مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 12

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

سورة القيامة

اشارة

(مكية) قال ابي بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبرئيل له يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بيوم القيامة و جاء و وجهه مسفر على وجوه على الخلائق يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)

يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)

لمّا ختم اللّه سورة المدّثّر بذكر القيامة و أنّ الكافر لا يؤمن بها افتتح هذه السورة بذكر القيامة و أهوالها. قرئ لا اقسم و قرئ لأقسم، و من قرء لا اقسم كانت لا صلة كالّتي في قوله (1): «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» و ما كان لتأكيد مدخوله لا يدلّ على النفي و إن كان في الأصل للنفي قال الشاعر:

تذكّرت ليلى فاعترتني صبابةو كاد ضمير القلب لا يتقطّع

فإن قيل: لا و ما و الحروف الّتي هي زوائد و يؤتى بها للتأكيد إنّما تكون بين

ص: 2


1- سورة الحديد: 29.

كلامين مثل قوله (1): «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» و (2) «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» و مثل قوله (3): «فَبِما نَقْضِهِمْ»* و لا يكاد يزاد في أوّل الكلام.

فالجواب أنّ عنوان القرآن مجاري الكلام و السورة الواحدة، و الّذي يدلّ على ذلك أنّه قد يذكر الشي ء في سورة و يجي ء جوابه في سورة اخرى مثل قوله تعالى (4):

«يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» جاء جوابه في سورة اخرى (5) «ما أنت بنعمة ربّك بمجنون».

فعلى كون «لا» للتأكيد فالمعنى اقسم [بِيَوْمِ الْقِيامَةِ] و على كونها بمعنى النفي ردّ على المنكرين بالبعث أي ليس الأمر على ما يزعمون ثمّ ابتدأ بالقسم فقال: «أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فيكون تقدير الكلام: لا و اللّه إنّ البعث حقّ. و أمّا ما قيل: من أنّ معنى الآية نفي الإقسام لوضوح الأمر كما عن بعض المفسّرين فيأباه تعيين المقسم به.

[وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] و القول في لا اقسم مثل الأوّل و المراد بالنفس اللّوامة هي النفس الواقعة بين الأمّارة و المطمئنّة و لها وجهان: وجه يلي النفس الأمّارة تلومها على فعل المعاصي و ترك المبالغة و الإقدام على المخالفة و وجه يلي النفس المطمئنّة فإذا نظرت إلى المطمئنّة تنوّرت بنورانيّتها و انصبغت بصبغتها تلوم أيضا نفسها على التقصيرات الواقعة منها و المحذورات الكائنة عليها فهي لا تزال لائمة قائمة على سوق لومها إلى أن تحقّق بمقام الاطمينان و لذلك استحقّت أن أقسم اللّه بها على قيام البعث و الحشر.

و بالجملة فجواب القسم محذوف لدلالة قوله: [أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ على الجواب لأنّ مفاد هذه الآية بلى ليبعثنّ، و المراد من الإنسان الجنس و

ص: 3


1- سورة نوح: 25.
2- «آل عمران: 159.
3- «النساء: 154.
4- «الحجر: 6.
5- «القلم: 22.

الإسناد إلى الكلّ بحسب البعض كثير، و الهمزة لإنكار الواقع و استقباحه، و أن مخفّفة و ضمير الشأن اسمها محذوف، أي أ يحسب الإنسان الّذي ينكر البعث أنّ الشأن و القصّة لن نجمع عظامه البالية؟ فإنّ ذلك حسبان باطل فإنّا نجمعها بعد تشتّتها و بعد ما نسفتها الريح و طيّرتها في أقطار الأرض و ألفتها في البحار.

[بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ إيجاب لما ذكر بعد النفي و هو الجمع أي نجمعها حالكوننا قادرين أن نجمع سلامياته و نضمّ بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها و لطافتها فكيف بكبار العظام. جمع سلامى كحبارى و هي العظام الصغار في اليد و الرجل و في الحديث «كلّ سلامى من الناس عليه صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس» أي على صاحبه صدقة من أيّ أنواع الصدقة من قول أو فعل أو مال. و البنان مفرد اللفظ مجموع المعنى و في تأويل العظام إشارة إلى كبار الأعمال من الحسنة و السيّئة، و في البنان إلى صغار الأعمال من الحسنة و السيّئة فإنّ اللّه يجمع كلّا منهما بالحساب و يجازي عليها.

[بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ و اللام في «ليفجر» للتأكيد مثل قوله (1): «وَ أَنْصَحُ لَكُمْ» في أنصحكم. فأضرب سبحانه عن توبيخهم في إنكار البعث و وبّخهم بفجورهم أي يريد الإنسان ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات و يستديم عليه و يريد الحياة لا لما ينفعه بل ليتعاطى الفجور.

[يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ] أصل أيّان «أيّ آن» و هو خبر مقدّم لقوله: «يَوْمُ الْقِيامَةِ» أي متى يكون؟ قيل: هذا السؤال استهزاء فالمراد بالفجور حينئذ هو التكذيب و قيل: معناه إنّه يقول: أعمل و أتوب، يستعجل بالمعصية و يسوّف التوبة و يقول غد بعد غد.

[فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ] أي شخص و تحيّر فزعا عند معاينة الموت فلا يطرف من شدّة الخوف، و قيل: لما يرى من أهوال القيامة، من برق الرجل (2) إذا نظر إلى البرق فدهش ثمّ استعمل في كلّ حيرة و إن لم يكن هناك نظر إلى البرق.ر.

ص: 4


1- سورة الأعراف: 61.
2- من باب نصر.

[وَ خَسَفَ الْقَمَرُ] و ذهب ضوؤه و فيه ردّ لمن عبد القمر فإنّ القمر لو كان إلها كما زعمه العابد لدفع عن نفسه الخسوف [وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ] في ذهاب ضوئهما أو المراد جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو في الإلقاء إلى النار ليكون حسرة على من يعبدهما و جاز تكرار القمر لأنّه أخبر عنه بغير الخبر الأوّل.

[يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة [يَوْمَئِذٍ] أي يوم الواقع فيه هذه الأمور قول الآيس: [أَيْنَ الْمَفَرُّ] أين الفرار أو أين موضع الفرار قال الزجّاج: المفرّ بفتح الفاء الفرار و بالكسر موضع الفرار.

قال اللّه: [كَلَّا لا وَزَرَ] لا مهرب، مستعار من الجبل فإنّ الوزر محرّكة الجبل المنيع. و خبر «لا» محذوف أي لا ملجأ هناك أو في الوجود و من بلاغات الزمخشري في عباراته: اتل على كلّ من وزر: كلّا لا وزر.

[إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ] أي إليه تعالى استقرار العباد و إلى حكمه يعود أمرهم كقوله: (1) «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى ... وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى يدخل من يشاء الجنّة و من يستحقّ النار النار.

[يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ] أي يخبر كلّ امرئ حال العرض و المخبر هو اللّه [بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ] من حسنة أو سيئة أو بأوّل عمله و آخره أو بما قدّم من مال تصدّق به و بما أخّر فخلّفه. قال عبد اللّه الأنصاري: قدّمت الذنوب بالجرأة و عقّبت مالك للحسرة فقدّم التوبة حتّى تذهب الذنوب و لا تبقى و تصدّق بما لك فيبقى.

[بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] أي إنّ جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه و قيل: أقام جوارحه مقام نفسه و لذلك أنّث و المراد من الإنسان هاهنا الجوارح و قيل: الإنسان بصير بنفسه و عمله و التاء للمبالغة.

[وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي و لو اعتذر بكلّ عذر و جادل عن نفسه للذبّ عن نفسه بعد شهادة الجوارح لم ينفعه ذلك و قيل: المعاذير الستور و المعنى على هذا القول:

ص: 5


1- سورة العلق 8- 9.

و إن أسبل (1) الإنسان الستور ليخفي ما يعمل فإنّ نفسه شاهدة عليه.

[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 25]

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

[لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالقرآن [لِسانَكَ مادام جبرئيل يقرء و يلقي عليك [لِتَعْجَلَ بِهِ بأخذه مخافة أن ينفلت و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحرصه على ضبطه.

[إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك بحيث لا يخفى عليك شي ء من معانيه [وَ قُرْآنَهُ أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرءه متى شئت فالقرآن مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة، و القراءة ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل لكن لا يقال ذلك لكلّ جمع فلا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم.

[فَإِذا قَرَأْناهُ أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبرئيل، و إسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في التأنّي [فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي فاشرع فيه بعد فراغ جبرئيل منه بلا مهلة، و حاصل المعنى أنّه إذا جمعناه و أثبتناه في صدرك فاعمل به.

[ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل من معانيه و أحكامه و سمّي ما يشرح المبهم من الكلام بيانا، و ليس في الآية ما يدلّ على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما زعمه بعض و إنّما يدلّ على تأخير البيان عن وقت الخطاب.

[كَلَّا] أي لا يتدبّرون القرآن و ما فيه من البيان [بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ] أي أنتم تختارون الدنيا على العقبى فتعملون للدنيا لا للآخرة جهلا منكم و سوء اختيار.

ثمّ بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة فقال: [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ] يعني يوم القيامة [ناضِرَةٌ] ناعمة بهجة حسنة، و النضرة طراوة البشرة و جمالها و الناضر الغضّ الناعم من كلّ شي ء. و وجوه مبتدء و ناضرة خبره و صحّ وقوع النكرة مبتدء لأنّ المقام مقام تفصيل [إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ] قوله: «ناظِرَةٌ» خبر ثان للمبتدأ و النظر تقليب البصر و توجيه البصيرة لإدراك الشي ء و اللّه منزّه عن الإدراك بالبصر.

و اختلف في معنى النظر على وجهين: أحدهما أنّ معناه نظر العين و الثاني أنّه

ص: 6


1- أسبل الستر: أرخاه.

الانتظار. و اختلف من حمله على نظر العين علي قولين:

أحدهما أنّ المراد إلى ثواب ربّها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنّة حالا بعد حال فيزداد سرورها بذلك. و المراد من الوجوه أصحاب الوجوه روي ذلك عن جماعة من علماء المفسّرين من الصحابة و التابعين لهم و غيرهم و حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقام المضاف كما في قوله (1): «وَ جاءَ رَبُّكَ» أي أمر ربّك و قوله (2):

«وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» أي إلى طاعة العزيز الغفّار و قوله: (3) «إنّ الّذين يؤذون اللّه» أي أولياء اللّه.

و القول الثاني أنّ النظر بمعنى الرؤية أي الوجوه تنظر معاينة، رووا عن الكلبيّ و مقاتل و عطا و غيرهم من أهل السنّة. و هذا لا يجوز لأنّ كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة و اللحاظ، و اللّه يتعالى عن أن يشار إليه بالعين كما يجلّ عن أن يشار إليه بالأصابع و أيضا إنّ الرؤية بالحاسّة لا تتمّ إلّا بالمقابلة و التوجّه و اللّه يتعالى عن ذلك لأنّ رؤية الحاسّة لا تتمّ إلّا باتّصال الشعاع بالمرئيّ و اللّه منزّه عن اتّصال الشعاع به. ثمّ إنّ النظر في اللغة لا يفيد الرؤية و إنّما يفيد طلب الرؤية بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا الكلام ساقطا متناقضا و لأنّا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة و لا نعلمه رائيا بالضرورة بدلالة أنّا نسأله: هل رأيت أم لا؟ ففسد القول الأوّل بالرؤية إرادة المعاينة.

و أمّا من حمل النظر في الآية على الانتظار فإنّهم اختلفوا على أقوال:

أحدها أنّ المعنى منتظرة لثواب ربّها روي ذلك عن مجاهد و الحسن و سعيد ابن جبير و الضحّاك و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام. و من اعترض على هذا أنّ النظر بمعنى الانتظار لا يتعدّى بإلى و لا يقال: انتظرت إليه و إنّما يقال: انتظرته، فالجواب عنه على وجوه: منها أنّه قد جاء كثيرا في كلام العرب بمعنى الانتظار معدّى بإلى نحو قوله:

ص: 7


1- سورة الفجر: 22.
2- «المؤمن: 42.
3- «الأحزاب: 57.

وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن تنتظر الفلاحا

و كذلك الناظرة بمعنى المنتظرة مثل قوله تعالى: (1) «وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ» أي فمنتظرة و استعمل النظر بمعنى الانتظار معدّى بإلى كثيرا كقول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظرنظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

و نظائره كثيرة.

و منها أنّ معنى إلى في الآية اسم لا حرف و هو واحد الآلاء الّتي هي النعم فإنّ في واحده أربع لغات إلى و إلا و ألى و ألي مثل جدي و سقط التنوين بالإضافة و ليس لأحد أن يقول: إنّ هذا من قول المتأخّرين و قد سبقهم الإجماع، فإنّا لا نسلّم ذلك لما ذكرناه من أنّ عليّا و الحسن البصريّ و مجاهد و غيرهم قالوا: المراد بذلك:

تنتظر الثواب.

و منها أنّ المعنى قطعوا آمالهم عن كلّ شي ء سوى اللّه فكنّى سبحانه عن الطمع بالنظر كما أنّ الرعيّة تتوقّع نظر السلطان و تطمع إفضاله دون غيره.

فلو قيل: إذا كان المراد بالنظر نظر العين حقيقة و بمعنى الانتظار مجازا فكيف يحمل عليهما؟ فالجواب أنّه عند المتكلّمين في اصول الفقه يجوز أن يراد بلفظ واحد إذ لا تنافي بينهما و هو اختيار المرتضى و لم يجوّز أبو هاشم إلّا إذا تكلّم به مرّتين مرّة يريد النظر و مرّة يريد الانتظار.

فإن قيل: المنتظر لا يكون نعيمه خالصا فكيف يوصف أهل الجنّة بالانتظار فالجواب أنّ المنتظر لشي ء لا يحتاج إليه و هو واثق بوصوله إليه لا يهتمّ بذلك و لا ينغّص عيشه و سروره بالانتظار و إنّما يلحق المنتظر الهمّ إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال و يلحقه بفوته مضرّة. انتهى.

[وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ] الظرف متعلّق بقوله: [باسِرَةٌ] أي شديد العبوس مظلمة

ص: 8


1- سورة النمل: 35.

و هي وجوه الكفرة و المنافقين و البسر (1) الاستعجال بالشي ء قبل أوانه و ذلك بيان لحالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار فخصّ لفظ البسر.

[تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ] قيل: الظنّ هنا معناه اليقين و قيل: الظنّ بمعناه لا بمعنى اليقين لأنّه لو كان بمعنى العلم لكان «أن» بعده مخفّفة من المثقّلة و لا تقع أن المصدريّة بعد العلم، أي تظنّ بالأمارات أن تعمل بها داهية تفقر و تكسر ظهورهم فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارّة على الضدّ من حال الوجوه الظانّة الفاقرة لأنّ داهيتهم تقصم فقار الظهر و منه سمّي الفقير فانّ الفقير كسر فقار ظهره فجعله فقيرا أي مفقورا، فوجوه يومئذ ناظرة للتنوّر بنور الفيض و الجنّة و الإيصال بعالم السرور الدائم و وجوه كالحة باسرة لجهامة (2) ظلمة ما بها من الجحيم و البعد و الأهوال و سوء الجيران.

[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 30]

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)

[كَلَّا] ردع عن إيثار العاجلة على الآجلة أي ارتدعوا عن ذلك و تنبّهوا لما بين أيديكم من الموت الّذي ينقطع عنده ما بينكم و بين العاجلة من العلاقة [إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ الضمير للنفس أو الروح و إن لم يجر له ذكر لدلالة الكلام كقوله (3):

«ما ترك على ظهرها من دابّة» و التراقي العظام المكتنفة بالحلق و كنّي بذلك عن الإسفاء (4) على الموت.

[وَ قِيلَ مَنْ راقٍ قال من حضره من أهله: هل من راق يرقيه و طبيب يشافيه و يداويه؟ فلا يجدونه و التمسوا له الأطبّاء فلم يغنوا عنه من عذاب اللّه شيئا. و قيل:

المعنى قالت الملائكة: من يرقي بروحه، أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ عن ابن عبّاس و جماعة.

[وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ و أيقن المحتضر حين عاين ملك الموت و نزل ما به هو

ص: 9


1- بالفتح مصدر قولك بسره من باب نصر.
2- جهم- من باب كرم- جهامة، بالفتح: صار عابس الوجه.
3- سورة فاطر: 45.
4- الاسفاء في الشي ء: الاسراع فيه.

الفراق من الدنيا و عبّر عمّا حصل له من المعرفة حينئذ بالظنّ لأنّ الإنسان لشدّة حبّه للحياة الدنيا مادامت روحه متعلّقة ببدنه يطمع في الحياة و لا ينقطع رجاؤه. قال الرازي: هذه الآية تدلّ على أنّ الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنّ اللّه سمّى الموت فراقا و الفراق إنّما يكون إذا كانت الروح باقية فإنّ الفراق و الوصال صفة و هي تستدعي وجود الموصوف.

[وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ التفّت ساقه بساقه التواء إحداهما بالأخرى قال سعيد بن المسيّب: المراد بهما ساقاه حين تلفّان في أكعابه أو المراد التفّت شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنّ الساق مثل في الشدّة، وجه المجاز أنّ الإنسان إذا دهمته شدّة شمّر لها عن ساقيه فقيل للأمر الشديد «ساق» من حيث إنّ ظهورها لازم لظهور ذلك الأمر و قيل: المعنى هو أن يضطرب فلا يزال يمدّ إحدى رجليه و يرسل الأخرى فيلفّ إحداهما بالأخرى و حاصل المعاني أنّه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدّة إلّا جاءته أشدّ منها.

[سورة القيامة (75): الآيات 30 الى 34]

إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)

[إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى اللّه و إلى حكمه يساق الإنسان لا إلى غيره هنا لك و المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق و الألف و اللام عوض عن المضاف إليه أي سوق الإنسان.

[سورة القيامة (75): الآيات 31 الى 35]

فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)

[فَلا صَدَّقَ الإنسان ما يجب تصديقه من الرسول و القرآن أي لم يصدّق ف (لا) هنا بمعنى لم و حسّن دخول لا على الماضي تكراره كما تقول: لا قام و لا قعد.

و قيل: معنى لا صدّق لم يؤدّ زكاته و تقديم الزكاة على الصلاة مع أنّ دأب القرآن تقديم ذكر الصلاة مراعاة الفواصل [و لا صلّى ما فرض عليه و فيه دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون و مكلّفون بالفروع [وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى كذّب القرآن و الرسول و أعرض عن الطاعة.

[ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يرجع إلى أهله و بيته يختال في مشيه و يتبختر افتخارا بذلك و المطّ هو المدّ فإنّ المتبختر يمدّ خطاه و التمدّد في المشي من لوازم

ص: 10

التبختر فجعل كناية عنه فيكون أصله يتمطّط أبدلت الطاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال أو مأخوذ من المطا و هو الظهر فإنّه يلويه و يحرّكه في تبختره فألفه حينئذ مبدلة من واو، و في الحديث «إذا مشت امّتي المطيطا و خدمتهم فارس و الروم كان بأسهم بينهم» و المطيطا كحميراء مدّ اليدين في المشي.

[أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا تهديد من اللّه مستعمل في موضع الويل مشتقّ من الولي و المعنى وليك المكروه و العذاب يا أبا جهل و من تبعك و جاءت الرواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى فقال أبو جهل:

بأيّ شي ء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا و إنّي لأعزّ أهل الوادي فأنزل اللّه سبحانه بهذه الآية كما قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و التكرار للوعيد على الوعيد و قيل: معنى الآية وليك العذاب في الدنيا كما وقع له يوم بدر و وليك في القبر ثمّ أولى لك يوم القيامة فلذلك ادخل ثمّ أولى لك في النار.

[سورة القيامة (75): الآيات 36 الى 40]

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

[أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يؤمر و لا ينهى أي لا ينبغي أن يظنّ ذلك تقول: أسديت حاجتي و سديتها إذا أهملتها و لم تقضها [أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي كيف يظنّ أن يهمل و هو يرى في نفسه من تنقّل الأحوال ما يمكنه أن يستدلّ به على أنّ له صانعا حكيما أكمل عقله و أقدره في أموره فيعلم بذلك أنّه لا يجوز أن يهمله عن التكليف. و لمّا كان استبعادهم للإعادة استدلّ سبحانه ببدء خلقه على تحقّق الإعادة و البعث، و يمنى أي يصبّ و يراق في الرحم و سمّي منى لذلك لما يمنى فيها من دماء القرابين (1) و حاصل المعنى ألم يكن الإنسان في بدء خلقه ماء قليلا بخسّة القدر و استقدار الطبع و كان خسيس القدر أوّلا ثمّ استكمل في القدرة ثانيا حتّى صار بشرا سويّا فكيف يليق بمثل هذا أن يتمرّد عن طاعة خالقه و مدبّره.

[ثُمَّ كانَ عَلَقَةً] أي ثمّ كان المنيّ بعد أربعين يوما قطعة دم جامد غليظ أحمر بعد أن كان ماء قليلا أبيض [فَخَلَقَ فَسَوَّى أي فخلق من تلك العلقة خلقا في

ص: 11


1- جمع القربان.

الرحم و سوّى صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمّه و سوّاه إنسانا مستويا و أكمل قوّته و سوّاها للأفعال في جعله له جوارح و خصّ لكلّ جارحة من جوارحه عملا [فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى من الإنسان أو من المنيّ الصنفين. الذكر و الأنثى بدل من الزوجين.

[أَ لَيْسَ ذلِكَ الّذي فعل هذا الفعل العجيب [بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فهو أهون من خلق البدء في قياس العقل لوجود الأصل، و هو عجب الذنب أو العناصر الأصليّة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا هذه الآية: سبحانك اللّهمّ و يلي.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 12

سورة الإنسان

اشارة

و تسمّى سورة الدهر و سورة الأبرار.

و اختلفوا فيها فقيل: مكّيّة كلّها و قيل: مدنيّة كلّها و قيل: إنّها مدنيّة إلّا قوله: «و لا تطع منهم آثما أو كفورا» فإنّه مكّي و هو الصحيح.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرء سورة هل أتى كان جزاؤه على اللّه جنّة و حريرا و قال أبو جعفر عليه السّلام: و من قرء سورة هل أتى في كلّ غداة خميس زوّجه اللّه من الحور العين مائة عذراء و أربعة آلاف ثيّب و كان مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص: 13

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4)

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)

قيل: الأصل «أ هَلْ أَتى لأنّ هل فسّروه بمعنى قد و قيل: هل بمعنى الاستفهام التقريريّ أي أليس قد أتى عليك يا إنسان دهور و لم تكن شيئا مذكورا و لم تكن موجودا فوجدت. و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام و قيل: المراد به كلّ إنسان و الألف و اللام للحقيقة قيل: إنّه أتى على آدم أربعون لم يكن مذكورا لا في السماء و لا في الأرض بل كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح و روى العيّاشي باسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله: «لم يكن شيئا مذكورا» قال عليه السّلام:

كان شيئا و لم يكن مذكورا.

و قال بعض: المراد من الإنسان في الآية العلماء، لأنّهم كانوا لا يذكرون فصيّرهم اللّه بالعلم مذكورين بين الخاصّ و العامّ.

[إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ و هي ماء الرجل و المرأة [أَمْشاجٍ أي أخلاط من الماءين فأيّهما علا ماء صاحبه كان الشبه له عن ابن عبّاس و جماعة، و قيل: أطوار طورا نطفة و طورا علقة و طورا مضغة إلى أن صار إنسانا، و قيل: أراد

ص: 14

اختلاف ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء و حمراء و نطفة المرأة خضراء و صفراء فهي مختلفة الألوان، و قيل: نطفة مشجت و خلطت بدم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض و كما أنّ آدم أبوهم نفخ فيه الروح بعد مائة و عشرين سنة كذلك أولاده ينفخ فيهم الروح بعد مضيّ مائة و أربعين يوما و ما كان سنين في آدم كان أيّاما في أولاده.

[نَبْتَلِيهِ حال من فاعل «خلقنا» أي مريدين اختباره و ابتلاءه ليظهر أحوال بعضهم عن بعض من القبول و الردّ من السعادة و الشقاوة [فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً] ليتمكّن من استماع الآيات التنزيليّة و مشاهدة الآيات التكوينيّة فهو كالمسبّب عن إرادته فأعطيناه ما يصحّ معه التكليف و هو السمع و البصر و سائر آلات التمييز و موجبات معرفة التكليف.

[إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ و بيّنّا له الطريق و أزحنا عنه العلّة حتّى يتمكّن من أداء ما هو عليه و هو أدلّة العقل و الشرع الّتي يعمّ جميع المكلّفين [إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً] ليختار إمّا السعادة و إمّا الشقاوة، إمّا يقبل بحسن اختياره الشكر للّه و يعترف بنعمه و يقوم بالواجب عليه و إمّا أن يكفر و يجحد نعمه فيكون ضالًّا عن الصواب، فأيّهما اختار جوزي عليه و «شاكِراً» و «كَفُوراً» حالان من مفعول «هَدَيْناهُ» و قرأ أبو السماك بفتح الهمزة في «إمّا» و هي قراءة حسنة و المعنى: أمّا كونه شاكرا فبتوفيقنا و أمّا كونه كفورا فبسوء اختياره.

[إِنَّا أَعْتَدْنا] في الآخرة و هيّأنا، فإنّ الاعتداد إعداد الشي ء حتّى يكون عتيدا حاضرا متى احتيج إليه [لِلْكافِرِينَ من أفراد الإنسان الّذي هديناه السبيل [سَلاسِلَ بها يقادون إلى جهنّم، و تسلسل الشي ء اضطرب، كأنّه تصوّر منه تسلسل و السلسلة بالفتح اتّصال الشي ء بالشي ء و بالكسر دائرة من حديد و نحوه [وَ أَغْلالًا] بها يقيّدون إهانة و تعذيبا لا خوفا من الفرار جمع «غلّ» بالضم و هو ما تطوّق به الرقبة للتعذيب [وَ سَعِيراً] نارا بها يحرقون و هذا حال الكافرين باللّه و المشغولين عن الحقّ بسلاسل التعلّقات الشهويّة من حبّ الدنيا و لذّاتها المحرّمة و عدم انقيادهم للعبوديّة. و أمّا الشاكرين فشرع سبحانه في بيان حالهم بقوله:

ص: 15

[إِنَّ الْأَبْرارَ] جمع برّ مثل ربّ و أرباب أو جمع بارّ مثل شاهد و أشهاد و هو من يبرّ خالقه و يطيعه كمال الإطاعة، قيل: البرّ من لا يؤذي الذرّ و لا يضمر الشرّ:

و لا تؤذ غلا إن أردت كمالكافإنّ لها نفسا تطيب كمالكا

و برّ العبد ربّه أي توسّع في طاعته، و البرّ خلاف البحر و تصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير.

و قد روى الخاصّة و جماعة من العامّة أن هذه الآية «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جارية لهم تسمّى فضّة و هو المرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد و أبي صالح و ذلك أنّهم قالوا: مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فعاودهما جدّهما و وجوه العرب و قالوا:

يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا، فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهم اللّه و نذرت فاطمة عليها السّلام كذلك و كذلك فضّة فبرئا و ليس عندهم شي ء فاستقرض عليّ عليه السّلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ و قيل: إنّه أخذ ليغزل له صوفا و جاء به إلى فاطمة عليها السّلام فطحنت صاعا منها فاختبزته و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب و قرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم و سألهم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته و خبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام فإذا بيتيم في الباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته و خبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا إلّا الماء فلمّا كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى عليّ عليه السّلام و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بهما ضعف فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل جبرئيل بسورة هل أتى.

و في رواية عطا عن ابن عبّاس أنّ عليّا عليه السّلام آجر نفسه ليسقي نخلا بشي ء من شعير ليلة حتّى أصبح و قبض الشعير و طحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له الحريرة، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الحريرة، ثمّ الليلة الثانية

ص: 16

كذلك و ثمّ الثالثة كذلك أسير من المشركين، و ذكره الواحديّ في تفسيره.

و ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أباه حدّثه عن عبد اللّه بن ميمون عن الصادق عليه السّلام قال: كان عند فاطمة عليها السّلام شعير فجعلوه عصيدة (1) إلى آخر الحديث.

و في هذا دلالة على أن السورة مدنيّة و قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني الحسن بن الحسن أبو عبد اللّه بن الحسن أنّها مدنيّة نزلت في عليّ و فاطمة عليهما السّلام السورة كلّها؛ حدّثنا (2) السيّد أبو المحامد مهدي بن نزار الحسيني القائنيّ قال: أخبرني الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكانيّ قال: حدّثنا أبو نصر المفسّر قال: حدّثني عمّي أبو حامد إملاء قال: حدّثني الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمّد المقري قال:

حدّثني محمّد بن يزيد السلمي قال: حدّثنا زيد بن أبي موسى قال: حدّثني عمرو بن هارون عن عثمان بن عطا عن أبيه عن ابن عبّاس قال: أوّل ما أنزل بمكّة: اقرء باسم ربّك ثمّ ن و القلم ثمّ المزّمّل ثمّ المدّثّر ثمّ تبّت ثمّ إذا الشمس كوّرت ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى ثمّ و اللّيل ثمّ و الفجر ثمّ و الضحى ثمّ ألم نشرح ثمّ و العصر ثمّ و العاديات ثمّ إنّا أعطيناك ثمّ ألهاكم ثمّ أ رأيت ثمّ الكافرون ثمّ ألم تر ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق ثمّ النّاس ثمّ التوحيد ثمّ و النجم ثمّ عبس ثمّ إنّا أنزلنا ثمّ و الشمس ثمّ البروج ثمّ و التين ثمّ لإيلاف ثمّ القارعة ثمّ القارعة ثمّ القيامة ثمّ الهمزة ثمّ و المرسلات ثمّ ق ثمّ لا أقسم ثمّ الطارق ثمّ ص ثمّ الأعراف ثمّ قل اوحي ثمّ يس ثمّ الفرقان ثمّ الملائكة ثمّ كهيعص ثمّ طه ثمّ الواقعة ثمّ الشعراء ثمّ النمل ثمّ القصص ثمّ بني إسرائيل ثمّ يونس ثمّ هود ثمّ يوسف ثمّ الحجر ثمّ الأنعام ثمّ الصافّات ثمّ لقمان ثمّ القمر ثمّ السبا ثمّ الزمر ثمّ حم المؤمن ثمّ حم السجدة ثمّ حمعسق ثمّ الزّخرف ثمّ الدخان ثمّ الجاثية ثمّ الأحقاف ثمّ الذاريات ثمّ الغاشية ثمّ الكهف ثمّ النحل ثمّ نوح ثمّ إبراهيم ثمّ الأنبياء ثمّ المؤمنون ثمّ الم تنزيل ثمّ الطور ثمّ الملك ثمّ الحاقّة ثمّ ذو المعارج ثمّ عمّ ثمّ النازعات ثمّ انفطرت ثمّ انشقّت ثمّ الروم ثمّ العنكبوت ن.

ص: 17


1- بفتح العين، دقيق يلتّ بالسمن و يطبخ.
2- منقول من مجمع البيان.

ثمّ المطفّفين. فهذه السور و هي خمس و ثمانون سورة أنزلت بمكّة، ثمّ أنزلت بالمدينة: البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ سورة محمّد ثمّ الرعد ثمّ سورة الرحمن ثمّ هل أتى ثمّ الطلاق ثمّ لم يكن ثمّ الحشر ثمّ إذا جاء نصر اللّه ثمّ النور ثمّ الحجّ ثمّ المنافقون ثمّ المجادلة ثمّ الحجرات ثمّ لم تحرّم ثمّ الجمعة ثمّ التغابن ثمّ سورة الصفّ ثمّ سورة الفتح ثمّ المائدة ثمّ سورة التوبة. فهذه ثمانية و عشرون سورة، و قد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطا عن أبيه عن ابن عبّاس في كتاب الإيضاح و زاد فيه: و كانت إذا نزلت سورة بمكّة ثمّ يزيد اللّه فيها ما يشاء بالمدينة.

و بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن البصريّ أنّ أوّل ما أنزل اللّه من القرآن بمكّة على الترتيب: اقرأ باسم ربّك و ن و المزّمّل- إلى قوله:- و الّذي نزل بالمدينة: ويل للمطفّفين و البقرة و الأنفال و آل عمران و الأحزاب و المائدة و الممتحنة و النساء و إذا زلزلت و الحديد و سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الرعد و الرحمن و هل أتى إلّا قوله: «فلا تطع» فهذا ما انزل بالمدينة فجميع سور القرآن مائة و أربع عشر سورة انتهى.

و بالجملة في المجالس عن الصادق و عن أبيه أنّ الحسنين عليهما السّلام قالا: و نحن نصوم ثلاثة أيّام فألبسهما العافية فأصبحوا صياما و في آخره هبط جبرئيل عليه السّلام قال: يا محمّد خذ ما هنّأك اللّه لك في أهل بيتك، قال صلّى اللّه عليه و آله: ما آخذ يا جبرئيل؟ قال:

هل أتى إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».

و قال أكثر علماء التفسير من العامّة: إنّا نحن لا نشكّ في صحّة الرواية:

و أيضا في رواية أهل البيت في المناقب عن أكثر المفسّرين من كبارهم ما يقرب ممّا ذكره في المجالس إلّا أنّه ليس فيه صيام الصبيّين عليهما السّلام و في آخر الرواية: فرآهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جياعا فنزل جبرئيل و معه صحفة من الذهب مرصّعة بالدرّ و الياقوت مملوءة من الثريد و عراق (1) يفوح منها رائحة المسك و الكافور فجلسوا و أكلوا حتّى م.

ص: 18


1- بضم العين، العظم بلا لحم.

شبعوا و لم ينقص منها لقمة واحدة و خرج الحسين عليه السّلام و معه قطعة عراق فنادته يهوديّة يا أهل بيت الجوع من أين لكم هذه؟ أطعمنيها، فمدّ يده الحسين عليه السّلام ليطعمها فهبط جبرئيل و أخذها من يده و رفع الصحفة إلى السماء فقال صلّى اللّه عليه و آله: لو لا ما أراد الحسين من إطعام الجارية تلك القطعة من اللحم ترك تلك الصحفة في أهل بيتي يأكلون منها إلى الأبد.

رجع إلى التفسير [إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ في الجنّة [مِنْ كَأْسٍ هي الزجاجة إذا كانت فيها خمر و تطلق أيضا على نفس الخمر على طريق ذكر المحلّ و إرادة الحالّ و هو المراد هنا عند الأكثر حتّى قيل: كلّ كأس في القرآن فإنّما عني به الخمر [كانَ مِزاجُها] بتكوين اللّه [كافُوراً] أي ماء كافورا و هو اسم عين في الجنّة في المقام المحمّدي و كذا سائر العيون ماؤها من بياض الكافور و برده و رائحته، يقال: مزج الشراب أي خلطه و مزاج البدن ما يمازجه و يخالطه من الصفراء و السوداء و البلغم و الدم. و الكافور اشتقاقه من الكفر و هو الستر لأنّه من شدّة رائحته الطيّبة يغطي الأشياء و الكافور المعروف في الدنيا طيب يكون من شجر بحبال بحر الهند يظلّ خلقا كثيرا و تألفه النمورة و خشبة أبيض هشّ (1) و توجد في أجوافه الكافور و هو أنواع و لونها أحمر و إنّما تبيضّ بالتصعيد.

[عَيْناً] بدل من «كافورا» [يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ صفة عين و عباد اللّه الأبرار أي يشربون هذا الشرب من هذا العين أو يشربون بها الخمر لكونها ممزوجة بها مثل شربت الماء بالعسل، و إنّ حروف العوامل ينوب بعضها مناب بعض و حاصل المعنى: هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء اللّه، قال الفرّاء: شربها و شرب بها سواء في المعنى كما يقولون: تكلّمت بكلام حسن و كلاما حسنا.

[يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً] أي يوصلون تلك حيث شاءوا من منازلهم و قصورهم و التفجير تشقيق الأرض لجري الماء، و أنهار الجنّة تجري بغير أخدود (2) فإذا أراد المؤمن ة.

ص: 19


1- النمورة بضم النون جمع النمر. عود هشّ: سريع الكسر.
2- الأخدود: الحفرة المستطيلة.

أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع فالتفجير في الآية سوق الماء حيث أرادوا الفناء في محبّة اللّه و إطاعته يوجب الشرب من هذا الكأس بخلاف كأس النفسانيّة الشيطانيّة فإنّه يشرب الحميم و خبال (1) جهنّم و ذلك لأهل الفسق في الدنيا و هي حرام. و في الحديث «إذا تناول العبد كأس الخمر ناشده الإيمان باللّه: لا تدخلها عليّ فإنّي لا أستقرّ أنا و هي في وعاء واحد فإن أبى العبد و شربها نفر الإيمان نفرة لا يعود إليه أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه و نقص من عقله شي ء لا يعود إليه أبدا».

[يُوفُونَ بِالنَّذْرِ] كأنّه قيل: ما ذا فعلوا حتّى ينالوا هذه الدرجة؟ يوفون بما أوجبوه على أنفسهم فكيف بما أوجبه اللّه عليهم من الصلاة و الزكاة و غير هما، و النذر إيجاب الفعل المباح على نفسه تعظيما للّه مثل أن يقول: للّه عليّ من الصدقة و غيرها إن شفي مريضي أو ردّ غائبي.

[وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً] أي كانوا في الدنيا يخافون اللّه من مخالفته من يوم و هو يوم القيامة كان شرّه و عذابه فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار، و استطار الفجر انتشر و هو أبلغ من طار، و أطلق الشرّ على أهوال القيامة بالنسبة إلى مستحقّيها و إنّ ليوم القيامة أمورا سارّة للمؤمنين كما أنّ للكافرين أمورا ضارة.

[وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قال ابن عبّاس: الضمير راجع إلى الطعام أي يطعمون على غاية شهوتهم و جوعهم و على أشدّ ما تكون حاجتهم إليه، وصفهم بالأثرة على أنفسهم و قيل: الهاء كناية عن اللّه أي على حبّ اللّه [مِسْكِيناً] فقيرا عاجزا عن الكسب و الدائم السكون إلى التراب [وَ يَتِيماً] طفلا لا أب له [وَ أَسِيراً] الأسر الشدّ بالقدّ (2) سمّي الأسير بذلك ثمّ يستعمل لكلّ مأخوذ مقيّد و إن لم يكن مشدودا بذلك و الأسير كان يطلق على المأخوذ من دار الحرب من المشركين و قيل: هو المحبوس ة.

ص: 20


1- الخبال بالفتح: الفساد، النقصان، السم القاتل.
2- القدّ بالفتح: جلد السخلة.

من أهل القبلة و قيل: الأسير المرأة.

[إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الوجه مجاز عن الرضى، أي قائلين بلسان الحال أو بلسان المقال إزاحة لتوهّم المنّ المبطل للصدقة و توقّع المكافئة المنقّصة للأجر:

[لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً] على ذلك بالمال و النفس و لا نريد مقابلة و عوضا [وَ لا شُكُوراً] و مدحا و تشكّرا منكم بالذكر الجميل، و في الآية أدب أدّب اللّه العباد في خلوص العمل بأن يكون القصد خالصا لرضاه و لا يشوب بالرياء.

[إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً] أي عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من شدّة أهواله كما روي أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران و العبس قطوب الوجه من ضيق الصدر و إنّ العبوس الأسد كالعبّاس لحدّته على إيصال الضرر بالعنف على فريسته و وصف اليوم بالعبوس توسّعا لما فيه من الشدّة كما يقال يوم صائم و ليل قائم [قَمْطَرِيراً] القمطرير اليوم الشديد الشرّ، و التفّ شرّه بعض على بعض؛ قال الشاعر:

بني عمّنا هل تذكرون بناءناعليكم إذا ما كان يوم قماطر

قال الحسن: ما أشدّ اسمه و هو من اسمه أشدّ! و قيل: في معنى القمطرير الأمر الّذي يقبض الحياة و يقلص الوجوه من شدّته.

[سورة الإنسان (76): الآيات 11 الى 22]

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13) وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)

قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20)

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

ص: 21

[فَوَقاهُمُ اللَّهُ بسبب خوفهم و تحفّظهم على القربات وقاهم شرّ ذلك اليوم الشديد. و الخوف من اللّه له فوائد عظيمة، في الحديث «قال رجل و هو لم يعمل حسنة قطّ و وصّى لأهله إذا متّ فحرّقوني ثمّ اذروا (1) نصفي في البرّ و نصفي في البحر فو اللّه لئن قدر اللّه عليّ ليعذّبني عذابا لا يعذّبه أحدا من العالمين فلمّا مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر اللّه البرّ فجمع ما فيه و أمر البحر فجمع ما فيه ثمّ قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا ربّ و أنت أعلم فغفر اللّه له بسبب خشيته» و قوله:

«لئن قدر اللّه» بالتخفيف من القدرة أي لئن تعلّقت قدرته يوم البعث بعذاب جسمه، ظنّ المسكين أنّه بالفناء على الوجه المذكور يلتحق بالمحال و قدرة اللّه لا يتعلّق بالمحال فلا يلزم منه الكفر.

[وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً] لقّيته كذا إذا استقبلته به أي أعطاهم بدل عبوس الفجّار و حزنهم نضرة في الوجوه و سرورا في القلوب.

[وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً] أعطى كلّ واحد منهم بطريق الأجر و العوض بسبب صبرهم في اجتناب المحرّم و إيثار الأموال جنّة و بستانا يأكلون منها ما شاءوا و حريرا يتزيّنون به و يلبسونه.

[مُتَّكِئِينَ فِيها] أي في الجنّة [عَلَى الْأَرائِكِ السرر في الحجال من الدرّ و الياقوت موضونة بقضبان (2) الذهب و ألوان الجواهر، أي مستقرّين عليها.

[لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً] حرّا و لا بردا كما يرون في الدنيا لأنّ الحرارة غالبة في أرض العرب و البرودة في أرض العجم و الروم. و الزمهرير شدّة البرد و ازمهرّ النهار اشتدّت برده، روي عن ابن عبّاس أنّه قال: فبينما أهل الجنّة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس و قد أشرقت الجنان فيقول أهل الجنّة يا رضوان قال اللّه تعالى «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً» فيقول لهم رضوان: ليست هذه بشمس و لا قمر و لكن هذه فاطمة و عليّ ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما و فيهما أنزل ب.

ص: 22


1- ذرا الريح التراب- من باب نصر- اطارته و فرقته.
2- الموضونة الدرع المقاربة النسج او المنسوجة بالجواهر. القضبان جمع القضيب.

اللّه «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً».

[وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها] الظلال جمع ظلّ نقيض الضحّ أي ظلال الأشجار في الجنّة قربت من الأبرار من جوانبهم حتّى صارت الأشجار بمنزلة المظلّة عليهم و إن كان لا شمس فيها موذية لتظلّهم و المراد بيان زيادة نعيمهم و راحتهم فإنّ الظلّ في الدنيا للراحة.

[وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا] أي سخّرت ثمارها لمتناوليها و سهل أخذها للقائم و القاعد و المضطجع من الذّلّ بالكسر و هو ضدّ الصعوبة، و الحاصل تدنو ظلالهم عليهم مذلّلة قطوفها لهم، و قطوف جمع «قطف» بكسر القاف بمعنى العنقود (1) و سمّي العنقود قطفا لأنّه يقطع وقت الإدراك.

[وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ أي يدار على الأبرار إذا أرادوا الشرب [بِآنِيَةٍ] أوعية جمع إناء و أصل آنية أأنية بهمزتين [مِنْ فِضَّةٍ] نعت لآنية [وَ أَكْوابٍ جمع كوب و هو الكوز العظيم المدوّر الرأس لا اذن له و لا عروة فيسهل الشرب منه من كلّ موضع و لا يحتاج عند التناول إلى إدارته [كانَتْ قَوارِيرَا] القارورة ما قرّ فيه الشراب و نحوه [قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ] أي تكوّنت جامعة بين صفاء الزجاجة و شفيفها و لين الفضّة و بياضها يرى ما في داخلها من خارجها و «كان» تامّة و قوارير الأوّل حال من فاعل كانت. فإن قيل: إنّ القوارير إنّما تتكوّن من الزجاج فكيف تكون القوارير؟

قال الصادق عليه السّلام: «ينفذ البصر في فضّة الجنّة كما ينفذ في الزجاج» قال أبو عليّ الفارسي:

القول في ذلك أنّ الشي ء إذا قاربه شي ء و اشتدّت ملابسته له قيل: إنّه من كذا و إن لم يكن منه في الحقيقة. و قوارير الثانية بدل من الاولى و ليست بتكرار و يجوز تقدير حذف المضاف أي من صفاء الفضّة. و يمكن أن يكون المراد أنّ القوارير أصلها من الرمل في الدنيا و أرض الجنّة من فضّة فقواريرها من فضّة.

[قَدَّرُوها تَقْدِيراً] الضمير في «قدّروها» الأوّل للسقاة و الخدم، و الثاني للكاسي أي من غير زيادة و لا نقصان و هو ألذّ للشارب فإنّ طرفي الاعتدال مذمومان ه.

ص: 23


1- العنقود ما تراكم من حب العنب و نحوه.

لا فيض فيها و لا غيض أي لا كثرة و لا قلّة.

[وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً] أي إنّ الأبرار يسقون في الجنّة بأمر اللّه خمرا [كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا] الزنجبيل عرق (1) برّيّ في الأرض و نباته كالقصب و البرديّ (2) شبّه طعمها بالزنجبيل لأنّ الممزوج به أطيب ما يستطيب العرب أي تمزج و تخلط بماء من العين المسمّاة بالزنجبيل.

[عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا] عينا بدل من زنجبيلا في الجنّة تسمّى عند الملائكة سلسبيلا لسلاسة انحدارها و سهولة مساغها و العين سمّيت بصفاتها. قيل: إنّ سلسبيلا صفة لا اسم و إلّا لامتنع من الصرف للعلميّة و التأنيث و قيل: اسم و إنّما صرف لرعاية رأس الآية و هي مؤنّث معنويّ لا حقيقيّ يقال: شراب سلسل و سلسبيل سهل الورود في الحلق لعذوبته و زيدت الباء على السلسال للمبالغة على غاية السلاسة تتسلسل في الحلق.

[وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ يدور على الأبرار [وِلْدانٌ فإنّهم أخفّ في الخدمة، جمع وليد و هو من قرب عهده بالولادة [مُخَلَّدُونَ دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء. لا يتغيّرون أبدا أو مقرطون (3) للخدمة، أو من الخلد و هو الروح كأنّهم روحانيّون من اللطافة لا جسم لهم.

[إِذا رَأَيْتَهُمْ يا من شأنه الرؤية [حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً] جمعه اللئالئ؛ تلألأ الشي ء لمع [مَنْثُوراً] بالثاء متفرّقا لحسنهم و صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و تفرّقهم في مجلس الخدمة و طوافهم على المخدومين، و اللؤلؤ إذا كان متشتّتا يكون في المنظر أحسن من المنظوم و لو كانوا مصطفّين على وتيرة واحدة لشبّهوا باللؤلؤ المنظوم فلتفرّقهم شبّهوا بالمنثور كما أنّ الحور لتجمّعهنّ بل هنّ مقصورات في الخيام باللؤلؤ المكنون. و قال بعضهم: منثورا من صدفه، أي شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثرط.

ص: 24


1- المراد به هنا اصل الشجر.
2- نبات كالقصب.
3- اى تزينوا بالقرط.

من صدفه و هو غير ممسوس و مثقوب لأنّه أكثر ماء و صفاء. أنشأهم اللّه من غير ولادة و قيل: إنّهم ولدان الكفّار يدخلون الجنّة خدما لأهلها. و في رواية المراد بالولدان هنا ولدان المسلمين الّذين يموتون صغارا لا حسنة لهم و لا سيّئة فوضعوا هذا الموضع.

[وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً] قيل: ليس له مفعول ملفوظ و لا منويّ و لا مقدّر بل المعنى أنّ بصرك أين ما وقع في الجنّة [رَأَيْتَ نَعِيماً] كثيرا لا يوصف [وَ مُلْكاً كَبِيراً] واسعا كما في الحديث «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه».

[عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ] عاليهم قيل: ظرف و خبر مقدّم، و ثياب مبتدء مؤخّر أي فوقهم ثياب سندس و هو الديباج الرقيق، و إضافة الثياب إلى السندس كإضافة الخاتم إلى الفضّة، و قيل: عاليهم حال أي يعلوهم ثياب سندس، و قيل: المراد فوق خيامهم المضروبة عليهم فالمعنى أنّ حجالهم من الحرير و الديباج و خضر جمع أخضر صفة الثياب و الضمير راجع إلى الأبرار [وَ إِسْتَبْرَقٌ أي ثياب إستبرق عطف على الثياب بمعنى الديباج الغليظ سبق بيانه في سورة الرحمن و هو بقطع الهمزة لكونه اسما للديباج الغليظ الّذي له بريق.

[وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ] عطف على قوله: «و يطوف عليهم» و هو ماض لفظا و مستقبل معنى أي يحلّون و يتزيّنون بأساور جمع أسورة في جمع سوار و كان الملوك في الزمان الأوّل يتحلّون بها و يسوّرون من يكرمونه و لا ينافي هذه الآية مع ما في الكهف و الحجّ (1) من قوله: «مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» لإمكان الجمع بين السوارين أو على التعاقب في الأوقات تارة يلبسون الذهب و تارة يلبسون الفضّة أو التبعيض بأن

ص: 25


1- آية 31 و آية 23.

يكون أسورة البعض ذهبا و البعض فضّة بحسب اختلاف شؤونهم [وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً] من الأقذار لم يدنّسها الأيدي و لم تدسه الأرجل كخمر الدنيا و لا يصير بولا نجسا بل يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل مطهّر باطنه من كلّ كدورة إذ لا يكون شي ء خالص من كدورة الأكوان إلّا اللّه فبخّ للشراب و شاربه و ساقيه.

و أسكر القوم دور كأس و كان سكري من المدير

قال بعضهم: صلّيت خلف سهل بن عبد اللّه العتمة (1) فقرأ قوله: «و سقاهم ربّهم شرابا طهورا» فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ فلمّا فرغ من صلاته قيل له: أ تقرأ أم تشرب؟ قال: و اللّه لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.

[إِنَّ هذا] أي الّذي ذكر من أنواع العطايا [كانَ لَكُمْ جَزاءً] عوضا بمقابلة أعمالكم [وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً] مرضيّا مقبولا و سعيكم و قيامكم بطاعته مرضيّ عنده سبحانه فكأنّه شكر لكم عملكم و فعلكم.

[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 31]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي فصّلناه في الإنزال آية بعد آية و لم ننزّله جملة واحدة لحكمة بالغة مقتضية له و نحن نزّلناه لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير على سبيل التأكيد فكأنّه تعالى يقول: إنّ هؤلاء الكفّار يقولون

ص: 26


1- يعنى صلاة العشاء.

إنّ ذلك كهانة و سحر فأنا الملك الحقّ أقول: إنّ ذلك وحي حقّ و تنزيل صدق من عندي فلا تكترث (1) بطعنهم.

[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكافرين فإنّ الأمور مرهونة بأوقاتها و كلّ آت قريب [وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ من الكفّار [آثِماً أَوْ كَفُوراً] أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر، و قيل: الآثم في الآية يعني عتبة بن ربيعة و الكفور يعني الوليد بن المغيرة فإنّهما قالا له صلّى اللّه عليه و آله: ارجع عن هذا الأمر و نحن نرضيك بالمال و التزويج و قيل: الكفور أبو جهل نهى النبيّ عن الصلاة و قال:

لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه فنزلت الآية. و في نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن الإطاعة فيما يدعونه إليه مع أنّه ما كان يطيع أحدا منهم و لا يتصوّر في حقّه ذلك من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جاره» و المراد الامّة و هذا الخطاب كقوله (2): «لئن أشركت ليحبطنّ عملك» و إشارة إلى أنّ الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد و التنبيه و ركّب في طبعهم الشهوة الداعية إلى السهو و الغفلة.

[وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي داوم على ذكره أوّل النهار و آخر النهار أو المعنى دم على صلاة الفجر و الظهر و العصر.

[وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي فاسجد له في بعض الليل لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه و قيل: المراد صلاة المغرب و العشاء [وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] و المراد بالتسبيح في هذه الآية صلاة الليل كما في الحديث روي عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية قال عليه السّلام: «المراد بذلك التسبيح صلاة الليل» و حاصل المعنى صلّ صلاة التهجّد لأنّه كان واجبا عليه في طائفة طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه و المراد بقوله: «ليلا طويلا» بيان طول التسبيح فيه و ليس المراد أن يتهجّد في الليل و لا يتهجّد في الليل القصير.

[إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ] أي كفّار مكّة يحبّون اللّذّات العاجلة في الدنيا

ص: 27


1- اكترث له: بالى به.
2- سورة الزمر: 65.

فهو الحامل على كفرهم و عدم قبولهم أو أمرك [وَ يَذَرُونَ يتركون [وَراءَهُمْ أي أمامهم [يَوْماً ثَقِيلًا] عسيرا شديدا لا يستعدّون له و ينبذونه وراء ظهورهم.

و «وراء» يستعمل في كلّ من أمام و خلف و في وجه الاستعمالين أنّ وراء اسم للجهة المتوارية المستترة المختفية عنك و استتار جهة الخلف ظاهر و ما في جهة الأمام قد يكون متواريا عنك غير مشاهد فيشبه الخلف في الاستتار فيستعار له اسم الوراء و وصف اليوم بالثقل مع أنّ الثقل من صفات الأعيان الجسميّة لتشبّه شدّته و هوله و ما يلزمه من العذاب استعارة تخييليّة و في الآية و عيد لأهل الدنيا و المنهمكين فيها بالظلم على أنفسهم.

[نَحْنُ لا غيرنا [خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ خلقناهم من نطفة و أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ليتمكّنوا بذلك من القيام و القعود و الأخذ و الدفع.

و الأسر الربط و منه أسر الرجل (1) إذا وثق بالقدّ و قيل: المراد من قوله: «و شددنا أسرهم» أي شددنا مخرج بولهم و غائطهم و أحكمنا ربطه إذا خرج الأذى انقبض و إذا يريد الإنسان الدفع استرخى و لا يسترخي قبل الإرادة من الإنسان.

[وَ إِذا شِئْنا] تبديلهم [بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي بدّلناهم بأمثالهم بعد إهلاكهم [تَبْدِيلًا] بديعا لا ريب فيه و هو البعث. و المثليّة في النشأة الاخرى التركيب الأوليّة باعتبار إيجاد الأجزاء الأصليّة و إعادتها، أو المعنى لو شئنا أهلكناهم و آتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم و لكن نبقيهم إتماما للحجّة.

[إِنَّ هذِهِ إشارة إلى السورة و الآيات القريبة [تَذْكِرَةٌ] أي عظة مذكّرة في تحصيل السعادة الأبديّة و إذكار بما غفلت عنه عقولهم [فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا] و تقرّب إليه بالإطاعة و النجاة من ثقل اليوم المذكور [وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي و ما تشاءون شيئا من الطاعات إلّا و اللّه يشاؤه و يريده، و ليس المراد في الآية أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاؤه العبد من المعاصي لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت ب.

ص: 28


1- من باب ضرب.

على أنّه يتعالى عن أن يريد القبائح و إشاءة (1) القبيح ظلم و ما اللّه يريد ظلما للعباد و لا يريد بكم العسر.

[إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً] عليم بأفعالكم حكيم في تدبير مصالحكم [يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ و جنّته ممّن يؤمن به و بكتابه فلا تكن ظالما شقيّا [وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً] و هم الّذين يصرفون مشيّتهم في مخالفة اللّه فيجزيهم جهنّم و هيّأ لهم العذاب المولم و الظالمون الّذين وضعوا الضلالة في مقام الهداية و الجهالة في مقام المعرفة تمّت السورة بعون اللّه.ه.

ص: 29


1- أشاءه: ألجأه.

سورة المرسلات

اشارة

مكّيّة كلّها بلا خلاف إلّا آية قيل: استثني منها «و إذا قيل لهم اركعوا الآية».

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها كتب له أنّه ليس من المشركين و عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 30

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

الواو للقسم [وَ الْمُرْسَلاتِ بمعنى الطوائف المرسلات جمع مرسلة أي طائفة مرسلة باعتبار أنّ ملائكة كلّ يوم أو كلّ عام أو كلّ حادثة طائفة و [عُرْفاً] بمعنى متتابعة مأخوذ من عرف الفرس و هو الشعرات المتتابعة فوق عنقه من باب التشبيه البليغ بأن شبّهت الملائكة المرسلون في تتابعهم بشعر عرف الفرس، و انتصابه على الحاليّة أي جاريات بعضها أثر بعض كعرف الفرس أو العرف بمعنى المعروف و الإحسان، نقيض النكير و المنكر فإنّهم إن أرسلوا للرحمة فظاهر و إن أرسلوا لعذاب الكفّار فذلك أيضا معروف و إحسان للأنبياء و المؤمنين. و قيل: المرسلات الرياح أرسلت متتابعة و قيل: المراد الأنبياء جاءت بالمعروف.

[فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً] فعصفن أي الملائكة في مضيّهنّ لأمر اللّه كما يعصف الرياح في هبوبها مخفّفا في امتثال أوامره تعالى أو أقسم بالرياح العاصفة [وَ النَّاشِراتِ نَشْراً] و اقسم بطوائف من الملائكة نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي أو نشرن الشرائع و الأحكام في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالكفر و الإيمان ففرّقن بين الحقّ و الباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا للمحقّين أو نذرا للمبطلين.

[فَالْفارِقاتِ فَرْقاً] يعني الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحقّ و الباطل و الحلال

ص: 31

و الحرام و هي آيات القرآن و الكتب السماويّة و هي فارقة بين الهدى و الضلال.

[فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً] يعني الملائكة كأنّها الحاملات للذكر الطارحات له ليأخذه من خوطب به [عُذْراً أَوْ نُذْراً] أي للإعذار و الإنذار إمّا عذرا و محوا لسيّئاتهم للّذين يعتذرون إلى اللّه بتوبتهم و استغفارهم و إمّا إنذارا للّذين يغفلون عن الطاعة و يرتكبون المعاصي فالملائكة عاذرين و منذرين «عذرا أو نذرا» بدل من الذكر إمّا بدل البعض أو بدل الكلّ أي الذكر الملقى إمّا الترغيب في الطاعات أو الترهيب من المعاصي و قيل: «الناشرات» هي الرياح الّتي تأتي بالمطر تنشر السحاب نشرا للغيث أو أنّها الأمطار ينشر النبات كما أنّه قيل في معنى الفارقات:

إنّها الرياح الّتي تفرّق السحاب و تبدّده. و هذه أقسام أقسم اللّه بها أو المراد أقسم بربّ هذه الأشياء بناء على أنّه لا يجوز القسم إلّا باللّه.

و جواب القسم [إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ أي إنّ الّذي توعدونه من مجي ء القيامة كائن لا محالة و الفرق بين الكائن و الواقع أنّ الواقع لا يكون إلّا حادثا تشبيها بالحائط الواقع و الكائن أعمّ منه.

ثمّ بيّن وقت وقوعه: [فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محيت آثارها و محقت ذواتها فإنّ الطمس محو الأثر، و النجوم مرفوعة بالابتداء و طمست خبره أو مرفوعة بفعل يفسّره ما بعده و هو الأولى لأنّ «إذا» فيها معنى الشرط و الشرط بالفعل أولى و جواب إذا محذوف أي إذا طمست النجوم وقع ما توعدون.

[وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ صدعت من خوف الرحمن و شقّقت و وقعت فيها الفروج الّتي نفاها، و الفرج الشقّ.

[وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحبّ الّذي ينسف بالمنسف و قلعت من مكانها أو ذهبت بسرعة و فنيت حتّى لا يبقى لها أثر و تذرّى و تلاشى.

[وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جمعت لوقتها تشهد على الأمم عيّن لهم الوقت الّذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم فيقال لهم: احضروا للشهادة فقد جاء وقتها أو بلغ الوقت الّذي كانوا ينتظرونه و هو يوم القيامة، و قرأ أبو عمر و «وقّتت» على الأصل

ص: 32

الباقون أبدلوا الواو همزة لأنّ الضمّة من جنس الواو فيكون ثقيلا كما أنّ الكسرة تستثقل على الياء و العرب تبدّل الألف من الواو تقول: أسادة في وسادة و مؤرّخ في مورّخ.

[لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ مقدّر بقول هو جواب لإذا في قوله: «و إذا الرسل» أي يقال: لأيّ يوم اخّرت الأمور المتعلّقة بالرسل و ضرب لهم الأجل لجمعهم و إحضارهم، و حاصل المعنى أنّ الرسل بعثت في أوقات مختلفة و أخّرت للفرق بين المطيع و العاصي و يكونون شهداء عليهم فإنّ الرسل يعرفون كلّا بسيماهم و شاهدون لأعمالهم.

[لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل و هو اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق و يقضي بالحقوق [وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ «ما» مبتدء «أدراك» خبره أي أيّ شي ء جعلك داريا و عالما ما كنهه و لم ير أحد قبلك شدّته حتّى تسمع منه، و وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تفظيع و تهويل و أيضا «ما» خبر مقدّم و «يوم الفصل» مبتدء لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأنّ محطّ الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرا بديعا هائلا.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الويل و الهلاك ثابت فيه لهم و الويل في الأصل مصدر منصوب سادّ مسدّ فعل لا من لفظه فأصله أهلكه اللّه إهلاكا أو هلك هلاكا. و عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك و دوامه للمدعوّ عليه، و وضع الويل موضع الهلاك فجاز وقوعه مبتدء مع كونه نكرة فإنّه لمّا كان مصدرا سادّ مسدّ فعله المتخصّص بصدوره عن فاعل معيّن كانت النكرة المذكورة متخصّصة بذلك الفاعل فساغ الابتداء بها لذلك كما قالوا: سلام عليك، و قيل: الويل واد في جهنّم لو أرسلت فيه الجبال لماعت (1) من حرّه.ى.

ص: 33


1- ماع يميع ميعا: سال و جرى.

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 50]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)

أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)

لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

[أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم ممّن هلكوا قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك لتكذيبهم بيوم الفصل [ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ و لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم بل استأنف، و التقدير ثمّ نحن نتبعهم و نجعلهم تابعين للأوّل في الإهلاك و ليس الكلام معطوفا على ما قبله لأنّ العطف يوجب أن يكون المعنى أهلكنا الأولين ثمّ أتبعناهم الآخرين في الإهلاك و ليس كذلك لأنّ إهلاك الآخرين لم يقع بعد فلذلك رفع نتبع و استأنف به الكلام وجه الإخبار عمّا سيقع في المستقبل بإضمار المبتداء و يؤيّده قول الحسن: إنّ الآخرين هم الّذين تقوم عليهم القيامة.

[كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي نفعل فعلا مثل ذلك الفعل الّذي اخبر به فمحلّ الكاف النصب على أنّه نعت لمصدر محذوف تقديره «فعلا بالمجرمين» أي كلّ من أجرم.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و البعث فإنّهم يجازون بأليم العذاب.

ص: 34

[أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي نطفة قذرة مهينة و الميم في مهين أصليّة و المهانة الخسّة و الابتذال أي خلقناكم منه [فَجَعَلْناهُ أي الماء [فِي قَرارٍ مَكِينٍ و هو الرحم و الرحم وعاء الولد و القرار موضع الاستقرار و المكين الحصين أي جعلنا ذلك الماء في مقرّ حصين متمكّنا سالما من التعرّض له [إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ من الوقت الّذي قدّره للتنمية و الحياة و الولادة تسعة أشهر أو أقلّ أو أكثر.

[فَقَدَرْنا] أي قدرنا خلقه و جوارحه، قرئ بالتشديد و بالتخفيف [فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي نحن، بمعنى المقدّرون و يجوز أن يكون «فقدرنا» معناه من القدرة لا من التقدير أي قدرنا على خلقه و تصويره كيف نشاء و يعضد هذا المعنى قوله:

«فنعم القادرون».

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ مضى تفسيره و في برهان القرآن: كرّرها في هذه السورة عشر مرّات لأنّ كلّ واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الاولى فيكون تكرارا لازما لأنّ بسط الكلام في الترغيب و الترهيب أدعى إلى إدراك البقيّة و قد يجد كلّ أحد في نفسه من تأثير التكرار ما لا خفاء به.

[أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً] تحوزهم و تضمّهم و تكفتهم كفتا [أَحْياءً] على ظهرها في دورهم و أبنيتهم و مساكنهم [وَ أَمْواتاً] في بطنها أو المعنى على الحال و نصبه على الحاليّة و قيل: أي من الأرض ما ينبت و منها ما لا ينبت و الكفات اسم ما يكفت و يضمّ و يجمع من كفت الشي ء أو جمع اسم الفاعل و هو كافت مثل صيام جمع صائم فمن جعل لفظ الكفات مصدرا أو جمع اسم الفاعل جعله عاملا، و من جعله اسما لما يكفت أو جمعا للكفت بمعنى الوعاء منعه من العمل. قال عليّ عليه السّلام:

الكفات بمعنى الوعاء.

[وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ أي جبالا ثوابت من رسا الشي ء يرسو ثبت و الجبال ثوابت على ظهر الأرض لا تزول. و شامخات صفة بعد صفة و الشامخ العالي المرتفع أي طوالا شواهق و منه «شمخ بأنفه» عبارة عن الكبر و المعنى أنّ الجبال ثوابت الأصول رواسخ العروق مرتفعات الفروع، و وصف جمع المذكّر بجمع المؤنّث

ص: 35

في غير العاقل مطّرد مثل (1) «أشهر معلومات» و التنكير للتفخيم و التكثير.

[وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً] عذبا جدّا و مكّناكم من شربه من السماء و الأرض بالعيون و الأنهار و الأمطار. و الفرات يقال للواحد و الجمع [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ واد في جهنّم الويل لهم في ذلك اليوم لأنّهم كذّبوا بأنعم اللّه و آياته.

[انْطَلِقُوا] يقال يومئذ للمكذّبين بطريق التوبيخ: اذهبوا، و القائلون خزنة جهنّم [إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا و تقولون ليس عذاب و بعث.

[انْطَلِقُوا] خصوصا [إِلى ظِلٍ دخان نار جهنّم [ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ و ذي ذوائب كما هو شأن الدخان العظيم كناية عن كون ذلك الدخان في غاية الغلظ فالتشعّب من لوازمه أو يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كسرادق، و يتشعّب من دخان تلك النار ثلاث شعب فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم و المؤمنون في ظلّ العرش و تقف شعبة الدخان فوق رأس الكافر و شعبة عن يمينه و شعبة عن يساره و ذلك لتضييعهم القوى الثلاث الّتي هي السمع و البصر و الفؤاد كما قال سبحانه (2):

«و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون» فرعايتها مبدء السعادات و تضييعها منشأ الشقاوات، و إنّ الإيمان عبارة عن التصديق و الإقرار و العمل فجعلت كلّ شعبة من الثلاث بمقابلة واحدة من هذه الأركان يتركها و اتّباع القوى الثلاث من الواهمة و الغضبيّة و الشهويّة بأعمالها و فعلها، فإنّ لكل عمل و صفة صورة شخصيّة جسدانيّة يوم القيامة.

[لا ظَلِيلٍ أي لا يظلّ ذلك الظلّ من الحرّ، و تسمية ما يغشاهم من العذاب بالظلّ تهكّم و استهزاء بهم، و لما أو هم لفظ الظلّ من الاسترواح استدرك بقوله: لا ظليل [وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي غير مغن عن لهب النار كما يغني ظلّ الدنيا من الحرّ أي ظلّ غير ظليل و مفعول «يغني» محذوف تقديره شيئا و هذا الظلّ ظلّ النفس الخبيثة المتمرّدة عن الإيمان بظلمة كفرها و منشعبة من الشيطانيّة و السبعيّة و البهميّة

ص: 36


1- سورة البقرة: 197.
2- الم السجدة: 9.

[إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ] ثمّ وصف النار أي يتطاير منها في الجهات شرارات كقصر من القصور في عظمتها و كالبناء العالي، و وصف به الجمع باعتبار كلّ واحد من آحاده. و القصر أيضا الحطب الجزل (1) قال ابن عبّاس: هي الخشب العظام المقطّعة و كنّا نعمد إلى الخشب فنقطعها قطعا كبارا ثلاثة أذرع و فوق ذلك و دونه ندّخرها للشتاء و نسمّيها القصر لكونها مقصورة و مقطوعة من الممدودة الطويلة فإذا كان حال دخانها و شررها هكذا فكيف بحال أهلها؟

[كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ] أي كأنّ الشرر و ردّ الضمير إلى لفظ الشرر و النار دون معناها فشبّه سبحانه لونه بالجمالات الصفر أي كأنّها أينق سود. قال الفرّاء: لا ترى أسود من الإبل إلّا و هو مشرب (2) صفرة و العرب تسمّي سود الإبل صفراء، أو هو على الحقيقة من الصفرة لأنّ النار تكون أصلا صفراء. أي كلّ شررة كجمل أسود أو أصفر.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بنار هذه صفته.

[هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ قيل: في معناه قولان أحدهما أنّهم لا ينطقون بنطق ينفعهم فكأنّهم لم ينطقوا. و الثاني أنّ في القيامة مواقف في بعضها يتكلّمون و يختصمون و في مواقف يختم على أفواههم و قد منعوا عن الاعتذار لأنّه خلاف الواقع إذ لو كان لهم عذر لم يمنعوا و أيّ عذر لمن جحد بربّه و عاند معه بالإنكار له.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذه الأمور.

[هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين الحقّ و الباطل [جَمَعْناكُمْ يا امّة محمّد [وَ الْأَوَّلِينَ من كان قبلكم إذ الفصل بين المحقّ و المبطل، لا بدّ و أن يحضروا.

[فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ] و حيلة تدفعون بها عنكم العذاب، و الخطاب من اللّه للكفّار [فَكِيدُونِ حذف ياء المتكلّم اكتفاء بالكسرة و احتالوا و تخلّصوا عن عذابي ه.

ص: 37


1- بالفتح، الغليظ العظيم.
2- أشرب اللون: أشبعه.

إن قدرتم و هذا أمر تعجيز و تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا و كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم و يبطلون حقوق الناس بضروب الحيل و المكايد و التلبيسات [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

[إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الشرك و التكذيب و الفواحش [فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ من أشجار الجنّة و عيون جارية بين أيديهم في غير أخدود لأنّ ذلك أمتع لهم و ينابيع تجري في ظلال الأشجار [وَ فَواكِهَ جمع فاكهة و هي ثمار الأشجار [مِمَّا يَشْتَهُونَ و يتمنّون فيتناولونها لا عن جوع و امتلاء بل عن شهوة و تلذّذ.

[كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي مقولا لهم كلوا من نعم الجنّة و اشربوا من مائها و شرابها سائغا رافها بلا داء بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة خصوصا الصّيام و هذا أمر إكرام إظهارا للرضى عنهم و تمسّك القائلون بإيجاب العمل للثواب بالباء السببيّة و الجواب أنّ السببيّة إنّما هي بفضل اللّه و وعده لا بالذّات بحيث يمتنع عدمه أو يوجب النقص أو الظلم.

[إِنَّا كَذلِكَ الجزاء العظيم [نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل و هم بقوا في العذاب المخلّد.

[كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا] أيّها المكذّبون و استلذّوا بالملاذّ زمانا قليلا إلى مدّة آجالكم [إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ مستحقّو العذاب و حرمان الثواب لأنّكم آثرتم المتاع الفاني على النعيم الخالد فالأمر أمر توبيخ و تحسّر و تحزين و علّل ذلك بإجرامهم دلالة على أنّ كلّ مجرم مآله هذا و ليس له إلّا الأكل و التمتّع أيّاما قلائل ثمّ البقاء في الهلاك الأبديّ.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم.

[وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمكذّبين [ارْكَعُوا] و تواضعوا له بقبول وحيه و ارفضوا هذا الاستكبار و النخوة و صلّوا [لا يَرْكَعُونَ أي لا يصلّون و لا يتواضعون. قال مقاتل:

نزلت الآية في ثقيف حين أمرهم الرسول بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنّ ذلك سبّة

ص: 38

(و السبّة الدبر) و عار علينا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود».

و قيل: إنّ المراد بذلك يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. و الركوع في اللغة حقيقة في مطلق الانحناء الحسّي. و في بعض التفاسير: كانوا في الجاهليّة يسجدون للأصنام و لا يركعون لها فصار الركوع من أعلام صلاة المسلمين للّه [وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ .

[فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ و بأيّ خبر حقّ بعد القرآن [يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا بالقرآن و لم ينقادوا لمثل هذا البرهان الباهر. و استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن ليس بقديم بقوله: «حديث» إذ الحديث ضدّ القديم لأنّ القديم و الحديث لا يجتمعان في شي ء واحد.

قال صاحب تفسير روح البيان المولى إسماعيل الحقّيّ بأنّ الحديث هنا بمعنى الخبر لا بمعنى الحادث و لو سلّم فيدلّ على حدوث الألفاظ الدالّة على المعاني و لا خلاف فيه و إنّما الخلاف في قدم المعنى القائم بذاته لكنّ المعتزلة لا يقولون:

إنّ علم اللّه حادث و لكنّهم يقولون: إنّا لا نعني بالقرآن و لا نعرف مسمّى له إلّا هذه الألفاظ المركّبة الواقعة لبيان أحكام المكلّفين المتضمّنة لهذه المعاني الّتي أنزلها اللّه على رسوله و لا شكّ أنّها حادثة و ليست بقديمة. روي أنّ هذه السورة نزلت في غار قرب مسجد الخيف بمنى تسمّى بغار «و المرسلات» تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 39

سورة النبأ

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قرأ سورة النبأ سقاه اللّه برد الشراب يوم القيامة.

و روي عن الصادق عليه السّلام من أدمن قراءة عمّ يتساءلون سنة يزور بيت اللّه الحرام.

ص: 40

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 40]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)

ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24)

إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)

فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33) وَ كَأْساً دِهاقاً (34)

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)

إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

[عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ المعنى: أصله «عن ما» أدغمت النون في الميم لاشتراكهما في الغنّة فصار «عما» ثمّ حذفت الألف كما في «لم و بم و فيم و علام» قصدا

ص: 41

للخفّة و كثرة الاستعمال و كان أهل مكّة يتساءلون عن البعث و يتحدّثون بينهم و يخوضون فيه إنكارا و استهزاء عن النبأ الخبر العظيم الّذي له شأن و خطر أو لمّا كثر تساؤل المشركين عن شأن التوحيد و البعث قال سبحانه: «عن النبأ العظيم» و هو القرآن.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: «النبأ العظيم الولاية» و عن الباقر عليه السّلام سئل عن تفسير هذه الآية فقال: «هي في عليّ عليه السّلام» كان أمير المؤمنين يقول:

«ما للّه آية هي أكبر منّى و لا للّه نبأ أعظم منّي».

و القميّ عن الرضا عليه السّلام أنّه سئل عنه فقال: قال أمير المؤمنين: «ما للّه نبأ أعظم منّي، و ما للّه آية أكبر منّي، و لقد عرض فضلي على الأمم الماضية على اختلاف ألسنتها فلم يقرّ لفضلي».

و في العيون عن الباقر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا عليّ أنت حجّة اللّه و أنت باب اللّه و أنت الطريق إلى اللّه و أنت النبأ العظيم و أنت الصراط المستقيم و أنت المثل الأعلى» الحديث.

و في الكافي في خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّي أنا النبأ العظيم و عن قليل ستعلمون ما توعدون».

[الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمصدّق به و مكذّب به و الجملة وصف للنبأ بعد وصفه بالعظيم و «فيه» متعلّق بمختلفون، قدّم عليه اهتماما به و رعاية للفواصل و جعل الصلة جملة اسميّة للدّلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فمن جازم باستحالته بقوله (1): «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا ... وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ...

وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» و من مقرّ يزعم أنّ آلهته يشفع له كما قالوا (2): «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» و من شاكّ يقول (3): «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

ص: 42


1- سورة الجاثية: 23.
2- «التوبة: 18.
3- «الجاثية 31.

[كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع كما يستفاد من كلمة «كلّا» و وعيد كما يستفاد من قوله: «سيعلمون» أي ليس أمر القيامة أو أمر التوحيد و النبوّة أو الولاية ممّا ينكر أو يشكّ فيه بحيث يتساءل عنه سيعلمون ما اختلفوا فيه حقّ مقطوع لا شكّ فيه.

[ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير للردع و الوعيد و «ثمّ» للدّلالة على أنّ الوعيد الثاني أشدّ و أبلغ و قيل: ليس تكرارا فقال: بالأوّل سيعلمون حقيقة الأمر عند النزع ثمّ في يوم القيامة و ورود جهنّم و ما تلاقونه من فنون الدواهي و العقوبات عمّا قليل.

ثمّ نبّههم على وجه الاستدلال على صحّة ذلك فقال: [أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً] الهمزة للتقرير و المهاد البساط و الفراش أي ألم نجعل الأرض بساطا ممهودا تنقلبون عليها كما ينقلب الرجل على بساطه و مهادا مفعول ثان لجعل إن كان الجعل بمعنى التقدير: و حال إذا كان بمعنى الخلق و قرئ مهدا تشبيها بمهد الصبيّ.

[وَ الْجِبالَ أَوْتاداً] للأرض لئلّا تميد بأهلها و المراد إرساؤها فيها لتسكن إذ كانت تضطرب على الماء فهو من باب التشبيه البليغ، و سادات الأولياء و خواصّ الأصفياء على الحقيقة هم الأوتاد بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض و هم الأئمّة المعصومون و إنّهم جبال ثابتة، و بهم ثبتت أرض الوجود و لولاهم لما خلقت.

[وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً] أي جعلنا خلقكم حالكونكم أصنافا ذكرا و أنثى و الزوج يقال لكلّ واحد من القرينين المزدوجين حيوانا أو غيره كالخفّ و النعل و لا يقال: للاثنين زوج بل زوجان و لذا كان الصواب أن يقال: قرضته بالمقراضين و قصصته بالمقصّين لأنّهما اثنان لا بالمقراض و بالمقصّ كذا قال الحريرىّ في درّة الغوّاص و قال الفيروزآبادىّ: يقال للاثنين هما زوجان و هما زوج، و زوجة للمرأة لغة رديئة لقوله تعالى (1): «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ»* و يقال لكلّ ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادّا زوج و لذا فسّر بعض الآية: خلقناكم حالكونكم

ص: 43


1- سورة البقرة: 35.

معروضين لأوصاف متقابلة كلّ واحد منها مزدوج بما يقابله كالفقر و الغنى و الصحّة و المرض و العلم و الجهل و القوّة و الضعف و الذكورة و الأنوثة و الطول و القصر، فالفاضل يشتغل بالشكر و المفضول بالصبر، و يحصل منكم التناسل، و يتمتّع بعضكم ببعض.

[وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً] و النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه و لذا قلّ في أهل الرياضة لقلّة الرطوبة «سباتا» أي كالموت، و المسبوت الميّت، و هو القطع لأنّه مقطوع عن الحركة و منه سمّي يوم السبت لأنّ اللّه بدأ بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستّة أيّام فقطع عمله يوم السبت فسمّي بذلك و النوم إحدى التوفيتين كما قال سبحانه: (1) «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» أي و يتوفّى الّتي لم تمت في منامها و ذلك لما بينهما من المشاركة التامّة في انقطاع أحكام الحياة، و التنوين في «سباتا» للنوعيّة أي و جعلنا نومكم نوعا من الموت و هو الموت الّذي ينقطع و لا يدوم إذ لا ينقطع ضوء الروح إلّا عن ظاهر البدن و بهذا الاعتبار قيل: له أخو الموت و قد جعله سبحانه راحة لأبدانكم عن الكلال و الملال.

[وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً] أي غطاء و سترة يستر بظلمته و سواده يقال: لبس الثوب استتر به و استعير اللباس لكلّ ما يغطّي الإنسان عن قبيح فجعل الزوج لزوجها لباسا من حيث يمنعه عن تعاطي قبيح و كذا البعل و أيضا جعل التقوى لباسا على طريق التشبيه و كذا جعل الخوف و الجوع لباسا يقولون: فلان تدرّع الفقر و لبس الجوع، و حاصل المعنى أنّ الليل يستركم بظلامه كما يستركم اللباس. قيل: الليل ستر السالكين و النهار سوق البطّالين.

الليل للعاشقين ستريا ليت أوقاتها تدوم

ص: 44


1- سورة الزمر: 42.

[وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً] أي حياة تبعثون فيه من نومكم و وقت معاشكم و مبتغي عيشكم.

[وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً] أي سبع سماوات محكمة أتقنّا صنعها و أوثقنا بناءها لا يؤثّر فيها مرّ الدهور و كرّ العصور. و التعبير عنها بالبناء مبنيّ على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق.

[وَ جَعَلْنا] أنشأنا [سِراجاً وَهَّاجاً] هو الشمس و التعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء وهّاجا و وقّادا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج و هو الحرّ أى جامعا بين النور و الحرارة.

قيل: إنّ الشمس و القمر خلقا في بدء أمرهما من نور العرش و يرجعان في القيامة إلى نور العرش روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: ألا أحدّثكم بما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في الشمس و القمر و بدء خلقهما؟ قال قلنا: بلى يرحمك اللّه فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن ذلك فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه تعالى لما أبرز خلقه احكاما و لم يبق غير آدم (أى و ما كان خلقه بعد) خلق شمسين من نور عرشه فأمّا ما كان في سابق علمه أن يدعها شمسا فإنّه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها و مغاربها، و ما كان في سابق علمه أن يطمسها و يحوّلها قمرا فإنّه جعله دون الشمس في العظم و إنّما يرى صغرهما لشدّة ارتفاعهما في السماء و بعدهما من الأرض فلو ترك الشمس و القمر كما كان خلقهما في بدء أمرهما لم يعرف الليل من النهار و لا النهار من الليل و لا يدري الأجير متى يعمل و متى يأخذ أجره و متى يفطر الصائم و لا تدري المرأة متى تعتدّ و لا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم و متى وقت حجّهم، فكان الربّ أنظر بعباده و أرحم بهم فأرسل جبرئيل فأمّر جناحه على وجه القمر فطمس منه الضوء و بقي فيه من النور فذلك قوله: (1) «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» فالسواد الّذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه أثر المحو قال:

فإذا قامت القيامة و قضى اللّه بين الناس و ميّز بين أهل الجنّة و النار و لم يدخلوهما

ص: 45


1- سورة الإسراء: 17.

بعد يدعو الربّ بالشمس و القمر و يجاء بهما أسودين مكوّرين قد وقفا في زلازل و بلابل ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم و مخالفة الرحمن فإذا كانا حيال العرش خرّ اللّه ساجدين فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا لك و دأبنا في عبادتك و سرعتنا للمضيّ بأمرك أيّام الدنيا فلا تعذّبنا بعبادة المشركين إيّانا، فقد علمت أنّا لم ندعهم إلى عبادتنا و لم تذهل عن عبادتك فيقول الرّب: صدقتما إنّي قد قضيت على نفسي أن أبدأ و أعيد و إنّي معيدكما إلى ما أبدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان: ربّنا ممّ خلقتنا؟ فيقول: خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فتلمع من كلّ واحد منهما برقة يكاد يخطف الأبصار نورا فيختلطان بنور العرش فذلك قوله (1) «يبدأ و يعيد».

فإن قيل: إنّ نور الشمس و القمر يتّصل بنور النبيّ و إنّ نورهما مخلوقان من نوره فكيف يتّصل نورهما بنور العرش؟

فالجواب أنّ العرش و الكرسيّ خلقا من نوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو كان خلق القمرين من نور العرش فهما أيضا مخلوقان من نور النبيّ في الحقيقة و متّصل نورهما بنوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالكلّ نوره.

[وَ أَنْزَلْنا] النون للعظمة [مِنَ الْمُعْصِراتِ هي السحائب إذا عصرت و شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر و لم تعصرها بعد، و الإنزال من المستعدّ لا من المنزل و الواقع و إلّا يلزم تحصيل الحاصل و همزة فعل «أعصر» للحينونيّة يقال: أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد و أعصرت الجارية أي حان لها أن تعصر الطبيعة رحمها فتحيض أو دخلت في عصر شبابها و لو لم تكن همزة أعصر للحينونيّة لكان ينبغي أن يقرء «و المعصرات» بفتح الصاد على المفعول لأنّ الرياح تعصرها و يجوز أن تكون المعصرات الرياح الّتي حان لها أن تعصر السحاب فتمطر [ماءً ثَجَّاجاً] أى منصبّا بكثرة دفاعا من الصبابة، مدرارا متتابعا يتلو بعضه بعضا يقال: ثجّ الماء أى سال بكثرة:

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل الحجّ العجّ و الثجّ» أى رفع الصوت بالتلبية و صبّ دماء الهدي.

ص: 46


1- سورة البروج: 13.

و لا منافاة بين هذا و بين قوله تعالى (1): «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» فإنّ ابتداء المطر إن كان من السماء يكون الإنزال منها إلى السحاب و منه إلى الأرض و إلّا فإنزاله منها باعتبار تكون بأسباب سماويّة من جملتها حرارة الشمس باعتبار السببيّة و اللّه خالق الأسباب و مسبّبها.

[لِنُخْرِجَ بِهِ بذلك الماء بسبب وصوله إلى الأرض و اختلاطه بها و هذه اللام لام المصلحة عند الأشاعرة و لام الغرض عند المعتزلة [حَبًّا وَ نَباتاً] و الحبّ اسم جنس يشمل ما يكون قوتا للإنسان و يقوم به بدنه كالحنطة و الشعير و أمثالها و نباتا كثيرا يعتلف به كالتبن و الكلاء. و تقدّم ذكر الحبّ مع تأخّره عن النبات في الإخراج و الوجود لأصالته.

[وَ جَنَّاتٍ ليتفكّه بها الإنسان قال الفرّاء: الجنّة ما فيه النخيل و الفردوس ما فيه الكروم و الجنّة في الأصل هي السترة تطلق على النخل و الأشجار المتكاثفة بأغصانها و تطلق على الأرض ذات الشجر [أَلْفافاً] أي ملتفّة تداخل بعضها في بعض و ألفاف قيل: لا واحد له كالأوزاع و الأخياف (2)، و الأوزاع بمعنى الجماعات و قيل:

واحده لفّ ككنّ و أكنان أو مفردة لفيف أو هو جمع لفّ جمع لفاء كخضر و خضراء فتكون ألفاف جمع الجمع و المراد من هذه الآيات بيان قدرته على البعث من ذكر الدلائل الآفاقيّة و الأنفسيّة و الاستبعاد من إنكارهم و اختلافهم في وقوعه مع هذه الشواهد.

[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ بين الخلائق [كانَ في تقديره و علمه [مِيقاتاً] و ميعادا للأوّلين و الآخرين و وقت ظهور ما وعد اللّه من البعث و الجزاء.

[يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ] بدل من «يوم الفصل» أو عطف بيان له مفيد لزيادة تفخيمه و تهويله و ذلك الوقت و اليوم زمان ممتدّ يقع في مبدئه النفخة و في بقيّته الفصل. و الصور القرن النورانيّ المعروف و النافخ إسرافيل [فَتَأْتُونَ أَفْواجاً] خطاب ى.

ص: 47


1- سورة الحجر: 22.
2- يقال: اخوة أخياف، إذا كانوا عن أم واحدة و آباء شتى.

عامّ و الفاء فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها أي فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف أفواجا و الفوج الجماعة المارّة المسرعة.

و سأل معاذ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ذلك اليوم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم» ثمّ أرسل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عينيه و قال: «تحشر عشرة أصناف من أمّتي بعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير و بعضهم منكوسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها و بعضهم عمي و بعضهم بكم و بعضهم يمضغون ألسنتهم و هي مدلات (1) على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذّرهم أهل الجمع و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار و بعضهم أشدّنتنا من الجيف و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من القطران لازقه بجلودهم فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات أي النّمام من الناس (2) و أمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت أي الحرام لأنّه يسحت الدّين و المروّة و يستأصلهما و أمّا المنكوسون على وجوههم فآكلة الربا (و التنكيس تعكيس هيئة القيام على الرجل بأن تجعل الرجل أعلى و الرأس أسفل) و أمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم، و أمّا البكم فالمعجبون بأعمالهم، و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم، و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم، و أمّا الّذين قطّعت أيديهم و أرجلهم فهم الّذين يؤذون جيرانهم، و أمّا المصلّبون على جذوع النار فالسعادة بين الناس إلى السلاطين، و أمّا الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات و اللّذّات و يمنعون حقّ اللّه في أموالهم، و أمّا الّذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الخيلاء انتهى.

[وَ فُتِحَتِ السَّماءُ] عطف على ينفخ أي تفتح و تشقّ السماء من هيبة اللّه بعد أن م.

ص: 48


1- ادلاه أرخاه و استرسله.
2- حكى أن رجلا باع عبدا و قال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة فقال: رضيت فاشتراه فمكث الغلام أياما ثم قال لزوجة المولى: إن زوجك لا يحبك و هو يريد أن يتسرى عليك فخذي الموسى و احلقى حين ينام من قفاه شعرات حتى أسحر عليه فيحبك ثم قال للزوج: إن امرأتك أخذت خليلا و تريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف فتناوم الرجل فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تقتله فقام فقتلها فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج فوقع القتال بين القبيلتين و طال الفساد بينهم.

كانت لا فطور فيها و صيغة الماضي للدلالة على التحقّق [فَكانَتْ أَبْواباً] ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة نزولا غير معتاد و قيل: المراد من الفتح الكشف بإزالتها عن مكانها كما قال تعالى: (1) «و إذا السماء كشطت» أي تكشط فيصير مكانها طرقا لا يسدّها شي ء.

[وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ و المسيّر هو اللّه بعد قلعها عن مقرّها و تنبّس (2) ثمّ يفرّقها في الهواء و ذلك قوله [فَكانَتْ سَراباً] السراب ما تراه نصف النهار و هو اللامع في المفازة كالماء و ذلك لانسرابه و جريانه في مرأى العين أي فصارت بتسيّرها مثل السراب أي شيئا كلا شي ء لانبثات جواهرها.

فللجبال حالات فأوّل حالاته الاندكاك كما قال: (3) «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» و حالتها الثانية أن تصير كالعهن المنفوش (4) و الثالثة أن تصير كالهباء و ذلك بأنّ تتبدّد كما قال: (5) «فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» و الرابعة أن ينسف لأنّها مع الأحوال المتقدّمة كانت قارّة مبثوثة على الأرض فنسفت بالرياح و هو المراد من قوله: (6) «يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» و حالته الخامسة أن تصير سرابا.

[إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً] أي إنّها في حكم اللّه موضع رصد يرصد فيه و خزنة جهنّم يرصدون الكفّار ليعذّبوهم فيها فالمرصاد اسم للمكان الّذي يرصد فيه و يستعمل للمحلّ الّذي اختصّ بالترغيب و الجواز عليه.

[لِلطَّاغِينَ مَآباً] أي كائنا للّذين جاوزوا حدود اللّه مرجعا يرجعون إليه.

[لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً] حالكونهم مستقرّين في جهنّم أزمانا كثيرة لا نهاية لها

ص: 49


1- سورة التكوير: 11.
2- اى تحركت بسرعة.
3- سورة الحاقة: 14.
4- «القارعة: 5.
5- «الواقعة: 6.
6- «طه: 105.

و دهورا متتابعة كلّما مضى حقب تبعه حقب آخر إلى غير نهاية و أصل الحقب من الترادف و التابع يقال: أحقب إذا أردف و قيل: إنّ الأحقاب ثلاثة و أربعون حقبا كلّ حقب سبعون خريفا كلّ خريف سبعمائة سنة كلّ سنة ثلاثمائة و ستّون يوما و اليوم ألف سنة من أيّام الدنيا كما روي عن ابن عبّاس. و قال بعض:

الحقب الواحد سبعون ألف، اليوم منها ألف سنة من أيّام الدنيا كما قال به الحسن البصرىّ. قال الفيروزآباديّ: الحقبة بالكسر من الدهر مدّة لا وقت لها.

و بالجملة فإن قيل: إنّ في معنى الأحقاب ما يدلّ على التناهي و خروجهم منها؟

فدلالته من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدالّ على خلود الكفّار كقوله تعالى: (1) «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» و أمثالها كثيرة الدالّة على الخلود الأبديّ. و قيل: هذا التوقيت لأنواع العذاب لا لمكثهم في النار. و قيل: إنّه يعني به لأهل التوحيد عن خالد بن معدان و روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه: لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا و الحقب بضع و ستّون سنة و السنة ثلاثمائة و ستّون يوما كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون فلا يتّكلنّ أحد أن يخرج من النار.

[لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً] و الذوق و إن كان في العرف للقليل لكنّه صالح للكثير لوجود الذوق في الكثير أيضا و المراد بالبرد ما يروّحهم و ينفّس عنهم حرّ النار و إلّا فهم يذوقون في جهنّم برد الزمهرير. و كنّي بالبرد عن الروح و بما يجد الإنسان من اللذّة في الحرّ من البرد أو المراد من البرد النوم قاله أبو عبيدة: و استشهد «فيصدني عنها و عن قبلاتها البرد» أي النوم «وَ لا شَراباً» أي ماء إلّا الحميم و هو الماء الحارّ المغيور «وَ غَسَّاقاً» و هو صديد جهنّم و ما يسيل من جلود أهل النار وقيحهم و الاستثناء منقطع أي لكن يذوقون الحميم و الغسّاق و إن فسّر الغسّاق بالزمهرير فاستثناؤه من البرد و التأخير ليوافق رؤوس الآي.

و عن ابن مسعود: الغسّاق لون من ألوان العذاب و هو البرد الشديد حتّى أنّ أهل

ص: 50


1- سورة النساء: 40.

النار إذا القوا فيه سألوا اللّه أن يعذّبهم في النار ألف سنة لمّا رأوه أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا.

و قال شهر بن حوشب: الغسّاق واد في النار فيه ثلاثمائة و ثلاثون شعبا في كلّ شعب ثلاثمائة و ثلاثون بيتا، و في كلّ بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلق اللّه من الخلق في رأس كلّ شجاع سمّ، قال ابن مسعود: لو علم أهل النار أنّهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا و لو علم أهل الجنّة أنّهم يلبثون في الجنّة عدد حصى الدنيا لحزنوا.

أقول: و أمّا ما قاله بعض حكماء الإسلام من أنّ الكفّار بعد مضيّ الأحقاب ينقطع عنهم العذاب فألفوا العذاب و تعوّدوا به و لم يتألّموا منه و يؤول أمرهم إلى أن يتلذّذوا بالنار حتّى لو هبّ عليهم نسيم الجنّة استكرهوه و تعذّبوا به كالجعل يتألّم من الورد و يحصل لهم حالة جسم السمندري أو أنّ النار يحرق الكفّار في عوض شرك يوم من أيّام الدنيا ألف سنة من سني الآخرة ثمّ بعد مرور الأحقاب ينقطع العذاب عنهم.

فذلك بمعزل عن القبول و من قال به كذّب بالقرآن بل كذّب بجميع كتب السماويّة و الأنبياء مثل عبد الكريم الجيلانيّ في كتابه المسمّى «إنسان الكامل» و ابن العربيّ و البسطاميّ و أمثالهم ممّن أظهروا الباطل في صورة الحقّ و قالوا: إنّ الآيات الّتي يدلّ على خلودهم في النار بحيث يتألّمون بالتعذيب إنّما يدلّ على الزمان الطويل لا على التألّم و إنّما يعذّبون مدّة طويلة ثمّ هم خالدون إلّا أنّهم غير معذّبين و تكلّفوا في ظاهر القرآن و النصوص بالتأويلات القبيحة المستحسنة الظاهرة مثل أنّه سبحانه تمدّح بالعفو و المغفرة و لم يتمدّح بالتعذيب و قالوا:

صورة العذاب دائمة و لكنّهم بعد أحقاب من العذاب يتنعّمون من العذاب كما قال ابن العربيّ «يميت فتجري فيهم تلك السموم الشديدة حتّى يتخدّروا بذلك فيحصل لهم أعظم اللذّة و النعيم» و لو كان الأمر كما زعموا فلم يتمنّون الموت

ص: 51

بقولهم (1): «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» فيجابون «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ».

و بالجملة فالحجّة في الآيات الإحالة على العرف في فهم الآيات و النصوص و أنّهم لا يخاطبون بما لا يعرفون فإنّهم لا يعرفون في قوله: (2) «خالِدِينَ فِيها أَبَداً* ... وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ* ...* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» إلّا عدم انقطاع العذاب و معلوم بالضرورة أنّه ما ورد من الأنبياء و لا من الأئمّة مثل هذه التأويلات في مثل هذه الآيات أبدا فلا بدّ أن يضرب بالحائط هذه التأويلات الفاسدة انتهى.

[جَزاءً وِفاقاً] أي جوزوا بذلك جزاء وفاقا لأعمالهم و عقائدهم و وافقها وفاقا لأنّهم أتوا بمعصية عظيمة فعوقبوا عقابا عظيما «و جزاء سيّئة سيّئة مثلها» لأنّ الكفّار كان من نيّاتهم الاستمرار على الكفر و لو عمروا عمر الدنيا بل عمر الآخرة.

ثمّ علّل استحقاقهم بقوله: [إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً] ينكرون الآخرة و لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم و يقدمون في كلّ ما اشتهت نفوسهم و يستعمل الرجاء في الخوف قال الهذليّ: «إذا لسعته النحل لم يرج لسعها» [وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً] و قد أنكروا آياتنا و رسلنا كذّابا أي تكذيبا مفرطا.

[وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً] أي و كلّ شي ء من أعمالهم حفظناه حالكونه مكتوبا عليهم و الإحصاء و الكتابة في الضبط معنى متقارب و يجوز أن يكون من باب الاحتباك (3)، حذف الفعل الثاني بقرينة الأوّل و مصدر الأوّل بقرينة الثاني و التقدير أي أحصيناه إحصاء و كتبناه كتابا.

[فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً] و الفاء في فذوقوا جزائيّة دالّة على أنّ الأمر بالذوق مسبّب عن كفرهم بالحساب و تكذيبهم بالآيات و أنّ كلّ عذاب يأتي بعد الوقت الأوّل فهو زائد عليه و يزود العذاب و يتجدّد غير الأوّل إلى ما لا نهاية.ر.

ص: 52


1- سورة الزخرف: 77.
2- « «: 75.
3- الاحتباك احتزام الثوب بالإزار.

قوله [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً] شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أي إنّ للّذين يتّقون الكفر و الكبائر فوزا و ظفرا بمباغيهم أو موضع فوز، فالمفاز على الأوّل مصدر ميميّ و على الثاني اسم مكان.

[حَدائِقَ وَ أَعْناباً] بدل من «مفاز» بدل الاشتمال إذا كان مصدرا ميميّا لأنّ الفوز يدلّ عليه دلالة التزاميّة، و بدل البعض إذا كان اسم مكان و الحديقة الروضة ذات الأشجار و الماء تكون محوطة سمّيت تشبيها بحدقة العين في الهيئة من التحوّط و حصول الماء فيها.

[وَ كَواعِبَ جمع كاعبة كعبت المرأة ظهر ثديها و بدت للارتفاع و نهدت [أَتْراباً] مستويات في السنّ، لدات في الميلاد، تشبيها في التساوي بالترائب الّتي هي ضلوع الصدر قيل: إنّهنّ في سنّ ستّ عشر لكونها نصف سنّ الرجال لأنّ سنّ أهل الجنّة في ثلاث و ثلاثين و يدلّ على هذا المعنى وصفهنّ بالكعوب و هذه الكيفيّة في الثدي يحصل في هذا السنّ من البنات.

[وَ كَأْساً دِهاقاً] أي مملوءة بالخمر «دهاقا» أي مدهقة مبالغة في امتلائها يقال:

أدهق الحوض و دهقه ملأه.

[لا يَسْمَعُونَ أي المتّقون [فِيها] في الحدائق [لَغْواً وَ لا كِذَّاباً] لا ينطقون بلغو و هو من الكلام ما يطرح لعدم الفائدة فيه و لا يكذب بعضهم بعضا بخلاف مجالس الدنيا من الشرب و لا يكذّب بعضهم كلام الآخر بخلاف المصاحبين في الدنيا.

[جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أي فعل بالمتّقين ما فعل جزاء من اللّه على تصديقهم باللّه و برسوله و عملوا بكتابه [عَطاءً] أي أعطاهم اللّه إعطاء [حِساباً] أي كافيا على قدر ما يشتهون أو على مقابلة صحّة حسابهم مع اللّه في الدنيا بما وعد سبحانه لهم من عشرة و سبعمائة و المضاعفة و هو داخل في الحسب و التقدير، و الحسب بمعنى التقدير و القدر، فيكون المعنى عطاء بحساب. و العطاء يستعمل في موضع الفضل لا في موضع الاستحقاق و الفضل موهبة من اللّه يختصّ بها من يشاء.

ص: 53

[رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا] بدل من ربّك أي ربّ كلّ شي ء و خالقه [الرَّحْمنِ مفيض الجود و الرحمة بقدر استعداد المرحوم، و هو بالجرّ صفة للربّ أو المعنى ربّهم المعطي إيّاهم ذلك العطاء الجزيل هو الرحمن [لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً] استيناف مقرّر لبيان غاية العظمة و استقلاله من الجزاء و العطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه و بيان نفي قدرتهم على أن يخاطبوه بشي ء من نقص العذاب و زيادة في الثواب من غير إذنه مثل قوله (1): «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» و مثل قوله: (2) «لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى .

[يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الظاهر أنّ الروح من جنس الملائكة لكنّه أعظم منهم خلقا و رتبة و شرفا لتسميته بالروح و الروح أعظم من قواه التابعة له في الإنسان فكذلك في الملائكة و فسّر بعض الروح بجبرئيل إذ هو مشهور بروح الأمين و روح القدس، لكن هذا القول ضعيف لأنّ هذه النسبة إلى جبرئيل لأنّه حامل الوحي الّذي هو كالروح في الأحياء و قد اتّفقوا على أنّ إسرافيل أعظم من جبرئيل قيل: إنّ الروح خلق من خلق اللّه على صورة بني آدم و ليسوا بناس و ليسوا بملائكة يقومون صفّا و الملائكة صفّا هؤلاء جند و هؤلاء جند و قيل: إنّ الروح ملك من الملائكة ما خلق اللّه مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا و قامت الملائكة كلّهم صفّا فيكون عظم خلقه مثل صفّ الملائكة جميعا عن ابن مسعود و ابن عبّاس و قيل: المراد أنّ أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الأرواح إلى الأجساد [وَ قالَ صَواباً] فإذا اذن لهم قالوا لا إله إلّا اللّه و هذا قول الصواب أو من قال في الدنيا قول الحقّ و كان يقول: لا إله إلّا اللّه، و هم أهل التوحيد.

[ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم [الْيَوْمُ الْحَقُ الثابت المتحقّق لا محالة لأنّه متحقّق علما و وقوعا و روى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام قال: سئل عن هذه

ص: 54


1- سورة يونس: 106.
2- «الجن: 27.

الآية فقال: نحن و اللّه المأذون لهم يوم القيامة و القائلون، قال: جعلت فداك ما تقولون؟

قال: نمجّد ربّنا و نصلّي على نبيّنا و نشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا [فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً] أي فعلى هذا البيان من عمل عملا صالحا يؤوب به إلى ربه فقد ازيحت العلل و أوضحت السبل.

[إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث و بما بعده و القوارع الواردة في القرآن [عَذاباً قَرِيباً] و هو عذاب يوم القيامة و قربه لتحقّق إثباته حتما (1) «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها».

[يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ تثنية أصلها يدان سقطت النون بالإضافة أي عذابا كائنا يوم ينظر المرء و يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ لأنّ كلّ أحد يرى عمله مثبتا في صحيفة فيرجوا المؤمن ثواب اللّه على صالح عمله و يخاف العقاب على سيّئته.

و أمّا الكافر [وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي و المنادى محذوف أي يا قوم، أو يكون لمحض التحسّر من غير قصد إلى خطاب [كُنْتُ تُراباً] في الدنيا و لم اخلق و لم ابعث قيل: يحشر اللّه الحيوان فيقتصّ للجمّاء من القرناء نطحتها (2) لقصاص المقابلة لا قصاص التكليف ثمّ يردّه ترابا فيتمنّى الكافر حاله. و قيل: الكافر في الآية إبليس يرى آدم و ولده و ثوابهم فيتمنّى أن يكون الشي ء الّذي احتقره حين قال (3): «خلقتني من نار و خلقته من طين» و يقول: «ليتني كنت ترابا» و قيل: هو تراب سجدة المؤمن تنطفئ به عنه النار و تراب قدمه عند قيامه في الصلاة فيتمنّى الكافر أن يكون تراب قدمه.

روى ابيّ بن كعب قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «تعلّموا سورة النبأ و سورة ق و سورة و النجم و سورة و السماء ذات البروج و سورة و السماء و الطارق فإنّكم لو تعلمون ما

ص: 55


1- سورة النازعات: 46.
2- الجماء: الكبش لا قرن له خلاف القرناء.
3- سورة الأعراف: 11.

فيهنّ لعطّلتم ما أنتم عليه، و تقرّبوا إلى اللّه بهنّ إنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك به» قال صلّى اللّه عليه و آله: لمّا قيل له صلّى اللّه عليه و آله: لقد أسرع الشيب إليك يا رسول اللّه؟

قال: «شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ و إذا الشمس كوّرت» و استحضار معاني هذه السور يشيب الإنسان من الهمّ و يذيب من الخوف و الغمّ لأنّ الشحم و الهمّ لا ينعقد تمّت السورة بعون اللّه

ص: 56

سورة النازعات

اشارة

* (مكية)* قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأ هذه السورة لم يكن حبسه و حسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتّى يدخل الجنّة.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و من قرأها لم يمت إلّا و هو ريّان، و لم يدخل الجنّة إلّا ريّان.

ص: 57

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)

يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

المعنى: النزع جذب الشي ء من مقرّه بشدّة و الغرق مصدر بمعنى الإغراق بحذف الزوائد و هو مفعول للنازعات يعني مفعول مطلق له لأنّه نوع من النزع.

و الإغراق في النزع التوغّل فيه إلى أقصى درجاته يقال: أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدّ حتّى انتهى إلى المنصل، أقسم اللّه بطوائف الملائكة الّتي تنزع الأرواح من الكفّار من أجسادهم إغراقا في النزع كما ينزع السهم الكثير الشعب من الصوف المبلول و كما يسلخ جلد الحيوان و هو حيّ و كما يضرب الإنسان ألف ضربة بالسيف بل أشدّ، و المراد من التأنيث باعتبار الطوائف من أعوان ملك الموت من الملائكة و إلّا لكان أن يقال: و النازعين و الناشطين. و هم يطعنون الكفّار بحربة مسمومة بسمّ جهنّم و الميّت يظنّ أنّ بطنه قد ملئ شوكا و كأنّ نفسه يخرج من ثقب إبرة و كان السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما فإذا نزعت نفس الكافر و هي ترعد أشبه شي ء بالزيبق على قدر النحلة و على صورة عمله تأخذها الزبانية و يعذّبونها في القبر و في سجّين و في الآية بيان كيفيّة قبض أرواح الكفّار بالشدّة بشهادة مدلول اللّفظ.

[وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً] قسم آخر بطريق العطف و النشط ضدّ معنى النزع و جذب الشي ء من مقرّه برفق و لين أقسم اللّه بالملائكة الّتي تنشط أرواح المؤمنين و تخرجها من أبدانهم بالرفق يقال: انشططت العقدة حللتها، و يقال: نشطتها عقدتها و

ص: 58

كما تنشط الشعرة من السمن و القطرة من السقاء، و نفس المؤمن و إن كان يجذب من أطراف البنان و رؤوس الأصابع أيضا لكن إحساسه بالألم ليس كما يحسّ الكافر و أيضا حين يجذبونها يدعونها أحيانا حتّى تستريح بخلاق جذب أرواح الكفّار و ربّما يتعرّض الشيطان للمؤمن الضعيف العمل و اليقين إذا بلغ الروح التراقي فيأتيه في صورة أبيه و أمّه و أخيه و يأمره باليهوديّة أو النصرانيّة.

حكي أنّ إبليس تمثّل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوما و بيده قارورة ماء فقال: أبيعه بإيمان الناس حالة النزع فبكى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأوحى اللّه إليه: إنّي أحفظ عبادي في تلك الحالة من كيده. فإذا أخذوا روح المؤمن يلفّونها في حرير الجنّة و هي على قدر النخلة و على صورة عمله فيعرجون بها إلى الهواء و يهيّئون له أسباب التنعّم في قبره و في علّيّين.

فقوله «و الناشطات» إشارة إلى كيفيّة قبض أرواح المؤمنين بمدلول اللفظ من نشط العقال من يد البصير إذا حلّ، أو المعنى تنشط أرواح المؤمنين للخروج لأنّه ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى موضعه فيها و أزواجه من الحور العين فنفسه تنشط أن تخرج عن ابن عبّاس. و قيل: المراد نشط أرواح الكفّار بين الجلد و الظفر حتّى تخرج من أجوافهم بالكرب و الغم عن عليّ عليه السّلام. و قيل: المراد أنّها النجوم تنشط و تذهب من أفق إلى أفق كما قيل هذا المعنى في النازعات بأنّ المراد من النازعات أيضا هذا المعنى تطلع في أفق و تنزع و تغيب عن أفق.

فإن قيل: إذا كان روح المؤمن في النزع تنزع بالسهولة كما شرح و قد ثبت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ روحه الطيّب ببعض شدّة حتّى قال: «و اكرباه» و قال: «لا إله إلّا اللّه إنّ للموت سكرات اللّهم أعنّي على سكرات الموت» و كان يدخل يده الشريفة في قدح فيه ماء ثمّ يمسح وجهه المنوّر بالماء، و لمّا رأته فاطمة عليها السّلام يغشاه الكرب قالت وا كرب أبتاه! فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فإذا كان أمر النبيّ حين انتقاله هكذا فما الوجه فيما ذكر من الرفق؟

ص: 59

فالجواب روي بأنّه طلب من اللّه أن يحمل عليه بعض صعوبة الموت تخفيفا عن امّته فإنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم و أيضا يحتمل أن يبتليه اللّه بذلك ليدعو اللّه في أن يجعل الموت لأمّته سهلا يسيرا و فيه تسلية امّته إذا وقع لأحد منهم شي ء من ذلك الكرب عند الموت و أيضا راحة الكمّلين في الشدّة لأنّها من باب الترقّي في الدرجات على أنّ مزاجه الشريف أعدل الأمزجة فاحسّ بالألم أكثر من غيره إذ الخفيف على الأخفّ ثقيل.

[وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً] قسم آخر على العطف و السبح المرّ السريع في الماء أو في الهواء أقسم اللّه بطوائف الملائكة الّتي تسبح و تسرع في مضيّها من السماء إلى الأرض مسرعين مشبهين في سرعة نزولهم بمن يسبح في الماء كما يقال للفرس الجواد سابح. و قيل: إنّها النجوم تسبح في فلكها. و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها.

و قيل: هي السفن تسبح في الماء.

[فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً] قيل: إنّها الملائكة لأنّها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح. و قيل: إنّها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء و قيل: إنّها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة عن عليّ عليه السّلام و قيل: إنّها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الّذين يقبضونها و قد عاينت السرور شوقا إلى رحمة اللّه. و قيل: النجوم تسبق بعضها بعضا في السير و قيل: إنّها الخيل تسبق بعضها بعضا في العدو.

[فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً] قيل: إنّها الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة عن عليّ عليه السّلام و قيل: المراد جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت يدبّرون أمر الدنيا فأمّا جبرئيل فموكّل بالرياح و أمّا ميكائيل فموكّل بالقطر و النبات و أمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأنفس و أمّا إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. و قيل:

إنّها الأفلاك يقع فيها أمر اللّه فيجري بها القضاء في الدنيا.

و بالجملة أقسم اللّه بهذه الأشياء أو بربّ هذه الأشياء الّتي عدّدها و هذا ترك الظاهر بغير دليل و للّه أن يقسم بما شاء من خلقه و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به و جواب القسم محذوف و التقدير «لتبعثنّ» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.

ص: 60

[يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ] منصوب و متعلّق بالجواب المحذوف و هو لتبعثنّ و المراد الراجفة الواقعة الّتي ترجف عندها الأجرام الساكنة كالأرض و الجبال أي تتزلزل زلزلة عظيمة و هي النفخة الاولى و فيه إشعار بأنّ تغيّر السفليّ مقدّم على تغيّر العلويّ و إن لم يكن مقطوعا.

[تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ] أي الواقعة الّتي تردف الاولى و تجي ء بعد الاولى أي لتبعثنّ يوم الرجفة حالكون النفخة الثانية تلو الاولى و البعث يكون عند النفخة الثانية و بين النفختين أربعون سنة و المراد بيان تهويل اليوم في كونه موقعا لداهيتين عظيمتين لا يبقى عند وقوع الاولى حيّ إلّا مات و في الثانية ميّت إلّا بعث و قام.

[قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ] مبتدء و تنكيره يقوم مقام الوصف المخصّص و إن لم يذكر النوع المقابل أو يفيد التكثير كما في شرّ أهرّ ذا ناب أي قلوب كثيرة أو عاصية [واجِفَةٌ] مضطربة من سوء أعمالهم و قلقة من الخوف [أَبْصارُها] أي أبصار أصحابها [خاشِعَةٌ] ذليلة و أسند الخشوع إليها مجازا لأنّ أثره يظهر فيها.

[يَقُولُونَ أي هم كانوا يقولون [أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ هل نحن معاودون بعد موتنا [فِي الْحافِرَةِ] و الحاصل أنّ مشركي قريش و منكري البعث في الدنيا إذا قيل:

لهم إنّكم مبعوثون من بعد الموت يقولون أ نردّ إلى أوّل حالنا و ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنّا؟ و الحافرة عند العرب اسم لأوّل الشي ء و ابتداؤه و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة أي أ نردّ من قبورنا بعد موتنا أحياء؟

[أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً] أي أ إذا صرنا عظاما بالية نردّ و نبعث مع كونها أبعد شي ء من الحياة فهو تأكيد لإنكارهم البعث و ذلك أنّهم ظنّوا أنّ من فساد البدن و تفرّق أجزائه يلزم فساد ما هو الإنسان حقيقة و ليس كذلك و لو سلّم أنّ الإنسان هو هذا الهيكل المخصوص فلا نسلّم امتناع إعادة المعدوم فإنّ اللّه قادر على كلّ ما أراد فيقدر على جمع الأجزاء العنصريّة و إعادة الحياة إليها لأنّها متميّزة في علمه و إن كانت غير متميّزة في علم الخلق و مستهلكة كالماء مع اللّبن فإنّهما و إن امتزجا

ص: 61

لكن أحدهما متميّز عن الآخر في علم اللّه مثل أنّه ما كان فكان كذلك فيكون فليس كون الثاني بأبعد من الأوّل.

[قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ] أي إن كان الأمر على ما يقوله محمّد من أنّا نبعث و نعاقب فذلك البعث و الرجوع بعد الموت لنا «كرّة» ذات خسران أو خاسرة أصحابها و كان ذلك القول منهم في الدنيا على سبيل الاستهزاء لأنّهم كانوا استحالوا وقوعه.

فأجاب اللّه بقوله: [فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ] أي لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة بل هي هيّنة فإنّما هي صيحة حاصلة لا تكرّر يسمعونها و هم في بطون الأرض عبّر سبحانه الكرّة بالزجرة مع أنّ الزجرة سبب لحصول الكرّة تنبيها على كمال اتّصالها بها كأنّها عينها.

[فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ] أي فاجؤوا الحصول بالساهرة و حضروا الموقف عقيب الزجرة. و الساهرة الأرض البيضاء المستوية خالية عن الماء و الكلاء قيل لها «ساهرة» لأنّ سالكها لا ينام فيها خوف الهلكة و قال ابن عبّاس: إنّ الساهرة أرض من فضّة لم يعص اللّه عليها قطّ خلقها حينئذ. و قيل: المراد من الساهرة أرض الشام قرب بيت المقدس اسمها ساهرة و يكون الجمع هناك عند ما يبدّل اللّه الأرض غير الأرض و هي عرصة القيامة.

[سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)

[هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية الرسول عن تكذيب قومه بأنّه يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم كأنّه سبحانه قال: «هل أتاك حديث موسى» قبل هذا أم أنا أخبرك به؟ أو يكون «هل أتاك» أي أليس قد أتاك حكاية

ص: 62

موسى مع فرعون فيقتضي أن لا تتحزّن على إصرار قومك في إنكارهم للبعث.

[إِذْ ناداهُ رَبُّهُ ظرف للحديث أي حين ناداه اللّه و دعاه مثل قوله: يا فلان و وقع النداء في الوادي المبارك المطهّر و كان الوادي في حدود الأرض المقدّسة المطهّرة عن الشرك [بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اسم الوادي و قيل: طوى بالتقديس مرّتين لأنّه الموضع الّذي كلّم اللّه موسى. قرئ «طوى» منوّنا و غير منوّن.

[اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ قال اللّه لموسى: اذهب إلى فرعون [إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أي طغا على الخالق بكفره و طغا على الخلق بأن استعبدهم و جاوز الحدّ و ساء المعاملة معهما [فَقُلْ بعد ما أتيته: [هَلْ لَكَ رغبة و توجّه [إِلى أَنْ تَزَكَّى بحذف إحدى التاءين أي تتطهّر من دنس الكفر و الطغيان. و لك خبر عن مبتدء محذوف أي هل رغبة لك حاصلة في أن تصلح [وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ و أدلّك إلى معرفة خالقك و أرشدك إلى طريق الحقّ [فَتَخْشى و تخافه فيما نهاك عنه.

[فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى و في الكلام تقدير و حذف أي أتاه و دعاه فأراه الآية و هي العصا أو اليد [فَكَذَّبَ بأنّها من اللّه و جحد نبوّته فسمّى معجزته الكبيرة و هي قلب العصى حيّة سحرا [وَ عَصى اللّه بالتمرّد حيث اجترأ على إنكار ربّ العالمين و عصى موسى فيما أمره به.

[ثُمَّ أَدْبَرَ] اللعين عن الطاعة و كلمة «ثمّ» تفيد التراخي الزمانيّ إذا السعي في إبطال أمر موسى يقتضي مهلة فانصرف اللعين عن المجلس و ولّى دبره [يَسْعى و يجتهد في معارضة الآية عنادا لا اعتقادا بأنّها يمكن معارضتها تعلّلا بالباطل [فَحَشَرَ فَنادى فجمع السحرة و جمع ما يكاد به من آلات السحر و نادى بنفسه في المقام الّذي اجتمع الناس فيه [فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لا ربّ فوقي و لا أعلى منّي يلي أمركم.

قال أهل التحقيق: ما أشقى الإنسان حيث ادّعى الربوبيّة و قال: «أنا ربّكم الأعلى» و إبليس تبرّأ من هذا الكلام و قال (1): «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ».

[فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى النكال بمعنى التعذيب كالسلام بمعنى

ص: 63


1- سورة الأنفال: 49.

التسليم و مصدر مؤكّد و المعنى نكّل اللّه نكال الآخرة و الاولى و هو الإحراق في الآخرة و الإغراق في الدنيا و لمّا لم يكن صادقا في دعواه افتضح في الدنيا و الآخرة.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً] و فيما ذكر من قصّة فرعون لاعتبارا و عظة [لِمَنْ يَخْشى من ربّه و خالقه فلا يتمرّد على اللّه و لا على أنبيائه و العاقل من اتّعظ بغيره.

[سورة النازعات (79): الآيات 27 الى 46]

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31)

وَ الْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)

فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

[أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً] خطاب للمنكرين للبعث بناء على صعوبة الأمر بزعمهم بطريق التوبيخ و المراد من الشدّة الصعوبة لا الصلابة [أَمِ السَّماءُ] أم خلق السماء بلا مادّة على عظمها و انطوائها على البدائع الّتي تحار العقول في ملاحظة أدناها و القادر على الأصعب الأعسر كيف لا يقدر على حشركم و هو الأسهل [بَناها] استيناف و تفصيل لكيفيّة خلقها و تمّ الكلام عند قوله: «أم السماء» و ابتدأ بقوله: «بناها» و استعمل البناء في موضع السقف و البناء و إن كان تستعمل في أسافل البناء لكنّه استعمل في السقف و هو من أعالي البناء لكونه بعيدا عن الاختلال و الانحلال كالبناء.

[رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض و ذهابها إلى سمت العلو رفيعا مسيرة خمسمائة عام و السمك الارتفاع و هو مقابل العمق و منه قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «يا داعم (1) الممسوكات» و التسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الآخر فسوّاها بلا تفاوت و فطور أو أحكمها.

ص: 64


1- دعم الشي ء- من باب منع- أسنده لئلا يميل.

[وَ أَغْطَشَ لَيْلَها] أي أظلم ليلها [وَ أَخْرَجَ ضُحاها] أي أبرز نهارها، و أضاف الليل و النهار إلى السماء لأنّ منها منشأ الظلام و الضياء.

[وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها] المعنى انّ الأرض بعد خلق السماء بسطها و إن كانت الأرض خلقت قبل السماء و كانت ربوة مجتمعة فبسطها و قيل: معنى «بعد» مع، أي مع ذلك دحاها مثل قوله: (1) «عتلّ بعد ذلك زنيم» أي مع ذلك و قيل: بعد في الآية بمعنى قبل مثل قوله (2): «بعد الذكرى» أي قبل القرآن و لو أنّ البعد على معناه الأصليّ من التأخّر لكان الكلام صحيحا فإنّ الدحو وقع بعد خلق الأرض و السماوات.

[أَخْرَجَ مِنْها ماءَها] بأن فجّر منها العيون [وَ مَرْعاها] أي رعيها بالكسر بمعنى الكلاء و هو في الأصل موضع الرعي بالفتح و نسب الماء و المرعى إلى الأرض من حيث إنّهما مظهران منها.

[وَ الْجِبالَ أَرْساها] منصوب بفعل مضمر يفسّره «أرساها» أي أثبتها و أثبت بها الأرض أن تميد بها.

[مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ مفعول له بمعنى تمتيعا و الأنعام جمع نعم بفتحتين و هي المال الراعية بمعنى المواشي أي فعل ذلك تمتيعا و منفعة لكم و لمواشيكم بقوله:

«أخرج منها ماءها و مرعاها» من جوامع الكلم حيث ذكر شيئين دالّين على جميع ما أخرج من الأرض قوتا و متاعا من الحبّ و الشجر و العنب و الملح و النار و غيرها لأنّ كلّها من الماء و الأرض.

[فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى كلّ شي ء كثر حتّى علا و غلب فقد طمّ و الكبرى تأنيث الأكبر بمعنى عظم لا من الكبير بمعنى أسنّ و المراد بيان حال معادهم بعد ذكر حال معاشهم و الفاء للدلالة على ترتّب ما بعدها على ما قبلها عمّا قليل و المعنى فإذا جاء وقت طلوع وقوع الداهية العظمى الّتي تطمّ على سائر الدواهي

ص: 65


1- سورة القلم: 13.
2- «الانعام: 68.

و تعلو على الخلائق و هي يوم القيامة قيل: هي النفخة الثانية و قيل: إنّ ذلك حين يساق أهل الجنّة إلى الجنّة و أهل النار إلى النار.

[يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي تجي ء الطامّة في يوم يتذكّر الإنسان ما عمله من خير أو شرّ بأن يشاهده مدوّنا في صحيفة أعماله [وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و ظهرت ظهورا بيّنا بعد أن كانوا يسمعون بها و المراد جهنّم [لِمَنْ يَرى كائنا من كان على ما يفيد كلمة من، فإنّه من ألفاظ العموم. فرآها الخلق مكشوفا عنها الغطاء يروى أنّها تتلظّى فرآها كلّ ذي بصر مؤمن و كافر و قوله: «و برّزت الجحيم للغاوين» لا ينافي أن يراها المؤمن حين يمرّون عليها مجاوزين الصراط و قيل للكافرين لأنّ المؤمن يقول: أين النار الّتي توعّدنا بها؟ فيقال: مررتموها و هي خامدة.

[فَأَمَّا مَنْ طَغى و جاوز الحدّ في العصيان و تمرّد عن الطاعة [وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا] الفانية و قدّمها و اختارها و لم يستعدّ للآخرة بالإيمان و الطاعة [فَإِنَّ الْجَحِيمَ الموصوفة [هِيَ الْمَأْوى لا غيرها و لا يخرج منها.

[وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره لعلمه بالمبدإ و المعاد.

و المقام إمّا مصدر ميميّ بمعنى القيام أو اسم مكان بمعنى موضع القيام [وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى عن الميل إليه بحكم الجبلّة البشريّة و لم يعتدّ بمتاع الحياة الدنيا و زهرتها و زخارفها علما منه بوخامة عاقبتها، و في الحديث «إنّ أخوف ما أتخوّف على امّتي الهوى و طول الأمل أمّا الهوى فيصدّ عن الحقّ و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة» قال أصحاب السلوك: الهوى عبارة عن الشهوات الستّ المذكورة في قوله: (1) «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ» و قد أدرجها اللّه في أمر واحد و هو الهوى في الآية و قلّما يخلص إنسان من الهوى [فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي نهيها عن جميع الهوى على أنّ اللام للاستغراق و إلّا فلا معنى للحصر لأنّ المؤمن الفاسق قد يدخل

ص: 66


1- سورة آل عمران: 14.

النار أوّلا ثمّ يدخل الجنّة فلا يصحّ في حقّه الحصر اللّهمّ إلّا أن يقال: معنى الحصر أنّ الجنّة هي المقام الّذي لا يخرج عنه من دخل فيه.

[يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها] يسألون منك يا محمّد أيّ آن و وقت يقيمها اللّه و يثبتها و المرسى مصدر مبتدء و أيّان خبره بتقدير المضاف و التقدير: متى وقت إقامتها و إرسائها. و كانوا يقولون بطريق الاستهزاء.

[فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها] ردّ و إنكار لسؤالهم و أصل «فيم» فيما و الذكرى بمعنى الذكر أي في أيّ شي ء أنت من ذكرها لهم لأنّ ذلك فرع علمك به و أنّى لك ذلك العلم و هو ممّا استأثره بعلمه علّام الغيوب و «أنت» مبتدء و «فيما» خبره قدّم عليه [إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها] أي انتهاء علمها إليه تعالى ليس لأحد يعلم هذا العلم كائنا من كان فلأيّ شي ء يسألونك عنها.

[إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها] أي وظيفتك الإنذار لمن يخاف قيامها و أنت مأمور ببيان أهوالها لا تعيين وقتها و ما أنت إلّا منذر من يخشاها و هو من قصر الصفة على الموصوف و تخصيص من يخشى مع أنّه مبعوث إلى من يخشى و من لا يخشى لأنّهم المنتفعون به و لا يؤثّر الإنذار إلّا فيهم كقوله (1): «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» و الجمهور على قراءة منذر بغير التنوين من إضافة الصفة إلى معمولها لأنّ الأصل في الأسماء الإضافة و قرئ منوّنا [كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها] أي المنكرين و ذلك لأنّهم ما كانوا من أهل الخشية يوم يرون القيامة [لَمْ يَلْبَثُوا] في الدنيا [إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها] أي صغرت الدنيا في أعينهم حتّى كأنّهم لم يقيموا بها إلّا مقدار عشيّة أو مقدار ضحى تلك العشيّة أو المعنى أنّهم يوم يرون القيامة يحسبون أنّهم ما مكثوا في الدنيا إلّا قدر آخر نهار أو أوّله تمّت السورة بعون اللّه

ص: 67


1- سورة ق: 45.

سورة عبس

اشارة

* (مكية)* و تسمى سورة السفرة. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرء سورة عبس جاء يوم القيامة وجهه ضاحكة مستبشرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 23]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَ هُوَ يَخْشى (9)

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)

[عَبَسَ أي بسر و قبض وجهه.

القمّيّ: نزلت: الآية في عثمان و عبد اللّه بن امّ مكتوم الأعمى و كان ابن امّ مكتوم مؤذّنا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جاء إلى رسول اللّه و عنده أصحابه و عثمان عنده فقدّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عثمان فعبس عثمان وجهه و تولّى عنه فأنزل اللّه عبس [وَ تَوَلَّى يعني عثمان [أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى .

و عن الصادق عليه السّلام نزلت في رجل من بني اميّة كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء ابن امّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى اللّه ذلك و أنكره عليه.

ص: 68

قال الطبرسيّ في المجمع: نزلت الآيات في عبد اللّه ابن أمّ مكتوم و هو عبد اللّه ابن شريح بن مالك بن ربيعة الفهريّ من بني عامر بن لؤيّ و ذلك أنّه أتى رسول اللّه و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العبّاس بن عبد المطّلب و ابيّا و اميّة ابني خلف يدعوهم إلى اللّه و يرجو إسلامهم فقال عبد اللّه: يا رسول اللّه أقرئني و علّمني ممّا علّمك اللّه فجعل يناديه و يكرّر النداء و لا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان و العبيد و هذا الأمر يوجب الإعراض للمدعوّين و هو صلّى اللّه عليه و آله يرجو إسلامهم فأعرض صلّى اللّه عليه و آله عنه و أقبل على القوم يكلّمهم فنزلت الآيات فكان رسول اللّه بعد ذلك يكرمه و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني ربّي فيه، و يقول له هل لك من حاجة؟ و استخلفه مرّتين في غزوتين على المدينة.

قال المرتضى علم الهدى: ليس في الآية دلالة على توجّه الخطاب إلى النبيّ بل ظاهر الآية خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه و فيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره لأنّ العبس ليس من صفات النبيّ مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ثمّ الوصف بانّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة مع أنّ اللّه وصفه بقوله: (1) «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» فقوله: «عَبَسَ وَ تَوَلَّى» المراد به غيره كما روي عن الصادق عليه السّلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كما ذكر أوّلا.

قال الفيض قدّس سرّه: و أمّا ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبيّ دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه و كذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمّل بأساليب الكلام و يشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق و الحشويّة الّذين من عادتهم الافتراء على الأنبياء و نسبة السوء إليهم في بعض الأمور و ذلك لغرض مخصوص و هو أنّ ما نسب إلى بعض ولاة أمورهم و ما صدر من القبائح عنهم و صحّ صدوره لا يكون قادحا في إمارتهم و لذا ينسبون بعض الأمور إلى

ص: 69


1- سورة القلم: 4.

أعاظم الأنبياء خلطا للمبحث.

[وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى لعلّ هذا الأعمى يتزكّى و يتطهّر بالعمل الصالح أي و أيّ شي ء جعلك داريا و يطّلعك على باطن أمره [أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى بتشديدين أصله يتذكّر و قوله: «يزكّى» من باب التخلية عن الآثام و قوله: «أو يذّكّر» من باب التحلية بالطاعات و لذا دخلت كلمة الترديد و عطف على «يزكّى» و داخل معه في حكم الترجّي.

قال الفيض: ثمّ خاطب عثمان فقال: [أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى و تتعرّض بالاهتمام برشده أو بالإقبال عليه و هذا المعنى يصحّ على ما فسّره بعض الحشويّة من أنّ المخاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكنّ الصحيح ما قاله الفيض. و التصدّي أن يقابل الشي ء مقابلة، الصدى الصوت الراجع من الجبل و قيل: التصدّي التعرّض للشي ء على آخر كتعرّض الصديان للماء أي العطشان و قيل: أصل تصدّى تصدّد من الصدد و هو ما استقبلك فابدل أحد الأمثال حرف علّة، أمّا إذا كان المتصدّي عثمان كما قاله جماعة منهم الفيض فمعنى الآية أنت إذا جاءك غنيّ تتصدّى له و ترفعه [وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا تبال أ زكيّا كان أو غير زكيّ.

[وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني عبد اللّه بن امّ مكتوم [وَ هُوَ يَخْشى اللّه [فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تشتغل عنه بغيره و قراءة الصادق عليه السّلام تصدّى و تلهّى بضمّ التاء.

[كَلَّا] ردع عن معاودة مثله [إِنَّها تَذْكِرَةٌ] أي آيات القرآن موعظة للخلق [فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حفظه و لم ينسه و اتّعظ بالقرآن [فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ] أي كائنة في صحف و كتب منتسخة من اللوح المحفوظ مكرّمة عند اللّه و يجوز أن يكون خبرا لمبتدء محذوف أي و هي في صحف [مَرْفُوعَةٍ] في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار و الذكر بأنّها في المشهور موضوعة في بيت العزّة في السماء الدنيا [مُطَهَّرَةٍ] منزّهة عن مساس الشياطين.

[بِأَيْدِي سَفَرَةٍ] كتبة من الملائكة جمع سافر من السفر و هو الكتب إذ في

ص: 70

الكتابة معنى السفر أي الكشف و التوضيح و الكاتب السافر لأنّه يكشف و يبيّن الشي ء و سمّي السفر بفتحتين سفرا لأنّه يكشف و يكشف عن أخلاق المرء و لعلّ إضافة التطهير إلى الكتب لطهارة من يمسّها من الملائكة قال القرظيّ في قوله (1):

«لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»: هؤلاء السفرة الكرام [كِرامٍ عند اللّه [بَرَرَةٍ] أتقياء لتقدّسها عن الموادّ و نزاهة جواهرها عن التعلّقات مطيعون للأمر.

[قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأشنع الدعوات فإنّ القتل غاية شدائد الدنيا و فسّر بعض القتل باللعن [ما أَكْفَرَهُ أي ما أشدّ كفره باللّه مع كثرة إحسانه إليه. و في الآية تعجيب من اللّه لخلقه و هو منزّه عن العجب أي اعجبوا من كفره.

[مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ خلقه من شي ء مهين حقير [مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ و هيّأه لما يصلح له من الأعضاء و الأشكال و من كان أصله من هذا الشي ء المهين القذر كيف يليق به التجبّر و الكفر و الكبر.

[ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهّل مخرجه بعد أن خلقه أطوارا إلى أن أخرجه من بطن أمّه بأن فتح فم الرحم قبل الولادة و جعله ينقلب و يصيّر رجله من فوق و رأسه من تحت و لو لا ذلك لا يمكنها أن تلد و قيل: المراد يسر له سبيل الخير و الشرّ و خيّره و مكّنه من فعل الخير و اجتناب الشرّ.

[ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ فقبض روحه بعد انقضاء أجله فجعله في قبر يوارى فيه تكرمة له و لم يدعه مطروحا على وجه الأرض كسائر الحيوان و الهم كيف يدفن يقال: أقبرته جعلت له مكانا يقبر و يدفن فيه و عدّ الإماتة من النعم بالنسبة إلى المطيع فإنّه بالموت يتخلّص من سجن الدنيا و هو تحفة و وصلة إلى الحياة الأبديّة و النعيم السرمديّة و إنّما كان مفتاح كلّ بلاء بالنسبة إلى العاصي و الكافر من سيّئات أعماله و سوء اعتقاده أو ذكره للتخويف و التذكير و هو أيضا نعمة.

[ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ و أحياه و بعثه و في تعليق النشر بالمشيّة إيذان بأنّ وقته و حصوله تابع لمشيّته غير متعيّن لكم و حاصل المعنى أنّه متى حان حين بعثه و نشره

ص: 71


1- سورة الواقعة: 79.

أنشره من قبره و هذا إذا كان لائقا لقبره مثل أنّ المشرك إذا دفن بمكّة تنقله الملائكة إلى موضع لائق به. و في الحديث «من مات من امّتي يعمل عمل قوم لوط نقله اللّه إليهم ثمّ يحشر معهم» و في حديث آخر «من مات و هو يعمل عمل قوم لوط ساربه قبره حتّى يصير معهم و يحشر يوم القيامة معهم».

[كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ردع للإنسان عمّا هو عليه و قيل: معناه حقّا و «لمّا» بمعنى لم و ليس فيه معنى التوقّع و ما في «لمّا» صلة دخلت للتأكيد كقوله (1): «فبما رحمة من اللّه» و ما في «ما أمره» موصولة و عائده محذوف و التقدير ما أمره به و المعنى لم يقض الإنسان ما أمره اللّه به من الإيمان و الطاعة و لم يؤدّ حقّه كما ينبغي قيل:

هو على العموم في الكافر و المؤمن لم يعبدوه حقّ عبادته أو المراد الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أنّ مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده و قد أسند إلى الكلّ بحكم المجانسة أو يكون بطريق رفع إيجاب الكلّي دون السلب الكلّي مع أنّ جمع الأفراد يقتضي أن لا يتخلّف أصلا.

[سورة عبس (80): الآيات 24 الى 42]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)

ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

[فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ شروع في تعداد النعم المتعلّقة ببقائه بعد ذكر النعم المتعلّقة بحدوثه أي فلينظر الإنسان إلى طعامه الّذي عليه يدور أمر معاشه كيف دبّرناه. و في الحديث «إنّ مطعم ابن آدم جعله اللّه مثلا للدنيا و إن تابله (2) و أبزاره العطرة إلى ماذا يصير و يؤول».

ص: 72


1- سورة آل عمران: 159.
2- التابل ما يطيب به الأطعمة.

[أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ] أنزلناه من السحاب وافيا و هو الغيث، بدل اشتمال من طعامه لأنّ الماء سبب لحدوث الطعام و العائد محذوف أي صببنا له [صَبًّا] عجيبا [ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات و لمّا كان الشقّ بعد الصبّ أورد كلمة «ثمّ» [شَقًّا] بديعا لائقا بما يشقّها من النبات صغيرا و كبيرا و هيئة.

[فَأَنْبَتْنا فِيها] في الأرض المشقوقة [حَبًّا] و الحبّ كلّ ما حصد من نحو الحنطة و الشعير و غيرهما و هو جنس الحبّة فيشمل القليل و الكثير [وَ عِنَباً] و المراد شجرة العنب المشقوقة من الأرض [وَ قَضْباً] و القضب قيل: من النبات ما يقضب و يقطع مرّة بعد اخرى في السنة و هو رطب و يؤكل رطبا كالنعناع و الكرّاث و البطّيخ و البادنجان و الدبّاء و الخيار و عن ابن عبّاس أنّه الرطب الّتي تقضب من النخل لمناسبته بالعنب و قيل: هي نبات يقال له القصقصة، و بالفارسيّة «اسپست» و في زماننا يقولون «اسپرس» و قيل: هو الفتّ و هو حبّ الغاسول و هو الإشنان و قيل: هو حبّ يابس أسود يدفن فيليّن قشره و يطحن و يخبز بفتاته أعراب طيّ و لعلّه البلّوط و الأقرب ما فسّره ابن عبّاس.

[وَ زَيْتُوناً] و المراد شجرته و يعمّر ثلاثة آلاف سنة خصّه بالذكر لكثرة فوائده خصوصا في بلاد العرب فإنّهم ينتفعون به أكلا و ادّهانا و استضاءة و تطهّرا فإنّه يجعل في الصابون [وَ نَخْلًا] و هو شجر التمر و هو كثير النفع و في العجوة دفع بعض السموم و السحر [وَ حَدائِقَ غُلْباً] و هي الروضة ذات الشجر. و الغلب جمع الأغلب كحمر جمع أحمر مستعار من قولهم: أسد أغلب أي غليظ العنق فالمعنى حدائق عظاما لتكاثفها و كثرة أشجارها و أنّها ذات أشجار غلاظ و قيل: الغلب من الشجر الّتي لا تثمر كالارزّ و العرعر و الورداء و الثمار. (1) [وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا] أي فاكهة كثيرة غير ما ذكر و أبّا أي مرعى من أبّه إذا قصده لأنّه يقصد جزّه للدوابّ أو المعنى من أبّ لكذا إذا تهيّأ له لأنّه متهيّئ للرعي و أبّان ذلك هو الزمان المتهيّأ لذلك الفعل و قيل: الأبّ الفاكهةا.

ص: 73


1- كذا.

اليابسة تؤبّ و تعدّ للشتاء و في الحديث «خلقتم من سبع و رزقتم من سبع فاسجدوا للّه على سبع» أراد بقوله خلقتم من سبع أي التارات: من نطفة ثمّ من علقة إلخ، و بقوله:

رزقتم من سبع قوله: «حبّا و عنبا» إلى قوله: «أبّا» و الحدائق خارجة عن السبع لأنّها منابت المذكورة و بقوله: فاسجدوا على سبع، الأعضاء السبعة و هي الوجه و اليدان و الركبتان و الرجلان.

[مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ «متاعا» مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم و لمواشيكم فإنّ بعض النعم المعدودة طعام لهم و بعضها علف لدوابّهم و نفعه أيضا راجع لهم.

[فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ] شروع في أحوال معادهم أثر ذكر معاشهم و الفاء للترتيب و بيان فناء هذه النعم عن قريب كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها و جواب «إذا» محذوف يدلّ عليه «يوم يفرّ» و الصاخّة هي الداهية العظيمة الّتي يصخّ لها الخلائق من صخّ لحديثه إذا استمع لأنّ الناس يصخّون لها في قبورهم و هي الصيحة الّتي تصمّ الآذان لشدّة وقعها أو هي مأخوذة من صخّه بالحجر إذا صكّه فيكون الصاخّة حقيقة في النفخة و الصيحة.

[يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ و الصاحبة الزوجة لعلمهم بأنّهم لا يعنون عنه شيئا و هذه الآية يشمل النساء كما يشمل الرجال و لكنّها خرجت مخرج كلام العرب حيث تدرج النساء في الرجال. و لا ينفع ذلك اليوم مال و لا بنون قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله، قالوا: و لا أنت يا رسول اللّه؟ قال: و لا أنّا إلّا أن يتغمدني اللّه بغفرانه».

[لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ استيناف وارد لبيان سبب الفرار أي الهمّ الّذي حصل لهم بسبب ذلك اليوم قد ملأ صدره بحيث لم يبق فيه متّسعا فصار كالغنيّ الّذي ملك شيئا كثيرا فاشتغل به و الفرار حذرا من مطالباتهم بالتبعات مثل أن يقول الإنسان: ما واسيتني بمالك، و الأبوان يقولان: قصّرت في برّنا، و الصاحبة تقول: أطعمتني الحرام، و البنون: لم ما أرشدتنا و ما علّمتنا. قال ابن عبّاس: مثل

ص: 74

قابيل من أخيه هابيل و نوح من ابنه و لوط من امرأته، أو لأنّ المرء يفرّ من أقربائه لئلّا يروا ما هو عليه من سوء الحال. و بالجملة ففي ذلك اليوم:

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ] «وجوه» مبتدء و إن كانت نكرة لكونها في حيّز التنوين و مفيدة و «مسفرة» خبره، مضيئة متهلّلة بنور أعمالهم من أسفر الصبح إذا أضاء و أشرق قال ابن عبّاس: إنّ ذلك من قيام الليل [ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ] بما تشاهد من النعيم و البهجة الّدائمة و الفراغة من الحساب ضاحكة من مسرّة العين مستبشرة من مسرّة القلب.

[وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ] أي كدورة و هي غبرة الذلّ [تَرْهَقُها] و تعلوها و تغشاها [قَتَرَةٌ] سواد و ظلمة كالدخان و وجه الزنجيّ، و هذه الظلمة من الكذب في الدنيا [أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ] أي أولئك الموصوفون هم الجامعون بين الكفر و الفجور، أو الكفرة في حقوق اللّه الفجرة في حقوق العباد.

و استدلّت الخوارج بهذه الآية على أنّ من ليس بمؤمن لا بدّ و أن يكون كافرا فإنّ اللّه قسّم الوجوه بهذين القسمين، قال الطبرسيّ: و لا تعلّق لهم به لأنّه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه و لم يذكر وجوه الفسّاق من أهل الصلاة فيمكن أن يكون لها صفة اخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة أو يكون عليها لون آخر تمّت السورة بعون اللّه

ص: 75

سورة التكوير

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعاذه اللّه من أن يفضحه حين تنشر صحيفته.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: شيّبتني هود و الواقعة و المرسلات و عمّ و إذا الشمس كوّرت» و المعنى أنّه لو كان أمر يشيب منه لشاب من هذه السورة إذا قرأها و فهم معانيها.

و قد روي أنّ عليّا عليه السّلام لمّا غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجد في لحيته الشريفة شعرات بيض.

ص: 76

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

و رفع الشمس على أنّه فاعل لفعل مقدّر يفسّره المذكور تقديره إذا كوّرت الشمس كوّرت و لا يجوز إظهاره لأنّ ما بعده يفسّره و إنّما احتيج إلى إضمار فعل لأنّ «إذا» فيها معنى الشرط و الشرط مختصّ بالفعل و عند البعض الرفع على الابتداء و الأوّل أولى و جواب «إذا» علمت نفس ما أحضرت.

و التكوير التلفيف على وجه الاستدارة و المراد إمّا رفعها و إزالتها عن مقرّها فإنّ الثوب إذا أريد رفعه عن مكانه و يجعل في مكان يلفّ و يطوى فتكويرها عبارة و كناية عن رفعها و إمّا المراد لفّ ضوئها المنبسط فاللفّ على هذا مجاز عن إعدام ضوئها و في الحديث إنّ الشمس و القمر نوران مكوّران في النار يوم القيامة و لعلّ نورانيّتهما يتّصل بالعرش و حرارتهما يتّصل إلى جهنّم. فإن قيل:

و ما ذنبهما؟ فالسؤال ساقط لأنّهما جمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سببا لمضرّتهما بل سبب لازدياد الحرّ في جهنّم أو ليعذّب بهما عبّاد الأنوار لا ليعذّبهما في النار و سبيلهما سبيل الملائكة الموكّلين بالعذاب كما قيل: إنّ السماء إذا طويت واحدة بعد واحدة يرمى بكواكبها في النار.

[وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تساقطت و تناثرت يقال: انكدر الطائر من الهوى إذا نقضّ فإنّ السماء تمطر يومئذ نجومها فلا يبقى نجم إلّا وقع على

ص: 77

وجه الأرض يوم القيامة على ما روي عن ابن عبّاس أنّ النجوم في قناديل معلّقة بين السماء و الأرض بسلاسل من نور و تلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السماوات و من في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيديهم لأنّه مات من يمسكها و قيل: المعنى تغيّرت من الكدورة و الأوّل أولى لأنّه سبحانه يقول (1): «وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ».

[وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض و أبعدت عن أماكنها بالرجفة و تسيّر الجبال لا بالاختيار كسير الإنسان بل بالقهر و التسخير.

[وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ و العشار جمع عشراء و هي الناقة الّتي أتى على حملها عشرة أشهر و هي أنفس أموال العرب تركت بلا راع و عطّلت و قيل: المراد من العشار السحاب تعطّل فلا تمطر و هذا يمكن على وجه المثل يعني إنّ هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطّلها و تركها مهملة و اشتغل بنفسه أو أنّ المراد مبادي ظهور الساعة فحينئذ يمكن وجود العشراء في المبادي فلا يكون تمثيلا بل حقيقة.

[وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت من كلّ جانب و اختلطت بعضها ببعض و بالناس مع نفرة بعضها عن بعض و عن الناس و ذلك الجمع من هول ذلك اليوم و قيل: بعثت للقصاص و إظهارا للعدل قال قتادة: يحشر كلّ شي ء حتّى الذباب للقصاص فإذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته أو صوته كالطاوس و البلبل و نحو هما.

[وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي أحميت أو المعنى ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتّى تعود بحرا واحدا مختلطا عذبها بملحها فتعمّ الأرض كلّها من سجّر التنوّر إذا ملأه بالحطب ليحميه. و وجه الإحماء أنّ جهنّم في قعور البحار إلّا أنّها الآن مطبقة لا يصل أثر حرارتها إلى ما فوقها من البحار لتعسّر انتفاع أهل الأرض بها فإذا انتهت مدّة الدنيا يرفع الحجاب فيصل تأثير الحرارة إلى البحار

ص: 78


1- سورة الانفطار: 2.

فتسخن فتسير حميما لأهل النار و قيل: المعنى او قدت فصارت نارا تضطرم قاله ابن عبّاس: و قيل: يبست و ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة و قيل: ملئت من القيح و الصديد الّذي يسيل من أبدان أهل النار في النار لكنّ المراد بحار جهنّم لا بحار الدنيا لأنّ بحور الدنيا قد فنيت و الّذين فسّروا التسجير بالامتلاء و تفجير بعضها إلى بعض حتّى صارت كالبحر الواحد قالوا: بسبب أنّ الجبال تندكّ و تتفرّق أجزاؤها و تصير كالتراب الهائل فلا جرم تنصبّ أجزاؤها في أسافلها فتمتلئ المواضع الغائرة من الأرض مستويا مع البحار.

[وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت الأرواح بالأجساد بأن ردّت إليها أو قرنت كلّ نفس بشكلها و بمن كان في طبقتها في الخير و الشرّ فيضمّ الصالح إلى الصالح و الفاجر إلى الفاجر أو قرنت بكتابها و بعملها فالنفوس المتمرّدة زوّجت بأعمالها السيّئة و المطمئنّة بأعمالها الحسنة أو نفوس المؤمنين بالحور و نفوس الكفرة بالشياطين.

[وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ أي المدفونة حيّا و هي موءودة إذا دفنها في القبر و هي حيّة و كانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم لأجلهنّ و كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه فألحقوا البنات به فهو أحقّ بهنّ.

قال الزمخشريّ في الكشّاف: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى له الإبل و الغنم في البادية و إن أراد قتلها تركها حتّى كانت سداسيّة و بلغت ستّ سنين فيقول لأمّها: طيّبها و زيّنها حتّى أذهب بها إلى أحمائها و قد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثمّ يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتّى يستوي البئر الأرض و قيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخّضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة و إن ولدت ابنا حبسته.

و معنى «سئلت» أي طولب قاتلها بالحجّة في قتلها و سئل عن سبب قتلها كأنّه قيل: إنّ الموؤدة تسأل قاتلها بأيّ ذنب قتلتني؟ و المراد أنّ المقتولة مسؤول عنها.

ص: 79

قال ابن عبّاس: إنّ أطفال المشركين لا يعذّبون و احتجّ بهذه الآية فإنّه ثبت بها أنّ التعذيب لا يستحقّ إلّا بالذنب.

[وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحف الأعمال فإنّها تطوى عند الموت و تنشر عند الحساب فيقف على ما فيها فيقول (1): «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها» و عن مرثد بن وادعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فيقع صحيفة المؤمن في يده في جنّة عالية مكتوب فيها، و يقع صحيفة الكافر في يده مكتوب فيها في سموم و حميم و هي صحف غير صحف الأعمال فعلى هذا هذه الصحف غير صحف مثاقيل الذرّ و الخردل و الأعمال.

[وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت و أزيلت بحيث ظهر ما وراءها و هو الجنّة و العرش كما يكشط الإهاب عن الذبيحة و الغطاء عن الشي ء المستور به و منه انكشط روعه أي زال.

[وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقدت للكافرين إيقادا شديدا و إسعار النار زيادة لهيبها لا حدوثها ابتداء و به يندفع احتجاج من قال: النار غير مخلوقة الآن لأنّها تدلّ على أنّ تسعّرها معلّق بيوم القيامة لأنّه يحصل فيه الزيادة و الاشتداد [وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ الإزلاف التقريب أي قربت للمتّقين ليدخلوها لقوله (2): «وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» و لعلّ المعنى من تقريب الجنّة تقريب أهل الجنّة إليها لا أنّها تزول عن مواضعها فالمراد حينئذ من التقريب التعكيس للمبالغة مثل قوله تعالى (3): «وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ»* حيث تعرض النار عليهم تحقيرا و إهانة فقلب مبالغة لتحقيرهم شأنا و المتّقين لتجليلهم و تفخيمهم عزّة و رفعة.

قال ابيّ بن كعب: ستّ آيات تظهر قبل القيامة بينما الناس في أسواقهم و الميزان في أيديهم و اللقمة في أفواههم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت

ص: 80


1- سورة الكهف: 50.
2- «ق: 31.
3- «الأحقاف: 21.

النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحرّكت الأرض و اضطربت و فزعت الجنّ إلى الإنس و اختلطت الدوابّ و الطير و الوحوش و ماج بعضهم في بعض فحينئذ تقول الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إلى البحر فإذا هو نار تتأجّج و تتلهّب قال: فبينما هم كذلك إذ صدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى و إلى السماء السابعة العليا فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.

[عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي علمت كلّ نفس من النفوس ما أحضرته مثل قوله: «هنالك تبلو كلّ نفس ما أسلفت» و المراد من الحضور إمّا حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها و إمّا حضور نفس العمل لأنّ الأعمال في هذه النشأة بصور عرضيّة تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهريّة مناسبة لها في الحسن و القبح على كيفيّات و هيآت مخصوصة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن ممّا كانت تشاهدها عليه في الدنيا و إن كانت سيّئة تشاهدها على ما هي عليه هاهنا.

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 29]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

ثمّ أكّد سبحانه الأمور المذكورة بالقسم أي فاقسم و «لا» زائدة مؤكّدة أو ردّ لقول سابق من الكفّار أي ليس الأمر كما تزعمون أيّها الكفرة ثمّ أقسم بالخنّس، جمع خانس و «الكنّس» جمع كانس و أصلها الستر و الشيطان خنّاس لأنّ اللعين يخنس إذا ذكر اللّه و يذهب و يستتر و كناس الطير و الظبي هو بيت يختفي فيه و الكواكب تكنس في بروجها تختنس بالنهار و تبدو بالليل، و الخنوس الرجوع إلى الخلف و يقال للشيطان خنّاس لأنّه يضع خرطومه على قلب العبد فإذا ذكر اللّه

ص: 81

استتر و إذا غفل العبد رجع إلى الوسوسة.

و المعنى: أقسم بالكواكب الرواجع، و الجواري صفة لها لأنّها تجري في أفلاكها و تتوارى في بروجها و تكنس في غروبها فهذا خنوسها و كنوسها و قيل: المراد بالكواكب الرواجع ما عدا النيّرين من الدراري الخمسة و هي: المرّيخ و يسمّى بهرام، و زحل و يسمّى كيوان، و عطارد و يسمّى الكاتب، و الزهرة و تسمّى ناهيذ و المشتري و يسمّى روايس و برجيس. و ما من نجم يقطع المجرّة غير الخمسة و قيل هي بقر الوحش أو الظباء عن ابن مسعود.

[وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ظلامه لأنّ إقبال الصبح يكون بإدبار الليل و عسعس يفسّر بأدبر أو أقبل فإنّه من الأضداد و لكن عليّ عليه السّلام فسّره بأدبر بظلامه و قوله تعالى: «و الليل» عطف على الخنّس.

[وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ عطف عليه أيضا و العامل في «إذا» معنى القسم و إذا و ما بعدها في موضع الحال أقسم اللّه بالليل مدبرا و بالصبح مضيئا و مشرقا و جعل تنفّس الصبح عبارة عن طلوعه و انبساطه بحيث زال معه عسعسة الليل و هي الغبرة الحاصلة في آخر الليل، و التنفّس في الأصل ريح مخصوص يروّح القلب بالتنّفس بهبوبه على القلب مثل نفس الحيوان، شبّه بإقبال الصبح من الروح و النسيم بذلك الريح المسمّى بالنفس و اطلق اسم النفس عليه استعارة فجعل الصبح متنفّسا بذلك لأنّ النفس بالمعنى المذكور لازم له فهو كناية متفرّعة على الاستعارة.

[إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جواب القسم أي إنّ القرآن قول رسول كريم على ربّه و هو جبرئيل و إنّما أضافه إلى جبرئيل لأنّ اللّه أمر جبرئيل أن ائت محمّدا و قل له كذا فقاله من جهة اللّه فأنزله جبرئيل على لسانه فسمعه محمّد فإسناده إليه باعتبار السبيّة الظاهرة في الإنزال، و يدلّ على أنّ المراد بالرسول هو جبرئيل ما بعده من ذكر قوّته، و وصفه بالرسول لأنّه رسول عن اللّه إلى الأنبياء، و وصفه بكريم لأنّه عزيز عظيم عند اللّه و عند الناس لأنّه يجي ء بأفضل العطايا و هو المعرفة و الهداية و هذه الآية نزلت في معرض الردّ و الإنكار لمقالة الكفّار الّذين قالوا: إنّ محمّدا يقوله

ص: 82

و يتقوّله فقال سبحانه: «إنّه لقول رسول كريم».

[ذِي قُوَّةٍ] شديدة كما رفع قرى قوم لوط القرى الأربع من الماء الأسود من سبع طبقات بقوادمه حتّى سمع أهل السماء نياح الكلب و أصوات الديكة ثمّ قلّبها و في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذاري، و صاح صيحة بقوم صالح فأصبحوا جاثمين، و إنّه يهبط من السماء إلى الأرض و يصعد في أسرع من الطرف، و إنّه رأى شيطانا يقال له الأبيض صاحب الأنبياء فدفعه دفعة رفيقة وقع من مكّة إلى أقصى جبل الهند، و كذا رآه يكلّم عيسى عليه السّلام على بعض الأرض المقدّسة فنفخه نفخة واحدة ألقاه إلى أقصى جبل الهند. و قيل: المراد من القوّة في أداء طاعة اللّه و ترك الإخلال بها من الخلق إلى آخر زمان التكليف.

[عند ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي اللّه، أي عنده تعالى ذا مكانة رفيعة من المنزلة و التشريف لا عنديّة مكان.

[مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فيما بين الملائكة المقرّبين يصدرون عن أمره و يرجعون إلى رأيه لعلمهم بمنزلته عند اللّه، و من طاعتهم أنّهم فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول اللّه، و طاعة جبرئيل فريضة على أهل السماوات كما أنّ طاعة محمّد فريضة على أهل الأرض أي مطاع هناك أي في السماوات أمين على الوحي و قرئ «ثمّ» بضمّ الثاء فيكون للتراخي تعظيما لوصف الأمانة و تفضيلا لها على سائر الأوصاف فيكون على طريق الترقّي من صفاته الفاضلة إلى ما هو أفضل و أعظم و هو الأمانة.

[وَ ما صاحِبُكُمْ يا أهل مكّة و هو رسول اللّه عطف على جواب القسم [بِمَجْنُونٍ كما تقولون، و نسبة التصاحب لأنّه كان بين أظهرهم في مدّة متطاولة و قد جرّبوا عقله و أمانته فوجدوه أكمل منهم و هم لقّبوه بالأمين الصادق [وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي و باللّه رأى رسول اللّه جبرئيل و أبصره في ناحية السماء، و المبين من أبان اللازم بمعنى اللازم أي بمطلع الشمس من ناحية المشرق، و المراد بالأفق هنا حيث تطلع الشمس استدلالا بوصفه بالمبين فإنّ نفس الأفق لا مدخل له في تبيين الأشياء و ظهورها و إنّما يكون له مدخل في ذلك من حيث كونه مطلعا لكوكب منير

ص: 83

يبين الأشياء و الكوكب المبين هو الشمس، و إسناد الإبانة إلى مطلعها باعتبار سببيّتها لها.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل جبرئيل أن يتراءى له في صورته الّتي خلقه اللّه عليها فقال جبرئيل: و ما ذاك إليّ فاذن له فأتاه عليها و ذلك في جبل حراء في أوائل البعثة فرآه رسول اللّه قد ملأ الآفاق بكلكلة رجلاه في الأرض و رأسه في السماء، جناح له بالمشرق و جناح له بالمغرب و له ستّمائة جناح من الزبرجد فغشي عليه صلّى اللّه عليه و آله فتحوّل جبرئيل في صورة بني آدم و ضمّه إلى نفسه و جعل يمسح الغبار عن وجهه فقيل لرسول اللّه: ما رأيناك مذ بعثت أحسن منك اليوم فقال صلّى اللّه عليه و آله: «جاءني جبرئيل في صورته فعلق بي هذا من حسنه» و ما رآه أحد من الأنبياء غيره في صورته فهو من خصائصه.

و اعلم أنّ وقوع الغشيان إنّما هو من كمال العلم و الاطّلاع بقدرة اللّه حين الرؤية كما غشي على جبرئيل ليلة الإسراء حين رأى الرفرف و لم يغش على رسول- اللّه و قال صلّى اللّه عليه و آله: «فعلمت فضل جبرئيل في العلم» فكأنّه صلّى اللّه عليه و آله أشار إلى فضل نفسه أيضا لمّا غشي عليه برؤية جبرئيل على صورته الأصليّة.

[وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي هو صلّى اللّه عليه و آله ليس على وحي اللّه بمتّهم فإنّ أحواله شاهدة بالصدق و الأمانة، و قرئ بالضاد فالمعنى أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس ببخيل فيما يؤدّي عن اللّه أن يعلّمه كما علّمه اللّه فيكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتّى يأخذ عليه حلوانا و اجرة و يسأل تعليمه فلا يعلّمه إلّا بالاجرة.

[وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي قول بعض المسترقة للسمع، دلّ عليه توصيفه بالرجيم لأنّه بمعنى المرميّ بالشهب، أو المراد المرجوم باللعن و هذا ردّ لقولهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة.

[فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال فيما يقولون في أمر القرآن و «أين» ظرف مكان مبهم منصوب بتذهبون، أي فأيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة الحقّة و هو طريق القرآن؟

ص: 84

[إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «إن» نافية و الضمير راجع إلى القرآن أي ما هو إلّا عطيّة و تذكير لهم [لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيّها المكلّفون بالإيمان و هو بدل من «العالمين» بدل البعض [أَنْ يَسْتَقِيمَ مفعول «شاء» أي لمن شاء منكم الاستقامة.

[وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ عن الكاظم عليه السّلام «إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة موردا لإراداته فإذا شاء اللّه شاءوه» أي و ما تشاؤن الاستقامة على الحقّ إلّا أن يشاء اللّه ذلك من حيث خلقكم لها و كلّفكم بها و طلب منكم الإيمان و قيل:

إنّ الآية خطاب للكفّار و المراد لا تشاؤن الإسلام إلّا أن يشاء اللّه أن يجبركم و يلجئكم إليه و لكنّه لا يفعل لأنّه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقّوا الثواب و لا يريد أن يحملكم عليه جبرا، عن أبي مسلم. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 85

هذه

سورة الانفطار

اشارة

* (مكية)* قال ابيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ قبر حسنة و بعدد كلّ قطرات ماء حسنة و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة و من قرأ هاتين السورتين:

إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقّت و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة لم يحجبه من اللّه حجاب و لم يزل ينظر إلى اللّه و ينظر اللّه إليه حتّى يفرغ من حساب الناس.

ص: 86

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)

يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

[إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ و انفطارها و تقطّعها لزوال بنيتها. و إعرابه كإعراب «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» [وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت من مواضعها سوداء متفرّقة كما تتساقط اللئالئ إذا انقطع السلك. و هذان من أشراط الساعة فإنّ السماء في هذا العالم كالسقف و من أراد تخريب بناء فإنّه يبدأ أوّلا بتخريب السقف.

[وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض بزوال المانع بحصول الزلزلة و استواء الأرض و صارت البحار و هي سبعة: بحر الروم و بحر الصقالبة و بحر جرجان و بحر القلزم و بحر فارس و بحر الصين و بحر الهند بحرا واحدا فيصبّ ذلك البحر في جوف الحوت الّذي عليه الأرضون السبع كما في كشف الأسرار، و قيل:

معناه ذهب ماؤها و دخل في البحار البحر المحيط لأنّه أصل الكلّ إذ منه يتفرّع الباقي.

[وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها و اخرج موتاها أو بحثت عن الموتى فاخرجوا منها، و بعثرت المتاع و بحثرته أي جعلت أسفله أعلاه، فيجعل أسفل القبور

ص: 87

أعلاها، و بعثر و بحثر مركّبان من البعث و البحث مع راء ضمّت إليهما مثل تركيب الرباعي و الخماسي نحو هلّل و بسمل إذا قال: لا إله إلّا اللّه، و بسم اللّه.

[عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ أي كلّ نفس برّة أو فاجرة «ما قدّمت» في حياتها من عمل خير أو شرّ و «نفس» هنا اسم الجنس و «ما» من ألفاظ العموم «و أخّرت» من سنّة حسنة أو سيّئة يعمل بعده قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و أيّما داع دعا إلى الضلالة فاتّبع فله مثل أوزار من اتّبعه إلّا أنّه لا ينقض من أوزارهم شي ء، و كذلك أيّما داع دعا إلى الهدى فاتّبع فله مثل أجر من اتّبعه إلّا أنّه لا ينقص من أجورهم شي ء» و هذا العلم التفصيلي يحصل عند قراءة الكتب و المحاسبة و أمّا العلم الإجماليّ بالسعادة و الشقاوة فيحصل من أوّل الأمر لأنّ المطيع يرى بتأثير السعادة و العاصي كذلك.

[يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ يعمّ جميع العصاة و لا خصوص له بالكفّار و قيل: يريد اميّة بن خلف و قيل: نزلت في الوليد بن مغيرة أو الأسود بن كلدة الجمحيّ قصد النبيّ في بطحاء مكّة فلم يتمكّن منه، و لكنّ اللفظ عامّ يصلح له و لغيره، و في زهرة الرياض أنّ الأسود ضرب على يافوخ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخذه رسول اللّه و ضربه على الأرض فقال له: يا محمّد الأمان الأمان منّي الجفاء و منك الكرم فإنّي لا أوذيك أبدا فتركه رسول اللّه.

[ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «ما» استفهاميّة في موضع الابتداء و «غرّك» خبره، و المعنى أيّ شي ء خدعك و جرّأك على عصيانه و آمنك من عقابه و قد علمت ما بين يديك من الدواهي؟ و التعرّض بلفظ «الكريم» للإيذان بأنّه ليس ممّا يصلح أن يكون مدار الإغرار حسبما يغويه الشيطان بأن يقول له: افعل ما شئت فإنّ ربّك كريم قد تفضّل عليك في الدنيا و سيفعل مثله في الآخرة فإنّه قياس عقيم و تمنية باطل بل هو ممّا يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان و الطاعة و لهذا لمّا قرأها رسول اللّه قال: «غرّه جهله» فظهر أنّ كرم الكريم لا يقتضي الاغترار به بل الحذر عن مخالفته من حيث إنّ أعمال الظالم ينافي كونه كريما بالنسبة إلى المظلوم و كذا

ص: 88

التسوية بين الموالي و المعادي، فإذا كان محض الكرم لا يقتضي الاغترار به فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر و للّه الأسماء المتقابلة و لذا قال سبحانه (1): «نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم* و أنّ عذابي هو العذاب الأليم».

و قيل: للفضيل بن عياض ما ذا تقول إن أقامك ربّك يوم القيامة و قال لك:

«ما غرّك بربّك الكريم»؟ قال أقول: غرّتني ستورك المرخاة. قال الزمخشريّ:

قول الفضيل ليس باعتذار كما يظنّه الطمّاع و يظنّ به قصّاص الحشويّة و يروونهم من أئمّتهم إنّما قال: «بربّك الكريم» ليلقّن عبده الجواب حتّى يقول: غرّني كرمك الكريم.

[الَّذِي خَلَقَكَ صفة ثانية مقرّرة للربوبيّة مبيّنة للكرم لأنّ الخلق إعطاء الوجود و هو خير من العدم، منبّهة على أنّ من قدر على الخلق و ما يليه بدءا قدر عليه إعادة [فَسَوَّاكَ أي جعل أعضاءك سويّة معدّة لمنافعها كالبطش لليد و المشي للرجل و التكلّم للّسان إلى غير ذلك [فَعَدَلَكَ و عدل بعض تلك الأعضاء ببعض بحيث لم تتفاوت مثل أن تكون إحدى اليدين أو الرجلين أو الأذنين أطول من الاخرى، أو تكون إحدى العينين أدمع من الاخرى. قال أهل التشريح: إنّه تعالى ركّب جانبي هذه الجثّة على التساوي حتّى أنّه لا تفاوت بين نصيبه لا في العظام و لا في أشكالها و لا في الأوردة و الأعصاب، فكلّ ما في أحد الجانبين مساو لما في الجانب الآخر فيكون المعنى: فصرفك عن الخلقة المكروهة كما قال (2):

«في أحسن تقويم» و قرئ «فعدّلك» بالتشديد.

[فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الجارّ متعلّق بركّبك، و «ما» مزيدة لتعميم النكرة و العائد محذوف و المعنى ركّبك في أيّ صورة شاءها و اقتضتها حكمته من القصر و الطول و الذكورة و الأنوثة كما في الحديث «إنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم أحضرها اللّه كلّ نسب بينها و بين آدم و صوّرها في أيّ شبيه شاء».4:

ص: 89


1- سورة الحجر: 49- 50.
2- سورة التين: 4:

[كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي ارتدعوا عن الكفر و العصيان ثمّ قال بعد الردع بطريق الاعتراض: و أنتم لا ترتدعون بل تجرؤن حيث تكذّبون بالجزاء و البعث أو المعنى تكذّبون بدين الإسلام و لا تصدّقون ثوابا و لا عقابا.

[وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ حال من فاعل «تكذّبون» و أتى بلفظ الجمع في «حافظين» باعتبار كثرة المخاطبين أو باعتبار أنّ لكلّ واحد منهم جمعا من الملائكة اثنان باللّيل و اثنان بالنهار حافظين لأعمالكم.

[كِراماً كاتِبِينَ كرام حيث يسارعون إلى كتب الحسنات و يتوقّفون في كتب السيّئات رجاء أن يتوب فيكتبون الذنب و التوبة معا [يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ لحضورهم من الأفعال الصادرة عنكم قليلا و كثيرا لتجازوا بذلك.

[إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ و هو الجنّة و الأبرار أولياء اللّه المطيعون في الدنيا الّذين برّوا و صدقوا في إيمانهم بأداء الفرائض جمع برّ بالفتح و هو بمعنى الصادق و المطيع و المحسن، و أحسن الحسنات لا إله إلّا اللّه ثمّ برّ الوالدين ثمّ البرّ للمؤمنين.

[وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ و الفجور شقّ ستر الديانة، في النار و عذابها، و التنوين للتهويل، و نعيم الطاعة و المعرفة تقابله جحيم الغفلة و المعصية.

[يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ صلا النار قاسى حرّها و باشره و التصق ببدنه، فيصلونها يوم الجزاء [وَ ما هُمْ أي الفجّار [عَنْها] عن الجحيم [بِغائِبِينَ طرفة عين و قيل: المعنى و ما كانوا غائبين قبل ذلك عن النار غائبين بالكلّيّة بل كانوا يجدون سمومها و حرّها في قبورهم كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «القبر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران».

[وَ ما أَدْراكَ خطاب لكلّ من يتأتّى منه الدراية و «ما» مبتدء و «أدراك» خبر أي أيّ شي ء جعلك داريا و عالما ما يوم الدّين في الهول و الفظاعة فإنّه خارج عن دائرة دراية الخلق لأنّهم على أيّ صورة يصوّرونها فهو فوقها و أضعافها.

[ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تكرير بثمّ المفيدة للترقّي في الرتبة للتأكيد و زيادة التخويف و أتى بالظاهر عن الضمير تأكيدا لفخامته.

ص: 90

[يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً] و يوم مرفوع المحلّ على أنّه خبر مبتدء محذوف و حركته الفتح لإضافته إلى غير متمكّن و التقدير هو يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئا من الأشياء أو منصوب بإضمار اذكر.

[وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ] كلّه يوم إذ لا تملك نفس [لِلَّهِ وحده فإنّ الأمر و الحكم من شأن الملك المطاع و الخلق تحت سطوات ربوبيّته و لا يزاحمه أحد. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 91

هذه

سورة المطففين

اشارة

* (مكية)* و قيل بعضها و هي ثمان آيات منها مدنيّة و هي «إنّ الّذين أجرموا» إلى آخر السورة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «و من قرأها سقاه اللّه من الرحيق المختوم يوم القيامة».

و عن الصادق عليه السّلام: «من كانت قراءته في الفريضة أعطاه اللّه الأمن من النار يوم القيامة و لا يراه و لا يراها».

ص: 92

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)

كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

[وَيْلٌ شدّة الشرّ أو الهلاك و العذاب الأليم قال ابن كيسان: هو كلمة كلّ مكروب واقع في البليّة فقولك «ويل لك» عبارة عن استحقاق المخاطب لنزول البلاء الموجب له و هو مبتدء و إن كان نكرة فقد وقع موقع الدعاء [لِلْمُطَفِّفِينَ الباخسين حقوق الناس في المكيال و الميزان و التطفيف تنقيص الشي ء مقدارا قليلا على وجه الخفية، و طفّف الكيل قلّل نصيب المكيل له في إيفائه و استيفائه.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «خمس بخمس: فما نقض العهد قوم إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر، و ما ظهرت الفاحشة فيهم إلّا فشا الموت، و لا طففوا الكيل إلّا منعوا النبات و أخذوا بالسنين، و لا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» و كان أهل المدينة يطفّفون قبل هجرة النبيّ إليهم فلمّا نزلت الآية أحسنوا الكيل فهم أوفى الناس كيلا إلى اليوم.

و عن مالك بن دينار أنّه دخل على جار له و قد احتضر فقال: يا مالك جبلان من نار بين يديّ اكلّف الصعود عليهما، فسألت أهله فقالوا: كان له مكيالان يكيل

ص: 93

بأحدهما و يكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتّى كسرتهما ثمّ سألت الرجل فقال: ما يزداد الأمر عليّ إلّا عظما.

[الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي من الناس و يريدون أن يشتروا منهم و الاكتيال الأخذ بالكيل [يَسْتَوْفُونَ أي يأخذون الوافي و تبديل كلمة «من» بعلى لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنّه اكتيال مضرّ بهم و المراد من الاستيفاء الأخذ الوافر لا أخذ الوافي من غير نقص، بل كانوا يأخذون الزائد بأيّ وجه يتيسّر لهم من وجوه الحيل بكبس الكيل و تحريك المكيال و الاحتيال في ملأته و ألسنة الموازين.

[وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي إذا كالوا للناس بالكيل أو وزنوا بالميزان المبيع لهم [يُخْسِرُونَ و ينقصون حقوقهم. قال بعض السالكين: إنّ من يحسّن العبادة على رؤية الناس و يسي ء إذا خلا فهو داخل في المطفّفين فضلا عن المرائين.

[أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أي ألا يعلمون هؤلاء المطفّفون؟ و «ألا» هذه ليست للتنبيه بل الهمزة الاستفهاميّة الإنكاريّة داخلة على أذلاء النافية، و يجوز أن يكون للتحضيض على الظنّ.

[أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظم ما فيه من الأهوال، و محاسبون فيه على مقدار الذرّة و الخردلة فإنّ من يظنّ ذلك و إن كان ظنّا ضعيفا في حدّ الشكّ و الوهم لا يتجاسر على أمثال تلك القبائح فذكر الظنّ إذا لم يكن بمعنى العلم في الآية للمبالغة في المنع عن التطفيف و إلّا فالمؤمن لا يكفي له الظن في أمر البعث و المحاسبة بل لا بدّ من الاعتقاد الجازم.

[يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمر ربّ العالمين، روي أنّهم يقومون بين يدي اللّه أربعين عاما و في رواية ثلاثمائة سنة، و عرق أحدهم إلى أنصاف أذنيه لا يأتيهم خبر و لا يؤمر فيهم بأمر و هذا في حقّ الكافر و أمّا في حقّ المؤمن فيكون المكث كقدر انصرافهم من صلاة مفروضة. و قال أعرابيّ لعبد الملك بن مروان: إنّك قد سمعت ما قال اللّه في المطفّفين؟ و أراد بذلك أنّ المطفّف قد توجّه عليه الوعيد

ص: 94

العظيم في أخذ القليل فما ظنّك بنفسك و أنت تأخذ أموال الناس بلا كيل و لا وزن.

[كَلَّا] ردع عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث أو بمعنى حقّا فحينئذ يكون متّصلا بما بعده [إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ الكتاب بمعنى المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس أو على حاله بمعنى الكتابة و اللام للتأكيد و سجّين علم لكتاب جامع هو ديوان الشرّ و فيه ثبت أعمالهم من الفجور و المعاصي و قيل: المعنى إنّه كتب في كتابهم أنّهم يكونون في سجّين و هي في الأرض السابعة السفلى و عن البراء بن عازب قال: قال رسول اللّه: سجّين أسفل سبع أرضين.

قال كعب الأحبار: إنّ روح الفجّار يصعد بها إلى السماء فيأبى السماء أن تقبلها ثمّ تهبط بها إلى الأرض فتدخل سبع أرضين حتّى ينتهي بها إلى سجّين و هو موضع جند إبليس و قيل: إنّ سجّين جبّ في جهنّم مفتوح و الفلق جبّ في جهنّم مغطى و يكون لفظ السجّين من السّجن الّذي هو الشدّة على وزن فعّيل مبالغة المسجون.

[وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي بحيث لا يبلغه دراية أحد [كِتابٌ مَرْقُومٌ الرقم الخطّ الغليظ الجليّ أي هو كتاب بيّن الكتابة بحيث كلّ من نظر إليه يطّلع على ما فيه بلا إمعان توجّه، مشتمل على علامة دالّة على شقاوة صاحبه و كونه من أصحاب النار.

[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ] أي الويل يوم يقوم الناس و اعطي ذلك الكتاب المرقوم لهم حاصل [لِلْمُكَذِّبِينَ و الويل كلمة جامعة لجميع أقسام العذاب و المحن [الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ صفة ذامّة للمكذّبين و مفسّرة تكذيبهم بأنّهم كذّبوا يوم القيامة [وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي متجاوز عن الحقّ إلى الباطل كثير الإثم و المعاصي، منهمك في الشهوات بحيث حملته على الإنكار بيوم الجزاء.

ثمّ وصف سبحانه المعتدي بقوله: [إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا] الناطقة بتصديق ذلك اليوم و وقوعه لا محالة و هي القرآن [قالَ من فرط إعراضه عن الحقّ و جهله

ص: 95

[أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي حكايات الأوّلين و أباطيلهم و الأساطير جمع اسطورة و هي الحديث الّذي لا نظام له.

[كَلَّا] ردع للمعتدي عن ذلك القول الباطل و تكذيبه [بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ قرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللّام مع سكتة عليها خفيفة بدون القطع و يبتدئ «ران» و قرأ الباقون بإدغام اللام في الراء و «ما» موصولة و العائد محذوف و معنى الآية: ليس في آياتنا ما يصحّ أن يقال في شأنها مثل هذه المقالات الباطلة بل ركب قلوبهم و غلب عليها ما كانوا يكسبونه من الكفر و العصيان حتّى صارت كالصدإ (1) من المرأة فحال ذلك بينهم و بين معرفة الحقّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه» و لذلك قالوا ما قالوا.

و الرين صدأ يعلو الشي ء الجليّ، و ران ذنبه على قلبه غلب، و ران فيه النوم رسخ فيه. و قيل: الرين الحجاب الغليظ الحائل بين القلب و عالم القدس و الغبن بالمعجمة دون الرين و هو الصدأ فإنّ الصدأ حجاب رقيق يزول بالتصفية قال الصادق عليه السّلام: يصدء القلب فإذا ذكرته بآلاء اللّه انجلى عنه» قال أبو مسلم: ترك النظر في العواقب و كثرة المعاصي يقوّي الدواعي في الإعراض عن التوبة.

قال أبو القاسم البلخيّ: و في الآية دلالة على صحّة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع و الختم على القلوب و الإضلال، لأنّه تعالى أخبر أنّ أعمالهم السيّئة و ما كانوا يكسبونه من القبيح ران على قلوبهم، فحينئذ أضلّهم أعمالهم الّتي اكتسبوها و هم سبّبوا و أوجبوا الختم و الطبع على قلوبهم فلمّا اختاروا هذا الأمر الفاسد أجرى اللّه الطبع و الختم بما اختاروه.

[كَلَّا] ردع و زجر عن الكسب الرائي الموقع في الرين [إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أي إنّ الموصوفين يوم القيامة عن رحمة ربّهم مدفوعون و ممنوعون غير مقبولين، عن عليّ عليه السّلام.ة.

ص: 96


1- الصدأ محركة ستر تحتجب به المرأة.

[ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي بعد أن منعوا من الثواب لازموا الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها ثُمَّ يُقالُ لهم توبيخا و تفريعا من جهة الزبانية: [هذَا] العذاب و هو مبتدء خبره [الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذوقوه.

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 36]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)

وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[كَلَّا] ردع عن الكسب الرائن أي لا يؤمنون بالعذاب و القيامة و متّصل بما قبله و قيل: معناه حقّا و يتّصل بما بعده [إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ] أي الأعمال المكتوبة لهم [لَفِي عِلِّيِّينَ فعلّيّون علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة و صلحاء الثقلين. علّيّون منقول من جمع علّيّ على وزن فعّيل من العلوّ للمبالغة، علوّ على علوّ مضاعف، و جمع بالواو و النون تشبيها بمن يعقل لتفخيم شأنه و هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة غير محدود العدد سمّي بذلك لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنّة و مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكرّوبيّون و قيل: في سدرة المنتهى و هي الّتي ينتهي إليها كلّ شي ء من أمر اللّه و قيل: هو لوح من زبرجدة خضراء معلّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها.

روي أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فإذا انتهوا إلى ما شاء اللّه من سلطانه اوحي إليهم إنّكم الحفظة على عبدي و أنا الرقيب على ما في قلبه و إنّه أخلص عمله فاجعلوه في علّيّين فقد غفرت له و إنّها لتصعد بعمل العبد فيزكّونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى اللّه إليهم أنتم الحفظة على عبدي و أنا الرقيب على

ص: 97

قلبه و إنّه لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجّين و في الحديث إشارة إلى أنّ الحفظة لا يطّلعون على الإخلاص و الرياء إلّا باطّلاع اللّه.

[وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ أي هو خارج عن دائرة دراية الخلق [كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة يقرء بلا تكلّف تشهد و تنطق بسعادة صاحبه. و لمّا كان عليّون علما منقولا من الجمع حكم عليه بالمفرد بقوله: «كتاب مرقوم» و لكن أعرب إعراب الجمع [يَشْهَدُهُ الملائكة [الْمُقَرَّبُونَ عند اللّه أي يحفظونه و يحضرونه فيحضر ذلك الكتاب المرقوم الملائكة المقرّبون الّذين هم في علّيّين إذا صعد به إلى علّيّين.

[إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ و ملاذّ من النعمة في الجنّة [عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرّة في الحجال و لا تطلق الأريكة على السرير إلّا عند كونه في حجلة و هو بيت العروس يزيّن بالثياب و الأسرّة و الستور [يَنْظُرُونَ إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من رغائب مناظر الجنّة و كذا إلى أعدائهم يعذّبون في النار.

[تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ و هو ثاني الأوصاف و المراد من بهجة النعيم ماؤه و رونقه أي إذا رأيتهم عرفت أنّهم أهل النعمة بسبب ما يرى في وجوههم من القرائن كالضحك و الاستبشار كما في وجوه الأغنياء و أهل الترفّه.

[يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ و هو ثالث الأوصاف أي شرابا كائنا من صافي الخمر خالصا عن كدورة الخمار و تغيير النكهة و إيراث الصداع [مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي ما يختم به الطيب المعروف بدلا عن الطين و قيل: ختام الشي ء خاتمته أي أنّ الشارب إذا رفع فاه من آخر شربه وجد رائحة كرائحة المسك و وجد رائحة المسك لكونه ممزوجا به كالأشربة الممسّكة.

[وَ فِي ذلِكَ الرحيق خاصّة دون غيره من النعيم المكدّر السريع الفناء [فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ و ليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه. و الأمر للتحضيض و أصل التنافس التغالب في الشي ء النفيس الّذي يحرص عليه نفوس الناس و يريده كلّ أحد لنفسه.

ص: 98

قال علماء السلوك: المنافسة مجاهدة النفس في التشبيه بالأفاضل و اللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره و تعلّق القلب باللّه و طيران الضمير إليه و الحركة عند ذكره و التباعد من الناس و الانس عند الوحدة و البكاء على ما سلف و حلاوة سماع الذكر و التدبير في القرآن و التعرّض للمناجاة.

[وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على «ختامه» صفة اخرى لرحيق و ما بينهما اعتراض مقرّر لنفاسته أي يخرج بذلك الرحيق من ماء تسنيم، التسنيم علم لعين تجري من جنّة عدن لأهله تأتيهم من فوق فيكون من علوّ المكان. روي أنّها تجري في الهواء متسنّمه فتنصبّ في أوانيهم فإذا امتلأت أمسك الماء حتّى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستسقاء.

[عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ نصب «عينا» على المدح و الاختصاص بتقدير «أعني» يشرب بها المقرّبون قربا معنويّا روحانيّا يشربون ماءها صرفا و لكن تمزج لسائر أهل الجنّة و هم أصحاب اليمين. و الباء مزيدة أو بمعنى «من».

و بالجملة الخالص الغير الممزوج للخواصّ و الممزوج لمن دونهم، و نعم ما قال عمر بن الفارض في ميميّته:

عليك بها صرفا فإن شئت مزجهافعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم

و العدل بمعنى العدول و الظلم بالفتح هو ماء الأسنان و بريقها و بالضمّ هو الجور أي إن لم تقدر على شربها خالصا فامزجها بزلال فم المحبّة و بريقه و لا تعدل فإنّ العدول عن ظلم الحبيب و رشحة زلاله هو الظلم.

[إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا] كانوا ذوي جرم و ذنب و لا ذنب أكبر من الكفر و أذى المؤمنين لإيمانهم مثل رؤساء قريش و أكابر المجرمين كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و أمثالهم [كانُوا] في الدنيا [مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] إيمانا صادقا [يَضْحَكُونَ و يستهزئون بفقراء المؤمنين كعمّار و صهيب و خبّاب و بلال و غيرهم و تقديم الجارّ و المجرور لمراعاة الفواصل.

[وَ إِذا مَرُّوا] أي فقراء المؤمنين [بِهِمْ أي بالمشركين في أنديتهم أو

ص: 99

بالعكس [يَتَغامَزُونَ و يغمز بعضهم بعضا و يشيرون بأعينهم و يعيبونهم و يقولون انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم و يتركون اللّذات لما يرجونه من المثوبات و أمر البعث و الجزاء لا يقين به و إنّه بعيد كلّ البعد.

[وَ إِذَا انْقَلَبُوا] من مجالسهم [إِلى أَهْلِهِمُ و أصحابهم الجهلة الضالّة التابعة لهم، و الانقلاب التحوّل و الرجوع [انْقَلَبُوا] حالكونهم [فَكِهِينَ متلذّذين بذكرهم بالسوء و السخريّة منهم.

[وَ إِذا رَأَوْهُمْ أي المجرمين المؤمنين [قالُوا] مشيرين إلى المؤمنين بالتحقير [إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي نسبوا المسلمين إلى الضلال بطريق التأكيد و قالوا:

تركوا دين آبائهم القديم و دخلوا في الدين الحادث أو المعنى تركوا التنعّم الحاضر بسبب طلب ثواب لا ندري هل له وجود أولا.

[وَ ما أُرْسِلُوا] أي المجرمون [عَلَيْهِمْ أي على المسلمين [حافِظِينَ حال من واو «قالوا» أي قالوا ذلك و الحال أنّهم ما أرسلوا من جهة اللّه موكّلين بهم يحفظون عليهم أمورهم و يهيمنون على أعمالهم و يشهدون برشدهم و ضلالهم و إنّما أمروا بإصلاح أنفسهم و حاصل المعنى أنّه لم يرسل هؤلاء الكفّار على المؤمنين حفظة و لو اشتغلوا بما كلّفوا كان ذلك أولى بهم.

[فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة [الَّذِينَ آمَنُوا] أي المعهودون من الفقراء [يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفّار منهم في الدنيا و ذلك أنّه يفتح للكفّار باب إلى الجنّة و يقال لهم: اخرجوا إليها فإذا و صلوا إليها اغلق دونهم يفعل ذلك بهم مرّات فيضحك منهم المؤمنون حتّى يروهم أذلّاء مغلولين [عَلَى الْأَرائِكِ على السرر و الحجال [يَنْظُرُونَ ناظرين إلى سوء حال الكفّار.

[هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كلام مستأنف من قبل اللّه أو من قبل الملائكة و «ثوّب» عبّر بالماضي لتحقّقه، و الإثابة المجازاة استعمل في المكافاة بالشرّ و أكثر استعمالها في المحبوب نحو (1) «فأثابهم اللّه بما قالوا جنّات» و قد يستعمل

ص: 100


1- سورة المائدة: 88.

في المكروه نحو (1) «فأثابكم غمّا بغمّ» على الاستعارة لكن التثويب التعويض كما قال صاحب القاموس، فحينئذ التعويض يكون بالاستحقاق فيكون مضحوكا منهم. و إهانة الأعداء تعظيم للأولياء. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 101


1- سورة آل عمران: 153.

سورة الانشقاق

اشارة

* (مكية)* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 25]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

إعرابه كإعراب «إذا السماء انفطرت» أي انصدعت، و انشقاقها من علائم القيامة لنزول الملائكة بالأوامر الإلهيّة أو للسقوط و الانتقاض و لهول القيامة، و عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «تنشقّ من المجرّة» و هي بفتح الميم باب السماء أي البياض المستطيل في وسط السماء سمّيت بذلك لأنّها كأثر المجرّ تنشقّ السماء من ذلك المكان.

[وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها] أي استمعت و انقادت لتأثير قدرته حين تعلّقت قدرته بانشقاقها انقياد المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع فهو استعارة تمثيليّة على المجاز المرسل يعنى إذا اطلق الإذن في حقّ نحو السماء ممّا ليس في شأنه الاستماع و القبول يكون

ص: 102

استعارة تمثيليّة نحو قوله: (1) «أَتَيْنا طائِعِينَ» [وَ حُقَّتْ من قولهم: هو محقوق بكذا و حقيق به أي شأنها ذلك بالنسبة إلى الآمر القاهر أي أهل و حقّ أن لا يتخلّف عن القدرة و «حقّت» جملة معترضة مؤكّدة لما قبلها لا معطوفة عليها.

[وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت بإزالة جبالها و آكامها عن مقارّها و تسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء و قيل: زيدت سعة و بسطة من أحد و عشرين جزء إلى تسعة و تسعين جزء لوقوف الخلائق عليها للحساب و إلّا لم تسعهم. من مدّه إذا كان بمعنى أمدّه أي زاده. و في الحديث «إذا كان يوم القيامة مدّاللّه الأرض مدّ الأديم العكاظيّ» لأنّ الأديم إذا مدّ زال كلّ انثناء فيه و استوى، و عكاظ كغراب سوق بين نخيلة و الطائف بصحراء كانت تقوم هلال ذي القعدة و تستمرّ عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون و يتناشدون.

[وَ أَلْقَتْ ما فِيها] أي رمت الأرض ما في جوفها من الموتى و الكنوز إلى ظاهرها و يكون إخراج الكنوز عند خروج الدجّال لا يوم القيامة و إخراج الموتى عند البعث و يوم القيامة وقت متّسع و هو من أشراط الساعة [وَ تَخَلَّتْ عمّا فيها غاية الخلوّ حتّى لم يبق فيها شي ء منه كأنّها تكلّفت في ذلك أقصى جهدها كما يقال: تكرّم الكريم و ترحّم الرحيم إذا بلغا جهدهما في الكرم و الرحمة.

[وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ أي انقادت الأرض في الإلقاء و التخلّي و هي حاقّة بذلك الانقياد، ذكره مرّتين لأنّ الأوّل بالنسبة إلى السماء و الثاني بالنسبة إلى الأرض فليس بتكرار، و جواب «إذا» محذوف للدلالة و تقديره إذا وقعت هذه الأمور كان من الأهوال ما يقصر العبارة عن بيانه أو التقدير يرى حينئذ الإنسان ثواب عمله و عقاب عمله.

[يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ جنس الإنسان الشامل للمؤمن و الكافر كأنّه قال: يا فلان و يا فلانة [إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً] الكدح جهد النفس في العمل و الكدّ فيه بحيث يؤثّر فيها من كدح جلده إذا خدشه و المعنى أنّك جاهد و مجدّ و ساع

ص: 103


1- سورة حم السجدة: 11.

باجتهاد و مشقّة إلى لقاء ربّك و هو الموت أي ساع إليه في عملك [فَمُلاقِيهِ أي ملاق جزاء عملك و صائر إليه و إلى حكمه حيث لا حكم إلّا حكمه و لا مفرّ لك منه، و حاصل المعنى أنّ جدّك إلى مباشرة الأعمال في الدنيا هو في الحقيقة سعي إلى لقاء جزائها في العقبى فعليك أن تباشر بما ينجيك في العقبى لا ما يرديك فإنّ كلّ عامل سيقدم إلى ما أسلف.

ثمّ قسّم أحوال الخلق فقال: [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي من يؤتى و الماضي لتحقّقه، كتابه المكتوب فيه أعماله الّتي كدح في كسبها [بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ يوم القيامة [حِساباً يَسِيراً] سهلا لا مناقشة و اعتراض فيه كما يناقش أصحاب الشمال، و هو المؤمن السعيد، و الحساب اليسير حطّ الأوزار عنه إمّا بالتوبة أو بالعفو و الإثابة على الحسنات و ذلك لإيمانه و من نوقش في المحاسبة عذّب و في الحديث «ثلاث من كنّ فيه حاسبه اللّه حسابا يسيرا و أدخله اللّه الجنّة برحمته قالوا: و ما هي يا رسول اللّه؟

قال: «تعطي من حرمك، و تصل من قطعك، و تعفو عمّن ظلمك» [وَ يَنْقَلِبُ من مقام الحساب اليسير [إِلى أَهْلِهِ و فريق المؤمنين و أهل السعادة [مَسْرُوراً] مبتهجا بكونه من أهل النجاة قائلا: (1) «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ».

[وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي يؤتى كتاب عمله [وَراءَ ظَهْرِهِ أي بشماله من وراء ظهره ظرف متعلّق لأوتي قال الكلبيّ: يغلّ يمينه ثمّ تلوي يده اليسرى من ورائه فيعطى كتابه بشماله و لا منافاة بين هذه و ما في «الحاقّة» حيث قال: (2) «بِشِمالِهِ» لأنّه يمكن أن يكون بعضهم يعطى بشماله و بعضهم من وراء ظهره و يحتمل أنّ من اوتى كتابه وراء ظهره هم الّذين أوتوا الكتاب فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فإذا كان يوم القيامة قيل له: خذه من وراء ظهرك من الموضع الّذي نبذته فيه في حياتك الدنيا.

فإن قيل: إنّ ملك اليمين أيّ شي ء يكتب للكافر و لم يكن له حسنة يكتبها؟

ص: 104


1- سورة الحاقة: 19.
2- « «: 25.

فالجواب أنّه يأمر و يأذن صاحب الشمال بكتب سيّئاته و يكون هو شاهدا على ذلك و إن لم يكتب.

[فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً] حكى سبحانه ما يحلّ به أي بعد ما قرء كتابه «يدعو» هلاكا و يقول: وا ثبوراه وا هلاكاه! [وَ يَصْلى سَعِيراً] يدخلها و يقاسي حرّها و عذابها من غير حائل [إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً] بيان للعلّة. كان في الدنيا في أهله و عشيرته مترفا بطرا مستبشرا لا يخطر بباله امور الآخرة و لا كان مصدّقا بها قارغا من همّ الآخرة بخلاف المؤمن فإنّه كان له نائحة في قلبه من الحزن و الخوف من التقصير.

[إِنَّهُ ظَنَ و هو تعليل لسروره في الدنيا أي إنّ هذا الكافر ظنّ في الدنيا [أَنْ لَنْ يَحُورَ] «أن» مخفّفة، لن يرجع إلى حال الحياة في الآخرة للجزاء، و الحور الرجوع، و حر إلى أهلك أي ارجع و منه الحديث «أعوذ باللّه من الحور بعد الكور» أي الرجوع عن الحالة الجميلة، و الحوّار القصّار لرجعة الثوب إلى البياض.

[بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً] إيجاب لما بعد «لن» أي بلى ليحورنّ البتّة و ليس الأمر كما يظنّ فإنّ الّذي خلقه كان به و بأعماله الموجبة للجزاء عالما بحيث لا تخفى عليه خافية فلا بدّ من رجعه و حسابه و جزائه حتما.

[فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ مرّ تفسيره في سورة «لا اقسم بيوم القيامة» الشفق هي الحمرة الّتي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب و بغيبوبتها يخرج وقت المغرب و يدخل وقت العشاء عند أهل السنّة أو المراد من الشفق البياض الّذي يليها لكن مناسبة الشفق بمعنى البياض أكثر و هو من الشفقة الّتي هي عبارة عن رقّه القلب و لا شكّ أنّ ضوء الشمس يأخذ في الرقّة و الضعف من غيبتها إلى أن يستولي سواد اللّيل على الآفاق و عن عكرمة و مجاهد الشفق هو النهار فعلى هذا يقع القسم باللّيل و النهار اللّذين أحدهما معاش و الآخر سكن و بهما قوام امور الخلق و قيل: الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد اللّيل عند غروب الشمس.

[وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ الوسق جمع المتفرّق و أقسم سبحانه باللّيل و ما جمعه

ص: 105

و ضمّه و ستره بظلمته و «ما» عبارة عمّا يجتمع باللّيل و يأوي إلى مكانه من الدوابّ و الحشرات و الهوامّ و السباع لأنّه إذا كان اللّيل أقبل كلّ شي ء إلى مأواه أو المراد بما جمعه اللّيل من العبّاد المتهجّدين.

[وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي استوى و كمل نوره و هو ليالي البدر يقال: امور متّسقة أي مجتمعة على الصلاح و منتظمة.

[لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هذا جواب القسم قرئ «لتركبنّ» بفتح الباء أي لتركبنّ يا محمّد (صلّى اللّه عليك) درجه بعد درجة و رتبة بعد رتبة في رفعة المنزلة و القربة عند اللّه، و بضمّ الباء فالخطاب للناس أي حالا بعد حال منزلا بعد منزل و أمرا بعد أمر في القيامة و الأحوال تتغيّر بكم فتصيرون على غير الحال الّتي كنتم عليها في الدنيا.

و «عن» بمعنى «بعد» كما قال سبحانه (1): «عمّا قليل ليصبحنّ نادمين» أي بعد قليل قال الشاعر التغلبيّ:

قرّبا مربط النعامة منّي لقحت حرب وائل عن حيال

أي بعد حيال و قيل: المراد شدّة بعد شدّة حياة ثمّ موت ثمّ بعث ثمّ جزاء و قيل: المراد اختلاف أحوالكم في الدنيا شدّة بعد رخاء و فقرا بعد غنى و غنى بعد فقر و صحّة بعد السقم و سقما بعد الصحّة و قيل: نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظما ثمّ خلقا آخر جنينا و وليدا و رضيعا و فطيما و يافعا ثمّ ناشئا ثمّ مترعرعا ثمّ خرورا ثمّ مراهقا ثمّ محتلما ثمّ بالغا ثمّ أمرد ثمّ طارا ثمّ باقلا ثمّ مسيطرا ثمّ مترحما ثمّ مختلطا ثمّ صملا ثمّ ملتحبا ثمّ مستويا ثمّ مصعدا ثمّ مجتمعا، و الحاصل أنّكم لتعبرنّ بكم الأحوال حالا بعد حال.

و إذا كان هكذا أمركم و انقلاب أطواركم في الدنيا أو في الآخرة و كلّ هذه الأمور دالّة على خالقكم و مصوّركم [فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فأيّ شي ء لهم حالكونهم غير مؤمنين و ما يمنعهم عن الإيمان بخالقهم مع تعاضد موجباته [وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ

ص: 106


1- سورة المؤمنين: 40.

جملة شرطيّة محلّها النصب على الحاليّة نسقا على ما قبلها أي أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم و استكانتهم عند قراءة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو واحد من أصحابه و امّته القرآن لا يخضعون له؟ فإنّهم من أهل اللّسان فيجب عليهم أن يجزموا بإعجازه و صحّته عند سماعه و بكونه كلاما إلهيّا و يعلموا بذلك صدق محمّد في دعوى النبوّة فيطيعوه و يصلّون للّه. و بعض فسّروا بأنّ المراد بالسجود في الآية الصلاة و يجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق القرآن كما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرء ذات يوم (1) «وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ» فسجد هو و من معه من المؤمنين و قريش تصفق فوق رؤوسهم و تصفر استهزاء.

عند أهل السنّة هذه الآية الثالثة عشر من أربع عشرة سجدة تجب عندها السجدة.

[بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن الناطق و لذلك لا يخضعون عند تلاوته [وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ بما يضمرونه في قلوبهم من الكفر و الحسد فيجازيهم على ذلك في الدنيا و الآخرة. أوعيت الشي ء أي جعلته في وعاء ثمّ استعير لمعنى الحفظ.

[فَبَشِّرْهُمْ أي الّذين كفروا [بِعَذابٍ أَلِيمٍ مولم غاية الإيلام و هو استهزاء و تهكّم بهم [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا] استثناء منقطع من الضمير المنصوب في [فَبَشِّرْهُمْ و المستثنى المؤمنون أي لكنّ الّذين آمنوا ايمانا صادقا [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الطاعات [لَهُمْ في الآخرة [أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع بل متّصل دائم، من منّه منّا أي قطعه قطعا أو المعنى بغير منّة تكدر.

و في قوله: «لا يؤمنون» و «لا يسجدون» دلالة على الاختيار و بطلان مذهب الجبر و يدلّ على أنّ الكفر و الأيمان فعلهم لأنّ الحكيم لا يقول: مالك لا تؤمن و لا تسجد؟ لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان و السجود.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 107


1- سورة اقرأ: 19.

سورة البروج

اشارة

* (مكية)* قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها أعطاه اللّه الأجر بعدد كلّ يوم جمعة و كلّ يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 22]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9)

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)

وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

[وَ السَّماءِ] كلّ جرم علويّ فهو سماء فيدخل في هذا التعريف العرش [ذاتِ الْبُرُوجِ و المراد من البروج الاثنا عشر الّتي في الفلك و هي المنازل العالية و المراد هنا من البروج منازل الشمس و القمر و الكواكب و شبّهت منازلها بالقصور الّتي تنزل فيها الأكابر و الأشراف لأنّ البرج معناه القصر و يشتمل على المحاسن يقال: تبرّجت

ص: 108

المرأة أي تشبّهت بالبرج في إظهار المحاسن.

قال السهيليّ: أسماء البروج: الحمل و به يبدأ و في شهر هذا البرج يدخل في أواخره نيسان أي في ثلث آخره و كان مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نيسان عند طلوع الغفر بفتح الغين المعجمة منزل للقمر ثلاثة أنجم صغار و الغفر يطلع في ذلك الشهر أوّل الليل لأنّ وقته النطح و هو الشرطان بالمعجمة و الفتحتين و هما نجمان من الحمل قرنا الحمل، و إلى الحمل أيضا يضاف البطين كزبير منزل للقمر ثلاثة كواكب صغار كأنّها أثافي و هو بطن الحمل.

و بالجملة فبعد الحمل من البروج الثور، ثمّ الجوزاء و يقال لها: النسر و الجبّار و التوأمان، و هامة الجوزاء الهقعة و هي ثلاثة كواكب فوق منكبي الجوزاء كالأثافي إذا طلعت مع الفجر اشتدّ حرّ الصيف، ثمّ السرطان، ثمّ الأسد، ثمّ السنبلة، ثمّ الميزان، ثمّ العقرب و كوكبان نيّران في قرني العقرب و بين الزبانين من العقرب و بين وركي الأسد و رجليه و هما السماك يطلع الغفر الّذي به مولد الأنبياء و فيه قالوا: «حرّ المنازل في الأبد بين الزباني و الأسد» لأنّه يليه من الأسد ذنبه و لا ضرر فيه و من العقرب زبانياها و لا ضرر فيهما و إنّما يضرّ بذنبها إذا شالته أي رفعته و هو الشولة في المنازل و كوكبان نيّران ينير لهما القمر يقال لهما: حمة العقرب، ثمّ القوس، ثمّ الجدي، ثمّ الدلو، ثمّ رشاء الدلو و هو الحوت.

و جعل اللّه الشهور على عدد هذه البروج فقال (1): «إنّ عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا» و الفصول الأربع في هذه الشهور من الربيع و الصيف و الخريف و الشتاء. و البروج الاثنا عشر منقسمة إلى هذه المنازل الثمانية و العشرين و الشمس تسير في تمام هذه البروج في كلّ سنة و القمر في كلّ شهر و قد تعلّقت بها منافع و مصالح للعباد فأقسم اللّه تعالى بها إظهارا لقدرها.

من مجمع البحرين عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذكر اللّه عبادة

ص: 109


1- سورة التوبة: 37.

و ذكري عبادة و ذكر عليّ عبادة و ذكر الأئمّة عبادة، و الّذي بعثني بالنبوّة إنّ وصيّي لأفضل الأوصياء و من ولده الأئمّة الهداة بعدي، بهم يحبس اللّه العذاب عن أهل الأرض و بهم يمسك السماء أن تقع على الأرض و بهم يمسك الجبال أن تميد بهم و بهم يسقي خلقه الغيث و بهم يخرج النبات أولئك أولياء اللّه حقّا و خلفاؤه صدقا عدّتهم عدّة الشهور و عدّة نقباء موسى بن عمران ثمّ تلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: و السماء ذات البروج، ثمّ قال: يا ابن عبّاس إنّ اللّه يقسم بالسماء ذات البروج و يعني بها السماء و بروجها» قلت: يا رسول اللّه فما ذا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمّا السماء فأنا و أمّا البروج فالأئمّة بعدي أوّلهم عليّ و آخرهم المهديّ» صلّى اللّه عليهم.

[وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ] أي يوم القيامة أقسم اللّه به تنبيها على قدره و عظمه أيضا من حيث كونه يوم الفصل و تفرّد الحكم له تعالى [وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ] فيه أقوال:

أحدها أنّ الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة كما قال ابن عبّاس و جماعة و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و روي ذلك عن النبيّ و سمّي يوم الجمعة «شاهدا» لأنّه يشهد على كلّ عامل بما عمل فيه و في الحديث «ما طلعت الشمس على يوم و لا غربت عن يوم أفضل منه و فيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها اللّه بخير إلّا استجاب له و لا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه» و يوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحجّ و تشهده الملائكة.

و ثانيها أنّ الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة.

و ثالثها أنّ الشاهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المشهود يوم القيامة قال سبحانه (1): «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» و قال (2): «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» و قيل: الشاهد اللّه و المشهود لا إله إلّا اللّه لقوله (3): «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و قيل أقوال أخر لا حاجة في الإطالة.

ص: 110


1- سورة المزمل: 15.
2- «يونس: 104.
3- «آل عمران: 18.

[قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ] جواب القسم بحذف اللام المؤكّدة أي لقد قتل و أهلك بغضب اللّه و لعنته و لعنوا بتحريقهم الناس في الدنيا أو في الآخرة و المراد بهم الكافرون الّذين حفروا الأخدود و عذّبوا المؤمنين بالنار، و يحتمل أن يكون إخبارا عن المسلمين الّذين عذّبوا بالنار في الأخدود فبكون أنّ المؤمنين قتلوا بالإحراق في النار ذكرهم اللّه بحسن بصيرتهم و صبرهم على دينهم و لا يعطون التقيّة بالرجوع عن الإيمان لتصلّبهم في الدين.

و قيل: إنّ الجملة دعائيّة دالّة على الجواب لا خبريّة و سوق الكلام يفيد معنى و هو أنّ كفّار مكّة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود لأنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على الصبر من أذى المشركين و ما يلقون منهم و يعلموا أنّ هؤلاء عند اللّه بمنزلة أولئك و يقال فيهم ما قد قيل فيهم. و الأخدود الخدّ في الأرض و هو شقّ مستطيل كالنهر غامض عميق القرار. و أصحاب الأخدود كانوا ثلاثة و هم أنطيانوس الروميّ بالشام (1) و بخت نصّر بفارس (2) و يوسف ذو نواس الحميريّ بنجران موضع باليمن، شقّ كلّ واحد منهم شقّا عظيما في الأرض كان طوله أربعين زراعا و عرضه اثني عشر زراعا و ملئوه نارا و ألقوا فيه من لم يرتدّ عن دينه من المؤمنين، و القرآن إنّما نزل في الّذين بنجران في سلطة ذي نواس الحميريّ اليهوديّ و جنوده و ذو نواس اسمه زرعة بن حسّان و كان اسمه أيضا يوسف و كانت له ذوائب تنوس و تضطرب على عاتقه فسمّي ذا نواس.

و قصّته أنّ عبدا صالحا يقال له «عبد اللّه بن الثامر» كان بنجران و كان على دين عيسى عليه السّلام فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس بجنود من حمير فخيّرهم بين النار».

ص: 111


1- و هو الذي أغار على بنى إسرائيل و قتل ملكهم و شتت جمعهم بعد ما فسدوا في الأرض و أشار إليه في قوله تعالى في سورة الإسراء: «فإذا جاء وعدا و لا هما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعدا مفعولا».
2- هو في التوراة الموجود «نبوكد نصر» ملك «بابل» شدد القتل و النهب و الأسر و التبعيد على بنى إسرائيل و قتل جما غفيرا من أنبيائهم و حمل معه «ارميا» و فيه قال تعالى: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ...».

و اليهوديّة فأبوا فحفر الخنادق و أضرم فيها النيران فجعل يلقي فيها كلّ من اتّبع ابن الثامر حتّى أحرق نحوا من اثني عشر ألفا أو سبعين ألفا.

و روى مسلم في الصحيح معنعنا عن صهيب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر فلمّا مرض الساحر قال: إنّي قد حضر و فاني فادفع إليّ غلاما اعلّمه السحر فدفع إليه غلاما كان يختلف إليه فكان في طريقه إذا سلك نحو الساحر ليتعلّم السحر راهب فقعد الغلام نحو الراهب و سمع كلامه فأعجب الغلام من كلام الراهب فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب و قعد إليه يستمع منه فإذا أتى الساحر ضربه لمكثه و بطئه فشكا الغلام ذلك إلى الراهب فقال الراهب للغلام: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي و منعوني و إذا خشيت أهلك فقل:

حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى دابّة عظيمة أي حيّة عظيمة أو أسد عظيم فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب فأخذ حجرا و قال: اللّهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة حتّى يستريح الناس فرماها فقتلها و مضى فأتى الراهب و أخبره فقال الراهب: أي بنيّ أنت اليوم أفضل منّي قد بلغ من أمرك ما أدري و إنّك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ.

و كان الغلام يبرئ الأكمه و الأبرص و يداوي الناس فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيره فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني قال: إنّي لا أشفي أحدا إنّما يشفي اللّه فإن آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك فآمن باللّه فشفاه اللّه فأتى الملك و جلس إليه كما كان يجلس فقال الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال:

ربّي فقال: أو لك ربّ غيري؟ قال: ربّي و ربّك اللّه، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الغلام فجي ء بالغلام فقال له الملك: أي بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه و الأبرص؟ فقال الغلام: إنّما يشفي اللّه فأخذه فلم يزل يعذّبه حتّى دلّ على الراهب فجي ء بالراهب فقال له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار في مفرق رأسه فشقّه به حتّى وقع شفاه ثمّ جي ء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك

ص: 112

فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقّه ثمّ جي ء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه و قال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه و إلّا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال الغلام: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا و جاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى قرقور (1) فتوسّطوا به البحر فإن رجع عن دينه و إلّا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللّهمّ اكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا و سلم و جاء إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللّه.

ثمّ قال للملك: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به قال: و ما هو؟

قال: تجمع الناس في صعيد و تصلبني على جذع ثمّ تأخذ سهما من كنانتي ثمّ ضع السهم في كبد القوس ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام ففعل الملك ما قال: فرماه فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس:

آمنّا بربّ الغلام آمنّا بربّ الغلام.

فأتى الملك آت فقال له: قد نزل بك ما كنت تحذر منه و آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك (2) و قال: من لم يرجع عن هذا الدين فاطرحوه فيها كرها ففعلوا حتّى جاءت امرأة و معها صبيّ رضيع لها فتأخّرت المرأة و تقاعست أن تقع فيها فقال لها الصبيّ: يا امّاه اصبري فإنّك على الحقّ و قيل: كان لها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك و إلّا ألقيتك و أولادك في النار فأبت فأخذ ابنها الأكبر و ألقاه في النار ثمّ قال: ارجعي فأبت فألقى ابنها الأوسط في النار ثمّ قال لها: ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبيّ ليلقوه فيها فهمّت بالرجوع فقال الصبيّ: يا امّاه لا ترجعي عن الإسلام و لا بأس عليك فالقي الصبيّ في النار و امّه على أثره، و كان هو ممّن تكلّم في المهد و هو صبيّ رضيع.س.

ص: 113


1- السفينة العظيمة.
2- اى في السوق بمرأى من الناس.

و عن عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام «إنّ بعض ملوك المجوس وقع على أخته و هو سكران فلمّا صحا ندم و طلب المخرج فأمرته بأن يخطب للناس فيقول: إنّ اللّه قد أحلّ نكاح الأخوات ثمّ يخطبهم بعد ذلك بأنّ اللّه حرّمه فخطب فلم يقبلوا منه هذا الأمر فقالت له: ابسط فيهم السوط ففعل فلم يقبلوا منه فأمرته بالأخاديد و إيقاد النار و طرح من أبى فيها فهم الّذين أرادهم بقوله: «قتل أصحاب الأخدود» انتهى.

[النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ] بدل اشتمال من الأخدود، ذات ارتفاع اللهب [إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ] ظرف لقتل و الضمير لأصحاب الأخدود، و في بعض التفاسير على سرر و كراسيّ قعود عند النار في مكان مشرف و يعرضون المؤمنين على النار فمن يترك دينه تركوه و من لم يترك ألقوه في النار و أحرقوه. و «قعود» جمع قاعد و لفظ «على» مشعر بالاستعلاء.

[وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ] جمع شاهد يعني الملك و أصحابه الّذين خدّوا الأخدود على ما يفعلون «شهود» أي حضور قيل: إنّهم كانوا فرقتين فرقة يعذّب المؤمنين و فرقة يشاهد و لم يتولّوا تعذيبهم لكنّهم قعود رضوا بفعل أولئك و كانت الفرقة القاعدة مؤمنة لكنّهم لم ينكروا على الكفّار صنيعهم فلعنهم اللّه جميعا.

و قيل: المراد من قوله: «و هم على ما يفعلون بالمؤمنين» أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنّ أحدا لم يقصّر فيما امر به من إحراق المؤمنين. و في رواية ارتفعت النار فوقهم أربعين ذراعا فوقعت عليهم فأحرقتهم و نجّى اللّه المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسّهم النار كما فعل بآسية امرأة فرعون لكن نظم الآية يقتضي وصف المؤمنين في تصلّبهم في دينهم و بيان قوّة إيمانهم بأنّ عذّبوا بالنار و لم يشركوا.

[وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي و ما عابوا ذكر هذا المؤمنين، يقال: نقم الأمر إذا عابه و أنكره [إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] قال بلفظ المضارع مع أنّ الإيمان وجد منهم في الماضي لإرادة الاستمرار و الدوام عليه فإنّهم ما عذّبوهم لإيمانهم في الماضي بل لبقائهم و دوامهم عليه في الآتي. و عنوان هذا الاستثناء مفصح

ص: 114

عن براءتهم ممّا يعاب و ينكر فهو تمديح لهم بصورة الاستثناء على منهاج قول النابغة حيث يقول:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و هذا البيان صفة مدح لا صفة ذمّ لأنّ ما جعله النابغة بصورة العيب هو عين المدح.

[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فوصف سبحانه بهذه الصفات ليعلم أنّه لم يمهل الكفّار لأجل أنّه غير قادر لكنّه أراد أن يبلغ بهؤلاء المؤمنين مبلغا عظيما من الثواب لم يكونوا يبلغونه إلّا بمثل ذلك التحمّل و الصبر و لا اعتراض لأحد عليه في ملكه:

و هيهات هيهات الصفاء لعاشق و جنّة عدن بالمكاره حفّت

[وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ] لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين و هو شاهد بأعمالهم و يجازيهم و ينتصف للمؤمنين.

[إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي الّذين أحرقوهم و عذّبوهم بالنار [ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا] من فعلهم ذلك و من الشرك الّذي كانوا عليه [فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم. قال بعض علماء العامّة: إنّ ذلك يدلّ على أنّ توبة القاتل عمدا مقبولة [وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، و فصّل بين عذاب جهنّم و عذاب الحريق مع أنّهما واحد فالمراد أنّ لهم أنواع العذاب في جهنّم سوى الإحراق مثل الزقّوم و الغسلين و المقامع و قيل: المراد أنّ لهم عذاب جهنّم في الآخرة و لهم عذاب الحريق في الدنيا و ذلك أنّ النار ارتفعت من الأخدود فأحرقتهم كما قال الكلبيّ.

ثمّ ذكر ما أعدّه للمؤمنين فقال: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بتوحيد اللّه [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ] بسبب إيمانهم و أعمالهم يجازون جنّات جارية فيها الأنهار بمقابلة ما قاسوا من الشدائد و الصبر على أذى الكفّار «ذلك» أي حصول الجنّة «الفوز الكبير» الّذي تصغر عنده الدنيا.

ص: 115

ثمّ قال سبحانه متوعّدا إلى الكفّار و العصاة: [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ] البطش تناول الشي ء بصولة و الأخذ بعنف يقال: يد باطشة. أي أخذه تعالى إيّاهم بالعذاب متفاقم و إن كان بعد إمهال فإنّه عن حكمة لاعن عجز [إِنَّهُ هُوَ] وحده [يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ] لينشئ الخلق ثمّ يميتهم و يعيدهم إحياء للمجازاة و فيه مزيد التقرير لشدّة بطشه. و قيل: معناه أنّه يبدئ بالعذاب في الدنيا ثمّ يعيده في الآخرة، أو المعنى يبدئ العذاب في الآخرة ثمّ يعيده فيها لقوله (1): «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها» قال ابن عبّاس: إنّ أهل جهنّم تأكلهم النار حتّى يصيروا فحما ثمّ يعيدهم خلقا جديدا.

قال حذيفة بن اليمان: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حذيفة إنّ في جهنّم لسباعا من نار و كلابا من نار و سيوفا من نار و كلاليب من نار و إنّه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بإحناكهم و يقطّعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا و يلقونها إلى تلك السباع و الكلاب كلّما قطعوا عضوا عاد آخر مكانه غضّا طريّا.

و بالجملة المبدئ المعيد معناه الموجد لكنّ الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمّي إبداء و إن كان مسبوقا بمثله يسمّى إعادة، و خاصّيّة الاسم المبدئ أن يقرء على بطن الحامل سحرا تسعا و عشرين مرّة فإنّ ما في بطنها يثبت و نافع، و لتذكار المحفوظ إذا نسي اسم المعيد لا سيّما إذا أضيف إليه اسم المبدئ.

[وَ هُوَ الْغَفُورُ] لمن تاب و لمن لم يتب إذا شاء [الْوَدُودُ] لمن أطاع. و في الأثر «إنّ أودّ الأودّاء إليّ من عبدني لغير نوال» و أصل الودّ من الوتد و هو أثبت من المحبّة و الودود من عباد اللّه من يريد لخلق اللّه ما يريد لنفسه و أعلى فمن ذلك من يؤثرهم على نفسه و لم يمنعه سوء صنيعهم عن إرادة الخير لهم و الإحسان إليهم كما قال صلّى اللّه عليه و آله:

حين كسرت رباعيّته و دمي وجهه و ضرب: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون».

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إن أردت أن تسبق المقرّبين فصل من قطعك و أعط من حرمك و اعف عمّن ظلمك» و خاصيّة اسم الودود ثبوت الوداد لا سيّما بين

ص: 116


1- سورة النساء: 55.

الزوجين فمن قرأه ألف مرّة على طعام و أكله مع زوجته غلبتها محبّته و تطيعه.

[ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ] ذو الملك و السلطنة القاهرة على المخترعات العلويّة و السفليّة و إن لم يكن على السرير، يقال: ثلّ عرشه إذا ذهب سلطانه، و المجيد هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل نواله فشرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمّي مجيدا و ما جدا و التمجيد ذكر الصفات الحسنة، و مجد العرش علوّه في الجهة و عظمته و حسن صورته، و تركيبه أحسن الأجسام تركيبا، أظهره اللّه و خلقه إظهارا للقدرة لا مكانا و لا احتياجا إليه.

قال بعض المحقّقين: إنّ من العجب أنّ اللّه لو ملأ العرش مع تلك السعة من حبوب الذرّة و خلق طيرا أكل حبّة واحدة منها في ألف سنة لنفدت الحبوب و لا تنقطع مدّة الآخرة و مع هذا لا يخاف بنو آدم من عذاب تلك المدّة و يضيّعون أعمارهم في شي ء سريع الزوال.

[فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ] بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من الإحياء و الإماته و الإعزاز و الإذلال و الإغناء و الإقتار و الوصل و الفرق إلى غير ذلك من شؤونه.

[هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ] أي هل بلغك أخبار الّذين تجنّدوا على أنبياء اللّه و قيل: «هل» بمعنى «قد» ثمّ بيّن سبحانه الجنود [فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ] بدل من الجنود مع أنّه غير مطابق ظاهرا للمبدل منه في الجمعيّة لأنّ المراد قوم فرعون أي عرفت ما صدر منهم من التكذيب و ما وقع عليهم من التعذيب فذكّر قومك و أنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم لأنّهم قد سمعوا قصّة فرعون من أهل الكتاب و رأوا آثار هلاك قوم صالح لأنّها كانت في ممرّهم.

[بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا] من قومك [فِي تَكْذِيبٍ إضراب عن مماثلتهم لهم و بيان لكونهم أشدّ منهم في الكفر. و تنكير «تكذيب» للتعظيم فإنّهم يكذّبون بالقرآن الناطق و الصامت [وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ] محيط بهم بالقدرة من خلفهم و فيه بيان لعدم نجاتهم من بأس اللّه بحيث لا يجدون مهربا منه و هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف و لا كإحاطة الكلّ بأجزائه بل كإحاطة الملزوم بلازمه فإنّ التعيّنات اللّاحقة لذاته

ص: 117

إنّما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة و لا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم.

[بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ] أي ليس الأمر كما زعموا من تكذيب القرآن و هذا الّذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهيّة و متضمّن للمكارم الدنيويّة و الاخرويّة.

[فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ] من التحريف و وصول الشياطين إليه و من النسخ و التحريف و النقصان و هذا المعنى على قراءة من رفع «محفوظ» و جعله صفة للقرآن و على قراءة من جرّه فجعله صفة للوح فالمعنى أنّه محفوظ عند اللّه لا يطّلع عليه غير بعض الملائكة و هو أمّ الكتاب و منه نسخ الكتب و القرآن و هو الّذي يعرف باللوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء و الأرض و عرضه ما بين المشرق و المغرب. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 118

سورة الطارق

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعطاه بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)

فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

الطارق إذا جاء ليلا، و أصل الطرق الدقّ و منه سمّيت المطرقة لأنّه يطرق بها الحديد و سمّي الطريق طريقا لأنّه يضرب بالرجل و سمّي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب غالبا حيث إنّ الأبواب مغلقة باللّيل ثمّ اتّسع في كلّ ما ظهر بالليل كائنا ما كان حتّى اطلق على الصور الخياليّة البادية بالليل و المراد في الآية الكوكب البادئ بالليل، أقسم سبحانه بالسماء أو بربّ السماء و أقسم بالطارق.

ثمّ بيّن الطارق فقال: [وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ أي أيّ شي ء أعلمك بالطارق إلّا بالتلقّي من الخلّاق العليم كأنّه قيل: و ما هو؟ فقال: هو [النَّجْمُ الثَّاقِبُ الكوكب المضي ء لأنّه يثقب بإضاءته ما يقع عليه من الظلام.

[إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] جواب للقسم و ما بينهما اعتراض و «إن» نافية

ص: 119

أي ما كلّ نفس من النفوس الطيّبة و الخبيثة إنسيّة أو وحشيّة إلّا عليها مهيمن و رقيب و هو اللّه كما قال (1): «وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً» أو المراد من الحافظ الملائكة يحفظ عملها و رزقها و أجلها، و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «وكّل بالمؤمن مائة و ستّون ملكا يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب و لو و كل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

و قرئ «لما» مخفّفة على أنّ «إن» مخفّفة و ما مزيدة و اللام فاصلة بين المخفّفة و النافية أي إنّ الشأن كلّ نفس لعليها حافظ.

[فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ و ليتفكّر الإنسان الجاهل المنكر للنشور و الحشر [مِمَّ خُلِقَ من أيّ شي ء أصله حتّى يتّضح أنّ من قدر على إنشائه من نطفة فهو قادر على إعادته بل أقدر على قياس العقل فيعمل ليوم الإعادة ما ينفعه و يجديه لا ما يضرّه و يرديه.

[خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ استيناف وقع جوابا عن استفهام مقدّر كأنّه قيل: «ممّ خلق» فقيل: خلق من ماء ذي دفق و هو صبّ فيه دفع بسرعة و يجوز أن يكون دافق بمعنى المدفوق.

[يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ الصلب معناه الشديد و بهذا الاعتبار سمّي الظهر صلبا أي من بين ظهر الرجل و ترائب المرأة و هي عظام نحرها و ضلوع صدرها و كلّ عظم من ذلك ترئبة، و عن أمير المؤمنين عليه السّلام «بين الثديين» و أصل المنيّ هو الدم يتصاعد في خرزات الصلب و هناك مسكنه و منتضجه الحرارة فيستحيل أبيض فإذا امتلأت خرزات الظهر و هو الفقار طلب الخروج من مسلكه و هو عرقان متّصلان إلى الفرج و منهما ينزل و بين طريق المنيّ و طريق البول جلد رقيق يكاد لا يتشخّص من رقّته لئلّا يختلط المنيّ بماء البول فيفسد حرارة جوهره.

[إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ الضمير للخالق، على إعادته بعد موته [لَقادِرٌ] خلقه لإظهار قدرته ثمّ رزقه لإظهار كرمه فيميته لإظهار جبروته و يحييه ثانيا للثواب و العقاب.

ص: 120


1- سورة الأحزاب: 52.

[يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ] ظرف لرجعه، و لا يضرّ الفصل بالأجنبيّ للتوسّع في الظروف و إطلاق الإبلاء على الكشف و الوضوح من قبيل اسم السبب على المسبّب لأنّ الاختبار موجب للتعرّف و التميّز و قيل: المراد من السرائر الفرائض كالصوم و الصلاة و الزكاة و الغسل فإنّها سرّ بين العبد و بين ربّه في معيبها و صحيحها و إنّما تظهر صحّتها يوم القيامة فيبدئ اللّه ذلك اليوم كلّ سرّ فيكون زينا في وجوه و شينا في وجوه، فمن أدّى الأمانات و التكاليف كان وجهه مشرقا و من ضيّعها كان وجهه أغبر.

[فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ] أي ليس للإنسان من دافع من نفسه يمتنع بها من العذاب الّذي حلّ به و لا ناصر من خارج ينتصر به.

[وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ذات مؤنّث «ذو» بمعنى الصاحب و الرجع المطر سمّي رجعا لما أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثمّ يرجعه إلى الأرض و قيل: المراد بالرجع شمسها و قمرها و نجومها تغيب و تطلع، أو رجع السماء إعطاؤها الخير الّذي من جهتها حالا بعد حال على مرور الأيّام.

[وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هو ما تتصدّع عنه الأرض من النبات و تشقّقها بالنبات و العيون، لأنّ النبات صادع للأرض فالسماء ذات الرجع كالأب و الأرض ذات الصدع كالأمّ و ما ينبت كالولد و المراد بيان منافعهما و أقسم بهما.

[إِنَّهُ أي القرآن [لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي كلام فاصل بين الحقّ و الباطل و القول كثيرا ما يكون بمعنى المقول، أتى بالمصدر مبالغة كأنّه نفس الفصل كما قال: (1) «الْفُرْقانَ»* بمعنى الفارق.

[وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ و اللعب، و الجدّ ضدّ الهزل أي كلّه جدّ محض، قال المولى إسماعيل الحقّيّ في روح البيان: إنّه يظهر من الآية أنّ من يؤمّ القرآن بهزل أو بتفكّه و مزاح يكفر، و في هداية المهديّين إذا أنكر رجل آية من القرآن أو سخر بها أو عابها فقد كفر، و من قرأ القرآن على ضرب الدفّ أو القصب أو ما شابهه فقد كفرر.

ص: 121


1- سورة البقرة: 185 و مواضع أخر.

حتّى قيل: لو يقال له: لم لم تقرء القرآن؟ فقال: سئمت منه، فهذا و أمثاله كلّه كفر فليجتنب المسلم عن مثل هذه الكلمات.

[إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً] في إطفاء نوره حسبما في قدرتهم [وَ أَكِيدُ كَيْداً] أي اقابلهم بكيد متين لا يمكن ردّه، و كيد المحدث الضعيف العاجز لا يقاوم جزاء القادر القويّ، و تسمية الجزاء بالكيد من باب المشاكلة و المقابلة في الكلام و إلّا فالكيد هو المكر و الاحتيال و لا يجوز إسناده إليه تعالى مرادا به معناه الحقيقيّ و تسمية جزاء الشي ء باسم ذلك الشي ء على سبيل المشاكلة شائع كثير.

[فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل بهم [أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] بدل من «مهّل» و التمهيل و الإمهال لغتان أي مهّلهم إمهالا قليلا فإنّ اللّه يجزيهم لا محالة إمّا بالقتل و الذلّ في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة قال ابن جنّيّ: قوله «مهّل الكافرين أمهلهم رويدا» غيّر اللفظ و الباب لأنّه آثر التأكيد و لم يعد، و انحرف عن التكرار بعض الانحراف، و انتقل عن لفظ فعّل إلى لفظ أفعل و غيّر الباب إرادة للتأكيد، و لتجشّم التثليث ترك اللفظ و أتى بالمعنى فقال: «رويدا» أي مهلة قليلة. و ما كان بين نزول هذه الآية و بين وقعة بدر إلّا زمان يسير.

حكي أنّ ابن السمّاك دخل على الرشيد فطلب هارون منه العظة فقال:

أيّها الخليفة لقد أمهل سبحانه حتّى كأنّه أهمل و لقد ستر حتّى كأنّه غفر ثمّ قال: هب كان الدنيا كلّها في يديك و الاخرى مثلها ضمّت إليك و كان الشرق و الغرب يجبى إليك فإذا جاء ملك الموت فما ذا في يديك؟ و قيل: إنّ هارون كان جالسا على حصير يستمع منه فقال ابن السمّاك: أيّها الخليفة لتواضعك في شرفك أفضل من شرفك و من اعطي مالا و جمالا و سلطانا و شرفا فتواضع في شرفه و عفّ في جماله و واسى في فضل ماله و عدل في سلطانه كتب في ديوان المخلصين، و اعلم أنّه لم يبق من لدن آدم إلى يومنا هذا أحد إلّا و ذاق الموت. قال هارون: زدني فقال ابن السمّاك: إنّهما موضعان إمّا جنّة و إمّا نار قال هارون: حسبي حسبي.

أقول: و ما كفته هذه المواعظ و ما تطلّب من ابن السمّاك المواعظ حقيقة

ص: 122

بل أراد أن يغرّ الناس بتطلّبه المواعظ، و غرضه اللعين التدليس و التمويه لتستّر نقائصه كما هو عادة أكثر أمراء زماننا حيث وجدوا عالما شرعوا في الاستفادة منه و العالم المغرور يزعم أنّه من أهل التقى فيغترّ بما يرى من ظاهر أحوالهم فيحسن ظنّه به و بأمثاله فيترتّب على صلاح ظاهره امور فيها فساد امّة بل إضلال أهل ملّة و ما حصل ذلك الفساد إلّا بسبب ذلك التدليس من هذا الإبليس و اغترار هذا العالم الجاهل بأحوال الناس فينبغي لمثله أن يكون حاديا للعيس لا متصدّرا للتدريس نسأل العصمة من مضلّات الفتن تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 123

سورة الأعلى

اشارة

* (مكية)* روي عن عليّ عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحبّ هذه السورة و أوّل من قال سبحان ربّي الأعلى: ميكائيل.

قال ابن عبّاس: إذا قرأ النبيّ هذه السورة قال: سبحان ربّي الأعلى و كذلك عليّ عليه السّلام.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن أبي خميصة عن عليّ عليه السّلام قال: صلّيت خلفه عشرين ليلة فليس يقرأ إلّا سبّح اسم ربّك الأعلى، و قال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، و إنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى و إبراهيم الّذي وفّى.

ص: 124

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19)

نزّه ربّك عمّا لا يليق به من الصفات المذمومة و الأفعال القبيحة كالعجز و الظلم و أمثاله. قال ابن عبّاس: أي قل: «سبحان ربّي الأعلى» و أراد بالاسم المسمّى و الأعلى معناه القادر الّذي لا قادر أقدر منه، القاهر لكلّ أحد و قيل: «الأعلى» صفة الاسم فيكون المعنى سبّح اللّه بذكر اسمه الأعلى، و أسماؤه الحسنى كلّها أعلى و المراد من العلوّ ليس علوّ الجهة سبحانه عن ذلك بل علوّ استحقاق لنعوت الجلال فمن عرف علوّه تذلّل و تواضع بين يديه و كذلك ينزّهه عن أن يطلق هذه الأسماء على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيها من أن تسمّى الصنم بالإله أو الربّ مثل تسمية العرب مسيلمة الكذّاب برحمن اليمامة بل لا يكثر القسم بذكر اسمه تعالى من غير مبالاة.

و في الحديث لمّا نزلت «فسبّح باسم ربّك العظيم» قال صلّى اللّه عليه و آله: اجعلوها في ركوعكم فلمّا نزل «سبّح اسم ربّك الأعلى» قال: اجعلوها في سجودكم و كانوا يقولون في الركوع: اللّهم لك ركعت، و في السجود: اللّهم لك سجدت.

و قد ذكر ما قبل هذا أنّ أوّل من قال: «سبحان ربّي الأعلى» كان ميكائيل

ص: 125

و ذلك أنّه خطر بباله عظمة الربّ فقال: يا ربّ أعطني قوّة النظر حتّى أنظر إلى عظمتك و سلطانك فأعطاه قوّة أهل السماوات فطار خمسة آلاف سنة حتّى احترق جناحه من نور العرش ثمّ سأل القوّة فأعطاه ضعف ذلك و جعل يرتفع عشرة آلاف سنة حتّى احترق جناحه من نور العرش و صار كالفرخ و رأى الحجاب و العرش على حاله فخرّ ساجدا و قال: «سبحان ربّي الأعلى» ثمّ سأل ربّه أن يعيده إلى مكانه و إلى حالته الأولى فعاد. و في الحديث «سبحان اللّه و الحمد للّه» يملآن ما بين السماوات و الأرض.

[الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى صفة اخرى للربّ خلق كلّ ذي روح فسوّى خلقه بأن جعل له ما به يتأتّى كماله و يتدبّر معاشه بالإحكام و الإتقان و قيل: المراد من الخلق الإنسان فسوّى و عدّل تركيبه و قامته و لم يجعله منكوسا كالبهائم و الدوابّ أو المعنى خلق الأشياء على موجب إرادته فسوّى صنعها لتشهد على وحدانيّته.

[وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى معطوف على الموصول الأوّل أي قدّر أجناس الأشياء و أنواعها و أفرادها و مقاديرها و أفعالها و أجالها بمقدار معلوم في جثّته و وضعه و لونه و طعمه و طبعه و كيفيّة ارتزاقه و يسّر له ما ينفعه و ألهمه ما يضرّه و لو تتّبعت أحوال النباتات و الحيوانات لرأيت في كلّ منها ما يحار فيه العقول.

يحكى أنّ الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت و قد ألهمها اللّه أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغضّ فيردّ إليها بصرها فربّما كانت عند عروض العمى لها في برّيّة بينها و بين الريف مسافة طويلة فتطويها على بعدها و على عماها حتّى تهجم على شجرة الرازيانج لا تخطئها فتحكّ عيناها بورقها فترجع باصرة.

و جعل لكلّ حيوان و نبات خصوصيّات مميّزة بعضها عن بعض و خاصيّة مثل أنّه تعالى خلق التمساح و ربّما بلغ طوله عشرين ذراعا يوجد في بحر مهران في السند و النيل كما في القاموس و هو يبيض في البرّ فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا و ما بقي في البرّ صار سقنقورا و يوجد في مصر شكلها كالوزغة على عظم خلقته و هو أنفس ما يهدى لملوك الهند فإنّهم يذبحونه بسكّين من الذهب و يحشونه بالملح

ص: 126

و يحملونها إليهم فإذا وضعوا مثقالا من ذلك على بيض أو لحم و أكل يقع ذلك نفعا بليغا للتقوية.

و من هداياته تعالى أنّ القطا و هو طائر معروف يترك فراخه ثمّ يطلب الماء من مسيرة عشرة أيّام و أكثر فيرده فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثمّ يرجع فلا يخطئ لا ذهابا و لا إيابا قال الشاعر:

تميم بورب اللؤم أهدى من القطاو إن سلكت سبل الهداية ضلّت

حكي أنّ العقرب و الفارة إذا اجتمعتا في إناء زجاج و لم يتمكّن الفارة من الهرب لملاسة الزجاج قرضت الفارة إبرة العقرب فتسلم منها.

و حكي أنّ ابن عرس تبع فارة فصعدت الفارة شجرة و لم يزل يتبعها حتّى انتهت إلى رأس الغصن و لم يبق مهرب فنزلت على ورقة و عضّت طرفها و علّقت نفسها فعند ذلك صاح ابن عرس فجاءته زوجته فلمّا انتهت تحت الشجرة قطع ابن عرس الورقة الّتي عضّتها الفارة فسقطت فاصطادها ابن عرس الّذي كان تحت الشجرة.

و قد رئي أنّ الفارة تدخل ذنبها في قارورة الدهن و المايعات ثمّ تلحسه و إذا لم ينل ذنبها إلى الدهن هالت حصى صغارا من فم القارورة فيعلو الدهن فيتصل ذنبها إلى الدهن ثمّ تلحسه، و أمثال هذه العجائب في الحيوان كثيرة.

و الأعجب من هذا أنّه قيل: إنّ شجرة النخل يعرض لها العشق و تميل إلى نخلة اخرى فيخفّ حملها و تهزل، و علاجها أن يشدّ بينها و بين معشوقها الّذي مالت إليه بحبل أو يعلّق عليها سعفة منه أو يجعل فيها من طلعه فتجبر و تثمر و يرتفع هزالها.

قوله: [وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى الرعي بالكسر الكلاء بالفتح المصدر أي إنّه تعالى بقدرته أنبت ما ترعاه الدوابّ غضّا طريّا قال ابن عبّاس: المرعى الكلاء الأخضر.

[فَجَعَلَهُ بعد ذلك و بعد اخضراره [غُثاءً أَحْوى أي هشيما جافّا كالغثاء الّذي تراه فوق السيل من فتات الأرض «أحوى» أي أسود و إيراد الفاء في «فجعله» إشارة

ص: 127

إلى قصر مدّة الخضرة و فيه رمز إلى قصر مدّة العمر و سرعة زوال الدنيا و نعيمها فإنّ رتبة الحياة الدنيا و منافعها سريعة الفناء فإنّهما مرعى النفس الحيوانيّة كالهشيم و الحطام البالي الأسود.

[سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ضمان من اللّه أن يجعله بحيث لا ينسى و يحفظ القرآن للهداية و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل عليه جبرئيل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فلمّا نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا.

[إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه برفع حكمه و نسخه، و قيل: معنى الاستثناء إمكان وقوعه و إن لم يقع منه مشيّة النسيان فهو كقوله (1): «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» و لا يشاء و كقول القائل: لأعطينّك كلّ ما سألت إلّا أن أشاء أن أمنعك و النيّة أن لا يمنعه، و من المعلوم أنّه فرق بين النسيان و الإنساء و أنّ اللّه قادر على إنسائه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد.

[إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى و هو عالم بما ظهر و ما بطن من القول و العمل و النيّة و رفع الصوت و همس الصوت أي يعلم ما جهرت به في قراءتك لحفظها و ما أخفيتها و تريد أن تنسيه و تحفظه.

[وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى عطف على «نقرئك» و اليسرى فعلى من اليسر و هو السهولة في عمل الخير لما في معنى «نيّسرك» من تضمّن معنى الخير و التوفيق و حاصل المعنى نوفّقك للشريعة اليسرى الحنيفة و نسهّل عليك الوحي و ما يثبتك على أمرك و تبليغك و لنسهّل عليك المستصعب من امور النبوّة و الرسالة.

[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فذكّر الناس ما أوحي إليك و اهدهم إن نفع التذكير، و تقييد التذكير بالنفع لأنّه صلّى اللّه عليه و آله يستفرغ جهده فيه حرصا على إيمانهم و كان لا يزيد ذلك بعضهم إلّا كفرا و عنادا فأمره بأن يخصّ التذكير بمن يرجى منه التذكير و لا يتعب نفسه في تذكير من لا يزيده إلّا عتوّا و نفورا و هذا كقوله (2): «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» و حرف الشرط راجع إلى النبيّ لا إلى اللّه. قال بعض أهل العربيّة

ص: 128


1- سورة يونس: 108.
2- سورة ق 45.

إنّ «إن» تجي ء مثبتة فتكون بدل «قد» و قيل: معنى الآية ذكّر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع و لم يذكر الحالة الثانية كقوله (1): «سرابيل تقيكم الحرّ».

[سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتذكّر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى اللّه و يتّعظ بالقرآن من يخاف عقابه.

[وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى و يتبعّد من الذكرى و لا يسمعها سماع القبول الزائد في الشقاوة لتوغّله في عداوة النبيّ أو المراد من الأشقى الكافر مطلقا لأنّه أشقى من الفاسق و الناس في أمر المعاد و القرآن على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحّته و منهم من جوّز وجوده و لكنّه غير قاطع فيه لا بالنفي و لا بالإثبات و منهم من أصرّ على إنكاره و القسمان الأوّلان ينتفعون بالتذكير بخلاف الثالث.

[الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار و الكبرى اسم تفضيل تأنيث الأكبر و المفضّل هو ما في أسفل الدركات و المفضّل عليه ما في الدركات الّتي فوقها.

[ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها] حتّى يستريح [وَ لا يَحْيى حياة تنفعه بل تكون حياته و بالا عليه يتمنّى أن يموت لما هو فيها معها من فنون العذاب و يتعذّب مزيدا كلّما احترق و هلك أعيد إلى الحياة و عذّب فلا يكون ميّتا مطلقا و لا حيّا مطلقا.

[قَدْ أَفْلَحَ و نجا من المكروه [مَنْ تَزَكَّى و تطهّر من الكفر و المعاصي باتّعاظه بالذكرى أو تكثر من التقوى، من الزكاء و هو النماء، قال ابن مسعود: أي أعطى زكاة ماله و صلّى، أراد زكاة الفطرة و صلاة العيد.

[وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه و لسانه [فَصَلَّى و أقام الصلاة الخمس، قال ابن عبّاس أي وحّد اللّه و قيل: ذكر اللّه بقلبه عند صلاته و قيل: المراد ذكر اسم ربّه بلسانه عند دخوله في الصلاة أي قال: اللّه أكبر و قيل: هو أن يفتتح ببسم اللّه الرحمن الرحيم ثمّ يصلّي قال اللّه سبحانه: إنّ لي مع المصلّين ثلاث امور: أحدها تنزل الرحمة من عنان السماء إلى مفرق رأسه مادام في صلاته، و الثاني حفّته الملائكة بأجنحتها، و الثالث

ص: 129


1- سورة النحل: 81.

أناجي معه كلّما قال: يا ربّ! أقول: لبّيك، انتهى.

فلو قيل: إذا كان المراد من الآية زكاة الفطرة و صلاة العيد كيف يكون و السورة مكيّة بالإجماع و لم يكن بمكّة عيد و لا صدقة فطر؟

فالجواب أنّه لمّا كان في علم اللّه أنّ ذلك سيكون أثنى اللّه على من فعل ذلك فإنّه قد يخبر بما سيكون.

[بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا] إضراب عن مقدّر ينساق إليه الكلام كأنّه قيل:

لا يفعلون ذلك بل تختارون اللّذّات العاجلة و تسعون لتحصيلها و ترجّحون جانب الدنيا على الآخرة مع أنّ في حلالها حسابا و في حرامها عذابا.

[وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى حال من فاعل «تؤثرون» مؤكّدة للتوبيخ أي تؤثرونها على الآخرة مع أنّ الآخرة سعادة أبديّة و الدنيا مبغوضة و مبغوض ما فيها إلّا ذكر اللّه.

[إِنَّ هذا] إشارة إلى ما ذكر [لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى جمع صحيفة و هي الكتاب. و الصحيفة المبسوط من كلّ شي ء كصحيفة الوجه و المعنى أنّ تطهير النفس عن رذائل الشرك و تكميل الروح بالمعارف الإلهيّة و الجوارح بالطاعة و الإعراض عن ملهيات الدنيا لا يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع بل هذا التكليف ثابت و لا يختلف باختلاف الأنبياء، فالاصول متّحدة من لدن آدم و إنّما الاختلاف في بعض الفروع الّتي هي الشرائع و الشروط «إنّ الدين عند اللّه الإسلام (1)» فإن كان تغيير و تبديل فبالكيفيّة و الترتيب.

[صُحُفِ جدّك [إِبْراهِيمَ الخليل [وَ مُوسى أخيك الكليم. تمّت السورة.

ص: 130


1- سورة آل عمران: 19.

هذه

سورة الغاشية

اشارة

* (مكية)* من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا و من أدمنها في فرائضه و نوافله غشاه اللّه برحمته في الدنيا و الآخرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 26]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

[الْغاشِيَةِ] المجلّلة للجميع، الجملة خطاب للنبيّ يريد امّته قيل: إنّ «هل» في الآية بمعنى قد أي قد جاءك يا محمّد حديث الغاشية. قال المولى أبو السعود في الإرشاد:

و ليس بذاك بل هو استفهام أريد به التعجّب إشعارا بأنّه من الأحاديث العجيبة الّتي حقّها أن يتناقلها الرواة، و الغاشية الشديدة الّتي تغشى الناس و هي القيامة لأنّها تغشى الناس أهوالها تغشية و قيل: الغاشية نار تغشى وجوه الكفّار بالعذاب كقوله: (1)

ص: 131


1- سورة إبراهيم: 51.

«تغشى وجوههم النار».

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ] لعلّ وجه الابتداء بالنكرة كون تقدير الكلام: أصحاب وجوه، و لمّا كان الذلّ و الخشوع يظهران في الوجه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و قيل: المراد بالوجوه الكبراء مثل قولك: جاءني وجوه بني تميم أي سادتهم و كبراؤهم و عنى به وجوه الكفّار لأنّها تكبّرت عن عبادة اللّه بدلالة ما بعده من الأوصاف.

[عامِلَةٌ ناصِبَةٌ] و المعنى أنّ أصحاب تلك الوجوه لمّا لم يعملوا للّه في الدنيا و لم يشتغلوا بعبادته فاعملها و اتبعها في النار بمعالجة السلاسل و الأغلال و قيل:

يكلّفون ارتقاء جبل حديد في النار قال الكلبيّ: يخرّون على وجوههم في النار و قيل: معناه أنّ المراد «عاملة» في الدنيا بالمعاصي «ناصبة» في النار بالعذاب و قيل: المراد «عاملة ناصبة» في الدنيا أي يعملون في الدنيا و يتعبون أنفسهم على خلاف ما أمرهم مثل أرباب البدع و الّذين يخترعون من عند أنفسهم عبادة شاقّة محرّمة برأيهم الباطل من غير أن يكون فيها للّه رضى. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

المراد كلّ ناصب لنا بالعداوة و إن تعبّد و اجتهد في عبادته يؤول أمره إلى هذا العذاب.

[تَصْلى ناراً حامِيَةً] تذوق ألمها قد حميت فهي تتلظّى على أعداء اللّه و يلتزمون الاحتراق بالنار الّتي في غاية الحرارة [تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ] من عين متناهية بالغة في الآني أي الحرّ لتسخينها بتلك النار منذ خلقت لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت و إذا أدنيت من وجوههم تناثرت لحومها و إذا شربوا قطّعت أمعاؤهم يقال: أنى الحميم أي انتهى حرّه فهو آن و بلغ هذا إناه أي غايته.

[لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ بعد أن بيّن شرابهم ذكر طعامهم و الضريع يبيس الشبرق كزبرج و هو شوك يرعاه الإبل مادام رطبا و إذا يبس نحا منه و هو سمّ قاتل، و سمّي ذلك الشوك ضريعا لأنّه مضعف و مهزل غاية يقال: ضرع الرجل

ص: 132

ضراعة أي ذلّ و ضعف قال ابن عبّاس: الضريع في جهنّم شي ء تشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّا من النار هذا طعام بعض أهل النار و الزقّوم و الغسلين لآخرين بحسب جزائهم و به يرفع التعارض بين هذه الآية و بين آية «الحاقّة» و هي قوله (1): «و لا طعام إلّا من غسلين».

[لا يُسْمِنُ ذلك الضريع [وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ كما هو عادة طعام الدنيا روي أنّه تعالى يسلّط عليهم الجوع بحيث يضطرّون إلى أكل الضريع فإذا أكلوا يسلّط عليهم العطش فينظرون إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم و يقطع أمعاؤهم و تنكير الجوع للتحقير أي من جوع ما، و كرّر النفي للتأكيد.

[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ] أي ذات بهجة و حسن و ضياء مثل البدر أو متنعّمة في أنواع اللذائذ [لِسَعْيِها] في الدنيا [راضِيَةٌ] حين أعطيت الجنّة بعملها و راضية في مقابلة سعيها من الطاعات و العبادات في الدنيا فرضوا و حمدوا اللّه.

كائنين [فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ] مرتفعة القصور و الدرجات [لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً] أنت أيّها المخاطب أو التاء تاء التأنيث لا الخطاب أي أصحاب الوجوه فيها أي في الجنّة «لاغية» كلمة ساقطة لا فائدة فيها أو ذات لغو كقولهم: نابل و دارع أي ذو نبل و درع.

[فِيها] أي في تلك الجنّة [عَيْنٌ جارِيَةٌ] اسم جنس و لكل إنسان في قصره عيون كثيرة و التنوين للتكثير تجري مياهها على الدوام و هي أشدّ بياضا من اللبن و أحلى من العسل من شرب منها لا يظمأ بعدها أبدا و يذهب من قلبه جميع المكاره.

[فِيها سُرُرٌ] يجلسون عليها روي أنّه لكلّ واحد سبعمائة سرير على كلّ سرير حوريّة خلقها اللّه له [مَرْفُوعَةٌ] رفيعة السمك أي عالية في الهواء على قوائم طوال فإنّ السمك هو الامتداد الآخذ من أسفل الشي ء إلى أعلاه فيرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربّه من النعيم الكثير في الجنّة و الملك العظيم قال صلّى اللّه عليه و آله: «ارتفاعها كما بين

ص: 133


1- سورة الحاقة: 36.

السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام، فإذا جاء وليّ اللّه ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت».

[وَ أَكْوابٌ الكوب إناء لا عروة له و لا خرطوم مدوّر الرأس ليمسك من أيّ طرف أريد [مَوْضُوعَةٌ] بين أيديهم حاضرة و هو لا ينافي أن يكون بعض الأقداح في أيدي الغلمان لأنّ النعم في الجنّة أطوار و أقسام.

[وَ نَمارِقُ أي وسائد يستندون إليها للاستراحة و التنفّس في الراحة [مَصْفُوفَةٌ] بعضها إلى جنب بعض و على رأسه و صائف كأنّهنّ الياقوت و المرجان.

[وَ زَرابِيُ أي بسط فاخرة جمع زربيّ ضرب من الثياب محبّر منسوب إلى موضع على طريق التشبيه و الاستعارة [مَبْثُوثَةٌ] أي مبسوطة على السرر زينة و تمتّعا، و أصل البثّ إثارة الشي ء و تفريقه.

[أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الهمزة للإنكار و التوبيخ و الفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام أي أ ينكرون من البعث و أحكامه و يستبعدون وقوعه عن قدرة اللّه.

أفلا ينظرون نظر اعتبار إلى الإبل الّتي هي نصب عينهم يستعملونها كلّ حين في عظم جثتها و شدّة قوّتها من الأفاعيل الشاقّة كالنهوض بالأوقار الثقيلة و جرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة و في صبرها على الجوع و العطش حتّى أنّ ظماءها ليبلغ العشر و اكتفائها باليسير مع هذه الجثّة العظيمة و رعيها لكلّ ما تيسّر من شوك و شجر ممّا لا يرعاه سائر البهائم و في انقيادها للإنسان في الحركة و السكون و النهوض حتّى يقتادها طفل أين ما يشاء يذهب بها.

حكي أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها و هي تتبعها حتّى دخلت حجرها فجرّت الزمام فبركت الناقة فجرّت فقرّبت الناقة فمها من حجر الفارة.

و تتأثّر الإبل من المودّة و الغرام و تسكر منهما إلى حيث تنقطع عن الأكل و الشرب زمانا ممتدّا، و تتأثّر من الأصوات الحسنة و الحداء و تصير من

ص: 134

كمال التأثّر إلى أن يهلك نفسها من سرعة الجري و يجري الدمع في عينها غراما. و فيها من الفائدة من النسل و الحمل و اللبن و الركوب، فبيّن لهم سبحانه هذه الخلقة العجيبة النافعة ليستدلّوا بها على قدرته في ما خلق من النعمة لأهل الجنّة فلا يستبعدونها.

[وَ إِلَى السَّماءِ] الّتي تشاهدونها [كَيْفَ رُفِعَتْ رفعا بغير عماد و لا مساك بحيث لا يناله الفكر و الوهم.

[وَ إِلَى الْجِبالِ الّتي ينزلون في أقطارها و ينتفعون بمياهها و كلائها و أشجارها [كَيْفَ نُصِبَتْ نصبا رصينا فهي راسخة لا يمتدّ أوتادا للأرض قيل: و فيه إشارة إلى عالم المثال لأنّه متوسّط بين سماء الروحانيّات و أرض الجسمانيّات.

[وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ سطحا مبسوطا حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق و لو لا ذلك التسطّح لما صحّ الاستقرار عليها و الانتفاع منها و لو تفكّروا و تدبّروا فيها لعلموا أنّ لهم صانعا صنعهم و موجدا أوجدهم.

و لمّا ذكر سبحانه الأدلّة أمر نبيّه التذكير بها فقال: [فَذَكِّرْ] الفاء لترتيب الأمر بالتذكير فقال: و اقتصر على التذكير و لا يمنعك أنّهم لا يتذكّرون [إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ] أي مبلّغ [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ] أي لست بمسلّط تجبرهم على ما تريد كقوله (1): «و ما أنت عليهم بجبّار» و قرئ بالصاد على القلب لمناسبة الطاء بعدها أي لست عليهم بحافظ و قائم إنّما الواجب عليك الإنذار، و إن كان هذا الأمر قبل نزول آية الجهاد.

[إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ] أي أعرض عن الذكر و لم يقبل منك و كفر باللّه و بما جئت به فكل أمره إلى اللّه و قيل: معناه «إلّا من تولّى و كفر» فلست له بمذكّر لأنّه لا يقبل منك فكأنّك لست تذكّره و قيل: إنّ الاستثناء منقطع و هو الأظهر أي لكن من تولّى و كفر و «من» موصولة لا شرطيّة.

[فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ] الّذي هو عذاب جهنّم حرّها شديد و قعرها

ص: 135


1- سورة ق: 44.

بعيد و مقامع من حديد و في الآية تنبيه على أنّ كلّ عذاب يعذّب الكافر من القتل و الأسر في الدنيا و في البرزخ صغير في جنب عذاب الآخرة.

[إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي إلينا رجوعهم بالموت و البعث لا إلى أحد سوانا. و في تقديم الخبر تخصيص و مبالغة في شدّة عذابهم و جمع الضمير باعتبار معنى «من» و إفراده باعتبار لفظها.

[ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر فنحن نحاسبهم على النقير و القطمير.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 136

سورة الفجر

اشارة

* (مكية)* روى داود بن فرقد عن الصادق عليه السّلام قال: اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم فإنّها سورة الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من قرأها كان معه يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 30]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)

وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)

وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

المعنى: لمّا كان العرب أكثر خلق اللّه قسما في كلامهم جاء القرآن على

ص: 137

عادتهم في القسم، أقسم بالفجر و الفجر فجران: فجر مستطيل كذنب السرحان و هو الكاذب و لا يتعلّق به حكم و فجر مستطير و هو الصادق الّذي يتعلّق به الأحكام كالصوم و الصلاة.

أقسم اللّه بالفجر الّذي هو أوّل وقت ظهور ضوء الشمس في جانب المشرق كما أقسم بالصبح حيث قال: «و الصبح إذا تنفّس» و قيل: المراد فجر يوم عرفة لأنّه يوم شريف يتوجّه فيه الحجّاج إلى جبل عرفات و قيل: صباح يوم النحر لأنّه يوم عظيم و يقع فيه الطواف المفروض و الحلق و الرمي و قيل: المراد فجر ذي الحجّة لأنّ اللّه قرن الأيّام بها فقال: «و ليال عشر» و هي عشر ذي الحجّة و قيل: فجر أوّل المحرّم و قيل: أراد من الفجر النهار كلّه.

[وَ لَيالٍ عَشْرٍ] يعني العشر في ذي الحجّة و قيل: المراد من ليالي العشر العشر الأواخر من شهر رمضان و يمكن أن يكون المراد من الليالي أيّامها و العرب تذكّر الليالي و هي تعنيها بأيّامها تقول: بني هذا البناء ليالي السامانيّة أي أيّامهم و قيل:

العشر الأواسط من شعبان و فيها ليلة البراءة و البرات و الصكّ و قيل: هي ستّ ليال خلق اللّه في أيّامها السماوات و الأرض و ليلة خلق فيها آدم و ليلة كلّم اللّه فيها موسى و ليلة اسري بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ليلة يومها يوم القيامة.

[وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ] و أقسم سبحانه بكلّ عدد يكون زوجا و فردا و العدد لا يكون خارجا منهما قال أبو مسلم: هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع. و قيل:

«الشفع و الوتر» كلّ ما خلقه اللّه لأنّ جميع الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد. و قيل:

الشفع الخلق لأنّه قال: «و خلقناكم أزواجا» و الوتر اللّه تعالى و هي رواية أبي سعيد الخدريّ. و قيل: «الشفع و الوتر» الصلاة منها شفع و منها وتر و هي رواية ابن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة و هي رواية جابر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و قيل: الشفع صفات المخلوقين و تضادّها مثل الذلّ و العزّ و الوجود و العدم و القدرة و العجز و العلم و الجهل و الحياة و الموت، و الوتر صفة اللّه إذ هو الموجود

ص: 138

لا يجوز عليه العدم و القادر لا يجوز عليه العجز و العالم لا يجوز عليه الجهل و الحيّ لا يجوز عليه الموت. و قيل: الشفع عليّ و فاطمة عليهما السّلام و الوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام. و قيل: كلّ نبيّ له اسمان مثل محمّد و أحمد و المسيح و عيسى و يونس و ذي النون هو الشفع، و كلّ من له اسم واحد مثل آدم و نوح و إبراهيم و مسجد مكّة و المدينة هو الوتر.

قوله: [وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ] جنس الليل إذا يمضي و يدبر ففي تيسيره على المقادير المرتّبة و مجيئه بالضياء عند تقضّيه دليل على أنّ خالقه و مدبّره يختصّ بالعزّ و الجلال و السري سير الليل و قيل: المراد من الليل ليلة مخصوصة من الليل لا الجنس قيل: إنّها المزدلفة لاختصاصها باجتماع الناس فيها بطاعة اللّه و فيها يسري الحاجّ من عرفة إلى المزدلفة ثمّ يصلّي الغداة فيها و يغدو منها إلى منى.

فإن قيل: القسم بالليل إذا يسر بناء على الجنس يعني عن القسم بليال عشر.

فالجواب إنّ المقسم به في قوله: «و الليل إذا يسر» باعتبارات و في قوله:

«و ليال عشر» باعتبارات و خصوصيّات اخرى فلا يغني أحدهما عن الآخر و يجوز أن يكون المعنى: و الليل إذا يسر يعني يسري فيه الساري و يسير فيه السائر فإسناد السري إلى الليل مجاز مثل قولك: «نهاره صائم و ليله قائم» أي صائم في نهاره و حذفت الياء اكتفاء بالكسر و لسقوطها في خطّ المصحف و لموافقة رؤس الآي و إن كان الأصل إثباتها لأنّها لام الفعل من المضارع و هو مرفوع.

[هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ] أي هل في ما ذكر من الأقسام مقنع لذي لبّ، و في الآية تقرير لفخامة شأن المقسم بها و كونها أمورا جليلة حقيقة بالإعظام.

[أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ] جملة معترضة بين القسم و جوابه و جواب القسم محذوف تقديره ليعذّبنّ الكفّار و إنّما حذف لدلالة هذه الجملة عليه أي ألم تعلم يا محمّد علما يقينيّا جاريا مجرى الرؤية في الوضوح بإعلام اللّه و بالتواتر كيف عذّب ربّك عادا و نظائرهم فسيعذّب كفّار قومك أيضا.

ص: 139

و المراد بعاد أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السّلام قوم سمّوا باسم أبيهم كما سمّي بنو هاشم هاشما و بنو تميم تميما فلفظ «عاد» اسم للقبيلة المنتسبة إلى عاد و قد قيل لأوائلهم عاد الاولى و لأواخرهم عاد الأخيرة قال عماد الدين:

كلّ ما ورد في القرآن خبر عاد الاولى إلّا ما في سورة الأحقاف.

[إِرَمَ عطف بيان لعاد للإيذان بأنّهم عاد الاولى بتقدير مضاف أي أولاد إرم أو أهل إرم بناء على أنّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم و يؤيّده القراءة بالإضافة و أيّا ما كان فامتناع صرفها للتعريف و التأنيث. قال سعيد بن المسيّب و عكرمة: البلد كان دمشق و قال محمّد بن كعب القرظيّ: هو مدينة إسكندريّة. و قيل: مدينة بناها شدّاد ابن عاد فلمّا أتمّها و أراد أن يدخلها أهلكه اللّه بصيحة نزلت من السماء و الأرآم أعلام تبنى من الحجارة «و إرم ذات العماد» إشارة إلى أعلامها المرفوعة المزخرفة على هيئة المنارة أو على هيئة القبور.

[ذاتِ الْعِمادِ] صفة لإرم و اللام للجنس الشامل للقليل و الكثير و العماد كالعمود و الجمع عمد بفتحتين و بضمّتين و أعمدة، أي ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالعمود أو المراد ذات الخيام و الأعمدة حيث كانوا بدويّين و كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم أو المراد ذات البناء الرفيع و كانوا ذات أبنية مرفوعة على العمد و كانوا يعالجون الأعمدة العظيمة فينصبونها و يبنون فوقها القصور و كانت بيوتهم ترى من أرض بعيدة و ذوات الأساطين و هذا على أنّ إرم اسم بلدتهم.

قال السهيليّ: «إرم ذات العماد» هو جيرون بن سعد بن إرم و هو الّذي بنى مدينة دمشق على عمد من رخام أدخل فيها أربعمائة ألف و أربعين ألف عماد من رخام و كانت تسمّى جيرون و به تعرف ثمّ سمّيت دمشق بدمشق بن نمرود.

[الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ] صفة اخرى لإرم و إذا كان اسم القبيلة فالضمير لها أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في عظم جثّتهم في القوّة في النواحي و الآفاق حيث كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع و كان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها و يلقيها

ص: 140

على الحيّ فيهلكهم و ليس كلّ الناس كذلك بل كان هذا الاختصاص بقبيلتهم و نظيرهم في الطيور الرخ و هو طير في جزائر الصين يكون جناحه الواحد عشرة آلاف باع يحمل حجر في رجله كالبيت العظيمة و يلقيه على السفينة في البحر و قيل: المراد من قوله: «الّتي لم يخلق مثلها في البلاد» أي لم يخلق مثل مدينتهم في بلاد الدنيا فالضمير راجع إلى البلدة.

و مجمل قصّة إرم قال وهب بن منبّه: خرج عبد اللّه بن قلابة في طلب إبل له شردت فبينا هو في الصحاري إذ هو وقع في مدينة في تلك الفلوات عليها حصن و حول الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله فنزل عن دابّته و عقلها و سلّ سيفه و دخل من باب الحصن فلمّا دخل الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير مثلهما و البابان مرصّعان بالياقوت الأبيض و الأحمر فلمّا رأى ذلك دهش ففتح إحدى البابين و إذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها و إذا هو قصور و كلّ قصر فوقه غرف و فوق الغرف غرف مبنيّة بالذهب و الفضّة و اللؤلؤ و الياقوت ثمّ نظر إلى الأزقّة فإذا هو بشجر في كلّ زقاق منها قد أثمرت و تحت الأشجار أنهار مطّردة تجري ماؤها في مجاري من فضّة فقال الرجل: و الّذي بعث محمّدا بالحق ما خلق اللّه مثل هذه في الدنيا و إنّ هذه هي الجنّة الموعودة فحمل معه شيئا من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران و لم يستطع أن يقلع من جواهرها أصلا لرصاصة بنائها و خرج و رجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه و علم الناس بأمره فلم يزل ينمو حتّى بلغ خبره إلى معاوية فأرسل في طلبه حتّى قدم عليه فقصّ عليه القصّة.

[وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ] و كيف فعل بثمود الّذين قطعوا الصخر و نقّبوها بالوادي الّذي كانوا نازلين فيه. الجوب القطع، و منه سمّي الحبيب.

و الصخر الحجر الصليب الشديد. و الواد أصله الوادي حذفت ياؤه اكتفاء بالكسرة و رعاية لرأس الآي و المراد بالواد وادي القرى بالقرب من المدينة الشريفة من جهة الشام و أنّهم أوّل من نحت الصخور و الجبال و اتّخذوا فيها لهم بيوتا.

ص: 141

[وَ فِرْعَوْنَ أي كيف فعل بفرعون موسى و هو الوليد بن مصعب بن ريّان ابن ثروان أبو العبّاس القبطيّ و إليه تنسب الأقداح العبّاسيّة [ذِي الْأَوْتادِ] وصف بذلك لكثرة جنوده و خيامه الّتي يضربونها في منازلهم و يربطونها بالأوتاد و الأطناب أو لتعذيبه بالأوتاد.

روي عن ابن عبّاس أنّ فرعون إنّما سمّي ذا الأوتاد لأنّ امرأة خازن حزبيل كانت ماشطة هيجل بنت فرعون و كان حزبيل مؤمنا يكتم إيمانه منذ مائة سنة و كذا امرأته فبينا هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت:

تعس من كفر باللّه تعالى فقالت ابنة فرعون: و هل لك إله غير أبي؟ فقالت: إلهي و إله أبيك و إله السماوات و الأرض واحد لا شريك له، فقامت و دخلت على أبيها و هي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: إنّ الماشطة امرأة خازنك كذا تقول، فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت: صدقت فقال لها: ويحك اكفري بإلهك قالت: لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثمّ أرسل عليها الحيّات و العقارب و قال لها: اكفري باللّه و إلّا عذّبتك بهذا العذاب شهرين فقالت: لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت به و كانت لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها عندها و قال لها: اكفري بإلهك و إلّا ذبحت الصغرى أيضا و كانت رضيعا فقالت: لو ذبحت من في الأرض ما كفرت باللّه تعالى فأتى بابنتها فلمّا أضجعت على صدرها و أرادوا ذبحها جزعت المرأة فأطلق اللّه لسان ابنتها فتكلّمت و هي من الأربعة الّذين تكلّموا أطفالا و قالت: يا امّاه لا تجزعي فإنّ اللّه قد بنى لك بيتا في الجنّة اصبري فإنّك تفضين إلى رحمة اللّه فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها اللّه إلى جوار رحمته.

و كان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت في نفسها: كيف يسعني أن أصبر على ما يفعل فرعون و أنا مسلمة و هو كافر، فبينما هي تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت: يا فرعون أنت شرّ الخلق و أخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فرعون: فلعلّك بك الجنون الّذي كان بها قالت: ما بي من جنون و

ص: 142

إنّما المجنون من يكفر باللّه الّذي له ملك السماوات و الأرض فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ففتح اللّه لها بابا إلى الجنّة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: (1) «ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة و نجّني من فرعون و عمله» فقبض اللّه روحها و أسكنها الجنّة.

[الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ] أي عادا و ثمود و فرعون تجبّروا في البلاد على أنبياء اللّه و عملوا فيها بمعصية اللّه [فَأَكْثَرُوا فِيهَا] في البلاد [الْفَسادَ] من القتل و المعصية.

ثمّ بيّن ما فعله بهم عاجلا قال: [فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ السوط الجلد المفتول الّذي يضرب به و هو عبارة عمّا حلّ بهم من فنون العذاب و هي الريح لعاد و الصيحة لثمود و الغرق للقبط و تسميته سوطا للإشارة إلى أنّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط.

قال أبو حيّان: استعير السوط للعذاب لأنّه يقتضي التكرار و الترداد ما لا يقتضيه السيف، و السوط عند العرب أشدّ العذاب لأنّ فيه الذلّة و التعبير عن إنزال العذاب بالصبّ للإيذان باستمراره و تتابعه و كثرته و نسبة العذاب إلى السوط و بالصبّ لبيان التتابع المتدارك على المضروب بقطرات المصبوب.

[إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ] المرصاد المكان الّذي يترقّب فيه الراصدون مفعال من رصده كالميقات من وقته، و الباء للظرفيّة، إنّه لفي المكان الّذي تعبر فيه السابلة و ليس مصيرهم إلّا إلى اللّه، شبّه سبحانه ترقّبه على أعمالهم بحال من قصد على طريق القافلة يترصّدهم ليظفر بالجائي لأخذ المكسّ (2) و لا مخلص لهم من العبور إلّا إلى ذلك الطريق و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد و روي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: إنّ على جسر جهنّم سبع محابس يسأل العبد عندها أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا اللّه فإنّ جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاةة.

ص: 143


1- سورة التحريم: 11.
2- اى مال التجارة.

فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابعة فيسأل عن الصوم فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم فإن خرج منها و إلّا يقال له: انظروا فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة و إلّا تردّى.

ثمّ قسّم سبحانه أحوال البشر فقال:

[فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى و اليسار [فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ و أعطاه النعمة [فَيَقُولُ مفتخرا: [رَبِّي أَكْرَمَنِ فيفرح بذلك و يسرّ و يقول: ربّي أعطاني هذا لكرامتي عنده و منزلتي لديه يحسب أنّه كريم على ربّه حيث وسع الدنيا عليه.

[وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ و امتحنه و جعل رزقه على قدر كفايته أو قوت يومه [فَيَقُولُ متضجّرا: [رَبِّي أَهانَنِ أي أذلّني بالفقر و لا يخطر بباله أنّ ذلك ليبلوه أ يصبر أم يجزع مع أنّه ليس من الإهانة في شي ء بل هو مصلحة راجعة إلى العبد.

فقال سبحانه: [كَلَّا] أي ليس الأمر كما ظنّ فإنّي لا اغني المرء لكرامته عليّ و لا أفقره لمهانته عندي و لكنّي اوسّع على من أشاء بحسب ما يوجبه الحكمة و إنّما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة و الإهانة بالمعصية.

ثمّ بيّن سبحانه ما يستحقّ به الهوان فقال: [بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ انتقال من سوء أقواله إلى سوء أفعاله أي بل لكم أحوال أشدّ شرّا ممّا ذكر و أدلّ على تهالككم حيث أعطاكم اللّه المال فلا تؤدّون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالنفقة، و اليتيم من بني آدم الّذي فقد أباه و كان غير بالغ و من البهائم ما فقد امّه قال صلّى اللّه عليه و آله: «أحبّ البيوت إلى اللّه بيت فيه يتيم مكرم».

[وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ بحذف إحدى التاءين و الحضّ الحثّ أي لا تحثّون على إطعامه و لا تأمرون بالتصدّق عليه و من لا يحضّ غيره على إطعامه فبأن لا يطعمه بنفسه أولى، فالمعنى أن لا تطعمون مسكينا و لا تأمرون بإطعامه غيركم.

ص: 144

[وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا] قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر اميّة بن خلف فكان يدفعه عن حقّه فنزلت. و التراث أصله «وراث» قلبت واوه تاء مثل تجاه أصله و جاه، أي تأكلون الميراث أكلا مجموعا بين الحلال و الحرام فإنّهم كانوا لا يورّثون النساء و الصبيان و يأكلون أنصباءهم أو المعنى أنّهم يأكلون ما جمعه المورّث من حلال و حرام و مشتبه عالمين بذلك و لا يبالون و قيل: المراد أموال اليتامى و لم يرد الميراث الحلال لأنّه لا يلام عليه، و أكلا لمّا يعنى تلمّون جميعه نصيبكم و نصيب غيركم و تأكلونه.

[وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا] كثيرا مع حرص و شره و منع حقوق يقال:

جمّ الماء في الحوض إذا اجتمع فيه و كثر.

[كَلَّا] ردع و إنكار أن يكون الأمر كذلك في الحرص على الدنيا و عدم المبالات في الحرام و ترك المواساة منها و توهّم أن لا حساب و لا جزاء و إيثار الحياة الفانية على الحياة الدائمة [إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا] تعليل للردع «الدكّ» الدّق و الكسر و حطّ المرتفع بالبسط، و دكّا الثاني ليس تأكيدا للأوّل بل هو دكّ آخر سوى الأوّل و المعنى: إذا دكّت الأرض دكّا متتابعا و ضرب بعضها ببعض حتّى انكسر و ذهب كلّ ما على وجهها و زلزلت زلزلة بعد زلزلة و صارت هباء منثورا و هو عبارة عمّا عرض لها عند النفحة الثانية.

[وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربّك و آثار قهره و قضاؤه، على حذف المضاف و قال بعض المحقّقين: المعنى و جاء ظهور ربّك الظهور المعرفة به ضرورة و ظهور المعرفة بالشي ء يقوم مقام ظهوره و رؤيته لأنّ المعارف باللّه صار ذلك اليوم ضروريّة و يرتفع الشكّ كما يرتفع عند مجي ء الشي ء الّذي كان يشكّ فيه، جلّ و تقدّس عن المجي ء و الذهاب لأنّه ليس بجسم تعالى عن ذلك.

[وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا] أي يجي ء الملائكة حالكونهم مصطفّين فإنّه ينزل يومئذ ملائكة كلّ سماء فيصطفّون سبع صفوف عدد السماوات السبع اصطفاف أهل الصلاة في الدنيا.

ص: 145

[وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قال ابن مسعود: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام معه سبعون ألف ملك يجرّونها حتّى تنصب على يسار العرش لها تغيّظ و زفير فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع و يجثو كلّ نبيّ و وليّ من الهول و الهيبة على ركبته و يقول: نفسي نفسي حتّى يعترض لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقول: أمّتي أمّتي فتقول النار: مالي و مالك يا محمّد؟ لقد حرّم اللّه لحمك عليّ.

و تأوّل بعض المتأوّلين بأنّ المراد من مجي ء جهنّم عبارة عن إظهارها حتّى يراها الخلق مع ثباتها في مكانها و حملوا الجرّ في الحديث في قوله: «يجرّونها حتّى تنصب» مباشرة أسباب ظهورها، أو المراد بمجي ء جهنّم مجي ء صورتها المثاليّة و هذا القول منهم ليس بصحيح و لا حاجة إلى الحمل في الكلام على التجوّز فإنّ اللّه قادر على كلّ شي ء و ليس هذا الأمر ببدع في مقام القدرة، و الأرض يومئذ أوسع شي ء فهي تسع جهنّم و أهل المحشر جميعا فما الداعي إلى حمل معنى المجي ء بصورتها المثاليّة.

[يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ بدل من «إذا دكّت» و العامل فيها قوله: «يتذكّر الإنسان» أي يتذكّر ما فرط فيه بتفاصيله فيبرز كلّ من الحسنات و السيئات ممّا يناسبها، و الأعمال تتجسّم في النشأة الآخرة و يقبل التذكير و يتّعظ الّذي بلغه في الدنيا و ما كان يتّعظ منه و لم يقبله فيقول (1): «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» و لكن لا فائدة هناك من القبول و التذكّر.

[وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى إنكار لفائدة تذكّره لأنّه وقع في وقت لا ينفعه وفات زمانه فحينئذ هذا التذكّر و الندم عار عن الجدوى و «أنّى» خبر مقدّم للذكرى أي و من أين له الذكرى و نفعه.

[يَقُولُ يا لَيْتَنِي أي يا أيّها الحاضرون ليتني [قَدَّمْتُ لِحَياتِي كأنّه قيل:

ماذا يقول عند تذكّره؟ فقيل يقول: يا ليتني عملت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة أنتفع بها اليوم و قدّمت عملا ينجيني من العذاب.

ص: 146


1- سورة الانعام: 27.

[فَيَوْمَئِذٍ] أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال [لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ] الهاء في «عذابه» راجع إلى اللّه و العذاب بمعنى التعذيب و كذا الوثاق بالفتح بمعنى الإيثاق و هو الشدّ بالوثاق و الوثاق ما يشدّ به من الحديد و الحبل و نحوه و المعنى لا يتولّى عذاب اللّه و وثاقه أحد سواه إذا الأمر كلّه له و يجوز أن يكون الهاء للإنسان أي لا يعذّب أحد من الزبانية مثل ما يعذّبونه و قرأهما الكسائي و يعقوب على البناء للمفعول قال الزمخشريّ: هي قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و بالجملة قال بعض أهل التفسير: معنى الآية لا يعذّب عذاب اللّه و لا يوثق إيثاق اللّه أحد من الخلق و أمّا القراءة بفتح العين في «يعذّب و يوثق» فالمعنى لا يعذّب أحد من عصاة المؤمنين تعذيب هذا الكافر و هو الّذي ذكر في قوله: «لا تكرمون اليتيم» الآيات، و على هذا المعنى و إن اطلق لكنّ الأولى أن يكون المراد التقييد لأنّا لا نعلم أنّ إبليس أشدّ عذابا منه و قيل: معنى الآية إنّه لا يعذّب أحد غيره بعذابه لأنّه المستحقّ بعذاب نفسه و لا يؤاخذ اللّه أحدا بكسب غيره.

[يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ] لمّا ذكر سبحانه شقاوة النفس الأمّارة شرع في بيان أحوال النفس المطمئنّة و اطمينان السكون و الوصول إلى اليقين و المعرفة و في قوله (1):

«ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب» تنبيه على أنّ الإكثار من العبادة من موجبات اطمينان النفس و من كان متمكّنا في مقام الترقّي تخلّص من التنزّل إلى مقام النفس الأمّارة و تخلّى عن صفاتها الذميمة و تحلّى بالأخلاق الحميدة.

[ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ و إلى ما وعد لك من الزلفى و الكرامة [راضِيَةً مَرْضِيَّةً] بما أوتيت من النعيم الدائم مرضيّة عند اللّه [فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة الصالحين المختصّين بي [وَ ادْخُلِي جَنَّتِي معهم، و الدخول في زمرة الخواصّ هي السعادة الروحانيّة.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 147


1- سورة الرعد: 30.

سورة البلد

اشارة

* (مكية)* قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 20]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

أجمع المفسّرون على أنّ هذا قسم بالبلدة الحرام الّذي هو مكّة و «لا» لتأكيد القسم كقول العرب: لا و اللّه ما فعلت كذا لا و اللّه لأفعلنّ كذا، و أقسم سبحانه بمكّة لفضلها فإنّه جعلها حرمها آمنا و هي مسقط رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حرم أبيه إبراهيم و منشأ أبيه إسماعيل و قبلة لأهل الشرق و الغرب، و حجّ البيت كفّارة لذنوب العمر و جعل البيت المعمور بإزائه.

[وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ] و أنت خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الحلّ بمعنى الحال من الحلول و هو النزول أي و الحال أنّك يا محمّد نازل بها فبدأ سبحانه قسمه عليه بحلوله صلّى اللّه عليه و آله فيها إظهارا لمزيد فضلها فإنّها بعد أن كانت شريفة بنفسها زاد شرفها بحلول

ص: 148

النبيّ الشريف فيها فما لا شرف فيه يحصل له شرف بشرف المكين و ما فيه شرف ذاتيّ يحصل له بشرف شرف زائد و قد سمّى صلّى اللّه عليه و آله المدينة طابة لأنّها طابت به و بمكانه.

[وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ] و المراد من الوالد إبراهيم و ما ولد إسماعيل أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله فحينئذ تتضمّن السورة القسم بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله في موضعين أو المراد آدم و ذرّيّته و قيل:

«الوالد» هو النبيّ «و ما ولد» امّته المرحومة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم أمر دينكم و ما يصلح شأنكم» و لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا و عليّ أبوا هذه الأمّة» و اموميّة الأزواج المطهّرة تقتضي ابوّته صلّى اللّه عليه و آله إذ كلّ من كان سببا لإيجاد شي ء أو ظهوره يسمّى أبا و قد قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنا من اللّه و المؤمنون من فيض نوري» و قيل: يعنى بالآية كلّ والد و ولده و قيل: يعني و والد من لو ولد له يعني العاقر فيكون «ما» نافية و التقدير و ما ولد فحذف ماء الأولى الّتي تكون موصولة.

[لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ] أي نصب و شدّة و قوله: «خلقنا الإنسان» جواب للقسم و من هذا المعنى اشتقّت المكابدة بمعنى مقاساة الشدّة و «في كبد» حال من الإنسان بمعنى «مكابدا» و حرف في و اللّام متقاربان تقول: إنّما أنت للعناء و النصب و إنّما أنت في العناء و النصب فابن آدم يكابد من البلايا ما لا يكابده غيره من مصائب الدنيا و شدائد الآخرة، و الكبد في اللّغة شدّة الأمر و منه تكبّد اللبن إذا غلظ و اشتدّ و منه الكبد لأنّه دم يغلظ و يشتدّ و تكبّد الدم إذا صار كالكبد.

و بالجملة فالإنسان يقاسي فنون الشدائد مبدؤها ظلمة الرحم و مضيقة و منتهاه الموت و أوّل ما يتولّد فهو في النصب و العناء من قطع سرّته و التفافه بخرقة يحتوي الأعضاء و ألم الختان و مكابدة المعلّم و صولته و الأستاذ و هيبته ثمّ التزوّج و مكابدته للمعاش و الأولاد و المنزل و النزل و الكبر و الهرم و مصائب كثيرة لا يمكن تعدادها كالصداع و الأوجاع و الأضراس و رقد العين و همّ الدين و شدائد التكاليف كالشكر على السرّاء و الصبر على الضرّاء و أداء العبادات كالصوم و الصلاة و الزكاة و الحجّ و الجهاد ثمّ شدّة الموت و سؤال الملك و ظلمة القبر و البعث و العرض على الملك المحاسب

ص: 149

بل لا يرى في عمره لذّة في الدنيا و ما يحسبه اللذّة فهو دفع ألم فاللذّة من الأكل هي التخلّص من الجوع و هكذا فليس للإنسان إلّا الشدّة أو التخلّص من الشدّة.

و قيل: معنى الآية «خلق الإنسان في كبد» أي قائما مستويا منتصبا و غيره من الحيوان مكبّا يمشي فالكبد المراد منه الاستقامة و الاستواء. و في الآية تسلية لرسول اللّه بما يقاسي من كفّار قريش و تنبيه على أنّ الإنسان ينبغي له أن يعلم أنّ الدنيا دار كبد و مشقّة و الآخرة دار النعمة و الراحة فيسعى لآخرته.

[أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ] أي أ يظنّ هذا الإنسان أن لن يقدر على عقابه إذا عصى اللّه و ركب القبائح، فبئس الظنّ ذلك أو يحسب هذا المغترّ بما له مثل الوليد بن المغيرة و أمثاله أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله أولا يحاسب عليه من أين اكتسه و فيما ذا أنفقه قيل: المراد الأشدّ بن كلدة و هو رجل من جمح كان قويّا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظيّ فتجرّه العشرة من تحته فينقطع الأديم و لا يبرح من مكانه.

ثمّ أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان [يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً] أي كثيرا متلبّدا مجموعا من تلبّد الشي ء إذا اجتمع يريد كثرة ما أنفقه مفاخرة و سمعة و كان أهل الجاهليّة يسمّون مثل ذلك مكارم. و في لفظ الإهلاك إشارة إلى أنّه ضائع في الحقيقة إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة كما قالت عائشة في حقّ عبد اللّه بن جذعان:

كان في الجاهليّة يصل الرحم و يطعم المسكين فهل ذلك نافعه يا رسول اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

لا ينفعه لأنّه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين. و قيل: المراد في الآية هو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد، عن مقاتل.

[أَ يَحْسَبُ ذلك الأحمق [أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ] فيطالبه من أين اكتسبه و فيما أنفقه، و كان بعض المشركين يصرفون أموالا في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أي إنّ اللّه رآه و اطّلع على خبث نيّته و فساد سريرته و مثل هذا الإنفاق رذيلة فكيف يعدّه

ص: 150

فضيلة. في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تزول قد ما العبد حتّى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه و عن ماله من أين جمعه و فيما ذا أنفقه و عن علمه ما ذا عمل به و عن حبّنا أهل البيت».

[أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما آثار قدرته و حكمته و يفرق بهما بين ما يضرّ و ما ينفع و لعلّ المراد من العينين عين البصر و عين البصيرة، و العين تحرس البدن من الآفات و هي نيّرة كالمرآة إذا قابلها شي ء ارتسمت صورته فيها مع صغر الناظر و جعل لها أجفانا يسترها و أهدابا من الشعر كجناح الطائر تطرد بانضمامها و بانفتاحها الهوامّ و الذباب و الموذيات عن العين و جعل العين في الرأس لأنّ السراج يوضع على مكان مرتفع و جعلها ثنتين كالشمس و القمر و جعل فوقهما حاجبين أسودين لئلّا يتضرّر البصر بالضياء و السواد يقوّي البصر و لذا يقوّي الإثمد البصر و جعل الحدقة محرّكة في مكانها لتتحرّك في الجهات يمنة و يسرة فيبصر بها من غير أن يلوي عنقه و جعل الناظرين على خطّ مستقيم عرضا و لم يقع واحد منهما أعلى و لا أخفض ليتجمّع الناظران على شي ء واحد لئلّا يتراءى له الشخص الواحد شخصين.

[وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ و جعل بحكمته له لسانا يترجم به عن ضمائره و به تنعقد الأمور كالشهادات و المعاملات و به يدرك الطعوم و لو لم يكن اللسان لاحتاج إلى الإشاره أو الكتابة فيتعسّر الأمر «و شفتين» ليستعين بهما على البيان و على الإطباق إذا أراد السكوت و الأكل و الشرب و النفخ و في الدعاء: الحمد للّه الّذي جعلنا ننطق بلحم و نبصر بشحم و نسمع بعظم» و في الحديث: «إنّ اللّه يقول: ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق و إن نازعك فرجك إلى بعض ما حرم اللّه فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق».

[وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ معطوف على «ألم نجعل» أي و هديناه طريقي الخير و الشرّ كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «هما النجدان نجد الخير و نجد الشرّ فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» و قيل: المراد من النجدين الثديين لأنّهما ظريفان مرتفعان

ص: 151

لنزول اللبن و هما سببان لحياة المولود و تمكين مولود عاجز من رضاع أمّه عقيب الولادة قدرة جليّة لكنّه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ ناسا يقولون: في الآية إنّهما الثديان فقال: لا، هما الخير و الشر.

فإن قيل: كيف يكون نجد الشرّ مرتفعا كنجد الخير و لا رفعة للشرّ فالجواب أنّهما باديان و ظاهران على أنّ عادة العرب و أهل اللسان في تثنية الأمرين إذا اشتركا على بعض الوجوه فيجري لفظ أحدهما على الآخر كقولهم «القمران» قال الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع

[فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ] الاقتحام الدخول في أمر شديد و مجاوزته بصعوبة و الرمي فيه بنفسه فجاءة بلا رويّة، و العقبة الطريق الوعر في الجبل أي لم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة و عبّر عنها بالعقبة لصعوبة سلوكها و هذا أحد الأقوال فحينئذ «لا» بمعنى «لم» و قيل: الآية على وجه الدعاء عليه أي لا نجا و لا سلم من العقبة و لا جاوزها، و القول الثالث أنّ المعنى هلّا اقتحم العقبة و قيل:

هذا مثل ضربه اللّه لمجاهدة النفس و الشيطان فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقّة كأنّه قال: لم لم تحمّل على نفسه المشقّة بإيجاب التكاليف مثل عتق الرقبة و الإطعام.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ] أي أيّ شي ء أعلمك يا محمّد ما اقتحام العقبة ثمّ ذكره فقال: [فَكُّ رَقَبَةٍ] و هو تخليصها من إسار الرقّ و الرقبة اسم العضو المخصوص و يعبّر بها عن الجملة كما يعبّر بالرأس عن المركوب و الفكّ ليس تفسيرا لنفس لعقبة بل لا قتحامها لأنّ العقبة عين و الفكّ حدث و فعل فلا يكون تفسيرا للآخر الخبر حينئذ يكون عين المبتداء و هو لا يجوز ثمّ فكّ الرقبة قد يكون بأن ينفرد لرجل في عتق الرقبة و قد يكون بعين في تخليص نفس من قود أو غرم و كلّه يشمل لفكّ دون الإعتاق، و يجوز أن يكون المراد بفكّ الرقبة أن يفكّ المرء رقبة نفسه من عذاب اللّه و يتخلّص بالأعمال الصالحة من النار و هي الحرّيّة. قال رسول اللّه: «إنّ

ص: 152

أمامكم عقبة كؤودة لا يجوزها المثقلون و أنا أريد أن اخفّف عنكم لتلك العقبة» قال ابن عبّاس: العقبة هي النار.

و قيل: إنّها الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا و صعودا و هبوطا و إنّ بجنبيه كلاليب و خطاطيف كأنّها شوك السعدان فمن بين سالم و ناج و مخدوش و مكدوش عليه و منكوس في النار فمن الناس من عبر كالبرق الخاطف و منهم من عبر عليه كالريح العاصف و منهم عبر عليه كالفارس و منهم كالراجل يعدو و منهم من يسير و منهم من يزحف زحفا و منهم من يكردس في النار و منهم كما بين صلاة العصر إلى العشاء.

جاء في الحديث أنّه جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: علّمني عملا يدخلني الجنّة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عتق النسمة و فكّ الرقبة (قال الأعرابيّ: أو ليس عتق النسمة و فكّ الرقبة واحدة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: عتق النسمة أن تنفرد بعتقها و فكّ الرقبة أن تعين بثمنها) و الفي ء على ذي الرحم الظالم، فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و انه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكفّ لسانك إلّا من خير».

[أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ] أي ذي مجاعة و مسغبة بتقديم الغين على الباء و مقربة مصدر ميميّ و قيّد الإطعام بيوم المجاعة لأنّ إخراج المال في ذلك الوقت أوجب للأجر و أثقل على النفس و أنفع الناس [يَتِيماً] مفعول إطعام [ذا مَقْرَبَةٍ] من قرابة النسب و يمكن أن يلحق به قرب الجوار [أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ] أي صاحب فقر كأنّه لصق بالتراب من ضرّه و فقره مأواه المقابر و المزابل و قيل: معناه الغريب أي البعيد التربة ليس من أهل أرضك.

[ثُمَّ كانَ هذا المطعم و المعتق [مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا] أي بشرط أن يكون المعتق و المنفق من المؤمنين باللّه و برسوله لا من الّذين يهلك ما له رياء و فخارا و سمعة و لم يؤمن باللّه و إلّا فيكون مثله كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم، بل يكون من الّذين استقاموا على إيمانهم [وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ] على مشقّة أداء فرائض اللّه و الصبر

ص: 153

عن معصية اللّه [وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] و أوصى بعضهم بعضا على أهل الفقر و ذوي الفاقة من المؤمنين.

[أُولئِكَ الموصوفون بالنعوت الجليلة، و في اسم الإشارة دلالة على حضورهم عند اللّه في مقام الكرامة [أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ] و يعطون كتبهم بأيمانهم و الصلحاء ميامين بضاعتهم.

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا] و حججنا و أنبيائنا و كتابنا [هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ] و هم الّذين يعطون كتبهم بشمائلهم و من وراء ظهورهم و يسلك بهم شمالا إلى النار أو أصحاب الشؤم و الشرّ و الشقاوة.

[عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ] أي نار أبوابها مغلقة فلا يفتح لهم باب فلا يخرج منها و لا يدخل فيها روح أبد الآباد، أي موصدة الأبواب من أو صدت الباب إذا أطبقته من المعتلّ الفاء، و من قرأ «مؤصدة» بالهمزة من آصدته بالمدّ من المهموز مثل آمن إذا أطبقته و أحكمته. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 154

سورة الشمس

اشارة

* (مكية)* قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها كان كمن تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس و القمر. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من أكثر قراءة الشمس و سورة و الليل و سورة و الضحى و ألم نشرح في يومه و ليلته لم يبق شي ء بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة حتّى شعره و لحمه و دمه و عروقه و عظامه و جميع ما أقلّت الأرض منه، و يقول الربّ: قبلت شهادتكم لعبدي و أجزتها له، انطلقوا به إلى جنّاتي حتّى يتخيّر منها حيثما أحبّ فأعطوه إيّاها رحمة و فضلا منّي عليه فهنيئا هنيئا لعبدي.

ص: 155

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)

وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

أقسم سبحانه بالشمس و لمّا كان قوام العالم من الحيوان و النبات بطلوع الشمس و غروبها أقسم بها و بضحاها و هو امتداد ضوئها و انبساط نورها و وقت إشراق الضوء، و الضحى و الضحوة مشتقّان من الضحّ و هو نشر النور فيجوز بهذا الاعتبار أن يكون هو النهار كلّه.

[وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها] من التلو أي إذا تبعها بأن طلع بعد غروبها و ذلك في النصف الأول من الشهر.

[وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها] أي جلّى الظلمة و كشفها و جازت الكناية عن الظلمة و إن لم تذكر لأنّ المعنى معروف و غير ملتبس أو الضمير إلى الشمس أي إنّ النهار أظهر الشمس فإنّها تتجلّى عند انبساط النهار فكأنّه جلّاها مع أنّ الشمس تبسطها و لمّا كان الجلاء واقعا في النهار أسند فعل التجلية إليه إسنادا مجازيّا مثل «نهاره صائم».

[وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها] هو ظلّ الأرض الحائلة بين الشمس أي يغشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق و يلبسها سواده و يغطّي الليل ضوء الشمس، و لمّا كان احتجاب

ص: 156

الشمس بحيلولة الأرض بيننا و بينها واقعا في الليل صار الليل كأنّه حجبها و غشاها فأسند التغشية إلى الليل لذلك، و الواو الاولى في قوله: «و الشمس» هي الّتي للقسم و سائر الواوات في ما بعدها عطف عليها إلى قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» و هو جواب القسم و اختيار صيغة المضارع هنا على الماضي للدلالة على أنّه لا تجري عليه تعالى زمان فالمستقبل عنده كالماضي و لمراعاة الفواصل فلا يلزم تعدّد القسم مع وحدة الجواب إذا كانت الواوات عاطفة.

[وَ السَّماءِ وَ ما بَناها] أي و من بناها في غاية العلوّ و العظمة و هو اللّه و إيثار «ما» على «من» لإرادة الوصفيّة تعجيبا كأنّه قيل: و القادر العظيم الّذي بناها و كذا القول في [وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها] و لكنّ الأظهر أنّ «ما» مصدريّة و معناها و السماء و بنائها و الأرض و طحوها أي تسطيحها و بسطها ليتمكّن الخلق التصرّف فيها و الانتفاع منها و الطحو الدحو، و إبدال الطاء من الدال جائز.

[وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها] أي و من أنشأها و أبدعها مستعدّة لكمالاتها أو المعنى و نفس و تسويتها، بناء على أنّ «ما» مصدريّة و التنكير للتكثير أو للتفخيم على أنّ المراد نفس آدم عليه السّلام و لكنّ التكثير أنسب من أن يكون للتعظيم.

[فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها] الفاء للتعقيب و الإلهام إلقاء الشي ء من الروع و الخاطر و التهام الشي ء ابتلاعه، و الفجور شقّ ستر الديانة، قدّم على التقوى لمراعاة الفواصل أو لشدّة الاهتمام بنفيه لأنّه إذا انتفى الفجور وجدت التقوى و المعنى أفهم النفس إيّاهما و عرّفها حالهما من الحسن و القبح و إلهام الفجور لتجنّبه لا لتعمل به و تقوا لها لتعمل به و هذه الآية مثل قوله: «و هديناه النجدين» أي بيّنّا الطريقين و ألهمنا الأمرين فحاصل المعنى أنّه سبحانه عرّفها الفجور و التقوى و زهّدها في الفجور بأحكام المنع و رغّبها في التقوى بأوامر الفعل.

[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها] على هذا وقع القسم أي قد أفلح من زكّى نفسه و أصلحها بطاعة اللّه [وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها] و حرم و خسر و لم ينل ما طلب من دسّاها و أدخلها في المعاصي و أرسلها في المشتهيات الطبيعيّة و من دسّ نفسه في أهل الخير و ليس منهم فهو

ص: 157

خائب و محروم. و أصل دسّى دسّس من التدسيس كتفضّى أصله التفضّض، و اجتماع الأمثال لمّا أوجب الثقل قلبت السين الأخيرة ياء. قال الراغب: الدسّ إدخال الشي ء في الشي ء و المراد بالنفس في الآية الّذات و الحقيقة الجمعيّة الإنسانيّة.

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ] المراد القبيلة [بِطَغْواها] الباء للسببيّة و الطغوى بالفتح مصدر بمعنى الطغيان قال الزمخشري في الكشّاف: الطغوى من الطغيان، فصّلوا بين الاسم و الصفة في «فعلى» من بنات الياء بأن قلّبوا الياء واوا في الاسم و تركوا القلب في الصفة و معنى الآية أي فعلت قبيلة ثمود التكذيب بسبب طغيانها.

[إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها] منصوب بكذّبت أو بالطغوى أي حين قام أشقى ثمود و هو قدار بن سالف امتثالا لأمر من بعثه. و انبعث مطاوع لبعث و الانبعاث الإسراع في الطاعة للباعث و صيغة أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد و المتعدّد و المذكّر و المؤنّث.

[فَقالَ لَهُمْ لثمود: [رَسُولُ اللَّهِ لمّا علم ما عزموا عليه و هو صالح بن عبيد بن جابر بن ثمود بن عوص بن إرم، عبّر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعة الرسول و بيانا لتماديهم في الطغيان [ناقَةَ اللَّهِ منصوب على التحذير و إن لم يكن من الصور الّتي يجب فيها حذف العامل. و الإضافة للتشريف مثل بيت اللّه، أي ذروا ناقة اللّه الدالّة على كمال قدرته و على نبوّتي و احذروا عقرها [وَ سُقْياها] أي شربها و نصيبها من الماء و لا تطردوها عن الماء في نوبتها و كان لها شرب يوم معلوم و لهم و لمواشيهم شرب يوم آخر و كانوا يستضرّون بذلك في مواشيهم فهمّوا بعقرها.

[فَكَذَّبُوهُ أي رسول اللّه في وعيده حين قال لهم: (1) «وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» [فَعَقَرُوها] و الجمع على تقدير وحدته لرضى الكلّ بفعله و العاقر قدار و امّه قديرة و صاحبه الّذي شاركه اسمه مصدح.

و في الحديث قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لعليّ يا عليّ أ تدري من أشقى الأوّلين؟ قال:

اللّه أعلم و رسوله قال: عاقر الناقة و أشقى الآخرين قاتلك يا عليّ الّذي يضربك على

ص: 158


1- سورة هود: 64.

هذه- و أشار إلى يافوخه- حتّى تبلّ منها هذه، و أخذ بلحيته.

[فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ و أطبق عليهم العذاب و هو الصيحة الهائلة، تقول: ناقة مدمومة إذا طليت بالشحم و أحيطت بحيث لم يبق منها شي ء لم يمسّه الشحم و دم الشي ء سدّه بالقبر ثمّ كرّرت الدال للمبالغة في الإحاطة فالدمدمة من الدمّ كالكبكبة من الكبّ [بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم المحكيّ [فَسَوَّاها] أي فسوّى الدمدمة الإهلاك بينهم بحيث لم يفكّ منهم أحد من صغير و كبير أو فسوّى ثمود بالأرض روي أنّهم لمّا رأوا علامات العذاب طلبوا صالحا أن يقتلوه فأنجاه اللّه كما قال في سورة هود (1): «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا».

[وَ لا يَخافُ عُقْباها] الواو للاستيناف أو للحال من المنويّ في «فسوّاها» الراجع إلى اللّه أي فسوّاها اللّه غير خائفة عاقبة الدمدمة و الإهلاك و ذلك أنّه تعالى لا يفعل إلّا بحقّ و قيل: و لا يخاف هو أي قدار ما يعقّب عقرها و ما يترتّب عليه من أنواع العذاب و العقوبة مع أنّ صالحا قد أخبرهم بها و قيل: و لا يخاف صالح عقبى العذاب لأنّه كان مأمونا من اللّه.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 159


1- سورة هود: 58.

سورة و الليل

اشارة

* (مكية)* من قرأها أعطاه اللّه حتّى يرضى و عافاه من العسر و يسّر له اليسر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)

لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21)

«إذا» للحال لأنّها بعد القسم أي أقسم بالليل حين يغشى الشمس و يسترها فعدم ذكر المفعول للعلم به و الليل عند أهل النجوم ما بين غروب الشمس و طلوعها و عند أهل الشرع ما بين غروبها و طلوع الفجر الصادق أقسم سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار أو الأفق و جميع ما بين السماء و الأرض و أغشى الأنام بالظلام.

[وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي بان و ظهر من بين الظلمة و هو من أعظم النعم إذ لو كان الدهر كلّه ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم كما أنّ الليل من أعظم النعم لأنّه لو كان ذلك كلّه ضياء لما انتفعوا لسكونهم و سباتهم و راحتهم على أنّ الليل وقت عيش الصالحين و فيه يتقرّب المقرّبون حين ينادون ألا قد خلا كلّ حبيب بحبيبه فأين أحبّائي؟

ص: 160

الليل داج و العصاة نيام و العابدون لذي الجلال قيام

[وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى أي و الّذي خلق الذكر و الأنثى و على هذا يكون «ما» بمعنى «من» و قيل: معناه خلق الذكر و الأنثى فتكون «ما» مصدريّة و المراد من الذكر و الأنثى آدم و حوّاء أو جميع ذكر و أنثى و قرأ ابن مسعود الآية «و الذكر و الأنثى» قال: و هكذا سمعت رسول اللّه يقرؤها.

[إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم أي إنّ أعمالكم لمختلفة فعمل للجنّة و عمل للنار و السعي مصدر مضاف و من صيغ العموم، و لذا أخبر عنه بالجميع و شتّى جمع شتيت مثل مرضى و مريض و هو المتفرّق المتشتّت أي مساعيكم مختلفة بعضها حسن نافع صالح و بعضها قبيح ضارّ شرّ فاسد فميل بعضكم إلى جانب الروح و متوجّه إلى الخير و النوريّة و بعضكم إلى جانب النفس الأمّارة و تغلبه الظلمة.

قال بعض أهل التحقيق: إنّ النفس بأقسامها حقيقة واحدة متّحدة و يختلف باختلاف توارد الأفعال و الأحوال فإنّ حقيقة المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجّهت إلى الحقّ توجّها كليّا سمّيت مطمئنّة و إذا توجّهت إلى الطبيعة توجّها كليّا سمّيت أمّارة و إذا توجّهت إلى اللّه بالتقوى تارة و تارة إلى الطبيعة و الفجور سمّيت لوّامة بدرجات السعي إمّا إلى الهدى أو إلى الهوى أيضا تختلف فمن النفوس ساعية لطلب الدرجات العالية الكاملة كالأنبياء و الأولياء و بعض دونهم و بعض دونهم و كذلك من النفوس الساعية إلى الغواية فبعض يرتكب من المعاصي ما يمكن معها إدراك السعادة بالرجوع عنها و تداركها و بعض يبالغون فيها بحيث لا يساوي عذارهم بعذار الشيطان:

فكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الحال حتّى صار إبليس من جندي

و بالجملة شرح سبحانه تفصيل تلك المساعي المتشتّتة و تبيّن أحوالها [فَأَمَّا مَنْ أَعْطى حقوق ما له [وَ اتَّقى محارم اللّه الّتي نهى عنها و من جملتها المنّ و الأذى قيل: نزلت في أبي الدحداح لمّا أنفق بستانه في سبيل اللّه [وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى بالخصلة الحسنى و هي الإيمان أو كلمة الحسنى و هي لا إله إلّا اللّه بشروطها أو بالملّة الحسنى

ص: 161

و هي ملّة الإسلام [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى و اليسرى تأنيث الأيسر أي سنهوّن عليه الطاعة و نهيّئه و نوفّقه للطريق الأسهل حتّى يقوم بوظائف العبادة بجدّ و طيب نفس.

[وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما له فلم يبذله في سبيل اللّه و الخير [وَ اسْتَغْنى زهد و لم يرغب فيما عنده كأنّه مستغن عنه و استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة [وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى و قد ذكر معاني الحسنى قبيل هذا [فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي لا يريد شيئا من المال و الشرّ إلّا يسّره اللّه له و ذلك التيسير تسبّب من سوء اختياره و قبوله أو المراد من العسر العذاب و دخول النار، و السين في الآية للدلالة على الجزاء الموعود بمقابلة الطاعة و المعصية و هو أمر متراخ منتظر.

[وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي أيّ شي ء يغني عنه ماله الّذي يبخل به و الاستفهام للإنكار [إِذا تَرَدَّى هلك و مات و الردى كالعصا و هو الهلاك و تردّى سقط في الحفرة إذا قبر أو تردّى في قعر جهنّم البالغة. و حاصل المعنى أنّه إذا تردّى و تصدّى لمخالفتنا أيّ شي ء له يخلّصه من غضبنا.

[إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي إنّ حكمتنا تقتضي أن نبيّن لهم طريق الهدى حيث خلقناهم للعبادة [وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى أي التصرّف الكلّي فيهما كيف ما نشاء من الأفعال الّتي من جملتها ما وعدنا من اليسر لليسرى و العسرى.

[فَأَنْذَرْتُكُمْ خوّفتكم يا أهل مكّة و المكلّفين بالقرآن [ناراً تَلَظَّى و تتلهّب و التعبير بالمستقبل دوام التلظّي بالفعل الاستمراريّ [لا يَصْلاها] صليا لازما و لا يقاسي حرّها [إِلَّا الْأَشْقَى الزائد في الشقاوة و هو الكافر فإنّه أشقى من الفاسق و قيل:

المراد من الأشقى الشقيّ و العرب تسمّي الفاعل أفعل في كثير من كلامهم منه قوله تعالى (1): «و أنتم الأعلون» و قوله: (2) «و اتّبعك الأرذلون» و الفاسق لا يصلاها صليا لازما أبديّا و قد صرّح به قوله: [الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى و ليس المكذّب إلّا الكافر.

ص: 162


1- سورة آل عمران: 139.
2- سورة الشعراء: 111.

[وَ سَيُجَنَّبُهَا] و يبعّد عنها بحيث لا يسمع حسيسها، و الفاعل المجنّب المبعّده اللّه [الْأَتْقَى المبالغ في الاتّقاء عن المعاصي و الكفر فلا يحوم حولها فضلا عن دخولها أو صليها الأبديّ و أمّا من دونه ممّن يتّقي الكفر دون المعاصي و هو المؤمن الشقيّ الفاسق الغير التائب فلا يبعّد هذا التبعيد بل يصلاها و إن لم يذق شدّ حرّها كما يذوق الكافر ذوق الدائم فلذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور فلا يقدح في الحصر السابق.

[الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ و يعطيه في وجوه البرّ و الحسنات [يَتَزَكَّى إمّا بدل من «يؤتي» أو في حيّز النصب على أنّه حال من ضمير «يؤتي» أي يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا ناميا لا يريد به رياء و يقصد به التطهّر من الذنوب و من دنس البخل و وسخ الإمساك.

[وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى استيناف مقرّر لبيان أنّ إيتاءه للتزكّي خالص لوجه اللّه و ليس لأحد عنده منّة و نعمة من شأنها أن تجزى و تكافأ فيقصد المجازاة بها.

[إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى استثناء منقطع من «نعمة» لأنّ ابتغاء وجه ربّه ليس من جنس نعمة تجزى لكن فعل ذلك لابتغاء وجه اللّه و طلب رضاه و ما أتى من المال مكافأة على نعمة سالفة فذلك يجري مجرى أداء الدين فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب.

[وَ لَسَوْفَ يَرْضى جواب قسم مقدّر أي و باللّه سوف يرضى ذلك الأتقى الموصوف.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 163

سورة الضحى

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأها كان ممّن يرضاه اللّه و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله أن يشفع له، و له عشر حسنات بعدد كلّ يتيم و سائل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

النزول: قال ابن عبّاس: احتبس الوحي عنه صلّى اللّه عليه و آله خمسة عشر يوما فقال المشركون: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد ودّعه ربّه و تركه و قلاه و لو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه فنزلت السورة و قال ابن جريح: احتبس الوحي عنه اثني عشر يوما و قيل: أربعين يوما عن مقاتل و قيل: إنّ المسلمين قالوا: أما ينزل عليك الوحي؟

فقال: و كيف ينزل الوحي عليّ و أنتم لا تنقّون براجمكم و لا تقلّمون أظفاركم.

و لمّا نزلت السورة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: ما جئت حتّى اشتقت إليك فقال جبرئيل: و أنا كنت أشدّ شوقا إليك و لكنّي عبد مأمور و ما ننزّل إلّا بأمر ربّك.

و قيل: سألت اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذي القرنين و عن الروح و أصحاب الكهف فقال صلّى اللّه عليه و آله: سأخبركم غدا و لم يقل: إن شاء اللّه فاحتبس الوحي عنه هذه الأيّام فاغتمّ صلّى اللّه عليه و آله لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسلية لقلبه.

و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رمي بحجر في إصبعه فقال: «هل أنت إلّا إصبع رميت

ص: 164

و في سبيل اللّه ما لقيت» فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه فقالت له امّ جميل بنت حرب امرأة أبي لهب: يا محمّد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك لم أره قرّبك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت.

و قيل: إنّ جروا دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ أيّاما لا ينزل عليه الوحي فقال لخادمته خولة: ما حدث في بيتي؟ إنّ جبرئيل لا يأتيني قالت خولة: كنست البيت فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميّت فأخذته و ألقيته خلف الحائط فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ترتعد لحياة و كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة فقال: يا خولة دثّريني و أنزل اللّه هذه السورة، فلمّا نزل جبرئيل سأله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن سبب تأخّره فقال جبرئيل: أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة. و قيل غير ذلك.

[وَ الضُّحى أقسم سبحانه بضوء النهار من قولهم: ضحى فلانّ للشمس إذا ظهر لها و هو وقت ارتفاع الشمس و صدر النهار و أريد بالضحى الوقت المذكور لعلّ تخصيصه بالإقسام به لأنّها الساعة الّتي كلّم اللّه فيها موسى و القي فيها السحرة سجّدا و لوقوع صلاة الضحى فيه و قيل: إنّ الضحى أوّل ساعة من النهار و قيل: في هذه الأقسام كلّها المراد ربّها أي و ربّ الضحى و ربّ الليل.

[وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى أي و جنس الليل إذا سجا و ركد ظلامه و تناهى يقال:

سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه و ليلة ساجية ساكنة الريح و فيه سكون الناس و الأصوات قال الصادق عليه السّلام: إنّ المراد من الضحى هو الضحى الّذي كلّم اللّه فيه موسى و بالليل ليلة المعراج.

[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى هذا جواب القسم، و التوديع مبالغة في الوداع و هو الترك لأنّ من ودّعك مفارقا فقد تركك و قرئ ودعك بالتخفيف و المعنى ما قطعك قطع المودّع و ما تركك بالحطّ عن درجة الوحي و القرب و الكرامة و «ما قلا» أي ما أبغضك، و القلى شدّة البغض و غاية الكراهة و إذا قصّرت القلى كسرت القاف و إذا مددت فتحتها و المفعول في هذه الآية محذوف للدلالة أي و ما قلاك.

ص: 165

[وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي إنّ ثواب الآخرة و ما أعدّه اللّه لك من النعيم الدائم خير لك من الدنيا و الكون فيها و إنّ له صلّى اللّه عليه و آله في الجنّة ممّا أعدّ اللّه له ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابه من المسك و في كلّ قصر ما ينبغي له من الأزواج و الخدم و قيل: المعنى و لآخر عمرك الّذي بقي خير لك من أوّله لما يكون لك من النصرة و الفتوح و تشييد أمرك، و نهايتك خير من بدايتك كما أخبر بقوله (1):

«اليوم أكملت لكم دينكم».

[وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي و سيأتيك ربّك في الآخرة من الشفاعة و أنواع الكرامة. و اللام للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة و المبتدء محذوف تقديره و لأنت سوف يعطيك، لأنّ لام الابتداء لا يدخل إلّا على الجملة الاسميّة و ليست للقسم لأنّها لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكّدة. و في الآية دلالة على أنّ العطاء المتأخّر لحكمة و أنفع لك، و ادّخر لك من الكرامات ما لا يعلمها إلّا اللّه.

و روى حارث بن شريح عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال: يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه قوله: (2) «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية» و إنّا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب اللّه قوله: «و لسوف يعطيك ربّك فترضى» و هي و اللّه الشفاعة ليعطيّنها في أهل لا إله إلّا اللّه حتّى يقول: ربّ رضيت. و قال الصادق عليه السّلام: رضي جدّي أن لا يبقى في النار موحّد.

أقول: ابشروا يا أمّة محمّد بهذه الفضيلة الّتي نحلها اللّه نبيّكم بها فكم بين من يتكلّف ليرضي ربّه و بين من يعطيه ربّه ليرضى.

ثمّ عدّد سبحانه نعمه عليه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تقرير لنعمة اللّه عليه حين مات أبوه، روي أنّ أباه عبد اللّه مات و هو صلّى اللّه عليه و آله جنين قد أتت عليه ستّة أشهر في بطن أمّه و مات جدّه و هو ابن ثمان سنين فكفّله عمّه أبو طالب فأحسن

ص: 166


1- سورة المائدة: 4.
2- سورة الزمر: 53.

تربيته و آواه اللّه بأن سخّر له أوّلا جدّه عبد المطّلب ثمّ ربّاه و آواه أبو طالب و لمّا مات جدّه عبد المطّلب كان عمره الشريف ثمان سنين و سلّمه جدّه إلى أبي طالب لأنّه كان أخا عبد اللّه لأمّه. قال الصادق عليه السّلام: أوتم النبيّ عن أبويه لئلّا يكون لمخلوق أمر عليه فآواه أبو طالب إلى أن بعثه اللّه للنبوّة فقام ينصره مدّة مديدة ثمّ توفّي أبو طالب عليه السّلام فنال المشركون منه صلّى اللّه عليه و آله ما لم ينالوا في زمان أبي طالب و آذوه، و قد جعله اللّه يتيما لئلّا يسبق على قلب بشر أنّ الّذي نال من العزّ و الشرف و الاستيلاء ما كان عن تظاهر نسب أو توارث مال أو نحو ذلك.

[وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى معنى الضلال فقدان الشرائع و الأحكام الّتي لا يهتدي إليها العقول بل طريقها السماع نظير قوله: (1) «ما كنت تدري ما الكتاب» و إليه يؤوب معنى الغيبة فإنّ «ضلّ» بمعنى «غاب» أي غير مهتد إلى النبوّة فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (2).

و قيل: المعنى وجدك متحيّرا في وجوه معاشك فهداك إلى وجوه معاشك فإنّ الرجل إذا لم يهتد طريق تكسّبه و وجه معيشته يقال: إنّه ضالّ لا يدري أين يذهب.

و قيل و القائل ابن عبّاس: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضلّ في شعاب مكّة حال صباه و كان عبد المطّلب يطلبه و هو يقول متعلّقا بأستار الكعبة:

يا ربّ فاردد ولدي محمّداو اردد إليّ و اصطنع عندي يدا

فوجده أبو جهل فردّه إلى عبد المطّلب فمنّ اللّه عليه حيث خلّصه على يدي عدوّه فكان نظير موسى عليه السّلام حين التقط فرعون تابوته ليكون له عدوّا و حزنا، فهداك إلى النبوّة و الحكمة و علّمك ما لم تكن تعلم، و وفّقه للنظر الصحيح بحيث لم يعبد صنما قطّ و لم يكذب و لم يخن بأمانة و لم يأت بفاحشة.

ص: 167


1- سورة الشورى: 52.
2- سورة البقرة: 282.

و قيل: إنّ حليمة السعديّة لمّا أرضعته مدّة رضاعه صلّى اللّه عليه و آله أرادت ردّه على جدّه جاءت به حتّى قربت من مكّة فضلّ في الطريق فطلبته جزعة و كانت تقول:

لئن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق و جعلت تصيح وا محمّداه فدخلت مكّة على تلك الحالة فرأت شيخا موكّئا على عصا قالت: فسألني عن حالي فأخبرته فقال: لا تبكين فأنا أدلّك على من يردّه عليك فأشار إلى هبل صنمهم الأعظم و دخل الشيخ البيت و طاف بهبل و قبّل رأسه و قال: يا سيّداه لم تزل منّتك جسيمة ردّ محمّدا على هذه السعديّة قالت حليمة: فتساقطت الأصنام لمّا تفوّه باسم محمّد و سمع صوت إنّ هلاكنا على يدي محمّد فخرج الشيخ و أسنانه تصطكّ. قالت: و خرجت إلى عبد المطّلب و أخبرته الحال فخرج و طاف بالبيت و دعا اللّه سبحانه فنودي و أشعر بمكانه فأقبل عبد المطّلب و تلقّاه ورقة بن نوفل في الطريق بينما هما يسيران إذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان و يبعث بالورق فقال عبد المطّلب: فداك نفسي، و حمله و ردّه إلى مكّة عن كعب.

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله خرج مع عمّه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبرئيل فنفخ إبليس نفخة دفع بها إلى الحبشة و ردّه إلى القافلة فمنّ اللّه عليه بذلك، عن سعيد بن المسيّب.

و قيل: وجدك مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقّك فأرشدهم إلى فضلك و كنت خامل الذكر فعرّفك اللّه و أعلى ذكرك بحيث أوجب في الصلاة الصلوات عليه و التذكير باسمه الشريف في التشهّد. و عن عاصم بن حمزة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: الصلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمحق للخطايا من الماء للنار، و السلام عليه أفضل من عتق رقاب و حبّه أفضل من مهج الأنفس أو قال: من ضرب السيوف.

[وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي كنت فقيرا و عديما فأغناك بمال خديجة أو بالغنائم و بما أفاء اللّه عليك حتّى كان صلّى اللّه عليه و آله يهب من الإبل مائة، أو قنعك و أغنى طبعك و قلبك

ص: 168

و الغنى غنى النفس أي أزال عنك فقر النفس و جعل لك الغنى الأكبر و ذلك حقيقا الغنى.

ثمّ أوصاه باليتامى و الفقراء و هي من مكارم الأخلاق فقال: [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ] أي لا تذلّله أو لا تغلبه على ماله فتذهب بحقّه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أمر اليتامى و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبرّ و يحسن إلى اليتامى و يوصي بهم. و في الآية إشارة بأن كنت يتيما فآويناك فافعل أنت كذلك باليتامى.

و عن ابن أبي أوفى قال: لقد كنّا جلوسا عند رسول اللّه فأتاه غلام فقال:

غلام يتيم و اخت لي يتيمة و امّ لي أرملة أطعمنا ممّا أطعمك اللّه و أعطاك اللّه ممّا عنده حتّى ترضى قال صلّى اللّه عليه و آله: ما أحسن ما قلت يا غلام اذهب يا بلال فأتنا بما عندنا فجاء بواحدة و عشرين تمرة و لم تكن غيرها شي ء لهم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: سبع لك و سبع لأختك و سبع لأمّك فقام إليه معاذ فمسح رأسه و قال: جبر اللّه يتمك و جعلك خلفا من أبيك و كان اليتيم من أبناء المهاجرين فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: رأيتك يا معاذ و ما صنعت قال: رحمته قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يلي أحدكم يتيما فيحسن ولايته و وضع يده على رأسه إلّا كتب اللّه له بكلّ شعرة حسنة و محا عنه بكلّ شعرة سيّئة و رفع له بكلّ شعرة درجة و قال صلّى اللّه عليه و آله: أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى اللّه. و أشار بالسبّابة و الوسطى.

[وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ] النهر الزجر بمغالظة أي فلا تزجره و لا تغلظ له بالقول بل ردّه ردّا جميلا و لسانا ليّنا إذا حرمته و ما أطعمته بسبب عدمك قال رسول اللّه: إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد وجب له الحقّ و لو بشقّ تمرة يريد أعط السائل كما أعطاك اللّه و أنت كنت عائلا و قيل: المراد بالسائل طالب العلم و هو متّصل بقوله: «و وجدك ضالًّا فهدى» و المعنى علّم من يسألك كما علّمك اللّه الشرائع و كنت بها غير عالم.

و في الآية بيان لجميع المكلّفين لأنّ جميع الخلق كانوا فقراء في الأصل فإذا أنعم اللّه عليهم وجب أن يعرفوا حقّ الفقراء مالا كان أو علما. و قال إبراهيم النخعي:

ص: 169

السائل يريد الآخرة لكم يجي ء إلى باب أحدكم فيقول: أ تبعثون إلى أهليكم شيئا؟ روي أنّه اهدي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنقود عنب فجاء سائل فأعطاه العنقود فاشتراه أحد من الصحابة بدرهم و قدّمه إلى رسول اللّه ثانيا ثمّ عاد السائل فأعطاه العنقود فاشتراه الصحابيّ بدرهم و قدّمه إلى رسول اللّه فجاء السائل ثالثا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ملاطفا للسائل غير غضبان عليه أسائل أنت أم تاجر؟ فنزلت الآية.

[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإنّ تحديث العبد بنعمة اللّه شكر باللسان و تذكير للغير و أريد بالنعمة من النعم الموجودة و الموعودة و قيل: المراد من النعمة القرآن و هو أعظم نعم اللّه فأمره صلّى اللّه عليه و آله أن يقرءه و قيل: المراد النبوّة أي أبلغ ما أرسلت به و قيل: يعني حدّث بنعم اللّه عليك نفسك و لا تنس فضله عليك قديما و حديثا فيكون نعمه دائما حاضرا ببالك و خاطرك و لا تغفل عن تذكّره قال صلّى اللّه عليه و آله: التحدّث بالنعم شكر و تركه كفر. و أمّا الحديث الآخر: «عليكم بكتمان النعم فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» يعني عن الحسود لا غير.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 170

سورة أ لم نشرح

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها اعطي من الأجر كما لقي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله مغتمّا ففرّج عنه.

و روى أصحابنا أنّ و الضحى و ألم نشرح سورة واحدة لتعلّق إحداهما بالأخرى و لم يفصلوا بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم و جمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة و كذلك القول في سورة ألم تر كيف و لإيلاف قريش و السياق يدلّ على ذلك لأنّه قال: «ألم يجدك يتيما فآوى» إلى آخرها، ثمّ قال:

ص: 171

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

الشرح بسط اللحم و نحره يقال: شرحت اللحم، و منه شرح الصدر بنور إلهيّ و روح منه و شرح الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه و في الحديث: «إذا دخل النور في القلب انشرح أي عاين القلب و ظهر له ما أشكل على غيره و احتمل المكاره» و الاستفهام في الآية تقريريّ و المعنى ألم نفتح صدرك و نوسّع قلبك بالنبوّة و العلم حتّى قمت بأداء الرسالة و صبرت على المكاره و اطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا فشرح اللّه صدره بأن ملأه علما و حكمة و رزقه حفظ القرآن.

و قيل: المعنى ألم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل الّتي تصدّ عن إدراك الحقّ، عن ابن عبّاس قال: سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أ ينشرح الصدر؟ قال: نعم، قالوا: و كيف ينشرح الصدر و هل لذلك علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الإعداد للموت قبل نزول الموت. و هذا الشرح من الصدر في الأمور المعنويّة و أمّا شرح الصدري الصوريّ فقد قيل: وقع مرارا؛ مرّة و هو ابن ستّ سنين لإخراج مغمز الشيطان و هو الدم الأسود الّذي به يميل الطبع و القلب إلى المعاصي و يعرض عن الطاعات و مرّة عند ابتداء الوحي و مرّة ليلة المعراج.

و قد نقل صاحب تفسير روح البيان المولى إسماعيل الحقّيّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليلة اسري بي إلى السماء ألصقني جبرئيل بصدره، و شقّ صدري إلى سرّتي، و جاء ميكائيل بطست من ماء زمزم، و غسّل صدري و قلبي بعد أن شقّة، و ملؤوا قلبي من

ص: 172

الحكمة و الإيمان و ختموا عليه من خاتم من نور.

[وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي حططنا و أسقطنا عنك حملك الثقيل.

[الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ و أثقله حتّى سمع له نقيض و صوت و هذا مثل معناه أنّه لو كان جمل لسمع صوت ظهره، و كما يسمع من الرجل الصوت من شدّة ثقل الحمل و تأثير الثقل المفضي إلى انحراف بعض أجزاء الرجل عن محالّها و حصول الصوت بذلك فيه و هذا معنى الانتقاض مثّل به حاله صلّى اللّه عليه و آله بما كان به من أعباء النّبوّة الّتي تثقل الظهر من القيام بأمرها فسهّل اللّه ذلك عليه حتّى تيسّر له و أزال عنه همومه و تهالكه على إسلام المعاندين من قومه و تلهّفه، و العرب تجعل الهمّ ثقلا.

و قيل: المعنى و عصمناك من الذنوب و طهّرناك من الأدناس و الأوزار.

قال المرتضى قدّس سرّه: إنّما سمّيت الذنوب بالأوزار لأنّها تثقل كاسبها و حاملها فكلّ شي ء أثقل الإنسان و غمّه و كدّه صحّ أن يسمّى وزرا فلا يمتنع أن يكون المراد من الوزر في الآية غمّه ممّا كان عليه من قومه و أنّه و أصحابه كانوا مستضعفين في أيدي المشركين فأعلى اللّه كلمته و بسط يده فخاطبه بهذا الخطاب تذكيرا للنعمة ليقابله بالشكر.

فإن قيل: إنّ السورة مكّيّة و نزلت قبل أن يعلى اللّه كلمة الإسلام و لا وجه لهذا القول.

فالجواب أنّه لمّا بشّره بأن يعلى دينه و ينصره على أعدائه كان بذلك واضعا ثقل غمّه فإنّه صلّى اللّه عليه و آله كان واثقا بأنّ وعد اللّه حقّ و يجوز أيضا أن يكون اللفظ و إن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال كقوله (1): «و نادى أصحاب الجنّة أصحاب النار و نادوا يا مالك ليقض علينا ربّك».

[وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بعنوان النبوّة و قرنّا ذكرك بذكرنا و تذكر معي في الأذان و التشهّد و الخطبة، و رفع ذكره في الدنيا و الآخرة و جعل طاعته طاعته تعالى و صلّى عليه هو و ملائكته و أمر المؤمنين بالصلاة عليه و سمّاه رسول اللّه و لقّبه

ص: 173


1- سورة الأعراف: 45. سورة الزخرف: 77.

بألقاب عالية شريفة.

[فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] كان المشركون يعيّرون رسول اللّه و المؤمنين بالفقر و الضيقة و كان المؤمنون في الشدّة فوعده سبحانه بتيسير كلّ عسير له. و اللّام للاستغراق و في كلمة «مع» إشعار بغاية سرعة مجي ء اليسر كأنّه مقارن للعسر و في تعريف العسر و تنكير اليسر إشارة إلى أنّ اليسر غالب على العسر على أنّه سبقت الرحمة الغضب و العسر قد يكون في الغالب جلاء لقلوب الأكابر و توسعة لاستعدادهم و مقامهم كما قيل: أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل.

[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً] تكرير للتأكيد روي عن عطا عن ابن عبّاس قال:

يقول اللّه: خلقت عسرا واحدا و خلقت يسرين فلن يغلب عسر يسرين. قال الفرّاء:

إنّ العرب تقول إذا ذكرت نكرة ثمّ أعدتها مثلها صارتا اثنتين كقولك: «إذا كسبت درهما فأنفق درهما» فالثاني غير الأوّل و إذا أعدتها معرفة فهي كقولك: «إذا اكتسبت درهما فأنفق الدرهم» فالثاني هو الأوّل.

[فَإِذا فَرَغْتَ من التبليغ أو من المصالح اللازمة في أشغالك [فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء و ارغب إليه في المسألة يعطك، و معنى انصب أي لا تشتغل بالراحة و ألزم نفسك النصب و التعب في العبادة.

و قيل: المعنى فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في الدعاء و المسألة و هذا المعنى عن مجاهد و الضحّاك و قتادة و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و قال الصادق عليه السّلام: هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس.

و قيل: معناه إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

و قيل: فإذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة للّه.

و قيل: فإذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة.

و قيل: إذا صححت فاجعل صحّتك و فراغك نصبا في العبادة.

و قيل: إذا فرغت من تلقّي الوحي فانصب في تبليغه. و ينبغي للمرء أن لا

ص: 174

يكون فارغا مهملا أو يشتغل بما لا ينفعه في دينه و دنياه لأنّه من سخافة العقل و استيلاء الغفلة و أن يكون في عمل نافع له فإذا فرغ من عمل خير أتبعه بآخر حتّى لا يضيع عمره.

[وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي فارفع حوائجك إلى ربّك وحده و لا ترفعها إلى أحد من خلقه. و تقديم الجارّ يفيد الحصر.

و قيل: المعنى تضرّع إليه راغبا في الجنّة و راهبا من النار. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 175

سورة التين

اشارة

* (ثماني آيات مكية)* بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التين (95): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

أقسم اللّه سبحانه بالتين الّذي يؤكل و الزيتون الّذي يعصر منه الزيت عن ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و عكرمة و قتادة و عطاء و هو الظاهر، و هو فاكهة مخلّصة من شائب التنقيص و جعل خلقته على مقدار اللقمة و هيئتها. روى أبو ذرّ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت هذا لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم فكلوها فإنّها تقطع البواسير و تنفع النقرس. و عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: التين يزيل نكهة الفم و يطوّل الشعر و هو أمان من الفالج.

و قيل: لمّا عصى آدم عليه السّلام و فارقته ثيابه تستّر بورق التين و لمّا نزل و كان متستّرا بورق التين استوحش فطافت الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها اللّه الجمال صورة و الملاحة معنى و غيّر دمها مسكا فلمّا تفرّقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبه فلمّا كان الغد جاءت ظباء آخر على الأوّل فأطعمها آدم من الورق فغيّر اللّه حالها من الجمال دون المسك و ذلك لأنّ الاولى جاءت إلى آدم لأجله لا لأجل الطمع و الطائفة الاخرى جاءت إليه ظاهرا

ص: 176

و للطمع باطنا فلا جرم غيّر الظاهر دون الباطن.

و في كتاب أمثلة الحكم أنّ سائر الأشجار يخرج ثمرها في كمامها و يخرج كمامها أوّلا ثمّ يخرج ثمارها و شجرة التين أوّل ما يبدو ثمرها بارزا من غير كمام لأنّ آدم لم يستره إلّا شجرة التين فقال اللّه: بعد ما سترت اخرج منك المعنى قبل الدعوى و سائر الأشجار يخرج منها الدعوى قبل المعنى. و في خريدة العجائب: إذا نثر رماد خشب التين في البساتين هلك منه الدود و دخان التين يهرب منه البقّ و البعوض.

و أمّا الزيتون فهو فاكهة و أدام و دواء لبعض الأمراض و لو لم يكن له سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهن فيها كالجبال لكفى به فضلا و نفعا، و شجرته هي الشجرة المباركة المشهورة في التنزيل.

قال معاذ بن جبل: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: نعم سواك الزيتون، هو سواكي و سواك الأنبياء من قبلي، و شجرة الزيتون يعمر ثلاثة آلاف سنة و هي تصبر عن الماء طويلا كالنخل و إذا لقط ثمرتها جنب فسدت و ألقت حملها و انتثر ورقها و ينبغي أن تغرس في المدر لكثرة الغبار لأنّ الغبار كلّما علا على زيتونها زاد دسمه و نضجه.

و رماد ورقها تنفع العين كحلا و يقوم مقام التوتيا. و في الحديث عليكم بالزيت فإنّه يكشف المرّة و يذهب البلغم و يشدّ العصب و يمنع الغشي و يحسّن الخلق و يطيّب النفس و يذهب بالهمّ قال الفاضل السهيليّ: إنّ التين في المنام رجل خير غنيّ فمن ناله في المنام نال مالا و سعة و من أكله في المنام رزقه اللّه أولادا و من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى.

و بالجملة هذا أحد الأقوال في المقسم به على أنّ المراد من الآية هذا التين المأكول و الزيتون المعصور. و ثاني الأقوال أنّ المراد بالتين الجبل الّتي بني عليه دمشق و الزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس و قال عكرمة: و إنّما سمّيا بهما لأنّ التين و الزيتون ينبتان فيهما.

و قيل: التين مسجد دمشق و الزيتون بيت المقدس.

ص: 177

و قيل: التين مسجد نوح الّذي بنى على الجوديّ و الزيتون بيت المقدس.

و قيل: التين مسجد الحرام و الزيتون المسجد الأقصى.

[وَ طُورِ سِينِينَ هو الجبل الّذي ناجى عليه موسى عليه السّلام ربّه. قال الماوردي:

ليس كلّ جبل يقال له «طور»: إلّا أن يكون فيه الأشجار و الثمار و إلّا فهو جبل فقط.

و سينين و سيناء علمان للموضع الّذي هو فيه، و معنى سينين بالسريانيّة ذو الشجر أو حسن مبارك بلغة الحبشة.

و في كشف الأسرار: أصل سينين سيناء بفتح السين و كسرها، و إنّما قال هاهنا سينين لأنّ تاج الآيات النون كما قال: (1) «سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ» و هو إلياس فخرج على تاج آيات السورة.

[وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ و هو مكّة شرّفها اللّه، و أمانتها أنّها تحفظ من دخلها جاهليّة و إسلاما من قتل و سبي كما يحفظ الأمين الأمانة. و يجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول لأنّه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله (2): «حَرَماً آمِناً»* و معنى القسم بهذا الأشياء إبانة شرافتها و ما ظهر فيها من الخير و البركة بسكنى الأنبياء و الصالحين و مهاجر إبراهيم و مولد عيسى و محلّ نداء موسى و مولد رسول اللّه و هدى للعالمين.

[لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هو جواب القسم يقال: قام الأمر اعتدل و استقام و قوّمته عدّلته و التقويم تصيير الشي ء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف و التعديل و حسن الصورة، قيل: إنّه في زمن يحيى بن أكثم خلا ملك بزوجته في ليلة مقمرة فقال الملك لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنا كذا، فأفتى الفقهاء بالحنث إلّا يحيى بن أكثم و قال: لا يحنث، فقالوا: خالفت شيوخك فقال:

الفتوى بالعلم و لقد أفتى من هو أعلم منّا و هو اللّه تعالى قال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» فالإنسان أحسن الأشياء و لا شي ء أحسن منه انتهى. و قد خصّ الإنسان من بين الحيوان من العقل و الفهم و العلم و بحسب الصورة من انتصاب القامة

ص: 178


1- الصافات: 131.
2- سورة العنكبوت: 67.

و حسن الشكل و هو مظهر الجلال و الكمال.

[ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ و أسفل سافلين حال من المفعول أي رددناه حالكونه أسفل سافلين أو صفة لمكان محذوف أي رددناه إلى مكان هو أسفل أمكنة السافلين و جعلناه من أهل النار الّذي هو أقبح من كلّ قبيح لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات الّتي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى علّيّين، و حوّل حاله من أحسن تقويم إلى أقبح تقويم صورة و معنى لأنّ مسخ الظاهر إنّما هو من مسخ الباطن، هذا أحد القولين في تفسير الآية و القول الثاني أنّه يردّ إلى أرذل العمر من الخوف و الهرم و نقصان العقل. و السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال.

ثمّ استثنى فقال: [إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و الاستثناء يؤيد معنى الأوّل و من قال بالقول الثاني قال: إنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرف و إن عمر عمرا طويلا و إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه من العمل كتب له من العمل ما كان حين يعمل في شبابه و قوّته، و المراد من الّذين آمنوا الّذين أخلصوا العبادة للّه و أضافوا إلى ذلك الأعمال الحسنة، و قرءوا القرآن فإنّ هؤلاء لا يردّون إلى النار. و عن ابن عباس من قرء القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر و الاستثناء على المعنى الأوّل استثناء متّصل من ضمير «رددناه» فإنّه في معنى الجمع و على الثاني منقطع.

[فَلَهُمْ أَجْرٌ] في دار الكرامة و لا يغيّر صورهم بل هم على أحسن تقويمهم باقون في الجنّة و دار الكرامة [غَيْرُ مَمْنُونٍ غير منقطع على طاعتهم و أعمالهم الصالحة روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ المؤمن إذا مات صعد الملكان إلى السماء فيقولان إنّ عبدك فلان قد مات فائذن لنا حتّى نعبدك في السماء فيقول اللّه: إنّ سماواتي مملوءة بملائكتي و لكن اذهبا إلى قبره و اكتبا حسناته إلى يوم القيامه.

[فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ بعد مبنيّ على الضمّ لحذف المضاف إليه و نيّته و الاستفهام مشعر بالتعجّب أي أيّ شي ء يكذّبك أيّها الإنسان بعد هذه الحجج و الآيات بالجزاء و البعث و ينسبك إلى التكذيب بالبعث فإنّ من خلق الإنسان السويّ من الماء المهين و جعل ظاهره و باطنه على أحسن تقويم إلى أن

ص: 179

استكمل و استوى ثمّ نكّسه و حوّله من حال إلى حال كمالا و نقصانا بحيث يشاهد كلّ أحد في نفسه هذه التغيّرات فأيّ شي ء يضطرّه إلى إنكار الجزاء.

[أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ هذا تقرير للإنسان على الاعتراف بأنّه أحكم الحاكمين أي أليس الّذي بقدرته فعل و قدّر هذه الأمور صنعا و تدبيرا بأحكم الحاكمين حتّى يجازي الصالح و الطالح؟ فكيف يتصوّر عدم الحكم و الجزاء و البعث للجزاء و جريان العدل في حكمه بين المصدّق و المكذّب، بلى يا ربّ أنت أحكم الحاكمين و أنا على ذلك من الشاهدين. و من قرء هذه الآية فليقل هذه الكلمات.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 180

سورة العلق

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ من قرأها كأنّها قرأ المفصّل (1) كلّه. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأها في نومه أو في ليلته ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا و بعثه اللّه شهيدا و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 181


1- المفصل من سورة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) إلى آخر القرآن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)

عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)

كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

أمر من اللّه أمر نبيّه أن يقرء باسم ربّه و أن يدعوه بالأسماء الحسنى و في تعظيم الاسم تعظيم المسمّى، لأنّ الاسم ذكر المسمّى بما يخصّه و الباء زائدة و التقدير:

اقرأ اسم ربّك.

و أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن الكريم و أوّل يوم نزل جبرئيل عليه صلّى اللّه عليه و آله و هو قائم في حراء علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة و قيل: أوّل ما نزل من القرآن قوله (1): «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» و قيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاتحة الكتاب.

و روى الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن عمرو بن شرحيل أنّ رسول اللّه قال لخديجة: إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقالت: ما يفعل اللّه بك إلّا خيرا فو اللّه إنّك لتؤدّي الأمانة و تصل الرحم و تصدق الحديث قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى و هو ابن عمّ خديجة فأخبره رسول اللّه بما رأى فقال له ورقة: إذن أتاك فاثبت له حتّى تسمع ما تقول ثمّ ائتني فأخبرني فلمّا خلا ناداه يا محمّد قل: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين- حتّى بلغ-

ص: 182


1- سورة المدثر: 1.

و لا الضالّين قل: لا إله إلّا اللّه» فأتى صلّى اللّه عليه و آله ورقة و ذكر له ذلك فقال له ورقة: ابشر ابشر فأنا أشهد أنّك الّذي بشّر به ابن مريم و إنّك على مثل ناموس موسى و إنّك نبيّ مرسل و إنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا و لئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك. فلمّا توفّي ورقة قال رسول اللّه: «لقد رأيت القسّ في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي و صدّقني» يعني ورقة.

[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي ما يوحى إليك يا محمّد و قوله: «علّم الإنسان ما لم يعلم» يؤيّد أنّ هذه السورة أوّل ما نزلت عليه. و أوّل ما ابتدأ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين أراد اللّه به النبوّة الرؤيا الصالحة كان لا يرى رؤيا إلّا جاءت كفلق الصبح فلا يشكّ فيها أحد كما لا يشكّ في وضوح ضياء الصبح، و إنّما ابتدأ صلّى اللّه عليه و آله بالرؤيا لئلّا يفجأه الملك الّذي هو جبرئيل بالرسالة فلا تتحمّلها قوّة البشريّة لأنّها لا تحتمل رؤية الملك و إن لم يكن على صورة الأصليّة و لا على سماع صوته فكانت الرؤيا تأنيسا له و كانت مدّت الرؤيا ستّة أشهر و كان عليه السّلام في تلك المدّة إذا خلا يسمع نداء يا محمّد يا محمّد و يرى نورا يقظة و كان صلّى اللّه عليه و آله يخشى أن يكون الّذي يناديه تابعا من الجنّ كما ينادي الكهنة و كان في جبل حراء غار و هو الجبل الّذي نادى رسول اللّه بقوله:

إليّ يا رسول اللّه لمّا قال له «ثبير» و هو على ظهره: اهبط عنّي يا رسول اللّه فإنّي أخاف أن تقتل على ظهري، و كان صلّى اللّه عليه و آله يتعبّد في ذلك الغار ليالي ثلاثا و سبعا و شهرا و يتزوّد لذلك من الكعك (1) و الزيت و أوّل من تعبّد فيه من قريش جدّه عبد المطّلب ثمّ تبعه سائر المتألّهين و هم أبو اميّة بن المغيرة و ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة و كان ورقة قد قرء الكتب و كتب الكتاب العبريّ و كان شيخا كبيرا قد عمي في أواخر عمره.

ثمّ لمّا بلغ عليه صلّى اللّه عليه و آله رأس الأربعين و دخلت ليلة سبع عشرة من رمضان جاءه الملك و هو في الغار كما قال الصرصريّ:

و أتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوّة منه في رمضان

قالت عائشة: جاءه الملك سحر يوم الاثنين فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ ب.

ص: 183


1- الكعك خبز يعمل من الدقيق و الحليب.

قال: فأخذني و ضمّني و عصرني ثمّ أرسلنى فعله ثلاث مرّات ثمّ قال: «اقرأ» إلى قوله: «ما لم يعلم» فخرج صلّى اللّه عليه و آله من الغار حتّى إذا كان في جانب من الجبل سمع صوتا يقول: يا محمّد أنت رسول اللّه و أنا جبرئيل، و رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فحدّثها بما جرى فقالت له: ابشر يا ابن عمّي و اثبت فو الّذي نفسي بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمّة، و مكث صلّى اللّه عليه و آله مدّة لا يرى جبرئيل. و كانت وفاة ورقة بن نوفل مدّة الفترة أي فترة الوحي بين «اقرأ» و بين «يا أيّها المدّثّر».

[بِاسْمِ رَبِّكَ أي مبتدئا باسمه أي «قل و اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» [الَّذِي خَلَقَ نورك قبل الأشياء أو خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته و أخرجهم من العدم إلى الوجود.

و في كتاب شمس المعارف: أوّل آية نزلت على وجه الأرض «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» يعني على آدم الصفيّ عليه السّلام فقال آدم: الآن علمت أنّ ذرّيّتي لا تعذّب بالنار مادامت عليها ثمّ أنزلت على إبراهيم في المنجنيق فأنجاه اللّه بها من النار ثمّ على موسى فقهر بها على فرعون و جنوده ثمّ على سليمان فقالت الملائكة: الآن و قد تمّ ملكك فهي آية الرحمة و الأمان لرسله و أممهم، و لمّا نزلت على رسول اللّه و ذكرت في سورة النمل (1) «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كانت فتحا عظيما، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكتب على رؤوس السور و أوائل الرسائل و الدفاتر و حلف ربّ العزّة بعزّته أن لا يسمّيه عبد مؤمن على شي ء إلّا بورك له فيه و كانت لقائلها حجابا من النار و هي تسعة عشر حرفا تدفع تسعة عشر زبانية.

و في الحديث النبويّ: لو وضعت السماوات و الأرضون و ما فيهنّ و ما بينهنّ في كفّة و البسملة في كفّة لرجحت عليها. انتهى. و إنّما وصف نفسه بقوله: «الّذي خلق» لأنّه تعالى لمّا ذكر الربّ و كانت العرب في الجاهليّة تسمّي الأصنام أربابا أتى بالصفة الّتي لا شركة للأصنام فيها فقال: «الّذي خلق».

ص: 184


1- آية: 31- 32.

[خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ و التخصيص لخلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لاستقلاله ببدائع الصنع في خلقته أو تفخيم لشأنه صلّى اللّه عليه و آله إذ هو أشرفهم و عليه نزل القرآن و هو أوّل المأمور بقراءته «من علق» و هو الدم الجامد بعد النطفة إذ المراد جنس بني آدم و المراد بيان أطوار الخلقة الإنسانيّة، إنّه تعالى خلق أصله من التراب أو الدم و هو في غاية من المهانة ثمّ بلغ به مبالغ الكمال مفرّغا في قالب الاعتدال حتّى صار بشرا سويّا مهيّأ للنطق و إدراك المعاني و انتقل من حال إلى حال حتّى استكمل إلى أن بلغ درجة النبوّة و الرسالة و أظهر قدرته بإظهار ما بين حالتي الإنسان بداية و نهاية من التباين و إيراد كلمة العلق بلفظ الجنس و الجمع و لم يقل: «علقة» لأنّ الإنسان في معنى الجمع لأنّ الألف و اللام في الإنسان للاستغراق و لمراعاة الفواصل.

و لمّا كان الإنسان أقوم الدلائل الدالّة على قدرته و علمه تعالى وصف ذاته بذلك، و لمّا كان أراد سبحانه أن يعترف المشركون بوحدانيّته لو قال لهم: «اقرأ باسم ربّك الّذي لا شريك له» لأبوا أن يقبلوا منه ذلك فقدّم مقدّمة تلجئهم إلى الاعتراف فأمر رسوله أن يقول لهم: إنّهم خلقوا من العلقة و لا يمكنهم إنكار ذلك و لا يمكنهم أن (ينسبوا) ذلك الفعل إلى الوثن لأنّهم هم نحتوه فبهذا التدريج إذا تأمّلوا عرفوا أنّه تعالى هو المستحقّ للثناء دون الأوثان لأنّ الإلهيّة موقوفة على الخالقيّة و من لا يخلق شيئا كيف يكون إلها مستحقّا للعبادة؟ على أنّها هي مخلوقة.

[اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي افعل ما أمرت به و كرّر الأمر بالقراءة قيل:

لأنّه أمره في الأمر الأوّل بالقراءة لنفسه و في الثاني بالقراءة للتبليغ فحينئذ ليس بتكرار و قيل: التكرار للتأكيد و تمهيدا لما يعقّبه من قوله: «و ربّك الأكرم» فإنّه كلام مستأنف وارد لإزاحة عذره صلّى اللّه عليه و آله: «ما أنا بقارئ» حين أمره جبرئيل بالقراءة يريد صلّى اللّه عليه و آله أنّ القراءة شأن من يكتب و يقرء و أنا امّي فقيل له: و ربّك الّذي أمرك بالقراءة مبتدئا باسمه و هو الأكرم و الزائد الكرم على كلّ كريم.

ص: 185

[الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علّم ما علّم بواسطة القلم فكما علّم القارئ بواسطة الكتابة و القلم يعلّمك بدونهما فوصف نفسه تعالى بخلق الإنسان من علق و بأنّه الّذي علّمه بالقلم، و المناسبة بين الأمرين أنّ أوّل أحوال الإنسان كونه علقة و شيئا خسيسا و آخر أمره هو صيرورته عالما و هو مقام شريف و ليس هذا الكمال إلّا من قدرته تعالى شأنه و تنبيه على أنّ العلم أشرف الصفات و يبقى العلم بالخطّ و القلم و هو نعمة عظيمة و لو لا القلم ما استقامت امور الدّين و الدنيا.

قال كعب الأحبار: من وضع الكتاب آدم عليه السّلام قبل موته بثلاثمائة سنة كتب بالعربيّ و السريانيّ كتبها في الطين ثمّ طبخه فاستخرج إدريس ما كتب آدم و هذا هو الأصحّ و أمّا أوّل من كتب الرمل فإدريس عليه السّلام و أوّل من كتب بالفارسية طهمورث ثالث ملوك الفرس و أوّل من اتّخذ القرطاس يوسف عليه السّلام.

قال السيوطيّ: أول ما خلق اللّه القلم قال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، و أوّل ما كتب القلم: أنا التوّاب أتوب على من تاب.

[عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بدل اشتمال من «علّم بالقلم» و تعيّن للمفعول أي علّمه به و بدونه من الأمور ما لم يكن يعلمه و لم يخطر بباله.

فإن قلت: فإذا كان القلم و الخطّ من المنن الإلهيّة فما باله صلّى اللّه عليه و آله لم يكتب؟

فالجواب أنّ هذا الأمر مزيد فضل له لا نقيصة لو فرضنا أنّه لم يكتب، و قد ورد في الحديث بخلافه أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكتب و يعرف سبعين لغة و لو صحّ أنّه لم يكتب و لم يقرء لأنّه لو كتب لقيل: قرء القرآن من صحف الأوّلين و لعلّ المراد من أنّه لم يكتب و لم يقرء أي ما تلمّذ في الدرس و الكتابة عند أستاذ و كيف يحتاج إلى الكتابة و الدراسة من كان القلم الأعلى يخدمه و اللوح المحفوظ مصحفه بل القلم الأعلى الّذي هو أوّل موجود يكون روح النبويّ فإنّ اللّه علّم القلوب بواسطة ما لم يعلم من العلوم التفصيليّة.

[كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ردع و منع لمن كفر بنعمة اللّه و إن لم يذكر، أو معناه حقّا أنّ الإنسان يتجاوز حدّه و يستكبر على ربّه لأن رأى نفسه مستغنيا

ص: 186

بعشيرته و بماله، قيل: نزلت في أبي جهل بن هشام من هنا إلى آخر السورة.

روي أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه: أ تزعم أنّ من استغنى طغا؟ فاجعل لنا جبال مكّة فضّة و ذهبا لعلّنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا و نتّبع دينك، فنزل جبرئيل فقال: إن شئت فعلنا ذلك ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكفّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الدعاء إبقاء عليهم و رحمة، و أوّل هذه السورة يدلّ على مدح العلم و آخرها على مذمّة المال و كفى بذلك مرغّبا في العلم و منفّرا عن المال و الدنيا و كان صلّى اللّه عليه و آله يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من غنى يطغى و فقر ينسى.

[إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى الرجعى مصدر بمعنى الرجوع و الألف للتأنيث أي إنّ إلى مالك أمرك أيّها الإنسان رجوع الكلّ بالموت و البعث لا إلى غيره فسترى عاقبة طغيانك.

[أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الخطاب لكلّ من يتأتّى منه الرؤية و الاستفهام للتعجّب و الرؤية بصريّة و تنكير العبد للتفخيم، روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه و همّ أن يلقي على رأسه الشريف حجرا فرآه و هو في صلاة الظهر فجاءه ثمّ نكص على عقبيه فقالوا: مالك؟ فقال:

إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا و أجنحة، و المراد أجنحة الملائكة، أبصر اللعين الأجنحة و لم يبصر أصحابها فقال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. و كان أبو جهل يكنّى بأبي الحكم لأنّهم كانوا يزعمون أنّه عالم ذو حكمة و ذلك في الجاهليّة ثمّ سمّي أبا جهلا في الإسلام.

و حاصل معنى الآية: أ رأيت من منع من الصلاة ماذا يكون حاله عند اللّه و ما الّذي يستحقّه من العذاب؟ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف و الآية عامّة في كلّ الصلاة و عن الخير.

كرّر سبحانه لفظة التعجيب تأكيدا فقال: [أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني العبد المنهيّ عن الصلاة و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله [أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى عن الشرك و أمر

ص: 187

بالإخلاص و التوحيد و مخافة اللّه كيف يكون حال من ينهاه عن هذه الأمور و يزجره عنها.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه خرج في يوم عيد فرأى ناسا يصلّون فقال يا أيّها الناس قد شهدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلّي قبل العيد فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا تنهى أن يصلّوا قبل خروج الإمام؟ فقال:

لا أريد أن أنهى عبدا إذا صلّى و لكنّا نحدّثهم بما شهدنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: في معنى قوله: «أ رأيت إن كان على الهدى» يرجع ضمير كان إلى الكافر تلهّفا عليه فمعنى الآية أنّه إذا كان و صار على الهدى و اشتغل بما ينفعه و يأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر باللّه و النهي عن عبادة اللّه؟ كأنّه سبحانه تلهّف على ذلك الكافر بأنّه كيف فوّت على نفسه المراتب العالية و قنع بالدنيا و ارتكب الضلالة و اختارها على الهدى.

[أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى عن الإيمان و أعرض عن قبوله و الإصغاء إليه [أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى جواب للشرط الثانية و التقدير أ رأيت الّذي فعل التكذيب و الإعراض ما الّذي يستحقّ بذلك من اللّه تعالى من العقاب، و الآية عظة لجميع الناس و تهديد لمن يمنع عن الخير و الطاعة، و الآية و إن نزلت في أبي جهل لكن كلّ من نهى عن طاعة اللّه فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد.

[كَلَّا] ردع للناهي عن عبادة اللّه [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اللّام موطّئة للقسم أي و اللّه لئن لم ينته عمّا هو عليه و لم ينزجر و لم يتب و لم يسلم قبل الموت [لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ] أصله لنسفعن بالخفيفة للتأكيد و نظيره (1) «و ليكونا من الصاغرين» كتب في المصحف بالألف على حكم الوقف فإنّه يوقف على هذه النون بالألف تشبيها لها بالتنوين.

و السفع الجنب و الجرّ الشديد أي لنأخذنّ في الآخرة بناصيته و لنسحبنّه بها إلى النار بمعنى لنأمرنّ الزبانية ليأخذوا بناصيته و يجرّوه بالتحقير و الإهانة إلى النار و كانت العرب تأنف من جرّ الناصية، و الاكتفاء بلام العهد عن الإضافة لظهور أنّ

ص: 188


1- سورة يوسف: 32.

المراد ناصية الناهي و المعرض، و لعلّ السبب في تخصيص السفع بالناصية لأنّ أبا جهل اللعين كان شديد الاهتمام بترجيل الناصية و ترتيبها و تطييبها و قد وقع السفع للعين يوم بدر في الدنيا قبل الآخرة.

روي أنّه لمّا نزلت سورة الرحمن قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من يقرءها على رؤساء قريش؟ فتثاقلوا فقام ابن مسعود و قال: أنا فأجلسه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: ثانيا من يقرءها عليهم؟ فلم يقم إلّا ابن مسعود و ما كان يومئذ علي حاضرا ثمّ قال: من يقرءها عليهم؟ فقام ابن مسعود إلى أن أذن له و كان صلّى اللّه عليه و آله يبقي عليه و لا يأذنه لما كان يعلم من ضعفه و صغر جثّته، ثمّ إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح عبد اللّه قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشقّ أذنه و أدماها فانصرف ابن مسعود و عينه تدمع فلمّا رآه صلّى اللّه عليه و آله رقّ قلبه و أطرق رأسه مغموما فإذا جبرئيل جاء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل تضحك و يبكى ابن مسعود، فقال جبرئيل:

سيعلم، فلمّا ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظّ في الجهاد فقال صلّى اللّه عليه و آله: لابن مسعود خذ رمحك و التمس في الجرحى من الكافرين فمن كان له رمق فاقتله فإنّك تنال ثواب المجاهدين فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف عبد اللّه أن يكون به رمق فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ثمّ لمّا عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه و كان نحيفا جدّا فارتقى على صدر اللّعين بحيلة فلمّا رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلّغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حال مماتي (روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا سمع ذلك قال:

فرعوني أشدّ من فرعون موسى فإنّه قال: آمنت، و هو قد زاد عتوّا) ثمّ قال: يا ابن مسعود هاك سيفي و اقطع به لأنّه أحدّ و أقطع، فلمّا قطع رأسه لم يقدر على حمله فشقّ اذنه و جعل الخيط فيها و جعل يجرّه إلى رسول اللّه و جبرئيل كان حاضرا عند رسول اللّه يضحك و يقول: يا محمّد اذن باذن لكنّ الرأس هاهنا مع الاذن مقطوع.

[ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ] بدل من الناصية و إنّما جاز إبدال النكرة من المعرفة

ص: 189

لأنّها موصوفة، و وصف الناصية بالكذب و الخطاء على الإسناد المجازيّ و المراد صاحبها و في الكلام مبالغة في الكذب و الخطاء كأنّه من شدّة كذبه و كثرة خطائه ظاهر في ناصيته.

[فَلْيَدْعُ نادِيَهُ من الدعوة يعني أهل ناديه و مجلسه ليعينوه. و النادي المجلس الّذي يجتمعون و ينتدون فيه القوم. روي أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه و هو يصلّي فقال: ألم ننهك؟ فأغلظ له رسول اللّه فقال أبو جهل: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا؟ و دار الندوة بمكّة، فنزلت:

[سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ] أي ملائكة العذاب قال صلّى اللّه عليه و آله: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا. و حذف الواو من غير قاعدة إلّا أنّه اجتمعت المصاحف العثمانيّة في حذف الواو من «سندع» و لعلّ السبب فيه للمشاكلة مع «فليدع» و قال ابن خالويه: إنّ الأصل سندعو بالواو غير أنّ الواو ساكنة فاستثقلتها اللام الساكنة فسقطت الواو في المصحف من سندع و (1) «يَدْعُ الْإِنْسانُ» و (2) «يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ» و كذلك الياء من (3) «وادِ النَّمْلِ» و «إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا» (4) و الزبانية في الأصل في كلام العرب الشرط كصرد جمع شرطة بضمّ الشين و هم أعوان الولاة سمّوا بذلك لأنّهم أعلموا و عرّفوا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، و الأشراط العلائم و الواحد زبنية من الزبن كالضرب و هو الدفع لأنّهم يدفعون الكفّار و يزبنونهم في جهنّم بدفع شديد و قيل: الواحد زبنى.

[كَلَّا] ردع بعد ردع للناهي المذكور [لا تُطِعْهُ أي دم على صلاتك و معاصاة ذلك الناهي الكاذب الخاطئ [وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ و واظب سجودك غير مكترث به و تقرّب بذلك السجود إلى ربّك، و في الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد فأكثروا من الدعاء في السجود.

روي أنّ إبراهيم الخليل عليه السّلام أضاف يوما مائتي مجوسيّ فلمّا أكلوا قالوا:

ص: 190


1- سورة الإسراء: 11.
2- «الشورى: 24.
3- «النمل: 18.
4- «الحج: 54.

مرنا يا إبراهيم قال: إنّ لي إليكم حاجة فقالوا: ما حاجتك؟ قال: اسجدوا لربّي سجدة واحدة فتشاوروا فيما بينهم فقالوا: إنّ هذا الرجل قد صنع معروفا كثيرا فلو سجدنا لربّه ثمّ رجعنا إلى آلهتنا لا يضرّنا بشي ء، فسجدوا جميعا فلمّا وضعوا رؤوسهم على الأرض ناجى إبراهيم ربّه فقال: إنّي جهدت جهدي حتّى حمّلتهم على هذا و لا طاقة لي على غيره و إنّما التوفيق منك اللّهمّ زيّن صدورهم بالإسلام، فلمّا رفعوا رؤوسهم من السجود أسلموا.

و للسجدة أقسام: سجدة الصلاة و سجدة التلاوة مثل هذه الآية، و سجدة السهو، و سجدة التعظيم لجلال اللّه، و سجدة التضرّع إليه خوفا و طمعا، و سجدة الشكر و سجدة المناجاة. و هذه- ما عدا الثلاثة الاول- مستحبّة صادرة عن الملائكة و الأنبياء و الأولياء و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأ في سجدة اقرأ: «أعوذ بعفوك من عقابك و أعوذ برضاك من سخطك و أعوذ بك منك» تمّت السورة بعون اللّه

ص: 191

سورة القدر

اشارة

* (مكية)* و قيل: مدنيّة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان و أحيا ليلة القدر و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قرأها في فريضة من الفرائض نادى مناد يا عبد اللّه قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل. و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأها بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه و من قرأها عشر مرّات محا اللّه ألف ذنب من ذنوبه.

ص: 192

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)

سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

النون نون العظمة أو للدّلالة على الذات و الصفات و الأسماء، و الضمير للقرآن لأنّ شهرته تقوم مقام تصريحه و ذكره، فكأنّه حاضر في الأذهان و أسند إنزاله إلى جنابه مع أنّ نزوله إنّما يكون بواسطة جبرئيل على طريقة القصر بتقديم الفاعل المعنويّ فاكتفى بذكر الأصل عن ذكر التبع. و معنى صيغة الماضي أنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر و قدّرناه في الأزل.

فلو قيل: إنّ الإنزال يستعمل في الدفعيّ و القرآن لم ينزل جملة واحدة بل انزل مفترقا في ثلاث و عشرين سنة.

جوابه أنّ المراد أنّ جبرئيل نزل به جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا و أملاه على السفرة أي الملائكة الكاتبين في تلك السماء ثمّ كان ينزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منجّما على حسب الحاجة و المصالح و كان ابتداء تنزيله أيضا في تلك الليلة.

و فيه إشارة إلى أنّ بيت العزّة أشرف المقامات السماويّة بعد اللّوح المحفوظ لنزول القرآن منه إليه و لذلك قالوا بفضل السماء الدنيا الاولى على أخواتها لأنّها مقرّ الوحي الإلهيّ و لشرف المكان بالمكين فالمكان الشريف يزداد شرفا بالمكين الشريف، و في التدريج تسهيل العمل به و الحفظ و تثبيت للفؤاد. و كلام اللّه المنزل قسمان: القرآن و الخبر القدسيّ لأنّ جبرئيل كان ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن و من هنا جاز رواية السنّة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاها بالمعنى، و لم يجز القرآن

ص: 193

بالمعنى لأن جبرئيل أدّاه باللفظ، و السرّ في ذلك التعبّد بلفظه و الإعجاز به و بخصوصيّاته فإنّه لا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه من الإعجاز لفظا و من الأسرار معنى فكيف يقوم لفظ الغير و معناه مقام حرف القرآن و معناه.

فإن قيل: ما السبب أنّ الملائكة بأسرهم صعقوا ليلة نزول القرآن من حضرة اللّوح المحفوظ إلى حضرة بيت العزّة؟ السبب أنّ محمّدا و قرآنه عندهم من أشراط القيامة فنزوله دلّ على قيام الساعة فصعقوا هيبة منه و إجلالا لكلامه و حضرة وعده و وعيده.

[فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] و إنّما سمّيت بليلة القدر قيل: لأنّه أنزل فيها كتاب ذو قدر إلى رسول ذي قدر لأجل امّة ذي قدر على يد ملك ذي قدر أو لأنّ اللّه قدّر فيها بما يكون في السنة بأجمعها من الأمور، و قيل: لأنّه من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر أو لأنّ للطاعات فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا و قيل: سمّيت بذلك لتضييق فيها بالملائكة من قوله (1): «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ».

و لعلّ الحكمة في إنزال القرآن ليلا لأنّ أكثر الكرامات و نزول النفحات و الإسراء إلى السماوات كان في اللّيل، و اللّيل من الجنّة لأنّها محلّ الاستراحة، و النهار من النار و الحركة و الحرارة و التعب و فيه سعي المعاش و تعب المشاغل، و الليل حظّ الفراش و الوصال، و عبادة الليل أفضل من عبادة النهار و قلب الإنسان أفرغ للعبادة، و قد مرّ بيان ليلة القدر في سورة الدخان و عند الأكثر أنّها واقعة في العشر الأواخر من رمضان في أوتارها.

[وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ] أي و أيّ شي ء أعلمك يا محمّد ما هي و ما كنهها لأنّ قدرها و علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق و هو تعظيم للوقت الّذي انزل فيه فمن بعض فضل ذلك الوقت أنّه يرتفع سؤال القبر عمّن مات فيها.

[لَيْلَةُ الْقَدْرِ] عبادتها و قيامها [خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] صيامها و قيامها ليس فيها ليلة القدر حتّى لا يلزم تفضيل الشي ء على نفسه و «خير» في الآية للتفضيل أي أفضل

ص: 194


1- سورة الطلاق: 7.

و أعظم قدرا من تلك المدّة و هي ثلاث و ثمانون سنة و أربعة أشهر.

و في الحديث من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر. و معنى إيمانا و احتسابا أي بنيّة و عزيمة طيّبة به نفسه غير كارهة له و لا مستثقل لصيامه و لا مستطيل لأيّامه بل يغتمّ طول أيّامه لعظم الثواب لكن قال بعض المحقّقين: المراد من قوله «غفر اللّه ما تقدّم من ذنبه» الصغائر، و زاد بعضهم: و إذا لم يصادف صغيرة يخفّف عن الكبائر و المراد من قوله: «و ما تأخّر» كناية عن حفظهم من ارتكاب الكبائر بعد ذلك أو أن تقع ذنوبهم مغفورة.

و قال بعض: إنّ ليلة القدر ليلة الآخرة من رمضان و استدلّ بقوله صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ اللّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان أعتق ألف ألف عتيق من النار عند الإفطار كلّهم استوجبوا العذاب فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق اللّه في تلك الليلة بعدد من أعتق من أوّل الشهر إلى آخره و الليلة الاولى للصائمين كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر و الليلة الأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صبر و فراق و فرق بين الشكر و الصبر» و كان صلّى اللّه عليه و آله ليلة الأخيرة من رمضان يكثر من قوله: «اللّهمّ إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي اللّهمّ إنّي أسألك العفو و العافية و المعافاة في الدين و الدّنيا و الآخرة».

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه يقدّر في ليلة القدر من تلك السنة من مطر و رزق و إحياء و إماتة إلى غيرها من السنة الآتية فيسلّمه إلى مدبّرات الأمور من الملائكة فيدفع نسخة الأرزاق و النباتات و الأمطار إلى ميكائيل و نسخة الحروب و الرياح و الزلازل و الصواعق و الخسف إلى جبرئيل و نسخة الأعمال إلى إسرافيل و نسخة المصائب إلى ملك الموت.

فكم من فتى يمسي و يصبح آمناو قد نسجت أكفانه و هو لا يدري

و كم من عروس زيّنوها لزوجهاو قد قبضت أرواحهم ليلة القدر

و قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر رجلا من بني إسرائيل اسمه شمسون لبس السلاح في

ص: 195

سبيل اللّه ألف شهر فتعجّب المؤمنون منه و تقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا الليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي. و قيل: رأى النبيّ أعمار الأمم كافّة فاستقصر أعمار امّته فخاف أن لا يبلعوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه اللّه ليلة القدر و جعل عبادتها خيرا من ألف شهر لم يكن فيها ليلة القدر. و قيل: كان ملك سليمان مدّة خمسمائة شهر و ملك ذي القرنين خمسمائة شهر فجعل العمل في هذه لمن أدركها خيرا من ملكهما.

و روي عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إنّ اللّه أرى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله في المنام أنّ بني اميّة ينزون على منبره نزو القردة فاغتمّ لذلك فأعطاه اللّه ليلة القدر و هي خير له و لذرّيّته من ألف شهر و هي مدّة ملك بني اميّة و أعلمه أنّهم يملكون أمر الناس هذا القدر من الزمان.

و قيل- و القول ضعيف-: إنّ فضلها كان لنزول القرآن و انقطعت فكانت مرّة لكن الجمهور على أنّها باقية آتية في كلّ سنة فضلا من اللّه تعالى. قال بعض الأكابر من أهل الليل: من قرأ كلّ ليلة عشر آيات على تلك النيّة لم يحرم ثوابها و أقلّ صلاة ليلة القدر ركعتان و أوسطها مائة ركعة و أكثرها ألف ركعة.

[تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها] استيناف مبيّن و مقرّر لماله فضّلت على ألف شهر. و «تنزّل» بحذف إحدى التاءين، و قد سبق معنى الروح في سورة النبأ و هو ملك عظيم لو التقم السماوات و الأرضين كانت له لقمة واحدة و هو في المحشر يقف صفّا و تمام الخلق من الملائكة و غيرهم صفّا و له ألف رأس كلّ رأس أعظم من الدنيا و في كلّ رأس ألف وجه و في كلّ وجه ألف فم و في كلّ فم ألف لسان يسبّح اللّه بكلّ لسان ألف نوع من التسبيح و التحميد لكلّ لسان لغة لا تشبه الاخرى، فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّ كلّ ملائكة السماوات سجّدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه و هو يسبّح اللّه غدوة و عشيّة فينزل تلك الليلة فيستغفر للصائمين و الصائمات من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بتلك الأفواه كلّها إلى طلوع الفجر.

و قيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا ليلة القدر كالزهّاد

ص: 196

الّذين لا تراهم إلّا يوم العيد. و قيل: المراد عيسى عليه السّلام لأنّه اسمه فإنّ اسم عيسى الروح و ينزل في مرافقة الملائكة ليطالع امّة محمّد. و قيل: المراد من الروح جبرئيل و إنّما خصّ بالذكر لشرافته في أمانة الوحي. و قيل: المراد بالروح الوحي كما قال (1): «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» أي تنزّل الملائكة و معهم الوحي بتقدير الخيرات و الأمور في تلك الليلة.

[بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلّق بقوله: «تنزّل» أي بأمره تعالى [مِنْ كُلِّ أَمْرٍ] متعلّق بقوله: «تنزّل» أي من أجل كلّ أمر قدّر في تلك السنة [سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] سلام خبر قدّم لإفادة الحصر مثل «تميميّ أنا» أي ما هي إلّا سلامة و كلّ ما ينزل في هذه الليلة لا يستطيع الشيطان فيه سوءا و كلّها خير، و الليلة ليست نفس السلامة بل ظرف لها و مع ذلك وصفت بالسلامة للمبالغة في اشتمالها عليها أو المعنى ما هي إلّا سلام لكثرة ما يسلّمون على المؤمنين فيها. و في الحديث «ينزل جبرئيل ليلة القدر في كبكبة من الملائكة متضامّة يصلّون و يسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه حتّى طلوع الفجر- أي حتّى وقت طلوعه و المضاف مقدّر- ثمّ يصعدون إلى السماء».

قيل: علامة ليلة القدر أنّها ليلة لا حارّة و لا باردة و يطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها لأنّ الملائكة تصعد إلى السماء فيمنع صعودها و كثرتها انتشار شعاع الشمس.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 197


1- سورة الشورى: 52.

سورة البينة

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لو يعلم الناس ما في «لم يكن» لعطّلوا الأهل و المال و تعلّموها، و قال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ فقال:

لا يقرءها منافق أبدا و لا يقرءها عبد في قبله شكّ في اللّه و إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق السماوات و الأرض لا يفترون من قراءتها، و ما من عبد يفرءها بليل إلّا بعث اللّه ملائكة يحفظونه في دينه و دنياه و يدعون له بالمغفرة فإنّ من قرءها نهارا اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليها النهار و أظلم عليها الليل فقال رجل من قيس عيلان: زدنا يا رسول اللّه من هذا الحديث فداك أبي فقال صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا «عمّ يتساءلون» و «ق و القرآن» و تعلّموا «و السماء ذات البروج» و تعلّموا «و السماء و الطارق» فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه و تقرّبتم بهنّ إلى اللّه و أنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك باللّه، و اعلموا أنّ «تبارك الّذي بيده الملك» يجادل عن صاحبها يوم القيامة و تستغفر له من الذنوب.

أبو بكر الحضرميّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأ سورة «لم يكن» كان بريئا من الشرك و ادخل في دين محمّد و بعثه اللّه مؤمنا و حاسبه اللّه حسابا يسيرا.

ص: 198

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

[لَمْ يَكُنِ الكفّار من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و «من» للتبيين لا للتبعيض [وَ] من [الْمُشْرِكِينَ الّذين هم عبدة الأوثان و هم الّذين ليس لهم كتاب من العرب و غير العرب [مُنْفَكِّينَ و زائلين و منفصلين عن كفرهم و شركهم [حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ] اللفظ لفظ الاستقبال و معناه المضيّ مثل قوله (1): «ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» أي ما تلت الشياطين، و حاصل المعنى أنّ الكفّار و المشركين لم ينتهوا عن كفرهم و ضلالهم حتّى أتاهم محمّد فبيّن لهم ضلالهم عن الحقّ. و المراد من «البيّنة» النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من البينونيّة فإنّ البيّنة تمييز و يفرق الحقّ من الباطل و يجعل بينهما بونا، و قوله: «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» بدل من البيّنة أو عطف بيان و تفسير لها و قيل: المعنى لم يكونوا متروكين و منفصلين من حجج اللّه حتّى أتتهم البيّنة الّتي تقوم بها الحجّة عليهم.

[يَتْلُوا] عليهم صفة اخرى للرسول صلّى اللّه عليه و آله [صُحُفاً] الصحف جمع الصحيفة و هي

ص: 199


1- سورة البقرة: 102.

ظرف المكتوب [مُطَهَّرَةً] أي منزّهة من الباطل و لا يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون و نسبة التلاوة إلى الصحف عبارة عمّا فيها بعلاقة الحلول و المراد أنّه صلّى اللّه عليه و آله يتلو عليهم القرآن لأنّ القرآن مصدّق لصحف الأوّلين و مطابق لها في اصول الشرائع فإذا كان كذلك فإذا تلي عليهم القرآن تلي صحف الأوّلين فدعاهم صلّى اللّه عليه و آله إلى التوحيد و الإيمان.

[فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ] صفة لصحف أي في تلك الصحف امور مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحقّ و الصواب غير ذات عوج و قيل: المعنى: في سور القرآن كتب مستقيمة يشتمل على أنواع من العلوم كلّ نوع كتاب في فرائض اللّه و إنّ في القرآن مجمع ثمرة كتب اللّه المتقدّمة.

[وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي و ما اختلف هؤلاء الكفّار من أهل الكتاب في أمر محمّد [إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ] بعد ما جاءتهم البشارة في كتبهم و على ألسنة رسلهم فكانت الحجّة قائمة عليهم و قيل: المعنى و لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمّد و ينتظرونه حتّى بعثه اللّه فلمّا بعث تفرّقوا في أمره و اختلفوا فآمن به بعض و كفر آخرون و إفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم و بين المشركين للدلالة على شناعة حالهم و أنّهم لمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك فخصّوا بالذكر لأنّ إنكار العالم أقبح من إنكار الجاهل مع أنّ المشركين قد تمّت عليهم الحجّة و بلغهم هذا الأمر ممّن تقدّمهم من أهل العلم منهم.

[وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة حاليّة مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أي ما أمروا في كتبهم و لم يأمرهم إلّا لأن يعبدوا اللّه وحده و لا يشركون بعبادته فهذا ممّا لا اختلاف فيه من قبل و لا من بعد و لا تبدّل فيه. و «اللّام» عندنا و عند المعتزلة لام الغرض لكنّ الغرض نفعه راجع إلينا و هو مستغن عن كلّ شي ء و نفع.

[مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حال من فاعل في «ليعبدوا» أي جاعلين عبادتهم خالصة للّه في الدين من غير تشريك و يكون لداعية واحدة و هو وجه اللّه.

[حُنَفاءَ] مائلين عن الشرك و الأديان الباطلة مؤمنين بالرسل و الملّة الحنيفة الشريفة المستقيمة المائلة إلى الحقّ، و أصله الميل و من ذلك الأحنف المائل القدم

ص: 200

إلى جهة القدم الاخرى و قيل: أصله الاستقامة و إنّما قيل «المائل القدم» أحنف تفاؤلا، و بالجملة قوله: «حنفاء» تأكيد لقوله: «مخلصين» فإذا كان بمعنى الميل فمعناه مائلين عن جميع العقائد الفاسدة الزائفة إلى الإسلام و إذا كان بمعنى الاستقامة فالمعنى واضح، قال ابن جبير: لا يسمّى أحد حنيفا حتّى يحجّ و يختن لأنّ اللّه وصف إبراهيم عليه السّلام بكونه حنيفا و أنّه حجّ و ختن نفسه، و قيل: الحنيفة الختان و تحريم البنات و الأخوات و الأمّهات و الخالات و إقامة المناسك و إقامة الصلاة و أداء الزكاة و أداء ما فرض عليه.

[وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] فذكر سبحانه الصلاة الّتي هي العمدة في باب العبادات البدنيّة و الزكاة الّتي هي أساس العبادات الماليّة و «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من عبادة اللّه بالإخلاص و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة «دين القيّمة» أي دين الملّة المحكمة و أضاف الدين إلى «القيّمة» و هي نعته لاختلاف اللفظين و قد حصل التغاير فإضافة الشي ء إلى نعته في كلام العرب كثير مثل قوله (1): «و الدار الآخرة» و في موضع آخر (2) «و للدار الآخرة» و الدار هي الآخرة و عذاب الحريق و كذلك مسجد الجامع.

و لمّا كان بعض أهل الأديان بالغوا في باب الأعمال من غير إحكام أصولهم كاليهود و النصارى و بعض الرهبانيّة و المجوس و بعضهم حصّلوا الأصول و أهملوا الفروع و هم المرجئة الّذين يقولون: لا تضرّ المعصية مع الإيمان، فاللّه خطّأ الفريقين في هذه الآية و بيّن أنّه لا بدّ من العلم و العمل مع الإخلاص و ذلك المجموع كلّه هو الملّة المستقيمة فكما أنّ مجموع الأعضاء بدن واحد كذلك هذا المجموع دين واحد.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ بيان لحالهم الاخرويّ و ذكر المشركين لئلّا يتوهّم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص علم أهل الكتاب بشواهد النبوّة في كتابهم [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين لأجل كفرهم

ص: 201


1- سورة الانعام: 168.
2- سورة الأعراف: 32.

و الحكم للفريقين لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفيّة فإنّ جهنّم دركات.

[أُولئِكَ المذكورون [هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ] البريّة جميع الخلق لأنّ اللّه برأهم و أوجدهم بعد العدم أي هم شرّ الخليقة أعمالا و تقديم ضمير الفصل لإفادة الحصر كيف لا و هم شرّ من السرّاق لأنّهم سرقوا من كتاب اللّه نعوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شرّ من قطّاع الطريق لأنّهم قطعوا الدّين الحقّ على الحقّ و شرّ من الجهّال الفسقة الأجلاف الّذين يرتكبون المعاصي لأنّ الكفر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح من كفر الجهّال.

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و معلوم أنّ كلّ مكلّف ليس مكلّفا بجميع الأعمال بل لكلّ منهم حظّ فحظّ الغنيّ الإعطاء و الإنفاق و الحجّ و أمثاله و حظّ الفقير القناعة و الصبر و هكذا [أُولئِكَ المنعوتون من الإيمان و الطاعة [هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ] و استدلّ بالآية على أنّ البشر أفضل من الملك لظهور أنّ المراد بقوله «إنّ الّذين آمنوا» هو البشر. و البريّة يشمل الملك و الجنّ.

[جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بمقابلة إيمانهم و طاعاتهم دخول [جَنَّاتُ عَدْنٍ قال ابن مسعود: عدن بطنان الجنّة و وسطها [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] و جريان أنهار الجنّة بغير أخدود، و الألف و اللام في «الأنهار» للتعريف منصرفة إلى الأنهار الأربعة المذكورة في القرآن فكما أنّ طاعة العبد كانت حاصلة و جارية مادام كان حيّا فكذلك الأنهار الأربعة جارية له إلى أبد الآباد و كذلك يقتضي معاملة الكريم [خالِدِينَ فِيها أَبَداً] متنعّمين بفنون النعم.

[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استيناف مبيّن لما يتفضّل به عليهم و هو جنّة روح المؤمن لأنّ رضى الربّ ألذّ من كلّ نعمة لروح المؤمن [وَ رَضُوا عَنْهُ حيث بلغوا من النعم الغاية القصوى و اعطوا ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر [ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ إشارة إلى المذكور من الجزاء و الرضوان كما قال (1): «و لمن خاف مقام ربّه جنّتان».

ص: 202


1- سورة الرحمن: 46.

و روي في شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكانيّ قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: سمعت عليّا يقول: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا مسنده إلى صدري فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ ألم تسمع قول اللّه تعالى: «إنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة» هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجّلين. و فيه عن مقاتل بن سليمان عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله «هم خير البريّة» قال:

نزلت في عليّ و أهل بيته عليهم السّلام.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 203

سورة إذا زلزلت

اشارة

* (مدنية)* عن ابن عبّاس و قتادة و عن الضحّاك و عطا أنّها مكيّة. من قرأها كأنّما قرأ البقرة و اعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن. المناسبة بين السورة المتقدّمة و هذه السورة أنّه تعالى لمّا قال: «جزاؤهم عند ربّهم» فكأنّ المكلّف قال: و متى يكون ذلك يا ربّ؟ فقال: «إذا زلزلت الأرض» لأنّه لا سبيل إلى تعيين وقته لعدم المصلحة و لكن ابيّن علاماته.

ص: 204

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

[إِذا] حرّكت [الْأَرْضُ تحريكا عنيفا شديدا لا غاية و راءه [زِلْزالَها] الموعود به و الزلزال بالكسر مصدر و بالفتح اسم بمعنى المصدر، و فعلال لا يوجد إلّا في المضاعف [وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها] أي الثقلين أي و أخرجت موتاها المدفونة فيها تخرجها أحياء للجزاء، و قيل: إخراجها من الكنوز و معادنها فتلقيها على ظهرها ليراها أهل الموقف و يكون الفائدة أن يتحسّروا العصاة و أهل الدنيا إذا نظروا إليها لأنّهم عصوا اللّه فيها ثمّ تركوها لا تغني عنهم شيئا، و أيضا فإنّه تكوى بها جباههم و ظهورهم فحينئذ المراد من الأثقال الموتى و كنوز الأرض لكنّ الكنوز عند زلزال نفحة الاولى و الأموات عند النفخة الثانية و في الخبر «تفي ء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب و الفضّة فيجي ء القاتل فيقول: في هذا قتلت و يجي ء القاطع رحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي و يجي ء السارق و يقول: في هذا قطعت يدي». قيل:

يمتلئ وجه الأرض ذهبا، كأنّ الذهب يصيح: أما كنت تخرب دينك و دنياك لأجلي؟! [وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها] كلّ فرد من أفراده لما يغشاهم من الأهوال «مالها» أي أيّ شي ء للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة؟ استعظاما لما يشاهده من الأمر الهائل لكن المؤمن يقول بعد الإفاقة (1) «هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون» و الكافر يقول: «يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا».

ص: 205


1- سورة يس: 52.

[يَوْمَئِذٍ] بدل من «إذا» [تُحَدِّثُ أَخْبارَها] أي تخبر الأرض ذلك اليوم ما عمل عليها قال النبيّ: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد و أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل كذا و كذا يوم كذا و كذا فيجوز أن يكون اللّه أحدث الكلام فيها فتقدر على النطق و يجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقام النطق فعبّر عنه بالكلام كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك.

روي أنّ أبا اميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة ثمّ تقدّم فجعل يصلّي هاهنا و هاهنا فلمّا فرغ قيل له: يا أبا اميّة ما هذا الّذي تصنع؟ قال: قرأت هذه الآية «يومئذ تحدّث أخبارها» فأردت أن تشهد لي يوم القيامة. فطوبى لمن شهد له المكان بالذكر و التلاوة و الصلاة و نحوها، و ويل لمن شهد عليه بالزنى و الشرب و السرقة و المساوي و إنّ للّه على الإنسان سبعة شهود: المكان كما قال: «يومئذ تحدّث أخبارها» و الزمان كما في الخبر «ينادي كلّ يوم: أنا يوم جديد، و أنا على ما تعمل فيّ شهيد» و اللسان كما قال (1): «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» و الأركان كما قال تعالى (2): «و تكلّمنا أيديهم و تشهد أرجلهم» و الملكان كما قال (3): «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» و الديوان كما قال (4): «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» و الرحمن كما قال (5): «كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً» فكيف يكون حال العاصي بعد ما شهد عليه هؤلاء الشهود و كان عليّ عليه السّلام إذا فرغ بيت المال صلّى فيه ركعتين و يقول: لتشهدي إنّي ملأتك بحقّ و فرغتك بحقّ.

[بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها] أي تحدّث الأرض أخبارها بسبب إيحاء ربّك لها و أمره إيّاها بالتحديث.

[يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أي يوم إذ يقع ما ذكر «يصدر الناس» و هو قيامهم

ص: 206


1- سورة النور: 24.
2- «يس: 65.
3- «الانفطار: 10.
4- «الجاثية: 28.
5- «يونس: 61.

و رجوعهم بعد الورود للبعث [أَشْتاتاً] أي متفرّقين في النظام أي حالكونهم متفرّقين مؤمنين و كافرين و منافقين و مختلفة الزيّ: بيض الوجوه و الثياب آمنين ينادي المنادي بين يديه: هذا وليّ اللّه، و سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل و الأغلال فزعين ينادي المنادي بين يديه: هذا عدوّ اللّه.

و عن ابن عبّاس أنّ جبرئيل جاء إلى النبيّ يوما فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرءك السلام و يقول: مالي أراك مغموما حزينا و هو أعلم به فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل قد طال فكري في أمر امّتي يوم القيامة قال: يا محمّد في أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإيمان؟ قال: يا جبرئيل لا بل في أمر أهل الإيمان و أهل لا إله إلّا اللّه قال: فأخذ بيده و أقامه على مقبرة بني سلمة فضرب بجناحه الأيمن على قبر ميّت فقال: قم بإذن اللّه فقام رجل مبيضّ الوجه و هو يقول: لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه الحمد للّه ربّ العالمين، فقال له جبرئيل: عد فعاد كما كان ثمّ ضرب بجناحه الأيسر على قبر ميّت فقال: قم بإذن اللّه فخرج رجل مسودّ الوجه أزرق العين و هو يقول: و وا حسرتاه وا سوأتاه، فقال له: عد فعاد كما كان ثمّ قال جبرئيل: هكذا يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه.

أقول: و كان ذلك في أوائل الأمر حيث لم يتعيّن الوصيّ بعد للناس و لم يتعيّن ولاية أمير المؤمنين ظاهرا و إلّا فالإقرار بالولاية من شروط تحقّق الإيمان و بدونها لا ينفع كما في الحديث القدسيّ: «و لو أن عبدا عبدني و صام عمر الدهر و قام و عبد حتّى صار كالشنّ البالي و أتاني غير موال لعليّ بن أبي طالب أكبّه على منخريه في النار».

[لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم عن ابن عبّاس و قيل: معنى الرؤية هنا المعرفة بالأعمال عند تلك الأحوال أو يروا صحائف أعمالهم فيقرؤون ما فيها (1) «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» و يجوز أن يكون للأعمال صور نورانيّة و ظلمانيّة فيكون الرؤية حقيقة.

ص: 207


1- سورة الكهف: 18.

[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و المثقال مقدار الوزن، و الذرّة النملة الصغيرة أو ما يرى في شعاع الشمس من الهباء فمن يعمل مثقال ذرّة من الخير ير ثوابه و جزاءه و من يعمل وزن ذرّة من الشرّ ير ما يستحقّ عليه من العقاب إذا كان ممّا لم يعفه اللّه، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف و قيل: معناه فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا و هو كافر ير ثوابه و أجره في الدنيا في نفسه و ولده و ماله حتّى يخرج من الدنيا و ليس له عند اللّه خير و من يعمل مثقال ذرّة شرّا و هو مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه و أهله و ماله حتّى يخرج من الدنيا و ليس له عند اللّه شرّ و عقوبة.

قال مقاتل: فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة في كتابه يتفرّح به و كذلك من الشرّ يره في كتابه فيسوؤه ذلك، قال: و كان أحدهم يستقلّ أن يعطي اليسير و يقول: إنّما نوجر على ما نعطي و نحن نحبّه و ليس اليسير ممّا نحبّه و كان يقول أحدهم: إنّما وعد اللّه النار على الكبائر و يتهاونون بالصغائر فأنزل اللّه هذه الآية يرغّبهم في القليل من الخير و يحذّرهم من اليسير عن الشرّ قال ابن عبّاس: إنّها أحكم آية في القرآن و سمّيت بالجامعة.

و عن أبي عثمان المازنيّ عن أبي عبيدة قال: قدم صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول اللّه في وفد من بني تميم فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه أوصني خيرا فقال: أوصيك بامّك و أبيك و دانيك قال: زدني قال صلّى اللّه عليه و آله: احفظ ما بين لحييك و رجليك الحديث.

و في رواية أنّه سمع «فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره» فقال: حسبي ما ابالي لا أسمع من القرآن غير هذا. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 208

سورة العاديات

اشارة

* (قيل مكية، و قيل مدنية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من قرأها اعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة.

و عن الصادق عليه السّلام: و من قرأها و أدمن قراءتها بعثه اللّه مع أمير المؤمنين يوم القيامة و كان من رفقائه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)

وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

[وَ الْعادِياتِ جمع عادية و هي الجارية بسرعة من العدو و ياؤها مقلوبة عن الواو لكسرة ما قبلها أقسم سبحانه بخيل الغزاة الّتي تعدو نحو العدوّ [ضَبْحاً] مصدر منصوب إمّا بفعله المحذوف أي حالكونها تضبح ضبحا و هو صوت أنفاسها عند عدوها و إمّا بالعاديات فإنّ العدو مستلزم للضبح.

[فَالْمُورِياتِ قَدْحاً] الإيراء إخراج النار و القدح الضرب فإنّ الخيل تضربن بحوافرهنّ و سنابكهنّ الحجارة فيخرجن منها نارا يقال: قدح الزند فأورى و قدح فأصلد أي صوّت و لم يور، و المعنى توري النار من حوافرها إذا سارت في الأرض ذات الحجارة و انتصاب «قدحا» كانتصاب ضبحا أي تقدح قدحا أو القادحات قدحا.

[فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً] عطف على الفعل الّذي دلّ عليه اسم الفاعل إذ المعنى أقسم اللّه باللّاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن و هيّجن في ذلك نقعا

ص: 209

أي غبارا من نقع الصوت إذا ارتفع فالغبار سمّي نقعا لارتفاعه أو هو من النقع في الماء فكأنّ صاحب الغبار خاض في الغبار كما يخوض الرجل في الماء، و تخصيص الإثارة بالصبح لأنّه لا يظهر ثورانه باللّيل كما أن الإيراء لا يظهر بالنهار و الإغارة و الإثارة تقع غالبا في وقت الصباح و «أثرن» أصله أثورن فقلبت حركة الواو إلى الثاء ما قبلها و قلبت الواو ألفا فصار أثارن فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فبقي أثرن.

[فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً] أي توسّطن في ذلك الوقت و الباء للظرفيّة، بذلك المكان أو بسبب العدو وسط الكنيبة و جمع العدوّ، و الفاآت للدلالة على ترتّب ما بعد كلّ منها على ما قبلها فإنّ توسّط الجمع مترتّب على الإثارة المترتّبة على الإغارة المترتّبة على الإيراء المترتّب على عدوهنّ، و المراد عدو خيل الغزاة في سبيل اللّه و الصحيح أنّ المراد كما قال عليّ عليه السّلام: إنّها لإبل الحاجّ تعدو من عرفة إلى المزدلفة و من المزدلفة إلى منى، و قال: من أين لهم الأفراس! و لقد كان يوم بدر معنا فرسان فرس أبلق للمقداد و فرس للزبير.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ] جواب القسم يقال: كند النعمة كنودا كفر بها فالكنود بالضمّ كفران النعمة و بالفتح الكفور، و منه «كندة» بالكسر و هو لقب ثور بن عفر أبو حيّ من اليمن لأنّه كند نعمة أبيه ففارقه و لحق بأخواله و قال الكلبيّ: الكنود بلسان كندة العاصي و بلسان بني مالك البخيل و بلسان مضر و ربيعة الكفور و المعنى إنّ الإنسان- و المراد أكثر أفراده- لنعمة ربّه شديد الكفران فقوله: «لربّه» متعلّق بكنود قدّم عليه لإفادة التخصيص و مراعاة الفواصل.

النزول: قيل: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سريّة إلى حيّ من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ أحد النقباء فتأخّر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبر اللّه عنها بقوله: «و العاديات ضبحا» عن مقاتل.

و قيل: نزلت السورة لمّا بعث صلّى اللّه عليه و آله عليّا إلى ذات السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل.

ص: 210

و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم و قتل و سبي و شدّ أسراؤهم في الحبال كأنّهم في السلاسل، و لمّا نزلت السورة خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الناس فصلّى بهم الغداة و قرء فيها «و العاديات» فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه السورة لم نعرفها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم إنّ عليّا عليه السّلام ظفر بأعداء اللّه و بشّرني جبرئيل بذلك في هذه الليلة فقدم عليّ عليه السّلام بعد أيّام و بالغنائم و الأسارى.

[وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ] الهاء تعود إلى اللّه أي إنّه تعالى على كنود العبد لشهيد و قيل: الهاء تعود إلى الإنسان، شاهد على نفسه يوم القيامة بكنوده و قيل في معنى الكنود أيضا: هو الّذي يعدّ المصائب و ينسي النعم و روى أبو ثمامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أ تدرون من الكنود؟ قالوا: اللّه أعلم و رسوله، قال: «الكنود الّذي يأكل وحده و يمنع رفده و يضرب عبده» و قيل: هو البخيل القليل الخير يقال: كان ثلاثة نفر من العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء و هو حاتم الطائيّ و الثاني آية في البخل و هو حباحب، و من بخله أنّه كان لا يوقد النار للخبز إلّا إذا نام الناس فإذا انتبهوا أطفأ ناره لئلّا ينتفع الناس بها، و الثالث آية في الطمع و هو أشعب بن جبير مولى مصعب بن الزبير بن العوّام و من طمعه أنّه قرأ صبيّ في المكتب و هو حاضر:

إنّ أبي يدعوك فقام و لبس نعليه فقال الصبيّ: أنا أقرأ درسي، و كان إذا رأى إنسانا يحكّ عنقه يظنّ أنّه ينتزع قميصه ليدفعه إليه، و كان إذا رأى دخانا ارتفع من دار ظنّ أنّ أهلها يأتي بطعام و كان إذا رأى عروسا تزفّ إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره قال أشعب: ما رأيت أطمع منّي إلّا كلبا تبعني على مضغ العلك فرسخا.

[وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ] أي إنّ الإنسان لحبّ المال، و سمّي المال خيرا جريا على عادتهم «لشديد» قويّ مجدّ في طلبه و تحصيله متهالك عليه و هو لحبّ عبادة اللّه و الإنفاق في سبيله ضعيف الهمّة متقاعس.

[أَ فَلا يَعْلَمُ هذا الإنسان الّذي وصفناه و يرتكب من القبائح في الدنيا أنّ اللّه يجازيه [إِذا بُعْثِرَ] و بعث و اخرج [ما فِي الْقُبُورِ] من الموتى، و إيراد «ما» لكونهم

ص: 211

إذ ذاك بمعزل عن مرتبة العقلاء لأنّهم في القبور لا علم لهم.

[وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ] و ميّز و بيّن ما فيها من الخير و الشرّ و ظهر ما أخفته الصدور ليجازى على السرّ كما يجازى على العلانية، و أصل التحصيل إخراج المستور من المغمور فيه و أخذه منه كإخراج اللبّ من القشر و مثل البرّ من التبن و الدهن من اللبن، و الإظهار من لوازم معناه فيكون المعنى: ميّز بين خيره و شرّه قال صلّى اللّه عليه و آله: يبعثون على نيّاتهم.

[إِنَّ رَبَّهُمْ أي المبعوثين كنّى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بناء على تفاوت الحالين [بِهِمْ و بذواتهم و صفاتهم و أعمالهم بتفاصيلها [يَوْمَئِذٍ] يوم بعثهم [لَخَبِيرٌ] أي عالم بالتفصيل علما موجبا لجزائهم متّصلا الجزاء بذلك اليوم و إلّا فمطلق علمه يحيط بما كان و ما يكون و قوله: «بهم، و يومئذ» متعلّقان بخبير، قدّ ما عليه لمراعاة الفواصل.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 212

سورة القارعة

اشارة

* (مكية)* من قرأها ثقّل اللّه ميزانه يوم القيامة و آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به و من قيح جهنّم يوم القيامة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)

وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

القرع هو الضرب الشديد بحيث يحصل منه صوت ثمّ سمّيت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر «قارعة» و المراد بها في الآية القيامة الّتي مبدؤها النفخة الاولى و منتهاها فصل القضاء و هي تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء اللّه بالعذاب و القارعة مبتدء و [مَا الْقارِعَةُ] و ما الاستفهاميّة خبر، أي و أيّ شي ء عجيب و عظيم في الفخامة! و قد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ] ما في حيّز الرفع على الابتداء «و أدراك» هو الخبر أي و أيّ شي ء أعلمك ما شأن القارعة فإنّ عظم شأنها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد.

[يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ أي هي يوم يكون الناس و يوم مرفوع المحلّ و خبر مبتداء محذوف مبنيّ على الفتح لإضافته إلى الفعل و إن كان مضارعا على ما هو رأي الكوفيّين أو التقدير اذكر يوم إلخ، و المبعوث المفرّق شبّه الناس عند البعث بهذا الطائر الّذي يتهافت في النار و السراج، و قال أبو عبيدة: هو طير ينفرش ليس بذباب و لا بعوض لأنّهم إذا بعثوا ماج بعضهم إلى بعض و الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة

ص: 213

واحدة و المراد أنّهم يفزعون عند البعث فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة و مثل قوله (1): «كأنّهم جراد منتشر».

[وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ العهن الصوف المصنوع ألوانا و النفش نشر الصوف و الشعر و القطن و ذلك لألوان الجبال، شبّه خفّة الجبال و تلاشيها بعد رزانتها بالصوف المندوف في تفرّق أجزائها و تلوّن ألوانها كما قال (2): «و من الجبال جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود».

[فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع الموزون و هو العمل الّذي له خطر عند اللّه لأنّ الحقّ ثقيل و الباطل خفيف يعني يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة و بالأعمال السيّئة على صور سيّئة أي بصور جوهريّة مناسبة لها في الحسن و القبح فتوضع في الميزان فمن ترجّحت مقادير حسناته [فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] أي معيشة ذات رضى يرضاها صاحبها.

[وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنات يعتدّ بها أو ترجّحت سيّئاته على حسناته، قال ابن مسعود: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيّئاته بواحدة دخل الجنّة و من كانت سيّئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار [فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ] أي مأواه هاوية، هي من أسماء النار سمّيت بها لغاية عمقها و بعد مهواها روي أنّ أهل النار يهوي منها سبعين خريفا و عبّر عن المأوى بالأمّ لأنّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى امّه و أنّها تحيط بهم إحاطة رحم الأمّ بالولد أو لأنّ الأمّ هي الأصل في الكافر و العاصي. و قيل: معنى «فامّه هاوية» لأنّ العاصي يهوي إلى امّ رأسه في النار فامّ رأسه في جهنّم لأنّه يطرح فيها منكوسا و امّ الرأس الدماغ.

[وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ فهي ضمير للهاوية و الهاء للسكت و الاستراحة يريد إنّك لا تعلم تفصيلها و أنواع ما فيها من العذاب و لو كنت تعلمها في الجملة.

ثمّ قال: [نارٌ حامِيَةٌ] حارّة شديدة الحرارة بحيث لا توصف.

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 214


1- سورة القمر: 7.
2- سورة فاطر: 25.

سورة ألهاكم

اشارة

مختلف فيها.

و من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعيم الّذي أنعم عليه في الدنيا و اعطي من الأجر كأنّما قرء ألف آية.

شعيب العقرقوفيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة ألهاكم التكاثر في فريضة كتب له ثواب مائة شهيد و من قرأها في نافلته كان له ثواب خمسين شهيدا و صلّى معه في فريضة أربعون صفّا من الملائكة.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: من قرأها عند النوم و قي فتنة القبر.

ص: 215

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يفيده و يعنيه أي شغلكم عن طاعة اللّه و عن ذكر الآخرة [التَّكاثُرُ] بالأموال و الأولاد و التفاخر و التباهي بهما، و ألهاكم ممّا يتعلّق بالقلب كالتذكّر و العلم و الفكر و العبرة و ممّا يتعلّق بالجوارح كأنواع الطاعات.

و التكاثر مكاثرة اثنين مالا أو عددا بأن يقول كلّ منهما لصاحبه: أنا أكثر منك مالا و أعزّ نفرا كما أنّه وقع بين بني عبد مناف و بني سهم تفاخروا و تكاثروا فقال كلّ من الفريقين: نحن أكثر منكم سيّدا و أعظم نفرا فكثّرهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم:

إنّ البغي أفنانا في الجاهليّة فعادّونا بالأحياء و الأموات و ذهبوا يعدّون قبور موتاهم هذا قبر فلان و هذا قبر فلان، فكثّرهم بنو سهم و زادوا عن بني عبد مناف، و المعنى أنّكم تكاثرتم بالأحياء [حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ] أي حتّى استوعبتم عددهم و صرتم إلى التفاخر و التكاثر بالقبور و الأموات، فعبّر عن انتقالهم إلى عدّ الموتى و ذكرهم بزيارة القبور.

و قيل وجه آخر في تفسير الآية: ألهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد و الدنيا إلى أن متّم و قبرتم مضيّعين أعماركم فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.

[كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ردع عمّاهم عليه من الاشتغال بالدنيا أي ليس الأمر كما توهّمتم «سوف تعلمون» الخطاء فيما أنتم عليه إذا عاينتم أهوال القيامة و العلم بمعنى المعرفة، و لا يغرّنك كثرة من ترى حولك فإنّك تموت وحدك و تبعث وحدك و تحاسب وحدك.

ص: 216

[ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تأكيد لتكرير الردع و الإنذار و في «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل كقولك للمنصوح: أقول لك ثمّ أقول لك: لا تفعل.

أو الردع الأوّل عند الموت و الاحتضار حين ما يبشّر به المحتضر من جنّة أو نار أو في القبر حين يسأل و الثاني عند النشور حين ينادي المنادي: شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها، فعلى هذا لا تكرير في الآية لحصول التغاير بينهما بتغاير زماني العلمين فإنّه يلقى في كلّ واحد من الزمانين نوعا آخر من العذاب. و روى زرّ بن حبيش عن عليّ أمير المؤمنين: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت «ألهاكم التكاثر» إلى قوله:

«كلّا سوف تعلمون» يريد في القبر «ثمّ كلّا سوف تعلمون» بعد البعث. و قيل:

إنّ المعنى «كلّا سوف تعلمون» إذا رأيتم دار الأبرار «ثمّ كلّا سوف تعلمون» إذا رأيتم دار الفجّار.

[كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون الأمر علما يقينا لشغلكم ما تعملون من الاشتغال بالعزّ و التباهي و جواب «لو» محذوف للتهويل فإنّه إذا حذف الجواب يذهب الوهم كلّ مذهب أي لو علمتم علما كاملا يقينيّا لما اشتغلتم و لفعلتم غير هذا و لكنّكم ضلّال جهلة، و علم اليقين هو الّذي لا يعتريه اضطراب الشكّ.

ثمّ استأنف سبحانه وعيدا آخر فقال: [لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ و اللام موطّئة للقسم و معناه لترونّها حين تبرز الجحيم في القيامة قبل دخولكم إليها [ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي محض اليقين بالمشاهدة إذا دخلتم فيها و عذّبتم بها.

[ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قيل: السؤال عن النعيم شامل للكفّار المتنعّمين في الدنيا غير شاكرين نعمته و من لحق بهم في عدم الشكر من فسقة المؤمنين و قالوا: من كان ناهضا بالشكر من المؤمنين فهو من ذلك بعيد و قيل: شاملة للكفّار فقط إذ لم يشكروا ربّ النعيم و أشركوا به و عبدوا غيره فيسألون ثمّ يعذّبون على ترك الشكر، و قال الأكثرون: إنّ المعنى لتسألنّ يا معاشر المكلّفين عن النعيم و إنّ اللّه سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

و المراد من النعيم المأكل و المشرب و غيرهما من الملاذّ مطلقا عن سعيد بن

ص: 217

جبير. و قيل: المراد من النعيم الصحّة و الفراغ و يعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة و الفراغ. و قيل:

المراد الأمن و الصحّة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و قيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه اللّه و هو قوله: ثلاثة لا يسأل اللّه عنها العبد: خرقة يواري بها عورته و كسرة يسدّ بها جوعته و بيت يكنّه من الحرّ و البرد. روي أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جماعة من أصحابه فوجدوا عنده تمرا و ماء باردا فأكلوا فلمّا خرجوا قال صلّى اللّه عليه و آله: هذا من النعيم الّذي تسألون عنه.

و قيل: المراد من النعيم وجود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل البيت روى العيّاشيّ بإسناده في حديث طويل قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام و الماء البارد فقال عليه السّلام: لئن أوقفك اللّه يوم القيامة حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها و شربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال: نحن أهل البيت الّذي أنعم اللّه بنا على العباد و بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين و بنا جعلهم أحبابا بعد أن كانوا أعداء و بنا هداهم اللّه للإسلام و هي النعمة الّتي لا تنقطع و اللّه سائلهم عنها و النعيم النبيّ و عترته. و هذه الرواية مقبولة عند العامّة و الخاصّة، و في حديث: قال الرضا عليه السّلام النعمة في الآية حبّنا أهل البيت أ تضيفون إلى اللّه ما إذا أضيف إليكم تستحونه؟

تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 218

سورة العصر

اشارة

* (مكية)* من قرأها ختم اللّه له بالصبر و كان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قرأ السورة في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه ضاحكا سنّه قريرة عينه حتّى يدخل الجنّة.

ص: 219

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

أقسم سبحانه بصلاة العصر و هي الصلاة الوسطى لتوسّطها بين الشفع الّذي هو صلاة الظهر و بين الوتر الّذي هو صلاة المغرب فحصل لها من القدر ما لم يكن لكلّ واحد من الطرفين كما في الحديث الّذي يؤيّد فضلها على سائر الصلوات، قال صلّى اللّه عليه و آله:

من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله أي نقص، و معنى الحديث أي ليكن من فوتها حذرا كما يحذر الإنسان من ذهاب أهله و ماله و قيل: المراد بالعصر في الآية عصر النبوّة و في قراءة ابن مسعود «و العصر إنّ الإنسان لفي خسر، و إنّه فيه إلى آخر الدهر» و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام، و قيل: أقسم سبحانه بالدهر لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل و النهار و تقدير الأدوار و هو قول ابن عبّاس و جماعة. و قيل: المراد وقت العشيّ و الطرف الأخير من النهار لما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة اللّه بإدبار النهار و إقبال الليل كما أقسم بالفجر و بالضحى و هو الطرف الأوّل من النهار.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ] و الألف و اللام للاستغراق و الجنس بدلالة صحّة الاستثناء و هذا جواب القسم و المعنى إنّه لفي نقصان و خسارة لأنّه ينقص عمره في كلّ يوم و هو رأس ماله فإذا ذهب رأس ماله و لم يكتسب به الطاعة يكون في غاية الخسران إذ لا خسران أعظم من ترك الطاعة و استحقاق العقاب الدائم و التنكير للتفخيم أي في خسران عظيم لا يعلم كنهه.

[إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا] أي المصدّقين بتوحيد اللّه [وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ العاملين بطاعة اللّه و المكتسبين من الخيرات الباقية فأولئك ربحوا و لم يخسروا حيث باعوا

ص: 220

الفاني الخسيس و اشتروا الباقي النفيس و استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرابحات، فيا لها من صفقة رابحة فغير المستثنى خاسر إمّا بالخلود إن كان كافرا و إمّا بالدخول في النار إن مات عاصيا و لم يغفر له و إمّا بفوات الدرجات العالية إن غفر له.

[وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ أي وصّى بعضهم بعضا باتّباع الحق و اجتناب الباطل و قيل: المراد بالحقّ القرآن و قيل: هو أن يقولوا عند الموت المخلّفين: «لا تموتنّ إلّا و أنتم مسلمون».

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام قال: «العصر» عصر خروج القائم «إنّ الإنسان لفي خسر» يعني أعداؤنا «إلّا الّذين آمنوا» يعني بآياتنا «و عملوا الصالحات» يعني بمواساة الإخوان «و تواصوا بالحقّ» يعني الإمامة «و تواصوا بالصبر» يعني بالعترة.

القمّيّ عن الصادق عليه السّلام قال: استثنى اللّه أهل صفوته من خلقه حيث قال:

«إنّ الإنسان لفي خسر إلّا الّذين آمنوا» يعني آمنوا بولاية عليّ عليه السّلام «و تواصوا بالحقّ» يعني ذرّيّاتهم و من خلّفوا بالولاية و تواصوا بها و صبروا عليها.

[وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ] أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على تحمّل المشاقّ في طاعة اللّه و بالصبر عن معاصي اللّه.

و قيل: «إنّ الإنسان» في الآية الكافر خاصّة و هو أبو جهل و الوليد بن المغيرة و إذا كان كذلك فالآية أيضا تشمل كلّ كافر. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 221

سورة الهمزة

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها في فريضة من فرائضه نفت عنه الفقر و جلبت عليه الرزق و تدفع عنه ميتة السوء.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

[وَيْلٌ مبتدء و ساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنّه دعاء عليهم بالهلكة [لِكُلِ مغتاب عيّاب نمّام مفرّق بين الأحباب بالنميمة، و الهمزة الّذي يطعن في الوجه بالعيب و اللمزة الطعّان في الغيب و قيل: الهمزة المغتاب و اللمزة الطعّان عن سعيد بن جبير و قتادة. و قيل بالعكس و بناء فعلة يدلّ على الاعتياد، و لا يقال ضحكة و لعنة إلّا للمكثر المتعوّد، و في أدب الكاتب لابن قتيبة: فعلة بسكون العين من صفات المفعول و فعلة بفتح العين من صفات الفاعل، يقال: رجل هزأة بسكون الزاي للّذي يهزء به و هزأة بفتح الزاي لمن يهزء بالناس.

و نزولها في الأخنس بن شريق أو في الوليد بن المغيرة فإنّ كلّا منهما كان يغتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأصحّ العموم لقوله تعالى: «لكلّ» و لم يقل: للهمزة و اللمزة، و في الحديث: المؤمن كيّس فطن حذر وقّاف متثبّت لا يعجل عالم ورع، و المنافق همزة لمزة حطمة كحاطب ليل لا يدري من أين يكتسب و فيم أنفق.

ص: 222

[الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ بدل من «كلّ» وصفه بجمع المال لأنّه جرى مجرى السبب للهمزة و اللمزة من حيث إنّه اعجب بنفسه ممّا جمع من المال و ظنّ أنّ أنّ كثرة المال سبب لعزّة المرء فلذا استنقص غيره. و تنكير «مالا» للتفخيم و التكثير الموافق لقوله: «و عدّده» أي أحصاه.

و قيل: معناه جعله عدّة له من نوائب الدهر فيكون من العدّة لا من العدد.

[يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظنّ أنّ ماله الّذي جمعه يخلده في الدنيا و يمنعه من الموت فأخلده بمعنى يخلده و قوله: «يحسب» يدلّ على هذا المعنى المستقبل في أخلده و إنّما ظنّ ذلك مع أنّ الموت معلوم عند جميع الناس لأنّه يعمل عمل من يحسب له الخلود من تشييد البنيان و إيثاقه بالصخر و الشيد و جري الأنهار و غرس الأشجار فالحسبان ليس بحقيقيّ بل محمول على التمثيل أو المعنى يحسب أنّ ماله يوصله إلى مقام الخلد.

[كَلَّا] ردع و منع له عن ذلك الحسبان الباطل أو ردع له عن الهمز و اللمز [لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ] جواب قسم مقدّر أي و اللّه ليطرحنّ ذلك الّذي يظنّ هذا الهمّاز اللمّاز، و يؤيّده قراءة من قرء «لينبذانّ» على التثنية، في النار الّتي من شأنها أن يحطم و يكسر كلّ ما يلقي فيها كما أنّه كان من شأنه كسر أعراض الناس وفاقا لأعمالهم.

[وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ] تهويل لأمرها ببيان أنّها ليست من الأمور الّتي تنالها عقول الخلق [نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ] أي هي نار أوقدتها يد القدرة و إضافة النار إليه تعالى لتفخيمها و الدلالة على أنّها ليست كسائر النيران. في الحديث: أوقد عليها ألف سنة حتّى احمرّت ثمّ ألف حتّى ابيضّت ثمّ ألف سنة حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة. قال عليّ عليه السّلام: عجبا ممّن يعصي اللّه على وجه الأرض و النار تسعر من تحته.

[الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ] أي تعلو أوساط القلوب و تغشاها فإنّ الفؤاد وسط القلب و متّصل بالروح يعني إنّ تلك النار تحطم العظام و تأكل اللحوم فيدخل في أجواف أهل الشهوات و المعاصي و تصل إلى صدورهم و تستولي على أفئدتهم إلّا أنّها

ص: 223

لا تحرقها بالكلّيّة إذ لو احترقت لماتت أصحابها ثمّ إنّ اللّه يعيد لحومهم و عظامهم مرّة اخرى و تخصيص الفؤاد بالذكر لما أنّه ألطف ما في الجسد و أشدّ تألّما بأدنى أذى يمسّه و لأنّه محلّ العقائد الفاسدة و النيّات الخبيثة و هي خزانة الجسد و أستر من كلّ عضو فإذا كانت النار استولت عليه فبأن تستولي على سائر الجسد أولى.

[إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ] من أوصدت الباب و آصدته أي أطبقته أي إنّ تلك النار مطبقة أبوابها عليهم تأكيدا ليأسهم من الخروج و تيقّنهم بحبس الأبد.

[فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] أي حالكونهم موثوقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر الّتي تقطر فيها اللصوص و أوتاد لشدّهم بها تفتح عليهم باب و لا يدخل لهم روح قال الكلبيّ:

«في عمد» مثل السواري ممدودة مطوّلة مربوطين بها كالشطار خشبة فيها خروق يدخل فيها أرجل المحابيس.

قال الطبرسيّ في المجمع: روى العيّاشي بإسناده عن محمّد بن النعمان الأحول عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إن الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا و نحن و أنتم سواء قال:

فيأنف لهم الربّ فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه ثمّ يقول للنبيّين:

اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه، ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء اللّه، و يقول اللّه: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون- أي أهل التوحيد- كما يخرج الفراش قال: ثمّ قال أبو جعفر: أطبقت على الكفّار و كان و اللّه الخلود للكفّار. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 224

سورة الفيل

اشارة

* (مكية)* في حديث ابيّ: من قرأها عافاه اللّه أيّام حياته من المسخ و الخسف.

و عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأها في الفريضة شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

الرؤية علميّة لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ولد عام الفيل و لم يرهم و الهمزة للتقرير و المراد بأصحاب الفيل أبرهة و قومه، و بالفيل هو الفيل الأعظم و كنيته أبو العبّاس و نسبوا إليه لأنّه كان مقدّمهم، و المعنى ألم تعلم علما متآخما للمشاهدة و العيان باستماع الأخبار المتواترة بوقوع هذا الأمر العجيب؟

و كان وقوع القصّة عام مولد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نصف المحرّم و ولد صلّى اللّه عليه و آله في شهر ربيع الأوّل فبين الفيل و مولده الشريف خمس و خمسون أو ستّون ليلة و هي سنة ستة آلاف و مائة و ثلاث و ستّين من هبوط آدم عليه السّلام على حكم التواريخ اليونانيّة المعتمدة عند المورّخين، و بين قصّة الفيل و الهجرة الشريفة النبوية إلى المدينة ثلاث و خمسون سنة، و المراد من بيان الآية تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّه سيجزي من ظلمه كما جزى من قصد الكعبة.

و مجمل القصّة أنّ ملك حمير و هو ذو النواس اليهوديّ و كان متصلّبا في دينه

ص: 225

و هو صاحب الأخدود لمّا أحرق المؤمنين بنار الأخدود هرب رجل من المؤمنين إلى ملك الحبشة و هو يومئذ أصحمة بن نجر النجاشيّ و هو الّذي أسلم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبر الرجل أصحمة ما فعله ذو النواس اليهوديّ فقصد ملك الحبشة و هو أصحمة بن نجر النجاشيّ على قتال ذي نواس و كان النجاشيّ على دين النصرانيّة فبعث أصحمة سبعين ألفا من الحبشة إلى اليمن و أمّر عليهم أرياطا و معه في جنده أبرهة بن الصباح الأثرم (و معنى «أبرهة» بلسان الحبشة الأبيض الوجه) فركبوا البحر حتّى نزلوا ساحلا ممّا يلي أرض اليمن و هزم أرياط ذا نواس و قتل ذو نواس في المعركة أو ألقى نفسه في البحر و هلك و استقرّ أمر أرياط في أرض اليمن زمانا و أقام فيها سنين في سلطانه.

ثمّ نازعه أبرهة في أمر الحبشة و كان من أمراء الجند فتفرّقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط و فرقة مع أبرهة فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر فلمّا تقارب الفرقتان للقتال أرسل أبرهة إلى أرياط أنّك لم تعزّي الحبشة بعضها ببعض حتّى تفنيها؟ فابرز إليّ و أبرز لك فأيّنا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج فخرج إليه أبرهة و كنيته «أبو مكسوم» و كان رجلا قصير الجثمان لحيما ذا دين في النصرانيّة و خرج إليه أرياط و كان رجلا طويلا عظيما و في يده حربة و خلف أبرهة غلام يقال له «عتودة» يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة يضرب أبرهة يريد يافوخه (1) فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرحت حاجبه و أنفه و عينه و شفته فبذلك سمّي أبرهة الأثرم و حمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله فاتّصل جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع و كان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشيّ فلمّا بلغه ذلك غضب غضبا شديدا فقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري ثمّ حلف لا يدع أبرهة حتّى يطأ بلاده و يحزّ ناصيته فلمّا بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه و ملأ جرابا ترابا من تراب اليمن ثمّ بعث إلى النجاشيّ مع هدايا جليلة و كتب إليه أيّها الملك إنّمال.

ص: 226


1- الموضع الذي يتحرك من مقدم رأس الطفل.

كان أرياط عبدك و أنا عبدك فاختلفنا في أمرك و كلّ في طاعتك إلّا أنّي كنت أقوى على أمر الحبشة و أضبط و أسوس منه و قد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك و بعثت إليك بجراب من تراب أرضي ليضعه الملك تحت قدميه فيبرّ قسمه فيّ فلمّا وصل كتاب أبرهة إلى النجاشيّ لان و سكنت فورته و رضي عنه و كتب إليه أن اثبت على أرض اليمن حتّى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن.

ثمّ إنّه رأى أنّ الناس يتجهّزون أيّام الموسم إلى مكّة لحجّ بيت اللّه الحرام فتحرّك منه عرق النصرانيّة و الحسد فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملوّن و رصّعها بالجواهر النفيسة و كان ينقل الحجارة الملوّنة النفيسة من قصر بلقيس صاحبة سليمان و جعل فيها صلبانا من الذهب و الفضّة و منابر من عاج و الآبنوس و سمّاها القلنس كحمير لارتفاع بنائها و علوّها و منها القلانيس لأنّها في أعلى الرأس.

و كتب أبرهة إلى النجاشيّ أيّها الملك إنّي بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك قبلك و لست أرضى حتّى أصرف إليها حاجّ العرب فلمّا تحدّث العرب بكتاب أبرهة و بقصده غضب رجل من بني كنانة حتّى أتى إلى القلنس و كان حينئذ رئيس العرب في مكّة عبد المطّلب و كان ذلك الكنانيّ اسمه زهير بن بدر أتى إلى القلنس و أقام فيه يوهم أنّه يعتكف فيه و يعبد فأقام فيه أيّاما فلمّا خلا فيها ليلة أحدث فيها و انهزم فانتشر هذا الخبر في الآفاق أنّ رجلا من أهل مكّة حدث في كنيسة الملك فتأثّر لذلك الأمر أبرهة و حلف أن يتوجّة إلى مكّة و يخرب البيت حتّى لا يحجّه أحد بعدها أبدا و يهدمها، فخرج بالحبشة و اغتمّ النجاشيّ لفعل الكنانيّ غاية و عزّاه أبرهة و قال: لا تحزن ننسف أبنيتها و نبيح دماءها و أموالها فخرج أبرهة بجند كثير و جمّ غفير و معه فيل أبيض اللون و هو فيل النجاشيّ بعثه إليه بسؤاله و كان فيلا لم ير مثله جسما و عظما و كان ذلك الوقت يقاتلون بالفيل كما أنّه قيل: كان في مربط ملك الصين ألف فيل.

و كان دليل أبرهة في الطريق كبير ثقيف رجل يقال له «أبو رغال» مات في الطريق و رجم العرب قبره و صار قبره في الطريق كالجبل من كثرة رمي الحجر على قبره

ص: 227

و في ذلك يقول جرير في الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال

و كان أبو رغال عشّارا جائرا.

و بالجملة فلمّا وصل أبرهة بجيشه إلى مكّة نزل خارج الحرم و بعث رجلا من الحبشة يقال له: «الأسود» فساق ما كان من أموال أهل تهامة و نهبها و كان من الإبل المنهوبة مائتان لعبد المطّلب و بعث أبرهة حياطة الضميريّ و قال له: سل عن سيّد هذا البلد و شريفهم و ائتوني به فأتاه عبد المطّلب فلمّا أتاه عبد المطّلب و كان أبرهة جالسا على سرير و لم يرد أن يجلس عبد المطّلب معه على سريره كراهة أن تراه الحبشة أنّ أحدا يجلس معه على سريره نزل أبرهة عن سريره و جلس على الأرض و جلس عبد المطّلب معه و قال أبرهة: سل حاجتك إن كان لك حاجة قال عبد المطّلب:

ردّ إبلي فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لم ما سألتني حتّى أعفو عن هدم البيت و إنّه لبيت عزّكم و شرفكم و ما هذه الأباعر و ما خطرها؟ فقال عبد المطّلب: أنا ربّ الإبل و للبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع و كسرى فغضب أبرهة و قال: ردّوا عليه بعرانه لينظر من يحفظ البيت منّي و قيل: ما استردّ عبد المطّلب إبله.

و أخذ أهل مكّة أموالهم و أمتعتهم و استنجدوا الجبال و خلت مكّة منهم خوفا من معرّة الجيش.

و بالجملة فجهّز أبرهة جيشه و قدّم الفيل الأعظم فكان كلّما وجّهوه إلى الحرم برك و لم يبرح كما بركت القصواء في الحديبية حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله: حبسها حابس الفيل. و معنى بروك الفيل سقوطه على الأرض لمّا جاءه الإلهام من اللّه فلزم موضعه و لم يتحرّك.

و قيل: إنّ نفيل بن حبيب الخثعميّ أخذ باذن ذلك الفيل الأعظم و كان اسمه محمود فقال نفيل: ابرك محمود و ارجع راشدا من حيث جئت فإنّك في بلد اللّه الحرام، و نفيل هذا هو قاتل أبرهة بأرض خثعم و هو جبل و أهله خثعميّون.

و أخذ عبد المطّلب بحلقة البيت و دعا و كلّما وجّهوا الفيل إلى مكّة يربض

ص: 228

فضربوه فلم يتحرّك و إذا وجّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول فأمر أبرهة أن يساق الفيل فثبت على أمره فبينما عبد المطّلب يدعو التفت فإذا بطير فقال:

إنّها لطير غريبة لا نجديّة و لا تهاميّة و إنّ لها لشأنا، سوداء صفر المناقير خضر الأعناق و عن عائشة كانت تلك الطير الأبابيل أشباه الخطاطيف و الوطاويط و لها خراطيم الطير و أكفّ الكلاب و أنيابها و قيل: هي عنقاء مغرب، و قيل: إنّها طير بين السماء، و قيل: من طير السماء، جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم، مع كلّ طائر حجر في منقاره و حجران في رجليه أكبر من العدسة و أصغر من الحمّصة و عن ابن عبّاس أنّه رأى من تلك الأحجار عند امّ هانئ نحو قفيز مخطّط بحمرة كالجذع. ثمّ أرسلت ريح فزادتها شدّة فكان الحجر تقع على رأس كلّ واحد من الجيش فيخرج من أسفله و ينفذ من الفيل و من بيضهم فيحرق الأرض و على كلّ حجر اسم من يقع عليه، قال عكرمة: كلّ من أصابته الحجارة جدرته ففرّوا و هلكوا في كلّ طريق و منهل و لم تصب منهم أحدا إلّا هلك.

ثمّ لمّا استبطأ عبد المطّلب مجي ء القوم إلى مكّة ركب لينظر ما الخبر فوجدهم هلك منهم و فرّ الباقون و قد بقي أثاثهم و أموالهم فاحتمل ما شاء اللّه من صفراء و بيضاء ثمّ أعلم أهل مكّة بهلاك القوم فخرجوا و انتهبوا.

و بالجملة لم يبق منهم أحد و قيل: أخذ أبرهة داء أسقط أنامله و أعضاءه و وصل إلى صنعاء و هو مثل فرخ و ما مات حتّى انصدع صدره فملك اليمن ابنه مكسوم و انفلت وزير أبرهة و طائر يتخلّف فوقه حتّى بلغ النجاشيّ فقصّ عليه القصّة فلمّا أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميّتا بين يديه انتهى.

فلو قيل: إنّا شاهدنا و تحقّق عندنا أنّ بعض الناس فعلوا مثل فعل أبرهة و ما وقع عليهم سوء كما وقع لأبرهة مثل الحجّاج و مثل القرامطة.

فالجواب أنّه لم تجر عادة اللّه على من يعاديه أن يأخذه سريعا بل عادته أن يمهله لكن لا يهمله، على أنّ مثل هذه الأمور خوارق العادات كان يقع في أيّام الأمم السالفة، و أيضا إنّ الاستيصال و ما يقرب منه مرفوع عن هذه الامّة و إن كان اشتدّ غضبه

ص: 229

عليهم كما قيل في حقّ الحجّاج: إنّ عليه نصف عذاب العالم.

و قصّة القرامطة مجملها أنّ أبا سعيد كبير القرامطة (و هم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين و مائتين يزعمون أن لا غسل من جنابة و حلّ الخمر و أنّه لا صوم في السنة إلّا يومي النيروز و المهرجان و يزيدون في أذانهم و أنّ محمّد بن الحنفيّة رسول اللّه و أنّ الحجّ و العمرة إلى بيت المقدس و افتتن بهم جماعة من الجهّال و أهل البراري و قويت شوكتهم حتّى انقطع الحجّ من بغداد بسببه و سبب ولده أبي طاهر فإنّ ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة و سمّاها دار الهجرة) كثر فساده و استيلاؤه على المسلمين و قتله إيّاهم و كثرت أتباعه و ذهب إليه جيش الخليفة المقتدر باللّه السادس عشر من خلفاء بني العبّاس غير مرّة و هو يهزمهم.

ثمّ إنّ المقتدر سيّر ركب الحاجّ إلى مكّة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجّاج بالمسجد الحرام و في جوف الكعبة قتلا ذريعا و ألقى القتلى في بئر زمزم و ضرب الحجر بدبّوس (1) فكسره ثمّ اقتلعه و أخذه معه و قلع باب الكعبة و نزع كسوتها و سقفها و قسّمه بين أصحابه و هدم قبّة زمزم و ارتحل عن مكّة بعد أن أقام فيها أحد عشر يوما و معه الحجر الأسود و بقي عند القرامطة أكثر من عشرين سنة و كان الناس يضعون أيديهم محلّه للتبرّك و دفع لهم خمسون ألف دينار فأبوا حتّى أعيد في موضعه في خلافة المطيع لأمر اللّه و هو الرابع و العشرون من خلفاء بني العبّاس بعد اشترائه منهم.

و بعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة و أربعمائة قام رجل من الملاحدة و ضرب الحجر ثلاث ضربات بدبّوس فتشقّق وجه الحجر من تلك الضربات و تساقطت منه شظيّات (2) مثل الأظفار و خرج بكسره فتات (3) أسمر يضرب إلى الصفرة محبّبا مثل حبّ الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات و عجنوه بالمسك و حثوه في تلك ت.

ص: 230


1- عصا من خشب او جديد في رأسه شي ء مثل الكرة.
2- فلقة العود و العظم و نحوهما.
3- الكسارة و السقاطة من الشي ء المفتوت.

الشقوق و طلوه من ذلك و لعنة اللّه على الظالمين.

[أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ الهمزة للتقرير و ضلّ كيده إذا جعله ضائعا و ضلّ الماء في اللبن إذا غاب أي قد جعل سبحانه مكرهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن أهلكهم و جزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرب كنيستهم لأنّهم بعد إهلاك صاحب الفيل و قومه عزّت قريش و هابهم الناس كلّهم و مزّقت الحبشة كلّ ممزّق و خرب تلك الكنيسة الّتي بناها أبرهة فلم يعمرها أحد و كثرت حولها السباع و الوحوش و مردة الجنّ و استمرّت كذلك إلى زمن السفّاح العبّاسي أوّل خلفاء بني العبّاس فذكر له أمرها فبعث إليها عامله الّذي باليمن فخربها و أخذ خشبها المرصّع بالذهب و الآلات الّتي تساوي قناطير من الذهب و عفا رسمها.

[وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ و أبابيل أي جماعات متتابعة من الطير لأنّها كانت أفواجا فوجا بعد فوج أو معنى أبابيل من هاهنا و هاهنا جمع إبالة و هي الحزمة الكبيرة من الحطب شبّهت بها الجماعة من الطير في نظامها فأبابيل صفة للطير.

[تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ صفة اخرى لطيرا أي ترمي الطير عليهم و تقذفهم تلك الطير بأحجار صلبة شديدة ليست من جنس الحجارة و قد مرّ تفسير السجّيل في سورة هود، و قيل: معناه طين متحجّر معرّب «سنگ گل» من هذين الجنسين و هما «سنج» الّذي هو الحجر و «جيل» الّذي هو الطين أو اشتقاقه من الإسجال و هو الإرسال فالمعنى من الحجارة المرسلة.

[فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكّال و قد أكله الدود و سمّي ورق الزرع بالعصف لأنّ شأنه أن يقطع فتعصفه الرياح و تذهب به إلى هنا و هنا شبّههم في فنائهم به أو المعنى كورق ذرع قد أكل حبّه و بقي تبنه في بقاء أجسادهم و ذهاب أرواحهم أو كتبن و ورق زرع أكلته الدوابّ و ألقته روثا فيبس و تفرّقت أجزاؤه شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق الروث و فيه تشويها لحالهم و هو أنّه لم يكتف بجعلهم أهون شي ء في الزرع و هو التبن حتّى جعلهم رجيعا و عبّر عن الرجيع بالمأكول

ص: 231

مراعاة لحسن الأدب في الذكر استهجانا لذكر الروث كما كنّى بالأكل في قوله (1):

«كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» عمّا يلزم الأكل من البول و التغوّط، و من كان اعتماده بقوّته و سطوته أهلكه اللّه بأضعف خلقه فإنّهم لمّا كان اعتمادهم على الفيل من حيث إنّهم زعموا أنّه أقوى خلق اللّه أهلكهم بأضعف خلق من خلقه و هو الطير الّذي حجم كلّ واحد منها لا يعادل عشرة مثاقيل شبيهة بالزرزور أو هي الزرزور يقال له بالفارسيّة «سار» و سمّي زرزور لتزرزره.

و ما به قتلوا من الحجارة أصغر من الحمّصة و أكبر من العدسة و كان هذا الأمر من أعظم المعجزات أظهره اللّه إمّا على طريق الإرهاص (2) لنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فإنّه صلّى اللّه عليه و آله ولد في ذلك العام.

و قال قوم من المعتزلة: إنّه كان معجزة لنبيّ من الأنبياء و ربّما قالوا: هو خالد بن سنان لكن لا نحتاج إلى هذه التكلّفات بل يكون هذا الأمر تشريفا و تعظيما و حفظا لبيته تعالى على أنّه حجّة لائحة لظهور الحقّ و إبطال لأقوال الملاحدة و و الفلاسفة المنكرين للآيات الخارقة فإنّ هذا الأمر لا يمكن أن يستند إلى الطبع كما نصبوا الصيحة و الريح العقيم و غيرها ممّا أهلك اللّه تعالى به الأمم الماضية إلى ذلك إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير و معها أحجار معدّة لهلاك قوم معيّنين قاصدة إيّاهم دون غيرهم فترميهم بها فتهلكهم و لا يتعدّى ذلك الأمر إلى غيرهم و لو واحدا.

و ليس لأحد أن ينكر هذا الأمر لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قرء هذه السورة على أهل مكّة مع عنادهم و إنكارهم لم ينكروا هذا الأمر بل أقرّوا و كانوا قريبي العهد بأمر الفيل فلو لم يكن لذلك الأمر حقيقة لأنكروه و جحدوه بل أكثروا في هذا الأمر في أشعارهم و ناديهم فمن ذلك ما قاله ابن أبي الصلت:

إنّ آيات ربّنا بيّنات ما يماري فيهنّ إلّا الكفور ي.

ص: 232


1- سورة المائدة: 78.
2- هو ظهور امر من اعلام النبوة قبل بعث النبي.

حبس الفيل بالمغمّس حتّى ظلّ يحبو كأنّه معقور

و قال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم:

أنت الجليل ربّنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمّس

من بعد ما همّ بشي ء ملبس حبسته في هيئة المكركس

أي المنكّس. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 233

سورة لإيلاف

اشارة

* (مكية)* في حديث ابيّ: من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالبيت و اعتكف.

و روى العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى و ألم نشرح و ألم تر كيف و لإيلاف.

و عن ابن عبّاس عن أحدهما عليهما السّلام قال: ألم تر كيف فعل و لإيلاف سورة واحدة.

ص: 234

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة، و اللام متعلّق بقوله: «فليعبدوا» و ذكر الفاء لما في الكلام من معنى الشرط و تقدير الكلام أنّ نعم اللّه عليهم غير محصورة فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لتألّف قريش بمكّة و تمكّنهم المقام بها أو المعنى لتألّف قريش فإنّهم هابوا من أصحاب الفيل لمّا قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكّة و يألفوا و يجتمعوا بها و تولّد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا.

[إِيلافِهِمْ بدل من الأوّل و الإيلاف الأوّل بمعنى الإلف اللازم لا المتعدّي، لأن يألفوا هاتين الرحلتين و يجمعوا بينهما لتجاراتهم و معاشهم و ذلك لأنّ الناس إذا تسامعوا بذلك الإهلاك ثبت لهم عزّ و شرف و تهيّبوا لهم زيادة فضل على غيرهم فلا يجترئ عليهم أحد و ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم.

و كان لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن و في الصيف إلى الشام فيتمارون و يتّجرون آمنين و ما كان بعد ذلك يتعرّض لهم أحد من العرب و ذئابها و الناس بين متخطّف و منهوب و لو لا هاتان الرحلتان لم يمكنهم المقام بها لأنّها واد غير ذي زرع و لم يكونوا أهل زرع و لا ضرع و كان إذا أصاب واحدا منهم مخمصة خرج و عياله إلى موضع و ضربوا على أنفسهم خباء حتّى يموتوا و كانوا على ذلك إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف عليه السّلام و كان سيّد قومه فقام خطيبا فقال: إنّكم أحدثتم

ص: 235

حدثا تقلّون فيه و تذلّون و أنتم أهل حرم اللّه و أشرف ولد آدم، قالوا: نحن لك تبع فليس عليك منّا خلاف فأمرنا بأمرك، فجمع كلّ بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن و في الصيف إلى الشام للتكسّب فما ربح الغنيّ يكون ليقسّم بينه و بين فقرائهم فاستداموا على هذا الأمر حتّى كان فقيرهم كغنيّهم فجاء الإسلام و هم على ذلك.

و قريش ولد النضر بن كنانة و من لم يلده فليس بقريش و اختلفت في تسميتهم بهذا الاسم قيل: سمّوا قريشا لأنّهم لم يكونوا أهل زرع و ضرع و كانوا يكتسبون. و القرش الكسب، و قال ابن عبّاس: سمّوا «قريش» بالتصغير للتعظيم من القرش و هو دابّة بحريّة عظيمة تعبث بالسفن و تقلبها و تكسرها و لا تطاق إلّا بالنار و لا يقدر أحد عليها فشبّهوا بها لأنّها تأكل و لا تؤكل و تعلو و لا تعلى و وصفوا بالغلبة و عدم المغلوبيّة قال شاعر هم:

و قريش هي الّتي تسكن البحربها سمّيت قريش قريشا

تأكل الغثّ و السمين و لا تترك فيه لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حتّى قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا (1)

و لهم آخر الزمان نبيّ يكثر القتل فيهم و الخموشا (2)

و قيل: سمّوا قريشا لتجمّعهم من هاهنا و هاهنا و ضمّ بعضهم إلى بعض و تجمّعهم إلى الحرم أو لأنّ النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما فقالوا: تقرّش نضر، أو سمّيت بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر، و كان ابن يخلد صاحب عيرهم فكانوا يقولون: قدّمت عير قريش و خرجت عير قريش انتهى.

[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك الرحلتين اللّتين تمكّنوا منهما أو بسبب دعوة إبراهيم يجبى إليه ثمرات كلّ شي ء [مِنْ جُوعٍ شديد كانوا فيه قبلهما إلى أن جمعهم على الغنى عمرو العلى (3) على الرحلتين كما ذكر سابقام.

ص: 236


1- اكلا سريعا.
2- الخدش و اللطم.
3- لقب هاشم.

[وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم و هو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطّف في بلدهم من ذئاب العرب حيث هابوهم و فضّل على العرب بأمور.

قالت امّ هانئ بنت أبي طالب: إنّ رسول اللّه ذكر فضل قريش بسبع خصال:

النبوّة فيهم، و الخلافة، و الحجابة، و السقاية، و نصروا على الفيل، و السبقة في عبادة اللّه، و نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم «لإيلاف» (و تسمية لإيلاف سورة يردّ قول من قال و هم جماعة: بأنّ ألم تر كيف فعل و لإيلاف سورة واحدة) و بالجملة فهذه الفضائل ثابتة لقريش بشرط إطاعة اللّه و رسوله قال شاعرهم:

يا ذا الّذي طلب السماحة و الندى هلّا مررت بآل عبد مناف

لو أن مررت بهم تريد قراهم منعوك من جهد و من إيجاف

الرائشين و ليس يوجد رائش و القائلين: هلمّ للأضياف

و الخالطين غنيّهم بفقيرهم حتّى يصير فقيرهم كالكافي

و القائلين بكلّ وعد صادق و رجال مكّة مستنين عجاف

سفرين سنّهما له و لقومه:سفر الشتاء و رحلة الأصياف

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 237

سورة أ رأيت

اشارة

* (مكية)* و قيل: بعضها مكّية و بعضها مدنيّة، و تسمّى سورة الماعون.

من قرأها غفر اللّه له إن كان للزكاة مؤدّيا.

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من قرأها في فرائضه و نوافله قبل اللّه صلاته و صيامه و لم يحاسبه بما كان منه في الدنيا.

ص: 238

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

قال الكلبيّ: نزلت في العاص بن وائل السهميّ و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة و قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كلّ اسبوع جزورين فأتاه يتيم و سأله شيئا فقرعه بعصاه و قيل: المراد أبو جهل كان وصيّا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا فآيس الصبيّ فقال له أكابر قريش:

قل لمحمّد: يشفع لك و كان غرضهم الاستهزاء به و هو صلّى اللّه عليه و آله ما كان يردّ محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل و قام أبو جهل و بذل المال لليتيم فعيّره قريش و قالوا:

أ صبوت؟ فقال: لا و اللّه ما صبوت و لكن رأيت عن يمينه و عن يساره حربة خفت إن لم اجبه يطعنها فيّ.

قوله تعالى: [أَ رَأَيْتَ أي هل عرفت يا محمّد [الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فالّذي للعهد أو للجنس فيكون عامّا لكلّ من كان مكذّبا بالدين و من شأنه أذيّة الضعيف و دفعه بعنف [وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحثّ أهله و غيرهم على طعام مسكين و محتاج و يمنع المستحقّ، و في العدول من الإطعام إلى الطعام و إضافته إلى المسكين دلالة على أنّ للمساكين شركة و حقّا في مال الأغنياء.

[فَوَيْلٌ الفاء لربط ما بعدها بشرط محذوف كأنّه قيل: إذا كان عدم المبالاة باليتيم من موجبات الذمّ و التوبيخ، فويل و شدّة العذاب [لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ

ص: 239

عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ السهو خطأ عن غفلة و ذلك ضربان: أحدهما أن لا يكون من الإنسان مولّداته و دواعيه كمجنون سبّ إنسانا مثلا و الثاني أن يكون منه مولّداته كمن شرب خمرا ثمّ ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله فالأوّل معفوّ عنه و الثاني مأخوذ به، و من القسم الثاني ما ذمّ اللّه في الآية و المعنى في قوله: «عن صلاتهم» سهو ترك لها و قلّة التفات إليها و عدم المبالاة بها و ذلك فعل الفسقة من المؤمنين.

قال أنس بن مالك: الحمد للّه على أن لم يقل «في صلاتهم» و ذلك أنّه لو قال:

«فِي صَلاتِهِمْ» لكان المعنى أنّ السهو يعتريهم و هم فيها إمّا بوسوسة الشيطان أو بحديث نفس و ذلك لا يكاد يخلو منه أحد و التخلّص منه عسير.

قيل: و لمّا نزلت الآية قال صلّى اللّه عليه و آله: هذه خير لكم من أن يعطى كلّ واحد منكم مثل جميع الدنيا.

و قيل في معنى «عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» إنّ المعنى و المراد هم الّذين يؤخّرون الصلاة عن أوقاتها عن ابن عبّاس و جماعة و روي ذلك مرفوعا. و قيل: المراد المنافقون الّذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا و لا يخافون على تركها عقابا فهم عنها غافلون حتّى يذهب وقتها فإذا كانوا مع من يصلّي صلّوا و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا فكان صلاتهم رياء لا إخلاصا و هو قوله: [الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ فإن صلّوها صلّوها رياء و إن فاتتهم لم يندموا و قيل: هم الّذين لا يصلّونها لوقتها و لا يتمّون ركوعها و سجودها قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هو الترك لها و التواني عنها و المضيّعين لها.

[وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ اختلف فيه قيل: هي الزكاة المفروضة عن عليّ عليه السّلام و أبي عبد اللّه، و قيل: المراد من الماعون ما يتعاروه الناس بينهم من الدلو و الفأس و القدر و ما لا يمنع كالملح و الماء و أمثاله. و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام هو القرض تقرضه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة، قال: فقلت له: إنّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا ليس حينئذ جناح أن تمنعهم

ص: 240

إذا كانوا كذلك و قيل: المعروف كلّه. و الماعون من المعن و هو الشي ء القليل و سمّيت الزكاة ماعونا لأنّه يؤخذ من المال ربع العشر و هو قليل من كثير.

و الفرق بين المرائي و المنافق أنّ المنافق يبطن الكفر و يظهر الإيمان و المرائي يظهر زيادة الخشوع و آثار الصلاح ليعتقد من يراه أنّه من أهل الصلاح و حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بإظهار الدين.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 241

سورة الكوثر

اشارة

* (مكية)* من قرأها سقاه اللّه من أنهار الجنّة و اعطي من الأجر بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في يوم العيد و يقرّبون أهل الكتاب و المشركين.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: و من قرأها في فرائضه و نوافله سقي يوم القيامة من الكوثر.

ص: 242

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

السورة قيل: مكّيّة و قيل: مدنيّة.

نزلت السورة في العاص بن وائل السهميّ و ذلك أنّه رأى رسول اللّه يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدّثا و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلمّا دخل العاص قالوا: من الّذي كنت تتحدّت معه؟ قال ذلك الأبتر و كان قد توفّي قبل ذلك عبد اللّه بن رسول اللّه و هو من خديجة و كانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر فسمّته قريش عند موت ابنه صلّى اللّه عليه و آله أبتر و مبتور عن ابن عبّاس.

[إِنَّا] إنّ جار مجرى القسم في تأكيد الجملة [أَعْطَيْناكَ بصيغة الماضي مع أنّ العطايا الاخرويّة و أكثر ما يكون في الدنيا لم يحصل بعد تحقيقا لوقوعها [الْكَوْثَرَ] أي الخير الكثير من العلم و العمل و فوعل من الكثرة كنوفل من النفل و جوهر من الجهر. قيل لأعرابيّة آب ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، أي بالعدد الكثير من الخير.

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قرأها فقال: أ تدرون ما الكوثر إنّه نهر في الجنّة وعدنيه ربّي، فيه خير كثير أحلى من العسل و أشدّ بياضا من اللبن و أبرد من الثلج و ألين من الزبد حافتاه الزبرجد و أوانيه الفضّة عدد نجوم السماء لا يظمأ من شرب منه أبدا أوّل وارد به فقراء المهاجرين الدنس الثياب الشعث الرءوس الّذين لا يزوّجون المنعّمات و لا تفتح لهم أبواب السدد، و يموت أحدهم و حاجته تبتلج في صدورهم، لو أقسم على اللّه لأبرّه. و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: الكوثر نهر في الجنّة أعطاه نبيّه عوضا من ابنه. و قيل: الكوثر هو القرآن. و قيل: هو كثرة النسل و الذرّيّة و قد ظهرت الكثرة في ولد فاطمة عليها السّلام و لا تحصى عددهم و اتّصل إلى يوم القيامة. و

ص: 243

قيل: هو الشفاعة عن الصادق عليه السّلام. و اللفظ يحتمل للكلّ فإنّه قد أعطاه اللّه الخير الكثير.

[فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ] أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة أي صلّ صلاة العيد لأنّها عقّبها بالنحر أي و انحر هديك و اضحيّتك. و قيل: معناه فصلّ لربّك صلاة الغداة المفروضة بجمع و النحر البدن بمنى، و قيل معناه صلّ لربّك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك، و تقول العرب: منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا و يستقبله، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: هو رفع يديك حذاء وجهك و روى عنه عبد اللّه سنان مثله. و عن جميل قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فصلّ لربّك و انحر؟

فقال بيده هكذا، يعني استقبل ببدنه حذاء وجهه القبلة في افتتاح الصلاة.

و روي عن مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ لجبرئيل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني اللّه بها ربّي؟ قال:

يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع و إذا سجدت فإنّه صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع فإنّ لكلّ شي ء زينة و إنّ زينة الصلاة أن ترفع يديك عند كلّ تكبيرة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

رفع الأيدي من الاستكانة، قلت: و ما الاستكانة؟ قال: ألا تقرء هذه الآية «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ».

[إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ] شنأه أي أبغضه أي مبغضك هو الأبتر لبغضه لك و البتر يستعمل في قطع الذنب، ثمّ استعمل في قطع العقب و المعنى أنّ الّذي لا عقب له و لا عاقبة و لا حسن ذكر هو الأبتر و أمّا أنت فتبقى ذرّيّتك و حسن ذكرك و آثار فضلك إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: (1) «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» و جعله صلّى اللّه عليه و آله أبا للمؤمنين فهم أعقابه إلى يوم القيامة و جعله خاتم الأنبياء و أعطاه القرآن الّذي عجزوا عن الإتيان بمثله إلى آخر الدهر على وجازة ألفاظه و منافع العمل بمعانيه. تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 244


1- سورة الانشراح: 4.

سورة الكافرين

اشارة

* (مكية و قيل: مدنية)* في حديث ابيّ: و من قرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فكأنّما قرأ ربع القرآن و تباعدت عنه مردة الشياطين و برى ء من الشرك و تعافى من الفزع الأكبر.

و عن جبير بن مطعم قال: قال لي رسول اللّه: أ تحبّ يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ هذه السور الخمس:

«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ» و «الفلق» و «الناس» و افتتح قراءتك ببسم اللّه الرحمن الرحيم. قال جبير: و كنت غير كثير المال و كنت أخرج مع من شاء اللّه أن أخرج فأكون أكبرهم همّة و أكثرهم إذا زادا حتّى أرجع من سفري ذلك.

و عن فروة بن نوفل الأشجعيّ عن أبيه أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: جئت يا رسول اللّه لنعلّمني شيئا أقوله عند منامي قال صلّى اللّه عليه و آله: إذا أخذت مضجعك فاقرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ثمّ نم على خاتمتها فإنّها براءة من الشرك.

و عن شعيب الحدّاد عن الصادق عليه السّلام قال كان أبي يقول: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ربع القرآن و كان إذا فرغ منها قال: أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده.

و عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام قال: إذا قلت: «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فقل: و لكنّي أعبد اللّه مخلصا له ديني، فإذا فرغت منها فقل: ديني الإسلام ثلاث مرّات.

ص: 245

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

النداء و الخطاب منه صلّى اللّه عليه و آله لهم بهذا الوصف مع أنّهم في محلّ عزّهم و شوكتهم إيذان بأنّه صلّى اللّه عليه و آله محروس منهم و علم من أعلام النبوّة و الألف و اللام للعهد و هم كفرة مخصوصة كالوليد بن المغيرة و أبي جهل و العاص بن وائل السهميّ و اميّة ابن خلف و الأسود بن عبد يغوث و الحارث بن قيس و نحوهم و ذلك أنّهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك تعبد آلهتنا سنة ثمّ نعبد إلهك سنة فقال:

معاذ اللّه أن أشرك باللّه غيره فقالوا: استلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك فنزل «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فعدل رسول اللّه إلى المسجد الحرام و فيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثمّ قرأ عليهم حتّى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فشرعوا يؤذونه و أصحابه قال ابن عبّاس: و فيهم نزل قوله (1): «قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ».

[لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي لا أعبد فيما يستقبل و لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منّي من عبادة آلهتكم، و «لا» لا تدخل غالبا إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أنّ «ما» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال لكنّ الطبرسيّ فسّر الآية بمعنى الحال أي لا أعبد آلهتكم الّتي تعبدونها اليوم و في هذه الحال.

[وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ] أي و لا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي، قال الطبرسيّ: المراد ما أنتم عابدون في الحال إلهي الّذي أعبده اليوم.

ص: 246


1- سورة الزمر: 64.

[وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي و ما كنت عابدا فيما سلف ما عبدتموه من الأصنام في الجاهليّة فكيف يرجى منّي في الإسلام.

[وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ] أي و ما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته و هو اللّه فليس في السورة تكرار.

و قيل: هاتان الجملتان لنفي العبادة حالا كما في الأوّلين لنفيها استقبالا كما فسّره الطبرسيّ لهذا المعنى قال الزجّاج: نفى الرسول بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال و في المستقبل و أعلمه اللّه بحال هؤلاء أنّهم لا يؤمنون و لو قلنا بالتكرار فوجهه أنّ القرآن نزل بلغة العرب و من عادتهم التكرار في الكلام إذا كان الغرض الإفهام و التأكيد كما يقول المجيب: بلى بلى و يقول الممتنع: لا لا و مثله (1) «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» قال الشاعر:

نعق الغراب ببين ليلى غدوةكم كم و كم بفراق ليلى ينعق

[لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ و الياء إسكانها و فتحها سائغان في قوله: «ولي» و ذكر في معنى الآية وجوه:

أحدها بحذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني فأقام المضاف إليه مقام المضاف.

و ثانيها أنّ المعنى لكم كفركم ولي دين التوحيد و هذا إن كان ظاهره إباحة لكنّه وعيد و تهديد و مبالغة في الزجر كقوله (2): «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ».

و ثالثها أنّ الدين الجزاء فالمعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي و حاصل المعنى أنّ دينكم الّذي هو الإشراك مقصور لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي كما تطمعون فإنّ ذلك من المحال و إنّ ديني الّذي هو التوحيد مقصور لي لأنّكم علّقتموه بالمحال الّذي هو عبادتي لآلهتكم و استلامي إيّاها.

قيل: هو منسوخ بآية السيف.

تمّت السورة

ص: 247


1- سورة ألهاكم: 3- 4.
2- سورة حم السجدة: 40.

سورة الفتح

اشارة

مدنيّة في حديث أبيّ من قرأها فكأنّما شهد مع رسول اللّه فتح مكّة. و روى كرّام الخثعميّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرء سورة الفتح في نافلة أو فريضة نصره اللّه على أعدائه و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق قد أخرجه اللّه يوم القيامة من جوف قبره فيه أمان من حرّ جهنّم و من النّار و من زفير جهنم، يسمعه بأذنيه فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة.

ص: 248

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

إذا جاءك يا محمّد إعانته تعالى و إظهاره إيّاك على أعدائك، و السورة نزلت قبل فتح مكّة كما عليه الأكثر فالإعلام بذلك قبل وقوعه من أعلام النبوّة و المراد من «الفتح» فتح مكّة و سمّي ذلك الفتح فتح الفتوح كما أنّ نفسها سمّيت امّ القرى و قيل: نزلت السورة في أيّام التشريق بمنى في حجّة الوداع و عاش صلّى اللّه عليه و آله بعده ثمانين يوما.

[وَ رَأَيْتَ النَّاسَ أبصرتهم أو علمتهم يعني العرب أو الاستغراق العرفيّ و لعلّ المراد بالأمر بالاستغفار لمن سواه و إدخاله صلّى اللّه عليه و آله في الأمر تغليب [يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أي ملّة الإسلام الّتي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها لأنّ الدين عند اللّه الإسلام [أَفْواجاً] حال من فاعل «يدخلون» أي رأيتهم يدخلون فيه جماعات كثيرة كأهل مكّة و الطائف و اليمن و هوازن و سائر قبائل العرب و كانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدا واحدا و اثنين اثنين.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض و قالوا: إذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه أحد فكانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجا من غير قتال و كانت تتابع وفود مثل بني زهرة و بني مرّة و بني كلب و بني كنانة و بني هلال من الأكناف.

قال أبو عمرو بن عبد البرّ: لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في العرب رجل كافر و دخل الكلّ في الإسلام و أمّا نصارى بني تغلب فما أسلموا في حياته صلّى اللّه عليه و آله و لكن أعطوا الجزية.

ص: 249

و في عين المعاني المراد من «الناس» في الآية أهل اليمن قال صلّى اللّه عليه و آله: الإيمان يمانيّ و الحكمة يمانيّة.

و عن جابر بن عبد اللّه أنّه بكى ذات يوم فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: دخل الناس في دين اللّه أفواجا و سيخرجون أفواجا.

[فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ هذا أمر من اللّه بأن ينزّهه عمّا لا يليق به من صفة النقص و أن يستغفره لأنّ النعمة يقتضي الشكر و القيام بحقّها و تعظيم المنعم من لوازم العبوديّة فكأنّه قال: قد حدث أمر عجيب يقتضي الشكر و الاستغفار و إن لم يكن ذنب فإنّ الاستغفار قد يكون عند ذكر المعصية و قد يكون على وجه التسبيح و الانقطاع إلى اللّه و يمكن أن يكون الأمر بالاستغفار من باب «إيّاك أعني و اسمعي» أو المراد استغفره هضما لنفسك و استغفارا لعملك و استعظاما لحقوق اللّه و تعجّبا من هذا الأمر العظيم من الغلبة على الكفّار بأن تقول: سبحان اللّه كما ورد في الأذكار «و لكلّ أعجوبة سبحان اللّه» و قد اقترن الحمد بالتسبيح في القرآن في أغلب الموارد نحو (1) «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» و حاصل المعنى: فاذكره مسبّحا حامدا و زد في عبادته و الثناء في عبادته لزيادة إنعامه أو المراد من التسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئيّة، روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح باب الكعبة صلّى صلاة الضحى أربعا منها للشكر و أربعا للضحى [إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً] مبالغا في قبول توبتهم.

قيل: لمّا نزلت السورة قرأها على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العبّاس فبكى فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما يبكيك يا عمّ؟ فقال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه كما تقول: فعاش بعدها سنتين أو سنة.

و اختلف في أنّهم من أيّ وجه علموا ذلك و ليس في ظاهره نعي فقيل: لأنّ التقدير فسبّح بحمد ربّك فإنّك لاحق باللّه و ذائق الموت لأنّ أمرك قد تمّ و كمل و كلّ ما كمل توقّع زواله، و بعد هذه السورة كان صلّى اللّه عليه و آله كثيرا ما يقول: سبحانك اللهمّ و بحمدك اللهمّ اغفر لي إنّك أنت التوّاب الرحيم.

ص: 250


1- سورة الإسراء: 44.

قالت أمّ سلمة: بعد هذه كان رسول اللّه لا يقوم و لا يقعد و لا يجي ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان اللّه و بحمده أستغفر اللّه و أتوب إليه.

و قصّة فتح مكّة طويلة لا يسعها هذا المختصر و المجمل منها أنّه لمّا فتحها و دخل مكّة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلّا اللّه وحده وحده، أنجز وعده و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده، ألا إنّ كلّ مال و دم يدّعى هو تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة الكعبة و سقاية الحاجّ فإنّهما مردودتان إلى أهلهما، ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم اللّه لم تحلّ لأحد كان قبلي و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار و هي محرّمة إلى أن تقوم الساعة لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله ألا لبئس جيران كنتم لقد كذّبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثمّ ما رضيتم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلوني فاذهبوا فأنتم الطلقاء، فخرج القوم فكأنّما انشروا من القبور.

و كان يومئذ حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما.

قيل: فجعل صلّى اللّه عليه و آله يطعنها بعود في يده و يقول: «جاء الحقّ و زهق الباطل إنّ الباطل كان ذهوقا» و قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فأخرجت من البيت و فيها صورة إبراهيم و إسماعيل و في أيديهما الأزلام فقال صلّى اللّه عليه و آله: قاتلهم اللّه أما و اللّه لقد علموا أنّهما لم يستقسما بالأزلام قطّ. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 251

سورة تبت

اشارة

* (مكية)* قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأها رجوت أن لا يجمع اللّه بينه و بين أبي لهب في دار واحدة قال: و إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بما جاء من عند اللّه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

النزول: صعد صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه! و كان هذا النداء عند العرب للاجتماع فاجتمعت إليه قريش فقالوا له: مالك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقوني؟ قالوا: بلى قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه هذه السورة أوردها البخاريّ في الصحيح.

المعنى: تبّت و خسرت يداه لأنّ أكثر العمل باليد فلذا خصّ اليد بالذكر، و المراد خسرت نفسه بالوقوع في النار، تقول العرب: «و أيدي الرزايا بالذخائر مولع».

و قيل: المعنى صفرت يداه عن كلّ خير، قال الفرّاء: الأوّل دعاء و الثاني خبر فالمعنى أهلكه اللّه و قد أهلك. و في قراءة عبد اللّه بن سلام و ابيّ «و قد تبّ».

ص: 252

و أبو لهب ابن عبد المطّلب عمّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و كان شديد المناصبة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك لم يقل «قل تبّت يدا إلخ» لئلّا يكون مشافها لعمّه بالشتم و إن سمعه عمّه، لحرمة العمومة، فأجاب اللّه عنه لأنّ للعمّ حرمة كحرمة الأب، قال طارق المحاربيّ: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا بشابّ يقول: يا أيّها النّاس قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا و إذا برجل خلفه يرميه بحجر قد آذى ساقيه و عرقوبيه يقول: يا أيّها الناس إنّه كذّاب فلا تصدّقوة فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمّد يزعم أنّه نبيّ و هذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذّاب، و كأن اسمه عبد العزّى و كنّى بهذا الكنية لحسنه و إشراق وجهه و كانت و جنتاه كأنّهما تلتهبان و هذه التكنية حيث ذكره اللّه بالكنية لاشتهاره بها لا للتعظيم أو لكراهة ذكر اسمه القبيح؛ إذ فيه إضافة إلى الصنم أو للتعريض بكونه جهنّميا لأنّه [سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ يعني إنّ أبا لهب باعتبار معناه الإضافيّ يصلح أن يكون كناية عن حاله و هي كونه جهنّميا لأنّ معناه باعتبار إضافته ملابس اللهب كما أنّ معنى «أبو الخير» و «أخو الحرب» بذلك الاعتبار ملابس الخير و الحرب.

و قرئ أبو لهب بالواو كما قيل: عليّ بن أبو طالب مع أنّ القياس الياء كيلا يتغيّر اللفظ فيشكل على السامع لأنّ الكنية بمنزلة العلم و الأعلام لا تتغيّر في شي ء من الأحوال و كان لبعض أمراء مكّة ابنان أحدهما عبد اللّه بالجرّ و الآخر عبد اللّه بالفتح.

[ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ أي لم يغن عنه ماله حين حلّ به التباب و لا دفع عنه عذاب اللّه و «ما» في قوله: «و ما كسب» موصولة و الضمير العائد من الصلة محذوف أي الّذي كسبه و «ما» الاولى نافية و قيل: استفهاميّة أي أيّ إغناء أغنى عنه أصل ماله و ما كسبه من الأرباح و النتائج؟

و قد هلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال و العدسة بثرة يخرج في البدن تشبه العدسة و هي من جنس الطاعون تقتل غالبا فاجتنبه أهله مخافة العدوى

ص: 253

و كانت قريش تتّقيها كالطاعون فبقي ثلاثا حتّى أنتن ثمّ استأجروا بعض السودان فاحتملوه و دفنوه. و في «إنسان العيون» أنّه لم يحفر واله حفيرة و لكن أسندوه إلى حائط و قذفوا إليه الحجارة خلف الحائط حتّى واروه و قيل: حفر واله حفرة ثمّ دفعوه بعود في حفرته و قذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه مخافة العدوى و القبر الّذي يرجم خارج الشبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب و إنّما هو قبر رجلين من الملاحدة القرامطة لطّخا الكعبة بالعذرة و ذلك في دولة بني العبّاس فإنّ الناس أصبحوا يوما فوجدوا الكعبة ملطّخة فرصدوا للفاعل فأمسكوهما بعد أيّام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يرجمان إلى الآن.

[سَيَصْلى في النشأة الآخرة و يدخل لا محالة [ناراً ذاتَ لَهَبٍ عظيمة ذات اشتعال و توقّد.

[وَ امْرَأَتُهُ عطف على الضمير في «سيصلى» يعني إنّ امرأته ستصلى و هي امّ جميل بنت حرب بن اميّة اخت أبي سفيان عمّة معاوية و اسمها العوراء و كانت تحمل حزمة من الشوك و الحسك فتنشرها بالليل في طريق رسول اللّه [حَمَّالَةَ الْحَطَبِ و قيل: إنّها تحمل يوم القيامة حزمة حطب كالزقّوم و الضريع و في جيدها سلاسل النار كما يعذّب كلّ مجرم بما يناسب حاله من سنخ معصيته، قال قتادة: إنّها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيّرت بالبخل و قيل:

كانت تمشي بالنميمة و تفسد بين الناس و المراد من حمّل الحطب أي توقد بينهم نائرة الفتنة و تحمّل الحطب استعارة عن إيقاد نار الفتنة.

[فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] المسد ما يفتل من الحبال فتلا شديدا من ليف كان أو جلد أو غيرهما و المعنى أنّ في عنقها حبلا بما مسد من الحبال و إنّها تحمل الحزمة من الشوك و تربطها في جيدها كما يفعل الحطّابون تخسيسا لحالها.

قال مرّة الهمدانيّ: كانت امّ جميل تأتي كلّ يوم بإبالة من حسك فتطرحها على طريق النبيّ و المؤمنين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت فقعدت على

ص: 254

حجر لتستريح فجذبها الملك من خلفها فاختنقت بحبلها حتّى هلكت.

و في ينبوع الحياة أنّها لمّا بلغها سورة تبّت جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته و هي متحرّقة غضبى فقالت له: و يحك يا أحمس (أي يا شجاع) أما تغضب أن هجاني محمّد؟ فقال: سأكفيك إيّاه ثمّ أخذ سيفه و خرج ثمّ عاد سريعا فقالت له: هل قتلته؟ فقال: يا أختي أ يسرّك أنّ رأس أخيك في فم ثعبان؟ قالت: لا قال: و اللّه فقد كاد ذلك يكون الساعة. فإنّه رأى ثعبانا لو قرب من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لالتقم رأسه.

و قيل في معنى الآية أنّه يكون لها حبل في خشونة الليف و حرارة النار و ثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها في جهنّم بسبب فعلها في الدنيا. و قيل:

في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها و تخرج من دبرها و تدار على عنقها في النار عن ابن عبّاس و عروة بن الزبير، و سمّيت السلسلة «مسدا» بمعنى أنّه ممسودة أي مفتولة. و قيل: إنّها كانت قلادة فاخرة ثمينة من جوهر فقالت: لأنفقنّها في عداوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيكون هذا عذابها يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيّب.

و يروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت لمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول: «مذمّما أبينا و دينه قلينا (1)، و أمره عصينا» و النبيّ جالس في المسجد و معه أبو بكر فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول- اللّه قد أقبلت و أنا أخاف أن تراك، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّها لن تراني و قرأ قرآنا فاعتصم به كما قال سبحانه: «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» (2) فوقفت على أبي بكر و لم تر رسول اللّه فقالت: يا أبا بكر إنّ صاحبك هجاني فقال: و ربّ البيت ما هجاك فولّت.

و لو قال قائل: إنّ أبا لهب هل كان يلزمه الإيمان بعد هذه الآية و هل كان

ص: 255


1- قلا الشي ء: أبغضه.
2- سورة الإسراء: 45.

يقدر على الإيمان بعد قوله تعالى: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر اللّه.

فالجواب نعم هو كان يلزمه الإيمان و كان مكلّفا به و إنّما توعّده اللّه هذا الوعيد بشرط أن لا يؤمن، ألا ترى في قصّة فرعون (1) «الآن و قد عصيت قبل» و في هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه و لهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 256


1- سورة يونس: 91.

سورة الإخلاص

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* و تسمّى بسورة النسبة و سمّيت سورة الإخلاص لأنّ من تمسّك بما فيها إقرارا و اعتقادا كان مؤمنا مخلصا.

و من قرءها على سبيل التعظيم أخلصه اللّه من النار.

و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لسورتي قل يا أيّها الكافرون و قل هو اللّه أحد:

«المقشقشتان» سمّيتا بذلك لأنّهما يعريان من الشرك يقال: قشقش المريض إذا برى ء من علّته و أفاق و منه قشقش الهناء الجرب.

في حديث أبيّ بن كعب من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن و أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر.

و عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن؟

قلت: يا رسول اللّه و من يطيق ذلك؟ قال: اقرءوا «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

و عن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة بورك عليه و من قرأها مرّتين بورك عليه و على أهله فإن قرءها ثلاثا بورك عليه و على أهله و جيرانه فإن قرأها اثنتي عشرة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة فإن قرأها مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس و عشرين سنة ما خلا الدماء و الأموال فإن قرأها أربعمائة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة.

و عن سهل بن سعد الساعديّ قال: جاء رجل إلى النبيّ فشكا إليه الفقر و ضيق المعاش فقال صلّى اللّه عليه و آله له: إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد أو لم يكن و اقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة واحدة ففعل الرجل فأفأض اللّه عليه الرزق حتّى أفاض على جيرانه.

ص: 257

و عن الصادق عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ فلمّا صلّى عليه قال: لقد رأيت من الملائكة سبعون ألف ملك و فيهم جبرئيل يصلّون عليه فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ سعد صلاتكم عليه؟ قال: بقراءة «قُلْ هُوَ اللَّهُ» قاعدا و قائما راكبا و ما شيا ذاهبا و جائيا.

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مضى به يوم واحد و صلّى فيه الخمس من الصلوات و لم يقرء فيها بقل هو اللّه قيل له: يا عبد اللّه لست من المصلّين.

إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مضت عليه جمعة و لم يقرء فيها بقل هو اللّه ثمّ مات مات على دين أبي لهب.

هارون بن خارجة عنه عليه السّلام قال: من أصابه مرض أو شدّة فلم يقرء في مرضه أو شدّته بقل هو اللّه أحد ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّذي نزلت به فهو من أهل النار.

أبو بكر الحضرمي عنه عليه السّلام قال: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يدع أن يقرء في دبر الفريضة بقل هو اللّه أحد فإنّه من قرأها جمع له خير الدنيا و الآخرة و غفر اللّه له و لوالديه و ما ولدا.

عبد اللّه بن حجر قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: من قرء التوحيد إحدى عشر مرّة في دبر الفجر لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب و أرغم أنف الشيطان.

إبراهيم مهزم عن من سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: من قدّم التوحيد بينه و بين كلّ جبّار منعه اللّه منه فقرأها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فإذا فعل ذلك رزقه خيره و منعه شرّه و قال: إذا خفت أمرا فاقرء مائة آية من القرآن حيث شئت ثمّ قل: اللّهم اكشف عنّي البلاء ثلاث مرّات. و بحذف الأسانيد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة التوحيد مائة مرّة حين يأخذ مضجعه غفر اللّه له ذنوب خمسين سنة.

ص: 258

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

«أَحَدٌ» أصله وحد فقلبت الواو همزة و مثله أناة و أصله وناة. و أحد على ضربين:

أحدهما أن يكون اسما و الآخر أن يكون صفة فالاسم نحو أحد و عشرون يريد به الواحد و الصفة كقول النابغة:

كأنّ رحلي و قد زال النهار بنابذي الجليل على مستأنس وحد

و الأحد اسم لمن لا يشاركه شي ء في ذاته كما أنّ الواحد اسم لمن لا يشاركه شي ء في صفاته يعني إنّ الأحد هو الذات وحدها من غير اعتبار كثرة فيها فأثبت له الأحديّة الّتي هي الغنى و الفرديّة عن كلّ ما عداه و ذلك من حيث عينه و ذاته من غير اعتبار أمر آخر و الواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات و هي الحضرة الأسمائيّة و لذا قال (1): «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» و لم يقل: لأحد لأنّ الواحديّة من أسماء التقييد فبين الواحديّة و بين الخلق ارتباط من حيث الإلهيّة و المألوهيّة بخلاف الأحديّة إذ لا يصحّ ارتباطها بشي ء.

و بالجملة في سبب نزول السورة قيل: إنّ المشركين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

انسب لنا ربّك فنزلت.

و قيل: أتى عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخو لبيد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال عامر:

إلى ما تدعونا يا محمّد فقال: إلى اللّه فقال: صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضّة أم من حديد أم من خشب فنزلت السورة. و هما اللّذان همّا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأرسل اللّه صاعقة على أربد فأهلكته و طعن عامر بغدّة و لم تمهله الغدّة أن يصل إلى أهله فأدركه

ص: 259


1- سورة الصافات: 4.

الليل و هلك في بيت امرأة سلوليّة فقيل في الأمثال «غدّة كغدّة البعير و موت في بيت السلولي» و سلول يعيّرون و ينسبون إلى المهانة و الصغار.

و روى محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه قال: إنّ اليهود سألوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا:

انسب لنا ربّك فمكث ثلاثا لا يجيبهم ثمّ نزلت السورة.

و قيل: إنّ هذه السورة صارت سبب إسلام عبد اللّه بن سلام ذكره القاضي عبد الجبّار في تفسيره أنّ عبد اللّه بن سلام انطلق إلى مكّة عند رسول اللّه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنشدك باللّه هل تجد في التوراة رسول اللّه؟ فقال عبد اللّه: انعت لنا ربّك فنزلت السورة فقرأها النبيّ فأسلم و لكن كان يكتم ذلك إلى أن هاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فهناك أظهر إسلامه.

[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] الضمير للشأن كقولك: هو زيد منطلق و ارتفاعه بالابتداء و خبره الجملة أي شأن الأمر و القصّة أنّ اللّه أحد أو الضمير لما سئل عنه فالمعنى قل يا محمّد: الّذي سألتم عنه هو اللّه فهو مبتدء و اللّه خبره و «أحد» بدل منه و إبدال النكرة من المعرفة عند العائد يجوز على ما ذهب إليه أبو عليّ و هو المختار عند الأكثر.

«أحد» في الإلهيّة و الذات و القدم، واحد لا يشركه في وجوب صفاته أحد فإنّه يجب أن يكون موجودا عالما قادرا حيّا لذاته لا لغيره و إلّا لزم النقص فاختصّ بالواحديّة من هذا الوجه إذ لا يشركه في هذا الأمر سواه فلا يستحقّ العبادة سواه فهذه الأحديّة و الواحديّة ليس أحد متّصفا به، و الأحد في الواحديّة قطع النظر عن المعاني الّتي فسّرت أبلغ من معنى الواحد ألا ترى أنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان لكن لمّا قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر فهو أبلغ.

فالأحدية هي الغنى عن كلّ ما عداه من حيث عينه و ذاته من غير اعتبار أمر آخر، و الواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات الّتي هي الحضرة الأسمائيّة و لذا قال: «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» و لم يقل: «لأحد» لأنّ الواحديّة من أسماء التقييد، و بينها و بين الخلق ارتباط من حيث الإلهيّة و المألوهيّة، بخلاف

ص: 260

الأحديّة. فمعرفة الذات في الحقيقة كما هو يختصّ به تعالى لا غير، فقوله «هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثلاثة ألفاظ كلّ واحد منها إشارة إلى مقام السائرين إلى اللّه.

فالمقام الأوّل مقام المقرّبين و هم الّذين نظروا إلى ماهيّات الأشياء و حقائقها من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا شيئا إلّا و رأوا اللّه معه، فالحقّ الثابت الباقي هو الّذي لذاته يجب وجوده و أمّا ما عداه فممكن، إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوما. و كلمة «هو» و إن كانت للإشارة المطلقة مفتقرة في تعيين المراد بها إلى سبق الذكر إلّا أنّ هؤلاء الطبقة يشيرون بهذه الكلمة به تعالى و لا يفتقرون في تلك الإشارة إلى ما يميّز المراد بها من غيره لأنّ الافتقار إلى المميّز إنّما يحصل حيث وقع الإبهام بأن يتعدّد ما يصلح لأن يشار إليه لأنّهم لا يشاهدون بعين عقولهم إلّا هو. و اعلم أنّه ليس المراد من هذا الكلام أنّهم قائلون بوحدة الوجود، هذا القول فاسد بل المراد أنّ نظرهم و وجهتهم من غيره تعالى مقطوع و أنّهم منقطعون إليه و لا يعرفون غيره أبدا، هو هو إله إلّا هو. فهذه الكلمة كافية لحصول العرفان لهذه الطبقة يعني الأنبياء و الأولياء المنصوصة عليهم بنصّ اللّه.

و المقام الثاني مقام أصحاب اليمين و هو دون المقام الأوّل و ذلك لأنّهم شاهدوا بعين عقولهم الحقّ موجودا و شاهدوا الخلق أيضا موجودا بخصلة الكثرة في الموجودات، فلا جرم لم تكن لفظة «هو» كافية في الإشارة إلى الحقّ بل لا بدّ هناك من مميّز به يتميّز الحقّ من الخلق. فهذه الطبقة مفتقرون إلى أن يقترن لفظة «إليه» بلفظ «هو» فقيل لأجلهم «هو اللّه» لأنّ لفظ «اللّه» اسم للموجود الّذي يفتقر إليه ما عداه فتتميّز به الذات المرادة عمّا عداه.

و المقام الثالث مقام أصحاب الشمال و هم الّذين يجوّزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد فقرن لفظة «الأحد» ردّا عليهم، بل هو اللّه أحد، انتهى.

قال الباقر عليه السّلام: في معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أظهر يا محمّد ما أنبأناك به بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد، هو اسم مكنيّ مشار إلى غائب فالهاء تنبيه عن معنى ثابت و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ كما

ص: 261

أنّ «هذا» تنبيه و إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا على آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة بالأبصار فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الّذي تدعوا إليه حتّى نريه و ندركه و لا نأله (1) فيه فأنزل اللّه «قل هو اللّه أحد» إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار في شأن الأحديّة و الواحدية الّذي لا يشاركه في ذاته و صفاته أحد.

و قال الباقر: حدّثني أبي عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء فقال: قل يا هو يا من لا هو إلّا هو فلمّا أصبحت قصصت على رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه معناه المعبود الّذي يأله فيه الخلق و يؤول الخلق إليه، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات.

و قال الباقر عليه السّلام: اللّه معناه المعبود الّذي أله فيه الخلق و الهمزة مقلوبة من الواو أي و له فيه الخلق عن إدراك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته، تقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشي ء فلم يحط به علما و قد اثبت «قل» في المصحف و التزم في التلاوة مع أنّه ليس من دأب المأمور بكلمة «قل» أن يتلفّظ في مقام الايتمار إلّا بالمقول لأنّ المأمور ليس المخاطب به فقط بل كلّ واحد ابتلي بما ابتلى به المأمور.

[اللَّهُ الصَّمَدُ] مبتدء و خبر، صمد، إليه إذا قصده أى هو السيّد المصمود إليه في الحوائج المستغني بذاته و غيره محتاج إليه قال الباقر عليه السّلام: حدّثني أبي زين العابدين عن أبيه أنّه قال: «الصّمد» الّذي انتهى سودده و الصمد الدائم الّذي لم يزل و لا يزال، و الصمد الّذي لا جوف له، و الصمد الّذي لا يأكل و لا يشرب، و قال الباقر:

و الصمد السيّد المطاع الّذي ليس فوقه آمر و لا ناه. و قال محمّد بن الحنفيّة: الصمد القائم بنفسه الغنيّ عن غيره و قال غيره: الصمد المتعالي عن الكون و الفساد و الّذي لا يوصف بالنظائر.ر.

ص: 262


1- مضارع أله، اى تحير.

و عن الباقر عن أبيه عليهما السّلام أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام يتساءلونه عن الصمد فكتب: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فلا تخوضوا في القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تكلّموا فيه بغير علم فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار و إنّ اللّه فسّر الصمد فقال: [لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] لم يخرج منه شي ء كثيف كالولد و لا سائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين و لا شي ء لطيف كالنفس و لا ينبعث منه البدوات كالسّنة و الخطرة و الغمّ و النوم و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الجوع و الشبع فتعالى أن يتولّد منه شي ء لطيف أو كثيف و لم يتولّد من شي ء و لم يخرج من شي ء كما تخرج الأشياء الكثيفة و اللطيفة من عناصرها كالشي ء من الشي ء و الدابّة من الدابّة بل هو اللّه الصمد الّذي لا من شي ء و لا في شي ء و لا على شي ء.

و عن عبد خير قال: سأل رجل عليّا عليه السّلام عن تفسير هذه الآية فقال عليه السّلام:

هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، صمد بلا تبعّض بدد، لم يلد فيكون موروثا هالكا و لم يولد فيكون إلها مشاركا و لم يكن له من خلقه كفؤ. و قيل: إنّه سبحانه بيّن التوحيد بقوله: «اللّه أحد» و بيّن العدل بقوله: «اللّه الصمد» و بيّن ما يستحيل عليه من الوالد و الولد بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و بيّن ما لا يجوز عليه من الصفات كاتّخاذ الصاحبة و أنّه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و أمثالها بنفي الكفويّة فحصلت الوحدانيّة البحت.

تمّت السورة بعون اللّه

ص: 263

سورة الفلق

اشارة

* (قيل: مكية و قيل: مدنية)* في حديث ابيّ: و من قرأ المعوّذتين فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء.

و عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللّه أنزلت عليّ آيات لم تنزل مثلهنّ:

المعوّذتان. أورده مسلم في الصحيح.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يا عقبة ألا اعلّمك سورتين هما أفضل القرآن- أو من أفضل القرآن-؟ قلت: بلى، فعلّمني المعوّذتين ثمّ قرأتهما في صلاة الغداة و قال لي:

اقرأهما كلّما قمت و نمت.

ص: 264

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

يقال في المثل «هو أبين من فلق الصبح» و الفلق بمعنى المفلوق كالصمد بمعنى المصمود و الفلق أيضا الخلق لأنّ الممكنات بأسرها أعيان ثابتة في علم اللّه مستورة تحت ظلمة العدم فاللّه تعالى فلق تلك الظلمات بنور التكوين و الإيجاد فأظهر ما في علمه من المكنونات فصارت مفلوقا عنها. قيل: إذا طلع الصبح تتبدّل الثقلة بالخفّة و الغمّ بالسرور.

روي أنّ يوسف عليه السّلام لمّا ألقي في الجبّ وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلة ساهرا فلمّا قرب طلوع الصبح نزل جبرئيل بإذن اللّه يأمره بأن يدعو ربّه فقال:

يا جبرئيل ادع أنت و اؤمّن فدعا جبرئيل و أمّن يوسف فكشف اللّه ما كان به من الضرّ فلمّا طاب وقت يوسف قال: يا جبرئيل و أنا أدعو أيضا و تؤمّن أنت فسأل يوسف ربّه أن ينكشف الضرّ عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلّا و يجد نوع خفّة في آخر الليل.

و قيل في الفلق: إنّه بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار. في المعاني سئل الصادق عليه السّلام عن الفلق قال: صدع في النار فيه سبعون ألف دار في كلّ دار سبعون ألف بيت في كلّ بيت سبعون ألف أسود في جوف كلّ أسود سبعون ألف حبرة سمّ لا بدّ لأهل النار أن يمرّوا عليها، و الحاصل أمر من اللّه لنبيّه و المراد جميع امّته.

[قُلْ يا محمّد: أعتصم و أمتنع [بِرَبِ الصبح و خالقه [مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من الجنّ و الإنس و سائر الحيوانات، و إنّما سمّي الصبح فلقا لا نفلاق عموده بالضياء عن الظلام كما قيل: «فجر» لانفجاره بذهاب ظلامه و قيل: الفلق المواليد

ص: 265

كالنقرة في الصخرة لأنّهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات و قوله:

«ما خلق» عامّ في جميع ما خلقه اللّه ممّن يمكن أن يحصل منه الشرّ و إضافة الشرّ إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسّس على امتزاج الموادّ المتباينة و تفاعل كيفيّاتها المتضادّة المستتبعة للكون و الفساد من شرّ حصول الشرّ ممّا خلق كالاستيمام من السمّ فتأمّل. و أمّا عالم الأمر فهو خير محض منزّه عن شوائب الشرّ بالكلّيّة.

[وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ أي من شرّ اللّيل إذا دخل بظلامه فيكون المراد من شرّ ما يحدث في الليل من الشرّ و المكروه. و إنّما اختصّ الليل بالذكر لأنّ أغلب الفساد يقدم عليه في الليل.

و معنى الغاسق كلّ هاجم عليه بضرره كائنا من كان و الوقب النقرة في الشي ء يجتمع فيها الماء و وقب إذا دخل في وقب الظلام. فالمعنى إذا دخل ظلامه في كلّ شي ء و الحاصل أنّ الشرّ ينبعث في الليل أكثر من النهار و يخرج عفاريت الجنّ فيه و كذلك الهوامّ و الموذيات. و نهى رسول اللّه عن السير في أوّل الليل و أمر بتغطية الأواني و إغلاق الأبواب و إيكاء الأسقية و ضمّ الصبيان و كلّ ذلك للحذر من الشرّ و البلاء.

و قيل: المراد بالغاسق القمر و وقوبه دخوله في الخسوف و اسوداده. و قيل:

وقوبه المحاق في آخر الشهر و المنجّمون يعدّونه نحسا و لذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلّا في المحاق. و روي عن عائشة أنّها قالت: أخذ رسول اللّه بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذي باللّه من شرّ هذا فإنّه الغاسق إذا وقب، و شرّه الّذي يتّقى ما يكون في الأبدان و يحدث آفات بسببه.

و قيل: الغاسق الثريّا و وقوبها سقوطها لأنّها إذا سقطت كثرت الأمراض و و الطواعين و إذا طلعت قلّت.

[وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ] النفث شبه النفخ يكون في الرقية و لا ريق معه، و إذا كان معه ريق فهو التفل و العقد ما يعقده الساحر على وتر أو حبل أو شعر يقال لها:

عزيمة كما يقال لها: «عقدة» و المعنى من شرّ النفوس أو النساء السواحر اللّاتي يعقدن

ص: 266

عقدا في خيوط و ينفثن عليها و تعريفها إمّا للعهد أو إمّا للإيذان بشمول شرّهنّ و تمحّضهن فيه.

روي عن ابن عبّاس و عائشة أنّه كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان عنده أسنان من مشطه صلّى اللّه عليه و آله فأعطاها اليهود فسحروه صلّى اللّه عليه و آله فيها و لذا ينبغي أن يقطع الظفر بعد التقليم و كذا الشعر إذا سقط من اللحية و الرأس نصفين لئلّا يسحر به.

و تولّاه لبيد بن أعصم اليهوديّ و بناته و هنّ النفّاثات فدفنها في بئر أريس أو بئر بني زريق تسمّى ذروان فمرض النبيّ عليه السّلام قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله لبث فيه ستّة أشهر فنزل جبرئيل بالمعوّذتين- بكسر الواو- و أخبره بموضع السحر و بمن سحره و بم سحره فأرسل عليّا و عمّارا فنزحوا ماء البئر فكأنّه نقاعة الحنّاء ثمّ رفعوا الصخرة الّتي توضع في أسفل البئر فأخرجوا من تحتها الأسنان و معها وتر قد عقد فيه عشر عقدة مغرزة بالإبر فجاؤا بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجعل يقرء المعوّذتين عليها فكان كلّما قرأ آية انحلّت عقدة و وجد حتّى انحلّت عقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام صلّى اللّه عليه و آله كأنّما انشط من عقال و جعل جبرئيل يقول: بسم اللّه أرقيك و اللّه يشفيك من كلّ شي ء يؤذيك من عين و حاسد، فلذا جوّزوا الاسترقاء بما كان من كلام اللّه و كلام رسوله لا بما كان ممّا لا نفهمه من الهنديّة و العبرانيّة و السريانيّة فإنّه لا يجوز العمل به.

و الحقّ في المسألة عند الإماميّة أنّ السحر لا يؤثّر في النبيّ، و أمره بالاستعاذة من سحرهنّ لا يدلّ على تأثير السحر فيه و إنّما امر بالتعوّذ من السحرة لأنّهم يفعلون أشياء من النفع و الضرّ و عامّة الناس يصدّقونهم فيعظم بذلك الضرر في الدين و يوهمون أنّهم يعلمون الغيب و لأجل هذا الضرر امر صلّى اللّه عليه و آله بالتعوّذ من شرّ أفعالهم.

و أمّا ما نقله المخالفون ليس بصحيح، مجمع البحرين. قالت المعتزلة: و هذا لا يجوز لأنّ من وصف بأنّه مسحور مدخل عقله و قد أبى اللّه ذلك في قوله: (1) «وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» و لكن يمكن أن يكون اليهوديّ أو بناته- على ما روي- اجتهدوا في ذلك و لم يقدروا عليه و أطلع اللّه نبيّه على ما فعلوه حتّى

ص: 267


1- سورة الفرقان: 8.

استخرج و كان ذلك دلالة على صدقه، و كيف يكون المرض من فعلهم و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدّة عداوتهم لهم.

و قال أبو مسلم: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق ليستهلّ حلّها، و النفّاثات في الآية هي جنس النساء اللاتي شأنهنّ أن يغلبن على الرجال و يحوّلنهم عن آرائهم بأنواع المكر و الحيلة و لأجل استقرار حبّهنّ في قلوب الرجال يتصرّفن فيهم و يحوّلنهم من رأي إلى رأي فأمر اللّه تعالى بالتعوّذ من شرّهنّ. و السحر عند المعتزلة تخييل لا أصل له و عند بعض قالوا:

تمريض و تأثير بما يتّصل به كما يخرج من فم المتثائب و يؤثّر في المقابل و قال بعض:

سرعة الحركة و لطافة الفعل فيما خفي فهمه.

[وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ] قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب و أوّل ذنب عصي اللّه به في السماء حسد إبليس لآدم فأخرجه من الجنّة فطرد و صار شيطانا رجيما و في الأرض قابيل لأخيه هابيل فقتله فأمر اللّه بالتعوّذ من شرّه، و الحسد الأسف على نعمة عند الغير أو تمنّي زوالها من الغير.

قال الزمخشريّ: عرّف سبحانه بعض المستعاذ منه و نكّر بعضه مثل أن عرّف «النفّاثات» لأنّ كلّ نفّاثة شريرة و نكّر «غاسق» لأنّ كلّ غاسق لا يكون فيه الشرّ إنّما يكون في بعض دون بعض و كذلك كلّ حاسد لا يضرّ و ربّ حسد محمود و هو الحسد في الخيرات.

قيل: المراد أنّه تعالى أراد و أمر بالتعوّذ من شرّ نفث الحاسد و من شرّ عينه فإنّه ربّما أصاب بهما.

و روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من رأى ما يعجبه فقال: اللّه اللّه ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه لم يضرّه شيئا. و قد جاء في الحديث أنّ العين حقّ.

قال الحسين بن الفضل: ذكر اللّه الشرور في هذه السورة ثمّ ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخبث الطبائع.

و نسب بعض إلى عبد اللّه بن مسعود أنّ هاتين السورتين ليستا من القرآن و

ص: 268

تعويذتان للنبيّ و للمؤمنين. قال صاحب عين المعاني: الصحيح أنّهما من القرآن إلّا أنّهما لم تثبتا في مصحف ابن مسعود للأمن من نسيانهما لأنّهما يجريان على لسان كلّ إنسان لا أنّه لم يقبل أنّهما من القرآن. و قد قيل: إنّ مصحف عبد اللّه حذف منه امّ الكتاب و المعوّذتان و مصحف ابيّ بن كعب زيد فيه سورة القنوت و هي قوله:

اللّهمّ إنّا نستعينك إلى قوله: من يعجزك، و لكن مصحف زيد بن ثابت كان سليما من ذلك فكان كلّ من مصحفي ابيّ و ابن مسعود منسوخا و مصحف زيد معمولا به و كان صلّى اللّه عليه و آله يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ رمضان مرّة واحدة فلمّا كان العام الّذي قبض صلّى اللّه عليه و آله فيه عرضه مرّتين و كان قراءة زيد- على ما قيل- من آخر الفرض.

قال عبد اللّه بن مسعود جميع سور القرآن مائة و اثنتا عشرة سورة. قال الفقيه في كتاب البستان: إنّما قال: إنّها مائة و اثنتا عشرة سورة لأنّه كان لا يعدّ المعوّذتين من القرآن و كان لا يكتبهما في مصحفه و يقول: إنّهما منزلتان من السماء و هما من كلام ربّ العالمين و لكنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يرقى و يتعوّذ بهما فاشتبه على ابن مسعود أنّهما من القرآن أو ليستا منه فلم يكتبهما في المصحف.

و قال مجاهد: جميع سور القرآن مائة و ثلاث عشرة سورة لأنّه كان يعدّ الأنفال و التوبة سورة واحدة و قال زيد بن ثابت مائة و أربع عشرة سورة و المعوّذتان سورتان من القرآن تمّت السورة بعون اللّه.

ص: 269

سورة الناس

اشارة

* (مدنية)* الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ رسول اللّه اشتكى و وجع وجعا شديدا فأتاه جبرئيل و ميكائيل عليهما السّلام فقعد جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فعوّذه جبرئيل بقل أعوذ برب الفلق و عوّذه ميكائيل بقل أعوذ بربّ الناس.

ص: 270

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

أي مالك أمورهم و مربّيهم بإفاضة ما يصلحهم و دفع ما يضرّهم [مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان لربّ الناس، أي سيّدهم و القادر عليهم، و لم يجز هنا إلّا ملك و جاز في فاتحة الكتاب ملك و مالك و ذلك لأنّ صيغة «ملك» يدلّ على صفة من يشعر بالتدبّر و ليس كذلك مالك و ذلك لأنّه يجوز أن يقال: مالك الثوب و لا يجوز أن يقال:

ملك الثوب، فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء و في هذه السورة «ملك» على تدبّر من يعقل التدبير فكان لفظ ملك هنا أولى و أحسن و المعنى ملك الناس كلّهم و مدبّرهم.

[إِلهِ النَّاسِ أي ليس ملكه بمجرّد الاستيلاء عليهم و القيام بتدبير أمورهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبوديّة اللّازمة للالوهيّة المقتضية للإحياء و الإماتة و الإيجاد و الإعدام فإنّه يحقّ له الإلهيّة و لكم العبوديّة.

[مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الوسوسة الصوت الخفيّ الّذي لا يحسّ به فيحذر منه و الوسواس اسم بمعنى الوسوسة مثل الزلزال بمعنى الزلزلة و أمّا المصدر فبالكسر و الفرق بين المصدر و اسم المصدر هو أنّ الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل و وقوعه على المفعول سمّي مصدرا و إذا لم يعتبر بهذه الحيثيّة سمّي اسم المصدر و حقيقة الوسوسة معنى كلام يكرّره الموسوس و يؤكّده عند من يلقيه إليه و المراد بالوسواس الشيطان لأنّه يدعو إلى المعصية بكلام خفيّ يفهمه الوليّ من غير أن يسمع صوته و وسوسة اللعين بالإغرار بسعة رحمة اللّه أو بتخييل أنّ له في عمره سعة و أنّ وقت

ص: 271

التوبة باق بعد و سمّي اللعين بفعله مبالغة كأنّه نفس الوسوسة لدوام وسوسته.

و الإلقاء إمّا صحيح أو فاسد فالصحيح إلهيّ ربّاني متعلّق بالخير و المعارف أو ملكيّ روحانيّ و هو الباعث على الطاعة و ما فيه صلاح و يسمّى إلهاما من القسمين و الفاسد نفسانيّ و هو ما فيه حظّ النفس و يسمّى هاجسا، أو شيطانيّ و يسمّى وسواسا.

و ينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم في ستّ مراتب:

الاولى الشرك و الكفر و معاداة اللّه و رسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه و استراح من تعبه معه و الثانية البدعة و هي أحبّ إلى إبليس من المعصية لأنّ المعصية يتاب منها فيكون كالعدم و البدعة فالتوبة عنها غير ممكن و صعب و لا يمكن التدارك عنها فإذا عجز اللعين عن هاتين انتقل إلى المرتبة الثالثة و هي الكبائر على اختلاف أنواعها فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة و هي الصغائر الّتي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها كالنار الموقدة من الحطب الصغار فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة و هي اشتغاله بالمباحات الّتي لا ثواب فيها و لا عقاب بل عقابها فوات الثواب فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة و هي أن يشغله بالعمل المفضول عمّا هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل فمن الشياطين شيطان الوضوء و يقال له الولهان بفتحتين و هو شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء. قال صلّى اللّه عليه و آله:

تعوّذوا باللّه من وسوسة الوضوء. و منهم شيطان يقال له «خزب» و هو الملبّس على المصلّي في صلاته و قراءته.

[الْخَنَّاسِ هو الشيطان و من عادة الشيطان أن يتأخّر و ينقبض إذا ذكر اللّه.

القمّيّ: الخنّاس اسم الشيطان الّذي إذا غفل الإنسان عن ذكر ربّه وسوس إليه.

حكي أنّ بعض الأولياء سأل اللّه أن يريه كيف يأتي الشيطان و يوسوس فرأى صورة الإنسان في صورة إنسان من بلّور و بين كتفيه خال أسود كالعشّ و الوكر فجاء الخنّاس يتحسّس في جميع جوانبه و هو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل

ص: 272

فجاء بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر اللّه فخنّس وراءه و لذلك سمّي بالخنّاس لأنّه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب.

و لعلّ لهذا السرّ كان صلّى اللّه عليه و آله يحتجم بين كتفيه و يأمر بذلك و وصّاه جبرئيل بذلك لأمّته لتضعيف مادّة الشيطان و تضييق مرصده لأنّه يجري بوسوسته مجرى الدم في بني آدم و كذلك كان خاتم النبوّة بين كتفيه إشارة إلى عصمته من وسوسته لقوله صلّى اللّه عليه و آله «أعانني اللّه عليه، و إنّ شيطاني قد أسلم» المراد أنّه عجز و استسلم قرينه و ما أسلم قرين آدم عليه السّلام فوسوس إليه.

و يجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام و إن كان في الأصل من نار لكن ليس بمحرق لأنّه لمّا امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجا مخصوصا و هو جسم لطيف فيدخل و قال سبحانه: [يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ و الصدر هو ساحة القلب و بيته فمنه تدخل الواردات على القلب فالصدر بمنزلة الدهليز [مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ الجنّة جماعة الجنّ و «من» بيان للّذي يوسوس على أنّه ضربان جنّيّ و إنسيّ كما قال (1): «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» و الموسوس إليه نوع واحد و هو الإنس لأنّه لم يرد دليل على أنّ الجنّيّ يوسوس في صدور الجنّي، فكما أنّ شيطان الجنّ يوسوس تارة و يخنّس اخرى كذلك شيطان الإنس يلقي الأباطيل في صورة الناصح فانّ زجره السامع يترك الوسوسة و يخنّس و إن قبل السامع كلامه بالغ فيه.

و حاصل المعنى أنّه سبحانه أمر العبد أن يستعيذ من شرّ وسوسة الجنّ و الإنس أو أن يستعيذ من شرّ الجنّ و الإنس. و في هذا إشارة إلى أنّ الضرر يلحق من جهة هؤلاء و أنّهم قادرون على ذلك و لولاه لما حسن الأمر بالاستعاذة منهم.

روى العيّاشي عن جعفر بن محمّد قال: قال رسول اللّه: ما من مؤمن إلّا و لقلبه في صدره أذنان اذن ينفث فيها الملك و اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس يؤيّد اللّه

ص: 273


1- سورة الانعام: 112.

المؤمن بالملك و هو قوله سبحانه (1): «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ».

و في الحديث عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا آوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه و قرأ قل هو اللّه أحد، و سورة الفلق، و سورة الناس فنفث فيهما ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه و وجهه و ما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرّات.

و كان ابن كثير إذا انتهى إلى آخر القرآن إلى قوله: «مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ» قرأ سورة الفاتحة و خمس آيات من أوّل سورة البقرة على عدد الكوفيّ و هو إلى «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» لأنّ هذا يسمّى حالّ المرتحل و معناه حلّ من قراءة آخر الختمة و ارتحل إلى ختمة اخرى إرغاما للشيطان، و صار العمل على هذا في أمصار المسلمين و كذلك قراءة سورة التوحيد بعد الختمة ثلاثا.

قال البخاريّ: عند كلّ ختمة دعوة مستجابة و إذا ختم الرجل القرآن قبّل الملك بين عينيه و يستحبّ الدعاء عند الختم مستقبل القبلة رافعا يديه خاضعا للّه و يثني على اللّه قبل الدعاء و بعده و يصلّي على النبيّ و يمسح وجهه بيديه بعد فراغه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمر عليّا عليه السّلام أن يدعو عند ختم القرآن بهذا الدعاء و هو «اللّهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين و إخلاص الموقنين و مرافقة الأبرار و استحقاق حقائق الإيمان و الغنيمة من كل برّ و السلامة من كلّ إثم و وجوب رحمتك و عزائم مغفرتك و الفوز بالجنّة و الخلاص من النار».

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: عند ختم القرآن «اللّهمّ ارحمني بالقرآن العظيم و اجعله لي إماما و نورا و هدى و رحمة و ارزقني تلاوته آناء الليل و أطراف النهار و اجعله حجّة لي يا ربّ العالمين».

و قد تمّ بعون اللّه كتاب «مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر» في تفسير كتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه في الشهر الّذي انزل في مثله القرآن من السنة السابعة بعد الثلاثين بعد الثلاثمائة بعد الألف.

ص: 274


1- سورة المجادلة: 22.

فيقول العبد الفقير الملتقط المحتاج إلى ربّه القدير الغنيّ المغني فيتضرّع مستكينا ذليلا رافعا يديه الخاطئة مستجديا من أياديه الفاضلة و آلائه المتواصلة أن يمنّ على هذا العبد الكالّ على مولاه بالقبول فإذا تقبّلها ربّها بقبول حسن فأهدى ثواب هذه الدرّة الثمينة- الّتي خاض في طلبها البحار الزاخرة حتّى اقتناها كبارها و مرجانها و شطوطها و خلجانها- إلى روح حبيبه محمّد الّذي بعثه من أطيب الأعراق و أعظم الجراثيم، و ابن عمّه عليّ الّذي ضرب الخراطيم حتّى كانت الكلمة مجموعة و الأصنام مرفوعة، فجلّت الهديّة و نعم المهدى له فقد عرض الطيب على عطّاره. و إنّي أستشفع بكتابه العزيز و بالنبيّ و الوصيّ في أن يجاوز عن ذنوبي العظيمة الّتي لا أعظم منها إلّا عفوه فأسألك العفو و منّ عليّ بالقبول و الغفران إنّك أهل التقوى و أهل المغفرة.

نجز الجزء الثاني عشر من الكتاب، و به ختامه و من اللّه التوفيق و له المنّة

ص: 275

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.