مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

تتمة سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 164]

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

. جواب قسم محذوف، و اللام موطّئة للقسم أي و اللّه [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ و أنعم عَلَى [الْمُؤْمِنِينَ من قومه [إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من نسبهم و جنسهم عربيّا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة و يكونوا واقفين على حاله في الصدق و الأمانة و في ذلك لهم شرف عظيم قال سبحانه: «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» (1) و قرئ «من أنفسهم» أي أشرفهم فإنّه صلى اللّه عليه و آله كان من أشرف قبائل العرب و بطونها.

و في الآية بيان براءة ساحته صلى اللّه عليه و آله من الطمع و الغلول الّذي زعم بعضهم أنّه صلى اللّه عليه و آله خصّ نفسه ببعض الغنائم.

[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد ما كانوا أهل الجاهليّة لم يطرق أسماعهم الوحي.

[وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من دنس الطبائع و أوضار الأوزار و سوء العقائد [وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي القرآن [وَ الْحِكْمَةَ] أي السنّة فتكمل نفوسهم بحسب القوّة العلميّة و العمليّة.

و وجه المنّ و الانتفاع ببعثة الرسل في طريق الدين لأنّ الخلق جبلوا على النقصان و قلّة الفهم و عدم الدراية فهو صلى اللّه عليه و آله أصلح أمورهم بأحكام محكمة، و أنّهم جبلوا على الكسل و الغفلة و التواني فأورد عليهم أنواع الترغيبات و الترهيبات حتّى أنّهم كلّما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم ذلك البيان للطاعة.

ص: 2


1- الزخرف: 44.

تمّ إنّ أنوار عقول الخلق يجري مجرى أنوار البصر و الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلّا عند سطوع نور الشمس و نوره صلى اللّه عليه و آله عقليّ إلهيّ يجري مجرى طلوع الشمس فتقوى العقول بنور عقله و بيانه.

[وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «إن» هي المخفّفة من المثقّلة و الضمير الشأن محذوف، و اللام فارقة بينها و بين النافية. و قيل: هي نافية و اللام بمعني «إلّا» أي و ما كانوا من قبل إلّا في ضلال مبين، و أيّا ما كان فالجملة مبيّنة لكمال النعمة و قد أرسله اللّه إلى أقوام عتاة أشراس فذلّل منهم كلّ من عتا و عاس، و نكس بمولده الأصنام على الرأس و انشقّ أيوان كسرى و سقطت منه أربع عشرة شرافة بعدد المعصومين: هو صلى اللّه عليه و آله و فاطمة و الأئمّة الاثنا عشر صلوات اللّه عليهم، و خمدت نار فارس، و بحيرة ساوه غاصت على غير القياس، و أيّام دولته كأيّام التشريق و ليلات الأعراس.

و فضائل نعمة وجوده صلى اللّه عليه و آله لا تحصى و فيما خطب به أبو طالب عليه السّلام في تزويج خديجة ذكر بعض شرافته و قد حضر معه بنو هاشم و رؤساء مضر: الحمد للّه الّذي جعلنا من ذرّيّة إبراهيم، و زرع إسماعيل، و ضئضى ء معدّ، و عنصر مضر و جعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه، و جعل لنا بيتا محجوجا و حرما أمنا و جعلنا الحكّام على الناس، ثمّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه من لا يوزن به فتى من قريش إلّا رجّح به و هو و اللّه بعد هذا له نبأ عظيم و خطر جليل.

قالت عائشة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: قال لي جبرئيل: يا محمّد قلّبت الأرض مشارقها و مغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمّد صلى اللّه عليه و آله و لم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ثمّ آدم و من دونه تحت اللواء.

و حكي أنّ عبد المطّلب جدّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله بينا هو نائم في الحجر انتبه مذعورا قال العبّاس: فتبعته و أنا يومئذ غلام أعقل ما يقال، فأتى كهنة قريش فقال: رأيت كأنّ سلسلة من فضّة خرجت من ظهري و لها أربعة أطراف طرف قد بلغ مشارق الأرض و طرف قد بلغ مغاربها و طرف قد بلغ عنان السماء و طرف قد جاوز الثرى فبينا أنا أنظر عادت شجرة خضراء لها نور فبينا أنا كذلك قام عليّ شيخان فقلت لأحدهما: من أنت؟ قال: أنا نوح نبيّ ربّ

ص: 3

العالمين، و قلت للآخر: من أنت؟ قال: أنا إبراهيم خليل ربّ العالمين، ثمّ انتبهت قالوا:

إن صدقت رؤياك ليخرجنّ من ظهرك نبيّ يؤمن به أهل السماوات و أهل الأرض و دلّت السلسلة على كثرة أتباعه و أنصاره و قوّتهم لتداخل السلسلة و حلقها، و رجوعها شجرة تدلّ على ثبات أمره و علوّ ذكره و سيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح و سيظهر به ملّة إبراهيم، انتهى.

[سورة آل عمران (3): آية 165]

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165)

. و لمّا كانت وقعة أحد قال المنافقون: لو كان رسولا من عند اللّه لما انهزم عسكره و ما وقع هذا الانكسار فأجاب اللّه عن شبهتم:

[أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ الهمزة للتقريع و التقرير و الواو عاطفة على محذوف قبلها و المعنى: أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم و قلتم من أين أصابنا هذا و قد وعدنا اللّه النصر؟ و المراد تقريعهم بسبب صدور ذلك القول عنهم في ذلك؛ فإنّ كون مصيبة عدوّهم ضعف مصيبتهم ممّا يهوّن الخطب.

و بيان ضعف مصيبة المشركين أنّ المسلمين هزموا الكفّار يوم بدر و قتلوا منهم سبعين و أسروا سبعين و ايضا هزم المسلمون المشركين في يوم احد أوّلا ثمّ لمّا عصوا و لم يستمرّوا على العكوف في المركز حسبما أمرهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله هزم المشركون المسلمين؛ فانهزام المشركين و مصيبتهم حصلت مرّتين و انهزام المسلمين حصل مرّة واحدة و هذا معنى قوله:

«قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها».

و «لمّا» ظرف «لقلتم» و متعلّق بها و إنّما دخلت الواو في قوله: «أو لمّا» لعطف جملة على جملة و قدّمتها ألف الاستفهام لأنّ له صدر الكلام و وصلت هذه الواو الكلام الثاني بالأوّل ليدلّ على تعلّقه به في المعنى.

[قُلْتُمْ أَنَّى هذا] استفهام على سبيل الإنكار لأنّه لمّا انهزم عسكره صلى اللّه عليه و آله من الكفّار يوم احد أدّى ذلك إلي أن قالوا: من أين هذا المغلوبيّة و كيف صار المشركون منصورون علينا؟ فأمر اللّه رسوله بأن يجيب عن اعتراضهم الفاسد فقال: [قُلْ هُوَ] يا محمّد:

ص: 4

هذا الانهزام إنّما حصل بشؤم عصيانكم و [مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ حيث حرصتم على الغنيمة و تركتم المركز.

[إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] و من جملته النصر عند الطاعة و الخذلان عند المخالفة صلى اللّه عليه و آله فأصابكم ما أصابكم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)

و المراد من الجمعين جمع المشركين الّذين كانوا مع أبي سفيان و جمع أصحاب رسول اللّه يوم احد.

[فَبِإِذْنِ اللَّهِ و المراد من الإذن عبارة عن التخلية و ترك النصرة، استعار الإذن لتخلية الكفّار فإنّه تعالى لم يمنعهم لتبتليهم لأنّ الإذن في الشي ء لا يدفع المأذون عن مراده و لا يمنعه فلمّا كان ترك النصرة و المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على سبيل المجاز.

و قيل: المعنى «فبإذن اللّه» أي بعلمه كقوله: «وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ» (1) أي إعلام و كقوله:

«آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» (2) و قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ» (3) و كلّ ذلك بمعنى العلم.

و قيل: إنّ المراد من «الإذن» أي بأمر اللّه بدليل قوله: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» و المعنى أنّه تعالى لمّا أمر بالمحاربة ثمّ صارت تلك المحاربة مؤدّية إلى ذلك الانهزام صحّ على سبيل المجاز أن يقال: حصل ذلك بأمره.

و القول الرابع و هو قول ابن عبّاس: أنّ المراد من «الإذن» قضاء اللّه بذلك و حكمه به.

[وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا] عطف على قوله: «فَبِإِذْنِ اللَّهِ» عطف المسبّب

ص: 5


1- التوبة: 3.
2- فصلت: 47.
3- البقرة: 779.

على السبب. و المراد من العلم التمييز و الظهور فيما بين الناس و ليتميّز المنافق، و حاصل المعنى أنّ ما أصابكم يومئذ فهو كائن لتميّز الثابتين على الإيمان و الّذين نافقوا على النفاق.

[وَ قِيلَ لَهُمْ عطف على «نافقوا» قال ابن عبّاس: المنافقون هم عبد اللّه بن ابيّ و أصحابه حيث انصرفوا يوم احد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و القائل لهم عبد اللّه بن عمرو بن خرام فقال لعبد اللّه بن ابيّ و أصحابه: اذكّركم اللّه أن تخذلوا نبيّكم و قومكم و دعاهم إلى القتال و ذلك قوله:

[تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا] و المراد من قوله: «أو ادفعوا» أي ادفعوا عنّا العدوّ بتكثّر سوادنا إن لم تقاتلوا معنا. و قيل: المعنى: أو ادفعوا عن أهلكم و بلدكم و حريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل اللّه، و ترك العطف بين «تعالوا» «و قاتلوا» لما أنّ المقصود بهما واحد و هو القتال و ذكر الأوّل توطئة له.

[قالُوا] كأنّه قيل: فما ذا صنعوا؟ فقيل: قالوا: [لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو نعلم ما يصحّ أن يسمّى قتالا لاتّبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء النفس في الهلاك. و قيل: المعنى لو نعرف و نحسن قتالا لاتّبعناكم و إنّما قالوه استهزاء.

[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ فأجابهم سبحانه عند ما ذكروا هذا الجواب فقال: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان؛ و ذلك أنّهم كانوا قبل هذه الواقعة ما ظهرت منهم أمارات تدلّ على كفرهم بحسب الظاهر فلمّا رجعوا عن عسكر المؤمنين فتباعدوا عن أن يظنّ بهم كونهم مؤمنين لأنّ عدم الوثوق بصدق النبيّ و استهزائهم بقتال المؤمنين و سخريّتهم كفر، أو المعنى أنّهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإسلام لأنّهم كانوا في الظاهر أبعد من الكفر فلمّا ظهر منهم ما كانوا يكتمون صاروا أقرب للكفر برجوعهم عن معاونة المسلمين.

[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي يظهرون خلاف ما يضمرون، و إضافة القول إلى الأفواه تأكيد؛ فإنّ الكلام و إن كان يطلق على اللسانيّ و النفسانيّ إلّا أنّ القول لا يطلق إلّا على ما يكون باللسان و الفم فذكر الأفواه بعده تأكيد كقوله: «وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» فقوله: «بأفواههم» مع أنّ القول لا يكون إلّا من اللسان و الفم تأكيد و

ص: 6

تصوير بصورة فرده الصادر عن آلته الّتي هي الفرد.

[وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق و ما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنّه يعلمه مفصّلا بعلم واجب و أنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

[سورة آل عمران (3): آية 168]

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

. [الَّذِينَ بدل من الواو في «يكتمون» [قالُوا لِإِخْوانِهِمْ من جنس المنافقين المقتولين يوم احد، أو المراد من «إخوانهم» في سكنى الدار و في النسب فحينئذ يندرج فيهم بعض الشهداء [وَ قَعَدُوا] حال من ضمير «قالوا» بتقدير «قد» أي قالوا و قد قعدوا عن القتال معهم.

[لَوْ أَطاعُونا] فيما أمرناهم و وافقونا في ذلك [ما قُتِلُوا] كما لم نقتل، و فيه إيذان بأنّهم أمروهم بالانخذال و ترك القتال و أغووهم كما غووا.

[قُلْ تبكيتا لهم و إظهارا لكذبهم [فَادْرَؤُا] أي ادفعوا [عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله و تقدير الكلام: إن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنّكم قادرون على دفع القتل، فادفعوا عن أنفسكم الموت الّذي كتب عليكم بوقت موقّت و أنفسكم أعزّ عليكم من إخوانكم.

و اعلم أنّ الموت ليس له وقت معلوم لك و إنّما اختفى وقته ليكون المرء على اهبة للسفر و مستعدّا لذلك، و كان بعض الصالحين ينادي باللّيل على سور المدينة: الرحيل الرحيل، و توفّي آخر الليل و فقد صوته أمير تلك المدينة، فسأل عنه فقيل: إنّه مات، ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتّى أناخ ببابه الحمّال فأصابه متيقّظا متمشّرا ذا اهبة لم تلهه الآمال.

روي أنّ دانيال عليه السّلام مرّ بنادية فسمع مناديا: يا دانيال قف ساعة تر عجبا، فلم ير شيئا ثمّ نودي الثانية قال: فوقفت فإذا بيت يدعوني إلى نفسه فدخلت فإذا سرير مرصّع بالجواهر فإذا النداء من السرير: اصعديا دانيال تر عجبا، قال: فارتقيت السرير فإذا فراش من ذهب مشحون بالمسك و العنبر فإذا عليه رجل ميّت كأنّه نائم و عليه من الحلل و الحليّ ما لا يوصف و في يده اليسرى خاتم و فوق رأسه تاج و على منطقته سيف أشدّ خضرة

ص: 7

من البقل فإذا النداء من السرير: احمل هذا السيف و اقرأ ما عليه، قال: فإذا مكتوب عليه: هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن إرم و إنّي عشت ألف عام و سبعمائة و افتضضت اثني عشر ألف جارية و بنيت أربعين ألف مدينة و هزمت سبعين ألف جيش و في كلّ جيش قائد مع كلّ قائد اثنا عشر ألف مقاتل، و باعدت الحكيم و قرّبت السفيه و خرجت بالجور و العنف و الحمق عن حدّ الإنصاف، و كان يحمل مفاتيح الخزائن أربعمائة بغل و يحمل إليّ خراج الدنيا فلم ينازعني أحد من أهل الدنيا فادّعيت الربوبيّة فأصابني الجوع حتّى طلبت كفّا من ذرّة بألف قفيز من درّ فلم أقدر عليه فمتّ جوعا؛ يا أهل الدنيا اعتبروا بي و لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتني فإنّ خدمي و أهلي لم يحملوا من وزري شيئا، انتهى.

[سورة آل عمران (3): آية 169]

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

. المراد بهم شهداء احد، و كانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطّلب و مصعب بن عمرو و عثمان بن شهاب و عبد اللّه بن جحش، و باقيهم من الأنصار. و الآية جواب لقولهم: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» بأنّ القتل في سبيل اللّه فيه الحياة الأبديّة و المقتولون في سبيله مفضّلون بأنواع السعادة و مرزوقون بأنواع الرزق.

قال الرازيّ: اختلفوا في الحياة فقال بعضهم: إنّه تعالى تصعد أجساد الشهداء إلى السماوات تحت العرش و يوصل إليهم أنواع السعادة. و منهم من قال: يتركها في الأرض و يحييها و يوصل إليها السعادات. و منهم من أنكر الحياة للجسد و أثبت الحياة للروح؛ و أوّل بعض الحياة ببقاء ذكرهم الجميل.

أقول: و هذا التأويل صريح في مخالفة النصّ لأنّه قال: «عند ربّهم يرزقون» فهذا التأويل سفسطة.

قال الباقر عليه السّلام و كثير من المفسّرين: إنّ الآية تتناول قتلى بدر و احد معا.

و قيل: نزلت الآية في شهداء بئر معونة و كان سبب ذلك على ما رواه محمّد بن إسحاق بإسناده عن أنس بن مالك و غيره قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة- و كان سيّد بني عامر بن صعصعة- على رسول اللّه و أهدى له هديّة فأبي النبيّ صلى اللّه عليه و آله أن يقبلها

ص: 8

و قال: يا أبا براء لا أقبل هديّة مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديّتك و قرأ عليه القرآن فلم يسلم و لم يبعد و قال: إنّ أمرك هذا الّذي تدعوا إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول اللّه:

إنّي أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك؛ فبعث رسول اللّه المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن صمه و حزام بن ملجان و عروة السلميّ و نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، و ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من احد فساروا حتّى نزلوا بئر معونة.

فلمّا نزلوا قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول اللّه أهل هذا الماء؟ فقال حزام ابن ملجان أنا مخرج بكتاب رسول اللّه إلى عامر بن الطفيل فلمّا أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول اللّه، فقال حزام: يا أهل بئر أنا رسول رسول اللّه إليكم و أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فآمنوا باللّه و رسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فطعن به في جنب حزام حتّى خرج من الشقّ الآخر فقال حزام: اللّه أكبر فزت و ربّ الكعبة.

ثمّ استصرخ عامر بن الطفل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه على ما دعاهم إليه و قالوا: لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا، و جوارهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتّى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلمّا رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنّهم تركوه و به رمق فارتثّ بين القتلى فعاش حتّى قتل يوم الخندق.

و أخذ عمرو بن اميّة أسيرا فلمّا عرّف نفسه أنّه مضريّ أطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جزّ ناصيته و أعتقه عن رقبة زعم أنّها كانت على أبيه.

فقدم عمرو بن اميّة على رسول اللّه و أخبره الخبر فقال رسول اللّه: هذا عمل أبي براء و قد كنت لهذا كارها متخوّفا فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر بن الطفيل إيّاه و ما أصاب رسول اللّه بسببه و أنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية».

روي عن ابن عبّاس أنّه صلى اللّه عليه و آله قال في صفة الشهداء: إنّ أرواحهم في أجواف طير خضر و أنّها ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تسرح حيث شاءت و تأوي إلى قناديل

ص: 9

من ذهب تحت العرش فلمّا رأوا أطيب مسكنهم و مطعمهم و مشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه و ما صنع اللّه بنا كي يرغبوا في الجهاد.

قال الفيض في الصافي: إنّه قيل للصادق عليه السّلام: إنّ الناس يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر حول العرش فقال عليه السّلام: لا، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حواصل طير و لكن في أبدان كأبدانهم.

قوله: [سورة آل عمران (3): الآيات 170 الى 171]

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

[فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و هو شرف الشهادة و الفوز بالحياة الأبديّة و التمتّع بالنعيم المخلّد عاجلا.

[وَ يَسْتَبْشِرُونَ عطف على قوله: «فرحين» و عطف الفعل على الاسم لكون الفعل في تأويل الاسم أي فرحين و مستبشرين. في الكشّاف: بشّرهم اللّه بذلك فهم مستبشرون به. قال البيضاوي: يسرّون بالبشارة [بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي بإخوانهم الّذين لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم [مِنْ خَلْفِهِمْ متعلّق «بيلحقوا» أي الّذين بقوا في الدنيا و هم قد تقدّموهم [أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «أن» هي المخفّفة أي يفرحون بما بشّر لهم و أنّ الّذين بقوا إذا ماتوا أو قتلوا يفوزون بحياة الأبديّة لا يدركهم خوف و لا حزن فوات مطلوب.

و قوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» يكون من كلام الاولى، و بيّن اللّه أحوال الشهداء أنّه لا يكون خوف بسبب توقّع المكروه النازل في المستقبل و لا يصيبهم حزن بسبب فوات أمر من الماضي.

[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ كرّر الاستبشار لبيان أنّ الاستبشار المذكور ليس بمجرّد عدم الخوف و الحزن بل به و بما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها و هي ثواب أعمالهم و زيادة عظيمة و أنّه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين كافّة سواء كانوا شهداء أو غيرهم، أو الاستبشار الأوّل بسبب سعادة إخوانهم و الثاني بسعادة أنفسهم.

ص: 10

فإن قيل: أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم و الفرح عين الاستبشار؟ فالجواب أنّ الاستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم تكرار، أو أنّ حصول الفرح بما حصل لهم في الحال و حصول الاستبشار بما عرفوا ما يحصل لهم في الآخرة.

قال الرازيّ: «و أنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين» عندنا دالّة على العفو عن فسّاق أهل الصلاة؛ لأنّه بإيمانه استحقّ الجنّة فلو بقي بسبب فسقه مؤبّدا مخلّدا لما وصل إليه أجر إيمانه فحينئذ يضيع أجر المؤمنين، و ذلك خلاف الآية.

[سورة آل عمران (3): آية 172]

الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

. أي الّذين أطاعوا فيما أمروا به و نهوا عنه من بعد ما أصابهم الجرح في غزوة احد يعني المقروحين الّذين اتّبعوا جميع المأمورات [وَ اتَّقَوْا] أي الّذين انتهوا عن المنهيّات ثواب عظيم و جملة قوله: «للّذين» خبر مقدّم مبتدؤه [أَجْرٌ عَظِيمٌ و كلمة «من» في قوله:

«منهم» ليست للتبعيض لأنّ الّذين استجابوا للّه و الرسول كلّهم قد أحسنوا لا بعضهم بل هي لبيان الجنس.

و سبب نزول الآية أنّه لمّا رجع أبو سفيان و أصحابه من احد فبلغوا الروحاء و هو موضع بين مكّة و المدينة ندموا و همّوا بالرجوع حتّى يستأصلوا ما بقي من المؤمنين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان و قال: لا يخرجنّ معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس أي وقعتنا، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إراءة من نفسه و من أصحابه جلدا و قوّة و معه جماعة حتّى بلغوا حمراء الأسد و هي من المدينة على ثمانية أميال و كان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم أي حملوا المشقّة كيلا يفوتهم الأجر و ألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فرجعوا فنزلت الآية فهذه هي غزوة حمراء الأسد.

[سورة آل عمران (3): الآيات 173 الى 175]

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

.

ص: 11

روي أنّ أبا سفيان لمّا عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكّة نادى: يا محمّد موعدنا موسم بدر الصغرى لقابل نقتتل بها إن شئت، فقال صلى اللّه عليه و آله: «إن شاء اللّه» فلمّا كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل مرّ الظهران فألقى اللّه الرعب في قلبه. و المراد من قوله «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» المؤمنون.

[إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان و أصحابه [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أي اجتمعوا لحربكم، و القائل قيل: نعيم بن مسعود الأشجعيّ أو ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم أبو سفيان حمل بعير من زبيب أن ثبّطوا المسلمين.

و قيل: إنّ أبا سفيان لقي نعيم بن مسعود و قد قدم معتمرا فقال له: يا نعيم إنّي واعدت محمّدا أن نلتقي بموسم بدر إلّا أنّ هذا العام عام جدب و لا يصلحنا إلّا عام نرعي فيه الشجر و نشرب فيه اللبن و قد بدا لي أن أرجع و لكن إن خرج محمّد و لم أخرج زاده ذلك جرأة فاذهب إلى المدينة فثبّطهم و لك عندي عشر من الإبل، و ضمنها سهيل بن عمرو فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهّزون للخروج فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد أ فترون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد؛ فأثّر هذا الكلام في قلوب قوم منهم، فلمّا عرف رسول اللّه ذلك منهم قال: و الّذي نفسي بيده لأخرجنّ و لو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين كلّهم يقولون:

«حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ».

[فَزادَهُمْ القول [إِيماناً] و لم يلتفتوا إلى ذلك بل ازداد اطمئنانهم و أظهروا حميّة الإسلام [وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا اللّه و نعم الموكول إليه اللّه.

[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ الفاء فصيحة أي خرجوا إليهم و وافوا الموعد فرجعوا عن مقصدهم ملتبسين نعمة عظيمة من اللّه لا يقادر قدرها كائنة منه تعالى و هي العافية على الإيمان و حذر العدوّ منهم و ربح عظيم في التجارة في سبيل اللّه.

[لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] سالمين من المكاره، روي أنّه صلى اللّه عليه و آله وافى بجيشه بدر الصغرى و كانت موضع سوق لبني كنانة يجتمعون فيها كلّ عامّ ثمانية أيّام و لم يلق رسول اللّه هناك أحدا من المشركين و أتوا السوق و كانت معهم تجارات فباعوا و اشتروا أريا (1) و زبيبا و ربحوا و أصابوا

ص: 12


1- الارى: العسل.

بالدرهم درهمين و انصرفوا إلى المدينة غانمين و رجع أبو سفيان إلى مكّة فسمّى أهل مكّة جيشه جيش السويق و قالوا: إنّما خرجتم لتشربوا السويق.

[وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في كلّ ما أتوا من قول و فعل [وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ حيث تفضّل عليهم بزيادة الإيمان و التصلّب في الدين و إظهار الجرأة على العدوّ. و روي أنّهم قالوا: هل يكون هذا غزو؟ فأعطاهم اللّه ثواب الغزو.

[إِنَّما ذلِكُمُ إشارة إلى المثبّط أو إلى من حمل المثبّط على التثبيط، و الخطاب للمؤمنين و هو مبتدأ [الشَّيْطانُ خبره [يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جملة مستأنفة مبيّنة لشيطنته و المراد «بأوليائه» أبو سفيان و أصحابه أو نعيم الأشجعيّ و من أمره.

فإن قيل: إنّ الّذين سمّاهم اللّه بالشيطان إنّما خوّفوا المؤمنين فما معنى «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ»؟ قال ابن عبّاس: المفعول الأوّل في «يخوّفكم» محذوف فتقدير الكلام: ذلكم الشيطان يخوّفكم بأوليائه، و حذف الجارّ مثل قوله: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» (1) أي بيوم التلاق، و حذف المفعول مثل قوله: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» (2) أي إذا خفت عليه فرعون. و في قراءة أبيّ بن كعب «يخوّفكم بأوليائه».

و قيل: إنّ التخويف يتعدّى إلى مفعولين من غير حرف يقال. خوّفته القتال، و لا يحتاج إلى تقدير حرف جرّ و حذفه كما عليه قراءة ابن مسعود.

و قيل في معنى الآية قول آخر و هو أنّ الشيطان يخوّف أولياءه و هم المنافقون ليقعدوا عن قتال المشركين مثل أبي سفيان و أصحابه فأمّا أولياء اللّه فإنّهم لا يخافونهم إذا خوّفهم و لا ينقادون لأمره.

و الضمير في [فَلا تَخافُوهُمْ على المعنى الأوّل راجع إلى الأولياء و على القول الثاني عائد إلى الناس في قوله: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» [وَ خافُونِ بحذف الياء [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

[سورة آل عمران (3): الآيات 176 الى 178]

وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

ص: 13


1- المؤمن: 15
2- القصص: 7

قرأ نافع في جميع القرآن «يَحْزَنُونَ»* بضمّ الياء و كسر الزاي إلّا قوله: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (1) فإنّه فتحها و ضمّ الزاي. و قرأ الباقون أجمعون في جميع القرآن بفتح الياء و ضمّ الزاي.

و قرأ أبو جعفر عليه السّلام عكس ما قرأ نافع فإنّه فتح الياء في جميع القرآن إلّا قوله:

«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» فإنّه ضمّ الياء.

المعنى: لمّا علّم اللّه المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إيّاهم خصّ رسوله بضرب من التعليم في هذه الآية فقال: [وَ لا يَحْزُنْكَ أيّها الرسول [الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] لغاية حرصهم عليه و شدّة رغبتهم فيه و هم المنافقون المتخلّفون الّذين يسارعون إلى ما أبطنوه من الكفر مظاهرة للكفّار و سعيا في إطفاء نور اللّه [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] و لا يرد الضرر إلّا على أنفسهم.

[يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ] و المراد من إرادة اللّه عدم جعل النصيب لهم في الآخرة و تركهم في طغيانهم و كفرهم و عدم إجبارهم على الإيمان لأنّه ليس في سنّة التكليف إجبار؛ و لذلك تركهم بسوء اختيارهم إلى أن يهلكوا على الكفر لأنّ كفرهم بلغ النهاية و لا يستحقّون الرحمة أبدا [وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مع ذلك الحرمان الكلّيّ من الثواب.

[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أخذوه بدلا منه رغبة فيما أخذوه [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] لأنّه تعالى غنيّ عن كفرهم و إيمانهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] الموصول مع صلته فاعل «يحسبنّ» [أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ و «ما» في الكلام موصولة أو مصدريّة و كان حقّها في قياس علم الخطّ أن يكتب مفصولة لكنّها وقعت في مصحف عثمان متّصلة فتبعوه الكتّاب، و الإملاء إطالة المدّة.

ص: 14


1- الأنبياء: 103.

بيّن سبحانه أنّ إمهال الكفّار لا ينفعهم إذا كان يؤدّي إلى العقاب أي لا يظنّ الّذين كفروا أنّ إطالتنا لأعمارهم خير لهم من القتل في سبيل اللّه لأنّ قتل الشهداء أدّاهم إلى الجنّة و بقاء هؤلاء الكفّار في الكفر يؤدّيهم إلى النار و نطيل عمرهم و نترك المعاجلة لعقوبتهم.

[لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم، و اللام لام العاقبة مثل قولهم:

أموالنا لذوي الميراث نجمعهاو دورنا لخراب الدهر نبنيها

و قول الآخر: لدوا للموت و ابنوا للخراب.

و لا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة و الغرض؛ لأنّها لو كانت لام الغرض و الإرادة يوجب أن يكون الكفّار مطيعين للّه من حيث فعلوا ما وافق إرادته تعالى، و ذلك لم يقل به أحد، و لأنّ إرادة القبيح قبيحة و هو تعالى منزّه عن القبيح و قد قال: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1) و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (2) و قال: «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» (3) فالّذين فسّروا اللام بلام الإرادة من أهل السنّة و الجماعة بمعزل عن القبول.

و دلّت الآية على أنّ إطالة عمر الكافر و إيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس بخير بل نقمة في الحقيقة لأنّ الخبيص المسموم لا يعدّ نعمة.

و في تفسير روح البيان: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: خير الناس من طال عمره و حسن عمله و شرّ الناس من طال عمره و ساء عمله.

قال اللّه تعالى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة المعراج: إنّ من نعمتي على امّتك أنّي قصّرت أعمارهم كي لا تكثر ذنوبهم و أقللت أموالهم كيلا يشتدّ في القيامة حسابهم و أخّرت زمانهم كيلا يطول في القبور حبسهم.

و قال أيضا: يا أحمد لا تتزيّن بلين اللباس و طبب الطعام و لين الوطأة فإنّ النفس

ص: 15


1- الذاريات: 56.
2- النساء: 63.
3- البينة: 5.

مأوى كلّ شرّ و هي رفيق سوء كلّما تجرّها إلى طاعة تجرّك إلى معصية، و تخالفك في الطاعة و تطيع لك في المعصية و تطغى إذا شبعت و تتكبّر إذا استغنت و هي قرينة للشيطان و قيل في النفس: مثلها كمثل النعامة تأكل الكثير و إذا حمّلت عليها لا تطير، و إذا قيل:

أنت طائر، قالت: أنا بعير و هذه رجلي، و إذا حمّلت عليها شيئا، قالت: أنا طائر و هذا جناحي.

فكثرة المال تغرّ النفس.

قال الحقّيّ في تفسيره: و عن عائشة أنّها قالت: قلت لرسول اللّه ألا تستطعم اللّه فيطعمك لما رأيت به من الجوع و شدّ الحجر من السغب؟ قال صلى اللّه عليه و آله: يا عائشة و الّذي نفسي بيده لو سألت ربّي أن يجري معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض و لكنّي اخترت جوع الدنيا على شبعها و فقر الدنيا على غنائها و حزن الدنيا على فرحها، يا عائشة إنّ الدنيا لا تنبغي لمحمّد و لا لآل محمّد، و الدنيا و الآخرة ضرّتان فمن يطلب الجمع بينهما فهو ممكور و من يدّعي الجمع بينهما فهو مغرور و من رام متابعة الهوى و ترك البلوغ إلى الدرجات العلى فهو غريق في الغفلة، الحديث.

و بالجملة يا أيّها الإخوان اعلموا أنّ الّذين مضوا قبلنا من الأمم قد عاشوا طويلا و جمعوا كثيرا فما أغنتهم أموالهم فتذكّروا موتهم و مصارعهم تحت التراب و تأمّلوا كيف تبدّدت أجزاؤهم و كيف أرملوا نساءهم و أيتموا أولادهم و ضيّعوا أموالهم و هلكت بعدهم صغارهم و كبارهم و انقطعت آثارهم و ديارهم؟ فلم يرجع من كفر بنعمة اللّه إلّا إلى العذاب، فمن كانت غفلته كغفلتهم فستصير إلى ما صاروا و إن عاش طويلا فإنّ اللّه يمهل و لا يهمل قال اللّه تعالى: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» (1) و ما التمتّع بها إلّا قليل فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 179]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

. النزول: قيل: إنّ المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمّد صادقا فليخبرنا

ص: 16


1- لقمان: 24.

من يؤمن منّا و من يكفر فإن وجدنا مخبره كما أخبرنا آمنّا به فذكر ذلك للنبيّ فأنزل اللّه هذه الآية.

قال الرازيّ في تفسيره: هذه الآية من بقيّة الكلام في قصّة احد؛ فأخبر تعالى أنّ الأحوال الّتي وقعت في وقعة احد من القتل و الهزيمة ثمّ دعاء النبيّ إيّاهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدوّ ثمّ دعاؤه إيّاهم مرّة اخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان فأخبر سبحانه أنّ كلّ هذه الأحوال لامتياز المؤمن من المنافق لأنّ المنافقين خافوا و رجعوا و شتموا بكثرة القتلى منكم ثمّ تبطّؤ المؤمنين عن العود إلى الجهاد فأخبر سبحانه أنّه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم و إظهارهم أنّهم منكم و من أهل الإيمان بل كان في حكمته رفع هذه الشبهات حتّى يحصل الامتياز فهذا وجه النظم.

و «ماز» يتعدّى إلى المفعول و قرئ «يميز» مخفّفا و مشدّدا و منه الحديث من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة و حجّة.

و المعنى: [ما كانَ اللَّهُ ليذركم يا معشر المؤمنين [عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمن بالمنافق و أشباهه [حَتَّى يَمِيزَ] المنافق من المؤمن.

و اختلفوا بأيّ شي ء ميّز بينهم: قيل: بإلقاء المحن و القتل و الهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه و تصديق الرسول و من كان منافقا ظهر نفاقه و إنكاره.

و قيل: إنّ اللّه وعد بنصرة المؤمنين و إذلال الكافرين فلمّا قوي الإسلام عظمت دولته و ذلّ الكفر و أهله فعند ذلك حصل الامتياز.

و قيل: القرائن الدالّة مثل أنّ المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام و المنافقين كانوا يغتمّون بسبب ذلك.

فإن قيل: إنّ هذا التميّز إن ظهر و انكشف يبقى كونهم منافقين و إن لم يظهر لم يحصل موعود اللّه؛ فالجواب أنّه ظهر عند الملائكة و خواصّ المؤمنين و عند الرسول و عند البعض حصل الامتياز الظنّيّ لا القطعيّ.

ثمّ قال: [وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ معناه أنّه سبحانه لا يظهر على غيبه

ص: 17

عامّة الناس فيعلموا ما في القلوب أنّ هذا مؤمن و هذا منافق و لا يكون له تعالى أن يبيّن أنّ فلانا من أهل الجنّة و فلانا من أهل النار لعامّة الناس بل يكون يعرف هذا الأمر من الإطاعة و المعصية و الامتحانات فأمّا معرفة ذلك على الاطّلاع من الغيب فهو من خواصّ الأنبياء و لهذا قال:

[وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ] فخصّهم بإعلامهم أنّ هذا مؤمن و هذا منافق أو المعنى: و لكنّ اللّه يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتّى يتميّز الفريقان بالامتحان. و يمكن أن يكون المعنى: و ما كان اللّه ليجعلكم كلّكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتّى تصيروا مستغنين عن الرسول بل اللّه يخصّ من يشاء من عباده بالرسالة ثمّ يكلّف الباقين طاعة هؤلاء الرسل.

ثمّ قال سبحانه: [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و لا تشكّوا في دين الإسلام [وَ إِنْ تُؤْمِنُوا] حقّ الإيمان [وَ تَتَّقُوا] النفاق [فَلَكُمْ بمقابلة ذلك الإيمان و التقوى [أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يبلغ كنهه، و هذا الأجر على قدر عظم التقوى فإنّ السير في مسلك التقوى يتهيّأ بقدمي التقوى إلى أن يبلغ السائر بمقام لا يصدر منه المباحات و يكون سعيه أن يجعل المباحات مستحبّات.

قال إبراهيم بن أدهم: بتّ ليلة تحت صخرة بيت المقدس فلمّا كان بعض الليل رأيت في الرؤيا أنّه نزل ملكان فقال أحدهما: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم، فقال:

ذلك الّذي حطّ اللّه درجة من درجاته، فقال: لم؟ قال: لأنّه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة على تمره من تمر البقّال فلم يردّها.

قال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة و اشتريت التمر من ذلك الرجل و أوقعت تمرة على تمره و رجعت إلى بيت المقدس و بتّ في الصخرة فلمّا كان بعض الليل إذ أنا بملكين قد نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: من هنا؟ فقال أحدهما: ذلّك الّذي ردّ التمرة إلى مكانها فرفعت درجته.

فهذا هو التقوى على الحقيقة و لا يتيسّر مثل هذا المقام إلّا بالتوسّل إلى اقتداء رسول اللّه كما قال سبحانه: «وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» (1) فيا أخي لا تضيّع أيّامك فإنّ أيّامك رأس

ص: 18


1- المائدة: 35.

مالك و إنّك مادمت قابضا على رأس مالك قادر على طلب الربح فإنّ الموتى يتمنّون أن يؤذن لهم بأن يصلّوا ركعتين أو يقولوا مرّة: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ»* أو يسبّحوا مرّة فلا يؤذن لهم و يتعجّبون من الأحياء كيف يضيّعون أيّامهم في الغفلة.

[سورة آل عمران (3): آية 180]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

. لمّا بالغ في التحريص على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدّمة شرع في التحريص على بذل المال و بيّن الوعيد الشديد لمن يبخل يبذل المال المقرّر إنفاقه في سبيله.

قرأ حمزة بالياء و الباقون بالباء؛ قال الزجّاج: على الخطاب معنى الآية: و لا تحسبنّ بخل الّذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة «يبخلون» عليه، و أمّا من قرأ بالياء المنقّطة من تحت أي لا يحسبنّ ضمير رسول اللّه أو ضمير أحد بخل الّذين يبخلون خيرا لهم، أو يكون فاعل «يحسبنّ» كلمة «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» فيكون المفعول محذوفا و تقديره:

[وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بخلهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» فحاصل المعنى: لا يحسبنّ البخلاء [هُوَ] أي البخل [خَيْراً لَهُمْ من إنفاقهم و «خيرا» مفعول ثان ليحسبنّ [بَلْ هُوَ] أي البخل [شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم [سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ] بيان لقوله: «هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق.

اختلف في معناه فقيل: الكلام من قبيل الاستعارة التمثيليّة شبّه لزوم وبال البخل و إثمه بهم بلزوم طوق الحمامة بها في عدم زوال الطوق عنها فعبّر عن لزوم الوبال بهم بالتطويق. و هذا المعنى يحتاج إلى تمحّل المجاز و خروج من الحقيقة و لا حاجة لنا به على أنّ هذا المعنى مخالف لأخبار كثيرة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و المعنى الصحيح هو أن يجعل ما بخل به طوقا على عنق البخيل حقيقه و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و هو قول ابن مسعود و ابن عبّاس و السدّيّ و الشعبيّ و جماعة.

ص: 19

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من رجل لا يؤدّي الزكاة إلّا جعل في عنقه شجاع يوم القيامة ثمّ تلا هذه الآية و قال: ما من ذي رحم يأتي رحمه يسأله من فضل ما أعطاه اللّه إيّاه فيبخل به عنه إلّا أخرج اللّه له من جهنّم شجاعا يتلمّظ بلسانه حتّى يطوّقه و تلا هذه الآية.

و قيل: معنى الآية: يجعل في عنقه يوم القيامة طوق من نار.

و قال ابن عبّاس: يجعل الزكاة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خدّيه و يقول: أنا الزكاة الّتي بخلت في الدنيا بي.

و قيل: المعنى سيكلّفون ما بخلوا به يوم القيامة أن يؤتوا به فيكون ذلك توبيخا و تشديدا لعذابهم.

و لكنّ الصحيح حمل الكلام على الحقيقة لأنّ الروايات وردت بها كما في رواية اخرى: يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدميه و تنقّر رأسه و يقول: أنا مالك.

و في حديث اخرى قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقّها إلّا اتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون و أسمنها تطأه بأخفافها و تنطحه بقرونها كلّما جازت اخراها ردّت عليه أولاها حتّى يقضى بين الناس.

قال أبو حامد: مانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله، له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم، و مانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم، و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم، و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف و مانع الزكاة من الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الّذي كان يبخل به برّا كان أو شعيرا أثقل ما يكون، ينادي تحته بالويل و الثبور.

و قال: مانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدار بجيده و ثقل على كاهله كأنّه طوق بكلّ رحى في الأرض و تقول الملائكة: هذا ما بخلتم به.

ص: 20

[وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما يتوارثه أهلهما من مال و غيره من الرسالات الّتي يتوارثها أهل السماوات فما لهم يبخلون عليه بملكه أو المعنى أنّه يرث منهم ما يمسكونه عند هلاكهم [وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] من المنع و الإعطاء فيجازيكم بحسبه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله حصّنوا أموالكم بالزكاة و داووا مرضاكم بالصدقة و استقبلوا البلايا بالدعاء قال صلى اللّه عليه و آله: لا صلاة لمن لا زكاة له.

روي أنّ موسى عليه السّلام مرّ برجل و هو يصلّي مع حضور القلب و خشوع فقال:

يا ربّ ما أحسن صلاته، فقال اللّه: لو صلّى في كلّ يوم و ليلة ألف ركعة و أعتق ألف رقبة و صلّى على ألف جنازة و حجّ ألف حجّة و غزا ألف غزوة لم ينفعه حتّى يؤدّي زكاة ماله.

و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ملعون مال لا يزكّى كلّ عام، و ملعون بدن لا يبتلي في كلّ أربعين ليلة، و من البلاء النكبة و العثرة و المرضة و الخدشة و اختلاج العين فما فوق ذلك.

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

وجه النظم: قال الطبرسيّ: لمّا نزلت «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً»* (1) قالت اليهود: إنّ اللّه فقير يستقرض منّا و نحن أغنياء. و قائله حييّ بن أخطب و قيل: كتب النبيّ صلى اللّه عليه و آله مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا فدخل أبو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص بن عازورا، فدعاهم إلى الإسلام و الصلاة فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقّا فإنّ اللّه إذن لفقير و نحن أغنياء، و لو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا فغضب أبو بكر و ضرب وجهه فنزلت الآية.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّه يبعد من العاقل أن يقول: «إنّ اللّه فقير و نحن أغنياء» و قد صدر هذا الكلام منهم فإمّا أن ذكروه على سبيل الاستهزاء و السخريّة على سبيل

ص: 21


1- البقرة: 245.

الطعن في نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و المعنى: لو صدق محمّد في أنّ الإله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا و لمّا كان ذلك محالا ثبت أنّه كاذب.

و بالجملة فلو كان القائل بهذا الكلام فنحاص فوجه الجمع رضى الباقين بذلك.

المعنى: أدرك سبحانه و علم قول القائلين [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] أي ذو حاجة لأنّه يستقرض منّ [وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ] عن الحاجة و إنّما قالوه تلبيسا على عوامّهم، و قيل: معناه أنّ اللّه فقير لأنّه يضيّق علينا الرزق و نحن أغنياء لأنّا نوسّع الرزق على أهالينا.

[سَنَكْتُبُ ما قالُوا] أي سنكتب قولهم في صحائف الحفظة و لا نهمله، و السين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه و إثباته كيف لا و هو كفر باللّه و استهزاء بالقرآن العظيم و الرسول الكريم؟

[وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ] أي سنكتب قتلهم الأنبياء و المراد أسلافهم و هم راضون بفعل آبائهم إذ لم ينهوهم. و في العطف إيذان بأنّهما في العظم أخوان. و في الآية دلالة على أنّ الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم لأنّ اليهود الّذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولّوا ذلك بأنفسهم و إنّما ذمّوا بذلك لأنّهم بمنزلة من تولّى في عظم الإثم [بِغَيْرِ حَقٍ متعلّق بمحذوف وقع حالا من «قتلهم» أي كائنا بغير حقّ و جرم في اعتقاداتهم و في نفس الأمر.

[وَ نَقُولُ عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتب [ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ نقول: ذوقوا عذاب المحرق كما أذقتم المرسلين الغصص.

[ذلِكَ إشارة إلى العذاب المذكور [بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء و التفوّه بمثل تلك العظيمة، و التعبير عن الأنفس «بالأيدي» لأنّ أكثر الأعمال يزاول و يداوم بهنّ فاستعمل على التغليب.

[وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] و إنّما ذكر لفظ «الظلّام» و هو للتكثير تأكيدا لنفي مطلق الظلم.

ص: 22

[سورة آل عمران (3): آية 183]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)

. هذه شبهة للكفّار في طعن نبوّته صلى اللّه عليه و آله و تقريرها: أنّهم قالوا: [إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] و أنت يا محمّد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء.

قال ابن عبّاس: نزلت الآية في كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و مالك بن الصيف و وهب بن يهودا و زيد بن التابوت و فنحاص و غيرهم أتوا رسول اللّه فقالوا: تزعم أنّك رسول اللّه و أنّه تعالى أنزل عليك كتابا و قد عهد اللّه إلينا في التوراة «أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» و يكون لها دويّ خفيف ينزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدّقناك، فنزلت الآية.

قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبّحون للّه فيأخذون الشروب و أطائب اللحم فيضعونها في وسط بيت و السقف مكشوف فيقوم النبيّ في البيت و يناجي ربّه و بنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دويّ خفيف و لا دخان لها فتأكل ذلك القربان. و هذا الاقتراح منهم غلط و عناد؛ لأنّ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلّا لكونه معجزة فهو و سائر المعجزات سواء؛ و ذلك لأنّ اليهود ادّعوا أنّ اللّه قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنّه نبيّ فلا تصدّقوه حتّى يأتيكم بقربان تأكله النار.

قال الرازيّ: و للعلماء في هذا الادّعاء قولان:

الأوّل: و هو قول السدّيّ: أنّ هذا الكلام جاء في التوراة و لكنّه مع شرط و ذلك أنّه تعالى قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنّه نبيّ فلا تصدّقوه حتّى يأتيكم بقربان تأكله النار إلّا المسيح و محمّدا فإنّهما إذا أتيا فآمنوا بهما فإنّهما يأتيان بغير قربان تأكله النار.

و القول الثاني: أنّ هذا الكلام كذب على التوراة لأنّه لو كان ذلك حقّا لكانت معجزات كلّ الأنبياء هذا القربان و معلوم أنّه ما كان الأمر كذلك؛ فإنّ معجزات موسى عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان.

ص: 23

و بالجملة ردّ اللّه عليهم هذه الشبهة بقوله: [قُلْ لهم يا محمّد: [قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ كثيرة العدد كبيرة المقدار [مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الواضحة [وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ بعينه من القربان الّذي تأكله النار [فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّكم تؤمنون لرسول يأتيكم بقربان تأكل النار فإنّ زكريّا و يحيى و غيرهما من الأنبياء قد جاءوكم بما قلتم فلم قتلتموهم و لم تؤمنوا لهم؟

و «القربان» البرّ الّذي يتقرّب به إلى اللّه و أصله المصدر كالكفران و الخسران ثمّ سمّي به نفس المتقرّب به و منه قوله صلى اللّه عليه و آله لكعب بن عجرة: يا كعب الصوم جنّة و الصلاة قربان. أي بها يتقرّب إلى اللّه و يستشفع في الحاجة لديه.

[سورة آل عمران (3): آية 184]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

. أي فإن كذّبوك في نبوّتك فطالما كذّبوا رسلا من قبلك و أنكروهم مثل نوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب بل قتلوهم مثل يحيى و زكريّا، و المقصود تسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و بيان أنّ هذا التكذيب ليس أمرا مختصّا به بل شأن جميع الكفّار تكذيب الأنبياء و هم صبروا على ما نالهم فكن متأسّيا سالكا طريقتهم؛ لأنّ المصيبة إذا عمّت طابت و خفّت.

و أمّا البيّنات فهي الدلائل و المعجزات و أمّا الزبر فهي الكتب و هي جمع «زبر» بمعنى المزبور أي المكتوب. قال الزجّاج: الزبور كلّ كتاب ذي حكمة. و على هذا فالأنسب أن يكون معنى الزبور من الزبر الّذي هو الزجر يقال زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل و سمّي الكتاب زبورا لما فيه من الزبر عن خلاف الحقّ و به سمّي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر و المواعظ و «المنير» الموضح.

و من المعلوم أنّ المواعظ الحسنة و الزواجر المصلحة تطهّر النفس من الصفات الرذيلة بشرط أن يكون الإنسان خاليا عن العناد و الإصرار حتّى يرى الحقّ حقّا و الباطل باطلا فحينئذ يهتدي بسراج الشريعة و علامة اهتدائه انقطاعه عن ميل الدنيا و اتّباع الهوى.

ص: 24

روي أنّ عيسى عليه السّلام مرّ بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية و الطرق فقال: يا معشر الحواريّين إنّ هؤلاء ماتوا على سخط و لو ماتوا على غير ذلك لتدافنوا فقالوا: يا روح اللّه وددنا أنّا علمنا خبرهم، فسأل عليه السّلام ربّه فأوحى اللّه اليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك؛ فلمّا كان الليل أشرف على الموتى ثمّ نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب: لبّيك يا روح اللّه فقال: ما حالكم و ما قصّتكم؟ قال: بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية، قال: و كيف ذلك؟ قال:

لحبّنا الدنيا و طاعتنا أهل المعاصي، قال: و كيف كان حبّكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبيّ لأمّه إذا أقبلت فرحنا و إذا أدبرت حزنّا، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنّي ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: كيف أجبتني من بينهم؟ قال: لأنّي كنت فيهم و لم أكن منهم فلمّا نزل العذاب أصابني فأنا معلّق على شفير جهنّم لا أدري أ أنجو منها أم أكبكب فيها؟ انتهى.

و إيّاك أيّها الإنسان و التكذيب و الإنكار فيما بيّنه الأنبياء و أهل الذكر و قد نهى الحكماء الإلهيّة أن لا يجالس الجاهل أهل الإنكار بل يكون لا يلتفت إليهم أصلا إذ المجاورة مؤثّرة و من موجبات تشكيك الأمر و تشويق الذهن كما قيل:

عدوى البليد إلى الجليد سريعةو الجمر توضع في الرماد فتخمد

[سورة آل عمران (3): آية 185]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

. أي كلّ نفس تخرج و تنفكّ من البدن بسبب الموت فكنّي بالذوق عن القلّة. في الحديث: لمّا خلق اللّه آدم اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلّا و يدفن في التربة الّتي أخذ منها.

[وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ و تعطون جزاء أعمالكم خيرا كانّ أو شرّا تامّا وافيا [يَوْمَ الْقِيامَةِ] أي يوم قيامكم من قبوركم و لعلّ في لفظ «التوفية» إشعارا بأنّ بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عن هذا قوله صلى اللّه عليه و آله: الفقر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران.

[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ] و بعد عنها يومئذ و «الزحزحة» تكرير الزحّ و هو الجذب

ص: 25

بعجلة [وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ] بالنجاة و نيل المراد، قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من أحبّ أن يزحزح عن النار و ادخل الجنّة فلتدركه منيّته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر و يأتي إلى الناس بما يحبّ أن يؤتى به.

[وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا] و زخارفها و لذّاتها [إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ] شبّهها سبحانه بالمتاع الّذي يدلّس به على المستام (1) و تغترّ حتّى يشتريه و هذا لمن آثرها على الآخره؛ فالعاقل لا يغترّ بالدنيا فإنّها ليّن مسّها قاتل سمّها ظاهرها مطيّة السرور و باطنها مطيّة الشرور.

قال صلى اللّه عليه و آله: لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا و ما عليها. و ممّا نزل على بعض أنبيائه:

يا ابن آدم تشتري النار بثمن غال و لا تشتري الجنّة بثمن رخيص. قيل في معناه: إنّ فاسقا يتّخذ ضيافة للفسّاق بمائة درهم أو أكثر فيشتري النار و لو اتّخذ للفقراء بدرهم أو درهمين يكون ثمن الجنّة.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 186]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

. بيّن سبحانه أنّ الكفّار بعد أن آذوا الرسول و المؤمنين يوم احد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكلّ طريق يمكنهم بالمال و النفس، و الغرض من هذا الإعلام أن يوطّنوا أنفسهم على الصبر و ترك الجزع.

قال الواحديّ: اللام لام القسم و النون دخلت مؤكّدة و ضمّت الواو لسكونها و سكون النون و لم يكسر لالتقاء الساكنين لأنّها واو جمع فحرّكت بما كان تجب لما قبلها من الضمّ و مثله «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ»* (2).

أي تعاملون معاملة المختبر لأنّه لا يجوز له في وصف الاختبار، و المراد ما ينالهم من الشدّة و الفقر و القتل و الجرح و الهزيمة من جهة الكفّار و الصبر على الجهاد و التكاليف المتعلّقة بالبدن و المال من الصلاة و الزكاة.

ص: 26


1- افتعال من السوم، و المراد المشترى.
2- البقرة: 16.

[وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى [وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] من الناس كأبي جهل و أبي سفيان و الوليد و أضرابهم [أَذىً كَثِيراً] من الطعن في الدين الحنيف و القدح في أحكام الشريف و صدّ من أراد أن يؤمن و تخطئة من آمن و ما كان من كعب بن الأشرف اليهوديّ و أصحابه من هجاء المؤمنين فأخبر اللّه المؤمنين بذلك قبل وقوعها لتوطين النفس على الصبر و يستعدّوا للقائها فإنّ هجوم الأوجال ممّا يزلزل أقدام الرجال و الاستعداد للكروب ممّا يهوّن الخطوب.

[وَ إِنْ تَصْبِرُوا] على تلك الشدائد و البلوى بحسن التقابل [وَ تَتَّقُوا] و تحترزوا عمّا لا ينبغي [فَإِنَّ ذلِكَ أي الصبر و التقوى من معزومات الأمور الّتي يتنافس فيها المتنافسون، أو المعنى ممّا عزم اللّه عليكم فيه و الزمتم الأخذ به و أصل العزم من قول الرجل: عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمته إيّاك لا محالة على وجه لا يجوز لك الترخّص في تركه.

قوله: [سورة آل عمران (3): آية 187]

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

. بيان النظم أنّه تعالى أوجب على أهل الكتابين من امّة موسى و عيسى عليهما السّلام في أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل على صحّة نبوّة محمّد و علائمه صلى اللّه عليه و آله فشرعوا يحرّفونها و يذكرون لها تأويلات فاسدة فبيّن سبحانه أنّ هذا من تلك الجملة الّتي تجب فيها الصبر. و قرأ عاصم و أبو عمرو: «ليبيّننه و لا يكتمونه» بالياء.

المعنى: اذكر يا محمّد وقت أخذه تعالى ميثاق أهل الكتاب و هم علماء اليهود و النصارى و ذلك الأخذ على لسان الأنبياء [لَتُبَيِّنُنَّهُ و الضمير للكتاب و اللام للقسم كأنّه قيل لهم: باللّه لتبيّننّه [لِلنَّاسِ و تظهرنّ جميع ما فيه من الأخبار الّتي من جملتها أمر نبوّته صلى اللّه عليه و آله [وَ لا تَكْتُمُونَهُ عطف على جواب القسم.

[فَنَبَذُوهُ النبذ الرمي و الإبعاد أي طرحوا هذا الميثاق [وَراءَ ظُهُورِهِمْ و لم يراعوه و نبذ الشي ء وراء الظهر مثل في الاستهانة به و الإعراض كما أنّ نصب العين مثل في كمال العناية بالأمر.

[وَ اشْتَرَوْا بِهِ أي بالكتاب الّذي أمروا ببيانه و نهوا عن كتمانه و «الاشتراء» مستعار

ص: 27

عن استبدال متاع الدنيا بما كتموا أي أخذوا بدله [ثَمَناً قَلِيلًا] و شيئا قليلا من حطام الدنيا و هو ما تناولوه من سفلتهم و من الرواتب من ملوكهم و كرهوا أن يؤمنوا بمحمّد صلى اللّه عليه و آله فينقطع ذلك عنهم فكتموا ما علموا [فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ و المخصوص بالذمّ محذوف أي بئس شي ء يشترونه ذلك الثمن.

و الآية و إن كانت نازلة في حقّ الّذين كانوا يخفون الحقّ في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله إلّا أنّ حكمها يعمّ من كتم من المسلمين أحكام القرآن الّذي هو أشرف الكتب و أنّهم أشرف أهل الكتاب لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و كلّ من لم يبيّن الحقّ للناس و كتم شيئا من أحكام القرآن أو غيّر و حرّف حكما دخل تحت وعيد الآية قطعا.

قال فضيل بن عياض: لو أنّ أهل العلم أكرموا أنفسهم و شحّوا على دينهم و أعزّوا العلم و أنزلوه حيث أنزله اللّه لخضعت لهم رقاب الجبابرة و انقاد لهم الناس، و لكنّه أذلّوا أنفسهم و لم يسألوا ما نقص من دينهم إذا سلمت دنياهم فذلّوا و هانوا على الناس.

و قال الفضيل: بلغني أنّ الفسقة من العلماء و من حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان فيقولون: ربّنا ما بالنا؟ فيقول اللّه: ليس من يعلم كمن لا يعلم.

حكي أنّ ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا و جعلوا قبور موتاهم على أبوابهم يقتاتون بنبات الأرض و يشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين إلى رئيسهم فقال: مالي حاجة إلى صحبة ذي القرنين فجاء ذو القرنين فقال: ما سبب قلّة الذهب و الفضّة عندكم قال: ليس للدنيا طالب عندنا فجعلنا القبور على أبوابنا حتّى لا ننسى الموت ثمّ أخذ قحف إنسان و قال: هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعيّة و يجمع حطام الدنيا فقبضه اللّه و بقي عليه السيّئات ثمّ أخذ آخر و قال: هذا رأس ملك عادل مشفق فقبضه و أسكنه جنّته ثمّ وضع يده على رأس ذي القرنين و قال: من أيّ الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين و قال له إن رغبت في صحبتي شاطرتك مملكتي و سلّمت إليك وزارتي، فقال: هيهات، فقال ذو القرنين:

و لم قال: لأنّ الناس أعداؤك بسبب المال و أحبابي بسبب القناعة.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)

ص: 28

الخطاب للرسول أو لكلّ أحد يصلح له [الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا] بسبب ما فعلوا من كتمان الحقّ و التدليس و يحبّون أن يحمدوا بأنّهم أهل البرّ و التقوى و الديانة.

قيل: نزلت الآية في الّذين حرّفوا نصوص التوراة و فسّروها بتفسيرات باطلة و أظهروا بأنّا أظهرنا الحقّ و وفينا بالميثاق [وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا] و هو ادّعاؤهم باتّباع دين إبراهيم و أنّه عليه السّلام كان على دين اليهوديّة.

و قال أبو سعيد الخدريّ: نزلت الآية في رجال من المنافقين كانوا يتخلّفون عن رسول اللّه في الغزو و يعتذرون بالمعاذير و يفرحون بقعودهم فيقبل صلى اللّه عليه و آله عذرهم فطمعوا أن يثني صلى اللّه عليه و آله عليهم كما يثني على المسلمين. لكنّ الموصول على عمومه شامل لكلّ من يأتي بشي ء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب و يودّ أن يمدحه الناس بما هو عار منه، و كون السبب خاصّا لا يقدح في عموميّة حكم الآية و قرئ «بما أوتوا» أي اعطوا و قرئ «بما أتوا» و قرأ عليّ عليه السّلام «بما أوتوا» أي «بما أوتوه».

[بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي بمنجاة منه من قولهم: فاز فلان إذا نجا؛ قال الفرّاء: أي ببعد من العذاب؛ لأنّ الفوز معناه التباعد من المكروه [وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له السلطة القاهرة فيهما إيجادا و إعداما [وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فكيف يرجو النجاة من هو معذّبه؟

[سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 193]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)

روى الثعلبيّ بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين أنّ رسول اللّه كان إذا قام من الليل يسوك ثمّ ينظر إلى السماء ثمّ يقول: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ إلى قوله-:

فَقِنا عَذابَ النَّارِ» و قد اشتهرت الرواية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكّيه و لم يتأمّل ما فيها.

ص: 29

قال الطبرسيّ: و روي عن الأئمّة من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة و في الضجعة و بعد ركعتي الفجر.

و عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و ذكر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يأتي بطهور فيخمّر عند رأسه و يوضع سواكه تحت فراشه ثمّ ينام ما شاء اللّه فإذا استيقظ جلس ثمّ قلّب وجهه إلى السماء و تلا الآيات من آل عمران أوّلها «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ» ثمّ يستتر و يتطهّر ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات ثمّ يركع حتّى يقال متى يرفع رأسه و يسجد حتّى يقال متى يرفع رأسه ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران الخمس و هو يقلّب بصره صلى اللّه عليه و آله إلى السماء ثمّ يستتر و يتطهّر و يقوم إلى المسجد و يصلّي أربع ركعات كما ركع أوّلا ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات الخمس و يقلّب بصره في السماء ثمّ يستتر و يتطهّر و يقوم إلى المسجد و يصلّى الركعتين ثمّ يخرج إلى الصلاة.

المعنى: قيل: إنّ أهل مكّة سألوا رسول اللّه أن يأتيهم ببرهان و آية لصحّة دعواه لأنّه كان يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده فنزلت [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ الآية أي في هذه الخلقتين العظيمتين من الشمس و القمر النجوم في خلق السماوات و الجبال و البحار و الأشجار و الوحوش و الطيور.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] بذهاب الليل و مجي ء النهار و اختلاف لونيهما و زيادة كلّ منهما بانتقاص الآخر و انتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بحسب الأزمنة [لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لعبرات كثيرة لذوي العقل الخالص من شوائب التكدير و «اللبّ» خالص العقل فإنّ العقل له ظاهر و له لبّ و في أوّل الأمر يكون عقلا و في حال كماله يكون لبّا.

[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ نعت «لِأُولِي الْأَلْبابِ» أي يذكرونه دائما على الحالات كلّها قائمين و قاعدين و مضطجعين فإنّ الإنسان لا يخلو عن هذه الهيئات غالبا. و قيل: المعنى: يصلّون على قدر إمكانهم في صحّتهم و سقمهم؛ فالصحيح يصلّي قائما

ص: 30

و السقيم جالسا و على جنبيه مضطجعا فسمّي الصلاة ذكرا رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

[وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي و من صفة اولي الألباب أن يعتبروا في خلقهما؛ قال صلى اللّه عليه و آله: تفكّروا في الخلق و لا تفكّروا في الخالق. و إنّما نهى التفكّر في الخالق لأنّ معرفة حقيقة الخالق غير ممكنة، و لمّا كان الإنسان مركّبا من النفس و البدن كانت العبوديّة للبدن بقوله: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ» فإنّ ذلك باستعمال الجوارح و الأعضاء و أشار بعبوديّة النفس بقوله: «وَ يَتَفَكَّرُونَ».

قال الحقّيّ في روح البيان: و عن عطاء بن أبي رياح قال: دخلت مع ابن عمر و عبيد اللّه بن عمر على عائشة فسلّمت عليها فقالت: من هؤلاء؟ فقلت: عبيد اللّه بن عمر فقالت:

مرحبا بك مالك لا تزورنا؟ فقال عبيد اللّه: زر غبّا تزدد حبّا. قال ابن عمر: دعونا من هذا، حدّثينا بأعجب ما رأيت من رسول اللّه فبكت فقالت:

كلّ أمره عجيب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي فقال: يا عائشة أ تاذنين لي أن أتعبّد لربّي فقلت: و اللّه إنّي لا حبّ قربك و هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة ماء فتوضّأ منها ثمّ قال: فبكى و هو قائم حتّى بلغ الدموع حقويه حتّى اتّكأ على شقّه الأيمن و وضع يده اليمنى تحت خدّه الأيمن فبكى حتّى أدرّت الدمرع و بلغت الأرض ثمّ أتاه بلال بعد ما أذن للفجر فلمّا رآه يبكي قال: لم تبكي يا رسول اللّه و قد غفر اللّه لك ما تقدّم و ما تأخّر من ذنبك؟ قال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا و ما لي لا أبكي و قد أنزلت عليّ الليلة «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ إلى قوله- فَقِنا عَذابَ النَّارِ» ويل لمن قرأها و لم يتفكّر فيها، انتهى.

و في الحديث: تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة. و وجه التفضيل أنّ التفكّر عمل القلب و العبادة عمل الجوارح. و القلب أشرف الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح.

[رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا] معنى يتفكّرون في صنعه و يقولون: ربّنا ما خلقت السماوات و الأرض عبثا ضائعا عن الحكمة خاليا عن المصلحة بل منتظما لمصالح عظيمة من جملتها أن تكون مدارا لمعايش العباد و منارا و آثارا إلى معرفة أحوال المبدء و المعاد.

ص: 31

و تذكير الضمير باعتبار تعلّق الخلق لهما في معنى المخلوق.

[سُبْحانَكَ ننزّهك عمّالا يليق بك من الأمور الّتي من جملتها خلق مالا حكمة فيه [فَقِنا عَذابَ النَّارِ] أي من عذاب النار الّذي جزاء الّذين لا يعرفون خالقهم.

و فائدة الفاء الدلالة علي أنّ علمهم بما لأجله خلقت السماوات و الأرض حملهم على الاستعاذة من عذابه فينبغي للإنسان دائما أن يتولّى الذكر باللسان و التفكّر بالقلب و المعرفة بالروح و ذكر اللسان يوصل صاحبه إلى ذكر القلب و هو التفكّر في قدرة اللّه و التفكّر في القلب في قدرة اللّه يوصل إلى مقام الكمال في المعرفة للروح فيخلّص من ظلمة الجهل و يتنوّر بنور المعرفة و لذا قيل: معنى «لا إله إلّا اللّه» للعوامّ: لا معبود إلّا اللّه، و للخواصّ:

لا محبوب و لا مقصود إلّا اللّه.

و مراتب العبوديّة و المعرفة تنقسم إلى قشر و لبّ و لبّ لبّ و تمثيل ذلك بالجوز فإنّ له قشرا و له لبّ و للّبّ دهن و هو لبّ اللبّ فالمرتبة الاولى من العبوديّة أن يقول الإنسان «لا إله إلّا اللّه» و قلبه غافل عنه و هو القشر، و الثانية أن يصدّق قلبه بمعناه و هو اعتقاد و و عمل و هو اللبّ، و الثالثة أن يشاهد ذلك بواسطة نور إلهيّ و يرى الأشياء صادرة من الواحد القهّار و لا يختار لنفسه رضى غير رضى اللّه و هذا المقام لبّ اللبّ كالدهن في الجوز و هو المراد بقوله: «أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (1).

[رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الإخزاء، و المراد طلب الخلق الوقاية من عذابه تعالى و تهويل المستعاذ منه [وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ] و جمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أي و ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار ينصر بالمدافعة و القهر فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأنّها مسألة بطريق اللين.

[رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ و المراد به الرسول فإنّه ينادي و يدعو إلى الإيمان و هو قول الأكثرين و الدليل عليه قوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» (2) «وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ» (3) و قيل، إنّ المنادي هو القرآن كما حكى عن مؤمني الجنّ قوله: «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ» (4) و هذا و إن كان مجازا إلّا أنّه مجاز

ص: 32


1- الزمر: 22.
2- النحل: 125.
3- الأحزاب: 46.
4- الجن: 1- 2.

متعارف و الدليل على هذا الوجه في تفسير الآية أنّه أولى لأنّه ليس كلّ أحد لقي النبيّ صلى اللّه عليه و آله لكنّ القرآن فكلّ أحد سمع به إذا أراد أن يسمع كما قيل: في جهنّم: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى» و الفصحاء يصفون الدهر بأنّه ينادي و يعظ:

يا واضع الميّت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع

و اللام في قوله: «للإيمان» بمعنى «إلى» كقوله: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا» (1) و مثل قوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» (2) و قيل اللام لام الأجل و الغرض و المعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس.

[أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و مالككم و متولّي أموركم [فَآمَنَّا] أي فأجبنا نداءه [رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ] فطلبوا من اللّه في هذا الدعاء غفران الذنوب أوّلا و تكفير السيّئات و أن تكون وفاتهم مع الأبرار.

قيل: المراد من الذنوب في الآية كبائرهم، و من السيّئات الصغائر فإنّها مكفّرة عن مجتنب الكبائر.

و قيل: المراد بهما شي ء واحد و إنّما أعيد للتأكيد فإنّ الإلحاح في الدعاء و المبالغة فيه مندوب و قيل: المراد من الذنوب ما تقدّم، و من السيّئات المستأنف.

و قيل: المراد من الغفران ما يزول بالتوبة، و بالتكفير ما تكفّره الطاعات العظيمة، و «الأبرار» جمع برّ مثل ربّ و أرباب، قال القفّال. أي وفاتهم معهم أن يموتوا على مثل أعمالهم حتّى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة كما يقال: أنا مع فلان، يريد كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد أو كونهم في أتباعهم.

قال الرازيّ: احتجّ أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية و الاستدلال بأنّهم طلبوا غفران الذنوب و لم يكن للتوبة فيه ذكر فدلّ على أنّهم طلبوا المغفرة مطلقا ثمّ إنّ اللّه سبحانه أجابهم لأنّه قال: في آخر الآية «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ» و هذا صريح في أنّه قد يعفو عن الذنب و إن لم توجد التوبة.

ص: 33


1- المجادلة: 7.
2- الزلزلة: 5.

[سورة آل عمران (3): آية 194]

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

. [رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك أو تصديقهم من الثواب و الكرامة [وَ لا تُخْزِنا] لا تهنّا [يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ] اسم مصدر بمعنى الوعد، و هذه الدعوات من كمال الضراعة لا لخوفهم من اختلاف الميعاد بل لخوفهم أن يكونوا من جملة الموعودين لسوء عاقبة أو قصور في الامتثال فإنّه ربّما ظنّ الإنسان أنّه على الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح ثمّ إنّه يظهر له يوم القيامة أنّ اعتقاده كان ضالًّا و عمله كان ذنبا. و قوله: «وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ» مثل قوله: «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». (1)

[سورة آل عمران (3): آية 195]

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

. أي استجاب اللّه لهم طلبتهم. و «استجاب» أخصّ من «أجاب» فإنّ أجاب معناه:

أعطاه الجواب، و هو قد يكون بتحصيل المطلوب و بدونه و استجاب إنّما يقال لتحصيل المطلوب و يعدّى بنفسه و باللام.

[أَنِّي أي بأنّي [لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ و هو ما حكى عنهم من المواظبة على ذكر اللّه في جميع حالاتهم و التفكّر في مصنوعاته استدلالا و الاشتغال بالدعاء [مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان للعامل من غير تفاوت بين الذكر و الأنثى إذا كانا جميعا في التمسّك بالطاعة.

و إشعار في الآية بأنّ الفضل في باب الدين بالأعمال لا بسائر الصفات من نسب خسيس أو شريف و لا تأثير له في هذا الباب.

[بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ و قيل: «من» في الآية بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب و الطاعة؛ روي أنّ امّ سلمه قالت: يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إنّي أسمع اللّه يذكر

ص: 34


1- الزمر: 47.

الرجال في الهجرة و لا يذكر النساء فنزل قوله: «أَنِّي لا أُضِيعُ إلى آخره».

[فَالَّذِينَ هاجَرُوا] تفصيل لأعمال العاملين منهم و ما أعدّ لهم من الثواب، فالّذين هاجروا من أوطانهم فارّين إلى اللّه بدينهم [وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و اضطرّوا إلى الخروج بإيذاء المشركين إيّاهم و اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول [وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي في دين الحقّ بسبب إيمانهم باللّه فتحمّلوا الأذى لأجل الدين. قال البلخيّ: نزلت الآية و ما قبلها في المهاجرين معه صلى اللّه عليه و آله و المتّبعين له ثمّ هي في جميع من سلك سبيلهم إلى يوم القيامة [وَ قاتَلُوا] في سبيل اللّه [وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأمحق بها عنهم ذنوبهم و أتفضّل عليهم بعفوي.

[وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً] «الثواب» في الأصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى إلّا أنّه قد يوضع موضع المصدر فهو مصدر مؤكّد بمعنى الإثابة أي لأثيبنّهم بذلك إثابة كائنة [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قصد بتوصيفه به تعظيم شأن الثواب فإنّ السلطان العظيم الشأن إذا قال لعبده: البسك خلعة من عندي، دلّ ذلك على كون تلك الخلعة في غاية الشرف [وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ و الجزاء على الطاعات و هو نعيم الجنّة الباقية.

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 197]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197)

قيل: الخطاب للنبيّ و المراد امّته، أو الخطاب لكلّ من بلغه هذا الخطاب فمعناه:

لا يغرّنّك أيّها السامع تقلّب الّذين كفروا في البلاد.

نزلت في مشركي مكّة كانوا يتّجرون و يتنعّمون فقال بعض المؤمنين: إنّ أعداء اللّه فيما نرى من الخير و قد هلكنا الجوع و الجهد، فنزلت الآية و المراد من التقلّب في البلاد تصرّفهم في التجارات و المكاسب أي لا يغرّنّكم أمنهم على أنفسهم و تصرّفهم في البلدان و أنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون فإنّ ذلك لا يبقى إلّا مدّة قليلة ثمّ ينتقلون إلى أشدّ العذاب.

[مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك التقلّب متاع قليل لا قدر له في جنب ما أعدّ اللّه للمؤمنين؛

ص: 35

قال صلى اللّه عليه و آله: ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع فإذا لا يجدي وجوده لواجديه و لا يضرّ فقدانه لفاقديه.

[ثُمَّ مَأْواهُمْ و مصيرهم الّذي يأوون إليه [جَهَنَّمُ الّتي لا يوصف عذابها، و النعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرّة العظيمة لم يعدّ ذلك نعمة [وَ بِئْسَ الْمِهادُ] أي بئس ما يمهدون لأنفسهم جهنّم.

لكن الذين اتقوا ربهم أي خافوه فلم يخالفوا أمره و لا نهيه.

[سورة آل عمران (3): آية 198]

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

. إذا لم يستفيدوا من حطام الدنيا لهم الجنّات مؤبّدون فيها [نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل ما يعدّ للنازل من طعام و شراب و غيرهما [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ لكثرته و دوامه [خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ] ممّا يتقلّب فيه الكفّار لقلّته و سرعة زواله.

و عن ابن مسعود قال: ما من نفس برّة و لا فاجرة إلّا و الموت خير لها أمّا البرّة فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» و أمّا الفاجرة فإنّه تعالى يقول: «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» (1). و ممّا وجد في خزائن الإسكندر مكتوبا بالذهب: حركات الأفلاك لا تبقي على أحد نعمة فإذا اعطي العبد مالا أوجاها أو رفعة فلتكن همّته تقليد المنن أعناق الرجال فإنّ المال و الجاه يزول إمّا بندم طويل أو مدح جزيل و إنّ للدهر عثرات يجبر كما يكسر و يكسر كما يجبر و الأمر إلى اللّه.

و قد قيل: مادام قلمك يرعد و يبرق فليمطر معروفا و ليرعف جيلا.

و عن الحسن قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ذات يوم على أصحابه فقال: هل منكم من يريد أن يذهب اللّه عنه العمى و يجعله بصيرا؟ ألا إنّه من رغب في الدنيا و طال أمله فيها أعمى اللّه قلبه على قدر ذلك و من زهد في الدنيا و قصّر أمله أعطاه اللّه علما بغير تعلّم و هدى بغير هاد، ألا إنّه سيكون بعدي قوم لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل و التجبّر و لا الغنى إلّا بالبخل و الفخر و لا المحبّة إلّا باتّباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على

ص: 36


1- السورة: 178.

الفقر و هو يقدر على الغنى و صبر على البغضاء و هو يقدر على المحبّة و صبر على الذلّ و هو يقدر على العزّ لا يريد بذلك إلّا وجه اللّه أعطاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا.

قال ابن عبّاس: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء (1) زرقاء و أنيابها بادية مشوّهة خلقها و يشرف على الخلائق فيقال: أ تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ باللّه من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا الّتي تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم، ثمّ تقذف في جهنّم فتنادي أين أتباعي و أشياعي؟ فيقول اللّه: ألحقوا بها أتباعها.

قال صلى اللّه عليه و آله: يحشر أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة و يؤمر بهم إلى النار قالوا: يا رسول اللّه مصلّين؟ قال: نعم، كانوا يصلّون و يصومون و يأخذون سنّة من الليل فإذا عرض لهم شي ء من الدنيا وثبوا عليه.

روي أنّه عرض عليه عشار من النوق- و هي الحوامل منها- فغضّ بصره مع أنّها من أحبّ الأموال إليهم و أنفسها عندهم لأنّها كانت تجمع الظهر و اللحم و اللبن فلمّا لم يلتفت صلى اللّه عليه و آله إليها قيل له: يا رسول اللّه هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ قال صلى اللّه عليه و آله قد نهى اللّه عن ذلك ثمّ تلا «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ الآية» (2).

هذا معاملته صلى اللّه عليه و آله مع الدنيا فكن أيّها العاقل متّبعه.

قال صلى اللّه عليه و آله: أنا حبيب اللّه و لا فخر و أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم و من دونه و لا فخر و أنا أوّل من يحرّك باب الجنّة فيفتح اللّه لي فيدخلنّها معي فقراء المؤمنين و لا فخر.

قوله تعالى: [سورة آل عمران (3): آية 199]

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)

. نزلت في عبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و قيل: نزلت في أربعين رجلا من نجران و اثنين من الحبشة و ثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا.

ص: 37


1- من خالط بياض رأسه سواد.
2- طه: 131، الحجر: 88.

و قيل: نزلت في أصحمة النجاشيّ فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل لرسول اللّه في اليوم الّذي مات فيه فقال صلى اللّه عليه و آله لأصحابه: اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فقالوا:

من هو؟ قال صلى اللّه عليه و آله النجاشيّ، فخرج إلى البقيع و كشف له إلى أرض حبشة فأبصر صلى اللّه عليه و آله سرير النجاشيّ فصلّى عليه و كبّر التكبيرات فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصرانيّ حبشيّ لم يره قطّ و ليس على دينه؛ فأنزل اللّه هذه الآية.

[وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن [وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين [خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين له من خوف عذابه و رجاء ثوابه، و هو حال من فاعل «يؤمن» لأنّ «من» في معنى الجمع [لا يَشْتَرُونَ لا يأخذون [بِآياتِ اللَّهِ المكتوبة في التوراة و الإنجيل من نعوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله [ثَمَناً قَلِيلًا] شيئا يسيرا من حطام الدنيا مثل بعض أحبارهم فإنّهم أخذوا و بدّلوا.

[أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة [لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود المختصّ بهم [عِنْدَ رَبِّهِمْ و المراد به التشريف [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لنفوذ علمه بجميع الأشياء من غير حاجة إلى تأمّل و وعي صدر و كتب يد أي جزاؤهم سريع الوصول إليهم، فإنّ سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء و الإنسان يبعث على ما مات عليه فإنّ من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، و الغافل يرد صفر الكفّ.

قيل: إنّ إبراهيم أدهم أراد أن يدخل الحمّام فمنعه الحمّاميّ و قال: لا تدخل إلّا باجرة فبكى إبراهيم و قال: لا يؤذن لي أن أدخل بيت الشيطان مجّانا فكيف بالدخول إلى بيت النبيّين و الصدّيقين مجّانا؟ فمن لم يعمل صالحا كان هناك خاليا من المثوبات.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ في الجنّة حوراء يقال لها «لعبة» لو بصقت في البحر لعذب البحر، مكتوب على نحرها من أحبّ أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربّي.

بقدر الكدّ تكتسب المعالي و من طلب العلى سهر الليالي

تروم العزّ ثمّ تنام ليلايغوص البحر من طلب اللئالي

[سورة آل عمران (3): آية 200]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

.

ص: 38

لمّا ذكر سبحانه في هذه السورة أنواعا من علوم الأصول و الفروع ختم السورة بهذه الآية المشتملة على حقيقة الآداب لأنّ أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلّق به وحده و منها ما يكون مشتركا بينه و بين غيره.

أمّا القسم الأوّل فلا بدّ فيه من الصبر حتّى أنّ الإنسان لا بدّ أن يصبر على مشقّة النظر و الاستدلال في معرفة التوحيد و العدل و النبوّة فهذا في الأصول، و أمّا في الفروع فلا بدّ أن يصبر على أداء الواجبات و المندوبات و مشقّة التحمّل عن النفس في الاحتراز عن المنهيّات و شدائد الدنيا و آفاتها من المرض و الفقر و القحط و الخوف و أمثالها فقوله تعالى: «اصْبِرُوا» يدخل تحته هذه الأقسام.

و أمّا المصابرة فهي عبارة عن تحمّل المكاره الواقعة بينه و بين الغير و يدخل فيه تحمّل الأخلاق الرديئة من الأهل و الجيران و الأقارب و يدخل فيه ترك الانتقام ممّن أساء إليك كما قال: «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (1) و يدخل فيه الإيثار على الغير.

و بالجملة [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا] على مشاقّ التكليف و ما يصيبكم من الشدائد [وَ صابِرُوا] و غالبوا على أعداء اللّه في الجهاد و على أعدا عدوّكم في الصبر على مخالفة الهوى، و المصابرة أفضل من الصبر، و الصبر هو حبس النفس عمّا تريد و عمّا لا يرضاه اللّه و أوّل درجته التصبّر و هو التكلّف لذلك ثمّ المصابرة ثمّ الاصطبار و الالتزام [وَ رابِطُوا] أنفسكم على الطاعة و أبدانكم و خيولكم في الثغور؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا و يرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطى (2) إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا غاية الفلاح، و اتّقوا القبائح لعلّكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتّبة الّتي هي الصبر على مضض الطاعات و مصابرة النفس في رفض العادات و مرابطة السرّ و عقد القلب على الترصّد لإيجاب الواردات المعبّر عنها بالشريعة.

ص: 39


1- الأعراف: 199.
2- جمع الخطوة.

حكي أنّ شيخا من الصلحاء كان يسير إلى بيت اللّه راجلا فإذا أعرابيّ على ناقة فقال:

يا شيخ إلى أين؟ فقال الشيخ: إلى بيت اللّه، قال الأعرابيّ: كيف و أنت راجل و المسافة بعيدة؟

فقال الشيخ: إنّ لي مراكب كثيرة، فقال: و ما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بليّة ركبت مركب الصبر و إذا نزلت عليّ نعمة ركبت مركب الشكر و إذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضاء و إذا دعتني النفس إلى شي ء علمت أنّ ما بقي من العمر أقلّ من ما مضى، فقال الأعرابيّ: أنت الراكب و أنا الراجل، سر على بركة اللّه.

قيل: إنّ صفوان بن سليم كان يجتهد في العبادة و القيام و كان من شدّة مخالفته لنفسه و هواه من عادته أن يبيت على السطح في أيّام الشتاء لئلّا يستريح من البرد و في الصيف ينزل إلى بيته لتعذّب نفسه بحرّ الهواء و كان عادته ذلك إلى أن مات في سجدته.

و قيل في أحوال رابعة العدويّة: إنّها ما نامت بالليل مدّة أربعين سنة و كانت معاذة العدويّة إذا جاء النهار تقول: هذا اليوم يوم موتي فيشتغل بالعبادة إلى المساء فإذا جاء الليل تقول:

هذه الليلة ليلة موتي فتحييها إلى الصباح إلى أن ماتت على هذا النمط:

و لو كان النساء كمن ذكرنالفضّلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب و لا التذكير فخر للهلال

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 40

سورة النساء* (هي مدنية كلها)*

اشارة

و قيل: إلّا قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، الآية» و آية «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، الآية» فإنّ الآيتين نزلت بمكّة.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأها فكأنّما تصدّق على كلّ مؤمن و مؤمنة و برأ من الشرك و كان في مشيئة اللّه من الّذين يتجاوز عنهم.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: من قرأ سورة النساء في كلّ جمعة أومن من ضغطة القبر إذا دخل قبره.

ص: 41

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النساء (4): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

. [يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للمكلّفين من جميع البشر، قيل: إنّ النداء إنّما كان في سائر كتب اللّه السالفة «بيا أيّها المساكين» لكن في القرآن فيما نزل بمكّة فالنداء «ب يا أَيُّهَا النَّاسُ»* و ما نزل بالمدينة فمرّة «ب يا أَيُّهَا النَّاسُ*» و مرّة «ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»* [اتَّقُوا] معصية [رَبَّكُمُ و مخالفته بترك ما أمر به و ارتكاب ما نهى عنه.

و قيل: المعنى: اتّقوا حقّه أن تضيّعوه فكأنّه قال: يحقّ عليكم أن تتّقوا عقاب من أنعم عليكم بأعظم النعم و هي أن [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] و الّذي قدر هذه القدرة أن أوجدكم من نفس واحدة فهو على عقابكم أقدر. و المراد «بالنفس» هنا آدم عليه السّلام و «النفس» مؤنّث بالصيغة.

[وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها] يعني حوّاء، ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّها خلقت من ضلع من أضلاع آدم و رووا عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: خلقت المرأة من ضلع آدم إن أقمتها كسرتها و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها. فحينئذ «من» للتبعيض.

[وَ بَثَ أي فرّق و نشر [مِنْهُما] أي من تلك النفس و زوجها بطريق التوالد [رِجالًا كَثِيراً] و تذكير «كثير» للحمل على الجمع و العدد أي عددا كثيرا [وَ نِساءً] أي بنين و بنات كثيرة. و حاصل المعنى: اتّقوا ربّكم الّذي كثّركم و جعلكم صنوانا متفرّعة من ارومة واحدة.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما يجب لبعضكم على بعض من حقوق المواصلة الّتي بينكم فحافظوا

ص: 42

عليها و لا تقطّعوا في الدين و النسب أغصانا تتشّعب من جرثومة واحدة [الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك باللّه [وَ الْأَرْحامَ أي يسأل بعضكم باللّه و بالرحم، أو يقول: اناشدك اللّه و الرحم افعل كذا. أي اتّقوا اللّه و اتّقوا الأرحام فصلوها، فقرن الأرحام باسمه إشعارا بأنّ صلتها بأمر منه.

قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: الرحم معلّقة بالعرش يقول: من وصلني وصله اللّه و من قطعني قطعه اللّه. و قال صلى اللّه عليه و آله: ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم و ما من عمل سيّئة أسرع عقوبة من البغي.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] الرقيب هو المراقب الّذي يحفظ عليك أفعالك في خلواتك.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكيّ لأنّه كان يفوح منه رائحة المسك، فسئل عنه فقال: كنت من أحسن الناس وجها و كان لي حياء فقيل لأبي: لو أجلسته في السوق لا نبسط مع الناس، فأجلسني في حانوت بزّاز فجاءت عجوز و طلبت متاعا فأخرجت لها ما طلبت فقالت: لو توجّهت معي لثمنه فمضيت معها حتّى أدخلتني في قصر عظيم فيه قبّة عظيمة فإذا فيها جارية على سرير عليه فراش مذهّب فجذبتني إلى صدرها فقلت: اللّه اللّه! فقالت: لا بأس، فقلت: إنّي حادق فدخلت المستراح و تغوّطت و مسحت به وجهي و بدني، فقيل: إنّه مجنون فخلصت.

فرأيت الليلة رجلا قال لي: أين أنت من يوسف بن يعقوب؟ ثمّ قال لي في الرؤيا:

أنا ملك ثمّ مسح يده على وجهي و بدني فمن ذلك الوقت يفوح المسك عليّ و ذلك ببركة التقوى.

و للعبد أن يراقب اللّه في أحواله و أفعاله و هي أصل كلّ خير للعبد. قال سليمان ابن عليّ: لئن كنت عصيت اللّه في الخلوة و ظننت أنّه تعالى يراك فقد اجترأت على أمر عظيم و لئن كنت تظنّ أنّه لا يراك فقد كفرت لقوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)

ص: 43

اليتيم من الناس المنفرد عن الأب بموته و من سائر الحيوانات عن الأمّ. و المراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها و ليس المراد الإعطاء بالفعل فإنّه مشروط بإيناس الرشد و البلوغ.

و المعنى: أيّها الأولياء و الأوصياء احفظوا أموال اليتامى و لا تتعرّضوا لها بسوء و سلّموها إليهم وقت التسليم [وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تستبدلوا الحلال المكتسب بالحرام المغتصب من مال اليتيم.

[وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ و «إلى» بمعنى «مع» لقوله: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ»* (1) أي مع اللّه أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، و إنّما ذكر الأكل لأنّه معظم ما يقع لأجله التصرّف [إِنَّهُ أي الأكل المنهيّ عنه [كانَ حُوباً كَبِيراً] أي ذنبا عظيما عند اللّه.

روي أنّ رجلا من بني غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمّه فترافعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فنزلت هذه الآية فلمّا سمع العمّ قال:

أطعنا اللّه و أطعنا الرسول نعوذ باللّه من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

من يوق شحّ نفسه و يطع ربّه هكذا فإنّه يحلّ داره- يعني جنّته- فلمّا قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله: ثبت الأجر و بقي الوزر، فقالوا: كيف بقي الوزر؟ فقال:

ثبت الأجر للغلام و بقي الوزر على والده.

و قد عدّ أكل مال اليتيم من المهلكات؛ عن ابن عبّاس قال: ستّ موبقات ليس لهنّ توبة: أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و الفرار من الزحف و السحر و الشرك باللّه و قتل نبيّ من الأنبياء.

روى أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقال: عندي يتيم أضربه؟ قال: بما تضرب ولدك للتأديب، أي إن تضربه للتأديب لا بأس إذا ضربت ضربا غير مبرح مثل ما يضرب الوالد ولده و لكن إذا أمكن التأديب بغير ضرب فلا يجوز الضرب فإنّ ضرب اليتيم أمر شديد؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ اليتيم إذا ضرب اهتزّ العرش لبكائه فيقول اللّه: يا ملائكتي من أبكى

ص: 44


1- السورة: 52، الصف: 14.

الّذي غيّبت أباه في التراب؟ و هو أعلم به فيقول الملائكة: ربّنا لا علم لنا، قال اللّه: فإنّي أشهدكم أنّ من أرضاه أرضه من عندي يوم القيامة.

قال اللّه لداود عليه السّلام: كن لليتيم كالأب الرحيم و اعلم أنّك كما تزرع كذلك تحصد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 3 الى 4]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

الإقساط العدل، و المراد بالخوف العلم أى و إن علمتم بوقوع الجور المخوف.

و سبب النزول أنّهم كانوا يتزوّجون من يحلّ لهم من اليتامى اللاتي يؤلونهنّ لكن لا لرغبة بل في مالهنّ و يسيئون الصحبة و المعاشرة و يتربّصون بهنّ أن يمتن فيرثونهنّ. و قيل:

هي اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها و جمالها و يريد أن ينكحها بأدنى من سنّة نسائها فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ في إكمال الصداق فأمروا أن ينكحوا من سواهنّ من النساء.

فمعنى الآية [و إن خفتم أن لا تعدلوا] في حقّ اليتامى إذا تزوجتم بهنّ بإساءة العشرة أو بنقص الصداق [فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ] «ما» موصوله اوثرت على «من» إشعارا إلى الوصف أي نكاحا طاب لكم من النساء غير اليتامى؛ فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيّات و هذا المعنى بشهادة قرينة المقام [مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ و قرئ: من طاب لكم من النساء.

قال الزمخشريّ و الواحديّ في قوله «ما طاب»: أي ما حلّ لكم من النساء لأنّ منهنّ من يحرم نكاحهنّ و هي الأنواع المذكورة في قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ الآية (1)».

ص: 45


1- السورة: 22.

لكنّ الرازيّ أنكر هذا المعنى و قال: إذا حملنا الطيب على استطابة النفس و ميل القلب أولى، النهاية أنّ الآية عامّة و دخله التخصيص بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية».

و كلمة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» معناه اثنين اثنين و ثلاثا و ثلاثا و أربعا و أربعا و هو غير منصرف اجتمع في الكلمة العدل و الوصف: أمّا العدل عبارة عن أنّك تذكّر كلمة و تريد بها اخرى كما تقول: عمرو تريد عامر فهي معدولة، و أمّا أنّه وصف لمعنى الوصفيّة لأنّ معنى قوله: «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» (1) أي موصوفين بهذه الصفات فهذه الألفاظ معدولة عن تكرّرها فإنّك لا تريد بقولك: مثنى ثنتين فقط بل ثنتين ثنتين فإذا قلت: جاءني اثنان أو ثلاثة، كان غرضك الإخبار عن مجي ء هذا العدد فقط أمّا إذا قلت:

جاءني القوم مثنى، أفاد أنّ ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فثبت أنّه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد.

و الحكم في الآية لا يتناول العبيد بل خاص للأحرار لأنّ العبد لا يتمكّن من النكاح إلّا بإذن مولاه قال اللّه تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ» (2) و قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر. فثبت أنّ هذه الآية المخاطب بها الحرّ و لا يندرج فبها العبد.

و قوله: «مَثْنى وَ ثُلاثَ» يجوز أن يكون حال من قوله: «ما طابَ لَكُمْ» و يجوز أن يكون بدل من «ما» و إنّما جاءت الواو في «و ثلاث» و لم تأت «أو» لأنّه على طريق البدل كأنّه قال: و ثلاث بدل من مثنى، و رباعا بدل من ثلاثا، و لو جاء «أو» لكان لا يجوز لصاحب المثنى ثلاث و لصاحب الثلاث رباع.

قال الطبرسيّ: إنّ هذا لا يؤدّي إلى جواز نكاح التسع بأنّ اثنين و ثلاثة و أربعة تسعة؛ فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول، و لأنّ لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث نوع من العيّ مقدّس كلامه عن ذلك؛ قال الصادق: لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من

ص: 46


1- فاطر: 1.
2- النحل: 75.

أربعة أرحام من الحرائر.

[فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا] بين الأربع و الثلاث في النفقة و سائر وجوه التسوية فتزوّجوا [واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي و اقتصروا على الإماء حتّى لا تحتاجوا إلى التسوية و القسم بينهنّ لأنّهنّ لا حقّ لهنّ في القسم.

[ذلِكَ إشارة إلى اختيار الواحدة [أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا] العول الميل من قولهم عال الميزان إذا رجح و مال، و عال في الحكم إذا جار، و المراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة و التسرّي أقرب إلى التقوى بالنسبة إلى ما عداهما.

[وَ آتُوا النِّساءَ] أي أعطوا النساء اللاتي امر بنكاحهنّ [صَدُقاتِهِنَ مهورهنّ [نِحْلَةً] أي فريضة من اللّه لأنّها ممّا فرضه اللّه في النحلة أي الملّة و الشريعة. و قيل: معنى النحلة عطيّته من اللّه عليهنّ. و انتصاب النحلة على الحاليّة، و تعبير إيتاء المهور بالنحلة و العطيّة مع كونها واجبة لإفادة طيب الخواطر و كمال الرضى. و الخطاب يعمّ الأولياء أيضا و كانوا يأخذون مهور بناتهم و كان أهل الجاهليّة يقولون لمن يولد له بنت: هنيئا لك النافجة يعنون بذلك: تأخذ مهرها فتنفج به مالك و تعظمه و تكثره.

[فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ الضمير للصدقات و تذكيره لإجرائه مجرى المال [نَفْساً] تميز و التوحيد لبيان الجنس أي إن وهبن لكم شيئا من الصداق عن نفوس طيّبة راضية غير مضطرّة إلى البذل من شكاسة أخلاقكم.

[فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً] صفتان من قولهم: هنأ الطعام و مرأ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، و نصبهما على المصدريّة على أنّهما صفتان للمصدر المحذوف أي كلوه أكلا هنيئا مريئا، عبارة المبالغة في الإباحة و إزالة التبعة.

و في الآية دليل على حفظ الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس و بيان لجواز معروفها و ترغيب في حسن المعاشرة بينهما فإنّ خير الناس خيرهم لأهله و أنفعهم لعياله في توسعتهم.

في الحديث: جهاد المرأة حسن التبعّل. و كانت المرأة على عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله تستقبل زوجها إذا دخل و تقول مرحبا بسيّدي و سيّد أهلي، و تقصد إلى أخذ ردائه فيأخذه و تعمد إلى نعله فتخلعه فإن رأته حزينا قالت: ما يحزنك إن كان حزنك لآخرتك فزاد اللّه فيها و إن كان

ص: 47

لدنياك فكفاك اللّه؟ و كان يقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: يا فلان اقرأها منّي السلام و أخبرها أنّ لها نصف أجر الشهيد.

و علامة الزوجة الصالحة عند أهل الحقيقة أن يكون حسنها مخافة اللّه و غناها القناعة و حليّها العفّة و هي التكفّف عن الشرور و المفاسد و عبادتها بعد الفرائض حسن الخدمة للزوج.

قال رسول اللّه: ثلاثة من امّتي يكونون في جهنّم كعمر الدنيا سبع مرّات: أوّلهم متسنّمون مهزولون و الثاني كاسون عارون و الثالث عالمون جاهلون قيل: من هؤلاء يا رسول اللّه؟

قال: أمّا المتسنّمون المهزولون فالنساء متسنّمات باللحم مهزولات في امور الدين و أمّا الكاسون العارون فهنّ النساء كاسيات من الثياب عاريات من الحياء و أمّا العالمون الجاهلون فهم أهل الدنيا التاجرون الكاسبون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و فطنين بأمورها و هم عن الآخرة هم غافلون لا يبالون من أين يجتمعون المال و هم لا يشبعون من الحلال و لا يبالون بالحرام.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 5]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)

. أي و لا تعطوا أيّها الأولياء [السُّفَهاءَ] أي المبذّرين من الرجال و النساء و الصبيان و اليتامى و قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّهم النساء و الصبيان. و روي عن أنس بن مالك جاءت امرأة جريئه المنطق ذات ملح إلى رسول اللّه فقالت: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه قل فينا خيرا مرّة واحدة فإنّه بلغني أنّك تقول فينا كلّ شرّ، قال: أيّ شي ء قلت؟ قالت: سمّيتنا السفهاء، قال: اللّه سمّاكنّ السفهاء في كتابه، قالت: و سمّيتنا النواقص، فقال: و كفى نقصانا أن تدعن في كلّ شهر أيّاما لا تصلّين فيها، ثمّ قال: ما يكفي إحداكنّ أنّها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل اللّه فإذا وضعت كانت كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه فإذا أرضعت كان لها بكلّ جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكلّ سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل و ذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشيرة.

قال: قالت المرأة: يا له فضلا لو لا ما يتبعه من الشرط!

ص: 48

و قيل: المراد من السفهاء كلّ من كان سفيها و مبذّرا من الرجال و النساء.

الأموال [الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً] أي جعل اللّه شيئا يقومون به و تنتعشون فلو ضيّعتموه لضيّعتم، و لمّا كان المال سببا للقيام و الاستقلال سمّاه بالقيام إطلاقا لاسم المسبّب على السبب على سبيل المبالغة فكأنّها من فرط احتياجهم إليها نفس قيامهم.

و قيل: معنى الآية أنّها خطاب الأولياء أي أيّها الأولياء لا تؤتوا الّذين تحت ولايتكم و كانوا سفهاء أموالهم، و الدليل على هذا المعنى قوله: «وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ» و على هذا المعنى يحسن تعلّق الآية بما قبلها.

فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: «و لا تؤتوا السفهاء أموالهم» فلم قال: «أَمْوالَكُمُ»؟

قيل في الجواب: إنّه أضاف المال إليهم لا لأنّهم ملكوه لكن من حيث ملكوا التصرّف فيه و يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب و الوحدة بالنوع يجرى مجرى الوحدة بالتشخّص نحو قوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» (1) و قوله: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (2) و معلوم أنّ الرجل منهم ما كان يقتل نفسه و لكن كان يقتل بعضهم بعضا و كان الكلّ من نوع واحد فكذا هاهنا المال شي ء واحد ينتفع به الإنسان فلأجل هذه الوحدة النوعيّة حسنت إضافة أموال السفهاء إليهم.

و القول الأوّل هو تسلّط السفيه على ماله مثل أن يسلّمه إلى ابنه السفيه أو امرأته السفيهة فيتلف المال فيبقى الأب صفر الكفّ فقيرا فيكون الخطاب للآباء بحفظ المال و عدم تضييعه و على هذا الوجه يكون إضافة المال حقيقة؛ قال الطبرسيّ: و الأولى حمل الآية على العموم.

[وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ الرزق من اللّه العطيّة من غير حدّ و من العباد إجراء موقّت محدود و، المعنى: أطعموهم منها و لم يقل: «منها» لئلّا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتّجروا فيها و يثمروا فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من اصول الأموال.

ص: 49


1- التوبة: 129.
2- البقرة: 54.

[وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً] أي كلاما ليّنا يطيب به نفوسهم مثل أن يقول للصبيّ:

المال مالك و أنا خازن لك و إذا زال صباك أردّ المال عليك و يعظه و ينصحه و يحثّه على الصلاة و يأمره بترك التبذير و يعرّفه أنّ غاية التبذير الاحتياج و الفقر و ما يشبه هذا النوع من الكلام.

و حفظ المال من السرف و التبذير أمر واجب و سلاح للمؤمن للفقر الّذي كاد أن يهلك دينه، و كان السلف يقولون لطبقة من الناس: اتّجروا و اكتسبوا فإنّكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أوّل ما يأكل دينه. و ربّما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكّانك لأنّ أغلب طبقات الناس ما لم يكونوا فارغي البال لا يمكنهم القيام بتحصيل الآخرة فمن أراد الدنيا لهذا الغرض كانت الدنيا له من الأسباب المعينة على اكتساب سعادة الآخرة أمّا من أرادها للذّة نفسه فكانت من أعظم الخطايا و أكبر المعوّقات عن كسب سعادة الآخرة فخير المال ما كان متاع البلاغ.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 6]

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

أي و اختبروا أيّها الأولياء و الأوصياء، و جرّبوهم من أمورهم مثل أن تعطوهم من المال ما يتصرّفون فيه بيعا و ابتياعا و إن كانوا ممّن له ضياع و أهل و خدم بأن يباشروا في الجملة إلى نفقة عيالهم و خدمهم حتّى يتبيّن لكم كيفيّة أحوالهم.

[حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ شرط سبحانه في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما بلوغ النكاح مثل أن يحتلموا فحينئذ يصلحون عنده للنكاح، و الثاني إيناس الرشد و هو قوله:

[فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] أي شاهدتم و أحسستم اهتداء إلى وجوه التصرّفات من غير تبذير [فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير إذا طالبوا.

[وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً] بغير ما أباحه اللّه لكم، و قيل: معناه: لا تأكلوا من مال اليتيم فوق ما تحتاجون إليه فإنّ لوليّ اليتيم أن يتناول من ماله قدر القوت بشرط أن

ص: 50

يكون محتاجا إلى وجه الاجرة على عمله في مال اليتيم.

و قيل: كلّ شي ء أكل من مال اليتيم فهو الأكل على وجه الإسراف. و الأوّل أليق بمذهبنا فقد روى محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخيه يتيم في حجره أ يخلط أمرها بأمر ماشيته قال: إن كان يليط حياضها و يقوم على خدمتها و يردّ نادتها فليشرب من ألبانها غير مضرّ بالولد. و قوله: «و بدارا» أي لا تبادروا بأكل أموالهم قبل كبرهم و رشدهم حذرا من أن يكبروا فيلزمكم تسليم المال إليهم خوفا من [أَنْ يَكْبَرُوا] و يقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا.

[وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا] من الأولياء و الأوصياء [فَلْيَسْتَعْفِفْ و ليتنزّه عن أكلها و ليقنع بما آتاه اللّه من الغنى و لا يأخذ لا قليلا و لا كثيرا، يقال: استعفّ عن الشي ء و عفّ عنه إذا امتنع منه و تركه.

[وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي من كان فقيرا من الأولياء و الأوصياء فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية.

[فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ بعد ما راعيتم الشرائط المذكورة [فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنّهم تسلّموها و قبضوها فيعلمون أنّه برئت ذممكم لما أنّ ذلك أبلغ من التهمة و أنفى للخصومة و أسلم في الأمانة [وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً] و حافظا لأعمال خلقه فاللائق للإنسان أن يحترز عن حقّ الغير خصوصا اليتيم فإنّه يجرّه إلى نار الجحيم.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من كانت عنده مظلمة لأخيه أو شي ء فليستحلل منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه. و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب منها و عسر عليه استحلال أرباب المظالم فليكثر من حسناته ليوم القصاص و ليسرع ببعض الحسنات و يجتهد فيها غاية الإخلاص فعساه يقرّ به ذلك العمل الخالص إلى اللّه فينال به لطفه تعالى الّذي ادّخره لأهل الخلوص في دفع مظالم العباد عن المخلص بإرضائه تعالى إيّاهم.

[سورة النساء (4): آية 7]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

.

ص: 51

قال الطبرسيّ:

النزول: كانت العرب في الجاهليّة يورّثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية ردّا لقولهم. قال قتادة و ابن جريح و ابن زيد: و قيل: كانوا لا يورّثون إلّا من طاعن بالرماح و ذاد عن الحريم و المال، فقال تعالى مبيّنا حكم أموال الناس بعد موتهم.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ أوس بن صامت الأنصاريّ خلّف زوجته امّ كحة و ثلاث بنات فزوى ابنا عمّه سويد و عرفطة ميراثه عنهنّ على سنّة الجاهليّة فإنّهم ما كانوا يورّثون النساء و يقولون: إنّما يرث من يحارب و يذبّ عن الحوزة فجاءت امّ كحة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مسجد الفضيخ فشكت إليه فقال صلى اللّه عليه و آله: ارجعي حتّى أنظر ما يحدث اللّه فنزلت الآية فبعث إليهما أن لا يفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ اللّه قد جعل لهنّ نصيبا و لم يبيّن حتى بيّن و نزل «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية» (1).

المعنى: [لِلرِّجالِ سهم و حظّ من تركة الوالدين و الأقربين [وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي و للنساء أيضا من قرابة الميّت حصّة و سهم من تركته قليلة كانت التركة أو كثيرة [نَصِيباً مَفْرُوضاً] فرض تسليمه إلى أهله و مستوجبه لا محالة، و الفرض يقتضي فارضا فرضه و الوجوب قد يجب الشي ء في نفسه من غير إيجاب موجب و لذلك صحّ وجوب الثواب عليه تعالى فهذا هو الفرق بين الفرض و الوجوب.

و هذه الآية تدلّ على أنّ ذوي الأرحام يرثون لأنّهم من جملة الرجال و النساء الّذين مات عنهم الأقربون.

و أيضا تدلّ على بطلان القول بالعصبة و يدخل في عموم اللفظ الأنبياء و غير الأنبياء، و تدلّ على أنّ الأنبياء و غير الأنبياء في الحكم سواء كما ذهبت إليه الفرقة الإماميّة.

[سورة النساء (4): آية 8]

وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)

. و اختلف المفسّرون في هذه الآية على قولين:

ص: 52


1- السورة: 11.

أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و جماعة كالزهريّ و الشعبيّ و السدّيّ و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و أكثر المفسّرين.

و القول الثاني أنّها منسوخة بآي المواريث.

و أيضا اختلف من قال: إنّها محكمة على قولين:

أحدهما أنّ الأمر فيها على الوجوب و اللزوم عن مجاهد و قال: هو ما طابت به نفس الورثة.

و قال الآخرون: إنّ الأمر فيها على الندب.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّ القائلين بالوجوب منهم من قال: الوارث إن كان كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به و إن كان صغيرا وجب على الوليّ إعطاؤهم من ذلك المال، و منهم من قال: إن كان الوارث كبيرا وجب عليه الإعطاء من ذلك المال و إن كان صغيرا وجب على الوليّ أن يعتذر إليهم و يقول: إنّي لا أهلك هذا المال و إنّما هو لهؤلاء الّذين لا يعقلون و إن يكبروا فسيعرفون حقّكم فهذا هو القول المعروف. و قال جماعة مثل الحسن و النخعيّ: هذا الرضخ مختصّ بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين و الرقيق و ما أشبه ذلك قال لهم قولا معروفا مثل أن يقول لهم: ارجعوا بارك اللّه فيكم.

و هذه الأقوال كلّها على قول من قال بالوجوب و أمّا على قول الاستحباب إنّما يكون الرضخ إذا كانت الورثة كبارا أمّا إذا كانوا صغارا فليس إلّا القول المعروف و احتجّوا بأنّه لو كان لهؤلاء حقّ معيّن لبيّن اللّه قدر ذلك الحقّ كما في سائر الحقوق و حيث لم يبيّن علمنا أنّه غير واجب و لو كان واجبا لتوفّرت الدواعي على نقله لشدّة حرص الفقراء و المساكين على تقديره و لو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر.

و بالجملة فالمعنى في قوله: [وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ] أي إذا شهد الميراث و قسمته [أُولُوا الْقُرْبى أي فقراء قربة الميّت [وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ أي و يتاماهم و مساكينهم يرجون أن تعودوا عليهم [فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم من التركة قبل القسمة شيئا.

و اختلف في المخاطبين بقوله: «فَارْزُقُوهُمْ» قيل: إنّ المخاطب بذلك الورثة أمروا

ص: 53

بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث عن ابن عبّاس و ابن الزبير و سعيد ابن جبير و أكثر المفسّرين. و قيل: إنّ المخاطب بذلك من حضرته الوفاة و أراد الوصيّة فقد امر بأن يوصي لمن لا يرثه من المذكورين بشي ء من ماله.

[وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً] أمر اللّه الوليّ أن يقول للّذي لا يرث من المذكورين قولا معروفا إذا كانت الورثة صغارا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 9]

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

. في الآية أقوال: أحدها أنّه كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد عنده بعض المؤمنين فقالوا: انظر لنفسك فإنّ ولدك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فيقدّم جلّ ماله فقال تعالى:

و ليخش الّذين تركوا من بعدهم أولادا صغارا خافوا عليهم الفقر، و هذا نهي عن الوصيّة بما يجحف بالورثة و أمر لمن حضر الميّت عند الوصيّة أن يأمره بأن يبقي لورثته و لا يزيد وصيّته على الثلث، و هذا قول ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و الضحّاك و مجاهد.

و ثانيها أنّ الأمر في الآية لوليّ اليتيم يأمره بأداء الأمانة و القيام بحفظه كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا فيكون المعنى: من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحبّ أن يفعل بذرّيّته من بعده.

و حاصل المعنى [وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ صفتهم و حالهم أنّهم لو شارفوا أن يتركوا [مِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد موتهم [ذُرِّيَّةً ضِعافاً] أولادا عجزة لا غنى لهم و ذلك عند احتضارهم [خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع بعدهم لذهاب كافلهم و الفقر و التكفّف، و المراد «بالّذين» هم الأوصياء على القول الثاني و المحتضرين على القول الأوّل.

[فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذراريهم أو ذراري غيرهم [وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً] أي قولا لا خلل فيه و عدلا موافقا للشرع، و قيل: معناه فليخاطبوا اليتامى بخطاب حسن جميل.

ثمّ أوعد اللّه لآكلي مال اليتم نار جهنّم فقال:

[سورة النساء (4): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

.

ص: 54

أي ينتفعون بأموال اليتامى و يأخذونها [ظُلْماً] و لم يرد قصر الحكم على الأكل و تخصيص الأكل في الذكر لما أنّه معظم منافع المقصودة فذكره اللّه تنبيها على وجوه الانتفاع كقوله: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» (1) و إنّما علّق الوعيد بكونه ظلما لأنّه قد يكون يأكله الإنسان على وجه الاستحقاق بأن يأخذ منه اجرة المثل أو يأكل منه بالمعروف على ما تقدّم القول فيه؛ فلا يكون ظلما. و سئل الرضا عليه السّلام كم أدنى ما يدخل به أكل مال اليتيم تحت الوعيد في هذه الآية؟ فقال عليه السّلام: قليله و كثيره واحد إذا كان في نيّته أن لا يردّه إليهم.

[إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً] قيل: إنّ النار ستلتهب من أفواههم و أسماعهم و أنافيهم يوم القيامة ليعلم أهل الموقف أنّهم آكلة أموال اليتامى؛ روي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تؤجّج أفواههم نارا، فقيل له:

يا رسول اللّه من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية.

[وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] أي سيلزمون النار المسعرة و إنّما ذكر «البطون» تأكيدا كما قال: نظرت بعيني و مشيت برجلي، و لمناسبة الأكل مع ذكر البطن.

و روى الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام قال: إنّ في كتاب عليّ عليه السّلام: إنّ آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك من عقبه من بعده و يلحقه وبال ذلك في الآخرة.

و في الحديث قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: رأيت ليلة اسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما قالصة على منخريه و الاخرى على بطنه و خزنة جهنّم يلقمونه جمر جهنّم و صخرها فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً».

قال رسول اللّه: تقبّلوا لي ستّا أتقبّل لكم الجنّة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا و إذا وعدتم فلا تخلفوا و إذا ائتمنتم فلا تخونوا و غضّوا أبصاركم و احفظوا فروجكم و كفّوا أيديكم عن الحرام و ادخلوا الجنّة (2).

قال رسول اللّه: لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحنايا و صمتم حتّى تكونوا كالأوتار فما ينفعكم إلّا بالورع. و المراد من الورع الاحتراز عمّا نهى اللّه في شريعة محمّد بالنهي التحريميّ.

ص: 55


1- البقرة: 188.
2- الخصال (1: 156).

قال علماء الأخلاق: الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض و زهد فضل و زهد سلامة، فزهد الفرض هو الزهد في الحرام و زهد الفضل هو الزهد في الحلال و زهد السلامة هو الزهد في الشبهات.

قيل: إنّ حسّان ابن أبي سنان لا ينام مضطجعا و لا يأكل سمينا و لا يشرب باردا ستّين سنة فرؤي في المنام بعد ما مات فقيل له: ما فعل اللّه بك؟ فقال: خيرا غير أنّي محبوس عن الجنّة بإبرة استعرتها فلم أردّها.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

. قال السدّيّ: نزلت الآية في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر و ذلك أنّه مات و ترك امرأة و خمس أخوات فجاءت الورثة فأخذوا ماله و لم يعطوا امرأته شيئا فشكت إلى رسول اللّه فأنزل اللّه آية المواريث.

و لمّا ذكر سبحانه قبل «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ الآية» بيّن في هذا الآية ما أجمله في الآية السابقة فقال:

[يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يأمركم و يفرض عليكم لأنّ الوصيّة منه تعالى أمر و فرض و يدلّ على ذلك قوله: «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ» (1) و هذا من الفرض المحكم علينا [فِي أَوْلادِكُمْ أي في ميراث أولادكم أو في توريث أولادكم أو في امور أولادكم فبيّن سبحانه فيما وصّى و أمر به فقال: [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين.

ص: 56


1- الانعام: 152.

ثمّ ذكر نصيب الإناث من الأولاد فقال: [فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي فإن كانت الأولاد نساء فوق اثنتين [فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ من الميراث.

و ظاهر هذا الكلام يقتضي أنّ البنتين لا تستحقّان الثلثين لكنّ الامّة اجتمعت على أنّ حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات لكن ذكروا في وجه المعنى أنّ المراد في الآية بيان حكم البنتين فما فوقهما لأنّ معناه فإن كنّ اثنتين فما فوقها فلهنّ ثلثا ما ترك إلّا أنّه قدّم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن النبيّ أنّه قال: لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيّام إلّا و معها زوجها أو ذو محرم لها. فمعنى الحديث أنّه لا تسافر سفرا ثلاثة أيّام فما فوقها و كذلك في الآية فحكم البنتين كحكم ما فوقهما.

[وَ إِنْ كانَتْ الباقية و المولود [واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ أي نصف ما ترك الميّت ثمّ ذكر حكم ميراث الوالدين فقال: [وَ لِأَبَوَيْهِ يعني الأب و الأمّ سمّي تغليبا، و الهاء في «أبويه» كناية عن غير مذكور أي و لأبوي الميّت [لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ] أي و للأب السدس مع الولد و كذلك الأمّ لها السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى واحدا كان أو أكثر.

ثمّ إن كان الولد ذكرا كان الباقي له و إن كان ذكورا فالباقي لهم بالسويّة و إن كانوا ذكورا و إناثا فللذكر مثل حظّ الأنثيين و إن كانت بنتا فلها النصف و لأحد الأبوين السدس أولهما السدسان و الباقي عندنا الإماميّة يردّ على البنت و على أحد الأبوين أو عليهما على قدر سهامهم بدلالة قوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* (1) لكن عند غيرنا أنّ الأب في صورة الأنوثة بعد ما أخذ فرضه المذكور يأخذ ما بقي من ذوي الفروض بالعصوبة.

[فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي للميّت [وَلَدٌ] أي ابن و لا بنت و لا أولادهما لأنّ اسم الولد يعمّ الجميع [وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ممّا ترك قال الطبرسيّ: و ظاهر هذا يدلّ على أنّ الباقي للأب و فيه إجماع فإن كان في الفريضة زوج فإنّ له النصف و للامّ الثلث و الباقي للأب و هو مذهب ابن عبّاس و أئمّتنا.

ص: 57


1- الأنفال: 75.

[فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ و الإخوة تقع على الاثنين فصاعدا أو الأخوات، قال أصحابنا الإماميّة: إنّما يكون لها السدس إذا كان هناك أب. و يدلّ عليه ما تقدّمه من قوله: «وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ» فإنّ هذه الجملة معطوفة على قوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» و تقديره: فإن كان له إخوة و ورثه أبواه فلامّه السدس.

قال الطبرسيّ: و قال بعض أصحابنا: إنّ لها السدس مع وجود الإخوة و إن لم يكن هناك أب و قالوا: إنّ الأخوين يحجبان الأمّ من الثلث إلى السدس. و قال ابن عبّاس:

لا تحجب الأمّ من الثلث إلى السدس بأقلّ من ثلاثة من الإخوة و الأخوات كما يقتضيه ظاهر الآية من لفظ الجمع و أصحابنا يقولون: لا تحجب الأمّ عن الثلث إلى السدس إلّا بالإخوان أو أخ و أختين أو أربع أخوات من قبل الأب و الأمّ أو من قبل الأب خاصّة دون الأمّ.

و في ذلك خلاف بين الفقهاء و منشأ الخلاف قالوا: و العرب تسمّي الاثنين بلفظ الجمع في كلامهم قال تعالى: «وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» (1) يعنى حكم داود و سليمان.

قوله تعالى: [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أي تقسيم التركة على المذكور بعد قضاء الديون و إقرار الوصيّة، و لا خلاف في أنّ الدين مقدّم على الوصيّة و الميراث و إن أحاط بالمال، و أمّا الوصيّة فقد قيل: إنّها مقدّمة على الميراث. و قيل: بل الموصى له شريك الوارث و له الثلث و لهم الثلثان. و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: إنّكم تقرؤون في هذه الآية الوصيّة قبل الدين و إنّ رسول اللّه وصّى بالدين قبل الوصيّة. و الوجه في تقديم الذكر من الدين قبل الوصيّة في الآية أنّ لفظة «أو» إنّما هو لأحد الشيئين أو الأشياء و لا يوجب الترتيب فكأنّه قال: من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر و هذا كقولهم:

جالس الحسن أو ابن سيرين، فالمعنى جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى الآخر. و الحاصل أنّ الوصيّة و لو قدّمت على الدين في الذكر إلّا أنّها متأخّرة في الحكم و الدين مقدّم.

قوله: [آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً] ذكر فيه وجوه:

أحدها أنّ معناه أنتم لا تدرون أيّ هؤلاء أنفع لكم في الدنيا فتعطونه من الميراث

ص: 58


1- الأنبياء: 78.

ما يستحقّ و لكنّ اللّه قد فرض الفرائض على ما هو عند حكمه و علمه.

و قيل: إنّ معناه لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدنيا و الدين و اللّه يعلمه فافتسموه على ما بيّنه من المصلحة فيه، عن الحسن. و هذا المعنى على معنى الأوّل و قد جعله الطبرسيّ وجها ثانيا و ليس فيه معنى زائد من معنى الأوّل غير أنّه فيه زيادة لفظ الدين.

و ثالثها أنّ معناه لا تدرون أنّ نفعكم بتربية آبائكم لكم أكثر أم نفع أبنائكم و هذا المعنى أيضا قريب من معنى الأوّل و الثاني.

و الوجه الرابع عن ابن عبّاس أنّ المعنى: أطوعكم للّه- من الآباء و الأبناء- أرفعكم درجة يوم القيامة لأنّ اللّه يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع اللّه إليه ولده في درجته لتقرّ بذلك عينه و إن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه والديه إلى درجته لتقرّ أعينهم.

و خامس الأقوال أنّ المراد لا تدرون أيّ الوارثين و المورّثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنّوا موتهم لترثوهم، عن أبي مسلم.

[فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض اللّه ذلك فريضة [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] أي لم يزل عليما بمصالحكم حكيما فيما يحكم به عليكم في الأموال و غيرها. و استعمال «كان» في مثل هذه الموارد بالماضي كالخبر بالاستقبال و الحال لأنّ الأشياء عند اللّه في حال واحدة ما مضى و ما يكون و ما هو كائن.

قوله: [سورة النساء (4): آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

. الكلالة أصلا الإحاطة و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكلّ لإحاطته

ص: 59

بالعدد فالكلالة تحيط بأصل النسب الّذي هو الوالد و الولد.

المعنى: خاطب اللّه الأزواج فقال: [وَ لَكُمْ أيّها الأزواج [نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أي زوجاتكم [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ] أي ولد وارث من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها و إن سفل ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعدّدا منكم أو من غيركم و الباقي لورثتها.

[فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ] على نحو ما فصّل [فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ أي تركت أزواجكم من المال و الباقي لباقي الورثة [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ قد مرّ تفسيره.

[وَ لَهُنَ أي و لزوجاتكم [الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ] ذكرا أو أنثى منهنّ أو من غيرهنّ أو ولد ابن و إن سفل واحدة كانت الزوجة أو اثنين أو ثلاثا أو أربعا لم يكن لهنّ أكثر من ذلك.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث واحدة كانت الزوجة أو أكثر من ذلك [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها] أيّها الأزواج [أَوْ دَيْنٍ و قد مرّ بيان الوصيّة والدين.

[وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً] اختلف في معنى الكلالة فقال جماعة من الصحابة و التابعين مثل عمر و أبي بكر و ابن عبّاس: إنّ الكلالة من هو عدا الولد و الوالد. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس أيضا أنّه من عدا الوالد، لكنّ المرويّ عن أئمّتنا حسبما نقل الطبرسيّ في المجمع أنّ الكلالة الإخوة و الأخوات و المذكور في هذه الآية من كان من قبل الأمّ منهم و المذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب و الأمّ أو من قبل الآباء.

قال الفيض في الصافي: لهذا الكلام وجوه من الإعراب فقرى ء «يورث» بكسر الراء و بفتحها و كذلك قرئ «كلالة» منصوبة على الحاليّة و المفعوليّة و «كان» تامّة و ناقصة لكن باختلاف الإعراب لا يتغيّر الحكم.

قال الفيض: و الكلالة القرابة و يطلق على الوارث و المورّث و فسّرت في الكافي عن الصادق عليه السّلام بمن ليس بولد و لا والد و المراد القريب من جهة العرض لا الطول و المراد بها

ص: 60

في هذه الآية الإخوة و الأخوات من الأمّ خاصّة و في الآية الاخرى في آخر السورة من الأب و الأمّ أو الأب فقط، كذا عن المعصومين كما بيّنه الطبرسيّ.

[أَوِ امْرَأَةٌ] عطف على قوله: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ» معناه: و إن كان رجل كلالة يورث ماله أو امرأة كلالة تورث مالها: على قول من قال: إنّ الميّت نفسها تسمّى كلالة، و من قال: إنّه الحيّ الوارث؛ فالمعنى: و إن كان رجل يورث في حال تكلّل نسبه به أو امرأة يورث كذلك، و هذا المعنى قول أهل الكوفة، و يؤيّده ما روي عن جابر أنّه قال: أتاني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنا مريض فقلت: و كيف الميراث و إنّما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض.

فالكلالة في النسب من أحاط بالميّت و تكلّله من الإخوة و الأخوات، و الولد و الوالد ليسا بكلالة لأنّهما أصل النسب الّذي ينتهي إلى الميّت و من سواهما خارج عنهما و الوالد و الولد طرفان للرجل فإذا مات الرجل و لم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمّي ذهاب طرفيه كلالة.

و قوله تعالى: [وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني الأخ و الاخت من الأمّ [فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ جعل الذكر و الأنثى هاهنا سواء و لا خلاف بين الامّة أنّ الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ متساوون في الميراث.

[فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ و هذا الثلث يتوزّع عليهم بالسويّة [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى قرئ على المجهول [بِها أَوْ دَيْنٍ مرّ بيانه [غَيْرَ مُضَارٍّ] منصوب على الحال أي لم يكن قصده إضرار الورثة بأن يوصي زائدا عن الثلث لإضرارهم أو يقرّ بدين كاذب لحرمان الورثة، و قد جاء في الحديث أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر.

[وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي وصّاكم اللّه وصيّة بها لا يجوز تغييرها؛ قال صلى اللّه عليه و آله: من قطع ميراثا فرضه اللّه قطع اللّه ميراثه من الجنّة [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمضارّ [حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترّ الإنسان بالإمهال.

[سورة النساء (4): الآيات 13 الى 14]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

ص: 61

[تِلْكَ أي الأحكام الّتي تقدّمت في أمر اليتامى و الوصايا و المواريث [حُدُودُ اللَّهِ و شرائعه الّتي هي كالحدود المحدودة بحيث لا يجوز مجاوزتها.

[وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في جميع الأوامر و النواهي الّتي من جملتها ما فصّل هاهنا.

[يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها] و صيغة الجمع بالنظر إلى جمعيّة «من» بحسب المعنى.

[وَ ذلِكَ أي هذا الثواب هو الفلاح العظيم و النجاة الوافرة يوم القيامة.

[وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و لو في بعض الأوامر و النواهي [وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و شرائعه المحدودة في جميع الأحكام [يُدْخِلْهُ ناراً] عظيمة هائلة لا يقادر قدرها [خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ سمّاه «مهين» لأنّ اللّه يعذّبه على وجه الإهانة كما أنّه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

و استدلّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ صاحب الكبيرة من أهل الصلاة مخلّد في النار و معاقب فيها لا محالة.

قال الطبرسيّ: فقوله: «و يتعدّ حدوده» يدلّ على أنّ المراد به من تعدّى جميع حدوده و هذه صفة الكفّار و لأنّ صاحب الصغيرة بلا خلاف خارج من عموم الآية و الحالة أنّه فاعل للمعصية و متعدّ حدّا من حدود اللّه و إذا جاز إخراجه منه بدليل جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النبيّ أو يتفضّل اللّه عليه بالعفو بدليل آخر.

و أيضا فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة و كذلك يجب إخراج من يتفضّل اللّه بإسقاط العقوبة لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو.

على أنّ في المفسّرين من حمل الآية على من تعدّى حدود اللّه و عصاه مستحلّا لذلك و من كان كذلك كان كافرا قطعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 15 الى 16]

وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)

ص: 62

لمّا بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب النكاح و الميراث بيّن حكم الحدود في النساء إذا ارتكبن الحرام فقال: [وَ اللَّاتِي جمع الّتي [يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ] أي يفعلن الزنا [مِنْ نِسائِكُمْ أي الحرائر [فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من المسلمين يخاطب الحكّام و الأئمّة فيأمرهم بطلب أربعة من الشهود في ذلك عند عدم الإقرار، و قيل:

هو خطاب للأزواج في نسائهم.

[فَإِنْ شَهِدُوا] عليهنّ بذلك [فَأَمْسِكُوهُنَ و احبسوهنّ [فِي الْبُيُوتِ و اجعلوها سجنا عليهنّ [حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يدركهنّ الموت فيمتن في البيوت و يستوفي أزواجهنّ. و كان في مبتدء الإسلام إذا فجرت المرأة و قام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتّى تموت ثمّ نسخ ذلك بالرجم في المحصن و الجلد في البكرين.

[أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا] قالوا: لمّا نزل قوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» (1) قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: خذوا عنّي خذوا عنّي قد جعل اللّه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تعذيب عامّ و الثيّب بالثيّب جلد مائة و الرجم و قال بعض: إنّ من وجب عليه الرجم يجلد أوّلا ثمّ يرجم، و به قال الحسن و قتادة و جماعة من الفقهاء. و قال الطبرسيّ: قال أكثر أصحابنا: إنّ ذلك مختصّ بالشيخ و الشيخة فأمّا غيرهما فليس عليه غير الرجم.

و حكم هذه الآية و هي «وَ اللَّاتِي إلخ» منسوخ عند جمهور المفسّرين و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام، و قال بعضهم: إنّه غير منسوخ لأنّ الحبس لم يكن مؤبّدا.

و الصحيح عن الصادق: هي منسوخة. و السبيل هو الحدود و كان الحكم قبل السبيل أنّ المرأة إذا فجرت و قام عليها أربعة شهود دخلت بيتا و لم تحدّث و لم تكلّم و لم تجالس و أوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت ثمّ جعل اللّه لهنّ السبيل الجلد و الرجم.

و قال أبو مسلم الإصفهانيّ: إنّ المراد بقوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ» السحّاقات

ص: 63


1- النور: 2.

و حدّهنّ الحبس إلى الموت و بقوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» المراد أهل اللواط و المراد بالآية الّتي في سورة النور الزنى بين الرجل و المرأة و حدّه في البكر الجلد و في المحصن الرجم.

و احتجّ بأنّ قوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» مخصوص بالنسوان و قوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» مخصوص بالرجال لأنّ كلمة «اللّذان» تثنية الذكور.

و احتجّوا على إبطال قول أبي مسلم: أنّ هذا قول لم يقله أحد من المفسّرين فكان باطلا، و قوله صلى اللّه عليه و آله قال: قد جعل اللّه لهنّ سبيلا الثيّب ترجم و البكر تجلد يدلّ على أنّ هذه الآية نازلة في حقّ الزناة.

ثمّ إنّ الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط و لم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية. و أجاب أبو مسلم عن هذا الجواب فيطول شرحه و شرحه الرازيّ في المفاتيح من أراد فلينظر هناك.

و نقل الطبرسيّ قول أبي مسلم في الآية قال: و قال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان بالفاحشة بينهما و الفاحشة في الآية الاولى عنده السحق و في الآية الثانية اللواط فحكم الآيتين عنده ثابت غير منسوخة و إلى هذا التأويل ذهب أهل العراق، و هذا بعيد لأنّ الّذي عليه جمهور المفسّرين أنّ الفاحشة في الآية الزنا و أنّ الحكم في الآية منسوخة بالحدّ المفروض في سورة النور ذهب إليه الحسن و مجاهد و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و البلخيّ و الجبّائيّ و الطبريّ و جماعة.

و قوله: [فَآذُوهُما] قيل: معناه التعيير باللسان و الضرب بالنعال، عن ابن عبّاس.

و قيل: التوبيخ باللسان.

و قرئ «وَ الَّذانِ» مشدّدا و مخفّفا و قرأ ابن كثير مشدّدا قال ابن مقسم: إنّما شدّد ابن كثير في هذه النونات مثل «اللّذانّ» «و هذانّ» لأمرين: أحدهما الفرق بين تثنية الأسماء المتمكّنة و غير المتمكّنة، و الآخر أنّ «الّذي» و «هذا» مبنيّان على حرف واحد و هو الذال فأرادوا تقوية كلّ واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا آخر من جنسها.

و قيل: زادوا النون تأكيدا كما زادوا اللام.

ص: 64

ثمّ هاهنا مسألة و هي أنّه على قول المفسّرين ثبت أنّ الآية الاولى و الثانية في الزناة فما السبب في هذا التكرار؟

قال الرازيّ: إنّ المراد من قوله: «وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» الزواني و المراد من قوله: «وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» الزناة ثمّ إنّه تعالى خصّ الحبس في البيت بالمرأة و خصّ الإيذاء بالرجل إذ الإيذاء كان مشتركا بينهما و الحبس كان من خواصّ المرأة.

و قال الحسن: هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدّمة و التقدير: و اللّذان يأتيان الفاحشة من النساء و الرجال فآذوهما فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما، ثمّ نزل قوله:

«فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» يعنى إن لم يتوبا و أصرّا على هذا الفعل القبيح.

قال الرازيّ: و هذا القول عندي في غاية البعد و يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات، انتهى.

[فَإِنْ تابا] أي رجعا عن الفاحشة و أصلحا العمل فيما بعده [فَأَعْرِضُوا عَنْهُما] و كفّوا عن أذاهما [إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً] يقبل التوبة عن عباده و يرحمهم.

قال الحقّيّ في روح البيان: إنّ الرجل إذا زنى بامرأة و هما محصنان فحدّهما الرجم لا غير و إن كانا غير محصنين فحدّهما الجلد لا غير و إن كان أحدهما محصنا و الآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم و على الآخر الجلد، و المحصن هو أن يكون عاقلا بالغا مسلما حرّا دخل بامرأة بالغة حرّة مسلمة بنكاح صحيح فالرجم كان مشروعا في التوراة ثمّ نسخ بآية الإيذاء من القرآن ثمّ نسخ الإيذاء بآية الحبس، و آية الإيذاء و إن كانت متأخّرة في الترتيب إلّا أنّها سابقة على الاولى نزولا ثمّ صار الحبس منسوخا بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيّب بالثيّب جلد مائة و رجم بالحجارة ثمّ نسخ هذا كلّه بآية الجلد بقوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» و صار الحدّ هو الجلد في كلّ زان و زانية ثمّ صار هذا منسوخا بالرجم في حقّ المحصن بحديث ما عز و بقي غير المحصن في حكم الجلد و هو الترتيب في الآيات و السنّة. انتهى كلام روح البيان.

ص: 65

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 17]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

. لمّا ذكر سبحانه في الآيتين أنّ المرتكبين للفاحشة إذا تابا و أصلحا زال الأذى عنهما و وعد سبحانه بقبول التوبة بقوله: «تَوَّاباً رَحِيماً» ذكر في هذه الآية وقت التوبة و شرطها.

و لفظة [إِنَّمَا] يتضمّن النفي و الإثبات فالمعنى: لا توبة مقبولة [عَلَى اللَّهِ أي عند اللّه، كما فسّره الطبرسيّ. و قيل: «عَلَى» بمعنى «من» و أتى بلفظ «عَلَى» للدلالة على التحقّق البتّة بحكم كأنّه من الواجبات الّتي أوجب على نفسه بالتفضّل على القبول.

و احتجّ القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ على أنّه يجب على اللّه عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين:

الاول: أنّ كلمة «عَلَى» للوجوب فقوله: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ» يدلّ على أنّه يجب عليه قبولها.

الثاني: لو حملنا قوله: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» على مجرّد القبول لم يبق بينه و بين قوله: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» فرق لأنّ هذا أيضا إخبار عن الوقوع أمّا إذا حملنا ذلك على وجوب القبول و هذا على الوقوع يظهر الفرق في بيان الآيتين و لا يلزم التكرار.

قال الرازيّ: إنّ القول بالوجوب على اللّه باطل لأنّ لازمة الوجوب استحقاق الذمّ عند الترك فهذه اللازمة إمّا أن يكون ممتنعة الثبوت في حقّ اللّه أو غير ممتنعة في حقّه و الأوّل باطل لأنّ ترك ذلك الواجب لمّا كان مستلزما لهذا الذّم و هذا الذمّ محال الثبوت في حقّ اللّه وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حقّه و إذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت فحينئذ يكون اللّه موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار و ذلك باطل فثبت أنّ القول بالوجوب على اللّه باطل، ثمّ إنّ التوبة فعل يحصل باختيار العبد على

ص: 66

قولهم؛ فلو صار ذلك علّة للوجوب على اللّه لصار فعل العبد مؤثّرا في صفاته و ذاته و ذلك لا يقوله عاقل لكنّ الصحيح هو أنّه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين فإذا وعد اللّه بشي ء و كان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب فبهذا التأويل صحّ إطلاق كلمة «على».

فإن قيل: لمّا أخبر سبحانه بقبول التوبة و كلّ ما أخبر عن وقوعه كان واجب الوقوع فيلزم أن لا يكون فاعلا مختارا.

فالجواب أنّ الإخبار عن الوقوع تبع للإيقاع فكان فاعلا مختارا في ذلك الإيقاع أمّا أنتم تقولون بأنّ وقوع التوبة من حيث إنّها هي تؤثّر في وجوب القبول على اللّه و هذا ليس بصحيح فظهر الفرق، انتهى كلام الرازيّ.

و بالجملة معنى قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» قبولها [لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقيل: معنى «بجهالة» أنّ كلّ معصية يفعلها العبد جهالة و إن كان على سبيل العمد لأنّ الجهل يدعو إليها و يزيّنها للعبد، عن ابن عبّاس و عطا و مجاهد و قتادة و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام قال: كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه؛ فقد حكي قول يوسف عليه السّلام لإخوته:

«هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» (1) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه.

هذا أحد الوجوه في معنى «بجهالة».

و القول الثاني أنّ معناه أنّهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة كما يعلم الشي ء ضرورة، عن الفرّاء.

و ثالثها أنّهم يجهلون أنّها ذنوب فيفعلونها إمّا بتأويل يخطئون فيه و إمّا بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها.

و هذا هو الشرط الأوّل في التوبة و أمّا الشرط الثاني في الآية و هو قوله: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» و أجمع المفسّرون على أنّ المراد «مِنْ قَرِيبٍ» أي يتوبون قبل الموت لأنّ ما بين

ص: 67


1- يوسف: 89.

الإنسان و بين الموت قريب؛ فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت. و قال الحسن و الضحّاك و ابن عمر: ما لم يعاين الموت. و قال السدّيّ: هو مادام في الصحّة قبل المرض و الموت.

و في المجمع قال الطبرسيّ: روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل: له فإن عاد و تاب مرارا؟ قال: يغفر اللّه له، قيل: إلى متى؟ قال عليه السّلام: حتّى يكون الشيطان هو المحسور.

و في كتاب من لا يحضره الفقيه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه ثمّ قال: و إنّ السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه ثمّ قال: و إنّ الساعة لكثيرة من تاب قبل أن يغرغر بها (1) تاب اللّه عليه.

و روي أيضا بإسناده عن الحسن قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لمّا هبط إبليس قال:

و عزّتك و جلالك و عصمتك لا أفارق ابن آدم حتّى يفارق روحه جسده فقال اللّه سبحانه:

و عزتي و جلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يغرغر بها.

[فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح العباد [حَكِيماً] فيما يعاملهم به.

[سورة النساء (4): آية 18]

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

. لمّا ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة الّتي لا يكون مقبولة و الآية دالّة على أنّ من حضره الموت و شاهد أهواله فإنّ توبته غير مقبولة كما قال سبحانه: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» (2) و كذلك لمّا أدرك فرعون الغرق قال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ» (3) و أمثال هذه الآيات الدالّة على عدم قبول التوبة بعد حال اليأس من الحياة «كثيرة».

و الحاصل أنّه [لَيْسَتِ التَّوْبَةُ] المقبولة الّتي ينتفع بها صاحبها [لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

ص: 68


1- غرغر بنفسه: جاد بها عند الموت.
2- غافر: 85.
3- يونس: 90.

المعاصي و يصرّون عليها و يسوّفون التوبة [حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ و أسبابها مثل معاينة ملك الموت و شواهد اليأس من الحياة [قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و لعلّ السبب في عدم قبولها حينئذ أنّ الإيمان و العلم يقع ضروريّا فيسقط التكليف فلا فائدة فيها.

قال الطبرسيّ في المجمع: و أجمع أهل التأويل على أنّ هذه الآية قد تناولت عصاة أهل الإسلام إلّا ما روي عن الربيع انّه قال: إنّها في المنافقين و هذا لا يصحّ لأنّ المنافقين من جملة الكفّار؛ قال تعالى: «وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» (1).

و قد بيّن اللّه الكفّار بقوله: [وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ] أي ليست التوبة أيضا للذين يموتون على الكفر ثمّ يندمون بعد الموت [أُولئِكَ أَعْتَدْنا] و هيّأنا [لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً] موجعا.

قال صاحب المجمع: و من استدلّ بظاهر قوله: «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة فالانفصال عن استدلاله أن يقال: إنّ معنى إعداد العذاب لهم إنّما خلق النار الّتي هي مصيرهم فالظاهر يقتضي استيجابهم لدخولها و ليس في الآية أنّ اللّه يفعل بهم ما يستحقّونه لا محالة.

و يحتمل أن يكون «أولئك» إشارة إلى الّذين يموتون و هم كفّار؛ لأنّه أقرب إليه من قوله: «يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ».

و يحتمل أن يكون التقدير من قوله: «أَعْتَدْنا لَهُمْ» أي إذا عاملناهم بالعدل و لم نشأ العفو عنهم، و تكون الفائدة فيه إعلامهم ما يستحقّونه من العقاب و أن لا يأمنوا من أن يفعل لهم ذلك فإنّ قوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (2) لا يتناول المشيئة فيه إلّا المؤمنين من أهل الكبائر الّذين يموتون قبل التوبة لأنّ المؤمن المطيع خارج عن هذه الجملة و كذلك التائب إذ لا خلاف في أنّ اللّه لا يعذّب أهل الطاعات من المؤمنين و لا التائبين من المعصية و الكافر خارج عن المشيئة لإخبار اللّه تعالى أنّه لا يغفر الكفر فلم يبق تحت المشيئة إلّا من مات مؤمنا موحّدا و قد ارتكب كبيرة لم يتب منها.

ص: 69


1- المنافقون: 1.
2- السورة: 48.

لكن قال الربيع: إنّ الآية منسوخة بقوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* لأنّه حكم من اللّه و النسخ جائز في الأحكام و إنّما يمتنع النسخ في الأخبار.

قال الطبرسيّ: و هذا لا يصحّ لأنّ قوله: «أَعْتَدْنا» وارد مورد الخبر فلا يجوز النسخ فيه كما لا يجوز في سائر الأخبار.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

. النزول: كان أهل الجاهليّة يؤذون النساء بأنواع كثيرة و بضروب من الظلم فاللّه تعالى نهاهم عنها مثل أنّ الرجل إذا مات و كانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة و قال: ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحقّ بها من سائر الناس و من نفسها فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلّا الصداق الأوّل الّذي أصدقها الميّت و إن شاء زوّجها من إنسان آخر و أخذ صداقها و أكله و لم يعطها شيئا؛ فأنزل اللّه الآية و بيّن أنّ ذلك حرام.

قال الطبرسيّ في المجمع: إنّ أبا قيس بن الأسلت لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ألقى ابنه محضر بن أبي قيس ثوبه عليها فورث نكاحها ثمّ تركها و لم يقربها و لم ينفق عليها فجاءت إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالت: يا نبيّ اللّه لا أنا ورثت زوجي و لا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية، عن مقاتل و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في الرجل تكون تحته امرأة بكرة صحبتها و لها عليه مهر فيضارّها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك، عن ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده و لا حاجة له إليها و ينتظر موتها حتّى يرثها، عن الزهريّ، و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا.

و الحاصل: نهى اللّه عن الاستنان بسنّتهم أن تحبسوهنّ على كره منهنّ طمعا في

ص: 70

ميراثهنّ و أن تسيئوا صحبتهنّ ليفتدين بما لهنّ أو بما أعطيتموهنّ من مهورهنّ أو ليمتن فترثوهنّ، فنهى عن جميع هذه الأمور.

[وَ لا تَعْضُلُوهُنَ أي لا تمنعوهنّ عن النكاح أو المعنى لا تحبسوهنّ [لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ و اختلف في المعنيّ بهذا النهي على أربعة أقوال:

أحدها أنّه الزوج أمر اللّه بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة و أن لا يمسكها إضرارا بها حتّى يفتدي ببعض مالها، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و ثانيها أنّ المخاطب بالنهي الوارث نهى عن منع المرأة عن التزويج كما يفعله أهل الجاهليّة، كما ذكر قبل هذا.

و ثالثها أنّه المطلّق أي لا يمنع المطلّقة من التزويج كما كانت يفعله قريش في الجاهليّة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فإذا لم توافقه فارقها على أن لا تتزوّج إلّا بإذنه و يشهد عليها بذلك و يكتب كتابا فإذا خطبها خاطب فإن أرضته أذن لها و إن لم تعطه شيئا عضلها و منعها عن التزويج، فنهى اللّه عن ذلك.

و رابعها أنّ المخاطب هو الوليّ بأنّه لا يمنعها عن النكاح. قال الطبرسيّ: و القول الأوّل هو الأصحّ.

[إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] قيل: المراد من الفاحشة الزنى أي يزنين أي إذا أتت بهذا الأمر القبيح فله أخذ الفدية، عن السدّيّ و جماعة. و قيل: إنّ الفاحشة المراد منها هاهنا النشوز عن ابن عبّاس، و الأولى حمل الآية على كلّ معصية و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام و اختاره الطبريّ.

و اختلف في هذا الاستثناء ممّا ذا هو؟ فقيل: هو من أخذ المال و هو قول أهل التفسير.

و قيل: كان هذا قبل الحدود و كان الأخذ منهنّ على وجه العقوبة لهنّ ثمّ نسخ، عن الأصمّ.

و قيل: هو الحبس و الإمساك فيكون استثناء من قوله: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ» فالأولياء و الأزواج نهوا عن حبسهنّ في البيوت إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ظاهرة فعند ذلك يحلّ لهم

ص: 71

حبسهنّ، أو استثناء من الحبس المذكور في قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» لكن يتمّ هذا الكلام على قول أبي مسلم حيث زعم أنّه غير منسوخ.

[وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و المراد من العشرة المصاحبة بما أمركم اللّه به من أداء حقوقهنّ الّتي هي النصفة في القسم و النفقات و الإجمال في القول و الفعل. و قيل: المعروف أن لا يضرّ بها و لا يضر بها و لا يسي ء القول معها و يكون منبسط الوجه معها بل يتّضع لها كما تتّضع له.

[فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ أي كرهتم إمساكهنّ و صحبتهنّ [فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ أي في ذلك الشي ء و هو إمساكهنّ على كره منكم [خَيْراً كَثِيراً] من ولد يرزقكم أو عطف لكم عليهنّ بعد الكرامة.

و في الآية حثّ للأزواج على حسن الصبر فيما يكرهون من الأزواج و ترغيبهم في إمساكهنّ مع كراهة صحبتهنّ إذا لم يخافوا في ذلك من ضرر على النفس والدين و المال لأنّه لمّا كره الرجل صحبتها ثمّ تحمّل ذلك المكروه طلبا لثواب اللّه و أنفق عليها و أحسن إليها على خلاف الطبع استحقّ الثواب الجزيل في العقبى.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 20 الى 21]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)

قيل: إنّ الرجل منهم إذا مال إلى التزوّج بامرأة اخرى رمى زوجته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة الّتي يريدها فقال اللّه:

[وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ خاطب الأزواج «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ» أيّها الأزواج إقامة امرأة مقام امرأة و أعطيتم المطلّقة الّتي تستبدلون بها غيرها [قِنْطاراً] أي مالا عظيما كثيرا و «القنطر» يقال للداهية لأنّها كالقنطرة في عظم الصورة. و قيل: القنطار ملئي مسك ثور ذهبا أو أنّه دية الإنسان.

[فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من المعطى [شَيْئاً] إذا كرهتموهنّ و أردتم طلاقهنّ [أَ تَأْخُذُونَهُ

ص: 72

بُهْتاناً] هذا استفهام إنكاريّ أي «أ تاخذونه باطلا و ظلما» كالظلم بالبهتان و البهتان كذب يحيّر الإنسان لعظمته و يبهته، و البهتان مصدر وضع موضع الحال أي مباهتين و آثمين أو المعنى تصيبون بالأخذ بهتانا [وَ إِثْماً مُبِيناً] ظاهرا لا شكّ فيه.

و ليس معنى الآية أنّ حرمة الأخذ مختصّة بالاستبدال بأن يجوز له الأخذ بغير الاستبدال بل المعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدلتم مكانها اخرى أم لم تستبدلوا فلا تأخذوا ممّا آتيتموها شيئا. و إنّما خصّ حال الاستبدال بالنهي عن الأخذ لعدم التوهّم بجواز الاسترجاع مع الاستبدال.

[وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ و هذا تعظيم في عجب هذا الفعل، كيف تأخذون ذلك منهنّ؟

[وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ و هو كناية عن الجماع، و قيل: الإفضاء حصوله معها في فراش واحد، عن الكلبيّ.

[وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] و الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن الحسن و ابن سيرين و الضحّاك و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. و القول الثاني: أنّ المراد بالميثاق كلمة النكاح الّتي يستحلّ بها الفرج. و القول الثالث: قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله حيث قال: أخذتم بأمانة اللّه و استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه.

قال الطبرسيّ: و قد قيل في هاتين الآيتين ثلاثة أقوال:

أحدها أنّهما محكمتان غير منسوختين لكن للزوج أن يأخذ الفدية من المختلعة لأنّ النشوز حصل من جهتها فالزوج في حكم المكره لا المختار للاستبدال و لا يتنافى حكم الآيتين و حكم آية الخلع فلا يحتاج إلى نسخهما بآية الخلع، و هو قول الأكثرين.

و القول الثاني: أنّهما محكمتان و ليس للزوج أن يأخذ من المختلعة شيئا و لا من غيرها بسبب ظاهر الآية، و هذا القول عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ.

و القول الثالث: أنّ حكمها منسوخ بقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» (1) عن الحسن. انتهى.

ص: 73


1- البقرة: 229.

[سورة النساء (4): آية 22]

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)

. نزلت الآية في ما كان يفعله أهل الجاهليّة عن نكاح امرأة الأب، عن ابن عبّاس و عطا و عكرمة و قتادة و قالوا: تزوّج صفوان بن اميّة امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطّلب و تزوّج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن و تزوّج منصور بن زياد امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.

و قيل: توفّي أبو قيس و كان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إنّك من صالحي قومك فأتى رسول اللّه و استأمره فأتته و أخبرته فقال لها رسول اللّه: ارجعي إلى بيتك، فأنزل اللّه هذه الآية.

و النكاح اسم يقع على العقد و على الوطء أمّا على العقد مثل «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» (1) و على الوطء مثل قوله: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً» (2) و مثل قوله صلى اللّه عليه و آله: ملعون من نكح يده و ملعون من نكح بهيمة.

و قال آخرون: إنّ لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد؛ لأنّ أصل اللغة عبارة عن الضمّ و معنى الضمّ حاصل في الوطء لا في العقد فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء.

ثمّ إنّ العقد سمّي بهذا الاسم لأنّ العقد لمّا كان سببا له أطلق المسبّب على السبب: كما أنّ العقيقة اسم للشعر الّذي يكون على رأس الصبيّ حال ما يولد ثمّ تسمّى الشاة الّتي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة، فكذا هاهنا.

فقوله: [وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ أي لا تتزوّجوا ما تزوّج آباؤكم و قيل: ما وطئ آباؤكم من النساء حرم عليكم. و قيل: إنّ تقديره: و لا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثل نكاح آبائكم فيكون «ما نكح» بمنزلة المصدر و يكون النفي عن حلائل الآباء و كلّ نكاح كان لهم فاسد في الجاهليّة، و هذا قول الطبريّ.

و الإتيان «بما» فقد ذهب مذهب الجنس كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء فيذهب به مذهب الجنس ثمّ فسّره «بمن» في قوله: «مِنَ النِّساءِ».

ص: 74


1- النور: 32.
2- النور: 30.

و هاهنا بيان و هو أنّ من الناس من ذهب أنّ لفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال: دلّت الآية على أنّ لفظ النكاح حقيقة في الوطء و في العقد معا فكان قوله:

«وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ» نهيا عن الوطء و عن العقد معا حملا للّفظ على كلا مفهوميه.

و أمّا من قال بأنّ لفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا قال: إنّ لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة و في العقد اخرى، قالوا: و القول بالاشتراك و المجاز خلاف الأصل و لا بدّ من جعل حقيقة في القدر المشترك بينهما و هو معنى الضمّ حتّى يندفع الاشتراك و المجاز و إذا كان كذلك كان قوله: «وَ لا تَنْكِحُوا» نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين و النهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كلّ واحد من القسمين لا محالة؛ فإنّ النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد و عن الوطء معا، انتهى.

قوله تعالى: [إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قيل: إنّ المعنى هذا الاستثناء على طريق المعنى أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلّا ما قد سلف قبل نزول التحريم فإنّه معفوّ عنه. و قيل الاستثناء منقطع لأنّه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل فالمعنى: لكن ما قد سلف فإنّ اللّه يجاوز عنه، و استثنى ما قد مضى ليعلم أنّه لم يكن مباحا. و قيل: «إلّا» في الآية بمعنى «بعد» كقوله: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى (1) أي بعد الموتة الاولى.

[إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً] الضمير في «إنّه» قيل: راجع إلى هذا النكاح قبل النهي؛ لأنّ هذا الّذي حرّمه عليهم كان منكرا لم يزل في قلوبهم ممقوتا و كانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، و ذلك لأنّ زوجة الأب تشبه الأمّ و كان نكاح الأمّهات من أقبح الأشياء عند العرب فبيّن اللّه أنّ هذا النكاح أبدا كان ممقوتا و قبيحا. و القول الثاني:

أنّ الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي فبيّن سبحانه أنّه فاحشة و زنى في الإسلام.

[وَ مَقْتاً] عند اللّه، و المقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه [وَ ساءَ سَبِيلًا] و «ساء» فعل لازم و فاعله مضمر و سبيلا منصوب تفسير لذلك الفاعل.

و مراتب القبح ثلاثة في العقول و في الشرائع و في العادات فقوله: «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً»

ص: 75


1- الدخان: 56.

إشارة إلى القبح العقليّ و قوله: «مقتا» إشارة إلى القبح الشرعيّ و قوله: «وَ ساءَ سَبِيلًا» إشارة إلى القبح العرفيّ العاديّ، و متى اجتمعت في الأمر هذه الوجوه قد بلغ الغاية في القبح.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 23]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

. ثمّ بيّن المحرّمات من النساء و لا بدّ في الكلام من محذوف؛ لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان و إنّما يتعلّق الحلال و الحرام بأفعال المكلّف و يختلف المحذوف باختلاف ما أضيف إليه فإذا أضيف إلى مأكول نحو قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ» أي أكل الميتة و إذا أضيف إلى النساء فالمراد العقد و النكاح فالتقدير في الآية: حرّم عليكم نكاح امّهاتكم، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام مفهوما عليه. و «الأمّ» كلّ امرأة رجع نسبك إليها بالولادة.

فشرح اللّه سبحانه على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء سبعة منهنّ من جهة النسب و هنّ الأمّهات و البنات و الأخوات و العمّات و الخالات و بنات الأخ و بنات الأخت. و سبعة اخرى لا من جهة النسب بل بالسبب: الأمّهات من الرضاعة، و الأخوات من الرضاعة، و امّهات النساء، و بنات النساء و هنّ الربائب- بشرط أن يكون قد دخل بالنساء- و أزواج الأبناء و أزواج الآباء (لأنّ أزواج الأبناء مذكورة هاهنا و أزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدّمة كما شرحت) و الجمع بين الأختين.

و ذكر العلماء أنّ السبب لهذا التحريم أنّ الوطء إذلال و إهانة و أنّ الإنسان يستحيي من ذكره، و إذا كان كذلك وجب صون الأمّهات عنه لأنّ إنعام الأمّ على الولد أعظم و لا بدّ له عن صونها عن هذا الإذلال و كذا القول في البقيّة.

قوله: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ و لا شكّ أنّ «الجدّة» حكمها حكم الأمّ و إن علت.

ص: 76

قال الرازيّ: إنّ لفظ الأمّ لا شكّ أنّه حقيقة في الأمّ الأصليّة فأمّا في الجدّات فإمّا أن يكون حقيقة أو مجازا فإن كان لفظ «الأمّ» حقيقة في الأمّ الأصليّة و في الجدّات فإمّا أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا فإن كان لفظا متواطئا يعنى أن يكون لفظا موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأمّ الأصليّة و بين سائر الجدّات فعلى هذا التقدير يكون قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» نصّا في تحريم الأمّ الأصليّة و في تحريم جميع الجدّات و أمّا إن كان لفظ الأمّ مشتركا في الأمّ الأصليّة و في الجدّات فهذا يتفرّع على أنّ اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوّزه حمل اللفظ هاهنا على الكلّ و حينئذ يكون تحريم الجدّات منصوصا عليه، و من قال: لا يجوز فالحكم لهم في تحريم الجدّات غير مستفاد من هذا النصّ بل بدليل الإجماع و دلائل اخرى.

النوع الثاني من المحرّمات: البنات و هي كلّ أنثى يرجع نسبها إليك بدرجة أو درجات الصلبيّة، و بنات الأولاد و إن سفلن.

النوع الثالث: الأخوات من قبل الأب و الأمّ أو من قبل أحدهما.

[وَ عَمَّاتُكُمْ جمع «عمّة» و كلّ ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمّتك و قد تكون العمّة من جهة الأمّ مثل اخت أبي امّك و اخت جدّ امّك فصاعدا.

[وَ خالاتُكُمْ جمع «الخالة» و كلّ أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فاختها خالتك و قد تكون الخالة من جهة الأب مثل اخت امّ أبيك أو جدّة أبيك فصاعدا و قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» ليس المقصود أنّه قد حرم على كلّ أحد جميع امّهاتهم و قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد أي حرّم على كلّ أحد بنته مثلا أو أخته فمعنى الآية حرّم اللّه على كلّ واحد منكم نكاح امّه و من يقع عليها اسم الأمّ فصاعدا مثل امّ الأمّ و نكاح بنته و من يقع عليها اسم البنت فنازلا مثل بنت البنت و كذلك الجميع.

قوله تعالى: [وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ فهذا أيضا على ما ذكر جمع بإزاء جمع فيقع على الآحاد بإزاء الآحاد و التحديد في هؤلاء كالتحديد في بنات الصلب و هؤلاء السبع هي المحرّمات بالنسب.

ص: 77

و أمّا السبع الّتي تحرم بالسبب فقال سبحانه: [وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ سمّاهنّ «امّهات» للحرمة و كلّ أنثى انتسبت إليها باللبن فهي امّك فالّتي أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك فهي امّك من الرضاعة و كذلك كلّ امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلا فهي امّك من الرضاعة.

قال الواحديّ: المرضعات سمّاهنّ امّهات لأجل الحرمة كما سمّى أزواج النبيّ امّهات المؤمنين في قوله: «وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (1) لأجل الحرمة و قوله صلى اللّه عليه و آله:

و يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب بدلالة هذه الآية.

الصنف الثاني من المحرّمات بالسبب من الأصناف السبعة قوله: [وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ] يعني بنات المرضعة و هنّ ثلاثة الصغيرة الأجنبيّة الّتي أرضعتها امّك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك و الثانية أختك لأمّك دون أبيك و هي الّتي أرضعتها امّك بلبان غير أبيك و الثالثة أختك لأبيك دون امّك و هي الّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك.

و الكلام في الرضاع يشتمل على ثلاثة فصول:

أحدها: مدّة الرضاع فقد اختلف فيها فقال الأكثرون: لا يحرم الرضاع إلّا ما كان في مدّة الحولين، و هو مذهب أصحابنا و اتّفقوا على أنّ رضاع الكبير لا يحرم.

و أمّا قدر الرضاع فقال أبو حنيفة: إنّ قليله و كثيره يحرم. و قال الشافعيّ:

يحرم خمس رضعات. و قال أصحابنا: لا يحرم إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم و يعتبر ذلك برضاع يوم و ليلة لا يفصل بينه برضاع امرأة اخرى أو بخمس عشر رضعة متواليات لا يفصل بينها برضاع امرأة اخرى. و قال بعض أصحابنا: المحرّم عشر رضعات متواليات.

و أمّا كيفيّة الارتضاع فعند أصحابنا لا يحرم إلّا ما وصل إلى الجوف من الثدي في المجرى المعتاد الّذي هو الفم فأمّا ما يوجر أو يسقط أو يحقن به فلا يحرم بحال و لبن الميتة لا حرمة له في التحريم و في منع ذلك خلاف.

و الصنف الثالث [وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي و حرّم عليكم نكاحهنّ فلا يجوز نكاح امّ

ص: 78


1- الأحزاب: 6.

الزوجة و جدّاتها قرين أو بعدن من أيّ وجه كنّ سواء كنّ من النسب أو من الرضاع و هنّ تحرمن بنفس العقد على البنت أو الثيّب سواء دخل بها أم لم يدخل.

[وَ رَبائِبُكُمُ أي نبات نسائكم من غيركم [اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي في ضمانكم و تربيتكم. و لا خلاف بين العلماء أنّ كونهنّ في حجره ليس بشرط في التحريم و إنّما ذكر ذلك لأنّ الغالب أنّها يكون كذلك بل تحرم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها و كذلك بنت ابنها و بنت بنتها قربت أم بعدت لوقوع اسم الربيبة عليهنّ. و قال أبو عبيدة: «فِي حُجُورِكُمْ» أي في بيوتكم.

[مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ و هذه نعت لأمّهات الربائب لا غير، لحصول الإجماع على أنّ الربيبة تحلّ إذا لم يدخل بامّها.

قال الطبرسيّ: و اختلف في معنى الدخول على قولين: أحدهما أنّ المراد به الجماع، عن ابن عبّاس. و الآخر أنّه الجماع و ما يجري مجراه من المسّ و التجريد، عن عطاء و هو مذهبنا و في ذلك خلاف بين الفقهاء.

[فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ فيما قبل أصلا [فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح الربائب إذا فارقتم امّهاتهنّ و طلّقتموهنّ أو متن.

[وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي و حرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم حقيقة و أزال الشبهة في أمر زوجة المتبنّى به فقال: «الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» لئلّا يظنّ أنّ زوجة المتبنّى به تحرم على المتبنّي. و روي عن عطا أنّ هذه نزلت حين نكح النبيّ صلى اللّه عليه و آله امرأة زيد بن حارثة فقال المشركون في ذلك فنزل: «وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» و قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» (1) قوله تعالى: [وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي و حرّم عليكم الجمع بين الأختين لأنّ «أن» مع صلتها في حكم المصدر.

قال الطبرسيّ: و هذا يقتضي تحريم الجمع بين الأختين على الحرائر و كذلك تحريم الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين فإذا وطئ أحدهما فقد حرّمت عليه الاخرى

ص: 79


1- الأحزاب: 4.

حتّى تخرج تلك من ملكه و هو قول الحسن و أكثر المفسّرين و الفقهاء.

قال الرازيّ في المفاتيح: و أمّا الجمع بين الأختين بملك اليمين أو بأن ينكح أحدهما و يشتري الاخرى فقد اختلف الصحابة فيه فقال عليّ عليه السّلام و عمرو ابن مسعود و زيد بن ثابت و ابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما. و الباقون جوّزوا ذلك.

أقول: و المنع صحيح بمقتضى ظاهر الآية لأنّ ظاهر الآية يقتضي التحريم على جميع الوجوه و لقوله صلى اللّه عليه و آله: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجمعنّ ماءه في رحم أختين، رواه أبو السعود في تفسيره.

قوله تعالى: [إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به قال أبو السعود: لا سبيل إلى جعله متّصلا و ليس المراد أنّ ما سلف حال النهي يجوز استدامته بلا خلاف لأنّ قوله: [إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يدلّ على المنع.

و قال عطاء و السدّيّ. معناه إلّا ما كان من يعقوب فإنّه قد جمع بين ليّا امّ يهودا و بين راحيل امّ يوسف و لا يساعده التعليل لأنّ ما فعله يعقوب كان حلالا في شريعته.

و قال ابن عبّاس: كان أهل الجاهليّة يحرّمون هذه الأمور المذكورة إلّا امرأة الأب و الجمع بين الأختين و قد عقّب اللّه النهي على كلّ منهما بقوله: «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ»*.

و اعلم أنّ كلّ ما حرّم اللّه في هذه الآية فإنّما هو على وجه التأبيد سواء كان مجتمعات أو متفرّقات إلّا الأختين فإنّهما تحرّمان على وجه الجمع دون الانفراد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 24]

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

[وَ الْمُحْصَناتُ بفتح العين قيل: أي و حرّمت عليكم النساء اللاتي احصنّ بالأزواج [إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من سبي من كان لها زوج عن عليّ عليه السّلام و ابن مسعود و ابن عبّاس

ص: 80

و مكحول و الزهريّ و استدلّ بعضهم على ذلك بخبر أبي سعيد الخدريّ أنّ الآية نزلت في سبى أو طاس (1) و أنّ المسلمين أصابوا نساء المشركين و كان لهنّ أزواج في دار الحرب فلمّا نزلت نادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة. و من خالف فيه ضعّف هذا الخبر بأنّ سبى أوطاس كانوا عبدة الأوثان و لم يدخلوا في الإسلام و لا تحلّ نكاح الوثنيّة، و أجيب عن ذلك بأنّ الخبر محمول على ما بعد الإسلام.

قال أبو السعود: و قرئ «المحصنات» بصيغة الفاعل فإنّهنّ أحصنّ فروجهنّ عن غير أزواجهنّ و قد ورد الإحصان في القرآن بإزاء أربعة معان: التزوّج كما في هذه الآية الكريمة. الثاني: العفّة كما في قوله «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ». الثالث: الحرّيّة كما في قوله «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ» و الرابع. الإسلام كقوله:

«فَإِذا أُحْصِنَّ» أي أسلمن.

و المعنى الثاني في الآية أنّ المراد ذوات الأزواج [إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فمن كان لها زوج لأنّ بيعها طلاقها، عن ابيّ بن كعب و جابر بن عبد اللّه و أنس و ابن المسيّب و الحسن. و قال ابن عبّاس: طلاق الأمة تثبت بستّة أشياء سبيها و بيعها و عتقها و هبتها و ميراثها و طلاق زوجها.

و القول الثالث في الآية أنّ المراد «بالمحصنات» العفائف «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» بالنكاح أو بالثمن ملك استمتاع بسبب المهر و النفقة أو ملك استخدام بالثمن، عن سعيد بن جبير و أبي العالية و عطاء و السدّيّ.

[كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني كتب اللّه تحريم ما حرّم و تحليل ما حلّل عليكم كتابا فلا تخالفوه و تمسّكوا به.

قوله: [وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ قيل: في معناه أربعة أقوال:

ص: 81


1- هم بقية المشركين المنهزمين من حنين.

أحدها: احلّ لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم، عن عطاء.

و ثانيها: أنّ معناه احلّ لكم مادون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح عن السدّيّ.

و ثالثها: ما وراء ذلكم ممّا ملكت أيمانكم، عن قتادة.

و رابعها: احلّ لكم ما وراء المذكورات من المحارم، و من الزيادة على الأربع و خرج منه بالسنّة ما في معنى المذكورات كسائر محرّمات الرضاع و مثل الجمع بين المرأة و عمّتها و خالتها بغير إذنها كما في الكافي عن الباقر عليه السّلام في عدّة روايات.

[أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ و تصرفوا أموالكم في مهورهنّ أو أثمانهنّ [مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ و المراد بالإحصان هاهنا العقد و السفاح الزنى أي متزوّجين غير زانين أو معنى «الإحصان» العفّة أي أعفّة غير زناة.

قوله: [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ أي بالعقد [مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً] قيل: المراد بالاستمتاع هنا درك البغية و المباشرة و قضاء الوطر من اللذّة، عن الحسن و مجاهد و ابن زيد.

فيكون المعنى على هذا: فما استمتعتم و تلذّذتم من النساء بالنكاح فآتوهنّ مهورهنّ.

و قيل: المراد به نكاح المتعة و هو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم، عن ابن عبّاس و السدّيّ و جماعة من التابعين و هو مذهب أصحابنا الإماميّة، و هو الصحيح الواضح لأنّ أصل الاستمتاع و التمتّع و إن كان واقعا على الانتفاع و الالتذاذ فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن لا سيّما إذا أضيف إلى النساء فيكون المعنى: فمتى عقدتم عليهنّ هذا العقد المسمّى متعة فآتوهنّ اجورهنّ.

و يدلّ على ذلك أنّ اللّه علّق وجوب إعطاء المهر بالاستمتاع و ذلك يقتضي أن يكون المراد و المعنيّ هذا العقد المخصوص دون الجماع و الاستلذاذ لأنّ المهر لا يجب إلّا به و قد علم أنّه لو طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهر و لو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد لأنّه قال تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي مهورهنّ و لا خلاف في أنّ ذلك غير واجب و إنّما يجب الاجرة بكماله بنفس العقد في نكاح المتعة.

ص: 82

قال الفيض في الصافي: في الكافي عن الصادق عليه السّلام: إنّما نزلت الآية «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهن اجورهنّ فريضة. و العيّاشيّ عن الباقر عليه السّلام أنّه كان يقرؤها كذلك، و رواية العامّة أيضا عن جماعة من الصحابة منهم ابيّ بن كعب و عبد اللّه بن عبّاس و عبد اللّه بن مسعود.

و في هذه القراءة بأنّ المراد به عقد المتعة و قد أورد الثعلبيّ في تفسيره عن حبيب بن أبي ثابت قال: أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال: هذا على قراءة ابيّ فرأيت في المصحف:

«فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن أبي نصرة قال: سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟

فقلت: بلى، فقال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» قلت: لا أقرؤها هكذا قال ابن عبّاس: هكذا و اللّه أنزلها اللّه تعالى، قالها ثلاث مرّات.

و بإسناده عن سعيد بن جبير أنّه قرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن شعبة بن الحكم بن عتبة قال: سألت عليّا عن هذه الآية: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» أ منسوخة؟ قال عليّ: لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقيّ و روي «إلّا شفيّ» بالفاء يعني إلّا قليل.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: المتعة نزلت بها القرآن و جرت بها السنّة عن رسول اللّه و كان نهى عمر عنها تارة يقول: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا محرّمهما و معاقب عليهما: متعة الحجّ و متعة النساء، و اخرى بقوله: ثلاث كنّ في عهد رسول اللّه أنا محرّمهنّ متعة الحجّ و متعة النساء و «حيّ على خير العمل» في الأذان.

قال الفيض: و فيه- أي الكافي- جاء عمر الليثيّ إلى أبي جعفر عليه السّلام قال: يا أبا جعفر ما تقول في متعة النساء؟ فقال عليه السّلام: أحلّها اللّه في كتابه و على لسان رسوله فهي حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا و قد حرّمها عمر و نهى عنها؟

فقال عليه السّلام: و إن كان فعل، قال: فإنّي أعيذك باللّه عن ذلك أن تحلّ شيئا حرّمه عمر

ص: 83

فقال له عليه السّلام: فأنت على قول صاحبك و أنا على قول رسول اللّه فهلمّ ألاعنك (1) أنّ القول ما قال رسول اللّه و أنّ الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد اللّه عمر فقال: أ يسرّك أنّ نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمّك يفعلن ذلك، قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السّلام حين ذكر نساءه و بنات عمّه.

و فيه: سأل أبو حنيفة أبا جعفر فقال: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة؟ فقال عليه السّلام:

إنّها حلال، قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: ليس كلّ الصناعات يرغب فيها و إن كانت حلالا و للناس أقدار و مراتب يعرفون أقدارهم و لكن ما تقول يا با حنيفة في النبيذ أ تزعم أنّه حلال؟ قال: نعم، قال: فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبّاذات فيكسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة.

ثمّ قال له: يا با جعفر إنّ الآية الّتي في «سَأَلَ سائِلٌ» نطق بتحريم المتعة و الرواية عن النبيّ جاءك بنسخها، فقال له: أبو جعفر يا با حنيفة سورة «سأل سائل» مكّيّة و آية المتعة مدنيّة ورد منك رديئة شاذّة، فقال أبو حنيفة: و آية المواريث إنّه تنطق بنسخ المتعة، فقال له أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، فقال أبو حنيفة: من أين قلت ذلك؟ فقال الباقر عليه السّلام: لو أنّ رجلا من المسلمين تزوّج بامرأة من أهل الكتاب ثمّ توفّي عنها ما تقول فيها؟ قال: لا ترث عنه، قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث ثمّ افترقا.

قوله [وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ] فمن قال: إنّ المراد بالاستمتاع الانتفاع و الجماع كما عليه العامّة قال: المراد به: لا حرج و لا إثم عليكم فيما تراضيتم به من زيادة مهر أو نقصانه أو حطّ أو إبراء أو تأخير و قال: معناه: لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استيناف عقد آخر بعد انقضاء مدّة الأجل المضروب في عقد المتعة يزيدها الرجل في الأجر و يزيده المرأة في المدّة.

و هذا القول مطابق لقول الإماميّة و تظاهرت به الروايات عن أئمّتهم المعصومين كما في الكافي و العيّاشي عن الباقر عليه السّلام قال: لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما و لا تحلّ لغيرك حتّى تنقضي عدّتها، و عدّتها حيضتان.

ص: 84


1- من الملاعنة.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] عليم بما يصلح أمر الخلق حكيم فيما فرض لهم من الأمور الّتي تحفظ الأموال و الأنساب.

قوله تعالى [سورة النساء (4): آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قرأ الكسائيّ «المحصنات» بكسر الصاد و كذلك «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ» و كذلك «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ» كلّها بكسر الصاد و الباقون بالفتح، فالفتح معناه ذوات الأزواج، و الكسر معناه العفائف و الحرائر.

المعنى: أي من لم يجد منكم غنى أن يتزوّج الحرائر من المهر و النفقة [فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فلينكح ممّا ملكت أيمانكم [مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي إمائكم فإنّ مهور الإماء أقلّ و مؤونتهنّ أخفّ في العادة و المراد به إماء الغير لأنّه لا يجوز أن يتزوّج الرجل بأمة نفسه بالإجماع.

و في الآية دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة لأنّه تعالى قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان، و هذا مذهب مالك و الشافعيّ، في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن الرجل يتزوّج الأمة قال: لا إلّا أن يضطرّ إليه. و عن الصادق عليه السّلام لا ينبغي أن يتزوّج المملوكة اليوم إنّما كان ذلك حيث قال اللّه: «وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» و الطول المهر و مهر الحرّة اليوم مهر الأمة. و عنه: يتزوّج الحرّة على الأمة و لا يتزوّج الأمة على الحرّة و نكاح الأمة على الحرّة باطل و إن اجتمعت عندك حرّة و أمة فللحرّة يومان و للأمة يوم و لا يجوز نكاح الأمة إلّا بإذن مولاها.

[وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أراد سبحانه بيان أنّه إنّكم محكومون بالظاهر في هذا الحكم ما لم يكن لكم علم بخلافه إذ لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الإيمان لأنّه سبحانه

ص: 85

المتفرّد بعلم ذلك و أنّه العالم بالسرائر.

قوله: [بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فيه قولان: أحدهما أنّ المراد كلّكم ولد آدم فلا تستنكفوا من نكاح الإماء فإنّهنّ من جنسكم كالحرائر. و الآخر أنّ معناه كلّكم على الإيمان و دينكم واحد فلا ينبغي أن يعيّر بعضكم بعضا بالهجنة. نهى اللّه عن عادة الجاهليّة في التعيير بالإماء.

[فَانْكِحُوهُنَ أي تزوّجوا الإماء المؤمنات [بِإِذْنِ ساداتهنّ و مواليهنّ فلا يجوز نكاح الأمة بغير إذن مالكها.

[وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي اعطوا مالكهنّ مهورهنّ [بِالْمَعْرُوفِ و بما لا ينكره الشرع و هو ما يرضى به الأهلون و وقع عليه العقد من غير مطل (1) و ضرار.

[مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ حال من مفعول «فَانْكِحُوهُنَّ» أي حالكونهنّ عفائف عن الزناء «غَيْرَ مُسافِحاتٍ» حال مؤكّد لمعنى العفّة أي غير الزواني [وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على «مسافحات» و الخدن الصاحب و الصديق و المراد: لا يكن متّخذات أصدقاء على الفاحشة و أخلّاء في السرّ؛ روي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان في الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنى و يستحلّون ما خفي منه فنهى اللّه عن الزنى سرّا و جهرا.

[فَإِذا أُحْصِنَ من قرأ بضمّ الهمزة بمعنى تزوّجن و من قرأ «أحصنّ» بفتح الهمزة أي أسلمن عن ابن مسعود و عمرو الشعبيّ و جماعة. و قال الحسن: تحصينها الزوج و تحصّنها الإسلام أي فإذا احصنّ بالتزويج.

[فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ] و هي الزنا فعليهنّ بعد الثبوت [نِصْفُ ما عَلَى الحرائر [مِنَ الْعَذابِ أي الحدّ الّذي هو جلد مائة فعليها خمسون جلدة، و المراد عدم تفاوت حدّهنّ بالإحصان و غير الإحصان ليس فيه التفاوت و ليس حكمهنّ حكم الحرائر و لا رجم عليهنّ لأنّ الرجم لا ينتصف و كذلك العبد، و في الكافي عن الصادق و الباقر عليهما السّلام في الأمة تزني قال: تجلد نصف حدّ الحرّة كان لها زوج أولم يكن لها زوج.

[ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ «ذلك» إشارة إلى نكاح الإماء لمن خاف الإثم

ص: 86


1- المطل: التسامح.

الّذي يؤدّي إليه علّة الشهوة و هو الزنى. و العنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّه عظيمة و الزنى سبب المشقّة فالحدّ في الدنيا و العقوبة في الآخرة.

[وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي و صبركم عن نكاح الإماء حال كونكم متعفّفين خير لكم من نكاحهنّ و إن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرقّ و لأنّ حقّ المولى فيها فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر و لأنّ المولى يستخدمها في السفر و الحضر و لأنّها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولّاجة و ذلك كلّه ذلّ و مهانة سارية إلى الناكح. و مهرها لمولاها فلا يقدر المتمتّع من المهر. في الحديث: الحرائر صلاح البيت و الإماء هلاك البيت.

[وَ اللَّهُ غَفُورٌ] لذنوب عباده [رَحِيمٌ بهم. و استدلّت الخوارج بهذه الآية على بطلان الرجم قالوا: إنّ الرجم لا يمكن تبعيضه و قد قال سبحانه: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» فعلمنا أنّ الرجم لا أصل له.

و الجواب عن ذلك إذا كان المحصنات المراد بها الحرائر سقط هذا القول، و الرجم أجمعت الامّة على أنّه من أحكام الشرع و تواتر المسلمون بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله رجم ما عز ابن مالك الأسلميّ و رجم يهوديّا و يهوديّة و لم يختلف فيه الفقهاء من عهد الصحابة إلى يومنا هذا فخلاف الخوارج في ذلك خلاف الإجماع فلا يعتدّ به.

[سورة النساء (4): الآيات 26 الى 28]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

أي يريد سبحانه [أن يبيّن لكم ما خفي عنكم من مصالحكم و أفاضل أعمالكم.

و اللام في «ليبيّن» مزيدة للتأكيد لمعنى الاستقبال اللازم للإرادة [وَ يَهْدِيَكُمْ أي يدلّكم على مناهج من تقدّمكم من الصالحين لتقتدوا بهم [وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يرجع بكم عن معصيته إلى طاعته بالتوفيق للتوبة ممّا كنتم عليه من الخلاف.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة لأنه بيّن تعالى أنّه لا يريد إلّا الخير و الصلاح.

[وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مرّ تفسيره [وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يقوّي دواعيكم إلى

ص: 87

التوبة و يلطف في توبتكم إن وقع منكم. و هذا بيان لكمال ما أراده اللّه و كمال مضرّة ما يريد الفجرة بخلاف الأوّل فإنّه بيان إرادته تعالى لتوبته عليهم فلا تكرار.

[وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفجرة، و قيل: يعني المجوس حيث كانوا يحلّون الأخوات من الأب و بنات الأخ و بنات الاخت فلمّا حرّمهنّ اللّه قالوا: فإنّكم يحلّون بنت العمّة مع أنّ العمّة و الخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ و الاخت فنزلت هذه الآية، أو المراد أنّهم اليهود خاصّة إذ قالوا: إنّ الاخت من الأب حلال في التوراة، و الأقرب أنّ المراد بذلك جميع المبطلين.

[أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً] تعدلوا عن الاستقامة، و العاصي يأنس بالعاصي و يألف به و يسكن الشكل بالشكل كما يأنس المطيع بالمطيع و على هذا جبلت القلوب.

[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في أمر النساء بإباحة نكاح الإماء، أو المعنى يريد سبحانه التخفيف بسبب قبول التوبة، أو المراد التخفيف على العموم و ذلك أنّه خفّف عن هذه الامّة ما لم يخفّف عن غيرها من الأمم الماضية.

[وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً] عاجزا عن مخالفة هواه حيث لا يصبر عن اتّباع الشهوات و لا يستخدم هواه في مشاقّ الطاعات. قال الكلبيّ: أي لا يصبر عن النساء.

[سورة النساء (4): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

قرئ «تجارة» بالرفع فتقديره: إلّا أن تقع تجارة فحينئذ الاستثناء منقطع لأنّ التجارة عن تراض ليس من أفراد أكل المال بالباطل، و من قرأ بنصب «تجارة» أي إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض مثل قول الشاعر:

«إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا» أي إذا كان اليوم يوما، أو التقدير إلّا أن تكون الأموال تجارة.

و لمّا بيّن سبحانه تحريم النساء و تحليلهنّ على الوجه المشروحة عقّبه بتحريم الأموال و تحليلها في الآية فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا اللّه و رسوله [لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ذكر الأكل و أراد سائر التصرّفات و إنّما خصّ الأكل لأنّه معظم المنافع

ص: 88

[بِالْباطِلِ أي بوجه غير شرعيّ و بغير استحقاق كالغصب و السرقة و الخيانة و الربا و الرشوة و اليمين الكاذبة و شهادة الزور و العقود الفاسدة و ما أشبهها.

[إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي إلّا أن تكون التجارة تجارة يرضى كلّ واحد منكما بذلك على الوجه الّذي وردت الرخصة به من أسباب الملك كالهبة و الصدقة و البيع و هذا التراضي يكون يقع للمتبايعين وقت الإيجاب و القبول.

[وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم لأنّكم بعضا أهل دين واحد و أنتم كنفس واحدة.

و قيل: المراد أنّه نهى سبحانه أن يقتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر عن أبي القاسم البلخيّ. و قيل: معناه: لا تقتلوا أنفسكم بأن تهلكوها بارتكاب الآثام في أكل المال بالباطل و غيره من المعاصي الّتي تستحقّون بها العذاب و الهلاك. و القول الرابع: ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّ المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً] أي لم يزل تعالى و كان من رحمته أن حرّم عليكم إفساد المال و قتل الأنفس.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ قيل: إنّ «ذلك» إشارة إلى أكل الأموال بالباطل و قتل النفس بغير حقّ و قيل: إشارة إلى المحرّمات في هذه السورة. و قيل: من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً». و قيل: إشارة إلى قتل النفس المحرّمة خاصّة، عن عطاء.

[عُدْواناً وَ ظُلْماً] قيل: هما واحد و أتى بهما لاختلاف اللفظين مثل قول الشاعر:

«و ألفى قولها كذبا و مينا» و قيل: «العدوان» التعدي على الغير، و «بالظلم» الظلم على النفس لتعريضها للعقاب أي متعدّيا و ظالما.

[فَسَوْفَ نُصْلِيهِ أي عن قريب ندخله و نلازمه [ناراً] هائلة [وَ كانَ ذلِكَ أي إصلاء النار [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لتحقّق الدواعي و عدم الصارف لأنّ الممكنات بالنسبة إلى قدرة اللّه على السويّة فحينئذ يمتنع أن يقال: إنّ بعض الأفعال أيسر على اللّه من بعض.

و هذا الكلام نزل على القول المتعارف بيننا و معناه المبالغة في التهديد فالإنسان لا بدّ و أن يجتنب عن الوقوع في المهالك و يبالغ في حفظ الحقوق، و قد جمع اللّه في التوصية بين حفظ

ص: 89

النفس و حفظ المال لأنّه شقيقها من حيث إنّه سبب لقوامها و إن وفّقت للمال فاشكر له و إلّا فلا تتعب نفسك و لا تقتلها كما يفعل بعض الجهّال.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قتل نفسه بشي ء في الدنيا عذّب به يوم القيامة و قال صلى اللّه عليه و آله:

كان فيمن قبلكم جرح برجل فجزع منه فأخرج سكّينا فجزّ بها يده فما رقأ الدم حتّى مات فقال اللّه تعالى: بارزني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنّة. و كذلك حكم من قتل نفسه لفقر أو غيره و حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

قال صلى اللّه عليه و آله: كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه و عرضه و ماله و لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفس منه. فالظلم حرام شرعا و عقلا و لذلك و كان لبعض أجلّاء السلف دقّة عظيمة و اهتمام تامّ في هذا الباب.

حكي أنّ بعض الملوك أهدى إلى شيخ ركن الدين غزالا (و الّذي بعثه أظنّه علاء الدولة) و قال للشيخ: إنّها حلال و كل منها فإنّي رميتها بسهم عملته بيدي على فرس ورثتها عن أبي، فقال الشيخ له: إنّه خطر ببالي أنّ واحدا من الأمراء جاء إلى استاذي بإوزّتين (1) و قال له: كل منهما فإنّي قد أخذتهما ببازي فقال: ليس الكلام في الإوزّتين و إنّما الكلام في قوت البازي من دجاجة أيّة عجوز أكل حتّى قوي على الاصطياد فالغزال الّتي رميتها على فرسك و إن كان من الصيد لكن قوت الفرس من شعير أيّ مظلوم حصل فلم يأكل منها.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 31]

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

. لمّا قدّم ذكر السيّئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها فقال:

[إِنْ تَجْتَنِبُوا] أي تتركوا جانبا [كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اختلف في معنى الكبيرة؛ قيل: كلّ ما أوعد اللَّه عليه عقابا و أوجب عليه حدّا فهو كبيرة.

و قيل: كلّ ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة، عن ابن عبّاس. قال الطبرسيّ: و إلى هذا ذهب أصحابنا فإنّهم قالوا: المعاصي كلّها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من

ص: 90


1- طائر مائي.

بعض و ليس في الذنوب صغيرة و إنّما تكون بالإضافة إلى ما هو أكبر منه و يستحقّ العقاب عليه أكثر.

و روى الكلبيّ عن ابن عبّاس: إن تجتنبوا الذنوب الّتي أوجب اللّه فيها الحدّ و أوعد عليها النار نكفّر عنكم ما سوى ذلك من الصلاة إلى الصلاة و من الجمعة إلى الجمعة و من رمضان إلى رمضان.

[وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً] «مدخلا» بضمّ الميم اسم مكان هو الجنّة حسنا مرضيّا قال أنس بن مالك: إنّكم تعملون ليوم هي في أعينكم أدقّ من الشعر كنّا نعدّها على رسول اللّه من الكبائر.

قال القشيريّ: الكبائر على لسان أهل الإشارة الشرك الخفيّ مطلقا و من جملة ذلك ملاحظة الخلق و استجلاب قلوبهم و التوقّد إليهم و الإغماض عن حقّ اللّه بعينهم.

و جملة الكبائر مندرجة في ثلاثة أشياء: أحدها اتّباع الهوى و هو ميلان النفس إلى ما يستلذّ به من الشهوات فقد يقع الإنسان بسببه في جملة الكبائر مثل البدعة و الضلالة و الشبهة و بحظوظ النفس من ترك الصلاة لأجل الراحة و الطاعات و عقوق الوالدين و قذف المحصنات و قطع الرحم و أمثال ذلك و لهذا قال سبحانه: «وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (1) قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما عبد إله أبغض على اللّه من الهوى.

و ثانيها: حبّ الدنيا فإنّه مطيّة كثير من الكبائر مثل القتل و النهب و الغصب و الظلم و السرفة و أكل مال اليتيم و منع الزكاة و شهادة الزور و كتمانها و اليمين الفاجرة و الجنف في الوصيّة و استحلال الحرام و أمثالها و لهذا قال سبحانه: «وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (2) كما قال صلى اللّه عليه و آله: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، و عنه صلى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل عليه السّلام و قال: إنّ اللّه عز و جلّ قال: و عزّتي و جلالي إنّه ليس من الكبائر هي أعظم عندي من حبّ الدنيا.

و ثالثها رؤية الغير فإنّ منها ينشأ الشرك و النفاق و الرياء قال صلى اللّه عليه و آله: اليسير من الرياء شرك.

ص: 91


1- ص: 26.
2- الشورى: 20.

قال الطبرسيّ في المجمع: روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عن موسى بن جعفر عليهم السّلام قال: دخل عمرو بن عبيد البصريّ على أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ»* (1) ثمّ أمسك فقال أبو عبد اللّه: ما أسكتك؟ قال: احبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه قال:

نعم يا عمرو:

أكبر الكبائر الشرك باللّه لقول اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ*، الآية» (2) و قال تعالى: «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ» (3).

و بعده اليأس من روح اللّه لأنّ اللّه يقول: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (4).

ثمّ الأمن من مكر اللّه لأنّ اللّه يقول: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (5).

و منها عقوق الوالدين لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله: «وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا» (6).

و منها قتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ لأنّه يقول: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» (7).

و قذف المحصنات لأنّ اللّه يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (8).

و أكل مال اليتيم ظلما لقوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» (9).

و الفرار من الزحف لأنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ»

ص: 92


1- الشورى: 37.
2- السورة: 48، 115.
3- المائدة: 72.
4- يوسف: 87.
5- الأعراف: 99.
6- مريم: 32.
7- النساء: 92.
8- النور: 23.
9- النساء: 161.

أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» (1).

و أكل الرباء لأنّ اللّه يقول: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (2) و يقول سبحانه «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» (3).

و السحر لأنّ اللّه يقول: «وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» (4) و الزنى لأنّ اللّه يقول: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» (5).

و اليمين الغموس (6) لأنّ اللّه يقول: «الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» (7).

و الغلول (8) قال اللّه: «وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (9).

و منع الزكاة المفروضة لأنّ اللّه يقول: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ» (10).

و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (11).

و شرب الخمر لأنّها «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» (12).

و ترك الصلاة متعمّدا لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: من ترك الصلاة متعمّدا فقد برأ من ذمة اللّه و ذمّة رسوله.

و نقض العهد و قطيعة الرحم لأنّ اللّه يقول: «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (13).

ص: 93


1- الأنفال: 16.
2- البقرة: 270.
3- البقرة: 279.
4- البقرة: 102.
5- الفرقان: 68.
6- اليمين الكاذبة التي يتعمدها صاحبها.
7- آل عمران: 77.
8- الغل: الخيانة.
9- آل عمران: 161.
10- التوبة: 36.
11- البقرة: 283.
12- المائدة: 93.
13- الرعد: 27.

قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم.

و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: أعظم الكبائر سبع: الإشراك باللّه و قتل النفس المؤمنة و أكل الرباء و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف فمن لقى اللّه و هو بري ء منهنّ كان معي في بحبوحة جنّة مصاريعها من ذهب.

و روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه سأله رجل كم الكبائر سبع هي؟ قال ابن عبّاس: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنّه لا كبيرة مع استغفار و لا صغيرة مع إصرار، رواهما الواحديّ في تفسيره بالإسناد مرفوعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

النزول: قيل: أتت وافدة النساء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه أليس اللّه ربّ الرجال و النساء و أنت رسول اللّه إليهم جميعا فما بالنا يذكر اللّه الرجال و لا يذكرنا؟

نخشى أن لا يكون فينا خير و لا للّه فينا حاجة فنزلت الآية.

و قيل: إنّ امّ سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزو الرجال و لا تعزو النساء و لنا نصف الميراث فليتنا رجال فنغزو و نبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت الآية.

و قيل: لمّا نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضّلنا عليهنّ في الدنيا فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. و قالت النساء:

إنّا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف عن نصيبهم في الدنيا، فنزلت الآية عن قتادة و السدّيّ.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه حكم الميراث و فضّل بعضهم على بعض في ذلك منعهم عن التمنّي الّذي هو سبب التباغض أي لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من المال و النعمة و المرأة الحسناء كان لي فإنّ ذلك يكون حسدا و يوجب الكدورة و لكن يجوز أن يقول:

اللّهم أعطني مثله، عن ابن عبّاس و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

ص: 94

و قيل: إنّ المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنّى أن لو كان امرأة و لا للمرأة أن يتمنّى أن لو كانت رجلا؛ لأنّ اللّه لا يفعل إلّا ما هو الأصلح فيكون قد تمنّى ما ليس بأصلح.

[لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ قيل: معناه إنّ لكلّ فريق من الرجال و النساء نصيبا من أنواع نعيم الدنيا من الفوائد و التجارات و الزراعات و غير ذلك من أنواع المكاسب فينبغي أن يقنع كلّ منهم و يرضى بما قسّم اللّه له. و قيل:

إنّ المعنى لكلّ حظّ من الثواب على حسب ما كلّفه اللّه من الطاعات. و قيل: المعنى لكلّ منهما نصيب من الميراث على ما قسّمه اللّه، عن ابن عبّاس. فعلى هذا القول «الاكتساب» بمعنى الإصابة و الإحراز.

[وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي إن أعجبكم أن يكون لكم مثل ما لغيركم فاسألوا اللّه أن يعطيكم مثل ذلك من فضله بشرط أن لا يكون فيه مفسدة لكم و لا لغيركم لأنّ المسألة لا يجاب إلّا كذلك؛ في الحديث عن ابن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: سلوا اللّه من فضله فإنّه تعالى يحبّ أن يسأل و أفضل العبادة انتظار الفرج. و قال سفيان بن عيينة: لم يأمر سبحانه بالمسألة إلّا ليعطي.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] فيعلم ما تظهرون و ما تضمرونه من التمنّي و الحسد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

أصل الموالي من ولي الشي ء يليه ولاية و «المولى» يقع على المعتِق و المعتَق و ابن العمّ و الورثة و الحليف و السيّد المطاع و الأولى بالشي ء و هو الأصل في معنى الجميع لأنّ ابن العمّ أولى بنصرة ابن عمّه لقرابته و الورثة أولى بميراث الميّت من غيرهم و الحليف أولى بأمر محالفه للمحالفة الّتي جرت بينهما و الوليّ أولى بنصرة من يواليه و السيّد أولى بتدبير من يسود من غيره.

معنى الآية: [وَ لِكُلٍ واحد من الرجال و النساء [جَعَلْنا مَوالِيَ أي ورثة هم أولى بميراثه، و قيل: أي عصبة. و الأوّل أصحّ لقوله تعالى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

ص: 95

يَرِثُنِي» (1) فجعله مولى لما يرث و وليّا له لما كان أولى به من غيره و مالكا له كما يقال:

لمالك العبد: مولاه [مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ أي أصحاب الفرائض يرثون ما ترك الأبوان و الأقارب.

[وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال الجبّائيّ: معنى الآية أي و يرثون ممّا ترك الّذين عقدت أيمانكم. و قرئ «عاقدت» و قال الرازيّ: الاختيار «عاقدت» لدلالة المفاعلة على عقد الحلف.

و الحاصل أنّ الآية على ما اختاره الجبّائيّ معناه أنّ الورثة يرثون ممّا ترك الّذين عقدت أيمانكم؛ لأنّ طبقة الورثة هم أولى بميراثهم فيكون قوله: «وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ» عطفا على قوله: «الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ» و قال: الحليف لم يؤمر له بشي ء أصلا، فحاصل الكلام أنّ ما ترك الّذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به.

لكن قال أكثر المفسّرين: إنّ قوله: «وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» مقطوع من الأوّل فكأنّه قال سبحانه: و الّذين عقدت أيمانكم أيضا فآتوهم نصيبهم. ثمّ اختلفوا فيه على أقوال: أحدها أنّ المراد بهم الحلفاء و قالوا: إنّ الرجل في الجاهليّة كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك و حربي حربك و سلمي سلمك و ترثني و أرثك و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف.

[فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي أعطوهم حظّهم من الميراث ثمّ نسخ ذلك بقوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ»* (2) و قيل: معنى قوله: «نَصِيبَهُمْ» من النصر و العقل و الرفد و ليس المراد «الميراث» و على هذا القول: فالآية تكون غير منسوخة و يؤيّده قوله:

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

و قيل: إنّ المراد بهم قوم آخا بينهم رسول اللّه من المهاجرين و الأنصار حتّى قدموا المدينة كانوا يتوارثون بتلك المواخاة ثمّ نسخ اللّه ذلك بالفرائض، عن ابن عبّاس و ابن زيد.

ص: 96


1- مريم: 5.
2- الأنفال: 75.

و قيل: إنّهم الّذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهليّة و منهم زيد مولى رسول اللّه فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصيّة شي ء فذلك قوله: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» عن سعيد بن المسيّب.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً] لم يزل عالما بالأشياء جليّها و خفيها.

[سورة النساء (4): آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

. [الرِّجالُ قائمون بالأمر و النهي بالمصالح و عن الفضائح قيام الولاة على الرعيّة مسلّطون على تأديبهنّ و علّل ذلك بأمرين: وهبيّ و كسبيّ فقال: [بِما فَضَّلَ اللَّهُ بسبب تفضيله سبحانه الرجال على النساء بالحزم و القوّة و الرمي و الحماسة و السماحة و النيل ببعض السعادات الدينيّة [وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ و بسبب إنفاقهم من أموالهم في نكاحهنّ و في نفقاتهنّ.

في المجمع: قال مقاتل: نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو و كان من النقباء و في امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي وقّاص و هما من الأنصار و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبيّ فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لتقتصّ من زوجها فانصرفت فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ارجعوا هذا جبرئيل أتاني و أنزل اللّه هذه الآية فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا و الّذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص.

و قال الكلبيّ: نزلت في أسعد بن الربيع و امرأته خولة بنت محمّد بن مسلمة و ذكر القصّة نحوها.

[فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي مطيعات و مقيمات لطاعة اللّه و طاعة أزواجهنّ، و القنوت دوام الطاعة و منه القنوت في الوتر لطول القيام فيه، و منه قوله سبحانه: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ» (1) أي أقيمي على طاعته [حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لأنفسهنّ و فروجهنّ و أموال أزواجهنّ في حال غيبتهم راعيات لحقوقهم.

ص: 97


1- آل عمران: 43.

[بِما حَفِظَ اللَّهُ ما مصدريّة أي بالأمر بحفظ الغيب، أو موصولة أي بالّذي حفظ اللّه لهنّ عليهم من المهر و النفقة و القيام بامورهنّ و الذبّ عنهنّ؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك و إن أمرتها أطاعتك و إذا غبت عنها حفظتك، و تلا الآية.

و قوله: [وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ خطاب للأزواج و إرشاد لهم إلى طريق القيام عليهنّ، و الخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث مكروه ظنّا أو علما بحدوثه أي النساء اللاتي تظنّون عصيانهنّ و ترفّعهنّ عن مطاوعتكم أو علمتم نشوزهنّ.

[فَعِظُوهُنَ و انصحوهنّ بالترغيب و الترهيب، و العظة كلام يلين القلوب القاسية و يرغّب الطبائع النافرة بتذكير العواقب.

[وَ اهْجُرُوهُنَ بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ و المراد من الهجرة الترك عن قلى [فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد فلا تدخلوهنّ تحت اللحف و لا تباشروهنّ. و المضاجع جمع مضجع و هو موضع وضع الجنب للنوم.

[وَ اضْرِبُوهُنَ إن لم ينفع الهجران ضربا غير مبرّح و لا شائن و لا كاسر و لا خادش فالامور الثلاثة من الوعظ و الهجر و الضرب مترتّبة ينبغي أن يدرّج فيها.

[فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بذلك [فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا] بالتوبيخ و الأذيّة، و أزيلوا عنهنّ التعرّض و اجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن [إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا] أعلى قدرة منكم عليهنّ [كَبِيراً] أي أعظم حكما منكم عليهنّ، و اعفوا عنهنّ إذا رجعن لأنّكم تعصونه على علوّ شأنه ثمّ تتوبون فيتوب عليكم.

في روح البيان: قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله- مخاطبا لعائشة-: أيّما امرأة تؤذي زوجها بلسانها إلّا جعل اللّه لسانها يوم القيامة سبعين ذراعا ثمّ عقد خلف عنقها.

يا عائشة و أيّما امرأة تصلّي لربّها و تدعو لنفسها ثمّ تدعو لزوجها إلّا ضرب بصلاتها وجهها حتّى تدعو لزوجها ثمّ تدعو لنفسها.

يا عائشة و أيّما امرأة جزعت على ميّتها فوق ثلاثة أيّام أحبط اللّه عملها.

يا عائشة و أيّما امرأة أصابتها مصيبة فلطمت وجهها و مزّقت ثيابها إلّا كانت مع امرأة

ص: 98

لوط و نوح في النار و كانت آيسة من كلّ خير و كلّ شفاعة شافع يوم القيامة.

يا عائشة و أيّما امرأة خرجت من بينها بغير إذن بعلها إلّا لعنها اللّه و لعنها كلّ رطب و يابس حتّى ترجع فإذا رجعت إلى منزلها كانت في غضب اللّه و مقته إلى الغد من ساعته فإن ماتت من وقتها كانت من أهل النار.

يا عائشة اجتهدي ثمّ اجتهدي فإنّكنّ صواحبات يوسف و مخرجات آدم من الجنّة و عاصيات نوح و لوط، يا عائشة ما زال جبرئيل يوصيني في أمر النساء حتّى ظننت أنّه سيحرم طلاقهنّ يا عائشة أنا خصم كلّ امرأة يطلّقها زوجها.

ثمّ قال: يا عائشة و ما من امرأة تحبل من زوجها حين تحبل إلّا و لها مثل أجر الصائم بالنهار و القائم بالليل الغازي في سبيل اللّه.

يا عائشة ما من امرأة أتاها الطلق إلّا و لها بكلّ طلقة عتق نسمة و بكلّ رضعة عتق رقبة.

يا عائشة أيّما امرأة خفّفت عن زوجها من مهرها إلّا كان لها من العمل حجّة مبرورة و عمرة متقبّلة و غفر لها ذنوبها كلّها حديثها و قديمها سرّها و علانيتها عمدها و خطأها أوّلها و آخرها.

يا عائشة المرأة إذا كان لها زوج فصبرت على أذى زوجها فهي كالمتشحّطة في دمها في سبيل اللّه و كانت من القانتات المسلمات المؤمنات التائبات. و الحديث طويل.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

لمّا قدّم اللّه الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه عقّبه بذكر الحكم عند صعوبة الأمر في المخالفة [وَ إِنْ خِفْتُمْ أي و إن خشيتم مخالفة شديدة و عداوة بين الزوجين فوجّهوا حكما من قوم الزوج و حكما من قوم المرأة لينظرا في ما بينهما، و الحكم القيّم بما يسند إليه.

و اختلف في المخاطب بإنفاذ الحكمين من هو؟ فقيل: هو السلطان الّذي يترافعان الزوجان إليه، عن سعيد بن جبير و أكثر الفقهاء و هو الظاهر في الأخبار عن الصادق عليه السّلام.

ص: 99

و قيل: المخاطب عموم المؤمنين. و قيل: إنّه الزوجان و أهل الزوجين.

و اختلفوا أيضا في أنّ الحكمين هل لهما أن يفرّقا بالطلاق إن رأياه أم لا؟ فالّذي رواه أصحابنا أنّه ليس لهما ذلك إلّا بعد أن يستأمراهما و يرضيا بذلك. و قيل: إنّ لهما ذلك، عن سعيد بن جبير و السدّيّ و الشعبيّ و رووه عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام. و من ذهب إلى هذا القول قال: إنّ الحكمين و كيلان.

قوله: [إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً] يعني الحكمين [يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما] و الضمير في «يريدا» و في «بينهما» قال الرازيّ: فيه وجوه:

الاول: إن يرد الحكمان خيرا و إصلاحا يوفّق اللّه بين الحكمين حتّى يتّفقا على الخير.

الثاني: إن يرد الحكمان يوفّق اللّه بين الزوجين.

الثالث: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفّق اللّه بين الزوجين.

الرابع: إن يرد الزوجان إصلاحا يوفّق اللّه بين الحكمين حتّى يعملا بالصلاح.

و اللفظ محتمل لكلّ هذه الوجوه.

و أصل معنى التوفيق اللطف الّذي يتّفق عنده فعل الطاعة، و ظاهر المعنى أنّه إن كانت نيّة الحكمين إصلاح ذات البين يوفّق اللّه بين الزوجين ما هو الصلاح.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً] عليما بمصالحكم خبيرا بأعمالكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 36]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

. لمّا أرشد اللّه كلّ واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر و إزالة الخشونة و الخصومة أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة و ذكر منها أحد عشر نوعا:

النوع الأوّل الأهمّ قوله: [وَ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحّدوه، و العبادة عبارة عن كلّ فعل

ص: 100

و ترك يؤتى به لمجرّد أمر اللّه بذلك فيدخل فيها جميع أفعال القلوب و أعمال الجوارح.

النوع الثاني [وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] لأنّ بعض الناس يعبدونه تعالى و يعبدون غيره معه كما كان لبعض المشركين آلهة متعدّدة يعبدون إلها لأمر و إلها لأمر و هكذا.

النوع الثالث [وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] أي أحسنوا إلى والديكم إحسانا كقوله:

«فَضَرْبَ الرِّقابِ» (1) أي فاضربوها ضرب الرقاب، و كفى لهذا البيان تعظيم حقّهما و وجوب برّهما حيث قرن سبحانه إلزام برّ الوالدين بتوحيده و عبادته. قال صلى اللّه عليه و آله: أكبر الكبائر الإشراك باللّه و عقوق الوالدين و اليمين الغموس. و الإحسان إليهما أن يقوم بخدمتهما و لا يرفع صوته عليهما و لا يخشن في الكلام معهما و يسعى في تحصيل مطالبهما حتّى روي أنّ النبيّ نهى حنظلة بن أبي عامر عن قتل أبيه و كان مشركا.

النوع الرابع قوله: [وَ بِذِي الْقُرْبى و هو أمر بصلة الرحم و إنّ الوالدين و إن كانا من الأقارب أيضا إلّا أنّ قرابة الولادة لمّا كانت مخصوصة ميّزها في الذكر أوّلا ثمّ أتبعها بقرابة الرحم.

النوع الخامس قوله تعالى: [وَ الْيَتامى و اليتيم مخصوصة بنوعين من العجز: الصغر و عدم المنفق، و من هذا حاله كان في غاية العجز و استحقاق الرحمة.

النوع السادس قوله: [وَ الْمَساكِينِ و الإحسان إلى المسكين إمّا بالإجمال له إن أمكن أو بالردّ الجميل، و المسكين من أسكنه الضرّ و الفقر.

النوع السابع قوله: [وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى هو الّذي قرب جواره؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه ألا و إنّ الجوار أربعون دارا. و قال الزهريّ: أربعون يمنة و أربعون يسرة و أربعون أماما و أربعون خلفا. و في حديث قيل: يا رسول اللّه إنّ فلانة تصوم النهار و تصلّى الليل و في لسانها شي ء تؤذي جيرانها، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا خير فيها هي في النار. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: و الّذي نفس محمّد بيده لا يؤدّي حقّ الجار إلّا من رحمه اللّه و قليل ما هم، أ تدرون ما حقّ الجار؟ إن افتقر أغنيته و إن استقرض أقرضته و إن أصابه خير هنّأته و إن أصابه شرّ عزّيته و إن مرض عدته و إن مات شيّعت جنازته. و قال آخرون: عنى

ص: 101


1- محمد: 5.

سبحانه «ب الْجارِ ذِي الْقُرْبى في الآية الجار القريب النسيب و «ب الْجارِ الْجُنُبِ» الجار الأجنبيّ. و قرئ «و الجار ذا القربى» نصبا.

النوع الثامن قوله: [وَ الْجارِ الْجُنُبِ و قد ذكر تفسيره و هو البعيد منك في القرابة كما قال: «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ» (1) أي بعّدني، و منه الجنابة لتباعده عن الطهارة و عن حضور المساجد ما لم يغتسل. و قرأ عاصم «وَ الْجارِ الْجُنُبِ» بفتح الجيم و سكون النون و يريد «بِالْجَنْبِ» الناحية و البعد أو وصفا على سبيل المبالغة مثل زيد عدل.

النوع التاسع [وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ و هو الّذي صحبك إمّا رفيقا في سفر و إمّا جارا ملاصقا و إمّا شريكا في تعلّم و حرفة و إمّا قاعدا على جنبك في مجلس أو مسجد.

و قيل: المراد من «الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» المرأة فإنّها تكون معك و تضجع معك إلى جنبك.

النوع العاشر [وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المسافر الّذي انقطع عن بلده، و قيل: الضيف.

النوع الحادي عشر قوله: [وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم المماليك و الإحسان إلى المماليك طاعة عظيمة؛ في الحديث: من ابتاع شيئا من الخدم فلم يوافق شيمته شيمته فليبع و ليشتر حتّى توافق شيمته شيمته فإنّ للناس شيما و لا تعذّبوا عباد اللّه. و روي أنّه صلى اللّه عليه و آله كان آخر كلامه الصلاة و ما ملكت أيمانكم. و الإحسان إليهم بأن لا يكلّفهم ما لا طاقة لهم به و لا يؤذيهم بالكلام الخشن و يعطيهم من الطعام و الكسوة ما يحتاجون إليه و كانوا في الجاهليّة يسيئون إلى الملوك فيكلّفون الإماء البغاء. و قال بعضهم: كلّ حيوان فهو مملوك.

و لمّا ذكر سبحانه هذه الأصناف قال: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً] قال ابن عبّاس: يريد «بالمختال» العظيم في نفسه الّذي لا يقوم بحقوق أحد. قال الزجّاج:

و إنّما ذكر الاختيال هاهنا لأنّ «المختال» يأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء و لا يحسن عشرتهم و معنى الفخر التطاول، و «الفخور» الّذي يعدّد مناقبه كبرا و يفخر على عباد اللّه بما أعطاه اللّه من أنواع نعمه.

ص: 102


1- ابراهيم: 35.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 37]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)

. و قرئ «بالبخل» بفتح الباء و الخاء قرأه حمزة و الكسائيّ [الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: «مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» و البخل عبارة عن منع الإحسان و في الشريعة المراد منع الواجب. و قال عليّ بن عيسى: معناه منع الإحسان و نقيضه بذل الإحسان و نقيض الجود و المعنى: الّذين يمنعون ما أوجب اللّه عليهم من الزكوات و غيرها. و قيل: المراد:

الّذين يبخلون بإظهار ما علموه من صفة النبيّ، عن ابن عبّاس و جماعة.

[وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و يأمرون غيرهم بالإمساك أو يأمرون الأنصار بترك الإنفاق على رسول اللّه و أصحابه أو يأمرون الناس بكتمان الحقّ من نعوت النبيّ، على قول ابن عبّاس.

[وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و يجحدون ما أعطاهم من اليسار و الثروة أو يكتمون ما عندهم من العلم ببعث النبيّ. قال الطبرسيّ: و الأولى أن يكون الآية عامّة في كلّ من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه و يأمرون الناس به. و قد ورد في الحديث: إذا أنعم اللّه على عبده نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه.

[وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] أي أعددنا للجاحدين عذابا يهانون فيه و أضاف الإهانة إلى العذاب إذ كان يحصل به.

[سورة النساء (4): الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

إن شئت عطفت «الّذين» في هذه الآية على «الّذين» في الآية الّتي قبلها و إن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله: «لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً».

قال الواحديّ: نزلت في المنافقين. و قيل: نزلت في مشركي قريش المنفقين على عداوة رسول اللّه، أو المراد: و الّذين ينفقون أموالهم لكن لا لغرض الطاعة بل لغرض الرياء و السمعة فقال: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مراءة [النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدّقون [بِاللَّهِ

ص: 103

وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ] الّذي فيه الثواب و العقاب [وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً] و صاحبا و خليلا يتّبع أمره و يوافقه على الكفر، و قيل: المراد يكون الشيطان قرينه في النار [فَساءَ قَرِيناً] و بئس القرين الشيطان و حاصل المعنى أنّ الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله: «وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (1).

[وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] الاستفهام إنكاريّ و يجوز أن يكون «ما ذا» اسما واحدا فيكون المعنى: و أيّ شي ء عليهم؟ و يجوز أن يكون «ذا» في معنى الّذي و يكون «ما» وحدها اسما أي و ما الّذي عليهم لو آمنوا؟.

قال الكعبيّ: إنّ هذه الآية دليل على بطلان مذهب الجبر لأنّه لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثمّ يقول: ماذا عليه لو آمن؟ كما لا يقال لمن جعله قصيرا: ماذا عليه لو كان طويلا و لا يقال للمرأة: ماذا عليها لو كانت رجلا؟

و كذلك استدلّ القاضي عبد الجبّار بهذه الآية على بطلان الجبر و قال: إنّه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الصيغة و يحبسه من حيث لا يتمكّن من مفارقة الحبس ثمّ يقول له: ما ذا عليك لو تصرّفت في الصيغة؟

و أجاب الأشاعرة بجواب أضعف من حجّة نحويّ حيث قالوا: إنّ هذا قبيح إن كان من غيره لكنّه يحسن منه لأنّ الملك ملكه.

مثل أنّ الرازيّ تمسّك بالجبر و عارض المعتزلة بمسألتي العلم و الداعي، و كلامهما غير صحيح لأنّ علمك بفقر زيد لا يكون داعيه و لا يوجب فقره.

[وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي جمعوا مع إيمانهم الإنفاق في سبيل اللّه حتّى ينفعهم الإنفاق و يخلصون له و لا يجعلونه رياء [وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً] يجازيهم بما يسرّون و ما يعلنون.

[سورة النساء (4): آية 40]

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

. قرئ «حسنة» بالرفع فمن نصب معناه: إن تك زنة الذرّة حسنة، و من رفعها فمعناه:

ص: 104


1- الزخرف: 36.

و إن تحدث حسنة؛ فيكون «كان» تامّة لا يحتاج إلى خبر، المعنى: إنّ اللّه لا يظلم أحدا قطّ زنة ذرّة و هي النملة الصغيرة الّتي لا تكاد ترى. و قيل: الذرّة جزء من أجزاء الهباء في الكوّة من أثر الشمس.

[وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها] أي إن تك الحسنة زنة الذرّة يقبلها و يجعلها ضعفين أو أضعافا أو يديمها و لا يقطعها، عن أبي عبيده [وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ سبحانه ثوابا [عَظِيماً] و معنى «مِنْ لَدُنْهُ» من قبله، و فيه لغات: لد ولدن ولد ولدي، و المعنى واحد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

لمّا ذكر اليوم الآخر وصف حال المنكرين، و «كيف» استفهام على سبيل التوبيخ و تقدير الكلام: كيف حال هؤلاء يوم القيامة و كيف حال الأمم و ما ذا يصنعون [إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ] من الأمم؟ و إنّ اللّه يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على امّته فيشهد لهم و عليهم و يستشهد نبيّنا صلى اللّه عليه و آله على امّته.

و في الآية حثّ على الطاعة و منع عن المعصية لأنّ الشهود على الأعمال الأنبياء و الكرام الكاتبون و الجوارح و المكان و الزمان كما قال: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (1) روي أنّ عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه لي: اقرأ القرآن عليّ، قال فقلت: يا رسول اللّه أنت الّذي علّمتنيه، فقال صلى اللّه عليه و آله: احبّ أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء فلمّا انتهيت إلى هذه الآية بكى رسول اللّه، قال ابن مسعود: فأمسكت عن القراءة. قال الطبرسيّ: فإذا كان الشاهد تفيض عيناه لهول هذه الحالة فماذا يصنع المشهود عليه؟

ثمّ وصف سبحانه ذلك اليوم فقال: [يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يودّون أن يجعلون و الأرض سواء كما قال سبحانه: «يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (2) و المراد أنّ الكفّار يوم القيامة يودّون أنّهم لم يبعثوا و أنّهم

ص: 105


1- النور: 24.
2- النبأ: 40.

كانوا و الأرض سواء لعلمهم بما يصيرون إليه من العذاب و الخلود في النار، قال ابن عبّاس:

يودّون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطئونهم بأقدامهم كما يطئون الأرض.

[وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً] قيل: عطف على ما قبله. و قيل: كلام مستأنف. فعلى الأوّل فالمعنى: يودّون لو تنطبق عليهم الأرض و لم يكونوا كفروا و لم يكونوا كتموا أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله و هذا قول ابن عبّاس. و على أنّه كلام مستأنف فالمراد أنّهم لا يقدرون كتمان شي ء من أمورهم من اللّه لأنّ جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه فالتقدير: لا تكتمه جوارحهم و إن كتموه.

[سورة النساء (4): آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

. النزول: فيه و جهان:

الأوّل أنّ جماعة من الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما و شرابا، و لم ينزل آية التحريم، فأكلوا و شربوا فلمّا تملّوا حلّ وقت فريضة المغرب فقدّموا أحدهم ليصلّي بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد، فنزلت الآية؛ فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا و قد ذهب عنهم السكر و علموا ما يقولون ثمّ نزل تحريمها في سورة المائدة و هي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (1).

و قيل: نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثمّ يأتون المسجد للصلاة مع الرسول فنهاهم اللّه عنه، و هذا قول ابن عبّاس.

و في لفظ «الصلاة» قيل: المراد منه المسجد، فيكون المعنى: لا تقربوا موضع الصلاة، و حذف المضاف مجاز شائع كما أنّ قوله: «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ» (2)

ص: 106


1- المائدة: 93.
2- الحج: 40.

و المراد مواضع الصلوات فإطلاق لفظ الصلاة بالموضع جائز.

لكنّ الأكثرون على أنّ المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة أي إذا كنتم سكارى لا تصلّوا لكن قوله: «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» يعني الموضع و المسجد؛ فإنّ العبور إنّما يكون في الموضع دون الصلاة، لكن قوله: «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» يدلّ على أنّ المراد نفس الصلاة فكان حمل الآية على هذا أولى.

و حمل بعض معنى السكر على النوم و هو قول الضحّاك، فقال: ليس المراد سكر الخمر إنّما المراد منه سكر النوم. قالوا: و أصل السكر من السكر و هو سدّ مجرى الماء و اسم لموضع السكر لكن ما روي عن موسى بن جعفر عليه السّلام أنّ المراد سكر الشراب. و قد يسأل و يقال: كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل؟ فأجيب بأنّه قد يكون الإنسان سكران من غير أن يخرج من نقصان العقل بحيث لا يكون متعلّق التكليف أو أنّ النهي ورد عن التعرّض للسكر في حال أداء وجوب الصلاة. و قال أبو عليّ: جوابا آخر و هو أنّ النهي إنّما دلّ على أنّ إعادة الصلاة واجبة عليهم إن أدّوها في حال السكر.

[وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا] في معناه قولان:

أحدهما أنّ المراد: لا تقربوا الصلاة و أنتم جنبا إلّا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم حينئذ أداؤها بالتيمّم و إن كان التيمّم لا يرفع الجنابة لكن يبيح الصلاة، عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و جماعة.

و الآخر أنّ المعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد و أنتم جنب إلّا مجتازين، عن جابر و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

قال الطبرسيّ: و القول الثاني أقوى لأنّه سبحانه بيّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فإذا حملناه على ذلك لكان تكرارا و إنّما أراد أن يبيّن حكم الجنب في دخول المساجد في أوّل الآية و يبيّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

قال بعض البارعين في علم البلاغة من أصحابنا: إنّ في الآية الاستخدام و هو عبارة من أن يأتي المتكلّم بلفظ مشترك بين معنيين أو أكثر مقرون بقرينتين أو أكثر يستخدم

ص: 107

كلّ قرينة منها معنى من معاني تلك اللفظ، فاستخدم سبحانه لفظة «الصلاة» في الآية لمعنيين أحدهما إقامة الصلاة بقرينة «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» و الآخر موضع الصلاة بقرينة «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» و هذا هو الصواب في معنى الآية.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى نزلت الآية في رجل من الأنصار كان مريضا و لم يستطع أن يقوم، قيل: المرض الّذي يجوز معه التيمّم مرض الجراح و الكسر و القروح إذا خاف أصحابها من مسّ الماء. و قيل: هو المرض الّذي لا يستطيع معه استعمال الماء أو لا يستطيع معه تناول الماء و لا يكون هناك من يناوله، لكنّ المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام جواز التيمّم في جميع ذلك.

[أَوْ عَلى سَفَرٍ] أي إن كنتم في السفر [أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ] و هو كناية عن قضاء الحاجة، قيل: إنّ «أو» هاهنا بمعنى الواو كقوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (1) فالمعنى «و جاء أحد منكم من الغائط» و ذلك لأنّ المجي ء من الغائط ليس من جنس المرض و السفر حتّى يصحّ عطفه عليهما فإنّهما سبب لإباحة التيمّم و المجي ء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة.

[أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ] و قرئ «لمستم النساء» و المراد به الجماع، عن عليّ و ابن عبّاس و الجبّائيّ و جماعة. و قيل: المراد به اللمس باليد و البدن و غيرها.

قال الطبرسيّ: و الصحيح الأوّل لأنّ اللّه بيّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله: «وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» ثمّ بيّن عند عدم الماء حكم المحدث «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء فعلمنا أنّ المراد من قوله: «أَوْ لامَسْتُمُ» الجماع ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء.

و الغائط المكان المطمئنّ من الأرض و جمعه «الغيطان» و كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يحجبه عن أعين الناس ثمّ سمّي الحدث بهذا الاسم تسمية للشي ء باسم مكانه.

و استعمل لفظ «اللمس» و أريد به الجماع فإنّ اللمس حقيقة المسّ، و المسّ

ص: 108


1- الصافات: 147.

ورد في القرآن بمعنى الجماع؛ قال سبحانه: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» (1) و قال في آية الظهار «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» (2) قال ابن عبّاس: إنّ اللّه حيّ كريم يعفّ و يكنّى فيعبّر عن المباشرة بالملابسة.

قوله: [فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] متعلّق بالجمل الأربع و هو يشمل عدم التمكّن عن استعماله لأنّ الممنوع منه كالمفقود أي اقصدوا ترابا طاهرا، و الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره فيجوز التيمّم على الحجر الصلد. و قيل: المراد من الطيّب أن لا تكون الأرض سبخة الّتي لا تنبت.

[فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و اختلف في كيفيّة التيمّم على أقوال:

أحدها: أنّه ضربة للوجه و ضربة لليدين إلى المرفقين و هو قول فقهاء العامّة مثل أبي حنيفة و الشافعيّ و غيرهما و بعض قليل من أصحابنا.

و ثانيها: أنّه ضربة للوجه و ضربة لليدين من الزندين و إليه ذهب عمّار بن ياسر و مكحول و اختاره الطّبرسيّ، و هو مذهبنا إذا كان بدلا من الجنابة، فإذا كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه و يديه من زنديه إلى أطراف أصابعها، و هو المرويّ عن سعيد بن المسيّب. و قال الزهريّ من العامّة:

إنّه إلى الإبطين.

قال الفيض: و عن الباقر عليه السّلام في صفة التيمّم: أنّه عليه السّلام وضع كفّيه في الأرض ثمّ مسح وجهه و كفّيه و لم يمسح الذراعين بشي ء.

و عن الصادق عليه السّلام أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ثمّ مسح على جبينه و كفّيه مرّة واحدة. و في رواية: ثمّ مسح كفّيه إحداهما على ظهر الاخرى.

و عن الرضا عليه السّلام: التيمّم ضربة للوجه و ضربة للكفّين. و عن الباقر عليه السّلام هو ضرب واحد للوضوء و الغسل عن الجنابة تضرب بيديك مرّتين ثمّ تنفضهما فمرّة للوجه و مرّة لليدين و متى أصبت ماء فعليك الغسل إن كنت جنبا و الوضوء إن لم تكن جنبا.

ص: 109


1- البقرة: 237.
2- المجادلة: 3.

قال الفيض: و في الفقيه و التهذيب عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن التيمّم من الوضوء و من الجنابة و من الحيض النساء سواء؟ فقال: نعم.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً] يقبل اليسير منكم لأنّ في التيمّم تيسيرا و تخفيفا لكم، و غفور أي كثير الستر لذنوبكم.

[سورة النساء (4): الآيات 44 الى 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)

اعلم أنّ العلم اليقينيّ يشبه الرؤية فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم و المعنى: ألم ينته علمك إلى هؤلاء اليهود؟ نزلت الآية في رفاعة بن زيد بن السائب و مالك بن دخشم كانا إذا تكلّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لو يا لسانهما و عاباه، عن ابن عبّاس.

وصف سبحانه اليهود المذكورين و هما كانا من الأحبار و من تبعهم بأمرين: الضلال و الإضلال، أمّا الضلال فهو قوله: «يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ» و يؤثرون تكذيب الرسول ليأخذوا الرشاء على ذلك و يحصل لهم الرياسة، و في الآية تقدير أي يشترون الضلالة بالهدى.

ثمّ وصفهم بالإضلال فقال سبحانه: [وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ و يسعون إلى إضلال المؤمنين لكي يخرجوا عن الإسلام.

ثمّ قال: [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم [وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا] للمسلمين و كفى نصره، و الوليّ المتصرّف في الشي ء أعمّ من أن يكون ناصرا أو لم يكن فأردفه بوقوع النصرة فتغنيكم نصرته عن عداوتهم فلا تبالوا بهم.

[سورة النساء (4): آية 46]

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

. قوله: [مِنَ الَّذِينَ خبر مبتدء محذوف و التقدير: من الّذين هادوا قوم [يُحَرِّفُونَ

ص: 110

الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ و «الكلم» اسم جنس و لذا ذكّر الضمير في «مواضع» و جمع المواضع لتكرّره في التوراة في مواضع شتّى و غيّروه و وضعوا مكانه غيره و أزالوه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه فيها و أمالوه عنها.

و التحريف نوعان: أحدهما صرف الكلام إلى غير المراد بضرب من التأويل الباطل كما يفعل أهل البدعة في زماننا. و الثاني تبديل الكلمة بأخرى كما فعلوا في نعته و كان نعته صلى اللّه عليه و آله في التوراة: أسمر ربعة، فوضعوا مكانه أدم طوال، و نحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحدّ بدله.

[وَ يَقُولُونَ في كلّ أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلى اللّه عليه و آله أم لا بلسان الحال و المقال [سَمِعْنا] قولك [وَ عَصَيْنا] أمرك عنادا [وَ اسْمَعْ قولنا [غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من المخاطب و هو كلام ذو وجهين: أحدهما المدح بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروها، و الثاني الذّم بأن يحمل على معنى اسمع حالكونك غير مسمع كلاما أصلا بموت أو صمم أي ندعو عليك بلا سمعت. قالوا ذلك تمنّيا لإجابة دعائهم عليه و هم كانوا يخاطبونه (صلى اللّه عليه و آله) بهذا القول مظهرين له إرادة المعنى الأوّل و يضمرون في أنفسهم المعنى الأخير.

[وَ راعِنا] كلمة ذات جهتين أيضا محتملة للخير بحملها على معنى: ارقبنا و انتظرنا و اصرف سمعك إلى كلامنا نكلّمك، و للشرّ بحملها على السبّ بمعنى «الرعونة و الحمق» أو بإجرائها مجرى شبهها من كلمة عبرانيّة أو سريانيّة كانوا يتسابّون بها و هي «راعِنا» و كانوا يخاطبون به النبيّ ينوون الإهانة و الشتيمة و يظهرون التوقير.

فإن قيل: كيف جاءوا بالكلام المشكّك بعد ما صرّحوا و قالوا: سمعنا و عصينا؟

فالجواب أنّ جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر و العصيان و المخالفة لكن لا يواجهونه بالسبّ و دعاء السوء حشمة و هيبة منه صلى اللّه عليه و آله.

[لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أصل «الليّ» اللوي فإنّهم كانوا يلوون و يفتلون ألسنتهم و أشداقهم عند

ص: 111

ذكر الكلام المشكّك فيظهرون التوقير و يضمرون الشتم مثل أن يقولوا: «راعنا» و هم يقصدون «راعينا» يعني أنت راعي غنمنا [وَ طَعْناً فِي الدِّينِ و إنّما يقدمون على مثل هذه الأشياء لطعنهم في الدين.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ عند ما سمعوا شيئا من أو امر اللّه و نواهيه [قالُوا] حقيقة [سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] بدل قولهم: «و اسمع غير مسمع» لا يلحقون به «غير مسمع» و بدل قولهم: «راعنا»:

[وَ انْظُرْنا] و لم يدسّوا تحت كلامهم شرّا و فسادا [لَكانَ قولهم ذلك [خَيْراً لَهُمْ ممّا قالوا [وَ أَقْوَمَ أي أسدّ و أصوب، و صيغة التفضيل على زعمهم الفاسد و إلّا فليس في فعلهم ذلك سداد و صواب و هو كقوله: «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» (1).

[وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ و أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم ذلك [فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ذلك [إِلَّا قَلِيلًا] فلم ينسدّ عليهم باب الإيمان و قد آمن فريق منهم من علمائهم و أحبارهم مثل كعب الأحبار و عبد اللّه بن سلام و أضرابهما. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من تعلّم علما لا يبتغي به وجه اللّه و لا يتعلّمه إلّا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنّة.

قال بعض المحقّقين: العلم النافع هو الّذي يستعان به على طاعة اللّه و يلزمك المخافة من اللّه، و العلوم كالدنانير و الدراهم تنفعك و تضرّك و العلم إن قارنته الخشية فلك أجره و ثوابه و إلّا فعليك وزره و قيام الحجّة به، و علامة خشية اللّه ترك الدنيا.

[سورة النساء (4): آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

. خاطب اللّه سبحانه أهل الكتاب بالتخويف و التحذير فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ اعطوا علم الكتاب [آمِنُوا] و صدّقوا بما أنزلناه على محمّد من القرآن و أحكام الدين حال كون القرآن [مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة و الإنجيل اللذين تضمّنتا فيهما صحّة ما جاء به محمّد في الدعوة إلى التوحيد و المواعيد و العدل بين الناس و النهي عن المعاصي و الفواحش، و أمّا ما يتراءى من المخالفة في بعض الأحكام فبسبب تفاوت الأمم في الأخلاق

ص: 112


1- النمل: 59.

بالأعصار و متضمّنة للحكمة الّتي عليها يدور فلك التشريع حتّى لو تأخّر نزول المتقدّم لنزل على وفق المتأخّر و لو تقدّم نزول المتأخّر لوافق المتقدّم قطعا، و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله:

لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي.

قوله: [مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً] «الطمس» محو الآثار و إزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها من عين و حاجب و أنف و فم.

[فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها] فنجعلها على هيئة أدبارها و هي الأقفاء مطموسة مثلها، قال ابن عبّاس: أي نجعلها كخفّ البعير و نمحو آثار الوجوه حتّى تصير كالأقفية و نجعل عيونها في أقفيتها فيمشي القهقرى.

و قيل: إنّ معناه أن نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالها و لا تفلح أبدا، عن الحسن و الضحّاك و السدّيّ و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قال الفرّاء: إنّ معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجوه القرد.

و رابع الأقوال: أنّ المراد نمحو آثارهم من وجوههم أي نواحيهم الّتي هم بها و هو الحجاز الّذي مسكنهم و نردّها على أدبارها حتّى يعودوا إلى حيث جاءوا و هو الشام، و حمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا و أذرعات الشام، عن ابن زيد. قال الطبرسيّ: و هذا أضعف الوجوه لأنّه ترك الظاهر.

فإن قيل: على معنى قول الأوّل كيف أوعد سبحانه و لم يفعل؟

فالجواب أنّ هذا الوعيد كان متوجّها إليهم إن لم يؤمنوا فلمّا آمن جماعة منهم مثل ثعلبة بن شعبة و أسد بن ربيعة و عبد اللّه بن سلام و أسعد بن عبيدة و مخيريق و غيرهم رفع العذاب عن الباقين و يفعل ذلك بهم في الآخرة.

و جواب آخر و هو سبحانه قال: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ» فالمعنى أنّه يفعل بهم أحد الأمرين و قد لعنهم، ثمّ إنّه لم يذكر أنّه يفعل ذلك في الدنيا. و قيل وجه آخر و هو أنّ هذا الوعيد باق منتظر له و لا بدّ من أن يطمس اللّه وجوه اليهود قبل قيام الساعة بأن يمسخها، عن المبرّد.

[أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ مسخناهم قردة و خنازير [وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ

ص: 113

أي عذابه [مَفْعُولًا] كائنا لا محالة و في الآية تهديد شديد و إشارة بأنّ الإنسان يكون على حذر من اللّه و يسارع إلى الإيمان و يرجع عن المعاصي خصوصا الكفر و الكبائر بالتوبة و الاستغفار نعوذ باللّه من الجور بعد الكور (1) و من الشرّ بعد الخير.

قال عبد اللّه بن أحمد المؤذّن. كنت أطوف حول البيت و إذا أنا برجل متعلّق بأستار الكعبة و هو يقول: اللّهم أخرجني من الدنيا مسلما، لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له: لم لا تزيد على هذا الدعاء؟ فقال: لو علمت قصّتي كنت تعذرني، فقلت: و ما قصّتك؟ قال: كان لي أخوان و كان الأكبر منهما مؤذّنا أذّن أربعين سنة احتسابا فلمّا حضره الموت دعا بالمصحف فظننّا أنّه يتبرّك به فأخذه بيده و أشهد على نفسه من حضر أنّه بري ء ممّا فيه ثمّ تحوّل إلى دين النصرانيّة، فلمّا دفن أذّن الآخر ثلاثين سنة فلمّا حضره الموت فعل كما فعل الأوّل فمات على النصرانيّة و إنّي أخاف على نفسي أن أصير مثلهما فأدعو اللّه تعالى أن يحفظ عليّ ديني، فقلت: ما كان لهما؟ فقال: كانا ينبعان عورات لنساء و ينظران المردان (2). نعوذ باللّه من دوام المعصية.

[سورة النساء (4): آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

. النزول: قال الكلبيّ: نزلت في المشركين: وحشيّ و أصحابه و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يؤت له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول اللّه أنّا ندمنا على الّذي صنعنا و ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة: «وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ» (3) و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس الّتي حرّم اللّه و زنينا و لو لا هذه لاتّبعناك.

فنزلت الآية «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً» (4) فبعث صلى اللّه عليه و آله بها إلى وحشيّ و أصحابه فلمّا قرءوا الآية كتبوا إليه أنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية.

ص: 114


1- مجتمع القرى.
2- جمع الأمرد.
3- الفرقان: 68.
4- مريم: 60.

فنزلت «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية» فبعث صلى اللّه عليه و آله بها، فلمّا قرءوها بعثوا إليه أنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئة اللّه.

فنزلت «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» (1) فبعث صلى اللّه عليه و آله بها فلمّا قرءوها دخل وحشيّ و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقبل منهم ثمّ قال لوحشيّ: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال لوحشيّ: غيّب شخصك عنّي فلحق بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات.

و قال الطبرسيّ: عن أبي مجلز عن ابن عمر قال: نزلت في المؤمنين و ذلك أنّه لمّا نزلت «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا، الآية» قام النبيّ صلى اللّه عليه و آله على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك باللّه، فسكت ثمّ قام إليه مرّتين أو ثلاثا فنزلت «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية».

و روى طرف بن الشخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللّه إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا بأنّه من أهل النار حتّى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات.

المعنى: إنّه سبحانه آيس الكفّار من رحمته فقال: [إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أحد و لا يغفر الشرك لأحد [وَ يَغْفِرُ ما دُونَ الشرك من الذنوب لمن يريد.

قال المحقّقون: هذه الآية أرجى آية في القرآن وقف اللّه المؤمنين الموحّدين بهذه الآية بين الخوف و الرجاء و بين العدل و الفضل؛ قال الصادق عليه السّلام: لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا. و يؤيّده قوله سبحانه: «وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» (2) و قوله: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (3).

قال الطبرسيّ: قال ابن عبّاس: ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الامّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت قوله: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» (4) و «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» (5)

ص: 115


1- الزمر: 53.
2- الحجر: 56.
3- الأعراف: 99.
4- السورة: 25.
5- السورة: 27.

«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية» (1) «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» (2) «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» (3) «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» في الموضعين «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ» (4) و بيان وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ اللّه يغفر الذنوب من غير توبة أنّه تعالى نفى غفران الشرك و لم ينف غفرانه على كلّ حال بل نفى أن يغفر من غير توبة لأنّ الامّة أجمعت على أنّ اللّه يغفره بالتوبة و إن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة على وجه الوجوب و عندنا على وجه التفضّل فعلى هذا يجب أن يكون المراد بقوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» أنّه يغفر مادون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين؛ لأنّ موضع الكلام الّذي يدخله النفي و الإثبات و ينضمّ إليه «إلّا» و «دون» أن يخالف الثاني.

ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول الرجل: أنا لا أدخل على الأمير إلّا إذا دعاني و أدخل على من دونه إذا دعاني. و إنّما يكون الكلام مفيدا إذا قال: و أدخل على من دونه و إن لم يدعني.

و لا معنى لقول من يقول من المعتزلة: إنّ في حمل الآية على ظاهرها و إدخال مادون الشرك في المشيئة إغراء على المعصية لأنّ الإغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران فأمّا إذا كان الغفران معلّقا بالمشيئة فلا إغراء فيه بل يكون العبد واقعا بين الخوف و الرجاء.

و من قال: إنّ في غفران ذنوب البعض دون البعض ميلا و محاباة و لا يجوز الميل و المحاباة على اللّه؛ فجوابه أنّ اللّه متفضّل بالغفران و للمتفضّل أن يتفضّل على قوم دون قوم و هو عادل في تعذيب من يعذّبه و ليس يمنع العقل و لا الشرع عن الفضل.

و من قال: إنّ لفظة «ما دُونَ ذلِكَ» و إن كانت عامّة في الذنوب الّتي هي دون الشرك فإنّما نخصّها و نحملها على الصغائر و ما يقع منه التوبة لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد قال الطبرسيّ: فجوابه أنّا نعكس عليكم ذلك فنقول: بل قد خصّص ظاهر تلك الآيات لعموم هذه الآية و هذا أولى لما روي عن بعض السلف أنّه قال: إنّ هذه الآية استثناء على جميع القرآن يريد به، و أيضا فإنّ الصغائر يقع عندكم محبطة و لا يجوز المؤاخذة بها

ص: 116


1- السورة: 30.
2- السورة: 109.
3- السورة: 39.
4- السورة: 147.

و ما هذا حكمه فكيف يتعلّق بالمشيئة؟ فإنّ أحدا لا يقول: إنّي أفعل الواجب إن شئت و أردّ الوديعة إن شئت، انتهى.

[وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى أي اختلق ذنبا غير مغفور يقال: افترى فلان الكذب إذا اعتمله و اختلقه- و أصله من القطع- و أثم [إِثْماً عَظِيماً] لا يغفر. و جاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية.

[سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

لمّا هدّد اللّه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» قالت اليهود: لسنا من المشركين بل نحن من خواصّ اللّه و أهل الطهارة كما حكى سبحانه عنهم أنّهم قالوا: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» (1) و كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فقال سبحانه: لا عبرة بتزكية المرء نفسه، و إنّما العبرة بتزكية اللّه فبيّن سبحانه أنّ التزكية إليه تعالى يزكّي من يشاء و يطهّر من الذنب و يقبل عمل المتّقي فيصير زكيّا و لا يزكّي اليهود و أهل التحريف بل يعذّبهم.

[وَ لا يُظْلَمُونَ في تعذيبهم [فَتِيلًا] و هو مقدار ما يكون في شقّ النواة، و قيل: «الفتيل» ما في بطن النواة و النقير ما على ظهرها و القمطير قشرها. و في الآية دلالة على تنزيهه سبحانه عن الظلم.

[انْظُرْ] يا محمّد [كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ هؤلاء اليهود في تحريفهم التوراة و ادّعائهم بقولهم: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى (2) قال ابن عبّاس: إنّ قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال صلى اللّه عليه و آله:

لا، فقالوا: و اللّه ما نحن إلّا كهؤلاء ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل و ما عملناه بالليل كفّر عنّا بالنهار فكذّبهم اللّه بهذه الآية.

ص: 117


1- المائدة: 20.
2- البقرة: 111.

[سورة النساء (4): الآيات 51 الى 52]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

النزول: إنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكّة بعد وقعة احد ليتحالفوا قريشا على رسول اللّه و ينقضوا العهد الّذي كان بينهم و بين رسول اللّه فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه و نزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكّة: إنّكم أهل كتاب و محمّد صاحب كتاب و لا نأمن من أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل فذلك قوله: [يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ و المراد من الجبت و الطاغوت الصنمان اللّذان كانا لقريش و سجد لهما كعب بن الأشرف.

و الجبت لا تصريف له في اللغة العربيّة قال سعيد بن جبير: إنّ الجبت هو السحر بلغة الحبشة أو أنّ العرب أدخلوها في لغتهم فصارت لغة لهم.

[وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و هم أبو سفيان و أصحابه [هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] يعني محمّدا و أصحابه [سَبِيلًا] أي دينا. قال القفّال: إنّ الجبت أصله جبس فأبدلت السين تاء و الجبس هو الخبيث الردي ء، و الطاغوت مأخوذ من الطغيان و الإسراف في المعصية فكلّ من دعا إلى المعاصي الكبائر لزمه هذا الاسم ثمّ توسّعوا في هذا الاسم حتّى أوقعوه على الجماد. و المراد بالجبت الصنم. و قيل: «الجبت» الساحر «و الطاغوت» الكاهن. و قيل:

«الجبت» إبليس «و الطاغوت» أولياؤه. و قيل: الطاغوت تراجمة الأصنام الّذين كانوا يتكلّمون بالأكاذيب عنها، عن ابن عبّاس. و قيل: هما كلّ ما عبد من دون اللّه من حجر أو صورة أو شيطان، عن أبي عبيدة و إنّما فسّر «السبيل» بالدين لأنّه كالطريق في الاستمرار عليه ليؤدّي إلى المقصود.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين تقدّم ذكرهم [الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ و أبعدهم من رحمته و أخزاهم و خذلهم [وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ أي من يلعنه اللّه و العائد محذوف [فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً] و معينا يدفع عنه عقاب اللّه الّذي أعدّه له.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 53 الى 55]

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

ص: 118

لمّا وصف اللّه اليهود في الآية المتقدّمة بالجهل الشديد بسبب اعتقادهم الفاسد أنّ عبادة الأوثان أفضل من عبادة اللّه وصفهم في هذه الآية بالبخل و الحسد و بيّن سبحانه أنّ الحكم ليس إليهم إذ الملك ليس لهم فقال:

[أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ و هذا استفهام معناه الإنكار أي ليس لهم نصيب من النبوّة حتّى يلزم الناس اتّباعهم و طاعتهم، أو المراد بالملك ما كانت تدّعيه من أنّ الملك يعود إليهم في آخر الزمان و أنّه يخرج منهم من يجدّد ملّتهم و يدعو إلى دينهم فكذّبهم اللّه. و «أم» في الآية قيل: متّصلة و تقدير الكلام أنّ قولهم للمشركين: «أنّهم أَهْدى سَبِيلًا» أمن ذلك يتعجّب أم من قولهم: «لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» مع أنّه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقلّ القليل و «النقير» ما في ظهر النواة من النقرة يضرب به المثل في القلّة و الحقارة.

و قوله تعالى: [فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً] بيان لعدم استحقاقهم للملك بل هم يستحقّون الحرمان من الملك بسبب أنّهم من الدناءة بحيث لو أوتوا شيئا لما أعطوا الناس منه أقلّ قليل. و في تفسير ابن عبّاس: لو كان لهم نصيب من الملك لما أعطوا محمّدا و أصحابه شيئا. و قيل: إنّهم كانوا أصحاب بساتين و أموال و كانوا لا يعطون الفقراء شيئا. فعلى هذا «أم» في الآية منقطعة بمعنى «بل».

قوله: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «أم» منقطعة أي بل يحسدون الناس، و اختلف في معنى الناس فقيل: أراد به النبيّ صلى اللّه عليه و آله حسدوه على ما آتاه اللّه من فضله من النبوّة و إباحة تسع نسوة و قالوا: لو كان نبيّا لشغلته النبوّة عن ذلك، فبيّن اللّه سبحانه أنّ النبوّة ليست ببدع في آل إبراهيم.

[فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً] و كان لداود تسع و تسعون امرأة و لسليمان مائة امرأة- و قال بعضهم: كان لسليمان ألف امرأة سبعمائة سرّيّة و ثلاثمائة امرأة- فلا معنى لحسدهم محمّدا على هذا و هو من أولاد إبراهيم و هم كانوا أكثر تزويجا و أوسع مملكة منه و كانوا أنبياء. و قيل: معنى الآية: لمّا كان قوام الدين به

ص: 119

صلى اللّه عليه و آله صار حسدهم له صلى اللّه عليه و آله كحسدهم لجميع الناس كقوله تعالى. «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً» (1) و القول الثاني: أنّ المراد هو الرسول و من معه من المؤمنين و قالوا: إنّ لفظ «الناس» جمع فحمله على الجمع أولى.

ثمّ قال سبحانه: [فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً] و اختلفوا في ضمير «به» في الآية فقال بعضهم: الضمير راجع بمحمّد صلى اللّه عليه و آله فيكون المعنى:

إنّ هؤلاء القوم الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم و بقي بعضهم على الصدّ و الإنكار. و قال آخرون: المراد من تقدّم من الأنبياء فيكون المعنى تسلية للرسول.

و المعنى أنّ أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوّة و الملك جرت عادة أممهم فيهم أنّ بعضهم آمن به و بعضهم بقوا على الكفر فأنت يا محمّد (صلى اللّه عليه و آله) لا تتعجّب ممّا عليه هؤلاء الأقوام فإنّ أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، ثمّ هدّد الكافرين سبحانه بقوله: «وَ كَفى بِجَهَنَّمَ» في عذابهم النار المسعرة الموقدة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 56]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين عقّبه بذكر الوعد و الوعيد على الإيمان و الكفر فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا] و جحدوا حججنا و كذّبوا أنبياءنا بإنكارهم الآيات و ردّها [سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً] و نلزمهم و نحرقهم فيها و نعذّبهم بها و دخلت «سوف» للدلالة على أنّه يفعل بهم في المستقبل. يقال: شاة مصلية أي مشويّة.

ثمّ قال: [كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي يجدّد اللّه لهم جلودا غير جلود الّتي أحرقت، فلو قيل: إنّ هذا الجلد المجدّد لم يذنب فكيف يعذّب من لا يستحقّ العذاب؟ فالجواب أنّ المعذّب هو الذات الحيّ و الذات واحدة و المتبدّل هو الصفة و لا اعتبار بالأطراف و الجلود، و المراد بالغيريّة التغاير في الصفة.

ص: 120


1- النحل: 120.

و قال عليّ بن عيسى: إنّ ما يزاد لا يولم و لا هو بعض لما يولم و إنّما هو شي ء يصل بواسطته الألم إلى المستحقّ له. و قال الزجّاج و البلخيّ و الجبّائيّ: إنّ اللّه يجدّدها بأن يردّها إلى الحالة الّتي كانت عليها غير محترقة كما إذا انكسر خاتم فاتّخذ منه خاتم آخر يقال له: هذا غير الخاتم الأوّل و إن كان أصلهما واحدا، فعلى هذا يكون الجلد واحدا و إنّما يتغيّر الأحوال عليه فالتعذيب يقع على العاصي.

و أمّا من قال: إنّ الإنسان غير هذه الجملة المشاهدة و أنّه المعذّب في الحقيقة فقد تخلّص من هذا السؤال؛ لأنّ المعذّب هو الإنسان و ذلك الجلد ما كان جزءا من ماهيّة الإنسان بل كان كالشي ء الملتصق به الزائد على ذاته فإذا جدّد اللّه الجلد و صار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبا إلّا للعاصي.

و قيل: إنّ المراد بالجلود السرابيل قال: «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» (1) فتجديد الجلود إنّما هو تجديد السرابيل. و هذا خلاف الظاهر؛ قال القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ: إنّ السرابيل لا توصف بالنضج و إنّما توصف بالاحتراق.

قال الرازيّ: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام و عدم الانقطاع كما يقال لما يراد وصفه بالدوام: كلّما انتهى فقد ابتدأ و كلّما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوّله، فكذا قوله: «كُلَّما نَضِجَتْ» يعني كلّما ظنّوا أنّهم نضجوا و احترقوا و انتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوّة جديدة من الحياة بحيث ظنّوا أنّهم الآن حدثوا و وجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب و عدم انقطاعه. و قال السدّيّ: إنّه تعالى يبدّل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر.

قوله: [لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم لهم ذوقه و لا ينقطع كقولك للعزيز: أعزّك اللّه، أي أدامك على العزّ و إلّا فهم ذائقون مستمرّون عليه.

و إنّما عبّر سبحانه العذاب بالذوق مع أنّه سبحانه وصف حال الكفّار في أشدّ العذاب و الذوق إدراك قليل من الشي ء ليبيّن أنّهم كالمبتدء عليهم العذاب في كلّ حال فيحسّون آنا فآنا ألما لكن لا كمن يستمرّ به الشي ء فإنّه يصير أخفّ عليه.

ص: 121


1- ابراهيم: 50.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً] لا يدافع و لا يمانع غالب على أمره [حَكِيماً] في تقديره و تدبيره. و روى الكلبيّ عن الحسن قال: بلغنا أنّ جلود الكفّار تنضج كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

[سورة النساء (4): آية 57]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

. [وَ الَّذِينَ آمَنُوا] بكلّ ما يجب الإيمان به [وَ عَمِلُوا] الطاعات الصالحة الخالصة [سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحت قصورها و أشجارها ماء الأنهار دائمين فيها مؤبّدين.

و فيه ردّ على جهم بن صفوان حيث يقول: إنّ نعيم الجنّة و عذاب النار ينقطعان.

[لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ] من الحيض و النفاس و الأدناس و الأخلاق الدنيئة و الطبائع الرديئة لا يفعلن ما يوحشن أزواجهنّ [وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا] و الظلّ أصله الستر من الشمس قال رؤبة: كلّ موضع تكون فيه الشمس و يزول عنه فهو ظلّ و في ء و ما سوى ذلك فظلّ و لا يقال فيه: في ء.

و المراد من قوله: «ظِلًّا ظَلِيلًا» أي ظلّا ليس فيه حرّ و لا برد بخلاف ظلّ الدنيا أو المعنى ظلّا دائما لا تنسخه الشمس متمكّنا قويّا كما يقال: يوم أيوم و ليل أليل و داهية دهياء، يصفون الشي ء بمثل لفظه إذا أرادوا المبالغة.

[سورة النساء (4): آية 58]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

. أمر اللّه سبحانه في هذه الآية بأداء الأمانات إلى أهلها فأمانة اللّه أوامره و نواهيه و أمانات عباده ما يأتمن بعضهم بعضا من المال و غيره، عن ابن عبّاس و ابيّ بن كعب و ابن مسعود و الحسن و قتادة و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام.

و قيل: المراد به ولاة الأمر أمرهم أن يقوموا برعاية الرعيّة و حملهم على موجبات الدين و الشريعة، عن زيد بن أسلم و مكحول و شهر بن حوشب و هو اختيار الجبّائيّ و رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام قالا: أمر اللّه كلّ واحدا من الأئمّة

ص: 122

أن يسلم الأمر إلى من بعده. و يؤيّد هذا المعنى أنّه أمر الرعيّة بعد هذه الآية بطاعة ولاة الأمر و قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية».

و قيل: إنّ الآية نزلت خطابا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بعد أخذه صلى اللّه عليه و آله منه.

قال الرازيّ: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا دخل مكّة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة ابن عبد الدار- و كان سادن الكعبة- باب الكعبة و صعد السطح و أبى أن يدفع المفتاح إليه و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه فلوى عليّ بن أبي طالب يده و أخذه منه و فتح و دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين فلمّا خرج سأله العبّاس أن يعطيه المفتاح و يجمع له السقاية و السدانة فنزلت الآية فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه إلى عثمان فقال عثمان: أكرهت ثمّ جئت ترفقني فقال: لقد أنزل اللّه قرآنا و قرأ عليه فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، عن سعيد بن المسيّب و محمّد بن إسحاق.

و قال أبو روق: قال النبيّ لعثمان: أعطني المفتاح، فقال: هاك بأمانة اللّه فلمّا أراد أن يتناوله ضمّ يده فقال الرسول ذلك مرّة ثانية: إن كنت تؤمن باللّه و اليوم الآخر فأعطني المفتاح فقال عثمان: هاك بأمانة اللّه فلمّا أراد أن يتناوله ضمّ يده فقال الرسول مرّة ثالثة فقال عثمان: هاك بأمانة اللّه و دفعه إليه.

قال الطبرسيّ: و المعوّل على ما تقدّم في معنى الآية و إن صحّ قول الأخير و الرواية فيه فقد دلّ الدليل على أنّ الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه بل يكون على عمومه و العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال الرازيّ: إنّ نزول هذه الآية عند هذه القصّة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضيّة بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات من معاملات الإنسان مع ربّه في العبادات و مع سائر العباد و مع نفسه.

قوله تعالى: [وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر اللّه سبحانه الولاة و الحكّام بالنصفة و العدل قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: سوّ بين الخصمين في لحظك و لفظك.

ص: 123

و ورد في الآثار أنّ صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن عليّ بن أبي طالب في خطّ كتباه و حكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود فبصر به عليّ عليه السّلام فقال: يا بنيّ أنظر كيف تحكم؟ فإنّ هذا حكم و اللّه سائلك عنه يوم القيامة.

[إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشي ء ما يوصيكم به من الأمر بردّ الأمانات و النهي عن الخيانة و الحكم بالعدل. و معنى الوعظ الأمر بالخير و النهي عن الشرّ؛ قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا تزال هذه الامّة بخير ما إذا قالت صدقت و إذا حكمت عدلت و إذا استرحمت رحمت. [إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً] عالما بأقوالكم و أفعالكم من جميع المسموعات و المبصرات.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

. لمّا بدأ سبحانه في الآية المتقدّمة بحثّ الولاة على تأدية حقوق الرعيّة و النصفة و التسوية بين البريّة ثنّاه في هذه الآية بحثّ الرعيّة على طاعة الولاة فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ أي الزموا طاعة اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه و الزموا طاعة رسوله، و إنّما أفرد الأمر بطاعة الرسول مع أنّ طاعة الرسول مقترنة بطاعة اللّه قطعا و دفعا لتوهّم أنّه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من السنّة و قيل: معناه- و القائل الكلبيّ-: أطيعوا اللّه في الفرائض و أطيعوا الرسول في السنن.

قال الطبرسيّ: و الأوّل أصحّ لأنّ طاعة الرسول هي طاعة اللّه و ما ينطق عن الهوى و طاعته صلى اللّه عليه و آله واجبة في حياته و بعد وفاته على جميع العالمين إلى يوم القيامة كما علم أنّه رسول اللّه إليهم أجمعين.

[وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قيل: إنّهم الأمراء عن أبي هريرة و ابن عبّاس و ميمون بن مهران و اختاره الجبّائيّ و الطبريّ و البلخيّ. و قيل: إنّهم العلماء عن جابر بن عبد اللّه و ابن عبّاس في رواية اخرى و مجاهد و عطا و الحسن و جماعة، قال بعضهم: لأنّ العلماء يراجع إليهم في الأحكام فيجب الرجوع إليهم عند التنازع دون الولاة.

و أمّا أصحابنا الإماميّة فإنّهم رووا عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ اولي الأمر

ص: 124

الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبت عصمته و علم أنّ باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم جلّ اللّه تعالى أن يأمر اللّه بطاعة من يعصيه و هذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد الّذين ثبت إمامتهم و عصمتهم و اتّفقت الامّة على علوّ رتبتهم.

[فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فإن اختلفتم في شي ء من امور دينكم فردّوا المتنازع فيه إلى كتاب اللّه و سنّة الرسول و هذا قول العامّة، لكنّ الإماميّة يقولون: الردّ إلى الأئمّة القائمين مقام الرسول بعد وفاته هو مثل الردّ إلى الرسول في حياته لأنّهم الحافظون لشريعته و خلفاؤه في امّته.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله: [إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] هذا الوعيد يحتمل أن يكون إلى قوله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» و إلى قوله: «فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ».

ثمّ قال: [ذلِكَ إشارة إلى طاعة اللّه و طاعة رسوله و اولي الأمر [خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا] أي أحمد عاقبة و مرجعا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 60 الى 61]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

ذكروا في سبب النزول وجوها: قال بعض المفسّرين: إنّه نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهوديّ: بيني و بينك أبو القاسم، و قال المنافق: بيني و بينك كعب بن الأشرف، و السبب في ذلك أنّ الرسول كان يقضي بالحقّ و لا يلتفت إلى الرشوة و كعب كان شديد الرغبة في الرشوة و اليهوديّ كان محقّا و المنافق كان مبطلا فلهذا المعنى كان اليهوديّ يريد التحاكم إلى الرسول و المنافق إلى كعب، ثمّ أصرّ اليهود على قوله: فذهبا إلى النبيّ

ص: 125

صلى اللّه عليه و آله فحكم الرسول لليهوديّ على المنافق فقال المنافق: لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر فحكم أبو بكر لليهوديّ فلم يرض المنافق و قال المنافق: بيني و بينك عمر، فصارا إلى عمر فأخبره اليهوديّ أنّ الرسول و أبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما فقال للمنافق:

أ هكذا؟ فقال: نعم، فقتله عمر.

و قيل: في سبب النزول أنّه أسلم ناس من اليهود و نافق بعضهم و كانت قريظة و النضير في الجاهليّة إذا قتل قريظيّ نضيريّا قتل به و أخذ منه دية مائة وسق من تمر و إذا قتل نضيريّ قريظيّا لم بقتل به و لكن اعطي ديته ستّين وسقا من التمر، و كان بنو النضير أشرف و هم حلفاء الأوس و قريظة حلفاء الخزرج فلمّا هاجر الرسول إلى المدينة قتل نضيريّ قريظيّا فاختصما فيه فقالت بنو النضير: لا قصاص علينا إنّما علينا ستّون وسقا من التمر على ما اصطلحنا عليه من قبل، و قالت الخزرج: هذا حكم الجاهليّة و نحن و أنتم اليوم إخوة و لا فضل بيننا، فأبى بنو النضير ذلك، فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلميّ، و قال المسلمون: بل إلى رسول اللّه. فأبى المنافقون و انطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم فأنزل اللّه هذه الآية، و هذا قول السدّيّ. فعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.

و القول الثالث في النزول: قال الحسن: إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حقّ فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهليّة يتحاكمون إليه و رجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل المترجم.

و القول الرابع: كانوا يتحاكمون إلى الأوثان و كان طريقهم أنّهم يضربون القداح بحضرة الوثن فما خرج على القداح عملوا به و على هذا فالطاغوت هو الوثن، هذا تمام الكلام في النزول.

قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدلّ على أنّه كان منافقا من أهل الكتاب مثل أنّه كان يهوديّا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق لأنّ قوله تعالى: «يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» إنّما يليق بمثل هذا القسم من المنافق.

و حاصل معنى الآية [أَ لَمْ تتعجّب يا محمّد من صنيع هؤلاء [الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن [وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التوراة و الإنجيل.

ص: 126

[يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ يعني كعب بن الأشرف أو غيره حسبما شرّح من الأوثان أو الكهّان. قال الصادق و الباقر عليهما السّلام: إنّ المعنيّ به من الطاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ و قد أمروا أن يكفروا به [وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ بما زيّن لهم [أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً] عن الحقّ.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة حيث نسب سبحانه إضلالهم إلى الشيطان فلو كان اللّه قد أضلّهم بخلق الضلالة فيهم على ما يقوله المجبّرة لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله تعالى: [وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي المنافقين [تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام [وَ إِلَى حكم [الرَّسُولِ [رَأَيْتَ يا محمّد [الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ و يعرضون عن المصير إليك إلى غيرك [صُدُوداً] و إعراضا.

[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 63]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

موضع «كيف» رفع بأنّه خبر مبتدء محذوف و التقدير: [فَكَيْفَ صنيع هؤلاء إذا نالتهم من اللّه عقوبة بما كسبت [أَيْدِيهِمْ من النفاق و إظهار السخط لحكم النبيّ و عدم القبول لحكمه.

[ثُمَّ جاؤُكَ يا محمّد يقسمون [بِاللَّهِ ما [أَرَدْنا] بالتحاكم إلى غيرك [إِلَّا] التخفيف عنك فإنّا نحتشمك برفع الصوت في مجلسك و نقتصر على ما يتوسّط لنا برضى الخصمين، و معنى التوفيق الجمع و التأليف و طلبا لما يوافق الحقّ قالوا: إنّ المعنيّ بالآية عبد اللّه بن ابيّ.

و المصيبة ما أصابه من الذلّ برجعتهم من غزوة بني المصطلق و هي غزوة المريسيع حتّى نزلت سورة المنافقين و اضطرب إلى الخشوع و الاعتذار، أو مصيبة الموت لمّا تضرّع إلى رسول اللّه و استوهبه ثوبه صلى اللّه عليه و آله ليتّقي به النار قالوا: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في غزوة بني المصطلق إلّا الإصلاح، و هذا قول حسين بن عليّ المغربيّ.

ص: 127

[أُولئِكَ أي المنافقون [الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فلا يغني عنهم الحلف الكاذب و الكتمان من العذاب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تقبل عذرهم [وَ عِظْهُمْ أي ازجرهم عن النفاق [وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي في حقّ أنفسهم الخبيثة، أو المراد من قوله:

«فِي أَنْفُسِهِمْ» أي خاليا بهم ليس معهم غيرهم مشارا بالنصيحة لأنّها في السرّ أنجح [قَوْلًا بَلِيغاً] مؤثّرا واصلا إلى كنه المراد مثل أن تقول: إنّ اللّه يعلم سرّكم و لا يغني عنكم إخفاؤه فطهّروا قلوبكم من الشرك و النفاق و إلّا أنزل اللّه بكم ما أنزل بالمجاهرين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 64]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)

. ثمّ لامهم سبحانه على ردّهم أمر الرسول و ذكر أنّ غرضه من البعثة الطاعة أي لم نرسل رسولا من رسلنا [إِلَّا لِيُطاعَ الرسول بسبب إذنه سبحانه و أمره بطاعة الرسل لأنّه مؤدّ عنه و طاعته طاعة اللّه و معصيته معصية اللّه.

و هذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء عليهم السّلام معصومون عن المعاصي و الذنوب لأنّها دلّت على وجوب طاعتهم مطلقا فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الإطاعة لهم و الاقتداء بهم في تلك المعصية فيصير تلك المعصية واجبة علينا و كونها معصية يوجب كونها محرّمة علينا فيلزم توارد الإيجاب و التحريم على الشي ء الواحد و إنّه محال.

و أيضا في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبّرة؛ قال أبو عليّ الجبّائيّ: معنى الآية:

و ما أرسلت من رسول إلّا و أنا مريد أن يصدّق و يطاع و لم أرسله ليعصى، فلو لم تكن في في القرآن ما يدلّ على بطلان قولهم إلّا هذه الآية لكفى لأنّ معصيتهم للرسل غير مرادة اللّه.

قوله: [وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ و عرضوها للعذاب بترك طاعتك و التحاكم إلى غيرك [جاؤُكَ تائبين من النفاق [فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بالتوبة و الإخلاص [وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن يسأل اللّه أن يغفر لهم عند توبتهم.

ص: 128

فإن قيل: لو تابوا على وجه صحيح لقبلت توبتهم فما الفائدة في ضمّ استغفار الرسول إلى استغفارهم.

فالجواب أنّ التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم اللّه و إساءة إلى الرسول و إدخال الغمّ إلى قلبه الشريف و من كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الغير.

[لَوَجَدُوا اللَّهَ و صادفوه حالكونه تعالى [تَوَّاباً رَحِيماً] مبالغا في قبول التوبة و في الترحّم بفضله عليهم.

[سورة النساء (4): آية 65]

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

. سبب النزول: قال عطا و مجاهد و الشعبيّ: إنّ هذه بقيّة قصّة اليهوديّ و المنافق الّذي مرّ شرحه و متّصلة بما قبلها.

و قيل: نازلة في قصّة اخرى و هو ما روي عن عروة بن الزبير أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله للزبير اسق أرضك ثمّ أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الأنصاريّ: لأجل أنّه ابن عمّتك. فتلوّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ قال: للزبير اسق أرضك يا زبير إلى أن يبلغ الماء الجدر و استوف حقّك ثمّ أرسل إلى جارك.

و الحكم في المسألة كما حكم به العدل صلى اللّه عليه و آله لأنّ من كان أرضه أقرب إلى فم الوادي و الماء فهو أولى بالماء و حقّه تمام السقي فالرسول صلى اللّه عليه و آله أذن للزبير و أشار برأي فيه السعة له و لخصمه فلمّا ردّ الرجل- و اسمه حاطب بن أبي بلتعة- قوله صلى اللّه عليه و آله و لوى شدقيه و أساء الأدب و لم يعرف حقّ ما أمر به الرسول من المسامحة أمر النبيّ الزبير باستيفاء حقّه على سبيل التمام و حمل خصمه على مرّ الحقّ حتّى يهتدي للحقّ و يرضى به.

قال الراوي: ثمّ خرجا فمرّا على المقداد فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة (1)؟ قال:

قضى لابن عمّته و لوى شدقه ففطن لذلك يهوديّ كان مع المقداد فقال: قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنّه رسول اللّه ثمّ يتّهمونه و أيم اللّه لقد أذنبنا مرّة واحدة في حياة موسى فدعانا

ص: 129


1- كذا في الأصل.

موسى إلى التوبة فقال: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ففعلنا فبلغ قتالنا سبعين ألفا في طاعة ربّنا حتّى رضي عنّا.

المعنى: [فَلا وَ رَبِّكَ معناه: فو ربّك، فحينئذ «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في قوله تعالى: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» (1) لتأكيد وجوب العلم و قوله: [لا يُؤْمِنُونَ جواب القسم و القول الثاني: أنّ «لا» مفيدة و التقدير: ليس الأمر كما يزعمون أنّهم آمنوا ثمّ استأنف القسم بقوله: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» لأنّ الإيمان إنّما هو بالتزام حكم الرسول و الرضاء به و لا يدخلون في الإيمان حتّى يجعلوك حاكما [فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ من الخصومة و التبس عليهم من أحكام الشريعة.

[ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ و قلوبهم شكّا [و حَرَجاً] في أنّ ما قلته حقّ [مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت [وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] أي ينقادون لحكمك و يقبلوه خاضعين لأمرك؛ قال الصادق عليه السّلام: لو أنّ قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا رمضان و حجّوا البيت ثمّ قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه: هلّا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين، ثمّ تلا هذه الآية.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 66 الى 68]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)

«لو» يمتنع بها الشي ء لامتناع غيره؛ تقول: لو أتاني زيد لأكرمته، فالمعنى أنّ إكرامي امتنع لامتناع إتيان زيد.

المعنى: أخبر سبحانه عن سرائر القوم فقال: [وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا] و أوحينا و فرضنا على هؤلاء القوم الّذين تقدّم ذكرهم [أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أوحينا إلى قوم موسى ذلك فقتلوا أنفسهم و خرجوا إلى التيه [ما فَعَلُوهُ هؤلاء للمشقّة الّتي لا يتحمّلها إلّا المخلصون.

ص: 130


1- الحديد: 29.

[إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قيل: إنّ القليل الّذي استثنى اللّه هو ثابت بن قيس بن شماس فإنّه قال: أما و اللّه إنّ اللّه ليعلم منّي الصدق فلو أمرني محمّد أن أقتل نفسي لفعلت و قيل:

المستثنون جماعة معدودة من أصحاب رسول اللّه قالوا: لو أمرنا سبحانه لفعلنا فالحمد للّه الّذي عفانا، فمنهم عبد اللّه بن مسعود و عمّار فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ من امّتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ و يؤمرون به و امتثلوا [لَكانَ الامتثال [خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً] أي أدعى له إلى الثبات في الدين و أقوى في اعتقاد الحقّ قال البلخيّ:

معنى الآية: لو فرض عليهم القتل أو الخروج من أوطانهم و لم يفعلوا فإذا لم يفرض عليهم ذلك فليفعلوا ما فرض عليهم و أسهل عليهم منه فإنّ ذلك خير لهم و أشدّ تثبيتا لهم على الإيمان كما في الدعاء اللهمّ ثبّتنا على دينك و معناه: الطف لنا ما نثبت عليه معه.

[وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ متّصل بما قبله أي و لو فعلوا ذلك لأعطيناهم [مِنْ لَدُنَّا] أي من عندنا [أَجْراً عَظِيماً] لا يبلغ أحد كنهه و منتهاه و إنّما ذكر «مِنْ لَدُنَّا» تأكيدا بأنّه لا يقدر عليه غيره و دلالة على التشريف و الاختصاص فإنّ الأجر يجوز أن يصل إلى المثاب على يد بعض العباد.

[وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي أثبتناهم مع ذلك على الطريق المستقيم و يلزمون الاستقامة و وفّقناهم الهداية إلى طريق الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)

نزلت الآية في ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و كان شديد الحبّ لرسول اللّه قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم و قد تغيّر لونه و نحل جسمه فقال صلى اللّه عليه و آله: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال:

يا رسول اللّه ما بي من مرض و لا وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك حتّى ألقاك ثمّ ذكرت الآخرة فأخاف أنّي لا أراك هناك لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين و إنّي إن ادخلت الجنّة كنت في منزل أدنى من منزلك و إن لم أدخل الجنّة فذاك حين لا أراك أبدا فنزلت

ص: 131

الآية ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه و أبويه و أهله و ولده و الناس أجمعين.

و قيل: إنّ أصحاب رسول اللّه قالوا: مثل هذا الكلام فنزلت الآية.

المعنى: بيّن سبحانه حال المطيعين فقال: [وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره و نهيه [وَ الرَّسُولَ باتّباع شريعته و الرضا بحكمه [فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ الصدّيق المداوم على التصديق بما أوجبه الحقّ أو عادته الصدق و المراد أنّهم يتمتّعون برؤية النبيّين و الصدّيقين و زيارتهم و الحضور معهم فلا ينبغي أن يتوهّم من أجل أنّهم في أعلى علّيين أنّه لا يراهم.

لكن من المعلوم أنّه ليس المراد بكون من أطاع اللّه و أطاع الرسول مع النبيّين و الصدّيقين كون الكلّ في درجة واحدة لأنّ هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل و المفضول بل المراد كونهم في الجنّة بحيث يتمكّن كلّ واحد منهم من رؤية الآخر و إن بعد المكان فيزول الحجاب فيشاهد بعضهم بعضا متى شاؤوا فهذا هو المراد من هذه المعيّة.

[وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ أي المقتولين في الجهاد و إنّما سمّي الشهيد شهيدا لقيامه بشهادة الحقّ على جهة الإخلاص و إقراره به و دعائه إليه حتّى قتل. و قيل: إنّما سمّي شهيدا لأنّه من شهداء الآخرة على الناس و هم عدول الآخرة، و الصالحين صلحاء المؤمنين الّذين لم تبلغ درجتهم درجة النبيّين و الصدّيقين و الشهداء، و الصالح الفاعل للصلاح الملازم له المتمسّك به.

[وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً] أي من كان هؤلاء رفقاءه فما أحسنهم من رفيق، و معنى الرفيق ليّن الجانب و اللطف و الرفيق الصاحب الموصوف بالرفق؛ قال الواحديّ إنّما وحّد «الرفيق» و هو صفة الجمع لأنّ الرفيق و البريد و الرسول تذهب به العرب إلى الواحد و الجمع قال اللّه: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» (1) و قيل: معنى «وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» أي حسن كلّ واحد منهم رفيقا.

و روى أبو بصير عن الصادق أنّه قال: يا أبا محمّد لقد ذكركم اللّه في كتابه ثمّ تلا هذه

ص: 132


1- الشعراء: 16.

الآية قال: فالنبيّ رسول اللّه و نحن الصدّيقون و الشهداء و أنتم الصالحون فاتّسموا بالصلاح كما سمّاكم اللّه.

[ذلِكَ إشارة إلى أنّ الكون مع النبيّين و الصدّيقين فضل [مِنَ اللَّهِ تفضّل به على من أطاعه [وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً] بالمطيعين و العاصين و المنافقين و المخلصين و من يصلح لمرافقة هؤلاء و من لا يصلح.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)

. لمّا أمر اللّه الناس بطاعته و طاعة رسوله رغّبهم في الجهاد لدينه لأنّه أعظم الأمور الّتي بها يحصل تقوية الدين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر و الحذر بمعنى واحد كالمثل و مثل و الإثر و الأثر. يقال: أخذ حذره إذا تيقّظ و احترز من المخوف كأنّه جعل الحذر آلته الّتي بها يقي نفسه و حاصل المعنى: احذروا من العدوّ و لا تمكّنوه من أنفسكم. و قيل: المراد من الحذر في الآية السلاح أو أنّ الأمر بالحذر يتضمّن الأمر بأخذ السلاح فأخذ السلاح معنى مدلول عليه بفحوى الكلام.

فإن قيل: ذلك الّذي أمر اللّه تعالى بالحذر عنه إن كان مقضيّ الوجود لم ينفع الحذر و إن كان مقضيّ العدم لا حاجة إلى الحذر فالأمر بالحذر حينئذ عبث و المقدور كائن، و قيل أيضا: الحذر لا يغني عن القدر.

فالجواب أنّ تعطيل الأسباب أيضا مناف للقدر و لمّا كان الكلّ بقدر كان الأمر بالحذر و تهيّؤ الأسباب أيضا داخلا في القدر و إلّا بطل القول بالشرائع فإنّه يقال: إن كان الإنسان من أهل السعادة في قضاء اللّه و قدره فلا حاجة إلى الإيمان و إن كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الإيمان و الطاعة فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلّيّة.

قوله تعالى: [فَانْفِرُوا ثُباتٍ يقال: نفر القوم نفرا و نفيرا إذا نهضوا لقتال العدوّ و استنفر الإمام الناس إذا حثّهم على الجهاد و دعاهم إلى النفير، و معنى الآية: فانفروا إلى قتال عدوّ الدين ثبات أي إمّا جماعات متفرّقة ثبة بعد ثبة و سريّة بعد سريّة فرقة في جهة

ص: 133

و فرقة في جهة اخرى و إمّا كلّكم مجتمعين كوكبة واحدة [أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً] إذا أوجب الرأي و الصلاح. و روي عن أبي جعفر عليه السّلام في معنى الآية أنّ المراد بالثبات السير بجميع العسكر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 72 الى 73]

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)

اللام في قوله: «لمن» لام الابتداء، و اللام الثانية في «ليبطئنّ» لام القسم بدلالة دخولها على الفعل مع نون التأكيد.

المعنى: و لمّا حثّ اللّه على الجهاد بيّن حال المتخلّفين عنه فقال: [وَ إِنَّ مِنْكُمْ و الخطاب لعسكر رسول اللّه كلّهم المؤمنين منهم و المنافقين و المبطّئون منافقوهم و قد جعل المنافقين داخلا فيهم لأنّهم منهم في حكم الظاهر من أحكام الشريعة من حقن الدم و الموارثة و المناكحة، أو الخطاب للجميع من باب الاختلاط في النسب و الاتّحاد في الجنس قرئ «يبطّئنّ» بالتشديد و «يبطئنّ» بالتخفيف و المعنى واحد أي من أعدادكم من يتأخّر عن الخروج مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

[فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ] من قتل أو هزيمة [قالَ قول الشامت المسرور بتخلّفه:

[قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً] حاضرا في القتال فكان يصيبني ما أصابهم، قال الصادق عليه السّلام: لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه، لكانوا بذلك مشركين.

[وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح أو غنيمة ليقولنّ يا ليتني كنت معهم و قوله: [كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ] اعتراض متّصل بما قبله مؤكّد لقولهم:

«قد أنعم اللّه علينا» و التقدير قال: «قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم يكن بينكم و بينه مودّة، و حاصل الكلام أنّه لا يعاضدكم على قتال عدوّكم و لا يرعى الذمام الّذي بينكم.

ص: 134

و قوله: [لَيَقُولَنَ ... يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ] من الغنيمة [فَوْزاً عَظِيماً] هذا التمنّي من قول المبطّئين القاعدين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 74]

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)

. لمّا و بّخ اللّه المبطّئين في الآية السابقة حثّ المؤمنين في هذه الآية على القتال فقال:

[فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا أمر من اللّه و ظاهر أمره يقتضي الوجوب أي فليجاهد في طريق دين اللّه [الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية بتوطين أنفسهم على القتال في طاعته يقال: شريت بمعنى بعت و اشتريت بمعنى ابتعت.

[وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي يجاهد في طريق دين اللّه و طاعة ربّه بأن يبذل نفسه ابتغاء مرضات اللّه [فَيُقْتَلْ بأن يستشهد [أَوْ يَغْلِبْ و يظفر بالعدوّ فكأنّه قال: هو فائز بإحدى الحسنيين إن غلب أو غلب [فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] أي نعطيه ثوابا لا يقادر قدره.

[سورة النساء (4): آية 75]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

. المراد منه تعالى إنكاره لتركهم القتال و تأكيدا في الأمر بالجهاد أي لا عذر لكم في ترك المقاتلة و قد بلغ حال المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، و في القتال تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة و في الجهاد إعزاز دين اللّه و نصرته.

و المراد من الرجال و المستضعفين قوم من المسلمين بقوا بمكّة و لم يستطيعوا الهجرة منهم سلمة بن هشام و الوليد بن الوليد و عياض بن أبي ربيعة و أبو جندب بن سهيل و كانوا جماعة يدعون اللّه أن يخلصهم من أيدي المشركين و يخرجهم من مكّة و هم [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها] أي كانوا يقولون في دعائهم: ربّنا سهّل

ص: 135

علينا الخروج من مكّة. و المراد بقوله «الظَّالِمِ أَهْلُها» أي الّتي ظلم أهلها بافتتان المؤمنين عن دينهم و منعهم الهجرة.

[وَ اجْعَلْ لَنا] بألطافك [مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك وليّا يلي أمرنا حتّى ينقذنا من أيدي الظلمة [نَصِيراً] ينصرنا على من ظلمنا فاستجاب اللّه دعاءهم و فتح رسول اللّه مكّة و جعل اللّه نبيّه لهم وليّا فاستعمل صلى اللّه عليه و آله على مكّة عتاب بن أسيد فكان ينصف الضعيف من القويّ فصار المستضعفون أعزّ فيها من الظلمة.

و في الآية دلالة على تعظيم موقع الدعاء من اللّه و إبطال قول من زعم أنّ العبد لا يستفيد بالدعاء شيئا. قال صاحب الكشّاف: و يجوز أن يراد بالرجال و النساء الأحرار و الحرائر و بالولدان العبيد و الإماء؛ لأنّ العبد و الأمة يقال لهما الوليد و الوليدة و جمعهما الولدان و الولائد إلّا أنّه جعل هاهنا الولدان جمعا للذكور و الإناث تغليبا للذكور على الإناث.

فإن قيل: إنّ القرية مؤنّثة و قوله: «الظَّالِمِ أَهْلُها» صفة للقرية و لذلك خفض فكان ينبغي أن يقال: الظالمة أهلها.

فالجواب أنّ النحويّين يسمّون مثل هذه الصفة الصفة المشبّهة باسم الفاعل فالأصل في هذا الباب أنّك إذا أدخلت الألف و اللام في الأخير لا بدّ من المطابقة و إذا لم تدخل الألف و اللام في الأخير حملتها على الثاني فحينئذ إذا أدخلت الألف و اللام على الأهل لقلت:

من هذه القرية الظالمة الأهل. ثمّ إنّ نسبة الظلم في المعنى إلى الأهل لا إلى القرية النهاية أنّ الأهل منتسبون إلى القرية.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 76]

الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

ثمّ رغّبهم سبحانه في الجهاد بشرط أن يكون الغرض فيه رضى اللّه فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين اللّه و إعلاء كلمته و الكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت و طاعته، و لمّا ذكر سبحانه هذه القسمة أنّ القتال إمّا أن يكون في سبيل اللّه أو في سبيل الطاغوت

ص: 136

وجب أن يكون ما سوى قصد اللّه طاغوتا.

ثمّ أمر اللّه بأن يقاتلوا أولياء الشيطان و قال: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً] لأنّ اللّه ينصر أولياءه، و الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال.

قال الرازيّ: و فائدة إدخال «كان» في قوله: «كانَ ضَعِيفاً» تأكيد الضعف بمعنى أنّه قد كان موصوفا بالضعف و الذلّة، النهاية أنّ أولياءه يقوّونه بإطاعته.

قوله: [سورة النساء (4): آية 77]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

. النزول: قال الكلبيّ: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهريّ و المقداد بن أسود الكنديّ و قدامة بن مظعون الجمحيّ و سعد بن أبي وقّاص كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا و هم بمكّة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و يقولون: ائذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم قد آذونا فلمّا أمروا بالقتال و بالمسير إلى بدر شقّ على بعضهم فنزلت الآية، فقال:

[أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ و هم بمكّة [كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ و أمسكوا عن قتال الكفّار فإنّي لم اومر بقتالهم و اشتغلوا بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة [فَلَمَّا كُتِبَ و فرض [عَلَيْهِمُ الْقِتالُ و هم بالمدينة [إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ و جماعة [يَخْشَوْنَ و يخافون القتل من الناس [كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخافون الموت من اللّه أو المعنى: يخافون الناس أن يقتلوهم كما يخافون اللّه أن يتوفّاهم و يخافون عقوبة الناس بالقتل كما يخافون عقوبة اللّه.

[أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] قيل: إنّ «أو» في الآية بمعنى الواو. و قيل: إنّ «أو» في مثل هذه الموارد لإبهام الأمر على المخاطب مثل قوله: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» (1) كذلك هاهنا يعنى يخشونهم خشية مثل خشية اللّه أو خشية أشدّ من خشية اللّه.

[وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ قيل: لم يقولوا ذلك كراهية لأمر اللّه و

ص: 137


1- الصافات: 147.

اعتراضا و لكن لدخول الخوف عليهم بذلك على ما يكون من طبع البشر، أو قالوا ذلك استفهاما لا إنكارا. و على كلّ حال فلو لم يقولوا ذلك لكان خيرا لهم [لَوْ لا أَخَّرْتَنا] أي هلّا أخّرتنا [إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ و هو إلى أن نموت بآجالنا.

فبيّن اللّه سبحانه أنّ الدنيا بما فيها من المنافع قليل فقال: [قُلْ يا محمّد لهؤلاء:

مَتاعُ الدُّنْيا و جميع ما يستمتع بها من منافع الدنيا [قَلِيلٌ لا يبقى [وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا] أي لا يبخسون هذا القدر القليل فكيف ما زاد عليه؟ و «الفتيل» ما تفتله بيدك من الوسخ ثمّ تلقيه، عن ابن عبّاس. و قيل: ما في شقّ النواة و هو يشبه الخيط الرقيق المفتول.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 78]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

. و «أينما» في هذه الآية تكتب موصولة و في «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ» تكتب مفصولة لأنّ «ما» هاهنا مزيدة و هنالك بمعنى الّذي فوصلت هذه كما توصل الحروف و فصلت تلك كما تفصل الأسماء.

[أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ المقدّر أو العذاب و في لفظ الإدراك إشعار بأنّهم في الهرب منه و هو مجدّ في طلبهم.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي قصور عالية محكمة بالشيد و هو الجصّ بحيث لا يصعد إليها بنو آدم.

قال مجاهد في هذه الآية: كان فيمن قبلكم امرأة و كان لها خادم فولدت جارية فقالت لخادمها: اقتبس لنا نارا فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟

قال: جارية، قال الرجل: أمّا هذه الجارية لا تموت حتّى تزني بمائة و يتزوّجها خادمها و يكون موتها بالعنكبوت، فقال الخادم عند نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة حاشا لأقتلنّها البتّة فأخذ شفرة فدخل و شقّ بطن الصغيرة و خرج على وجهه و ركب البحر فخيط بطن

ص: 138

الصبيّة و عولجت و برئت و شبّت فكانت تزني فأتت ساحلا من سواحل البحر فأقامت عليه تزني و لبث الرجل الخادم ما شاء اللّه ثم بعد مدة قدم ذلك الساحل و معه مال كثير فقال لامرأة من أهل الساحل اطّلعي لي امرأة من أجمل النساء أتزوّجها، فقالت: هاهنا امرأة من أجمل النساء و لكنّها تفجر، فقال: ايتيني بها، فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير و قال لي كذا، و كذا فقالت: إنّي تركت الفجور و لكن إن يتزوّجني تزوّجته. قال: فتزوّجها فوقعت منه موقعا فبينما هو عندها إذا أخبرها بأمره فقالت: أنا تلك الجارية و أرته الشقّ في بطنها، و قد كنت أفجر فما أدري بمائة أو أقلّ أو أكثر فقال زوجها في نفسه: إنّ الرجل الّذي كان خارج الباب قال: يكون موتها بالعنكبوت ثمّ أخبرها بذلك. قال: فبنى لها برجا في الصحراء و شيّد بأحكم بناء فبينما هي يوما في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف فقالت: هذا يقتلني لأقتلنّه إذ لا يقتله أحد غيري فحرّكته فسقط فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته فساح سمّه بين ظفرها و للحم فاسودّت رجلها فماتت، و في ذلك نزلت هذه الآية.

و أجمعت الامّة على أنّ الموت أجله غير معلوم و ذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك مستعدّا ليومه قال صلى اللّه عليه و آله: أكثروا ذكر هادم اللذّات.

و المراد من الآية تبكيت للّذين قالوا: «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» فبيّن سبحانه أنّه لا خلاص من الموت لكم و الجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة فإذا كان لا بدّ من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسعادة كان أولى و البروج في أصل اللغة الظهور و القصور العالية حيث إنّها ظاهرة سمّيت بروجا، يقال: تبرّجت المرأة إذا أظهرت محاسنها.

[وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي إنّ هؤلاء المنافقين المتثاقلين عن الجهاد خوفا من الموت فيهم خصلة قبيحة اخرى و هي: إن أصابوا راحة أو غنيمة قالوا:

«هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» و إن أصابهم مكروه قالوا: هذه من شؤم مصاحبة محمّد صلى اللّه عليه و آله. قال المفسّرون:

كانت المدينة وقت مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله مملوءة من النعم فلمّا علا أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ظهر عناد اليهود و المنافقين و اشتغلوا بالإفساد في أمر محمّد صلى اللّه عليه و آله فأمسك اللّه عنهم بعض الإمساك فعند ذلك قال المنافقون و اليهود: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا و غلت

ص: 139

أسعارنا كما حكى سبحانه عن قوم موسى «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى (1) و المراد بالحسنة و السيّئة السرّاء و الضرّاء و البؤس و النعيم.

[قُلْ يا محمّد: [كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي جميع ما مضى ذكره من الموت و الحياة و الخصب و الجدب من عنده و بقضائه لا يقدر أحد على ردّه و دفعه ابتلى بذلك عباده ليعترضهم لثوابه بالشكر عند العطيّة و الصبر على البليّة [فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي ما شأن هؤلاء المنافقين [لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] أي لا يقربون فقه معنى الحديث الّذي هو القرآن لأنّهم يبعدون عنه بإعراضهم و كفرهم به.

فإن قيل: إنّ الطاعات و المعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة و السيّئة فالآية دالّة على أن جميع الطاعات و المعاصي من اللّه.

فالجواب أنّه باتّفاق الأئمّة على أنّ هذه الآية مفسّرة و نازلة في معنى السرّاء و الضرّاء و الخصب و الجدب فكانت مختصّة بهما و لمّا كان لفظ الحسنة واقعا بالاشتراك على الطاعة و على المنفعة.

و قد أجمع المفسّرون على أنّ المنفعة مرادة فيمتنع كون الطاعة مرادة ضرورة أنّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه فدليل الجبريّة في هذه الآية فاسد، انتهى.

ثمّ إنّه سبحانه وصف القرآن بأنّه حديث و الحديث فعيل بمعنى مفعول فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا.

قوله: [سورة النساء (4): آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

. الخطاب للرسول و المراد الامّة. و قيل: للإنسان أي ما أصابك أيّها الإنسان من نعمة في الدين أو الدنيا فإنّها من اللّه [وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ] من المعاصي [فَمِنْ نَفْسِكَ و قيل: الحسنة النعمة و الرخاء و السيّئة القحط و البلاء و المكاره و الأذاة و الشدائد الّتي تصيبهم في الدنيا بسبب المعاصي الّتي يفعلونها فيكون المعنى على هذا: ما أصابك من الصحّة

ص: 140


1- الأعراف: 130.

و السلامة وسعة الرزق و النعم دينا و دنيا فمن اللّه و ما أصابك من المحن و الآلام و المصائب فبسبب ما تكسب من الذنوب كما قال اللّه تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» (1).

و فسّره أبو القاسم البلخيّ فقال: ما أصاب المكلّف من مصيبة فهي كفّارة ذنب صغير أو عقوبة ذنب كبير أو تأديب وقع لأجل تفريطها و قد قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: ما من خدش بعود و لا اختلاج عرق و لا عثرة قدم إلّا بذنب و ما يعفو اللّه عنه أكثر.

و قيل: معنى «فَمِنْ نَفْسِكَ» أي فمن فعلك، و في نظم الآية ما يوافق المعنى لأنّهم كانوا يقولون: إنّ هذه الشدائد بشؤم الرسول، فأجاب اللّه أنّ ما أصابهم فبشؤم ذنوبهم و أنت يا محمّد رسول طاعتك طاعة اللّه و معصيتك معصية اللّه لا يطيّر بك، بل الخير كلّه فيك.

[وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا] أي رسولا للناس جميعا لست برسول العرب كما يزعمه بعض اليهود بل أنت رسول العجم و العرب كقوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» (2) فرسولا حال قصد بها التعميم في الرسالة و الجار متعلّق بها قدّم عليها للاختصاص [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] على رسالتك بنصب المعجزات.

و قوله: [وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لا ينافي قوله: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فإنّ الكلّ منه إيجادا غير أنّ الحسنة إحسان و السيّئة مجازاة و انتقام و للأعمال أربع مراتب: منها مرتبتان للّه و ليس للعبد فيهما مدخل و هما التقدير و الخلق، و منها مرتبتان للعبد الكسب و الفعل فإنّ اللّه منزّه عن الكسب و فعل السيّئة و إنّ هذين المرتبتين متعلّقتان بالعبد لكنّ العبد قدرته على الكسب من اللّه فقوله: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» أي خلقا و تقديرا بسبب سابقة علمه تعالى بفعل العبد لا كسبا و فعلا من اللّه، تعالى اللّه عن ذلك.

[سورة النساء (4): آية 80]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)

. روي أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: من أحبّني فقد أحبّ اللّه و من أطاعني فقد أطاع اللّه فقال المنافقون: لقد قارف الشرك و هو ينهى عنه ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى فنزلت الآية فبيّن سبحانه أنّ طاعة النبيّ صلى اللّه عليه و آله من حيث وافقت إرادته تعالى

ص: 141


1- الشورى: 30.
2- السبأ: 28.

فإنّها طاعة اللّه على الحقيقة إذ كانت بأمره و إرادته.

[وَ مَنْ تَوَلَّى و أعرض و لم يطع [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] و حافظا لهم من التولّي و الإعراض حتّى يسلموا و كان هذا أوّل ما بعث كما قال في موضع آخر: «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» (1) ثمّ امر فيما بعد بالجهاد. و قيل: المعنى فما أرسلناك حافظا لأعمالهم الّتي يقع الجزاء عليها فتخاف أن لا تقوم بها. و قيل: المعنى حافظا لهم من المعاصي.

و في الآية تسلية للنبيّ في تولّي الناس عنه مع ما في الآية من تعظيم شأنه بكون طاعته طاعة اللّه.

ثمّ بيّن أنّ المنافقين أظهروا طاعته و أضمروا خلافه بقوله:

[سورة النساء (4): آية 81]

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)

. أي [يَقُولُونَ إذا أمرتهم بشي ء [طاعَةٌ] بالرفع أي شأننا طاعة و إجابة لأمرك، و قرئ بالنصب أي أطعناك طاعة، لكنّ الرفع يدلّ على الاستقرار و الثبات.

[فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ و خرجوا من مجلسك [بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ و التبييت في الأمر هو أن يتفكّر و يتفكّر فيه كثير و اشتقاقه من البيتوتة و لمّا كان أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإنسان في بيته بالليل و يعمل فكره فيه سمّي الفكر المستقصى مبيّتا أو مأخوذ من بيت الشعر لأن الشاعر يبالغ في التفكّر إذا أراد أن ينشد في القريض و نسجه، و المراد أنّهم غيّروا بالليل و بدّلوا ما قالوه بأن أضمروا الخلاف عليك فيما أمرتهم به و نهيتهم عنه أو المعنى دبّروا ليلا غير ما أطاعوا نهارا، و هو قريب من معنى الأوّل.

[وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ في اللوح ليجازيهم به أو المراد من «يكتب» ينزله إليك في الكتاب [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فأمر نبيّه بالإعراض عنهم و أن لا يسمّيهم بأعيانهم إلى أن يستقرّ الإسلام و يعلو أمره و فوّض أمرك إليه تعالى [وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] فثق به.

قوله: [سورة النساء (4): الآيات 82 الى 83]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)

ص: 142


1- الشورى: 48.

و لمّا كان المنكرون نبوّته صلى اللّه عليه و آله يعتقدون أنّه متخرّص فلا جرم أمرهم اللّه بأن يتفكّروا في صحّة نبوّته بالدليل فقال: [أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ و التدبّر عبارة عن النظر في عاقبة الأمور و أدبارها.

و دلالة القرآن على صحّة نبوّته و صدق محمّد صلى اللّه عليه و آله من ثلاثة أوجه: أحدها فصاحته و ثانيها: اشتماله على الأخبار عن الغيوب و الثالث: سلامته عن الاختلاف؛ و كان المنافقون يتواطئون في السرّ على أنواع من المكر و الكيد و اللّه سبحانه يطّلع الرسول حالا فحالا و يخبره فذلك لو لم يحصل بأخبار اللّه و إلّا لما اطّرد الصدق و كان يظهر في قول محمّد صلى اللّه عليه و آله أنواع الاختلاف فلمّا لم يظهر ذلك علم أنّ ذلك بإخبار اللّه إيّاه.

و القرآن كتاب كبير و مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان من عند غير اللّه لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة، و القرآن يصدّق بعضه بعضا.

فإن قيل: أليس قوله مثلا: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (1) كالمناقس لقوله: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ» (2) و كذلك آيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر؟

فالجواب أنّ هذا كلام من لا يعلم علم التفسير و إلّا فمعلوم عند أهل العلم أنّه لا منافاة و لا مناقضة بين شي ء منها البتّة.

قال أبو مسلم الإصفهانيّ: إنّ عدم الاختلاف حاصل أيضا في الفصاحة بحيث لا يكون في جملته ما يعدّ في الكلام الركيك بل بقيت الفصاحة فيه من أوّله إلى آخره على نهج واحد و من المعلوم أنّ الإنسان و إن كان في غاية البلاغة و نهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بدّ و أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث كان بعضه قويّا محكما و بعضه منحلّا نازلا، و لمّا لم يكن القرآن كذلك علمنا أنّه المعجز و من عند اللّه.

و حاصل المعنى: أفلا يتفكّر اليهود و المنافقون في القرآن إذ ليس فيه خلل و لا تناقض ليعلموا أنّهم لا يقدرون على مثله و أنّه حجّة و ليس من كلام أحد من الخلق و هو مشتمل على أنواع من الحكم من أمر بحسن و نهي عن قبيح و خبر صادق و دعوة إلى مكارم الأخلاق

ص: 143


1- الحجر: 92.
2- الرحمن: 39.

فإنّ من تدبّر فيه علم جميع ذلك [وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي لو كان من عند النبيّ أو كان يعلمه بشر كما زعموا [لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] و الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض و اختلاف تفاوت و اختلاف تلاوة، فاختلاف التفاوت يكون في الحسن و القبيح و الخطأ و الصواب و نحو ذلك فهذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن كما أنّه لا يوجد اختلاف التناقض و أمّا اختلاف التلاوة مثل اختلاف مقادير الآيات و السور و اختلاف الأحكام في الناسخ و المنسوخ بما تقتضيه المصلحة فذلك موجود في القرآن فإنّ الناسخ ثابت مقرّر إلى يوم القيامة فليس فيه تناقض و تفاوت بعد تقريره و ثبوته.

قال أبو عليّ الجبّائيّ: دلّت الآية على أنّ أفعال العباد غير مخلوقة للّه لأن قوله:

«وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» يقتضي أنّ فعل العباد لا ينفكّ عن الاختلاف و فعل اللّه لا يوجد فيه التفاوت لقوله: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (1) فهذا يقتضي أنّ فعل العبد لا يكون فعلا للّه، انتهى.

[وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ حكى سبحانه عن المنافقين و ضعفة المسلمين نوعا آخر من القبائح و هو أنّه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الخبر من باب الأمن مثل ظهور المؤمنين و غلبتهم على عدوّهم أو من باب الخوف مثل إرجافهم بأنّ العدوّ قصدوهم و أضرّوا بالمؤمنين أذاعوا و أفشوا من هذه الأراجيف في المدينة و كانت إذاعتهم مفسدة.

[وَ لَوْ رَدُّوهُ ذلك الخبر [إِلَى الرَّسُولِ و سكتوا إلى أن يظهر الرسول [وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ قال أبو جعفر عليه السّلام: هم الأئمّة المعصومون. و قال السدّيّ و أبو زيد و أبو عليّ الجبّائيّ: هم أمراء السرايا و الولاة. و قال الحسن و قتادة و غيرهم: إنّهم أهل العلم و الفقه الملازمون للنبيّ.

[لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قيل: إنّ الضمير في «منهم» يعود إلى «اولي

ص: 144


1- الملك: 3.

الأمر» و هو الأظهر. و قيل: يعود إلى المنافقين و الضعفة من المسلمين أي لعلم ذلك الأمر و تدبيره الرسول و اولي الأمر الّذين يستخرجون صدقه عن كذبه و صلاحه عن فساده بعلمهم و أنظارهم الصحيحة و بالوحي و التجارب. و أصل الاستنباط إخراج النبط و هو الماء يخرج من البئر أوّل ما تحفر يقال: أنبط الحفّار إذا بلغ الماء، و سمّي القوم الّذين ينزلون بالبطائح من العراق نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض.

و في الآية إشعار بالنهي عن إفشاء السرّ. قيل لبعض العقلاء: كيف حفظك للسرّ؟

قال: أنا قبره. و من هذا قيل: صدور الأبرار قبور الأسرار.

[وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أي و لو لا إيصال موادّ الألطاف من جهة اللّه. و قيل:

المراد من فضل اللّه الإسلام، و المراد من الرحمة القرآن، عن ابن عبّاس. و قيل: فضل اللّه النبيّ صلى اللّه عليه و آله و رحمته القرآن، عن الضحّاك و الجبّائيّ و السدّيّ، و روي عن الصادقين عليهما السّلام فضل اللّه و رحمته محمّد و عليّ صلوات اللّه عليهما.

[لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا] بالكفر و الضلال أي إلّا قليلا منكم فإنّ من خصّه بعقل راجح و قلب مطمئنّ مثل زيد بن نفيل و ورقة بن نوفل و أمثالهم المعدودين مثل قسّ ابن ساعدة و من كان على دين المسيح صحيحا و معترفون بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله قبل بعثته، و هذا المعنى على ظاهر الآية أوفق.

و قيل: إنّ في الكلام تقديما و تأخيرا و الاستثناء من قوله: «أَذاعُوا بِهِ» فيكون المعنى: أذاعوا به إلّا قليلا، عن ابن عبّاس و جماعة كالبلخيّ و الفرّاء و الطبريّ و المبرّد و الكسائيّ. و قيل: الاستثناء من قوله: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... إِلَّا قَلِيلًا».

أو المراد في معنى الآية: و لو لا فضل اللّه عليكم بالنصرة و الفتح مرّة بعد اخرى لاتّبعتم الشيطان فيما يلقي إليكم من الوساوس و الخواطر الفاسدة إلى الجبن و الفشل الموجبة لضعف النيّة و البصيرة إلّا قليلا من أصحاب الرسول الّذين هم أهل البصائر النافذة و النيّات الخالصة و لا يشكّون في نصرة اللّه و إنجاز وعده و إن أبطأ بعض الإبطاء.

[سورة النساء (4): آية 84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

.

ص: 145

أمر سبحانه بالقتال فقال: [فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و الفاء جواب لقوله: «وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ... فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فيكون المعنى إن أردت الأجر العظيم فقاتل في سبيل اللّه؛ و يجوز أن يكون متّصلا بقوله: «وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و الخطاب للنبيّ خاصّة أمره اللّه أن يقاتل في سبيل اللّه وحده بنفسه.

[لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ و أنت مكلّف بفعل نفسك لأنّه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتمّ بتخلّف المنافقين على الجهاد فإنّ ضرر ذلك عليهم.

[حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ و حثّهم عليه و قد امر صلى اللّه عليه و آله بالجهاد و لو وحده، و كان أبو سفيان واعد الرسول اللقاء في بدر الصغرى فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج و ما معه إلّا سبعون رجلا و لم يلتفت إلى أحد و لو لم يتّبعوه لخرج وحده و دلّت الآية على أنّه صلى اللّه عليه و آله كان أشجع الخلق و أعرفهم بكيفيّة القتال لأنّه ما كان يأمره بذلك إلّا و هو صلى اللّه عليه و آله أشجع الناس و أقدرهم.

قال الزمخشريّ: قرئ «لا تكلّف» بالجزم على النهي و «لا نكلّف» بالنون و كسر اللام.

و نصب «نفسك» على مفعول ما لم يسمّ فاعله.

[عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و عسى من اللّه جزم، و عسى حرف من حروف المقاربة و فيه ترجّ و طمع و ذلك على اللّه محال، و لكن إطماع الكريم إيجاب. و البأس أصله المكروه يقال: بئس الشي ء هذا، إذا وصف بالرداءة و قد كفّ سبحانه بأسهم فقد بدا لأبي سفيان و قال: هذا عام مجدب و ما كان معهم زاد إلّا السويق فترك إلى محاربة رسول اللّه.

ثمّ قال: [وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا] يقال: نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله أي إنّ عذاب اللّه و تنكيله أشدّ من عذاب غيره و من تنكيله، و قيل في معنى التنكيل: الشهرة بالأمور الفاضحة أو الانتقام و الإهلاك.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 85]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85)

. الشفاعة من الشفع الّذي هو ضدّ الوتر فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه صار ثانيه.

ص: 146

و وجه تعلّق الآية بما قبلها أنّه صلى اللّه عليه و آله لمّا كان يرغّبهم في القتال و يبالغ في تحريضهم عليه فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله في أن يأذن لبعضهم في التخلّف عن الغزو فنهى اللّه عن مثل هذه الشفاعة و بيّن أنّ الشفاعة إنّما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة اللّه فإذا كانت وسيلة إلى معصية كانت محرّمة منكرة فبيّن سبحانه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لمّا حرّضهم على الجهاد فقد استحقّ بذلك التحريض أجرا عظيما.

و حاصل المعنى أنّ الشفاعة الحسنة هي أن يشفّع إيمانه باللّه بقتال الكفّار، و الشفاعة السيّئة أن يشفّع كفره بالمحبّة للكفّار و الشفاعة الحسنة هي الّتي روعي بها حقّ مسلم و دفع بها عنه شرّ أو جلب إليه خير و ابتغي بها وجه اللّه و كانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود اللّه و لا في حقّ من الحقوق [يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها] و هو ثواب الشفاعة.

[وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً] و هي ما كانت بخلاف الحسنة [يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها] أي نصيب من وزرها مساولها في المقدار من غير أن ينقص منه شي ء، و الشفاعة في الحدود لا تجوز و الحدود عقوبة مقدّرة يجب على الإمام إقامتها بعد الثبوت حقّا للّه.

قال الزمخشريّ: شيئان شينان في الإسلام: الشفاعة في الحدود و الرشوة في الأحكام.

قال صلى اللّه عليه و آله: ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان، قيل: و كيف ذلك؟ قال: الشفاعة يحقن بها الدم و يجرّ بها المنفعة إلى مسلم و يدفع بها المكروه عن آخر.

قال الغزاليّ: إنّ الشفاعة هي التوسّط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع المباحة الدنيويّة أو الاخرويّة و خلاصه من مضرّة ما كذلك.

و من حقوق الإسلام على المسلمين أن يشفع المسلم لكلّ من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة و يسعى في قضاء حاجته بما يقدر عليه، و من الشفاعة الحسنة الدعاء للمسلم فإنّه شفاعة إلى اللّه.

و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له و قال له الملك:

و لك مثل ذلك. و ذلك لأنّ الدعاء بظهر الغيب بعيد عن شائبة الطمع و الرياء بخلاف دعاء الحاضر للحاضر فإنّه قلّما يسلم من ذلك فالغائب لا يدعو للغائب إلّا للّه خالصا فيكون مقبولا.

ص: 147

[وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً] قيل: في معنى المقيت أقوال: أحدها أنّه المقتدر.

و قيل: الحفيظ الّذي يعطي الشي ء قدر الحاجة و قيل: معناه الشهيد. و قيل: الحسيب. و قيل: المجازي أي يجازي على كلّ شي ء من الحسنات و السيّئات و على المعاني يؤول المعنى إلى أنّه تعالى قادر على إيصال النصيب و الكفل من الجزاء إلى الشافع إن خيرا فخير إن شرّا فشرّ.

[سورة النساء (4): آية 86]

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86)

. لمّا أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأنّ الأعداء لو رضوا بالمسالمة فكونوا أنتم أيضا راضين بذلك. و «التحيّة» تفعلة من حيّيت و كان في الأصل «تحيية» مثل توصية و التسمية و كان عادة العرب قبل الإسلام أنّه إذا لقى بعضهم بعضا قالوا: «حيّاك اللّه» و اشتقاقه من الحياة كأنّه يدعو له بالحياة فكانت التحيّة عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض: حيّاك اللّه، فلمّا جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام فجعلوا التحيّة اسما للسلام قال تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (1) و منه قولهم: «إنّا محيّوك يا سلمى فحيّينا» و قال عنترة:

«حيّيت من طلل تقادم عهده» . و كلمة «السلام عليك» أتمّ و أكمل من قوله: «حيّاك اللّه» لأنّ الحيّ إذا كان سليما كان حيّا لا محالة و ليس إذا كان حيّا كان سليما فقد تكون حياته مقرونة بالآفات فثبت أنّ قوله: «السلام عليك» أتمّ و أكمل من قوله: حيّاك اللّه.

على أنّ السلام اسم من أسماء اللّه فالابتداء بذكر اللّه أكمل و قد وصف ذاته المقدّس بالملك القدّوس السلام و أمر محمّدا على سبيل المشافهة فقال: «وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (2).

قيل: إنّ ملك الموت يقول في إذن المؤمن: السلام يقرؤك السلام، و يقول: أجبني فإنّي مشتاق إليك و اشتاقت الجنّات و الحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول

ص: 148


1- الأحزاب: 44.
2- الانعام: 54.

لملك الموت: للبشير منّي هديّة و لا هديّة أعزّ من روحي فاقبض روحي هديّة لك.

و يروى في التفسير أنّ اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا: «السلام عليك» فحزن الرسول لهذا المعنى فبعث اللّه جبرئيل و قال إن كان اليهود يقولون: «السلام عليك» فأنا أقول: «السلام عليك» و أنزل قوله: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ الآية» (1).

روي أنّ عبد اللّه بن سلام قال: لمّا سمعت بقدوم رسول اللّه دخلت في غمار الناس فأوّل ما سمعت منه: يا أيّها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلّوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنّة بسلام. و كان تحيّة النصارى وضع اليد على الفم و تحيّة اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع و تحيّة المجوس الانحناء و تحيّة المسلمين «السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته». و السلام سنّة و الجواب واجب بين المسلمين؛ و ترك الجواب إهانة و الإهانة ضرر و الضرر حرام.

[فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها] روي أنّ رجلا قال للرسول صلى اللّه عليه و آله: السلام عليك يا رسول اللّه، فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه، فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، و جاء ثالث فقال: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته فقال صلى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، فقال الرجل: فأين قول اللّه: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها»؟ فقال صلى اللّه عليه و آله: إنّك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت.

قال الرازيّ: إنّ المبتدئ يقول: السلام عليك، و المجيب يقول: و عليكم السلام، فكان الابتداء بذكر اسم اللّه؛ فإذا قال المجيب: و عليكم السلام، كان الاختتام بذكر اللّه، و هذا الترتيب حسن.

قيل: إذا استقبلك رجل واحد فابتدء و قل: سلام عليكم، و اقصد الرجل و الملكين فإنّك إذا سلّمت عليهما ردّ السلام عليك و من سلّم الملك عليه فقد سلم من عذاب اللّه، و الأمر بردّ السلام على المسلم إن كان مسلما و إلّا فليقل: و عليكم، لا يزيد على ذلك.

ص: 149


1- الأحزاب: 56.

قال ابن عبّاس: في قوله «أَوْ رُدُّوها» لأهل الكتاب. و روى الواحديّ بإسناده عن أبي أمامة عن مالك بن التيّهان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من قال: السلام عليكم، كتب له عشر حسنات، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، كتب له عشرون حسنة و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، كتب له ثلاثون.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً] أي حفيظا أو كافيا و مجازيا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 87]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)

. قوله: [اللَّهُ مبتدأ و خبره [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] أي لا إله في الأرض و لا في السماء غيره [لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف أي و اللّه ليحشرنّكم من قبوركم [إِلى حساب [يَوْمِ الْقِيامَةِ] «و القيامة» بمعنى القيام و التاء للمبالغة لشدّة ما يقع فيه من الهول (1).

[لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً] أي موعدا لا خلف لوعده. و قيل: معناه لا أحد أصدق من اللّه في الخبر الّذي يخبر به.

النظم: لمّا أمر تعالى و نهى فيما قبل بيّن بعده أنّه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه أي فاعلموا على حسب ما أوجبه عليكم فإنّه يجازيكم به ثمّ بيّن وقت الجزاء، و قيل:

إنّما اتّصل بقوله: «حسيبا» أي إنّما الحسيب هو اللّه.

[سورة النساء (4): آية 88]

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

. النزول: اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة لأنّهم استوخموا (2) المدينة فأظهروا الشرك ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال

ص: 150


1- هنا سقط من النسخة عدة أوراق اوردنا مكانها من نص الطبرسي في المجمع. و لم تتعرض لما ذكره في وجه الاعراب و القراءة و الحجة عليها صونا لسرد الكتاب و سنشير عند اختتام ما فقد.
2- لم يوافق هواؤها أبدانهم.

بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون و قال آخرون: إنّهم مشركون، فأنزل اللّه فيهم الآية، عن مجاهد و الحسن و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في الّذين تخلّفوا عن احد و قالوا: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ الآية» فاختلف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال فريق منهم: نقتلهم، و قال آخرون: لا نقتلهم، فنزلت الآية، عن زيد بن ثابت.

المعنى: ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال تعالى: [فَما لَكُمْ أيّها المؤمنون صرتم [فِي أمر هؤلاء [الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ؟ أي فرقتين مختلفتين فمنكم من يكفّرهم و منكم من لا يكفّرهم [وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا] أي ردّهم إلى حكم الكفّار بما أظهروا من الكفر، عن ابن عبّاس. و قيل: معناه أهلكهم بكفرهم، عن قتادة و قيل: خذلهم فأقاموا على كفرهم و تردّدوا فيه فأخبر عن خذلانه إيّاهم بأنّه أركسهم، عن أبي مسلم.

[أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا] أي تحكموا بهداية [مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي حكم اللّه بضلاله و سمّاه ضالًّا. و قيل: معنى «أضلّه اللّه» خذله و لم يوفّقه كما وفّق المؤمنين، لأنّهم لمّا عصوا و خالفوا استحقّوا هذا الخذلان عقوبة لهم على معصيتهم أي أ تريدون الدفاع عن قتالهم مع أنّ اللّه حكم بضلالهم و خذلهم و وكلهم إلى أنفسهم؟

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: معناه أ تريدون أن تهدوا إلى طريق الجنّة من أضلّه تعالى عن طريق الجنّة و الثواب، و طعن على القول الأوّل: بأنّه لو أراد التسمية و الحكم لقال:

من ضلّل اللّه، و هذا لا يصحّ لأنّ العرب تقول: أكفرته و كفّرته قال الكميت:

و طائفة قد أكفروني بحبّكم و طائفة قالوا: مسي ء و مذنب

و أيضا فإنّه تعالى إنّما وصف المؤمنون بهدايتهم بأن سمّاهم مهتدين لأنّهم كانوا يقولون: إنّهم مؤمنون، فقال تعالى: لا تختلفوا فيهم و قولوا بأجمعكم: إنّهم منافقون.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا] معناه و من نسبه اللّه إلى الضلالة فلن ينفعه أن يحكم غيره بهدايته كما يقال: من جرحه الحاكم فلا ينفعه تعديل غيره.

و قيل: معناه من يجعله اللّه في حكمه ضالًّا فلن تجد له في ضلالته حجّة، عن جعفر

ص: 151

ابن حرث قال: و يدلّ على أنّهم هم الّذين اكتسبوا ما صاروا إليه من الكفر دون أن يكون اللّه تعالى اضطرّهم إليه قوله على أثر ذلك: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا» فأضاف الكفر إليهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 89]

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

. المعنى: ثمّ بيّن تعالى أحوال هؤلاء المنافقين فقال: [وَدُّوا] أي ودّ هؤلاء المنافقون الّذين اختلفتم في أمرهم يعني تمنّوا [لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم باللّه و رسوله [كَما كَفَرُوا] هم [فَتَكُونُونَ سَواءً] أي فتستوون أنتم و هم و تكونون مثلهم كفّارا، ثمّ نهى تعالى المؤمنين أن يودّوهم فقال:

[فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ] أي فلا تستنصروهم و لا تستنصحوهم و لا تستعينوا بهم في الأمور [حَتَّى يُهاجِرُوا] أي حتّى يخرجوا من دار الشرك و يفارقوا أهلها المشركين باللّه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في ابتغاء دينه و هو سبيله فيصيروا عند ذلك مثلكم لهم مالكم و عليهم ما عليكم، و هذا قول ابن عبّاس. و إنّما سمّي الدين سبيلا و طريقا لأنّ من يسلكه أدّاه إلى النعمة و ساقه إلى الجنّة [فَإِنْ تَوَلَّوْا] أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل اللّه، عن ابن عبّاس.

[فَخُذُوهُمْ أيّها المؤمنون [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي أين أصبتموهم من أرض اللّه من الحلّ و الحرم [وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا] أي خليلا [وَ لا نَصِيراً] أي ناصرا ينصركم على أعدائكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 90]

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

. المعنى: لمّا أمر تعالى المؤمنين بقتال الّذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك و أن لا يوالوهم استثنى من جملتهم فقال:

ص: 152

[إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ معناه إلّا من وصل من هؤلاء إلى قوم بينكم و بينهم موادعة و عهد فدخلوا فيهم بالحلف أو الجوار فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم.

و اختلف في هؤلاء فالمرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: المراد بقوله تعالى:

«قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» هو هلال بن عويمر السلميّ واثق عن قومه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال في موادعته: على أن لا تحيف يا محمّد من أتانا و لا نحيف من أتاك فنهى اللّه أن يتعرّض لأحد عهد إليهم، و به قال السدّيّ و ابن زيد.

و قيل: هم بنو مدلج و كان سراقة بن مالك بن خثعم المدلجيّ جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد احد فقال: أنشدك اللّه و النعمة و أخذ منه ميثاقا أن لا يغزو قومه فإن أسلم قريش أسلموا لأنّهم كانوا في عقد قريش فحكم اللّه فيهم ما حكم في قريش ففيهم نزلت، هذا ذكره عمر ابن شيبة.

ثمّ استثنى لهم حالة اخرى فقال: [أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت قلوبهم من [أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من قتالكم و قال قومهم فلا عليكم و لا عليهم و إنّما عني به أشجع فإنّهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبيّ صلى اللّه عليه و آله أحمال التمر ضيافة و قال: نعم الشي ء الهديّة أمام الحاجة، و قال: لهم ما جاء بكم؟ قالوا: لقرب دارنا منك و كرهنا حربك و حرب قومنا (يعنون بني ضمرة الّذين بينهم و بينهم عهد) لقلّتنا فيهم فجئنا لنوادعك فقبل النبيّ صلى اللّه عليه و آله ذلك منهم و وادعهم فرجعوا إلى بلادهم، ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره، فأمر اللّه تعالى المسلمين أن لا يتعرّضوا لهؤلاء.

[وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بتقوية قلوبهم فيجترءون على قتالكم و قيل: هذا إخبار عمّا في المقدور و ليس فيه أنّه يفعل ذلك بأن يأمرهم به أو يأذن لهم فيه و معناه أنّه يقدر على ذلك لو شاء لكنّه لا يشاء ذلك بل يلقي في قلوبهم الرعب حتّى يفزعوا و يطلبوا الموادعة و يدخل بعضهم في حلف من بينكم و بينهم ميثاق [فَلَقاتَلُوكُمْ أي لو فعل ذلك لقاتلوكم.

[فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يعني هؤلاء الّذين أمر بالكفّ عن قتالهم بدخولهم في عهدكم

ص: 153

أو بمصيركم إليهم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم [فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني صالحوكم و استسلموا لكم كما يقول القائل: ألقيت إليك قيادي و ألقيت إليك زمامي، إذا استسلم له و انقاد لأمره، و السلم الصلح [فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا] يعني إذا سالموكم فلا سبيل لكم إلى نفوسهم و أموالهم.

قال الحسن و عكرمة: نسخت هذه الآية و الّتي بعدها و الآيتان في سورة الممتحنة «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» إلى قوله. «الظَّالِمُونَ» الآيات الأربع بقوله: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ». الآية (1)».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

. النزول: اختلف في من عني بهذه الآية فقيل: نزلت في أناس كانوا يأتون النبيّ صلى اللّه عليه و آله فيسلمون رئاء ثمّ يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم و يأمنوا نبيّ اللّه فأبى اللّه ذلك عليهم، عن ابن عبّاس و مجاهد. و قيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ كان ينقل الحديث بين النبيّ صلى اللّه عليه و آله و بين المشركين، عن السدّيّ و قيل:

نزلت في أسد و غطفان، عن مقاتل و قيل: نزلت في عيينة بن حصين الفزاري؛ و ذلك أنّه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له و كان منافقا ملعونا و هو الّذي سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع في قومه، و هو المرويّ عن الصادقين عليهما السّلام.

المعنى: ثمّ بيّن تعالى طائفة اخرى منهم فقال: [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يعني قوما آخرين غير الّذين وصفتهم قبل [يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ فيظهرون الإسلام [وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فيظهرون لهم الموافقة في دينهم [كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها] المراد بالفتنة هناك الشرك أي كلّما دعوا إلى الكفر أجابوا و رجعوا إليه و الفتنة في اللغة الاختبار و الإركاس

ص: 154


1- التوبة: 6.

الردّ؛ قال الزجّاج: «اركسوا فيها» انتكسوا في عقدهم؛ فالمعنى: كلّما ردّوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر رجعوا إليه.

[فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أيّها المؤمنون أي فإن لم يعتزل قتالكم هؤلاء الّذين يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم [وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني و لم يستسلموا لكم فيعطوكم المقادة و يصالحوكم [وَ] لم [يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم [فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم [وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم و أصبتموهم.

[وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة، و قيل: عذرا بيّنا في القتال. و سمّيت الحجّة سلطانا لأنّه يتسلّط بها على الخصم كما يتسلّط بالسلطان.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

النزول: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ أخي أبي جهل لأمّه لأنّه كان أسلم و قتل بعد إسلامه رجلا مسلما و هو لا يعلم إسلامه، و المقتول الحارث بن يزيد بن أبي نبشة العامريّ، عن مجاهد و عكرمة و السدّيّ قال: قتله بالحرّة بعد الهجرة و كان من أحد من ردّه عن الهجرة و كان يعذّب عيّاشا مع أبي جهل و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سريّة فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلّا اللّه، فبدر بضربة ثمّ جاء بغنمه إلى القوم ثمّ وجد في نفسه شيئا فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فذكر ذلك له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: ألّا شققت عن قلبه و قد أخبرك بلسانه فلم تصدّقه؟ قال: كيف بي يا رسول صلى اللّه عليه و آله؟ فقال: فكيف بلا إله إلّا اللّه؟ قال أبو الدرداء: فتمنّيت أنّ ذلك اليوم مبتدأ إيماني، فنزلت الآية عن ابن زيد.

المعنى: [وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً] معناه ما أذن اللّه و لا أباح لمؤمن

ص: 155

فيما عهد إليه أن يقتل مؤمنا إلّا أن يقتله خطأ، عن قتادة و غيره. و قيل: ما كان له كما ليس له الآن قتل مؤمن إلّا أن يقع القتل خطأ. و قيل: تقديره و ما كان لمؤمن ليقتل مؤمنا إلّا خطأ كقوله: «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ» (1) معناه ما كان اللّه ليتّخذ ولدا.

و قوله: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» (2) أي ما كنتم لتنبتوا شجرها. و إنّما قلنا:

إنّ معناه ما ذكرنا لأنّ اللّه لا يلحقه الأمر و النهي و إنبات الشجر لا يدخل تحت قدرة العبد فلا يصحّ النهي عنه فمعنى الآية على ما وصفناه: ليس من صفة المؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا خطأ، و على هذا يكون الاستثناء متّصلا.

و من قال: إنّ الاستثناء منقطع قال: قد تمّ الكلام عند قوله: «أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً» ثمّ قال: فإن كان القتل خطأ فحكمه كذا، و إنّما لم يحمل قوله: «إِلَّا خَطَأً» على حقيقة الاستثناء لأنّ ذلك يؤدّي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته و لا يجوز واحد منهما. و الخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره مثل أن يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب إنسانا فيقتله و كذلك لو قتل رجلا ظنّه كافرا كما ظنّ عيّاش بن أبي ربيعة و أبو الدرداء على ما قلناه قبل.

[وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة في ماله خاصّة على وجه الكفّاره حقّا للّه و الرقبة المؤمنة هي البالغة الّتي آمنت و صلّت و صامت فلا يجزي في كفّارة القتل الطفل و لا الكافر، عن ابن عبّاس و الشعبيّ و إبراهيم و الحسن و قتادة و قيل: تجزي كلّ رقبة ولدت على الإسلام، عن عطا. و الأوّل أقوى لأنّ لفظ المؤمن لا يطلق إلّا على البالغ الملتزم للفرائض إلّا أنّ من ولد بين مؤمنين فلا خلاف أنّه يحكم له بالإيمان.

[وَ دِيَةٌ] أي و عليه و على عاقلته دية [مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي إلى أهل القتيل، و المسلّمة هي المدفوعة إليهم موفّرة غير منقّصة حقوق أهلها منها تدفع إلى أهل القتيل فتقسّم بينهم على حسب حساب الميراث [إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا] يعني إلّا أن يتصدّق أولياء القتيل بالدية على عاقلة القاتل و يتركوها عليهم.

[فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ معناه فإن كان القتيل من جملة قوم هم أعداء لكم يناصبونكم الحرب و هو في نفسه مؤمن و لم يعلم قاتله أنّه مؤمن فقتله و هو

ص: 156


1- مريم: 35.
2- النمل: 60.

يظنّه مشركا [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] أي فعلى قاتله تحرير رقبة [مُؤْمِنَةٍ] كفّارة و ليس فيه دية، عن ابن عبّاس.

و قيل: إنّ معناه إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء و هو مؤمن بين أظهرهم و لم يهاجر فمن قتله فلا دية له و عليه تحرير رقبة مؤمنة فقط؛ لأنّ الدية ميراث و أهله كفّار لا يرثونه، عن ابن عبّاس في رواية اخرى و إبراهيم و السدّيّ و قتادة و ابن زيد.

[وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد و ذمّة و ليسوا أهل حرب لكم [فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ تلزم عاقلة قاتله [وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] أي يلزم قاتله كفّارة لقتله، و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و اختلف في صفة هذا القتيل أهو مؤمن أم كافر؟ فقيل: إنّه كافر إلّا أنّه يلزم قاتله ديته بسبب العهد، عن ابن عبّاس و الزهريّ و الشعبيّ و إبراهيم النخعيّ و قتادة و ابن زيد.

و قيل: بل هو مؤمن يلزم قاتله الدية يؤدّيها إلى قومه المشركين لأنّهم أهل ذمّة، عن الحسن و إبراهيم و رواه أصحابنا أيضا إلّا أنّهم قالوا: تعطى ديته ورثته المسلمين دون الكفّار، و لفظ الميثاق يقع على الذمّة و العهد جميعا.

[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] أي لم يقدر على عتق الرقبة بأن لا يجد العبد و لا ثمنه [فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين [مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي ليتوب اللّه به عليكم فتكون التوبة من فعل اللّه، و قيل: إنّ المراد بالتوبة هنا التخفيف من اللّه لأنّ اللّه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه، و يكون كقوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ» (1).

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] أي لم يزل عليما بكلّ شي ء [حَكِيماً] فيما يأمر به و ينهى عنه، و أمّا الدية الواجبة في قتل الخطأ فمائة من الإبل إن كانت العاقلة من أهل الإبل بلا خلاف، و إن اختلفوا في أسنانها فقيل: هي أرباع: عشرون بنت مخاض و عشرون ابن لبون ذكر، و ثلاثون بنت لبون و ثلاثون حقّة، و روي ذلك عن عثمان و زيد بن ثابت و رواه أصحابنا أيضا.

ص: 157


1- المزمل: 20.

و قد روي أيضا في أخبارنا خمس و عشرون بنت مخاض و خمس و عشرون بنت لبون و خمس و عشرون حقّة و خمس و عشرون جذعة، و به قال الحسن و الشعبيّ.

و قيل: إنّها أخماس: عشرون حقّة و عشرون جذعة و عشرون بنت لبون و عشرون ابن لبون و عشرون بنت مخاض، و هذا قول ابن مسعود و ابن عبّاس و الزهريّ و الثوريّ و إليه ذهب الشافعيّ. و قال أبو حنيفة: هي أخماس أيضا إلّا أنّه جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، و به قال النخعيّ، و رووه أيضا عن ابن مسعود.

قال الطبريّ: هذه الروايات متكافئة و الأولى التخيير.

فأمّا الدية من الذهب فألف دينار، و من الورق عشرة آلاف درهم و هو الأصحّ، و و قيل: اثنا عشر ألفا و دية الخطأ تتأدّى في ثلاث سنين.

و لو خلّينا و ظاهر الآية لقلنا: إنّ دية الخطأ على القاتل لكن علمنا بسنّة الرسول و الإجماع أنّ الدية في الخطأ على العاقلة و هم الإخوة و بنو الإخوة و الأعمام و بنو الأعمام و أعمام الأب و أبناؤهم و الموالي و به قال الشافعيّ. و قال أبو حنيفة: يدخل الوالد و الولد فيها و يعقّل القاتل، و قد روى ابن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه و لا الابن بجريرة أبيه. و ليس إلزام الدية للعاقلة على سبيل مؤاخذة البري ء بالسقيم لأنّ ذلك ليس بعقوبة بل هو حكم شرعيّ تابع للمصلحة، و قد قيل: إنّ ذلك على سبيل المواسات و المعاونة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

. النزول: نزلت في مقيس بن صبابة الكنانيّ وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجّار فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهريّ و قال له: قل لبني النجّار:

إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته، فبلّغ الفهريّ الرسالة فأعطوه الدية، فلمّا انصرف و معه الفهريّ وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فيكون سبة عليك، اقتل الّذي معك لتكون نفس بنفس و الدية فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيرا و رجع إلى مكّة كافرا و أنشد يقول:

ص: 158

قتلت به فهرا و حمّلت عقله سراة بني النجّار أرباب فارع

فأدركت ثأري و اضطجعت موسّداو كنت إلى الأوثان أوّل راجع

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: لا أومنه في حلّ و لا حرم فقتل يوم الفتح، رواه الضحّاك و جماعة من المفسّرين.

المعنى: لمّا بيّن تعالى قتل الخطأ و حكمه عقّبه ببيان القتل العمد و حكمه فقال: [وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً] أي قاصدا إلى قتله عالما بإيمانه و حرمة قتله و عصمة دمه.

و قيل: معناه مستحلّا لقتله، عن عكرمة و ابن جريح و جماعة. و قيل: معنى التعمّد أن يقتله على دينه، رواه العيّاشيّ بإسناده عن الصادق عليه السّلام.

[فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً] مقيما [فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ و أبعده من الخير و طرده عنه على وجه العقوبة [وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً] ظاهر المعنى، و صفة قتل العمد أن يقصد قتل غيره بما جرت العادة بأن يقتل مثله سواء بحديدة حادّة كالسلاح أو بخنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو موالاة ضرب بالعصا أو بالحجارة حتّى يموت، فإنّ جميع ذلك عمد يوجب القود، و به قال إبراهيم و الشافعيّ و أصحابه.

و قال قوم: لا يكون قتل العمد إلّا بالحديد، و به قال سعيد بن المسيّب و طاوس و أبو حنيفة و أصحابه. و أمّا القتل شبيه العمد فهو أن يضرب بعصا أو غيرها ممّا لم تجر العادة بحصول الموت عنده فيموت ففيه الدية مغلظة تلزم القاتل خاصّة في ماله دون العاقلة.

و في هذه الآية و عيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمّدا حرّم اللّه به قتل المؤمن و غلظ فيه، و قال جماعة من التابعين: الآية الليّنة و هي «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* (1) نزلت بعد الشديدة و هي «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً».

و قال أبو مجلز: في قوله: «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» فهي جزاؤه إن جازاه. و يروى هذا أيضا عن أبي صالح، و رواه أيضا العيّاشيّ بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه.

ص: 159


1- السورة: 47 و 115.

و روى عاصم بن أبي النجود عن ابن عبّاس في قوله: «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ» قال: هي جزاؤه فإن شاء عذّبه و إن شاء غفر له، و روي عن أبي صالح و بكر بن عبد اللّه و غيره أنّه كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمره: إن فعلته فجزاؤك القتل و الضرب، ثمّ إن لم يجاوز بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.

و اعترض على هذا أبو عليّ الجبّائيّ فقال: ما لا يفعل لا يسمّى جزاء ألا ترى أنّ الأجير إذا استحقّ الاجرة فالدراهم الّتي مع مستأجره لا تسمّى بأنّها جزاء عمله، و هذا لا يصحّ لأنّ الجزاء عبارة عن المستحقّ سواء فعل ذلك أو لم يفعل، و لهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان و جزاء المسي ء الإساءة. و إن لم يتعيّن المحسن و المسي ء حتّى يقال: إنّه فعل ذلك به أو لم يفعل. و يقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، و إنّما لا يقال للدراهم: إنّها جزاء الأجير لأنّ الأجير إنّما يستحقّ الاجرة في الذمّة لا في دراهم معيّنة، فللمستأجر أن يعطيه منها و من غيرها.

و من تعلّق بهذه الآية من أهل الوعيد في أنّ مرتكب الكبيرة لا بدّ أن يخلّد في النار فإنّا نقول له: ما أنكرت أن يكون المراد به من لا ثواب له أصلا بأن يكون كافرا أو يكون قتله مستحلّا لقتله أو قتله لإيمانه، فإنّه لا خلاف أنّ هذا صفة من يخلّد في النار، و يعضده من الرواية ما تقدّم ذكره في سبب نزول الآية و أقوال الأئمّة في معناها، و بعد فقد وافقنا على أنّ الآية مخصوصة بمن لا يتوب و أنّ التائب خارج عن عمومها.

و أمّا ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لا توبة لقاتل المؤمن إذا قتله في حال الشرك ثمّ أسلم و تاب، و به قال ابن مسعود و زيد بن ثابت، فالأولى أن يكون هذا القول منهم محمولا على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوريّ أنّه سئل عن توبة القاتل فقال: كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له و إذا ابتلى الرجل قالوا له: تب.

و روى الواحديّ بإسناده مرفوعا إلى عطاء عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا، و سأله آخر القاتل المؤمن توبة؟ فقال: نعم. فقيل له في ذلك فقال جاءني ذلك و لم يكن قتل فقلت لا توبة لك لكي لا يقتل، و جاءني هذا و قد قتل قلت:

لك توبة لكي لا يلقي نفسه بيده إلى التهلكة.

و من قال من أصحابنا: إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة لا ينافي ما قلناه، لأنّ هذا

ص: 160

القول إن صحّ فإنّما يدلّ على أنّه لا يختار التوبة مع أنّها لو حصلت لأزالت العقاب.

و إذا كان لا بدّ من تخصيص الآية بالتوبة جاز أن يختصّ أيضا بمن تفضّل عليه بالعفو.

و روى الواحديّ بإسناده مرفوعا إلى الأصمعيّ قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو ابن العلاء فقال: يا أبا عمرو أ يخلف اللّه ما وعده؟ فقال: لا!، قال: أ فرأيت من أوعده على عمل عقابا أ يخلف اللّه وعده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان؟ إنّ الوعد غير الوعيد، إنّ العرب لا تعدّ عارا و لا خلفا أن تعد شرّا ثمّ لا تفعله يرى ذلك كرما و فضلا و إنّما الخلف في أن تعد خيرا ثمّ لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم سمعت قول الأوّل:

و إنّي و إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي

و وجد في الدعاء المرويّ بالرواية الصحيحة عن الصادقين عليهما السّلام: «يا من إذا وعد و في و إذا توعّد عفا» و هذا يؤيّد ما تقدّم، و قد أحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال:

الوعد حقّ و الوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على اللّه ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا و من أولى بالوفاء من اللّه؟ و الوعيد حقّة على العباد قال: لا تفعلوا كذا فاعذّبكم ففعلوا، فإن شاء عفا و إن شاء عاقب لأنّه حقّه، و ألا هما بربّنا العفو و الكرم إنّه غفور رحيم.

و روى إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت قيس بن أنس يقول: كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي اللّه فيقول: قلت: إنّ القاتل في النار فأقول: أنت قلت: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً،، الآية»، فقلت له:- و ما في البيت أصغر سنّا منّي- أ رأيت أن لو قال لك فإنّي قلت: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»* من أين علمت أنّي لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يردّ عليّ شيئا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

.

ص: 161

النزول: قيل: نزلت في اسامة بن زيد و أصحابه بعثهم النبيّ في سريّة فلفوا رجلا قد انحاز بغنم له إلى جبل، و كان قد أسلم فقال لهم: السلام عليكم! لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه، فبدر إليه اسامة فقتله و استاقوا غنمه، عن السدّيّ.

و روي عن ابن عبّاس و قتادة أنّه لمّا نزلت الآية حلف اسامة أن لا يقتل رجلا قال لا إله إلّا اللّه، و بهذا اعتذر إلى عليّ عليه السّلام لمّا تخلّف عنه، و إن كان عذره غير مقبول لأنّه قد دلّ الدليل على وجوب طاعة الإمام في محاربة من حاربه من البغاة لا سيّما و قد سمع النبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول: حربك يا عليّ حربي و سلمك سلمي.

و قيل: نزلت في محلم بن جثامة الليثيّ و كان بعثه النبيّ صلى اللّه عليه و آله في سريّة فلقيه عامر ابن الأضبط الأشجعيّ فحيّاه بتحيّة الإسلام، و كان بينهما إحنة فرماه بسهم فقتله، فلمّا جاء إلى النبيّ جلس بين يديه و سأله أن يستغفر له، فقال صلى اللّه عليه و آله: لا غفر اللّه لك، فانصرف باكيا فما مضت عليه سبعة أيّام حتّى هلك فدفن فلفظته الأرض، فقال صلى اللّه عليه و آله- لمّا اخبر به-: إنّ الأرض تقبل من هو شرّ من محلم صاحبكم، و لكنّ اللّه أراد أن يعظم من حرمتكم ثمّ طرحوه بين صدفي جبل و ألقوا عليه الحجارة، فنزلت الآية، عن الواقديّ و محمّد بن إسحاق ابن يسار رواية عن ابن عمرو ابن مسعود و أبي حدرد.

و قيل: كان صاحب السريّة المقداد، عن سعيد بن جبير. و قيل: أبو الدرداء، عن ابن زيد.

المعنى: لمّا بيّن تعالى أحكام القتل و أنواعه عقّب ذلك بالأمر بالتثبّت و التأنّي حتّى لا يفعل ما يعقّب الندامة فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي سرتم و سافرتم [فِي سَبِيلِ اللَّهِ للغزو و الجهاد [فَتَبَيَّنُوا] أي ميّزوا بين الكافر و المؤمن- و بالثاء و التاء- توقّفوا و تأنّوا حتّى تعلموا من يستحقّ القتل، و المعنيان متقاربان، و المراد بهما لا تعجلوا في القتل لمن أظهر السلام ظنّا منكم بأنّه لا حقيقة لذلك.

[وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي حيّاكم بتحيّة أهل الإسلام أو من استسلم

ص: 162

إليكم فلم يقاتلكم مظهرا أنّه من أهل ملّتكم [لَسْتَ مُؤْمِناً] أي ليس لإيمانك حقيقة و إنّما أسلمت خوفا من القتل أو لست بآمن.

[تَبْتَغُونَ أي تطلبون [عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا] يعني الغنيمة و المال و المتاع الحياة الدنيا الّذي لا بقاء له [فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ] أي في مقدوره فواضل و نعم و رزق إن أطعتموه فيما أمركم به، و قيل: معناه: ثواب كثير لمن ترك قتل المؤمن.

[كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ اختلف في معناه فقيل: كما كان هذا الّذي قتلتموه مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم، عن سعيد بن جبير. و قيل: كما كان هذا المقتول كافرا فهداه اللّه كذلك كنتم كفّارا فهداكم اللّه، عن ابن زيد و الجبّائيّ. و قيل: كذلك كنتم أذلّاء و احاد إذا سار الرجل منكم وحده خاف أن يختطف، عن المغربيّ.

[فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما فمنّ اللّه عليكم بإظهار دينه و إعزاز أهله حتّى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك، عن سعيد بن جبير. و قيل:

معناه: فتاب اللّه عليكم.

[فَتَبَيَّنُوا] أعاد هذا اللفظ للتأكيد بعد ما طال الكلام، و قيل: الأوّل معناه: تبيّنوا حاله و الثاني معناه: تبيّنوا هذه الفوائد بضمائر و اعرفوها و ابتغوها [إِنَّ اللَّهَ كانَ أي لم يزل [بِما تَعْمَلُونَ أي بما تعملونه [خَبِيراً] عليما قبل أن تعملوه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

النزول: نزلت الآية في كعب بن مالك من بني سلمة و مرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف و هلال بن اميّة من بني واقف، تخلّفوا عن رسول اللّه يوم تبوك و عذّر اللّه اولي الضرر

ص: 163

و هو عبد اللّه بن امّ مكتوم، و رواه أبو حمزة الثماليّ في تفسيره.

و قال زيد بن ثابت: كنت عند النبيّ حين نزلت عليه «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و لم يذكر «أُولِي الضَّرَرِ» فقال ابن امّ مكتوم: فكيف و أنا أعمى لا أبصر؟ فتغشّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله الوحي ثمّ سري عنه فقال: اكتب «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» فكتبتها.

المعنى: لمّا حثّ سبحانه على الجهاد عقّبه بما فيه من الفضل و الثواب فقال:

[لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يعتدل المتخلّفون عن الجهاد في سبيل اللّه من أهل الإيمان باللّه و برسوله و المؤثرون الدعة و الرفاهية على مقاساة الحرب و المشقّة بلقاء العدوّ [غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ] أي إلّا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم و غير ذلك من العلل الّتي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرر الّذي بهم.

[وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و منهاج دينه لتكون كلمة اللّه هي العليا و المستفرغون جهدهم و وسعهم في قتال أعداء اللّه و إعزاز دينه [بِأَمْوالِهِمْ إنفاقا لها فيما يوهن كيد الأعداء [وَ أَنْفُسِهِمْ حملا لها على الكفاح في اللقاء.

[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً] معناه فضيلة و منزلة.

[وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى معناه و كلا الفريقين من المجاهدين و القاعدين عن الجهاد وعد اللّه الجنّة، عن قتادة و غيره من المفسّرين.

و في هذه دلالة على أنّ الجهاد فرض على الكفاية لأنّه لو كان فرضا على الأعيان لما استحقّ القاعدون بغير عذر أجرا، و قيل: لأنّ المراد بالكلّ هنا المجاهد و القاعد من اولي الضرر المعذور، عن مقاتل.

[وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ من غير اولي الضرر [أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ مِنْهُ أي منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة، و قيل: هي درجات الأعمال كما يقال: الإسلام درجة و الفقه درجة و الهجرة درجة و الجهاد في الهجرة درجة و القتل في الجهاد درجة، عن قتادة.

ص: 164

و قيل: معنى الدرجات هي الدرجات التسع الّتي درّجها في سورة براءة في قوله:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلى قوله- لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (1) فهذه الدرجات التسع، عن عبد اللّه بن زيد.

[وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً] هذا بيان خلوص النعيم بأنّه لا يشوبه غمّ بما كان منه من الذنوب بل غفر له ذلك ثمّ رحمه بإعطائه النعم و الكرامات [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] لم يزل اللّه غفّارا للذنوب صفوحا لعبيده من العقوبة عليها رحيما بهم متفضّلا عليهم.

و قد يسأل فيقال: كيف قال في أوّل الآية: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» ثمّ قال في آخرها: «وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ» و هذا متناقض الظاهر؟

و أجيب عنه بجوابين: أحدهما أنّ في أوّل الآية فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين من اولي الضرر درجة و في آخرها فضّلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات فلا تناقض؛ لأنّ قوله: «وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يدلّ على أنّ القاعدين لم يكونوا عاصين و إن كانوا تاركين للفضل.

و ثانيها ما قاله أبو عليّ الجبّائيّ و هو أنّه أراد بالدرجة الاولى علوّ المنزلة و ارتفاع القدر على وجه المدح لهم كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان يريدون بذلك أنّه أعظم منزلة، و بالثانية الدرجات في الجنّة الّتي يتفاضل بها المؤمنون بعضهم على بعض على قدر استحقاقهم.

و قال المغربيّ: إنّما كرّر لفظ التفضيل، لأنّ بالأوّل أراد تفضيلها في الدنيا و أراد بالثاني تفضيلهم في الآخرة. و جاء في الحديث: إنّ اللّه فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة بين كلّ درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)

ص: 165


1- الآية: 121.

النزول: قال أبو حمزة الثماليّ: بلغنا أنّ المشركين يوم بدر لم يخلفوا إذا خرجوا أحدا إلّا صبيّا أو شيخا كبيرا أو مريضا فخرج معهم ناس ممّن تكلّم بالإسلام، فلمّا التقى المشركون و رسول اللّه نظر الّذين كانوا قد تكلّموا بالإسلام إلي قلّة المسلمين فارتابوا و أصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت فيهم الآية و هو المرويّ عن ابن عبّاس و السدّيّ و قتادة.

و قيل: إنّهم قيس بن الفاكه بن المغيرة و الحارث بن زمعة بن الأسود و قيس بن الوليد ابن المغيرة و أبو العاص بن منبّه بن الحجّاج و عليّ بن اميّة بن خلف عن عكرمة، و رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام. قال ابن عبّاس: كنت أنا من المستضعفين و كنت غلاما صغيرا.

و ذكر عنه أيضا أنّه قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال و امّي كانت من المستضعفات من النساء و كنت أنا من المستضعفين من الولدان.

المعنى: ثمّ أخبر تعالى عن حال من قعد عن نصرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعد الوفاة فقال:

[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ أي قبض أرواحهم أو تقبض أرواحهم [الْمَلائِكَةُ] ملك الموت أو هو و غيره فإنّ الملائكة تتوفّى و ملك الموت يتوفّى و اللّه يتوفّى و ما يفعله ملك الموت أو الملائكة يجوز أن يضاف إلى اللّه إذ فعلوه بأمره، و ما تفعله الملائكة جاز أن يضاف إلى ملك الموت إذ فعلوه بأمره [ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال هم فيها ظالمو أنفسهم إذ بخسوها حقّها من الثواب و أدخلوا عليها العقاب بفعل الكفر.

[قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي قالت لهم الملائكة: فيم كنتم؟ أي في أيّ شي ء كنتم من دينكم؟

على وجه التقرير لهم أو التوبيخ لفعلهم [قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يستضعفنا أهل الشرك باللّه في أرضنا و بلادنا بكثرة عددهم و قوّتهم و يمنعونا من الإيمان باللّه و اتّباع رسوله على جهة الاعتذار.

ص: 166

[قالُوا]: أي قالت الملائكة لهم: [أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها] أي فتخرجوا من أرضكم و دوركم و تفارقوا من يمنعكم من الإيمان باللّه و رسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك فتوحّدوه و تعبدوه و تتّبعوا رسوله، و روي عن سعيد بن جبير أنّه قال في معناه: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها.

ثمّ قال تعالى: [فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مسكنهم جهنّم [وَ ساءَتْ هي أي جهنّم [مَصِيراً] لأهلها الّذين صاروا إليها.

ثمّ استثنى من ذلك فقال: [إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الّذين استضعفهم المشركون [مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ و هم الّذين يعجزون عن الهجرة لإعسارهم و قلّة حيلتهم و هو قوله: [لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا] في الخلاص من مكّة و قيل: معناه لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق طريق الخروج منها أي لا يعرفون طريقا إلى المدينة، عن مجاهد و قتادة و جماعة من المفسّرين.

[فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ معناه: لعلّ اللّه أن يعفو عنهم لما هم عليه من الفقر و يتفضّل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم يتركوها اختيارا [وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا] أي لم يزل اللّه ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم [غَفُوراً] أي ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. قال عكرمة: و كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يدعو عقيب صلاة الظهر: اللّهم خلّص الوليدين و سلمة بن هشام و عياض بن أبي ربيعة و ضعفة المسلمين من أيدي المشركين.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

. النزول: قيل: لمّا نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين و هو جندع أو جندب بن ضمرة و كان بمكّة فقال: و اللّه ما أنا ممّا استثنى اللّه إنّي لأجد قوّة و إنّي لعالم بالطريق و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتّى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت

ص: 167

الآية، عن أبي حمزة الثماليّ و عن قتادة و عن سعيد بن جبير.

و قال عكرمة: و خرج جماعة من مكّة مهاجرين فلحقهم المشركون و فتنوهم عن دينهم فافتتنوا فأنزل اللّه فيهم «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» (1) فكتب بها المسلمون إليهم، ثمّ نزلت فيهم «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (2).

المعنى: ثمّ قال سبحانه: [وَ مَنْ يُهاجِرْ] يعني يفارق أهل الشرك و يهرب بدينه من وطنه إلى أرض الإسلام [فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في منهاج دين اللّه و طريقه الّذي شرعه لخلقه [يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً] أي متحوّلا من الأرض وسعة في الرزق، عن ابن عبّاس و الضحّاك و الربيع. و قيل: مزحزحا عمّا يكره وسعة من الضلالة إلى الهدى، عن مجاهد و قتادة. و قيل: مهاجرا فسيحا متّسعا ممّا كان فيه من تضييق المشركين عليه.

[وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أخبر سبحانه أنّ من خرج من بلده مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى اللّه و رسوله ثمّ يدركه الموت قبل بلوغه دار الهجرة و أرض الإسلام [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثواب عمله و جزاء هجرته على اللّه تعالى [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً] أي ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم [رَحِيماً] بهم رفيقا.

و ممّا جاء في معنى الآية من الحديث ما رواه الحسن عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض استوجب الجنّة و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلى اللّه عليه و آله، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن أبي عمير، حدّثني محمّد بن حكيم قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام و عبد اللّه فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه، قال محمّد بن أبي عمير: حدّثني محمّد بن حكيم قال:

ذكرت لأبي الحسن عليه السّلام زرارة و توجيهه عبيدا ابنه إلى المدينة فقال: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه فيهم: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ الآية».

ص: 168


1- العنكبوت: 9.
2- النحل: 112.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)

المعنى: [وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ معناه سرتم فيها إذا سافرتم [فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج و إثم [أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ] فيه أقوال:

أحدها أنّ معناه أن تقصروا من عدد الصلاة فتصلّوا الرباعيّات ركعتين، عن مجاهد و جماعة من المفسّرين و هو قول أكثر الفقهاء و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام. و قيل:

تقصر صلاة الخائف من المسافر، و هما قصران قصر الأمن من أربع إلى ركعتين و قصر الخوف من ركعتين إلى ركعة واحدة، عن جابر و مجاهد و قد رواه أيضا أصحابنا.

و ثانيها أنّ معناه القصر من حدود الصلاة، عن ابن عبّاس و طاوس و هو الّذي رواه أصحابنا في صلاه شدّة الخوف و أنّها تصلّى إيماء و السجود أخفض من الركوع، فإن لم يقدر على ذلك فالتسبيح المخصوص كاف عن كلّ ركعة.

و ثالثها أنّ المراد بالقصر الجمع بين الصلاتين. و الصحيح الأوّل.

[إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] يعني خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم أو دينكم، و قيل: معناه إن خفتم أن يقتلكم الّذين كفروا في الصلاة، عن ابن عبّاس. و مثله قوله تعالى: «عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» (1) أي يقتلهم. و قيل: معناه أن يعذّبكم الّذين كفروا بنوع من أنواع العذاب.

[إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً] أي ظاهري العداوة. و في قراءة أبيّ بن كعب «فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الّذين كفروا» من غير أن يقرأ «إِنْ خِفْتُمْ» و قيل: إنّ معنى هذه القراءة: أن لا يفتنكم أو كراهة أن يفتنكم، كما في قوله: «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» (2).

و ظاهر الآية يقتضي أنّ القصر لا يجوز إلّا عند الخوف لكنّا قد علمنا جواز القصر عند الأمن ببيان النبيّ، و يحتمل أن يكون ذكر الخوف في الآية قد خرج مخرج الأعمّ و الأغلب عليهم في أسفارهم؛ فإنّهم كانوا يخافون الأعداء في عامّتها و مثله في القرآن كثير.

ص: 169


1- يونس: 83.
2- السورة: 175.

و اختلف الفقهاء في قصر الصلاة في السفر؛ فقال الشافعيّ: هي رخصة، و اختاره الجبّائيّ.

و قال أبو حنيفة: هو عزيمة و فرض، و هذا مذهب أهل البيت عليهم السّلام قال زرارة و محمّد بن مسلم:

قلنا لأبي جعفر: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي و كم هي؟ قال: إنّ اللّه يقول: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: إنّه قال «لا جناح عليكم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» و لم يقل: افعل فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ قال: أ و ليس قال تعالى في الصفا و المروة: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (1)، ألا ترى أنّ الطواف واجب مفروض لأنّ اللّه تعالى ذكرهما في كتابه و صنعهما نبيّه؟ و كذا التقصير في السفر شي ء صنعه رسول اللّه و ذكره اللّه في الكتاب.

قال: قلت: فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه، و الصلاة في السفر كلّ فريضة ركعتان إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول اللّه في في السفر و الحضر ثلاث ركعات.

و في هذا الخبر دلالة على أنّ فرض المسافر مخالف لفرض المقيم، و قد اجتمعت الطائفة على ذلك و على أنّه ليس بقصر، و قد روي عن النبيّ أنّه قال: فرض المسافر ركعتان غير قصر، و عندهم أنّ الخوف بانفراده موجب للقصر، و فيه خلاف بين الفقهاء.

و ذهب جماعة من الصحابة و التابعين إلى أنّ اللّه عنى بالقصر في الآية قصر صلاة الخوف من صلاة السفر لا من صلاة الإقامة، لأنّ صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر، فمنهم جابر بن عبد اللّه و حذيفة اليمان و زيد بن ثابت و ابن عبّاس و أبو هريرة و كعب- و كان من الصحابة قطعت يده يوم اليمامة- و ابن عمر و سعيد بن جبير و السدّيّ.

و أمّا حدّ السفر الّذي يجب عنده القصر فعندنا ثمانية فراسخ، و قيل: مسيرة ثلاثة أيّام بلياليها و هو مذهب أبي حنيفة و أصحابه. و قيل: ستّة عشر فرسخا ثمانية و أربعين ميلا

ص: 170


1- البقرة: 158.

و هو مذهب الشافعيّ.

النظم: وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا أمر بالجهاد و الهجرة بيّن صلاة السفر و الخوف رحمة منه و تخفيفا لعباده

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 102]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)

المعنى: ثمّ ابتدأ تعالى ببيان صلاة الخوف في جماعة فقال: [وَ إِذا كُنْتَ يا محمّد [فِيهِمْ يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوّهم أن يغزوهم [فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ] بحدودها و ركوعها و سجودها، عن الحسن. و قيل معناه: أقمت لهم الصلاة بأن تؤمّهم [فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من أصحابك الّذين أنت فيهم [مَعَكَ في صلاتك و ليكن سائرهم في وجه العدوّ و تقديره: و لتقم طائفة منهم تجاه العدوّ، و لم يذكر ما ينبغي أن تفعله الطائفة غير المصلّية لدلالة الكلام عليه.

[وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلف في هذا فقيل: المأمور بأخذ السلاح الطائفة المصلّية مع رسول اللّه يأخذون من السلاح مثل السيف يتقلّدون به و الخنجر يشدّونه إلى دروعهم و كذلك السكّين و نحو ذلك، و هو الصحيح. و قيل: هم الطائفة الّتي بإزاء العدوّ دون المصلّية، عن ابن عبّاس.

[فَإِذا سَجَدُوا] يعني الطائفة الّتي تصلّي معه و فرغوا من سجودهم [فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يعني فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافّين العدوّ.

و اختلف في الطائفة الاولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود و فرغت من الركعة كيف يصنعون؟ فعندنا أنّهم يصلّون ركعة اخرى و يتشهّدون و يسلّمون و الإمام قائم في الثانية، ثمّ ينصرفون إلى مواقف أصحابهم و يجي ء الآخرون فيستفتحون الصلاة و يصلّي بهم الإمام

ص: 171

الركعة الثانية حسب، و يطيل تشهّده حتّى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم، ثمّ يسلّم بهم الإمام فيكون للطائفة الاولى تكبيرة الافتتاح و للثانية التسليم، و هو مذهب الشافعيّ أيضا.

و قيل: إنّ الطائفة الاولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون و يمضون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الاخرى و يصلّي بهم ركعة، و هو مذهب مجاهد و جابر و من يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

و قيل: إنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعتين فيصلّي بهم مرّتين بكلّ طائفة مرّة، عن الحسن.

و قيل: إنّه إذا صلّى بالطائفة الاولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ و تأتي الطائفة الاخرى فيكبّرون و يصلّي بهم الركعة الثانية و يسلّم الإمام و يعودون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الاولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون و يسلّمون و يرجعون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الثانية فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم مسبوقون، عن عبد اللّه ابن مسعود و هو مذهب أبي حنيفة.

[وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا] و هم الّذين كانوا بإزاء العدوّ [فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يعني و ليكونوا حذرين من عدوّهم متأهّبين لقتالهم بأخذ الأسلحة أي آلات الحرب، و هذا يدلّ على أنّ الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأوّل هم المصلّون دون غيرهم [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] معناه تمنّى الّذين كفروا [لَوْ تَغْفُلُونَ لو تعتزلون [عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ و تشتغلون عن أخذها تأهّبا للقتال [وَ أَمْتِعَتِكُمْ أي و عن أمتعتكم الّتي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها [فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً] أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بصلاتكم فيصيبون منكم غرّة فيقتلونكم و يستبيحون عسكركم و ما معكم.

المعنى: لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدوّ فيمكّن عدوّكم من أنفسكم و أسلحتكم و لكن أقيموها على ما أمرتم به، و من عادة العرب أن يقولوا: ملنا عليهم

ص: 172

بمعنى حملنا، قال العبّاس بن عبادة بن فضلة الأنصاريّ لرسول اللّه ليلة العقبة الثانية: و الّذي بعثك بالحقّ إن شئت لنميلنّ غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول اللّه: لم نؤمر بذلك يعني في ذلك الوقت.

[وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ] معناه لا حرج عليكم و لا إثم و لا ضيق إن نالكم أذى من مطر و أنتم مواقفو عدوّكم [أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يعني أعلّاء أو جرحى [أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ إذا ضعفتم عن حملها لكن إذا وضعتموها فاحترسوا منهم [وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ لئلّا يميلوا عليكم و أنتم غافلون [إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] مذلّا يبقون فيها أبدا.

و في الآية دلالة على صدق النبيّ و صحّة نبوّته و ذلك أنّها نزلت و النبيّ بعسفان و المشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّ و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم فقال بعضهم: إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه- يعنون صلاة العصر- فأنزل اللّه عليه هذه الآية فصلّى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالدين الوليد، القصّة.

و فيها دلالة اخرى ذكر أبو حمزة في تفسيره أنّ النبيّ غزا محاربا لبني أنمار فهزمهم اللّه و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول اللّه و المسلمون و لا يرون من العدوّ واحدا فوضعوا أسلحتهم، و خرج رسول اللّه ليقضي حاجته و قد وضع سلاحه فجعل بينه و بين أصحابه الوادي إلى أن يفرغ من حاجته، و قد درأ الوادي و السماء ترش، فحال الوادي بين رسول اللّه و بين أصحابه و جلس في ضلّ شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربيّ فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمّد قد انقلع من أصحابه، فقال: قتلني اللّه إن لم أقتله و انحدر من الجبل و معه السيف و لم يشعر به رسول اللّه إلّا و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سلّه من غمده، و قال:

يا محمّد من يعصمك الآن؟ فقال الرسول صلى اللّه عليه و آله: اللّه! فانكبّ عدوّ اللّه لوجهه فقام رسول اللّه فأخذ سيفه و قال: يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ قال: لا أحد، قال: أتشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي عبد اللّه و رسوله؟ قال: لا، و لكنّي أعهد أن لا أقاتلك أبدا و لا أعين عليك عدوّا، فأعطاه رسول اللّه سيفه، فقال له غورث: و اللّه لأنت خير منّي قال

ص: 173

صلى اللّه عليه و آله: إنّي أحقّ بذلك و خرج غورث إلى أصحابه، فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ فقال: أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلخني (1) بين كتفي فخررت لوجهي و خرّ سيفي و سبقني إليه محمّد و أخذه. و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول اللّه إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، و قرأ عليهم: «إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ، الآية كلّها».

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 103]

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)

المعنى: [فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ] معناه فإذا فرغتم من صلاتكم أيّها المؤمنون و أنتم مواقفو عدوّكم [فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً] أي في حال قيامكم و قعودكم [وَ عَلى جُنُوبِكُمْ أي مضطجعين فقوله: «وَ عَلى جُنُوبِكُمْ» في موضع نصب عطفا على ما قبله من الحال أي ادعوا اللّه في هذه الأحوال لعلّه ينصركم على عدوّكم و يظفركم بهم، مثل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (2) عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين.

و قيل: معناه فإذا أردتم الصلاة فصلّوا قياما إذا كنتم أصحّاء و قعودا إذا كنتم مرضى لا تقدرون على القيام، و على جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود عن ابن مسعود، و روي أنّه قال: عقيب تفسير الآية لم يعذر اللّه أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله.

[فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] اختلف في تأويله فقيل: معناه إذا استقررتم في أوطانكم و أقمتم في أمصاركم فأتمّوا الصلاة الّتي أذن لكم في قصرها عن مجاهد و قتادة و قيل: معناه إذا استقررتم بزوال خوفكم فأتمّوا حدود الصلاة عن السدّيّ و ابن زيد و مجاهد في رواية اخرى.

[إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً] اختلف في تأويله فقيل: معناه إنّ الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة عن ابن عبّاس و عطيّة العوفيّ و السدّيّ و مجاهد

ص: 174


1- الزلخة وجع يأخذ في الظهر لا يتحرك الإنسان من شدته.
2- الأنفال: 46.

و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و قيل: معناه فرضا موقوفا أي منجّما تؤدّونها في أنجمها عن ابن مسعود و قتادة و القولان متقاربان.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

. النزول: قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم احد، و قيل: نزلت يوم احد في الذهاب خلف أبي سفيان و عسكره إلى حمراء الأسد عن عكرمة.

المعنى: عاد الكلام إلى الحثّ على الجهاد فقال تعالى:

[وَ لا تَهِنُوا] أي و لا تضعفوا [فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي في طلب القوم الّذين هم أعداء اللّه و أعداء المؤمنين من أهل الشرك [إِنْ تَكُونُوا] أيّها المؤمنون [تَأْلَمُونَ ممّا ينالكم من الجراح منكم [فَإِنَّهُمْ يعني المشركون [يَأْلَمُونَ أيضا ممّا ينالهم منكم من الجراح و الأذى [كَما تَأْلَمُونَ أي مثل ما تألمون أنتم من جراحهم و أذاهم.

[وَ تَرْجُونَ أنتم أيّها المؤمنون [مِنَ اللَّهِ الظفر عاجلا و الثواب آجلا على ما ينالكم منهم [ما لا يَرْجُونَ هم على ما ينالهم منكم أي فأنتم إن كنتم موقنين من ثواب اللّه لكم على ما يصيبكم منهم بما هم مكذّبون به أولى و أحرى أن تصبروا على حربهم و قتالهم منهم على حربكم و قتالكم عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و السدّيّ.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بمصالح خلقه [حَكِيماً] في تدبيره إيّاهم و تقديره أحوالهم القصة: قال ابن عبّاس و عكرمة: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم احد و صعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله الجبل قال أبو سفيان: يا محمّد لنا يوم و لكم يوم، فقال صلى اللّه عليه و آله: أجيبوه؛ فقال المسلمون: لا سواء؛ قتلانا في الجنّة و قتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: «لنا عزّى و لا عزّى لكم». فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: قولوا: «اللّه مولانا و لا مولى لكم» فقال أبو سفيان:

«اعل هبل» فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: قولوا: «اللّه أعلى و أجلّ»: فقال أبو سفيان: موعدنا و موعدكم بدر الصغرى. و نام المسلمون و بهم الكلوم، و فيهم نزلت «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ

ص: 175

فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ الآية» و فيهم نزلت «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الآية» لأنّ اللّه أمرهم- على ما بهم من الجراح- أن يتبعوهم، و أراد بذلك إرهاب المشركين، و خرجوا إلى حمراء الأسد و بلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتّى دخلوا مكّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

النزول: نزلت في بنى أبيرق و كانوا ثلاثة إخوة: بشر و بشير و مبشّر، و كان بشير يكنّى أبا طعمة و كان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ يقول: قاله فلان، و كانوا أهل حاجة في الجاهليّة و الإسلام، فنقب أبو طمعة على علية رفاعة بن زيد و أخذ له طعاما و سيفا و درعا، فشكا ذلك إلى ابن أخيه قتادة بن النعمان، و كان قتادة بدريّا فتجسّسا في الدار و سألا أهل الدار في ذلك، فقال بنوا بيرق: و اللّه ما صاحبكم إلّا لبيد بن سهل رجل ذو حسب و نسب، فأصلت، عليهم لبيد بن سهل سيفه و خرج إليهم و قال: يا بني أبيرق أترمونني بالسرق و أنتم أولى به منّي؟ و أنتم منافقون تهجون رسول اللّه و تنسبون ذلك إلى قريش لتبيّننّ ذلك أو لأضعنّ سيفي منكم فداروه.

و أتى قتادة رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه إنّ أهل بيت منّا أهل بيت سوء عدوا على عميّ فخرقوا علية له من ظهرها و أصابوا له طعاما و سلاحا، فقال رسول اللّه: انظروا في شأنكم فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الّذي هم منه يقال له أسيد بن عروة: جمع رجالا من أهل الدار ثمّ انطلق إلى رسول اللّه فقال: إنّ قتادة بن النعمان و عمّه عمدا إلى أهل بيت منّا لهم حسب و نسب و صلاح و أنّبوهم بالقبيح و قالوا لهم ما لا ينبغي و انصرف، فلمّا أتى قتادة رسول اللّه بعد ذلك ليكلّمه جبّهه رسول اللّه جبها شديدا و قال: عمدت إلى أهل بيت حسب و نسب تأتيهم بالقبيح و تقول لهم ما لا ينبغي؟ قال: فقام قتادة من عند رسول اللّه و رجع إلى عمّه و قال:

يا ليتني متّ و لم أكن كلّمت رسول اللّه! فقد قال لي ما كرهت. فقال عمّه رفاعة:

اللّه المستعان، فنزلت الآيات: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله:- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ».

ص: 176

فبلغ بشيرا ما نزلت فيه من القرآن فهرب إلى مكّة و ارتدّ كافرا فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد و كانت امرأة من الأوس من بني عمرو بن عوف نكحت في بني عبد الدار فهجاها حسّان فقال:

فقد أنزلته بنت سعد و أصبحت ينازعها جلد استها و تنازعه

ظنتم بأن يخفى الّذي قد صنعتمواو فينا نبيّ عنده الوحي واضعه

فحملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح و قالت، ما كنت تأتيني بخير، أهديت إليّ شعر حسّان، هذا قول مجاهد و قتادة بن النعمان و عكرمة و ابن جريح، إلّا أنّ عكرمة قال: إنّ بني أبيرق طرحوا ذلك على يهوديّ يقال له: زيد بن السهين، فجاء اليهوديّ إلى رسول اللّه و جاء بنو أبيرق إليه و كلّموه أن يجادل، فهمّ رسول اللّه أن يفعل و أن يعاقب اليهوديّ فنزلت الآية و به قال ابن عبّاس.

و قال الضحّاك: نزلت في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب النبيّ، فغضب له قومه فقالوا: يا نبيّ اللّه خوّن صاحبنا و هو مسلم أمين فعذّره النبيّ صلى اللّه عليه و آله و كذب عنه و هو يرى أنّه بري ء مكذوب عليه، فأنزل اللّه فيه الآيات و اختار الطبريّ هذا الوجه قال: لأنّ الخيانة إنّما تكون في الوديعة لا في السرقة.

المعنى: ثمّ خاطب اللّه نبيّه فقال:

[إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمّد [الْكِتابَ يعني القرآن [بِالْحَقِ الّذي يجب اللّه على عباده و قيل: معناه إنّك به أحقّ [لِتَحْكُمَ يا محمّد [بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي أعلمك اللّه في كتابه [وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً] نهاه أن يكون لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله «خَصِيماً» يدافع من طالبه عنه بحقّه الّذي خانه فيه و يخاصم.

ثمّ قال: [وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أمره بأن يستغفر اللّه في مخاصمته عن الخائن [إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يصفح عن ذنوب عباده المسلمين و يترك مؤاخذتهم بها و الخطاب و إن توجّه إلى النبيّ من حيث خاصم عمّن رآه على ظاهره الإيمان و العدالة و كان في الباطن بخلافه، فالمراد بذلك امّته، و إنّما ذكر ذلك على وجه التأديب له في أن لا يبادر بالخصام و الدفاع

ص: 177

عن خصم إلّا بعد أن تبيّن وجه الحقّ فيه، جلّ نبيّ اللّه عن جميع المعاصي و القبائح، و قيل: إنّه لم يخاصم عن الخصم و إنّما همّ بذلك فعاتبه اللّه عليه.

النظم: وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا تقدّم ذكر المنافقين و الكافرين و الأمر بمجانبتهم عقّب ذلك بذكر الخائنين و الأمر باجتناب الدفع عنهم. و قيل: إنّه تعالى لمّا بيّن الأحكام و الشرائع في السورة عقّبها بأنّ جميع ذلك انزل بالحقّ.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 107 الى 109]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

النزول: نزلت الآيات في القصّة الّتي ذكرناها قبل.

المعنى: ثمّ نهى تعالى عن المجادلة و الدفع عن أهل الخيانة مؤكّدا لمّا تقدّم فقال:

[وَ لا تُجادِلْ قيل: الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه و آله حين همّ أن يبرئ أبا طعمة لمّا أتاه قوم ينفون عنه السرقة. و قيل: الخطاب له و المراد قومه. و قيل: تقديره: و لا تجادل أيّها الإنسان [عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي يخونون أنفسهم و يظلمونها أراد من سرق الدرع و من شاركه في السرقة و الخيانة، و قيل: إنّه أراد به قومه الّذين مشوا معه إلى النبيّ و شهدوا له بالبراءة عمّا نسب إليه من السرقة. و قيل: أراد به السارق و قومه و من هو في معناهم، و إنّما قال: «يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ» و إن خانوا غيرهم لأنّ ضرر خيانتهم كأنّه راجع إليهم لا حق بهم كما تقول لمن ظلم غيره: ما ظلمت إلّا نفسك، و كقوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» (1).

[إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً] هو فعّال من الخيانة أي من كان كثير الخيانة و قد ألفها و اعتادها، و قد يطلق الخوّان على الخائن في شي ء واحد إذا عظمت تلك الخيانة، و

ص: 178


1- الإسراء: 7.

الأثيم فاعل الإثم، و قيل: معناه لا يحبّ من كان خوّانا إذا سرق الدرع و أثيما إذا رمى به اليهوديّ.

و قال ابن عبّاس في معنى الآية: لا تجادل عن الّذين يظلمون أنفسهم بالخيانة و يرمون بالخيانة غيرهم يريد به سارق الدرع، سرق الدرع و رمى بالسرقة إلى اليهوديّ فصار خائنا بالسرقة و أثيما في رميه غيره بها.

[يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يكتمون عن الناس [وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ يعني الّذين مشوا في الدفع عن ابن أبيرق و معناه يتستّرون عن الناس معاصيهم في أخذ الأموال لئلّا يفتضحوا في الناس و لا يتستّرون من اللّه و هو مطّلع عليهم.

و قيل: معناه يستحيون من الناس و لا يستحيون من اللّه و علمه معهم فيكون معناه:

يخفون الخيانة عن الناس و يطلبون إخفاءها حياء منهم و لا يتركونها حياء من اللّه و هو عالم بأفعالهم.

[إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ أي يدبّرون بالليل قولا لا يرضاه اللّه، و قيل:

يغيّرون القول من جهته و يكذبون فيه. و قيل: إنّه قول ابن أبيرق في نفسه بالليل:

أرمي بهذا الدرع في دار اليهوديّ ثمّ أحلف أنّي بري ء منه فيصدّقني المسلمون لأنّي على دينهم و لا يصدّقون اليهوديّ لأنّه ليس على دينهم. و قيل: إنّه رمى بالدرع إلى دار لبيد بن سهل.

[وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً] قال الحسن: حفيظا لأعمالهم. و قال غيره: عالما بأعمالهم لا يخفى عليه شي ء منها.

و في هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس و حشمتهم عن ارتكاب القبائح و لا يمنعه خشية اللّه عن ارتكابها و هو سبحانه أحقّ أن يراقب و أجدر أن يحذر، و فيها أيضا توبيخ لمن يعمل قبيحا ثمّ يقذف غيره به سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا.

[ها أَنْتُمْ خطاب للذابّين عن السارق [هؤُلاءِ] يعني الّذين [جادَلْتُمْ أي خاصمتم و دافعتم [عَنْهُمْ عن الخائنين [فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] استفهام يراد به النهي لأنّه في معنى التقريع و التوبيخ أي لا مجادل عنهم و لا شاهد على براءتهم

ص: 179

بين يدي اللّه يوم القيامة، و في هذه الآية النهي عن الدفع عن الظالم و المجادلة عنه.

[أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا] أي من يحفظهم و يتولّى معونتهم يعنى لا يكون يوم القيامة عليهم وكيل يقوم بأمرهم و يخاصم عنهم، و أصل الوكيل من جعل إليه القيام بالأمر، و اللّه يسمّى وكيلا بمعنى أنّه القائم بالأمر، و يقال: إنّه يسمّى وكيلا بمعنى الحافظ، و لا يقال: إنّه وكيل لنا و إنّما يقال: إنّه وكيل علينا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 110 الى 112]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112)

المعنى: ثمّ بيّن تعالى طريق التلافي و التوبة ممّا سبق منهم من المعصية فقال:

[وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً] أي معصية أو أمرا قبيحا [أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بارتكاب جريمة، و قيل: يعمل سوءا بأن يسرق الدرع أو يظلم نفسه بأن يرمي بها بريئا. و قيل: المراد بالسوء الشرك و بالظلم مادون الشرك [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي يتوب إليه و يطلب منه المغفرة [يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً] ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ جريمتهم و إن عظمت فإنّها غير مانعة من المغفرة و قبول التوبة إذا استغفروا و تابوا.

[وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ظاهر المعنى و نظيره: «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها» (1) «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»* (2) [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بكسبه [حَكِيماً] في عقابه، و قيل: عليما في قضائه فيهم. و قيل: عليما بالسارق حكيما في إيجاب القطع عليه. ثمّ بيّن أنّ من ارتكب إثما ثمّ قذف به غيره كيف يعظم عقابه فقال:

[وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً] أي يعمل ذنبا على عمد أو غير عمد [أَوْ إِثْماً] أي ذنبا تعمّده،

ص: 180


1- الانعام: 164.
2- فصلت: 46. الجاثية: 14.

و قيل: الخطيئة الشرك و الإثم مادون الشرك [ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً] ثمّ ينسب ذنبه إلى بري ء.

و قيل: البري ء هو اليهوديّ الّذي طرح عليه الدرع، عن الحسن و غيره. و قيل: هو لبيد بن سهل (سهين خ) و قد مضى ذكرهما قبل، و قوله: «ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً» اختلف في الضمير الّذي هو الهاء في «به» فقيل: يعود إلى الإثم أي بالإثم. و قيل: إلى واحد منهما. و قيل:

يعنى بكسبه [فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً] كذبا عظيما يتحيّر من عظمه [وَ إِثْماً مُبِيناً] أي ذنبا ظاهرا بيّنا.

و في هذه الآيات دلالة على أنّه تعالى لا يجوز أن يخلق أفعال خلقه ثمّ يعذّبهم عليها، لأنّه إذا كان الخالق لها فهم برآء منها، فلو قيل: إنّ الكسب مضاف إلى العبد؛ فجوابه أنّ الكسب لو كان مفهوما و له معنى لم يخرج العبد بذلك من أن يكون بريئا، لأنّه إذا قيل: إن اللّه تعالى أوجد الفعل و أحدثه و أوجد الاختيار في القلب و الفعل لا يتجزّأ فقد انتفى عن العبد من جميع جهاته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 113 الى 114]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

النزول: قيل: نزلت في بني أبيرق و قد مضت قصّتهم عن أبي صالح عن ابن عبّاس.

و قيل: نزلت في و قد من ثقيف قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قالوا: يا محمّد جئناك نبايعك على أن لانكسر أصنامنا بأيدينا و على أن نتمتّع بالعزّى سنة فلم يجبهم إلى ذلك و عصمه اللّه منه، عن جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس.

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه لطفه برسوله و فضله عليه إذ صرف كيدهم عنه و عصمه من الميل إليهم فقال:

[وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ قيل: فضل اللّه النبوّة و رحمته نصرته إيّاه بالوحي.

ص: 181

و قيل: فضله تأييده بألطافه و رحمته نعمته، عن الجبّائيّ. و قيل: فضله النبوّة و رحمته العصمة [لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ لقصدت و أضمرت جماعة من هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم [أَنْ يُضِلُّوكَ فيه أقوال:

أحدها: أنّ المعنيّ بهم الّذين شهدوا للخائنين من بني أبيرق بالبراءة، عن ابن عبّاس و الحسن و الجبّائيّ فيكون المعنى: همّت طائفة منهم أن يزيلوك عن الحقّ بشهادتهم للخائنين حتّى اطّلعك اللّه على أسرارهم.

و ثانيها: أنّهم وفد ثقيف الّذين التمسوا من رسول اللّه ما لا بجوز، و قد مضى ذكرهم عن ابن عبّاس أيضا.

و ثالثها: أنّهم المنافقون الّذين همّوا بإهلاك النبيّ و المراد بالإضلال القتل و الإهلاك كما في قوله تعالى: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» (1)، فيكون المعنى: لو لا حفظ اللّه تعالى لك و حراسته إيّاك لهمّت طائفة من المنافقين أن يقتلوك و يهلكوك و مثله «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» (2) عن أبي مسلم.

[وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي و ما يزيلون عن الحقّ إلّا أنفسهم، و قيل: ما يهلكون إلّا أنفسهم و معناه: أنّ وبال ما همّوا به من الإهلاك و الإذلال يعود عليهم حتّى استحقّوا العذاب الدائم [وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لا يضرّونك بكيدهم و مكرهم شيئا فإنّ اللّه حافظك و ناصرك و مسدّدك و مؤيّدك.

[وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ] أي القرآن و السنّة، و اتّصاله بما قبله أنّ المعنى كيف يضلّونك و هو ينزل عليك الكتاب و يوحي إليك بالأحكام؟ [وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أي ما لم تعلمه من الشرائع و أنباء الرسل الأوّلين و غير ذلك من العلوم [وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً] قيل: فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك عظيم إذ جعلك خاتم النبيّين و سيّد المرسلين و أعطاك الشفاعة و غيرها.

ثمّ قال [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي أسرارهم و معنى النجوى لا يتمّ إلّا بين

ص: 182


1- الم السجدة: 10.
2- التوبة: 75.

اثنين فصاعدا كالدعوى [إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ] فإنّ في نجواه خيرا [أَوْ مَعْرُوفٍ يعني بالمعروف أبواب البرّ لاعتراف العقول بها، و قيل: لأنّ أهل الخير يعرفونها [أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أي تأليف بينهم بالمودّة، و قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه فرض التحمّل في القرآن فقال: قلت:

و ما التحمّل في القرآن جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتحمل له، و هو قوله: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ الآية» قال: و حدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين أنّه قال: إنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم.

[وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني ما تقدّم ذكره [ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاء اللّه [فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أي نعطيه [أَجْراً عَظِيماً] أي مثوبة عظيمة في الكثرة و المنزلة و الصفة؛ أمّا الكثرة فلأنّه دائم، و أمّا المنزلة فلأنّه مقارن للتعظيم و الإجلال، و أمّا الصفة فلأنّه غير مشوب بما ينغّصه.

و في الآية دلالة على أنّ فاعل المعصية هو الّذي يضرّ بنفسه لما يعود عليه من وبال فعله، و فيها دلالة أيضا على أنّ الّذي يدعو إلى الضلال هو المضلّ، و على أنّ فاعل الضلال مضلّ لنفسه، و على أنّ الدعاء إلى الضلال يسمّى إضلالا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 115]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

. النزول: قيل: نزلت في شأن ابن أبي أبيرق سارق الدرع، و لمّا أنزل اللّه في تقريعه و تقريع قومه الآيات كفر و ارتدّ و لحق بالمشركين من أهل مكّة، ثمّ نقب حائطا للسرقة فوقع عليه الحائط فقتله، عن الحسن. و قيل: إنّه خرج من مكّة نحو الشام فنزل منزلا و سرق بعض المتاع و هرب فأخذ و رمي بالحجارة حتّى قتل، عن الكلبيّ.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه التوبة عقّبه بذكر حال الإصرار فقال:

[وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي من يخالف محمّدا و يعاده [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي

ص: 183

ظهر له الحقّ و الإسلام و قامت له الحجّة و صحّت الأدلّة بثبوت نبوّته و رسالته [وَ يَتَّبِعْ طريقا [غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريقتهم الّذي هو دينهم [نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله إلى من انتصر به و اتّكل عليه من الأوثان و حقيقته نجعله يلي ما اعتمده من دون اللّه أي يقرب منه، و قيل: معناه نخلّي بينه و بين ما اختاره لنفسه [وَ نُصْلِهِ أي نلزمه دخول [جَهَنَّمَ عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد الهدى [وَ ساءَتْ مَصِيراً] قد مرّ معناه.

و قد استدلّ بهذه الآية على أنّ إجماع الامّة حجّة لأنّه توعّد علي مخالفة سبيل المؤمنين كما وعد على مشاققة الرسول صلى اللّه عليه و آله.

و الصحيح أنّه لا يدلّ على ذلك لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا و باطنا، لأنّ من أظهر الإيمان لا يوصف بأنّه مؤمن إلّا مجازا فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان؟ و ليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا، و متى حملوا الآية على بعض الامّة حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين و هم الأئمّة من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله على أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ الوعيد إنّما يتناول من جمع بين مشاققة الرسول و اتّباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله الوعيد؟ و نحن إنّما علمنا يقينا أنّ الوعيد إنّما يتناول بمشاققة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية فيجب أن يسندوا لتناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 116]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)

. قد مرّ تفسيره فيما تقدّم و قوله: [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً] أي ذهب عن طريق الحقّ، و الغرض المطلوب و هو النعيم المقيم في الجنّة ذهابا بعيدا لأنّ الذهاب عن نعيم الجنّة يكون على مراتب أبعدها الشرك باللّه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 117 الى 121]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)

.

ص: 184

المعنى: لمّا ذكر في الآية المتقدّمة أهل الشرك و ضلالهم ذكر في هذه الآية حالهم و فعالهم فقال:

[إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون هؤلاء المشركون و ما يعبدون [مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه [إِلَّا إِناثاً] فيه أقوال:

أحدها: إلّا أوثانا و كانوا يسمّون الأوثان باسم الإناث اللات و العزّى و مناة الثالثة الاخرى و أساف و نائلة، عن أبي مالك و السدّيّ و مجاهد و ابن زيد، و ذكر أبو حمزة الثماليّ في تفسيره قال: كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسدنة و تكلّمهم و ذلك من صنع إبليس و هو الشيطان الّذي ذكره اللّه فقال: لعنه اللّه. قالوا: و اللات كان اسما لصخرة، و العزّى كان اسما لشجرة إلّا أنّهم نقلوهما إلى الوثن و جعلوهما علما عليهما. و قيل: العزّى تأنيث الأعزّ، و اللات تأنيث لفظ اللّه. و قال الحسن: كان لكلّ حيّ من العرب وثن يسمّونه باسم الأنثى.

و ثانيها: أنّ المعنى إلّا أمواتا، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة، فعلى هذا يكون تقديره: ما يعبدون من دون اللّه إلّا جمادا و أمواتا لا تعقل و لا تنطق و لا تضرّ و لا تنفع، فدلّ ذلك على غاية جهلهم و ضلالهم، و سمّاها إناثا لاعتقاد مشركي العرب الأنوثة في كلّ ما اتّضعت منزلته، و لأنّ الإناث من كلّ جنس أرذله. و قال الزجّاج: لأنّ الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث تقول: الأحجار تعجبني، و لا تقول: يعجبونني، و يجوز أن يكون إناثا سمّاها لضعفها و قلّة خيرها و عدم نصرها.

و ثالثها: أنّ المعنى: إلّا ملائكة لأنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه و كانوا يعبدون الملائكة، عن الضحّاك.

ص: 185

[وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً] أي ماردا شديدا في كفره و عصيانه متماديا في شركه و طغيانه، يسأل عن هذا فيقال: كيف نفى في أوّل الكلام عبادتهم لغير الأوثن ثمّ أثبت في آخره عبادتهم الشيطان فأثبت في الآخر ما نفاه في الأوّل؟ و أجاب الحسن عن هذا فقال: إنّهم لم يعبدوا إلّا الشيطان في الحقيقة لأنّ الأوثان كانت مواتا ما دعت أحدا إلى عبادتها، بل الداعي إلى عبادتها الشيطان فأضيفت العبادة إلى الشيطان بحكم الدعاء، و إلى الأوثان لأجل أنّهم كانوا يعبدونها و يدلّ عليه قوله تعالى: «و يوم نحشرهم جميعا ثمّ نقول للملائكة أ هؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» (1)، أضافت الملائكة عبادتهم إلى الجنّ حتّى قيل: إنّ الجنّ دعتهم إلى عبادة الملائكة. و قال ابن عبّاس: كان في كلّ واحد من أصنامهم الّتي كانوا يعبدونها شيطان مريد يدعو المشركين إلى عبادتها فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأصنام و إلى الشيطان. و قيل: ليس في الآيات إثبات المفيّ بل ما يعبدون إلّا الأوثان و إلّا الشيطان و هو إبليس.

[لَعَنَهُ اللَّهُ بعّده اللّه عن الخير بإيجاب الخلود في نار جهنّم [وَ قالَ يعني الشيطان لمّا لعنه اللّه [لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً] أي حظّا [مَفْرُوضاً] أي معلوما، عن الضحّاك. و قيل: مقدّرا محدودا. و أصل الاتّخاذ أخذ الشي ء على وجه الاختصاص؛ فكلّ من أطاعه فإنّه من نصيبه و حزبه كما قال سبحانه: «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ» (2). و روي أنّ النبيّ قال في هذه الآية: من بني آدم تسعة و تسعون في النار و واحد في الجنّة. و في رواية اخرى من كلّ ألف واحد للّه و سائرهم للنار و لإبليس، أوردهما أبو حمزة الثماليّ في تفسيره.

و يقال: كيف علم إبليس أنّ له أتباعا يتابعونه؟ و الجواب علم ذلك من قوله:

«لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ» (3). و قيل: إنّه لمّا نال من آدم ما نال طمع في ولده و إنّما

ص: 186


1- سبأ: 41.
2- الحج: 4.
3- ص: 84.

قال ذلك ظنّا، و يؤيّده قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» (1).

[وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ هذا من مقالة إبليس يعني لأضلّنّهم عن الحقّ و الصواب، و إضلاله دعاؤه إلى الضلال و تسبيبه له بحبائله و غروره و وساوسه [وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ يعني امنّينّهم طول البقاء في الدنيا فيؤثرون بذلك الدنيا و نعيمها على الآخرة، و قيل: معناه أقول لهم: ليس وراءكم بعث و لا نشر و لا نشر و لا جنّة و لا نار و لا ثواب و لا عقاب فافعلوا ما شئتم، عن الكلبيّ.

و قيل: معناه: امنّينّهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية و ازيّن لهم شهوات الدنيا و زهراتها و أدعو كلّا منهم إلى نوع يميل طبعه إليه فأصدّه بذلك عن الطاعة و ألقيه في المعصية.

[وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ تقديره: و لآمرنّهم بتبتيك آذان الأنعام فليبتّكنّ أي ليشقّقنّ آذانهم، عن الزجّاج و قيل: ليقطعنّ الآذان من أصلها، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و هذا شي ء قد كان مشركو العرب يفعلونه، يجدعون آذان الأنعام.

و يقال: كلوا يفعلونه بالبحيرة و السائبة، و سنذكر ذلك في سورة المائدة إن شاء اللّه.

[وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أي لآمرنّهم بتغيير خلق اللّه فليغيّرنّه، و اختلف في معناه فقيل: يريد دين اللّه و أمره، عن ابن عبّاس و إبراهيم و مجاهد و الحسن و قتادة و جماعة و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و يؤيّده قوله سبحانه و تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» (2) و أراد بذلك تحريم الحلال و تحليل الحرام، و قيل:

أراد معنى الخصاء، عن عكرمة و شهر بن حوشب و أبي صالح عن ابن عبّاس، و كرهوا الإخصاء في البهائم. و قيل: إنّه الوشم، عن ابن مسعود. و قيل: إنّه أراد الشمس و القمر و الحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها، عن الزجّاج.

[وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا] أي ناصرا و قيل: ربّا يطيعه [مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً] أي ظاهرا، و أيّ خسران أعظم من استبدال الجنّة بالنار؟ و أيّ صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن؟

ص: 187


1- سبأ: 2.
2- الروم: 30.

[يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ أن يكون لهم ناصرا [وَ يُمَنِّيهِمْ الأكاذيب و الأباطيل، و قيل:

معناه يعدهم الفقر إن أنفقوا ما لهم في أبواب البرّ و يمنّيهم طول البقاء في الدنيا و دوام النعيم فيها ليؤثروها على الآخرة [وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً] أي لا يكون لما يعدهم و يمنّيهم أصل و حقيقة، و الغرور إيهام النفع فيما فيه ضرر.

[أُولئِكَ إشارة إلى الّذين اتّخذوا الشيطان وليّا من دون اللّه فاغترّوا بغروره و تابعوه فيما دعاهم إليه [مَأْواهُمْ مستقرّهم جميعا [جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً] أي مخلصا و لا مهربا و لا معدلا.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 122]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

قدّ مرّ تفسير صدر الآية في هذه السورة. و قوله: «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ...، وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» (1) و نحوه بإشمام الزاي كوفيّ غير عاصم و رويس و الباقون بالصاد و قد ذكرنا الوجه عند ذكر الصراط في الفاتحة، و قوله: «وَعْدَ اللَّهِ» نصب على المصدر و تقديره: وعد اللّه ذلك وعدا، فهو مصدر دلّ معنى الكلام الّذي تقدّم على فعله الناصب له، «حَقًّا» أيضا مصدر مؤكّد لما قبله كأنّه قال: أحقّه حقّا. و «قِيلًا» منصوب على التمييز كما يقال: هو أكرم منك فعلا، و معناه وعد اللّه ذلك وعدا حقّا لا خلف فيه «وَ مَنْ أَصْدَقُ» استفهام فيه معنى النفي أي لا أحد أصدق من اللّه قولا فيما أخبره و وعدا فيما وعده.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 123 الى 124]

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

النزول: قيل: تفاخر المسلمون و أهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم و كتابنا قبل كتابكم و نحن أولى باللّه منكم، فقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيّين و كتابنا يقضي على الكتب و ديننا الإسلام فنزلت الآية. فقال أهل الكتاب: نحن و أنتم سواء فأنزل اللّه

ص: 188


1- السورة: 87.

الآية الّتي بعدها: «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ»، ففلح المسلمون، عن قتادة و الضحّاك، و قيل: لمّا قالت اليهود: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ»، و قال أهل الكتاب: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى نزلت الآية. عن مجاهد.

المعنى: لمّا ذكر اللّه سبحانه الوعد و الوعيد قال عقيب ذلك:

[لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ معناه ليس الثواب و العقاب بأمانيّكم أيّها المسلمون، عن مسروق و السدّيّ. و قيل: الخطاب لأهل الشرك من قريش لأنّهم قالوا: لا نبعث و لا نعذّب، عن مجاهد و ابن زيد [وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ أي و لا بأمانيّ أهل الكتاب في أنّه لا يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى، و هذا يقوّي القول الأخير على أنّه لم يجر للمسلمين.

ذكر في الأمانيّ و ذكر أمانيّ الكفّار قد جرى في قوله: «وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ» هذا و قد وعد اللّه المؤمنين فيما بعد بما هو غاية الأمانيّ.

[مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اختلف في تأويله على أقوال:

أحدها أنّه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها و كبائرها و أنّ من ارتكب شيئا منها فإنّ اللّه سبحانه يجازيه عليها إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة، عن عائشة و قتادة و مجاهد.

و روي عن أبي هريرة أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية بكينا و حزنّا و قلنا يا رسول اللّه: ما أبقت هذه الآية من شي ء، فقال: أما و الّذي نفسي بيده إنّها لكما أنزلت، و لكن ابشروا و قاربوا و سدّدوا إنّه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر اللّه بها خطيئته حتّى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه، رواه الواحديّ في تفسيره مرفوعا.

و قال القاضي أبو عاصم القارئ العامريّ: في هذا قطع لتوهّم أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان كما أنّ الطاعة لا تنفع مع الكفر.

و ثانيها أنّ المراد به مشركو قريش و أهل الكتاب، عن الحسن و الضحّاك و ابن زيد قالوا: و هو كقوله: «وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ».

و ثالثها أنّ المراد بالسوء هنا الشرك، عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير.

[وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] معناه: و لا يجد هذا الّذي يعمل سوءا من معاصي اللّه و خلاف أمره وليّا يلي أمره ينصره و يحامي عنه و يدفع عنه ما ينزل به من

ص: 189

عقوبة اللّه، و لا نصيرا أي ناصرا ينصره و ينجيه من عذاب اللّه.

و من استدلّ بهذه الآية على المنع من جواز العفو عن المعاصي فإنّا نقول له: إنّ من ذهب إلي أنّ العموم لا ينفرد في اللغة بصيغة مختصّة به لا يسلّم أنّها تستغرق جميع من فعل السوء، بل يجوز أن يكون المراد بها بعضهم على ما ذكره أهل التأويل كابن عبّاس و غيره على أنّهم قد اتّفقوا على أنّ الآية مخصوصة، فإنّ التائب و من كان معصيته صغيرة لا يتناوله العموم فإذا جاز لهم أن يخصّصوا العموم في الآية بالفريقين جاز لنا أن نخصّها بمن يتفضّل اللّه عليه بالعفو و هذا بيّن و الحمد للّه.

و قوله سبحانه: [وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ و إنّما قال «وَ هُوَ مُؤْمِنٌ» ليبيّن أنّ الطاعة لا تنفع من دون الإيمان [فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً] وعد اللّه تعالى بهذه الآية جميع المكلّفين من الرجال و النساء إذا عملوا الأعمال الصالحة أي الطاعات الخالصة، و هم مؤمنون موحّدون مصدّقون نبيّه بأن يدخلهم الجنّة و يثبتهم فيها و لا يبخسهم شيئا ممّا يستحقّونه من الثواب و إن كان مقدار نقير في الصغر.

و قد قابل سبحانه الوعيد العامّ في الآية الّتي قبل هذه الآية بالوعد العامّ في هذه الآية ليقف المؤمن بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 125 الى 126]

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه من يستحقّ الوعد الّذي ذكره قبل فقال: [وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً] و هو في صورة الاستفهام و المراد به التقرير و معناه من أصواب طريقا و أهدى سبيلا؟ أي لا أحد أحسن اعتقادا [مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي استسلم وجهه، و المراد بقوله:

«وَجْهَهُ» هنا ذاته و نفسه كما قال تعالى: «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1) و المعنى: انقاد للّه سبحانه بالطاعة و لنبيّه صلى اللّه عليه و آله بالتصديق. و قيل: معنى «أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» قصده بالعبادة

ص: 190


1- القصص: 88.

وحده كما أخبر عن إبراهيم عليه السّلام أنّه قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» (1) و قيل: معناه أخلص أعماله للّه أي أتى بها مخلصا للّه فيها.

[وَ هُوَ مُحْسِنٌ أي فاعل للفعل الحسن الّذي أمره اللّه تعالى، و قيل: معناه و هو محسن في جميع أقواله و أفعاله، و قيل: إنّ المحسن هنا الموحّد. و روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله سئل عن الإحسان فقال: أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.

[وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي اقتدى بدينه و سيرته و طريقته يعني ما كان عليه إبراهيم و أمر به بنيه من بعده، و أوصاهم به من الإقرار بتوحيده و عدله، و تنزيهه عمّا لا يليق به، و من ذلك الصلاة إلى الكعبة و الطواف حولها و سائر المناسك [حَنِيفاً] أي مستقيما على منهاجه و طريقه، و قد مرّ معنى الحنيف في سورة البقرة.

[وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا] أي محبّا لا خلل في مودّته لكمال خلّته، و المراد بخلّته للّه أنّه كان مواليا لأولياء اللّه و معاديا لأعداء اللّه، و المراد بخلّة اللّه تعالى له نصرته على من أراده بسوء كما أنقذه من نار نمرود و جعلها عليه بردا و سلاما، و كما فعله بملك مصرحين راوده عن أهله، و جعله إماما للناس و قدوة لهم، قال الزجّاج: جائز أن يكون سمّي خليل اللّه بأنّه الّذي أحبّه اللّه بأن اصطفاه محبّة تامّة كاملة، و أحبّ اللّه هو محبّة تامّة كاملة. و قيل سمّي خليلا لأنّه افتقر إلى اللّه و توكّل عليه و انقطع بحوائجه إليه، و هو اختيار الفرّاء و أبي القاسم البلخيّ. و إنّما خصّه اللّه بهذا الاسم و إن كان الخلق كلّهم فقراء إلى رحمته تشريفا له بالنسبة إليه من حيث إنّه فقير إليه لا يرجو لسدّ خلّته بسواه، كما خصّ موسى عليه السّلام بأنّه كليم اللّه، و عيسى عليه السّلام بأنّه روح اللّه، و محمّدا صلى اللّه عليه و آله بأنّه حبيب اللّه. و قيل إنّما سمّي خليلا لأنّه سبحانه خصّه بما لم يخصّ به غيره من إنزال الوحي عليه و غير ذلك من خصائصه.

و إنّما خصّه من بين سائر الأنبياء بهذا الاسم على المعنيين اللّذين ذكرناهما و إن كان كلّ واحد من الأنبياء خليل اللّه في زمانه، لأنّه سبحانه خصّهم بالنبوّة، و قد روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: قد اتّخذ اللّه صاحبكم خليلا- يعني نفسه- و هذا الوجه اختيار أبي عليّ الجبّائيّ قال: و كلّ ما تعبّد اللّه به إبراهيم فقد تعبّد به نبيّنا صلى اللّه عليه و آله و زاده أشياء لم يتعبّد به إبراهيم عليه السّلام.

ص: 191


1- الانعام: 79.

و ممّا قيل: في وجه خلّة إبراهيم ما روي في التفسير أنّ إبراهيم كان يضيف الضيفان و يطعم المساكين، و أنّ الناس أصابهم جدب فارتحل إبراهيم إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله فلم يصب ذلك عنده، فلمّا قرب من أهله بمفازة ذات رمل ليّنه ملأ غرائره (1) من ذلك الرمل لئلّا يغمّ أهله برجوعه من غير ميرة (2)، فحوّل اللّه ما في غرائره دقيقا فلمّا وصل إلى أهله دخل البيت و نام استحياء منهم، ففتحوا الغرائر و عجنوا من الدقيق و خبزوا و قدّموا إليه طعاما طيّبا، فسألهم من أين خبزوا؟ قالوا: من الدقيق الّذي جئت به من عند خليلك المصريّ. فقال: أما إنّه من خليلي ليس بمصريّ، فسمّاه اللّه سبحانه خليلا، رواه عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه اتّخذ إبراهيم خليلا لطاعته و مسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلّته فقال: [وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا فهو مستغن عن جميع خلقه و الخلق محتاجون إليه [وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً] يعني لم يزل سبحانه عالما بجميع ما يفعله عباده، و معنى المحيط بالشي ء أنّه العالم به جميع وجوهه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 127]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

. المعنى: ثمّ عاد كلام اللّه تعالى إلى ذكر النساء و اليتامى و قد جرى ذكرهم في أوّل السورة فقال:

[وَ يَسْتَفْتُونَكَ أي يسألونك الفتوى و هو تبيين المشكل من الأحكام [فِي النِّساءِ] يستخبرونك يا محمّد عن الحكم فيهنّ و عمّا يجب لهنّ و عليهنّ و إنّما حذف ذلك لإحاطة

ص: 192


1- جمع الغرارة- بالكسر-: الجوالق.
2- الطعام الذي يدخر.

العلم بأنّ السؤال في أمر الدين إنّما يقع عمّا يجوز و عمّا لا يجوز و عمّا يجب و عمّا لا يجب.

[قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ معناه قل يا محمّد: يبيّن لكم ما سألتم في شأنهنّ [وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي و يفتيكم أيضا ما يقرأ عليكم في الكتاب أي القرآن و تقديره: و كتابه يفتيكم أي يبيّن لكم الفرائض المذكورة [فِي يَتامَى النِّساءِ] أي الصغار اللاتي لم يبلغن و قوله: [اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ أي لا تعطونهنّ [ما كُتِبَ لَهُنَ و اختلف في تأويله على أقوال:

أولها: أنّ المعنى و ما يتلى عليكم في توريث صغار النساء و هو آيات الفرائض الّتي في أوّل السورة، و كان أهل الجاهليّة لا يورّثون المولود حتّى يكبر و لا يورّثون المرأة، و كانوا يقولون: لا نورّث إلّا من قاتل و دفع عن الحريم، فأنزل اللّه آية المواريث في أوّل السورة و هو معنى قوله: «لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» أي من الميراث عن ابن عبّاس و سعيد ابن جبير و مجاهد و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ثانيها: أنّ المعنى: اللّاتي لا تؤتونهنّ ما وجب لهنّ من الصداق، و كانوا لا يؤتون اليتامى اللّاتي يلون عليهنّ من الصداق فنهى اللّه عن ذلك بقوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا- من غيرهنّ- ما طابَ لَكُمْ» (1)، و قوله: «وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» هو ما ذكره في أوّل السورة من قوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا، الآية» عن عائشة و هو اختيار أبي عليّ الجبّائيّ، و اختار الطبريّ القول الأوّل، و اعترض على هذا القول بأن قال: ليس الصداق ممّا كتب اللّه للناس إلّا بالنكاح فمن لم تنكح فلا صداق لها عند أحد.

و ثالثها: أنّ المراد بقوله: «لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ» النكاح الّذي كتب اللّه لهنّ في قوله: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى الآية» فكان الوليّ يمنعهنّ من التزويج، عن الحسن و قتادة و السدّيّ و ابن مالك و إبراهيم قالوا: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة بها دمامة و لها مال و كان يرغب أن يتزوّجها و يحبسها طمع أن تموت فيرثها، قال السدّيّ: و كان جابر

ص: 193


1- السورة: 3.

ابن عبد اللّه الأنصاريّ له بنت عمّ عمياء دميمة و قد ورثت عن أبيها مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها و لا ينكحها مخافة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبيّ صلى اللّه عليه و آله عن ذلك فنزلت الآية.

و قوله: [وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ معناه على القول الأوّل و الثالث: و ترغبون عن أن تنكحوهنّ أي عن نكاحهنّ و لا تؤتونهنّ نصيبهنّ من الميراث فيرغب فيهنّ غيركم فقد ظلمتموهنّ من وجهين. و في قول عائشة معناه: و ترغبون في أن تنكحوهنّ أي في نكاحهنّ لجمالهنّ أو لمالهنّ.

[وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معناه: و يفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار أن تعطوهم حقوقهم، و كانوا لا يورّثون صغيرا من الغلمان و لا من الجواري، لأنّ ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: «وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» (1) يدلّ على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث.

[وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ] أي و يفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط في أنفسهم و في مواريثهم و أموالهم و تصرّفاتهم و إعطاء كلّ ذي حقّ منهم حقّه صغيرا كان أو كبيرا ذكرا كان أو أنثى، و فيه إشارة إلى قوله سبحانه: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية» (2).

[وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ] أي مهما فعلتم من خير أيّها المؤمنون من عدل و برّ في أمر النساء و اليتامى و انتهيتم في ذلك إلى أمر اللّه و طاعته [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً] أي لم يزل به عالما و لا يزال كذلك يجازيكم به و لا يضيع عنه شي ء منه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 128]

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

النزول: كانت بنت محمّد بن سلمة عند رافع بن خديج، و كانت قد دخلت في السنّ، و كانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة و إن شئت تركتك، قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة،

ص: 194


1- السورة: 2.
2- السورة: 3.

فراجعها، فذلك الصلح الّذي بلغنا أنّ اللّه تعالى أنزل فيه هذه الآية عن أبي جعفر عليه السّلام و سعيد بن المسيّب. و قيل: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلّقها رسول اللّه فقالت: لا تطلقني و أجلسني مع نسائك و لا تقسم لي و اجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية عن ابن عبّاس.

المعنى: لمّا تقدّمت حكم نشوز المرأة بيّن سبحانه تعالى نشوز الرجل فقال:

[وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ أي علمت و قيل: ظنّت [مِنْ بَعْلِها] أي من زوجها [نُشُوزاً] أي استعلاء و ارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها إمّا لبغضه و إمّا لكراهته منها شيئا إمّا دمامتها و إمّا علوّ سنّها أو غير ذلك [أَوْ إِعْراضاً] يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه الّتي كانت لها منه، و قيل: يعني بإعراضه عنها هجرانه إيّاها و جفاها و ميله إلى غيرها.

[فَلا جُناحَ عَلَيْهِما] أي لا حرج و لا إثم على كلّ واحد منهما من الزوج و الزوجة [أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً] بأن تترك المرأة له يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك لتستعطفه بذلك و تستديم المقام في حباله [وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ] معناه و الصلح بترك بعض الحقّ [خير] من طلب الفرقة بعد الألفة هذا إذا كان بطيبة من نفسها فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له إلّا ما يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة و النفقة و القسمة و إلّا طلّقها، و بهذه الجملة قالت الصحابة و التابعون منهم عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس و عائشة و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و غيرهم.

[وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ اختلف في تأويله فقيل: معناه و أحضرت أنفس النساء الشحّ على أنصبائهنّ من أنفس أزواجهنّ و أموالهنّ و أيّامهنّ منهم، عن ابن عبّاس و سعيد ابن جبير و عطاء و السدّيّ. و قيل: معناه: و أحضرت أنفس كلّ واحد من الرجل و المرأة الشحّ بحقّه قبل صاحبه، فشحّ المرأة يكون بترك حقّها من النفقة و الكسوة و القسمة و غيرها، و شحّ الرجل بإنفاقه على الّتي لا يريدها و هذا أعمّ، و به قال ابن وهب و ابن زيد.

[وَ إِنْ تُحْسِنُوا] خطاب للرجال أي إن تفعلوا الجميل بالصبر على ما تكرهون من النساء [وَ تَتَّقُوا] من الجور عليهنّ في النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف، و قيل: بأن تحسنوا في أقوالكم و أفعالكم و تتّقوا معاصي اللّه [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً]

ص: 195

أي هو سبحانه خبير بما يكون منكم في أمرهنّ بحفظه لكم و عليكم حتّى يجازيكم بأعمالكم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 129 الى 130]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

المعنى: لمّا تقدّم ذكر النشوز و الصلح بين الزوجين عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع فقال:

[وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ أي لن تقدروا أن تسوّوا بين النساء في المحبّة و المودّة بالقلب و لو حرصتم على ذلك كلّ الحرص، فإنّ ذلك ليس إليكم و لا تملكونه فلا تكلّفونه و لا تؤاخذون به، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة. و قيل: معناه لن تقدروا أن تعدلوا بالتسوية بين النساء في كلّ الأمور من جميع الوجوه من النفقة و الكسوة و العطيّة و المسكن و الصحبة و البرّ و البشر و غير ذلك، و المراد به أنّ ذلك لا يخفّف عليكم بل يثقل و يشقّ لميلكم إلى بعضهنّ.

[فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تعدلوا بأهوائكم عن من لم تملكوا محبّة منهنّ كلّ العدول حتّى يحملكم ذلكم على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب عليكم من حقّ القسمة و النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف.

[فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ] أي تذروا الّتي لا تميلون إليها كالّتي هي لا ذات زوج و لا أيّم، عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول عن قوله سبحانه: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» ثمّ قال: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ»، و بين القولين فرق، قال: فلم يكن عندي جواب ذلك حتّى قدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن ذلك فقال: أمّا قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا» فإنّه عنى في النفقة، و أمّا قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا» فإنّه عنى في المودّة، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة، قال: فرجعت إلى الرجل

ص: 196

فأخبرته فقال: هذا ما حملته من الحجاز. و روى أبو قلابة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللّهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تلك و لا أملك.

قوله: [وَ إِنْ تُصْلِحُوا] يعني في القسمة بين الأزواج و التسوية بينهنّ في النفقة و غير ذلك [وَ تَتَّقُوا] اللّه في أمرهنّ و تتركوا الميل الّذي نهاكم اللّه عنه في تفضيل واحدة على الاخرى [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً] يستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك إذا تبتم و رجعتم إلى الاستقامة و التسوية بينهنّ و يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك، و كذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم، و روي عن جعفر الصادق عليه السّلام عن آبائه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهنّ، و روي أنّ عليّا كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الاخرى. و كان معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون فأقرع بينهما أيّهما تدفن قبل الاخرى.

و قوله: [وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني إذا أبى كلّ واحد من الزوحين مصلحة الآخر بأن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة و النفقة و الكسوة و حسن العشرة و يمتنع الرجل من إجابتها إلى ذلك و يتفرّقا حينئذ بالطلاق فإنّه سبحانه يغني كلّ واحد منهما من سعته أي من سعة فضله و رزقه.

[وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً] أي لم يزل واسع الفضل على العباد حكيما فيما يدبّرهم به. و في هذه الآية دلالة على أنّ الأرزاق كلّها بيد اللّه و هو الّذي يتولّاها بحكمته و إن كان ربّما أجراها على يدي من يشاء من بريّته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه بعد إخباره بإغناء كلّ واحد من الزوجين بعد الافتراق من سعة فضله ما يوجب الرغبة إليه في ابتغاء الخير منه فقال:

[وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إخبارا عن كمال قدرته وسعة ملكه، أي فإنّ

ص: 197

من يملك ما في السماوات و ما في الأرض لا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة و الإيناس بعد الوحشة.

ثمّ ذكر الوصيّة بالتقوى فإنّ بها ينال خير الدنيا و الآخرة فقال: [وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النصارى و غيرهم [وَ إِيَّاكُمْ أي و أوصيناكم أيّها المسلمون في كتابكم [أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ و تقديره: بأن اتّقوا اللّه أي اتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه و لا تخالفوا أمره و نهيه [وَ إِنْ تَكْفُرُوا] أي تجحدوا وصيّته إيّاكم و تخالفوها [فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لا يضرّه كفرانكم و عصيانكم، و هذه إشارة إلى أنّ أمره جميع الأمم بطاعته و نهيه إيّاهم عن معصيته ليس استكثارا بهم عن قلّة و لا استنصارا بهم عن ذلّة و لا استغناء بهم عن حاجة، فإنّ له ما في السماوات و ما في الأرض ملكا و ملكا و خلقا لا يلحقه العجز و لا يعتريه الضعف و لا تجوز عليه الحاجة، و إنّما أمرنا و نهانا نعمة منه علينا و رحمة بنا [وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا] أي لم يزل سبحانه غير محتاج إلى خلقه بل الخلائق كلّهم محتاجون إليه [حَمِيداً] أي مستوجبا للحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم، و آلائه الجميلة لديكم فاستديموا ذلك باتّقاء معاصيه و المسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به.

ثمّ قال: [وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي حافظا لجميعه لا يعزب عنه علم شي ء منه و لا يؤوده حفظه و تدبيره و لا يحتاج مع سعة ملكه إلى غيره.

و أمّا وجه التكرار لقوله: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ»* في الآيتين ثلاث مرّات فقد قيل: إنّه للتأكيد و التذكير. و قيل: إنّه للإبانة عن علل ثلاث: أحدها: بيان إيجاب طاعته فيما قضى به لأنّ له ملك السماوات و الأرض. و الثاني: بيان غناه عن خلقه و حاجتهم إليه و استحقاقه الحمد على النعم لأنّ له ما في السماوات و ما في الأرض و الثالث:

بيان حفظه إيّاهم و تدبيره لهم لأنّ له ملك السماوات و الأرض.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 133 الى 134]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

المعنى: لمّا ذكر سبحانه غناه عن الخلق بأنّ له ملك السماوات و الأرض عقّب

ص: 198

ذلك بذكر كمال قدرته على خلقه و أنّ له الإهلاك و الإنجاء و الاستبدال بعد الإفناء فقال:

[إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني إن يشأ اللّه يهلككم [أَيُّهَا النَّاسُ و يفنكم، و قيل: فيه محذوف أي إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم أيّها الناس [وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيّه و يوازرونه. و يروى أنّه لمّا نزلت هذه الآية ضرب النبيّ صلى اللّه عليه و آله يده على ظهر سلمان و قال: هم قوم هذا يعني عجم الفرس [وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً] أي لم يزل سبحانه و لا يزال قادرا على الإبدال و الإفناء و الإعادة.

ثمّ ذكر سبحانه عظم ملكه و قدرته بأنّ جزاء الدارين عنده فقال: [مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا] أي الغنيمة و المنافع الدنيويّة، أخبر سبحانه عمّن أظهر الإيمان بمحمّد صلى اللّه عليه و آله من أهل النفاق يريد عرض الحياة الدنيا بإظهار ما أظهره من الإيمان بلسانه [فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ] أي يملك سبحانه الدنيا و الآخرة فيطلب المجاهد الثوابين عند اللّه، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قيل: إنّه وعيد للمنافقين و ثوابهم في الدنيا ما يأخذونه من الفي ء و الغنيمة إذا شهدوا الحرب مع المسلمين و أمّنهم على نفوسهم و أموالهم و ذراريهم و ثوابهم في الآخرة النار.

[وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً] أي لم يزل على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات و و يبصر المبصرات عند الوجود، و هذه الصفة هي كونه حيّا لا آفة به، و قيل: إنّما ذكر هذا ليبيّن أنّه يسمع ما يقول المنافقون إذا خلوا إلى شياطينهم و يعلم ما يسرّون من نفاقهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

. المعنى: لمّا ذكر سبحانه أنّ عنده ثواب الدنيا و الآخرة عقبه بالأمر بالقسط و القيام بالحقّ و ترك الميل و الجور فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ] أي دائمين على القيام بالعدل و معناه:

ص: 199

و لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول و الفعل [شُهَداءَ] و هو جمع شهيد، أمر اللّه تعالى عباده بالثبات و الدوام على قول الحقّ و الشهادة بالصدق تقرّبا إليه و طلبا لمرضاته، و عن ابن عبّاس: كونوا قوّامين بالحقّ في الشهادة على من كانت و لمن كانت من قريب أو بعيد.

[وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي و لو كانت شهادتكم على أنفسكم [أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي على والديكم و على أقرب الناس إليكم فقوموا فيها بالقسط و العدل و أقيموها على الصحّة و الحقّ و لا تميلوا فيها لغنى غنيّ أو لفقر فقير، فإنّ اللّه قد سوّى بين الغنيّ و الفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكلّ واحد منهما بالعدل.

و في هذا دلالة على جواز شهادة الولد لوالده و الوالد لولده و عليه و شهادة كلّ ذي قرابة لقرابته و عليه، و إليه ذهب ابن عبّاس في قوله: أمر اللّه سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحقّ و لو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، و لا يحابّوا غنيّا لغناه و لا مسكينا لمسكنته.

و قال ابن شهاب الزهريّ: كان سلف المسلمين على ذلك حتّى دخل الناس فيما بعدهم و ظهرت منهم امور حملت الولاة على اتّهامهم فتركت شهادة من يتّهم، و أمّا شهادة الإنسان على نفسه فيكون بإقرار الخصم، فإقراره له شهادة منه على نفسه و شهادته لنفسه لا تقبل.

[إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً] معناه إن يكن المشهود عليه غنيّا أو فقيرا أو المشهود له غنيّا أو فقيرا فلا يمنعكم ذلك عن قول الحقّ و الشهادة بالصدق، و فائدة ذلك أنّ الشاهد ربّما امتنع عن إقامة الشهادة للغنيّ على الفقير لاستغناء المشهود له و فقر المشهود عليه، فلا يقيم الشهادة شفقة على الفقير، و ربّما امتنع عن إقامة الشهادة للفقير على الغنيّ تهاونا للفقير و توقيرا للغنيّ أو خشية منه أو حشمة له فبيّن سبحانه بقوله: [فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما] أنّه أولى بالغنيّ و الفقير و أنظر لهما من سائر الناس أي فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة على الفقير شفقة عليه و نظرا له، و لا من إقامة الشهادة للغنيّ لاستغنائه عن المشهود به؛ فإنّ اللّه تعالى أمركم بذلك مع علمه بغناء الغنيّ و فقر الفقير، فراعوا أمره فيما أمركم به فإنّه أعلم بمصالح العباد منكم.

[فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى يعني هوى الأنفس في إقامة الشهادة فتشهدوا على إنسان لإحنة بينكم و بينه أو وحشة أو عصبيّة، و تمنعوا الشهادة له لأحد هذه المعاني، و تشهدوا

ص: 200

للإنسان بغير حقّ لميلكم إليه بحكم صداقة أو قرابة [أَنْ تَعْدِلُوا] أي لأن تعدلوا يعني لأجل أن تعدلوا في الشهادة، قال الفرّاء: هذا كقولهم: لا تتبّع هواك لترضي ربّك، أي كيما ترضي ربّك. و قيل: إنّه من العدول الّذي هو الميل و الجور، و معناه: و لا تتّبعوا الهوى في أن تعدلوا عن الحقّ أو لأن تعدلوا عن الحقّ.

[وَ إِنْ تَلْوُوا] أي تمطلوا في أداء الشهادة [أَوْ تُعْرِضُوا] عن أدائها، عن ابن عبّاس و مجاهد. و قيل: إنّ الخطاب للحكّام أي و إن تلووا أيّها الحكّام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر و تعرضوا عن أحدهما إلى الآخر، عن ابن عبّاس و السدّيّ. و قيل:

معناه إن تلووا أي تبدّلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها، عن ابن زيد و الضحّاك و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

[فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] معناه إنّه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة أو تحريفها و الإعراض عنها.

و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سلوك طريقة العدل في النفس و الغير، و قد روي عن ابن عبّاس في معنى قوله: «وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا» أنّهما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي و إعراضه لأحدهما عن الآخر.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

. المعنى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ قيل فيه ثلاثة أقوال:

أحدها:- و هو الصحيح المعتمد عليه- أنّ معناه: يا أيّها الّذين آمنوا في الظاهر بالإقرار باللّه و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق باطنكم ظاهركم، و يكون الخطاب للمنافقين الّذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون [وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ و هو القرآن [وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ هو التوراة و الإنجيل، عن الزجّاج و غيره.

ص: 201

و ثانيها: أن يكون الخطاب للمؤمنين على الحقيقة ظاهرا و باطنا فيكون معناه:

أثبتوا على هذا الإيمان في المستقبل و داوموا عليه و لا تنتقلوا عنه، عن الحسن و اختاره الجبّائيّ، قال: لأنّ الإيمان الّذي هو التصديق لا يبقى و إنّما يستمرّ بأن يجدّده الإنسان حالا بعد حال.

و ثالثها: أنّ الخطاب لأهل الكتاب أمروا بأن يؤمنوا بالنبيّ و الكتاب الّذي أنزل عليه كما آمنوا بما معهم من الكتب، و يكون قوله: «وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ» إشارة إلى ما معهم من التوراة و الإنجيل، و يكون وجه أمرهم بالتصديق بهما و إن كانوا مصدّقين بهما أحد أمرين: إمّا أن يكون لأنّ التوراة و الإنجيل فيهما صفات نبيّنا و تصديقه و تصحيح نبوّته، فمن لم يصدّقه و لم يصدّق القرآن لا يكون مصدّقا بهما لأنّ في تكذيبه تكذيب التوراة و الإنجيل، و إمّا أن يكون اللّه تعالى أمرهم بالإقرار بمحمّد صلى اللّه عليه و آله و بالقرآن و بالكتاب الّذي أنزل من قبله و هو الإنجيل و ذلك لا يصحّ إلّا بالإقرار بعيسى أيضا و هو نبيّ مرسل.

و يعضد هذا الوجه ما روي عن عبد اللّه بن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب: عبد اللّه بن سلام و أسد و أسيد ابني كعب و ثعلبة بن قيس و ابن اخت عبد اللّه سلام و يامين بن يامين، و هؤلاء من كبار أهل الكتاب قالوا: نؤمن بك و بكتابك و بموسى و بالتوراة و عزير و نكفر بما سواه من الكتب و بمن سواهم من الرسل، فقيل لهم: بل آمنوا باللّه و رسوله الآية، فآمنوا كما أمرهم اللّه.

[وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ أي يجحده أو يشبهه بخلقه أو يردّ أمره و نهيه [وَ مَلائِكَتِهِ أي ينفيهم أو ينزّلهم منزلة لا يليق بهم كما قالوا: إنّهم بنات اللّه [وَ كُتُبِهِ فيجحدها [وَ رُسُلِهِ فينكرهم [وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] أي يوم القيامة [فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً] أي ذهب عن الحقّ و بعد قصد السبيل ذهابا بعيدا، و قال الحسن: الضلال البعيد هو مالا ائتلاف له و المعنى أنّ من كفر بمحمّد و جحد نبوّته فكأنّه جحد جميع ذلك لأنّه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق بشي ء ممّا أمر اللّه به إلّا بالإيمان به و بما أنزل اللّه عليه.

و في هذا تهديد لأهل الكتاب و إعلام لهم أنّ إقرارهم باللّه و وحدانيّته و ملائكته

ص: 202

و كتبه و رسله و اليوم الآخر لا ينفعهم مع جحدهم بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و يكون وجوده و عدمه سواء.

النظم: وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها أنّ اللّه سبحانه لمّا بيّن الإسلام عقّبه بالدعاء إلى الإيمان و شرائطه. و قيل: إنّها متّصل بقوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» و القيام بالسقط هو الإيمان على وجه المذكور.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 137 الى 139]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)

المعنى: ثمّ قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا] قيل في معناه أقوال:

أحدها: أنّه عنى به الّذين آمنوا بموسى ثمّ كفروا بعبادة العجل و غير ذلك [ثُمَّ آمَنُوا] يعني النصارى بعيسى [ثُمَّ كَفَرُوا] به [ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً] بمحمّد صلى اللّه عليه و آله، عن قتادة.

و ثانيها: أنّه عنى به الّذين آمنوا بموسى ثمّ كفروا بعد موسى ثمّ آمنوا بعزيز ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلى اللّه عليه و آله عن الفرّاء و الزجّاج.

و ثالثها: أنّه عنى به طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك نفر من أصحاب رسول اللّه فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ثمّ يقولون قد عرضت لنا شبهة اخرى فيكفرون، ثمّ ازدادوا كفرا بالثبات عليه إلى الموت، عن الحسن؛ و ذلك معنى قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (1).

و رابعها: أنّ المراد به المنافقون آمنوا ثمّ ارتدّوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدّوا ثمّ ماتوا على كفرهم، عن مجاهد و ابن زيد. و قال ابن عبّاس: دخل في هذه الآية كلّ منافق

ص: 203


1- آل عمران: 72.

كان في عهد النبيّ في البحر و البرّ.

[لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بإظهارهم الإيمان، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد [وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا] معناه: و لا يهديهم إلى سبيل الجنّة كما قال فيما بعد «وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» (1) و يجوز أن يكون المعنى أنّه يخذلهم و لا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم المتقدّم.

ثمّ قال: [بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي أخبرهم يا محمّد [بِأَنَّ لَهُمْ في الآخرة [عَذاباً أَلِيماً] أي وجيعا إن ماتوا على كفرهم و نفاقهم. و في هذه الآية دلالة على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في شأن المنافقين و أنّه الأصحّ من الأقوال المذكورة.

ثمّ وصف هؤلاء المنافقين فقال: [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أي مشركي العرب، و قيل: اليهود [أَوْلِياءَ] أي ناصرين و معينين و أخلّاء [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من غيرهم [أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ] أي أ يطلبون عندهم القوّة و المنعة باتّخاذهم هؤلاء أولياء من دون الإيمان باللّه تعالى، ثمّ أخبر سبحانه أنّ العزّة و المنعة له فقال: [فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] يريد سبحانه أنّهم لو آمنوا مخلصين له و طلبوا الاعتزاز باللّه تعالى و بدينه و رسوله و المؤمنين لكان أولى بهم من الاعتزاز بالمشركين، فإنّ العزّة جميعا للّه سبحانه و من عنده يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 140]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

النزول: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهاهم اللّه عن ذلك، عن ابن عبّاس.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر المنافقين و موالاتهم الكفّار عقّب ذلك بالنهي عن مجالستهم و مخالطتهم فقال:

[وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن [أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها] أي يكفر بها المشركون و المنافقون و يستهزئون بها [فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أي مع

ص: 204


1- السورة: 167.

هؤلاء المستهزئين الكافرين [حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي حتّى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بالدين، و قيل: حتّى يرجعوا إلى الإيمان و يتركوا الكفر و الاستهزاء. و المنزل في الكتاب هو قوله سبحانه في سورة الأنعام: «وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (1).

و في هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفّار عند كفرهم بآيات اللّه و استهزائهم بها و على إباحة مجالستهم عند خوضهم في حديث غيره.

و روي عن الحسن أنّ إباحة القعود مع الكفّار عند خوضهم في حديث آخر غير كفرهم و استهزائهم بالقرآن منسوخ بقوله تعالى: «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (2).

[إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني إنّكم إذا جالستموهم على الخوض في كتاب اللّه و الهزء به فأنتم مثلهم، و إنّما حكم بأنّهم مثلهم لأنّهم لم ينكروا عليهم مع قدرتهم على الإنكار و لم يظهروا الكراهة لذلك، و متى كانوا راضين بالكفر كانوا كفّارا لأنّ الرضا بالكفر كفار.

و في الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة و زوال العذر، و أنّ من ترك ذلك مع القدرة عليه فهو مخطئ آثم.

و فيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفسّاق و المبتدعين من أيّ جنس كانوا و به قال جماعة من أهل التفسير، و ذهب إليه عبد اللّه بن مسعود و إبراهيم و أبو وائل، قال إبراهيم:

من ذلك إذا تكلّم الرجل في مجلس يكذب فيضحك منه جلساؤه فيسخط اللّه عليهم، و به قال عمر بن عبد العزيز، و روي أنّه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده. و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أمر اللّه تعالى في هذه الآية بالاتّفاق و نهى عن الاختلافات و الفرقة و المراء و الخصومة.

ص: 205


1- الآية: 68.
2- الانعام: 68.

و به قال الطبريّ و البلخيّ و الجبّائيّ و جماعة من المفسّرين.

و قال الجبّائيّ: و أمّا الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم و لا يقدر على إنكارهم فليس بمحظور، و إنّما المحظور مجالستهم من غير إظهار كراهية لما يسمعه أو يراه، قال:

و في الآية دلالة على بطلان قول نفاة الأعراض و قولهم ليس هاهنا شي ء غير الأجسام لأنّه قال: «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» فأثبت غيرا لما كانوا فيه و ذلك هو العرض.

[إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] أي إنّ اللّه يجمع الفريقين من أهل الكفر و النفاق في القيامة في النار و العقوبة فيها كما اتّفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين و المظاهرة عليهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 141]

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

المعنى: قد وصف اللّه سبحانه المنافقين و الكافرين فقال:

[الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي ينتظرون لكم أيّها المؤمنون لأنّهم كانوا يقولون: سيهلك محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابه فنستريح منهم و يظهر قومنا و ديننا.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي فإن اتّفق لكم فتح و ظفر على الأعداء [قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوّكم و نغزوهم معكم؟ فأعطونا نصيبنا من الغنيمة فقد شهدنا القتال.

[وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظّ بإصابتهم من المؤمنين [قالُوا] يعني المنافقين أي قال المنافقون للكافرين: [أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلب عليكم، عن السدّيّ، و معناه:

ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم [وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة [الْمُؤْمِنِينَ و قيل:

معناه ألم نبيّن لكم أنّا على ما أنتم عليه أي ألم نضمّكم إلى أنفسنا و نطّلعكم على أسرار محمّد صلى اللّه عليه و آله و أصحابه و نكتب إليكم بأخبارهم حتّى غلبتم عليهم؟ فاعرفوا لنا هذا الحقّ عليكم، عن الحسن و ابن جريح. و نمنعكم من المؤمنين أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتحديثنا

ص: 206

إيّاهم عنكم و كوننا عيونا لكم حتّى انصرفوا عنكم و غلبتموهم.

[فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه بأنّه الّذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة و يفصل بينهم بالحقّ.

[وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ المراد لن يجعل اللّه لليهود على المؤمنين نصرا و لا ظهورا، عن ابن عبّاس.

و قيل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجّة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوّة لكنّ المؤمنين منصورون بالدلالة و الحجّة، عن السدّيّ و الزجّاج و البلخيّ، قال الجبّائيّ: و لو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا لأنّ غلبة الكفّار للمؤمنين ليس ممّا فعله اللّه فإنّه لا يفعل القبيح و ليس كذلك غلبة المؤمنين للكفّار فإنّه يجوز أن ينسب إليه سبحانه.

و قيل: لن يجعل لهم في الآخرة عليهم سبيلا لأنّه مذكور عقيب قوله: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بيّن اللّه سبحانه أنّه لن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدنيا بالقتل و القهر و النهب و الأسر و غير ذلك من وجوه الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا بحال.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 142 الى 143]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة فقال:

[إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ قد ذكرنا معناه في أوّل البقرة و على الجملة خداع المنافقين للّه إظهارهم الإيمان الّذي حقنوا به دماءهم و أموالهم. و قيل: معناه يخادعون النبيّ كما قال: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» (1) فسمّى مبايعة النبيّ مبايعة اللّه للاختصاص و لأنّ

ص: 207


1- الفتح: 10.

ذلك بأمره عن الحسن و الزجّاج، و معنى خداع اللّه إيّاهم أن يجازيهم على خداعهم كما قلنا في قوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (1). و قيل: هو حكمه بحقن دمائهم مع علمه بباطنهم. و قيل: هو أن يعطيهم اللّه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثمّ يسلبهم ذلك النور و يضرب بينهم بسور، عن الحسن و السدّيّ و جماعة من المفسّرين.

[وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أي متثاقلين [يُراؤُنَ النَّاسَ يعني إنّهم لا يعملون شيئا من أعمال العبادات على وجه القربة إلى اللّه، و إنّما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم و حذرا من القتل و سلب الأموال و إذا رآهم المسلمون صلّوا ليروهم أنّهم يدينون بدينهم، و إن لم يرهم أحد لم يصلّوا، و به قال قتادة و ابن زيد.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل فبم النجاة غدا؟ قال صلى اللّه عليه و آله: النجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و نفسه يخدع لو شعر، فقيل له: كيف يخادع اللّه؟ قال صلى اللّه عليه و آله: يعمل بما أمر اللّه ثمّ يريد به غيره فاتّقوا الرياء فإنّه شرك باللّه. إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.

[وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا] أي ذكرا قليلا و معناه: لا يذكرون اللّه عن نيّة خالصة و لو ذكروه مخلصين لكان كثيرا، و إنّما وصف بالقلّة لأنّه لغير اللّه، عن الحسن و ابن عبّاس.

و قيل: لا يذكرون إلّا ذكرا يسيرا نحو التكبير و الأذكار الّتي يجهر بها و يتركون التسبيح و ما يخافت به من القراءة و غيرها، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قيل: إنّما وصف الذكر بالقلّة لأنّه سبحانه لم يقبله و كلّ ما ردّه اللّه قليل.

[مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مردّدين بين الكفر و الإيمان يريد كأنّه فعل بهم ذلك و كان الفعل لهم على الحقيقة، و قيل: معنى مذبذبين مطرودين من هؤلاء و من هؤلاء، من الذبّ الّذي هو الطرد، وصفهم سبحانه بالحيرة في دينهم و أنّهم لا يرجعون إلى صحّة نيّة لا مع المؤمنين

ص: 208


1- البقرة: 16.

على بصيرة و لا مع الكافرين على جهالة، و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ مثلهم مثل الشاة العابرة بين الغنمين تتحيّر فتنظر إلى هذه و هذه لا تدري أيّهما تتبع.

[لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ] أي لامع هؤلاء في الحقيقة و لا مع هؤلاء؛ يظهرون الإيمان كما يظهره المؤمنون و يضمرون الكفر كما يضمره المشركون فلم يكونوا مع أحد الفريقين في الحقيقة، فإنّ المؤمنين يضمرون الإيمان كما يظهرون و المشركون يظهرون الكفر كما يضمرونه.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا] أي طريقا و مذهبا و قد مضى ذكر معنى الإضلال مشروحا في سورة البقرة عند قوله: «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» (1) فلا معنى لإعادته.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 144 الى 146]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

المعنى: ثمّ نهى سبحانه عن موالاة المنافقين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ] أي أنصارا [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فتكونوا مثلهم [أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة و هو استفهام يراد به التقرير.

و فيه دلالة على أنّ اللّه لا يعاقب أحدا إلّا بعد قيام الحجّة عليه و الاستحقاق به و إنّه لا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء، و أنّه كان لا حجّة له على الخلق لو لا معاصيهم، قال الحسن:

معناه: أ تريدون أن تجعلوا للّه سبيلا إلى عذابكم بكفركم و تكذيبكم.

[إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] أي في الطبق الأسفل من النار فإنّ للنار طبقات و دركات كما أنّ للجنّة درجات فيكون المنافق على أسفل طبقة منها لقبح عمله، عن ابن كثير و أبي عبيدة و جماعة. و قيل: إنّ المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار، عن عبد اللّه بن مسعود و ابن عبّاس. و قيل: إنّ الإدراك يجوز أن يكون منازل بعضها

ص: 209


1- البقرة: 26.

أسفل من بعض بالمسافة، و يجوز أن يكون ذلك إخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إنّ السلطان بلّغ فلانا الحضيض و بلّغ فلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة و علوّها لا المسافة، عن أبي القاسم البلخيّ.

[وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] و لا تجد يا محمّد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم فينقذهم من عذاب اللّه إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار.

ثمّ استثنى تعالى فقال: [إِلَّا الَّذِينَ تابُوا] من نفاقهم [وَ أَصْلَحُوا] نيّاتهم، و قيل:

ثبتوا على التوبة في المستقبل [وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسّكوا بكتاب اللّه و صدّقوا رسله، و قيل: وثقوا باللّه [وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي تبرّؤوا من الآلهة و الأنداد. و قيل: طلبوا بإيمانهم رحمة اللّه و رضاه مخلصين، عن الحسن [فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي فإنّهم إذا فعلوا ذلك يكونون في الجنّة مع المؤمنين و محلّ الكرامة [وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً] «سوف» كلمة ترجئة وعدة و إطماع و هي من اللّه إيجاب لأنّه أكرم الأكرمين و وعد الكريم إنجاز.

و لم يشرط على غير المنافقين في التوبة من الإصلاح و الاعتصام ما شرطه عليهم، ثمّ شرط عليهم بعد ذلك الإخلاص لأنّ النفاق ذنب القلب، و الإخلاص توبة القلب، ثمّ قال:

فأولئك مع المؤمنين، و لم يقل فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين غيظا عليهم، ثمّ أتى بلفظ «سوف» في أجر المؤمنين لانضمام المنافقين إليهم هذا إذا عنى به جميع المؤمنين من تقدّم منه الكفر و من لم يتقدّم، و يحتمل أن يكون المراد به زيادة الثواب لمن لم يسبق منه كفر و لا نفاق.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 147]

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

. المعنى: خاطب سبحانه بهذه الآية المنافقين الّذين تابوا و آمنوا و أصلحوا أعمالهم فقال:

[ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أي ما يصنع اللّه بعذابكم؟ و المعنى لا حاجة للّه إلى عذابكم و جعلكم في الدرك الأسفل من جهنّم لأنّه لا يجتلب بعذابكم نفعا و لا يدفع به عن نفسه

ص: 210

ضررا إذ هما يستحيلان عليه [إِنْ شَكَرْتُمْ أي أدّيتم الحقّ الواجب للّه عليكم و شكرتموه على نعمه [وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و أقررتم بما جاء به من عنده.

[وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً] يعني لم يزل سبحانه مجازيا لكم على الشكر فسمّي الجزاء باسم المجزيّ عليه [عَلِيماً] بما يستحقّونه من الثواب على الطاعات فلا يضيّع عنده شي ء منها، عن قتادة و غيره. و قيل: معناه: إنّه يشكر القليل من أعمالكم و يعلم ما ظهر و ما بطن من أفعالكم و أقوالكم و يجازيكم عليها. و قال الحسن: معناه: إنّه يشكر خلقه على طاعتهم مع غناه عنهم فيعلم بأعمالهم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

المعنى: [لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ قيل في معناه أقوال:

أحدها: لا يحبّ اللّه الشتم في الانتصار [إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، عن الحسن و السدّيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و نظيره: «وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» (1) قال الحسن: و لا يجوز للرجل إذا قيل له: «يا زاني» أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم.

و ثانيها: أنّ معناه لا يحبّ اللّه الجهر بالدعاء على أحد إلّا أن يظلم إنسان فيدعو على من ظلمه فلا يكره ذلك، عن ابن عبّاس، و قريب منه قول قتادة: و يكره رفع الصوت بما يسوء الغير إلّا المظلوم يدعو على من ظلمه.

و ثالثها: أنّ المراد لا يحبّ أن يذمّ أحدا أحد أو يشكوه أو يذكره بالسوء إلّا أن يظلم فيجوز له أن يشكو من ظلمه و يظهر أمره و يذكره بسوء ما قد صنعه ليحذره الناس، عن مجاهد.

و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله.

ص: 211


1- الشعراء: 227.

[وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً] لما يجهر به من سوء القول [عَلِيماً] بصدق الصادق و كذب الكاذب فيجازي كلّا بعمله. و في هذه الآية دلالة على أنّ الرجل إذا هتك ستره و أظهر فسقه جاز إظهار ما فيه، و قد جاء في الحديث: قولوا في الفاسق ما فيه يعرفه الناس، و لا غيبة لفاسق. و فيها ترغيب في مكارم الأخلاق و نهي عن كشف عيوب الخلق و إخبار بتنزيه ذاته تعالى عن إرادة القبائح، فإنّ المحبّة إذا تعلّقت بالفعل فمعناها الإرادة.

ثمّ خاطب سبحانه جميع المكلّفين فقال: [إِنْ تُبْدُوا] أي تظهروا [خَيْراً] أي حسنا جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكرا على إنعامه عليكم [أَوْ تُخْفُوهُ أي تتركوا إظهاره.

و قيل: معناه إن تفعلوا خيرا أو تعزموا عليه. و قيل: يريد بالخير المال أي تظهروا صدقة أو تخفوها [أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ] معناه أو تصفحوا عمّن أساء إليكم مع القدرة على الانتقام منه فلا تجهروا له بالسوء من القول الّذي أذنت لكم في أن تجهروا به [فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا] أي صفوحا عن خلقه يفصح لهم عن معاصيهم [قَدِيراً] أي قادرا على الانتقام منهم، و هذا حثّ منه سبحانه لخلقه على العفو عن المسي ء مع القدرة على الانتقام و المكافاة فإنّه تعالى مع كمال قدرته يعفو عنهم ذنوبا أكثر من ذنب من يسي ء إليهم، و قد تضمّنت الآية الّتي قبلها إباحة الانتصاف من الظالم بشرط أن يقف فيه على حدّ الظلم و موجب الشرع.

النظم: الوجه في اتّصال هذه الآية بما قبلها أنّه لمّا سبق ذكر أهل النفاق و هو الإظهار خلاف الإبطان بيّن سبحانه أنّه ليس كلّما يقع في النفس يجوز إظهاره فإنّه ربّما يكون ظنّا فإذا تحقّق ذلك جاز إظهاره، عن عليّ بن عيسى.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 150 الى 152]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر المنافقين عقّبه بذكر أهل الكتاب و المؤمنين فقال:

ص: 212

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ من اليهود و النصارى [وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ أي يكذّبوا رسل اللّه الّذين أرسلهم إلى خلقه و أوحى إليهم، و ذلك معنى إرادتهم التفريق بين اللّه و رسله [وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي يقولون: نصدّق بهذا و نكذّب بذاك كما فعل اليهود صدّقوا بموسى و من تقدّمه من الأنبياء و كذّبوا بعيسى و محمّد، و كما فعلت النصارى صدّقوا عيسى و من تقدّمه من الأنبياء و كذّبوا بمحمّد [وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا] أي طريقا إلى الضلالة الّتي أحدثوها و البدعة الّتي ابتدعوها يدعون جهّال الناس إليه.

[أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا] أي هؤلاء الّذين أخبرنا عنهم بأنّهم يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض الكافرون حقيقة، فاستيقنوا ذلك و لا ترتابوا بدعوتهم أنّهم يقرّون بما زعموا أنّهم مقرّون به من الكتب و الرسل، فإنّهم لو كانوا صادقين في ذلك لصدّقوا جميع رسل اللّه، و إنّما قال تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» على وجه التأكيد لئلّا يتوهّم متوهّم أنّ قولهم: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ» يخرجهم من جنس الكفّار و يلحقهم بالمؤمنين.

[وَ أَعْتَدْنا] أي أعددنا و هيّأنا [لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً] يهينهم و يذلّهم.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أي صدّقوا اللّه و وحّدوه و أقرّوا بنبوّة رسله [وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بل آمنوا بجميعهم [أولئك سوف نؤتيهم أي سنعطيهم (1) [أُجُورَهُمْ و سمّى اللّه الثواب أجرا دلالة على أنّه مستحقّ أي نعطيهم ثوابهم الّذي استحقّوه على إيمانهم باللّه و رسله [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] أي لم يزل كان غفورا لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي و الآثام رحيما متفضّلا عليهم بأنواع الأنعام هاديا لهم إلى دار السلام.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 153 الى 154]

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

النزول: روي أن كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا: يا محمّد إن كنت

ص: 213


1- على قراءة النون.

نبيّا فأتنا بكتاب من السماء جملة، أي كما أتى موسى بالتوراة جملة فنزلت الآية، عن السدّيّ.

المعنى: لمّا أنكر سبحانه على اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان عقّبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع ظهور الآيات و المعجزات فقال:

[يَسْئَلُكَ يا محمّد [أَهْلُ الْكِتابِ يعني اليهود [أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ] و اختلف في معناه على أقوال:

أحدها: أنّهم سألوا أن ينزّل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الألواح، عن محمّد بن كعب و السدّيّ.

و ثانيها: أنّهم سألوه أن ينزّل على رجال منهم بأعيانهم كتبا يأمرهم اللّه تعالى فيها بتصديقه و اتّباعه، عن ابن جريح و اختاره الطبريّ.

و ثالثها: أنّهم سألوا أن ينزّل عليهم كتابا خاصّا بهم، عن قتادة. و قال الحسن:

إنّما سألوا ذلك للتعنّت و التحكّم في طلب المعجزات لا لظهور الحقّ، و لو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم اللّه ذلك.

[فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أي لا يعظمنّ عليك يا محمّد مسألتهم إيّاك إنزال الكتب عليهم من السماء، فإنّهم يعني اليهود سألوا موسى أعظم من ذلك بعد ما أتاهم بالآيات الظاهرة و المعجزات القاهرة الّتي يكفي الواحد منها في معرفة صدقه و صحّة نبوّته فلم يقنعهم ذلك.

[فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] أي معاينة [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أنفسهم بهذا القول و قد ذكرنا قصّة هؤلاء و تفسير أكثر ما في الآية في سورة البقرة عند قوله: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، الآية» (1) و قوله: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ*، الآية» (2).

[ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه و اتّخذوه إلها [مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الباهرات، قد دلّ اللّه بهذا على جهل القوم و عنادهم.

ص: 214


1- الآية: 55.
2- الآية: 63.

[فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ مع عظم جريمتهم و خيانتهم، و قد أخبر اللّه بهذا عن سعة رحمته و مغفرته و تمام نعمته و أنّه لا جريمة تضيق عنها رحمته و لا خيانة تقصر عنها مغفرته [وَ آتَيْنا مُوسى أي أعطيناه [سُلْطاناً مُبِيناً] أي حجّة ظاهرة تبين عن صدقه و صحّة نبوّته.

[وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ] أي الجبل لمّا امتنعوا من العمل بما في التوراة و قبول ما جاءهم به موسى [بِمِيثاقِهِمْ أي بما أعطوا اللّه سبحانه من العهد ليعملنّ بما في التوراة، و قيل:

معناه: و رفعنا الجبل فوقهم بنقضهم ميثاقهم الّذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة، و إنّما نقضوه بعبادة العجل و غيرها، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و قال أبو مسلم: إنّما رفع اللّه الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس بميثاقهم أي بعهدهم جزاء لهم على ذلك، و هذا القول يخالف أقوال المفسّرين.

[وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً] يعني باب حطّة، و قد مرّ بيانه هناك.

[وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرّم عليكم، عن قتادة، قال: أمرهم اللّه أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت و أجاز لهم ما عداه [وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً] أي عهدا وثيقا و كيدا بأن يأتمروا بأوامره و ينتهوا عن مناهيه و زواجره.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 155 الى 158]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة و مجازاته إيّاهم بها فقال:

[فَبِما نَقْضِهِمْ أي فبنقض هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم و وصفهم [مِيثاقَهُمْ أي عهودهم الّتي عاهدوا اللّه عليها أن يعملوا بما في التوراة [وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي جحودهم بأعلام اللّه اللّه و حججه و أدلّته الّتي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه و رسله.

ص: 215

[وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ] بعد قيام الحجّة عليهم بصدقهم [بِغَيْرِ حَقٍ أي بغير استحقاق منهم لذلك بكبيرة أتوها أو خطيئة استوجبوا بها القتل، و قد قدّمنا القول في أمثال هذا و أنّه إنّما يذكر على سبيل التوكيد، فإنّ قتل الأنبياء لا يمكن إلّا أن يكون بغير حقّ و هو مثل قوله: «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» (1) و المعنى أنّ ذلك لا يكون البتّة عليه برهان [وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ مضى تفسيره في سورة البقرة.

[بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ قد شرحنا معنى الختم و الطبع عند قوله: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» (2) [فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا] أي لا يصدّقون قوله إلّا تصديقا قليلا، و إنما وصفه بالقلّة لأنّهم لم يصدّقوا بجميع ما كان يجب عليهم التصديق، و يجوز أن يكون الاستثناء من الّذين نفى عنهم الإيمان فيكون المعنى: إلّا جمعا قليلا، فكأنّه سبحانه علم أنّه يؤمن من جملتهم جماعة قليلة فيما بعد فاستثناهم في جملة من أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون، و به قال جماعة من المفسّرين مثل قتادة و غيره.

و ذكر بعضهم أنّ الباء في قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ» يتّصل بما قبله، و المعنى: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم و بنقضهم ميثاقهم و بكفرهم و بكذا و بكذا فتبع الكلام بعضه بعضا.

و قال الطبريّ: إنّ معناه منفصل ممّا قبله يعني فبهذه الأشياء لعنّاهم و غضبنا عليهم، فترك ذكر ذلك لدلالة قوله: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» على معنى ذلك، لأنّ من طبع على قلبه فقد لعن و سخط عليه قال: و إنّما قلنا ذلك لأنّ الّذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى و الّذين قتلوا الأنبياء و الّذين رموا مريم بالبهتان العظيم و قالوا:

«قتلنا عيسى» كانوا بعد موسى عليه السّلام بزمان طويل، و معلوم أنّ الّذين أخذتهم الصاعقة لم يكن ذلك عقوبة على رميهم مريم بالبهتان و لا على قولهم: «إِنَّا قَتَلْنَا» فبان بذلك أنّ الّذين قالوا هذه المقالة غير الّذين عوقبوا بالصاعقة.

و هذا كلام إنّما يتّجه على قول من قال: إنّه يتّصل بما قبله، و لا يتّجه على قول

ص: 216


1- المؤمنون: 118.
2- الآية: 7.

الزجّاج، و هذا أقوى لأنّه إذا أمكن إجراء الكلام على ظاهره من غير تقدير حذف فالأولى أن يحمل عليه.

و قوله: [وَ بِكُفْرِهِمْ أي بجحود هؤلاء لعيسى [وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً] أي أعظم كذب و أشنعه و هو رميهم إيّاها بالفاحشة، عن ابن عبّاس و السدّيّ. قال الكلبيّ مرّ عيسى برهط فقال بعضهم لبعض: قد جاءكم الساحر ابن الساحرة و الفاعل ابن الفاعلة فقذفوه بامّه، فسمع ذلك عيسى فقال: اللهمّ أنت ربّي خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي اللّهمّ العن من سبّني و سبّ والدتي، فاستجاب اللّه دعوته فمسخهم خنازير.

[وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ يعني قول اليهود: إنّا قتلنا عيسى بن مريم رسول اللّه، حكاه اللّه تعالى عنهم أي رسول اللّه في زعمه، و قيل: إنّه من قول اللّه سبحانه على وجه الحكاية عنهم و تقديره: الّذي هو رسولي.

[وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ و اختلفوا في كيفيّة التشبيه فروي عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا مسخ اللّه تعالى الّذين سبّوا عيسى و امّه بدعائه بلغ ذلك يهودا و هو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه فجمع اليهود فاتّفقوا على قتله، فبعث اللّه تعالى جبرائيل يمنعه منهم و يعينه عليهم و ذلك معنى قوله: «وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»* (1) فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر اليهود إنّ اللّه تعالى يبغضكم، فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ليدخل عليه الخوخة فيقتله فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى اللّه عليه شبه عيسى فلمّا خرج على أصحابه قتلوه و صلبوه، و قيل: ألقى عليه شبه وجه عيسى و لم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنّ الوجه وجه عيسى و الجسد جسد طيطانوس. و قال بعضهم:

إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى و إن كان هذا عيسى فأين طيطانوس؟ فاشتبه الأمر عليهم.

و قال وهب بن منبّه: أتى عيسى و معه سبعة من الحواريّين في بيت فأحاطوا بهم، فلمّا دخلوا عليهم صيّرهم اللّه كلّهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا، ليبرزنّ لنا عيسى

ص: 217


1- البقرة: 87.

أو لنقتلنّكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنّة، فقال رجل منهم اسمه سرجس: أنا، فخرج إليهم فقال: أنا عيسى. فأخذوه و قتلوه و صلبوه و رفع اللّه عيسى من يومه ذلك، و به قال قتادة و مجاهد و ابن إسحاق و إن اختلفوا في عدد الحواريّين.

و لم يذكر أحد غير وهب أنّ شبهه القي على جميعهم بل قالوا: القي شبهه على واحد و رفع عيسى عليه السّلام من بينهم.

قال الطبريّ: و قول وهب أقوى لأنّه لو القي الشبه على واحد منهم مع قول عيسى:

أيّكم يلقى عليه شبهي فله الجنّة، ثمّ رأوا عيسى رفع من بينهم، لما اشتبه عليهم و لما اختلفوا فيه و إن جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الّذين ما عرفوه لكن القي الشبه على جميعهم و كانوا يرون كلّ واحد منهم بصورة عيسى، فلمّا قتل أحدهم اشتبه الحال عليهم.

و قال أبو عليّ الجبّائيّ: إنّ رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه و صلبوه على موضع عال و لم يمكّنوا أحدا من الدنوّ إليه، فتغيّرت حليته و قالوا: قد قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامّهم لأنّهم كانوا أحاطوا بالبيت الّذي فيه عيسى عليه السّلام فلمّا دخلوه كان عيسى قد رفع من بينهم فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود به ففعلوا ذلك، و الّذين اختلفوا فيه هم غير الّذين صلبوه و إنّما هم باقي اليهود.

و قيل: إنّ الّذي دلّهم عليه و قال «هذا عيسى» أحد الحواريّين أخذ على ذلك ثلاثين درهما و كان منافقا، ثمّ إنّه ندم على ذلك و اختنق حتّى قتل نفسه، و كان اسمه بودس زكريّا بوطا، و هو ملعون في النصارى، و بعض النصارى يقول: إنّ بودس زكريّا بوطا هو الّذي شبّه لهم فصلبوه، و هو يقول: لست بصاحبكم أنا الّذي دللتكم عليه.

و قيل: إنّهم حبسوا المسيح مع عشرة من أصحابه في بيت، فدخل رجل من اليهود فألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى و رفع عيسى فقتلوا الرجل، عن السدّيّ.

[وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ قيل: يعني بذلك عامّتهم لأنّ علماءهم علموا أنّه غير مقتول، عن الجبّائيّ. و قيل: أراد بذلك جماعة اختلفوا فقال بعضهم: قتلناه، و قال بعضهم: لم نقتله [ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ أي لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنّهم اتّبعوا ظنّهم فقتلوه ظنّا منهم أنّه عيسى و لم يكن به.

ص: 218

و إنّما شكّوا في ذلك لأنّهم عرفوا عدّة من في البيت، فلمّا دخلوا عليهم و فقدوا واحدا منهم التبس عليهم أمر عيسى و قتلوا من قتلوه على شكّ منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال: لم يتفرّق أصحابه حتّى دخل عليهم اليهود، و أمّا من قال: تفرّق أصحابه عنه فإنّه يقول: كان اختلافهم في أنّ عيسى هل كان فيمن بقي أو كان فيمن خرج اشتبه الأمر عليهم. و قال الحسن: معناه فاختلفوا في عيسى فقالوا مرّة: هو عبد اللّه، و مرّة:

هو ابن اللّه، و مرّة: هو اللّه. و قال الزجّاج: معنى اختلاف النصارى فيه أنّ منهم من ادّعى أنّه إله لم يقتل و منهم من قال: قتل.

[وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً] اختلف في الهاء في «قَتَلُوهُ» فقيل: إنّه يعود إلى الظنّ أي ما قتلوا ظنّهم يقينا كما يقال: ما قتلته علما، عن ابن عبّاس و جويبر، و معناه: ما قتلوا ظنّهم الّذي اتّبعوه في المقتول الّذي قتلوه و هم يحسبونه عيسى يقينا أنّه عيسى و لا أنّه غيره، لكنّهم كانوا منه على شبهة. و قيل: إنّ الهاء عائد إلى عيسى يعني ما قتلوه يقينا أي حقّا فهو من باب تأكيد الخبر، عن الحسن، أراد أنّ اللّه تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق و اليقين.

[بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يعني بل رفع اللّه عيسى إليه و لم يصلبوه و لم يقتلوه، و قد مرّ تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ» (1) [وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] معناه لم يزل اللّه سبحانه منتقما من أعدائه حكيما في أفعاله و تقديراته، فاحذروا أيّها السائلون محمّدا أن ينزّل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم كما حلّ بأوائلكم في تكذيبهم رسله، عن ابن عبّاس.

و ما مرّ في تفسير هذه الآية من أنّ اللّه ألقى شبه عيسى على غيره فإنّ ذلك من مقدور اللّه بلا خلاف بين المسلمين فيه، و يجوز أن يفعله اللّه سبحانه على وجه التغليظ للمحنة و التشديد في التكليف، و إن كان ذلك خارقا للعادة فإنّه يكون معجزا للمسيح، كما روي أنّ جبرائيل كان يأتي نبيّنا صلى اللّه عليه و آله في صورة دحية الكلبيّ.

و ممّا يسأل عن هذه الآية أن يقال: قد تواترت اليهود و النصارى مع كثرتهم و

ص: 219


1- ال عمران: 55.

اجتمعت على أنّ المسيح قد قتل و صلب، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن النبيّ بخلاف ما هو به؟ و لو جاز ذلك فكيف يوثق بشي ء من الأخبار؟

و الجواب أنّ هؤلاء دخلت عليهم الشبهة كما أخبر اللّه سبحانه عنهم بذلك، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه و إنّما أخبروا أنّهم قتلوا رجلا قيل لهم: إنّه عيسى، فهم في خبرهم صادقون، و إن لم يكن المقتول عيسى عليه السّلام و إنّما اشتبه الأمر على النصارى لأنّ شبه عيسى القي على غيره، فرأوا من هو على صورته مقتولا مصلوبا فلم يخبر أحد من الفريقين إلّا عمّار آه و ظنّ أنّ الأمر على ما أخبر به فلا يؤدّي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 159]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

المعنى: ثمّ أخبر تعالى أنّه لا يبقى أحد منهم إلّا و يؤمن به فقال:

[وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف فيه على أقوال:

أحدها: أنّه كلا الضميرين يعودان إلى المسيح أي ليس يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود و النصارى إلّا و يؤمننّ بالمسيح قبل موت المسيح إذا أنزله اللّه إلى الأرض وقت خروج المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان لقتل الدجّال، فتصير الملل كلّها ملّة واحدة و هي ملّة الإسلام الحنيفيّة دين إبراهيم، عن ابن عبّاس و أبي مالك و الحسن و قتادة و ابن زيد، و ذلك حين لا ينفعهم الإيمان، و اختاره الطبريّ قال: و الآية خاصّة لمن يكون منهم في ذلك الزمان.

و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّ أباه حدّثه عن سليمان بن داود المنقريّ عن أبي حمزة الثماليّ عن شهر بن حوشب قال: قال الحجّاج بن يوسف: آية من كتاب اللّه قد أعيتني قوله: «وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية» و اللّه إنّي لا مر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يحمل، فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت! قال: فكيف هو؟ قلت: إنّ عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا و لا يبقى أهل ملّة يهوديّ أو نصراني أو غيره إلّا و آمن به قبل موت عيسى و يصلّي خلف المهديّ عليه السّلام، قال: ويحك أنّى لك هذا و من أين جئت به؟ قال قلت:

ص: 220

حدّثني به الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) قال: جئت و اللّه بها من عين صافية. فقيل لشهر: ما أردت بذلك؟ قال: أردت أن أغيظه.

و ذكر أبو القاسم البلخيّ مثل ذلك، و ضعّف الزجّاج هذا الوجه قال: إنّ الّذين يبقون إلى زمن عيسى من أهل الكتاب قليل، و الآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب، إلّا أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي ينزل في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و ثانيها: أنّ الضمير في «به» يعود إلى المسيح، و الضمير في «موته» يعود إلي الكتابيّ، و معناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب يخرج من الدنيا إلّا و يؤمن بعيسى قبل موته إذا زال تكليفه و تحقّق الموت، و لكن لا ينفعه الإيمان حينئذ، و إنّما ذكر اليهود و النصارى لأنّ جميعهم مبطلون: اليهود بالكفر به و النصارى بالغلوّ في أمره، و ذهب إليه ابن عبّاس في رواية اخرى و مجاهد و الضحّاك و ابن سيرين و جويبر قالوا: و لو ضربت رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن.

و ثالثها: أن يكون المعنى ليؤمننّ بمحمّد صلى اللّه عليه و آله قبل موت الكتابيّ، عن عكرمة و رواه أيضا أصحابنا، و ضعّف الطبريّ هذا الوجه بأن قال: لو كان ذلك صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفّار عليهم إذا ماتوا، و هذا لا يصحّ لأنّ إيمانهم بحمد صلى اللّه عليه و آله إنّما يكون في حال زوال التكليف فلا يعتدّ به، و إنّما ضعّف هذا القول من حيث لم يجر ذكر لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله هاهنا، و لا ضرورة توجب ردّ الكناية إليه و قد جرى ذكر عيسى فالأولى أن يصرف ذلك إليه.

[وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً] يعني عيسى يشهد عليهم بأنّه قد بلّغ رسالات ربّه و أقرّ على نفسه بالعبوديّة، و لم يدعهم إلى أن يتّخذوه إلها، عن قتادة و ابن جريح.

و قيل: يشهد عليهم بتصديق من صدّقه و تكذيب من كذّبه، عن أبي عليّ الجبّائيّ. و في هذه الآية دلالة على أنّ كلّ كافر يؤمن عند المعاينة و على أنّ إيمانه ذلك غير مقبول كما لم يقبل إيمان فرعون في حال اليأس عند زوال التكليف.

و يقرب من هذا ما رواه الإماميّة أنّ المحتضرين من جميع الأديان يرون رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله

ص: 221

و خلفاءه عند الموت، و يروون في ذلك عن عليّ عليه السّلام أنّه قال للحارث الهمدانيّ: (1)

يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه و أعرفه بعينه و اسمه و ما فعلا

فإن صحّت هذه الرواية فالمراد برؤيتهم في تلك الحال العلم بثمرة و لا يتهم و عداوتهم على اليقين بعلامات يجدونها من نفوسهم، و مشاهدة أحوال يدركونها كما قد روي أنّ الإنسان إذا عاين الموت أري في تلك الحالة ما يدلّه على أنّه من أهل الجنّة أو من أهل النار.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 160 الى 161]

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

المعنى: ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بقوله:

[فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا] أي من اليهود معناه: فبما ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي الّتي تقدّم ذكرها، و قد مضى فيما تقدّم عن الزجّاج أنّه قال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا» بدل من قوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» و ما بعده، و العامل في الباء قوله: [حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ و لكنّه لمّا طال الكلام أجمل في قوله: «فَبِظُلْمٍ» ما ذكره قبل، و أخبر أنّه حرّم على اليهود الّذين نقضوا ميثاقهم الّذي واثقوا اللّه عليه و كفروا بآياته و قتلوا أنبياءه، و قالوا على مريم بهتانا عظيما و فعلوا ما وصفه اللّه، طيّبات من المآكل و غيرها [أُحِلَّتْ لَهُمْ أي كانت حلالا لهم قبل ذلك فلمّا فعلوا ما فعلوا اقتضت المصلحة تحريم هذه الأشياء عليهم، عن مجاهد و أكثر المفسّرين و قال أبو عليّ الجبّائيّ: حرّم اللّه سبحانه هذه الطيّبات على الظالمين منهم عقوبة لهم على ظلمهم و هي ما بيّن في قوله تعالى: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ الآية.» (2) [وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً] أي و بمنعهم عباد اللّه عن دينه و سبيله الّتي شرعها

ص: 222


1- الأبيات للحميري نظم بها حديثا جرى بين امير المؤمنين عليه السلام و حارث و أول القطعة: قول على لحارث عجب.
2- الانعام: 146.

لعباده صدّا كثيرا، و كان صدّهم عن سبيل اللّه بقولهم على اللّه الباطل و ادّعائهم أنّ ذلك عن اللّه و تبديلهم كتاب اللّه و تحريفهم معانيه عن وجوهه، و أعظم من ذلك كلّه جحدهم نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله و تركهم بيان ما علموه من أمره لمن جهله من الناس، عن مجاهد و غيره.

[وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا] أي ما فضل على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن محلّه إلى أجل آخر [وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ أي عن الرباء [وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي بغير استحقاق و لا استيجاب و هو ما كانوا يأخذونه من الرشى في الأحكام، كقوله: «وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ»* (1) و ما كانوا يأخذونه من أثمان الكتب الّتي كانوا يكتبونها بأيديهم و يقولون: هذا من عند اللّه، و ما أشبه ذلك من المآكل الخبيثة، عاقبهم اللّه تعالى على جميع ذلك بتحريم ما حرّم عليهم من الطيّبات.

[وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي هيّأنا يوم القيامة لمن جحد اللّه أو الرسل من هؤلاء اليهود [عَذاباً أَلِيماً] أي مولما موجعا.

و اختلف في أنّ التحريم هل كان على وجه العقوبة أم لا؟ فقال جماعة من المفسّرين:

إنّ ذلك كان عقوبة. و إذا جاز التحريم ابتداء على جهة المصلحة جاز أيضا عند ارتكاب المعصية على جهة العقوبة، و قال أبو عليّ: كان تحريمه عقوبة فيمن تعاطى ذلك الظلم و مصلحة في غيرهم. و قال أبو هاشم: إنّ التحريم لا يكون إلّا للمصلحة، و لمّا صار التحريم مصلحة عند إقدامهم على هذا الظلم جاز أن يقال: حرّم عليهم بظلمهم، قال: لأنّ التحريم تكليف يستحقّ الثواب بفعله و يجب الصبر على أدائه فهو معدود في النعم بخلاف العقوبات.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 162]

لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)

المعنى: ثمّ ذكر سبحانه مؤمني أهل التوراة فقال:

[لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والدين. ذلك أنّ عبد اللّه بن سلام و أصحابه قالوا للنبيّ صلى اللّه عليه و آله: إنّ اليهود لتعلم أنّ الّذي جئت به حقّ و أنّك لعندهم مكتوب في التوراة، فقالت

ص: 223


1- المائدة: 65- 66.

اليهود: ليس كما يقولون إنّهم لا يعلمون شيئا و إنّهم يغرّونك و يحدّثونك بالباطل، فقال اللّه تعالى: لكن الراسخون الثابتون المبالغون في العلم المدارسون بالتوراة [مِنْهُمْ أي من اليهود يعنى ابن سلام و أصحابه من علماء اليهود [وَ الْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب النبيّ من غير أهل الكتاب [يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا محمّد من القرآن و الشرائع أنّه حقّ [وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب على الأنبياء و الرسل.

و قيل: إنّما استثنى اللّه تعالى من وصفهم ممّن هداه اللّه لدينه و وفّقه لرشده من اليهود الّذين ذكرهم فيما مضى من قوله: «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ» إلى هاهنا فقال: لكنّهم لا يسألونك ما يسأل هؤلاء الجهّال من إنزال الكتب من السماء لأنّهم قد علموا مصداق قولك بما قرءوا في الكتب المنزلة على الأنبياء و وجوب اتّباعك عليهم، فلا حاجة لهم إلى أن يسألوك معجزة اخرى و لا دلالة غير ما علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم، عن قتادة و غيره.

[وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ] إذا كان نصبا على الثناء و المدح على تقدير و اذكر المقيمين الصلاة و هم المؤتون الزكاة، و يكون على هذا عطفا على قوله: «الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ» و المعنى و الّذين يؤدّون الصلاة بشرائطها. و إذا كان جرّا عطفا على «ما أُنْزِلَ» أي يؤمنون بما انزل إليك و ما انزل من قبلك و المقيمين الصلاة؛ فقيل: إنّ المراد بهم الأنبياء أي و يؤمنون بالأنبياء المقيمين للصلاة. و قيل: المراد بهم الملائكة و إقامتهم للصلاة تسبيحهم ربّهم و استغفارهم لمن في الأرض أي و بالملائكة، و اختاره الطبريّ قال: لأنّه في قراءة ابيّ و كذلك هو في مصحفه. و قيل: المراد بهم الأئمّة المعصومون.

[وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ] أي و المعطون زكاة أموالهم [وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بأنّه واحد لا شريك له [وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ] و بالبعث الّذي فيه جزاء الأعمال [أُولئِكَ أي هؤلاء الّذين وصفهم اللّه [سَنُؤْتِيهِمْ أي سنعطيهم [أَجْراً] أي ثوابا و جزاء على ما كان منهم من طاعة اللّه و اتّباع أمره [عَظِيماً] أي جزيلا و هو الخلود في الجنّة.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 163]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

ص: 224

المعنى: ثمّ خاطب سبحانه نبيّه بقوله: [إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد. قدّمه في الذكر و إن تأخّرت نبوّته لتقدّمه في الفضل [كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ و قدّم نوحا لأنّه أبو البشر كما قال: «وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» (1) و قيل: لأنّه كان أطول الأنبياء عمرا و كانت معجزته في نفسه لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما لم يسقط له سنّ و لم تنقص قوّته و لم يشب شعره. و قيل: لأنّه لم يبالغ أحد منهم في الدعوة مثل ما بالغ فيها و لم يقاس أحد من قومه ما قاساه و هو أوّل من عذّبت امّته بسبب أن ردّت دعوته [وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي و أوحينا إلى النبيّين من بعد نوح.

[وَ أَوْحَيْنا إِلى النبيّين [إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أعاد ذكر النبيّين تعظيما لأمرهم و تفخيما لشأنهم [وَ الْأَسْباطِ] و هم أولاد يعقوب، و قيل: إنّ الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل، و قد بعث منهم عدّة رسل كيوسف و داود و سليمان و موسى و عيسى عليهم السّلام، فيجوز أن يكون أراد بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول:

أرسلت إلى بني تميم، إذا أرسلت إلى وجوههم، و لم يصحّ أنّ الأسباط الّذين هم إخوة يوسف كانوا أنبياء.

[وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ و قدّم عيسى عليه السّلام على أنبياء كانوا قبله لشدّة العناية بأمره لغلوّ اليهود في الطعن فيه، و الواو لا يوجب الترتيب [وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً] أي كتابا يسمّى زبورا و اشتهر به كما اشتهر كتاب موسى بالتوراة و كتاب عيسى بالإنجيل.

النظم: هذه الآية تتّصل بما قبلها من قوله «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ» و هذا يدلّ على أنّهم قد سألوا ما يدلّ على نبوّته فأخبر سبحانه أنّه أرسله كما أرسل من تقدّمه من الأنبياء و أظهر بعد موسى على أيديهم.

و قيل: إنّ اليهود لمّا تلا النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليهم تلك الآيات قالوا: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء بعد موسى، فكذّبهم بهذه الآيات إذ أخبر أنّه قد أنزل على من بعد موسى من الّذين سمّاهم و ممّن لم يسمّهم، عن ابن عبّاس.

ص: 225


1- الصافات: 77.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 164 الى 165]

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

المعنى: ثمّ أجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال:

[وَ رُسُلًا] أي و رسلا آخرين [قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ أي ما حكينا لك أخبارهم و عرّفناك شأنهم و أمورهم [مِنْ قَبْلُ قال بعضهم: قصّهم عليه بالوحي في غير القرآن من قبل ثمّ قصّهم عليه من بعد في القرآن. و قال بعضهم: قصّهم عليه من قبل هؤلاء بمكّة في سورة الأنعام و في غيرها لأنّ هذه السورة مدنيّة.

[وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه أرسل رسلا كثيرة لم يذكرهم في القرآن و إنّما قصّ بعضهم على النبيّ لفضيلتهم على من لم يقصصهم عليه.

[وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً] فائدته أنّه سبحانه كلّم موسى عليه السّلام بلا واسطة إبانة له بذلك من سائر الأنبياء؛ لأنّ جميعهم كلّمهم اللّه سبحانه بواسطة الوحي، و قيل: إنّما قال:

«تَكْلِيماً» ليعلم أنّ كلام اللّه علا ذكره من جنس هذا المعقول الّذي يشتقّ من التكليم بخلاف ما قاله المبطلون، و روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا قرأ الآية الّتي قبل هذه على الناس قالت اليهود فيما بينهم: ذكر محمّد النبيّين و لم يبيّن لنا أمر موسى، فلمّا نزلت هذه الآية و قرأها عليهم قالوا: إنّ محمّدا قد ذكره و فضّله بالكلام عليهم.

[رُسُلًا مُبَشِّرِينَ بالجنّة و الثواب لمن آمن و أطاع [وَ مُنْذِرِينَ بالنار و العقاب لمن كفر و عصى [لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا: لم ترسل إلينا رسولا و لو أرسلت لآمنّا بك، كما أخبر سبحانه في آية اخرى بقوله: «لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» (1).

و في هذه الآية دلالة على فساد قول من زعم أنّ عند اللّه تعالى من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن؛ لأنّه لو كان كذلك لكان للكفّار الحجّة بذلك على اللّه تعالى قائمة، فأمّا من لم يعلم من حاله أنّ له في إنفاذ الرسل إليه لطفا فالحجّة قائمة عليه بالعقل، و أدلّته الدالّة على توحيده و عدله و لو لم يقم الحجّة إلّا بإنفاذ الرسل لفسد ذلك من وجهين:

أحدهما: أنّ صدق الرسول لا يمكن العلم به إلّا بعد تقدّم العلم بالتوحيد و العدل

ص: 226


1- طه: 134.

فإن كانت الحجّة عليه غير قائمة فلا طريق له إلّا معرفة النبيّ صلى اللّه عليه و آله و صدقه.

و الثاني: أنّه لو كانت الحجّة لا تقوم إلّا بالرسل لاحتاج الرسول أيضا إلى رسول آخر حتّى تكون الحجّة عليه قائمة، و الكلام في رسوله كالكلام فيه حتّى يتسلسل و ذلك فاسد، فمن استدلّ بهذه الآية على أنّ التكليف لا يصحّ بحال إلّا بعد إنفاذ الرسل فقد أبعد لما قلناه.

[وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً] أي مقتدرا على الانتقام ممّن يعصيه و يكفر به [حَكِيماً] فيما أمر به عباده و في جميع أفعاله.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 166]

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

النزول: و قيل: إنّ جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال النبيّ لهم:

إنّي أعلم أنّكم تعلمون أنّي رسول اللّه، فقالوا: لا نعلم ذلك و لا نشهد به، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

المعنى: ثمّ قال سبحانه بعد إنكارهم و جحودهم: [لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ معناه: إن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوّة فاللّه يشهد لك بذلك، قال الزجّاج: و الشاهد هو المبيّن لما يشهد به و اللّه سبحانه يبيّن ما أنزل على رسوله صلى اللّه عليه و آله بنصب المعجزات له و يبيّن صدقه بما يغني عن بيان أهل الكتاب.

[أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ معناه: أنزل القرآن و هو عالم بأنّك موضع لإنزاله عليك لقيامك فيه بالحقّ و دعائك الناس إليه، و قيل: معناه أنزل القرآن الّذي فيه علمه، عن الزجّاج.

[وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بأنّك رسول اللّه و أنّ القرآن نزل من عنده [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] معناه: أنّ شهادة اللّه تكفي في تثبيت المشهود و لا يحتاج معها إلى شهادة.

و في هذه الآية تسلية النبيّ صلى اللّه عليه و آله على تكذيب من كذّبه و لا يصحّ قول من استدلّ على أنّ اللّه سبحانه عالم بعلم غير ذاته بما في هذه الآية من قوله: «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» لأنّه لو أراد بالعلم ما ذهبوا إليه من كونه ذاتا سواه لوجب أن يكون آلة له في الإنزال كما يقال:

كتبت بالقلم و عمل النجّار بالقدوم، و لا خلاف أنّ العلم ليس بآية في الإنزال.

ص: 227

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 167 الى 169]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)

المعنى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] بأنفسهم [وَ صَدُّوا] غيرهم [عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدين الّذي بعثك اللّه به إلى خلقه [قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً] يعني جاوزوا عن قصد الطريق جوازا شديدا، و زالوا عن الحجّة الّتي هي دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده، و بعثك به إلى خلقه زوالا بعيدا عن الرشاد.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] جحدوا رسالة محمّد [وَ ظَلَمُوا] محمّدا بتكذيبهم إيّاه و مقامهم على الكفر على علم منهم بظلمهم أولياء اللّه حسدا لهم و بغيا عليهم [لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أي لم يكن اللّه ليغفر لهم عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها [وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً] أي لا يهديهم إلى طريق الجنّة لأنّ الهداية إلى طريق الإيمان قد سبقت و عمّ اللّه بها جميع المكلّفين [إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ معناه لكن يهديهم طريق جهنّم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر و الظلم [خالِدِينَ فِيها] أي مقيمين فيها [أَبَداً].

[وَ كانَ ذلِكَ أي تخليد هؤلاء الّذين وصفهم في جهنّم [عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] لأنّه إذا أراد ذلك لم يقدر على الامتناع منه أحد.

النظم: و اتّصال هذه الآية بما قبلها اتّصال النقيض على جهة المقابلة؛ لأنّ ما قبلها يتضمّن الشهادة له بالنبوّة تسلية له عمّا لحقه من تكذيب الكفّار، و هذه الآيات تتضمّن تحيّر الكفّار بذهابهم من الرشد.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 170]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

المعنى: ثمّ عاد سبحانه إلى العظة و عمّ الخلق بذلك فقال:

[يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع المكلّفين و قيل: خطاب للكفّار [قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني محمّدا صلى اللّه عليه و آله [بِالْحَقِ أي بالدين الّذي ارتضاه اللّه لعباده، و قيل: بولاية من أمر اللّه

ص: 228

تعالى بولايته عن أبي جعفر عليه السّلام [مِنْ رَبِّكُمْ أي من عند ربّكم.

[فَآمِنُوا] أي صدّقوه و صدّقوا ما جاءكم به عند ربّكم [خَيْراً لَكُمْ أي ائتوا خيرا لكم ممّا أنتم عليه من الجحود و التكذيب.

[وَ إِنْ تَكْفُرُوا] أي تكذّبوه فيما جاءكم به من عند اللّه [فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي فإنّ ضرر ذلك يعود عليكم دون اللّه فإنّه يملك ما في السماوات و الأرض لا ينقص كفركم فيما كذّبتم به نبيّه شيئا من ملكه و سلطانه.

[وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً] بما أنتم صائرون إليه من طاعته أو معصيته [حَكِيماً] في أمره و نهيه إيّاكم و تدبيره فيكم و في غيركم.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

المعنى: ثمّ عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ قيل: إنّه لليهود و النصارى عن الحسن قال: لأنّ النصارى غلت في المسيح فقالت: هو ابن اللّه، و بعضهم قال: هو اللّه، و بعضهم قال: هو ثالث ثلاثة: الأب و الابن و روح القدس. و اليهود غلت فيه حتّى قالوا ولد لغير رشده، فالغلوّ لازم للفريقين. و قيل: للنصارى خاصّة، عن أبي عليّ و أبي مسلم و جماعة من المفسّرين.

[لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تفرطوا في دينكم و لا تجاوزوا الحقّ فيه [وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ أي قولوا: إنّه جلّ جلاله واحد لا شريك له و لا صاحبة و لا ولد، و لا تقولوا في عيسى: إنّه ابن اللّه أو شبهه فإنّه قول بغير الحقّ.

[إِنَّمَا الْمَسِيحُ و قد ذكرنا معناه، و قيل: سمّي بذلك لأنّه كان يمسح الأرض

ص: 229

مشيا [عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا بيان لقوله: «الْمَسِيحُ» يعني إنّه ابن مريم لا ابن اللّه كما يزعمه النصارى، و لا ابن أب كما تزعمه اليهود [رَسُولُ اللَّهِ أرسله اللّه إلى الخلق لا كما زعم الفرقتان المبطلتان.

[وَ كَلِمَتُهُ يعني أنّه حصل بكلمته الّتي هي قوله: «كن» عن الحسن و قتادة. و قيل: معناه إنّه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام اللّه و وحيه، عن أبي عليّ الجبّائيّ.

و قيل: معناه بشارة اللّه الّتي بشّر بها مريم على لسان الملائكة كما قال: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ» (1) و هو المراد بقوله: [أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة أي قلت، و قيل: معنى «أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» خلقها في رحمها عن الجبّائيّ.

[وَ رُوحٌ مِنْهُ فيه أقوال:

أحدها أنّه إنّما سمّاه روحا لأنّه حدث عن نفخة جبرائيل في درع مريم بأمر اللّه تعالى و إنّما نسبه إليه لأنّه كان بأمره، و قيل: إنّه أضافه إلى نفسه تفخيما لشأنه كما قال: الصوم لي و أنا اجزى به. و قد يسمّى النفخ روحا و استشهد على ذلك ببيت ذي الرمّة يصف نارا:

فقلت له ارفعها إليك و أحيهابروحك و اقتته لها قتية قدرا

و ظاهر لها من يابس الشخت و استعن عليه الصبا و اجعل يديك لها سترا

و معنى أحيها بروحك أي بنفخك، و يقال: اقتتّ النار إذا أطعمتها حطبا.

و الثاني أنّ المراد به: يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح عن الجبّائيّ فيكون المعنى: إنّه جعله نبيّا يقتدى به و يستنّ بسنّته و يهتدى بهداه.

و الثالث أنّ معناه إنسان أحياه اللّه بتكوينه بلا واسطة من جماع أو نطفة كما جرت العادة بذلك، عن أبي عبيدة.

و الرابع أنّ معناه: و رحمة منه كما قال في موضع آخر: «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (2) أي برحمة منه، فجعل اللّه عيسى رحمة على من آمن به و اتّبعه لأنّه هداهم إلى سبيل الرشاد.

ص: 230


1- ال عمران: 45.
2- المجادلة: 22.

و الخامس أنّ معناه روح اللّه من اللّه خلقها فصوّرها ثمّ أرسلها إلى مريم فدخلت في قلبها فصيّرها اللّه تعالى عيسى، عن أبي العالية عن ابيّ بن كعب.

و السادس أنّ معنى الروح هاهنا جبرائيل عليه السّلام فيكون عطفا على ما في ألقاها من من ضمير ذكر اللّه و تقديره: ألقاها اللّه إلى مريم و روح منه أي من اللّه أي جبرائيل ألقاها أيضا إليها.

[فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أمرهم اللّه بتصديقه و الإقرار بوحدانيّته و تصديق رسله فيما جاءوا به من عنده، و فيما أخبروهم به من أنّ اللّه سبحانه لا شريك له و لا صاحبة و لا ولد.

[وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ] هذا خطاب للنصارى أي لا تقولوا: إلهنا ثلاثة، عن الزجّاج.

و قيل: هذا لا يصحّ لأنّ النصارى لم يقولوا بثلاثة آلهة و لكنّهم يقولون: إله واحد ثلاثة أقانيم أب و ابن و روح القدس، و معناه لا تقولوا: اللّه ثلاثة أب و ابن و روح القدس، و قد شبّهوا قولهم: جوهر واحد ثلاثة أقانيم بقولنا: سراج واحد، ثمّ نقول: ثلاثة أشياء: دهن و قطن و نار، و شمس واحدة، و إنّما هي جسم وضوء و شعاع، و هذا غلط بعيد؛ لأنّا لا نعني بقولنا «سراج واحد» أنّه شي ء واحد بل هو أشياء على الحقيقة، و كذلك الشمس كما تقول عشرة واحدة، و إنسان واحد، و دار واحدة، و إنّما هي أشياء متغايرة. فإن قالوا: إنّ اللّه شي ء واحد و إله واحد حقيقة فقولهم «ثلاثة» متناقضة، و إن قالوا: إنّه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرناه في الإنسان و السراج و غيرهما فقد تركوا القول بالتوحيد و التحقوا بالمشبّهة و إلّا فلا واسطة بين الأمرين.

[انْتَهُوا] عن هذه المقالة الشنيعة أي امتنعوا عنها [خَيْراً لَكُمْ أي ائتوا بالانتهاء عن قولكم خيرا لكم ممّا تقولون [إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ] أي ليس كما تقولون: إنّه ثالث ثلاثة؛ لأنّ من كان له ولد أو صاحبة لا يجوز أن يكون إلها معبودا و لكنّ اللّه الّذي له الإلهيّة و تحقّ له العبادة إله واحد لا ولد له و لا شبه له و لا صاحبة له و لا شريك له.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عمّا يقوله المبطلون فقال: [سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ] و لفظة «سُبْحانَهُ» تفيد التنزيه عمّا لا يليق به أي هو منزّه عن أن يكون له ولد [لَهُ ما فِي السَّماواتِ

ص: 231

وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا و خلقا و هو يملكهما و له التصرّف فيهما و فيما بينهما، و من جملة ذلك عيسى و امّه، فكيف يكون المملوك و المخلوق ابنا للمالك و الخالق.

[وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا] أي حسب ما في السماوات و ما في الأرض باللّه قيّما و مدبّرا و رازقا، و قيل: معناه: و كفى باللّه حافظا لأعمال العباد حتّى يجازيهم عليها، فهو تسلية للرسول و وعيد للقائلين فيه سبحانه بما لا يليق به.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 172 الى 173]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173)

النزول: روي أنّ وفد نجران قالوا، لنبيّنا يا محمّد! لم تعيب صاحبنا؟ قال: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السّلام قال: و أيّ شي ء أقول فيه؟ قالوا: تقول إنّه عبد اللّه و رسوله، فنزلت الآية.

المعنى: لمّا تقدّم ذكر النصارى و الحكاية عنهم في أمر المسيح عقّبه سبحانه بالردّ عليهم فقال:

[لَنْ يَسْتَنْكِفَ أي لن يأنف و لم يمتنع [الْمَسِيحُ يعني عيسى عليه السّلام من [أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أي و لا الملائكة المقرّبون يأنفون و يستكبرون عن الإقرار بعبوديّته و الإذعان له بذلك، و المقرّبون الّذين قرّبهم تعالى و رفع منازلهم على غيرهم من خلقه.

[وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ أي من يأنف عن عبادته و يستكبر أي يتعظّم بترك الإذعان لطاعته [فَسَيَحْشُرُهُمْ أي فسيبعثهم [إِلَيْهِ يوم القيامة [جَمِيعاً] يجمعهم لموعدهم عنده و معنى قوله: «إِلَيْهِ» أي إلي الموضع الّذي لا يملك التصرّف فيه سواه، كما يقال:

صار أمر فلان إلى الأمير أي لا يملكه غير الأمير، و لا يراد بذلك المكان الّذي فيه الأمير.

و استدلّ بهذه الآية من قال بأنّ الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا: إنّ تأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم لأنّ العادة لم تجر بأن يقال: لن يستنكف الأمير أن يفعل كذا و لا الحارس، بل يقدّم الأدون و يؤخّر الأعظم فيقال: لن يستنكف

ص: 232

الوزير أن يفعل كذا و لا السلطان، و هذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء.

و أجاب أصحابنا عن ذلك بأن قالوا: إنّما أخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة أفضل و أكثر ثوابا من المسيح، و هذا لا يقتضي أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من المسيح عليه السّلام و إنّما الخلاف في ذلك.

و أيضا فإنّا و إن ذهبنا إلى أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة فإنّا نقول مع قولنا بالتفاوت: إنّه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء و الملائكة و مع التقارب و التداني يحسن أن يقدّم ذكر الأفضل، ألا ترى أنّه يحسن أن يقال: ما يستنكف الأمير فلان من كذا و لا الأمير فلانا إذا كانا متساويين في المنزلة أو متقاربين و إنّما لا يحسن أن يقال: ما يستنكف الأمير فلان من كذا و لا الحارس لأجل التفاوت.

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ و يؤتيهم جزاء أعمالهم وعد اللّه الّذين يقرّون بوحدانيّته و يعملون بطاعته أنّه يوفّيهم أجورهم و يؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافيا تامّا [وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة و الثواب عليها من الفضل و الزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه، لأنّه وعد على الحسنة عشر أمثالها من الثواب إلى سبعين ضعفا و إلى سبعمائة و إلى الأضعاف الكثيرة و الزيادة على المثل تفضّل من اللّه تعالى عليهم.

[وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا] أي أنفوا عن الإقرار بوحدانيّته [وَ اسْتَكْبَرُوا] أي تعظّموا عن الإذعان له بالطاعة و العبوديّة [فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً] أي مولما موجعا [وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] أي و لا يجد المستنكفون المستكبرون لأنفسهم وليّا ينجيهم من عذابه و ناصرا ينقذهم من عقابه.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

المعنى: لمّا فصّل اللّه ذكر الأحكام الّتي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك ليكون الإنسان على ثقة و يقين فقال:

ص: 233

[يا أَيُّهَا النَّاسُ و هو خطاب للمكلّفين من سائر الملل الّذين قصّ قصصهم في هذه السورة [قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي أتاكم حجّة من اللّه يبرهن لكم عن صحّة ما أمركم به محمّد لما معه من المعجزات القاهرة الشاهدة بصدقه، و قيل: هو القرآن.

[وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ معه [نُوراً مُبِيناً] يبيّن لكم الحجّة الواضحة و يهديكم إلى ما فيه النجاة لكم من عذابه و أليم عقابه، و ذلك النور هو القرآن، عن مجاهد و قتادة و السدّيّ. و قيل: النور ولاية عليّ عليه السّلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ أي صدّقوا بوحدانيّة اللّه و اعترفوا ببعث محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ اعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسّكوا بالنور الّذي أنزله على نبيّه [فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ أي نعمة منه هي الجنّة، عن ابن عبّاس [وَ فَضْلٍ يعني ما يبسط لهم من الكرامة و تضعيف الحسنات و ما يزاد لهم من النعم على ما يستحقّونه.

[وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي يوفّقهم لإصابة فضله الّذي يتفضّل به على أوليائه و يسدّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته و اقتفاء آثارهم و الاهتداء بهداهم و الاستنان بسنّتهم و اتّباع دينهم و هو الصراط المستقيم الّذي ارتضاه اللّه منهجا لعباده.

قوله تعالى: [سورة النساء (4): آية 176]

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

النزول: اختلف في سبب نزول الآية فروي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال:

اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي أو سبع فدخل عليّ النبيّ فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك أ لا اوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال أحسن. قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثمّ خرج و تركني و رجع إليّ فقال: يا جابر إنّي لا أراك ميّتا من وجعك هذا، و إنّ اللّه تعالى قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهنّ الثلثين، قالوا: و كان جابر يقول:

ص: 234

أنزلت هذه الآية فيّ. و عن قتادة قال: إنّ الصحابة كان همّهم شأن الكلالة فأنزل اللّه فيها هذه الآية.

و قال البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: «يَسْتَفْتُونَكَ الآية» أورده البخاريّ و مسلم في صحيحهما. و قال جابر:

نزلت بالمدينة. و قال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

و تسمّى هذه الآية آية الصيف، و ذلك أن اللّه تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و اخرى في الصيف و هي هذه الآية.

و روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عن الكلالة فقال: يكفيك أو يجزيك- آية الصيف.

المعنى: لمّا بيّن سبحانه في أوّل السورة بعض سهام الفرائض ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك فقال:

[يَسْتَفْتُونَكَ يا محمّد أي يطلبون منك الفتيا في ميراث الكلالة [قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أي يبيّن لكم الحكم في الكلالة، و هو اسم للإخوة و الأخوات، عن الحسن و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام. و قيل: هي ما سوى الوالد و الولد عن أبي بكر و جماعة من المفسّرين.

[إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ] قال السدّيّ: يعني ليس له ولد ذكر و أنثى، و هو موافق لمذهب الإماميّة فمعناه: إن مات رجل ليس له ولد و لا والد، و إنّما أضمرنا فيه الوالد للإجماع، و لأنّ لفظ الكلالة ينبئ عنه فانّ الكلالة اسم للنسب المحيط بالميّت دون اللصيق و الوالد لصيق الولد كما أنّ الولد لصيق الوالد، و الإخوة و الأخوات المحيطون بالميّت.

[وَ لَهُ أُخْتٌ يعني و للميّت اخت لأبيه و امّه أو لأبيه؛ لأنّ ذكر أولاد الأمّ قد سبق في أوّل السورة [فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ] عنى به أنّ الاخت إذا كانت هي الميّتة و لها أخ من أب و امّ أو من أب فالمال كلّه له بلا خلاف إذا لم

ص: 235

يكن هناك ولد و لا والد.

[فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني إن كانت الأختان اثنتين [فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الأخ أو الاخت من التركة.

[وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً] أي إخوة و أخوات مجتمعين لاب و امّ أو لأب [فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .

و في قوله سبحانه: «إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» دلالة على أنّ الأخ أو الاخت لا يرثان مع البنت لأنّه سبحانه شرط في ميراث الأخ و الاخت عدم الولد، و الولد يقع على الابن و البنت بلا خلاف فيه بين أهل اللغة، و ما روي من الخبر في أنّ الأخوات مع البنات عصبة خبر واحد يخالف نصّ القرآن، و إلى هذا الّذي ذكرناه ذهب ابن عبّاس و هو المرويّ عن سادة أهل البيت عليهم السّلام.

[يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ امور مواريثكم [أَنْ تَضِلُّوا] معناه: كراهة أن تضلّوا أو لئلّا تضلّوا أي لئلّا تخطؤوا في الحكم فيها. و قيل: معناه يبيّن اللّه لكم جميع الأحكام لتهتدوا في دينكم، عن أبي مسلم [وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فائدته هنا بيان كونه سبحانه عالما بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم و معادهم على ما توجبه الحكمة.

و قد تضمّنت الآية الّتي أنزلها اللّه في أوّل هذه السورة بيان ميراث الولد و الوالد و الآية الّتي بعدها بيان ميراث الأزواج و الزوجات و الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ، و تضمّنت هذه الآية الّتي ختم بها السورة بيان ميراث الأخوة و الأخوات من الأب و الأمّ و الإخوة و الأخوات من قبل الأب عند عدم الإخوة و الأخوات من الأب و الأمّ، و تضمّن قوله سبحانه: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* أنّ تداني القربى سبب في استحقاق الميراث، فمن كان أقرب رحما و أدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد، و الخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل و فروعها مذكور في كتب الفقه.

ص: 236

سورة المائدة

اشارة

هي مدنيّة في قول ابن عبّاس و مجاهد، و قال جعفر بن مبشّر و الشعبيّ: هي مدنيّة كلّها إلّا قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فإنّه نزل و النبيّ (صلى اللّه عليه و آله) واقف على راحلته في حجّة الوداع.

عدد آيها: هي مائة و عشرون آية كوفيّ، ثلاث و عشرون آية بصريّ، و اثنان و عشرون في الباقين. اختلافها ثلاث: «بِالْعُقُودِ» و «يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» غير الكوفيّ «فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» بصريّ.

فضلها: ابيّ بن كعب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة المائدة اعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ و نصرانيّ يتنفّس في دار الدنيا عشر حسنات و محا عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السّلام قال:

كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنّما يؤخذ من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بأخذه و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها: و لم ينسخها شي ء، لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء، و ثقل عليه الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتّى رئيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، و اغمي على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حتّى وضع يده على رأس شيبة بن وهب الجمحيّ ثمّ رفع ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و عملنا.

و بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال: من قرأ سورة المائدة في كلّ يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم و لا بشرك أبدا.

ص: 237

و بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام يقول: نزلت المائدة كملا و نزل معها سبعون ألف ملك.

تفسيرها: لمّا ختم اللّه سورة النساء بذكر أحكام الشريعة افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الأحكام و أجمل ذلك بقوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ثمّ أتبعه بذكر التفصيل فقال:

ص: 238

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المائدة (5): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

. المعنى: خاطب اللّه سبحانه المؤمنين فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] و تقديره: يا أيّها المؤمنون و هو اسم تكريم و تعظيم [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] أي بالعهود، عن ابن عبّاس و جماعة من المفسّرين.

ثمّ اختلف في هذه العهود على أقوال:

أحدها: أن المراد بها العهود الّتي كان أهل الجاهليّة عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة و المؤازرة و المظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءا و ذلك هو معنى الحلف، عن ابن عبّاس و مجاهد و الربيع بن أنس و الضحّاك و قتادة و السدّيّ.

و ثانيها: أنّها العهود الّتي أخذ اللّه سبحانه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم، عن ابن عبّاس أيضا، و في رواية اخرى قال: هو ما أحلّ و حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه أي فلا تتعدّوا فيه و لا تنكثوا، و يؤيّده قوله «وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إلى قوله- سُوءُ الدَّارِ» (1).

و ثالثها: أنّ المراد بها العقود الّتي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء علي نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع و عقد الحلف، عن ابن زيد و زيد بن أسلم.

و رابعها: أنّ ذلك أمر من اللّه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة و الإنجيل في تصديق نبيّنا و ما جاء به من عند اللّه، عن ابن جريح و أبي صالح.

و أقوى هذه الأقوال قول ابن عبّاس: إنّ المراد بها عقود اللّه الّتي أوجبها اللّه على

ص: 239


1- الرعد: 25.

العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود، و يدخل في ذلك جميع الأقوال الاخر فيجب الوفاء بجميع ذلك إلّا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح فإنّ ذلك محظور بلا خلاف.

ثمّ ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال: [أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ و اختلف في تأويله على أقوال:

أحدها أنّ المراد به الأنعام، و إنّما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال: نفس الإنسان، فمعناه: احلّت لكم الأنعام الإبل و البقر و الغنم، عن الحسن و قتادة و السدّيّ و الربيع و الضحّاك.

و ثانيها أنّ المراد بذلك أجنّة الأنعام الّتي توجد في بطون امّهاتها إذا أشعرت و قد ذكيت الأمّهات و هي ميتة، فذكاتها ذكاة امّهاتها، عن ابن عبّاس و ابن عمر و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و ثالثها أنّ بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء و بقر الوحش و حمر الوحش، عن الكلبيّ و الفرّاء. و الأولى حمل الآية على الجميع.

[إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ معناه: إلّا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن و هو قوله:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، الآية» (1) عن ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدّيّ [غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ من قال: إنّه حال من «أَوْفُوا» فمعناه:

أوفوا بالعقود غير محلّي الصيد و أنتم محرمون أي في حال الإحرام، و من قال: إنّه حال من «أُحِلَّتْ لَكُمْ» فمعناه: احلّت لكم بهيمة الأنعام أي الوحشيّة من الظباء و البقر و الحمر غير مستحلّين اصطيادها في حال الإحرام، و من قال: إنّه حال من «يُتْلى عَلَيْكُمْ» فمعناه:

احلّت لكم بهيمة الأنعام كلّها إلّا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة غير مستحلّين اصطيادها في حال إحرامكم.

[إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ] معناه: إنّ اللّه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد تحليله و تحريم ما يريد تحريمه و إيجاب ما يريد إيجابه، و غير ذلك من أحكامه و قضاياه فافعلوا ما أمركم به و انتهوا عمّا نهاكم عنه. و في قوله: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ»

ص: 240


1- السورة: 4.

دلالة على تحليل أكلها و ذبحها و الانتفاع بها.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (1)

النزول: قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم، و قال السدّيّ: أقبل الحطم بن هند البكريّ حتّى أتى النبيّ صلى اللّه عليه و آله وحده و خلّف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو؟ و قد كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال:

لأصحابه يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلّم بلسان شيطان فلمّا أجابه النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: أنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره فخرج من عنده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول:

قد لفّها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل و لا غنم

و لا بجزّار على ظهر و ضم باتوا نياما و ابن هند لم ينم (2)

بات يقاسيها غلام كالزلم خدلّج الساقين ممسوح القدم (2)

ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا فأراد رسول اللّه أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» و هو قول عكرمة و ابن جريح.

و قال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول اللّه إنّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل اللّه تعالى الآية.

المعنى: ثمّ ابتدأ سبحانه بتفصيل الأحكام فقال:

ص: 241


1- الزلم قداح الميسر و خدلج الساقين سمينهما.
2- الوضم خشبة يقطع عليها الجزار اللحم.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أي صدّقوا اللّه و رسوله فيما أوجب عليهم [لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ اختلف في معنى شعائر اللّه على أقوال:

أحدها أنّ معناه: لا تحلّوا حرمات اللّه و لا تعتدوا حدود اللّه، و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حدود اللّه و أمره و نهيه و فرائضه، عن عطاء و غيره.

و ثانيها أنّ معناه: لا تحلّوا حرم اللّه، و حملوا الشعائر على المعالم أي معالم حرم اللّه من البلاد، عن السدّيّ.

و ثالثها أنّ معنى شعائر اللّه مناسك الحجّ أي لا تحلّوا مناسك الحجّ فتضيّعوها، عن ابن جريح و ابن عبّاس.

و رابعها ما روي عن ابن عبّاس أنّ المشركين كانوا يحجّون البيت و يهدون الهدايا و يعظمون حرمة المشاعر و ينحرون في حجّهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك.

و خامسها أنّ شعائر اللّه هي الصفا و المروة و الهدي من البدن و غيرها، عن مجاهد.

و قال الفرّاء: كانت عامّة العرب لا ترى الصفا و المروة من شعائر اللّه و لا يطوفون بينهما فنهاهم اللّه عن ذلك. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و سادسها أنّ المراد لا تحلّوا ما حرّم اللّه عليكم في إحرامكم، عن ابن عبّاس في رواية اخرى.

و سابعها أنّ الشعائر هي العلامات المنصوبة للفرق بين الحلّ و الحرم، نهاهم اللّه سبحانه أن يتجاوزوها إلى مكّة بغير إحرام، عن أبي عليّ الجبّائيّ.

و ثامنها أنّ المعنى: لا تحلّوا الهدايا المشعرة أي المعلمة لتهدى إلى بيت اللّه الحرام، عن الزجّاج و الحسين بن عليّ المغربيّ و اختاره البلخيّ.

و أقوى الأقوال هو القول الأوّل، لأنّه يدخل فيه جميع الأقوال من مناسك الحجّ و غيرها، و حمل الآية على ما هو الأعمّ أولى.

[وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ معناه: و لا تستحلّوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من

ص: 242

المشركين كما قال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» (1) عن ابن عبّاس و قتادة.

و اختلف في معنى الشهر الحرام هنا فقيل: هو رجب و كانت مضر تحرّم فيه القتال.

و قيل: هو ذو القعدة، عن عكرمة. و قيل: هي الأشهر الحرم كلّها نهاهم اللّه عن القتال فيها، عن الجبّائيّ و البلخيّ، و هذا أليق بالعموم. و قيل: أراد به النسي ء زيادة في الكفر، عن القتيبيّ.

[وَ لَا الْهَدْيَ أي و لا تستحلّوا الهدي و هو ما يهديه الإنسان من بعير أو بقرة أو شاة إلى بيت اللّه تقرّبا إليه و طلبا لثوابه فيكون المعنى: و لا تستحلّوا ذلك فتغصبوه أهله و لا تحولوا بينهم و بين أن يبلغوه محلّه من الحرم، و لكن خلّوهم حتّى يبلغوا به المحلّ الّذي جعله اللّه له.

و قوله: [وَ لَا الْقَلائِدَ] معناه: و لا تحلّوا القلائد، و فيه أقوال:

أحدها أنّه عنى بالقلائد الهدي المقلّد، و إنّما كرّر لأنّه أراد المنع من حلّ الهدي الّذي لم يقلّد و الهدي الّذي قلّد، عن ابن عبّاس و اختاره الجبّائيّ.

و ثانيها أنّ المراد بذلك القلائد الّتي كان المشركون يتقلّدونها إذا أرادوا الحجّ مقبلين إلى مكّة من لحاء السمر و إذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر، عن قتادة قال: كان في الجاهليّة إذا خرج الرجل من أهله يريد الحجّ يقلّد من السمر فلا يتعرّض له أحد، و إذا رجع يقلّد قلادة شعر فلا يتعرّض له أحد. و قال عطاء: إنّهم كانوا يتقلّدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا من الحرم. و قال الفرّاء: أهل الحرم كانوا يتقلّدون بلحاء الشجر و أهل غير الحرم كانوا يتقلّدون بالصوف و الشعر و غيرهما.

و ثالثها أنّه عنى به المؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يتقلّدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليّتهم. عن عطاء في رواية أخرى و الربيع بن أنس.

ص: 243


1- البقرة: 217.

و رابعها أنّ القلائد ما يقلّد به الهدي، نهاهم عن حلّها لأنّه كان يجب أن يتصدّق بها، عن أبي عليّ الجبّائيّ قال: هو صوف يفتل و يعلّق به على عنق الهدي. و قال الحسن:

هو نعل يقلّد به الإبل و البقر و يجب التصدّق بها إن كانت لها قيمة. و الأولى أن تكون نهيا عن استحلال القلائد فيدخل فيه الإنسان و البهيمة، أو يكون نهيا عن استحلال حرمة المقلّد هديا كان ذلك أو إنسانا.

[وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ أي و لا تحلّوا قاصدين البيت [الْحَرامَ أي لا تقاتلوهم لأنّه من قاتل في الأشهر الحرم فقد أحلّ فقال: لا تحلّوا قتال الآمّين البيت الحرام أي القاصدين.

و البيت الحرام بيت اللّه بمكّة و هو الكعبة سمّي حراما لحرمته، و قيل: لأنّه يحرم فيه ما يحلّ في غيره.

و اختلف في المعنيّ بذلك فمنهم من حملهم على الكفّار و استدلّ بقوله فيما بعد:

«وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الآية» و منهم من حمله على من أسلم فكأنّه نهى أن يؤخذ بعد الإسلام بذحل الجاهليّة لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

[يَبْتَغُونَ أي يطلبون يعني الّذين يؤمّون البيت [فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً] أي أرباحا في تجاراتهم من اللّه و أن يرضى عنهم بنسكهم على زعمهم فلا يرضى اللّه عنهم و هم مشركون. و قيل: يلتمسون رضوان اللّه عنهم بأن لا يحلّ بهم ما حلّ بغيرهم من الأمم من العقوبة في عاجل دنياهم، عن قتادة و مجاهد. و قيل: فضلا من اللّه في الآخرة و رضوانا منه فيها. و قيل: فضلا في الدنيا و رضوانا في الآخرة. و قال ابن عبّاس: إنّ ذلك في كلّ من توجّه حاجّا، و به قال الضحّاك و الربيع.

و اختلف في هذا فقيل: هو منسوخ بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (1) عن أكثر المفسّرين. و قيل: لم ينسخ من هذه السورة شي ء و لا من هذه الآية لأنّه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلّا إذا قاتلوا، عن ابن جريح و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و روي نحوه عن الحسن. و ذكر أبو مسلم أن المراد به الكفّار

ص: 244


1- التوبة: 6.

الّذين كانوا في عهد النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلمّا زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر و دخلوا في حكم قوله تعالى: «فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا».

و قيل: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ» عن الشعبيّ و مجاهد و قتادة و الضحّاك و ابن زيد.

و قيل: إنّما نسخ منها قوله: «وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ إلى- آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» ذكر ذلك ابن أبي عروبة عن قتادة قال: نسخها قوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و قوله: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» (1) و قوله: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (2) في السنة الّتي نادى فيها عليّ بالأذان، و هو قول ابن عبّاس.

و قيل: لم ينسخ من هذه الآية إلّا «الْقَلائِدَ» عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

[وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا] معناه: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا فيها الصيد الّذي نهيتم أن تحلّوه فاصطادوه إن شئتم حينئذ؛ لأنّ السبب المحرّم قد زال عند جميع المفسّرين.

[وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي و لا يحملنّكم، و قيل: لا يكسبنّكم [شَنَآنُ قَوْمٍ أي بغضاء قوم [أَنْ صَدُّوكُمْ أي لأن صدّوكم أي لأجل أنّهم صدّوكم [عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني النبيّ و أصحابه لمّا صدّوكم عام الحديبيّة [أَنْ تَعْتَدُوا] و معناه: لا يكسبنّكم بغضكم قوما الاعتداء عليهم بصدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام. قال أبو عليّ الفارسيّ:

معناه لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا و لا تقترفوه.

هذا فيمن فتح «أن» و يوقع النهي في اللفظ على «الشنآن» و المعنيّ بالنهي المخاطبون كما قالوا: لا أرينّك هاهنا «وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». و من جعل شنآن صفة فقد أقامت الصفة مقام الموصوف و يكون تقديره: و لا يحملنّكم بغض قوم، و المعنى على الأوّل. و من قرأ «أَنْ صَدُّوكُمْ» بكسر الألف فقد مرّ ذكر معناه. و «أَنْ تَعْتَدُوا» معناه أن تتجاوزوا حكم اللّه فيكم إلى

ص: 245


1- التوبة: 18.
2- التوبة: 29.

ما نهاكم عنه، نهى اللّه المسلمين عن الطلب بذحول الجاهليّة عن مجاهد، و قال: هذا غير منسوخ، و هو الأولى. و قال ابن زيد: و هو منسوخ.

[وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ و هو استئناف كلام و ليس بعطف على «تَعْتَدُوا» فيكون في موضع نصب، أمر اللّه عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البرّ و التقوى و هو العمل بما أمرهم اللّه تعالى به و اتّقاء ما نهاهم عنه، و نهاهم عن أن يعين بعضهم بعضا على الإثم و هو ترك ما أمرهم به و ارتكاب ما نهاهم عنه من العدوان، و هو مجاوزة ما حدّ اللّه لعباده في دينهم و فرض لهم في أنفسهم، عن ابن عبّاس و أبي العالية و غيرهما من المفسّرين.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ هذا أمر منه تعالى بالتقوى و وعيد و تهديد لمن تعدّى حدوده و تجاوز أمره. يقول: احذروا معصية اللّه فيما أمركم اللّه به و نهاكم عنه فتستوجبوا عقابه و تستحقّوا عذابه، ثمّ وصف تعالى عقابه بالشدّة لأنّه نار لا يطفأ حرّها و لا يخمد جمرها نعوذ باللّه منها.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه ما استثناه في الآية المتقدّمة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فقال مخاطبا للمكلّفين:

[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ] أي حرّم عليكم أكل الميتة و الانتفاع بها، و هو كلّ ماله نفس سائلة من دوابّ البرّ و طيره ممّا أباح اللّه أكله أهليهما و وحشيهما فارقة روحه من غير تذكية، فقد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه سمّى الجراد و السمك ميتا فقال: ميتتان مباحتان الجراد و السمك.

ص: 246

[وَ الدَّمُ أي و حرّم عليكم الدم، و كانوا يجعلونه في المباعر و يشوونه و يأكلونه، فأعلم اللّه سبحانه أنّ الدم المسفوح أي المصبوب حرام فأمّا المتلطّخ باللحم فإنّه كاللحم، و ما كان كاللحم مثل الكبد فهو مباح، و أمّا الطحال فقد رووا الكراهية فيه عن عليّ عليه السّلام و ابن مسعود و أصحابهما، و اجتمعت الإماميّة على أنّه حرام و ذهب سائر الفقهاء إلى أنّه مباح.

[وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ] و إنّما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنّه حرام بعينه لا لكونه ميتة حتّى أنّه لا يحلّ تناوله و إن حصل فيه ما يكون ذكاة لغيره، و فائدة تخصيصه بالتحريم مع مشاركة الكلب إيّاه في التحريم حالة وجود الحياة و عدمها، و كذلك السباع و المسوخ و ما لا يحلّ أكله من الحيوانات أنّ كثيرا من الكفّار اعتادوا أكله و ألفوه أكثر ما اعتادوا في غيره.

[وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ موضع «ما» رفع و تقديره: و حرّم عليكم ما أهل لغير اللّه به، و قد ذكرنا معناه في سورة البقرة. و فيه دلالة على أنّ ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكله لأنّهم يذكرون عليه اسم غير اللّه لأنّهم يعنون به من أيّد شرع موسى أو اتّحد بعيسى أو اتّخذه ابنا، و ذلك غير اللّه؛ فأمّا من أظهر الإسلام و دان بالتجسّم و التشبيه و الجبر و خالف الحقّ فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته و فيه خلاف بين الفقهاء.

[وَ الْمُنْخَنِقَةُ] و هي الّتي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتخنق و تموت، عن السدّيّ.

و قيل: هي الّتي تخنق بحبل الصائد فتموت، عن الضحّاك و قتادة. و قال ابن عبّاس: كان أهل الجاهليّة يخنقونها فيأكلونها.

[وَ الْمَوْقُوذَةُ] و هي الّتي تضرب حتّى تموت، عن عبّاس و قتادة و السدّيّ.

[وَ الْمُتَرَدِّيَةُ] و هي الّتي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر فتموت، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ. و متى وقع في بئر و لا يقدر على تذكيته جاز أن يطعن و يضرب بالسكّين في غير المذبح حتّى يبرد ثمّ يؤكل.

[وَ النَّطِيحَةُ] و هي الّتي ينطحها غيرها فتموت.

[وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي و حرّم عليكم ما أكله السبع بمعنى قتله السبع، و هي

ص: 247

فريسة السبع، عن ابن عبّاس و قتادة و الضحّاك.

[إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلّا ما أدركتم ذكاته فذكّيتموه من هذه الأشياء، و موضع «ما» نصب بالاستثناء، و روي عن السيّدين الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرّك اذنه أو ذنبه أو تطرف عينه، و به قال الحسن و قتادة و إبراهيم و طاوس و الضحّاك و ابن زيد.

و اختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع؟ فقيل: إلى جميع ما تقدّم ذكره من المحرّمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الدم، عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس. و قيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرّمات لأنّ الميتة لا ذكاة لها، و لا الخنزير فمعناه: حرّمت عليكم سائر ما ذكر إلّا ما ذكّيتم ممّا أحلّه اللّه لكم بالتذكية فإنّه حلال لكم، عن مالك و جماعة من أهل المدينة و اختاره الجبّائيّ.

و متى قيل: ما وجه التكرار في قوله: «وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ» إلى آخر ما عدّد تحريمه مع أنّه افتتح الآية بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» و الميتة تعمّ جميع ذلك و إن اختلف أسباب الموت من خنق أو تردّ أو نطح أو إهلال لغير اللّه به أو أكل سبع؟

فالجواب أنّ الفائدة في ذلك أنّهم كانوا لا يعدّون الميتة إلّا ما مات حتف أنفه من دون شي ء من هذه الأسباب فأعلمهم اللّه سبحانه أنّ حكم الجميع واحد، و أنّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروع فقط؛ قال السدّيّ: إنّ ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدّونه ميّتا إنّما يعدّون الميّت الّذي يموت من الوجع.

[وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعنى الحجارة الّتي كانوا يعبدونها و هي الأوثان، عن مجاهد و قتادة و ابن جريح يعني و حرّم عليكم ما ذبح على النصب أي على اسم الأوثان. و قيل:

معناه ما ذبح للأوثان تقرّبا إليها، و اللام و «على» متعاقبان ألا ترى إلى قوله تعالى:

«فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» (1) بمعنى عليك، و كانوا يقرّبون و يلطّخون أوثانهم بدمائها.

قال ابن جريح: ليست النصب أصناما إنّما الأصنام ما تصوّر و تنقش بل كانت

ص: 248


1- الواقعة: 91.

أحجارا منصوبة حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستّين حجرا، و قيل كانت ثلاثمائة منها لخزاعة فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، و شرحوا اللحم و جعلوه على الحجارة فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدم فنحن أحقّ بتعظيمه، فأنزل اللّه سبحانه «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، الآية» (1).

[وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ موضعه رفع أي و حرّم عليكم الاستسقام بالأزلام، و معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح الّتي كانوا يتفأّلون بها في أسفارهم و ابتداء أمورهم و هي سهام كانت للجاهليّة مكتوب على بعضها «أمرني ربّي» و على بعضها «نهاني ربّي» و بعضها غفل لم يكتب عليه شي ء فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتمّون به ضربوا على تلك القداح فإن خرج السهم الّذي عليه «أمرني ربّي» مضى الرجل في حاجته، و إن خرج الّذي عليه «نهاني ربّي» لم يمض، و إن خرج الّذي ليس عليه شي ء أعادوها فبيّن اللّه تعالى أنّ العمل بذلك حرام، عن الحسن و جماعة من المفسّرين.

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السّلام أنّ الأزلام عشرة سبعة لها أنصباء، و ثلاثة لا أنصباء لها فالّتي لها أنصباء: الفذّ و التوأم و المسبل و النافس و الحلس و الرقيب و المعلّى، فالفذّ له سهم و التوأم له سهمان و المسبل له ثلاثة أسهم و النافس له أربعة أسهم و الحلس له خمسة أسهم و الرقيب له ستّة أسهم و المعلّى له سبعة أسهم، و الّتي لا أنصباء لها: الفسيح و المنيح و الوغد، و كانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل، و ثمن الجزور على من تخرج له الّتي لا أنصباء لها، و هو القمار فحرّمه اللّه تعالى.

و قيل: هي كعاب فارس و الروم الّتي كانوا يتقامرون بها، عن مجاهد.

و قيل: هي الشطرنج، عن أبي سفيان بن وكيع.

[ذلِكُمْ فِسْقٌ معناه: أنّ جميع ما سبق ذكره فسق أي ذنب عظيم، و خروج من طاعة اللّه إلى معصية، عن ابن عبّاس. و قيل: إنّ «ذلِكُمْ» إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أى إنّ ذلك الاستقسام فسق، و هو الأظهر.

ص: 249


1- الحج: 37.

[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ليس يريد يوما بعينه بل معناه: الآن يئس الكافرون من دينكم كما يقول القائل: اليوم قد كبرت، يريد أنّ اللّه تعالى حوّل الخوف الّذي كان يلحقكم من الكافرين اليوم إليهم، و يئسوا من بطلان الإسلام و جاءكم ما كنتم توعدون به في قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»* و الدين اسم لجميع ما تعبّد اللّه به خلقه و أمرهم بالقيام به، و معنى «يَئِسَ» انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه و ترجعوا منه إلى الشرك، عن ابن عبّاس و السدّيّ و عطاء.

و قيل: إنّ المراد باليوم يوم عرفة من حجّة الوداع بعد دخول العرب كلّها في الإسلام، عن مجاهد و ابن جريح و ابن زيد، و كان يوم جمعة و نظر النبيّ صلى اللّه عليه و آله فلم ير إلّا مسلما موحّدا و لم ير مشركا.

[فَلا تَخْشَوْهُمْ خطاب للمؤمنين نهاهم اللّه أن يخشوا و يخافوا من الكفّار أن يظهروا على دين الإسلام، و يقهروا المسلمين و يردّوهم عن دينهم [وَ اخْشَوْنِ أي و لكن اخشوني أي خافوني إن خالفتم أمري و ارتكبتم معصيتي أن احلّ بكم عقابي، عن ابن جريح و غيره.

[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قيل فيه أقوال:

أحدها أنّ معناه: أكملت لكم فرائضي و حدودي و حلالي و حرامي بتنزيلي ما أنزلت و بياني ما بيّنت لكم فلا زيادة في ذلك و لا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، و كان ذلك يوم عرفة عام حجّة الوداع، عن ابن عبّاس و السدّيّ و اختاره الجبّائيّ و البلخيّ قالوا: و لم ينزل بعد هذا على النبيّ صلى اللّه عليه و آله شي ء من الفرائض في تحليل و لا تحريم، و إنّه مضى بعد ذلك بإحدى و ثمانين ليلة.

فإن اعترض معترض فقال: أ كان دين اللّه ناقصا وقتا من الأوقات حتّى أتمّه في ذلك اليوم؟ فجوابه أنّ دين اللّه لم يكن إلّا كاملا في كلّ حال، و لكن لمّا كان معرضا للنسخ و الزيادة فيه و نزول الوحي بتحليل شي ء أو تحريمه لم يمتنع أن يوصف بالكمال إذا أمن من جميع ذلك فيه كما توصف العشرة بأنّها كاملة، و لا يلزم أن توصف بالنقصان لمّا كانت المائة أكثر منها و أكمل.

و ثانيها أنّ معناه: اليوم أكملت لكم حجّكم و أفردتكم بالبلد الحرام تحجّونه

ص: 250

دون المشركين و لا يخالطكم مشرك، عن سعيد بن جبير و قتادة و اختاره الطبريّ قال: لأنّ اللّه سبحانه أنزل بعده «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» قال الفرّاء: و هي آخر آية نزلت. و هذا الّذي ذكره لو صحّ لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف.

و ثالثها أنّ معناه: اليوم كفيتكم الأعداء و أظهرتكم عليهم كما تقول: الآن كمل لنا الملك و كمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنّا نخافه، عن الزجّاج.

و المرويّ عن الإمامين أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّه إنّما انزل بعد أن نصب النبيّ صلى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام علما للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجّة الوداع، قالا: و هو آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى ثمّ لم ينزل بعدها فريضة.

و قد حدّثنا السيّد العالم أبو الحمد مهديّ بن نزار الحسينيّ قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكانيّ قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازيّ قال: أخبرنا أبو بكر الجرجانيّ قال: حدّثنا أبو أحمد البصريّ قال: حدّثنا أحمد بن عمّار بن خالد قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمانيّ قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لمّا نزلت هذه الآية قال: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الربّ برسالتي و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله.

و قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: حدّثني أبي عن صفوان عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان نزولها بكراع الغميم (1) فأقامها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بالجحفة. و قال الربيع بن أنس: نزلت في المسير في حجّة الوداع.

[وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي خاطب سبحانه المؤمنين بأنّه أتمّ النعمة عليهم بإظهارهم على المشركين و نفيهم عن بلادهم، عن ابن عبّاس و قتادة. و قيل: معناه أتممت عليكم نعمتي بأن أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يؤت قبلكم نبيّ و لا امّة. و قيل: إنّ تمام النعمة دخول الجنّة.

[وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً] أي رضيت لكم الإسلام لأمري و الانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده و فرائضه و معالمه «دِيناً» أي طاعة منكم لي، و الفائدة في هذا أنّ اللّه

ص: 251


1- جبل اسود في وادي الغميم منه الى مكة نحو 20 ميلا.

سبحانه لم يزل يصرف نبيّه محمّدا و أصحابه في درجات الإسلام و مراتبه درجة بعد درجة و منزلة بعد منزلة حتّى أكمل لهم شرائعه و بلغ بهم أقصى درجاته و مراتبه، ثمّ قال: رضيت لكم الحال الّتي أنتم عليها اليوم فالزموها و لا تفارقوها.

ثمّ عاد الكلام إلى القضيّة المتقدّمة في التحريم و التحليل، و إنّما ذكر قوله:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى قوله- وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» اعتراضا.

[فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ] معناه: فمن دعته الضرورة في مجاعة حتّى لا يمكنه الامتناع من أكله، عن ابن عبّاس و قتادة و السدّيّ [غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل إلى إثم و هو نصب على الحال يعني فمن اضطرّ إلى أكل الميتة و ما عدّد اللّه تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمّد لذلك و لا مختار له و لا مستحلّ له، فإنّ اللّه سبحانه أباح تناول ذلك له قدر ما يمسك به رمقه بلا زيادة عليه، عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد، و به قال أهل العراق.

و قال أهل المدينة: يجوز أن يشبع منه عند الضرورة. و قيل: إنّ معنى قوله: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا أو خارجا في معصية، عن قتادة.

[فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في الكلام محذوف دلّ عليه ما ذكر، و المعنى: فمن اضطرّ إلى ما حرّمت عليه غير متجانف لإثم فأكله فإنّ اللّه غفور لذنوبه، ساتر عليه أكله لا يواخذه به، و ليس يريد أنّه يغفر له عقاب ذلك الأكل لأنّه أباحه له، و لا يستحقّ العقاب على فعل المباح، و هو رحيم أي رفيق بعباده، و من رحمته أباح لهم ما حرّم عليهم في حال الخوف على النفس

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)

النزول: عن أبي رافع قال: جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله يستأذن عليه فأذن له و قال: قد أذنّا لك يا رسول اللّه، قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، قال أبو رافع: فأمرني رسول اللّه أن أقتل كلّ كلب بالمدينة فقتلت حتّى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها و جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأخبرته فأمرني فرجعت

ص: 252

و قتلت الكلب فجاؤوا فقالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك ماذا يحلّ لنا من هذه الامّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فانزل الآية فأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب الّتي يقنص بها، و نهى عن إمساك ما لا نفع فيها، و أمر بقتل العقور و ما يضرّ و يؤذي.

و عن أبي حمزة الثماليّ و الحكم بن ظهير أنّ زيد الخيل و عديّ بن حاتم الطائيّين أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقالا: إنّ فينا رجلين لهما ستّة أكلب تأخذ بقرة الوحش و الظباء فمنها ما يدرك ذكاته و منها ما يموت، و قد حرّم اللّه الميتة فماذا يحلّ لنا من هذا؟

فأنزل اللّه «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» و سمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله زيد الخير.

المعنى: لمّا قدّم سبحانه ذكر المحرّمات عقّبه بذكر ما احلّ فقال:

[يَسْئَلُونَكَ يا محمّد [ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ معناه: أيّ شي ء احلّ لهم؟ أي يستخبرك المؤمنون ما الّذي احلّ لهم من المطاعم و المآكل؟ و قيل: من الصيد و الذبائح [قُلْ يا محمّد [أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ منها و هي الحلال الّذي أذن لكم ربّكم في أكله من المأكولات و الذبائح و الصيد، عن أبي عليّ الجبّائيّ و أبي مسلم. و قيل: ممّا لم يرد بتحريمه كتاب و لا سنّة، و هذا أولى لما ورد أنّ الأشياء كلّها على الإطلاق و الإباحة حتّى يرد الشرع بالتحريم و قال البلخيّ: الطيّبات ما يستلذّ.

[وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي و احلّ لكم أيضا مع ذلك صيد ما علّمتم من الجوارح أي الكواسب من سباع الطير و البهائم، فحذف المضاف لدلالة قوله: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» عليه، و لأنّه جواب عن سؤال السائل عن الصيد.

و قيل: الجوارح هي الكلاب فقط، عن ابن عمر و الضحّاك و السدّيّ و هو المروي عن أئمّتنا عليهم السّلام فإنّهم قالوا: هي الكلاب المعلّمة خاصّة أحلّه اللّه إذا أدركه صاحبه و قد قتله لقوله: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ».

و روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن صيد البزاة و الصقور و القهود و الكلاب، فقال: لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب، فقلت: فإن قتله؟ قال: كل فإنّ اللّه يقول «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ثمّ قال عليه السّلام:

ص: 253

كلّ شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة فإنّها تمسك على صاحبها، و قال: إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه فهو ذكاته و هو أن تقول:

بسم اللّه و اللّه أكبر.

و يؤيّد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله: [مُكَلِّبِينَ أي أصحاب الصيد بالكلاب، و قيل: أصحاب التعليم للكلاب [تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تؤدّبونهنّ حتّى يصرن معلّمة ممّا ألهمكم اللّه بعقولكم حتّى ميّزتم بين المعلّم و غير المعلّم، و في هذا دلالة أيضا على أنّ صيد الكلب غير المعلّم حرام إذا لم يدرك ذكاته، و قيل: معناه تعلّمونهنّ كما علّمكم اللّه، عن السدّيّ. و هذا بعيد لأنّ «من» بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة و لا تقارب بينهما لأنّ الكاف للتشبيه و من للتبعيض.

و اختلف في صفة الكلب المعلّم فقيل: هو أن يستشلي (1) لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، و يمسك عليه إذا أخذه و يستجيب له إذا دعاه و لا يفرّ منه، فإذا توالى منه ذلك كان معلّما، عن سعد بن أبي وقّاص و سلمان و ابن عمر. و قيل: هو ما ذكرناه كلّه و أن لا يأكل منه، عن ابن عبّاس و عديّ بن حاتم و عطاء و الشعبيّ و طاوس و السدّيّ، فروى عديّ بن حاتم عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل منه فإنّما أمسك على نفسه. و قيل: حدّ التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرّات، عن أبي يوسف و محمّد. و قيل: لا حدّ لتعليم الكلاب و إذا فعل ما قلناه فهو معلّم، و يدلّ على ذلك ما رواه أصحابنا أنّه إذا أخذ كلب المجوسيّ فعلّمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله.

و قد تقدّم أن عند أهل البيت لا يحلّ أكل الصيد غير الكلب إلّا ما أدرك ذكاته، و من أجاز ذلك قال: إنّ تعلّم البازيّ هو أن يرجع إلى صاحبه و تعلّم كلّ جارحة من البهائم و الطير هو أن يشلى على الصيد فيستشلي و يأخذ الصيد و يدعوه صاحبه فيجيب فإذا كان كذلك كان معلّما أكل منه أولم يأكل، روي ذلك عن سلمان و سعد بن أبي وقّاص و

ص: 254


1- اشلى الكلب على الصيد: اغراه.

ابن عمر. و قال آخرون: ما أكل منه فلا يؤكل، رواه عن عليّ عليه السّلام و الشعبيّ و عكرمة.

و قوله: [فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي ممّا أمسك الجوارح عليكم و هذا يقوّي قول من قال: ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله لأنّه أمسك على نفسه، و من شرط في استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه قد سمّى عند إرساله فإذا لم يسمّ لم يجز له أكله إلّا إذا أدرك ذكاته و أدنى ما يدرك به ذكاته أن يجده تتحرّك عينه أو اذنه أو ذنبه، فتذكيته حينئذ بفري الحلقوم و الأوداج.

[وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي قبل الإرسال، عن ابن عبّاس و الحسن و السدّيّ.

و قيل: معناه اذكروا اسم اللّه على ذبح ما تذبحونه، و هذا صريح في وجوب التسمية، و القول الأوّل أصحّ.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أى اجتنبوا ما نهاكم اللّه عنه فلا تقربوه و احذروا معاصيه الّتي منها أكل صيد الكلب غير المعلّم أو مالا يمسكه عليكم أو ما لم يذكر اسم اللّه عليه من الصيد و الذبائح [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قد مرّ تفسيره.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

المعنى: ثمّ بيّن سبحانه في هذه الآية ما يحلّ من الأطعمة و الأنكحة إتماما لما تقدّم فقال:

[الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و قد مرّ معناه، و هذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة إلّا ما قام الدليل على تحريمه.

[وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ اختلف في الطعام المذكور في الآية:

ص: 255

فقيل: المراد به ذبائح أهل الكتاب عن أكثر المفسّرين و أكثر الفقهاء، و به قال جماعة من أصحابنا، ثمّ اختلفوا فمنهم من قال: أراد به ذباحة كلّ كتابيّ ممّن انزل عليه التوراة و الإنجيل، و من دخل في ملّتهم و دان بدينهم، عن ابن عبّاس و الحسن و عكرمة و سعيد بن المسيّب و الشعبيّ و عطاء و قتادة و أجازوا ذبائح نصارى بني تغلب.

و منهم من قال: عنى به من أنزلت التوراة و الإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم فأمّا من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم و دان بدينهم فلا تحلّ ذبائحهم، حكى ذلك الربيع عن الشافعيّ، و حرّم ذبائح بني تغلب من النصارى و رووا ذلك عن عليّ عليه السّلام و سعيد ابن جبير.

و قيل: المراد بطعام الّذين أوتوا الكتاب ذبائحهم و غيرها من الأطعمة عن أبي الدرداء و عن ابن عبّاس و ابراهيم و قتادة و السدّيّ و الضحّاك و مجاهد و به قال الطبريّ و الجبّائيّ و البلخيّ و غيرهم.

و قيل: إنّه مختصّ بالحبوب و ما لا يحتاج فيه إلى التذكية، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و به قال جماعة من الزيديّة فأمّا ذبائحهم فلا تحلّ.

[وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ معناه: و طعامكم يحلّ لكم أن تطعموهم [وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ معناه: و احلّ لكم العقد على المحصنات أي العفائف من المؤمنات، عن الحسن و الشعبيّ و إبراهيم. و قيل: أراد الحرائر، عن مجاهد و اختاره أبو عليّ. فعلى هذا القول لا تدخل الإماء في الإباحة مع القدرة على طول الحرّة.

[وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى و اختلف في معناه فقيل: هنّ العفائف حرائر كنّ أو إماء حربيّات كنّ أو ذمّيّات، عن مجاهد و الحسن و الشعبيّ و غيرهم. و قيل: هنّ الحرائر ذمّيّات كنّ أو حربيّات.

و قال أصحابنا: لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيّة لقوله تعالى: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» (1) و لقوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» (2) و أوّلوا هذه

ص: 256


1- البقرة: 221.
2- الممتحنة: 10.

الآية بأنّ المراد بالمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهنّ، و المراد بالمحصنات من المؤمنات اللاتي كنّ في الأصل مؤمنات بأن ولدن على الإسلام؛ و ذلك أنّ قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبيّن سبحانه أنّه لا حرج في ذلك فلهذا أفردهنّ بالذكر، حكى ذلك أبو القاسم البلخيّ، قالوا: و يجوز أن يكون مخصوصا أيضا بنكاح المتعة و ملك اليمين، فإنّ عندنا يجوز وطؤهنّ بكلا الوجهين على أنّه قد روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه منسوخ بقوله: «وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» و بقوله: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ».

و قوله: [إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أى مهورهنّ و هو عوض الاستمتاع بهنّ، عن ابن عبّاس و غيره [مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني أعفّاء غير زانين بكلّ فاجرة، و هو منصوب على الحال [وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي و لا متفرّدين ببغية واحدة، خادنها و خادنته اتّخذها لنفسه صديقة يفجر بها، و قد مرّ معنى الإحصان و السفاح و الأخدان في سورة النساء.

[وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي و من يجحد ما أمر اللّه بالإقرار به و التصديق له من توحيد اللّه وعد له و نبوّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله [فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الّذي عمله و اعتقده قربة إلى اللّه تعالى، و إنّما تحبط الأعمال بأن لا يستحقّ عليها ثواب [وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين.

و قيل: المعنيّ بقوله: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» أهل الكتاب و يكون معناه: و من يمتنع عن الإيمان و لم يؤمن. و في قوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثواب، فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب و إنّما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثواب عليه، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط فهو حقيقة معناه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

ص: 257

المعنى: لمّا تقدّم الأمر بالوفاء بالعقود و من جملتها إقامة الصلاة و من شرائطها الطهارة بيّن سبحانه ذلك بقوله:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ] معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة و أنتم على غير طهر، و حذف الإرادة لأنّ في الكلام دلالة على ذلك، و مثله قوله: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» (1) «وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» (2) و المعنى: إذا أردت قراءة القرآن، و إذا كنت فيهم فإذا أردت أن تقيم لهم الصلاة، و هو قول ابن عبّاس و أكثر المفسّرين.

و قيل: معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فعليكم الوضوء، عن عكرمة و إليه ذهب داود قال: و كان عليّ عليه السّلام يتوضّأ لكلّ صلاة و يقرأ هذه الآية، و كان الخلفاء يتوضّؤون لكلّ صلاة.

و القول الأوّل هو الصحيح و إليه ذهب الفقهاء كلّهم و ما رووه من تجديد الوضوء فمحمول على الندب و الاستحباب.

و قيل: إنّ الفرض كان في بدء الإسلام التوضّؤ عند كلّ صلاة ثمّ نسح بالتخفيف، و به قال ابن عمر قال: حدّثتني الأسماء بنت زيد بن الخطّاب أنّ عبد اللّه بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل حدّثها أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أمر بالوضوء عند كلّ صلاة فشقّ ذلك عليه فأمر بالسواك و رفع عنه الوضوء إلّا من حدث فكان عبد اللّه يرى أنّ فرضه على ما كان عليه فكان يتوضّأ. و روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يتوضّأ لكلّ صلاة فلمّا كان عام الفتح صلّى الصلاة كلّها بوضوء واحد فقال عمر بن الخطّاب:

يا رسول اللّه صنعت شيئا ما كنت تصنعه، قال: عمدا فعلته يا عمر.

ص: 258


1- النحل: 98.
2- النساء: 101.

و قيل: إنّ هذا إعلام بأنّ الوضوء لا يجب إلّا للصلاة لأنّه روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلّها حتّى أنّه لا يردّ جواب السلام حتّى يتطهّر للصلاة، ثمّ يجيب حتّى نزلت هذه الآية.

[فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ هذا أمر منه سبحانه بغسل الوجه، و الغسل هو إمرار الماء على المحلّ حتّى يسيل و المسح أن يبلّ المحلّ بالماء من غير أن يسيل.

و اختلف في حدّ الوجه فالمرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّه من قصاص الشعر إلى محادر شعر الذقن طولا، و ما دخل بين الإبهام و الوسطى عرضا.

و قيل: حدّه ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا، و ما بين الأذنين عرضا دون ما غطّاه الشعر من الذقن و غيره، أو كان داخل الفم و الأنف و العين فإنّ الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر و يواجهه دون غيره كما قلناه، و هو المرويّ عن ابن عبّاس و ابن عمرو الحسن و قتادة و الزهريّ و الشعبيّ و غيرهم، و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه.

و قيل: الوجه كلّ ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا و من الأذن إلى الاذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر من منابت شعر اللحية و العارض، و ما بطن و ما كان منه داخل الفم و الأنف، و ما أقبل من الأذنين على الوجه، عن أنس ابن مالك و امّ سلمة و عمّار و مجاهد و سعيد بن جبير و جماعة و إليه ذهب الشافعيّ.

[وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي و اغسلوا ذلك أيضا، و المرافق جمع مرفق و هو المكان الّذي يرتفق به أي يتّكأ عليه من اليد. قال الواحديّ: كثير من النحويّين يجعلون «إلى» هنا بمعنى «مع» و يوجبون غسل المرفق و هو مذهب أكثر الفقهاء. و قال الزجّاج:

لو كان معناه مع المرافق، لم يكن في المرافق فائدة و كانت اليد كلّها يجب أن تغسل، لكنّه لمّا قيل: «إلى المرافق» اقتطعت في الغسل من حدّ المرفق فالمرافق حدّ ما ينتهى إليه في الغسل منها، و الظاهر على ما ذكره.

لكنّ الامّة أجمعت على أنّ من بدأ من المرفقين في غسل اليدين صحّ وضوؤه

ص: 259

و اختلفوا في صحّة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرافق.

و أجمعت الامّة أيضا على أنّ من غسل المرفقين صحّ وضوؤه و اختلفوا في من لم يغسلها هل يصحّ وضوؤه؟ و قال الشافعيّ: لا أعلم خلافا في أنّ المرافق يجب غسلها.

و ممّا جاء في القرآن «إلى» بمعنى «مع» قوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ»* (1) أي مع اللّه، و قوله: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ» (2) أي مع أموالكم، و نحوه قول امرئ القيس:

له كفل كالدعص بلّله الندى إلى حارك مثل الرتاج المضبّب

و في أمثال ذلك كثرة.

[وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و هذا أمر بمسح الرأس و المسح أن تمسح شيئا بيدك كمسح العرق عن جبينك، و الظاهر لا يوجب التعميم في مسح الرأس لأنّ من مسح البعض يسمّى ماسحا، و إلى هذا ذهب أصحابنا قالوا: يجب أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح، و به قال ابن عمرو إبراهيم و الشعبيّ، و هو مذهب الشافعيّ. و قيل: يجب مسح جميع الرأس، و هو مذهب مالك. و قيل: يجب مسح ربع الرأس فإنّ رسول اللّه كان يمسح على ناصيته و هي قريب من ربع الرأس، عن أبي حنيفة، و رويت عنه روايات في ذلك لا نطول بذكرها.

[وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اختلف في ذلك فقال جمهور الفقهاء: إنّ فرضهما الغسل.

و قالت الإماميّة: فرضهما المسح دون غيره، و به قال عكرمة. و قد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة و التابعين كابن عبّاس و أنس و أبي العالية و الشعبيّ، و قال الحسن البصريّ بالتخيير بين المسح و الغسل و إليه ذهب الطبريّ و الجبّائيّ إلّا أنّهما قالا:

يجب مسح القدمين و لا يجوز الاقتصار على مسح ظاهر القدم. قال ناصر الحقّ- من جملة أئمّة الزيديّة-: يجب الجمع بين المسح و الغسل.

و روي عن ابن عبّاس أنّه وصف وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فمسح على رجليه. و روي عنه أنّه قال: إنّ في كتاب اللّه المسح و يأبى الناس إلّا الغسل، و قال: الوضوء غسلتان و

ص: 260


1- آل عمران: 52. الصف: 14.
2- النساء: 2.

مسحتان. و قال قتادة: فرض اللّه غسلتين و مسحتين. و روى ابن عليّة عن حميد عن موسى ابن أنس أنّه قال لأنس و نحن عنده: إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال:

اغسلوا وجوهكم و أيديكم و امسحوا برءوسكم، و إنّه ليس شي ء من بني آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما و ظهورهما و عراقيبهما؛ فقال أنس: صدق اللّه و كذب الحجّاج قال اللّه تعالى: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» قال: فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. و قال الشعبيّ: نزل جبرائيل عليه السّلام بالمسح ثمّ قال: إنّ في التيمّم يمسح ما كان غسلا و يلقي ما كان مسحا. و قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنّما كان يمسح عليهما.

و أمّا ما روي عن سادة أهل البيت عليهم السّلام في ذلك فأكثر من أن يحصى فمن ذلك ما روى الحسين بن سعيد الأهوازيّ عن فضالة عن حمّاد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال:

سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المسح على الرجلين، فقال: هو الّذي نزل به جبرائيل. و عنه عن أحمد بن محمّد قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفّه على الأصابع ثمّ مسحها إلى الكعبين فقلت له: لو أنّ رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين؟ قال: لا إلّا بكفّه كلّها.

أمّا وجه القراءتين في «أَرْجُلَكُمْ» فمن قال: بالغسل حمل الجرّ فيه على أنّه عطف على «بِرُؤُسِكُمْ» و قال: المراد بالمسح هو الغسل. و روي عن أبي زيد أنّه قال: المسح خفيف الغسل، فقد قالوا: تمسّحت للصلاة، و قوّى ذلك بأنّ التحديد و التوقيت إنّما جاء في المغسول و لم يجي ء في الممسوح، فلمّا وقع التحديد في المسح علم أنّه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، و هذا قول أبي عليّ الفارسيّ. و قال بعضهم: هو خفض على الجوار كما قالوا: جحر ضبّ خرب، و «خرب» من صفات الجحر لا الضبّ و كما قال امرؤ القيس:

كأنّ ثبيرا في عرانين و بله كبير أناس في بجاد مزمّل

و قال الزجّاج: إذا قرئ بالجرّ يكون عطفا على الرؤوس فيقتضي كونه ممسوحا،

ص: 261

و ذكر عن بعض السلف أنّه قال: نزل جبرائيل بالمسح و السنّة الغسل، قال: و الخفض على الجوار لا يجوز في كتاب اللّه تعالى، و لكنّ المسح على هذا التحديد في القرآن كالغسل.

و قال الأخفش: هو معطوف على «الرؤوس» في اللفظ مقطوع عنه في المعنى كقول الشاعر:

«علّفتها تبنا و ماء باردا» المعنى: و سقيتها ماء باردا.

و أمّا القراءة بالنصب فقالوا فيه: إنّه معطوف على «أَيْدِيَكُمْ» لأنّا رأينا فقهاء الأمصار عملوا على الغسل دون المسح و لما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله رأى قوما توضّؤوا و أعقابهم تلوح، فقال: ويل للعراقيب من النار، ذكره أبو عليّ الفارسيّ.

و أمّا من قال: بوجوب مسح الرجلين حمل الجرّ و النصب في «وَ أَرْجُلَكُمْ» على ظاهره من غير تعسّف؛ فالجرّ للعطف على الرؤوس و النصب للعطف على موضع الجار و المجرور و أمثال ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى قالوا: «ليس بقائم و لا ذاهبا» و أنشد:

معاوي إنّنا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا

و قال تأبّط شرّا:

هل أنت باعث دينار لحاجتناأو عبد رب أخا عوف بن مخراق

فعطف بعبد على موضع «دينار» فإنّه منصوب على المعنى.

و أبعد من ذلك قول الشاعر:

جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل إخوة منظور بن سيّار

فإنّه لمّا كان معنى جئني هات أو احضر لي مثلهم عطف بالنصب على المعنى.

و أجابوا الأوّلين عمّا ذكروه في وجه الجرّ و النصب بأجوبة نوردها على وجه الإيجاز، قالوا: ما ذكروه أوّلا من أنّ المراد بالمسح الغسل فباطل من وجوه:

أحدها أنّ فائدة اللفظين في اللغة و الشرع مختلفة في المعنى و قد فرّق اللّه سبحانه بين الأعضاء الممسوحة، فكيف يكون معنى المسح و الغسل واحدا؟

ص: 262

و ثانيها أنّ «الأرجل» إذا كان معطوفة على «الرؤوس»، و كان الفرض في الرؤوس المسح الّذي ليس بغسل بلا خلاف فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك لأنّ حقيقة العطف تقتضي ذلك.

و ثالثها أنّ المسح لو كان بمعنى الغسل لسقط استدلالهم بما رووه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه توضّأ و غسل رجليه؛ لأنّ على هذا لا ينكر أن يكون مسحهما فسمّوا المسح غسلا، و في هذا ما فيه.

فأمّا استشهاد أبي زيد بقولهم: «تمسّحت للصلاة» فالمعنى فيه أنّهم لمّا أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، و لم يجز أن يقولوا: تغسّلت للصلاة، لأنّ ذلك تشبيه بالغسل قالوا بدلا من ذلك: «تمسّحت» لأنّ المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوّزوا لذلك تعويلا على أنّ المراد مفهوم؛ و هذا لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل.

و أمّا ما قالوه في تحديد طهارة الرجلين فقد ذكر المرتضى رحمه اللّه في الجواب عنه أنّ ذلك لا يدلّ على الغسل؛ و ذلك لأنّ المسح فعل قد أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده كتحديد الغسل، و لو صرّح سبحانه فقال: و امسحوا أرجلكم و انتهوا بالمسح إلى الكعبين، لم يكن منكرا.

فإن قالوا: إنّ تحديد اليدين لمّا اقتضى الغسل فكذلك تحديد الرجلين يقتضي الغسل.

قلنا: إنّا لم نوجب الغسل في اليدين للتحديد بل للتصريح بغسلهما، و ليس كذلك في الرجلين.

و إن قالوا: عطف المحدود على المحدود أولى و أشبه بترتيب الكلام.

قلنا: هذا لا يصحّ لأنّ الأيدي محدودة و هي معطوفة على الوجوه الّتي ليست في الآية محدودة فإذا جاز عطف الأرجل و هي محدودة على الرؤوس الّتي ليست محدودة، و هذا أشبه ممّا ذكرتموه لأنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود و هو الوجه و عطف

ص: 263

عضو مغسول محدود عليه ثمّ استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود فيجب أن يكون الأرجل ممسوحة و هي محدودة معطوفة على الرؤوس دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود، و عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود.

و أمّا من قال: إنّه عطف على الجوار، فقد ذكرنا عن الزجّاج أنّه لم يجوّز ذلك في القرآن، و من أجاز ذلك في الكلام فإنّما يجوّز مع فقد حرف العطف. و كلّ ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائل بين هذا و ذلك، و أيضا فإنّ المجاورة إنّما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس و الأمن من الاشتباه فإنّ أحدا لا يشتبه عليه أنّ «خربا» لا يكون من صفة الضبّ و لفظة «مزمّل» لا يكون من صفة البجاد، و ليس كذلك «الأرجل» فإنّها تجوز أن تكون ممسوحة كالرؤوس، و أيضا فإنّ المحقّقين من النحويّين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزا في كلام العرب، و قالوا في «جحر ضبّ خرب»:

إنّهم أرادوا خرب جحره فحذف المضاف الّذي هو جحر و أقيم المضاف إليه- و هو الضمير المجرور- مقامه و إذا ارتفع الضمير استكن في خرب، و كذلك القول في «كبيرا ناس في بجاد مزمّل» فتقديره: مزمّل كبيره، فبطل الإعراب بالمجاورة جملة، و هذا واضح لمن تدبّره.

و أمّا من جعله مثل قول الشاعر: «علّفتها تبنا و ماء باردا» كأنّه قدّر في الآية «اغسلوا أرجلكم» فقوله أبعد من الجميع لأنّ مثل ذلك لو جاز في كتاب اللّه تعالى على ضعفه و بعده في سائر الكلام فإنّما يجوز إذا استحال حمله على ظاهره، و أمّا إذا كان الكلام مستقيما و معناه ظاهرا فكيف يجوز مثل هذا التقدير الشاذّ البعيد؟

و أمّا ما قاله أبو عليّ في القراءة بالنصب على أنّه معطوف على «الأيدي» فقد أجاب عنه المرتضى رحمه اللّه بأن قال: جعل التأثير في الكلام للقريب أولى من جعله للبعيد فنصب «الأرجل» عطفا على الموضع أولى من عطفها على «الأيدي» و «الوجوه» على أنّ الجملة الاولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت و بطل حكمها باستئناف الجملة الثانية، و لا يجوز بعد انقطاع حكم جملة الاولى أن تعطف على ما قبلها؛ فإنّ ذلك يجري مجرى قولهم: «ضربت زيدا و عمرا و أكرمت خالدا و بكرا» فإنّ ردّ بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في

ص: 264

الكلام الّذي لا يسوغ سواه و لا يجوز ردّه إلى الضرب الّذي قد انقطع حكمه و لو جاز ذلك أيضا لترجّح ما ذكرناه لتطابق معنى القراءتين و لا يتنافيان.

فأمّا ما روي في الحديث أنّه صلى اللّه عليه و آله قال: ويل للعراقيب من النار، و غير ذلك من الأخبار الّتي رووها عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه توضّأ و غسل رجليه، فالكلام في ذلك أنّه لا يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن المعلوم بظاهر الأخبار الّذي لا يوجب علما، و إنّما يقتضي الظنّ.

على أنّ هذه الأخبار معارضة بأخبار كثيرة وردت من طرقهم و وجدت في كتبهم و نقلت عن شيوخهم مثل ما روي عن أوس بن أوس أنّه قال: رأيت النبيّ صلى اللّه عليه و آله توضّأ و مسح على نعليه ثمّ قام فصلّى. و عن حذيفة قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سباطة قوم فبال عليها ثمّ دعا بماء فتوضّأ و مسح على قدميه، و ذكره أبو عبيدة في غريب الحديث، إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره. و قوله: ويل للعراقيب من النار، فقد روي فيه أنّ قوما من أجلاف الأعراب كانوا يبولون و هم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم و أرجلهم فلا يغسلونها و يدخلون المسجد للصلاة، و كان ذلك سببا لهذا الوعيد.

و أمّا الكعبان فقد اختلف في معناهما فعند الإماميّة هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند مقعد الشراك و واقفهم في ذلك محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة و إن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع. و قال جمهور المفسّرين و الفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين.

قالوا: و لو كان كما قالوه لقال سبحانه: و أرجلكم إلى الكعاب، و لم يقل: إلى الكعبين؛ لأنّ على ذلك القول يكون في كلّ رجل كعبان.

[وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا] معناه: إن كنتم جنبا عند القيام إلى الصلاة فتطهّروا بالاغتسال، و هو أن تغسلوا جميع البدن. و الجنابة إنّما تكون بإنزال الماء الدافق على كلّ حال أو بالتقاء الختانين و حدّه غيبوبة الحشفة في الفرج سواء كان معه إنزال أو لم يكن.

ص: 265

[وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ (1) أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ] و الغائط هو المكان الغائر المطمئنّ و هو كناية عن الحدث، لأنّ المعتاد عندهم أنّ من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.

[أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ] و ملامسة النساء مماسّة بشرة الرجل بشرة المرأة و هي كناية عن الجماع و مثل هذه الكنايات من الآداب القرآنيّة؛ إذ التصريح في مثل هذه الموارد مستهجن و مراعاة الأدب من محسّنات الكلام و المتكلّم؛ قال أيّوب: «ربّ إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (2) فقد تأدّب من وجهين: أحدهما أنّه لم يقل: أمسستني بالضرّ، و الآخر لم يقل: ارحمني، بل عرّض تعريضا فقال: «أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قال إبراهيم: «وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (3) و لم يقل: إذا مرضتني، حفظا للأدب.

و كما أنّه يلزم حفظ الأدب في الأقوال كذا يلزم مراعاته في الأفعال و الأعمال و الحركات، و حقيقة الأدب حفظ السرّ و قبول سنّة صاحب الشريعة، و لمّا كان حبّ الدنيا الّذي هو الداء المهلك غلب على الطباع قلّ المؤدّب و المتأدّب، و اصطلحا في الدهنة كي لا ينكشف فضائحهم فامتنعوا عن تأديب بعضهم بعضا، فقلّ الدواء و الطبيب و كثر المرض و المرضى.

[فَلَمْ تَجِدُوا ماءً] و المراد عدم التمكّن من استعماله؛ لأنّ ما لا يتمكّن من استعماله كالمفقود.

[فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً] أي اقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا. و الصعيد هو وجه الأرض ترابا أو غيره، سمّي صعيدا لكونه صاعدا، و الطيّب بمعنى الطاهر.

[فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من ذلك الصعيد، و المعنى: بعد وضعهما على الصعيد إلى الوجوه و الأيدي من غير أن يتخلّلها ما يوجب الفصل، و عند الجماعة

ص: 266


1- هنا ينتهى الساقط من الأصل.
2- الأنبياء: 73، و لفظ الآية هكذا: «وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
3- الشعراء: 80.

مسح الأيدي إلى المرفقين؛ قالوا: لأنّه بدل من الوضوء فيقدّر بقدره. و عندنا مسح الأيدي من الزندين.

[ما يُرِيدُ اللَّهُ بالأمر بالطهارة [لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و يضيق عليكم في الدين [وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ لتكونوا منظّفون و مطهّرون، أو المراد: يريد ليطهّركم من الذنوب؛ فإنّ الطهارة و الوضوء مكفّرة لها كما روي أنّ رسول اللّه قال: أيّما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثمّ غسل كفّيه نزلت خطيئة كفّيه مع أوّل قطرة فإذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه و شفتيه مع أوّل قطرة و إذا غسل وجهه و يديه سلم من كلّ ذنب هو عليه.

أقول:- إن صحّ الخبر- لعلّ المراد من الذنوب الصغائر.

و قيل. المعنى في قوله: «وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» أي يريد أن يطهّركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء.

[وَ لِيُتِمَ بشرعه و حكمه [نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدين و برخصه و عزائمه- و الرخصة ما شرّع نباء على الاختيار و العزيمة ما شرّع إصالة- مثل أن تمّم سبحانه نعمته بإباحته لكم التيمّم و جعله سبحانه الصعيد لكم طهورا عوض الوضوء و الغسل رخصة لكم منه تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا اللّه على نعمته و هي ما أمركم به و نهاكم عنه.

قال الطبرسيّ: و تضمّنت هذه الآية أحكام الوضوء و الغسل و التيمّم و مسائلها المتفرّعة منها مبسوطة في كتب الفقه.

[سورة المائدة (5): آية 7]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

. قال سبحانه: «نِعْمَةَ اللَّهِ» و لم يقل: نعم اللّه، لأنّه ذهب مذهب الجنس في ذلك و جملة النعم تسمّى نعمة كما أنّ قطاعا من الأرض تسمّى أرضا.

و قوله: [وَ اذْكُرُوا] مشعر لسبق النسيان فكيف نسيانها مع كثرتها و هي متوالية و متواترة علينا؟ و ذلك أنّها بكثرتها و تعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصارت غلبة ظهورها

ص: 267

و كثرتها من الحياة و الصحّة و العقل و الهداية و الصون عن الآفات سببا لوقوعها في محلّ النسيان و هو مثل قولهم: سبحان من احتجب عن العقول لشدّة ظهوره و اختفى عنها بكمال نوره، فالنعمة موجبة للانقياد و القبول لمراتب التكليف و العبوديّة و السبب الآخر بكونهم منقادين بأوامر اللّه.

قوله تعالى: [وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ و المواثقة: المعاهدة.

و للمفسّرين في تفسير هذا الميثاق وجوه قيل: المراد هو المواثيق الّتي جرت بين رسول اللّه و بينهم على البيعة و السمع و الطاعة في المحبوب و المكروه، مثل مبايعته مع الأنصار في أوّل الأمر و مبايعته عامّة المؤمنين تحت الشجرة، و أضاف الميثاق مع الرسول إلى نفسه سبحانه و ذلك مثل قوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (1) و مثل قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ». (2) قيل- و القائل ابن عبّاس-: هو الميثاق الّذي أخذه اللّه على بني إسرائيل حين أخذ منهم العهد بالعمل بالتوراة و بكلّ ما فيها، فلمّا كان من جملتها البشارة بمقدم محمّد صلى اللّه عليه و آله لزمهم الإقرار بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله.

و قال الكلبيّ و مجاهد و مقاتل: هو الميثاق الّذي أخذه اللّه منهم حين أخرجهم من ظهر آدم و أشهدهم على أنفسهم: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ»؟

فإن قيل: إنّ بني آدم لا يذكرون هذا العهد و الميثاق فكيف يؤمرون بحفظه؟

فإنّه لمّا أخبر اللّه بأنّه كان ذلك حاصلا فقد حصل القطع بحصوله فحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد.

و قال السدّيّ: المراد بالميثاق الدلائل العقليّة و الشرعيّة الّتي نصبها اللّه تعالى على التوحيد و الشرائع، و هو اختيار أكثر المتكلّمين.

[إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا] ظرف «لواثقكم به» و فائدة التقييد به وجوب مراعاته بتذكير قولهم [وَ اتَّقُوا اللَّهَ من المخالفة [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] من الصدور المنشرحة و الصدور

ص: 268


1- النساء: 80.
2- الفتح: 19.

المريضة فاعرض بنفسك على كتاب اللّه قال اللّه: «وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (1) فهل انتهيت؟

قال اللّه: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ» (2) فهل تداركت لذلك اليوم؟ و ليس هذا الإهمال إلّا لضعف الداعي فإنّ الباعث القويّ هو الخوف من اللّه و ذلك قليل.

قال صلى اللّه عليه و آله: رأس الحكمة مخافة اللّه قال اللّه: و عزّتي و جلالي لا أجمع على عبدي خوفين و لا أجمع له أمنين فإذا أمنني في الدنيا أخفته في القيامة و إذا خافني في الدنيا أمنته في القيامة. و الخوف سوط يسوق العبد إلى السعادة و علاج قلّة الخوف مشاهدة أحوال الأنبياء و الكمّلين بسماع ذلك مثل أنّ داود بسبب ترك أولى ضلّ أربعين يوما أبدا باكيا لا يرفع رأسه حتّى نبت المرعى من دموعه فحينئذ العاقل يعلم أنّه أحقّ بالخوف منهم فيقوى خوفه و كلّنا نزعم و ندّعي أنّنا خائفين و لكن لسنا بصادقين لأنّ للخوف آثارا فمن آثاره الزهد و عدم علاقه الدنيا، و للزهد أيضا درجات:

أحدها أن يزهد و نفسه مائلة إلى الدنيا و لكنّه يجاهدها فهذا بداية الزهد و هو متزهّد.

الثاني أن يتنفّر عن الدنيا و لا يميل إليها لعلمه بأنّ الجمع بينها و بين نعم الآخرة غير ممكن، و هذا هو الزهد.

أي بما تضمرونه في صدوركم و المراد بالصدور و هاهنا القلوب و إنّما قال: ذات الصدور، على لفظ التأنيث لأنّ المراد بذلك المعاني الّتي تحلّ القلوب و لم يقل: ذوات، لينبئ عن التفصيل في كلّ ذات.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 8 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)

ص: 269


1- النازعات: 40.
2- البقرة: 254.

لمّا ذكر سبحانه الوفاء بالعهود و الميثاق بيّن ما يلزم الوفاء به فقال:

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ مقيمين لأوامره مراعين لحقوقها [شُهَداءَ بِالْقِسْطِ] و العدل و الحقّ مبيّنين دين اللّه و حججه لأنّ الشاهد يبيّن ما شهد عليه. و قيل: معناه كونوا من أهل العدل الّذين حكم اللّه بأنّ مثلهم يكونون شهداء علي الناس يوم القيامة.

[وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ قال الزجّاج: من حرّك النون من شنآن أراد بغض قوم و من سكّن أراد بغيض قوم على أنّ الشنآن محرّكة مصدر و الشنآن بالسكون صفة.

[عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا] أي لا يحملنّكم بغضكم إيّاهم، و على القول الآخر لا يحملنّكم بغيض قوم و عدوّ قوم على أن تجوروا عليهم في حكمكم فيهم و لا تعدلوا في أمورهم فتجوروا في سيرتكم عليهم.

[اعْدِلُوا] و اعملوا بالعدل أيّها المؤمنون في أوليائكم و أعدائكم [هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل أقرب للتقوى.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ و خافوا عقابه بفعل الطاعات و اجتناب السيّئات [إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ] و عالم [بِما تَعْمَلُونَ أي بأعمالكم فيجازيكم عليها.

[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بوحدانيّة اللّه و أقرّوا بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الواجبات و المندوبات [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ] لذنوبهم و المراد به التغطية و الستر [وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ يريد ثوابا عظيما.

و وعد اللّه لا يقع فيه الخلف لأنّ دخول الخلف إنّما يكون إمّا للجهل حيث ينسى وعده و إمّا للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده و إمّا للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء و إمّا للحاجة فإذا كان اللّه منزّها عن كلّ هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالا فالإخبار بالوعد مثل الإتيان بالموعود به بل أوكد، و هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت.

ثمّ ذكر وعيد الكفّار فقال: [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ .

ص: 270

قال الرازيّ: هذه الآية نصّ قاطع في أنّ الخلود ليس إلّا للكفّار لأنّ قوله:

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» يفيد الحصر و المصاحبة يقتضي الملازمة.

[سورة المائدة (5): آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

النزول: قيل: إنّ المشركين في أوّل الأمر كانوا غالبين و المسلمين كانوا مقهورين و كان المشركون أبدا يريدون إيقاع البلاء و النهب بالمسلمين و اللّه تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام و عظمت شوكة المسلمين فقال:

[اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ و هم المشركون [أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالإيذاء و القتل [فَكَفَ اللّه بلطفه أيدي الكفّار [عَنْكُمْ أيّها المسلمون و مثل هذه الإنعام يوجب عليكم أن تتّقوا معاصيه.

ثمّ قال: [وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي كونوا مواظبين على طاعته.

و قيل في وجه النزول: إنّ الآية نزلت في وقعة خاصّة قال ابن عبّاس و الكلبيّ و مقاتل: كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله بعث سريّة إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلّا ثلاثة نفر أحدهم عمره بن اميّة الضمريّ و انصرف هو و آخر معه إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله ليخبراه خبر القوم فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبيّ صلى اللّه عليه و آله فقتلاهما و لم يعلما أنّ معهما أمانا فجاء قومهما يطلبون الدية فخرج النبيّ صلى اللّه عليه و آله و معه عليّ عليه السّلام و بعض الأصحاب حتّى دخلوا على بني النضير- و قد كانوا عاهدوا النبيّ على ترك القتال و على أن يعينوه في الديات- فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: رجل من أصحابي أصاب رجلين و معهما أمان منّي فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا: اجلس حتّى نطعمك و نعطيك ما تريد. ثمّ همّوا بالفتك به و بأصحابه. فنزل جبرئيل و أخبر بذلك فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الحال مع أصحابه و خرجوا فقال اليهود: إنّ قدورنا تغلي، فأعلمهم الرسول بما نزل من الوحي، و قيل: بل ألقوا حجرا عليه فأخذه جبرئيل.

ص: 271

و قيل: إنّ الرسول نزل منزلا و تفرّق الناس عنه و علّق رسول اللّه سيفه بشجرة فجاء أعرابيّ و سلّ سيف رسول اللّه فأقبل عليه و قال: من يمنعك منّي؟ قال صلى اللّه عليه و آله: اللّه، قالها ثلاثا فأسقطه جبرئيل من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال: من يمنعك منّي؟

فقال: لا أحد.

و قيل: إنّ المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة و ذلك بعسفان غزوة ذي أنمار فلمّا صلّوا ندم المشركون و قالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء الصلاة! فقيل لهم: إنّ للمسلمين بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم و آبائهم- يعنون صلاة العصر- فهمّوا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبرئيل بصلاة الخوف.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي راعوا حقوق شكر النعم عطف على «اذكروا» [وَ عَلَى اللَّهِ لا على غيره [فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه يكفيهم في إيصال كلّ خير و دفع كلّ شرّ، و التوكّل هو الاعتصام باللّه في جميع الأمور و محلّه القلب و الحركة بالظاهر لا تنافي توكّل القلب بعد ما تحقّق للعبد أنّ التقدير من قبل اللّه.

و أعلى مراتب التوكّل أن يكون بين يدي اللّه كالميّت بين يدي الغاسل تحرّكه القدرة الأزليّة و هو الّذي قوي يقينه، ألا ترى إلى قصّة إبراهيم و نمرود؟ حين أراد أن يلقاه في النار فلمّا رموه في النار جاءه جبرئيل و هو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ قال إبراهيم:

أمّا إليك فلا، وفاه بقوله: «حسبي اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ».

و من يكن اللّه حسبه و كافيه فقد فاز فوزا عظيما و قد قال اللّه: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» (1) فطالب الكفاية بغيره مكذّب بالآية.

قال صلى اللّه عليه و آله: لو أنّ العبد يتوكّل على اللّه حقّ توكّله لجعله كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا؛ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أيّها الناس لا يشغلكم المضمون في الرزق عن المعروض عليكم من العمل.

و المتوكّل لا يسأل و لا يردّ و لا يمسك خوف الفقر و يجعل نفسه بين يدي اللّه كالميّت

ص: 272


1- الزمر: 36.

بين يدي الغاسل يقلّبه حيث يشاء سواء كان شدّة أو رخاء فإنّ ما قضاه اللّه له خير له. و يكفيك في تفاوت الدرجة حال إبراهيم و هو في كفّة المنجنيق و حال يوسف و هو في السجن حيث قال: اذكرني عند ربّك، فلبث في السجن بضع سنين، و قد جعل اللّه النار على إبراهيم بردا و سلاما و الأرض وردا و رياحين.

و التوكّل من أعلى درجة المقرّبين و هو صعب بسبب تخليص الذهن و الخاطر بأنّ الأسباب غير مؤثّر في إيجاد الأمر مشكل بل الغالب يزعمون بالاشتراك كما يقولون:

لو لا فلان لقتلني فلان. و تخليص الذهن عن هذه المشاركة أمر صعب.

و التفويض أوسع معنى من التوكّل فإنّ المفوّض أسلم وجوده اللّه يفعل به ما يشاء من غير أن يخطر بباله مراده بخلاف المتوكّل فإنّه يطلب من اللّه أن يقوم بمراده فيجعله وكيلا في إصلاح أمره و مراده فالتوكّل من أعلى درجات المقرّبين و المؤمن لا يكون كاملا إلّا أن يتحلّى بهذه الحلية و يسير في طريق الحقّ بسيرة هذه الفضيلة و السالك الّذي هو في السلوك إذا كان عاريا عن هذه السيرة فهو ناقص في كلّ فضيلة بل خال عنها طالب للشهرة.

قيل: إنّه دخل حكيم على رجل فرأى دارا متجدّدة و فرشا مبسوطا و رأى صاحبها خاليا من الفضل و الأخلاق الحسنة فتنحنح الحكيم و بزق على وجه الرجل فقال الرجل:

ما هذا السفه أيّها الحكيم؟ فقال: بل هو عين الحكمة لأنّ البصاق لزق إلى أخسّ ما كان في الدار و لم أر في دارك أخسّ منك فجعلته مكانه لخلوّك عن الفضائل الباطنة.

[سورة المائدة (5): آية 12]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)

. و لمّا أمر اللّه سبحانه في الآيات السابقة المؤمنين بتذكّر نعمه و حفظ الميثاق و ذكر أنّ بني إسرائيل نقضوه و تركوا الوفاء به فلا تكونوا أيّها المؤمنون مثل أولئك في هذا

ص: 273

الخلق الذميم فشرح سبحانه قبح عادات اليهود في خيانة الرسل فقال:

[وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ أي باللّه قد أخذ اللّه عهد طائفة اليهود بإخلاص العبادة له و الإيمان برسله و ما يأتون به من الشرائع [وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً] أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر اثني عشر رجلا كالطلائع يتجسّسون أخبار أرض الشام و الجبابرة، و نقيب القوم هو الّذي ينقب عن الأسرار و مكنون الضمائر و يعلم دخيلة امور القوم و يعرف مناقبهم و هو الطريق إلى معرفة أمورهم؛ فاختار موسى من كلّ سبط رجلا يكون لهم نقيبا كفيلا زعيما أمينا فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأس الجبابرة و عظم خلقهم إلّا رجلين منهم: كالب بن يوفنا و يوشع بن نون.

و قيل: معناه أخذنا من كلّ سبط منهم ضمينا بما عقدنا عليهم من الميثاق في أمر دينهم.

قال البلخيّ: يجوز أن يكونوا رسلا و يجوز أن يكونوا قادة. و قال أبو مسلم:

بعثوا أنبياء ليقيموا الدين و يعلّموا الأسباط التوراة و يأمروهم بما فرض اللّه عليهم [وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ قيل: الخطاب لبني إسرائيل. و قيل: إنّه خطاب للنقباء و يجوز للنقباء و بني إسرائيل. و قال اللّه لهم فحذف كلمة «لهم» لدلالة قوله: «إِنِّي مَعَكُمْ» بالنصر و الغلبة إن قاتلتموا أعدائي و أعداءكم.

ثمّ قال: [لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ] معشر بني إسرائيل، و ذكر سبحانه جملة شرطيّة مركّبا من امور خمسة و هي قوله: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» [وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ] أي أعطيتموها [وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي و تصدّقون بما أتوا به من شرائع ديني [وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ و التعزير التوقير و التعظيم و النصرة و التقوية [وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] أي أنفقتم في سبيل اللّه و أعمال البرّ من أموالكم نفقة حسنة فكأنّه قرض من هذا الوجه. و معنى «حسنا» أي طيّبة النفس بها و أن لا يتبعه منّ و لا أذى، أو المراد حلالا [لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و أسقط عنكم سيّئاتكم، جواب للقسم المدلول عليه باللام سادّ مسدّ جواب الشرط [وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا] و تحت أشجارها و مساكنها [الْأَنْهارُ] الأربعة، و أخّر ذكر الإدخال لضرورة تقدّم التخلية على التحلية.

ص: 274

[فَمَنْ كَفَرَ] برسلي و بما عدّد في حيّز الشرط [بَعْدَ ذلِكَ الشرط المعلّق به الوعد العظيم [مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق الواضح ضلالا بيّنا و أخطأ خطاء فاحشا لا عذر معه أصلا. فإن قيل: إنّ من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل، نعم كذلك الأمر و لكنّ الضلال بعده أعظم لأنّ الكفر بعد النعمة أقبح فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر و بلغ النهاية القصوى.

قوله: [سورة المائدة (5): آية 13]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

[فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» زائدة مؤكّدة أي فبنقضهم [مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ و طردناهم عن رحمتنا، و في الكلام حذف اكتفي بدلالة الظاهر عليه و التقدير: فنقضوا عهدهم فلعنّاهم بنقضهم ذلك الميثاق و العهد و أبعدناهم من رحمتنا على وجه العقوبة. و قيل: معناه: مسخناهم قردة و خنازير. و قيل: عذّبناهم و ذلّلناهم بالجزية.

[وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً] يابسة غليظة لا تلين لقبول الحقّ فسلبناهم اللطف و التوفيق الّذي تنشرح به صدورهم حتّى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، و هذا كما يقول الإنسان لغيره: أفسدت سيفك، إذا ترك تعاهده. و قيل: معناه أخبرنا و بيّنا عن حال قلوبهم و ما هي عليها من القساوة و حكمنا بأنّهم لا يؤمنون و لا تنجع فيهم موعظة كما يقال: فلان جعل فلانا فاسقا و فلانا عدلا، أي أخبر و بيّن عن حالهما.

[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ و يفسّرونه على غير ما انزل فيكون التحريف بسوء التأويل و بالتغيير و التبديل كما غيّروا نعوت النبيّ صلى اللّه عليه و آله.

[وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا نصيبا ممّا أمروا به في كتابهم و هو الإيمان بمحمّد صلى اللّه عليه و آله و ضيّعوا ما ذكره اللّه في كتابهم ممّا فيه رشدهم.

[وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ الخائنة أي خيانة على أنّها مصدر كاللاغية

ص: 275

و الكاذبة مثل قوله: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» (1) أي لغوا، و المعنى: أنّ الغدر و الخيانة عادة مستمرّة لهم و لأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها فلا تزال ترى ذلك منهم. و يجوز أن يكون «الخائنة» صفة فالمعنى: لا تزال تطّلع على نفس خائنة أو ذات خيانة إلّا قليلا منهم لم يخونوا و هم الّذين آمنوا منهم كعبد اللّه بن سلام و أضرابه، (2) و هو استثناء من الضمير المجرور في «منهم».

[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ أي أعرض عنهم و لا تتعرّض لهم بالمعاقبة إن تابوا و آمنوا أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: الحكم مطلق فنسخ بآية السيف و هو قوله: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» (3).

[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح، و قيل: المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيّون بقوله «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» و هم الّذين ما نقضوا العهد.

[سورة المائدة (5): آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

. المراد من الآية أنّ سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في بعض المواثيق من عند اللّه.

[وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا] أي و أخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممّن قبلهم من اليهود و «من» متعلّقة «بأخذنا» و التقديم للاهتمام و إنّما قال سبحانه: «قالُوا إِنَّا نَصارى و لم يقل: و من النصارى، تنبيها على أنّهم نصارى بنسبتهم أنفسهم بهذه الأمم ادّعاء لنصرة اللّه بقولهم لعيسى «نحن أنصار اللّه» و الميثاق المأخوذ منهم هو ما أخذ اللّه عليهم في الإنجيل من الأمر المؤكّد و العهد باتّباع محمّد صلى اللّه عليه و آله و إظهار صفته و نعوته.

ص: 276


1- الغاشية: 11.
2- لا يخلو من شي ء فان عبد اللّه بن سلام اسلم قبل نزول الآية بمدة فالظاهر ان المراد به بعض اليهود الذين لم يسلموا حين نزول الآية. الميزان
3- التوبة: 29.

[فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ مرّ تفسيره [فَأَغْرَيْنا] أي ألصقنا و ألزمنا من غري بالشي ء إذا لزمه [بَيْنَهُمُ ظرف متعلّق بأغرينا بين اليهود و النصارى، و قيل: بين فرق النصارى فإنّ بعضهم يكفّر بعضا إلى يوم القيامة [الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ] و هي تباعد القلوب و النيّات [إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] غاية للإغراء أو للعداوة و البغضاء.

[وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ و يخبرهم في الآخرة بما عملوا، قيل: السبب في وقوع العداوة و الاختلاف بين النصارى هو رجل يقال له يونس و كان بينه و بين النصارى قتال قتل منهم خلقا كثيرا فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال فيقتل بعضهم بعضا فجاء إلى النصارى و جعل نفسه أعور و قال لهم: ألا تعرفونني؟ فقالوا: أنت الّذي فعلت ما فعلت و قتلت ما قتلت، فقال: قد فعلت ذلك كلّه و الآن تبت لأنّي رأيت عيسى في المنام نزل من السماء فلطم وجهي لطمة فقأ عيني و قال: أيّ شي ء تريد من قومي؟ تبت على يده ثمّ جئتكم لأكون بين ظهرانيكم و اعلّمكم شرائع دينكم كما علّمني عيسى في المنام.

فاتّخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة و فتح كوّة إلى الناس في الحائط و كان يتعبّد في الغرفة و ربّما كانوا يجتمعون إليه و يسألونه و يجيبهم من تلك الكوّة و ربّما يأمرهم بأن يجتمعوا و ينادي لهم من تلك الكوّة و يقول لهم بقول كان في الظاهر منكرا و ينكرون عليه فكان يفسّر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك فانقادوا كلّهم له و كانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به.

فقال يوما من الأيّام: اجتمعوا عندي فقد حضرني علم، فاجتمعوا فقال لهم: أليس خلق اللّه هذه الأشياء في الدنيا لمنفعة بني آدم؟ قالوا: نعم، فقال: لم تحرّمون على أنفسكم هذه الأشياء يعني الخمر و الخنزير و قد خلق لكم ما في الأرض جميعا؟ فأخذوا قوله فاستحلّوا الخمر و الخنزير.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعاهم و قال: قد حضرني علم، فاجتمعوا فقال لهم: من أيّ ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من أيّ ناحية تطلع القمر و النجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق، فقال: و من يرسلهم من المشرق؟ قالوا: اللّه تعالى، فقال:

ص: 277

اعلموا أنّه تعالى في قبل المشرق فإن صلّيتم له فصلّوا إليه، فحوّل صلاتهم إلى المشرق.

فلمّا مضى على ذلك أيّام دعا بطائفة منهم و أمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة فقال لهم: إنّي أريد أن أجعل نفسي الليلة قربانا لأجل عيسى و قد حضرني علم فأريد أن أخبركم في السرّ لتحفظوا ما عنّي و تدعوا الناس إلى ذلك بعدي- و يقال أيضا: إنّه أصبح يوما و فتح عينه الاخرى ثم دعاهم و قال لهم: جاءني عيسى الليلة و قال: قد رضيت عنك فمسح يده على عيني فبرئت و الآن أريد أن أجعل نفسي قربان له- ثمّ قال: هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى و يبرئ الأكمه و الأبرص إلّا اللّه؟ فقالوا: لا، فقال: إنّ عيسى قد فعل هذه الأشياء فاعلموا أنّه هو اللّه، فخرجوا من عنده.

ثمّ دعا بطائفة اخرى فأخبرهم بذلك أيضا و قال: إنّه كان ابنه.

ثمّ دعا بطائفة ثالثة و أخبرهم بذلك أيضا و قال لهم: إنّه ثالث ثلاثة. و أخبرهم أنّه يريد أن يجعل نفسه الليلة قربانا.

فلمّا كان بعض الليالي خرج من بين الناس فأصبحوا و جعل كلّ فريق يقول: علّمني كذا و كذا. و قال الفريق الآخر: أنت كاذب بل علّمني كذا و كذا. فوقع بينهم الجدال و القتال فاقتتلوا خلقا كثيرا و بقيت العداوة بينهم.

و هم ثلاث فرق منهم النسطوريّة قالوا: المسيح ابن اللّه. و الثانية الملكائيّة- و هم الروم- قالوا: إنّ اللّه تعالى ثالث ثلاثة المسيح و امّه و اللّه. و الفرقة الثالثة اليعقوبيّة قالوا: إنّ اللّه هو المسيح. انتهي كلام صاحب روح البيان.

و بالجملة فعلى العاقل أن يلاحظ قوله فإن الرجل يقتل ما بين فكّيه.

و الوجه في نسبة الإغراء إليه تعالى معناه: أنّا بسبب تركهم الميثاق أخطرنا على بال كلّ منهم ما يوجب الوحشة و المباينة عن صاحبه عقوبة لهم.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

ص: 278

ثمّ خاطب اليهود و النصارى فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ و الكتاب جنس شامل للتوراة و الإنجيل.

[قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا] يعني محمّد صلى اللّه عليه و آله الإضافة للتشريف و الإيذان بوجوب اتّباعه [يُبَيِّنُ لَكُمْ حالكونه صلى اللّه عليه و آله مبيّنا لكم على التدريج [كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ و ذلك أنّهم أخفوا صفة محمّد في التوراة و أخفوا أمر الرجم، ثمّ إنّ الرسول بيّن ذلك لهم و أخبرهم صلى اللّه عليه و آله بأسرار ما في كتابهم أنّه لم يتلمّذ عند أحد و لم يقرأ و هذه معجز له صلى اللّه عليه و آله.

[وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] و هذه أيضا صفته صلى اللّه عليه و آله أي لا يظهره إذا لم يضطرّ إليه بسبب أمر دينيّ صيانة لكم عن زيادة الافتضاح.

[قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ قيل: المراد من النور و الكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك و الشكّ و إبانة ما خفي على الناس من الحقّ، و العطف يلزم المغايرة و هاهنا لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات. و قيل: المراد من النور الرسول و سمّي الرسول نورا لأنّ أوّل شي ء أظهره الحقّ بنور قدرته من ظلمه العدم كان نور محمّد صلى اللّه عليه و آله قال صلى اللّه عليه و آله: كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام. و قيل: المراد القرآن.

[يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحّد الضمير لأنّهما في حكم الواحد فإنّ المقصود منهما دعوة الحقّ إلى الحقّ فكلاهما هاديان أي يهدي اللّه بمحمّد أو بالقرآن. كلامكم نور و أمركم رشد و وصيّتكم التقوى و فعلكم الخير و عادتكم الإحسان [مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي اتّبع برضاء اللّه في تصديق النبيّ و قبول شريعته [سُبُلَ السَّلامِ قيل: المراد من السلام هو اللّه أي شرائع اللّه و سبله الّتي شرعها لعباده و هو الدين. و قيل: المراد من السلام السلامة من كلّ ضرّ فمعنى الآية: يهدي إلى طرق السلامة من اتّبعه. و السلام و السلامة كالضلال و الضلالة و يهدي أي يفعل اللطف المؤدّي إلى سلوك طريق السلامة و الحقّ.

[وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] لأنّ الكفر يتحيّر فيه صاحبه كما يتحيّر في الظلام و يهتدى بالإيمان إلى النجاة كما يهتدى بالنور [بِإِذْنِهِ و توفيقه و تيسيره تعالى.

ص: 279

[وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو طريق الجنّة؛ قال الحقّيّ في تفسيره: و هذه الهداية عين الهداية إلى سبل السلام و إنّما عطف عليها تنزيلا للتغاير الوصفيّ منزلة التغاير الذاتيّ كما في قوله: «وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (1)».

[سورة المائدة (5): الآيات 17 الى 18]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

اللام في «لقد كفر» جواب القسم و التقدير: اقسم باللّه لقد كفر الّذين قالوا: كفّرهم اللّه لهذا القول لأنّهم قالوا على وجه التديّن و الاعتقاد و وصفوا المسيح و هو محدث بصفات القديم و قالوا: إله، و كلّ من كان كذلك كان كافرا البتّة فإنّهم جعلوا مخلوقة و عبده هو تعالى.

و هاهنا مسألة و هي أنّ أحدا من النصارى لا يقول: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ» إذا سألتهم فكيف يكون ذلك؟

و الجواب أنّهم و إن كانوا لا يصرّحون بعضهم بهذا القول الشنيع إلّا أنّ حاصل مذهبهم ليس إلّا ذلك.

و بيان ذلك أنّ اليعقوبيّة منهم يقولون بأنّ عيسى حلّ فيه جزء من الإلهيّة و كثيرا من الحلوليّة يقولون: إنّ اللّه يحلّ في بدن إنسان معيّن أو في روحه و بعض النصارى بل الكلّ يقولون: إنّ اقنوم الكلمة اتّحد بعيسى عليه السّلام. فاقنوم الكلمة إمّا أن يكون ذاتا أو صفة فإن كان ذاتا فذات اللّه قد حلّت في عيسى و اتّحدت بعيسى؛ فيكون عيسى هو

ص: 280


1- هود: 58.

الإله على هذا القول. و إن قلنا: إنّ الاقنوم عبارة عن الصفة فانتقال الصفة من ذات إلى ذات اخرى لو فرضنا أنّه معقول فانتقال اقنوم العلم مثلا عن ذات اللّه إلى عيسى يلزم خلوّ ذات اللّه عن العلم و من لم يكن عالما لم يكن إلها فحينئذ يكون الإله عيسى فثبت أنّ النصارى قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم. و الحلول و الاتّحاد باطل.

قال الشيخ سديد الدين محمود الحمصيّ أو أبوه في فساد القول بوحدة الوجود و تحريره و بيانه بأنّه تعالى لو كان وجوده عين وجود خلقه و لا شكّ في قعود أفراد الممكنات يوم انقسام ذاته تعالى و حينئذ إمّا أن يكون كلّ واحد من أجزائه تعالى إلها فيلزم تعدّد الآلهة و هو كفر و شرك أو لا يكون فتوقّف إلهيّته تعالى على اجتماع الأجزاء و الاجتماع يحتاج إلى جامع و مؤلّف و هو إمّا ذاته تعالى فيلزم كونه إلها قبل كونه إلها هذا خلف، و إمّا غيره فيلزم توقّفه في إلهيّته على غيره فيكون ممكنا مع كونه واجبا و هذا خلف؛ فلمّا أدّى القول بالاتّحاد إلى واحد هذه المحالات وجب كونه فاسدا و محالا.

[قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] فاحتجّ سبحانه على فساد هذا القول بقوله: «قل» يا محمّد: «فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ» و هذه جملة شرطيّة قدّم فيها الجزاء على الشرط و التقدير:

إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم و أمّه و من في الأرض جميعا فمن ذا الّذي يقدر على دفعه و يمنعه عن إرادته؟

و المراد من قوله: [وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً] يعني إنّ عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة و الخلقة و التركيب و التغيّر، و لمّا كان اللّه خالقا للكلّ وجب أن يكون خالقا لعيسى أيضا.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] و قال: «وَ ما بَيْنَهُما» بعد ذكر السماوات و الأرض و لم يقل: بينهنّ، أراد الصنفين [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] أن يخلقه فإن شاء خلق من ذكر و أنثى و إن شاء خلق من أنثى بغير ذكر و لا يلزم بكون المسيح خلق من غير ذكر أن يكون إلها.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فقول النصارى: «إنّ اللّه اتّحد بالمسيح فصار الناسوت لاهوتا يجب أن يتّخذ إلها و يعبد» غلط.

ص: 281

ثمّ حكى سبحانه عن الفريقين من أهل الكتاب [وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ فقالت اليهود: نحن أشياع ابنه عزير. و قالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح. و حاصل المعنى: نحن من اللّه بمنزله الأبناء للآباء و قرينا منه كقرب الولد لوالده و غضب اللّه علينا كغضب الرجل على ولده و يدّعون أنّ لهم فضلا و مرتبة عند اللّه على سائر الخلق.

فردّ سبحانه عليهم ذلك [قُلْ يا محمّد إلزاما لهم [فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صحّ ما زعمتم فلأيّ شي ء يعذّبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ؟ و قد اعترفتم بأنّه سيعذّبكم في الآخرة أيّاما معدودة بعدد أيّام عبادتكم العجل.

[بَلْ لستم كذلك [أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ من جنس ما خلق اللّه كسائر الناس من غير مزيّة لكم عليهم [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] أن يغفر له من اولئكم المخلوقين و هم الّذين آمنوا باللّه و برسله [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] أن يعذّبه منهم و هم الّذين كفروا به و برسله.

[وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] من الموجودات لا ينتمي إليه تعالى شي ء منها إلّا بالمملوكيّة و العبوديّة يتصرّف في ملكه كيف يشاء إيجادا و إعداما و إماتة و إثابة و تعذيبا فإنّى لهم ادّعاء ما زعموا؟ [وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] في الآخرة خاصّة لا إلي غيره فيجازي المحسن و المسي ء بما يستدعيه عمله و ليست المحبّة بالدعوى بل لها علامات.

تعصي الإله و أنت تظهر حبّه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

فإذا كان المصير إليه في الثواب و العقاب فطوبى لعبد تفكّر في عاقبة أمره فرغب في الزهد و الطاعة قبل مضيّ الوقت، قال المولويّ:

ز ابتداى كار آخر را ببين تا نباشى تو پشيمان يوم دين

حكي أنّ رجلا أتى إلى صائغ يسأله الميزان ليزن رضاض ذهب له فقال الصائغ:

اذهب فإنّه ليس لي غربال، فقال الرجل: لا تسخر بي ائت الميزان، فقال: إنّما قلت الصحيح ليس بي مكنة، قال الرجل: أطلب منك الميزان و أنت تجيبني بما يضحك منه، فقال: قلت الصحيح لأنّك شيخ مرتعش فعند الوزن يتفرّق رضاضك من يدك بسبب ارتعاشك فيسقط

ص: 282

إلي التراب فتحتاج إلى المكنة و الغربال للتخليص فقلت لك ما تحتاج إليه و يؤول أمرك.

[سورة المائدة (5): آية 19]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19)

. خاطب سبحانه أهل الكتاب لإلزامهم الحجّة برسول اللّه و استعطافهم فقال:

[يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا] يعني محمّد صلى اللّه عليه و آله يوضح لكم الشريعة و أعلام الدين، و فيه دلالة على أنّه سبحانه اختصّه من العلم بما ليس مع غيره [عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي على انقطاع و دروس من الأنبياء و الكتب.

و فيه دلالة على أنّ زمان الفترة لم تكن فيه نبيّ. و كان الفترة بين عيسى و محمّد صلى اللّه عليه و آله و كانت النبوّة متّصلة قبل ذلك في بني إسرائيل و سمّيت المدّة فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع، و فتر الشي ء فتورا إذا سكنت حركته.

[أَنْ تَقُولُوا] تعليل لمجي ء الرسول على تقدير حذف المضاف أي كراهة أن تقولوا عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين [ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ] يبشّرنا بالجنّة [وَ لا نَذِيرٍ] بالعقاب على المعصية فقطع عنهم عذرهم بإرسال رسوله و هو محمّد يبشّر كلّ مطيع بالثواب و يخوّف كل عاص بالعقاب.

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى و عيسى حيث كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبيّ و على الإرسال بعد الفترة ت كما فعله بين عيسى و محمّد حيث كان بينهما ستّمائة و تسعون سنة أو خمسمائة و ستّ و أربعون سنة (1) و أربعة أنبياء- على قول- ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب اسمه خالد بن سنان العبسيّ. و

ص: 283


1- الفترة بينهما عليهما السلام بناه على التاريخين المشهورين بالميلادى و الهجري يقرب من ستمائة و عشر سنين. و في رواية الربيع فيما سأله نافع مولى عمر عن ابن جعفر عليه السلام فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمد من سنة؟ فقال: أخبرك بقولي او بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا؛ قال اما في قولي فخمسمائة سنة و اما في قولك فستمائة سنة. البرهان (ج 1: 455).

قيل: لم يكن بعد عيسى إلّا محمّد صلى اللّه عليه و آله و هو الأنسب بما يظهر من معنى الفترة من التنوين من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأنّ الرسول قد بعث إليهم عند كمال حاجتهم إليه بسبب مضيّ دهر طويل بعد انقطاع الوحي ليعدّوه أعظم نعمة من اللّه.

قوله تعالى: [سورة المائدة (5): الآيات 20 الى 21]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)

. بيّن سبحانه صنع اليهود في المخالفة لنبيّهم تسلية لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله فقال:

و اذكر يا محمّد لأهل الكتاب ما حدت وقت قول موسى لبني إسرائيل ناصحا لهم:

[يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و إنعامه [إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ] من أقربائكم فأشدكم و شرّفكم بهم و لم يبعث في امّة من الأمم ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء و لا شرف أعظم من النبوّة.

[وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً] أي جعل فيكم أو منكم ملوكا كثيرة، و قيل: معناه و جعلكم أحرار تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط في مملكة فرعون بمنزلة أهل الجزية.

قال ابن عبّاس: يعني أصحاب خدم و حشم و كانوا أوّل من ملك الخدم و لم يكن لمن قبلهم خدم.

[وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر و إغراق العدوّ و تظليل الغمام و إنزال المنّ و السلوى و غير ذلك من الأمور العظام، و المراد بالعالمين الأمم الخالية إلى زمانهم.

[يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ] هي أرض بيت المقدّس قدّست و طهرت من الشرك و أصل التقدّس التطهّر و منه قيل للسطل الّذي بتطهّر به: القدس، و منه تقديس اللّه و هو تنزيهه عمّا لا يليق به [الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في اللوح المحفوظ أنّها يكون سكنا لكم إن آمنتم و أطعتم لقوله تعالى لهم بهم ما عصوا: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ (1)».

ص: 284


1- السورة: 26.

[وَ لا تَرْتَدُّوا] أي لا ترجعوا [عَلى أَدْبارِكُمْ أي مدبرين خوفا من الجبابرة فهو حال من «فاعل ترتدّوا» [فَتَنْقَلِبُوا] و تنصرفوا حالكونهم [خاسِرِينَ مغبونين بفوات ثواب الدارين.

و مجمل القصّة أنّه لمّا عبر موسى و بنو إسرائيل البحر و هلك الفرعون أمرهم اللّه بدخول الأرض المقدّسة و كان الأمر عزيمة كما أمروا بالصلاة فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا عن الدخول فبعث من كلّ سبط رجلا و هم الّذين ذكر اللّه في قوله: «وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً».

فعاينوا من عظم شأن الجبابرة و قوّتهم و أجسامهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى بذلك فأمرهم موسى أن يكتموا ذلك فوفى و نصح اثنان منهم و هما يوشع بن نون من سبط ابن يامين أو سبط يوسف و الثاني كالب ابن يوفنا من سبط يهودا و عصى العشرة و أخبروا بذلك- و قيل: كتم الخمسة منهم و أظهر الباقون.- و فشى الخبر في الناس فقالوا: إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا و أهلينا غنيمة لهم و همّوا بالانصراف إلى مصر و همّوا بيوشع و كالب و أرادوا أن يرجموهما بالحجارة فاغتاظ لذلك موسى و قال: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي».

فأوحى اللّه إليه أنّهم سيتيهون في الأرض أربعين سنة و إنّما يخرج منهم من لم يعص اللّه في ذلك فبقوا في التيه أربعين سنة في ستّة عشر فرسخا أو تسعة فراسخ و هم ستّمائة ألف مقاتل لا تنخرق ثيابهم و نزل عليهم المنّ و السلوى.

و ماتت النقباء غير يوشع بن نون و كالب و مات أكثرهم و نشأ ذراريهم فخرجوا إلى حرب أريحا و فتحوها.

و اختلفوا فيمن فتحها؛ فقيل: فتحها موسى و يوشع على مقدّمته. و قيل: فتحها يوشع بعد موت موسى و كان قد توفّي و بعثه اللّه نبيّا.

روي أنّهم كانوا في المحاربة فغابت الشمس فدعا يوشع فردّ اللّه عليهم الشمس حتّى فتحوا أريحا قبل أن تدخل ليلة السبت.

و قيل: كانت وفات موسى و هارون في التيه و توفّي هارون قبل موسى بسنة و كان عمر

ص: 285

موسى مائة و عشرين سنة في ملك أفريدون و منوچهر و كان عمر يوشع مائة و ستّة و عشرين سنة و بقي بعد وفات موسى مدبّرا لأمر بني إسرائيل سبعا و عشرين سنة.

[سورة المائدة (5): الآيات 22 الى 24]

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)

ذكر سبحانه جواب القوم [قالُوا] يعني بني إسرائيل [يا مُوسى إِنَّ فِيها] أي في الأرض المقدّسة [قَوْماً] و جماعة [جَبَّارِينَ شديدي البطش و البأس. و الجبّار هو الّذي لا يبال بالقهر و الاستيلاء و أصله في النخل و هو ما طال وفات اليد و لم تنله، قال ابن عبّاس:

بلغ من جبريّة هؤلاء القوم أنّه لمّا بعث موسى من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم رآهم رجل من الجبّارين يقال له عوج فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان يحملها من بستانه و أتى بهم إلى الملك فنشرهم بين يديه و قال للملك تعجّبا منهم: هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك لهم: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا.

قال مجاهد: و كان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال من غيرهم بالخشب و يدخل في قشر رمّانة خمسة رجال.

أقول: إن صحّ ما قاله مجاهد فلعلّ ثمار أشجارهم غير متذلّية بل منبسطة على الأرض كالقرع و البطّيخ و إلّا كيف يتحمّل الغصن الناعم هذا الحمل الثقيل و لو كان الغصن في غاية الغلظ؟ و كان طول سرير عوج الّذي ينام عليه ثمانمائة ذراع (1).

[وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها] لقتالهم [حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا] يعني جبّارين فإنّه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فإن خرجوا منها بسبب من الأسباب الّتي لا تعلّق لنا بها [فَإِنَّا داخِلُونَ حينئذ.

ص: 286


1- هذا و أشباهه مما يقال في العمالقة مما يصعب على الطبع السليم ان يقبلها و التاريخ لا يساعدها الميزان.

[قالَ رَجُلانِ كأنّه قيل: هل اتّفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال: رجلان و هما كالب و يوشع [مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه و يتّقونه في مخالفة أمره و هو صفة لرجلان [أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا] بالنشب و الوقوف و الثقة بوعده و هو صفة ثانية لرجلان [ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلد الجبّارين و هو أريحا أي باغترهم و امنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلّا يجدوا للحرب مجالا [فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي باب بلدهم و هم فيه [فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة إلى القتال فإنّا شاهدناهم أنّ قلوبهم ضعيفة و إن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم و اهجموا عليهم.

[وَ عَلَى اللَّهِ خاصّة [فَتَوَكَّلُوا] في نصرة اللّه عليهم [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به تعالى مصدّقين بوعده.

[قالُوا] غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرّين على القول الأوّل [يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها] أي أرض الجبابرة [أَبَداً] دهرا طويلا [ما دامُوا فِيها] أي في أرضهم، و إنّما قالوا ذلك لأنّهم جبنوا و خافوا من قتالهم و لم يثقوا بوعد اللّه بالنصرة عليهم.

[فَاذْهَبْ الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمر كذلك فاذهب [أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا] أي فقاتلاهم [إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ إلى أن تظفر بهم و ترجع إلينا، قيل: إنّهم قالوا هذا القول لعدم الوثوق بمواعيد اللّه أو أنّهم كانوا مشبّهة و لذلك عبدوا العجل.

[سورة المائدة (5): الآيات 25 الى 26]

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

قال موسى لمّا رأى منهم من المخالفة على طريقة البثّ و الشكوى إلى اللّه مع رقّة القلب الّتي بمثلها يستجلب الرحمة و تستنزل النصرة [رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي من حيث الطاعة [فَافْرُقْ بَيْنَنا] يريد نفسه و أخاه [وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يريد الّذين عصوه و خالفوه.

[قالَ اللّه تعالى [فَإِنَّها] أي الأرض المقدّسة [مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها [أَرْبَعِينَ سَنَةً] ظرف لمحرّمة أي التحريم موقّت بهذه المدّة لا مؤبّدا فلا

ص: 287

يكون مناف لقوله «كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» و لا بمعنى أنّ كلّهم يدخلونها بعد المدّة بل يدخلها من بقي منهم بعد هذه المدّة لأن أكثرهم ماتوا في التيه [يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتحيّرون في البرّيّة، و التيهاء من الأرض الّتي لا يهتدي فيها.

[فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ و لا تحزن روي أنّ موسى ندم على دعائه عليهم فقيل:

لا تندم و لا تحزن عليهم فإنّهم أحقّاء بذلك. فلبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ و هم ستّمائة ألف مقاتل و كانوا يسرون جادّين كلّ يوم فإذا أمسوا كانوا في الموضع الّذي ارتحلوا منه و كان الغمام يظلّهم من حرّ الشمسى و يطلع بالليل عمود من نور يضي ء لهم و ينزل عليهم المنّ و السلوى و لا تطول شعورهم و إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله و ماؤهم من الحجر الّذي يحملونه، و هذه الإنعامات عليهم مع أنّهم معاقبون لما أنّ عقابهم كان بطريق العزل و التأديب.

و اختلف في أنّ موسى و هارون هل كانا في التيه مع بني إسرائيل أم لا؟ فقال الأكثر: إن كانا في التيه لكن كان لهما روح و سلامة كالنار لإبراهيم و ملائكة العذاب مع أنّ شأن النار الإحراق و لا نقول: إنّهما عذّبا في التيه حتّى يقال: إنّ الأنبياء لا يعذّبون بعذاب اللّه.

ثمّ إنّه قيل: إنّ موسى خرج من التيه بعد أربعين سنة و سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا و كان يوشع بن نون على مقدّمته فحارب الجبابرة و فتحها و أقام بها ما شاء اللّه ثمّ قبضه اللّه و لا يعلم قبره، و هذا أصحّ الأقوال لاتّفاق العلماء على أنّ عوج قتله موسى.

و أمّا القول في هارون قال السدّيّ: إنّ اللّه أوحى إلى موسى أنّي متوفّي هارون فائت به جبل كذا و كذا، فانطلق موسى و هارون نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها فإذا بيت مبنيّ و فيه سرير عليه فرش و إذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك أعجبه فقال: يا موسى إنّي احبّ أن أنام على هذا السرير، قال: نم، فلمّا نام هارون جاء ملك الموت فقال هارون: يا موسى خدعتني، فلمّا قبض رفع البيت و ذهبت تلك الشجرة و رفع السرير به إلى السماء فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل و ليس معه هارون قالوا: إنّ موسى قتل هارون و حسده على حبّ بني إسرائيل إيّاه. فقال لهم موسى: و يحكم كان أخي أفتروني

ص: 288

أقتل أخي؟ فلمّا كثروا عليه صلّى ركعتين ثمّ دعا فنزل السرير حتّى نظروا إليه بين السماء و الأرض فصدّقوه.

قال الحقّيّ في روح البيان: و عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: صعد موسى و هارون الجبل فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، فآذوه فأمر اللّه الملائكة فحملوه حتّى مرّوا به على بني إسرائيل و تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفت بنو إسرائيل أنّه قد مات فبرّأه اللّه ممّا قالوا: ثمّ إنّ الملائكة حملوه و دفنوه فلم يطّلع على موضع قبرة إلّا الرخم فجعله اللّه أصمّ و أبكم.

و قال عمرو بن ميمونة: مات هارون و موسى في التيه مات هارون قبل موسى، و أمّا وفات موسى قال وهب بن منبّه: خرج موسى لبعض حاجاته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قطّ أحسن منه من البهجة و النضرة، فقال لهم: يا ملائكة اللّه لمن تحفر هذا القبر؟ فقالوا لعبد كريم على ربّه، فقال موسى: إنّ لهذا العبد عند اللّه منزلة فما رأيت مضجعا أحسن من هذا، قالوا: يا كليم اللّه أ تحبّ أن يكون لك، قال: وددت، قالوا: فأنزل و اضطجع فيه و توجّه إلى ربّ. قال: فاضطجع فيه و توجّه إلى ربّه ثمّ تنفّس أسهل نفس قبض اللّه روحه ثمّ سوّت الملائكة عليه التراب. و قيل: إنّ ملك الموت أتاه بتفّاحة من الجنّة فشمّها فقبض روحه.

و روي أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال: كيف وجدت الموت؟ قال:

موسى: كشاة تسلخ و هي حسبه. و بالجملة فبعد مضيّ الأربعين امر يوشع بقتال الجبابرة فتوجّه ببني إسرائيل إلى أريحا معه تابوت العهد فأحاط بمدينة أريحا ستّة أشهر فلمّا كان السابع نفخوا في القرون و ضجّ صيحة واحدة فسقط سور المدينة و دخلوا فقاتلوا الجبّارين فهزموهم و هجموا عليهم يقتلونهم و كان القتال يوم الجمعة فبقيت بقيّة منهم و كادت الشمس تغرب و تدخل ليلة السبت فقال يوشع بن نون: اللهمّ اردد الشمس عليّ، و قال للشمس: إنّك في طاعة اللّه و أنا في طاعة اللّه فسأل اللّه الشمس أن يقف و القمر أن يقيم حتّى ننتقم من أعداء اللّه قبل دخول السبت، فردّت عليه الشمس و زيد في النهار ساعة حتّى قتلهم أجمعين و يتّبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا و ثلاثين ملكا حتّى غلب على جميع

ص: 289

أرض الشام و صارت لبني إسرائيل و فرّق عمّاله في نواحيها و جمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى اللّه إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم أن يبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: هلمّ ما عندك. فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالجواهر الثمينة و كان قد غلّه فجعله في القربان و جعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل و القربان، ثمّ مات يوشع و دفن في جبل إفرائيم.

ص: 290

هنا ينتهي الجزء الثالث من الكتاب. و هو مشتمل على 37 آية من سورة آل عمران (163- 200) و تمام سورة النساء و 26 آية من سورة المائدة و للّه الحمد و المنّة

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.