

ص: 341


1- البقرة: 206.

و ثالثها أنّه لا يراد به السماء و الأرض بعينها، بل المراد التبعيد فإنّ للعرب ألفاظا في معنى التأبيد يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل و النهار و ما دامت السماء و الأرض و ما نبت النبت و ما أطّت الإبل و ما دزّ شارق، و أشباه ذلك ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء لا يتغيّر و يريدون منه التأييد لا التوقيت، قال عمرو بن معد يكرب:

و كلّ أخ يفارقه أخوه لعمر أخيك إلّا الفرقدان

و أمّا الكلام في الاستثناء ففيه أقوال:

أحدها أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنّة و التقدير: إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار؛ كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا؛ فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ لأنّ الكثير لا يستثنى من القليل فحينئذ يكون «إلّا» بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربّك فحينئذ يكون المعنى: إنّهم يكونون في النار في جميع مدّة بقاء السماوات و الأرض؛ فذكر أوّلا في خلودهم ما ليس في العرب أطول منه ثمّ زاد عليه الدوام الّذي لا آخر له بقوله: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أي سوى ما شاء ربّك من الزيادة الّتي لا آخر لها.

الثاني أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر و الحساب؛ لأنّهم حينئذ ليسوا في جنّة و لا نار و كذلك مدّة كونهم في البرزخ الّذي هو بين الموت و الحياة الثانية؛ لأنّه تعالى لو كان قائلا: «خالدين فيها أبدا» و لم يستثن لكان يظنّ ظانّ أنّهم يكونون في النار أو الجنّة من لدن انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة و لا ينافي الدوام؛ فحينئذ هذا الاستثناء قبل الدخول فيها لا بعدها.

الثالث أن يكون المراد بالّذين شقوا جميع الداخلين إلى جهنّم ممّن ادخل فيها من أهل التوحيد الّذين ضمّوا إلى إيمانهم و طاعاتهم ارتكاب المعاصي فقال: إنّهم يعاقبون في النار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنّة فاستثنى هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة ممّن لم يستحقّ الخلود الأبديّ لإيمانه؛ فتقدير الآية: إلّا من شاء ربّك أن يخرجه بتوحيده من النار. فحينئذ يكون «ما» بمعنى «من» قالت العرب عند سماع الرعد: سبحان ما سبّحت له. و أمّا في أهل الجنّة فكذلك فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه لأنّ من

ص: 342

ينقل إلى الجنّة من النار و خلّد فيها لا بدّ في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم فكأنّه قال: خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم النار فيه قبل أن ينقلهم إلى الجنّة «فما» في قوله: «ما شاء ربّك» هاهنا على بابه و الاستثناء من الزمان.

و روى أبو روق عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: الّذين شقوا ليس فيهم كافر و إنّما هم من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم، ثمّ يتفضّل اللّه عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنّة فيكونون أشقياء في حال سعداء في حال اخرى.

الرابع أنّ المعنى خالدون في النار، دائمون فيها مدّة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم اللّه للحساب فقوله:

«إلّا ما شاء ربّك» استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، أورده الشيخ أبو جعفر قدّس اللّه سرّه، و قال: ذكره قوم من أصحابنا في التفسير.

الخامس أنّ المراد إلّا ما شاء ربّك أن يتجاوز سبحانه عنهم فلا يدخلهم النار، و قدّر الاستثناء لأهل التوحيد عن أبي مجلز قال: هي جزاؤهم و إن شاء تجاوز عنهم.

قوله: [وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا] بطاعة اللّه و انتهائهم عن المعاصي [فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي مدّة دوام السماوات و الأرض [إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ .

يتأتّى فيه جميع أقوال الّتي قلنا في الاستثناء من الخلود في النار إلّا مسألة الخروج من الجنّة؛ فإنّ إجماع الامّة انعقد على أنّ من دخل الجنّة لا يخرج منها [عَطاءً غَيْرَ].

مقطوع.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 109 الى 112]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

[فَلا تَكُ في شكّ [مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ] من دون اللّه؛ إنّه باطل، و إنّ مصيرهم إلى النار و لا يكون داعي عبادتهم دون اللّه إلّا التقليد و إنّما اتّبعوا آباءهم، و إنّا لمعطوهم جزاء

ص: 343

أعمالهم و عقابهم وافيا من غير نقيصة عن مقدار ما استحقّوا. و قيل: معناه إنّا نعطيهم ما استحقّوه من العذاب بعد أن حكمنا لهم به من الخير في الدنيا.

قوله: [وَ لَقَدْ آتَيْنا] و أعطينا [مُوسَى التوراة [فَاخْتُلِفَ فِيهِ يريد أنّ قومه اختلفوا في صحّة الكتاب الّذي انزل عليه، و أراد سبحانه بذلك البيان تسلية النبيّ عن تكذيب قومه إيّاه و جحدهم للقرآن [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لو لا قضاء اللّه السابق بأنّه يؤخّر العذاب و الجزاء إلى يوم القيامة، أو يكون المعنى: لو لا كلمة «سبقت رحمتي غضبي» لعجّل الثواب و الجزاء لأهله. و فصّل بين المؤمنين و الكافرين بنجاة هؤلاء و هلاك هؤلاء، و إنّ الكافرين [لَفِي شَكٍ من القرآن و وعد اللّه و وعيده [مُرِيبٍ و الريب أقوى الشكّ و معنى «مريب» أي موقع في الريبة.

[وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ و كلمة «لمّا» مركّبة من «من» الجارّة و «ما» الموصولة فقلبت «النون» «ميما» للإدغام فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت اولاهنّ و اللام الاولى موطّئة للقسم، و الثانية في قوله: «ليوفّينّهم» جواب للقسم المحذوف، و التنوين في «كلّا» عوض عن المضاف إليه أي و إنّ كلّ الفريقين المؤمنين و الكافرين لمن الّذين ليوفّينّهم ربّك. و قرئ «لما» بالتخفيف على أنّ ما مزيدة للفصل بين اللامين، و المعنى: و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم أجزية أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ. و قرئ «لمّا» بالتنوين أي لمّا و جمعا كقوله سبحانه: «أكلا لمّا» و قرأ أبو عليّ أنّ معنى «إن» النافية و معنى «لمّا» بمعنى «إلّا» و حاصل المعنى أنّ من عجّلت عقوبته أو اخّرت و من صدّق الرسل أو كذّب فحالهم سواء في جزاء أعمالهم.

قال بعض الفضلاء: إنّ في هذه الآية سبعة أنواع من التوكيدات في الدلالة على الحشر و الجزاء: أوّلها كلمة «إنّ» و هي للتأكيد. و ثانيها كلمة «كلّ» و هي للتأكيد. و ثالثها «اللام» الداخلة على خبر «إنّ» و هي تفيد التأكيد أيضا. و رابعها حرف «ما» إذا جعلناه موصولا على قول الفرّاء. و خامسها القسم المضمر فإنّ تقديره: و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم.

و سادسها «اللام» الثانية الداخلة على جواب القسم. و سابعها «النون» المؤكّدة في قوله:

«ليوفّينّهم». انتهى.

ص: 344

قوله: [فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ و هذه الكلمة كلمة جامعة في كلّ ما يتعلّق بالعقائد و الأعمال سواء كان مختصّا به أو كان متعلّقا بالأمّة. قال ابن عبّاس: ما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله آية أشدّ على رسول اللّه من هذه الآية في تمام القرآن و لهذا قال صلى اللّه عليه و آله: شيّبتني هود و أخواتها؛ و لا شكّ أنّ البقاء و المواطئة على الاستقامة الحقيقيّة مشكل جدّا و من هذا المعنى تبيّن لك سبب خوف الأنبياء و الأولياء فالسبب في غشوات أمير المؤمنين في كلّ ليلة سبعين مرّة يتّضح لك فتأمّل. و هذه الآية و هي «فاستقم كما أمرت» أصل عظيم في الشريعة؛ و ذلك لأنّ القرآن لمّا ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتّبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» و كذلك مثلا ورد الأمر بالزكاة بأداء الإبل من الإبل و البقر من البقر وجب اعتبارها، و في كلّ ما ورد أمر اللّه به.

قوله: [وَ مَنْ تابَ مَعَكَ «و من» في محلّ الرفع و عطف على الضمير المستتر في قوله: «فاستقم» أي فاستقم أنت و من تاب معك يعني أنت و هم لأنّ التائب عن الفسق و الكفر يصحّ منه الاستقامة. ثمّ قال: [وَ لا تَطْغَوْا] أي لا تجاوزوا ما أمرتم به و تعيّن لكم «و الطغيان» تجاوز المقدار فتحلّوا حرامه و تحرّموا حلاله [إِنَّهُ سبحانه [بَصِيرٌ].

بأفعالكم.

قوله: [سورة هود (11): آية 113]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)

و الركون هو السكون إلى الشي ء و الميل إليه بالمحبّة؛ و نقيضه النفور. أي و لا تميلوا إلى المشركين في شي ء من دينكم؛ عن ابن عبّاس. و قيل: معناه لا يداهنوا الظلمة؛ عن السدّيّ و جماعة. و قيل: إنّ الركون إلى الظالمين المنهيّ عنه هو الدخول معهم في ظلمهم و إظهار الرضا بفعلهم و إظهار موالاتهم. و قريب من هذا المعنى ما روي عنهم عليهم السّلام أنّ الركون المودّة و النصيحة و الطاعة.

[فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] فيصيبكم عذاب النار أي إنّكم ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون و ليس لكم أولياء يخلّصوكم من عذابه و لا تجدون من ينصركم فإذا كان الركون إلى الظالم موجب مس النار فكيف إذا كان ظالما هو؟ فحينئذ أولى يمسّ النار.

ص: 345

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 114 الى 116]

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)

[وَ أَقِمِ الصَّلاةَ] أي أدّها و أت بأعمالها على وجه التمام في فروضها. و قيل: أدم على فعلها، و المراد من «طرفي النهار» صلاة الفجر و المغرب و «بزلف الليل» صلاة العشاء الآخرة و «الزلف» أوّل ساعات الليل. قالوا: و ترك ذكر الظهر و العصر إمّا لظهور هما في أنّهما صلاتا النهار فكأنّه قال: و أقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلاة النهار.

و إمّا لأنّهما مذكورتان على التبع للطرف الآخر لأنّهما بعد الزوال فهما أقرب إليه و قد قال سبحانه: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» (1) و دلوك الشمس زوالها، و هذا القول هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و قيل: صلاة طرفي النهار الغداة و الظهر و العصر، و صلاة زلف الليل المغرب و العشاء الآخرة. قال الحسن: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

المغرب و العشاء زلفتا الليل و قيل: أراد بطرفي النهار صلاة الفجر و صلاة العصر.

[إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قيل في معناه: إنّ الصلاة الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب؛ لأنّه عرّف الحسنات بالألف و اللام. و ذكر الواحديّ بإسناده معنعنا عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها؛ فهزّه حتّى يتحاتّ ورقه، ثمّ قال: يا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟

قال: إنّ المسلم إذا توضّأ و أحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلاة الخمس تحاتت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ثمّ قرأ هذه الآية. و بإسناده عن أبي أمامة قال: بينما رسول اللّه في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ فقال:

هل شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم يا رسول اللّه قال: فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك (أو قال: ذنبك).

ص: 346


1- الإسراء: 80.

و بإسناده عن الحرث عن عليّ بن أبي طالب قال: كنّا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت ذنبا فأعرض عنه فلمّا قضى النبيّ الصلاة قام الرجل فأعاد القول؛ فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أليس صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى قال: فإنّها كفّارة ذنبك.

و رووا عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أحدهما عليهما السّلام يقول: إنّ عليّا عليه السّلام أقبل على الناس فقال: أيّ آية أرجى عندكم في كتاب اللّه فقال بعضهم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*، الآية» (1) فقال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» (2) قال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» (3) قال: حسنة و ليست إيّاها، و قال بعضهم: «وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، الآية» (4) قال: حسنة و ليست إيّاها. قال: ثمّ أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ فقالوا: لا و اللّه ما عندنا شي ء قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول:

أرجى آية في كتاب اللّه «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» و قرأ الآية كلّها، ثمّ قال: يا عليّ و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل اللّه بوجهه و قلبه لم ينفتل و عليه من ذنوبه شي ء كما ولدته امّه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلاة الخمس، ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلاة الخمس لأمّتي بمنزلة النهر الجاري على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده و رن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في كلّ يوم و ليلة، أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و اللّه الصلاة الخمس لأمّتي.

و قيل: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» معناه أنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات. و قيل: المراد بالحسنات التوبة فإنّها يذهب بالسيّئات و تسقط عذابها.

ص: 347


1- النساء: 51 و 116.
2- «: 110.
3- الزمر: 54.
4- آل عمران: 129.

[ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ يعني ما ذكره من أنّ الحسنات يذهبن بالسيّئات في هذا البيان تذكار و موعظة لمن تذكّر به.

[وَ اصْبِرْ] أي اصبر على الصلاة كما قال: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» (1) و قيل: معناه: اصبر يا محمّد على أذى قومك و تكذيبهم إيّاك [فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ عمل [الْمُحْسِنِينَ .

و قيل: معنى المحسنين هاهنا المصلّين.

قوله تعالى: [فَلَوْ لا] المعنى: لمّا بيّن سبحانه أنّ الأمم المتقدّمة حلّ بهم عذاب الاستيصال بيّن أنّ السّبب فيه أمران: الأوّل أنّه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض و المعنى: فهلّا كان؟ و حكى الخليل أنّ كلّ ما كان في القران من كلمة «لو لا» فمعناه «هلّا» إلّا الّتي في الصافّات.

و المراد من قوله: [أُولُوا بَقِيَّةٍ] أي أولو فضل و نعمة و خير و سمّي الفضل و الخير «بقيّة» لأنّ الرجل يستبقي ممّا يخرجه أجوده و أفضله يقال: فلان من بقيّة القوم أي من خيارهم، و يجوز أن يكون البقيّة بمعنى البقوى كالتقيّة بمعنى التقوى أي فهلّا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم و صيانة لها من سخط اللّه و قرئ «أولو بقية» بكسر الباء و سكون القاف و البقية المرّة، و المعنى: فلو لا كان منهم أولو مراقبة و خشية من عذاب اللّه.

ثمّ قال: [إِلَّا قَلِيلًا] و لا يمكن أن يكون المستثنى متّصلا لأنّه على هذا التقدير يكون أمر البقيّة في النهي عن الفساد إلّا القليل من الناجين منهم كما تقول: هلّا قرأ قومك القرآن إلّا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء منهم، فإذا ثبت هذا فالاستثناء منقطع، و التقدير: لكنّ قليلا ممّن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد و سائرهم تاركون للنهي.

قوله: [وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي و اتّبع المشركون ما عوّدوا من لنعم و التنعّم و إيثار اللّذات على امور الآخرة و كان هؤلاء المبطرون و المتنعّمون مصرّين على الجرم.

و في الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر؛ لأنّه سبحانه ذمّهم بترك النهي عن المنكر و أخبر بأنّه أنجى القليل منهم، و نبّه بأنّه لو كان الكثير كما نهى القليل لما

ص: 348


1- طه: 132.

هلكوا و ما استوصلوا بالعذاب كأنّه بيّن أنّ سبب عذابهم بالاستيصال ترك النهي عن الفساد.

قوله تعالى: [سورة هود (11): آية 117]

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)

المعنى: و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم منه تعالى لهم و لكن إنّما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم كما قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، الآية» (1) هذا أحد وجوه معنى الآية. و الثاني أنّ اللّه لا يؤاخذهم بظلم بعضهم مع أنّ أكثرهم مصلحون و لكن إذا عمّ الفساد و ظلم الأكثرون عذّبهم. و ثالثها أنّه لا يهلكهم بشركهم و ظلم أنفسهم و هم يتعاطون الحقّ بينهم و يتعاملون بينهم بالإصلاح و ينصف بعضهم بعضا.

و حاصل النظم في الآية أنّ السبب في إهلاك الأمم أنّهم أقدموا في إهلاك نفوسهم بعذاب الاستيصال، و لو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالمعروف و ينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منّا، و لكنّهم لمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستيصال.

قوله تعالى: [سورة هود (11): الآيات 118 الى 123]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

المعنى: أخبر سبحانه عن قدرته فقال: [لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الكلّ [أُمَّةً واحِدَةً].

و على دين واحد فيكونون مؤمنين بأن يلجئهم إلى الإيمان و لكنّ ذلك ينافي التكليف و يبطل الغرض و لذلك لم يشأ اللّه ذلك و لكنّه سبحانه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقّوا الثواب و قيل: معناه: لو شاء ربّك لجعلهم امّة واحدة في الجنّة على سبيل التفضّل و لكنّه شاء لهم بالحنّة لا على سبيل التفضّل بل شاء على سبيل الاستحقاق للجنّة بحسن عملهم و قيل: معناه لو شاء رفع الخلاف فيما بينهم.

ص: 349


1- يونس: 44.

[وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان بين يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و غير ذلك. و قيل:

مختلفين في الأرزاق و الأحوال [إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ من المؤمنين فإنّهم لا يختلفون و يجتمعون على الحقّ و قد رحمهم ربّهم.

قوله: [وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ اختلف في معناه فقيل: و للرحمة خلقهم؛ عن جماعة كابن عبّاس و مجاهد و قتادة و الضحّاك و هذا هو الصحيح. و اعترض على ذلك بأن لو أراد ذلك لقال: و لتلك خلقهم لأنّ الرحمة مؤنّثة؛ و هذا ليس بشي ء؛ لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقيّ فإذا ذكر فعلى معنى الإنعام و التفضّل و قد قال: سبحانه. «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» و «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (1) و مثله قول امرئ القيس:

برهرهة رودة رخصةكخرعوبة البانة المنفطر

و لم يقل: المنفطرة لأنّه ذهب إلى الغصن و أمثال ذلك كثير و قيل: «اللام» للعاقبة يريد أنّ اللّه خلقهم و علم أنّ عاقبتهم يؤول إلى الاختلاف المذموم كما قال: «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً» (2) و لا يجوز أن يكون اللام للغرض لأنّه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم لأنّه لو أراد منهم ذلك لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف و حقيقة الطاعة الموافقة للإرادة فحينئذ لم يعذّبهم و الإجماع محقّق بعذابهم و يمكن أن يكون «اللام» في الآية للغرض. و هذا إذا كان معنى الآية أنّه سبحانه لو شاء لجعلهم امّة واحدة في الجنّة على سبيل التفضّل لكنّه اختار لهم أعلى الدرجتين ليستحقّوا الثواب و لهذا الغرض خلقهم.

و قال المرتضى قدّس سرّه: قد قال قوم: إنّ معنى الآية و لو شاء ربّك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنّة فيكونوا في وصولهم جميعهم إلى الجنّة امّة واحدة لفعل و أجروا هذه الآية مجرى قوله: «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (3) و إنّه أراد هداها إلى طريق الجنّة فعلى هذا التأويل يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخال الجميع الجنّة و خلقهم المصير إليها لكنّهم نقضوا هذا الغرض بسوء اختيارهم و هذا المعنى اختيار جمهور المعتزلة قالوا: و لا يجوز أن يفسّر الآية بأنّ اللّه العادل يخلقهم للاختلاف بل خلقهم للرحمة و هو القول الصحيح.

ص: 350


1- الكهف: 97. الأعراف: 54.
2- الأعراف: 178.
3- السجدة: 13.

قوله: [وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي وصل و بلغ وحيه و وعده و وعيده بتمامه إلى خلقه فمن شاء فليكفر و من شاء فليؤمن. و قيل معناه: وجب قول ربّك و مضى حكمه سبحانه [لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ بكفرهم إذا كفروا [وَ كُلًّا] من هذه القصص من أخبار الرسل يتابع بعضها بعضا و يأتي بعضها أثر بعض ليكون [ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ و نقوّي به قلبك و نزيدك به ثباتا على ما أنت عليه.

قوله تعالى: [وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ قيل: في هذه السورة. و قيل: في هذه الدنيا و قيل: في هذه الأنباء، و المراد بالحقّ الصدق من الأنباء و الوعد. و قيل: معناه: و جاءك في ذكر هذه الآيات الحقّ و الموعظة و ليس المراد إذا قيل: قد جاءك في هذه الحقّ أن يكون لم يأتك الحقّ إلّا فيه و لكنّ بعض الحقّ أوكد من بعض [وَ ذِكْرى و تذكّر [لِلْمُؤْمِنِينَ [وَ قُلْ يا محمّد صلى اللّه عليك [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآياتنا: [اعْمَلُوا] على طريقتكم على الكفر [إِنَّا عامِلُونَ على طريقتنا على الإيمان [وَ انْتَظِرُوا] ما يعدكم اللّه على الكفر من العقاب [إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعدنا اللّه على الإيمان من الثواب.

[وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ أي علم ما غاب في السماوات [وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء منه و قيل: معناه و للّه خزائن السماوات و الأرض المستورات [وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي إلى حكمه يرجع في المعاد كلّ الأمور لأنّ في الدنيا قد يكون يملك غيره سبحانه بعض الأمر و النهي و النفع و الضرّ و لكنّ هناك كلّ الأمور راجعة إليه؛ فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أنّه يعبد و يتوكّل عليه و يوثق به و ليس هو سبحانه غافلا عن أعمال عباده من ثواب و موجب عقاب.

قال الطبرسيّ قدس سرّه في المجمع: وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان و التشنيع قد ظلم الشيعة الإماميّة في هذا الموضع من تفسيره فقال: هذا يدلّ على أنّ اللّه يختصّ بعلم الغيب خلافا لما تقول الرافضة: إنّ الأئمّة يعلمون الغيب و لا شكّ أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر و يدين و يعتقد بأنّهم أفضل الأنام بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ينسب الفضائح و القبائح إلى هذه الطائفة.

ص: 351

قال الطبرسيّ رحمه اللّه: و لا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق حتّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و إنّما يستحقّ الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا يعلم مستفاد، و هذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه أحد من المخلوقين و من اعتقد أنّ غير اللّه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.

فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين و رواه عنه الخاصّ و العامّ من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها مثل قوله إلى صاحب الزنج: «كأنّي به يا أحنف و قد سار بالجيش الّذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم (1) و لا صهيل خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّه أقدام النعام» و قوله- يشير إلى مروان-: «أما إنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة و سيلقى الامّة منه و من ولده موتا أحمر».

و ما نقل من هذا القبيل عن أئمّة الهدى مثل ما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لعبد اللّه بن الحسن- و قد اجتمع هو و جماعة من العلويّة و العبّاسيّة ليبايعوا ابنه محمّد-: و اللّه ما هي لابنك و لا لك و لكنّها لهم و أشار إلى العبّاسيّة و إنّ ابنيك لمقتولان. ثمّ نهض و توكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهريّ فقال له: أ رأيت صاحب الرداء الأصفر يعني أبا جعفر المنصور قال: نعم فقال: إنّا و اللّه نجده يقتله فكان كما قال. فقتله المنصور. و مثل قول الرضا عليه السّلام:

بورك قبر بطوس و قبران ببغداد فقيل له. قد عرفنا واحدا فما الآخر فقال: ستعرفونه ثمّ قال: قبري و قبر هارون هكذا و ضمّ إصبعيه و قوله: في حديث عليّ بن الوشّاء حين قدم مرو من الكوفة قال له الرضا عليه السّلام: معك حلّة في السفط الفلانيّ دفعتها إليك ابنتك و قالت اشتر لي بثمنها فيروزجا؛ الحديث. إلى غير ذلك ممّا روي عنهم.

فإنّ جميع ذلك متلقّى عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بما أطلع اللّه نبيّه و النبيّ أخبرهم فهذا علم مستفاد و ليس بعلم الغيب و أنّهم ما ادّعوا علم الغيب بل نفوا عن أنفسهم كما قال أمير المؤمنين في خطبة الملاحم لمّا قالوا بعض أصحابه حين أنشأ تلك الخطبة: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السّلام و قال للرجل- و كان كلبيّا-: يا أخا كليب ليس هو بعلم الغيب، و إنما هو تعلّم من ذي علم و إنّما علم الغيب علم الساعة و ما عدّده اللّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ

ص: 352


1- اللجب: صوت الابطال. و القعقعة: صوت السلاح.

عِلْمُ السَّاعَةِ ... وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» من ذكر و أنثى و قبيح و جميل و سخيّ و بخيل و شقيّ و سعيد، و من يكون في النار حطبا أو في الجنان و أمثاله فهذا علم الغيب الّذي لا بعلمه أحد إلّا اللّه و ما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه. انتهى.

و في شرح النهج أنّ صاحب الزنج (1) اسمه عليّ و كان يدّعي أنّه عليّ بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، و أرباب السير قدحوا في نسبه و أنكروا ذلك و اتّفقوا على أنّه من بني عبد القيس الأسديّ أحد الخارجين مع زيد بن عليّ عليه السّلام، و بعض الناس يرمونه بالزندقة و الإلحاد و في بعض الأخبار أنّ ارتفاع أمره كان قريبا من وفات سيّدنا العسكريّ عليه السّلام، و كان يقتل الرجال و النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض و لا يبقي، و أكثر أتباعه الدهاقين بالبصرة أوّل أمره، و كانوا مشاة عراة أقدامهم عراض غلاظ و قد أشار إلى هذا المعنى عليه السّلام بقوله: (يثيرون الأرض بأقدامهم) و كناية عن شدّة وطئهم الأرض بأقدامهم الغليظة.

و بالجملة قد ختم سبحانه هذه السورة بخاتمة شريفة جامعة لكلّ المطالب العالية حيث خصّ ذاته الشريفة بعلم الغيب حيث لا يشاركه موجود، و حقيقة ذات الإله و كنه ربوبيّته غير معلومة للبشر البتّة، و إنّما المعلوم للبشر و الأمر القابل لعلم البشر صفاته سبحانه و صفاته قسمان: صفات الجلال و صفات الإكرام.

أمّا صفات الجلال فهي سلوب كقولك: ليس بجوهر و لا جسم و لا مرئيّ و لا متحيّز و أمثاله و هذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال؛ لأنّ السلوب عدم و العدم المحض و النفي الصرف لا كمال فيه فقولنا: «لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ» أفاد الكمال لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرّإ عن التغيير، و لو لا ذلك كان عدم النوم ليس يدلّ على كمال

ص: 353


1- من كبار أصحاب الفتن في العهد العباسي و فتنته معروفة بفتنة الزنج لان اكثر انصاره منهم ظهر في ايام المهتدى العباسي سنة 255 ه، و التف حوله سودان اهل البصرة فامتلك البصرة و الأبلة و تتابعت لقتاله الجيوش فكان يظهر عليها و يشتتها. و نزل البطائح و امتلك الأهواز و أغار على واسط و عجز عن قتاله الخلفاء حتى ظفر به الموفق باللّه في ايام المعتمد فقتله و بعث برأسه الى بغداد سنة 270 ه. و كان يرى رأى الازارقة من الخوارج. و في نسبه طعن كما ذكره المصنف قدس سره و المشهور في اسمه: على بن محمّد العلوي. فوات الوفيات ج 2: 83.

أصلا ألا ترى أنّ الميّت و الجماد لا يأخذه سنة و لا نوم؟ و لكن قوله: «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» (1) يفيد الجلال و الكبرياء لكونه يفيد أنّه واجب الوجود غنيّ لذاته عن احتياج الطعام.

فتحقّق أنّ صفات العزّ و الكمال و العلوّ هي الصفات الثبوتيّة، و أشرفها و أسناها العلم و القدرة فوصف سبحانه ذاته بهما في معرض التعظيم و الثناء.

أمّا العلم بقوله: [وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أى إنّ علمه نافذ في جميع الكلّيّات و الجزئيات و الحاضرات و الغائبات.

و أمّا صفة القدرة بقوله: [وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ و إنّما يكون كذلك لو كان مصدر الكلّ و مبدأ الكلّ هو هو و الّذي مبدأ الكلّ إليه مرجع الكلّ، و ليس هذا إلّا من عظيم القدرة فحينئذ لا تنبغي العبادة إلّا له و تفويض الأمور إلّا إليه.

فأوّل درجات السير إلى اللّه هو عبوديّة اللّه و آخرها التفويض إليه و التسليم له فلهذا السبب قال: [فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ و هو لا يضيع طاعات المطيعين و لا يهمل أحوال المتمرّدين الجاحدين فقال: [وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و ذلك بأن يحضروا في موقف القيامة و يحاسبوا على النقير و القطمير و يعاتبوا في الصغير و الكبير، ثمّ يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنّة و فريق في السعير، فظهر لك أنّ هذه الآية وافية بالإرشاد إلى جميع المطالب العلويّة، و روي عن كعب الأحبار أنّه قال: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود.

تمّت السورة بحمد اللّه إلى هنا تمّ الجزء الخامس من الكتاب و هو مشتمل على 104 آية من سورة الأعراف و تمام سورة الأنفال و التوبة و يونس و هود. و للّه الحمد.

ص: 354


1- الانعام: 14.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.