مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر المجلد 10

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحائري الطهراني، علي، - 1314؟.

عنوان العقد: مقتنيات الدرر و ملتقطات الثمر

عنوان واسم المؤلف: تفسير مقتنيات الدرر/ تاليف علي الحائري الطهراني؛ تحقيق محمد وحيد الطبسي الحائري؛ مراجعة و تدقيق محمدتقي الهاشمي.

تفاصيل المنشور: قم : دارالكتاب الاسلامي، 1433 ق.= 2012 م.= 1391.

خصائص المظهر: 12ج.

شابك : دوره:978-964-465-276-9 ؛ ج. 1:978-964-465-277-6 ؛ ج. 2 978-964-465-278-3: ؛ ج. 3 978-964-465-279-0 : ؛ ج. 4 978-964-465-280-6 : ؛ ج. 5 978-964-465-281-3 : ؛ ج. 6 978-964-465-282-0 : ؛ ج. 7 978-964-465-283-7 : ؛ ج. 8 978-964-465-284-4 : ؛ ج. 9 978-964-465-285-1 : ؛ ج. 10 978-964-465-286-8 : ؛ ج. 11 978-964-465-287-5 : ؛ ج. 12 978-964-465-288-2 :

حالة الاستماع: فاپا

ملحوظة : العربية.

ملحوظة :فهرس.

موضوع : التفسيرات الشيعية -- قرن 14

المعرف المضاف: الطبسي، وحيد

المعرف المضاف: هاشمي، محمدتقي

ترتيب الكونجرس: BP98/ح23م7 1390

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1827586

ص: 1

كلمة الناشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي نزل القرآن نورا و سراجا و قمرا منيرا. و الصلاة و السّلام على رسوله الّذي أنزل عليه الكتاب بيانا للناس و هدى و موعظة للمتقين، و على آله الطيبين ثاني الثقلين. و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فقد بذل علماء الإسلام قديما و حديثا جهدهم في تفسير علوم القرآن و تبيين لغاته و مشكلاته، ففريق فسروا ألفاظه و بينوا حقائقه من مجازه، و جمع جمعوا أحكامه و بينوا حلاله و حرامه، و طائفة كشفوا عن تأويلاته قناعه؛ و كيفما كان ما و صلوا إلا إلى مبلغ علمهم و منتهى هممهم، و أنى لهم الوصول إلى حقائق التنزيل و دقائق التأويل؟ لان القرآن هو النور الّذي أنزله اللّه على قلب حبيبه محمد صلى الله عليه و آله. إلا أن المتمسكين بولاء أهل بيت الوحى المستضيئين بنور علمهم المأمورين بالتمسك بهم في حديث الثقلين قد اغترفوا من بحار علوم أهل بيت النبي غرفا و غاصوا فيها و اقتنوا منها دررا.

و ها هي المقتنيات الدرر، قد اقتناها علم من الأعلام ثمرة الشجرة الطيبة و النخبة من السلالة الطاهرة: «الحاج المير سيد على الحائرى» تغمده الله بغفرانه، و اوتى كتابه هذا بيمينه، قد اقتنى من الدرر أغلاها و من الغرر أسناها فحقيق أن يتنافس المتنافسون في الاستفادة منها.

و قد وفق الله تلميذه المستضي ء بنور علمه المقتفى أثره: الحاج ميرزا عبد الحسين المعروف بمحسنيان لبذل الجهد باحياء هذا السفر الجليل القيم.

هذا و منّ الله سبحانه عليه عبده الزاكي صاحب الهمة القعساء و ارومة الفضل: الحاج محمود الكاشاني؛ فأنعم عليه و شرفه بإعطاء نفقة طبع الكتاب خدمة للدين و اتحافا للطيفة والده السعيد الحاج محمد حسين الكاشاني طيب اللّه رمسه، و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

و نشكر جميل مساعى الشاب الفاضل الا ريب السيد الكاظم الموسوي المياموى حيث بذل جل أوقاته لمقابلة أجزاء الكتاب مع نسخة الأصل و تخريج الآيات المنثورة في ثناياه و اسناد ما يهم من رواياته و بعض الإصلاح فيه. و نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لا تمامه بمحمّد و آله.

محمّد الآخوندي

ص: 2

أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

سورة حمعسق

اشارة

و تسمّى سورة الشورى و هي مكّيّة إلّا أربع آيات منها نزلن بالمدينة و الأربع أوّلها: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» قال ابن عبّاس؛ و لمّا نزلت هذه الآية قال رجل:

ما أنزل اللّه هذه الآية فأنزل اللّه «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ثمّ إنّ الرجل تاب و ندم فنزل «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» إلى قوله: «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ».

فضلها: عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة حمعسق كان ممّن يصلّي عليه الملائكة و يستغفرون له و يسترحمون. و روى سيف بن عميرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

من قرأ حم عسق بعثه اللّه يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر حتّى يقف بين يدي اللّه فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حمعسق و لم تدري ما ثوابها أما لو دريت ما هي و ما ثوابها لما مللت من قراءتها و لكن سأجزيك جزاءك: أدخلوه الجنّة و له فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها و شرفها و درجها منها يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها و له فيها حورا من الحور العين و ألف جارية و ألف غلام من الولدان المخلّدين الّذين وصفهم اللّه.

التفسير: ختم اللّه سورة السجدة بذكر القرآن و افتتح هذه السورة بذكره أيضا فقال:

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

[حم عسق في المعاني عن الصادق عليه السّلام معناه الحكيم المثيب العالم السميع القادر القويّ. و القميّ عن الباقر عليه السّلام: هو حروف من اسم اللّه الأعظم المقطوع يؤلّفه الرسول أو الإمام بعلمه فيكون الاسم الأعظم الّذي إذا دعي اللّه به أجاب. و عنه عليه السّلام في عسق عدد سني القائم عليه السّلام، و قاف جبل يحيط بالدنيا من زمرّدة خضراء فخضر السماء من ذلك الجبل و علم كلّ شي ء في عسق.

نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: لا نبيّ صاحب كتاب إلّا و قد اوحي إليه حم عسق.

قيل: و إنّما فصّلت هذه السورة من الحواميم بعسق لأنّ جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح إلّا هذه فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب تضمينا لا تصريحا لأنّها اسم للسورة و السورة هي القرآن. و قال عطا: هي حروف مقطّعة من حوادث آتية فالحاء من حرب و الميم من تحويل ملك و العين من عدوّ مقهور و السين من الاستئصال بسنين كسني يوسف و القاف من قدرة اللّه و أمثال هذه البيانات مرّت في سورة البقرة.

قوله: [كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ الكاف معناه المثل و ذا للإشارة إلى شي ء سبق ذكره فيكون المعنى في مثل هذه السورة المسمّاة حم عسق اوحي إليك في سائر السور و إلى من قبلك من الرسل في كتبهم على أنّ المناط في المماثلة ما يتبيّن فيها من الدعوة إلى التوحيد

ص: 4

و الإرشاد إلى المعاد و ما فيه صلاح الخلائق و العدل.

فحاصل المعنى أنّ مثل الكتاب و السورة المسمّاة حم عسق يوحي اللّه إليك و إلى كلّ من قبلك من الأنبياء. قال الزمخشريّ: أتى بلفظ المضارع ليدلّ على أنّ إيحاء مثله عادته.

و قرئ «يوحى» بفتح الحاء على ما لم يسمّ فاعله و قرئ بالنون على التكلّم و الأكثر قرءوا بكسر الحاء فعلى القراءة الاولى الرافع لاسم اللّه ما دلّ عليه يوحى كأنّ قائلا قال:

من الموحي؟ فقيل: اللّه فإن قيل: فما رافعه إذا كان بالنون؟ فحينئذ الرفع بالابتداء و العزيز و ما بعده إخبار و العزيز الحكيم صفتان و الخبر الجملة الظرفيّة، و على القراءة الكسر فالرفع على الفاعليّة.

و بالجملة كونه عزيزا يدلّ على كونه قادرا على ما لا نهاية له و كونه حكيما يدلّ على كونه عالما بجميع المعلومات غنيّا عن جميع الحاجات نعم ما قيل:

الحمد للّه ذي الآلاء و النعم و الفضل و الجود و الإحسان و الكرم

منزّه الفعل عن عيب و عن عبث مقدّس الملك عن عزل و عن عدم

[لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فهو سبحانه موصوف بقدرة نافذة في جميع أجزاء السماوات و الأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد و الإعدام و التكوين و الإبطال «وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» و لا يجوز أن يكون المراد علوّ المكان و الجهة لمّا ثبتت الدلالة على فساده و كذلك لا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثّة و كبر الجسم لأنّ ذلك يقتضي كونه مؤلّفا من الأجزاء و الأبعاض و ذلك ضدّ قول اللّه:

«أَحَدٌ»* فالمراد من العليّ المتعالي عن مشابهة الممكنات و المحدثات و من العظيم العظمة بالقدرة و القهر بالاستعلاء و الكمال.

ثمّ قال: [تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ و قرئ بالياء في تكاد و بالتاء في «يَتَفَطَّرْنَ» أي قرب السماوات يتشقّقن من عظمة اللّه تعالى و قيل: من دعاء الولد له كما في سورة مريم «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» (1) «مِنْ فَوْقِهِنَّ» أي يبتدئ التفطّر من جهتهنّ الفوقانيّة فعلى كون الانشقاق من العظمة لما أنّ أعظم الآيات و أدلّها على العظمة و الجلال من جهة

ص: 5


1- الآية: 29.

الفوق و الملأ الأعلى و على كون سبب التشقّق نسبة الولد للدلالة على التفطّر من تحتهنّ بالطريق الأولى لأنّ تلك كلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حيث أثّرت في جهة الفوق فلأنّ تؤثّر في جهة التحت أولى. و قيل: الضمير في قوله: «فَوْقِهِنَّ» راجع إلى الأرضين أي من فوق الأرضين و هذا على طريق التمثيل و المعنى: لو كانت السماوات تتفطّر لشي ء لانفطرت لهذه العظمة أو لهذا الكلام الفاسد.

ثمّ قال: [وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به و لا يجوز في صفاته و أفعاله [وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين، القميّ قال: للمؤمنين من الشيعة التوّابين خاصّة، و لفظ الآية لو كان عامّا فالمعنى خاصّ لقوله تعالى: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا».

ثمّ قد ثبت بدليل منفصل أنّ الكفّار ليسوا قابلين للمغفرة و للشفاعة فاختصّ المعنى بالمؤمن لأنّه تعالى قال: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ» فكيف يكونون لاعنين و مستغفرين لهم؟

ثمّ إنّ قوله تعالى: «لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» لعلّه لا يفيد العموم لأنّه يصحّ أن يقال:

أنّهم استغفروا لكلّ من في الأرض و أن يقال: إنّهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض و لو كان قوله: «لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» صريحا في العموم لما صحّ ذلك التقسيم.

و تأمّل أيّها المتأمّل في هذا الترتيب الشريف العالي في نظم القرآن فإنّ الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثّر لا يقبل الأثر و هو اللّه سبحانه و هو أشرف الأقسام و متأثّر لا يؤثّر و هو القابل و هو الجسم و هو أخسّ الأقسام و موجود يقبل الأثر من القسم الأوّل و يؤثّر في القسم الثاني و هو الجواهر الروحانيّات المقدّسة و هو المرتبة المتوسّطة فهذه الجواهر الروحانيّة لها تعلّقان تعلّق بعالم الجلال و الكبرياء و هو تعلّق القبول و الاستفاضة لأنّ الأضواء الصمدانيّة إذا أشرقت على الجواهر الروحانيّة استضاءت جواهرها فلمّا استفادت تلك القوى الروحانيّة قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيّات فقوله: «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى الوجه الّذي إلى عالم الكبرياء و قوله: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى الإفاضة و إيصال الخير إلى عالم الأجسام.

ص: 6

فالجهة العلويّة اشتملت على أمرين: أحدهما التسبيح و التنزيه و ثانيهما التحميد و التسبيح مقدّم على التحميد لأنّه جهة التخلية و التحلية مقدّمة على التجلية لأنّ كونه تعالى منزّها في ذاته عمّا لا ينبغي مقدّم في الرتبة على كونه فيّاضا للخيرات و السعادات لأنّ وجود الشي ء مقدّم على إيجاد غيره و حصوله في نفسه مقدّم على تأثيره في حصول غيره فلهذا السبب كان التسبيح مقدّما على التحميد.

و أمّا الجهة الثانية فالإشارة إليها بقوله: «وَ يَسْتَغْفِرُونَ» و المراد إفاضتها و تأثيراتها الخيريّة في عالم الجسمانيّات من الفيّاض المطلق و ذلك الفيض الّذي يصدر منهم أيضا لشفقة اللّه على خلقه لأنّه سبحانه خلق الداعية في قلوبهم بطلب المغفرة للمؤمنين فكلّ الخير منسوب إليه تعالى شأنه و لو لا اللّه خلق تلك الداعية في قلوبهم لما أقدموا على الطلب فالغفور المطلق و الرحيم المطلق هو اللّه كما شهد لنفسه بذلك بقوله: [أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

ثمّ أخبر سبحانه عن إمهاله الكفّار بعد تقديم الإنذار فقال: [وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] أي آلهة عبدوها من كفّار مكّة و غيرهم أي إنّ الّذين آمنوا باللّه يستغفرون لهم الملائكة و إنّه تعالى يعطى المغفرة الّتي طلبوها لهم و يضمّ إليها الرحمة التامّة و أمّا الّذين جعلوا له شريكا و أندادا [اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ و رقيب على أحوالهم لا يفوته منها شي ء [وَ ما أَنْتَ يا محمّد بمفوّض إليك أمرهم و لا مقتسرهم على الإيمان إنّما أنت منذر فحسب.

ص: 7

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا] أي مثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب الّتي أنزلناها عليهم بلغة قومهم و بلسانهم أوحينا إليك قرآنا بلغتهم لتنذر أهل مكّة و من حولها من الخلق. و قرئ الأرض، و سمّيت مكّة أمّ القرى و كنّيت بهذه الكنية إجلالا لها لأنّ فيها البيت و امّ الأرض لأنّها دحيت من تحت موضعها و العرب تسمّي أصل كلّ شي ء امّه مثل أن يقال: هذه القصيدة من امّهات القصائد.

فإن قيل: إنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ اللّه إنّما أوحى إليه لينذر أهل مكّة و أهل القرى المحيطة بمكّة و هذا يقتضي أن يكون صلّى اللّه عليه و آله رسولا إليهم فقط و أن لا يكون رسولا إلى كلّ العالمين.

فالجواب أنّ التخصيص بالذكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا سواه نعم سلّمنا أنّ هذه الآية تدلّ على كونه رسولا إلى هؤلاء خاصّة فقوله: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» يدلّ صريحا على كونه رسولا إلى كلّ العالمين.

و أيضا دليل آخر و هو أنّه لمّا ثبت كونه رسولا إلى أهل مكّة وجب كونه صادقا فلمّا ثبت بالتواتر أنّه كان يدّعي الرسالة إلى العالمين وجب تصديقه لأنّ الرسول صادق فيما أخبر به و إلّا لم يكن رسولا و وجب تصديقه فثبت أنّه رسول إلى كلّ العالمين.

ثمّ قال سبحانه: [وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي تنذرهم بيوم القيامة فيجمع اللّه فيه الأوّلين و الآخرين و أهل السماوات و الأرضين، و يوم الجمع مفعول ثان لتنذر [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ في كونه و حصوله.

ثمّ قسّم سبحانه أهل الجمع فقال: [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ] بطاعتهم و قبولهم الأوامر [وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] بمعصيتهم [وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً] أي و لو شاء اللّه لحملهم على دين واحد و هو الإسلام بأن يضطرّهم و يلجئهم إليه لفعله و لكنّه لم يفعل لأنّه يؤدّي إلى إبطال التكليف و التكليف إنّما يتحقّق مع الاختيار. و قيل: معناه و لو شاء اللّه لسوّى بين الناس في المنزلة بأن يخلقهم في الجنّة و لكنّه اختار لهم أعلى الدرجتين و هو استحقاق الثواب و الجنّة.

[وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بسبب قبولهم الإيمان و الطاعة [وَ الظَّالِمُونَ

ص: 8

ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ] بسبب ظلمهم و كفرهم و ليسوا قابلين لنصرة اللّه و ولايته و ما أدخلهم في رحمته.

[أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ] استفهام إنكاريّ و جملة مفسّرة من أن يكون للظالمين وليّ أو نصير و المراد نفي الولاية للّذين اتّخذوهم لهم أولياء [فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ جواب شرط مقدّر محذوف كأنّه قيل بعد إبطال ولاية ما اتّخذوه أولياء: إن أرادوا وليّا في الحقيقة فاللّه هو الوليّ لا وليّ سواه لأنّه المالك للنفع و الضرّ [وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] لأنّه يحيي الموتى فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا دون من لا يقدر على شي ء، ثمّ قال: [وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي و ما اختلفتم فيه شي ء في أموركم و تنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه و لا تؤثروا حكومة غيره على حكومته و قيل: المعنى: و ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور الّتي لا مدخليّة لها بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه كحقيقة الروح فقولوا: اللّه أعلم.

[ذلِكُمُ الحاكم العظيم الشأن [اللَّهُ رَبِّي و مالكي [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مجامع اموري خاصّة دون غيره [وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في مهمّات اموري و حيث كان التوكّل أمرا واحدا مستمرّا و الإنابة متعدّدة متجدّدة حسب تجدّد موادّها عبّر في الأوّل بصيغة الماضي و في الثاني بصيغة المستقبل.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية. و قوله: «ذلِكُمُ اللَّهُ» معترضة بين الصفة و الموصوف.

ثمّ وصف سبحانه نفسه بقوله:

[سورة الشورى (42): الآيات 11 الى 15]

فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

ص: 9

قوله: [فاطِرُ السَّماواتِ قرئ بالرفع على أنّه خبر «ذلِكُمُ» أو خبر مبتدء محذوف و بالجرّ على أنّه بدل من قوله: «فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» أي اللّه خالق السماوات و الأرض و مبتدعها.

و [جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من الناس [أَزْواجاً] أي ذكورا و إناثا و أشكالا يأنس بعضهم ببعض [وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً] ذكورا و إناثا لتكمل منافعكم بها أي و خلق أيضا للأنعام من أنفسها أزواجا.

[يَذْرَؤُكُمْ أي يكثركم يقال: ذرأ اللّه الخلق أي كثّرهم. و قوله: [فِيهِ أي في هذا التدبير في الخلقة من الزوجيّة توجب التكاثر و التناسل و الضمير في «يَذْرَؤُكُمْ» يرجع إلى المخاطبين غلب جانب العقلاء على غيرهم و لم يقل: يذرؤكم به، و قال: فيه، كأنّه جعل هذا التدبير كالمعدن لهذا التكثير كما قال: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (1).

ثمّ قال: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] أي مثله شي ء و الكاف زائدة مؤكّدة لمعنى النفي قال أوس بن حجر:

و قتلى كمثل جذوع النخيل يغشاهم سبل منهمر

و قيل: الكاف ليست بزائدة فالمعنى حينئذ أنّه لو قدّر للّه تعالى مثل لم يكن لذلك المثل مثل و الصحيح هو الأوّل.

و احتجّ علماء التوحيد قديما و حديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركّبا من الأعضاء و الجوارح و الأجزاء و حاصلا في المكان و الجهة فضلا عن البراهين القاطعة عن نفي جسميّته و تحيّزه قالوا: لو كان تعالى جسما لكان مثلا لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال و الأشباه له و ذلك باطل بصريح قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» و المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات و المعنى أنّ شيئا من الذوات لا يساوي اللّه في الذاتيّة و لا يماثله فلو كان اللّه جسما لكان كونه جسما ذاتا لا صفة و الأجسام متماثلة في كونها متحيّزة مثلا أو طويلة أو عريضة و عميقة فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات اللّه في كونه ذاتا و النصّ ينفي ذلك فوجب بالنصّ أن لا يكون جسما.

هذا تمام الكلام في نفي الجسميّة عنه سمعا و لو أنّ في صفاته أيضا لا يماثله و لا

ص: 10


1- البقرة: 179.

يساويه شي ء قطعا لكن لعلّ بعض الجهلة يناقشون في بعض الصفات بأن يقولوا: إنّ العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أنّ اللّه يوصف بذلك مثل أنّه تعالى قال في هذه الآية:

«وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» و قال في حقّ الإنسان: «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» و أمثال ذلك لكن هذا قياس مع الفارق فالمثليّة في الذات غير منقول و غير معقول بالكلّيّة لأنّ المثلين هما اللّذان يقوم كلّ واحد منهما مقام الآخر في حقيقته و ماهيّته.

و الفرق بين المثل و المثل أنّ المثل هو الّذي يكون مساويا للشي ء في تمام الماهيّة و المثل هو الّذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الذات و الماهيّة و إن كان مخالفا في تمام الماهيّة و اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتّة لأنّا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثمّ يصير متحرّكا ثمّ يسكن بعد ذلك فالذوات باقية في الأحوال كلّها على نهج واحد و نسق واحد و الصفات متعاقبة متزايلة فاختلاف الصفات و الأعراض لا يوجب اختلاف الذوات و أنّ علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات و الحقيقة و على هذا ظهر أنّه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلّا أنّ هذا باطل بالعقل و النقل أمّا العقل فلأنّ ذاته إذا كانت مساوية لذوات الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصحّ على سائر الأجسام من القبول للتفرّق و التمزّق و الفناء و العدم و يلزم كونه محدثا و أمّا النقل فقوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ».

و لمّا ثبت أنّ الأجسام متماثلة في تمام الماهيّة فلو كانت ذاته جسما لكان ذلك الجسم متماثلا و مساويا لسائر الأجسام و يلزم أن يكون كلّ جسم مثلا له لما بيّنّا أنّ المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي لا اختلاف الصفات القائمة بها.

ثمّ هاهنا بحث و هو أنّ ظاهر قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» يقتضي إثبات المثل و يقتضي نفى المثل عن مثله لا عنه و ذلك يوجب إثبات المثل له له تعالى.

و الجواب أنّ العرب يقول: مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل، فنفوا البخل عن مثله و هم يريدون نفيه عنه و يقال: لا يقال لمثلي هكذا أي لا يقال لي هكذا، أو المراد بهذه العبارة المبالغة لأنّه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عن من كان مشابها بسبب كونه مشابها له فلان يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى فحينئذ فالمعنى ليس كهو شي ء على سبيل المبالغة بطريق الوجه المذكور و

ص: 11

لم يكن هذا اللفظ ساقطا عديم الأثر بل أبلغ.

و في الآية بيان آخر و هو أن يقال: إنّ المراد من الجمع بين حرفي التشبيه الدلالة على كونه منزّها عن المثل لأنّه لو كان له مثل مثل نفسه لكان مساويا لمثله في تلك الماهيّة و مباينا له في نفسه و ما به المشاركة غير ما به المباينة فيكون ذات كلّ واحد منهما مركّبا فلمّا حصل لواجب الوجود مثل حصل التركيب و انتفى الواجبيّة، انتهى.

[وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] سامعا للمسموعات مبصرا للمرئيّات و لكن رؤيته تعالى و سماعه لا يحصل بالقرع في الصماخ و التموّج في الهواء و تأثّر الحدقة بصورة المرئيّ لأنّ ذلك على اللّه محال.

قوله تعالى: [لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مفاتيح أرزاق السماوات و الأرض و أسبابها و موجباتها فتمطر السماء بأمره و تنبت الأرض بإذنه. و قيل: المعنى: له خزائن السماوات و الأرض و المراد أنّ الأصنام الّتي تعبدونها ليست موصوفة بهذه الصفات [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ] أي يوسّع و يقتر لمن يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيفعل ذلك على وجه الحكمة.

ثمّ خاطب سبحانه [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً] أي بيّن لكم و نهج و أوضح من التوحيد و الدين و البراءة من الشرك «ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» و الخطاب إلى أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله أي شرع اللّه لكم يا أصحاب محمّد من الدّين ما وصىّ به نوحا و محمّدا و إبراهيم و موسى و عيسى.

و إنّما خص هؤلاء الخمسة بالذكر لأنّهم أكابر الأنبياء و أصحاب الشرائع العظيمة و الأتباع الكثيرة. و المراد من الدين الأخذ بالشريعة المتّفق عليها بين الكلّ من التوحيد و المعاد و الإلهيّات غير التكاليف و الأحكام المتعلّقة بالأنبياء لأنّها مختلفة متفاوتة كما قال سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً» (1) فيجب أن يكون المراد منه الأمور الّتي لا يختلف باختلاف الشرائع [وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد [وَ] هو [ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى .

ص: 12


1- المائدة: 51.

ثمّ شرح ذلك بقوله: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ و المراد من إقامة الدين التمسّك به و العمل بموجبه و الدوام عليه و الدعوة به للخلق «وَ لا تَتَفَرَّقُوا» أي ائتلفوا فيه و لا تختلفوا و كونوا عباد اللّه إخوانا متّفقين في الدّين كما قال يوسف عليه السّلام: «أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (1) و قال تعالى: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (2).

و احتجّ بعضهم بقوله: «شَرَعَ لَكُمْ» على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أوّل الأمر كان مبعوثا بشريعة نوح و الجواب ما بيّنّاه.

قوله: [كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من توحيد اللّه و الإخلاص له خاصّة و رفض الأوثان لأنّهم قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» فثقل هذا الأمر عليهم و لذلك عظم اختيارنا لك في النبوّة و تخصيصك بالوحي من دونهم.

فبيّن سبحانه أنّه ليس لهم الاختيار [اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ] لرسالته على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة، و اشتقاق لفظ الاجتباء يدلّ على الضمّ و الجمع و منه جبى الخراج و جبى الماء في الحوض فقوله: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ» أي يضمّه إليه و يقرّ به منه تقريب الشرف و الرحمة و هو كما روي في الخبر: من تقرّب منّي شبرا تقرّبت منه ذراعا و من أتاني بمشي أتيته هرولة [وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي بأن أشرح له صدره و لمّا بيّن أنّه سبحانه أمّ كلّ الأنبياء و الأمم بالأخذ بالدين كان لقائل أن يقول: فما السبب أن نجد الأمم متفرّقين؟

فأجاب اللّه عنهم بقوله: [وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ لأنّهم فعلوا ذلك التفرّق للبغي و طلب الرياسة فحملتهم الحميّة النفسانيّة على أن ذهب كلّ طائفة إلى مذهب و دعا الناس إليه فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم استحقّوا العذاب بسبب هذا الفعل إلّا أنّه أخّر عذابهم لأنّ لكلّ عذاب عنده أجل مسمّى و وقتا معلوما فقال: [وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ

ص: 13


1- يوسف: 39.
2- يوسف: 109. و يس: 43. و الأنبياء: 25. و الحج: 52. و الزخرف: 23.

[رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ و الأجل المسمّى قد يكون في الدنيا و قد يكون في القيامة.

و اختلفوا في الّذين اريدوا بهذه الصفة من هم؟ فقال الأكثرون: هم اليهود و النصارى و الدليل عليه قوله في آل عمران: «وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» و قال سبحانه أيضا في سورة لم يكن: «وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» و هو لائق بأهل الكتاب.

و قال آخرون: إنّهم هم العرب و هذا القول باطل لأنّه سبحانه بعده قال: [وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فهم أهل الكتاب الّذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ففي شكّ من كتابك و كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان لأنّ كتابهم أنت منعوت فيه.

[فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي فلأجل ذلك التفرّق و لأجل ما حدث من الاختلاف الكثيرة فادع إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفة و استقم عليها كما أمرك اللّه [وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة المختلفة.

[وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بأيّ كتاب صحّ أنّه منزّل من عنده لأنّ كلّها يدلّ على وجوب الإيمان باللّه [وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم إذا تخاصمتم قال القفّال المروزيّ: معناه إنّ ربّي أمرني أن لا افرّق بين نفسي و أنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه و اسوّي بينكم من الأكابر و الأصاغر فيما يتعلّق بحكم اللّه.

ثمّ قال: [اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] أي إنّ إله الكلّ واحد و كلّ واحد مرهون بعمل نفسه فإنّ اللّه يجمع الكلّ في يوم القيامة و لا جدال و لا خصومة بيننا فقد ظهر الحقّ و الباطل لأنّ أمركم قد ظهر فيه البغي و العداوة علينا و لستم تطلبون المعرفة بالدليل حتّى يظهر المحقّ من المبطل فإذا عاند الإنسان في البغي و العداوة سقط الحجاج بينه و بين أهل الحقّ.

و اعلم أنّ هذه الآية قبل أن يؤمر صلّى اللّه عليه و آله بقتالهم و كانت المتاركة محدودة إلى أن نزلت

ص: 14

آية السيف. و قيل: هذا البيان محاجرة في مواقف المجاوبة لا متاركة في مواطن المحاربة حتّى يصار إلى النسخ بآية القتال و ليس المراد تحريم المحاجّة بل المراد أنّ المحاجّة و إتيان الدليل ليس بنافع لكم لأنّ قوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ» و قوله: «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (1) و أمثال تلك الآيات دالّة على وجود إقامة الدليل في الحقّ بل الغرض من قوله: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ» أنّكم عرفتم بالحجّة صدق قولي و لكنّكم تركتم التصديق بغيا و عنادا.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 20]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

لمّا تقدّم ظهور الحجّة و انقطاع المحاجّة لأنّها من غير فائدة ذكر حال من يحاجّ بالباطل فقال:

[وَ الَّذِينَ الآية أي الّذين يخاصمون رسول اللّه في إثبات دينه [مِنْ بَعْدِ ما] دخل الناس في الإسلام و أجابوه صلّى اللّه عليه و آله إلى ما دعاهم إليه [حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ] و باطلة حيث زعموا أنّ دينهم أفضل من الإسلام و ذلك أنّ اليهود قالوا: ألستم تقولون أنّ الأخذ بالمتّفق أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى عليه السّلام و حقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله ليست متّفقة عليها فإذا كان الأخذ بالمتّفق أولى فوجب أن يكون الأخذ باليهوديّة أولى فبيّن سبحانه أنّ هذه الحجّة فاسدة و ذلك أنّ اليهود أطبقوا على أنّه إنّما وجب الإيمان بموسى لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله و هاهنا أيضا ظهرت المعجزات على وفق قول محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اليهود شاهدوا تلك المعجزات فإن كان المناط ظهور المعجزة و يدلّ

ص: 15


1- النحل: 125.

على الصدق فههنا أيضا يجب الاعتراف بنبوّة محمّد و إن كان لا يدلّ على الصدق وجب في حقّ موسى أن لا يقرّوا بنبوّته و أمّا الإقرار بنبوّة موسى و الإصرار على إنكار نبوّة محمّد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضا.

و قيل: معنى الآية «وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» بنصرة مذهبهم «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ» للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعاؤه في كفّار بدر حتّى قتلهم اللّه بأيدي المؤمنين و استجيب أيضا دعاؤه على أهل مكّة حتّى قحطوا، و دعاؤه للمستضعفين حتّى خلصهم اللّه من أيدي قريش و غير ذلك ممّا يطول شرحه و تعداده و من بعد ما استجيب لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله دعاؤه في إظهار المعجزات و إقامتها.

[وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ أي غضب اللّه عليهم لأجل كفرهم [وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ] دائم يوم القيامة.

[اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ أي أنزل القرآن بالحقّ و الصدق فيما أخبر به من ماض و مستقبل و أمر و نهي و فرائض و أحكام كلّه حقّ من اللّه. و الميزان عبارة عن العدل كنّي به عن العدل لأنّ الميزان آلة الإنصاف و التسوية بين الحقّ. و قيل: أراد به الميزان المعروف و أنزله اللّه من السماء و عرّفهم كيف يعملون به بالحقّ و كيف يزنون به و قيل: الميزان محمّد يقتضي بينهم بالقرآن و يكون المعنى على التوسّع و التشبيه.

ثمّ خوّفهم بعذاب القيامة فقال: [وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي متى تفاجئهم؟

و إنّهم لا يعلمون وقتها، و متى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يتحرّز ضرر المظنون فضلا عن المقطوع و ما يعلّمك يا محمّد و لا غيرك لعلّ مجي ء الساعة قريب، و خفي وقت مجيئها على العباد ليكونوا على خوف و ليبادروا على التوبة و لو عرفهم مجيئها لكانوا مغرين بالقبائح قبل ذلك تعويلا على التلافي بالتوبة.

و لمّا كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله يهدّدهم بمجي ء القيامة و أكثر القول في ذلك و أنّهم ما رأوا منه أثرا قالوا على سبيل السخريّة: فمتى يقوم القيامة وليتها قامت حتّى يظهر لنا أنّ الحقّ ما نحن عليه أو الّذي عليه محمّد و أصحابه فقال سبحانه: [يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها] و إنّما يشفقون و يخافون لعلمهم أنّ عندها تمتنع التوبة

ص: 16

و أمّا منكرو البعث فلأنّه لا يحصل لهم هذا الخوف.

[أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ] فنبّه سبحانه الّذين يدخلهم المرية و الشكّ في وقوع الساعة و يمارون فيها و يجحدون في نهاية من الضلالة لأنّ استيفاء حقّ المظلوم من الظالم أمر واجب في العدل فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى اللّه و هذا من المحالات فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالا بعيدا.

ثمّ قال: [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان بهم لأنّه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على ما ينفعهم و ما يضرّهم فكان ذلك لطفا لهم. و قيل: المراد من اللطيف العالم بخفيّات الأمور. و المراد هاهنا الموصل إلى العباد المنافع على وجه يدقّ إدراكه و ذلك في الأرزاق الّتي قسّمها لعباده و صرف الآفات عنهم و إيصال الملاذّ إليهم.

ثمّ قال: [يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ] أي يوسّع الرزق على من يشاء و يجعله في خفض و دعة و من يشاء في كدّ و مشقّة و كلّ من رزقه اللّه من ذي روح فهو ممّن شاء اللّه أن يرزقه [وَ هُوَ الْقَوِيُ أي القادر الّذي لا يعجز [الْعَزِيزُ] الغالب الّذي لا يغالب.

قوله تعالى: [مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ و لمّا بيّن أنّه تعالى كثير الإحسان بعباده أمرهم بالكسب و السعي في طلب الخيرات و في الاحتراز عن القبائح فقال: «مَنْ كانَ يُرِيدُ» كسب الآخرة نضاعف له ثواب عمله و نعطيه على الواحد عشرة و نزيد على ذلك ما نشاء و يسمّى الكسب و ما يعمله العامل من امور يطلب بها الفائدة حرثا على سبيل المجاز.

[وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي و من كان يعمل عملا يكون قصده فائدة في الدنيا و نفع منها نعطه نصيبا من الدنيا لا جميع ما يريده بل على حسب ما يقتضيه الحكمة و ليس له في الآخرة نصيب و حظّ. و قيل: معناه من قصد بالجهاد وجه اللّه فله سهم الغانمين و الثواب في الآخرة و من قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك و حصل له سهم الغنيمة و لكن ليس له نصيب من الثواب في الآخرة.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام في معنى قوله: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» قال: ولاية أمير المؤمنين، و قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ» قال: معرفة أمير المؤمنين

ص: 17

و الأئمّة و «نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» أي نزيده منها و نستوفي نصيبه من دولتهم «وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» قال عليه السّلام: ليس له في دولة الحقّ مع الإمام نصيب و له النار.

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من كانت نيّته الدنيا فرّق اللّه عليه أمره و جعل الفقر بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له و من كانت نيّته الآخرة جمع اللّه شمله و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا و هي راغمة و قيل: من كان يعمل للآخرة نال الدنيا و الآخرة و من عمل للدنيا فلا حظّ له من ثواب الآخرة لأنّ الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

و كلمة «من» في الآية للتبعيض تدلّ على أنّ من طلب كسب الدنيا لا يعطى إلّا الشي ء القليل، و كذلك الآية مشعرة بأنّ منافع الآخرة و الدنيا ليست حاضرة بل لا بدّ في البابين من الحرث و الحرث لا يتأتّى إلّا بتحمّل المشاقّ في البذر ثمّ التسقية و إصلاح الأرض و التنمية ثمّ الحصد ثمّ التنقية فلمّا سمّى اللّه كلا القسمين حرثا علمنا أنّ كلّ واحد منهما لا يحصل إلّا يتحمّل المتاعب و المشاقّ.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 21 الى 25]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)

و لمّا بيّن سبحانه القانون الأعظم و القسطاس الأقوم في أعمال الآخرة و الدنيا أردفه في هذه الآية على ما هو الأصل في باب الضلالة و الشقاوة فقال:

[أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الاستفهام للتقريع أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم بالتسويل من الدين ما لم يأذن به اللّه كالشرك و إنكار

ص: 18

البعث و شركاؤهم شياطينهم الّذين زيّنوا لهم الشرك و العمل للدنيا، و قيل: الشركاء أوثانهم و إنّما أضيفت إليهم لأنّهم هم الّذين اتّخذوها شركاء للّه و لمّا كانت سببا لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه السّلام: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» (1) و المراد من قوله: «شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» يعني أنّ تلك الشرائع بأسرها على ضدّ دين اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء، أو و لو لا الوعد بأنّ الفصل يكون يوم القيامة [لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين و المؤمنين في الدنيا و حاصل المعنى أنّه لو لا حكم اللّه بتأخير العذاب لهذه الامّة إلى الآخرة لعذّبهم [وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الّذين يكذّبونك في الدنيا [لَهُمْ في الآخرة [عَذابٌ أَلِيمٌ .

ثمّ ذكر سبحانه أحوال أهل العقاب و أهل الثواب أمّا الأوّل فهو قوله: [تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين [مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ من المعاصي و هو العقاب الواقع بهم لا محالة و لا ينفعهم خوفهم و الإشفاق الخوف من جهة الرقّة على المخوف عليه من وقوع الأمر يريد سبحانه أنّ و باله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقوا و أمّا الجزء الثاني فهو أحوال أهل الثواب.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأنّ روضات الجنّة أطيب بقعة فيها، قال الرازيّ في المفاتيح في الآية تنبيه على أنّ الفسّاق من أهل الصلاة كلّهم في الجنّة إلّا أنّه خصّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في البقاع الشريفة من الجنّة فالأمكنة الّتي دون الروضات لا بدّ و أن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الّذين آمنوا و عملوا الصالحات.

ثمّ قال: [لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ و هذا يدلّ على أنّ كلّ الأشياء حاضرة مهيّاة لهم ثمّ عظّم هذه الدرجة و قال [ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] و الأشاعرة استدلّوا بهذه الآية على أنّ الثواب غير واجب على اللّه و إنّما يحصل بطريق الفضل من اللّه قالوا: و هذا تصريح بأنّ الجزاء المرتّب على العمل إنّما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق.

ص: 19


1- ابراهيم: 36.

ثمّ أعاد البشارة (1) فقال: [ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ أي ذلك الثواب و الفضل الكبير الّذي يبشّر اللّه به عباده المؤمنين العاملين بالأعمال الصالحة ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا و كيف لا يكون ذلك الثواب فضلا كبيرا إذ نالوا نعيما لا ينقطع بعمل قليل منقطع؟

قوله تعالى: يا محمّد [قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى روي أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أ ترون أنّ محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت الآية أي لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ نفعا و أجرا إلّا المودّة في القربى. و قيل: الاستثناء منقطع أي لا أطلب الأجر لكن أسألكم المودّة.

و اختلف في معناه على أقوال:

أحدها: لا أسألكم على التبليغ و تبليغ الشريعة أجرا إلّا التوادّ و التحابّ فيما يقرّب إلى اللّه من العمل الصالح عن الحسن و الجبّائيّ و أبي مسلم قالوا: المراد هو التقرّب إلى اللّه و التودّد إليه بالطاعة.

و ثانيها: أنّ معناه إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم و تحفظوني لها، عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و جماعة، قال الشعبيّ: سألنا ابن عبّاس عن الآية قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلّا و قد ولّده، فقال اللّه: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلّا أن تودّوني لقرابتي منكم فيصير المعنى: إنّكم قومي و أحقّ من إجابتي و إطاعتي فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حقّ النسب و لا تؤذوني و لا تهيّجوا عليّ.

القول الثالث: روى الكلبيّ عن ابن عبّاس قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قدم المدينة كانت تعروه نوائب و حقوق و ليس في يده سعة فقال الأنصار: إنّ هذا الرجل صلّى اللّه عليه و آله ق.

ص: 20


1- بل البشارة انما هي باعتبار ما بعدها من أجر الرسالة و لذلك قال في أول السورة ان الآية و ما بعدها إلى أربع آيات نزلت بالمدينة فالبشارة للمؤمنين المصاحبين لأجل انه لم يسأل على أداء رسالته أجرا بل ألزمهم المودة في القربى فقط و هي عبادة و حسنة و أما ما قيل من أن المراد من القربى قرابته من قريش فهذا غلط فان المخاطبين بذلك القول المسلمون و هم يحبونه صلّى اللّه عليه لمقام الرسالة و الهداية لا لقرابة النسب، و النسب في جنب الرسالة و الهداية شي ء لا يعبأ به مع ان محبة المسلمين له صلّى اللّه عليه و آله أمر ثابت لا يحتاج إلى أي تشويق.

قد هداكم اللّه على يده و هو ابن أختكم و جاركم في بلدكم فأجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوه ثمّ أتوه به فردّه عليهم فنزل قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ الآية» أي إنّي على الإيمان لست أطلب منكم أجرا إلّا أن تودّوا أقاربي و حثّهم على مودّة أقاربه.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام ما يقرب هذا المعنى قال عليه السّلام: لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حجّة الوداع و قدم المدينة أتته الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه إن اللّه عزّ و جلّ قد أحسن إلينا و شرّفنا بك و بنزولك بين ظهرانيّنا فقد فرّح اللّه صديقنا و نكّب عدوّنا و قد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو فنحبّ أن تأخذ ثلث أموالنا حتّى إذا قدم عليك وفد مكّة وجدت ما تعطيهم فلم يردّ رسول اللّه عليهم شيئا و كان صلّى اللّه عليه و آله ينتظر ما يأتيه من ربّه فنزل عليه جبرئيل و نزلت الآية و لم يقبل أموالهم فقال المنافقون:

ما أنزل اللّه هذا على محمّد و ما يريد إلّا أن يرفع ابن عمّه و يحمل علينا أهل بيته يقول أمس من كنت مولاه فعليّ مولاه، و اليوم (1) «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ» الآية، و لمّا قال المنافقون هذا الكلام و هو إنكارهم أنّ هذه الآية نزلت من اللّه، نزلت «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فأرسل صلّى اللّه عليه و آله إليهم فتلاها عليهم فبكوا و اشتدّ عليهم فنزلت «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» الآية.

و عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام رسول اللّه فقال: إنّ اللّه تعالى قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم مؤدّوه؟ قال: فلم يجبه أحد منهم فانصرف فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك فلم يجبه أحد، و كذلك في الثالث فلم يتكلّم أحد فقال: أيّها الناس إنّه ليس من ذهب و لا فضّة و لا مطعم و لا مشرب، قالوا:

فألقه إذن، قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل عليّ «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقالوا: أمّا هذه فنعم قال الصادق عليه السّلام: فو اللّه ما و في بها إلّا سبعة نفر سلمان و أبو ذرّ و عمّار و المقداد بن الأسود الكنديّ و جابر بن عبد اللّه الأنصاري و مولى لرسول اللّه يقال له الثبيت و زيد بن أرقم.

و في العيون عن الرضا عليه السّلام ما يقرب من هذا الحديث.ر.

ص: 21


1- و ذلك لأنه صلّى اللّه عليه و آله قد قال ذلك القول مرارا قبل يوم الغدير.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية؟ قيل:

إنّهم يقولون إنّها لأقارب رسول اللّه قال: كذبوا إنّما نزلت فينا خاصّة في أهل البيت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين أصحاب الكساء عليهم السّلام.

و في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل مرفوعا إلى أبي أمامة الباهليّ قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة فأنا أصلها و عليّ فرعها و فاطمة لقاحها و الحسن و الحسين ثمارها و أشياعنا أوراقها فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجى و من زاغ عنها هوى و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشنّ البالي ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه اللّه على منخريه في النار ثمّ تلا هذه الآية.

و روى زاذان عن عليّ عليه السّلام قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن ثمّ قرأ هذه الآية و إلى هذا أشار الكميت في شعره حيث يقول:

وجدنا لكم في آل حم آيةتأوّلها منّا تقيّ و معرب

و بالجملة فإن قيل: إنّ طلب الأجرة على تبليغ الوحي و الرسالة لا يجوز لأنّه كان واجبا عليه صلّى اللّه عليه و آله و طلب الأجرة على الأمر الواجب غير جائز كما قال نوح عليه السّلام:

«وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» على أنّ طلب الأجر كان يوجب التهمة و ذلك ينافي القطع بصحّة النبوّة و ظاهر الآية أنّه جعل المودّة في القربى أجر التبليغ.

فالجواب من وجهين: الأوّل أنّ الاستثناء منقطع فحينئذ «إلا» بمعنى بل و الثاني أنّ الاستثناء متّصل لكنّه لمّا كانت المودّة في القربى أمر واجب في الإسلام فلا يكون أجرا للنبوّة و التبليغ و هو من باب قول النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بها من قراع الدارعين فلول (1)

فيصير المعنى في الآية أنا لا أطلب منكم إلّا هذا، و هذا في الحقيقة ليس أجرا لأنّ حصول المودّة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُب.

ص: 22


1- كذا في التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي من غير نسخة إلى النابغة و المشهور الصحيح في قول النابغة: بهن فلول من قراع الكتائب.

بَعْضٍ» (1) و قال صلّى اللّه عليه و آله: المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا فإذا كان حصول المودّة بين المسلمين واجبا فحصولها في حقّ أشرف المسلمين و أكابرهم أولى فحينئذ المودّة في القربى ليست أجرا فرجع الحاصل إلى أنّه لا أجر.

و نقل صاحب الكشّاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من مات على حبّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة.

قال الرازيّ: الآل هم الّذين يؤول أمرهم إليه و معلوم أنّ كلّ من كان أمرهم إليه أشدّ و أكمل كانوا هم الآل، و لا شكّ أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين كان التعلّق بينهم و بين رسول اللّه أشدّ التعلّقات و هذا هو المعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، و أيضا اختلف الناس في الآل فقيل: هم الأقارب و قيل: هم امّته فإن حملناه على القرابة فهم الآل و إن حملناه على الأمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل فثبت أنّ على جميع التقادير هؤلاء هم الآل و أمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه، انتهى كلام الرازيّ.

و روى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: عليّ و فاطمة و ابناهما فثبت بهذا أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ و هم مخصوصون بمزيد التعظيم و قال صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. و ثبت بالنقل المتواتر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان يحبّ عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و لمّا ثبت ذلك وجب على كلّ الامّة مثله لقوله: «وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (2)

ص: 23


1- المائدة: 54.
2- البقرة: 53 و 150.

و لقوله سبحانه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» و الدعاء منصب عظيم و فريضة و لذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة و هو قوله: اللهم صلّ على محمّد و آل محمّد و هذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل فثبت أنّ حبّ آل محمّد واجب قال الشافعيّ:

يا راكبا قف بالمحصّب من منى و اهتف بساكن خيفها و الناهض

سحرا، إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمّدفليشهد الثقلان أنّي رافضي

و بالجملة فإن قيل: لم قال: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و لم يقل: إلّا المودّة للقربى؟

لأنّ المعنى أنّهم جعلوا مكان محبّة الامّة و محلّها.

قوله تعالى: [وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً] أي من فعل طاعة نزد له في تلك الطاعة حسنا بأن نوجب له الثواب و ذكر أبو حمزة الثماليّ عن السدّيّ أنّه قال:

إنّ اقتراف الحسنة المودّة لآل محمّد. و صحّ عن الحسن بن عليّ أبي طالب عليه السّلام أنّه خطب الناس يوما و قال في خطبته: أنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم فقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت و روى إسماعيل بن عبد الخالق عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء.

[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] للسيّئات [شَكُورٌ] للطاعات يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحقّ كأنّه ممّن وصل إليه النفع فشكره.

قوله: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً] أي بل يقولون افترى محمّد على اللّه كذبا في ادّعائه الرسالة عن اللّه أو إثبات المودّة للقربى، فرية افتر محمّد على اللّه فنزلت «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى الآية، قال صاحب الكشّاف: «أم» منقطعة و معنى الاستفهام فيه التوبيخ كأنّه قيل: أ يجري في ألسنتهم أن نسبوا مثله إلى الافتراء على اللّه، و الفرية أقبح أنواع الكذب و أفحشها.

[فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ المعنى استشهاد على بطلان ما نسبوا إليه من الافتراء أي كأنّه قيل: لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك و إن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معاني القرآن و لم تنطق بحرف من حروفه و حيث

ص: 24

لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا بعد حين تبيّن أنّه من عند اللّه تعالى. و قيل:

المعنى: فإن يشأ اللّه يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتّى لا يشقّ عليك قولهم و أباطيلهم من قبيل: إنّه ساحر و مفتر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يذهب ما يقولونه باطلا فقال: [وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أي يزيله و يرفعه بإقامة الدلائل على بطلانه و حذف الواو من يمحو في المصاحف كما حذف من قوله: «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» على اللفظ في ذهابها دون المعنى لالتقاء الساكنين و ليس بعطف على قوله: «يَخْتِمْ» لأنّه مرفوع يدلّ عليه قوله [وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي و يثبت الحقّ بأقواله الّتي ينزّلها على نبيّه و هو هذا القرآن المعجز. و قيل: المراد من الكلمات الأئمّة و القائم من آل محمّد [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] و بضمائر القلوب.

[وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ و قد ذكرت قبيل هذا شأن نزول الآية أي إنّ اللّه يقبل التوبة عنهم و إن جلّت معاصيهم لأنّهم نسبوا الافتراء إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و مع ذلك قبلت توبتهم و إن جلّت معاصيهم [وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ فيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 26 الى 30]

وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)

و لمّا تقدّم في الآيات السابقة وعيد أهل العصيان و أرجاهم بقبول التوبة و لو كانت معاصيهم عظيمة و بيان التوبة قد سبق في سورة البقرة و لا يحتاج إلى التكرار و أقلّ ما لا بدّ فيه الندم على الماضي و الترك في الحال و العزم الراسخ على عدم العود في المستقبل كما يفصح عن هذا المعنى حديث رواه جابر من أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك و كبّر فلمّا فرغ من صلاته قال له أمير المؤمنين

ص: 25

عليّ عليه السّلام: يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين فتوبتك يحتاج إلى توبة فقال: يا أمير المؤمنين و ما التوبة؟ فقال عليه السّلام: التوبة اسم يقع على ستّة أشياء: على الماضي من الذنوب: الندامة، و لتضييع الفرائض: الإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في الطاعة كما ربّيتها في المعصية، و إذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته.

و مسألة التوبة بين الأشاعرة و المعتزلة في أنّ قبولها على اللّه من باب التفضّل أو الوجوب خلافيّة قالت المعتزلة: يجب على اللّه عقلا و قالت الأشاعرة: لا يجب على اللّه شي ء و كلّما يفعله بالكرم و التفضّل.

و احتجّت الأشاعرة على صحّة قولهم بقوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ» و قالوا:

إنّه تعالى يمدح بقبول التوبة و لو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدّح العظيم أ لا ترى أنّ من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما و لا يقتلهم غضبا كان ذلك مدحا قليلا أمّا إذا قال: إنّي أحسن إليهم مع أنّ ذلك لا يجب عليّ كان ذلك مدحا و ثناء.

و بالجملة فقوله تعالى: [وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ معناه يجيبهم إلى ما يسألونه و قيل: و يجيبهم اللّه في دعاء بعضهم لبعض عن معاذ بن جبل و قيل: المعنى إنّ اللّه يقبل طاعاتهم و عباداتهم و يزيدهم من فضله على ما يستحقّونه من الثواب و قيل:

معنى «وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا» أنّ يشفّعهم في إخوانهم.

[وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي و يشفّعهم في إخوانهم عن ابن عبّاس روي عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه: في قوله: «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا و قيل: إنّ قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» رفع على أنّه فاعل تقديره و يجيب المؤمنون اللّه فيما دعاهم اللّه إليه لكنّ الباقين قالوا: إنّ محلّه النصب و الفاعل مضمر و هو اللّه و تقديره و يستجيب اللّه للمؤمنين إلّا أنّه حذف اللام كما حذف في قوله:

«وَ إِذا كالُوهُمْ» و هذا القول مطابق للمعاني المذكورة و أوجه لأنّ الخبر فيما قبل و بعد عن اللّه لأنّ ما قبل الآية قوله: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» و ما بعدها قوله: «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فيزيد عطف على «وَ يَسْتَجِيبُ».

ص: 26

فلو قيل: إنّه تعالى قد يستجيب دعاء الكافر فما فائدة التخصيص للمؤمنين؟

فالجواب إنّ اجابة دعاء المؤمنين و ذكر التخصيص على سبيل التشريف لكن إجابة دعاء الكافر في الدنيا دون الآخرة و هي على سبيل الاستدراج بل [وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ].

و لمّا بيّن أنّه يزيد المؤمنين من فضله أخبر أنّ توسعة الأرزاق و تغيّرها تكون على حسب المصالح فقال: [وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لو وسع الرزق على حسب ما يطلبونه لبطروا و تغالبوا و ظلموا في الأرض و خرجوا عن الاستقامة في دنياهم و تغلّب بعضهم على بعض قال ابن عبّاس: بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة و دابّة بعد دابّة و ملبسا بعد ملبس و لا يقفون على حدّ و هذه الآية كأنّها جواب عن قوله: «وَ يَسْتَجِيبُ» و هو أنّ المؤمن قد يكون في شدّة و محنة و فقر ثمّ يدعو فلا يجاب و لا يشاهد أثر الإجابة فأجاب سبحانه «وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ».

قال بطل الاعتزال الجبّائيّ: إنّ هذه الآية تدلّ على بطلان قول المجبّرة من وجهين:

الاول: أنّ حاصل الكلام أنّه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض فالبغي في الأرض غير مراد فبسط الرزق لهذه الجهة غير حاصل و هذا الكلام يصحّ و يتمّ إذا قلنا إنّه لا يريد البغي في الأرض فثبت فساد قول المجبّرة.

الثاني أنّه تعالى بيّن أنّه إنّما لم يرد بسط الرزق لأنّه يفضي إلى المفسدة فلمّا بيّن أنّه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريدا للمفسدة أولى و بالجملة فالعقل يحكم بحصول البغي في بسط الرزق و أقلّ ما فيه خراب العالم في انتظامه لأنّه لو بسط الرزق و سوّى في الرزق بين الكلّ لامتنع كون البعض خادما للبعض و لو صار الأمر كذلك لتعطلّت المصالح و انفصمت الأمور بالكلّيّة.

ثمّ إنّ النفوس إذا كانت شريرة فاقدة الآلات و الأدوات كان الشرّ يصدر منه قليلا كما أنّ العرب كانت كلّما اتّسع أرزاقهم و وجدوا من ماء المطر ما يرويهم و من الكلاء و العشب ما يشبعهم أقدموا على الغارات و النهب و الإنسان متكبّر بالطبع فإذا وجد الغنى

ص: 27

و القدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصليّة و هو التكبّر و التطاول و إذا وقع في الشدّة عاد إلى الطاعة و التواضع.

[وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ] أي ينزّل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء نظرا منه تعالى لهم بالرأفة و يؤيّده الحديث الّذي رواه أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه تعالى: إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم و لو صحّحته لأفسده و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحّة و لو أسقمته لأفسده، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى و لو أفقرته لأفسده، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر و لو أغنيته لأفسده و ذلك أنّي ادبّر عبادي لعلمي بقلوبهم و الحديث طويل.

فلو قيل: إنّا نرى كثيرا ممّن يوسّع عليه الرزق يبغي في الأرض.

قلنا: إنّا إذا علمنا على الجملة أنّه سبحانه يدبّر امور عباده بحسب ما يعلم مصالحهم يمكن أنّ هؤلاء يستوي حالهم في البغي وسّع عليهم أولم يوسّع عليهم و لو لم يوسّع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي فلذلك وسّع عليهم.

[إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] عليم بأحوالهم بصير بما يصلحهم و ما يفسدهم.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا] و لمّا بيّن أنّه تعالى لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنّه علم أنّ تلك الزيادة تضرّهم في دينهم بيّن أنّهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنّه لا يمنعهم منه فقال: «وَ هُوَ الَّذِي» الآية، و إنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر أي ينزّله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله و الغيث ما كان نافعا في وقته و المطر قد يكون ضارّا في وقته و غير وقته و وجه إنزال بعد القنوط لأنّه أدعى إلى المعرفة بموقع إحسانه.

[وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ و يفرّق نعمته و يبسطها بإخراج النبات و الثمار الّتي يكون سببها المطر [وَ هُوَ الْوَلِيُ الّذي يتولّى تدبير عباده و تقدير أمورهم المالك لهم [الْحَمِيدُ] المحمود على جميع أفعاله.

[وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على وحدانيّته و صفاته الّتي باين بها خلقه [خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب [وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ]

ص: 28

و الدابّة ما تدبّ فيدخل فيه جميع الحيوانات و قوله: «مِنْ دابَّةٍ» أي من حيّ و ذي حيات فيصحّ الإطلاق على الملائكة و يمكن أن يكون للملائكة مشي مع الطيران و قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: فوق السماء السابعة بحر بين أسفله و أعلاه كما بين السماء و الأرض ثمّ فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهنّ و أظلافهنّ كما بين السماء و الأرض ثمّ فوق ذلك العرش العظيم.

[وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ] أي إنّه تعالى على حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم قادر لا يتعذّر عليه ذلك و كلمة «إِذا» عند كونها بمعنى الوقت تدخل على المستقبل كما تدخل على الماضي مثل «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى .

و احتجّ الجبّائي بقوله تعالى: «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» على أنّ مشيّته محدثة بأن قال إنّ كلمة «إِذا» تفيد ظرف الزمان و كلمة «يَشاءُ» صيغة المستقبل فلو كانت مشيّته قديمة لم يكن تخصيصها بذلك الوقت المعيّن من المستقبل فائدة و لمّا دلّ قوله: «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» على هذا التخصيص علمنا أنّ مشيّته محدثة قال أبو السعود: قوله: «إِذا يَشاءُ» متعلّق بما قبله لا بقوله «قَدِيرٌ».

ثمّ قال سبحانه: [وَ ما أَصابَكُمْ معاشر الخلق [مِنْ مُصِيبَةٍ] من بلوى في نفس أو مال [فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من المعاصي [وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ] منها فلا يعاقب بها قال أهل التحقيق: الآية مخصوصة بالمجرمين و إن خرج مخرج العموم لأنّ الأطفال و المجانين و من لا ذنب له من المؤمنين قد يصابون بمصائب شديد مع أنّه لا ذنب لهم و إنّ الأنبياء و الأئمّة بمتحنون بالمصائب و ليس ذلك لأجل الذنوب بل لأسباب أخر منها تعريض للثواب العظيم و الدرجات العالية.

و روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ خير آية في كتاب اللّه هذه الآية؛ ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلّا بذنب و ما عفا اللّه عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 31 الى 35]

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

ص: 29

قال الواحديّ في البسيط: إنّ قوله تعالى في الآية السابقة: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» أرجى آية في كتاب اللّه للمؤمنين المذنبين لأنّ اللّه تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين صنف كفّره عنهم بالمصائب في الدنيا، و صنف عفي عنه في الدنيا و هو كريم لا يرجع عن عفوه و هذه سنّته مع المؤمنين.

و أمّا الكافر فلأنّه لا يعجل عليه عقوبة ذنوبه حتّى يوافي يوم القيامة فقال: [وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي يا معاشر الكفّار أنتم لا تعجزونني حيث ما كنتم و لا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض [وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ] قال الرازيّ: و المراد بهم من يعبد الأصنام و بيّن أنّه لا فائدة فيها البتّة و النصير هو اللّه فلا جرم هو الّذي تحسن عبادته.

قوله: [وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ] قرئ الجواري بالياء في الوقف و الوصل و قرئ بإثبات الياء في الوصل و الحذف، و إن كانت لاما قد كثر في كلامهم و ذكر من آياته السفن الجواري (فحذف الموصوف لعدم الالتباس) و هي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح.

و الغرض من الآية الاستدلال على وجود القادر، و المعرفة بأنّ هذه النعم العظيمة من اللّه للعباد، و المراد من «الأعلام» الجبال؛ قالت الخنساء ترثي أخاها:

و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به كأنّه علم في رأسه نار

و نقل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استنشد قصيدتها هذه فلمّا وصل الراوي إلى هذا البيت قال صلّى اللّه عليه و آله: قاتلها اللّه (1) ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتّى جعلت على رأسه نارا.

و الحاصل أنّ هذه السفن الّتي كالجبال تجري على وجه البحر عند الهبوب على أسرع الوجوه و عند سكون الرياح تقف و محرّك الرياح و مسكّنها هو اللّه إذ لا يقدر أحدن.

ص: 30


1- ليس ذلك دعاء عليها فان الخنساء أسلمت و استشهد لها اربعة بنين في القادسية، بل استعجاب و استحسان.

على تحريكها من البشر و لا على تسكينها، و ذلك يدلّ على وجود الإله القادر و إنّ اللّه تعالى خصّ كلّ جانب من الأرض بنوع من الأمتعة و بهذه الآلة يحصل المنافع العظيمة للناس و هذا الإنسان الّذي كان في مبدء أمره لا يميّز التبر من التبن جعله ذا قوّة عاقلة بحيث يصدر منه هذه الصناعة و أمثالها و ليس ذلك إلّا بحكمته الوافية.

[إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] أي في ذلك الّذي ذكر من الدلائل و الآيات آيات دالّة لكلّ صبّار على بلاء اللّه شكور على آلائه، و المقصود أنّ المؤمن يجب أن لا يكون غافلا على التقديرين.

ثمّ قال: [أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ] المعنى إن يشأ إسكان الريح يسكن أو إن يشأ يجعل الريح عاصفة يهلك أهل السفن بالغرق عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي و يعف عن كثير من أهلها فلا يغرقهم و لا يعاجلهم بالعقوبة. و قوله: «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» عطف على قوله: «يُسْكِنِ» أي إن يشأ يهلك ناسا و ينج ناسا على طريق العفو منهم و من قرأ «و يعفوا» بالواو فقد استأنف الكلام.

ثمّ قال: [وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قرئ يعلم بالرفع على الاستيناف و بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم و يعلم الّذين يجادلون في آياتنا و العطف على التعليل المحذوف كثير في القرآن مثل قوله: «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» أي ليعلم الّذين يجادلون في إبطال آياتنا ما لهم ملجأ يلجئون إليه. و قرئ بالجزم عطفا على يعف و المعنى: و إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم و إنجاء قوم و تحذير قوم.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 36 الى 40]

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)

ص: 31

ثمّ خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم فقال:

[وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ] ممّا يرغبون و يتنافسون فيه فهو متاع تتمتّعون به مدّة حياتكم ثمّ تموتون فيبقى عنكم أو يهلك المال قبل موتكم [وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة [خَيْرٌ] ذاتا [وَ أَبْقى زمانا حيث لا يزول كهذه المنافع الفانية [لِلَّذِينَ آمَنُوا] و صدّقوا بتوحيد اللّه و بما يجب التصديق به [وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ و هم متوكّلون و مفوّضون أمرهم إلى اللّه و التوكّل على اللّه تفويض الأمور إليه بأنّها جارية من قبله على أحسن التدبير.

و هذه الخيريّة المذكورة في الآية بقوله: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ» لا تحصل إلّا بشرائط:

الاول: أن يكون العبد من المؤمنين لقوله «لِلَّذِينَ آمَنُوا».

الثاني: أن يكون من المتوكّلين على فضل اللّه لقوله: «وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

الثالث: أن يكون مجتنبا لكبائر الإثم و الفواحش، عن ابن عبّاس: كبير الإثم هو الشرك و قيل: المراد بكبائر الإثم ما يتعلّق بالبدع و استخراج الشبهات و بالفواحش ما يتعلّق بالقوّة الشهويّة و بقوله: [وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلّق بالقوّة الغضبيّة.

الرابع: [وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ و المراد تمام الانقياد و الرضاء بقضاء اللّه من صميم القلب و أن لا يكون في قلبه معارضة و منازعة في أمر من الأمور و يجيبون ما أمر اللّه إيّاهم.

[وَ أَقامُوا الصَّلاةَ] و أداموا عليها في أوقاتها و شرائطها [وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي إذا وقعت بينهم واقعة تشاوروا و لا يتفرّدوا برأي و الشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور و معنى قوله: «وَ أَمْرُهُمْ شُورى أي ذو شورى و هي المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ و قيل:

المعنى و المقصود بالآية: الأنصار كانوا إذا أرادوا أمرا تشاوروا قبل الإسلام و كان ذلك قبل قدوم النبيّ اجتمعوا و تشاوروا ثمّ عملوا عليه فأثنى اللّه عليهم بذلك. و قيل: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ورود النقباء حتّى اجتمعوا في دار أبي أيّوب على الإيمان

ص: 32

به صلّى اللّه عليه و آله و النصرة له و قد روي أنّه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشد [وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة اللّه و سبيل الخير.

الخامس: [وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ من غيرهم [هُمْ يَنْتَصِرُونَ ممّن بغى عليهم من غير أن يعتدوا أي يقتصرون في الانتصار على ما يجعله اللّه لهم و لا يتعدّونه.

و قيل: ينتصرون أي يتناصرون و ينصر بعضهم بعضا نحو يختصمون و يتخاصمون.

و قيل: المعنيّ في الآية المؤمنون الّذين أخرجهم الكفّار من مكّة و بغوا عليهم ثمّ مكّنهم اللّه في الأرض حتّى انتصروا من ظلمهم.

و قيل: جعل اللّه المؤمنين صنفين صنفا يعفون عمّن ظلمهم و هم الّذين ذكروا قبل هذه الآية و هو قوله: «إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» و صنفا ينتصرون ممّن ظلمهم و هم الّذين ذكروا في هذه الآية و الّذي أخذ بحقّه و لم يجاوز في ذلك ما حدّ اللّه فهو مطيع للّه و من أطاع اللّه فهو محمود و لا منافاة و تناقض بين الآيات مثل قوله: «وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (1) و قوله «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (2) و قوله تعالى: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (3).

و بيّن هذه الآية من قوله: «وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» أنّ العفو على قسمين قسم يصير سببا لتسكين الفتنة و رجوع الجاني عن جنايته و قسم يصير سببا لمزيد الجاني جرءته على الجناية و تلك الآيات في العفو محمولة على القسم الأوّل و هذه الآية محمولة على القسم الثاني فلا منافاة.

و عن النخعيّ أنّه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء قال الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

ألا ترى أنّ العفو عن المصرّ يكون كالإغراء له.

ص: 33


1- البقرة: 237.
2- الأعراف: 198.
3- النحل: 126.

روي أنّ زينب أقبلت على عائشة فشتمها فنهاها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها فلم تنته فقال:

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعائشة: دونك فانتصري.

ثمّ إنّه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنّه مشروع فقط ثمّ بيّن بعده أنّ شرعه مشروط برعاية المماثلة ثمّ بيّن أنّ العفو أولى بقوله: فمن عفى.

قوله: [وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها] أي إنّ جزاء سيّئة مثلها فإنّ الأفعال مستتبعة بأجزيتها حتما نحن زوّجنا الفعال بالجزاء فقيّد سبحانه إنّ الانتصار لا بدّ و أن يكون مقيّدا بالمثل فإنّ النقصان حيف و الزيادة ظلم و التساوي عدل و به قامت السماوات و الأرض.

فإن قيل: إنّ جزاء السيّئة مشروع مأذون فيه فكيف سمّي بالسيّئة؟

أجاب صاحب الكشّاف عنه أنّ كلتا الفعلتين الاولى و جزاؤها سيّئة لأنّها تسوء من ينزل به قال اللّه: «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» (1) يريد ما يسوؤهم من المصائب و البلايا.

و أجاب غيره بأنّه لمّا جعل أحدهما في مقابلة الاخرى أطلق اسم أحدهما على الآخر على سبيل المجاز.

و هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإنّ مقتضاها أن يقابل كلّ جناية بمثلها و قد تأكّد هذا النصّ بنصوص أخر مثل قوله: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ» (2) و قوله: «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» (3) و قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى (4).

و القصاص عبارة عن المساواة و المماثلة و قوله: «وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ» فوجب رعاية المماثلة مطلقا إلّا فيما لا يمكن المماثلة أو خصّه الدليل المنفصل: و التخصيص يقع في صور كثيرة مثلا إذا قال له: أخزاك اللّه فليقل مثله أخزاك اللّه أمّا إذا قذفه قذفا يوجب الحدّ

ص: 34


1- النساء: 78.
2- النحل: 126.
3- المؤمن: 40.
4- البقرة: 178.

فليس له مثل ذلك بل الحدّ الّذي أمر اللّه به.

ثمّ قال سبحانه: [فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فإذا عفا بشرط القربة للّه فيقع أجره على اللّه و قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على اللّه فليدخل الجنّة فيقال: من ذا الّذي أجره على اللّه؟ فيقال:

العافون عن الناس فيدخلون الجنّة بغير حساب.

قوله تعالى: [سورة الشورى (42): الآيات 41 الى 45]

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)

ثمّ ذكر سبحانه حال المنتصر فقال: من انتصر لنفسه و انتصف من ظالمه [بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد أن ظلم و تعدّى عليه فأخذ لنفسه بحقّه فالمنتصرون [ما عَلَيْهِمْ من إثم و عقوبة و ذمّ و هنا إضافة المصدر إلى المفعول.

[إِنَّمَا السَّبِيلُ الإثم و العقاب [عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءون بالإضرار أو يعتدون في الانتقام [وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و يتكبّرون فيها علوّا و فسادا [أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم.

[وَ لَمَنْ صَبَرَ] و تحمّل المشقّة في رضاء اللّه [وَ غَفَرَ] فلم ينتصر و لم يعاقب [إِنَّ ذلِكَ الصبر و التحمّل [لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] أي الأمور الثابتة الّتي يحبّها اللّه و أمر بها فلم ينسخ.

و قيل: عزم الأمور الأخذ بأصوبها و أعلاها في باب نيل الثواب.

[وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي و من يظله عن رحمته و جنّته فما له معين سواه و قيل: من عذّبه اللّه عقوبة له على عناده ليس له وليّ يلي أمره و يدفع عذاب اللّه عنه.

ص: 35

قوله: [وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي تراهم يا محمّد إذا شاهدوا عذاب النار [يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ و رجوع في الدنيا و ذلك تمنّيا منهم.

[وَ تَراهُمْ يا محمّد [يُعْرَضُونَ عَلَيْها] أي على النار قبل دخولهم النار [خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ ساكتين متواضعين في حال العرض [يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ أي خفيّ النظر و يسارقون النظر إلى النار خوفا منها و ذلّة في نفوسهم كأنّهم ينظرون من عين لا تفتح كلّها و إنّما نظروا ببعضها إلى النار كالمصبور ينظر إلى السيف.

[وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ أي المتّصفين بصفة الخسران في الحقيقة هم [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن فوّتوا عن أنفسهم الانتفاع بنعيم الجنّة و ذلك القول من المؤمنين حين ما رأوا عظيم ما نزل بالظالمين قوله: [وَ أَهْلِيهِمْ أي خسروا أنفسهم و أولادهم و أزواجهم و أقاربهم.

[أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ إمّا من تمام كلامهم أو تصديق من اللّه تعالى لهم، و استدلّ القاضي عبد الجبّار بهذه الآية على أنّ الكافر و الفاسق يدوم عذابهما، و أجاب الرازيّ أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى: «وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

[سورة الشورى (42): الآيات 46 الى 50]

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

ثمّ أخبر سبحانه عن الظالمين الّذين ذكرهم فقال:

[وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ] أي ما كان لهم من دون اللّه من أنصار يدفعون عنهم عقاب اللّه و من يضلّله اللّه عن طريق الجنّة فليس له سبيل إليها.

ثمّ قال: [اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا داعي ربّكم يعني محمّدا فيما دعاكم إليه و

ص: 36

رغّبكم فيه من المصير إلى طاعته و الانقياد لأمره [مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا رجوع بعده إلى الدنيا.

و قيل: معناه لا يقدر أحد على ردّه و دفعه و هو يوم القيامة عن الجبّائيّ. و قيل:

معناه لا يردّ و لا يؤخّر وقته و هو يوم الموت.

[ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ] أي معقل يعصمكم من العذاب [وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ] أي إنكار و تغيّر للعذاب أو نصير منكر ما يحلّ بكم و لا يردّه اللّه بعد ما حكم به و يجوز أن يكون المراد من قوله: «نَكِيرٍ» الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا ممّا اقترفتموه من الأعمال.

[فَإِنْ أَعْرَضُوا] هؤلاء الّذين أمرتهم بالاستجابة و لم يقبلوا هذا الأمر [فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً] بأن تحفظ أعمالهم و تحصيها [إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ و ليس عليك إلّا الإيصال إلى أفهامهم و البيان لما فيه رشدهم.

[وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها] أي إذا وجدوا في الدنيا سعادة و فوزا بنعيمها فرح و استرّ بها، و نعم اللّه في الدنيا و إن كانت عظيمة إلّا أنّها بالنسبة إلى السعادة المعدّة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمّاها ذوقا و المراد أنّه إذا فاز بهذا القدر الحقير الّذي حصل في الدنيا فإنّه يعظم سروره و يقع في العجب و الكبر و يظنّ أنّه فاز بكلّ المنى.

ثمّ بيّن أنّه متى أصابته سيّئة و شي ء يسوؤه كالمرض و الفقر فقال: [وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ] و الكفور مبالغة في الكفران و لم يقل: فإنّه كفور ليبيّن أنّ طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلّا إذا أدّب نفسه بأدب اللّه.

قوله: [لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و المقصود منه أن لا يغترّ الإنسان بما ملكه من المال و الجاه بل إذا علم أنّ الكلّ ملك اللّه و هو تعالى ملّكه و أنعم عليه فيصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة و العبادة و أمّا إذا اعتقد أنّ تلك النعم إنّما حصلت بسبب عقله و جدّه بقي مغرورا بنفسه معرضا عن طاعة اللّه.

ثمّ ذكر من أقسام تصرّفه تعالى في العالم و قال: [يَخْلُقُ ما يَشاءُ] يخصّ البعض

ص: 37

بالأولاد الإناث و البعض بالذكور فقال: [يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً] أي يجمع لهم بين البنين و البنات تقول العرب: زوّجت إبلي أي جمعت بين صغارها و كبارها. قال مجاهد: و هو أن تلد المرأة غلاما ثمّ جارية. و قيل: هو أن تلد توأما ذكرا و أنثى أو ذكرا و ذكرا أو أنثى و أنثى. و قيل: هو أن يجمع الرحم الذكر و الأنثى عن محمّد بن الحنفيّة قوله: [وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً] أي يجعل البعض محروما عن الكلّ من الرجال و النساء [إِنَّهُ عَلِيمٌ بما خلق [قَدِيرٌ] على ما يريد و عبّر سبحانه في الآية عن الإناث بلفظ التنكير و عن الذكور بلفظ التعريف للتنبيه على أشرفيّة الذكور على الإناث.

قال ابن عبّاس: في قوله: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً» يريد لوطا و شعيبا عليهما السّلام و لم يهب لهما إلّا البنات «وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» يريد إبراهيم لم يكن له إلّا الذكور. و قوله: «أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً» يريد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان له من البنين أربعة القاسم و الطاهر و عبد اللّه و إبراهيم و من البنات أربعة زينب و رقيّة و امّ كلثوم و فاطمة عليها السّلام «وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» يريد عيسى و يحيى.

قوله: [سورة الشورى (42): الآيات 51 الى 53]

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

المعنى: لمّا ذكر نعمه السابقة على خلقه ذكر في هذه الآية أجلّ النعم و هي النبوّة فقال:

[وَ ما كانَ لِبَشَرٍ] أي ليس لأحد من البشر [أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا] أن يوحي إليه [وَحْياً] مثل داود اوحي في صدره فزبر الزبور أو يكون بطريق الإلهام و القذف في القلب أو المنام كما أوحى اللّه إلى امّ موسى و إبراهيم في ذبح ولده أو يسمعه كلامه تعالى [أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ و هو موسى في الطور [أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا] و هو جبرئيل [فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ] أي

ص: 38

إرسال ملائكته بكلامه و كتبه إلى أنبياء.

و المراد من قوله: «أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» هو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلّا من يريد أن يكلّمه به نحو كلامه لموسى لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا عن موسى وحده و في المرّة الثانية حجبه عن جميع الخلق إلّا عن موسى و السبعين نفرا الّذين كانوا معه و يمكن أن يقال: إنّه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذين أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلّا في جسم و لا يجوز أن يكون أراد بقوله: «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» تكلّمه عباده لأنّ الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام.

[إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ عليّ عن الإدراك بالأبصار حكيم في أفعاله.

قالت المعتزلة و الإماميّة: إنّ هذه الآية تدلّ على أنّه تعالى لا يرى و ذلك لأنّه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة و لو صحّت رؤية اللّه لصحّ من اللّه أن تتكلّم مع العبد حال ما يراه العبد فحينئذ يكون ذلك قسما رابعا زائدا على هذه الأقسام الثلاثة و اللّه تعالى نفى القسم الرابع.

و أمّا الّذين يدّعون الرؤية يزيدون في الآية قيدا، و لعجزهم عن أوّله نفي الرؤية زادوا هذا القيد و قالوا: تقدير الكلام في الآية: و ما كان اللّه لبشر أن يكلّمه اللّه في الدنيا.

و هذا القول و التقدير خلاف الظاهر وهب أنّهم التزموا بهذا التقدير في الآية و اثبتوا مدّعاهم فماذا يصنعون بتلك الدلائل المنفصلة في نفي الرؤية من وقوع التجسّم و التمكّن و التركيب و أمثالها المباينة لمعنى الألوهيّة؟ و بالجملة إنّه تعالى لا يرى لا في الدنيا و لا في القيامة.

قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي مثل ما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك [رُوحاً مِنْ أَمْرِنا] و معنى الروح القرآن لأنّ فيه الحياة من موت الكفر و الاهتداء بالحياة السليمة عن الآفات. و قيل: المراد من الروح هو روح القدس و هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا:

و لم يصعد إلى السماء و إنّه لفينا الأئمّة.

[ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ أي ما كنت يا محمّد قبل الوحي و قبل أن

ص: 39

نعلّمك بالوحي ما القرآن و لا الشرائع و معالم الإيمان؟ و قيل: معناه و لا أهل الإيمان أي من الّذي يؤمن و من الذي لا يؤمن و هذا من باب حذف المضاف.

[وَ لكِنْ جَعَلْناهُ أي جعلنا الروح الّذي هو القرآن [نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا] لأنّ فيه معالم الدّين. و قيل: المعنى جعلنا الإيمان نورا. القميّ عن الباقر عليه السّلام في قوله: «وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً» قال: يعني عليّا عليه السّلام و عليّ هو النور هدى به من هدى من خلقه.

[وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي كما أنّ القرآن يهدي إلى الصراط المستقيم فأنت تهدي الخلق و علي نفسك و صنوك فهو أيضا كذلك قال الصادق عليه السّلام حين سئل عن معنى الآية: يعني إنّك لتأمر بولاية عليّ و تدعو إليها و عليّ هو الصراط المستقيم.

ثمّ فسّر ذلك الصراط بقوله: [صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي إنّ الصراط صراط اللّه و لا يجوز عبادة غيره. ثمّ قال: [أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ] و ترجع [الْأُمُورُ] دون غيره.

توضيح لو قيل: إنّ الإجماع منعقد على أنّه لا يجوز أن يقال: إنّ الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر فكيف التطبيق مع قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ»؟

و التطبيق ما ذكرنا في تفسير الآية إن كنت عرفت معناه و هو أنّ المراد من الكتاب القرآن و من الإيمان الصلاة لقوله تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» أي صلاتكم.

و الجواب الثاني ما بيّنّا من حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب و من أهل الإيمان يعني من الّذي يؤمن و من الّذي لا يؤمن.

و الجواب الثالث ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان حتّى كنت طفلا في المهد و معلوم أنّ علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان قديما بل علّمه اللّه.

و الجواب الرابع أنّ الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلّف اللّه به و إنّه قبل النبوّة ما كان عارفا بجميع جزئيّات الشريعة بل إنّه كان عارفا باللّه تعالى تمّت السورة.

ص: 40

سورة الزخرف

اشارة

مكية كلها و قيل: إلّا آية منها «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا» الآية، نزلت بيت المقدس. عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الزخرف كان ممّن يقال له: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ادخلوا الجنّة بغير حساب».

و عن أبي بصير عن الباقر عليه السّلام من أدمن قراءة الزخرف آمنه اللّه في قبره من هو امّ الأرض و من ضغطة القبر حتّى يقف بين يدي اللّه ثمّ جاءت حتّى تكون هي الّتي تدخله الجنّة بأمر اللّه.

ص: 41

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)

[حم أي هذه السورة مسمّاة بحم أو أنّ حم هو القرآن و على هذا التقدير فقوله:

[وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ بالجرّ على أنّه مقسم به إمّا ابتداء أو بإضمار باء القسم، أقسم سبحانه بالكتاب المبين [إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا] فيكون المقسم عليه هو قوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً» و على تقدير: هذه سورة حم، فيكون القسم واقعا على أنّ هذه السورة هي سورة حم و على هذا التقدير فقوله: «إِنَّا جَعَلْناهُ» ابتداء لكلام آخر.

و في وصف الكتاب بكونه مبينا لأنّه المبين للذين أنزل إليهم لأنّه بلغتهم و لسانهم أو لأنّه مبين طريق الهدى من طريق الضلالة و أبان كلّ باب عمّا سواء و وصف الكتاب بكونه مبينا مجاز لأنّ المبين هو اللّه و سمّي القرآن بذلك توسّعا من حيث إنّه حصل البيان عنده و هو إنّما سمّي قرآنا لأنّه جعل بعضه مقرونا ببعض و يصدّق بعضه بعضا.

[لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تتدبّرون و كلمة لعلّ للتمنّي و الترجّي و هو لا يليق بمن كان عالما بالعواقب فكان المراد منها هنا «كي» أي أنزلناه قرآنا عربيّا لكي تعقلوا معناه و تحيطوا بفحواه.

قالت المعتزلة: و كلمة «إِنَّا جَعَلْناهُ» تدلّ على حدوث القرآن لأنّ المجعول هو المصنوع المخلوق. فإن قيل: إنّ المراد من قوله: «جَعَلْناهُ» أي سمّيناه عربيّا؛ فهذا الكلام مدفوع لأنّه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أنّ من سمّاه عجميّا أن يصير عجميّا و إن كان بلغة العرب و معلوم أنّ هذا باطل.

ص: 42

ثمّ إن كان المراد من الجعل التسمية و صرف إلى هذا المعنى لزم كون التسمية مجعولة و التسمية أيضا من كلام اللّه و ذلك يوجب أنّ بعض كلامه مجعول و إذا صحّ ذلك في البعض صحّ في الكلّ على أنّه سمّي قرآنا لأنّ بعضه مقرون ببعض و ما كان كذلك كان مصنوعا معمولا و كونه عربيّا أي اختصّت بمسمّياتها بوضع العرب و اصطلاحاتهم و ذلك أيضا يدلّ على كونه مصنوعا.

و أيضا يستنبط دليل آخر على حدوث الكلام و هو أنّ القسم بغير اللّه لا يجوز كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه كان يقول: يا ربّ طه و يس و يا ربّ القرآن العظيم فحينئذ صار القرآن مربوبا مخلوقا فتمّ الدليل.

و أيضا قالت المعتزلة: إنّ حاصل معنى قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» على ما فسّرتم و فسّرنا هو أنّا جعلناه قرآنا عربيّا لكي تعقلوا و هذا يفيد أمرين: أحدهما أنّ أفعال اللّه معلّلة بالأغراض و الدواعي. و الثاني أنّه تعالى إنّما أنزل القرآن ليهتدي به الناس و ذلك يدلّ على أنّه تعالى أراد من الكلّ الهداية و المعرفة خلاف قول من يقول: إنّه تعالى أراد من البعض الكفر و الإعراض، و القائلين بالجبر هم الأشاعرة.

و بالجملة قوله: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» أي بلسان العرب و مذاهبها في الحروف و المفهوم و مع ذلك لا يتمكّن أحد منهم من إنشاء مثله و ما يقاربه من علوّ طبقته في الفصاحة و البلاغة إمّا لعدم علمهم بذلك أو لأنّهم صرفوا عنه قهرا على الخلاف بين العلماء كالمرتضى و أمثاله.

قوله [وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أي إنّ القرآن في اللوح المحفوظ و إنّما سمّي باللوح المحفوظ لأنّ سائر الكتب ينسخ منه أو أنّ أصل كلّ شي ء امّه و القرآن مثبت في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» (1) و هو الكتاب الّذي كتب اللّه ما يكون إلى يوم القيامة لما رأى في ذلك صلاح ملائكته بالنظر فيه و علم فيه من لطف المكلّفين بالإخبار عنه.

[لَدَيْنا] أي الّذي عندنا [لَعَلِيٌ أي عال في البلاغة أو يعلو كلّ كتاب بما اختصّ

ص: 43


1- البروج: 21.

به من كونه ناسخا للكتب و يوجب العمل به و بإدامته و بما تضمّنه من الفوائد عظيم الشأن تعظمه الملائكة و المؤمنون [حَكِيمٌ مظهر للحكمة فهو بمنزلة الحكم الّذي لا ينطق إلّا بالحقّ و الصواب.

و قد وصف اللّه تعالى القرآن بهاتين الصفتين لأنّهما من صفات الحيّ، و في المعاني عن الصادق عليه السّلام: هو أمير المؤمنين كما قيل في سورة الفاتحة في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» هو أمير المؤمنين و معرفته ثمّ خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن و جحد ما فيه من الحكمة فقال: [أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً] و المراد بالذكر القرآن أي أ فنترك عنكم الوحي (و ذكر الانتقام) صفحا و إعراضا إذا كنتم متجاوزين عن الحدّ. و «أَنْ» قيل:

بمعنى «إذ» مثل قوله: «وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (1) و تقدير الآية على كون إنّ بمعناها لا بمعنى «إذ»: إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحا و عفوا و قرئ أن بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين.

و حاصل معنى الآية أ فنمسك عن إنزال الوحي و القرآن و نهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم من أجل سرفكم في كفركم و التعبير في الآية بالضرب لأنّ الدابّة إذا أرادوا أن يصرفوا وجهها عن طريق إلى طريق تضرب بالسوط فوضع الضرب موضع الصرف و العدل. و قيل: إنّ الذكر بمعنى العذاب فالمعنى أ حسبتم أنّا لا نعذّبكم أبدا؟

قال صاحب الكشّاف: الفاء في قوله: «أَ فَنَضْرِبُ» للعطف على محذوف تقديره:

أ نهملكم فنضرب عنكم الذكر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 10]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

ثمّ عزّى نبيّه بقوله: [وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أي في الأمم الماضية [وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ . يعني إنّ الأمم الخالية الّتي ذكرناها كفرت بالأنبياء و سخرت منهم لفرط جهالتهم و غباوتهم و استهزئت بهم كما استهزأ قومك

ص: 44


1- البقرة: 278.

بك فلم نضرب عنهم صفحا بسبب استهزائهم بالرسل بل كرّرنا الحجج و أعدنا الرسل [فَأَهْلَكْنا] من اولئكم الأمم بأنواع العذاب من كان أشدّ قوّة و منعة من قومك فلا يغترّ هؤلاء بالقوّة و النجدة.

ثمّ قال: [وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف في القرآن غير مرّة ذكر قصّتهم الّتي حقّها أن تسير مسير المثل و حاصل المعنى أنّ كفّار مكّة سلكوا في الكفر و التكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزّل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال: «وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ» (1).

قوله: [وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي إن سألت قومك يا محمّد [مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما و اخترعهما [لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي لم يكن جوابهم في ذلك إلّا أن يقولوا: خلقهنّ يعني السماوات و الأرض القادر الّذي لا يقهر و لا يغلب العليم بمصالح الخلق و هو اللّه لأنّهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام و الأوثان و هذا إخبار عن جهلهم إذ اعترفوا بأنّ اللّه خلقهنّ ثمّ عبدوا معه غيره و أنكروا قدرته على البعث.

ثمّ وصف بقوله: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً] و قرئ مهادا أي مقرّا و مسكنا [وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا] لتسلكوها [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم. و قيل: معناه لتهتدوا إلى الحقّ في الدين باعتبار النظر و التدبّر فيها. و قال سبحانه: «مَهْداً» لأجل كونها واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها في الزراعة و بناء الأبنية و لمّا كان المهد موضع الراحة للصبيّ و هي موضع الراحة للخلق عبّر بالمهد.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 11 الى 15]

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

ثمّ أكّد سبحانه بقوله: [وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً] أي غيثا و مطرا بقدر الحاجة لا زائدا عليها فيفسد، و لا ناقصا عنها فيضرّ و في ذلك دلالة على أنّه واقع من حكيم

ص: 45


1- الفرقان: 39.

قادر مختار قد قدّره على ما يقتضيه الحكمة لعلمه بذلك.

[فَأَنْشَرْنا] أي فأحيينا [بِهِ أي بذلك الماء [بَلْدَةً مَيْتاً] و النشر الحياة قال الأعشى:

لو أسندت ميتا إلى نحرهاعاش و لم ينقل إلى قابر

حتّى يقول الناس ممّا رأوايا عجبا للميّت الناشر

و المراد من البلد الميّت أي جافّة يابسة و إحياؤها بإخراج النبات و الأشجار و الثمار.

[كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة تخرجون من قبوركم يوم البعث.

[وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها] يعني أزواج الحيوان من ذكر و أنثى. و قيل: معناه خلق الأشكال جميعها من الحيوان و الجماد فمن الحيوان الذكر و الأنثى و من غير الحيوان ممّا هو كالمقابل مثل الحلو و المرّ و الرطب و اليابس و الشتاء و الصيف و اللّيل و النهار و الشمس و القمر و السماء و الأرض و الجنّة و النار.

[وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي السفن و البقر و الإبل. و قيل:

المراد في هذه الآية من الأنعام خصوص الإبل أي ما تركبون في البرّ و البحر [لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ هي الغرض في خلق ما ذكر: لأن تستووا و تستقيموا بركوبكم على ظهوره فالضمير في ظهوره يعود إلى لفظ «ما» [ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتشكروا على تلك النعمة الّتي هي تسخير ذلك المركب و تعترفوا بنعته منزّهين عن شبه المخلوقين [وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا] المركب و ذلّله لنا حتّى ركبناه [وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين و مقاومين في القوّة به و تقولوا [وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي و لتقولوا أيضا ذلك و معناه و إنّا إلى اللّه راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر و هو الجنازة.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا و قال: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ اللّهمّ إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ و التقوى و العمل بما ترضى اللّهمّ هوّن علينا سفرنا و اطوعنا بعده اللّهمّ أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل و المال اللّهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر

ص: 46

و كأبة المنقلب و سوء المنظر في الأهل و المال» و كان صلّى اللّه عليه و آله إذا رجع قال: آئبون تائبون لربّنا حامدون، أورده مسلم في الصحيح.

و روى العيّاشيّ بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ذكر النعمة أن تقول: الحمد للّه الّذي هدانا للإسلام و علّمنا القرآن و منّ علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و تقول بعده: سبحان الّذي سخّر لنا هذا إلى آخره.

ثمّ رجع سبحانه إلى ذكر الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم فقال: [وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ و معنى الجعل في الآية الحكم بأنّ بعض عباده و هم الملائكة له أولاد؛ قال ابن عبّاس: زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه. و قيل: إنّ معناه و جعلوا للّه من مال عباده نصيبا و هو كقوله: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً» (1) فحذف المضاف و على المعنى الأوّل أثبتوا التركيب له سبحانه حيث جعلوا اللّه ذا أجزاء و أبعاض كما قال صلّى اللّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي و الولد أصله ينفصل من الوالد فجزؤه و بعض منه و متى كان الأمر كذلك فإنّه يقبل الاتّصال و الانفصال و الاجتماع و الافتراق و لازم هذه الأمور الحدوث و تباين القديميّة و الأزليّة.

[إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي جاحد لنعم اللّه مظهر لكفره غير مستتر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 16 الى 20]

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19) وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قال: على سبيل التوبيخ بل [اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ لنفسه سبحانه [وَ أَصْفاكُمْ أي أخلصكم بالبنين.

ثمّ زاد في الاحتجاج عليهم بأن قال: [وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا] أي بما جعل للّه شبها و ذلك أنّ ولد كلّ شي ء شبهه و جنسه فالمعنى إنّه إذا اخبر أحدهم

ص: 47


1- الانعام: 136.

بولادة ابنة له [ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا] بما يلحقه من الغمّ و الحزن [وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوّ من الكرب و الغيظ.

ثمّ وبّخهم بما افتروه فقال: [أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ] أي أو جعلوا من ينشّأ في زينة النساء يعني البنات و من شأنه أن يربّى في الزينة و هو عاجز عن أن يتولّى لأمره بنفسه فجعلوا ينسبون شيئا هم يستنكفون منه إلى اللّه و حاصل المعنى أنّهم ينسبون البنات إلى اللّه و الّذي يربّى في الحلية و هو ناقص الذات لأنّه لو لا نقص في ذاتها لما احتاجت تزيّن نفسها بالحلية.

ثمّ بيّن نقص حالها بطريق آخر و هو قوله: [وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني إنّها إذا احتاجت المخاصمة و المنازعة عجزت و كانت غير مبين و ذلك لضعف لسانها و قلّة عقلها و بلادة طبعها، و يقال: قلّما تكلّمت امرأة فأرادت أن تكلّم بحجّتها إلّا تكلّمت بما كانت حجّة عليها فهذه الوجوه دالّة على نقصها فكيف يجوز إضافتهنّ بالولديّة إليه سبحانه؟

قال الرازيّ: و الآية تدلّ على أنّ التحلّي مباح للنساء و أنّه حرام للرجال لأنّه تعالى جعل ذلك من المعائب و موجبات النقصان و إقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذلّ و ذلك حرام لقوله صلّى اللّه عليه و آله: ليس للمؤمن أن يذلّ نفسه، و إنّما زينة الرجل الصبر على طاعة اللّه و التزيّن بزينة التقوى و إنّما قال: «وَ هُوَ فِي الْخِصامِ» و لم يقل: و هي، لأنّه حمله على لفظ «مَنْ».

قوله: [وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً] بأن زعموا أنّهم بنات اللّه [أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ هذا أي أحضروا حتّى علموا أنّهم إناث، و هذا كقوله: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ» (1) و المراد أنّ هذا الأمر الّذي يزعمون ليس له طريق إلى ثبوته بالدلائل العقليّة و أما الدلالة النقليّة فكلّها متفرّعة على إثبات النبوّة و هم منكرون للنبوّة فلا سبيل إلى إثبات هذا المطلوب إلّا بالعيان فأنكر سبحانه عيانهم فثبت أنّ دعواهم غير محقّقة لا بضرورة و لا بدليل و قرئ «عند الرحمن».

ص: 48


1- الصافات: 150.

و استدلّ الّذي قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية على قراءة النون فقال:

إنّ العنديّة لا شكّ أنّها عنديّة القرب و الفضل و لفظة «هُمْ» يوجب الحصر فالمعنى أنّهم هم الموصوفون بهذه العنديّة لا غيرهم.

ثمّ هدّدهم بقوله: [سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بذلك و يسألون عنها يوم القيامة.

[وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ثمّ حكى سبحانه نوعا آخر من كفرهم و شبهاتهم و هو أنّهم نسبوا هذه العبادة إلى ارادة اللّه و إشائته و الآية تدلّ على فساد قول المجبّرة في أنّ كفر الكافر يقع بإرادة اللّه فأبطل سبحانه و زيّف هذا الاعتقاد بقوله تعالى: [ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي لا يعلمون صحّة ما يقولونه لأنّه دعوى من غير دليل [إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي ما هم إلّا كاذبون و كذّبهم اللّه لأنّهم أشركوا باللّه بإضافة الولد إليه و فارقوا العدل و نسبوا الظلم إلى اللّه بإضافتهم الكفر إلى مشيّة اللّه، قاله أبو حامد.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 21 الى 25]

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

لمّا حكى سبحانه تخرّص من أضاف عبادة الأصنام و الملائكة إلى مشيّة اللّه قال:

على سبيل الاستفهام الإنكاريّ و قرّر خطاءهم بقوله:

[أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً] و التقدير، هذا الّذي ذكروه شي ء تخرّصوه و افتعلوه أم آتيناهم كتابا [مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي بذلك الكتاب المؤتى عليهم فإذا لم يمكنهم ادّعاء أنّ اللّه أنزل بذلك كتابا علم أنّ ذلك من تخرّصهم.

ثمّ أعلم سبحانه أنّهم اتّبعوا الضلالة.

فقال: ليس الأمر كذلك [بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ] أي على ملّة و طريقة، عن ابن عبّاس و جماعة و قيل: أي على جماعة أي كانوا مجتمعين على هذه الطريقة [وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ

ص: 49

مُهْتَدُونَ نهتدي بهداهم.

ثمّ قال: [وَ كَذلِكَ أي مثل ما قال هؤلاء في الحوالة على تقليد آبائهم في الكفر [ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد صلّى اللّه عليك [فِي قَرْيَةٍ]. و مجمع من الناس [مِنْ نَذِيرٍ] و من زائدة و مؤكّدة [إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها] هم المتمتّعون الّذين آثروا الترفّه على طلب الحجّة يريد الرؤساء [إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ فلا نخالفهم فأحال سبحانه حال جميعهم على التقليد للآباء فقط دون الحجّة و التقليد قبيح في العقول إذ لو كان جائزا لكان يلزم أن يكون الحقّ في الشي ء و في نقيضه فكلّ فريق يقلّد أسلافه مع أنّ كلا منهم يعتقد أن من سواء على خطأ و ضلال و هذا باطل و لا بدّ من الرجوع إلى حجّة عقليّة أو سمعيّة.

ثمّ خاطب سبحانه للنذير [قالَ قل لهم [أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ تتّبعون ما وجدتم عليه آباءكم و لا تقبلون ما جئتكم به أي أ تقبلون ما جئتكم به أم لا تقبلون و تبقون على ضلالتكم و تقليدكم أيضا و في هذا البيان حسن التلطّف في الاستدعاء إلى الحقّ لأنّ ما جئتكم به من الحقّ إذا كان أهدى ممّا تزعمون أنّه الهداية كان أوجب أن يتّبع و يرجع إليه.

ثمّ اخبر سبحانه أنّهم أبوا أن يقبلوا ذلك و [قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيّها الرسل [كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فلمّا تمّت الحجّة و ما نفعت أهلكناهم و عجّلنا عقوبتهم [فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأنبياء اللّه و الجاحدين لهم فدلّت الآية على أنّ العاقبة المحمودة للمصدّقين بحججه و رسله و العاقبة المذمومة للمكذّبين بالرسل و الآيات.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 30]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)

و اذكر يا محمّد لهم وقت قول [إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ و المراد من الأب العمّ و التعبير بالأب عن العمّ مرّ ذكره قبل قال: [إِنَّنِي بَراءٌ] أي تبرّأ عليه السّلام منهم و من مسلكهم و

ص: 50

«بَراءٌ» مصدر عبّر به مبالغة و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث أي إنّني بري ء من عبادتكم أو معبودكم.

[إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي و ابتدأني و أظهرني من العدم إلى الوجود و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أو متّصلا لأنّهم كانوا يعبدون اللّه و الأصنام أي أنا بري ء من آلهة تعبدونها غير الّذي فطرني [فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي سيثبتني على الهداية إلى طريق الجنّة بلطفه، و فيه بيان ثقته عليه السّلام باللّه تعالى و المعنى أنّه كان هداني قبل ذلك فسيهديني بعد ذلك و الأقرب أنّ السين للتّأكيد دون التّسويف و صيغة المضارع للدّلالة على الاستمرار.

[وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي و جعل إبراهيم عليه السّلام كلمة التوحيد الّتي عبّر بها كلمة باقية في ذرّيّته حيث وصّاهم بها كما نطق به قوله تعالى: «وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ» الآية فلا يزال فيهم من يوحّد اللّه إلى يوم القيامة و قيل: المراد بالكلمة الباقية الإمامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و اختلف في عقبة من هم؟ فقيل: ذرّيّته و ولده و قيل: هم آل محمّد عليهم السّلام لأنّهم من نسله و ذرّيّته.

[لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ و يتوبون و يرجعون عمّا هم عليه إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم في توحيد اللّه كما اقتدى الكفّار بآبائهم.

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على قريش فقال: [بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ المعنى إضراب عن محذوف ينساق إليه الكلام كأنّه قيل جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعوته فلم يحصل ما رجاء بل متّعت قومك هؤلاء و آباءهم فامهلوا و متّعوا حتّى جاءهم القرآن و الآيات الدالّة على الصدق و بعثنا رسولا مبينا يبيّن الحقّ و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لمّا جاءهم الحقّ أي القرآن قابلوا هذه النعم بالتكذيب و [قالُوا هذا] القرآن [سِحْرٌ] و حيلة خفيّة و تمويه [وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ جاحدون أنّه من قبل اللّه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 31 الى 35]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

ص: 51

المعنى: هذا نوع آخر من كفريّاتهم و هو أنّهم قالوا: إنّ رسالة اللّه منصب عظيم شريف فلا يليق إلّا برجل شريف و قد صدقوا في ذلك إلّا أنّهم ضمّوا إليه مقدّمة فاسدة و هي أنّ الرجل الشريف هو الّذي يكون كثير المال و الجاه و محمّد ليس كذلك فلا يليق رسالة اللّه به و إنّما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين و هي مكّة و الطائف قال المفسّرون: و الّذي بمكّة هو الوليد بن المغيرة و الّذي بالطائف هو عروة ابن مسعود الثقفيّ.

فأبطل اللّه شبهتهم بقوله: [أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ تعجيب من تحكّمهم و المراد من الرحمة النبوّة أي إنّه سبحانه يقسّم النبوّة و ليس بأيديهم مفاتيح النبوّة فيضعونها حيث شاءوا.

ثمّ قال: [نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا] على حسب ما علمناه من المصلحة و ليس لأحد أن يتحكّم في شي ء من ذلك فكما فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرسالة من نشاء [وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أفقرنا البعض و أغنينا البعض فتلقى ضعيف الحيلة عيّ اللسان و هو مبسوط له و تلقى شديد الحيلة بسيط اللّسان و هو مقتر عليه:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه كم جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

و حاصل المعنى أنّ رزق الدنيا مع قلّة خطره لم يفوّض إليهم بل جعلناه على وفق ما توجبه الحكمة و المصلحة فكيف نفوّض اختيار النبوّة إليهم مع عظم محلّها و شرف قدرها؟

قوله: [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا] أي إنّ الحكمة في اختلاف الرزق بين العباد زيادة على ما فيه من المصالح فيه تسخير من بعض العباد لبعض بإحواجهم إليه ليستخدم

ص: 52

بعضهم بعضا فينتفع أحدهم بعمل الآخر له فينتظم قوام أمر العالم و قد جعلنا هذا التفاوت بين العباد في القوّة و الضعف و العلم و الجهل و الحذاقة و البلاهة و الشهرة و الخمول و إنّما فعلنا ذلك لأنّا لو سوّينا بينهم في كلّ هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا و لم يصر أحد منهم مسخّرا لغيره و حينئذ يقضي ذلك إلى خراب العالم ثمّ إنّ أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا و لا على خروج من قضائنا فإن عجزوا عن الاعتراض على حكمنا في أحوال الدنيا مع قلّتها و دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا و قضائنا في أمر النبوّة و منصب الرسالة؟ و ما ظنّهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين و هو أبعد من مناط العيّوق و أعزّ من بيض الأنوق فمن أين لهم البحث عن التعيين في شخص الرسول؟

[وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي النبوّة و ما يتبعها من سعادة الدارين خير ممّا يجمعون من حطام الدنيا الدنيّة الفانية فهذه الرحمة الخاصّة و هي النبوّة خير من الأموال الّتي يجمعونها لأنّ الدنيا فانية و رحمته باقية أبد الآباد.

قوله تعالى: [وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً] و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلّهم كفّارا على دين واحد لميلهم إلى الدنيا و حرصهم عليها و لو لا أن يجتمع الناس على اختيار الدنيا على الدين [لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ] أي كنّا جعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن سقفا من فضّة، السقف جمع السقيفة مثل السفن جمع السفينة. و قيل: اللام الثانية بمعنى «على» فحينئذ المعنى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم سقفا من فضّة [وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي و جعلنا سلاليم و درجا من فضّة عليها يعلون و يصعدون.

[وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً] من فضّة على تلك السرر يتّكئون [وَ زُخْرُفاً] قال ابن عبّاس و جماعة: الزخرف الذهب و هو عطف على محلّ من فضّة. و قيل: الزخرف النقوش و قيل: الفرش و متاع البيت و تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير و التأكيد. و بالجملة لو لا وقوع كثرة الكفر لكنّا نعطي الكافر غاية ما يتمنّاه في الدنيا لقلّتها و حقارتها لكنّه لم يفعل سبحانه لما فيه من المفسدة.

ثمّ أخبر أنّ جميع ذلك إنّما يتمتّع به في الدنيا فقال: [وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ

ص: 53

الْحَياةِ الدُّنْيا] أي و ما كلّ ما ذكر من البيوت المفصّلة و الزخازف إلّا شي ء يتمتّع به في الدنيا [وَ الْآخِرَةُ] أي الجنّة الباقيّة [عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم.

قال بعض أهل التحقق: و اللّه لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها إلى الكفر و ما فعل سبحانه ذلك فكيف لو فعله؟

و في الآية دلالة على اللطف و إنّه تعالى لا يفعل المفسدة و ما يدعو إلى الكفر و إذا لم يفعل ما يؤدّي إلى الكفر فلأن لا يفعل الكفر و لا يريده أولى تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا فثبت بطلان مذهب الجبر.

و على قراءة من خفّف «لما» قال الواحديّ: ما زائدة و التقدير لمتاع الحياة الدنيا و صحّح قراءة التخفيف الكسائيّ (1).

فإن قيل: إنّ اللّه لم يفعل بالكافرين الفعل المذكور و بيّن السبب أنّ المانع لذلك اجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتّى يصير ذلك سببا لاجتماع الناس على الإسلام؟

فالجواب أنّ الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا و هذا الإيمان لا ينفع و هو إيمان المنافقين.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 40]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)

لمّا تقدّم ذكر الوعد للمتّقين بيّن الوعيد لمن هو على ضدّ صفتهم فقال:

[وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي يعرض عنه و يعم، شبّههم بالأعشى لمّا لم يبصروا الحقّ و القرآن و الذكر القرآن أو الآيات و الأدلّة [نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي نخلّ بينه و بين الشيطان الّذي يغويه و يدعوه إلى الضلالة فيصير قرينه عوضا عن ذكر اللّه

ص: 54


1- لأنه أنكر مجي ء لما بمعنى الافحكم بان قراءة التخفيف صحيح لا غير.

و هو الخذلان عقوبة له عن الإعراض. و قيل: معناه نقرن به شيطانا في الآخرة يلازمه فيذهب به إلى النار كما أنّ المؤمن يقرن به ملك فلا يفارقه حتّى يصير به إلى الجنّة. و قيل:

أراد به شياطين الإنس نحو علماء السوء و رؤساء الضلالة يصدّونهم عن سبيل اللّه فيتّبعونهم.

[وَ إِنَّهُمْ يعني و إنّ الشياطين، و إنّما جمع لأنّ الكلام في معرض الجمع (لأنّ المغوين كثيرون) و إن كان اللفظ على الواحد [لَيَصُدُّونَهُمْ أي يصرفون هؤلاء الكفّار [عَنِ السَّبِيلِ عن طريق الهداية و الجنّة [وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و يحسب الكفّار أنّهم على الهدى فيطيعونهم.

[حَتَّى إِذا جاءَنا] و قرئ «جاآنا» على التثنية فالمعنى: الشيطان المغوي و المغتوي الضالّ، و من قرأ على التوحيد فالمعنى: حتّى إذا جاءنا الكافرون يوم القيامة الّذي يتولّى سبحانه حساب الخلق فيه قال الكافر حينئذ لقرينه الّذي أغواه: [يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يعني بعد ما بين المشرق و المغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قال الشاعر الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع

يعني الشمس و القمر، و قيل: يعني محمّدا و إبراهيم، و قيل: أراد بالمشرقين مشرق الشتاء و مشرق الصيف أي هذا البعد مسافة حتّى لم أرك و لا اغتررت بك.

روي أنّ الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتّى يصيّر هما اللّه إلى النار.

قال الرازيّ في وجوه تفسير المشرقين: إنّ الحسّ يدلّ على أنّ الحركة اليوميّة إنّما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب و أمّا القمر فإنّه يظهر في أوّل الشهر في جانب المغرب من الشمس ثمّ لا يزال يتقدّم إلى جانب المشرق و ذلك يدلّ على أنّ مشرق حركة القمر هو المغرب فالجانب المسمّى بالمشرق هو مشرق الشمس و لكنّه مغرب القمر و الجانب المسمّى بالمغرب هو مشرق القمر و مغرب الشمس و بهذا التقدير يصحّ تسمية المشرق و المغرب بالمشرقين و هذا مبالغة كاملة في بعد المسافة.

[فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت اليوم لي، لأنّهما يكونان مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة و غمّ.

ص: 55

ثمّ يقول اللّه في ذلك اليوم [وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب و ذلك لأنّ الإنسان قد يتسلّى عن العذاب و المحنة إذا رأى أنّ عدوّه في مثلها أو أنّ المصيبة إذا عمّت طابت و سهلت أي ليس الأمر كذلك و بيّن سبحانه أنّ حصول الاشتراك بينهما لا يفيد التخفيف مثل أحوال أهل الدنيا و ذلك لشدّة العذاب فاشتغال كلّ واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر حتّى يفرح بعذاب عدوّه فيكون التسلية له أو لأنّ القوم إذا اشتركوا في العذاب أعان كلّ واحد منهم صاحبه.

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه [أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ شبّه الكفّار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه و يرونه بالصمّ و العمى [وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر أي فلا يضيقنّ صدرك فإنّك لا تقدر على إكراههم على الإيمان و كان صلّى اللّه عليه و آله يجتهد في دعوة قومه و هم لا يزيدون إلّا تصميما على الكفر، تأمّل في دقائق القرآن فإنّه سبحانه وصفهم في أوّل الأمر إلى العشى ثمّ لمّا تمادى كفرهم انتقلوا من العشى إلى العمى و لمّا بلغوا في النفرة عن استماع القرآن نسبهم إلى الصمم، و إنّما أضاف هذه الأوصاف إليهم بسبب كونهم في الضلالة.

ثمّ سلّى نبيّه بعد أن ظهر منهم عدم الأثر في قبول الدعوة فقال:

[سورة الزخرف (43): الآيات 41 الى 45]

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

المعنى: يسلّي سبحانه نبيّه بأنّه إن قبضناك و توفّيناك و متّ قبل أن نبصرك عذابهم و نشفّي بذلك صدرك [فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ لا محالة له في الآخرة و ما في قوله:

«فَإِمَّا» زائدة مؤكّدة بمنزلة لام القسم في أنّها لا تفارق النون المؤكّدة مثل و اللّه لأفعلنّ.

قوله: [أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي أو أردنا أن نريك العذاب الّذي أوعدناهم [فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا مناص لهم من قهرنا و لقد أراه سبحانه يوم بدر قال الحسن و

ص: 56

قتادة: إنّ اللّه ألزم نبيّه بأن لم يره تلك النقمة و لم يره في امّته إلّا ما قرّت به عينه و قد كان بعده نقمة شديدة و قد روي أنّه اري ما تلقى امّته بعده فما زال منقبضا و لم ينبسط ضاحكا حتّى لقى اللّه.

و روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع حتّى قال صلّى اللّه عليه و آله: لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّي في الكتيبة الّتي تضاربكم ثمّ التفت صلّى اللّه عليه و آله إلى خلفه فقال:

أو عليّ أو عليّ ثلاث مرّات فرأينا أنّ جبرئيل غمزه فأنزل اللّه على أثر ذلك: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» بعليّ بن أبي طالب.

قال الفيض قدّس سرّه: إنّما يكون ذلك في الرجعة و القميّ عن الصادق قال:

فإمّا نذهبنّ بك يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالب.

قوله تعالى: [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ القميّ عن الباقر عليه السّلام إنّك على ولاية عليّ و عليّ هو الصراط المستقيم. و قيل: فاستمسك بالقرآن بأن تتلوه حقّ تلاوته و تتبّع أوامره و نواهيه، إنّك على صراط مستقيم. على دين الحقّ و الصواب و هو دين الإسلام و هذا المعنى يؤول إلى ما رواه القميّ معنى لأنّهما لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض.

قوله: [وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ أي و إنّ القرآن الّذي أوحي إليك لشرف لك و لقومك لقريش أو العرب لأنّه نزل بلغتهم ثمّ يختصّ بذلك الأخصّ فالأخصّ من العرب حتّى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثمّ لبني هاشم أكثر ممّا يكون لقريش [وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ عن شكر ما جعله اللّه لكم من الشرف و قيل: تسألون عن القرآن و عمّا يلزمكم من القيام بحقّه.

قوله تعالى: [وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا] أي اسأل مؤمني أهل الكتاب الّذين أرسلنا إليهم الرسل هل جاءتهم الرسل إلّا بالتوحيد و التقدير سل امم من أرسلنا فحذف المضاف، و قيل: إنّ المراد سل أهل الكتابين التوراة و الإنجيل و إن كانوا كفّارا

ص: 57

فإنّ الحجّة تقوم بتواتر أخبارهم و الخطاب و إن توجّه إلى النبيّ فالمراد به الامّة.

[أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل جعلنا فيما مضى معبودا سوى اللّه يعبده قوم فإنّهم يقولون إنّا لم نأمرهم بذلك. و قيل: معنى الآية سل الأنبياء و هم الّذين جمعوا له ليلة الأسرى في بيت المقدس و كانوا تسعين نبيّا أو أكثر منهم موسى و عيسى و لم يسألهم لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان أعلم بشرائع اللّه منهم.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام: نحن قومه و نحن المسئولون و عن الصادق عليه السّلام إيّانا عنى و نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. و عنه عليه السّلام: الذكر القرآن و نحن قومه و نحن المسئولون. و في البصائر عن الباقر عليه السّلام في هذه الآية قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته أهل الذكر و هم المسئولون.

و في الكافي و القميّ عن الباقر عليه السّلام إنّه سئل عن هذه الآية و هي «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا» من ذا الّذي سأل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كان بينه و بين عيسى خمسمائة سنة فتلا هذه الآية «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» قال: فكان من الآيات الّتي أراها اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حين اسرى به إلى البيت المقدّس أن حشر اللّه له من الأوّلين و الآخرين من النبيّين و المرسلين ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا ثمّ أقام شفعا ثمّ قال في إقامته حيّ على خير العمل ثمّ تقدّم محمّد صلّى اللّه عليه و آله فصلّى بالقوم فأنزل اللّه «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الآية» فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما تشهدون و ما تعبدون؟ فقالوا: نشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أنّك رسول اللّه أخذت على ذلك مواثيقنا و عهودنا.

و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث و أمّا قوله: «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا» الآية، فهذا من براهين نبيّنا الّذي آتاه اللّه و أراه من الآيات و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا جعله اللّه رسولا إلى جميع الخلق خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوا من عزائم اللّه و آياته فأقرّوا أجمعين بفضله و فضل أوصيائه في الأرض من بعده و فضل شيعة وصيّه من الخلق من المؤمنين

ص: 58

و المؤمنات الّذين لم يستكبروا عن أمرهم و عرف من أطاعهم و عصاهم من أممهم و سائر من مضى و من غبر أو تقدّم أو تأخّر.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 54]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54)

المقصود من إعادة قصّة موسى و فرعون في هذا المقام أنّ كفّار قريش لمّا طعنوا في نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بسبب كونه فقيرا عديم المال و الجاه بيّن اللّه أنّ موسى بعد أن أورد المعجزات القاهرات الباهرات الّتي لا يشكّ فيها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة الّتي ذكرها كفّار قريش فقال: إنّي غنيّ كثير المال و أمّا موسى فإنّه فقير مهين و هذه الشبهة مثل شبهة قريش و كفّار مكّة حيث قالوا: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

و الحاصل قوله: [وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا] أي بحججنا [إِلى فِرْعَوْنَ و أشراف قومه و خصّ الملأ بالذكر و إن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم لأنّ من عداهم تبع لهم [فَقالَ موسى: [إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلني إليكم.

[فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا] أي فلمّا أظهر المعجزات الّتي هي اليد البيضاء و العصاء [إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فاجاوا وقت ضحكهم من الآيات و استهزءوا بها أوّل ما رأوها و لم يتأمّلوا فيها استخفافا و جهلا منهم.

[وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها] و المراد بذلك ما ترادف عليهم من

ص: 59

الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و الطمس و كانت كلّ آية من هذه الآيات أكبر من الّتي قبلها [وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ و هي العذاب المذكور [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يتوبوا و يرجعوا عمّا هم عليه لأنّهم عذّبوا بهذه الآيات فكانت الآيات عذابا لهم و معجزات لموسى عليه السّلام.

فغلب عليهم الشقاء و لم يؤمنوا [وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ] يعنون بذلك يا أيّها العالم و كان الساحر عندهم عظيما يعظّمونه و لم تكن عندهم صفة ذمّ و قيل: إنّما قالوا: يا أيّها الساحر استهزاء بموسى و أرادوا أيّها الّذي غلبنا بسحره [ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما زعمت أنّه عهد عندك و هو أنّه ضمن لنا أنّا إذا آمنّا بك أن يكشف العذاب عنّا [إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي راجعون إلى الحقّ الّذي تدعونا إليه متى كشف العذاب عنّا و في الكلام حذف و التقدير فدعا موسى و سأل ربّه أن يكشف العذاب عنهم فكشف اللّه عنهم ذلك [فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ و ينقضون العهد.

[وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ و لمّا رأى فرعون أمر موسى يزيد على الأيّام ظهورا و اعتلاء خاف على ملكه و أظهر الخداع فخطب الناس بعد ما اجتمعوا و قال: [أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ فأظهر اللّعين بسطته في الملك و المال و هذه الأنهار و المراد الأنهار الّتي فصلوها من النيل و معظمها كانت أربعة نهر الملك و نهر طولون و نهر دمياط و نهر تنيس كانت الأنهار تجري تحت قصره.

فلمّا اجتحّ بقوّة جاهه قال: [أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ و الغرض بأنّ موسى فقير ضعيف الحال و مهين و لا يعتنى به لضعف حاله و عنى بقوله: [وَ لا يَكادُ يُبِينُ حبسة و رتّة كانت في لسانه عليه السّلام و لا يكاد يفصح بكلامه و قيل: كانت الرتّة و العقدة لكن زالت عن لسانه حين أرسله اللّه كما قال: مخبرا عن نفسه «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» (1) ثمّ قال اللّه تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ» (2) و إنّما عيّره اللّعين بما كان في لسانه قبل ذلك و المهين الفقير الّذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه ليس له من يكفيه أمره و قيل. كان

ص: 60


1- طه: 27.
2- طه: 36.

في لسانه لثغة فرفعه اللّه و بقي فيه ثقل.

قوله: «أَمْ أَنَا» اختلفوا في معنى «أَمْ» قال أبو عبيدة منقطعة معناها بل أنا خير و على هذا فقد ثمّ الكلام عند قوله: «أَ فَلا تُبْصِرُونَ» ثمّ ابتدأ فقال: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ» بمعنى بل أنا خير و قال الأكثرون: أم هذه متّصلة و أنّ المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلّا أنّه وضع قوله: أنا خير موضع تبصرون و قالوا في الآية: إنّ تمام الكلام عند قوله: «أَمْ» و قوله: «أَنَا خَيْرٌ» ابتداء كلام و التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون لكنّه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك أ تأكل أم أي أ تأكل أم لا تأكل تقتصر على ذكر أم إيثارا للاختصار فكذا هاهنا.

قوله: [فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي هلّا طرح عليه أسورة من ذهب إن كان صادقا في نبوّته و هلّا القي إليه مقاليد الملك لما أنّهم كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون على فرعون و عليهما مدارع الصوف و بأيديهما العصا فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه فقال: ألا تعجبون من هذين يشترطان لي دوام الملك و هما بما ترون فهلّا القي عليها أسورة و طوّقا بطوق من ذهب. و أسورة جمع سوار و قرئ أساورة جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير، و قرئ ألقى على البناء للفاعل و هو اللّه.

و حاصل المعنى أنّ فرعون كان يقول: أنا أكثر منه مالا و جاها فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع أن يكون رسولا لأنّ منصب النبوّة يقتضي المخدوميّة و الأخسّ لا يكون مخدوما للأشرف و هي عين المقدّمة الّتي تمسّك بها كفّار قريش في قولهم: «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».

ثمّ قال: [أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ متتابعين يعينونه على أمره الّذي بعث له و يشهدون له بصدقه متناصرين متعاضدين قال الزجّاج معناه: يمشون معه و يدلّون و يشهدون بصحّة نبوّته.

ص: 61

ثمّ قال: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ أي إنّ فرعون استخفّ عقول قومه فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنّه احتجّ عليهم بما ليس بدليل و هو «أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ» إلى آخره، لأنّ الدليل الّذي يدلّ على النبوّة و صدق الرسل هو المعجز [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 55 الى 60]

فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)

وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

ثمّ أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون و قومه فقال:

[فَلَمَّا آسَفُونا] أي أغضبونا عن ابن عبّاس و جماعة و غضب اللّه على العصاة إرادة عقوبتهم، و رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الّذي يستحقّونه و قيل: آسفوا رسلنا لأنّ الأسف لا يجوز على اللّه [انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي انتقمنا لأوليائنا منهم [فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ما نجا منهم أحد.

[فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً] أي متقدّمين إلى النار و السلف كلّ شي ء قدّمته من عمل أو قرض أو المتقدّم على غيره قبل مجي ء وقته و منه السلف في البيع و السلف نفيض الخلف [وَ مَثَلًا] أي جعلناهم مثلا يتمثّلون بهم و عبرة و موعظة [لِلْآخِرِينَ أي لمن جاء بعدهم و المعنى أنّ حال غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان.

قوله: [وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا] قال أبو عليّ الفارسيّ: المثل واحد يراد به الجمع و يطلق على أكثر من واحد لقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ» (1) فأريد بالمثل مثلين.

و بالجملة اختلف في وجوه معنى الآية:

الاول: أنّه لمّا ضرب اللّه المسيح مثلا بآدم في قوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ

ص: 62


1- النحل: 75.

آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» (1) أي كما أنّه تعالى أنشأ آدم من تراب و جعله إنسانا من غير أب و امّ كذلك أنشأ المسيح من غير أب فهو مخلوق مربوب مثل آدم و لا ينبغي أن يعبد.

و بعد أن نزلت: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» جادل ابن الزبعرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هذه الآية و قال: أ هذا لنا و لآلهتنا أو لجميع الأمم فقال صلّى اللّه عليه و آله: هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم فقال: خصمتك و ربّ الكعبة أليس النصارى يعبدون المسيح و اليهود عزيزا و بنو مليح الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ففرح المشركون و ضحكوا و ارتفعت أصواتهم و ذلك معنى قوله: [إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي قومك قريش من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج و جلبة جدلا و ضحكا بسبب ما رأوا من سكوت رسول اللّه.

و قرئ بضمّ الصاد و هو قراءة عليّ عليه السّلام و بكسر الصاد و هو قراءة الباقين أمّا الضمّ فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يصدّون عن الحقّ و يعرضون عنه و أمّا بالكسر فمن الضجيج و الصياح.

[وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ] يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست خيرا من عيسى فإذا كان عيسى من حصب جهنّم كان أمر آلهتنا أهون و سكوته صلّى اللّه عليه و آله ليس من باب الإفحام و غلبتهم في الحجّة و لكن كان ينتظر الحجّة من الوحي و قد روي أنّه لمّا قال ابن الزبعرى:

خصمتك و ربّ الكعبة قال صلّى اللّه عليه و آله: ما أجهلك بلغة قومك؟ أما فهمت أنّ «ما» لما لا يعقل.

ثمّ بعد هذه المجادلة أنزل اللّه قوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» و نزلت هذه الآية.

ثمّ قال تعالى: [ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا] أي ما بيّنوا هذا العنوان و المثل لك إلّا ليخاصموك و يدفعوك به عن الحقّ [بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي جدلون في دفع الحقّ بالباطل.

الوجه الثاني: في بيان الآية أنّ الكفّار لمّا سمعوا أنّ النصارى يعبدون عيسى

ص: 63


1- آل عمران: 59.

قالوا: إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى و إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة.

الوجه الثالث: في تفسير الآية و هو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا حكى أنّ النصارى عبدوا المسيح إلها لأنفسهم قال كفّار مكّة: إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يجعل لنا إلها كما جعل النصارى عيسى إلها لأنفسهم ثمّ عند هذا قالوا: أ آلهتنا خير أم هو يعني آلهتنا خير أم محمّد و إنّما ذكروا ذلك لأجل أنّهم قالوا: إنّ محمّدا يدعونا إلى عبادة نفسه و آباؤنا زعموا أنّ عبادة الأصنام واجبة فعبادة هذه الأصنام متطابقة لقول آبائنا فقبول هذه العبادة من الأصنام أولى من قبول قول محمّد.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الاشتغال بعبادة المسيح باطل مثل عبادة الأصنام فإنّ عيسى عليه السّلام عبد أنعمنا عليه فقال: [إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي و ما عيسى إلّا كعبد من العبيد فصار من أمره أنّه ممّن أنعمنا عليه بالنبوّة و خصّصناه ببعض الخواصّ البديعة بأن خلقناه بوجه بديع و قد خلقنا آدم بوجه أبدع منه فأين هو من رتبة الربوبيّة و من أين يتوهّم صحّة مذهب عبدته حتّى تفتخر عبدة الملائكة بكونهم أهدى منهم.

و في خلقة عيسى آية لهم و دلالة يعرفون بها قدرة اللّه فقال: [وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلنا عيسى آية لهم حتّى يرون من أعاجيب صنع اللّه.

ثمّ قال سبحانه: [وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي لو أردنا لجعلنا بدلا منكم معاشر بني آدم [مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ بني آدم أي كنّا نجعل الملائكة بدلا من بني آدم في الأرض أي نهلككم يا بني آدم و جعلنا الملائكة سكّان الأرض يعمرونها و يعبدون اللّه و مثل قوله: «مِنْكُمْ» ما في قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربةمبرّدة باتت على الطهيان

و قيل: معنى الآية و لو نشاء لجعلناكم أيّها البشر ملائكة إشارة إلى قدرته تعالى على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة، يخلفون أي بعضهم بعضا.

[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 65]

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

ص: 64

يعني أنّ نزول عيسى من السماء لعلم و تصديق و موجب ليقين وقوع الساعة، و تسميته علما لحصول العلم به أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى و آثاره الّتي صدرت منه عليه السّلام يستدلّ على صحّة البعث الّذي ينكره الكفّار و قرئ «لعلم» أي علامة و في الحديث إنّ عيسى ينزل على ثنيّة في الأرض المقدّسة يقال لها أفيق و بيده حربة و بها يقتل الدجّال فيأتي بيت المقدس و الناس في صلاة الصبح و الإمام يؤمّ بهم فيتأخّر الإمام فيقدّمه عيسى و يصلّي خلفه على شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يقتل الخنازير و يكسر الصليب و يخرب البيع و الكنائس و يقتل النصارى إلّا من آمن بشريعة أحمد و القرآن.

و قيل: إنّ الضمير في قوله: «وَ إِنَّهُ» يعود إلى القرآن و معناه أنّ القرآن لدلالة على قيام الساعة و البعث لأنّه آخر الكتب أنزل على آخر الأنبياء [فَلا تَمْتَرُنَّ بِها] أي لا تشكّوا في وقوعها [وَ اتَّبِعُونِ هداي أو شريعتي أو رسولي [هذا] أي القرآن و ما أدعوكم به [صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الّذي أنا عليه طريق واضح قيّم.

[وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ و لا يصرفنّكم بوساوسه عن دين اللّه [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة يدعوكم إلى ما فيه هلاككم.

ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسى حين بعثه اللّه رسولا فقال: [وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ و المعجزات الدالّة على نبوّته أو المراد منها الإنجيل [قالَ لهم قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ] أي بالنبوّة و العدل و التوحيد و الشرائع [وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي قد جئتكم لا بيّن مختلفاتكم.

و المراد من البعض في الآية الكلّ كقول لبيد:

«أو يخترم بعض النفوس حمامها» أي كلّ النفوس و ذلك إنّ قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف و اتّفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبيّن لهم الحقّ في الخلافيّات و بالجملة فالحكمة معناها اصول الدين و بعض الّذي يختلفون فيه فروع الدّين.

ص: 65

فإن قيل: لم يقل و لم بيّن لهم كلّ الّذي يختلفون فيه؟ فالجواب أنّ الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة لهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها قال الزجّاج: و الصحيح أنّ البعض لا يكون في معنى الكلّ و الّذي جاء به عيسى في الإنجيل إنّما هو بعض الّذي اختلفوا فيه و بيّن لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه و قول لبيد إنّما عنى نفسه أو المراد من البعض مختلفات امور الدين دون امور الدنيا.

[فَاتَّقُوا اللَّهَ بأن تجتنبوا معاصيه [وَ أَطِيعُونِ في ما أدعوكم إليه.

[إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ الّذي يحقّ له العبادة [فَاعْبُدُوهُ خالصا و لا تشركوا به معبودا [هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يفضي بكم إلى الجنّة و ثواب اللّه.

[فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي الفرق المتحزّبة بعد عيسى عليه السّلام و هم الملكانيّة و اليعقوبيّة و النسطوريّة بعد عيسى و قيل: اليهود و النصارى اختلفوا في أمر عيسى و الضمير في «مِنْ بَيْنِهِمْ» يرجع إلى الّذين خاطبهم عيسى في قوله: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ» المبعوث عليهم.

[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ مرّ تفسيره هو يوم القيامة و يجوز أن يكون وعيدا بيوم الأحزاب.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 66 الى 75]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)

ثمّ و بّخ سبحانه الكفّار بقوله: [هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظرون هؤلاء الكفّار بعد ورود الرسل و القرآن [إِلَّا السَّاعَةَ] أي القيامة [أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً] أي فجاءة [وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ

ص: 66

أي لا يدرون وقت مجيئها.

[الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] أي إنّ الّذين تواصلوا و تحابّوا في الدنيا يكون بعضهم أعداء بعض ذلك يوم القيامة و هم الّذين تخالّوا في الكفر و المعصية و اتّحدوا في مخالفة الرسول؛ لما يرى كلّ منهم من العذاب بسبب تلك المصادقة.

ثمّ استثنى من جملة الأخلّاء المتّقين فقال: [إِلَّا الْمُتَّقِينَ الموحّدين الّذين خالّ بعضهم بعضا على الإيمان و التقوى فإنّ تلك الخلّة تتأكّد بينهم و لا تنقلب عداوة و من المعلوم أنّ المحبّة أمر لا يحصل إلّا عند حصول خير أو دفع شرّ و ضرر فمتى حصل هذا الأمر حصلت المحبّة لا محالة و متى حصل اعتقاد أنّه يوجب ضررا حصل البغض و النفرة إذا عرفت هذا فذلك الخير الّذي كان اعتقاد حصوله له يوجب حصول المحبّة إمّا أن يكون قابلا للتغيّر و التبدّل أو لا يكون كذلك فإن كان القسم الأوّل وجب أن تبدّل تلك المحبّة إلى النفرة لأنّ تبدّل العلّة يوجب تبدّل المعلول لأنّ حصول المودّة بسبب الخير و الراحة فإذا زال ذلك الاعتقاد و تحقّق عقيبه الضرر و الألم وجب أن تتبدّل المحبّة بالبغضة أمّا إذا كان الخير الموجب للمحبّة أبديّا باقيا غير قابل للتغيّر كانت المحبّة باقية كمحبّة المؤمنين بعضهم بعضا و ليست لغرض فان بل هي نافعة و ثابتة و لا توجب البغضة لأنّ خيرها و نفعها باق فحينئذ الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلّا المتّقين.

قوله تعالى: [يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و من أحكام يوم القيامة قوله: «يا عِبادِ» الآية، و قد جرى عادة القرآن بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين (1) كأنّ اللّه يخاطبهم و يقول لهم: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم و لا حزن.

و في هذا الخطاب أنواع كثيرة ممّا يوجب الفرح: أوّلها أنّه تعالى خاطبهم و ميّزهم عن غيرهم من غير واسطة و الثاني أنّه وصفهم بالعبوديّة و هذا تشريف عظيم لأنّه لمّا أراد سبحانه أن يشرف محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج قال: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ».ك.

ص: 67


1- يقول ذلك المؤلف قدس سره تبعا للفخر الرازي و هو و هم لأنه تعالى عز و جل قال: «أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» و قال عز من قائل «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و غير ذلك.

و الثالث نفي الخوف و الحزن عنهم بقوله: «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ».

ثمّ قال: [الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ أي أعني الّذين صدّقوا بحججنا و دلائلنا و اتّبعوها و قوله: «يا عِبادِ» حكاية لما ينادى به المتّقون المتحابّون في اللّه، و قوله:

«الَّذِينَ آمَنُوا» منصوب المحلّ صفة لعبادي لأنّه منادى مضاف، أي العباد الموصوفين بالتصديق بآياتنا و جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا و قبول حججنا و قيل: إذا بعث اللّه الناس فزع كلّ واحد فينادي مناد يا عباد فيرجوها الناس كلّهم ثمّ يتبعها بقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» فييأس الناس غير المسلمين المتّقين و ينكس أهل الأديان الباطلة رءوسهم.

و يمرّ حساب المتّقين على أسهل الوجوه و يحاسب حسابا يسيرا ثمّ يقال لهم:

[ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي أزواجكم اللّاتي كنّ مؤمنات مثلكم و قيل: المراد من الأزواج أزواج الجنّة من الحور العين «تُحْبَرُونَ» أي تسرّون و تكرمون و الحبرة المبالغة في الإكرام بحيث يظهر حباره و أثره على وجوههم كقوله: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (1).

[يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ أي يدور عليهم بقصاع من ذهب فيها ألوان الأطعمة و كيزان لا عروة لها مستديرة الرأس ليس لها خرطوم و الكوب بحكم الكأس للشراب و اكتفى سبحانه بذكر الصحاف و الأكواب عن ذكر الطعام و الشراب.

[وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ و قرئ بحذف الهاء من تشتهيه و حسن الحذف في أمثاله كقوله: «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» (2) و قوله: «وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (3) أي و في الجنّة المدخولة ما يميل النفس إليه من أنواع النعيم من المأكول و المشروب و الملبوس و المشموم و ما تلذّ الأعين بالنظر إليه و أضاف الالتذاذ إلى الأعين مع أنّ المتلذّذ هو الإنسان لأنّ التذاذ الأعين سبب التذاذ الإنسان.

و قد جمع اللّه سبحانه بقوله: «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ» ما لو اجتمع الخلائق

ص: 68


1- المطففين: 24.
2- الفرقان: 41.
3- النمل: 53.

كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمه هاتان الصفتان.

[وَ أَنْتُمْ فِيها] أي في الجنّة و هذه النعم دائمون [خالِدُونَ وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و تلك الجنّة مبتدء و خبر أو مبتدء و خبره «الَّتِي أُورِثْتُمُوها» و أعطيتموها، أو الّتي أورثتموها صفة و بما كنتم تعملون خبره قال ابن عبّاس: الكافر يرث نار المؤمن و المؤمن يرث جنّة الكافر لقوله: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ».

[لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ فجمع سبحانه في الوصف بين الطعام و الشراب و الفواكه و الدوام فهذه غاية الأمنيّة.

ثمّ أخبر عن أحوال أهل النار فقال: [إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ و دائمون [لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ العذاب و لا يخفّف [وَ هُمْ فِيهِ أي في العذاب [مُبْلِسُونَ آيسون من كلّ خير و يجعل المجرم في تابوت من النار ثمّ يقفل عليه فبقي خالدا لا يرى و لا يرى و هذه الترغيبات و الترهيبات تكميلا لرغباتهم و دواعيهم في الطاعات و تحذيرا عن الشرك و المعاصي.

قوله تعالى: [سورة الزخرف (43): الآيات 76 الى 85]

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

لمّا بيّن سبحانه ما يفعل بالمجرمين بيّن سبحانه أنّه لم يظلمهم بذلك فقال:

[وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لنفوسهم بما جنوا عليها من العذاب.

[وَ نادَوْا يا مالِكُ أي و يدعون خازن جهنّم فيقولون يا مالك و قرئ يا مال بالترخيم

ص: 69

على قراءة ابن مسعود فقيل لابن عبّاس: إنّ ابن مسعود كذلك يقرء فقال ابن عبّاس: ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم و أجيب بأنّ غاية العذاب و الضعف سبب ترخيمهم بحيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها لا من باب العربيّة قال ابن جنّي: إنّ قولهم:

يا مال في هذا الموضع سرّ و هو أنّه لعظيم عذابهم فنيت قواهم و قصر كلامهم.

[لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا ربّك حتّى نتخلّص و نستريح من هذا العذاب قال ابن عبّاس و جماعة: إنّما يجيبهم مالك بذلك بعد ألف سنة و قيل: بعد أربعين عاما و ما يدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة فقول مالك مجيبا لهم: [إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي لابثون دائما و قوله: «لِيَقْضِ» من قضى عليه إذا أماته كقوله: «فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (1) و المراد سل ربّك أن يقضي علينا.

فإن قيل: كيف قال: «وَ نادَوْا يا مالِكُ» بعد ما وصفهم بالإبلاس (2)؟ فالجواب تلك أزمنة متطاولة و أحقاب ممتدّة فيختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لعلّة اليأس و علمهم بعدم الفرج و يغوثون تارة لشدّة ما بهم و قوله: «ماكِثُونَ» استهزاء و إلّا فالمكث يستعمل في الزمان القليل.

قوله: [لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي يقول اللّه: لقد أرسلنا إليكم الرسل بالحقّ، و أضافه سبحانه إلى نفسه لأنّه كان بأمره. و قيل: يقول المالك: و إنّما قال: «جِئْناكُمْ» لأنّه من الملائكة و هم من جنس الرسل و المراد من الحقّ القرآن و الإسلام أي و لكنّكم معاشر الخلق أكثركم للحقّ كارهون لأنّ الحقّ خلاف مشتهياتكم فكرهتموه و الباطل موافق لها فألفتموها و كرهتم مفارقته.

قوله: [أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً] أم منقطعة كلام مبتدء ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معناها بل للانتقال في توبيخ المشركين أي بل أحكموا أمرا في كيد محمّد و المكر به صلّى اللّه عليه و آله [فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون أمرا في مجازاتهم و كيدهم لأنّهم كانوا يتشاورون في إهلاكه صلّى اللّه عليه و آله و إيذائه في دار الندوة و هو قوله تعالى: «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ ن.

ص: 70


1- القصص: 15.
2- أي في قوله مبلسون.

الَّذِينَ كَفَرُوا» (1).

ثمّ قال تعالى: [أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ و النجوى ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال و المعنى بل يظنّ هؤلاء الكفّار أنّا لا نسمع ما يسرّون و معنى السرّ ما يضمره الإنسان في نفسه و لا يظهره لغيره و النجوى ما يحدث به المحدث غيره في الخفية [بَلى نسمع ذلك و ندركه.

[وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ما يقولونه و يفعلونه يعني الحفظة من الملائكة قال: يحيى ابن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه و أبداها للّذي لا يخفى عليه شي ء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين و هو من علامات النفاق.

[قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ و قرئ «ولد» بضمّ الواو و سكون اللام و اختلف في معناه:

أحدها: أنّ معناه «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» في زعمكم «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» أي الموحّدين للّه المكذّبين بين لقولكم بإضافة الولد إليه.

و ثانيها: أن معناه لو كان له ولد لكنت أنا أوّل الآنفين من عبادته لأنّ من كان له ولد لا يكون إلّا جسما محدثا و من كان كذلك لا يستحقّ العبادة معنى العابد في الأنف مأخوذ من قولهم: عبدت من الأمر أي أنفت منه قال الفرزدق:

أولئك قومي إن هجوني هجوتهم و أعبد أن تهجى كليب بدارم

و لكن نصفا إن سببت و سبّني بنو عبد شمس من قريش و هاشم

و ثالثها: أنّ «إِنْ» بمعنى ما النفي و المعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين للّه المقرّين بذلك.

و رابعها أنّه يقول: كما إنّي كنت أوّل من عبد اللّه كذلك ليس للّه ولد و هذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب تريد لست كاتبا و لا حاسبا.

و خامسها أنّ معناه لو كان له ولد لكنت أوّل من يعبده بسبب أنّ له ولد و لكن لا ولد له و حاصل المعنى لو دلّ الدليل على أنّ له ولدا لقلت به و لكنّه لا يدلّ فيكون المعنى

ص: 71


1- الأنفال: 30.

تحقيقا لنفي الولد و تبعيدا له لأنّه تعليق محال بمحال.

قال الزمخشريّ: معنى الآية: إن صحّ و ثبت ذلك بالبرهان و بحجّة واضحة توردونها فأنا أوّل من يعظّم ذلك الولد و أسبقكم إلى طاعته كما يعظّم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه و الكلام وارد على سبيل الفرض و الغرض المبالغة في نفي الولد و ذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد و هي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها فالبيان في صورة إثبات الكينونيّة و العبادة و في معنى نفيهما على أبلغ الوجوه و أقواها و هذا المعنى هو الوجه الخامس من الوجوه المذكورة.

قال الرازيّ في المفاتيح: إنّهم ظنّوا أنّ قوله: «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» لو أجريناه على ظاهره فإنّه يقتضي وقوع الشكّ في إثبات الولد للّه لا جرم عدلوا إلى التأويل لكن لا يحتاج البيان عن العدول عن الظاهر لأنّ القضيّة الشرطيّة لا تفيد إلّا كون الشرط مستلزما للجزاء و ليس فيها إشعار بكون الشرط حقّا أو باطلا أو يكون الجزاء واقعا أو غير واقع بل القضيّة الشرطيّة مركّبة من قضيّتين سواء كانتا حقّتين أو باطلتين أو من شرط باطل و جزاء حقّ أو من شرط حقّ و جزاء باطل فهذا التركيب في الآية لا يدلّ بإثبات الولد و العبادة مثل قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (1) فالشرط في الكلام قوله: «فِيهِما آلِهَةٌ» و الجزاء هو قوله: «لَفَسَدَتا» فالشرط في نفسه باطل و غير واقع و الجزاء أيضا باطل و غير واقع لأنّه ليس فيهما آلهة فحينئذ الشرط و الجزاء غير واقع و باطل فكذلك في هذه الآية فلم يحصل الشكّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّ حصول الشكّ في هذا الأمر مع معرفته باللّه سبحانه غير ممكن و محال و بالجملة فأجرى الآية على ظاهرها و أيّد المعنى الآخر، انتهى.

[سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ العظيم [عَمَّا يَصِفُونَ ثمّ نزّه نفسه عن ذلك فقال: «سُبْحانَ الآية» أي تنزيها عن الوالديّة و إله العالم هو الواجب الوجود لذاته و كلّ ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه و الولد عبارة عن أن ينفصل عن الشي ء جزء من أجزائه فيصير ذلك الجزء شخصا مثله و هذا إنّما يعقل فيما يكون ذاته قابلة للتجزّي و التبعّض و إذا كان ذلك محالا في حقّ إله العالم فامتنع إثبات الولد له.

ص: 72


1- الأنبياء: 22.

و لمّا بيّن هذا البرهان قال: [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي فاتركهم يغمروا في باطلهم و يلعبوا حتّى يضلّوا و يروا العذاب الأبد و هو عذاب القيامة.

قوله: [وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي هو تعالى في السماء و الأرض على سبيل الإلهيّة و الربوبيّة لا على معنى الاستقرار و في الكلام نفي الآلهة الّتي كانت تعبد فيحقّ له العبادة خاصّة و تكرار لفظ «إِلهٌ» للتأكيد و تمكّن المعنى في النفس و إفادة أنّ العبادة يجب على الملائكة و على أهل الأرض من الجنّ و الإنس [وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله [الْعَلِيمُ بمصالح خلقه.

[وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما] أي دامت بركته فمنه البركات و السعادات، مأخوذ من بروك الإبل [وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] أي علم يوم القيامة و لا يعلم وقته على التعيين غيره [وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازي كلّا على عمله.

قوله تعالى [سورة الزخرف (43): آية 86]

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

و لمّا كانوا يزعمون أنّ آلهتهم لأمورهم شفعاء فذكر سبحانه أنّه لا شفاعة و لا أثر لمعبودهم فقال: [وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الّذي يدعوه المشركون إلها و يوجّهون عبادتهم إليه من الأصنام [الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هم عيسى و عزير و الملائكة استثناهم سبحانه ممّن عبد من دون اللّه فإنّ لهم منزلة الشفاعة و قيل:

المعنى لا يملك أحد من الملائكة و غيرهم الشفاعة إلّا لمن شهد بالحقّ أي شهد أن لا إله إلّا اللّه و ذلك لأنّ النضر بن الحرث و نفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن نتولّى الملائكة و هم أحقّ بالشفاعة لنا منه فنزلت الآية فالمعنى أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن اللّه [وَ هُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم ما شهدوا بألسنتهم.

و في الآية دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب لأنّ اللّه شرط مع الشهادة العلم بحيث لا يتشكّك إذا شكّك و لا يضطرب إذا حرّك و احتجّ القائلون بأنّ إيمان المقلّد لا ينفع بهذه الآية.

ص: 73

و الاستثناء في قوله: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» يمكن أن يكون منقطعا أي لكن من شهد بالتوحيد و الحقّ و يمكن أن يكون متّصلا لأنّ في جملة الّذين يدعون من دون اللّه الملائكة و المسيح و عزير لكن يشفعون للّذين شهدوا بالتوحيد.

قوله: [سورة الزخرف (43): الآيات 87 الى 89]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

[وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمّد [مَنْ خَلَقَهُمْ من أخرجهم من العدم إلى الوجود أي إذا سألت العابدين و المعبودين من أو جدهم [لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذّر الإنكار لغاية بطلانه [فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكلّ مخلوقا له؟

[وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قرئ بالحركات الثلاث؛ قال الأخفش:

النصب عطف على «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ» و قيله أي قول الرسول و الضمير راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أي قول الرسول يا ربّ إلخ، فإنّ القول و القيل و القال كلّها مصادر. و الرفع على الابتداء و الخبر ما بعده. و الجرّ على العطف بقوله: «عِلْمُ السَّاعَةِ» على تقدير حذف المضاف و التقدير و عنده علم الساعة و علم قيله. قال الزمخشريّ: و الأقوى أن يكون الجرّ و النصب على إضمار حرف القسم، أو النصب على محلّ الساعة لأنّ قوله:

«وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» معناه أنّه تعالى علم الساعة و قيله.

قال ابن عبّاس في تفسير الآية في قوله: «وَ قِيلِهِ يا رَبِّ» المراد: و قيل يا ربّ و الهاء زائدة عن أبي زيد: يقال ما أحسن قيلك و قالك و قولك و مقالك و مقالتك خمسة أوجه.

و بالجملة إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا ضجر من قومه و عرف إصرارهم على كفرهم أخبر عنهم أنّهم قوم لا يؤمنون و هذا القول قريب من قول نوح حيث قال: «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً».

ثمّ إنّه تعالى قال له صلّى اللّه عليه و آله: [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي صفّح وجهك يا محمّد عنهم [وَ قُلْ سَلامٌ ندبه سبحانه إلى الحلم أي المداراة و المتاركة.

ص: 74

و قيل: هو سلام هجر و مجانبة لا سلام محبّة و كرامة كقوله: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» (1).

و قيل: معناه قل يا محمّد: سلام، تسلم من شرّهم و أذاهم و هذا منسوخ بآية السيف و لكن إذا كان المعنى و اصفح عن سفههم و لا تقابلهم بمثله فذلك مما علّمه سبحانه من مكارم الأخلاق فلا يكون منسوخا. قوله: [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ هدّدهم بيوم القيامة إذا عاينوا ما يحلّ بهم من العذاب. تمّت السورة بعونه.

ص: 75


1- القصص: 55.

سورة الدخان

اشارة

(مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ الدخان في ليلة الجمعة غفر له.

قال أبو هريرة: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.

و عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له.

أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة و يوم الجمعة بنى اللّه له بيتا في الجنّة.

و روى أبو حمزة الثماليّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و من قرأ سورة الدخان في فرائضه و نوافله بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة و أظلّه تحت ظلّ عرشه و حاسبه حسابا يسيرا و اعطي كتابه بيمينه.

ص: 76

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)

في [حم وجوه الاحتمال: أوّلها أن يكون التقدير هذه حم [وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ و الواو واو القسم كقولك: هذا زيد و اللّه. و الثاني أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله: «حم» أي هذه سورة حم ثمّ قال: و الكتاب المبين إنّا أنزلناه فيكون إنّا أنزلناه جوابا للقسم و أنكر الطبرسيّ هذا المعنى و قال: إنّ جواب القسم قوله: «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» قال: و لا يصحّ أن يكون جواب القسم قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ» لأنّك لا تقسم بالشي ء على نفسه و المنزل هو الكتاب.

و الوجه الثالث أن يكون التقدير: «و حم» بحذف حرف القسم و الكتاب المبين فيكون قسمين متواليين على شي ء واحد.

و بالجملة أقسم سبحانه بالقرآن الدالّ على صحة نبوّة نبيّنا و هو مبين فيه بيان الأحكام و الفصل بين الحلال و الحرام.

إنا أنزلنا القرآن [فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ] و الليلة المباركة هي ليلة القدر عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. قيل: ليلة القدر هي ليلة النصف من شعبان عن عكرمة قال الطبرسيّ: و الأصحّ الأوّل و يدلّ عليه قوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (1) و كذلك قوله: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (2).

ص: 77


1- القدر: 1.
2- البقرة: 185.

و اختلف في كيفيّة إنزاله فقيل: أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثمّ أنزل نجوما إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قيل: إنّه كان ينزل جميع ما يحتاج في سنة في تلك الليلة ثمّ كان ينزله جبرئيل عليه السّلام شيئا فشيئا وقت وقوع الحاجة. و قيل: كان بدو نزوله في ليلة القدر. و روى ابن عبّاس و قال: قد كلّم اللّه جبرئيل في ليلة واحدة و هي ليلة القدر فسمعه جبرئيل و حفظه بقلبه و جاء به إلى السماء الدنيا إلى الكتبة و كتبوه ثمّ أنزل على محمّد بالنجوم في ثلاث و عشرين سنة و قيل: في عشرين سنة.

و إنّما وصف سبحانه هذه الليلة بالمباركة لأنّ فيها يقسّم نعمه على عباده من السنة إلى السنة فيدوم بركاتها و البركة نماء الخير و ثبوته و قيل: بينها و بين ليلة القدر أربعون ليلة و لها أربعة أسماء الليلة المباركة و ليلة البراءة و ليلة الصلاة و ليلة الرحمة و وجه التسمية بالبراءة لأنّ البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة كذلك يكتب اللّه لعباده المؤمنين البراءة و الصكّ.

قال الزمخشريّ: و هي مختصّة بخصال: تفريق كلّ أمر حكيم و فضيلة العبادة فيها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من صلّى في هذه اللّيلة مائة ركعة أرسل اللّه إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة و ثلاثون يؤمّنونه من عذاب النار و ثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا و عشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان. و نزول الرحمة قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يرحم أمّتي في هذه اللّيلة بعدد شعر أغنام بني كلب و حصول المغفرة قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يغفر للمؤمنين جميعا في تلك اللّيلة إلّا لكاهن أو ساحر أو مشاحن صاحب البدعة التارك للجماعة أو مدمن خمر أو عاقّ للوالدين أو مصرّ على الزناء و قد اعطي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من تمام الشفاعة و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في امّته فاعطي الثلاث منها و سأل صلّى اللّه عليه و آله ليلة الرابع عشر فاعطي الثلاث ثمّ سأل ليلة الخامس عشر فاعطي الجميع إلّا من شرد عن اللّه شراد البعير و من عادة اللّه في هذه اللّيلة أن يزيد في ماء زمزم زيادة ظاهرة و لا يخفى أنّ هذا الكلام ينطبق عند القائلين بأنّ ليلة القدر النصف من شعبان انتهى كلامه.

قوله: [إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة [فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي في هذه اللّيلة يفصّل و يبيّن و يقضي كلّ أمر محكم لا يلحقه الزيادة

ص: 78

و النقصان و هو أنّه يقسم فيها الآجال و الأرزاق و غيرها من امور السنة إلى مثلها من العام القابل قال ابن عبّاس: إنّك ترى الرجل يمشي في الأسواق و قد وقع اسمه في الموتى.

في الصافي في قوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي يقدّر اللّه في تلك اللّيلة من امور تلك السنة و لكن فيه البداء و المشيّة يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و ينقص و يزيد و يلقيه إلى رسوله اللّه و هو صلّى اللّه عليه و آله يلقيه إلى أمير المؤمنين و هو يلقيه إلى الأئمّة حتّى ينتهي إلى القائم و يشترط فيه البداء.

و في الكافي عن الباقر عليهم السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي فيها ينزل كلّ أمر حكيم و الحكيم و المحكم شي ء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه و من حكم أمرا فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت إنّه سبحانه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر الناس بكذا و كذا و إنّه ليحدث لوليّ الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه الخاصّ و المكنون المخزون مثل ما نزل في ليلة القدر من الأمر ثمّ قرأ عليه السّلام: «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ» (1) الآية.

و عنه: يا معشر الشيعة خاصموا بحم و الكتاب المبين إنّا أنزلناه. الآية، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول اللّه.

قال الكاظم عليه السّلام: حم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و الكتاب المبين أمير المؤمنين عليه السّلام و اللّيلة المباركة فاطمة عليها السّلام فيها يفرق كلّ أمر حكيم يخرج منها خير كثير و رجل حكيم و رجل حكيم و رجل حكيم الحديث.

[أَمْراً مِنْ عِنْدِنا] يعني أنّا نأمر ببيان ذلك و نسخه من اللّوح المحفوظ [إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ محمّدا إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء [رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي رأفة منّا بخلقنا و نعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمن دعاه [الْعَلِيمُ بمصالح الخلق.

تذييل: في بيان اللّيلة المباركة: اعلم أنّه اختلفوا في اللّيلة المباركة فقال الأكثرون:

ص: 79


1- لقمان: 27.

إنّها ليلة القدر، و قال بعض: إنّ اللّيلة المباركة ليلة البراءة و هي ليلة النصف من شعبان.

أمّا الأوّلون فقد احتجّوا على صحّة قولهم بوجوه:

الاول: أنّه تعالى قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» و في هذه الآية قال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» فوجب أن يكون هذه اللّيلة المباركة هي تلك المسمّاة بليلة القدر لئلّا يلزم التناقض.

الثاني: أنّه تعالى قال في صفة ليلة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ» (1) و قال: أيضا هاهنا «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» و هذا الكلام موافق و مناسب لقوله: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ» و أيضا هاهنا قال: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» و قال في تلك الآية: «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» و قال هاهنا: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» و قال في تلك السورة: «سَلامٌ هِيَ» و إذا تقاربت الأوصاف و تساوت وجب القول بأنّ إحدى اللّيلتين هي الاخرى.

و الثالث: من الوجوه نقل محمّد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن قتادة أنّه قال:

نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان و التوراة لستّ ليال منه و الزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت و الإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه و القرآن لأربع و عشرين ليلة مضت من رمضان و اللّيلة المباركة هي ليلة القدر.

الرابع: أنّه إنّما سمّيت بالقدر لأنّ شرفها و قدرها عظيم و معلوم أنّه ليس بسبب نفس ذلك الزمان لأنّ الزمان شي ء واحد في الذات و الصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته بل إنّما شرفه بسبب أنّه حصل فيه أمور شريفة عالية و معلوم أيضا أنّ منصب الدين أعلى و أعظم من منصب الدنيا، و أعلا منصبا في الدين هو القرآن لأجل أنّ به ثبت النبوّة و به ظهر الفرق بين الحقّ و الباطل و به ظهرت درجات أرباب السعادات و دركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شي ء إلّا و القرآن أعظم قدرا و أعلى شرفا فلو كان نزوله وقع في ليلة اخرى سوى ليلة القدر لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الاولى و حيث

ص: 80


1- القدر: 4- 5.

أطبقوا على أنّ ليلة القدر هي الّتي وقعت في رمضان لأنّه سبحانه قال: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» علمنا أنّ القرآن إنّما أنزل في تلك اللّيلة.

و أمّا القائلون بأنّ المراد من اللّيلة المباركة المذكورة في الآية هي ليلة النصف من شعبان فبما نقلوه عن رسول اللّه بقوله و ما اعطي فيها رسول اللّه من تمام الشفاعة فإن صحّ ذلك عن رسول اللّه فلا مزيد عليه و إلّا فالحقّ هو الأوّل لقوّة الدليل انتهى.

قوله تعالى: [رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي خالقهما و خالق ما بينها إن كنتم موقنين بهذا الخبر محقّقين له إنّه [لا إِلهَ إِلَّا هُوَ] يستحقّ العبادة و لا يستحقّ غيره العبادة [يُحْيِي وَ يُمِيتُ أي يحيي بعد موتهم و يميتهم بعد إحيائهم [رَبُّكُمْ الّذي خلقكم [وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الّذين سبقوكم.

ثمّ ذكر سبحانه حال الكفّار فقال: ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه [بَلْ هُمْ فِي شَكٍ ممّا أخبرناك [يَلْعَبُونَ مع ذلك و يستهزءون بك و بالقرآن إذا قرئ عليهم أن يشتغلوا بالدنيا و هو المراد من اللّعب.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: [فَارْتَقِبْ أي فانتظر يا محمّد [يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فانتظر يا محمّد صلّى اللّه عليك اليوم الّذي تأتي السماء بالدخان و هو ظاهر و لا يشكّ أحد في أنّه دخان.

و اختلف في الدخان فعن عليّ عليه السّلام أمير المؤمنين و به أخذ جماعة أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتّى يكون الواحد منهم كالرأس الحنيذ و يعتري المؤمن منه كهيئة حال المزكوم و تأخذه الزكمة و تكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوّل الآيات الدخان و نزول عيسى عليه السّلام و نار يخرج من قعر عدن أبين (اسم رجل ينسب إليه عدن) يسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة: يا رسول اللّه و ما الدخان فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الآية و قال يملأ ما بين المشرق و المغرب يمكث أربعين يوما و ليلة أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة و أمّا الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه و أذنيه و دبره.

ص: 81

و قيل: المراد بالدخان دخان المجاعة و ذلك أنّ قريشا لمّا استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصرّوا على تكذيبه قال: و دعا صلّى اللّه عليه و آله عليهم: اللهمّ سنينا كسني يوسف اللهمّ اشدد وطأتك على مضر فأجدبت الأرض فأصابت قريشا المجاعة و كان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا العظام و الجيف و العلهز و كان يحدث الرجل فيسمع كلامه و لا يراه من الدخان فمشى إليه صلّى اللّه عليه و آله أبو سفيان و نفر من قريش معه و ناشده اللّه و الرحم و واعدوه إن دعا لهم و كشف عنهم أن يؤمنوا فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم فسأل اللّه لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثمّ عادوا إلى الكفر.

[يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يعني أنّ الدخان يعمّ جميع الناس على القول الأوّل و أهل مكّة على القول الثاني و هم الّذين يقولون هذا عذاب أليم أي قائلين ذلك.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 12 الى 21]

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

لمّا أخبر سبحانه أنّ الدخان يغشى الناس عذابا لهم قالوا: أو يقولون- على ما فيه من الخلاف في الدخان-: هذا عذاب أليم [رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بمحمّد و القرآن.

فأنكر سبحانه عليهم بقوله: [أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي من أين لهم الاتّعاظ و التذكّر و كيف يتذكّرون؟ [وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ و الحالة أنّهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق و الدلالة [ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ و أعرضوا و لم يقبلوا قوله: [وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي يعلّمه بشر و نسبوه إلى الجنون، القميّ قال: قالوا ذلك لأنّه لمّا كان ينزل عليه الوحي يأخذه الغشي فقالوا مجنون و تولّوا عنه و بهتوه بأنّ عداس غلاما أعجميّا لبعض ثقيف هو الّذي علّمه.

ص: 82

ثمّ قال سبحانه: [إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي حيثما انكشف عنكم العذاب و أنتم تعودون إلى شرككم لا تلبثون بعد الكشف على ما أنتم عليه من التضرّع.

فإن قيل: كيف يستقيم على قول من جعل الدخان قبل يوم القيامة قوله: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا»؟

فالجواب إذا أتت السماء بالدخان تضوّر المعذّبون به من الكفّار و المنافقين و تعوّلوا و قالوا: «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» منيبون فيكشفه اللّه عنهم بعد أربعين يوما فحيثما يكشفه عنهم يرتدّون.

ثمّ قال سبحانه: [يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يريد يوم القيامة كقوله: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (1).

و قيل: البطشة الكبرى يوم بدر و البطش التناول و الأخذ بصولة [إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم ذلك اليوم.

قوله: [وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أقسم سبحانه أنّه فتّن قبل كفّار قوم النبيّ [قَوْمَ فِرْعَوْنَ فاختبرهم و شدّد عليهم التكليف لأنّ الفتنة شدّة التعبّد و أصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغشّ أي اختبرنا قوم فرعون بالإمهال و توسيع الرزق عليهم [وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه و على عباده المؤمنين و كريم في نفسه لأنّ اللّه لا يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه و كرامهم و كان موسى عليه السّلام كذلك.

[أَنْ أَدُّوا إِلَيَ هي أن المفسّرة أو المخفّفة من المثقّلة أي جاءهم بأنّ الشأن و القصّة أدّوا إليّ [عِبادَ اللَّهِ و هم بنو إسرائيل يقول: أرسلوهم معي. و يجوز أن يكون نداء لهم و التقدير: أدّوا إليّ يا عباد اللّه ما هو واجب عليكم من قبول دعوتي و اتّباع سبيلي و علّل ذلك بأنّه [رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللّه على وحيه و رسالته.

[وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أن هذه مثل الأولى في كونها مفسّرة أو مخفّفة أي لا تتكبّروا على اللّه بإهانة وحيه و رسوله [إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة بيّنة يعترف بها كلّ عاقل.

ص: 83


1- النازعات: 34.

فلمّا قال عليه السّلام هذا الكلام توعّدوه بالقتل و الرجم فقال: [وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي لذت بمالكي و مالككم و التجأت به من أن ترجموني بالحجارة أو المراد من الرجم الشتم كقولهم: هو ساحر كذّاب [وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فلا موالاة بيني و بينكم و تنحّوا عنّي أو المعنى فخلّوني و لا تتعرّضوا عليّ بشرّكم و أذاكم.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 22 الى 29]

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26)

وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة موسى أي فلمّا يئس موسى أن يؤمنوا به دعا موسى [رَبَّهُ فقال:

[أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مشركون لا يؤمنون فكأنّه قال عليه السّلام: اللّهمّ عجّل لهم ممّا يستحقّون بكفرهم و ما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك و قوله: [فَأَسْرِ بِعِبادِي الفاء وقعت موقع الجواب فأجيب بأن قيل له: فأسر و قرئ بقطع الهمزة من أسرى و وصلها من سرى أي فاسر ببني إسرائيل أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي [لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتّبعكم فرعون و قومه و يصير ذلك سببا لهلاكهم.

[وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً] و في الرهو قولان: أحدهما أنّه الساكن يقال: عيس راه إذا كان حافظا ساكنا قال الأعشى:

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلةو لا الصدور على الأعجاز تتّكل

أي مشيا ساكنا على تؤدة و قرار، و الثاني أنّ الرهو هو الفرجة الواسعة أي اترك الطريق كما كان حتّى يدخل قوم فرعون فيغرقوا و ذلك لأنّه أراد موسى لمّا جاوز البحر أن يضربه بعصا لينطبق كما ضربه فانفلق فأمره اللّه بأن يتركه ساكنا على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه اللّه. و حاصل المعنى أن اتركه على حاله منفرجا [إِنَّهُمْ

ص: 84

جُنْدٌ مُغْرَقُونَ و قرئ أنّهم بالفتح بمعنى لأنّهم.

ثمّ قال: [كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ فأخبر أنّهم بعد غرقهم تركوا هذه النعم و المراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس و المنازل الحسنة و قيل: المنابر الّتي كانوا يمدحون فرعون عليها [وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و النعمة بالفتح من النون حسنه و نضارته و بالكسر من إنعام اللّه أي تركوا سعة في العيش و نعما كانوا بها متنعّمين و متمتّعين كما يستلذّ الآكل بأنواع الفواكه.

[كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ معناه كذلك أفعل بمن عصاني و إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأوّل بغير مشقّة فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد إهلاكهم إلى غيرهم كان ذلك ميراثا من اللّه لهم و المراد بقوم آخرين بني إسرائيل لأنّهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون.

[فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ اختلف في معناه على وجوه: أحدها: لم يبك عليهم أهل السماء و الأرض لكونهم مسخوطا عليهم، بحذف المضاف مثل قوله تعالى (1): «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» أي أصحاب الحرب قال ذو الرمّة:

لهم مجلس صهب السبال أذلّةسواسية أحرارها و عبيدها

أي لهم أهل مجلس. و الثاني: المراد في البيان تصغير قدرهم فإنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السماء و الأرض و أظلم لفقده الشمس و القمر قال جرير:

يرثي عمر بن عبد العزيز:

الشمس طالعة ليست بكاسفةتبكي عليك نجوم اللّيل و القمرا

و قالت الخارجيّة:

أيا شجر الخابور مالك مورقاكأنّك لم تجزع على ابن طريف

و ذلك على سبيل الاستعارة التخييليّة مبالغة في وجوه الجزع و البكاء و كذلك ما حكي عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية و قيل: و هل يبكيان على أحد؟ قال: نعم مصلّى المؤمن في الأرض و مصعد عمله في السماء و روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ما

ص: 85


1- محمّد: 4.

من مؤمن إلّا و له باب يصعد عمله و باب ينزل رزقه فإذا مات بكيا عليه فعلى هذا يكون معنى البكاء في هذا المورد و الإخبار عن الاختلال بعده كما قال مزاحم العقيليّ:

بكت دارهم من أجلهم فتهلّلت دموعي فأيّ الجازعين ألوم

أ مستعبرا أ يبكي من الهون و البلى أم آخر يبكي شجوه و يهيم

و روى زرارة بن أعين عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريّا و على الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أربعين صباحا و لم تبك إلّا عليهما، قلت: و ما بكاؤها؟ قال: كانت الشمس تطلع حمراء و تغيب حمراء. و قال السدّيّ: لمّا قتل الحسين بكت السماء عليه، و بكاؤها حمرة أطرافها. و بالجملة فالمراد من قوله: «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ» التهكّم و استصغار القدر.

ثمّ قال: [وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لمّا جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر التوبة و تدارك تقصير.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 40]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)

ثمّ أقسم سبحانه بقوله: [وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الّذين آمنوا بموسى [مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء و استخدام النساء و الاستعباد و تكليف المشاقّ [مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً] متكبّرا متغلّبا [مِنَ الْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الطغيان و الغالي في الإساءة.

[وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اخترنا موسى و بني إسرائيل و فضّلناهم بالتوراة و كثرة الأنبياء منهم [عَلى عِلْمٍ أي على بصيرة منّا باستحقاقهم التفضّل [عَلَى الْعالَمِينَ أي على

ص: 86

عالمي زمانهم. و قيل: الآية عامّ دخله التخصيص بقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (1).

ثمّ قال: [وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مثل فلق البحر و تظليل الغمام و إنزال المنّ و السلوى و غيرها من الآيات القاهرة [ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ اختبار ظاهر لتمييز الصديق عن الزنديق و هاهنا آخر الكلام في قصّة موسى.

ثمّ ذكر سبحانه كفّار مكّة و رجع الكلام فيهم حيث قال: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» و رجع إلى حديثهم حيث كانوا منكرين للبعث فقال: [إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ .

فإن قيل: القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقّهم أن يقولوا إن هي إلّا حياتنا الاولى و ما نحن بمنشرين.

فالجواب أنّه قيل لهم: إنّكم تموتون موتة تعقّبها حياة كما تقدّمتكم موتة و تعقّبتها حياة و ذلك قوله «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (2) فحينئذ قالوا:

«إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما هذه الصفة الّتي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة إلّا الموتة الاولى خاصّة فلا فرق إذن بين هذا الكلام و بين قوله: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا»* أو المراد منهم في هذا الكلام أنّه لا تأتينا شي ء من الأحوال إلّا الموتة الاولى أي لا تأتينا الحياة الثانية ثمّ صرّحوا فقالوا: «وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» و قيل: المعنى ليست الموتة الّتي تعقّبها حياة إلّا هذه الموتة دون الموتة الّتي تعقّب حياة القبر و ما نحن بمنشرين أي لا نحيا في القبر و لا نبعث في القيامة و نحيا كما تزعمون.

[فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول و المؤمنين قالوا: إن كان الأمر على ما تقولون فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا. قيل: طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو اللّه حتّى ينشر قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحّة نبوّة محمّد و في صحّة البعث. و قيل: إنّ المقترح بهذا القول كان أبو جهل و لمّا كانت المصلحة غير مقتضية

ص: 87


1- آل عمران: 110.
2- البقرة: 28.

لقبول اقتراحهم عدل سبحانه عن إجابتهم إلى الوعظ و الوعيد فقال:

[أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميريّ، أي أ مشركو قريش أكثر أموالا و أعزّ في القوّة و القدرة أم قوم تبّع الّذي حيّر الحيرة و سيّر بالجيوش من اليمن إلى سمرقند فهدمها ثمّ حفر خندقها و بناها قيل: اسمه شمر بن أفريقش و سمرقند معرب شمركند و قيل: اسمه أسعد أبو كرب و سمّي تبّعا لكثرة أتباعه.

روى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لا تسبّوا تبّعا فإنّه كان قد أسلم.

و قال كعب: نعم الرجل الصالح ذمّ اللّه قومه و لم يذمّه. و روى الوليد بن صبيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ تبّعا قال للأوس و الخزرج: كونوا هاهنا أي في يثرب حتّى يخرج هذا النبيّ أمّا أنا لو أدركته لخدمته و خرجت معه و التبّع ليس اسم و علم الفرد بل لقب ملوك اليمن كما يقال لملك الترك خاقان و لملك الروم قيصر و كان تبّع إذا كتب كتابا كتب بسم الّذي ملك برّا و بحرا. و قيل: هو الّذي كسا البيت و يقال لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون كما يقال: الأقيال لأنّهم يتقيّلون و سمّي الظلّ تبّعا لأنّه يتبع الشمس.

قوله: [وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من تقدّمهم من قوم نوح و عاد و ثمود [أَهْلَكْناهُمْ أي ليسوا بأقوى و أفضل منهم و قد أهلكناهم بكفرهم و هؤلاء مثلهم بل أولئك كانوا أكثر قوّة و عددا فإهلاك هؤلاء أيسر [إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي إنّهم كانوا كافرين فليحذر قومك أن ينالهم مثل ما نال أولئك.

[وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي لم نخلق لغوا و عبثا بل لأن ننفع المكلّفين بذلك بضروب المنافع و اللّذات فذكر الدليل القاطع على صحّة البعث و القيامة أي و لو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعبا و عبثا.

[ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي لغرض صحيح و على الحقّ الّذي يستحقّ به الحمد خلاف الباطل الّذي يستحقّ به الذمّ [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ صحّة ما قلناه لعدو لهم عن التدبير و النظر و الطّاعة.

[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني ذلك اليوم يفصل فيه بين المبطل و المحقّ

ص: 88

و يوم القيامة يوم الحكم بين الأقوام المذكورة من قوم فرعون و قوم تبّع و من قبلهم و قومك أجمعين.

قوله تعالى: [سورة الدخان (44): الآيات 41 الى 50]

يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)

كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

المعنى: شرح سبحانه يوم الفصل فقال:

[يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً] و المولى الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معاونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العمّ و القرابة و الناصر و الحليف و غيرهم ممّن يتّصف بهذه الصفة.

و حاصل المعنى أنّ ذلك اليوم لا يغني فيه وليّ عن وليّ شيئا و لا يقدر أن يدفع المكروه عنه [وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ و هذا المعنى لا ينافي الشفاعة و إثباتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة و المؤمنين لأنّ الشفاعة لا تحصل إلّا بأمر اللّه و إذنه و الآية تدلّ على أنّه ليس لهم من يدفع عن عذاب اللّه و ينصرهم من غير إذن اللّه، و قد بيّن هذا بما أشير إليه باستثنائه بقوله: [إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي إلّا الّذين رحمهم اللّه من المؤمنين فإنّه إمّا أن يسقط عذابهم ابتداء أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده فيسقط عقاب المشفوع له بشفاعته [إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ] في انتقامه من أعدائه [الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

ثمّ أردف بالوعيد للكفّار و الوعد للأبرار فقال: [إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ و قد ذكرنا اشتقاق الزقّوم في سورة و الصافّات.

«طَعامُ الْأَثِيمِ» قالت المعتزلة: الآية تدلّ على أنّ هذا الوعيد حاصل للأثيم و الأثيم هو الّذي صدر عنه الإثم، قال الرازيّ: ليس كذلك لأنّا بيّنّا في اصول الفقه أنّ اللفظ المفرد الّذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود و المذكور السابق و لا يفيد العموم و هاهنا المذكور السابق الكافر فينصرف إليه، انتهى كلامه.

ص: 89

قيل: إنّ المراد من الأثيم في الآية أبو جهل روي أنّه أتى بتمر و زبد فجمع بينهما و أكل مع جماعة و قال هذا هو الزقّوم الّذي يخوّفكم به محمّد نحن نتزقّم به أي نملا أفواهنا منه و قد فعل اللعين ذلك بعد أن نزل «أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ» و كان أهل اليمن يدعون أكل الزبد و التمر التزقّم فنزلت: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ».

[كَالْمُهْلِ قرئ بضمّ الميم و فتحها و هو درديّ من الزيت و يدلّ عليه قوله تعالى:

«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» مع قوله: «فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» و قيل: المهل مذاب النحاس و ساير الفلزّات و هو ما يمهل في النار حتّى يذوب [يَغْلِي فِي الْبُطُونِ الزقّوم [كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الماء الفائر الشديد الفور. و لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأنّ المهل مشبّه به و إنّما يغلي ما يشبه بالمهل لا المهل و هو الزقّوم و قرئ تغلي بالتاء باعتبار الشجرة.

روي أنّ أهل جهنّم لمّا أكلوا الزقّوم و الضريع غليا فيطلبون الماء فيسقون من الأشربة ثمّ قال سبحانه: [خُذُوهُ أي خذوا الأثيم، يأمر سبحانه الزبانية [فَاعْتِلُوهُ و العتل أن تأخذ لمنكب الرّجل و تجرّه إليك و تذهب به إلى حبس أو محنة و لذلك القود العنيف تسمّى عتلا و قيل: معناه جرّوه على وجهه [إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسطه.

[ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قال مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه فيذهب دماغه عن رأسه ثمّ يصبّ فيه من ماء الّذي انتهى حرّه و يقوله له [ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ و ذلك أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما (1) بين جبليها أعزّ و أكرم منّي فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا و أنا أعزّ أهل الوادي فيقول له الملك ذق العذاب أيّها المتعزّز المتكرّم و هذا على طريق التهكّم. و معنى «إِنَّكَ» لأنّك، قرأ به الحسن بن عليّ عليه السّلام.

ثمّ قال: [إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي هذا العذاب الّذي كنتم تشكّون فيه في دار الدنيا و الجمع باعتبار المعنى لأنّ المراد نوع الأثيم.

ثمّ شرح سبحانه ما أعدّ للمتّقين بقوله:ى.

ص: 90


1- «ما» نافية، أي ليس بين جبلي مكة أعز منى.

[سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 59]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

بشّر عباده [إِنَّ الْمُتَّقِينَ الّذين يجتنبون معاصي اللّه لكونها قبائح و يفعلون الطاعات لكونها طاعات [فِي مَقامٍ أي مكان [أَمِينٍ أمنوا فيه من الغير و الموت و الفناء و الحوادث و قيل: أمنوا من الشيطان و الأحزان و المقام بالفتح أقوى و معناه موضع القيام أي المكان و بضمّ الميم موضع السّكون و الإقامة [فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ أي بساتين و عيون ماء نابغة فيها.

[يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ و السندس ما رقّ من الديباج و الإستبرق ما غلظ منه و هو تعريب سطبر بالفارسيّة أي غليظ.

فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ عجميّ؟

فالجواب إذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا لأنّ معنى التعريب تغييره عن منهاجه و إجراؤه على أوجه الأعراب. و قيل: السندس ما يلبسونه و الإستبرق ما يفترشونه و بالجملة خاطب العرب فوعدهم بما عظم عندهم و اشتهته أنفسهم و على هذا لا يقدح من أن يكون اللفظ أصلا عجميّا فعرّب.

[مُتَقابِلِينَ في المجالس لا ينظر بعضهم إلى بعض من القفا، بل يقابل بعضهم بعضا.

[كَذلِكَ حال أهل الجنّة [وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ و قرنّاهم بحور عين قيل: هنّ عجائز كم الدرد المؤمنات ينشئهنّ اللّه خلقا آخر و قرئ بالإضافة و المعنى بالحور من العين لأنّ العين إمّا أن يكون حوراء أو غير حوراء فهؤلاء من الحور العين لا من شهلهنّ و في قراءة عبد اللّه بن مسعود بعيس عين و العيساء البيضاء تعلوها حمرة و الحور في العين أن يكون

ص: 91

البياض في العين غاية البياض و السواد فيها غاية السواد و العين جمع العيناء و هي العظيمة العينين.

قوله: [يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يستدعون فيها أيّ ثمرة شاءوه و اشتهوه غير خائفين فوتها و آمنين من مضرّتها و أسقامها و أوجاعها.

[لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى و الاستثناء منقطع بمعنى لكن و التقدير:

لا يذوقون فيها الموت لكنّ الموتة الاولى قد ذاقوها. و على كون الاستثناء متّصلا و أنّهم ما ذاقوا الموتة الاولى في الجنّة فكيف حسن هذا الاستثناء؟ قال صاحب الكشّاف: أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتّة فوضع قوله: إلّا الموتة الاولى موضع ذلك المعنى لأنّ الموتة الماضية محال في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنّه قيل: إن كانت الموتة الاولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنّهم يذوقونها انتهى كلامه.

فإن قيل: أليس أهل النار أيضا لا يموتون و لا يذوقون الموت فلم بشّر أهل الجنّة بهذا مع أنّ أهل النار يشاركونهم في هذا الأمر؟

فالجواب أنّ البشارة ليست بدوام الحياة بل بدوام الحياة مع سابقة الخيرات و اللذّات فظهر الفرق.

[وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و صرف عنهم العذاب على سبيل التأييد.

[فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي فعل اللّه ذلك بهم تفضّلا منه لأنّه سبحانه خلقهم و أنعم عليهم و ركب فيهم العقل و بيّن لهم من الآيات و الرسل ما استدلّوا به على وحدانيّة اللّه و حسن الطاعات فكلّ هذه الأمور تفضّل منه تعالى إليهم فاستحقّوا النعم العظيمة بهذه الأمور ثمّ جزاهم بالحسنة عشر أمثالها فكان ذلك فضلا أيضا و إنّما سمّاها فضلا و إن كانوا مستحقّين بالطّاعات لأنّ سبب الاستحقاق هذه الأمور الّتي ذكرت من امور التكليف و هو فضل منه و لولاها لما نالوا هذه الدرجة [ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن.

[فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهّلنا القرآن أي ذكّرهم بالكتاب المبين فإنّا

ص: 92

هوّنّا عليك ذكره حيث أنزلناه عربيّا بلغتك و لغة قومك إرادة أن تفهم و يفهم قومك فيذّكّروا [فَارْتَقِبْ أي فانتظر إن أعرضوا عن قبوله و ارتقب مجي ء ما وعدناك [إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ لأنّ المحسن يترقّب عاقبة الإحسان و المسي ء ينتظر عاقبة الإساءة و قيل: المعنى انتظر لهم عذاب اللّه فإنّهم ينتظرون بك الدوائر أو انتظر نصرك عليهم فإنّهم منتظرون قهرك بزعمهم. تمّت السورة بحمد اللّه.

ص: 93

سورة الجاثية

اشارة

* (و تسمى سورة الشريعة) مكّيّة إلّا آية «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا» الآية.

فضلها أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ الجاثية ستر اللّه عورته و سكّن روعته عند الحساب. و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأ الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا و لا يسمع زفير جهنّم و لا شهيقها و هو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 94

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

ذكر في قوله: [حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ وجوها: الأوّل أنّ «حم» مبتدء مخبر عنه و تنزيل الكتاب خبره و لا بدّ من حذف مضاف و التقدير: تنزيل حم تنزيل الكتاب و [مِنَ اللَّهِ متعلّق وصلة للتنزيل، الثاني أن يكون التقدير: هذه حم ثمّ يقول: تنزيل الكتاب واقع من اللّه. الثالث أن يكون حم قسما و جواب القسم «إِنَّ فِي السَّماواتِ» و التقدير: و حم الّذي هو تنزيل الكتاب إنّ الأمر كذا و كذا و الأولى أنّ حم اسم للسورة و خبر لمبتدء محذوف أي هذه السورة مسمّى بحم فيكون هذه حم و تنزيل الكتاب خبر بعد خبر و مصدر اطلق على المفعول.

و قوله: [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يمكن أن يكون صفة للّه و يمكن أن يكون صفة للكتاب و كونه صفة للّه أولى لأنّ ذلك بالنسبة إلى اللّه على سبيل الحقيقة و إذا جعلناهما صفة الكتاب كان ذلك مجازا و الحقيقة أولى من المجاز على أنّ القرب يوجب الرجحان.

ثمّ قال: [إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الّذين يصدّقون باللّه و بأنبيائه و هم المنتفعون من الآيات إذا نظروا في السماوات و الأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة و لا بدّ لها من صانع و كذلك إذا نظروا في خلق أنفسهم و تنقّلها من حال إلى حال و من هيئة إلى هيئة.

[وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ] و كذلك إذا نظروا في خلق ما هو مبثوث على وجه الأرض من صنوف الحيوان و عجائب ما خلقه على اختلاف أنواعها و أجناسها و منافعها المقصودة

ص: 95

منها، دلالات و شواهد و [آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ و يطلبون اليقين بالتّدبّر و التعمّق.

[وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ] أي و كذلك اختلافهما في القصر و الطول و في أنّ أحدهما نور و الآخر ظلمة و مجيئها على وتيرة واحدة [وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أراد به المطر الّذي ينبت به النبات الّذي هو رزق الخلائق سمّي رزقا لأنّه سبب الرزق [فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] و بسبب ذلك المطر أحيا الأرض بعد يبسها و جفافها [وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ بجعلها سبحانه مرّة شمالا و مرّة جنوبا و مرّة صبا و اخرى دبورا و تارة رحمة و تارة عذابا [آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ - قرئ آيات بالرفع أي هي آيات، و قرأ حمزة و الكسائيّ آيات بكسر التاء- أي يتدبّرونها فيعلمون أنّ لهذه الحوادث محدثا مدبّرا حكيما لا يشبهه شي ء.

و كلّ هذه الأمور المذكورة دلالات على وجود الإله القادر لأنّها مركّبة من الأجزاء و تلك الأجزاء أجسام و قد ذكر غير مرّة أنّ الأجسام من حيث هي متماثلة و وقوع تلك الأجزاء و الأجسام بعضها في العمق دون السطح و بعضها في السطح دون العمق لا بدّ لها من مخصّص و مرجّح لأنّك ترى أنّ الأفلاك و العناصر مع تماثلها في تمام الماهيّة الجسميّة اختصّ كلّ واحد منها بصفة معيّنة كالحرارة و البرودة و اللّطافة و الكثافة من الفلكيّة و العنصريّة و إنّ أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مع تماثلها في الجسميّة مثل كمودة زحل و بياض المشتري و حمرة المرّيخ و الضوء الباهر للشمس و درّيّة الزهرة و صفرة عطارد و كون بعضها سعدة و بعضها نحسة و بعضها نهاريّا ذكرا و بعضها ليليّا أنثى فجعل هذه الاختلافات و الخواصّ لا بدّ و أن يكون من أمر خارج عنها فهي مسخّرة لذلك الأمر و الوضع و ذلك بتقدير العزيز العليم.

و كذلك كون كلّ فلك مختصّا بحركة من جهة إلى جهة و سرعة و بطوء مع أنّ الحركة مثلا من جهة المشرق إلى المغرب بالنسبة إلى ذلك الفلك أو ذلك الكوكب ليس بأولى من حركته من جانب المغرب إلى المشرق فهذا الاختصاص و التعيين في المدار من غير تخلّف دليل على الفاعل المدبّر المختار.

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 10]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)

ص: 96

أي ما ذكرناه أدلّة اللّه الّتي نصبها للمكلّفين نقرؤها عليك يا محمّد لتقرأها عليهم [بِالْحَقِ دون الباطل و التلاوة الإتيان بالثاني في أثر الأوّل في القراءة و قوله: «نَتْلُوها عَلَيْكَ» في محلّ الحال أي متلوّة عليك [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي هؤلاء الكفّار إن لم يصدّقوا بما نتلوها عليك فبأيّ حديث و كلام بعد حديث اللّه و هو القرآن و آياته يصدّقون و ينتفعون.

و الفرق بين الحديث الّذي هو القرآن و بين الآيات أنّ الآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الحقّ و الباطل فقط أو أنّ الغرض من العطف عطف التفسيريّ و مناط العطف التغاير العنوانيّ يؤمنون و يصدّقون و قرئ تؤمنون على الخطاب.

[وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الويل كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار و قيل: هو واد سائل من صديد جهنّم. و الأفّاك يطلق على من يعظم كذبه أو يكثر كذبه و إن كان في خبر واحد ككذب مسيلمة في ادّعائه النبوّة و الأثيم كثير الآثام يعني الويل لمثل هذا الموصوف.

[يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً] و يبقى و يقيم على كفره مستكبرا عن الإيمان بالآيات معجبا بما عنده قيل: نزلت في النضر بن الحرث كان يشتري من قصص الأعاجم مثل رستم و إسفنديار و يشغل الناس بها عن استماع القرآن و الآية عامّة في كلّ من كان موصوفا بهذه الصفة و يشمل حال القصّاصين الباطل [كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها] أي هذا الموصوف بالاستكبار بعد أن سمع الآيات مثل أن لم يسمعها [فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.

[وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً] أي إذا بلغه شي ء من آياتنا ينتقل من مقام الاستكبار إلى مقام الاستهزاء و اتّخذ ذلك المعلوم هزؤا و خاض في الاستهزاء بجميع الآيات و لم يقتصر بذلك المعلوم بل يستهزئ بالآيات [أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ إشارة إلى

ص: 97

الموصوفين بهذه الصفات.

[مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ الوراء اسم يقع على القدّام و الخلف و ما توارى عنك فهو وراك خلفك كان أو أمامك فالمعنى قدّامهم جهنّم و قيل: المعنى من وراء ما هم من التعزّز و المال و التلذّذ بالدنيا جهنّم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال: [وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً] و كذلك إنّ أصنامهم لا تنفعهم فقال: [وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ] أي إنّ الآلهة الّتي عبدوها ليكون لهم شفعاء ما نفعتهم [وَ لَهُمْ مع ذلك [عَذابٌ عَظِيمٌ .

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 11 الى 15]

هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

أي [هذا] القرآن الّذي تلوناه و الحديث الّذي ذكرناه [هُدىً و دلالة موصولة إلى التميّز بين الحقّ و الباطل من امور الدين و الدنيا [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا] و جحدوا بالآيات لهم أشدّ العذاب و الرجز هو أشدّ أنواع العذاب و «مِنْ» تبيينيّة للعذاب و تنوين عذاب في المواقع الثلاثة للتفخيم.

ثمّ نبّه سبحانه خلقه بالدلائل على توحيده فقال: [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أي جعله على هيئة لتجري السفن فيه مثل أنّه وضعه أملس السطح يطفوا عليه ما فيه التخلخل كالأخشاب و غيره و لا يمنع الغوص و الخرق لميعانه كذلك سخّره لكم لتركبوا في الفلك و تجري الفلك فيه [وَ لِتَبْتَغُوا] و تطلبوا التجارة و الانتقال و الرزق من الغوص و الصيد و غيرها [مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا النعم المرتّبة على ذلك.

[وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي و سخّر و ذلّل لكم

ص: 98

معاشر الخلق ما في السماوات من الأمور العلويّة من الشمس و القمر و النجوم و الأمطار و الثلوج و ما في الأرض من الدوابّ و الأشجار و النبات و الأثمار و الأنهار و معنى تسخيرها لنا بأن خلقها بوضع يمكن انتفاعنا منها على الوجه المضبوط و لو أنّه تعالى أوقف أجرام السماوات و الأرض في مقارّها و أحيازها، أو كان يجعل الأرض من الذهب أو الفضّة أو الحديد ما كان يحصل منها الانتفاع لها و قوله: «جَمِيعاً مِنْهُ» واقع موقع الحال أي كائنة هذه الأمور من عنده و حكمته و هو مسخّرها لخلقه أي كل ذلك منه تعالى.

[إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من النعم العظيمة [لَآياتٍ عظيمة الشأن [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنع اللّه تعالى.

و لمّا بيّن دلائل وحدته و قدرته أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة و الأفعال الحميدة بقوله: [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أمرهم بالعفو عن الّذين لا يتوقّعون وقائع اللّه بأعدائه، من قولهم لوقائع العرب: أيّام العرب مثل قولهم يوم حليم و يوم ذي قار و هذا الاصطلاح شائع في لسان العرب قال ابن عبّاس: المراد من قوله: «لا يَرْجُونَ أَيَّامَ» أي أيّام ثواب اللّه و لا يخافون عقابه و لا يخشون مثل عقاب الأمم الماضية و قال أكثر المفسّرين: إنّ الآية منسوخة بآية السيف.

و حاصل المعنى العفو عن الّذين نالوكم بالأذى و المكروه و لا يرجون ثوابه بالكفّ عنكم و معنى «يَغْفِرُوا» تركوا مجازاتهم و لا يكافئوهم ليتولّى اللّه مجازاتهم. القميّ: قال:

يقول اللّه لأئمّة الحقّ: لا تدعوا على أئمّة الجور حتّى يكون اللّه هو الّذي يعاقبهم. و عن الصادق عليه السّلام معنى الآية قل للّذين آمنوا و مننّا عليهم بمعرفتنا أن يعرّفوا و يعلّموا الّذين لا يعلمون فإذا عرّفوهم فقد غفروا لهم.

[لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ليجزي اللّه الصابر بسبب صبره و تحمّله و الكافر بسبب إساءته و بيان الجزاء في قوله: [مَنْ عَمِلَ صالِحاً] أي طاعة و برّا [فَلِنَفْسِهِ و يعود ثواب عمله عليه [وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها] أي وبال إساءته على نفسه [ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ و يكون إليه رجوعكم يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد الإنفاع و الإضرار و الأمر و النهي غيره فيجازي كلّا على قدر عمله.

ص: 99

قوله تعالى: [سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 20]

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

المقصود بيان أنّه حال قومك كحال من تقدّم فقال:

[وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ نعما كثيرة و النعم على قسمين نعم الدين و نعم الدنيا و نعم الدّين أفضل من نعم الدنيا فبدأ بذكر نعم الدين بأن قال: آتيناهم [الْكِتابَ و هو التوراة [وَ الْحُكْمَ يجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات و المعرفة بأحكام اللّه [وَ النُّبُوَّةَ] و هي معلومة.

و أمّا نعم الدنيا فهي المراد بقوله: [وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ و ذلك لأنّه تعالى وسّع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال فرعون و قومه و ديارهم ثمّ أنزل عليهم المنّ و السلوى و أعطاهم نصيبا وافرا.

قال: [وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي كانوا أرفع درجة ممّن سواهم في وقتهم و عالمي زمانهم.

ثمّ قال: [وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ] قال ابن عبّاس: يعني بيّن لهم من أمر النبيّ أنّه يهاجر من تهامة إلى يثرب و يكون أنصاره أهل يثرب و قيل: المراد من البيّنات آتيناهم أدلّة على امور الدنيا و أعطيناهم حدسا و فهما في امور دنياهم يترتّبون بها أشغالهم و قيل: المراد و آتيناهم معجزات قاهرة على صحّة نبوّتهم.

[فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي فما وقع بينهم الخلاف في الدّين إلّا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف و هو العلم بكتب اللّه و إنّما اختلفوا و حدث البغي بينهم للعداوة و الحسد و الأنفة و طلب الرياسة و قيل: المعنى [بَغْياً] على محمّد و جحودا لما في كتابهم من نبوّته و صفاته و هذا المعنى قريب من معنى الأوّل.

ص: 100

و المقصود من هذا الكلام التعجّب من هذه الحالة لأنّ حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف و هاهنا صار مجيؤه سببا لحصول الخلاف و ذلك لأنّهم لم يكن مقصودهم من العلم الهداية و إنّما المقصود منه التقدّم و الرياسة فلأجل هذا المقصود بغوا و عاندوا و أظهروا الخلاف فقال سبحانه: [إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ] في مختلفاتهم.

[ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ] يا محمّد جعلناك على دين و منهاج و طريقة بعد موسى و قومه فأمره سبحانه أن يتمسّك بدينه و طريقة كتابه و هو القرآن [فَاتَّبِعْها] أي فاتّبع شريعتك و الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء فهي علامة منصوبة على الطريق من الأمر و النهي يؤدّي إلى الجنّة كما يؤدّي تلك إلى الوصول إلى الماء.

[وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحقّ و لا يفصلون بينه و بين الباطل من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم و حبّا للرياسة و استتباعا للعوامّ و لا المشركين الّذين اتّبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام [إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] أي لن يدفعوا عنك شيئا من عذاب اللّه إن اتّبعت أهواءهم.

[وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي إنّ الكفّار بأجمعهم متّفقون على معاداتك و بعضهم أنصار بعض عليك [وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ و ناصرهم و حافظهم فلا تشغل قلبك بتعاونهم عليك.

[هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي هذا الّذي أنزلته عليك من القرآن معالم في الدين و عظات و عبر للناس يبصرون بها من أمور دينهم [وَ هُدىً أي دلالة واضحة [وَ رَحْمَةٌ] أي نعمة من اللّه [لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بثواب اللّه و عقابه لأنّهم المنتفعون به. قال الكلبيّ: إنّ رؤساء قريش اجتمعوا و قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو بمكّة: ارجع إلى ملّة أقوامك فهم كانوا أفضل و أقدم منك فأنزل اللّه هذه الآية «إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ» الآية.

قوله: [سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 25]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)

ص: 101

منقطعة بمعنى بل و الهمزة للاستفهام الإنكاريّ و الاجتراح الاكتساب و منه الجوارح لأنّها كاسبة قال سبحانه: «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» (1).

و قيل: أم متّصلة و هي كلمة وضعت للاستفهام عن شي ء حال كونه معطوفا على شي ء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مقدّرا فحينئذ تقدير الآية: هذا القرآن بصائر للناس مؤدّية إلى الخير أ فعلموا ذلك أم حسب الّذين اكتسبوا الشرك و المعاصي أن يجعل منزلتهم منزلة الّذين آمنوا و صدّقوا للّه و رسوله [سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ؟ أي أ حسبوا أنّ موتهم و حياتهم كحياة المؤمنين و موتهم؟ [ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما حكموا على اللّه فإنّه تعالى لا يسوّي بينهم بل ينصر اللّه المسلمين و يخذل الكافرين ينزّل الملائكة عند الموت على المؤمنين بالبشرى و على الكافرين يضربون وجوههم و أدبارهم و قيل: أراد محياهم بعد البعث و مماتهم عند حضور الملائكة لقبض أرواحهم. و قيل: المراد إنّ المؤمنين محياهم على الإيمان و الطاعة و مماتهم كذلك و محيى الكافرين على الشرك و المعصية و مماتهم كذلك يموتون مشركين فلا يستويان.

قال الكلبيّ: نزلت الآية في ثلاثة من المؤمنين: عليّ عليه السّلام و حمزة و أبي عبيدة بن الجرّاح (2) و ثلاثة من المشركين عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة لأنّهم قالوا: للمؤمنين ما أنتم على شي ء و نحن لو كان على ما تقولون الأمر لنكون في الآخرة أفضل منكم كما أنّا في الدنيا أفضل منكم فنزلت «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ» الآية، و نظيره «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ ث.

ص: 102


1- الانعام: 60.
2- هكذا في تفسير الامام الرازي، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة هم الثلاثة الذين برزوا إلى المسلمين يوم بدر فخرج إليهم ثلاثة فتية من الأنصار و لما علموا انهم من الأنصار نادوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فأمر رسول اللّه حمزة و عليا و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بالبراز، و من هنا يتأنس ان ابى عبيدة ابن الجراح سهو و الصحيح عبيدة بن الحارث.

فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» (1) و كان الفضيل بن عياض إذا يقرء هذه الآية جعل يردّدها و يبكي و يقول: يا فضيل ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟

قوله: [وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ معطوف على قوله: «خَلَقَ اللَّهُ» لأنّ فيه معنى التعليل أي خلق اللّه السماوات و الأرض للدلالة على وجوده و قدرته «وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ» بعمله إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ من غير ظلم.

[أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و قرئ آلهته. و في الآية معنى التعجّب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنّه عبده، أي أنظرت فرأيته يتّخذ دينه ما يهواه و لا يؤمن باللّه و لا يخافه و لا يحجزه تقوى؟ و ما يهواه يعبده و كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه و أزين رمى به و عبد الآخر فقد عبد آلهة شتّى.

[وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي خذله اللّه عالما بضلاله و تبديله لفطرة اللّه الّتي فطره عليها و خلّاه و ما اختاره جزاء له على كفره و ترك تدبّره و قيل: معنى «أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وجده ضالًّا بسبب علمه كما يقال: أحمدت فلانا أي وجدته حميدا كقول عمرو بن معدي كرب: «قاتلناهم فما أجبنّاهم و سألناهم فما أبخلناهم» أي ما وجدناهم جبناء بخلاء. و قيل: معنى «أَضَلَّهُ اللَّهُ» أي ضلّ عن اللّه قال الشاعر:

هبوني امرءا منكم أضلّ بعيره له ذمّة إنّ الذمام كبير

أي ضلّ عنه بعيره.

[وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أي ختم اللّه على سمعه و قلبه و عينه من بعد تعاميه عن الهدى و تماديه في الغيّ بسوء اختياره و كفره فمن بعد ضلاله. من يهديه من بعد اللّه أفلا تتّعظون بهذه المواعظ و هذا استبطاء بالتذكّر منهم أي تذكّروا.

ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال: [وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا] أي ليس الحياة إلّا حياتنا الّتي نحن فيها في الدنيا و لا يكون بعد الموت بعث و لا حساب [نَمُوتُ وَ نَحْيا]

ص: 103


1- الم السجدة: 18.

و قرئ نحيا بضمّ النون في معناه أقوال: أحدها يعني نحيا و نموت فقدّم و أخّر و الثاني نموت بأنفسنا و نحيا ببقاء أولادنا و الثالث يموت بعضنا و نحيا بعضنا و يمكن أن يريد به التناسخ فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.

ثمّ جمعوا بين إنكار الإله و البعث و القيامة بقولهم: [وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ] و مقصودهم أنّ تولّد الأشخاص إنّما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع و إذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة و إذا وقعت على وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة و الموت تأثيرات الطّبائع فهذا هو المراد من قولهم: «ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ».

فقال سبحانه: [وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ نفى عنهم العلم لجهلهم بسبب نسبتهم ذلك إلى الدهر [إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم فيما ذكروه إلّا ظانّون و قد روي في الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تسبّوا الدهر فإنّ اللّه هو الدهر أي فإنّ اللّه هو الآتي بالحوادث لا الدهر لأنّ الدهر هو مخلوق مقهور و كان أهل الجاهليّة ينسبون الحوادث و البلايا النازلة إلى الدهر و يقولون: فعل الدهر كذا و كانوا يسبّون الدهر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تسبّوا الدهر فإنّ الدهر لا يحدث أمرا فلا تسبّوا فاعلها و نسبة الحوادث إلى الدهر كان شائعا فيهم قال الأصمعيّ: ذمّ أعرابيّ رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر و قال كثيّر:

و كنت كذي رجلين رجل صحيحةو رجل رمى فيها الزمان فشلّت

ثمّ قال سبحانه: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و ذكروا هذه الشبهة الضعيفة حجّة بزعمهم و أنكروا البعث بقولهم:

فائتوا بآبائنا الّذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحّة البعث و ليس هذه الكلمة الواهية بشي ء لأنّه ليس كلّ ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول فإنّ حصول كلّ واحد منّا كان معدوما من الأزل إلى الوقت الّذي حصلنا فيه و لو كان عدم الحصول في وقت معيّن يدلّ على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك و ذلك باطل بالاتّفاق.

ثمّ قال سبحانه:

ص: 104

[سورة الجاثية (45): الآيات 26 الى 30]

قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)

[قُلِ يا محمّد: [اللَّهُ يُحْيِيكُمْ في دار الدنيا و لا يقدر أحد على الإحياء غيره [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم [ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] بأن يبعثكم و يعيدكم أحياء [لا رَيْبَ فِيهِ و لا شكّ في وقوعه لأنّ من قدر على فعل الحياة في وقت قدر على فعلها في كلّ وقت [وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بعدولهم عن النظر الموجب للعلم بصحّته و لمّا بيّن أنّه القادر على الإحياء و الإماتة عمّم الدليل فقال: [وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي له القدرة على جميع الممكنات.

ثمّ ذكر تفاصيل أحوال القيامة في الجملة:

فأولها: [وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ و عامل النصب في يوم فعل يخسر و يومئذ بدل من يوم يقوم و اعلم أنّ الحياة و العقل و الصحّة رأس المال للإنسان في تحصيل السّعادة كتصرّف التّاجر في رأس ما له في التجارة و طلب الرّيح و المبطلون أسرفوا رأس ما لهم في الكفر و طلب الشّقاوة فما وجدوا إلّا الخذلان فكان ذلك نهاية الخسران.

و ثانيها: [وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً] و الجثوّ الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم و قرئ «جاذية» و الجذوّ أشدّ من الجثوّ لأنّ الجاذي هو الّذي يجلس على أطراف الأصابع، و الحاصل أنّ الامّة مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.

ثمّ قال تعالى: [كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا] أي إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس و يقال لهم: [الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا] و نسبة الكتاب

ص: 105

إليهم لأنّه المشتمل على أعمالهم و نسبة الكتاب إليه تعالى أيضا لأنّه هو الّذي أمر الملائكة بكتبه.

[يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ و يشهد بما عملتم من غير زيادة و نقصان [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نستكتب الملائكة أعمالكم.

و في الكافي و القميّ عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: إنّ الكتاب لم ينطق و لن ينطق و لكن رسول اللّه هو الناطق بالكتاب قال اللّه تعالى: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» بضمّ الياء و فتح الطاء فقيل: إنّا لا نقرؤها هكذا فقال عليه السّلام: هكذا و اللّه أنزل بها جبرئيل على محمّد و لكنّه ممّا حرّف من كتاب اللّه و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن «ن وَ الْقَلَمِ» قال: إنّ اللّه خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال له: الخلا، ثمّ قال:

لنهر في الجنّة: كن مدادا فجمد النهر و كان أشدّ بياضا من الثلج و أحلى من الشهد ثمّ قال:

للقلم: اكتب فقال: يا ربّ و ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضا من الفضّة و أصفى من الياقوت ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلم ينطق و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أو لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أو ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر هو الأصل و هو قوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

و في سعد السعود في حديث الملكين الموكّلين بالعبد إنّهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا و مساء يدنوان عمل العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي استنسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

قوله: [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي في جنّته و ثوابه [ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الفلاح الظاهر.

[سورة الجاثية (45): الآيات 31 الى 37]

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

ص: 106

قالت المعتزلة في قوله تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ : إنّه سبحانه ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايرا للإيمان زائدا عليه و علّق الدخول في رحمته على كونه آتيا بالإيمان و الأعمال الصالحة و المعلّق على مجموع أمرين يكون عدما عند عدم أحدهما فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنّة.

و أجاب الأشاعرة بأنّ تعليق الحكم على الوصف لا يدلّ على عدم الحكم عند عدم الوصف انتهى.

قوله: [وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي يقال لهم: أ فلم تكن بيّناتي و حججي تقرء عليكم [فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي تعظّمتم عن قبولها و صرتم بسبب الاستكبار كافرين كما قال سبحانه: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ».

قالت الأشاعرة: إنّه تعالى علّل استحقاق العقوبة بأنّ آياته تليت عليهم فاستكبروا، و هذا يدلّ على أنّ استحقاق العقوبة لا يحصل إلّا بعد مجي ء الشرع فالواجبات لا تجب إلّا بالشرع خلافا لما يقوله المعتزلة من أنّ بعض الواجبات قد تجب بالعقل.

أقول: و في كلام الأشاعرة نظر لأنّ بعض الواجبات و المحرّمات ثبت وجوبه و حرمته بالعقل مع قطع النظر عن الشرع كحسن الإحسان و قبح الظلم.

فإن قيل: كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرما في معرض الذمّ له قيل: و المراد أنّ الكفّار قد يكونون عدولا في أديانهم و هؤلاء فسّاق في ذلك الدين و جواب الاستفهام

ص: 107

محذوف و الفاء في «أَ فَلَمْ تَكُنْ» يدلّ عليه و التقدير: فأمّا الّذين كفروا فيقال لهم:

«أَ فَلَمْ تَكُنْ الآية».

[وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ أي إنّ ما وعد اللّه من الثواب و العقاب كائن ثابت لا محالة [وَ السَّاعَةُ] آتية [لا رَيْبَ في وقوعها [قُلْتُمْ معاشر الكفّار [ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ] و أنكرتموها [إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ و ذلك لأنّ القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعا بنفي البعث و القيامة و هم الّذين ذكرهم اللّه في الآية السابقة بقوله: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» و منهم من كان يظهر التحيّر في وقوعه و لكثرة ما سمعوه من الرسول صاروا يظهرون الشكّ فيه و هم الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية و الّذي يدلّ على هذا المعنى أنّه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ثمّ أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأوّل.

[وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا] أي ظهر لهم جزاء معاصيهم الّتي عملوها في الآخرة و قد كانوا يعدّونها حسنات [وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و نزل بهم و ثبت و استقرّ لهم جزاء تكذيبهم و استهزائهم و هذا كالدليل على أنّ هذه الفرقة لمّا قالوا: «إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا» إنّما ذكروه على وجه السخريّة فعلى هذا الوجه فهذا الفريق شرّ من الفريق الأوّل لأنّهم ضمّوا إلى الإنكار الاستهزاء.

ثمّ قال تعالى: [وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ أي نترككم في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا اليوم و تركتم التأهّب للقاء يومكم و نحلّكم في العذاب محلّ المنسيّ كما أحللتم هذا اليوم عندكم محلّ المنسيّ [وَ مَأْواكُمُ النَّارُ] أي مستقرّكم جهنّم [وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنكم عذاب اللّه.

[ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً] أي ذلكم الّذي فعلنا بكم لأجل أنّكم استهزأتهم بآيات اللّه تسخرون بها و بسبب أنّكم استغرقتم في حبّ الدينا و الإعراض بالكلّيّة عن الآخرة و هو المراد من قوله: [وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا] و خدعتكم بزينتها [فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و قرأ حمزة و الكسائي بفتح الباء في «وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أي لا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم أي يرضوه و غير مأذونين في الاعتذار لأنّ التكليف قد

ص: 108

زال و قيل: معناه: لا يقبل منهم العتبى.

[فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي احمدوا اللّه حمدا و شكرا تامّا أو الحمد التامّ و المدحة الّتي لا يوازيها مدحة للّه الّذي خلق السماوات و الأرض و دبّرهما و خلق العالمين [وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ] أي السلطان القاهر و العلوّ و الشأن في السماوات و الأرض و لا يستحقّه أحد غيره و في الحديث قال اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني ألقيته في جهنّم [وَ هُوَ الْعَزِيزُ] في حكمه و جلاله [الْحَكِيمُ في أفعاله و قيل: معناه العزيز في انتقامه من الكفّار و الحكيم في ما يفعله بالمؤمنين و الكلام مفيد للحصر.

تمّت السورة و الحمد للّه حمدا دائما طيّبا مباركا مخلّدا مؤبّدا كما يليق بشأنه و عظيم إحسانه و الصلاة على الأرواح الطاهرة المقدّسة من ساكني أعالي السماوات و نجوم الأرضين من الملائكة و الأنبياء و الأولياء خصوصا على خير خلقه محمّد و خلفائه الأئمّة المرضيّين صلوات الله عليه و عليهم أجمعين.

ص: 109

سورة الأحقاف

اشارة

مكّيّة إلّا آية منها نزلت بالمدينة «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» الآية نزلت في عبد اللّه بن سلام.

عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: و من قرأ سورة الأحقاف اعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيّئات و رفع له عشر درجات.

و عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللّه بروعة في الدنيا و آمنه من فزعة يوم القيامة.

ص: 110

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)

قوله: [حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مرّ تفسيره [ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي ما خلقناهما عبثا و لا باطلا و إنّما خلقناهما لنتعبّد سكّانها بالأمر و النهي و نعرضهم الثواب و ضروب النعم و الخلق عبارة عن التقدير و آثار التقدير ظاهرة في السماوات و الأرض.

قالت المعتزلة: هذا يدلّ على أنّ كلّ ما في السماوات و الأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده و إلّا لزم أن يكون خالقا لكلّ باطل و ذلك ينافي قوله: «ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ».

و أجاب الأشاعرة بأنّه هو الّذي خلق الباطل إلّا أنّه خلق ذلك الباطل بالحقّ لأنّ ذلك تصرّف منه تعالى في ملك نفسه و تصرّف المالك في ملك نفسه يكون بالحقّ لا بالباطل و قالوا: إنّ أعمال العباد من جملة ما بين السماوات و الأرض فهي مخلوقة للّه.

و الجواب: أنّ أفعال العباد أعراض و الأعراض لا توصف بأنّها حاصلة بين السماوات و الأرض ثمّ إنّ اللّه خلق السماوات و الأرض و ما بينهما بالحقّ و ما خلق الباطل و الّذي خلقه هو الحقّ لكن سوء اختيار العبد غيّر الحقّ و جعله باطلا و مثاله أنّ الطاهي يصنع طعاما يتّخذ من اللّحوم و الأبازير و يطبخه على أحسن تركيب و يقدّمه للضيف فيتسرّع

ص: 111

إليه طفل أو مجنون فيلقي في ذلك الطعام جفنة من علقم أو ملح فغيّره بحيث لا يؤكل من ذلك الطعام بل لا يمكن الذوق منه لفرط مرارته فهل يمكن أن يقال: إنّ الطاهي أفسد هذا الطعام و أضاعه فكذا هنا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

قوله: [وَ أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة فإنّه أجل مسمّى عنده سبحانه و مطويّ عن العباد علمه إذا انتهى إليه تناهى و قامت القيامة و قيل: هو مسمّى للملائكة و في اللّوح المحفوظ [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي إنّ الكافرين عمّا انذروا من القيامة و الجزاء معرضون و عادلون عن قبوله و التفكّر فيه.

[قُلْ يا محمّد- صلّى اللّه عليك- لهؤلاء الّذين كفروا: [أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني من الأصنام الّتي تعبدونها [أَرُونِي تأكيد لأرأيتم [ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ و ما الّذي أبدعوه و أظهروه من العدم إلى الوجود [أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ في خلقها و تركيبها.

ثمّ قال سبحانه: قل لهم: [ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا] أي قبل هذا القرآن أنزله اللّه يدلّ على صحّة قولكم [أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقيّة من علم يؤثر من كتب الأوّلين تعلمون به أنّهم شركاء للّه أو خبر من الأنبياء السالفة يقولون بهذا الأمر فيكون يتوهّم لهم شائبة استحقاق المعبوديّة فائتوا به [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال المبرّد: الأثارة ما يؤثر و يبقى من علم لقولك: هذا الحديث مأثور عن فلان و من هذا المعنى سمّيت الأخبار بالآثار كأنّها بقيّة يستخرج فيؤثر و قرئ «أثرة» أي من شي ء أوثرتم و خصّصتم به.

قوله: [وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ] أي من أضلّ عن طريق الصواب ممّن يدعو غير اللّه شيئا لو دعاه إلى يوم القيامة لم يجبه و لم يغثه و لا يستجيب له أبدا [وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي المعبودون مع ذلك عن دعاء العابدين غافلون و جاهلون لأنّهم جمادات و ليس لها إدراك و كنّي عن الأصنام بجمع العاقل على زعمهم نحو «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 6 الى 10]

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

ص: 112

المعنى: ذكر سبحانه أنّه إذا قامت القيامة صارت آلهتهم الّتي عبدوها أعداء لهم مثل قوله تعالى: «وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» (1) [وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي إنّ هذه الأوثان الّتي عبدوها ينطقهم اللّه حتّى يجحدوا و يكفروا بعبادة الكفّار لهم.

ثمّ وصفهم اللّه سبحانه فقال: [وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن و المعجزات الّتي ظهرت على يدي النبيّ [هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي حيلة لطيفة ظاهرة و خداع بيّن.

[أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ و لمّا بيّن سبحانه أنّهم يسمّون المعجزة بالسحر بيّن أنّهم متى سمعوا القرآن قالوا: إنّ محمّد افتراه و اختلفه من عند نفسه و معنى الهمزة في «أَمْ» للإنكار و التعجّب كأنّه قيل: دع هذا و اسمع القول المنكر العجيب بأنّهم أضربوا عن الكلام القبيح الأوّل من تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم إنّ محمّدا افتراه، قل يا محمّد لهم: إن اختلفته على سبيل الفرض و كذبت على اللّه كما زعمتم عاجلني اللّه لا محالة بعقوبة الافتراء و لا تقدرون على كفّه عن عقوبته سبحانه إيّاي [فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً] و لا تطيقون دفع شي ء من عقابه عنّي فكيف أتعرّض لعقابه؟

ثمّ قال: [هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي إنّ اللّه أعلم بما تقولون و تخوضون في القرآن من التكذيب به و القول فيه بأنّه سحر [كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي في به سبحانه شاهدا أنّ القرآن جاء من عنده [وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ في تأخير العقاب عنكم حين لا يعجل بالعقوبة و هو وعد لمن رجع عن الكفر و تاب و استعان بحكم اللّه عليهم مع عظم ما ارتكبوه.

ص: 113


1- مريم: 83.

[قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأوّل رسول بعث، و البدع الأوّل من الأمر، فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأنّي رسول اللّه إليكم و لا تنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد و نهيي عن عبادة الأصنام فإنّ كلّ الرسل إنّما بعثوا بهذا الطريق و ذلك أنّهم كانوا يعينونه بأنّه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و بأنّه فقير و بأنّ أتباعه فقراء فقال سبحانه: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» بل كانوا كلّهم بهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوّتي كما لا تقدح في نبوّتهم.

ثمّ قال: [وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ في تفسير الآية وجهان:

الأوّل أن تحمل على أحوال الدنيا أي لا أدري أ أموت أم اقتل و لا أدري أيّها المكذّبون ما يفعل بكم أ ترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم الأرض أم ليس يفعل بكم ما فعل بالأمم المكذّبة و هذا هو في الدنيا و أمّا في الآخرة فإنّه علم بسبب خبر اللّه أنّه في الجنّة أو المعنى لست أدّعي غير الرسالة و لا أدّعي علم الغيب و لا معرفة لي فيما يفعل اللّه بي و لا بكم من الإحياء و الإماتة و المنافع و المضارّ إلّا أن يوحى إليّ و قيل: المعنى ما أدري ما اؤمر به و لا تؤمرون به في باب التكليف و الشرائع إلّا ما أوحاه اللّه إليّ و قيل:

ما أدري أ أترك بمكّة أو أخرج منها.

قال: ابن عبّاس: في رواية الكلبيّ عنه لمّا اشتدّ البلايا بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة رأى في المنام صلّى اللّه عليه و آله أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخل و شجر و ماء فقصّها على أصحابه فاستبشروا بذلك و رأوا أنّ ذلك فرج ممّا هم فيه من أذى المشركين ثمّ إنّهم مكثوا بذلك برهة من الزمان لا يرون أثر ذلك فقالوا: يا رسول اللّه ما رأينا الّذي قلت و متى نهاجر إلى الأرض الّتي رأيتها في المنام؟ فسكت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه الآية «ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ».

و أمّا الوجه الثاني أنّ المراد من الآية يكون في أحوال الآخرة كما زعم بعض و هذا القول ضعيف جدّا قال ابن عبّاس لمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون و المنافقون و اليهود و قالوا: كيف نتّبع نبيّا لا يدري ما يفعل به و بنا فأنزل اللّه «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ» إلى قوله: «فَوْزاً عَظِيماً» فبيّن سبحانه ما يفعل

ص: 114

به و بمن اتّبعه و شرحت هذه الآية و أرغم اللّه أنف المنافقين و المشركين.

و اعلم أنّ أكثر المحقّقين أنكروا الوجه الثاني و هو كون المراد في معنى الآية الأحوال الآخرة لوجوه:

الاول أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا بدّ و أن يعلم كونه نبيّا و متى علم كونه نبيّا علم أنّه لا تصدر عنه الكبائر و أنّه مغفور له و إذا كان كذلك امتنع كونه شاكّا في أنّه هل هو مغفور له أم لا؟

الثاني لا شكّ أنّ الأنبياء أرفع حالا و شأنا من الأولياء فلمّا قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» فكيف يعقل أن يبقى الرسول الّذي هو رئيس الأتقياء و قدوة الأنبياء و الأولياء شاكّا في أنّه هل هو من المغفورين أو من المعذّبين؟

الثالث أنّه تعالى قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» و المراد منه كمال حاله و نهاية قربه من حضرة اللّه تعالى و من هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكّا في أنّه من المعذّبين أو من المغفورين؟ فثبت أنّ هذا ضعيف. و قرأ الزّمخشريّ بفتح الياء في «يُفْعَلُ» على المعلوم.

ثمّ قال: [إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ أي لا أقول قولا و لا أعمل عملا إلّا بمقتضى الوحي [وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كانوا يطالبونه صلّى اللّه عليه و آله بالمعجزات العجيبة و يقترحون منه و بالإخبار عن الغيوب فقال سبحانه: قل «وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» بيّن الإنذار أنذركم عقاب اللّه.

و احتجّ نفاة القياس بهذه الآية قالوا: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما قال قولا و لا عمل عملا إلّا بالنصّ الّذي أوحاه اللّه إليه فوجب أن يكون حالنا كذلك لقوله تعالى: «وَ اتَّبِعُوهُ» و قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» (1).

قوله تعالى: [قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ ثمّ قال سبحانه: «قُلْ» يا محمّد لهم: أرأيتم أي أخبروني و ماذا تقولون إن كان هذا القرآن من عند اللّه هو أنزله؟ «وَ كَفَرْتُمْ بِهِ»

ص: 115


1- النور: 63.

حال بإضمار «قد» و جواب الشرط هاهنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند اللّه و الحال أنّكم كافرين به ألستم ظالمين و خاسرين؟

و يدلّ على هذا المحذوف قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» و جواب الشرط قد يحذف مثل هذه الآية و مثل قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» (1) الآية، و قد يذكر مثل قوله: «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ» (2).

قوله: [وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ و الضمير في مثله راجع إلى القرآن و هو التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد و الوعد و الوعيد و غير ذلك و يدلّ عليه «وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» (3) و «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (4) و قوله: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» (5). و يجوز أن يكون المعنى إن كان من عند اللّه و كفرتم به و شهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند اللّه.

و المراد في الآية من الشاهد قيل: عبد اللّه بن سلام و قيل: الشاهد موسى شهد على التوراة كما شهد النبيّ على القرآن. و قالوا: لا يمكن أن يكون الشاهد عبد اللّه بن سلام لأنّ السورة مكّيّة و عبد اللّه أسلم في المدينة. و أجيب عن ذلك بأنّ الآية مدنيّة و السورة مكّية و كانت الآية تنزل فيؤمر رسول اللّه بأن يضعها في سورة كذا فهذه الآية نزلت في المدينة و إنّ اللّه أمر رسوله بأن يضعها في هذه السورة المكّيّة في هذا الموضع المعيّن.

قال صاحب الكشّاف: إنّه لمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة فأتاه عبد اللّه بن سلام و نظر إلى وجه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تأمّله فعرف أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بوجه كذّاب و تحقّق أنّه هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المنتظر.

ص: 116


1- الرعد: 33.
2- القصص: 72.
3- الشعراء: 196.
4- الأعلى: 18.
5- الشورى: 2.

فقال له عبد اللّه: إنّي سائلك عن ثلاث ما يعلمهنّ إلّا النبيّ: ما أوّل أشراط الساعة و ما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى امّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم و نجمعهم من المشرق إلى المغرب و أمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد الحوت و أمّا الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له و إن سبق ماء المرأة نزع لها فقال عبد اللّه: أشهد أنّك لرسول اللّه حقّا.

ثمّ قال عبد اللّه: يا رسول اللّه إنّ اليهود قوم بهت و إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أيّ رجل عبد اللّه عندكم؟ فقالوا:

خيرنا و ابن خيرنا و سيّدنا و ابن سيّدنا و أعلمنا و ابن أعلمنا فقال: أرأيتم إن أسلم عبد اللّه فقالوا: أعاذه اللّه من ذلك فخرج عليهم عبد اللّه و قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا و انتقصوه فقال عبد اللّه: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه.

فقال سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت رسول اللّه يقول لأحد يمشي على وجه الأرض أنّه من أهل الجنّة إلّا لعبد اللّه بن سلام و فيه نزل «وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ».

لكن بعض أنكروا هذا المعنى كما ذكرنا قبل هذا في أوّل الآية و قالوا: إنّ الإخبار عن المسائل الثلاث إخبار عن وقوع شي ء من الممكنات العاديّات و ما يكون هذا سبيله فإنّه لا يعرف صدقه إلّا إذا عرف أوّلا كون المخبر صادقا فلو أنّا عرفنا صدق المخبر بكون ذلك الخبر صدقا لزم الدور و إنّه محال. ثمّ إنّ الجوابات المذكورة عن الأسئلة لا يبلغ العلم بها إلى حدّ الإعجاز.

لكن يمكن الجواب عن هذا الإيراد أنّه جاء في بعض كتب الأنبياء أو التوراة أنّ رسول آخر الزّمان يسأل عن هذه المسائل و هو يجيب بهذه الجوابات و كان عبد اللّه عالما بهذا المعنى فلمّا سأل النبيّ و أجاب صلّى اللّه عليه و آله عرف بهذا الطريق كونه رسولا حقّا، انتهى.

ص: 117

ثمّ أخبر سبحانه و قال: [فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ أي آمن الشاهد و كفرتم [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بسبب قبولهم الظلم و هو الكفر و إنّما منعهم الهداية لفعل القبيح الّذي صدر منهم لكونهم ظالمين أنفسهم.

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 11 الى 15]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

هذه شبهة اخرى للقوم في إنكار نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و ذلك أنّه لما أسلمت جهينة و أسلم و غفار قال بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع و هم كانوا أقوياء: لو كان هذا خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء رعاء البهم، و هؤلاء الصعاليك و الفقراء و الأراذل مثل عمّار و صهيب و ابن مسعود و أمثالهم.

و قيل: إنّه كانت أمة لعمر أسلمت قبل أن يسلم عمرو كان عمر يضربها حتّى يفتر و يقول: لو لا إنّي فترت لزدتك ضربا فكان كفّار قريش يقولون: لو كان ما يدعو محمّد حقّا ما سبقتنا إلى قبول دينه فلانة.

و قيل: كان اليهود يقولون هذا الكلام عند إسلام عبد اللّه بن سلام.

قوله: [وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي فإن لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدبّروه فسيقولون هذا القرآن كذب متقادم و أساطير الأوّلين و القديم في اللغة ما تقادم وجوده و في عرف المتكلّمين هو الموجود الّذي لا أوّل لوجوده.

ثمّ قال سبحانه: [وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي و تقدّمه كتاب موسى و هو التوراة

ص: 118

[إِماماً وَ رَحْمَةً] يقتدى به كما يقتدى بالإمام و رحمة من اللّه للمؤمنين به قبل القرآن و في الكلام حذف و التقدير و كان قبل القرآن كتاب موسى فلم يهتدوا به و دلّ على المحذوف قوله تعالى في الآية الاولى: «وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ» و ذلك أنّ المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا عبادة الأوثان و يعرفوا منه صفة محمّد كما هو مذكور فيه.

ثمّ قال: [وَ هذا كِتابٌ أي القرآن [مُصَدِّقٌ للكتب الّتي قبله [لِساناً عَرَبِيًّا] و و ذكر اللسان تأكيدا كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا فذكر رجل للتأكيد أي إنّ هذا القرآن مصدّق لكتاب موسى في أنّ محمّدا رسول حقّ من عند اللّه لكونه صلّى اللّه عليه و آله مذكور النعت في التوراة [لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا] فإسناد الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول و قرئ بالتاء على الخطاب [وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ و بشارة لهم أو و يبشّر الكتاب بشرى أو في موضع الرفع أي و هو بشرى للموحّدين.

[إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا] بيان صفة الموحّدين أي الّذين وحّدوا اللّه و استقاموا في امور الدين على العمل به و في الآية دلالة على تراخي مرتبة العمل عن التوحيد و وجوب العمل [فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه [وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب و قال أهل التحقيق: خوف العقاب زائل عنهم و أمّا خوف الجلال و الهيبة فلا يزول عن العبد البتّة أ لا ترى أنّ الملائكة مع علوّ درجاتهم و عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ».

قوله: [أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ] أي هؤلاء الموصوفين ملازمون الجنّة [خالِدِينَ فِيها] مؤبّدين [جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يجزون جزاء في الدنيا من الطاعات و الأعمال الصالحة.

[وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً] قرئ «إِحْساناً» حسنا بضمّ الحاء و سكون السين و فمن قرأ إحسانا فحجّته مثل قوله تعالى في سورة بني إسرائيل «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (1) و الإحسان ضدّ الإساءة و من قرأ حسنا فالمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا و سمّي ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة كما يقال: زيد عدل و هذا الرجل علم و كرم.

ص: 119


1- الآية 23.

[حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً] قرئ كرها بضمّ الكاف و بفتحها هما لغتان مثل الضعف و الضعف في المصادر، و في غير المصادر مثل الدفّ و الدفّ و الشهد و الشهد فما كان مصدرا أو في موضع الحال فالفتح أحسن مثل قوله: «أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» (1) و ما كان اسما كان الضمّ أحسن مثل قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» (2).

قال المفسّرون: حملته امّه كرها أي حملته على مشقّة و ليس يريد ابتداء الحمل فإنّ ذلك لا يكون مشقّة لأنّه تعالى قال: «فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» يريد ابتداء الحمل فإنّ حمل النطفة و العلقة و المضغة لا يكون مشقّة فإذا أثقلت فحينئذ حملته كرها و وضعته كرها يريد شدّة الطلق.

[وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً] و المراد من الفصال الرضاع التامّ المنتهى به فإذا كان المراد من الآية مدّة الحمل و الرضاع فكيف عبّر عنه بالفصال لأنّ الرضاع ينتهي إلى الفصال و يتمّ الرضاع بالفصال و يؤول إليه فسمّي فصالا كما سمّي المدّة بالأمد. قال الشاعر:

كلّ حيّ مستكمل مدّة العمر و بور إذا انتهى أمده

و في الآية دلالة على أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر لأنّه لما كان مجموع مدّة الحمل و الرضاع ثلاثون شهرا و قال: «وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» (3) فإذا أسقطت الحولين و هي أربعة و عشرون شهرا من الثلاثين بقي مدّة الحمل ستّة أشهر.

قال الرازيّ: روي عن عمر أنّ امرأة رفعت إليه و كانت قد ولدت بستّة أشهر فأمر عمر برجمها فقال عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: لا رجم عليها و ذكر الآية و عن عثمان أنّه همّ أيضا بذلك فقرأ ابن عبّاس عليه ذلك فامتنع عن الرجم.

و اعلم أنّ الآية دالّة على أنّ حقّ الأمّ أعظم لأنّه تعالى ذكرهما أوّلا «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» فذكرهما معا ثمّ خصّ الأمّ بالذكر فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ»

ص: 120


1- النساء: 18.
2- البقرة: 216.
3- البقرة: 233.

الآية، و ذلك يدلّ على أنّ حقّها أعظم لأنّ وصول المشاقّ إليها أكثر و الأخبار كثيرة في هذا الباب.

قوله: [حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ و هو ثلاث و ثلاثون سنة على قول ابن عبّاس: و قيل:

بلوغ الحلم و قيل: وقت قيام الحجّة عليه و قيل: هو أربعون سنة و ذلك وقت نزول الوحي على الأنبياء إلّا عيسى بن مريم فإنّ اللّه جعله نبيّا من أوّل عمره و روي أنّه جاء جبرئيل إلى النبيّ فقال: يؤمر الحافظان أن ارفقا بعبدي في حداثة سنّه حتّى إذا بلغ الأربعين قيل لهما: احفظا و حقّقا و لذلك فسّر به [وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً] و ذلك بيان لزمان الأشدّ و أراد بذلك أنّه يكمل له عقله و رأيه عند الأربعين و ذلك إذا اكتهل.

و حكي عن أرسطاطاليس أنّه قال: أزمنة الولادة و حبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربّما وضعت الحبلى لسبعة أشهر و ربّما وضعت في الثامن و قلّما يعيش المولود في الثامن إلّا في بلاد معيّنة مثل مصر و قد يكون لستّة أشهر و من المعلوم أنّ مراتب سنّ الحيوان ثلاثة لأنّ الحرارة الغريزيّة و الرطوبة الغريزيّة غالبة في أوّل العمر و ناقصة في آخر العمر و الانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلّا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين. فمدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:

أوّلها أن تكون الرطوبة الغريزيّة زائدة على الحرارة الغريزيّة و حينئذ يكون الأعضاء قابلة للتمدّد في ذواتها و للزيادة في الطول و العرض و العمق و هذا هو سنّ النشوء و النماء.

و المرتبة الثانية و هي المرتبة المتوسّطة أن تكون الرطوبة الغريزيّة وافية بحفظ الحرارة الغريزيّة من غير زيادة و لا نقصان و هذا هو سنّ الوقوف و هو سنّ الشباب.

و المرتبة الثالثة و هي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزيّة ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزيّة و النقصان خفيّ و هو سنّ الكهولة و جليّ ظاهر و هو سنّ الشيخوخة.

ثمّ هاهنا بيان آخر و هو أنّ دور القمر إنّما يتمّ في مدّة ثمانية و عشرين يوما و

ص: 121

شي ء، فإذا قسمنا هذه المدّة بأربعة أقسام كان كلّ قسم منها سبعة فلهذا السبب قدّروا الشهر بالأسابيع الأربعة و لهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم فكذلك عالم عمر الإنسان ينقسم إلى أربعة أسابيع و يحصل للآدميّ بحسب انتهاء كلّ اسبوع من هذه الأسابيع الأربعة نوع من التغيّر يؤدّي إلى كماله.

أمّا عند تمام الأسبوع الأوّل من العمر فتصلب أعضاؤه بعض الصلابة و تقوى أفعاله مثل أن تتبدّل أسنانه الضعيفة الواهية مثلا بالقويّة و قوّة الهضم كذلك أقوى من قبل.

و أمّا في نهاية الأسبوع الثاني يتقوّى الحرارة و تقلّ الرطوبات و تتّسع المجاري و تقوى الأعضاء و تتصلّب صلابة كافية و يتولّد فيه مادّة الزرع و عند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ لأنّ الدماغ قد اعتدل و كمل القوى النفسانيّة الّتي هي الفكر و الإدراك فلا جرم يتوجّه إليه التكاليف الشرعيّة فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعيّ بخمس عشرة سنة و هو تكميل اسبوعين على البيان الّذي قرّرنا.

و يتفرّع على حصول هذه الحالة أمارات ظاهرة و علائم بيّنة منها انفراق طرف الأرنبة و نتوء الحنجرة و غلظ الصوت لأنّ الحرارة الّتي تنهض في ذلك الوقت توسّع الحنجرة فتنتؤ و يغلظ الصوت و ثالثها تغيّر ريح الإبط و هي الفضلة العفنيّة الّتي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع لأنّ القلب لمّا قويت حرارته لا جرم قويت على إنضاج المادّة و دفعها إلى اللحم الغدديّ الرخو الّذي في الإبط و كذلك نبات الشعر و حصول الاحتلام و الاغتلام لأنّ الحرارة كلّما قويت قدرت على توليد الأبخرة المولّدة للشعر و على توليد مادّة الزرع و لهذا في هذا الوقت تتحرّك الشهوة في الصبايا و ينهد ثديهنّ و ينزل حيضهنّ لأنّ الحرارة الغريزيّة الّتي فيهنّ قويت في آخر هذا الأسبوع.

و أمّا في الأسبوع الثالث فيبلغ في حدّ الكمال فيزداد الحسن و أمّا في الأسبوع الرابع هذه الأحوال متكاملة متزايدة.

و عند انتهاء الأسبوع الرابع لا يظهر الازدياد و يدخل الإنسان في سنّ الوقوف في الأسبوع الخامس اسبوع واحد فيكون المجموع خمسة و ثلاثين سنة.

ص: 122

و لمّا كانت هذه المدّة المذكورة إمّا قد تزاد و إمّا قد تنقص بحسب ضعف الأمزجة و قوّتها جعل الغاية فيه مدّة أربعين سنة فإنّ هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعيّة بعض السكون و تنتهي له أفعال القوّة الحيوانيّة غايتها و تأخذ القوى الطبيعيّة و الحيوانيّة في الانتقاص و تأخذ القوّة النطقيّة و العقليّة في الاستكمال و هذا أحد الدلائل من أنّ النفس غير البدن فإنّ البدن عند أربعين يأخذ في الانتقاص و النفس من الأربعين يأخذ في الاستكمال و لو كانت النفس عين البدن لحصل لشي ء الواحد في الوقت الواحد الكمال و النقصان و ذلك محال و هذا بيان قوله: [حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ] أي ألهمني، و أصله أو معنى من أوزعه بكذا [أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي اجعل لي خلف صدق و لك عبيد [إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأمرك و هذا الدعاء تصريح بأنّ القوّة النفسانيّة العقليّة تستكمل في هذا الوقت.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: لمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين عليه السّلام جاء جبرئيل عليه السّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: إنّ فاطمة ستلد غلاما يقتله امّتك من بعدك فلمّا حملت فاطمة عليها السّلام بالحسين كرهت حمله و حين وضعته كرهت وضعه قال عليه السّلام: لم تر في الدنيا أمّ تلد غلاما تكرهه و لكنّها كرهت لما علمت أنّه سيقتل قال عليه السّلام: و فيه نزلت هذه الآية.

و في رواية اخرى ثمّ هبط جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السّلام و يبشّرك بأنّه جاعل في ذرّيّته الإمامة و الولاية و الوصيّة فقال عليه السّلام: إنّي رضيت ثمّ بشّر فاطمة بذلك فرضيت قال: فلو لا أنّه قال: «أصلح في ذرّيّته» لكانت ذرّيّته كلّهم أئمّة قال: و لم يرضع الحسين من فاطمة و لا من أنثى كان يؤتى به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيضع صلّى اللّه عليه و آله إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين و الثلاث فنبت لحم الحسين عليه السّلام من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دمه من دمه و لم يولد لستّة أشهر إلّا يحيى بن زكريّا و الحسين عليهما السّلام.

قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46): الآيات 16 الى 20]

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

ص: 123

ثمّ أخبر اللّه سبحانه بما يستحقّه هذا الإنسان و مثل هذا الإنسان من الثّواب فقال:

[أُولئِكَ يعني أهل هذا القول [الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ و قرئ بالياء على البناء للمجهول [عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا] بإيجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم و هو ما يستحقّ به من الثواب في الواجبات و المندوبات فإنّ المباح أيضا من الحسن و لا يوصف بأنّه متقبّل [وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي اقترفوها [فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ] أي في جمع ممّن نتجاوز عن سيّئاتهم و هم أصحاب الجنّة فيكون قوله: «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» في موضع النّصب على الحال.

[وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي وعدهم وعد الصدق و هو ما وعد أهل الإيمان يتقبّل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم إذا شاء أن يتفضّل عليهم بإسقاط عذابهم أو إذا تابوا، الوعد الّذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل.

قوله: [وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما] لمّا وصف الولد البارّ بوالديه في الآية المتقدّمة وصف الولد العاقّ لوالديه في هذه الآية فقال: «وَ الَّذِي» الآية، قيل: إنّها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قال له أبواه: أسلم و ألحّا عليه فقال: أحيوا لي عبد اللّه بن جذعان و مشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا تقولون عن ابن عبّاس و جماعة. و قيل: عامّة في كلّ كافر عاقّ لوالديه كما أنّ الآية الاولى عامّة لكلّ بارّ لوالديه و ليس المراد بشخصا معيّنا.

ص: 124

و كلمة «أُفٍّ» صوت يصدر عن المرء عند تضجّره و اللّام لبيان المؤفّف له كما في هيت لك و بيان أنّ هذا التأفيف لكما خاصّة و قرئ «أف» بالفتح و الكسر بغير تنوين و بالحركات الثلاث مع التنوين و الصحيح أنّ افّ لكما مبتدء و خبر و تقديره هذه الكلمة الّتي يقال: عند الأمور المكروهة كائنة لكما.

قوله: [أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ من القبر و أحيا و ابعث [وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي و مضت امم و ماتوا قبلي فما أخرجوا و لا أعيدوا و قيل: معناه خلت القرون و الأجيال على هذا المذهب ينكرون البعث [وَ هُما] أي والديه [يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يطلبان من اللّه الغوث و يقولان له [وَيْلَكَ آمِنْ بالقيامة و بما يقوله النبيّ [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالبعث و النشور و الثواب و العقاب فيقول هو في جوابهما: [ما هذا] القرآن [إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إنّ هذا القرآن و ما تخبرونه من أخبار الأوّلين و أحاديثهم الّتي سطروها ليس لها حقيقة.

[أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ أي القائلون هذه المقالات الباطلة الّذين حقّ عليهم القول و القول قوله لإبليس: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» و قوله: «فِي أُمَمٍ» أي مع امم قد مضوا على مثل حالهم و عقائدهم [مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و هذه الآية خلاف من يزعم أنّ الجنّ لا يموتون إلّا حين انقراض الدنيا ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم [إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي.

قوله: [وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] أي لكلّ واحد ممّن تقدّم ذكره من المؤمنين البررة و الكافرين الفجرة درجات على مراتب حالهم و مقادير أعمالهم فدرجات الأبرار في علّيّين و دركات الفجّار في سجّين و قيل: المعنى لكلّ مطيع درجات ثواب و إن تفاضلوا في مقاديرها أو المعنى لكلّ من ولد البار و العاقّ الفاجر درجات فإن قيل: كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار و قد جاء في الخبر الجنّة درجات و النار دركات؟ فيمكن حمل الكلام على التغليب أو المراد بالدرجات المراتب المتزائدة إلّا أنّ زيادات أهل الجنّة في الخيرات و زيادات أهل النار في السيّئات.

[وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و قرئ بالنون، أي و ليوفّهم اللّه أعمالهم أي جزاء أعمالهم «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» بعقاب لا يستحقّونه أو بمنع ثواب يستحقّونه.

ص: 125

قوله تعالى: [وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ] أي يوم القيامة يعرضون على النار و يدخلونها كما يقال: عرض فلان على السوط و يجوز أن يكون المعنى يعرض النار عليهم قبل أن يدخلوها ليروا من أهوالها [أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا] أي يقال لهم آثرتم لذّاتكم في الدنيا على طيّبات الجنّة [وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها] و تلذّذتم من لذّاتها منهمكين فيها و أنفقتموها في شهواتكم و لم تنفقوها في مرضات اللّه و قرأ ابن عامر بهمزتين أ أذهبتم و الباقون بلفظ الخبر.

و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه دخل على أهل الصفّة و هم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا فقال صلّى اللّه عليه و آله: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة و يروح في أخرى و يغدّي عليه بجفنة و يراح عليه بأخرى و يستر بيته كما يستر الكعبة قالوا: نحن يومئذ خيرا قال صلّى اللّه عليه و آله: بل أنتم اليوم خير. انتهى الحديث.

و لمّا وبّخ اللّه الكفّار بالتمتّع بالطيّبات و اللذّات في الدنيا آثر النبيّ و أمير المؤمنين الزهد و اجتناب الترفّه و النعمة، و في الحديث إنّ عمر قال: استأذنت على رسول اللّه فدخلت في حجرة امّ إبراهيم و إنّه صلّى اللّه عليه و آله لمضطجع على خصفه و أنّ بعضه على التراب و تحت رأسه و سادة محشوّة ليفا فسلّمت عليه ثمّ جلست فقلت يا رسول اللّه أنت نبيّ اللّه و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أولئك قوم عجلت طيّباتهم و هي و شيكة الانقطاع و إنّما اخّرت لنا طيّباتنا.

و كذلك كان حال عليّ عليه السّلام و هو يقول: في بعض خطبه و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أعزب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى.

و روى محمّد بن قيس عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: و اللّه إنّه كان ليأكل أكلة العبد و يجلس جلسه العبد و إن كان يشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ثمّ يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطع الزائد و إذا جاز كعبه حذفه و لقد ولي قرب خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة و لا لبنة على لبنة و ما ترك صفراء و لا حمراء و أن كان ليطعم الناس خبز البرّ و اللحم و يتصرّف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت أو الخلّ و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه

ص: 126

رضىّ إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه و لقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه تربت يداه منه و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من الناس و إنّه كان ليصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة و كان أقرب النّاس شبيها به في العبادة عليّ بن الحسين عليه السّلام ما أطاق عمله أحد من الناس بعده.

و قد اشتهر في الرواية أنّه لمّا دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء:

يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد لبس العباءة و تخلّى من الدنيا فقال عليّ عليه السّلام: عليّ به فلمّا جي ء به قال: يا عديّ نفسه لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك و ولدك أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها أنت أهون على اللّه من ذلك قال عاصم: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشونة مأكلك قال: ويحك إنّي لست كأنت إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره، انتهى.

قوله تعالى: [فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي عذاب الّذي فيه الذلّ و الخزي و الهوان [بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ باستكباركم عن الانقياد للحقّ في الدنيا و تكبّركم على الأنبياء [بِغَيْرِ الْحَقِ من دون حقّ لكم في الترفّع و الإنكار [وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ و بخروجكم من طاعة اللّه إلى معاصيه و ذلك اليوم عظيم.

قوله: [سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 25]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

و لمّا بيّن سبحانه أنواع الدلائل في التوحيد و النبوّة و كان المشركون بسبب استغراقهم في لذّات الدنيا و اشتغالهم بطلبها لم يلتفتوا إلى الدلائل أمر نبيّه أن يذكر

ص: 127

هذه القصّة هاهنا ليعتبروا و يقبلوا على طلب الدّين لأنّ من أراد تقبيح أمر عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال ليعلموا ضرره و يتركوا ما هم عليه.

[وَ اذْكُرْ] يا محمّد لقومك [أَخا عادٍ] يعني هودا و من انتسب إلى طائفة يقال له: أخو فلان مثل أن يقول: أخو سليم و أخو قيس [إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ و خوّفهم من عذاب اللّه و مخالفته و دعاهم إلى طاعته و الأحقاف واد من الرمل بين عمّان و حضر موت مشرفة على ساحل البحر [وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أي و قد مضت الرسل من قبل هود و من بعده.

[أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا و حاصل المعنى إنّي لم ابعث قبل هود و لا بعده إلّا بالأمر بعبادة اللّه وحده و هذا اعتراض وقع بين إنذار هود و كلامه لقومه.

ثمّ عاد إلى كلام هود لقومه فقال هود: [إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و تقدير الكلام أنذر هود قومه بالأحقاف فقال: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

ثمّ حكى سبحانه ما أجاب به قومه بقوله: [قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا] أي أ جئتنا لتصرفنا و تلفتنا عن عبادة آلهتنا [فَأْتِنا بِما تَعِدُنا] من العذاب [إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنّ العذاب نازل بنا و هذا الكلام منهم في استعجال العذاب تكذيبا لهود عليه السّلام.

[قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ فقال لهم هود: لا علم لي بالوقت الّذي يحصل فيه العذاب و إنّما علم ذلك عند اللّه [وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و أنا أحذّركم من وقوعه [وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حيث تصرّون في الجهل المفرط و طلب العذاب و هذا جهل عظيم.

[فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ و الضمير في «رَأَوْهُ» إمّا إلى غير مذكور و بيّنه قوله: «عارِضاً» مثل قوله: «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (1) و لم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا هاهنا الضمير عائد إلى السحاب فالمعنى فلمّا رأوا السحاب عارضا و يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما في قوله: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» فلمّا رأوا ما وعدوا به عارضا و العارض السحابة الّتي ترى في ناحية السماء ثمّ تطبق.

قال المفسّرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما فساق اللّه إليهم سبحانه سوداء

ص: 128


1- فاطر: 45.

فخرجت عليهم من واد يقال له: المغيث فلمّا رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» أي سحاب ممطر إيّانا.

فقال هود عليه السّلام: ليس الأمر كما زعمتم [بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هو الّذي وعدتكم به و طلبتم تعجيله ثمّ فسّره فقال: [رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ و قيل: هو من كلام اللّه و وصف ماهيّة الريح بقوله: [تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ] أي يهلك كلّ شي ء من الناس و الحيوان و النبات و ليس المراد من الكلّ كلّ موجود و أطلق الكلّ على البعض و المراد من قوله: [بِأَمْرِ رَبِّها] أنّ هذا ليس من الأمور العادية و من تأثيرات الكواكب و القرانات مثل الأنواء بل هو أمر عظيم حدث بقدرة اللّه لأجل تعذيبكم.

[فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ و تذكير الفعل في قوله: «لا يُرى أحسن من إلحاق علامة التأنيث بالفعل من أجل الجمع لأنّه يحمل الكلام على المعنى مثل قولهم:

ما قام إلّا هند و لم يقولوا: ما قامت إلّا هند لأنّ المعنى ما قام أحد إلّا هند و قرئ «مَسْكَنِهِمْ».

روي أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ حتّى يرى كأنّها جرادة و أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار.

و روي أنّ أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب أليم أنّهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم و مواشيهم يطير به الريح بين السماء و الأرض فدخلوا بيوتهم و غلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم و أحال اللّه عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال و ثمانية أيّام لهم أنين ثمّ كشفت الريح عنهم فاحتملتهم و طرحتهم في البحر و لمّا أحسّ هود عليه السّلام بالريح خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّ على جنب عين تنبع فكانت الّتي تصيبهم ريحا ليّنة هادية طيّبة و الريح الّتي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض و تطيرهم إلى السماء و يضربهم على الأرض و أثر المعجزة إنّما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه.

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما أمر اللّه خازن الرياح أن يرسل على عاد إلّا مثل مقدار الخاتم و ذلك القدر أهلكهم بكليّتهم و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا رأى الريح فزع و قال: اللّهمّ إنّي أسألك خيرها و خير ما أرسلت به و أعوذ بك من شرّها و من شرّ ما أرسلت به.

ص: 129

قوله تعالى: [كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ و المقصود تخويف كفّار مكّة أي مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف نجزي الكافرين الّذين يسلكون مسالكهم. فإن قيل: لمّا قال اللّه:

«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» (1) فكيف يبقى التخويف حاصلا؟

فالجواب أنّ قوله: «وَ ما كانَ اللَّهُ» إنّما نزل في آخر الأمر و كان التخويف قبل ذلك.

ثمّ بيّن سبحانه فضل قوم عاد بالقوّة و الجسم على كفّار مكّة فقال سبحانه:

[سورة الأحقاف (46): الآيات 26 الى 30]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)

[و لقد مكّنّا] قوم عاد في امور ما مكّنّاكم فيها بمعنى أنّهم كانوا أقوى منكم جسما و أكثر أموالا قال المبرّد: كلمة «ما» في قوله: «فِيما» بمنزلة الّذي و كلمة «إِنْ» بمنزلة «ما» و قال ابن قتيبة كلمة «إِنْ» زائدة و التقدير و لقد مكّنّاهم فيما مكّنّاكم فيه قال الرازيّ و هذا غير صحيح لأنّ الحكم بأنّ حرفا من كتاب اللّه عبث لا يقول به عاقل ثمّ إنّ المقصود من الكلام أنّهم كانوا أقوى منكم و أنّهم مع زيادة القوّة ما نجوا من عذاب اللّه فكيف يكون حالكم؟ و هذا المعنى لا يتمّ مع ما قاله ابن قتيبة. و يؤيّد قول المبرّد آيات كثيرة مثل قوله: «هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً» (2) و قوله: «كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ» (3).

ص: 130


1- الأنفال: 33.
2- مريم: 74.
3- المؤمن: 82.

و بالجملة ثمّ قال سبحانه: [وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً] أي فتحنا عليهم أبواب المعرفة و النعمة ليستمعوا الآيات و الدلائل و ليبصروا الأشياء ليعتبروا و أعطيناهم أفئدة ليتفكّروا فما استعملوا هذه الجوارح في طلب معرفة اللّه بل صرفوا هذه القوى إلى طلب الدنيا و لذّاتها.

فلا جرم [ما أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ لأنّهم [كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ و ذكر «إِذْ» في مثل هذا المقام للتعليل كقولك: صرمته إذ أساء أي لأنّه أساء فإذا كان أولئك مع قوّتهم نزل بهم عذاب اللّه فأهل مكّة مع عجزهم و ضعفهم أولى بأن يحذروا العذاب.

قوله: [وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يا أهل مكّة ما حولكم و هم قوم هود و كانوا باليمن و قوم صالح و هم بالحجر و قوم لوط على طريقهم إلى الشام [وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ و تصريف الآيات تارة باختلاف أنواع المعجزات و تارة في الإهلاك و تارة في التذكير بالنعم و النقم و تارة بوصف الأبرار ليقتدوا بهم و تارة بتوبيخ الكفّار ليجتنبوا مثل فعلهم [لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا عن الكفر و المعاصي.

[فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً] أي فهلّا نصر هؤلاء الّذين أهلكهم اللّه و هم عابد و هم و كان العابدون يزعمون بعبادتهم إيّاهم يتقرّبون إلى اللّه بهذه العبادة و المعبودين يشفعون لهم فلم غابوا عن نصرتهم و ذلك لأنّهم كانوا يعبدون الآلهة للتقرّب إلى اللّه و يجعلونها شركاء للّه قربانا.

[بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي ضلّت آلهتهم وقت حاجتهم إليها و لم تنفعهم وقت نزول العذاب بهم [وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ أي اتّخاذهم الآلهة دون اللّه كذبهم و افترائهم [وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي من مفقرياتهم.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما في الإنس مؤمن و كافر كذلك في الجنّ مؤمن و كافر فقال:

[وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ و اذكر و لينته علمك يا محمّد إذ وجّهنا إليك جماعة من الجنّ تستمع القرآن قال سعيد بن جبير: كانت الجنّ تستمع و تسترق من

ص: 131

السماء فلمّا رجموا قالوا: هذا الّذي حدث في السماء إنّما حدث لشي ء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب.

و كان قد اتّفق أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أيس من أهل مكّة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلمّا انصرف إلى مكّة و كان صلّى اللّه عليه و آله ببطن نخل قام يقرء القرآن في صلاة الفجر فمرّ به نفر من أشراف جنّ نصيبين و ذلك أنّ إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الّذي أوجب اللّه حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن و عرفوا أنّ ذلك هو السبب.

قال الزهريّ: لمّا توفّي أبو طالب عليه السّلام اشتدّ البلايا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يأووه فوجد ثلاثة نفر من بني عبد يا ليل فعرض صلّى اللّه عليه و آله عليهم نفسه فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك بشي ء قطّ و قال الآخران كلمات يتشابه الأوّل و تهزّءوا به صلّى اللّه عليه و آله و أفشوا في قومهم ما راجعوه به فقعدوا به صفّين على طريقه.

فلمّا مرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين صفّيهم جعلوا لا يرفع صلّى اللّه عليه و آله رجليه و لا يضعهما إلّا رضخوهما بالحجارة فخلص منهم و هما يسيلان دما إلى حائط من حوائطهم و استظلّ في ظلّ شجرة منه و هو صلّى اللّه عليه و آله مكروب موجع تسيل رجلاه دما.

فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم صلّى اللّه عليه و آله من عداوتهما للّه و رسوله فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يقال له عداس و هو نصرانيّ من أهل نينوى فلمّا جاء قال له رسول اللّه: من أيّ أرض؟ فقال: من أهل نينوى قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مدينة العبد الصالح ابن متى فقال له عداس: و ما يدريك من يونس فقال: أنا رسول اللّه و اللّه أخبرني خبر يونس فلمّا أخبره بما أوحى اللّه إليه من شأن يونس خرّ عداس ساجدا لرسول اللّه و جعل يقبّل قدميه و هما يسيلان الدماء فلمّا بصره عتبة و شيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلمّا أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمّد و قبلت قدميه و لم نرك فعلت ذلك بأحد منّا قال: هذا رجل صالح أخبرني بشي ء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه إلينا يدعى يونس بن متى فضحكا و قالا: لا يفتننّك عن نصرانيّتك فإنّه رجل خدّاع فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى مكّة حتّى إذا بنخلة قام يصلّي و يقرء القرآن في صلاته فمرّ به

ص: 132

نفر من الجنّ فاستمعوا له و هذا أحد القولين في تفسير الآية مثل سعيد بن جبير و جماعة و قال آخرون: أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن ينذر الجنّ و يدعوهم إلى اللّه و يقرء عليهم القرآن فصرف اللّه إليه نفرا من الجنّ ليستمعوا منه القرآن و ينذروا قومهم و نقل أنّهم كانوا يهودا لأنّ في الجنّ مللا كما في الإنس من اليهود و المجوس و النّصارى و عبدة الأصنام.

و أطبق العلماء المحقّقون على أنّ الجنّ مكلّفون و سئل ابن عبّاس هل للجنّ ثواب فقال: نعم لهم ثواب و عليهم عقاب يلتقون في الجنّة و يزدحمون على أبوابها.

قال الزمخشريّ: النفر دون العشرة و بجمع على أنفار.

و عن ابن عبّاس أنّ أولئك الجنّ كانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول اللّه رسلا إلى قومهم و عن قتادة أنّهم صرفوا إليه من ساوة.

قال القاضي عبد الجبّار في تفسيره عن أنس بن مالك قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جبال مكّة فإذا شيخ يتوكّأ على عكازه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شية جنّي و نغمته فقال الشيخ: أجلّ فقال صلّى اللّه عليه و آله: من أيّ الجنّ أنت فقال: أنا هامة بن هيم بن قيس بن لاقيس بن إبليس فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا أرى بينك و بين إبليس إلّا أبوين فكم أتى عليك؟ فقال: أكلت عمر الدنيا إلّا أقلّها و كنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام و ذكر كثيرا ممّا مرّ به و ذكر في جملته أن قال: قال لي عيسى بن مريم: إن لقيت محمّدا فاقرأه منّي السّلام و قد بلّغت سلامه و آمنت بك فقال صلّى اللّه عليه و آله: على عيسى السّلام و عليك يا هامة ما حاجتك؟ فقال: إنّ موسى علّمني التوراة و عيسى علّمني الإنجيل فعلّمني القرآن فعلّمه صلّى اللّه عليه و آله عشر سور و قبض صلّى اللّه عليه و آله انتهى.

ثمّ بعد تصريف اللّه نفرا من الجنّ إليه صلّى اللّه عليه و آله يستمعوا القرآن [فَلَمَّا حَضَرُوهُ و الضمير راجع إلى القرآن و قيل: إلى النبيّ أي لمّا حضر هؤلاء النفر من الجنّ قيل:

كان مجيئهم من نينوى قرب الموصل فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أمرت أن أقرء على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني فأتبعه عبد اللّه بن مسعود قال عبد اللّه: و لم يتبعه صلّى اللّه عليه و آله أحد غيري فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة فدخل النبيّ شعبا الجحون و خطّ لي خطّا ثمّ أمرني أن أجلس

ص: 133

و قال: لا تخرج منه حتّى أعود إليك ثمّ انطلق حتّى قام فافتتح بالقرآن و السورة الّتي تلاها عليهم اقرأ باسم ربّك فغشته أسودة كثيرة حتّى حالت بيني و بينه حتّى لم أسمع صوته ثمّ انطلقوا و طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتّى بقي منهم رهط و فرغ رسول اللّه مع العجز فانطلق فبرز ثمّ قال: هل رأيت شيئا فقلت: نعم رأيت رجالا ذوي ثياب بيض.

قال ابن عبّاس: كان ذلك الرهط سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم صلّى اللّه عليه و آله رسلا إلى قومهم و روى محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: لمّا قرء رسول اللّه سورة الرحمن على الناس سكتوا و لم يقولوا شيئا، فقال رسول اللّه: الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم لمّا قرأت «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»* قالوا: لا و لا بشي ء من آلائك ربّنا نكذّب.

و بالجملة [قالُوا أَنْصِتُوا] أي قال بعضهم لبعض: أنصتوا و اسكتوا مستمعين.

[فَلَمَّا قُضِيَ و فرغ صلّى اللّه عليه و آله من القراءة [وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ينذرون قومهم قالوا يا قومنا: [إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ و وصفوا القرآن بوصفين:

الاول كونه مصدّقا لكتب الأنبياء أي كما أنّ كتب الأنبياء مشتملة على الدعوة إلى التوحيد و النبوّة و المعاد و تهذيب الأخلاق فكذلك هذا الكتاب.

الثاني قوله: «يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» و مطالب عالية شريفة يعلم كلّ أحد بصريح عقله أنّه صدق و حقّ.

فإن قيل: كيف قالوا: «مِنْ بَعْدِ مُوسى ؟ لأنّهم كانوا على اليهوديّة و عن ابن عبّاس أنّ الجنّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا: من بعد موسى.

ثمّ إنّ الجنّ لمّا وصفوا القرآن قالوا:

[سورة الأحقاف (46): الآيات 31 الى 35]

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

ص: 134

ثمّ بيّن سبحانه حكاية قول الجنّ [يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا إذ دعاهم إلى خلع الأنداد دونه و صدّقوا بتوحيد اللّه و آمنوا به [يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي فإنّكم إن آمنتم باللّه و رسوله. و إنّما بعّض في الآية لأنّ من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم و نحوه.

و اختلف بأنّ هل للجنّ ثواب كما للإنسان قيل: نعم: و قيل: لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار لقوله: [وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ و الصحيح أنّهم في حكم بني آدم لأنّه قال عليّ بن إبراهيم: فجاءوا إلى رسول اللّه يطلبون شرائع الإسلام فأنزل اللّه على نبيّه «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» إلى آخر السورة، فآمنوا إلى رسول اللّه.

و في هذا دلالة على أنّه كان مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس و لم يبعث اللّه قبله نبيّا إلى الإنس و الجنّ.

[وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يعجز اللّه فيسبقه و يفوته و لا مهرب له منه [وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ] أي لا يكون له أنصار يمنعونه من عذاب اللّه إذا نزل بهم هذا من كلام رسل الجنّ و يجوز أن يكون من كلام اللّه تعالى ابتداء ثمّ قال: [أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أيّ الّذين لا يجيبون داعي اللّه في عدول عن الحقّ و في ضلالة واضحة.

ثمّ قال منبّها على قدرته على البعث و الإعادة: [أَ وَ لَمْ يَرَوْا] و لم يعلموا [أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و أنشأهما [وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ أي لم يصبه في خلق ذلك أعباء و لا تعب يقال: عيّ فلان بأمره إذا لم يقدر عليه [بِقادِرٍ] الباء زائدة و موضعه رفع بأنّه خبر أنّ [عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي خلق السماوات و الأرض أعجب من إحياء الموتى.

ثمّ قال: [بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ] ثمّ عقّبه بذكر الوعيد فقال: [وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ أي يقال لهم على وجه التهكّم: أليس هذا

ص: 135

الّذي جوزيتم به واقعا و حقّا [قالُوا] فيقولون: نعم [وَ رَبِّنا] و اعترفوا بذلك و حلفوا بعد أن كانوا منكرين في الدنيا [قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فيقال لهم: ذوقوا بسبب كفركم و جحودكم.

ثمّ قال لنبيّه: [فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي فاصبر يا محمّد على أذى قومك و على ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل و «مِنَ» هاهنا لتبيّن الجنس و على هذا القول فيكون جميع الأنبياء هو أولو العزم لأنّهم عزموا على أداء الرّسالة و تحمّل أعبائها و قيل: إنّ من هاهنا للتبعيض و هو قول أكثر المفسّرين و الظاهر في روايات أصحابنا.

ثمّ اختلفوا فقيل: أولو العزم من الرّسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه و هو خمسة أوّلهم نوح عليه السّلام ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله عن ابن عبّاس و جماعة و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قال: و هم سادة النبيّين و عليهم دارت رحى المرسلين و قيل: هم ستّة نوح صبر على أذى قومه و إبراهيم صبر على النار و إسحاق صبر على الذبح أو إسماعيل، و يعقوب صبر على فقد الولد و ذهاب البصر، و يوسف صبر على البئر و السجن، و أيّوب صبر على الضرّ و البلوى. و قيل: هم الّذين أمروا بالجهاد و القتال و جاهدوا العدوّ في الّذين و قيل: هم إبراهيم و هود و نوح و رابعهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

و المراد بالعزم الوجوب و الختم و أولو العزم من الرسل هم الّذين شرعوا الشرائع و أوجبوا على الناس الأخذ بها و الانقطاع عن غيرها.

قوله تعالى: [وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي و لا تستعجل لهم العذاب فإنّه كائن لا محالة و واقع بهم و ما هو آت فهو قريب «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ» من العذاب في الآخرة [لَمْ يَلْبَثُوا] في الدنيا [إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ] أي إذا عاينوا العذاب طول لبثهم في الدنيا و البرزخ مثل ساعة من نهار لأنّ ما مضى كأن لم يكن و إن كان طويلا و تمّ الكلام.

ثمّ قال: [بَلاغٌ أي هذا القرآن و ما فيه من البيان بلاغ للنّاس أي تبليغ

ص: 136

للنّاس و قرئ بلاغا أي بلغوا بلاغا. و قيل: معناه ذلك اللبث و مكثهم في الدّنيا بلاغ و يسير.

قوله: [فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي لا يقع العذاب إلّا بالعاصين الخارجين من أمر اللّه و قيل: المعنى لا يهلك إلّا هالك مشرك ولّي ظهره الإسلام أو منافق صدّق بلسانه و خالف بقلبه و عمله و قيل: لا يهلك مع رحمة اللّه إلّا القوم الخارجون عن دين اللّه. قال الزجّاج و ما جاء في القرآن في الرجاء لرحمة اللّه شي ء أقوى من هذه الآية تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 137

سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله

اشارة

و تسمّى سورة القتال.

مدنيّة إلّا آية منها نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو يريد التوجّه إلى المدينة من مكّة و جعل صلّى اللّه عليه و آله ينظر إلى البيت و هو يبكي حزنا فنزلت «وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ» الآية.

فضلها ابيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة محمّد كان حقّا على اللّه أن يسقيه من أنهار الجنّة.

و روى أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال: من قرأها لم يدخله شكّ في دينه أبدا و لم يزل محفوظا من الشرك و الكفر أبدا حتّى يموت فإذا مات و كل اللّه به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره و يكون ثواب صلاتهم له و يشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن من عند اللّه و يكون في أمان اللّه و أمان محمّد. و قال الصادق عليه السّلام: من أراد أن يعرف حالنا و حال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد فإنّه يراها آية فينا و آية فيهم.

ص: 138

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)

سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)

المعنى: ختم اللّه تلك السّورة بوعيد الكفّار و افتتح هذه السّورة بمثلها فقال:

[الَّذِينَ كَفَرُوا] بتوحيد اللّه و عبدوا معه غيره [وَ صَدُّوا] الناس [عَنْ سَبِيلِ الإيمان و الإسلام باستدعائهم إلى الباطل و الشرك و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله [أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أحبط اللّه أعمالهم الّتي كان في زعمهم أنّها أعمال و قربة و تنفعهم كالعتق و الصدقة و قري الضيف و المعنى أنّه أذهبها إذ لم يروا لها في الآخرة ثوابا.

قيل: نزلت في المطعمين ببدر و كانوا عشرة أنفس منهم أبو جهل و الحرث ابنا هشام و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و غيرهم. و قيل: المراد كفّار قريش. و قيل: أهل الكتاب أو هو عامّ يدخل فيه كلّ كافر و المراد بالصدّ صدّ أنفسهم و منع عقولهم من اتّباع الدليل و الحقّ أو صدّوا غيرهم عن اتّباع الحقّ.

فإن قيل: إنّ المستضعفين كانوا أتباعا و لم يصدّوا غيرهم فيقتضي أن لا يضلّ أعمالهم.

ص: 139

فالجواب أنّ التخصيص بالذكر لا يدلّ على نفي ما عداه. ثمّ إنّ كلّ من كفر صادّ لغيره من بعده لأنّ المستضعف بمتابعته أثبت لمتبوعه بالمنعيّة من اتّباع الرسول لأنّه بعد ما يكون متبوعا يشقّ عليه بأن يصير تابعا على أنّ كلّ من كفر صار صادّا لأنّ عادة الناس اتّباع المتقدّم كما قال سبحانه عنهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» فعلى هذا كلّ كافر صادّ.

فإن قيل: فما الفائدة حينئذ من ذكر الصدّ في الآية بعد الكفر؟

فالجواب أنّه من باب ذكر المسبّب عليه كقولك: أكلت كثيرا و شبعت.

و الكفر سبب الصدّ و في المصدود عنه وجوه: الأوّل عن الإيمان. الثاني عن الإنفاق على محمّد و أصحابه. الثالث الاتّباع عن دينه و قد ذكرناها في صدر تفسير الآية.

و في الإضلال في أعمالهم أيضا وجوه:

الاول: الإبطال أي يوازن بسيّئاتهم الحسنات الّتي صدرت منهم و يسقطها بالموازنة في الدنيا و يبقى لهم سيّئات محضة لأنّ الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات و الإيمان تترجّح على غير الكفر من السيّئات.

الثاني: أنّ الإبطال بسبب فقد شرط ثبوتها؛ لأنّ الإيمان شرط قبول العمل للآخرة قال اللّه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ»* (1) و إذا لم يقبل اللّه العمل لا يكون له وجود لأنّها أعراض لا بقاء له في نفسه بل يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أنّ اللّه يكتب عنده بفضله إنّ فلانا عمل صالحا و عندي جزاؤه فيبقى حكما و هذا البقاء الحكميّ خير من البقاء الذمّي للأجسام الّتي هي محلّ الأعمال حقيقة فإنّ الأجسام و إن بقيت غير أنّ مآلها إلى الفناء و العمل الصالح من الباقيات عند اللّه أبدا فتبيّن أنّ اللّه بالقبول متفضّل و قد أخبر سبحانه أنّي لا أقبل إلّا من مؤمن فحينئذ من عمل و تعب من غير سبق إلى الإيمان فهو المضيّع تعبه لا اللّه تعالى.

الثالث: أنّ الكافر لم يعمل عمله لوجه اللّه خاصّة فلم يأت بخير «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ

ص: 140


1- النحل: 97.

ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» و الكافر لم يعمل الخير فكيف يره؟ انتهى.

قوله: [وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الّذين صدّقوا بتوحيد اللّه و أضافوا إلى الإيمان الأعمال الصالحة و آمنوا و قبلوا بما نزّل على محمّد من القرآن و العبادات و خصّ الإيمان بمحمّد في الذكر مع دخوله في الأوّل تشريفا و تعظيما له صلّى اللّه عليه و آله و لئلّا يقول أهل الكتاب: نحن آمنّا باللّه و بأنبيائنا و كتبنا.

و قوله: «وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي ما نزل على محمّد هو الحقّ من ربّهم لأنّه ناسخ للشرائع و الناسخ هو الحقّ، و قيل: إنّ الضمير راجع إلى محمّد أي محمّد الحقّ من ربّهم دون ما يزعمون من أنّه سيخرج في آخر الزمان نبيّ من العرب و ليس هذا هو فردّ اللّه سبحانه ذلك القول عليهم بذكر اسمه.

[كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترها عنهم بأن غفرها لهم السيّئات المتقدّمة بإيمانهم [وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ أي أصلح حالهم في معاشهم و معادهم بأن نصرهم على أعدائهم في الدنيا و يدخلهم الجنّة في العقبى.

ثمّ بيّن سبحانه إنّما قسّم هذا القسمين فقال: [ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك الضلال و الإصلاح بسبب اتّباع الكافرين الكفر و عبادة الشيطان و الباطل و بسبب اتّباع المؤمنين التوحيد و القرآن و ما أمر اللّه باتّباعه.

[كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي كالبيان الّذي ذكرنا يبيّن اللّه للناس أمثال حسنات المؤمنين و سيّئات الكافرين و قوله: ضربت لك مثلا أي بيّنت لك ضربا من الأمثال و أضاف المثل إلى الناس لأنّه مجعول ليعتبروا.

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار فقال: [فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فإذا لقيتم معاشر المؤمنين الّذين كفروا في دار الحرب. و وجه تعلّق الفاء بما قبله في قوله: «فَإِذا» لأنّه لمّا بيّن سبحانه بأنّ الّذين كفروا أضلّ اللّه أعمالهم و معلوم أنّ اعتبار الإنسان بالعمل و من لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي و يفسد

ص: 141

حسن إعدامه بل وجب.

فإذا لقيتم الّذين ظهر منهم هذه الصفة فاضربوا أعناقهم، و حذف الفعل و أنيب المصدر منا به مضافا إلى المفعول و نسبة الضرب إلى الرقاب لأنّ أكثر مواضع القتل ضرب العنق و إن كان يجوز الضرب في سائر المواضع و المقصود دفعهم عن وجه الأرض و تطهّر الأرض من رجسهم لأنّ الأرض جعلها اللّه لامّة محمّد مسجدا و المشركون نجس و المسجد يطهّر من النجاسة.

[حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ و حتّى لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي وجوب القتل متعيّن إلى حدّ الإثخان لكنّ الجواز في القتل باق و لو كانت حتّى لبيان القتل لما جاز القتل بعد الإثخان و الحالة أنّ القتل جائز أيضا بعده و المعنى إذا أثقلتموهم بالجراح و ظفرتم بهم و بالغتم في قتلهم حتّى ضعفوا [فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي احملوا الوثاق و الوثاق بالفتح و الكسر اسم ما يوثق به أي فأسروهم و أحكموا وثاقهم و ليكن الأسر بعد المبالغة في القتل و الإثخان فيهم ليذلّوا و لا يكون الأسر إلّا بعد القتل كما قال سبحانه:

«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» (1).

فبعد القتل و الأسر [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً] أي إمّا أن تمنّوا عليهم منّا فتطلقوهم بغير عوض و إمّا تفدوهم فداء و تأخذون فداء و عوضا و المراد التخيّر للإمام بعد الأسر بين المنّ أي الإطلاق و بين أخذ الفداء و العوض.

في الكافي و التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين و هو أنّه إذا كانت الحرب قائمة و لم تضع أوزارها و أثقالها كالسلاح و الكراع و لم يثخن أهلها فكلّ أسير أخذ في تلك الحال فانّ الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف و تركه يتشحّط في دمه حتّى يموت و هو قول اللّه: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ الآية». قال عليه السّلام: و الحكم الآخر و هو بعد أن وضع الحرب أوزارها و بعد أن أثخن أهلها فكلّ أسير أخذ على تلك الحال و وقع في أيديهم فالإمام فيه مخيّر إن شاء منّ عليهم بالإطلاق فأرسلهم و إن شاء فاداهم أنفسهم و إن شاء استعبدهم فصاروا

ص: 142


1- الأنفال: 67.

عبيدا فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.

قوله: [حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها] و في تعلّق «حَتَّى» وجهان: أحدهما تعلّقها بالقتل أي اقتلوهم حتّى تضع أهل الحرب أسلحتهم فلا يقاتلون و قيل: المعنى حتّى لا يبقى أحد من المشركين و قيل: حتّى لا يبقى دين غير دين الإسلام و قيل: أي حتّى تضع حربكم و قتالكم أو زار المشركين و قبائح أعمالهم بأن يسلموا و لا تبقى إلّا الإسلام و لا يعبد الأصنام و هذا كما جاء في الحديث و الجهاد ماض مذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أمّتي الدجّال قال الفرّاء: المعنى حتّى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم قال الزجّاج: المعنى اقتلوهم و أسروهم حتّى يؤمنوا فما دام الكفر الحرب قائمة أبدا.

[ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي الأمر و الواجب ذلك الّذي ذكرناه و لا يريد سبحانه غير هذا الترتيب و لو أراد لفعل من خسف أو غرق و لكن أمركم بالقتال للامتحان.

قوله تعالى: [لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي هذه الأحكام ليمتحن بعضكم ببعض فيظهر المطيع عن العاصي و المعنى أنّه لو كان الغرض زوال الكفر فقط لأهلك اللّه سبحانه الكفّار بما يشاء من أنواع الهلاك و لكن أراد مع ذلك أن تستحقّوا الثواب و ذلك لا يحصل إلّا بالتعبّد و تحمّل المشاقّ.

[وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الّذين قتلوا في الجهاد من المسلمين، و قرئ قاتلوا فالمعنى جاهدوا سواء قتلوا أولم يقتلوا [فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أي لن يضيّع اللّه أعمالهم بل يقبلها و يجازيهم عليها ثوابا دائما و القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن بل يورث الحياة الأبديّة و بتقدير أن يقتل أو يقتل فهو مكرم بخلاف الكافر.

[سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ يهتدون إلى طريق الجنّة و الثواب و يصلح حالهم و شأنهم و الوجه في تكرير قوله: «بالَهُمْ» أنّ المراد بالأوّل أنّه أصلح بالهم في الدين و الدنيا و بالثاني المراد نعيم العقبى فالأوّل سبب النعيم و الثاني نفس النعيم.

قوله: [وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي بيّنها لهم حتّى عرفوها إذا دخلوها و تفرّقوا إلى منازلهم فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم و قيل: معناه

ص: 143

بيّنها اللّه لهم و أعلمهم بوصفها على ما يشوّق إليها فيرغبون فيها و يسمعون لها. و قيل: معناه من العرف و هو العطر و الرائحة الطيّبة أي طيبت الجنّة لهم بالعطر.

روي أنّ الملك الّذي و كلّ بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرّفه كلّ شي ء أعطاه اللّه و فيه وجه آخر و هو أن يقال: عرّفها لهم قبل موت الشهيد فإنّ الشهيد قبل وفاته يعرض عليه منزلته في الجنّة فيشتاق إليه و ذكر وجوه أخر لا حاجة إلى الإطالة.

ثمّ لمّا بيّن ثواب المجاهدين وعدهم بالنصر في الدنيا فقال:

[سورة محمد (47): آية 7]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)

. أي إن تنصروا دين اللّه و طريقه و حزبه و فريقه و تنصروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ينصركم على عدوّكم و يشجّعكم و يقوّي قلوبكم لتثبتوا أو ينصركم في الآخرة و يثبت أقدامكم على الصراط و عند الحساب أو يثبت أقدامكم في الدارين و هو الوجه قال بعض العلماء حقّ على اللّه أن ينصر من نصره و أن يزيد من شكره لقوله: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» و أن يذكر من ذكره كقوله: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» و أن يفي بعهد من أقام على عهده لقوله:

«وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ».

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 8 الى 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)

[وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً] و مكروها لهم و سوء، يريد في الدنيا القتل و في الآخرة التردّي في النار و المعنى أتعس الّذين كفروا و اقضي بهم بالتعس يريد أنّ العثور و الانحطاط لهم لا الانتعاش و الثبوت [وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ مرّ معناه.

[ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيّه أي ذلك التعس بسبب أنّهم كرهوا القرآن و ما أنزل اللّه فيه من التكاليف و الأحكام لأنّهم ألغوا الإهمال و إطلاق العنان في الشهوات و الملاذّ فشقّ عليهم ذلك و خالفوا ذلك و قال أبو جعفر عليه السّلام: كرهوا ما أنزل اللّه في حقّ عليّ فكشطوا اسم عليّ [فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ لأنّها لم يقع على الوجه المأمور به و لمّا أعرضوا عن القرآن لا جرم لم يعرفوا العمل الصالح و كيفيّة الإتيان به فأتوا بالباطل و

ص: 144

أشركوا و الشرك محبط للعمل قال: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (1) و كلّ ما سوى وجه اللّه هالك محبط.

ثمّ نبّههم على الاستدلال على صحّة ما دعاهم إليه من التوحيد فقال: [أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حين أرسل اللّه إليهم الرسل فلم يقبلوا منهم و عصوهم أي هلّا ساروا و راعوا عواقب أولئك [دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلكهم.

ثمّ قال: [وَ لِلْكافِرِينَ بك يا محمّد [أَمْثالُها] من العذاب إن لم يؤمنوا أي إنّهم يستحقّون أمثالها و إنّما يؤخّر اللّه عذابهم تفضّلا منه.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 11 الى 15]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

و المعنى [ذلِكَ الّذي فعلنا في الفريقين [بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا] به و يتولّى نصرهم و حفظهم و يدفع عنهم [وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم و لا أحد يدفع عنهم العذاب و المولى في هذه الآية بمعنى الناصر و في قوله: «وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» معناه الربّ فلا تناقض.

روي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان في الشعب يوم أحد و قد فشت في المسلمين الجراحات و فيه نزلت «وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» فنادى المشركون: اعل هبل فنادى المسلمون: اللّه أعلى و أجلّ، فنادى المشركون: يوم بيوم و الحرب سجال «إنّ لنا عزّى و لا عزّى لكم» فقال

ص: 145


1- القصص: 72.

رسول اللّه: قولوا: «اللّه مولانا و لا مولى لكم» إنّ القتلى مختلفة فقتلانا أحياء يرزقون و أمّا قتلاكم إلى النار يعذّبون.

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين فقال: [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] أي من تحت أشجارها و أبنيتها [وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي الكفّار يتمتّعون من الدينا و لذّاتها و يأكلون مثل ما تأكل الأنعام أي كما أنّ الأنعام همّها الأكل لا غير كذلك الكافر و لا تستلذّ الأنعام بالمأكول على خالقها كذلك الكافر لكنّ المؤمن في الدنيا مسجون و لا يتمتّع من لذائذها بل يأكل ليعمل صالحا و يقوى عليه و ما أعدّ اللّه له في الجنّة من الطيّبات ذلك الّذي ينبغي أن يقال: يتمتّع و يستلذّ منه فنعمة الدنيا بالنسبة إلى المؤمن كنسبة غيظة و أجمة (1) فيها من بعض الثمار العفصة و المياه الكدرة و فيها سباع و حشرات و مؤذيات كثيرة فالمؤمن لا يتمتّع منها و حاله في الدنيا حال مسجون في بئر مظلمة بخلاف الكافر فإنّ متاع الدنيا للكافر بالنسبة إلى ما يصله من العذاب في الآخرة نهاية اللذّة و إنّ متاعها بالنسبة إلى عذاب الآخرة جنّة عدن كما قال سبحانه: «وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» أي مقرّ و مقام لهم.

قوله: [وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و قال: و كثير من أهل القرى الّذين هم كانوا أشدّ من أهل مكّة أهلكناهم كذلك نفعل بأهل قريتك، فاصبر كما صبر رسلهم. و قوله: «فَلا ناصِرَ لَهُمْ». فلو قيل:

إنّ الإهلاك كان سابقا و ماض و كلمة «ناصِرَ» للحال و الاستقبال؟ قال الزمخشريّ: إنّه محمول على الحكاية و الحكاية كالحال و يمكن أن يكون المعنى لا ناصر لهم من عذاب الّذي يعذّبون.

ثمّ قال سبحانه على وجه التوبيخ للكفّار و المنافقين: [أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ و يقين على دينه و على حجّة واضحة في اعتقاده من التوحيد و الشرائع [كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زيّن الشيطان المعاصي و أغواه [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و شهواتهم و ما تدعوهم إليه طباعهم ر.

ص: 146


1- مجتمع الشجر.

و هو وصف كمن زيّن له سوء عمله و هم المشركون و المنافقون و قيل: المراد هم المنافقون عن أبي جعفر عليه السّلام.

ثمّ وصف الجنّات الموعودة بها للمؤمنين بقوله:

[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغيّر طعمه لطول المكث كما تتغيّر مياه الدنيا [وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فهو غير حامض و لا يعتريه شي ء من العوارض الّتي تصيب الألوان و الأشربة في الدنيا.

[وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ يلتذّون بشربها و لا يتعاقبون من شربها بصداع و نحوه بخلاف خمر الدنيا و كذلك [أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى خالص من الشمع و الرغوة و من جميع العيوب الّتي تكون لعسل الدنيا.

[وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ممّا يعرفون اسمها و ممّا لا يعرفون اسمها مبرّاة من كلّ مكروه يكون لثمرات الدنيا [وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هو أنّه يستر ذنوبهم و ينسيهم سيّئاتهم حتّى لا يتنقّص عليهم نعيم الجنّة.

أي أ فمن كان على بيّنة من ربّه [كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قوله: «كَمَنْ» يتعلّق بقوله «مَثَلُ الْجَنَّةِ» الموصوفة الإقامة كمقام من هو خالد و مقيم و مؤبّد في النار فوقعت المقابلة في الكلام بين من يكون على بيّنة من ربّه و بين من زيّن له سوء عمله و بين من في الجنّة الموصوفة و بين من هو خالد في النار سقوا و بين المقابلة بين اللّبن و الأنهار من الخمر و العسل و بين سقاية الماء الحميم المفيور في جهنّم، فوقعت المقابلة في طرفي التضادّ و التباعد. قوله: «فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» بسبب شدّة الحرارة أو بسبب آخر كالسمومة و غيرها.

و تأمّل كيف سبحانه وصف بعض نعيم الجنّة الّتي اعدّت للمتّقين فاختار الأنهار من الأجناس الأربعة بمشروبهم و ذلك لأنّ المشروب إمّا أن يشرب لطعمه و إمّا لأمر عائد إلى الطعم فإن كان الشرب للطعم فالطعوم تسعة في الدنيا: المرّ و المالح و الحريف و الحامض و العفص و الغابض و التفه و الحلو و الدسم و من المعلوم أنّ ألذّ الطعوم المذكورة الحلو و الدسم و أحلى الأشياء في الحلاوة العسل فذكر سبحانه العسل و كذلك أدسم

ص: 147

الأشياء الدهن لكنّ الدسومة إذا تمحّضت لا يطيب للأكل و لا للشرب فإنّ الدهن لا يشرب في الغالب لكنّ الدسومة الكائنة في غيرها طيّب للأكل و الشرب فذكره اللّه تعالى «وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ» و أمّا ما يشرب لا لأمر عائد إلى الطعم فالماء و الخمر، فهو الماء و الخمر فإنّ الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجل ذلك الأمر لا للطعم و هي كريهة الطعم فعرى سبحانه إيّاها عن صفات النقص بقوله: «غَيْرِ آسِنٍ» و بقوله: «لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» و كذلك العسل بقوله: «مُصَفًّى».

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 16 الى 20]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)

القميّ: إنّ الآيات نزلت في المنافقين من أصحاب الرسول و من كان إذا سمع شيئا لم يكن يؤمن به و لم يعه فإذا خرج قال للمؤمنين: ماذا قال محمّد؟ و قال صاحب المجمع:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّا كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا يعني الساعة.

و إفراد الضمير باعتبار لفظ «مَنْ» كما أنّ جمعه فيما سيأتي باعتبار معناها و كانوا يقولون على سبيل الاستهزاء و إن كان كلامهم بصورة الاستفهام و أنف الشي ء لما تقدّم معه مستعار عن الجارحة و هو ظرف بمعنى وقتا و مؤتنفا.

[قالُوا ... ما ذا قالَ آنِفاً] و قالوا: تحقيرا لقوله صلّى اللّه عليه و آله و يحتمل أن يكونوا سألوا رياء و نفاقا أي ماذا قال؟ أعده عليّ لأحفظه [أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بسمة الكفّار أو المعنى خلّى بينهم و بين اختيارهم [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و شهوات أنفسهم و مالت إليه طباعهم.

ص: 148

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين فقال: [وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا] بما سمعوا من الرسول أو من قراءة القرآن و النبيّ [زادَهُمْ اللّه [هُدىً أو أنّ فاعل «زاد» استهزاء المنافقين أي زاد المؤمنين استهزاء المنافقين إيمانا و علما و بصيرة و تصديقا للنبيّ [وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ أي وفّقهم للتقوى و قيل: المعنى و آتاهم ثواب تقواهم.

[فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ] أي الكافرون و المنافقون بعد أنّ البراهين قد صحّت و الأمور اتّضحت و هم لم يؤمنوا فليس ينتظرون إلّا إتيان الساعة [بَغْتَةً] و فجأة و المعنى إلّا إتيان الساعة إيّاهم بغتة [فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها] و علاماتها و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أشراطها قال صلّى اللّه عليه و آله: بعثت أنا و الساعة كهاتين و أعلام الساعة انشقاق القمر و الدخان و خروج النبيّ و نزول آخر الكتب، و الشرط بالتحريك العلامة و أصحاب الشرط سمّوا بذلك للبسهم لباسا يكون علامة لهم، و الشرط في البيع علامة بين المتبايعين.

قوله: [فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي فمن أين لهم الذكر و الاتّعاظ و التوبة إذا جاءتهم الساعة. و موضع ذكراهم رفع و الذكر بأمر اللّه أن يتذكّروا به، و حاصل المعنى و كيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الساعة؟ فإنّه لا ينفعهم في ذلك الإيمان لزوال التكليف عنهم. ثمّ قال لنبيّه و المراد به جميع المكلّفين:

[فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي اقسم على هذا العلم و اثبت عليه و اعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن و يدلّ عليه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من مات و هو يعلم أنّه لا إله إلّا اللّه دخل الجنّة أورده المسلم في الصحيح، و قيل: إنّ هذا إخبار بموته صلّى اللّه عليه و آله و المراد فاعلم أنّ الحيّ الّذي لا يموت هو اللّه وحده. و قيل: إنّه كان ضيّق الصدر من أذى قومه فقيل له: فاعلم لا كاشف لذلك إلّا اللّه.

[وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الخطاب له و المراد به الامّة و إنّما خوطبوا بذلك لتستنّ امّته بسنّته و المراد الانقطاع إلى اللّه فإنّ الاستغفار عبادة يستحقّ به الثواب و يمكن أن يكون المراد توفيق العمل الحسن و اجتناب العمل السيّئ لأنّ الاستغفار طلب الغفران و الغفران هو الستر عن القبيح و من عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى و معنى طلب الغفران أن لا تفضحنا و ذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه و استغفاره من هذا القبيل و لطلب

ص: 149

هذا العنوان و قد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حقّ المؤمنين كأنّه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثلاثة أحوال مع اللّه و حال مع نفسه و حال مع غيره، فأمّا مع اللّه فوحّده و أمّا مع نفسك فاطلب العصمة و بقاءها و أمّا مع المؤمنين فاستغفر لهم من اللّه.

قوله: [وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أكرمهم اللّه بهذا إذ أمر نبيّه أن يستغفر لذنوبهم و هو الشفيع المجاب فيهم [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ فعلم سبحانه حالكم في الدنيا و في الآخرة و يعلم منصرفاتكم في الدنيا و مصيركم في الآخرة إلى الجنّة أو إلى النار.

و قيل: يعلم متقلّبكم أي في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات و مثواكم أي مقامكم في الأرض أو المعنى متصرّفاتكم بالنهار و مضجعكم باللّيل و الحاصل أنّه عالم بجميع أحوالكم و قيل: المراد أنّ اللّه يعلم متقلّبكم في معائشكم و متاجركم و يعلم حيث تستقرّون في منازلكم في الدنيا و الآخرة و مثواكم في الجنّة أو إلى النار، و مثله حقيق بأن يخشى و يتّقى منه و إن يستغفر و يسترحم له فلا يأمركم إلّا بما هو خير لكم فيها فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به فإنّه المهمّ لكم في المقامين.

مستدرك و تذييل في بعض أشراط الساعة ذكره الفيض في الصافي، من كتاب الخصال عن الصادق عليه السّلام قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساعة قال: عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر.

و في العلل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أجوبة مسائل عبد اللّه بن سلام أمّا أشراط الساعة فنار يحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجاءة.

و في روضة الواعظين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يظهر الجهل و يشرب الخمر و يفشو الزنا و يقلّ الرجال و تكثر النساء حتّى أنّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرجال.

و القميّ عن ابن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة فكان أدنى الناس منه

ص: 150

منه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ سلمان رحمة اللّه عليه فقال: بلى يا رسول اللّه فقال: إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات و الميل مع الأهواء و تعظيم أصحاب المال و بيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يتولاهم أمراء جورة و وزراء فسقة و عرفاء ظلمة و أمناء خونة.

فقال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا يؤتمن الخائن و يخون الأمين و يصدّق الكاذب و يكذّب الصادق.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي ثمّ عندها تكون إمارة النساء و مشاورة الإماء و قعود الصبيان على المنابر و يكون الكذب طرفا و الزكاة مغرما و الفي ء مغنما و يجفو الرجل والديه و يبرّ صديقه و يطلع الكواكب المذنّبة.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إي و ربّي و عندها يا سلمان تشارك المرأة زوجها في التجارة و يكون المطر غيضا و يحتكر الرجل المعسر فعندها تكسد الأسواق إذ قال هذا لم أبع شيئا و قال هذا لم أربح شيئا فلا ترى إلّا ذامّا للّه.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي فعندها يتولاهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم و إن سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم و ليطؤوا حرمتهم و ليسفكنّ دمائهم و ليملئنّ قلوبهم رعبا فلا تراهم إلّا خائفين مرعوبين مرهوبين يا سلمان إنّ عندها فالويل لضعفاء امّتي منهم و الويل لهم من اللّه لا يرحمون صغيرا و لا كبيرا و لا يوقّرون كبيرا و لا يتجافون عن مسي ء، جثثهم جثث الآدميّين و قلوبهم قلوب الشياطين و عندها يكتفي الرجال بالرجال و النساء بالنساء و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و يشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجال و تركب ذوات الفروج على السروج فعليهنّ من أمّتي لعنة اللّه يا سلمان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنائس و تحلّى المصاحف

ص: 151

و تطول المنارات و تكثر الصفوف، قلوب متباغضه و ألسن متوافقة و عندها تحلّي ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الديباج و يتّخذون جلود النمور.

قال سلمان: و إنّ هذا لكائن؟ قال: إي و الّذي نفسي بيده و عندها يظهر الرباء و يتعاملون بالرشا و يوضع الدّين و ترفع الدنيا و يكثر الطلاق فلا يقام للّه حدّ و لن يضرّوا اللّه شيئا و عنده يظهر القينات و المعازف و يتولّاهم أشرار أمّتي و تحجّ أغنياء أمّتي للنزهة و تحجّ أوساطها للتجارة و فقراؤهم للرياء و السمعة فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزنا و يتفنّون بالقرآن و يتهافتون بالدنيا يا سلمان ذاك إذا انتهك المحارم و اكتسب المآثم و سلّط الأشرار على الأخيار يفشو الكذب و يظهر الحاجة و الفاقة و يتباهون في اللباس و يمطرون في غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة و المعازف و ينكرون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزمان أضلّ من الأمة و يظهر قرّاؤهم و عبّادهم فيما بينهم التلاوة فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس فعندها لا يجود الغنيّ على الفقير حتّى أنّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفّه شيئا فعندها يتكلّم الروبيضة فقال سلمان: و ما الروبيضة يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله يتكلّم في امور العامّة من لم يكن يتكلّم فلم يلبثوا إلّا قليلا حتّى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء اللّه ثمّ ينكثون في مكثهم يلقي بهم الأرض أفلاذ كبدها ذهبا و فضّة ثمّ أومأ بيده صلّى اللّه عليه و آله إلى الأساطين فقال: هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضّة فهذا معنى قوله: «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» انتهى.

قوله تعالى: [وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ] أي هلّا نزّلت لأنّهم كانوا يأنسون بنزول القرآن و يستوحشون لإبطائه ليعلموا أوامر اللّه [فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ] ليس فيها متشابه و لا تأويل و قيل: المعنى سورة ناسخة لما قبلها قال قتادة: كلّ سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة و هي أشدّ القرآن على المنافقين و قيل: المراد من المحكمة المقرونة بالوعيد المؤكّد كقوله: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» و قيل: محكمة الوضوح ألفاظها و على هذا فالقرآن كلّه محكم و قيل: المحكمة هي الّتي تتضمّن نصّا لم يختلف تأويله و لم

ص: 152

يتعقّبه نصّ و في قراءة ابن مسعود سورة محدثة أي مجدّدة.

[وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي و أوجب عليهم فيها أي في السورة القتال و أمروا به [رَأَيْتَ يا محمّد [الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و شكّ و نفاق [يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يريد أنّهم يشخصون نحوك بأبصارهم و ينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت لثقل ذلك عليهم و عظمه في نفوسهم [فَأَوْلى لَهُمْ هذا الكلام تهديد و وعيد قال الأصمعيّ: معنى هذا الكلام أي ولّاك و قارنك ما تكره، قتادة: أي العقاب و الوعيد لهم و على هذا فأولى اسم للتهديد و الوعيد فأولى لهم مبتدء و خبر و لا ينصرف «أولى» لأنّه على وزن الفعل و صار اسما للوعيد و قيل: المعنى أولى لهم طاعة للّه و لرسوله و قول معروف بالإجابة أحسن فحينئذ يكون المعنى لو أطاعوا فأجابوا كانت الطاعة و الإجابة أولى لهم و هذا المعنى قول ابن عبّاس في رواية عطا، و اختار الكسائيّ هذا القول فعلى هذا المعنى طاعة و قول معروف متّصل بما قبله و على القول الأوّل يكون طاعة و قول معروف مبتدأ محذوف الخبر تقديره طاعة و قول معروف أحسن و أمثل أو خبر مبتدء محذوف و تقديره أمرنا طاعة و قول معروف.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 21 الى 25]

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25)

المعنى في قوله: «طاعَةٌ وَ قَوْلٌ» فذكر المعنيان [فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ] و جوابه محذوف تقديره فإذا عزم و وجب الأمر تخلّفوا و خالفوا كأنّه يقولون في أوّل الأمر سمعا و طاعة و عند آخر الأمر خالفوا و نسب العزم إلى الأمر و المراد لصاحب الأمر [فَلَوْ صَدَقُوا] أي لو صدقوا اللّه فيما أمرهم به و امتثلوا أمره [لَكانَ خَيْراً لَهُمْ و على كون المعنى في قوله:

«طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ» خير لهم و أحسن فمعنى قوله: «فَلَوْ صَدَقُوا» في إيمانهم و اتّباعهم الرسول «لَكانَ خَيْراً لَهُمْ».

ص: 153

ثمّ قال تعالى: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ الاستفهام للتقرير المؤكّد لأنّ الكفّار كانوا يقولون كيف نقاتل و القتل إفساد و العرب ذوو أرحامنا و قبائلنا فقال تعالى: «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» لا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض فإنّكم تقتلون من يقدرون عليه و تنهبونه و القتال واقع منكم أليس قتلكم و وأدكم البنات إفسادا و قطعا للرحم فلا يصحّ تعلّلكم بالجهاد بقولكم: القتل إفساد لأنّكم تقتلون و تنهون مع أنّه خلاف ما أمر اللّه و الجهاد مع أنّه طاعة و معروف من اللّه فكيف تنكرونه؟

في الكافي و القميّ عن عليّ عليه السّلام أنّها نزلت في بني اميّة.

قال الزمخشريّ: معنى «فَهَلْ عَسَيْتُمْ» الآية، هل يتوقّع منكم الا الفساد؟ لأنّكم اختبرتم. و قيل: المعنى إن أعرضتم و تولّيتم و أدبرتم عن دين رسول اللّه أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التناهب و المقاتلة و قطع الأرحام.

و في قراءة عليّ أمير المؤمنين إن تولّيتم على المجهول أن تولّاكم ولاة غشمة ظلمة خرجتم معهم و مشيتم تحت لوائهم و أفسدتم بإفسادهم.

[أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى المذكورين المخاطبين لعنهم اللّه و أبعدهم من رحمته لإفسادهم و خذلهم حتّى صمّوا عن استماع الموعظة [وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عن إبصار طريق الهدى.

[أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ و يتفكّرون فيه فيعتبروا به و يقضوا ما عليهم من الحقّ عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن [أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها] و تنكير القلوب إرادة قلوب هؤلاء و من كان مثلهم من غيرهم مثل قلوب المنافقين الّتي انقلعت عن الهدى و الإيمان فلا تنفتح و قرئ إقفالها بصيغة المصدر و المراد أنّ بعض القلوب بسبب عدم تدبّرها و قبولها لا يصل إليها ذكر و لا ينكشف لها أمورا لهداية.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي رجعوا عن الحقّ و الإيمان [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى و ظهر لهم طريق الحقّ و هم المنافقون عن ابن عبّاس و الضحّاك و جماعة كانوا يؤمنون عند النبيّ ثمّ يظهرون الكفر فيما بينهم فتلك ردّة و قيل: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و قد عرفوا نعته و وجدوه مكتوبا في التوراة و الإنجيل

ص: 154

في الكافي عن الصادق عليه السّلام في هذه الآية قال: الّذين ارتدّوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين قال: و اللّه نزلت فيهم و في أتباعهم.

[الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ أي زيّن و سهّل لهم عملهم و خطاياهم أو دعاهم إلى ما يوافق مرادهم و هواهم، و أملى لهم أي طوّل لهم أملهم و أوهم الأمن في المكاره و أبعد لهم في الأمل و الامنيّة.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 26 الى 30]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)

ثمّ بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم فقال:

[ذلِكَ أي ذلك التسويل و الإملاء بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ولاية عليّ: [ما نَزَّلَ اللَّهُ من القرآن و ما فيه من الأمر و النهي و الأحكام و منعتهم الرياسة عن اتّباع محمّد و القرآن و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهم بنو اميّة كرهوا ما نزّل اللّه في ولاية عليّ بن أبي طالب قوله: [سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ] سنطيعكم في التظاهر على عداوة رسول اللّه أو في ترك ولاية عليّ و القعود عن الجهاد [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول و ما أسرّوه من الاعتقاد في أنفسهم.

[فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ] أي كيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم و إنّما حذف تفخيما لشأن ما ينزل بهم في ذلك الوقت من عظم العذاب و الشدّة [يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ على وجه العقوبة لهم.

ثمّ ذكر السبب فقال: [ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من المعاصي الّتي يكرهها اللّه و يعاقب عليها [وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ أي سبب رضوانه و هو الإيمان و طاعة الرسول [فَأَحْبَطَ

ص: 155

اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الّتي كانوا يعملونها من البرّ و الصدقات و غيرها لأنّها في غير إيمان و لا فائدة فيها.

ثمّ قال: [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي لا يبيّن اللّه أحقادهم على المؤمنين و لا يبدي معائبهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

[وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بأعيانهم يا محمّد حتّى تعرفهم بعلاماتهم و أشخاصهم لكي تعرفهم بها [وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي و تعرفهم الآن في فحوى كلامهم لأنّ كلام الإنسان يدلّ على ما في ضميره.

و عن أبي سعيد الخدريّ قال: لحن القول بغضهم عليّا. قال: و كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ببغضهم عليّ بن أبي طالب و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبّ عليّا علمنا أنّه لغير رشد.

و قال أنس: ما خفي منافق على عهد رسول اللّه بعد هذه الآية.

[وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ظاهرها و باطنها و الفرق بين اللامين في قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» أنّ الاولى جواب «لَوْ» مثل الّتي في لأريناكهم و اللام الثانية فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف.

و معنى اللحن أن تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبه مثل التورية و التعريض و بعض مفادات الكلام قال الشاعر:

و لقد لحنت لكم لكيما تفقهواو اللحن يعرفه ذوو الألباب

و يقال للمخطئ لاحن لأجل أنّه يعدل بالكلام عن الصواب.

قوله: [سورة محمد (47): الآيات 31 الى 35]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)

ص: 156

ثمّ أقسم سبحانه فقال:

[وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نكلّفكم من الأمور الشاقّة [حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ أي نتميّز المجاهدين في سبيل اللّه من جملتكم و الصابرين على الجهاد و قيل: المعنى حتّى يعلم أولياؤنا المجاهدين منكم. و أضاف العلم إلى نفسه تعظيما لهم كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» أي يؤذون أولياء اللّه و قيل: المعنى حتّى نعلم جهادكم موجودا لأنّ الغرض أن تفعلوا الجهاد فيثيبكم على ذلك [وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نختبر أسراركم بما يستقبلونه من أفعالكم.

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي امتنعوا عن اتّباع دين اللّه و منعوا غيرهم عن اتّباعه تارة و بالإغواء اخرى قيل: المراد هم أهل الكتاب قريضة و النضير و قيل:

المراد كفّار قريش يدلّ على القول الأوّل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قوله: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى تبيّن لهم صدق محمّد و هو نعته صلّى اللّه عليه و آله في التوراة [وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه و عاندوه و عادوه [مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى أي بعد ما عرفوا أنّه رسول اللّه [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بذلك شَيْئاً] و إنّما ضرّوا أنفسهم [وَ سَيُحْبِطُ اللّه أَعْمالَهُمْ فلا يرون لها ثوابا في الآخرة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ هؤلاء الكفّار كانوا قد تبيّن لهم الهدى فارتدّوا عنه و لم يقبلوه عنادا و هم المنافقون و قيل: المراد رؤساء الضلالة جحدوا الهدى طلبا للجاه و الرياسة لأنّ العناد يضاف إلى الخواصّ.

فإن قيل: إنّ في أوّل السورة قال سبحانه: «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» بصيغة الماضي فكيف قال: يحبط أعمالهم في المستقبل؟

فالجواب أنّ المراد من قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» في أوّل السورة المراد المشركون و هم من أوّل الأمر كانوا مبطلين و كانت أعمالهم على غير شريعة و المراد من الّذين كفروا في هذه الآية أهل الكتاب و كانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها بسبب تكذيبهم الرسول و لا ينفعهم إيمانهم و يجوز أن يكون المراد من الأعمال في هذه الآية

ص: 157

الأخيرة مكايدهم في القتال و ذلك قد تحقّق منهم و اللّه سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين.

قوله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إشارة إلى حصول العمل بعد حصول العلم، و دوموا على الإطاعة و العمل و لا تشركوا فتبطل أعمالكم أو المعنى لا تتركوا طاعة الرسول فيبطل أعمالكم كما أبطل أهل الكتاب بسبب عدم طاعتهم للرسول و تكذيبهم إيّاه و يؤيّد المعنى الثاني قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» و قيل: المراد أن تبطلوا أعمالكم بالرياء و قيل:

المراد بالكبائر.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «إِنَّ الَّذِينَ» مرّ تفسيره «ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ» أي صبروا على الكفر حتّى ماتوا على كفرهم «فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» أبدا لأنّ لفظ «لن» للتأييد.

[فَلا تَهِنُوا] أي لا تتولّوا و لا تضعفوا عن القتال [وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي و لا تدعوا الكفّار إلى المسالمة و المصالحة [وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي و أنتم القاهرون الغالبون و قيل:

إنّ الواو للحال أي إذا كنتم غالبين و تكون الغلبة لكم لا تصالحوهم فعلى المعنى الأوّل إخبار من اللّه على غلبتهم على الكافرين أي أنتم أيّها المؤمنون أعلى يدا و قدرة و منزلة آخر الأمر و إن غلب الكفّار في بعض الأحول [وَ اللَّهُ مَعَكُمْ بالنصرة [وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم من ثوابكم شيئا و الترة النقص من و ترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من أخ أو حميم و المعنى مأخوذ من أفردته من قريبه يشبه إضاعة عمل العامل بوتر الواتر، و منه قوله عليه السّلام: من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله أي أفرد عنهما قتلا و نهبا.

قوله تعالى: [سورة محمد (47): الآيات 36 الى 38]

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

ص: 158

ثمّ حثّ اللّه سبحانه على طلب الآخرة فقال:

[إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ] أي سريعة الفناء و الانقضاء و من اختار الفاني على الباقي كان جاهلا و منقوصا و الّذي خلقها هو أعلم بها [وَ إِنْ تُؤْمِنُوا] باللّه و رسوله و تتّقوا معاصيه [يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ و جزاء أعمالكم في الآخرة.

[وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ كلّها في الصدقة و إن أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم و قيل: معنى الآية لا يسألكم أموالكم لأنّ الأموال كلّها للّه فهو أملك لها و هو المنعم بإعطائها و قيل: لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه [إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ يقال: أحفى شار به إذا استأصله و أحفى في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح و بالغ فيه أي إن يسألكم جميع أموالكم و يجهدكم بمسألة جميعها [تَبْخَلُوا] بها و لا تعطونها و يظهر بغضكم و عداوتكم للّه و لرسوله و لكنّه فرض عليكم ربع العشر و الضمير في [يُخْرِجْ راجع إلى اللّه و قرئ نخرج بالنون و بالتاء مع فتح التاء و الراء و رفع [أَضْغانَكُمْ .

قوله: [ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ] أي أنتم أيّها المخاطبون هؤُلاءِ الموصوفون [تُدْعَوْنَ فيه توبيخ عظيم و تحقير لشأنهم [لِتُنْفِقُوا] في سبيل اللّه أي إنّما أمرتم بإخراج ذلك للإنفاق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ و طاعته و هو يعمّ الزكاة و الغزو و صرفه إلى المستحقّين من إخوانكم.

[فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ بما فرض اللّه عليه [وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ لأنّه يحرمها مثوبة جسيمة ثمّ يلزمه عقوبة عظيمة و المراد أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله بخل على نفسه و ذلك أشدّ البخل لأنّه إنّما يبخل بالخير و الفضل في الآخرة عن نفسه كمن يبخل عن اجرة الطبيب و ثمن الدواء و هو مريض ثمّ حقّق ذلك بقوله: [وَ اللَّهُ الْغَنِيُ عمّا عندكم من الأموال [وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ] إلى ما عند اللّه من الخير و الرحمة و لا يأمركم بالإنفاق لحاجة و لكن لتنفعوا بذلك الإنفاق في الآخرة.

[وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا] و تعرضوا عن طاعته و عن أمر رسوله [يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أمثل

ص: 159

و أطوع منكم في أوامر اللّه [ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل يكونوا خيرا منكم و روى أبو هريرة أنّ ناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالوا: يا رسول اللّه من هؤلاء الّذين ذكرهم اللّه؟ و كان سلمان إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضرب يده إلى فخذ سلمان فقال: هذا و قومه و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس و روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي. القميّ قوله: «وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا» عطف على «إِنْ تُؤْمِنُوا» أي إن تتولّوا عن ولاية أمير المؤمنين يستبدل قوما خيرا منكم يقومون مكانكم و لا يكونون أمثالكم في معاداتكم و خلافكم و ظلمكم لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 160

سورة الفتح

اشارة

* (مدنية)* فضلها: ابيّ بن كعب قال: من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله فتح مكّة.

و في رواية اخرى فكأنّما بايع محمّد تحت الشجرة قال عمر بن الخطّاب: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر فقال صلّى اللّه عليه و آله: نزلت عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها: إنّا فتحنا إلى قوله: «وَ ما تَأَخَّرَ» أورده البخاري في الصحيح. عن أنس بن مالك قال:

لمّا تراجعنا من غزوة الحديبية و قد حيل بيننا و بين نسكنا فنحن بين الحزن و الكآبة إذا أنزل اللّه تعالى: إنّا فتحنا لك فتحا مبينا فقال صلّى اللّه عليه و آله: لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها.

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: أقبل رسول اللّه من الحديبية فجعلت ناقته تثقل فقدّمنا فأنزل اللّه إنّا فتحنا لك فتحا مبينا، فأدركنا رسول اللّه و به من السرور ما شاء اللّه فأخبر صلّى اللّه عليه و آله أنّها أنزلت عليه عبد اللّه بكير عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملك أيمانكم من التلف بقراءة إنّا فتحنا لك فتحا مبينا فإنّه من كان يد من قراءتها ناداه مناد يوم القيامة حتّى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ألحقوه بالصالحين من عبادي فأسكنوه جنّات النّعيم و اسقوه الرّحيق المختوم بمزاج الكافور.

ص: 161

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)

المعنى: الفتح ضدّ الإغلاق و هو الأصل ثمّ استعمل في معان كثيرة فمنها الحكم و القضاء و الحكومة و النصر و منها فتح البلدان و منها العلم نحو قوله: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» من ذلك.

[إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] أي قضينا لك قضاء ظاهرا و قيل: معناه يسّرنا لك يسرا بيّنا و قيل: أعلمناك علما ظاهرا و في الفتح وجوه أحدها فتح مكّة و ثانيها فتح الروم و غيرها و ثالثها صلح الحديبية و الأظهر الأنسب فتح مكّة للمناسبة.

و الربط الآخر السورة المتقدّمة لأنّه سبحانه لمّا قال: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» إلى أن قال: «وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» بيّن تعالى أنّه فتح لهم مكّة و غنموا ديارهم و حصل لهم أضعاف ما أنفقوا و لو بخلوا لضاع عليهم ذلك و كذلك لمّا قال: «فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» و كان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم بل اصبروا فإنّهم يسألون الصلح و يجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية.

فلو قيل: إن كان المراد فتح مكّة فمكّة حينئذ لم تكن فتحت فكيف قال: «فَتَحْنا لَكَ» بلفظ الماضي؟ و المعنى قدّرنا فتحها و حكمنا و ما قدّره اللّه فهو كائن لا محالة.

ص: 162

نزلت الآية عند مرجع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الحديبية بشّر في ذلك الوقت بفتح مكّة.

و عن جابر قال: ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية و ذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم و أسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام و الحديبية بئر روي أنّه نفد ماؤها و ظهر فيها من أعلام النبوّة ما اشتهرت به الروايات.

قال البراء بن عازب: تعدّون الفتح فتح مكّة و قد كان فتح مكّة فتحا و نحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنّا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أربع عشر مائة و الحديبية بئر نزحناها فما وجد فيها قطرة فبلغ ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأتاها و جلس على شفيرها ثمّ دعا بإناء من ماء فتوضّأ، ثمّ تمضمض و دعا، ثمّ صبّه فيها و تركها ثمّ إنّها أصدرتنا نحن و ركابنا.

و عن محمّد بن إسحاق بن يسار عن الزهريّ عن عروة بن الزبير عن المسوّر بن مخرمة إنّ رسول اللّه خرج لزيارة البيت لا يريد حربا فذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول اللّه انزلوا فقالوا: يا رسول اللّه ما بالوادي ماء فأخرج من كنانته سهما فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له: أنزل في هذا القليب فاغزره في جوفه ففعل فجاش بالماء الرواء.

و عن عروة و ذكر خروج النبيّ قال: و خرج قريش من مكّة فسبقوه إلى بلدح و إلى الماء فنزلوا عليه فلمّا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سبق نزل صلّى اللّه عليه و آله على الحديبية و ذلك في حرّ شديد و ليس فيها إلّا بئر واحد فأشفق القوم من الظماء و القوم كثير فنزل فيها رجال يمتحنوها و دعا النبيّ بدلو من ماء فتوضّأ من الدلو و مضمض فاه ثمّ مجّ فيه و أمر أن يصبّ في البئر و نزع سهما من كنانته و ألقاه في البئر فدعا اللّه ففارت بالماء جعلوا يغترفون بأيديهم منها و هم جلوس على شفتها.

و روى سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر بن عبد اللّه: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال كنّا ألفا و خمس مائة، و ذكر عطشا أصابهم قال: فأتى رسول اللّه بماء في تور فوضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون قال: فشربنا و سقنا و كفانا قال: قلت كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا كنّا ألفا و خمس مائة.

ص: 163

و روي عن مجمع بن حارثة الأنصاريّ أنّ المراد فتح خيبر قال: شهدنا الحديبية مع رسول اللّه فلمّا انصرفنا عنها إذا الناس يهزّون الأباعر فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس قالوا: اوحي إلى رسول اللّه فخرجنا نوجف فوجدنا النبيّ واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلمّا اجتمع الناس إليه قرأ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» السورة، فقال عمر:

أفتح هو يا رسول اللّه؟ قال: نعم و الّذي نفسي بيده إنّه لفتح فقسمت خبر على أهل الحديبية لم يدخل فيها أحدا إلّا من شهدها.

قوله تعالى [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ] و قد فسّر بعض الحشويّة بعض التفاسير الباطلة الّتي لا يقبلها ذو دين مثل أن حملوا الآية على ظاهرها و نسبوا إليها الصغيرة و أمثالها.

و قال ابن عطاء الخراسانيّ لمّا بلغ سدرة المنتهى ليلة المعراج قدّم هو صلّى اللّه عليه و آله و تأخّر جبرئيل فقال لجبرئيل: تتركني في هذا الموضع وحدي فعاتبه اللّه حين سكن إلى جبرئيل فقال: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» فيكون كلّ من الذنبين بعد النبوّة.

و قال سفيان الثوريّ: ما تقدّم أي ممّا عملت في الجاهليّة و ما تأخّر ممّا لم تعمله و يذكر مثل ذلك على طريق التأكيد مثل قولهم: ضرب من لقاه و من لم يلقه و المعلوم من كلام الثّوريّ أنّه من الحشويّة و إلّا ما حشا فاه بهذا التّبن، فالثور ثور و إن عبد.

و قيل: إنّ ما تقدّم من الذنب بالنسبة إليه يوم بدر و ما تأخّر يوم حنين أمّا يوم بدر حيث قال: اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا فعوتب صلّى اللّه عليه و آله من أين تعلم أنّي إن أهلكتها لا اعبد أبدا؟ فكان الذنب المتقدّم هذا و قال يوم حنين بعد أن هزم الناس و و رجعوا إليه: لو لم أرمهم بكفّ الحصى لم يهزموا فأنزل اللّه «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ» و هو الذنب المتأخّر.

و الصحيح أي ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنب امّتك و ما تأخّر بشفاعتك.

و قيل: المراد الوعد بالعصمة قبل الفتح و بعد الفتح و الإشارة إلى عموم العصمة كقولهم

ص: 164

اضرب من لقيت و من لا تلقاه مع أنّ من لا يلقى لا يمكن ضربه و هو إشارة إلى العموم و و كقول القائل لغيره: «صفحت عن السالف و الأنف» و حسنت إضافة ذنوب امّته إليه للاتّصال و السبب بينه و بين امّته و يؤيّد هذا المعنى ما رواه المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: سأله رجل عن هذه الآية فقال: و اللّه ما كان له ذنب و لكنّ اللّه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخّر.

و قيل: ما تقدّم من ذنب أبويك آدم و حوّاء ببركتك، و إضافة الذنب إليه لأنّه صلّى اللّه عليه و آله كان في صلبه. قوله: «وَ ما تَأَخَّرَ» أي من ذنوب امّتك بشفاعتك.

و قيل: استغفار الأنبياء لا يكون عن ذنب كذنوبنا و إنّما هو عن أمر يدقّ عن عقولنا.

و قيل: إنّ نسبة الذنب إليه من حيث إنّ شريعته حكمت بأنّه ذنب في شريعته مثل الغيبة مثلا فإنّه صلّى اللّه عليه و آله حكم بأنّها ذنب فحسن الإضافة فذنوب امّته يضاف إليه و إلى شريعته بهذا التقرير فهذا اطمينان له في امّته و لو بعد عقوبة.

و روى عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ الآية» قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب و لكنّه حمله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له.

و قال المرتضى قدّس اللّه روحه: إنّ الذنب مصدر و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول و المراد ما تقدّم من ذنبهم إليك في منعهم إيّاك عن مكّة و صدّهم لك عن المسجد الحرام فيكون معنى المغفرة على هذا المعنى الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه أي يزيل اللّه ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكّة و لذلك جعله جزاء على جهاده. قال: و لو أنّه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» معنى معقول لأنّ المغفرة للذنوب لا تعلّق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه و أمّا قوله: «ما تَقَدَّمَ ... وَ ما تَأَخَّرَ» فلا يمتنع أن يريد به ما تقدّم زمانه من فعلهم القبيح بك و بقومك.

ص: 165

و قيل في تأويل الآية: إنّ معناه لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك أو المراد بالذنب ترك المندوب و الأفضل و حسن ذلك لأنّ من لا يخالف الأوامر فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا و ذلك الأمر لعلوّ قدره صلّى اللّه عليه و آله و رفعة شأنه.

قوله: [وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا بإخلاء الأرض لك عن معانديك بإظهارك على عدوّك و نصرة دينك و بقاء شرعك و في الآخرة برفع محلّك فإنّ يوم الفتح لم يبق للنبيّ عدوّ ذو اعتبار فإنّ بعضهم كانوا اهلكوا يوم بدر و الباقون آمنوا و استأمنوا يوم الفتح.

[وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً] أي يديمك و يثبتك على الصراط المستقيم أو المعنى أن جعل الفتح سببا للهداية إلى الصراط المستقيم لأنّ الجهاد سبب سلوك سبيل اللّه للمؤمنين.

قوله: [وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً] ظاهرا غالبا لأنّ بالفتح ظهر النصر و اشتهر الأمر إذ صيّر دينه صلّى اللّه عليه و آله أعزّ الأديان و سلطانه أعظم السلطان.

قوله: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ و السكينة أن يفعل اللّه بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم و ذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة فهذه النعمة التامّة خاصّة للمؤمنين و أمّا غيرهم فيضطرب نفوسهم لأوّل عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين و روح الطمأنينة في قلوبهم، و السكينة هو سبب ذكرهم اللّه كما قال: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» و قيل: معنى السكينة النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك نفوسهم و يثبتوا على القتال.

[لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح و علوّ كلمة الإسلام و يزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام و هو أنّهم كلّما أمروا بشي ء من الشرائع و الفرائض كالصلاة و الصيام و الصوم و الصدقات صدّقوا به و ذلك بالسكينة الّتي أنزلها اللّه في قلوبهم ليزدادوا معارفا على المعرفة الحاصلة عندهم.

[وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني الملائكة و الجنّ و الإنس و الشياطين يعني لو

ص: 166

شاء لأعانكم به و في الآية بيان أنّه لو شاء لأهلك الكافرين لكنّه عالم بهم و بما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لعلمه بالعاقبة و لم يأمر بالقتال عن عجز و احتياج لكن ليعرض المجاهدين الثواب [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] فكلّ أفعاله حكمة و صواب.

قوله: [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] تقدير الآية إنّا فتحنا لك ليغفر لك اللّه إنّا فتحنا لك ليدخل المؤمنين و المؤمنات جنّات و لذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل إعلاما بالتفصيل تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها الأنهار خالدين مؤبّدين لا يزول عنهم نعيما.

[وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ و عقاب معاصيهم الّتي فعلوها و يجوز أن يكون المعنى أنزل السكينة على المؤمنين ليزدادوا إيمانا بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات.

فإن قيل: فقوله: «يُعَذِّبَ» عطف على قوله: ليدخل، و ازدياد إيمانهم لا يصلح سببا لتعذيبهم، بلى و المعنى أنّكم بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات و بسبب عدم إيمانهم و مخالفتهم لكم و عدم اتّباعهم يزداد الكافر كفرا فيعذّبه به.

[وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً] أي ما ذكر من الإدخال و التكفير عند اللّه أي كائن في علمه و هو فوز عظيم لا يقدّر قدره لأنّه منتهى ما يمتدّ إليه أعناق الهمم من جلب نفع و دفع ضرّ و تقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع أنّ الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى ما هو المطلب الأعلى.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 6 الى 10]

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6) وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

ص: 167

قدّم سبحانه ذكر المنافقين على المشركين في مواضع من القرآن لأنّهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكافر و أضرّ عليهم لأنّ المؤمن يتوقّى الكافر في معاشرته و لكن يخالط المنافق لعدم علمه بنفاقه [الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ] ظنّ السوء ظنّهم أنّ اللّه لا ينصر الرسول و المؤمنين و لا يرجعهم إلى مكّة ظافرين [عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ] أي ما يتربّصونه بالرسول و المؤمنين فهو حالق بهم و دائر عليهم.

و السوء بالضمّ الهلاك و الدمار و قرئ بالفتح أي الدائرة الّتي يذمّونها و يسخطونها فهي عندهم دائرة سوء و عند المؤمنين دائرة صلاح و صدق و هل فرق بين السوء و السوء؟ هما كالكره و الكره و الضعف و الضعف من ساء إلّا أنّ الفتح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شي ء و إمّا السوء بالضمّ فمعناه جار مجرى الشرّ الّذي هو نقيض الخير، يقال:

أراد به السوء و أراد به الخير و لذلك أضيف الظنّ إلى المفتوح لكونه مذموما و أمّا دائرة السوء بالضمّ فلأنّ الّذي أصابهم مكروه و شدّة فصحّ أن يقع عليه اسم السوء كقوله تعالى:

«إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» (1) أو السوء المصدر و السوء الاسم و هو أيضا على التقرير المذكور و قيل: على قراءة الضمّ المراد دائرة العذاب و بالفتح المراد ما جعله للمؤمنين من قتلهم و غنيمة أموالهم قوله: [وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ أي أبعدهم من رحمته [وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يجعلهم فيها [وَ ساءَتْ مَصِيراً] أي مآلا و مرجعا [وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إنّما كرّر فذكرهم أوّلا لبيان الرحمة بالمؤمنين فقال بعده [وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] و الثاني لبيان العذاب على الكافرين فقال: «وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» و فيه إشارة إلى ذكر العذاب و لذا ذكر العزّة كقوله: «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» (2) و قال: «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ» (3) و لا بأس بذكر بعض قصّة الحديبية و هي أنّ رسول اللّه أمر في النوم أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا من المدينة فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللّه ستّة و ستّين بدنة فأحرموا

ص: 168


1- الأحزاب: 17.
2- الزمر: 37.
3- القمر: 42.

من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة و قد ساق منهم الهدي مشمرات مجلّات.

فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا لتستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال فصلّى رسول اللّه بالناس فقال خالد: لو كنّا حملنا عليهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجي ء الآن لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرئيل على رسول اللّه بصلاة الخوف في قوله: «وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» (1) الآية، و هذه الآية في سورة النساء.

فلمّا كان في اليوم الثاني فنزل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحديبية و هي على طرف الحرم و كان صلّى اللّه عليه و آله يستنفر الأعراب في طريقه معه فلم يتّبعه أحد منهم و يقولون: أ يطمع محمّد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوا فلا يرجع محمّد و أصحابه إلى المدينة.

فلمّا نزل رسول اللّه الحديبية خرجت قريش يحلفون باللّات و العزّى لا يدعون رسول اللّه يدخل مكّة و فيهم عين تطرف فبعث إليهم رسول اللّه أنّي لم آت لحرب و إنّما جئت لأقضي مناسكي و أنحر بدني و اخلّي بيني و بينكم و بين لحماتها فبعثوا عروة بن مسعود الثقفيّ و كان عاقلا لبيا و هو الّذي أنزل اللّه فيه: «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» فلمّا أقبل إلى رسول اللّه قال: يا رسول اللّه تركت قومك و قد ضربوا الأبنية و أخرجوا العود المطافيل يحلفون باللّات و العزّى لا يدعوك تدخل مكّة و فيهم عين تطرف أ فتريد أن تتبرّأ أهلك و قومك؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما جئت إلّا لأقضي مناسكي فقال: عروة و اللّه ما رأيت أحدا كاليوم صدّ كما صددت.

ثمّ رجع إلى قريش و أخبرهم فقالت قريش: و اللّه لئن دخل محمّد مكّة و تسامعت به العرب لنذلّنّ و لتجترئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن أحنف و سهيل بن عمرو فلمّا نظر إليهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: ويح قريش قد نهكتهم الحرب إلّا خلّوا بيني و بين العرب فإن أك صادقا فإنّما أجرّ الملك إليهم مع النبوّة و إن أك كاذبا كفيتهم ذئبان العرب، لا يسألني اليوم أحد

ص: 169


1- النساء: 101.

من قريش حاجة ليس للّه فيها سخط إلّا أجبتهم.

فلمّا وافى الرجلان قالا: يا محمّد ألا ترجع منّا عامك هذا إلى أن ننظر إلى ما يصير أمر العرب؟ فإنّ العرب قد تسامعت بمسيرك فإذا دخلت بلادنا و حرمنا استذلّتنا العرب و اجترأت علينا و نخلّي لك في العام المقبل في هذا الشهر ثلاثة أيّام حتّى تقضي منسكك و تنصرف عنّا فأجابهم النبيّ إلى ذلك و قالوا له: تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا و نردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك فقال رسول اللّه: من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه و لكن على أنّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام و لا يكرهون و لا ينكر عليهم شي ء يفعلونه من شرائع الإسلام فقبلوا ذلك.

فلمّا أجابهم رسول اللّه إلى الصلح أنكر عامّة أصحابه و أشدّ ما كان إنكار عمر فقال:

يا رسول اللّه ألسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل؟ فقال نعم: قال: أ تعطي الذلّة في ديننا فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ قد وعدني فلن يخلفني قال: و لو أنّ لي أربعين رجلا لخالفته.

فرجع سهيل بن عمرو و حفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم بالصلح فقال عمر: يا رسول اللّه ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام و يحلّق مع المحلّقين؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

أمن عامنا هذا وعدتك؟ قلت لك: إنّ اللّه عزّ و جلّ قد وعدني أن أفتح مكّة و أطوف و أسعى و أحلق مع المحلّقين.

فلمّا أكثروا عليه قال: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم فمرّوا نحو قريش و هم مستعدّون للحرب و حملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول اللّه هزيمة قبيحة و مرّوا برسول اللّه فتبسّم صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال: يا عليّ خذ السيف و استقبل قريشا فأخذ أمير المؤمنين سيفه و حمل على قريش فلمّا نظروا إلى أمير المؤمنين تراجعوا ثمّ قالوا: أبدا لمحمّد فيما أعطانا؟

فقال: لا.

و تراجع أصحاب رسول اللّه مستحيين و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله لهم ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل اللّه فيكم «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (1) ألستم أصحابي يوم احد: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ

ص: 170


1- الأنفال: 9.

الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» (1) ألستم أصحابي يوم كذا، ألستم أصحابي يوم كذا؟ فاعتذروا إلى رسول اللّه و ندموا على ما كان منهم و قالوا: اللّه أعلم و رسوله فاصنع ما بدا لك.

و رجع حفص بن الأحنف و سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه فقالا: يا محمّد قد أجابت قريش إلى ما اشترط من إظهار الإسلام و أن لا يكره أحد على دينه فدعا رسول اللّه بالكتب و دعا أمير المؤمنين و قال له: اكتب فكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا نعرف الرحمن اكتب كما كان يكتب آباؤك بسمك اللّهم فقال رسول اللّه: اكتب بسمك اللهم فإنّه اسم من أسماء اللّه ثمّ كتب هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الملأ من قريش فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنّك رسول اللّه ما حاربناك اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد اللّه أ تأنف من نسبك يا محمّد؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنا رسول اللّه و إن لم تقرّوا، ثمّ قال: امح يا عليّ و اكتب محمّد بن عبد اللّه فقال عليّ عليه السّلام: ما أمحو اسمك من النبوّة فمحا رسول اللّه بيده ثمّ كتب:

هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد اللّه و الملأ من قريش و سهيل بن عمرو و اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكفّ بعضنا عن بعض، و على أنّه لا إسلال و لا إغلال (2)، و أنّ بيننا غيبة مكفوفة، و أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد و عقده فعل، و من أحبّ أن يدخل في عهد قريش و عقدها فعل، و أنّه من أتى محمّدا بغير إذن وليّه ردّه، و أنّه من أتى قريشا من أصحاب محمّد لم يردّه إليه و أن يكون الإسلام ظاهرا بمكّة و لا يكره أحد على دينه و لا يؤذى و لا يعيّر و أنّ محمّدا يرجع عامه هو و أصحابه ثمّ يدخل علينا في العام القابل مكّة فيقيم فيها ثلاثة أيّام و لا يدخل عليها بسلاح إلّا سلاح المسافر و كتب عليّ بن أبي طالب و شهد على الكتاب المهاجرون و الأنصار.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحقّ نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها و أنت مضيض مضطهد (3) فلمّا كان يوم صفّين و رضوا بالحكمين كتب هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و معاوية بن ن.

ص: 171


1- آل عمران: 153.
2- بهامش الأصل: الأغلال: الخيانة، و الإسلال: الاغارة.
3- أورده القلقشندى في صبح الأعشى عند نقله صلح صفين و التراضي بالحكمين.

أبي سفيان فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك و لكن اكتب هذا ما اصطلح عليه عليّ بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان فقال أمير المؤمنين: صدق اللّه و رسوله أخبرني بذلك رسول اللّه.

و بالجملة فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمّد رسول اللّه و عقده و قامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش و عقدها و كتبوا نسختين: نسخة عند رسول اللّه و نسخة عند سهيل و رجع سهيل و حفص إلى قريش فأخبروهم و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه: انحروا بدنكم و احلقوا رءوسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة؟ فاغتمّ لذلك الرسول و شكا ذلك إلى امّ سلمة فقالت: يا رسول اللّه انحر أنت و احلق فنحر رسول اللّه و حلق فنحر القوم على يقين و شكّ و ارتياب فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تعظيما للبادن: رحم اللّه المحلّقين و قال قوم: لم يسوقوا البدن يا رسول اللّه و المقصّرين لأنّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق فقال رسول اللّه: ثانيا رحم اللّه المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدي فقالوا: يا رسول اللّه و المقصّرين فقال: رحم اللّه المقصّرين.

ثمّ رحل صلّى اللّه عليه و آله نحو المدينة فرجع إلى التنعيم و نزل تحت الشجرة فجاء أصحابه الّذين أنكروا عليه الصلح و اعتذروا و أظهروا الندامة على ما كان منهم و سألوا رسول اللّه أن يستغفر لهم فنزلت آية الرضوان و هذه القصّة مذكورة في روضة الكافي عن الصادق بزيادة و نقصان من أرادها فليراجع.

قوله: [إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً] ثمّ خاطب نبيّه فقال: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا محمّد شاهدا على امّتك بما عملوه من طاعة و معصية و قبول و ردّ «شاهِداً» تبليغ الحكم و التكليف «وَ مُبَشِّراً» بالجنّة لمن أطاع «وَ نَذِيراً» من النار لمن عصى ثمّ بيّن الغرض من الإرسال [لِتُؤْمِنُوا] و قرئ بالياء فالمعنى ليؤمن هؤلاء الكفّار [بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ و الهاء راجع إلى النبيّ أي تنصروه بالسيف و اللسان و تعظّموه و تجلّوه [وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا] أي و تصلّوا للّه بالغداة و العشيّ فالضمير في تسبّحوه راجع إلى اللّه و قيل: معناه و تنزّهوا اللّه عمّا لا يليق به.

ص: 172

و كثير من القرّاء اختاروا الوقف على قوله: «وَ تُوَقِّرُوهُ» لاختلاف الضمير فيه و فيما بعده و قيل: الضمائر راجعة إلى اللّه أي لتعظّموا اللّه و تطيعوه كقوله: «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» قال الزمخشريّ: الضمائر للّه و من فرّق فقد أبعد، و قرئ تعزروه بالتخفيف و كسر الزاي قال ابن عبّاس: المراد من قوله: «وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا» صلاة الفجر و صلاة الظهر و العصر.

و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر لأنّه سبحانه صرّح هنا أنّه يريد من جميع المكلّفين الإيمان و الطاعة.

قوله: [إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ المراد بالبيعة هنا بيعة الحديبية و هي بيعة الرضوان بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الموت [إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي يبايعون لأجل اللّه و لوجهه لأنّ طاعتك طاعته و إنّما سمّيت بيعة لأنّها عقدت على بيع أنفسهم الجنّة للزومهم في الحرب و باعوا أنفسهم.

[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ كأنّهم في هذه البيعة بايعوا اللّه من غير واسطة و قوّة اللّه في نصرة نبيّه فوق أيديهم في النصرة، أي ثق بنصرة اللّه لك لا بنصرتهم و إن بايعوك أو أنّ يد رسول اللّه الّتي تعلو أيدي المبايعين هي يد اللّه و اللّه منزّه عن الجوارح و عن صفات الأجسام و إنّما المعنى تقرير أنّ عقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الميثاق معه كعقده مع اللّه من غير تفاوت في الأجر كقوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (1).

[فَمَنْ نَكَثَ أي نقض ما عقد من البيعة [فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي يرجع ضرر ذلك النقض عليه و ليس له الجنّة و الكرامة.

[وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ و قرئ عهد و المعنى من ثبت على العهد يقال: وفيت و أوفيت بالعهد و هي لغة تهامة و من هذه اللغة قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» [فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] و قرئ بالنون على التكلّم أي ثوابا جزيلا.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 11 الى 15]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)

ص: 173


1- النساء: 79

ثمّ أخبر سبحانه عمّن تخلّف عن نبيّه فقال:

[سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ أي الّذين تخلّفوا عن صحبتك و ذلك أنّه لمّا أراد صلّى اللّه عليه و آله المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا و كان في ذي القعدة سنة ستّ من الهجرة استنفر من أطراف المدينة في الخروج معه صلّى اللّه عليه و آله و هم غفار و أسلم و أشجع و مزينة حذرا من قريش من أن يعرضوا له بحرب أو يصدّ، و أحرم بالعمرة و ساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حربا.

فتثاقل عنه كثير من الأعراب و قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فتخلّفوا عنه و اعتلّوا بالشغل فشرح اللّه حالهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال سبحانه: إنّهم يقولون لك إذا عاتبتهم على التخلّف عنك [شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا] و قرئ بالتشديد عن الخروج معك [فَاسْتَغْفِرْ لَنا] في قعودنا عنك فكذّبهم اللّه فقال: [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ في الاعتذار بما أخبر عن ضمائرهم أي إنّهم كاذبون في الاعتذار و طلب الاستغفار.

[قُلْ يا محمّد لهم: [فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً] أي فمن يمنعكم من عذاب اللّه إن أراد بكم سوءا أو نفعا و غنيمة؟ و ذلك أنّهم ظنّوا أنّ تخلّفهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يدفع عنهم الضرّ أو يحصل لهم النفع بالسلامة من المال و الأهل [بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً] أي إنّه عالم في تخلّفكم و سببه.

[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً] أي ظننتم أنّهم لا

ص: 174

يرجعون إلى من خلّفوا بالمدينة من الأهل و المال و أنّ العدوّ يستأصلوهم و يصطلمهم [وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي زيّن الشيطان ذلك الظنّ في قلوبكم و سوّله لكم [وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ] في هلاك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و كلّ هذه الأخبار من الغيب و ما كان يطّلع عليها إلّا اللّه فصار معجزا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله [وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً] أي هلكى لا تصلحون الخير و فاسدين.

[وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً] أي و من يظنّ بأنّ اللّه يخلف وعده أو الرسول كاذب فيما قاله فله نار مسعرة معدّة في الآخرة [وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ] ذنوبه [وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ] إذا استحقّ العقاب [وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].

ثمّ قال سبحانه: [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي هؤلاء المتخلّفون أوضح كذبهم بأنّهم إذا أحسّوا بالغنيمة يقولون من تلقاء أنفسهم: [ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فإذا كان أموالهم و أهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إيّاهم إلى أهل مكّة فما بالهم لا يشتغلون بأموالهم يوم أخذ الغنيمة و المراد من المغانم مغانم أهل خيبر و فتحها و غنم المسلمون و لم يكن معهم إلّا من كان معه في المدينة، و وعد الموافقين بالغنيمة و المتخلّفين بالحرمان و وعدهم اللّه فتح خيبر لمن شهد الحديبية فلمّا انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلّفون: ذرونا نتّبعكم.

فقال سبحانه: [يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي مواعيد اللّه لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصّة أراد تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها و قيل: يريد أمر اللّه نبيّه أن لا يسيّر معه منهم أحدا.

[قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ بالحديبية قبل خيبر لمن شهد الحديبية يشركهم فيها غيرهم «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» أي نهى اللّه أن تتّبعوا أيّها المخلّفون إيّانا في المغانم.

و قال الجبّائيّ: أراد بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» قوله سبحانه: «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» (1).

ص: 175


1- المائدة: 64.

و هذا غلط فاحش لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية و تلك الآية نزلت في الّذين تخلّفوا عن تبوك و كان منصرفه من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من الهجرة و لم يخرج بعد ذلك لقتال و لا غزو إلى أن قبضه اللّه فكيف يكون هذه الآية مرادة بقوله «كَلامَ اللَّهِ» و قد نزلت بعده بأربع سنين؟

ثمّ قال: [فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا] أي فسيقول المخلّفون عن الحديبية لكم إذا قلتم لهم: لن تتّبعونا و سمعوا هذا النهي يقولون لكم ليس هذا النهي من اللّه بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة ثمّ قال سبحانه: ليس الأمر على ما قالوه [بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ الحقّ و ما تدعونهم إليه [إِلَّا قَلِيلًا] أي إلّا فقها قليلا و شيئا قليلا.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 16 الى 20]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)

[قُلْ يا محمّد: للّذين تخلّفوا عنك في الخروج إلى الحديبية [مِنَ الْأَعْرابِ و هم قبائل متشعّبة [سَتُدْعَوْنَ بعد ذلك [إِلى قَوْمٍ ذوي النجدة و البأس قيل: المراد بالقوم هوازن و حنين و قيل: هوازن و ثقيف و قيل: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذّاب و قيل: هم أهل فارس أو الروم و قيل: هم أهل صفّين أصحاب معاوية قال الطبريّ: و الصحيح أنّ الداعي في قوله: «سَتُدْعَوْنَ» هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة و قتال أقوام ذوي البأس فلا معنى لحمل ذلك على ما بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعد وفاته.

[تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ معناه أحد الأمرين لا بدّ أن يكون يقع لا محالة و تقديره أو

ص: 176

يسلمون و يقرّون بالإسلام و ينقادون لكم و في قراءة ابيّ أو سلموا أي إلى أن يسلموا و على هذه القراءة لا يمكن أن يكون المراد من القوم فارس و الروم لأنّهم يقبل منهم الجزية إذا لم يسلموا.

[فَإِنْ تُطِيعُوا] و تجيبوا إلى قتالهم [يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً] و جزاء صالحا [وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا] عن القتال و تقعدوا عنه [كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ مثل يوم الحديبية [يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً] في الآخرة.

[لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ بيّن سبحانه من يجوز له التخلّف و ترك الجهاد و ما بسببه يجوز ترك الجهاد و هو ما يمنع من الكرّ و الفرّ و ذلك بيان أصناف ثلاثة: الأوّل الأعمى فإنّه لا يمكنه الإقدام على العدو و الطلب و لا يمكنه الاحتراز و الهرب و الأعرج كذلك و المريض كذلك و في معنى الأعرج الأقطع و المقعد أي ليس على هؤلاء ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد.

[وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ] المراد من الإطاعة في الآية قبول القتال و الجهاد [وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً] أي و إن قعدتم عن القتال و تولّيتم و ما وافقتم النبيّ في جهاد العدوّ يعذّبكم في الآخرة عذابا مولما شديدا فقرن اللّه طاعته تعالى بطاعة رسوله و معصيته بمخالفة رسوله هذا هو الناموس الأكبر و الجاه الأوفر.

[لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] يعني بيعة الحديبية و تسمّى بيعة الرضوان لهذه الآية و الشجرة هي شجرة السمرة [فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من صدق النيّة لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بايعهم على القتال و الصبر و الوفاء [فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ و هي الطمأنينة و اللطف المقوّي لقلوبهم [وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] يعني فتح خيبر و قيل: فتح مكّة [وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها] يعني غنائم خيبر فإنّها كانت مشهورة بكثرة الأموال و العقار و قيل: غنائم هجر و هوازن بعد فتح مكّة [وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً] غالبا في أمره [حَكِيماً] في أفعاله، حكم للمسلمين بالغنيمة و لأهل الخيبر بالهزيمة.

ثمّ ذكر سبحانه سائر الغنائم الّتي يأخذونها فيما بعد من الزمان فقال: [وَعَدَكُمُ اللَّهُ

ص: 177

مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها] مع النبيّ و من بعده إلى يوم القيامة [فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني غنيمة خيبر [وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا قصد خيبر و حاصر أهلها همّت قبائل من أسد و غطفان أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فكفّ اللّه أيدهم عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم و قيل: إنّ مالك بن عوف و عيينة بن حصن مع بني أسد و غطفان جاءوا لنصرة اليهود فقذف اللّه الرعب في قلوبهم و انصرفوا.

[وَ لِتَكُونَ الغنيمة الّتي عجّلها لهم [آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ على صدقك حيث وعدهم أن يصيبوها فوقع المخبر على طبق الخبر [وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً] فيكمل اعتقادكم و يقينكم و تفوّضون أموركم إلى صراط اللّه العزيز و هو الثبات على دين الإسلام و تحمّل مشاقّ الطاعة.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): آية 21]

وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21)

. المعنى: ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بعد النبيّ و المؤمنين فتوحا أخر فقال:

[وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها] أي و وعدكم اللّه مغانم اخرى لم تقدروا عليها بعد فيكون «أُخْرى في محلّ النصب، و قيل: المعنى و قرية اخرى لم تقدروا عليها قد أعدّها اللّه لكم و هي مكّة و قيل: هي ما وعد اللّه لهم من بعد ذلك اليوم أو المراد بها فارس و الروم عن ابن عبّاس و جماعة قال: كما أنّ النبيّ بشّرهم كنوز قيصر و كسرى و ما كانت العرب على قتال فارس و الروم بعد و فتح مدائنها بل كانوا خولا لهم حتّى تمكّنوا و قدروا عليها بالإسلام.

[قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها] قال الفرّاء: أحاط اللّه بها لكم حتّى يفتحها عليكم فكأنّه قد حفظها و منعها عن غيركم حتّى تفتحوها و قدّر فتحها لكم و أحاط علمه سبحانه بذلك الأمر [وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً] من فتح القرى و غير ذلك.

و نذكر في هذا المقام نبذا من قصّة خيبر: لمّا رجع صلّى اللّه عليه و آله من الحديبية إلى المدينة مكث بها عشر بن ليلة ثمّ خرج منها إلى خيبر ذكر ابن إسحاق باسناده عن أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر حتّى إذا كنّا قريبا

ص: 178

منها و أشرفنا عليها قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قفوا فوقف الناس فقال: اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن و ربّ الشياطين و ما أضللن إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها أقدموا باسم اللّه.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى خيبر فسرينا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلا شاعرا فجعل يقول:

لا همّ لو لا أنت ما حجيناو لا تصدّقنا و لا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنيناو ثبّت الأقدام إن لاقينا

و أنزلن سكينة عليناإنّا إذا صيح بنا أتينا

و بالصباح عوّلوا علينا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من هذا السابق؟ قالوا: عامر قال: يرحمه اللّه، قال عمر- و هو على جمل-: يا رسول اللّه لو لا أمتعتنا به، و ذلك أنّ رسول اللّه ما استغفر لرجل قطّ يخصّه إلّا استشهد قالوا: فلمّا جدّ الحرب و تصافّ القوم خرج يهوديّ و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحروب أقبلت تلهّب فبرز إليه عامر و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامرشاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر و كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه فرجع ضباب سيفه فأصاب ركبته و الركبة أصل الصلبانة إذا قطعت واقع بين الفخذ و الورك فمات منه قال: فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: كذب أولئك بل اوتي عامر من الأجر مرّتين.

و بالجملة قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ اللّه فتحها علينا و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أعطى اللواء عمر بن الخطّاب و نهض من نهض معه من الناس فلقوا

ص: 179

أهل خيبر فانهزم عمر و أصحابه فرجعوا إلى رسول اللّه يجبّنه أصحاب عمرو يجبّنهم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فلمّا أفاق من وجعه سأل صلّى اللّه عليه و آله ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبره فقال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه.

و روى البخاريّ و مسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن الإسكندرانيّ عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: يوم خيبر لأعطينّ الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله قال: فبات الناس يدركوا بجملتهم أيّهم يعطيها فلمّا أصبح الناس غدوا إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و سلم أين عليّ؟ فقالوا: يا رسول اللّه هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه فأتى به عليه السّلام فبصق رسول اللّه في عينيه و دعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال عليّ عليه السّلام: يا رسول اللّه أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه فو اللّه لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمرا لنعم قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول:

«قد علمت خيبر أنّي مرحب» الأبيات، فبرز له عليّ و هو يقول:

أنا الّذي سمّتني امّي حيدره ضرغام آجام و ليث قسوره

أكيلكم بالصاع كيل السندره فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح على يده عليه السّلام أورده مسلم في الصحيح.

و روى أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول اللّه قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه رسول اللّه فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه يهوديّ فطرح ترسه من يده فتناول عليّ عليه السّلام باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه ثمّ ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا منهم نجهد على أن نحرّك ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

و عن ليث بن أبي سليم عن أبي سليم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال: حدّثني

ص: 180

جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّ عليّا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها و أنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا. قال: و روي من وجه آخر عن جابر ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.

و بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليّ عليه السّلام يلبس في الحرّ و الشتاء القباء المحشوّ الثخين و ما يبالي الحرّ فأتاني أصحابي فقالوا: إنّا رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل رأيت؟ فقلت: و ما هو قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء المحشوّ و ما يبالي الحرّ و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين و ما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئا؟ فقلت: لا فقالوا: فاسأل أباك عن ذلك فإنّه يسمر معه فقال: ما سمعت في ذلك شيئا فدخل على عليّ عليه السّلام فسمر معه ثمّ سأله عن ذلك فقال عليه السّلام: أو ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى قال: أ فما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين دعا أبا بكر فعقد له ثمّ بعثه إلى القوم فانطلق فلقى القوم ثمّ جاء بالناس و قد هزم فقال: بلى: قال: ثمّ بعث عمر فلقى القوم فقاتلهم ثمّ رجع و قد هزم فقال رسول اللّه: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله يفتح اللّه على يده كرّارا غير فرّار فدعاني و أعطاني الراية ثمّ قال:

اللّهمّ اكفه الحرّ و البرد فما وجدت بعد ذلك حرّا و لا بردا و هذا كلّه منقول في كتاب دلائل النبوّة للإمام أبي بكر البيهقيّ.

و بالجملة ثمّ لم يزل رسول اللّه يفتح الحصون حصنا حصنا و يجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيخ و السلالم و كان آخر حصون خيبر و حاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بضع عشرة ليلة.

قال ابن إسحاق لما افتتح حصن ابن أبي الحقيق اتي رسول اللّه بصفيّة بنت حيّ بن أخطب و بأخرى معها فمرّ بهما بلال و هو الّذي جاء بهما على قتلى يهود فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صكّت وجهها و حثت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أغربوا عنّي هذه الشيطانة و أمر بصفيّة فخيّرت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنّه صلّى اللّه عليه و آله قد اصطفاها لنفسه و قال صلّى اللّه عليه و آله لبلال لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى: أ نزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟

ص: 181

و كانت صفيّة قد رأت في المنام و هي عروس بكنانة بن ربيع أبي الحقيق أنّ قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا و لطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها.

و لمّا اتي بها إلى رسول اللّه و بها أثر منها فسألها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما هو؟ فأخبرته و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول اللّه: أنزل فاكلّمك، قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم فنزل و صالح رسول اللّه على حقن دمائهم في حصونهم من المقاتلة و ترك الذرّيّة لهم و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم و يخلّون بين رسول اللّه و بين ما كان لهم من مال و أرض و ما يكون لهم من كلّ شي ء من الصفراء و البيضاء و السلاح و الكراع و على البزّ إلّا ثوب على ظهر الإنسان فقال رسول اللّه: فبرئت ذمّة اللّه و ذمّة رسوله إن كتمتوني شيئا، فصالحوه على ذلك.

فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسألونه أن يحقن دماءهم و يخلّون بينه و بين الأموال ففعل صلّى اللّه عليه و آله و كان ممّن يمشي بين رسول اللّه و بينهم في ذلك محبصة بن مسعود أحد بني حارثة.

فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه أن يعاملهم الأموال على النصف و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول اللّه على النصف على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم و صالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت أموال خيبر فيأ بين المسلمين و فدك خاصّة لرسول اللّه لأنّه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.

و لمّا اطمأنّ رسول اللّه أهدت له زينب بنت الحارث بن سلام و هي بنت أخى مرحب شاة مصيلة و قد سألت أيّ عضو منها أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السمّ و سمّت سائر الشاة ثمّ جاءت بها فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها ولاك منها مضغة و انتهش منها و معه بشر بن البراء بن معروف تناول عظما فانتهش منه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ادفعوا أيدكم فإنّ كتف هذا الشاة يخبرني أنّها مسمومة ثمّ دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيّا فسيخبر و إن كان ملكا استرحنا منه فتجاوز عنها رسول اللّه و مات بشر من أكلته الّتي أكل.

ثمّ دخلت امّ بشر بن البراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعوده في مرضه الّذي توفّي فيه

ص: 182

فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا امّ بشر ما زالت اكلة خبز الّتي أكلت مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري و كان المسلمون يرون أنّ رسول اللّه مات شهيدا مع ما أكرمه اللّه من النبوّة.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)

المعنى [وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] من قريش يوم الحديبية يا معشر المؤمنين [لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ] منهزمين بنصرة اللّه إيّاكم و خذلان اللّه إيّاهم و قيل: المراد بالّذين كفروا من أسد و غطفان الّذين أرادوا نهب ذراريّ المسلمين [ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً] يواليهم و يدافع عنهم و هذا من الغيب و في ذلك إشارة إلى أنّ المعدوم معلوم في علم اللّه.

[سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي هذه سنّتي في أهل طاعتي و أهل معصيتي و عادتي السالفة أنّ كلّ قوم إذا قاتلوا أنبياءهم انهزموا و قتلوا [وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ و عادته [تَبْدِيلًا].

[سورة الفتح (48): الآيات 24 الى 25]

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

النزول: إنّ المشركين بعثوا أربعين رجلا- و قيل: ثمانين رجلا- عام الحديبية ليصيبوا المسلمين هبطوا من جبل التنعيم عند صلاة الفجر و قيل: خرج ثلاثون شابّا عليهم السلاح فدعا عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخذ اللّه بأبصارهم فأخذهم أصحاب رسول اللّه فخلّى صلّى اللّه عليه و آله سبيلهم فنزلت الآية.

المعنى: [وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ أي أيدي كفّار مكّة [وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ] أي في الحديبية لأنّها من مكّة و ذلك أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة من المشركين إلى الحديبية فبعث رسول اللّه خالد بن الوليد (1) على جند فهزمهم حتّى

ص: 183


1- و لا يستقيم هذا، فان خالدا لم يسلم حتى الحديبية و قد مر انه كمن مع مائتي نفر يريدون الغيلة باصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله فانزل اللّه صلاة الخوف و وقاهم شرهم.

أدخلهم حيطان مكّة ثمّ عاد و قيل: إنّ هذا الأمر كان يوم الفتح، و به استشهد أبو حنيفة على أنّ مكّة فتحت عنوة لا صلحا.

[مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فكفّ أيديهم عنكم بالفرار و أيديكم عنهم بالرجوع عنهم و تركهم و قوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ» منّة على المؤمنين بأنّ الظفر كان لكم مع أنّ الظاهر كان يقتضي كون الظفر لهم لكثرة عددهم و لكون البلاد لهم فكان هذا الأمر بعيدا لكونهم لا بدّ لهم الذبّ عن أهليهم و أولادهم و لذا قال تعالى: «بِبَطْنِ مَكَّةَ» و أمّا كفّ المسلمين عنهم أيضا أمر بعيد لأنّهم بعد أن ظفروا بعدوّهم يقتضي أن يستأصلوهم كما هو عادة العدوّ و اللّه تعالى بحسب علمه بالعاقبة كفّ اليدين [وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً] يرى سبحانه من المصلحة.

ثمّ ذكر سبحانه المصلحة و السبب في الصلح فأشار إلى أنّ الكفّ لم يكن لأمر فيهم لأنّهم كفروا و منعوك و المسلمين عن المسجد الحرام و كلّ ذلك يقتضي قتالهم و المنع و الكفّ عن القتال بالصلح في الحديبية ليس بسببهم لأنّهم كفروا و صدّوا و ذلك يقتضي القتال لا الكفّ [وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ و جواب لو لا محذوف تقديره لما كفّ اللّه و إنّما ذلك للرجال المؤمنين و النساء المؤمنات أي رجال غير معلومي الوطء و ما تعرفونهم و أنتم غير عاملين بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين أن تطئوهم أي إذا أقدمتم على القتال توقّعوا بكم [فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم [مَعَرَّةٌ] أي مشقّة و مكروه مثل الكفّارة بقتلهم و وجوب الدية و التأسّف عليهم و الإثم بالتقصير في البحث عنهم و أيضا تعيّر المشركين إيّاكم بأنّكم قتلتم أهل دينكم و جواب لو محذوف أي لوطئتم رقاب المشركين و للزمكم القتال معهم فذكر اللّه أوّلا المقتضي للقتال و هو الكفر و الصدّ ثمّ ذكر ما امتنع لأجله مقتضاه و هو وجود الرجال.

و قوله: [وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ عطف على كلمة «كم» في صدّوكم و قرئ الهدي بالجرّ عن المسجد و معكوفا حال من الهدي أي منعهم و حبسهم الهدي أن يبلغ محلّه الّذي يكون أن ينحر فيه و الحاصل صدّهم الهدي عن محلّ المعهود الّذي هو منى و بالجملة لو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين الكافرين غير عاملين أنتم بهم فيصيبكم بذلك

ص: 184

مكروه لمّا كفّ اللّه أيدكم عنهم.

[لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ بذلك الكفّ المؤدّي إلى الفتح بعد ذلك [مَنْ يَشاءُ] و اللام متعلّق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام تقديره فحال بينكم و بينهم ليدخل اللّه في رحمته من يشاء يعني من أسلم من الكفّار بعد الصلح.

[لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي لو تميّز المؤمنون من الكافرين لعذّبنا الّذين كفروا من أهل مكّة [عَذاباً أَلِيماً] بالسيف و القتل بأيديكم و لكنّ اللّه يدفع بالمؤمنين عن الكفّار فلحرمة اختلاطهم بهم لم يعذّبهم، اعرفوا قدر الصلحاء فإنّ كونهم فيكم مانع عنكم العذاب «وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ» الآية.

قوله تعالى: [سورة الفتح (48): الآيات 26 الى 29]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)

المعنى: [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ الآية] «إِذْ» تتعلّق بقوله: «لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا» أو متعلّق بصدّوكم أو بفعل مقدّر أي اذكر جعل الكفّار حميّة الجاهليّة أي الحميّة الناشئة من جهلهم القديم جعلوا هذه الأنفة و العصبيّة ثابتة في قلوبهم و تلك الحميّة أن لا ينقادوا لأحد.

و ذلك أنّ كفّار مكّة قالوا: قد قتل محمّد و أصحابه آباءنا و إخواننا و يدخلون علينا

ص: 185

في منازلنا فتتحدّث العرب أنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا و اللّات و العزّى لا يدخلونها علينا فهذه الحميّة الجاهليّة الّتي دخلت قلوبهم أو المراد أنفتهم من الإقرار لمحمّد بالنبوّة و الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم حيث أراد صلّى اللّه عليه و آله يكتب كتاب الصلح في الحديبية.

فأنزل اللّه سكينته على رسوله و على المؤمنين و لمّا جعل الكافرون لأنفسهم حميّة الجاهليّة و انوفتها جعل اللّه للمؤمنين الطمأنينة في الإيمان و السكينة و التقوية في قلوبهم فما جعل للكافرين بجعلهم و ما جعل للمؤمنين بجعل اللّه و الفرق بين الفاعلين ما لا يخفى كما أنّ بين المفعولين مباينة تامّة و أين الحميّة الجاهليّة و السكينة الإلهيّة؟

ثمّ تأمّل في حسن العبارة في قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ» عبّر سبحانه بالفاء لا بالواو إشارة إلى أنّ ذلك كالمقابلة تقول: أكرمني فأكرمته للمجازاة و المقابلة و لو قلت: أكرمني و أكرمته لا ينبئ عن هذا المعنى.

قوله: [وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى و هي قول لا إله إلّا اللّه عن ابن عبّاس و جماعة و في العلل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في تفسير لا إله إلّا اللّه: و هي كلمة التقوى يثقل اللّه بها الموازين يوم القيامة و في الكافي عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عنها فقال: هي الإيمان و في المجالس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ عليّا راية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و هو الكلمة الّتي ألزمها المتّقين و قال عليّ عليه السّلام في خطبة: أنا عروة اللّه الوثقى و الكلمة التقوى.

قوله: [وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها] قيل في الآية تقديم و تأخير و التقدير كانوا أهلها و أحقّ بها أي كان المؤمنون أهل تلك الكلمة و أحقّ بها من المشركين و قيل: المعنى و كانوا أحقّ بنزول السكينة عليهم و أهلا لها و قيل: و كان المؤمنون أحقّ بمكّة أن يدخلوها و أهلها و قد يكون حقّ أحقّ من غيره [وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً] فبيّن سبحانه علمه ببواطن سرائرهم و ما ينطوي عليه عقد ضمائرهم.

[لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ و بيانه أنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا و حسبوا أنّهم داخلون مكّة عامهم ذلك فلمّا انصرفوا من الحديبية و لم يدخلوا مكّة قال المنافقون: ما حلّقنا و ما قصّرنا و لا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل اللّه هذه

ص: 186

الآية و أخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه لا الباطل و أنّهم يدخلونه و أقسم على ذلك فقال:

[لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني العام المقبل [إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ استثنى اللّه ممّا يعلم و يستثني الناس في ما لا يعلمون و قيل: إنّ الاستثناء من الدخول و كان بين نزول الآية و الدخول مدّة سنة و قد مات منهم أناس في السنة فيكون تقدير الآية: ليدخلنّ كلّكم إن شاء اللّه لأنّه سبحانه علم أنّ منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها فأدخل الاستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف و قيل: إنّ الاستثناء داخل على الخوف و الأمن و هذه الأقوال الثلاثة للبصريّين. و قيل: إنّ إن في الآية بمعنى إذ هنا أي إذ شاء اللّه ذلك مثل قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» و معناه: إذ كنتم مؤمنين و هذا القول لا يرتضيه البصريّون.

[مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ أي محرمين يحلّق بعضكم رأسه أو يقصّر و يأخذ بعض الشعر و في الآية دلالة على أنّ المحرم عند التحلّل من الإحرام بالخيار إن شاء حلّق و إن شاء قصّر [لا تَخافُونَ مشركا حال من فاعل لتدخلنّ أو من آمنين أو من محلّقين أو من مقصّرين أو استيناف و المعنى لا تخافون بعد ذلك.

[فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا] عطف على «صَدَقَ» أي علم سبحانه عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة أمورا من الحكمة الداعية لتأخّر دخولكم في سنتكم كالسبب لوطوء المؤمنين و المؤمنات أو من المصالح المتجدّدة و المراد بعلمه العلم الفعليّ المتعلّق بأمر حادث بعد ذلك.

[فَجَعَلَ لأجل هذه المصلحة [مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من قبل دخولكم [فَتْحاً قَرِيباً] و المراد إمّا صلح الحديبية و عمرة القضا أو فتح خيبر و قوله تعالى في الآية السابقة: «وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» يدفع توهّم حدوث علمه من قوله: «فَعَلِمَ» لأنّ قوله: «وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» يفيد سبق علمه العامّ لكلّ علم محدث.

[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِ أي إنّ اللّه هو الّذي أرسل رسوله محمّد بالدليل الواضح و قيل: المراد بالهدى القرآن و دين الحقّ أي الإسلام [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على جميع الأديان و قيل: إن تمام ذلك عند خروج القائم فلا يبقى في الأرض

ص: 187

دين سوى دين الإسلام [وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً] بذلك.

ثمّ قال: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ نصّ على اسمه لتزول الشبهة و تمّ الكلام هنا.

ثمّ أثنى على المؤمنين فقال: [وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قيل: بلغ من تشديد المؤمنين على الكفّار أن كانوا يحترزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتصق بثيابهم و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم قال الصادق عليه السّلام: أوحى اللّه إلى نبيّ من أنبيائه قل لمن آمن بي: لا يلبسوا لباس أعدائي و لا يطعموا مطاعم أعدائي و لا يسلكوا ما سلك أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي؛ و كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه و يظهرون لمن خالف دينهم الشدّة و الصلابة و لمن وافقهم في الدين الرحمة و الرأفة و لم يستذلّون و يتسخّرون و على الكافرين أقوياء و متصلّبين.

[تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] من طرق العامّة المراد عليّ و كان يسمع في كلّ ليلة ألف تكبيرة الإحرام من مصلّاه، إخبار من اللّه في كثرة صلاتهم و مداومتهم عليها [يَبْتَغُونَ بذلك [فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً] و يطلبون نعم اللّه و رضاءه [سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ] أي علامتهم يوم القيامة أن يكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا قال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر و قيل: المراد من السيماء الصفرة و النحول في وجوههم و أبدانهم إذا رأيتهم حسبتهم مرضى و ما بهم مرض [ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ] أي إنّ ما ذكر من وصف المؤمنين هو ما وصفوا به في التوراة.

[وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ثمّ ذكر نعتهم في الإنجيل فقال: «وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ» و قيل:

ليس بينهما وقف و المعنى ذلك مثلهم في التوراة و الإنجيل جميعا و وصفوا في الكتابين و مثّلوا [بزرع أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه و نبوغه و إنّ هذه الأفراخ لحقت الأمّهات حتّى صارت مثلها فتهوّت [فَآزَرَهُ أي فقوّى الزرع ذلك الشطء [فَاسْتَغْلَظَ] أي متن و غلظ ذلك الزرع [فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي قام على قصبه و أصوله فاستوى الصغار مع الكبار و تناهى و بلغ الغاية.

[يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يروع ذلك الزرع الزرّاع و الأكرة الّذين زرعوه قال الواحديّ: هذا مثل ضربه اللّه فالزرع محمّد و الشطء المؤمنون حوله و كانوا في ضعف و قلّة كما

ص: 188

يكون الزرع في أوّله دقيقا ثمّ غلظ و قوي و تلاحق فكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضا فاستووا على أثر أمره صلّى اللّه عليه و آله [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ] و إنّما كثّرهم اللّه و قوّاهم ليكونوا غليظا للكافرين بتظاهرهم و اتّفاقهم على الطاعة.

ثمّ قال سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي وعد من أقام على الإيمان و الطاعة [مَغْفِرَةً] أي سترا على ذنوبهم الماضية [وَ أَجْراً عَظِيماً] و ثوابا جزيلا دائما.

ص: 189

سورة الحجرات

اشارة

* (مدنية إلّا آية قوله «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى ) فضلها عن ابيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللّه و من عصاه. الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من قرأ سورة الحجرات في كلّ يوم أو في كلّ ليلة كان زوّار محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 190

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)

وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

النزول: نزل قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلى قوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» في وفد تميم و هم عطارد بن حاجب بن زرارة مع أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس و الزبرقان بن بدر و عمرو بن الأهتم و قيس بن عاصم في وفد عظيم فلمّا دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمّد فآذى ذلك رسول اللّه فخرج إليهم فقالوا: جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا و خطيبنا فقال صلّى اللّه عليه و آله: قد أذنت فقام عطارد بن حاجب- و كان رجل الفصاحة- و قال: الحمد للّه الّذي جعلنا ملوكا الّذي له الفضل علينا و الّذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل بها المعروف و جعلنا أعزّ أهل المشرق و أكثر عددا و عدّة فمن مثلنا في الناس فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا و لو شنئا لأكثرنا من الكلام و لكنّا نستحيي من الإكثار ثمّ جلس.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه فقام ثابت فقال:

الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض خلقة فقضى فيه أمره و وسع كرسيّه علمه و لم يكن شي ء قطّ إلّا من فضله أن جعلنا ملوكا و اصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا و أصدقه حديثا و أفضله حسبا فأنزل اللّه عليه كتابا و ائتمنه على خلقه فكان خيرة اللّه على العالمين ثمّ دعا الناس إلى الإيمان باللّه فآمن به المهاجرون من قومه و ذوي رحمه أكرم

ص: 191

الناس أحسابا و أحسنهم وجوها فكان أوّل الخلق إجابة و استجابة للّه حين دعاه رسول اللّه نحن فنحن أنصار رسول اللّه و ردؤه؛ نقاتل الناس حتّى يؤمنوا فمن آمن باللّه و رسوله منع ماله و دمه و من نكث جاهدناه في اللّه أبدا و كان قتله علينا يسيرا، أقول هذا و استغفر اللّه للمؤمنين و المؤمنات و السّلام عليكم.

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد و أجابه حسّان بن ثابت.

فلمّا فرغ من قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا و شاعره أشعر من شاعرنا و أصواتهم أعلى من أصواتنا فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللّه و أحسن جوائزهم و أسلموا.

أقول: و هذا عمرو بن الأهتم و الزبرقان بن بدر و قيس بن عاصم لمّا و ردوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال الميدانيّ في مجمع الأمثال: إنّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان أن يعرّفه فقال: عمرو إنّه مطاع في عشيرته شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان:

يا رسول اللّه إنّه ليعلم منّي أكثر من هذا و لكنّه حسدني فقال عمرو: أما و اللّه إنّه لزم المروءة ضيق العطن أحمق الوالد لئيم الخال و اللّه يا رسول اللّه ما كذبت في الاولى و لقد صدقت في الآخرة و لكنّي رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت و سخطت فقلت أقبح ما وجدت فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من البيان لسحرا يعني إنّ بعض البيان يعمل السحر و معنى السحر إظهار الباطل في صورة الحقّ و البيان موضوعة اجتماع الفصاحة و البلاغة و ذكاء القلب مع اللسان و إنّما شبّه بالسحر لحدّة أثره في سامعه و سرعة قبول القلب له، انتهى كلام الميدانيّ.

و قيل: إنّ الوافد كانوا أناسا من بني العنبر كان للنبيّ سبيا من ذراريّهم فأقبلوا إلى فدائهم فقدموا المدينة و دخلوا المسجد و عجّلوا أن يخرج إليهم النبيّ فجعلوا يقولون يا محمّد اخرج إلينا عن أبي حمزة الثماليّ عن عكرمة عن ابن عبّاس فنزلت «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: ما سلّت السيوف و لا أقيمت الصفوف في صلاة و لا رجوف و لا جهر بأذان و لا أنزل اللّه يا أيّها الّذين آمنوا حتّى أسلم أبناء الأوس و الخزرج.

ص: 192

قوله: [لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ و المراد من بين يدي اللّه الأمام لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه و المعنى: لا تقطعوا أمرا و لا تعجلوا به دون اللّه و رسوله و لا تفعلوا ما تؤثرونه و تتركوا ما أمركم اللّه و رسوله به و لا تقدّموا أمرا على ما أمركم اللّه به و المفعول و هو أمر محذوف و «قدموا» في الآية بمعنى تقدّم و قيل: معنى الآية لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الّذي أمر اللّه و رسوله به حتّى قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها و قيل:

المعنى: لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول اللّه بل كونوا له تبعا و أخّروا أقوالكم واقعا لكم عن قوله و فعله و قيل: نزلت في قوم ذبحوا الأضحيّة قبل صلاة العيد فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالإعادة و قال ابن عبّاس: نهوا أن يتكلّموا قبل كلامه فالمعنى إذا كنتم جالسين في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوّلا و قيل: معناه لا تسبقوه بقول و لا يفعل حتّى يأمركم به.

و الأصحّ حمل الآية على الجميع فإنّ كلّ شي ء كان خلافا للّه و لرسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي اللّه و رسوله و ذلك ممنوع.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجتنبوا معاصيه [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم [عَلِيمٌ بأعمالكم فيجازيكم بها.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ لأنّ فيه أحد الشيئين إمّا نوع استخفاف به فهو الكفر و إمّا سوء الأدب فهو خلاف تعظيم المأمور به.

[وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي غضّوا أصواتكم و ليّنوا عند مخاطبتكم إيّاه و في مجلسه فإنّه ليس مثلكم إذ يجب توقيره من كلّ وجه و قيل: معناه لا تقولوا له: يا محمّد كما يخاطب بعضكم بعضا بل خاطبوه بالتعظيم و التجليل و قولوا: يا رسول اللّه [أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي كراهة أن تحبط أو لئلّا تحبط أعمالكم و قيل: إنّه في حرف عبد اللّه أبي مسعود فتحبط أعمالكم [وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لا تعلمون أنّكم أحبطتم أعمالكم لأنّهم إذا عظّموه استحقّوا الثواب فلمّا فعلوا على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط أعمالهم.

ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله و يوقّره فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ

ص: 193

رَسُولِ اللَّهِ أصواتهم في مجلسه إجلالا له [أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي أخلصها للتقوى مأخوذ من امتحان الذهب بالنار إذا أذيب حتّى يذهب غشّه و تبقى خالصه و قيل: المعنى: إنّه علم خلوص نيّاتهم لأنّ الإنسان يمتحن الشي ء ليعلم حقيقته و قيل:

معناه عاملهم معاملة المختبر بما تعبّدهم به من هذه العبادة فخلصوا على الاختبار كما يخلص الذهب الجيّد بالنار [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من اللّه لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ على طاعتهم.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ و هم الجفاة من بني تميم لم يعلموا في أيّ حجرة هو صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يطوفون على الحجرات و ينادونه [أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وصفهم اللّه بالجهل و قلّة العقل و الفهم إذ لم يعرفوا قدر النبيّ و لا ما استحقّه من التوقير فهم بمنزلة البهائم.

[وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من أن ينادونك من وراء الحجرات في دينهم فيما يحرزونه من الثواب و في دنياهم باستعمالهم حسن الأدب في مخاطبة الأنبياء ليعدّوا في زمرة العقلاء و قيل: معناه لأطلقت أسراءهم بغير فداء فإنّ رسول اللّه كان سبى قوما من بني العنبر فجاءوا في فدائهم فأعتق نصفهم و فادى النصف فيقول سبحانه: و لو أنّهم صبروا لكنت تعتق كلّهم [وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب منهم.

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

النزول: في قوله: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه

ص: 194

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحا به و كانت بينهم عداوة في الجاهليّة فظنّ الوليد أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّهم منعوا صدقاتهم و كان الأمر بخلافه فغضب النبيّ و همّ أن يغزوهم فنزلت الآية عن ابن عبّاس و مجاهد و جماعة.

و قيل: إنّها نزلت فيمن قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ مارية يأتيها ابن عمّ لها قبطيّ فدعا رسول اللّه عليّا و قال: يا أخي خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاقتله، فقال: يا رسول اللّه أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكّة المحماة أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال عليّ: فأقبلت متوشّحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلمّا عرف أنّي أريده أتى نخلة فرقي إليها و شفر برجليه فإذا هو أجبّ أمسح و ماله ما للرجال قليل و لا كثير و ذلك بعد أن ألقى نفسه عن النخلة، قال عليّ عليه السّلام: فرجعت و أخبرت النبيّ، فقال: الحمد للّه الّذي يصرف عنّا السوء أهل البيت.

و بالجملة قوله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ] أي بخبر عظيم الشأن من فاسق خارج عن طاعة اللّه إلى معصيته [فَتَبَيَّنُوا] صدقه من كذبه و لا تبادروا إلى العمل بخبره. و من قرأ فتثبّتوا فالمعنى توقّفوا فيه و تأنّوا حتّى تثبت حقيقته عندكم [أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ] أي حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم و أموالهم بغير علم بحالهم و ما هم عليه من الطاعة و الإسلام [فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إصابتهم بالخطاء [نادِمِينَ لا يمكنكم تداركه.

و في هذا دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم و لا العمل لأنّ المعنى إن جاءكم من لا تأمنون أن يكون خبره كذبا فتوقّفوا فيه و هذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه في خبره كاذبا.

و قد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث إنّ اللّه أوجب التوقّف في خبر الفاسق فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا و عند أكثر المحقّقين.

ص: 195

[وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فاتّقوا اللّه أن تقولوا باطلا عنده فإنّ اللّه يخبره بذلك فتفضحوا و قيل: معناه و اعلموا بما أخبره اللّه من كذب الوليد أنّ فيكم رسول اللّه فهذه إحدى معجزاته [لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمر لوقعتم في عنت و هلاك يقال: فلان يعنت فلانا أي لطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك و قد أعنت من العظم إذا هيض بعد الجبر و هذا يدلّ على أنّ بعض المؤمنين زيّنوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإيقاع ببني المصطلق و تصديق قول الوليد و تطير هذه الهناة كانت تفرط منهم و الطاعة تراعى فيها الرتبة فلا يكون الإنسان مطيعا لمن دونه في الدين و إنّما يكون مطيعا لمن فوقه.

ثمّ خاطب المؤمنين الّذين لا يكذبون فقال: [وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي جعله أحبّ الأديان إليكم بأن أقام الأدلّة على صحّته مثل وجود النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الكتاب و بما وعد من الثواب عليه [وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ و جعل هذا الدين محبوبا عندكم بالألطاف الداعية إليه.

[وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ] بما وصف من العقاب عليه [وَ الْفُسُوقَ أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي و عن القصد و العدل بظلم نفسه [وَ الْعِصْيانَ أي الامتناع من الانقياد و هو شامل لجميع الذنوب و الفسوق مختصّ بالكبائر [أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي المستثنين بقوله:

«وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ» هم السالكون إلى الطريق السويّ الموصل إلى الحقّ.

و في الآية تلوين و عدول حيث ذكر أوّل الآية على وجه الخطاب و آخرها على المغايبة حيث قال: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» ليعلم أنّ جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح كما قال أبو اللّيث.

[فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً] و هذا الفضل و الإنعام تعليل لقوله: «حَبَّبَ» ذكره للراشدين فإنّ الفضل و الإنعام فعل اللّه و الرشد و إن كان مسبّبا عن فعله و هو التحبّب و التكريه لكنّ السلوك و الرشد إلى طريق الهداية و قبولها مستند إليهم لأنّهم قبلوا هذا السلوك لأنّ الرشد قائم بالقوم و الفضل و الإنعام قائمان به تعالى و ليس المراد من الفاعل

ص: 196

إلّا من قام به الفعل [وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليم بما بينكم من التمايز و التفاضل حكيم يفعل كلّ ما يفعل بموجب المصلحة و الشأن.

[وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] أي فقاتلوا، و أتى بلفظ الجمع باعتبار المعنى فإنّ كلّ طائفة جمع و الطائفة جماعة من الناس لكن دون الفرقة و الفرقة أكثر عددا من الطائفة.

نزلت الآية في الأوس و الخزرج وقع بينهما قتال. و قيل: نزلت في رهط عبد اللّه بن ابيّ بن سلول من الخزرج و رهط عبد اللّه بن رواحة من الأوس و السبب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وقف على عبد اللّه بن ابيّ فراث حمار رسول اللّه- أو بال- فأمسك عبد اللّه أنفه و قال:

إليك عنّي فقال عبد اللّه بن رواحة: لبول حمار رسول اللّه أطيب ريحا منك و من أبيك فغضب قوم عبد اللّه بن ابيّ و أعان ابن رواحة قومه و وقع بينهما ضرب بالحديد و الأيدي و النعال.

و بالجملة إن فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما صاحبه فأصلحوا بينها حتّى يصطلحا و لا دلالة في هذا على أنّهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان و يطلق عليهما هذا الاسم و لا يمتنع أن يفسّق إحدى الطائفتين أو يفسّقا جميعا و طائفتان فاعل فعل محذوف وجوبا لا مبتدء لأنّ حرف الشرط لا يدخل إلّا على الفعل لفظا أو تقديرا و التقدير: و إن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، و اقتتلوا يفسّر الأوّل و حذف الأوّل لأنّ الفعل الثاني بيّنه.

[فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] و الصلاح الحصول على الحالة الحسنة النافعة و الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا و كانوا مؤمنين من أعظم الطاعات و أتمّ القربات.

قال صلّى اللّه عليه و آله: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام و الصلاة و الصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: إصلاح ذات البين و في الحديث المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه و لا يخذله و لا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلّا باذنه و لا يؤذيه بقتار قدره إلّا أن يغرف له منها و لا يشتر لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره و لا يطعمونهم منها.

و لمّا نزلت الآية قرأها رسول اللّه عليهم و أصلح بينهم.

فإن قيل: إنّ عبد اللّه بن ابيّ كان منافقا و الآية في طائفتين من المؤمنين.

ص: 197

فالجواب أنّ طائفة عبد اللّه بن ابيّ ما كانوا كلّهم منافقين و فيهم مؤمنون و الآية تناول المؤمنين.

و قال ابن بحير: القتال لا يكون بالنعال و الأيدي و ذلك كان كذلك و إنّما هذا في المنتظر من الزمان، و هذا بعيد لأنّ المراد من القتل أمر يحصل به زهوق الروح و ذلك يحصل بأيّ شي ء كان على أنّ القتال قد يستعمل مجازا في المضاربة و المحاربة.

[فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما] و تعدّت و استطالت إحدى الطائفتين و كانت مبطلة [عَلَى الْأُخْرى و كانت محقّة [فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي قاتلوا الطائفة الباغية [حَتَّى تَفِي ءَ] أي ترجع [إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى حالة محمودة و هي المصالحة و رفع العداوة و الرجوع إلى حكمه الّذي حكم له و إنّما اطلق الفي ء على الظلّ لرجوعه بعد إزالة الشمس فإنّ الشمس كلّما ازداد ارتفاعا ازداد الظلّ انتساخا و زوالا و ذلك إلى أن توازي الشمس خطّ نصف النهار فإذا زالت عنه و أخذت في الانحطاط أخذ الظلّ في الظهور و الرجوع فلمّا كان الزوال سببا لرجوع ما انتسخ من الظلّ أضيف الظلّ إلى الزوال. فقيل: في ء الزوال، و يطلق أيضا على الغنيمة لرجوعها من الكفّار إلى المسلمين و تلك الأموال و إن لم تكن أوّلا للمسلمين لكنّها لمّا كانت حقّهم لإيمانهم كأنّهم كانت لهم فرجعت إليهم.

و مرّ الأصمعيّ بحيّ من أحياء العرب فصحاء فوجد صبيّا يلعب بالتراب مع الأتراب في الصحراء فقال الأصمعيّ: أين أباك يا صبيّ؟ فنظر إليه الصبيّ و لم يجب ثمّ قال الأصمعيّ: أين أبيك؟ فنظر إليه و لم يجب كالأوّل ثمّ قال: أين أبوك؟ فقال: قد فاء إلى الفيفاء ليطلب الفي ء فإذا فاء الفي ء فاء.

قوله تعالى: [فَإِنْ فاءَتْ أي فإن رجعت عن القتال و أنابت إلى طاعة اللّه [فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما] أي بينها و بين الطائفة الّتي على الإيمان [بِالْعَدْلِ أي بالقسط و السواء و لا يكون شطط بينهما من الأرش و الجنايات [وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.

[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] في الدين يلزم نصرة بعضهم لبعض و الإخوة جمع الأخ و أصله المشارك الآخر في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع و يستعار لكلّ

ص: 198

مشارك لغيره في القبيلة أو في الدين أو في صفة أو في مودّة أو غيره من المناسبات و قال بعض أهل اللّغة: الإخوة جمع الأخ من النسب و الأخوان جمع الأخ من الخلّة و الصداقة و الآية من قبيل التشبيه البليغ من تشبيه الإيمان بالأب في كونه سببا للحياة كالأب [فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و تخصيص الاثنين بالذكر لإثبات لزوم الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولويّة لتضاعف الفساد فيه.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ في رعاية الحقوق و الأوامر [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين أن ترحموا على تقواكم أو لكي ترحموا و عن سالم عن أبيه أنّ رسول اللّه قال: المؤمن أخو المؤمن لا يظلمه و من كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربة من كروب يوم القيامة و من سرّ مسلما يسرّه اللّه يوم القيامة أورده البخاريّ و مسلم في صحيحيهما.

و في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام: يا عليّ سر ميلا عد مريضا و سر ميلين شيّع جنازة سر ثلاثة أميال أجب دعوة سر أربعة أميال زر أخا في اللّه، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستّة أميال انصر المظلوم و عليك بالاستغفار.

قوله تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 11 الى 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

قوله: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ الآية قال ابن عبّاس: نزلت الآية في ثابت بن قيس بن

ص: 199

شماس كان في اذنه وقر فكان إذا أتى مجلس رسول اللّه و قد سبقوه بالمجلس و وسّعوا له حتّى يجلس في جنبه صلّى اللّه عليه و آله ليسمع ما يقول فأقبل ذات يوم و قد فاتته ركعة عن صلاة الفجر فلمّا انصرف النبيّ أخذ أصحابه مجالسهم و ضاق كلّ رجل بمجلسه فلا يكاد يوسّع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء لا يجد مجلسا فيقوم على رجليه فلمّا فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول اللّه يتخطّى رقاب الناس و هو يقول: تفسّحوا تفسّحوا فجعلوا يتفسّحون حتّى انتهى إلى رسول اللّه بينه و بينه رجل فقال له: تفسّح فلم يفصل الرجل فقال ثابت: من هذا فقال له الرجل: أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد امّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة فخجل الرجل و نكس رأسه فنزلت الآية.

و روي أنّ قوله: [وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ] نزل في نساء النبيّ عيّرن أمّ سلمة بالقصر أو أنّ عائشة قالت: إنّ امّ سلمة جميلة لو لا أنّها قصيرة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما بعد فتح مكّة فكان المسلمون إذا رأوه قالوا: هذا ابن فرعون هذه الامّة فشكا ذلك للنبيّ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات فنزلت الآية، ثمّ صارت الآية عامّة في الرجال و النساء فلا يجوز لأحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق اللّه. و عن ابن مسعود: إنّي لأخشى لو سخرت من كلب أن احوّل كلبا و ذلك لأنّ المؤمن ينبغي أن ينظر إلى الخالق فإنّه ضيّعه لا إلى المخلوق. قيل للقمان: ما أقبح وجهك؟ فقال: تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟

و قيل: في قوله: «وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ» نزل في نساء النبيّ سخرن من امّ سلمة و كانت لابسة ثوب أبيض و سدلت طرفه خلفها فكانت تجرّه فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب فهذا كانت سخر منها.

[عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ أي يمكن أن تكون المطعونة بالعيب و السخريّة خيرا من العائبة عند اللّه [وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم بعضا لأنّ المؤمنين كنفس واحدة. و قيل: اللّمز العيب في المشهد و الهمز العيب في المغيب أو اللمز يكون باللّسان و بالعين و بالإشارة و الهمز لا يكون إلّا باللّسان. و قيل: معنى «وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»

ص: 200

أي لا يلعن بعضكم بعضا و لا تنابزوا بالألقاب، و المراد من اللقب لقب إذا دعي به الإنسان يكرهه، أمّا إذا لا يكرهه مثل الفقيه فلا بأس. و قيل: هو قول التعيّر مثل أن يعمل إنسان شيئا من القبيح ثمّ يتوب منه فيعيّر بما سلف منه عن ابن عبّاس.

و روي أنّ صفيّة بنت حيّ بن أخطب جاءت إلى النبيّ تبكي فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما وراك؟

فقالت: إنّ عائشة تعيّرني و تقول: يهوديّة بنت يهوديّين فقال صلّى اللّه عليه و آله: هلّا قلت: أبي هارون و عمّي موسى و زوجي محمّد؟ فنزلت الآية عن ابن عبّاس.

و بالجملة النبز القذف باللقب و الحاصل أنّه لا تلقّبوا و لا يدعو بعضكم بعضا بألقاب قبيحة [بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الاسم اسم الفسوق بأن يقول له: يا يهوديّ مثلا و قد آمن، أو المعنى بئس الشي ء اكتساب اسم الفسوق لنسبة العيب إلى المؤمنين.

قال صاحب روح البيان: الاسم في الآية ليس ما يقابل اللّقب و الكنية و لا مقابل الفعل و الحرف بل بمعنى الذكر المرتفع لأنّه من السموّ و المعنى في الآية بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم في الإيمان.

و قيل: المعنى بئس الاسم اسم يخرجهم عن الإيمان و يدخلهم في الفسوق مع أنّهم دخلوا في الإيمان و الطّاعة و هذا المعنى يطابق ما ذكرنا في نزول الآية في حقّ صفيّة.

[وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ من التنابز و المعاصي و يرجع إلى طاعة اللّه [فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ نفوسهم بفعل ما يستحقّون به العقاب و في الآية دلالة على أنّ الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمة.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ قيل: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءا فأمّا أهل السوء و الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل ما ظهر منهم و قيل: إذا ظنّ بأخيه المسلم سوءا لا بأس به ما لم يتكلّم به فإن تكلّم بذلك الظنّ و أبراه أثم و هو قوله: [إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ يعني ما أعلنه ممّا ظنّ بأخيه و هذا القول عن المقاتلين يعني مقاتل بن حسّان و مقاتل بن سليمان. و قيل: إنّما قال تعالى: «كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ» لأنّ من جملته ما

ص: 201

يجب العمل به و لا يجوز مخالفته و إنّما يكون إثما إذا عمل بظنّه و له طريق إلى العلم بدلا منه فهذا ظنّ محرّم لا يجوز فعله و أمّا ما لا سبيل إلى دفعه بالعلم بدلا منه فليس بإثم و معناه يجب على المؤمن أن يحسن الظنّ و لا بسيئة في شي ء يجد له تأويلا جميلا و إن كان ظاهرة قبيحا [وَ لا تَجَسَّسُوا] أي لا تتّبعوا عثرات المؤمنين قال أبو عبيدة: التجسّس و التحسّس واحد في المعنى و قرئ في الشواذّ بالمهملة قال الأخفش: و ليس يبعد أحدهما عن الآخر إلّا أنّ بالجيم عمّا يكتم و منه الجاسوس و بالحاء البحث عمّا تعرفه و حاصل المعنى أنّه لا تتّبعوا عيوب المسلمين العيوب الّتي هم ستروها و لا تبحثوا عمّا خفي.

[وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] و الغيبة ذكر العيب بظهر القلب و في الحديث إذا ذكرت الرجل بما فيه ممّا يكرهه فقد اغتبته و إذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه و عن جابر قال:

قال رسول اللّه: إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا ثمّ قال: إنّ الرجل يزني ثمّ يتوب فيتوب اللّه عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه.

و نزلت الآية في رجلين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اغتابا رفيقهما و هو سلمان الفارسيّ بعثاه إلى رسول اللّه ليأتي لهما بطعام فبعثه صلّى اللّه عليه و آله إلى اسامة بن زيد و كان خازن رسول اللّه على رحله فقال اسامة: ما عندي شي ء فعاد إليهما فقالا: بخل اسامة و قالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثمّ انطلقا يتجسّسان عند اسامة ما أمر لهما به رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما- و العرب تسمّى الأسود أخضر و الأخضر أسود و خضرة اللحم من قبيل الأوّل- قالا: يا رسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحما قال:

ظللتم تأكلون لحم سلمان و اسامة فنزلت الآية.

و عن أبي قلابة قال: إنّ عمر بن الخطّاب: حدّث أنّ أبا محجن الثقفيّ يشرب الخمر في بيته هو و أصحابه فانطلق عمر حتّى دخل عليه فإذا ليس عنده إلّا رجل واحد فقال أبو المحجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك قد نهاك اللّه عن التجسّس فقال عمر: ما يقول هذا؟ قال زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر و تركه.

و خرج عمر بن الخطّاب أيضا و معه عبد الرحمن بن عوف فتبيّنت لهما نار فأتيا و

ص: 202

استأذن ففتح لهما الباب فدخلا و إذا رجل و امرأة تغنّي و على يد الرجل قدح فقال عمر:

من هذه منك؟ قال: امرأتي قال عمر: و ما في هذا القدح؟ قال: ماء، فقال: للمرأة ما الّذي تغنّين؟ قالت: أقول:

تطاول هذا الليل و اسودّ جانبه و أرّقني ألّا حبيب الاعبه

فو اللّه لو لا خشية اللّه و التقى لزعزع من هذا السرير جوانبه

و لكنّ عقلي و الحياء يكفّني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثمّ قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال اللّه: و لا تجسّسوا، فقال عمر: صدقت فانصرف.

[أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً] و التأويل أنّ ذكرك بالسوء أخاك المؤمن إذا كان غائبا بمنزلة أن تأكل لحمه و هو ميّت لا يحسّ بذلك [فَكَرِهْتُمُوهُ فكما كرهتم ذلك فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا و الغيبة بكسر الغين اسم من الاغتياب و فتح الغين غلط إذ هو بالفتح مصدر بمعنى الغيبوبة.

و حاصل المعنى لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيابه و خلفه و الاغتياب هو أن يتكلّم إنسان خلف إنسان أمرا مستورا يسوؤه و يكون فيه و يكون عيبا و التشبيه بأكل لحم الميّت لأنّ لحم الميّت هو المتناهي في كراهة النفوس عن أكله و الطباع و كذلك كما أن الميّت لا يؤلمه قطع لحمه و أكله كذلك المغتاب لا اطّلاع له بمن اغتابه لكن إذا سمعه و اطّلع عليه تألّم قلبه جدّا من قرض عرضه كما يتألّم من قرض لحمه بل الغالب عنده قرض لحمه أهون من قرض عرضه. و في قوله: «فَكَرِهْتُمُوهُ» الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل فكأن يقول:

و حيث كان الأمر كذلك فقد كرهتموه و تحقّق كراهتكم لأكل لحم الميّت فكذلك فليتحقّق نظيره الّذي هو الاغتياب.

[وَ اتَّقُوا اللَّهَ معاصيه [إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل التوبة رحيم بالمؤمنين.

[يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى زجر اللّه سبحانه عن التفاخر بالأنساب نزلت الآية حين أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بلالا ليؤذّن بعد فتح مكّة فعلا ظهر الكعبة و أذّن فقال عتاب بن أسيد و كان من الطلقاء: الحمد للّه الّذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم

ص: 203

و قال الحارث بن هشام: أما وجد رسول اللّه سوى هذا الغراب؟ يعنون بلالا.

و قيل: الآية نزلت في أبي هند حين أمر رسول اللّه بني بياضة أن يزوّجوه امرأة منهم فقالوا: يا رسول اللّه نتزوّج بناتنا موالينا؟ فنزلت و في الآية إشارة إلى أنّ الكفاءة بالإيمان و التقوى خلقناكم جميعا من آدم و حوّاء.

[وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ و الشعب بفتح العين الجمع العظيم المنتسبون إلى أهل واحد و هو يجمع القبائل و القبيلة تجمع العمائر و العمارة بالكسر تجمع البطون و البطون تجمع الأفخاذ و الفخذ تجمع الفصائل و الفصيلة تجمع العشائر و ليس بعد العشيرة من يوصف به مثالها فخزيمة شعب و كنانة قبيلة و قريش عمارة و قصيّ بطن و هاشم و العبّاس فصيلة و سمّيت شعوبا لأنّ القبائل تنشعب منها كتشعّب أغصان الشجرة و سمّيت القبائل لأنّها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد و قيل: الشعوب بطون العجم و القبائل بطون العرب و الأسباط من بني إسرائيل و الشعوب من قحطان و القبائل من عدنان.

[لِتَعارَفُوا] أي جعلناكم كذلك لتتعارفوا، و حذفت إحدى التاءين أي ليعرف بعضكم بعضا بنسبه و أبيه و قومه و لو لا ذلك لفسدت المعاملات و خربت الدنيا و يتعزّى أحد إلى غير آبائه و قد جعلنا خلقتكم كذلك لهذه المصلحة لا للتفاخر بالآباء و القبائل و بالتفاوت و التفاضل و لو لم يكن هذا قرشيّا و ذاك تميميّا لم يتميّز بينهما و ذلك فيه فساد عظيم.

[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فالأكرم عنده سبحانه هو الأتقى و إن كان عبدا حبشيّا مثل بلال أ لا ترى إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر أي ليس الفخر لي بالسيادة بل بالعبوديّة فإنّها شرف أيّ شرف و كفى شرفا تقديم العبد على الرسول في التشهّد [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم و بأعمالكم [خَبِيرٌ] ببواطن أحوالكم.

و لمّا أبطل سبحانه اعتبار النسب مع أنّه ثابت مستمرّ غير مقدور التحصيل فبطلان اعتبار غيره كالمال و الجاه بطريق أولى فغير المتّقي و المؤمن لا قدر له و إن كان قرشيّ النسب و قارون النشب إنّ أكثركم عملا و أتقاكم لمعاصيه أكرم عند اللّه.

ص: 204

و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: يقول اللّه سبحانه يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه و رفعتم أنسابكم فاليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم أين المتّقون؟ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم.

أبو بكر البيهقيّ بالإسناد عن عباية بن ربعيّ عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسما و ذلك قوله. و أصحاب اليمين و الشمال فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني خيرها ثلاثا و ذلك قوله: «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ...، وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ...، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» فأنا من السابقين و أنا خير السابقين ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة و ذلك قوله:

«وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية فإنّي أتقى ولد آدم و لا فخر و أكرمهم على اللّه ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا و ذلك قوله عزّ و جلّ: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» و أهل بيتي مطهّرون من الذنوب.

[قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا] الأعراب أهل البادية نزلت الآية في نفر من بني أسد قدموا المدينة في ستّة حدب فأظهروا الشهادتين و قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواجلها و أتيناك بالعيال و الذراريّ و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان و و يظهرون الإيمان لأخذ الصدقة و لم يكونوا مؤمنين في السرّ فأمره اللّه أن يخبرهم بذلك ليكون آية و معجزة له صلّى اللّه عليه و آله.

[قُلْ ردّا لهم: [لَمْ تُؤْمِنُوا] إذ الإيمان هو التصديق بالقلب و لم يحصل لكم ذلك [وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا] أي دخلنا في السلم مثل أصبح و أمسى أي قولوا: دخلنا في السلم و الصلح مخافة أنفسنا أو الطمع [وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي قلوبكم في حال غير موطّأة للإيمان، و كلمة ما في «وَ لَمَّا» فيها معنى التوقّع مشعر بأنّ هؤلاء يؤمنون فيما بعد.

[وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص و ترك النفاق [لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً] أي لا ينقصكم من أعمالكم و اجورها و في مادّة «لا يَلِتْكُمْ» أقوال: يقال: من ألته السلطان حقّه أشدّ الألت و هي لغة غطفان و أهل الحجاز و بنو أسد يقولون: من لاته ليتا و قرئ

ص: 205

بالقرآن في اللّغتين لا يلتكم و لا يألتكم هكذا قال الزمخشريّ: قال رؤبة:

و ليلة ذات ندى سربت و لم يلتني عن هواها ليت

ألاتني عن حاجتي أي صرفني عنها و قرأ لا يألتكم في الآية و حجّته قوله تعالى: «وَ ما أَلَتْناهُمْ» و من قرأ يلتكم جعل مادّة الكلمة من لات يليت.

[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] لما فرط من المطيعين [رَحِيمٌ بالتفضّل عليهم.

قوله تعالى: [سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 18]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

أي إنّ المؤمنين الّذين ثبتوا على الإيمان و لم يقع في نفوسهم شكّ و ترديد فيما آمنوا به و فيه إشارة إلى أنّ فيهم ما يوجب نفي الإيمان عنهم و هو الارتياب مطاوع راب إذا أوقعه المريب في الشكّ في الخبر مع التهمة للمخبر فظهر الفرق بهذا بين الريب و الشكّ فإنّ الشكّ تردّد بين نقيضين لا تهمة فيه، و في كلمة «ثُمَّ» إشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل و فيما يستقبل كما في قوله: «ثُمَّ اسْتَقامُوا»*.

قوله: [وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعتهم على تكثير فنونها من العبادات البدنيّة المحضة و الماليّة و المشتملة عليهما معا كالحجّ و الجهاد و الأمر بالمعروف [أُولئِكَ الموصوفون بهذه الأوصاف الجميلة [هُمُ الصَّادِقُونَ في دعوى الإيمان لا غيرهم و في البيان قصر أفراد و تكذيب لأعراب بني أسد و لمّا نزلت الآيتان أتوا رسول اللّه يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان فأنزل اللّه تعالى.

[قُلْ يا محمّد: [أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أ تخبرون اللّه بالدين الّذي أنتم عليه و هو عالم بذلك و هو استفهام توبيخ أي كيف تعلّمون اللّه بدينكم؟ [وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما

ص: 206

فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّه العالم لنفسه و لا يحتاج إلى علم يعلّم به كما أنّه إذا كان قديما موجودا في الأزل لنفسه استغنى عن موجد أوجده.

قوله تعالى: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا] يجعلون المنّة عليك بإسلامهم [قُلْ يا محمّد: [لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ و أرشدكم إليه بأن أزاح العلل و نصب لكم الأدلّة عليه و وفّقكم له [إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعائكم الإيمان.

[إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من طاعة و معصية و إيمان و كفر. تمّت السورة.

قال النبيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فضّلني ربّي بالمفصّل من القرآن و المفصّل ما هو بعد الحواميم إلى آخر القرآن و سمّيت مفصّلا لكثرة المفصولات فيها بسطر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»* لأنّها سور قصار يقرب فصل كلّ سورة من الاخرى فكثر التفصيل فيها.

و أوّل من نقل الخطّ الكوفيّ إلى الخطّ المعروف بالنسخ عليّ بن مقلة وزير المقتدر باللّه و القادر باللّه العبّاسيّ ثمّ جاء ابن البوّاب و زاد في تحسين الخطّ النسخ و هذّب طريقة ابن مقلة و كساها بهجة و حسنا ثمّ ياقوت المستعصميّ المعروف و ختم فنّ الخطّ و أكمله بحيث لا مزيد عليه إلى الآن.

قيل: أوّل من تكلّم بالعربيّة أو خطّ بالعربيّة يعرب بن قحطان و كان يتكلّم بالعربيّة و السريانيّة. و قيل:

إسماعيل بن إبراهيم الخليل

ص: 207

سورة ق

اشارة

السورة مكّيّة غير قوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» إلى قوله: «وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ». من قرأ سورة ق هوّن اللّه سكرات الموت.

عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و من أدمن في فرائضه و نوافله وسّع اللّه رزقه و أعطاه كتابه بيمينه و حاسبه حسابا يسيرا. لمّا ختم اللّه تلك السورة بذكر الإيمان و شرائطه للعبيد افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به من القرآن و أدلّة التوحيد.

ص: 208

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

[ق أي هذه السورة مسمّاة بق، قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء اللّه. و قال محمّد بن كعب: هو مفتاح بعض أسماء اللّه مثل القادر و القدير و القديم و القاهر و القريب و القابض و القاضي و القدّوس و القيّوم فيكون التأويل: أنا القادر. و قيل: ق اسم من أسماء القرآن.

و قيل: قسم أقسم اللّه به أي بحقّ القائم.

و قيل: معناه قل يا محمّد: و القرآن المجيد.

و قيل: المعنى قف يا محمّد على أداء الرسالة و عند أمرنا و نهينا و العرب تقتصر من كلمة على حرف مثل قول الشاعر:

«قلت لها: قفي، فقالت: ق» أي وقفت.

و قيل: معناه قضي الأمر و ما هو كائن.

و قيل: المراد بحقّ القلم الّذي يرقم القرآن في اللوح المحفوظ و في الصفائح. قال ابن عطا: أقسم سبحانه بقوّة قلب حبيبه حيث تحمّل الخطاب و لم يؤثّر ذلك فيه لعلوّ مقامه بخلاف موسى فإنّه خرّ صعقا في الطور من سطوة تجلّي النور.

و قيل: ق جبل محيط بالأرض كإحاطة العين بسوادها و هو أعظم جبال الدنيا خلقه اللّه من زمرّدة خضراء منه خضرة السماء و السماء ملتزقة به فليست مدينة من المدائن و قرية من القرى إلّا و فيها عرق من عروقه و ملك موكّل به واضع يده على تلك العروق فإذا أراد بقوم هلاكا أوحى إلى ذلك الملك فحرّك عرقا فخسف بأهلها. قال أبيّ بن كعب الزلزلة لا تخرج إلّا من ثلاثة إمّا لنظر اللّه بالهيبة إلى الأرض و إمّا لكثرة الذنوب من بني آدم

ص: 209

و إمّا لتحريك الحوت الّذي عليه الأرضون السبع تأديبا و تنبيها للخلق. قيل: قال ذو القرنين: يا قاف أخبرني بشي ء من عظمة اللّه فقال: إنّ شأن ربّنا لعظيم و إنّ من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا لو لا ذلك لاحترقت من نار جهنّم.

قيل: لمّا خلق الأرض على الماء تحرّكت و مالت فخلق اللّه من الأبخرة الغليظة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال حتّى تسكن فسكن ميل الأرض و ذهبت تلك الحركة و طوّق سبحانه الأرض بجبل محيط بها و هو من صخرة خضراء و طوّق الجبل بحيّة عظيمة رأسها بذنبها.

و في الخبر إنّ لقاف في السماء سبع شعب لكلّ سماء شعبة منها فالسماوات السبع مقبّبة على شعبة و خلق اللّه ستّة جبال من وراء قاف و قاف سابعها و هي موتودة بأطراف الأرض على الصخرة و قاف وراءها على الهواء و كذلك بحر محيط بجبل قاف و حوله جبل قاف آخر و السماء الثانية مقبّبة عليه و كذلك من وراء ذلك بحار محدقات بجبل قاف على عدد السماوات السبع و إنّ كلّ سماء منها مقبّبة عليه و إنّ في هذه البحار و في سواحلها و بينها المحدقة بها ملائكة لا يحصى عددهم إلّا اللّه و يعبدون اللّه حقّ عبادته و ما وراء جبل قاف فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا.

قال بعض المفسّرين: إنّ للّه سبحانه من وراء جبل قاف أرضا بيضاء كالفضّة المجلاة طولها مسيرة أربعين يوما للشمس و يسير الشمس في طرفة عين مسافة ثلاثمائة و ستّون ضعف وجه الأرض و في كلّ هذه الأمكنة المذكورة ملائكة شاخصون إلى العرش لا يعرف الملك منهم من يكون إلى جانبه من الملك من هيبة اللّه تعالى و لا يعرفون ما آدم و ما إبليس هكذا حالهم إلى يوم القيامة و يوم القيامة تبدّل أرضنا هذه بتلك الأرض. روي أنّ اللّه تعالى خلق ثمانية آلاف عالم الدنيا منها عالم واحد و إنّ اللّه تعالى خلق في الأرض ألف امّة سوى الجنّ و الإنس ستّمائة في البحر و أربعمائة في البرّ و كلّ مستفيض منه تعالى جلّ جلاله.

رجعنا إلى التفسير؛ جواب القسم في قوله: «ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» محذوف و يدلّ عليه «أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً» و تقديره: إنّكم مبعوثون فقالوا: أ نبعث إذا متنا و صرنا

ص: 210

ترابا و قيل: جواب القسم محذوف لكن تقديره و القرآن الكريم المعظّم الّذي هو ذو الشرف الواسع إنّ محمّدا رسول اللّه و يدلّ على هذا المحذوف قوله:

[بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ و حسبوا أنّه لا يوحى إلّا إلى ملك و يعجبون أن جاءهم من جنسهم منذر و حاصل المعنى أنّه أقسم بجبل قاف الّذي به بقاء دنياكم و بالقرآن المجيد الّذي به بقاء دينكم أنّ فراعنة قريش ما كذّبوك ببرهان بل عجبوا لهذا الأمر أنّك منهم و أنّهم يحيون بعد البعث.

[فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ و الحالة أنّ إنكارهم لنبوّته صلّى اللّه عليه و آله عجيب لأنّهم من فرط جهلهم عجبوا أن يكون الرسول بشرا و أوجبوا أن يكون الإله حجرا.

[أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً] أي أحين نموت فتفارق أرواحنا أشباحنا و نصير ترابا لا فرق بيننا و بين تراب الأرض نرجع و نبعث كما ينطق به النذير و الهمزة للإنكار أي لا نرجع [ذلِكَ إشارة إلى محلّ النزاع أي هذا الخبر [رَجْعٌ و ردّ [بَعِيدٌ] جدّا عن الأوهام و الصدق و غير كائن.

[قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ردّ لاستبعادهم أي نحن على رجعهم في غاية القدرة فإنّ من عمّ علمه إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى و تأكل من لحومهم و عظامهم كيف يستعبد رجعه إيّاهم أحياء و عبّر بمن لأنّ الأرض لا تأكل على ما قيل عجب الذنب فإنّه كالبذر لأجسام بني آدم و في الحديث كلّ ابن آدم يبلى إلّا عجب الذنب فمنه خلق و فيه تركب و العجب بفتح العين و سكون الجيم أصل الذنب و مؤخّر كلّ شي ء و هو هاهنا عظم لا جوف له قدر ذرّة أو خردلة يبقى من البدن و لا يبلى.

و قال الرقرائيّ: المراد من العجب جوهر فرد و جزء واحد و هو صورة هيولى النفس الحيوانيّة القابلة لأجزاء العناصر فإذا أراد اللّه الإعادة ركّب على ذلك العظم سائر البدن و أحياه غير أبدان الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء فإنّها لا تبلى على ما نصّ به الأخبار الصحيحة و حفظ ما تنقص الأرض إنّما هو ليعود بعينه يوم القيامة و لو كانت غيرها فكيف كان تشهد الجلود و الأيدي و الأرجل على الكفرة و من قال غيرها فقد خالف كتاب اللّه و الحديث.

ص: 211

قال أهل الكلام: إنّ اللّه يجمع الأجزاء الأصليّة الّتي حصل وجود الإنسان معها حال التولّد و هي العناصر الأربعة و يعيد روحه إليه سواء سمّي ذلك الجمع إعادة المعدوم بعينه أولم يسمّ.

فإن قيل: إنّ البدن الثاني ليس هو الأوّل لما ورد في الحديث من أنّ أهل الجنّة جرد مرد و إنّ الجهنّميّ ضرسه مثل جبل أحد فيلزم التناسخ و هو تعلّق الروح ببدن إنسان آخر و هو باطل.

قلنا: إنّما يلزم إن لم يكن البدن الثاني مخلوقا من الأجزاء الأصليّة للبدن الأوّل فلا يلزم التناسخ جدّا و التغاير في الوصف لا يوجب التغاير في الذات كما أنّ الخضر عليه السّلام يصير شابّا على كلّ مائة و عشرين سنة مع أنّ البدن هو البدن الأوّل قال ابن عبّاس: إنّ إبليس إذا مرّت عليه الدهور و حصل له الهرم عاد إلى ثلاثين سنة.

قوله تعالى: [وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ] أي حافظ لعددهم و أسمائهم و أشخاصهم و هو اللوح المحفوظ لا يشذّ عنه و محفوظ من النسيان و الدروس.

ثمّ أخبر سبحانه بتكذيبهم فقال: [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ و هو القرآن أو الرسول [فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط لأنّهم كانوا يقولون مجنون و تارة قالوا شاعر و تحيّروا في أمره لجهلهم و لم يثبتوا على أمر واحد و كذلك في القرآن تارة قالوا إنّه سحر و رجز و مرّة قالوا مفترى قال الحسن: ما ترك قوم الحقّ إلّا مرج أمرهم و اختلط.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 6 الى 11]

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)

رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

ثمّ أقام سبحانه الدلائل على كونه قادرا على البعث أي أ فلم يتفكّروا في بناء السماء مع عظمها [كَيْفَ بَنَيْناها] بغير علاقة و لا عماد [فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها متى ما نظروا [وَ زَيَّنَّاها] بما فيها من الكواكب على نظام بديع [وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ و شقوق و

ص: 212

اختلاف و صدوع حتّى يختلف النظم.

و الفرجة بضمّ الفاء معناها الشقّ و الصدع بالفتح التفصّي من الهمّ قال الشاعر:

ربّما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحلّ العقال

و استعير الفرج للشعر و في عهد الحجّاج أتى ولّيتك الفرجين يعني الخراسان و سيستان و المراد موضع المخافة و المراد من قوله: «ما لَها مِنْ فُرُوجٍ» سلامتها من العيب لملاستها و هذا لا ينافي وجود الأبواب و المصاعد و سمّي القباء المشقوق فرجا.

[وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها] أبسطناها و فرشناها على وجه الماء مسيرة خمسمائة عام من الكعبة و هذا دليل على أنّ الأرض مبسوطة و ليست على شكل الكرة و لو أنّه يمكن لأنّه لا منافاة بين بساطتها و كرويّتها لسعتها.

[وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا راسيات في الأرض ثوابت إذ لو لم تكن لكانت مضطربة مائلة إلى الجهات المختلفة كما كانت قبل إذ روي أنّ اللّه لمّا خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت و قد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة ممّ خلقت و التعبير عن الجبال بالإرساء للإيذان بأنّ إلقاءها لإثبات الأرض بها و التأويل إلى رجال اللّه فإنّهم أوتاد الأرض و العمد المعنونة للسماء فإذا انقرضوا و لم يوجد في الأرض من يقول: اللّه اللّه فسدت السماوات و الأرض.

[وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كلّ صنف من النباتات ما هو حسن طيّب من الثمار و الأشجار و البهجة حسن اللون و ظهور السرور فيه.

[تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى علّتان للأفعال المذكورة معنى أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا و تذكيرا [لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربّه بالنظر و الاستدلال في بدائع صنائعه و التبصرة معرفة منن اللّه على العبد و الذكرى عدّها على نفسه في كلّ حال ليشتغل بالشكر و لا يذهل عنه.

[وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً] أي كثير البركة و الدوام و المنافع لحياة الأناسيّ و الحيوان و غيرها [فَأَنْبَتْنا بِهِ بذلك الماء [جَنَّاتٍ كثيرة أي أشجار ذوات أثمار فذكر المحلّ و أراد الحالّ [وَ حَبَّ الْحَصِيدِ] و الحصيد المحصود بحذف الموصول نحو مسجد

ص: 213

الجامع لئلّا يلزم إضافة الشي ء إلى نفسه و المعنى و حبّ الزرع الّذي شأنه أن يحصد من البرّ و الشعير و أمثالهما ممّا يقتات به.

[وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ] أي طوالا و منه سبق فلان على أصحابه علاهم و يجوز أن يكون معناه حوامل من قولهم أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» أي منضود بعضه فوق بعض و الطلع ما يطلع من النخلة و هو الكمّ قبل أن ينشقّ و ما في الطلع شي ء أبيض يشبهون الشعراء الأسنان به و رائحته كالمنيّ و قشر كلّ ثمرة و غلافه يسمّى الكفرّى بضمّ الكاف و الفاء و تشديد الراء [رِزْقاً لِلْعِبادِ] أي لرزقهم.

[وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء [بَلْدَةً مَيْتاً] و تذكير ميتا باعتبار البلد و المكان أي أرضا جدبة لا نماء فيها [كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور و حاصل المعنى كما أنزلنا من السماء الماء فأخرجنا به النبات من الأرض و أحيينا البلدة الميّت رزقا للعباد يكون خروجكم.

العيّاشيّ عن الصادق عليه السّلام قال: أ ترى اللّه أعطى من أعطى من كرامته عليه و منع من منع من هوان به عليه لا و لكنّ المال مال اللّه يضعه عند الرجل ودائع و جوّز لهم أن يأكلوا قصدا و يشربوا قصدا و يلبسوا قصدا و ينكحوا قصدا و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلمّوا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و ينكح و يركب حلالا و من عدا ذلك كان عليه حراما ثمّ تلا «وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»* أ ترى اللّه ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف و يجزيه فرس بمائة درهم و يشتري جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا «وَ لا تُسْرِفُوا* إنّ اللّه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»*.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 12 الى 20]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)

ص: 214

ذكر سبحانه الأمم المكذّبة تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديدا للكفّار فقال:

[كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكّة [قَوْمُ نُوحٍ و كانوا بنو شيث و بنو قابيل [وَ أَصْحابُ الرَّسِ أيضا كذّبوا.

قيل: كانت الرسّ بئرا بعدن لامّة من بقايا ثمود و كان لهم ملك عادل حسن السيرة يقال له العليس- كزبير- و كانت البئر تسقي المدينة كلّها و باديتها و جميع ما فيها من الدوابّ و الغنم و البقر و غير ذلك و كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها و رجال كثيرون موكّلون بها و حياض كثيرة تملأ للناس و آخر للدوابّ و آخر للغنم و البقر و كذلك و لم يكن لهم ماء غيره فطال عمر الملك فلمّا جاءه الموت طلي جسده بدهن ليبقى صورته و لا تتغيّر و كذلك كانوا يفعلون بالشرفاء.

و بعد أن مات الملك شقّ ذلك عليهم و رأوا أنّ أمرهم قد فسد و ضجّوا بالبكاء و اغتنمها الشيطان فدخل في جثّة الملك فكلّمهم بأنّي لم أمت و لكنّي نفيت عنكم حتّى أرى صنيعكم يعدي ففرحوا و أمر لخاصّته أن يضربوا له حجابا بينه و بينهم و يكلّمهم الشيطان من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته فنصبوه صنما من وراء حجاب لا يأكل و لا يشرب و أخبرهم أنّه لا يموت أبدا و أنّه إله لهم و ذلك كلّه تتكلّم به الشيطان على لسانه فصدّق كثير منهم و ارتاب بعضهم و كان المؤمن المكذّب منهم أقلّ من المصدّق و اتّفقوا على عبادته.

فبعث اللّه لهم نبيّا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة و كان اسمه حنظلة ابن صفوان فأعلمهم أنّ الصورة صنم لا روح له و أنّ الشيطان فيه و أنّ الملك لا يجوز أن يكون شريكا للّه و أوعدهم و نصحهم و حذّرهم سطوة ربّهم فعادوه و آذوه و هو يتعهّدهم بالموعظة و النصيحة حتّى قتلوه و طرحوه في البئر و عند ذلك حلّت لهم النقمة فباتوا شباعا رواء و أصبحوا و البئر قد غار ماؤها و تعطّل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم و ضجّت البهائم عطشا حتّى عمّهم الموت و خلّفهم في أرضهم السباع و الثعالب و الضباع و تبدّلت جنّاتهم

ص: 215

بالسدر و الشوك فلا تسمع فيها إلّا عزيف الجنّ و هو جرس يسمع في المفاوز باللّيل.

و قيل: الرسّ بئر قرب اليمامة أو بئر قرب آذربايجان أو واد نعوذ باللّه من سطواته قال اللّه تعالى: «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (1).

قوله: [وَ ثَمُودُ] أي و قوم ثمود كان نبيّهم صالح و هو ثمود بن عاد و هو الآخرة و عاد الاولى هو عاد الإرم [وَ عادٌ] أي قوم عاد و كان نبيّهم هود عليه السّلام [وَ فِرْعَوْنُ و هو فرعون موسى [وَ إِخْوانُ لُوطٍ] لاشتراكهم معه في النسب بالمصاهرة و غيرها لا في الدين. قيل:

ما من أحد من الأنبياء إلّا و يقوم معه قومه إلّا لوط يقوم وحده [وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ] و هم من بعث إليهم شعيب غير أهل مدين و كانوا يسكنون أيكة غيضة تنبت المقل و السدر و الأراك [وَ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميريّ ملك اليمن.

[كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع أي كلّ هؤلاء كذّبوا رسلهم و ردّ جميع الرسل لاتّفاق الرسل على التوحيد و الحشر و هؤلاء أشركوا و كذّبوا البعث فكذّبوا جميع الرسل و لو أن يكذّبوا رسولا واحدا [فَحَقَّ وَعِيدِ] أي فوجب عليهم وعيد و هي كلمة العذاب و الوعيد يستعمل في الشرّ خاصّة و الوعد في الخير و الشرّ.

[أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ العيّ بالأمر العجز عنه و الهمزة للإنكار و المعنى أ فعجزنا عن الخلق الأوّل و هو الإبداء و الإنشاء أوّل مرّة حتّى يتوهّم عجزنا عن الخلق الثاني و هو الإعادة و ما اعتاض لنا خلقة بالأوّل حتّى نعني بإعادتهم بعثهم أي ليس كذلك مثل ما يزعمون [بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ] أي بل هم في ضلال و شكّ من إعادة الخلق جديدا و اللبس منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له و خلق جديد إشارة إلى النشأة الثانية و قوبل الجديد بالخلق لمّا كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثوب.

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني نوع بني آدم [وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يحدّث به قلبه و يكنّ في نفسه و لا يظهره لأحد من المخلوقين [وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بالعلم [مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] و هو عرق يتفرّق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه. و قيل:

هو عرق الحلق أو هو عرق متعلّق بالقلب أي نحن أقرب إليه من قلبه بمنزلة ذلك العرق

ص: 216


1- الأنفال: 25.

في قربه للشخص و في ذلك العرق مجاري الروح.

[إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ التلقّي الأخذ و التلقّن بالحفظ و الكتابة أي يأخذ الحفيظان الموكّلان بالإنسان ما يتلفّظ به و في الحديث أن مقعد ملكيك على ثنيّتك و لسانك قلمهما و ريقك مدادهما و أنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحيي من اللّه و لا منهما [عَنِ الْيَمِينِ هو أشرف الجوارح و فيه القوّة التامّة [وَ عَنِ الشِّمالِ هو مقابل اليمين أي عن جانب اليمين [قَعِيدٌ] أي قاعد فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه و قيل: يطلق الفعيل على الواحد و المتعدّد كقوله: «وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ».

[ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرى به من فيه من خير أو شرّ و القول أعمّ من الكلمة و الكلام [إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله و يكتبه و الخير يكتبه صاحب اليمين و الشرّ صاحب الشمال و هو [عَتِيدٌ] أي مهيّا لكتابة ما أمر به و هذا التهيّؤ لكليهما و الإفراد حيث لم يقل رقيبان عتيدان مع وقوفهما معا لما أنّ كلّا منهما رقيب لما فوّض إليه لا لما فوّض إلى صاحبه.

و اختلف فيما يكتبانه فقيل: يكتبان كلّ شي ء حتّى أنينه في مرضه. و قيل: إنّما يكتبان ما فيه أجر و وزر و هو الأظهر كما ينبئ عنه قوله: كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيّئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات آمر على كاتب السيّئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال:

دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر.

و إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه و عند جماعه و لذكر الكلام في الجماع و عند قضاء الحاجة أشدّ كراهة لأنّ الحفظة تتأذّى من الحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام و لذا يحمد اللّه بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء و كذا الضحك في هذه الحالة.

في هذه الحديث أنّ ملائكة اللّيل و ملائكة النهار يصلّون معكم العصر فيصعد ملائكة النهار و تمكث ملائكة اللّيل فإذا كان الفجر نزل ملائكة النهار و يصلّون الصبح فيصعد ملائكة اللّيل و تمكث ملائكة النهار و ما من حافظين يرفعان إلى اللّه ما حفظا فيرى اللّه

ص: 217

في أوّل الصحيفة خيرا و في آخرها خيرا إلّا قال لملائكته: اشهدوا أنّي غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة و في الحديث نظّفوا لثاثكم فأمر بتنظيفها لئلّا يبقى و ضر الطعام فتتغيّر النكهة و يتأذّى الملكان الحافظان لأنّه طريق القرآن و مقعد الملكين عند نائبه.

و عن مجاهد قال: أبطأ جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ أتاه فقال صلّى اللّه عليه و آله: له ما حبسك يا جبرئيل؟ قال: و كيف آتي و امّتك لا يقصّون أظفارهم و لا يأخذون من شواربهم و لا ينقو براجمهم و لا يستاكون و البرجمة بضمّي الباء و الجيم و سكون الراء و هو ظهر عقدة كلّ مفصل من قصبة الأصابع فظهر العقدة يسمّى ببرجمة و ما بين العقدتين يسمّى راجبة فلكلّ إصبع برجمتان و ثلاث رواجب إلّا الإبهام فإنّه له برجمة و راجبتين فأمر بتنقيته لئلّا يدرن فيبقى فيه الجنابة و يحول الدرن بين الماء و البشرة و الجنب لا يقربه الملائكة إلى أن يتطهّر.

قوله تعالى: [وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ السكرة استعارة لشدّة الموت و عمرته الذاهبة بالعقل و عبّر عن وقوعها بالماضي إيذانا بتحقّقها و غاية اقترانها حتّى كأنّها قد أتت و حضرت كما قيل: قد أتاكم الجيش «بِالْحَقِّ» أي بأمر اللّه الّذي هو حقّ و واقع لا محالة.

[ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] أي يقال له: يا إنسان «ذلِكَ» أي ذلك الموت الّذي كنت منه تحيد و تهرب و تميل و كنت تفرّ منه. و قيل: إنّ نفس المؤمن المطيع تنسلّ انسلال القطرة من السقاء و ينزل عند الموت أربعة من الملائكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى و ملك يجذبها من يده اليمنى و ملك يجذبها من يده اليسرى فيجذبونها أطراف البنان و رؤوس الأصابع و أمّا الفاجر فينسلّ روحه كالسفود من الصوف المبلول و هو يظنّ أنّ بطنه ملئت شوكا و كأنّ نفسه يخرج من ثقب إبرة و كأنّ السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما.

فإن قيل: إنّ المحتضر مع هذه الشدّة لم لا يصيح كما يصيح من به ألم من الضرب و غيره؟

لأنّه إنّما يستغيث و يصيح المضروب لبقاء قوّته في قلبه و جوارحه و لسانه لكن

ص: 218

ينقطع صوت المحتضر من الشدّة لأنّ الكرب قد بولغ فيه و غلب على كلّ موضع من جسده فهو كلّ قوّة و أضعف كلّ جارحة و لم يترك له قوّة الاستغاثة و ربما كشف للميّت عن الأمر الملكوتيّ قبل أن يغرغر فعاين الملائكة على صور هي حقايق أعماله فإن كانت أعماله حسنة يراهم على صورة حسنة و إن كانت سيّئة فعلى صورة قبيحة فذلك الّذي يشخص بصره و قد تظهر صفات قبح الأعمال عند الموت فالمغتاب تقرض شفاهه بمقاريض من نار و السامع للغيبة يسلك في أذنيه نار و آكل الحرام يقدّم له الزقّوم كذلك إلى آخر أعمال العبد.

قوله تعالى: [وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ] و هي نفخة الثانية نفخة البعث و النافخ إسرافيل و قد سبق الكلام في معنى الصور [ذلِكَ أي ذلك النفخ [يَوْمُ الْوَعِيدِ] أي يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا عبارة عن العذاب الموعود به و تخصيص الوعيد بالذكر مع أنّه يوم الوعد أيضا لبيان التهديد و التهويل.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 21 الى 30]

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)

الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

[وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرّة و الفاجرة [مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ] و يختلف كيفيّة السوق و الشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي مع كلّ نفس ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر و الآخر يشهد بعمله خيرا أو شرّا و يمكن أن يسوق سائق الكافر إلى النار و الشهيد يشهد بمعصيته و يسوق المؤمن إلى الجنّة و يشهد الشهيد بطاعته.

[لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا] الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمر أو سهو يعتري من قلّة التحفّظ و التيقّظ أي يقال له: أيّها الشخص لقد كنت في الدنيا في غفله و ذهول من هذا اليوم و غوائله و الخطاب للكافر.

ص: 219

[فَكَشَفْنا] أي أزلنا [عَنْكَ غِطاءَكَ الّذي كان على بصرك بسبب الغفلة و الجهل و قيل: المراد من الغطاء القبر أي أخرجناك منه [فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] و نافذ تبصر ما كنت تنكره و تستبعده في الدنيا فأنت حينئذ حديد البصر و البصيرة و الإنسان و إن خلق من عالمي الغيب و الشهادة فالغالب عليه في البداية و الشهادة و هي العالم الحسّي فيرى بالحواسّ الظاهرة العالم المحسوس و هو بمعزل عن إدراك عالم الغيب فمن الناس من يكشف اللّه غطاءه عن بصر بصيرته فيجعل بصره حديدا يبصر رشده و ذلك بسبب إطاعته و قبوله الحقّ و منهم من يكشف بصر بصيرته يوم القيامة و هم الكفّار.

[وَ قالَ قَرِينُهُ يعني الملك الشهيد عليه و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و قيل: المراد من القرين الشيطان الّذي قبض له و قيل من الإنس [هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ] فلو كان المراد الملك الشهيد فالمعنى هذا حسابه حاضر لديّ في هذا الكتاب أي يقول لربّه: كنت وكّلتي به فما كتبت به من عمله حاضر عندي و إنّ المراد به الشيطان أو القرين من الإنس فالمعنى هذا العذاب حاضر عندي معدّ بسبب سيّئاته.

[أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ] هذا خطاب للملكين الموكّلين به و هما السائق و الشهيد و بحذف الإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة يقول اللّه لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما و أدخلا الجنّة من أحبّكما و ذلك قوله: «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» و العنيد الذاهب عن الحقّ و معاند له و العناد أقبح الكفر و العنيد المعجب بما عنده و يميل عن الحقّ و يردّه و هو عارف به قيل: مشتقّ من العند و هو عظم يعترض في الحلق.

[مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ] الّذي أمر اللّه به من بذل المال في وجوهه [مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ظالم معتد حدود اللّه ذو ريب و شاكّ أو شاكّ في اللّه و فيما جاء من عنده قيل: الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو أخيه في الإسلام فمنعهم فيكون المراد بالخير الإسلام.

[الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] من الأصنام و الأوثان و غيرها [فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ] هذا تأكيد للأوّل فكأنّه يقول سبحانه: افعلا ما أمرتكما به فإنّه مستحقّ لذلك و من طريق العامّة دليل ورد أيضا من طريق الخاصّة بينما النّاس في الحساب إذ

ص: 220

بعث اللّه عنقا من النار يتكلّم فيقول: ائتوني بثلاثة: بمن دعا مع اللّه إلها آخر و بمن قتل نفسا بغير حقّ و بجبّار عنيد فيلقطهم من الناس كما يلقط الطير الحبّ الجيّد ثمّ يصيّرهم في نار جهنّم.

و أيضا بهذا الطريق في الحديث يخرج عنق من النار قبل الحساب و الناس وقوف قد ألجمهم العرق و تصدّعت القلوب لهول المطلع فإذا أشرف على الخلائق له عينان و لسان فصيح يقول: يا أهل الموقف إنّي وكّلت منكم بثلاثة و ذلك ثلاث مرّات إنّي وكّلت بكلّ جبّار عنيد فتلقطهم من بين الصفوف كما تلقط الطير حبّ السمسم فإذا لم يترك أحدا في الموقف نادى نداء ثانيا يا أهل الموقف إنّي وكّلت بمن أذى اللّه و رسوله فيلقطهم كذلك فإذا لم يترك أحدا منهم نادى ثالثا يا أهل الموقف إنّي وكّلت بمن ذهب يخلق كخلق اللّه و هم الّذين يصوّرون الكنائس لتعبد تلك الصور و الّذين يصوّرون الأصنام و ينحتون الأحجار و الأخشاب ليعبدوها من دون اللّه فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حبّ السمسم فإذا أخذهم اللّه عن آخرهم و بقي الناس و فيهم المصوّرون الّذين لا يقصدون بتصاويرهم عبادتها حتّى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها و ليسوا بنافخين فيقفون ما شاء اللّه ينتظرون ما يفعل اللّه بهم و العرق قد ألجمهم.

[وَ قالَ قَرِينُهُ أي شيطانه الّذي أغواه و سمّي به قرينا لأنّه يقرنه في العذاب أو قرينه السوء من الإنس و هم علماء السوء من المتبوعين [رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي ما أضللته أي ما أوقعته في الطغيان باستكراه [وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ من الإيمان [بَعِيدٍ] و هذا مثل قول الشيطان «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» (1).

قال اللّه لهم: [لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ و لا يخاصم بعضكم بعضا عندي [وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ] في دار التكليف و لم تنزجروا و خالفتم أمري.

[ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ إنّ الّذي قدّمت لكم في دار الدنيا من أنّي أعاقب من جحدني و كذّب رسلي لا يبدّل بغيره و لا يتخلّف [وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ] بل هو الظالم لنفسه و إنّما قال: «بِظَلَّامٍ» على وجه المبالغة ردّا على من أضاف الظلم إليه و لأنّه لو صدر

ص: 221


1- ابراهيم: 24.

عنه تعالى ظلما جزئيّا بالنسبة إلى عدله كثير عظيم.

[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ يتعلّق يوم بقوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ» الآية، أو متعلّق با ذكر ذلك اليوم الّذي نقول فيه لجهنّم هل امتلأت من كثرة ما القي فيك من العصاة [وَ تَقُولُ جهنّم: [هَلْ مِنْ مَزِيدٍ] أي تطلب الزيادة. و قيل: معناه الكفاية أي لم يبق مزيد لامتلائها و قيل: طلب الزيادة منها كان قبل دخول جميع أهل النار فيها. و يجوز أن يكون طلب الزيادة على أن يزاد في سعتها و أمّا الوجه في كلام جهنّم فقيل: خرج مخرج المثل مثل قوله:

امتلأ الحوض و قال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني

و قيل: يخلق لجهنّم آلة الكلام لأنّ من ينطق الأيدي و الأرجل و الجلود قادر على أن ينطق جهنّم و قيل: إنّه خطاب لخزنة جهنّم و معناه ما من مزيد كقوله: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ» (1).

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 40]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ (35)

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40)

لمّا أخبر عمّا أعدّه للكافرين عقّبه بذكر ما أعدّه للمتّقين فقال:

[وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ] أي قربت الجنّة و ازّيّنت للذين اتّقوا الشرك و المعاصي [غَيْرَ بَعِيدٍ] تأكيد لقوله: «أُزْلِفَتِ» أي مكانا غير بعيد بحيث ينظرون إليها قبل دخولها و تقرّب الجنّة بأن يسهل للمتّقين مسيرهم إليها و يراد بهم الخواصّ.

و أهل الجنّة ثلاثة أصناف: قوم يحشرون إلى الجنّة مشاة و هم الّذين قال فيهم:

ص: 222


1- فاطر: 3.

«وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً» (1) و هم عوامّ المؤمنين. و أمّا خاصّ الخاصّ فهم الّذين قال فيهم: «وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» (2).

[هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم من قبل اللّه أو على لسان الملائكة عند مشاهدة الجنّة [لِكُلِّ أَوَّابٍ بدل من المتّقين أي لكلّ توّاب رجّاع إلى الطاعة أو لكلّ مسبّح [حَفِيظٍ] لما أمر اللّه به متحفّظ من الخروج إلى ما لا يجوز من سيّئة.

[مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ الخشية خوف يشوبه تعظيم و قيل: انزعاج القلب عند القلب عند ذكر السيّئة أي هو من خاف اللّه و أطاعه و آمن بثوابه و عقابه و لم يردّه و قيل:

المراد من قوله: «بِالْغَيْبِ» أي في الخلوة بحيث لا يراه أحد [وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي دام على ذلك بالقلب و الاعتقاد إذ لا عبرة للإنابة إلّا إذا كان من القلب و مقبل عليه تعالى بالكلّيّة و معرض عمّن سواه.

[ادْخُلُوها] يقال لهم: ادخلوا الجنّة [بِسَلامٍ أي متلبّسين بسلامة من العذاب أو بسلام من اللّه و ملائكته [ذلِكَ إشارة إلى الزمان الممتدّ الّذي وقع في بعض منه ما ذكر أو هذا اليوم يوم خلودكم و تأبيدكم في الجنّة و خلود الأمر بقاؤه على الحالة الّتي هو عليها.

[لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المفرّحات كائنا ما كان سوى الخبائث فإنّهم لا يشاءونها لأنّ اللّه يعصم أهل الجنّة من شهوة قبيحة مثلا مثل اللواط و ما شابهها [وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ] أي و عندنا زيادة على ما يشاءونه ممّا لم يخطر ببالهم أو الزيادة على قدر استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.

ثمّ خوّف كفّار مكّة فقال: [وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء الكفّار من القرون الّذين كذّبوا رسلهم [هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً] أي الّذين أهلكناهم كانوا أكثر عددا و عدّة و لم يتعذّر علينا إهلاكهم و «كَمْ» هنا للتكثير خبريّة وقعت مفعول أهلكنا [فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ] أي فتحوا المسالك و خرقوا البلاد و قطعوا المفاوز و دوخوا

ص: 223


1- آل عمران: 198.
2- الشعراء: 9.

و أذلّوا و قهروا أهلها و تصرّفوا في أقطارها لشدّة بطشهم و سطوتهم [هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي هل كان لهم من محيص عن الموت و منجأ من العذاب و المحيص المهرب.

[إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر في هذا البيان و في هذه السورة [لَذِكْرى لتذكرة و و عظة [لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ سليم يدرك به ما يضرّه و ما ينفعه و له علم و فهم و عقل [أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ] أي ألقى سمعه إلى ما يتلى عليه من الوحي و لكن بشرط أن يكون الملقي حاضر الذهن و كلمة «أَوْ» لتقسيم المتفكّر إلى الفقيه و المتعلّم.

[وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ و المراد من «ما بَيْنَهُما» من أصناف المخلوقات في ستّة أيّام و لو شاء لكان خلقها في أقلّ من لمح البصر و لكنّه تعالى منّ لنا التأنّي بذلك فإنّ العجلة من الشيطان إلّا في ستّة مواضع:

أداء الصلاة إذا دخل الوقت، و دفن الميّت، و تزويج البكر إذا أدركت، و قضاء الدين إذا وجب و حلّ، و إطعام الضيف إذا نزل و تعجيل التوبة إذا أذنب.

[وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ اللّغوب التعب أي ما أصابنا من هذه الخلقة العظيمة نصب و تعب و عيّ.

[فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقوله المشركون في شأن البعث و إنكارهم فإنّ من فعل هذه الأفاعيل قادر على بعثهم و في الآية إشارة إلى تربية النفوس بالصبر على ما يقول الجاهل من كلّ نوع من المكروهات و بيان طريق تزكيتها من الصفات المذمومة بملازمة الذكر و التسبيحات و التحميدات بقوله:

[وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فنزّهه عن جميع ما لا ينبغي في ساحة جلاله [قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ و قيل: هما وقت الفجر و الظهر و العصر [وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني المغرب و العشاء. و قيل: و سبّحه بعض اللّيل [وَ أَدْبارَ السُّجُودِ] و أعقاب الصلاة و أواخرها إذا انقضت و الركوع و السجود يعبّر بهما عن الصلاة لأنّهما أعظم أركانها كما يعبّر بالوجه عن الذات لأنّه أشرف أعضائها فحينئذ المراد التسبيح بعد كلّ صلاة. و قيل:

المراد من أدبار السجود الركعتان قبل الفجر عن عليّ بن أبي طالب و الحسن بن عليّ عليهما السّلام

ص: 224

و جماعة. و قيل: المراد من النوافل بعد المفروضات و قيل: إنّه الوتر من آخر اللّيل روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

قوله تعالى: [سورة ق (50): الآيات 41 الى 45]

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

أي وَ [اسْتَمِعْ حديث يوم النداء فحذف المضاف. و اصغ إلى النداء أي بوقعه و ذلك يوم القيامة و البعث و النشور و هي النفخة الثانية و قيل: إنّه ينادي مناد من صخرة بيت المقدس أيّتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة قومي لفصل القضاء و ما أعدّ اللّه سبحانه عزّ و جلّ لكم من الجزاء. و قيل: إنّ المنادي هو إسرافيل يقول: يا معشر الخلائق قوموا للحساب.

و إنّما قال: «مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» لأنّ الخلائق يسمعون كلّهم على حدّ واحد في السماع و لا يخفى على أحد قريب و لا بعيد فكأنّهم نودوا من مكان يقرب النداء منهم.

أو المكان القريب المراد قربه إلى السماء، فإنّ بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا أو عشر أميال.

[يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ بدل من يوم ينادي و الصيحة المرّة الواحدة من الصوت الشديد أي إنّها كائنة لا محالة [ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ذلك يوم الخروج من القبور و هو من أسماء يوم القيامة.

[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ أخبر سبحانه عن نفسه أنّه هو الّذي يحيي الخلق بعد أن كانوا جمادا أمواتا و تكرير الضمير للتأثير و الاختصاص و التفرّد [وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ] للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا فليستعدّوا للقائنا.

[يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً] بحذف إحدى التاءين أي تتصدّع عن الناس و الأموات و يخرجون من القبور متسرّعين إلى إجابة الداعي من غير التفات إلى يمين و شمال [ذلِكَ حَشْرٌ] أي هذا الأحياء من القبور بعث و جمع و سوق [عَلَيْنا يَسِيرٌ] و هيّن

ص: 225

و هو كلام معادل لقول الكفّار حيث قالوا: «ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» و تقديم الجارّ و المجرور لتخصيص اليسير به تعالى.

[نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث و تكذيب الآيات و في الكلام تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تهديد للكفّار [وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ] أي بمسلّط تقسرهم على الإيمان و إنّما أنت مذكّر.

[فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ] أي عظهم بمواعظ القرآن من يخاف وعيدي فإنّهم المنتفعون به كما قال: «فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (1) و كما قال: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» (2) و أهل القرآن أهل اللّه و خاصّته فيرون الحقّ بالحقّ و لا يتّعظ بمواعظ القرآن إلّا الخائفون على إيمانهم بل خائفون على كلّ من أنفاسهم و إنّما يتّعظ النفوس القابلة لتذكير القرآن و وعيده.

و كان رسول اللّه يخطب بسورة في كثير من الأوقات لاشتمالها على ذكر اللّه و الثناء علمه و بيان علمه تعالى بما يوسوس به النفوس و ما يكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة و معصية و تذكير الموت و سكرته و أحوال القيامة و أهوالها و الشهادة على الخلق و أعمالهم و تذكير الجنّة و النار و الصحّة و الخروج و المواظبة على الصلاة تمّت السورة.

ص: 226


1- الذاريات: 55.
2- يس: 11.

سورة الذاريات

اشارة

* (مكية)* قال ابيّ بن كعب عن النبيّ من قرأها في يومه أو ليلته أصلح اللّه له معيشته و أتاه برزق واسع و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة.

ص: 227

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

ختم اللّه سورة ق بالوعيد و افتتح هذه السورة أيضا بالوعيد روي أنّ ابن الكوّاء سأل أمير المؤمنين عليّا و هو يخطب على المنبر فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح يقال ذرت الريح التراب إذا طيّرته قال ابن الكوّاء: فما الحاملات و قرأ؟ قال عليه السّلام: السحاب قال: فما الجاريات يسرا؟ قال: السفن قال: فالمقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة.

و قيل: الجاريات هي السحاب تجري يسرا إلى حيث أمر اللّه إلى البقاع. و قيل:

هي النجوم السبعة السيّارة: الشمس و القمر و زحل و المشتري و المرّيخ و الزهرة و عطارد أقسم اللّه بهذه الأشياء لكثرة منافعها للعباد أو التقدير بربّ هذه الأشياء.

قال أبو جعفر و الصادق عليهما السّلام: إنّه لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا باللّه و اللّه سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه و الذاريات صفة الرياح و حذفت الموصوفات و التقدير و الرياح الذاريات ذروا روي أنّه لو حبس اللّه الريح عن الأرض ثلاثة أيّام ما بقي على وجه الأرض إلّا نتن.

و عن ابي امامة قال: قال رسول اللّه: ليبيتنّ قوم من أمّتي على أكل و شرب و لهو و لعب ثمّ ليمسخنّ قردة و خنازير و ليصيبنّ أقواما من أمّتي خسف و قذف باتّخاذهم القيان و شربهم الخمور و ضربهم الدفوف و لبسهم الحرير و لينسفنّ أحياء من امّتي الريح كما نسفت عادا، و النسف القلع من الشي ء من أصله.

ص: 228

ثمّ ذكر المقسم عليه بعد ذكر المقسم به فقال: [إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ من الثواب و العقاب صدق لا بدّ من كونه اسما وضع موضع المصدر و العائد محذوف أي إنّ الّذي توعدونه من الجزاء و البعث لذو صدق مثل قولهم: تامر و لابن [وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ أي إنّ الجزاء على الأعمال حاصل و كائن فإنّ من قدر على هذه الأفعال البديعة قادر على البعث و الجزاء [وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ و الحبك جمع حباك و المعنى الطرائق الّتي هي مساير الكواكب و مسالك الملائكة.

فأقسم سبحانه بها و قال: [إِنَّكُمْ يا أهل مكّة [لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في شأن القرآن بقولهم: إنّه سحر أو شعر و اختلاق و أساطير أو إنّكم في قول مختلف في حقّ محمّد فبعضكم يقول: شاعر و بعض يقول: ساحر كذّاب أو إنّكم منكم مكذّب به و منكم مصدّق به و منكم شاكّ فيه [يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ و رجل مأفوك مصروف عن الحقّ إلى الباطل أي يصرف عن القرآن أو الرسول من انصرف بسبب عدم قبول الدلائل و يحرم نفسه من الإيمان و ينصرف عن هذه السعادة لجحوده و إنكاره.

[قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم كقوله (1): «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» و جرى هذا الكلام مجرى لعن و قبح، و الخرص تقدير القول بلا حقيقة و منه خرص الثمار و كلّ قول مقول عن ظنّ و تخمين يقال: خرص من حيث إنّ صاحبه لم يقله عن علم بل اعتمد عليه بالتخمين كفعل الخارص في خرصه و كلّ من قال قولا على هذا النحو يسمّى كاذبا و إن كان قوله مطابقا للقول المخبر به فالخرّاصون في الآية المراد الكذّابون و تقدير الآية قتل هؤلاء الكذّابون.

[الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ] من الجهل و الضلال، و الغمرة معظم الماء أي الجهالة غمرتهم [ساهُونَ أي غافلون.

[يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى يوم الجزاء إنكارا و استهزاء و سؤالهم لا على وجه الاستفهام و الاستفادة لمعرفته، و حذف المضاف أي متى وقوع يوم القيامة فأجيبوا بأن يقع.

[يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ و الظرف منصوب بفعل مقدّر أي يقع يوم هم على النار

ص: 229


1- عبس: 17.

يعذّبون كما يفتن الذهب بالنار.

[ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي مقولا لهم هذا القول إذا عذّبوا و القائل خزنة النار: ذوقوا جزاء كفركم و قوله: «فِتْنَتَكُمْ» أي كفركم مرادا بالكفر عاقبة الكفر و هو العذاب.

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 23]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19)

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

ثمّ ذكر سبحانه ما أعدّه لأهل الجنّة فقال:

[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ أي المحترزين عن الكفر و المعاصي و المتّصفين بالإيمان و المعرفة و الطاعة في بساتين و التنكير للتعظيم أو للتكثير مثل قولهم: إنّ له لإبلا و إنّ له لغنما ولي أنهار جارية.

[آخِذِينَ قابلين لكلّ ما أعطاهم من الثواب متلقّين بالقبول لأنّه في غاية الجودة و منه قوله (1): «وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» أي يقبلها و يرضاها ثمّ علّل استحقاقهم بقوله: [إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل دخول الجنّة أي في الدنيا [مُحْسِنِينَ يفعلون الطاعات و يحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان.

[كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ الهجوع النوم أي كانوا يهجعون في طائفة قليلة من اللّيل و «ما» مزيدة لتأكيد معنى التقليل أي يذكرون و يصلّون أكثر اللّيل و ينامون أقلّه و بعض فسّروا هذا الحديث «نوم العالم عبادة» قالوا: فمن يعبد لا يكون نائما قيل: نزلت الآية في شأن الأنصار حيث كانوا يصلّون في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ يمضون إلى قبا و بينهما ميلان.

[وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ السحر السدس الأخير من اللّيل لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحقّ و هو باطل أي هم مع قلّة هجوعهم و كثرة تهجّدهم يداومون على الاستغفار

ص: 230


1- التوبة: 105.

في الأسحار و هذا دليل على أنّهم غير معجبين بأعمالهم و خائفين من التقصير و تقديم الظرف في الآية للاهتمام و رعاية الفاصلة و لعلّ يستغفرون استصغارا لفعلهم.

قيل: يا رسول اللّه كيف الاستغفار؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: قولوا: اللّهمّ اغفر لنا و ارحمنا و تب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم. في الحديث إنّ أحبّ أحبّائي إليّ الّذين يستغفرون بالأسحار أولئك الّذين إذا أردت بأهل الأرض سيّئا صرفت بهم عنهم. و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قام من اللّيل يتهجّد قال: اللّهمّ لك الحمد أنت الحقّ و وعدك و لقاؤك حقّ و قولك حقّ و الجنّة حقّ و النار حقّ و النبيّون حقّ و محمّد حقّ و الساعة حقّ اللّهمّ لك أسلمت و بك آمنت و عليك توكّلت و إليك أنبت و بك خاصمت و إليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت و ما أخّرت و ما أسررت و ما أعلنت أنت المقدّم و أنت المؤخّر لا إله إلّا أنت و لا حول و لا قوّة إلّا بك.

و في الحديث قال داود عليه السّلام: يا جبرئيل أيّ من اللّيل أفضل قال: لا أدري إلّا أنّ العرش يهتزّ وقت السحر و لا يهتزّ العرش إلّا لكثرة تجلّيات رحمة اللّه فرحا لأهل السهر و إمّا طربا لأنين المذنبين و المستغفرين في ذلك الوقت و إمّا تعجّبا لكثرة عفو اللّه و مغفرته في ذلك الوقت و إمّا تعجّبا من حسن لطف اللّه على عباده الآبقين الهاربين منه مع غنائه عنهم ثمّ مع ذلك هم غافلون في نومهم و هو تعالى يتوجّه إليهم و يدعوهم بقوله: هل من سائل هل من مستغفر هل من تائب هل من نادم هل من من يقرض غير عدوم؟ و إمّا تعجّبا من غفلات أهل الغفلة بنومهم في ذلك الوقت و حرمانهم من البركة و اعلم أنّ اللّه أمر نبيّه بإحياء اللّيل لأنّ هذه الطريقة أقرب طرق إلى اللّه للمقبل الصادق و ما يطيقها إلّا المتمكّن الصابر.

قال صلّى اللّه عليه و آله: فرض عليّ قيام الليل و لم يفرض عليكم. قال أهل التحقيق: و ذلك لأنّه روح العالم صلّى اللّه عليه و آله و مداره فكيف يكون للّه وليّ كامل يبخل بنفسه على اللّه متكاسل و بتكاسله يخرب العالم و يشتدّ جهل أهله كما أنّ الروح إذا ضعف اختلّ الجسد و قواه و من هنا تعرف شدّة توغّل الأنبياء و الأتقياء في العبادات و كلّما قرب الإنسان من الكمال اشتدّ تكليفه.

ص: 231

قيل: إنّ إلياس النبيّ عليه السّلام أتى إليه ملك الموت ليقبضه فبكى فقال له: أ تبكي و أنت راجع إلى ربّك؟ فقال: بل أبكي على ليالي الشتاء و نهار الصيف؛ الأحباب يقومون و يصومون و يجذبون و يتلذّذون بمناجاة محبوبهم و أنا رهين التراب فأوحى اللّه إليه قد أجّلناك إلى آخر الدهر لحبّك خدمتنا فتمتّع.

[وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ أي نصيب وافر يوجبون على أنفسهم و يعدّونه واجبا عليهم تقرّبا إلى اللّه [لِلسَّائِلِ أي لطالب الجدوى و لحاجة المستجدي [وَ الْمَحْرُومِ أي المتعفّف الّذي يحسبه الناس غنيّا فيحرم الصدقة أو المحروم الممنوع من الخير و الرزق بترك السؤال أو ذهاب المال و خراب الضيعة أو مدبّر الأيّام و لعلّ تخصيص الذكر بالسائل و المحروم و لم يذكر سائر المستحقّين لأنّ ذلك حقّ سوى الصدقة المفروضة كما قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ في المال حقّا سوى الزكاة أي قد يقع في المال حقّ واجب سوى الزكاة و هو الحقوق الّتي تلزم عند ما يعرض من الأحوال مثل النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين و ما يجب من إطعام المضطرّ و حمل المنقطع.

[وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي دلائل واضحة على وجود الصانع و علمه و قدرته من حيث إنّها مدحوّة كالبساط الممهّد و فيها مسالك للمتقلّبين في أقطارها و السالكين في مناكبها و كيف و فيها سهل و جبل و برّ و بحر و عيون و معادن متفنّنة و ألوان النبات و الألوان و الطعوم و الحيوان و دبّر سبحانه لكلّ تدبيرا لبقاء نوعه و إنّما خصّ الموقنين لأنّهم يتأمّلون فيها فيحصل لهم العلم بموجبها.

[وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أي و في أنفسكم أيضا آيات و شواهد على خالقيّته و وحدانيّته [أَ فَلا تُبْصِرُونَ أي أفلا ترون أنّكم منتقلون من صفة إلى اخرى مثل أن كنتم نطفا فصرتم أحياء جنينا ثمّ كنتم أطفالا فصرتم شبابا ثمّ كهولا فهلّا دلّكم ذلك على أنّ صانعا و مقدّرا يقدّر و يدبّر هذه الأمور فساعة تجوع و ساعة تشبع و تغضب و ترضى و هذه الأمور كلّه من آيات اللّه و تصرّفه.

[وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فينزل اللّه إليكم بأن يرسل الغيث و المطر عليكم فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه و تلبسونه و تنتفعون به و كذلك اختلاف المطالع و المغارب الّتي

ص: 232

يترتّب عليه اختلاف الفصول الّتي هي مبادي حصول الأرزاق [وَ ما تُوعَدُونَ من الثواب لأنّ الجنّة على ظهر السماء السابقة تحت العرش قرب سدرة المنتهى أو أنّ كلّ ما توعدون من الخير و الشرّ و الشدّة و الرخاء و غيرها مكتوب مقدّر في السماء.

[فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أقسم سبحانه بنفسه ذكر الربّ لأنّه في بيان التربية بالرزق [إِنَّهُ لَحَقٌ أي ما توعدون لحقّ و واقع قيل: إنّ رسول اللّه قال: قاتل اللّه أقواما أقسم اللّه لهم بنفسه فلم يصدّقوه [مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون ينبغي أن لا تشكّوا في حقيقته و إنّما اختصّ التمثّل بالنطق في التشبيه لأنّه مختصّ بالإنسان و هو أخصّ صفاته.

[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 37]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)

لمّا قدّم الوعد و الوعيد ذكر بشارة إبراهيم عليه السّلام و مهلك قوم لوط تخويفا للكفّار فقال:

[هَلْ أَتاكَ يا محمّد و هذا اللّفظ يستعمل إذا أخبر الناس بخبر ماض فيقال: هل سمعت خبر كذا و إن علم أنّه لم يأته [حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ عند اللّه و ذلك لأنّهم كانوا ملائكة كراما. و قيل: المراد بالمكرمين لأنّ إبراهيم أكرمهم و رفع مجالستهم و خدمهم بنفسه و سمّاهم ضيفا مع أنّهم لم يأكلوا من طعامه لأنّهم دخلوا مدخل الأضياف و اختلف في عددهم فقيل: كانوا اثني عشر ملكا و قيل: كان جبرئيل و معه سبعة أملاك و قيل:

ص: 233

ثلاثة جبرئيل و ميكائيل و ملك آخر.

و الضيف في الأصل مصدر ضافه و لذلك يطلق على الواحد و الجماعة و أصل معنى الضيف الميل و هو مأخوذ من مال إليك نزولا بك.

و في الراوية إنّ اللّه أوحى إلى إبراهيم- و هو أوّل من سنّ القرى- أكرم الضيف فكان يعدّ لكلّ من أضيافه شاة مشويّة فأوحى إليه أكرم أضيافك فجعله ثورا فأوحى إليه أكرم فجعله جملا فأوحى إليه أكرم فتحيّر فيه فعلم أنّ إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه فأوحى إليه: الآن أكرمت الضيف. قيل: لا عار للرجل و لو كان سلطانا أن يخدم ضيفه و أبويه و معلّمه.

[إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ و تقديره هل أتاك حديثهم الواقع وقت دخولهم عليه [فَقالُوا سَلاماً] أي نسلّم عليك سلاما و الفاء لبيان أنّ السّلام وقع بعد الدخول [قالَ إبراهيم: [سَلامٌ أي عليكم سلام فحيّاهم إبراهيم بتحيّة أحسن من تحيّتهم لأنّ تحيّتهم كانت بالجملة الفعليّة الدالّة على الحدوث حيث نصبوا سلاما و تحيّته بالجملة الاسميّة الدالّة على الثبوت و الدوام [قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي تصوّر إبراهيم في نفسه هؤلاء قوم منكرون لا أعرفهم و ذلك أنّه عليه السّلام ظنّ أنّهم من الإنس.

[فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم خفيّا و إنّما راغ مخافة أن يمنعوه من تكلّف الأكل [فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ و كان مشويّا لقوله في آية اخرى «حَنِيذٍ» فكان عامّة مال إبراهيم ذلك الوقت البقر فجاء به [فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم ليأكلوا فلم يأكلوا [قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ عرض عليهم الأكل و امتنعوا من الأكل.

[فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً] و ظنّ أنّهم يريدون به سوءا قيل: إنّهم قالوا: نحن لا نأكل بغير ثمن قال إبراهيم: كلوا و أعطوا ثمنه قالوا: و ما ثمنه؟ قال: إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه و إذا فرغتم قولوا: الحمد للّه فعجبت الملائكة من قوله.

و بالجملة لمّا رآهم لا يأكلون أوجس في نفسه الخوف. و الوجس الصوت الخفيّ في النفس و أضمر الخوف و ذلك أنّ من العادة من يجي ء بالشرّ و الضرّ أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره و من المشهور: إنّ من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.

ص: 234

و لمّا أحسّت الملائكة بخوفه [قالُوا لا تَخَفْ إنّا رسل اللّه. و قيل: مسح جبرئيل العجل بجناحه فقام يمشي حتّى لحق بامّه فعرفهم إبراهيم و أمن منهم.

[وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ و الغلام المبشّر به هو إسماعيل و قيل: هو إسحاق لأنّه من سارة و هذه القصّة لها فلمّا سمعت سارة امرأة إبراهيم البشارة أقبلت في ضجّة (و قيل: في جماعة عن الصادق عليه السّلام) و أخذت تصيح و تولول و معنى الصرّة الصيحة الشديدة يقال: صرّ إذا صوّت و منه صرير الباب و صرير القلم [فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها] أي جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجّبا و لطمت وجهها و الصكّ ضرب الشي ء بالشي ء العريض [وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟

[قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك إنّك ستلدين غلاما [إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بخفايا الأمور.

[قالَ إبراهيم لهم: [فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم و لأيّ أمر جئتم [أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ كأنّه قال: قد جئتم لأمر عظيم و لا يستعمل الخطب إلّا في أمر عظيم [قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ متمادّين في الآثام. و قيل: المجرم فاعل الجرائم و هي صعاب المعاصي و المراد به قوم لوط.

[لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ بعد ما قلبنا قراهم و جعلنا عاليها سافلها [حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجّر و هو السجّيل طبخت بنار جهنّم مكتوب عليها أسماء القوم و لو لم يقل من طين لتوهّم من الحجارة البرد بقرينة إرسالها من السماء [مُسَوَّمَةً] معلمة من السومة أي العلامة معلمة ببياض و حمرة أو بسيما يتميّز بها عن حجارة الأرض أو المراد من المسوّمة المرسلة من سوّمت الماشية أي أرسلتها لترعى [عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزانة ربّك [لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور و قيل: المراد من السرف هاهنا الشرك عن ابن عبّاس.

[فَأَخْرَجْنا] الفاء فصيحة مفصحة عن محذوف كأنّه قيل: فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ»* الآية [مَنْ كانَ فِيها] أي في قرى قوم لوط [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و ذلك أنّ اللّه أمر لوطا بأن يخرج هو و من معه من المؤمنين [فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني لوطا و بيته وصفهم اللّه بالإيمان و الإسلام إذ كلّ مؤمن هو مسلم.

ص: 235

[وَ تَرَكْنا فِيها] أي في مدائن قوم لوط أبقينا [آيَةً] و علامة [لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ فيخافون مثل عذابهم و يعتبرون به دون من عداهم من ذوي القلوب الفاسدة بأنّهم لا يعدّونها آية كما أنّ أكثر الحاجّ حين المرور بمدائن لا يلتفتون و كان النبيّ يبكي حين المرور بمثل هذه المواضع و ينكس رأسه و يأمر بالبكاء و التباكي.

و اعلم أنّ المعتبر في باب النجاة الحشر مع أهل الصلاح و حسن اتّباعهم بالاتصال المعنويّ لا الاختلاط الصوريّ و إلّا نجت امرأة لوط و ابن نوح فعلى العاقل المسترشد باتّباع الكامل و الاحتراز عن أهل الفساد سيّما الناقص في العقل و الدين.

قوله تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 46]

وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)

[وَ فِي مُوسى عطف على قوله: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» فقصّة إبراهيم و لوط معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه.

أي و جعلنا في إرسال موسى إلى فرعون و إنجائه و ما لحق فرعون و قومه من الغرق آية [إِذْ أَرْسَلْناهُ أي وقت إرسالنا [إِلى فِرْعَوْنَ صاحب ملك مصر [بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يده من المعجزات و السلطان مصدر يطلق على المتعدّد و على الواحد.

[فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي أعرض فرعون و ثنى عطفه و التولّي كناية عن الإعراض و الباء للتعدية مثل قوله: «نَأى بِجانِبِهِ»* و الركن بمعنى الطرف و الجانب و قيل: المراد فتولّى فرعون بما يتقوّى به من الملك و العسكر و الجنود فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان و الركن مستعار لجنوده نسبتهما بالركن الّذي يتقوّى البنيان به.

[وَ قالَ هو أي موسى [ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و أو في الآية بمعنى الواو كقوله (1):

ص: 236


1- الصافات: 147.

«مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» و تأمّل في حمق فرعون أنّه نسب إلى موسى صفتين متناقضتين لأنّ السحر لا يعلمه إلّا من له حذاقة و إدراك و الجنون زوال هذه الأمور.

[فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ النبذ طرح الشي ء و إلقائه لقلّة الاعتداد به فطرحناهم في بحر القلزم و أخذناه و الحال أنّه مستحقّ للملامة أو مليم نفسه.

[وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ عطف على ما تقدّم أي و في قوم هود و هم العاديّون آيات إذ أرسلنا على أنفسهم أصالة و على دورهم و أموالهم و أنعامهم تبعا الريح العقيم، العقم هزمة يقع في الرحم فلا يقبل التوليد شبّه إهلاكهم و قطع دابرهم بإعقام النساء الّتي لا يلدن و لا يعقبن استعارة تبعيّة، و هو الدبور كما قال صلّى اللّه عليه و آله: نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور و هي تجي ء من جانب المغرب فإنّ الصبا تجي ء من جانب المشرق. و قيل: هي الجنوب مقابل الشمال و تجي ء من شمال من يتوجّه إلى المشرق.

[ما تَذَرُ] أي ما تترك، و أماتوا ماضيه و مصدره و اسم فاعله و ما نطق بها [مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي جرت على ذلك الشي ء [إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ مثل الشي ء البالي المتفتّت رمّ العظم أي بلى و فتّت قال ابن عبّاس: ما أرسل على عاد من الريح إلّا مثل خاتمي هذا.

[وَ فِي ثَمُودَ] أي و في قوم صالح آيات جعلنا [إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا] أي انتفعوا بالحياة الدنيا [حَتَّى حِينٍ إلى وقت العذاب و هو آخر ثلاثة أيّام الأربعاء و الخميس و الجمعة فإنّهم عقروا الناقة يوم الأربعاء و هلكوا بالصيحة يوم السبت و قال لهم صالح:

تصبح وجوهكم غدا مصفرّة و بعد غد محمرّة و اليوم الثالث مسودّة ثمّ يصبحكم العذاب فكان كذلك و لون جهنّم أسود فعند الهلاك صاروا إلى لون جهنّم.

[فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن الامتثال به و أمر ربّهم على لسان صالح من قوله: «اعْبُدُوا اللَّهَ» و قوله: «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» [فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ] و لمّا رأوا العلامات الّتي بيّنها صالح من تغيير ألوانهم حسب ما أوعد عمدوا إلى قتله فنجاه اللّه إلى أرض فلسطين و أخذتهم الصاعقة قيل: أتتهم صيحة من السماء فيها صوت صاعقة فتقطّعت قلوبهم و قيل: اهلكوا بالصاعقة حقيقة بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم جميعا [وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها لأنّها جاءت معاينة بالنهار و هذا القول أقوى لأنّ الصيحة لا ينظر إليها

ص: 237

و إنّما تسمع بالإذن و يمكن الجمع بأنّ معها صيحة جبرئيل.

[فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ و هذا كقوله: «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ»* (1) فما قدروا على القيام فضلا عن الهرب [وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ أي و أهلكنا قوم نوح [مِنْ قَبْلُ هؤلاء [إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود في الكفر و المعاصي و هو علّة لإهلاكهم.

قوله تعالى: [سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 60]

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

نصب السماء على الاشتغال أي و بنينا السماء بأيد أي بقدرة. و القوّة هاهنا بمعنى القدرة بسبب قدرتنا لأنّ القوّة عبارة عن شدّة البنية و صلابتها المضادّة للضعف و اللّه منزّه عن ذلك لكنّ القدرة هي الصفة الّتي بها يتمكّن من الفعل و تركه بالإرادة تقول: أيد يأيد أيدا أي قوي و اشتدّ و لما في البدن من القوّة قيل: يد، و أيّدتك أي قوّيتك و قوّيت يدك [وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون بيان لسعة قدرته و المعنى موسعون السماء و جاعلوها واسعة أو موسعون الرزق.

[وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها] أي فرشناها و مهّدناها من تحت الكعبة ليستقرّوا عليها و يتقلّبوا كما يتقلّب أحدهم على فراشه و مهاده قال مكحول الشاميّ: إنّ ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر و مائتان ليس يسكنها أحد و ثمانون

ص: 238


1- الأعراف: 77.

فيها يأجوج و مأجوج و عشرون فيها سائر الخلق لكن هذا القول و أمثاله لا يوجب العلم به [فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي فعلنا ذلك على حسب المصالح النافعة للعباد.

[وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ] أي من أجناس الموجودات [خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين و نوعين مختلفين كالذكر و الأنثى و السماء و الأرض و اللّيل و النهار و الصيف و الشتاء و الإنس و الجنّ و الأشياء كلّها مركّبة من تركيب يقتضي كونه مصنوعا و إنّه لا بدّ له من صانع [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كلّه من البناء و الخلقة ليعرفوا أنّه خالق الكلّ و أنّه المستحقّ للربوبيّة و الخلق مستحقّ للعبوديّة و كلّ شي ء في عالم الملك و هو عالم الأجسام له اتّصال بعالم الملكوت و هو عالم الأرواح و قائم به و ملكوته قائم بقدرته تعالى.

[فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ قل يا محمّد لقومك: إذا كان الأمر كذلك و هو الخالق لكلّ شي ء فاحذروا عصيانه و فرّوا إليه لتنجوا من عقابه كي تفوزوا بثوابه و حاصل المعنى فرّوا بما سوى اللّه إلى اللّه و من المعصية إلى الطاعة و من الجهل إلى العلم و من العذاب إلى الرحمة [إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ] لكم من أمره و جهته منذر و مخوّفكم من عصيانه لا من قبل نفسي.

[وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ] كأنّه قيل: و فرّوا من أن تجعلوا معه إلها غيره [إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من هذا الجعل المنهيّ عنه [نَذِيرٌ مُبِينٌ و في الآية تأكيد لما قبله لأنّ هذا الأمر مورد التأكيد لأنّه لا يغفر أن يشرك به.

[كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إنّ أمر الّذين من قبلهم من الأمم السالفة بالنسبة إلى رسلهم كذلك مثل تكذيب قريش و المشركين إيّاك [إِلَّا قالُوا] في حقّ ذلك الرسول [ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و أنت لا تأس على تكذيب قومك إيّاك فسلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.

[أَ تَواصَوْا بِهِ إنكار و تعجّب من أمر المكذّبين أي أ أوصى الأوّلون الآخرين بهذا القول الشفيع حتّى اتّفقوا عليه؟ [بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن التواصي و اتّفاقهم على هذا الأمر لبعد الزمان و عدم تلاقيهم في وقت واحد و إثبات الطغيان الّذي هو قبيح لأنّ الطغيان شامل لكلّ قبيح و بيان أنّ نفوسهم متمرّدة عن قبول الخير فما أتاهم رسول إلّا استكبروا و أنكروا أمره.

ص: 239

[فَتَوَلَّ عَنْهُمْ و أعرض عن جدالهم [فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولّي بعد ما بذلت المجهود و كرّرت لهم البيان و الدليل و لست بملوم بسبب العجز عن هدايتهم و قبولهم الكفر.

قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن رسول اللّه و المؤمنون و ظنّوا أنّ الوحي قد انقطع و أنّ العذاب قد حلّ حتّى نزلت الآية [وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت نفوسهم و المعنى عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم كما قال:

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» (1).

و المذكّر يكون تذكيره بأمور تسعة:

الاول أن يذكّرهم نعم اللّه عليهم حتّى يشكروا.

و الثاني: أن يذكّرهم مثوبات المحن و البلايا حتّى يصبروا.

و الثالث: يذكّرهم عقوبة المعاصي حتّى يمتنعوا و يتوبوا.

الرابع: أن يذكّرهم عداوة الشيطان و مكائده حتّى يحترزوا.

الخامس: أن يذكّرهم زوال نعمة الدنيا و فناءها حتّى ينقلعوا عن محبّتها.

السادس: أن يذكّرهم الموت حتّى يتداركوا ما فات.

السابع: أن يذكّرهم أهوال القيامة و وقوعها و أحوال النار و عقوباتها كي يخافوا و لا يطغوا.

الثامن: أن يصف لهم درجات الجنّة و نعيمها كي يرغبوا في الطاعة.

التاسع: أن يذكر لهم مقام القهر و العظمة و الجلال و مقام الرحمة و الإفضال كي يخافوا و يرجوا.

«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» و قرئ بياء المتكلّم في يعبدون و لعلّ تقديم ذكر الجنّ في الآية لتقدّمه على الإنسان في الوجود أي إنّ خلقهم لأجل إظهارهم العبوديّة و الذلّة بالأفعال المخصوصة الّتي هي العبادة الوصفيّة حتّى يتخضّعوا لربّهم بالوجه المشروع الوارد لا بجعلهم من عند أنفسهم و هي رحمة منه و تفضّل على عباده بإيصال الخير

ص: 240


1- ق: 37.

إليهم بسبب الامتثال و يكفي في تحقّق معنى التعليل هذا الاعتبار في مدلول اللّام و أنّه غنيّ عن عبادة كلّ عابد و إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللّام حتّى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلّف المراد عن الإرادة كما في قوله: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (1) و الخلقة لمعرفته و العبادة كاشفة عن المعرفة.

و الأشاعرة أنكروا صحّة توجيه أفعال اللّه معنىّ و إن كان واقعا لفظا تمسّكا بأنّ اللّه مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه و لا إلى غيره لأنّه قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسيط العمل فلا يصلح أن يكون غرضا فعندهم لام التعليل يكون استعارة تبعيّة تشبيها لعادة العباد.

و لكنّ أكثر الفقهاء من العامّة و جلّ العلماء من الخاصّة و المعتزلة قالوا بصحّة توجيه تعليل أفعال اللّه لمنفعة عائدة إلى عباده تمسّكا بأنّ الفعل الخالي من الغرض عبث و العبث من الحكيم محال و قالوا: إنّ مراد اللّه جائز أن يتخلّف عن إرادته إذا كان من الأفعال الاختياريّة للعباد و مصداق هذا القول هذه الآية بعينها لأنّ وضع اللام في ليعبدون بيان أنّ العبادة هي الغرض من خلق الجنّ و الإنس و معلوم أنّ بعضا منهم لم يعبدوه فيخلف مراده عن إرادته و لا يلزم من هذا البيان أنّه كان محتاجا لهذا الغرض حتّى ينافي الألوهيّة و هو تعالى مستكمل بذاته قبل القبل في أزل الآزال لكن بروز آثار الأسماء يتحقّق بعد الكونيّة.

قوله تعالى: [ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي تعالى شأنه متعاليا عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم و تهيّة أرزاقهم [وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي يطعموني أي مستغن عن جميع ذلك و ما أريد منهم رزقي بل أتفضّل عليهم برزقهم و في الآية تعريض بأصنامهم فإنّهم كانوا يحضرون لها المآكل فربّما أكلتها الكلاب و الثعالب ثمّ بالت عليها.

[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ و هو من قصر الصفة على الموصوف أي لا رازق إلّا اللّه [ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ

ص: 241


1- ابراهيم: 1.

على جميع خلقه متين و شديد في القوّة و القوّة يعبّر بها عن القدرة و المتنان مكتنفا الصلب. قال أهل التحقيق: اعتبروا باللبيب الطالب للأرزاق و حرمانه و بالطفل العاجز و تواتر الأرزاق عليه لتعلموا أنّ الرزق طالب و ليس بمطلوب، قيل: من خاصيّة اسم الرزّاق لسعة الرزق أن يقرأ قبل صلاة الفجر في كلّ ناحية من نواحي البيت عشرا يبدأ باليمين من ناحية القبلة قال السهرورديّ المداوم عليه يقضي حاجته من الملوك و ولاة الأمر فإذا أراد ذلك وقف مقابلة المطلوب و قرأه سبع عشر مرّة و من تلاه عشرين يوما على الريق رزق ذهنا جيّدا.

[فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول اللّه و وضعوا مكان التصديق تكذيبا و هم أهل مكّة [ذَنُوباً] أي نصيبا وافرا من العذاب [مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكيّة و هذا المعنى مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب و هو الدلو العظيم قال: لنا ذنوب و لكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب [فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أصله بياء المتكلّم أي لا يطلبوا منّي أن أعجل في المجي ء بالعذاب لأنّ له أجلا معلوما نازل بهم في وقته المحتوم و هو جواب لقولهم: «مَتى هذَا الْوَعْدُ»* و كان المستعجل النضر بن الحارث و أصحابه فأمهل إلى يوم بدر ثمّ قتل في ذلك اليوم.

[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] و الويل أشدّ من العذاب و الشقاء و واد في جهنّم و وضع الموصول موضع ضميرهم إشعارا بعلّة الحكم و هو الكفر [مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و قيل: المراد من يوم يوعدونه يوم بدر و قيل:

يوم القيامة و هو الأصحّ تمّت السورة بحمد اللّه

ص: 242

سورة الطور

اشارة

* (مكية)* عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرء الطور في المغرب.

روى محمّد بن هشام عن أبي جعفر قال: من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة.

ص: 243

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)

وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)

أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17)

[وَ الطُّورِ] الواو للقسم، و الطور الجبل بالسريانيّة. قال ابن عبّاس: الطود كلّ جبل ينبت قال الشاعر:

لو مرّ بالطور بعض ناعقةما أنبت الطور فوقه ورقه

و قيل: هو جبل محيط بالأرض، الأظهر الأشهر هو جبل مخصوص و هو طور سنين يعني الجبل المبارك و هو جبل واقع بمدين سمع موسى عليه السّلام فيه كلام اللّه و محلّ قدم الأحباب وقت سماع الخطاب أو بين الشام و مدين بالقرب من أيلة كان إذا جاء موسى للمناجاة ينزل عليه غمام فيدخل في الغمام و يتكلّم و هو الجبل الّذي دكّ عند التجلّي و هناك خرّ موسى صعقا و هذا الجبل قيل: إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجر العوسج و يعظّم اليهود شجرة العوسج لهذا السبب.

[وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ] مكتوب على وجه الانتظام فإنّ السطر ترتيب الحروف المكتوبة و المراد به القرآن و قيل: هو الكتاب الّذي كتبه اللّه لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان و ما يكون و آخر سطر في اللوح المحفوظ: سبقت رحمتي غضبي من أتاني بشهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّد رسول اللّه و أنّ عليّا وليّ اللّه ادخله الجنّة. و قيل: هو صحائف الأعمال الّتي

ص: 244

يخرج إلى بني آدم يوم القيامة لقوله: «وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (1) و قيل:

هو التوراة كتبه اللّه لموسى و هو مناسب بالطور.

[فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ] الرقّ الجلد الّذي يكتب فيه، شبه كاغذ استعير لما يكتب فيه الكتابة من الصحيفة و هو ضدّ الغليظ و المنشور خلاف المطويّ نشر الثوب و الصحيفة أي بسطها و التنكير للتفخيم.

[وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ] قيل: هو الكعبة البيت الحرام معمور بالحاجّ و المعتمرين و قيل:

هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة قال أمير المؤمنين: يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبدا و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: البيت المعمور في السماء الرابعة فيه نهر يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل كلّ يوم و إذا خرج انتفض منه انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة يخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون ثمّ لا يعودون أبدا و حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض و قيل: في السماء السابعة، و سمّي بالضراح- بضمّ الضاد المعجمة- من التنحية و الإبعاد أي رفع و أبعد.

[وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ عن الأرض مقدار خمسمائة عام.

[وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ] أي المملوء، و قيل: هو الموقد المحمى بمنزلة التنوّر و تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا يفجر بعضها في بعض ثمّ يفجر إلى النار ورد به الحديث، و على كون المراد من المسجور هو البحر المحيط الأعظم الّذي منه مادّة البحار و هو بحر لا يعرف له ساحل و البحار الّتي على وجه الأرض خلجان منه و في هذا البحر عرش إبليس و فيه مدائن يطغو على وجه الأرض و هي أهلة من الجنّ و فيه قصور تظهر على وجه الماء ثمّ تغيب و تظهر و فيه من الجزائر المسكونة و الخالية ما لا يعلمه إلّا اللّه، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر منه على الموتى ماء كالمنيّ بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فيبيتون في قبورهم.

[إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل بهم حتما و المراد عذاب الآخرة للكفّار هو جواب

ص: 245


1- الإسراء: 13.

القسم [ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه و الفرق بين الدفع و الرفع أنّ الدفع يستعمل قبل الوقوع و الرفع يستعمل بعد الوقوع و معلوم أنّ كلّ معصية و فعل قبيح و وصف ذميم فهو عذاب حكميّ و نار معنويّ و العذاب الصوريّ أثر ذلك و ليس من خارج عن الإنسان أمّا في الدنيا فلأن التلبّس بسبب الشي ء تلبّس بالشي ء.

[يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً] يوم ظرف لواقع، بيان لوقوع العذاب الأكبر في ذلك اليوم و المور الاضطراب قيل: تدور السماء كما تدور الرحى و تنكفئ بأهلها كما تنكفئ السفينة و قيل: يختلج أجزاؤها بعضها في بعض و يموج أهلها بعضهم في بعض و يختلطون و هم الملائكة و ذلك من الخوف [وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً] و تزول من أماكنها حتّى تستوي الأرض، و تسير الجبال كما تسير السحاب ثمّ تنشّ أثناء السير حتّى تصير آخره كالعهن المنفوش لهول ذلك اليوم و تأكيد الفعلين بمصدر لهما للإيذان بغرابتها بحيث لا يدرك كنه غرابتها.

[فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ و الفاء فصيحة أو بمعنى المجازاة و التقدير إذا وقع ذلك الأمر فويل لمن كذّب بآيات اللّه و رسله و كذّب بالبعث و هو لا ينافي تعذيب غير المكذّبين من أهل الكبائر لأنّ الويل و العذاب الشديد إنّما هو للمكذّبين باللّه و رسوله [الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ خائضين في الدنيا بالتكذيب و الاستهزاء و الأباطيل من الأقوال و الأفعال شبّه التخبّط بالباطل بخوض الماء و غوصه.

[يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا] الدعّ الدفع الشديد أي يدفعون إليها ذلك اليوم دفعا عنيفا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم و يجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعا على وجوههم و في أقفيتهم حتّى يردوها.

[هذِهِ النَّارُ] يقال: لهم و القائل خزنة النار قبل الورود هذه النار [الَّتِي كُنْتُمْ في الدنيا [بِها تُكَذِّبُونَ أَ فَسِحْرٌ هذا] تقريع لهم حيث كانوا يسمّونه سحرا و كنتم تقولون:

للقرآن النّاطق بهذا الخبر سحر فهذا الأمر سحر أيضا و الفاء سببيّة لا عاطفة لئلّا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار [أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أ ترون هذا العذاب أم لا ترون.

ثمّ يقال لهم: [اصْلَوْها] و قاسوا حرّها و شدائدها [فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا] لا خلاص

ص: 246

لكم منها [سَواءٌ عَلَيْكُمْ خبر مبتدء محذوف دلّ عليه فاصبروا أولا تصبروا أي الأمر سواء عليكم في الصبر و عدمه [إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء حيث إنّ الجزاء على كفرهم واجب الوقوع حتما و الغفلة عن خالق البريّات و الشرك به توقد نار الحسرات.

و في الآية إشارة إلى التحذير و مراتب الخوف كما أنّ الآية الّتي تليها إشارة إلى مرتبة الرجاء فإنّ الأمن و القنوط كلاهما ممنوع بل كفر فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ عن الكفر و المعاصي [فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ النعيم الخفض و الدعة و الترفّه و الاسم النعمة بفتح النون و النعيم النعم الكثيرة أي إنّهم في لين عيش من الملبوس و المأكول، و أيّة جنّات و أيّة نعيم كاملة الصفات؟

[سورة الطور (52): الآيات 18 الى 28]

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)

يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

إن المتقين في الجنّة [فاكِهِينَ متلذّذين من النعم [بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الكرامة [وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ صانهم اللّه عن عذاب النار و الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم [كُلُوا وَ اشْرَبُوا] أي يقال لهم من قبل خزنة الجنّة دائما: كلوا و اشربوا [هَنِيئاً] صفة لمصدر محذوف أي طعاما و شرابا هنيئا و ترك الذكر لبيان تنوّعهما و كثرتهما و الهني ء و المري ء صفتان من هنؤ الطعام و مرؤ إذا كان سائغا لا يورث الكور و الكسل [بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فبيّن أنّ رتب الجنّة بحسب الأعمال لكن يمكن دخولها برحمة اللّه.

[مُتَّكِئِينَ حال من ضمير كلوا و اشربوا أي معتمدين [عَلى سُرُرٍ] جمع السرير [مَصْفُوفَةٍ] أي مصطفّة بعضها إلى جنب بعض أو المعنى مزيّنة بالذهب و الفضّة و الجواهر

ص: 247

قال الكلبيّ: صفّ بعضها إلى بعض طولها مائة ذراع يتقابلون عليها في الزيارة و إذا أراد أحدهم القعود عليها اتّضعت و تطأطأت فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها.

[وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ واحد الحور حوراء و واحد العين عيناء و إنّما سمّين حوراء لأنّ الطرف يحار في حسنهنّ و عيناء لأنّهنّ الواسعات الأعين أو الحور كيفيّة في العين مثل أن يكون البياض في غاية البياض و سواد العين في غاية السواد و الباء للسببيّة أي الإلصاق و الاتّصال وقع بسبب الحور فالتزويج حينئذ ليس على معنى العقد و النكاح فحينئذ تعدّى بالباء و إلّا فعل التزويج ممّا يتعدّى إلى مفعولين بلا واسطة كقوله تعالى:

«زَوَّجْناكَها» (1) و حاصل المعنى و فرنّاهم بهنّ، و في الواقعات المحموديّة مذكور أنّ لأهل الجنّة بيوت ضيافة يعملون فيها الضيافة للأحباب يتنعّمون و لكنّ أهليهم لا يظهرن لغير المحارم و عدم ظهورهنّ لا من حيث الحرمة لأنّ الحلّ و الحرمة من توابع التكليف و لا تكليف في الجنّة لكن لآجل تكميل اللذّة.

[وَ الَّذِينَ آمَنُوا] مبتدء و خبره «أَلْحَقْنا بِهِمْ» [وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي نسلهم [بِإِيمانٍ متعلّق بالاتّباع و المعنى و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان في الجملة و في الآية إيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل إصالة لا إلحاقا [أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي أولادهم الصغار في الدرجة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه تعالى يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته و إن كانوا دونه لتقرّ عينهم بهم و يكمل سرورهم ثمّ تلا هذه الآية فحينئذ يحكم بإيمان الولد الصغير تبعا لأحد أبويه فإنّه تعالى لمّا جعلهم تابعين لآبائهم و لاحقين بهم في أحكام الآخرة فينبغي أن يكونوا لاحقين بهم في أحكام الدينا أيضا.

[وَ ما أَلَتْناهُمْ أي ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من باب ألت يألت كضرب يضرب [مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ] أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقناهم ذرّيّاتهم و في أطفال المشركين و أهل الفترة و المجانين أقوال كثيرة. قيل: يرسل إليهم يوم القيامة رسول من جنسهم و يدعون إلى الإيمان و يمتحن المؤمن منهم بإيقاع نفسه في النار هناك فمن قبل

ص: 248


1- الأحزاب: 37.

الدعوة و لم يمتنع عن الإيقاع في النار خلص و إلّا دخل جهنّم و قيل في أطفال الكافرين يكونون خدّام أهل الجنّة و قيل يلحقون بآبائهم في النار تبعا لآبائهم و هذا القول بعيد جدّا و قال آخرون: إنّهم في الجنّة لكونهم غير مكلّفين و توقّف طائفة فيه انتهى.

[كُلُّ امْرِئٍ عاقل [بِما كَسَبَ رَهِينٌ فهو بمكتسباته مرهون و الرهن ما يوضع وثيقة للدين أي كلّ إنسان مرهون عند اللّه بالعمل الصالح و الإيمان اللّذين هما دين عليه فإن عمل به و أدّاه فكّ رقبته من الرهن و إلّا أهلكها قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لكعب بن عجزة لا يدخل الجنّة لحم نبت من السحت يا كعب الناس صنفان فمبتاع نفسه فمعتقها و بايع نفسه فموبقها.

[وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ و الإمداد الإتيان بالشي ء و بعد الشي ء أي أعطيناهم حالا فحالا من جنس الثمار و من اللّحم من الجنس الّذي يشتهونه.

[يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً] يتعاطفون كأس الخمر و المراد التداول على طريق التجاذب تجاذب الملاعبة لفرط السرور و المحبّة و في هذه الكيفيّة نوع لذّة و لا يكون التنازع في الآية بمعنى التخاصم إذ لا خصومة في الجنّة بل يعطون الكؤوس و يأخذونها بعضهم بعضا و الكأس لا تسمّى كأسا إلّا إذا كان فيه شراب كما لا تسمّى مائدة ما لم يكن عليها طعام فمعنى كأسا أي خمرا تسمية لها باسم محلّها.

[لا لَغْوٌ فِيها] و الكأس مهموزة مؤنّثة أي لا لغو في شربها و لا يتكلّمون في أثناء الشرب بلغو الحديث و اللّغو سقط الكلام و ما لا يعتدّ به و يرد لا عن رويّة و فكر فيجري مجرى اللّغاء و هو في الأصل صوت العصافير و نحوها من الطيور [وَ لا تَأْثِيمٌ أي و لا يفعلون ما يأثم به فاعله و ينسب الإثم من الكذب و السبّ و الفواحش كما هو ديدن المنادمين في الدنيا و لا يؤول حالهم في الشرب إلى ما يؤول حال أهل الدنيا.

[وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الطواف المشي حول الشي ء أي و يدور على أهل الجنّة بالكأس [غِلْمانٌ لَهُمْ جمع غلام و هو الطار الشارب أي مماليك مخصوصون بهم [كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ كالدرّ المصون المخزون في الصفاء و البياض و الحسن و الصباحة و مع ذلك للغلمان في خدمتهم حصول اللّذّة و السرور. قيل للنبيّ: يا رسول اللّه إذا كان الخادم كالؤلؤ فكيف بالمخدوم؟

ص: 249

فقال صلّى اللّه عليه و آله: و الّذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب و عنه صلّى اللّه عليه و آله إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه فيجيبه ألف خادم ببابه لبّيك لبّيك.

[وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعض أهل الجنّة بعضا آخر عن أحواله و أعماله على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث للانس و كلّهم سائلون و مسؤولون [قالُوا] أي السائلون [إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل دخول الجنّة [فِي أَهْلِنا] في الدنيا [مُشْفِقِينَ خائفين من عصيان اللّه وجلين من العاقبة و المراد من الأهل الأزواج و الأولاد و العبيد و الإماء و الأصحاب [فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا] و أنعم بالرحمة [وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ و حفظنا من عذاب النار النافذة في المسامّ و ثقب الجسد مثل المنخر و الفم و الاذن نفوذ الريح الحارّة الّتي تؤثّر تأثير ألم و الإشفاق أرقّ من الخوف و الخوف أصلب و الشفقة نقيض الغلظة و أصله الضعف من قولهم ثوب شفيق أي رقيق النسج و منه الشفق للحمرة عند غروب الشمس لأنّها حمرة ضعيفة.

[إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ المصير إلى اللّه يعنون في الدنيا [نَدْعُوهُ أي نعبده و نسأله الوقاية [إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ] أي المحسن [الرَّحِيمُ كثير الرحمة و البرّ خلاف البحر و في البرّ التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي المتوسّع في فعل الخير و برّ الوالدين التوسّع في الإحسان إليهما.

قال علماء الأخلاق: لا يكون الفقير فقيرا حتّى يكون فيه خصلتان أحدهما الثقة باللّه و الثانية الشكر له فيما زوي عنه من الدنيا ممّا ابتلي به غيره و لا يكمل الفقير حتّى يكون نظره من اللّه له في المنع أفضل من نظره له في العطاء و علامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء.

قوله تعالى: [سورة الطور (52): الآيات 29 الى 43]

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

ص: 250

ثمّ خاطب نبيّه فقال:

[فَذَكِّرْ] و لمّا بيّن سبحانه أنّ في الوجود قوما يخافون اللّه فأمر نبيّه بالتذكير و فرّع بقوله: «فَذَكِّرْ» و اثبت على ما أنت عليه من العظمة بما أنزل إليك من الآيات و لا تكترث بما يقولون من الأباطيل.

[فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ (نعمت) رسّمت بالتاء و وقف عليها بالهاء، أي لست بسبب إنعامه عليك بالنبوّة و زيادة العقل [بِكاهِنٍ و الكاهن من يبتدع القول و يخبر عمّا سيكون في غير وحي و قيل: الكاهن الّذي يخبر بالأخبار الماضية الخفيّة بضرب من الظنّ كالعرّاف الّذي يخبر عن الأخبار المستقبلة على نحو ذلك و لكون هاتين الصناعتين مبنيّتين على الظنّ الّذي يخطئ و يصيب قال صلّى اللّه عليه و آله: من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما قال فقد كفر بما أنزل اللّه على محمّد لأنّ الغيب لا يعلمه إلّا اللّه.

و يجوز أن يكون الباء في قوله: «بِنِعْمَةِ» للقسم فأقسم سبحانه أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس بكاهن كما يقولون [وَ لا مَجْنُونٍ و الجنون زوال العقل و ستره و فساده و يحصل بحصول الحائل بين النفس و العقل و هو إذا حصل دائما أو في أكثر أوقات السنة فمطبق و إلّا فدوريّ.

[أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ] «أم» المكسورة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل لكنّ الخليل قال: ما في سورة الطور من ذكر أم كلمة استفهام و ليست بعطف يعني ليست بمنقطعة للتوبيخ «شاعِرٌ» أي هو شاعر قال المرزوقيّ شارح الحماسة: تأخّر الشعراء عن البلغاء لأنّ ملوكهم قبل الإسلام و بعده ينجّحون بالخطابة و يعدّونها أكمل أسباب الرياسة و يعدّون الشعر دناءة لأنّ الشعر كان مكسبة و تجارة و فيه وصف اللّئيم عند الطمع بصفة

ص: 251

الكريم و الكريم عند تأخّر صلته بوصف اللّئيم.

و ممّا يدلّ على شرف النثر أنّ الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأنّ زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله زمن الفصاحة فلهذا السبب نسبوا الشعر إليه صلّى اللّه عليه و آله و ظنّوا أنّه كان يرجو الأجر على التبليغ و لذا قال اللّه تعالى: (1) «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً»* و قال: (2) «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ» و قوله: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ» من باب الترقّي لأنّ الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن و قد قيل: أحسنه أكذبه و كانوا يقولون: لا نعارضه مخافة أن يغلبنا بقوّة كلامه و إنّا نصبر و نتربّص موته و هلكه و حينئذ يتفرّق أصحابه.

[نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ و المراد بالريب الحوادث الّتي يترتّب ضد مجي ء الموت أو حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء.

ثمّ قال سبحانه: [قُلْ يا محمّد: انتظروا حوادث الدهر و [تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ المنتظرين و تربّص الكفّار بالنبيّ قبيح و تربّص النبيّ و المؤمنين بالكفّار حسن و الكلام و إن كان بصورة الأمر و لكن معناه التهديد.

[أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ الحلم ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و الحكم و إن كان في الحقيقة ليس هو العقل لكن من مسبّبات العقل و لذا فسّر بالعقل قال المفسّرون:

كانت عظماء قريش توصف بالأحلام و العقول فأزرى اللّه بعقولهم فقال: بل أ تأمرهم عقولهم بما يقولونه لك هذه الأقوال السخيفة و لم تثمر عقولهم بأن غيّروا الحقّ عن الباطل.

ثمّ أخبر عن طغيانهم فقال: [أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ و قرئ بل هم قوم طاغون يتجاوزون الحدود في المكابرة و العناد.

[أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ هو ترقّ إلى ما هو أبلغ في القبح و الإنكار و هو أن نسبوه إلى اختلاق القرآن من تلقاء نفسه و ليس الأمر كما زعموا [بَلْ لا يُؤْمِنُونَ البتّة لعنادهم فإن كان الأمر كما زعموا [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ و يأتوا بكلام مثل القرآن و إذا قرئ بحديث منوّنا فالضمير في «مِثْلِهِ» راجع إلى القرآن و إذا قرئ على طريق الإضافة فيكون الضمير راجعا إلى النبيّ

ص: 252


1- الانعام: 90.
2- يس: 69.

[إِنْ كانُوا] فيما يزعمون [صادِقِينَ فإنّ صدقهم في قولهم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله لمشاركتهم له صلّى اللّه عليه و آله في العربيّة و البشريّة و الفصاحة مع طول الممارسة لهم للخطب و الأشعار و قدرتهم على أساليب النظم و النثر و حفظ الوقائع و الأيّام و لهم مع ذلك دواع في الإتيان و قد عجزوا و لم يأتوا بمثله و لا بمثل بعضه لأنّ القرآن معجز من حيث معناه و أحكامه و تكاليفه بحيث أن لو اجتمع عقلاء الدنيا بأن يقنّنوا قانونا في العالم لنظام العالم أكمل و أتمّ من القرآن لا يقدرون و مثله أيضا لا يقدرون و كذلك معجز من حيث اللّفظ لأنّ القرآن متميّز من خطبة البلغاء ببلوغه حدّ الكمال من إنجاز اللّفظ و التنبيه الغريب و الاستعارة البديعيّة و تلاؤم الحروف و الكلمات و فواصل الآيات و تجانس الألفاظ و تعريف القصص و الأحوال و تضمين الحكم و الأسرار و حسن البيان في الطلب و تمهيد المصالح و الأسباب و الأخبار عمّا كان و ما يكون مع أنّ مادّته ألفاظ العرب و ألفاظه ألفاظهم و إنّه منظّم من ما ينظّمون به كلامهم و قد أعجزهم القرآن لفظا و معنى.

[أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ] أي أم أحدثوا و قدروا هذا التقدير البديع من غير محدث و قيل: المعنى أم خلقوا من أجل لا شي ء من عبادة و جزاء فحينئذ «من» للسببيّة [أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم فلذلك لا يعبدون اللّه و لا يطيعونه.

[أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم و خلق السماوات و الأرض؟ قالوا: اللّه، و هم غير موقنين بما قالوا و إلّا لما أعرضوا و أشركوا بعبادته.

[أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ جمع خزانة بالكسر و هو محرز المال أي أعندهم خزائن رزقه و رحمته حتّى يرزقوا من شاءوا و يمسكوها عن من شاءوا حتّى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره للنبوّة.

[أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الغالبون على الأمور و يدبّروا أمر الربوبيّة و مسلّطون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا مأخوذ من السطر كأنّه يخطّ للمسلّط عليه خطّا لا يجاوزه.

[أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب إلى السماء و السلّم اسم لما يتوصّل به إلى كلّ شي ء رفيع

ص: 253

[يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فيمن يستمعون معنى الصعود، و «فِيهِ» متعلّق بمحذوف هو حال من فاعل يستمعون و تقدير الكلام يستمعون صاعدين في ذلك السلّم و مفعول يستمعون محذوف أي إلى كلام الملائكة و ما يوحى إليهم من علم الغيب حتّى يكونوا واثقين بقولهم أو في بمعنى على كقوله: «فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» [فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ و هو أمر تعجيز أي فليأتوا ما سمعوا [بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة تدلّ على صدق قولهم.

[أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ في الكلام إنكار عليهم حيث جعلوا ما يكرهون للّه و تركيك لعقولهم و اختيارهم و ذلك أنّ من جعل خالقه أدون حالا منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه كما قال: «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ» (1) و من كان في عنوان هذه الخرافات لم يستبعد منه هذه الحماقات.

[أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً] رجوع إلى خطابه صلّى اللّه عليه و آله و إعراضا عنهم أي أ تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة [فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ فهم لأجل إلزام الغرامة يحملون الثقل و في الكشّاف الغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه من غير جناية منه أو ما يلزم أدائه و كذلك المغرم و الغريم من عليه الدين.

[أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللّوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب [فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه حتّى يتكلّموا في ذلك بنفي أو إثبات في أمر القيامة و غيرها.

[أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً] أي يكتفون بهذه المقالات الفاسدة بل يريدون مع ذلك أن يكيدوا بك كيدا و هو كيدهم في دار الندوة و قد مرّ بيانه من القتل و الحبس و الإخراج في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و الكيد هو الأمر الّذي يسوء من نزل به أو ضرب من الاحتيال و إرادة مضرّة الغير خفية؛ و هو من الخلق الحيلة السيّئة، و من اللّه التدبير بالحقّ لمجازاة أعمال الخلق قال بعض المفسّرين مثل السدّيّ: المعنى أنّ هذا البيان من الأخبار بالغيب فإنّ السورة مكّيّة و ذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة.

[فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي هم الّذين يحيق بهم كيدهم و يعود إليهم وبال كيدهم لا من أرادوا أن يكيدوه فإنّه صلّى اللّه عليه و آله الغالب عليهم حجّة و سيفا و المراد ما أصابهم يوم بدر.

ص: 254


1- النحل: 58.

[أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يغنيهم و يحرسهم من عذابه [سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ نزّه نفسه تعالى عمّا ينسبون إليه من الشرك.

قوله تعالى: [سورة الطور (52): الآيات 44 الى 49]

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ (49)

[وَ إِنْ يَرَوْا] قطعة من العذاب أو من السماء أي إن عذّبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لأن ينتهوا عن كفرهم قالوا: هو قطعة من السحاب من فرط طغيانهم و عنادهم و الكفّ هو التغطية كالكسوف و المركوم المتراكم الغليظ أي سحاب هذا تراكم و القي بعضها على بعض و لم يصدّقوا أنّه كسف ساقط للعذاب و حاصل المعنى مثل قوله: «وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ» حتّى شاهدوا بالعين لقالوا: «إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا» فالمعنى [فَذَرْهُمْ يا محمّد ودعهم [حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ إلى أن يعاينوا اليوم الّذي فيه يهلكون و قرئ مجهولا من صعقته الصاعقة [يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] من العذاب بأن يتمكّنوا من ردّ العذاب عن أنفسهم [وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ بغيرهم في دفع العذاب عنهم.

[وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا] أي لهؤلاء الظلمة من الكفّار مثل أبي جهل و أصحابه [عَذاباً] آخر [دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة و المراد يوم بدر من القتل و الأسر و قيل: يريد عذاب القبر و قيل: المراد الجوع و القحط سبع سنين [وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لفرط جهلهم و عنادهم و على العاقل أن يعتقد و يتعلّم علم الآخرة و هو من المعلوم الضروريّة الواجبة قال بعض المحقّقين: العلم علمان: علم تحتاج منه مثل ما يحتاج من القوت فينبغي الاقتصار على قدر الحاجة منه و هو علم الأحكام فينبغي النظر فيه بقدر ما تمسّ الحاجة إليه في الوقت فإنّ تعلّق تلك العلوم إنّما هو بالأحوال الواقعة في الدنيا للعمل حتّى يكون على بصيرة فقط لا غير و علم ليس له حدّ يوقف عليه و هو العلم المتعلّق بمعرفة اللّه

ص: 255

و مواطن القيامة إذ العلم بمواطنها يؤدّي العالم بها إلى الاستعداد لكلّ موطن بما يليق به لأنّ اللّه هو المطالب في ذلك اليوم و هو يوم الفصل فينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة من أمره معدّا للجواب عن نفسه و عن غيره في المواطن الّتي يعلم أنّه يطالب بالجواب.

و من المواطن القبر؛ فإنّ اللّه يحيي العبد المكلّف في قبره و يردّ الحياة إليه و يجعله من العقل في مثل الحال الّذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه و ما يجيب به و قد سئل صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر بفتنة الميّت في قبره و سؤال منكر و نكير و هما الملكان: (قيل: إنّ السائل كان عمر) أ يرجع عليّ عقلي؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم و أنكره الملحدة و من تمذهب من الإسلاميّين بمذهب الفلاسفة عذاب القبر لكنّهم بمعزل عن الدين القويم و المداد أعزّ من أن يصرفه الإنسان في الاستمداد ببيان سواد وجوههم و قباحة مذهبهم و الأحاديث من رواة العامّة و الخاصّة في بيان عذاب القبر و ضغطته أكثر من أن تحصى و كان صلّى اللّه عليه و آله يدعو و يقول: اللّهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة المسيح الدجّال و ينجي المؤمن من عذاب القبر و أهواله خمسة أشياء: الأوّل الرباط في سبيل اللّه و لو يوما و ليلة و الثاني الشهادة بأن يقتل في سبيل اللّه و الثالث قراءة سورة الملك فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم يضرّه القتال و الرابع الموت مبطونا فإنّه لا يعذّب في قبره و الخامس الوقت ففي الحديث من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة (؟).

قوله: [وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود و حكم ربّك الّذي حكم به و ألزمك التسليم له إلى أن يقع عليهم العذاب الّذي حكمنا عليهم [فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا] أي بمرأى منّا و خبر استناد جمع العين للإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ و بكثرة أسباب الحفظ و تأمّل بين الحبيب و درجة الكليم حيث أفرد فيه العين و قال «وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» و عناية عين اللّه تعالى على محمّد مستمرّة لا ينقطع لا في حياته و لو أنّ موته عين الحياة كما روي أنّه ينزل على قبر محمّد صلّى اللّه عليه و آله كلّ صباح سبعون ألف ملك و يضربون أجنحتهم عليه و يحفظونه إلى المساء ثمّ ينزل سبعون ألفا غيرهم فيفعلون به ما فعل الأوّلون و هكذا إلى يوم القيامة روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ من قال: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاث مرّات و قرأ ثلاث آيات آخر سورة الحشر «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا

ص: 256

هُوَ» إلى آخر السورة حين يصبح و كلّ اللّه به سبعين ألف ملك يحرسونه و كذلك إذا قرأها حين يمسي و كلّ اللّه به سبعين ألف ملك يحرسه قوله: [وَ سَبِّحْ أي نزّهه تعالى عمّا لا يليق به حال كونك متلبّسا [بِحَمْدِ رَبِّكَ على نعمائه [حِينَ تَقُومُ من أيّ مقام قمت قال سعيد بن جبير: أي قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللّهم و بحمدك أي سبّح اللّه متلبّسا بحمده فإن كان ذلك المجلس خيرا ازددت إحسانا و إن كان غير ذلك كان كفّارة له قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه- بالغين المعجمة و الطاء المهملة و هو كلام الردي ء و اختلاط أصوات الكلام حتّى لا يفهم- فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللّهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك و أتوب إليك كان كفّارة له ما لم يتعلّق بحقّ آدميّ كالغيبة و كان رسول اللّه إذا قام لصلاة الليل كبّر عشرا و حمد اللّه عشرا و سبّح اللّه عشرا و هلّل عشرا و استغفر عشرا و يتعوّذ من ضيق المقام يوم القيامة.

[وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة الليل روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن الباقر و الصادق عليهما السّلام في هذه الآية قالا: إنّ رسول اللّه كان يقوم من الليل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السماء و يقرء الخمس من آل عمران الّتي آخرها «إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ثمّ يفتح صلاة الليل الخبر و قيل: معناه صلّ المغرب و العشاء الآخرة [وَ إِدْبارَ النُّجُومِ بكسر الهمزة مصدر أدبر يعني الركعتين قبل صلاة الفجر عن ابن عبّاس و قتادة و هو المرويّ عن الصادقين و الرضا عليهم السّلام و ذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح و قيل: يعني صلاة الفجر المفروضة و قيل: إنّ المعنى لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا و مساء و نزّهه في جميع أحوالك ليلا و نهارا فإنّه لا يغفل عنك.

و في قوله تعالى: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» إشارة إلى أنّه أشقّ على النفس و أثوب و أبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل و الليل زمان المعراج و الصلاة معراج المؤمن فمن أراد أن يتأسّى في الجملة برسول اللّه فليصلّ بالليل و الناس نيام و لشرف ذلك الوقت كان معراجه صلّى اللّه عليه و آله فيه لأقرب الصباح لأنّ في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات و في ختم هذه السورة بالنجوم و افتتاح الآتية بالنجم أيضا من حسن الانتهاء و الابتداء تمّت بعون اللّه.

ص: 257

سورة النجم

اشارة

مكّيّة غير آية منها فإنّها نزلت بالمدينة. «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ» الآية، عدد آيها اثنتان و ستّون آية.

فضلها: عن ابيّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ سورة و النجم اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد و من جحد به.

و عن الصادق عليه السّلام قال: من كان يد من قراءة و النجم في كلّ يوم أو في كلّ ليلة عاش محمودا بين الناس.

ص: 258

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّها أوّل سورة جهر بها رسول اللّه و جهر بقراءتها في الحرم و المشركون يستمعون نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة من النبوّة و لمّا بلغ صلّى اللّه عليه و آله السجدة سجد معه المؤمنون و المشركون و الجنّ غير أبي لهب في رواية أنّه رفع من تراب حفنة إلى جبهته و قال: يكفيني هذا، و في رواية كان ذلك الوليد بن المغيرة فإنّه رفع ترابا إلى جبهته فسجد عليه لأنّه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود و إنّما سجد المشركون.

قال الشيخ إسماعيل الحقّي صاحب تفسير روح البيان: لأنّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا بلغ إلى قوله: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألحق الشيطان به قوله:

تلك الغرانيق العلى* منها الشفاعة ترتجى فسمعه المشركون و ظنّوا أنّه من القرآن فسجدوا لتعظيم آلهتهم و من ثمّ عجب المسلمون من سجود المشركين من غير إيمان و المراد بالغرانيق العلى الأصنام و شبّهت الأصنام بالغرانيق الّتي هي طائر الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة و إسكان الراء و هو طير طويل العنق أو الكركي و وجه الشبه بين الأصنام و تلك الطيور أنّ تلك الطيور تعلو و ترفع في السماء فالأصنام مشبهة بها في علوّ القدر و ارتفاعه.

ص: 259

أقول: و قد مرّ بيانه في تفسير سورة الحجّ و هذه الرواية رواها ابن عبّاس قال الطبرسيّ في المجمع: إن صحّ الخبر محمول على أنّه كان صلّى اللّه عليه و آله يتلو القرآن فلمّا بلغ إلى هذا الموضع و ذكر أسماء آلهتهم و قد علموا من عادته صلّى اللّه عليه و آله أنّه يعيبها قال بعض الحاضرين من المشركين: تلك الغرانيق العلى و ألقى ذلك في تلاوته توهّم أنّ ذلك من القرآن فأضافه اللّه إلى الشيطان لأنّه إنّما حصل بإغوائه و وسوسته حيث يقول عزّ و جلّ:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (1) أي في تلاوته. هكذا أورده المرتضى قدّس سرّه في كتاب التنزيه.

و بالجملة قوله تعالى: [وَ النَّجْمِ إِذا هَوى الواو للقسم أقسم بالنجم و المراد به الثريّا فإنّه اسم غالب عليها و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: ما طلع النجم قطّ و في الأرض من العاهة شي ء إلّا رفع يريد صلّى اللّه عليه و آله الثريّا و تسمّى الثريّا أيضا بالية الحمل لأنّها تطلع بعد بطن الحمل و هي سبعة كواكب و لا يكاد يرى السابع منها لخفائه تمتحن به الأبصار و كانت قريش تعظمها و تقول: أحسن النجم في السماء الثريّا و كانت رجلتاها عند طلوعها و سقوطها فإذا طلعت بالغداة عدوّها من الصيف و إذا طلعت بالعشيّ عدّوها من الشتاء «إِذا هَوى إذا غرب و الهويّ السقوط من علو إلى سفل.

و في تفسير قوله: «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى أقوال:

الاول: أنّه تعالى أقسم بالنجم الثريّا إذا سقطت و غابت مع الفجر.

و الثاني: أقسم بالقرآن إذا نزل نجوما متفرّقة على النبيّ في ثلاث و عشرين سنة فسمّى القرآن نجما لتفرّقه في النزول و العرب يسمّي التفريق تنجيما و المفرّق منجّما.

و الثالث: أنّ المراد به جماعة النجوم إذا هوت و أخفيت و أراد به الجنس و إشارة في أفول النجم إلى طلوعه لأنّ ما يأفل يطلع فاستدلّ بافوله و طلوعه إلى وحدانيّته تعالى و قيل: المراد بهويّه و سقوطه يوم القيامة.

و الرابع: يعني به الرجوم من النجوم و هو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع و روت العامة عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: أراد بالنجم محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إذا نزل ليلة

ص: 260


1- الحج: 52.

المعراج و الهويّ النزول نزل من السماء السابعة ليلة المعراج و لمّا نزلت السورة و قرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جاء عتبة بن أبي جهل (1) إلى النبيّ و طلّق ابنته النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تفل اللعين في وجهه صلّى اللّه عليه و آله و قال: كفرت بالنجم و بربّ النجم فدعا صلّى اللّه عليه و آله عليه و قال: اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة مع أبيه إلى الشام فنزل في بعض الطريق و ألقى اللّه إليه الرعب فقال: لأصحابه أقيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد أو كلب فافترسه من بين الناس.

الخامس: في المجالس عن ابن عبّاس قال: صلّينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول اللّه فلمّا سلّم أقبل إلينا بوجهه ثمّ قال: إنّه سينقضّ كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم فمن سقط ذلك الكواكب في داره فهو وصيّي و خليفتي و الإمام بعدي فلمّا كان قرب الفجر جلس كلّ واحد منّا في داره فلمّا طلع الفجر انقضّ الكواكب في دار عليّ قال ابن عبّاس- و كان أطمع القوم في ذلك-: فقال رسول اللّه لعليّ: يا عليّ و الّذي بعثني بالنبوّة لقد وجبت لك الوصيّة و الخلافة و الإمامة بعدي فقال المنافقون: لقد ضلّ محمّد في محبّة ابن عمّه و غوى و ما ينطق في شأنه إلّا بالهوى فأنزل اللّه تعالى: «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى يعني في محبّة عليّ [وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى في شأن عليّ [إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام ما يقرب منه و القميّ عن الرضا عليه السّلام إنّ النجم رسول اللّه. و عن الباقر عليه السّلام يقول: ما ضلّ في عليّ و ما غوى و ما ينطق فيه عن الميل و الهوى و ما كان ما قاله فيه إلّا عن الوحي الّذي اوحي إليه و في الكافي عنه عليه السّلام: أقسم سبحانه بمحمّد إذا قبض ما ضلّ صاحبكم بتفضيله أهل بيته و ما غوى و ما ينطق بفضل أهل بيته بهواه و هو قول اللّه: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه.

و في المجالس عن الصادق عليه السّلام إنّ رضى الناس لا يملك و إنّ ألسنتهم لا تضبط و كيف تسلمون ممّا لم يسلم منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنبيائه فنسبوا نبيّنا محمّدا إلى أنّه ينطق عن الهوى في ابن عمّه عليّ حتّى كذّبهم اللّه فقال: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى .ب.

ص: 261


1- الصحيح: عتبة بن أبى لهب.

و بالجملة ما عدل صلّى اللّه عليه و آله عن الحقّ و ما فارق الهوى و ما خاب عن إصابة الرشد. و قيل: ما خاب سعيه بل ينال ثواب اللّه و كرامته.

و قوله: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ» جواب القسم. و الوحي قد يكون اسما بمعنى الكتاب الإلهيّ و قد يكون مصدرا و له معان الإرسال و الإلهام و الكتابة و الإشارة إلى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد فنى عن ذاته و صفاته و أفعاله في ذات اللّه و صفاته و أفعاله بحيث لم يبق منه لا اسم و لا رسم فكان ناطقا بنطق الحقّ لا بنطق البشريّة فحينئذ لا يجري عليه الخطرات الشيطانيّة و الهواجس النفسانيّة به و هذا معنى قوله: لست كأحدكم أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني و قوله صلّى اللّه عليه و آله: أنا من اللّه و المؤمنون منّي.

[عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي علّم القرآن الرسول و نزل به عليه و قرأه عليه و بيّنه له هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب و إن كان بمعني الإلهام فتعليمه بتبليغه إلى قلبه صلّى اللّه عليه و آله فيكون كقوله: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» (1) «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى من إضافة الصفة إلى فاعلها مثل حسن الوجه و الموصوف محذوف أي ملك شديد قواه و هو جبرئيل عليه السّلام و يكفيك دليلا على شدّة قواه أنّه قطع قرى قوم لوط من الماء الأسود تحت الثرى و حملها على جناحه و رفعها إلى السماء حتّى سمع أهل السماء نياح الكلاب و صياح الديكة ثمّ قلبها و صاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين و رأى جبرئيل إبليس يكلّم عيسى صلّى اللّه عليه و آله في بعض عقبات الأرض المقدّسة فنفخه نفخة بجناحه و ألقاه في أقصى جبل في الهند و كان هبوطه على الأنبياء و صعوده عليه السّلام في أسرع من رجعة الطرف.

[ذُو مِرَّةٍ] أي حصافة و استحكام في رأيه و عقله و متانة في دينه و المرّة بالكسر قوّة الخلق و العقل و فلان ذو مرّة أي محكم الفتل و ذو مرّة جبرئيل.

[فَاسْتَوى عطف على علّمه أي فاستقام و استقرّ بصورته الّتي خلقه اللّه عليها و له ستّمائة جناح دون الصورة الّتي كان يتمثّل بها كلّما هبط إلى الأرض كما كان يهبط بالوحي أحيانا بصورة دحية الكلبيّ و أتى إبراهيم في سورة الضيف و لداود في صورة الخصم و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحبّ أن يراه في صورته الّتي جعل عليها و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بجبل

ص: 262


1- الشعراء: 193.

حراء و هو الجبل المسمّى بجبل النور بقرب مكّة فقال جبرئيل: إنّ الأرض لا تسعني و لكن انظر إلى السماء فطلع له جبرئيل من المشرق فسدّ الأرض من المغرب و ملأ الأفق فخرّ رسول اللّه كما خرّ موسى في جبل الطور فنزل جبرئيل في صورة الآدميّين فضمّه إلى نفسه و جعل يمسح الغبار عن وجهه فإنّ الجسد و هو في الدنيا لا يتحمّل رؤية ما هو خارج عن طور العقول.

و ما رأى أحد من الأنبياء صورة جبرئيل بصورته غير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله فإنّه رآه فيها مرّتين مرّة في الأرض و هي هذه و مرّة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى. و روي أنّ حمزة بن عبد المطّلب استدعى من رسول اللّه و قال: أرني جبرئيل في صورته فقال: إنّك لن تستطيع أن تنظر إليه قال: بلى يا رسول اللّه أرنيه فقعد و نزل جبرئيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا فقال صلّى اللّه عليه و آله: ارفع طرفك يا حمزة فانظر فرفع عينه فإذا قدماه كالزبرجد فخرّ مغشيّا عليه، و روي أنّه رآه على فرس و الدنيا بين كلكلها و في وجهه أخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجرت و إنّما رآه صلّى اللّه عليه و آله مرّتين ليكمل له الأمر مرّة في عالم الكون و الفساد و اخرى في المحلّ الأعلى و إنّما قام بصورته ليؤكّد أنّ ما يأتيه في صورة دحية هو هو.

فإن قيل: كيف يجوز أن يغيّر الملك صورة نفسه و هل يقدر غير اللّه على تغيير صورة المخلوقين و قد ثبت أنّ جبرئيل أتى رسول اللّه في صورة رجل و قد قيل: إنّ إبليس أتى قريشا (1) في صورة شيخ نجديّ.

فالجواب عنه أنّ التغيير الصورة الّذي هو تغيير التركيب و التأليف لا يقدر عليه إلّا اللّه لكن صفة جبرئيل بفعل اللّه و قد جعل اللّه لجبرئيل بأمره هذه القوّة و ليس انتقاله عليه السّلام من صورة إلى صورة يكون بنقض البنية و تفريق الأجزاء و تمزيقها حتّى إذا انقضت بطل الحياة و استحال وقوع الفعل من الجملة و يحتاج إلى إحياء ثان فيكون تلك القدرة من جبرئيل محال و أمّا إبليس فكان ذلك تخييلا للناظرين و تمويها دون التحقيق كفعل السحرة بالعصيّ و الحبال.ه.

ص: 263


1- عند اجتماعهم في دار الندوة لإطفاء نور اللّه.

قال القاضي أبو يعلى و لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم و الانتقال في الصورة إنّما يجوز أن يكونوا معلّمين كلمات و ملقّنين ضربا من ضروب الأفعال إذا فعله و تكلّم به نقله اللّه من صورة إلى صورة فيكون قادرا على التصوير و التخييل معنى أنّه قادر على قول إذا قاله أو على فعل إذا فعله نقله اللّه من صورة إلى صورة اخرى و التمثّل بصورة رجل أو غيره ليس معناه أنّ ذاته انقلبت رجلا بل معناه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن خاطبه و القدر الزائد لا يزول و لا يفنى بل يخفى على الرائي فقط و تعدّد الصور بالتخيّل و التشكّل ممكن كما هو حاصل للجانّ.

قوله: [وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى كناية عن جبرئيل بالأفق المشرق و هو فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحراء جبل النور قرب مكّة و قد مرّ بيانه.

[ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى و قيل: فتدانى و تقديره قرب جبرئيل بعد بعده و علوّه ثمّ تدلّى أي زاد في القرب مثل قولك: فلان قرب منّي و دنا و قيل: المعنى استوى أي اعتدل واقفا في الهواء بعد أن كان نزل بسرعة ليراه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصورته و قيل: إنّ المعنى استوى جبرئيل أي ارتفع و علا إلى السماء بعد أن علّم محمّدا و قيل: استوى جبرئيل و محمّد بالأفق الأعلى يعني السماء ليلة المعراج و قيل: إنّ التدلّي استرسال مع التعلّق أي استرسل جبرئيل من الأفق الأعلى مع تعلّقه به فدنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

[فَكانَ أي مقدار امتداد ما بين رسول اللّه و جبرئيل و مسافة بينهما [قابَ قَوْسَيْنِ و و القوس ما يرمي به و خصّت بالذكر على عادة العرب و قيل: المراد من القوس ما يقاس به الشي ء و المراد مقدار ذراعين يقال: قاس الشي ء يقوسه إذا قدّره و قوله: [أَوْ أَدْنى أو أقلّ من ذراعين أو أقلّ من سيتي القوسين و مسافتهما و العباد يخاطبون على لغتهم و هو كقوله:

«أَوْ يَزِيدُونَ» (1) فإنّ التشكيك لا يصحّ على اللّه فأو للشكّ من جهة العباد كما أنّ كلمة لعلّ كذلك في مواضع القرآن و المعنى لو رآهما راء منكم لقال: هو قدر قوسين في القرب

ص: 264


1- الصافات: 147.

أو أدنى و التبس القرب عليه و المراد بيان و تمثيل بملكة الاتّصال و تحقيق استماعه صلّى اللّه عليه و آله لما اوحى إليه.

[فَأَوْحى أي جبرئيل [إِلى عَبْدِهِ أي محمّد و إضماره قبل الذكر لغاية ظهوره مثل قوله: «ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها» (1) [ما أَوْحى من الأمور العظيمة الّتي لا تفي العبارة أو فأوحى اللّه بواسطة جبرئيل ما أوحى، و في العلل عن السجّاد عليه السّلام أنّه سئل عن اللّه هل يوصف بمكان فقال: تعالى اللّه عن ذلك قيل: فلم اسري بنبيّه محمّد إلى السماء قال: ليريه ملكوت السماء و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه قيل: فقول اللّه: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى قال: ذلك رسول اللّه دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى فحينئذ الضمير في قوله: «دَنا فَتَدَلَّى» راجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و عن الصادق عليه السّلام أوّل من سبق إلى اللّه و ذلك أنّه أقرب الخلق إلى اللّه بالمكان الّذي قال له جبرئيل: لمّا سري به إلى السماء تقدّم يا محمّد فقد وطئت موطئا ما وطئه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل.

و في الأماليّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: عرج بي إلى السماء و دنوت من ربّي كان بيني و بينه قاب قوسين أو أدنى فقال لي: يا محمّد من تحبّ من الخلق؟ قلت: يا ربّ عليّا قال:

فالتفت يا محمّد فالتفّت عن يساري فإذا عليّ بن أبي طالب و في الاحتجاج عن السجّاد قال:

أنا ابن من علا فاستعلى فجاء سدرة المنتهى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى. و في الكافي عن الصادق أنّه سئل كم عرج برسول اللّه فقال: مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له:

مكانك يا محمّد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك و لا نبيّ إنّ ربّك يصلّي فقال: يا جبرئيل و كيف يصلّي قال: يقول سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة و الروح سبقت رحمتي غضبي فقال:

اللّهمّ عفوك عفوك.

قال الصادق عليه السّلام: ما جاء ولاية أمير المؤمنين من الأرض و لكن جاءت من السماء مشافهة قال الفيض: و لا تنافي بين هذه الأخبار و كلّها صدر من معدن العلم على مقادير

ص: 265


1- فاطر: 45.

الأفهام المخاطبين و المراد من الآية تمثيل المقدار القرب المعنويّ الروحاني بالمقدار الصوريّ الجسمانيّ المكانيّ تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون علوّا كبيرا و المراد من قوسين مقدار طرفي القوس فيكون مقدار مجموع مقدار جعل الطرفين من القوس قوسا على حدة لا أنّه طرفي قوسين متعدّدين فيكون مقدار مجموع القوسين مقدار قوس واحد.

قوله تعالى: [سورة النجم (53): الآيات 11 الى 22]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى (19) وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)

أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)

ثمّ بيّن سبحانه ما رآه النبيّ ليلة الأسرى و حقّق رؤيته فقال: لم يكذب فؤاد محمّد ما رآه بعينه و ما أوهمه الفؤاد إنّه رأى و لم ير بل حقيقة رأى و صدّقه الفؤاد رؤيته.

و قيل: المراد رأى محمّد ربّه بفؤاده و بصيرته لا بعينه روي ذلك عن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عليه السّلام فحينئذ يكون بمعنى العلم أي علّمه علما يقينيّا بما رآه بعينه من الآيات الباهرة كقول إبراهيم: «وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (1) و إن كان عالما قبل ذلك و قيل: المراد ممّا رأى من صورة جبرئيل أي ما قال فؤاده لمّا رآه لم أعرفك لأنّه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.

[أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أ تكذّبون محمّدا فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبرئيل أو آيات جلال ربّه و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أخبر بما رأى ليلة الأسرى أنكروا عليه و تعجّبوا و المماراة المجادلة بالباطل و اشتقاقه من مرى الناقة سخت ضرعها لتدرّ و مريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري و لمّا كانت رؤية جبرئيل أو الآيات مستمرّة إلى وقت الانتقال صحّ أن يقال بصيغة المستقبل.

القميّ: سئل رسول اللّه عن ذلك الوحي فقال: اوحي إليّ أنّ عليّا سيّد المؤمنين و إمام المتّقين و أوّل خليفة استخلفه خاتم النبيّين فدخل القوم في الكلام فقالوا: أمن اللّه أو من رسوله فقال اللّه لرسوله: قل لهم: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ثمّ ردّ عليهم فقال:

ص: 266


1- البقرة: 260.

«أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمرت أن أنصبه للناس فأقول: هذا وليّكم من بعدي و إنّه بمنزلة السفينة يوم الغرق من دخل فيها نجا و من خرج عنها غرق.

[وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي رأى جبرئيل في صورته الّتي خلق عليها مرّة اخرى و نزلة منصوب على الظرف الّذي هو مرّة لأنّ الفعلة للمرّة من الفعل فكانت في حكمها في المعنى فيكون تقدير الكلام و باللّه لقد رأى محمّد جبرئيل على صورته الأصليّة مرّة اخرى من النزول و ذلك أنّه كان للنبيّ عليه السّلام ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف في أعداد الصلاة المفروضة فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى جبرئيل بصورته الأصليّة في بعض تلك النزلات.

[عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أي كان جبرئيل عند السدرة و هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة انتهى إليها علم كلّ ملك أو ينتهي ما يعرج إلى السماء و ما يهبط من فوقها و هذه الشجرة حيث انتهى إليه الملائكة فأضيفت إليه و قيل: هي شجرة طوبى و هو مقام جبرئيل و كان قد بقي هناك عند عروجه صلّى اللّه عليه و آله إلى مستوى العرش فقال جبرئيل: لو دنيت أنملة لاحترقت و الظاهر أنّ شجرة السدرة تبق في السماء السابعة عن يمين العرش ورقها كآذان الفيلة نبع من أصلها الأنهار المذكورة في القرآن و ينتهي إليها الملائكة و جبرئيل رسول الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحريّ أن لا يتجاوزها غيره فأعلاها لجبرئيل كالوسيلة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كما أن خواصّ الامّة يشتركون مع النبيّ في جنّة عدن بدون أن يتجاوزوا إلى مقامه المخصوص به فكذا الملائكة يشتركون مع جبرئيل في السدرة بدون أن يتعدّوا إلى ما خصّ به من المكان و إليها ينتهي علم الخلائق و لا يعلم أحد ما وراءها و لو أنّ ورقة من تلك السدرة وضعت لأهل الأرض لأضاءت الأرض و إضافة السدرة إلى المنتهى إضافة الشي ء إلى مكانه كقولك: أشجار البستان و إذا كان الفرض أنّ الضمير المفعول في قوله: «رَآهُ» راجع إلى اللّه كما أنّ المرئيّ هو اللّه يعني أنّ محمّدا رأى اللّه مرّة اخرى يعني مرّتين كما كلّم موسى مرّتين فحينئذ كلمة «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى حال من الرائي لا من المرئيّ لأنّ اللّه منزّه عن أن يحلّ في مكان أو زمان و «عِنْدَ» متعلّق برأى.

ص: 267

قال ابن برجان: الإسراء مرّتين الاولى بالفؤاد و هذه المرّة بالعين و لمّا كان ذلك لا يتأتّى إلّا ينزل بقطع مسافة البعد الّتي هي الحجب عبّر بقوله: «نَزْلَةً أُخْرى و عبّر الوقت بتعيين المكان فقال: «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى و لكن جلّ المفسّرين جعلوا الضمير في قوله «رَآهُ» كناية إلى جبرئيل لا إلى الربّ كما قالت عائشة: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال صلّى اللّه عليه و آله: رأيت جبرئيل نازلا في الأفق على صورته الأصليّة.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ الشيخ الأكبر قال: إنّ معراجه صلّى اللّه عليه و آله أربع و ثلاثون مرّة واحدة بجسده و الباقي بروحه. قال البقليّ: بان الحقّ لحبيبه عند شجرة السدرة لا بالتجسّم كما بان لموسى من شجرة العنّاب.

و بالجملة فعظّم اللّه بيان شرف السدرة فقال: [عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى و إضافة الجنّة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع أي قرب السدرة جنّة الخلد و هي في السابعة و قيل:

هي الجنّة الّتي كان آوى إليه آدم عليه السّلام و تصير إليها أرواح الشهداء. و قيل: هي الّتي يأوي إليه جبرئيل و الملائكة و هذه الجنّة لا تقتضي الخلود لذاتها فلذلك أمكن خروج آدم منها.

[إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى الغشيان بمعنى التغطية و الستر و كلمة «إِذْ» ظرف زمان لرآه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: رأيت السدرة رفرف أي جماعة من طيور خضر- و قيل: يغشاها فراش أو جراد من ذهب- و رأيت على كلّ ورقة ملكا قائما يسبّح اللّه فالطيور هم الملائكة و قيل: يغشاها من النور و البهاء و الصفاء الّذي يروق الأبصار، و حاصل المعنى: إنّه صلّى اللّه عليه و آله رأى جبرئيل في الحال الّتي يغشى فيها السدرة من الملائكة بصورة الفراش يعبدون اللّه.

و التنكير في قوله: «ما يَغْشى لتفخيم الأمر مثل قوله: «ما أَوْحى . و قيل:

المراد من قوله: «ما يَغْشى المراد الملائكة الّذين استأذنوا للقاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأذن لهم و قيل لهم: لا تأتوه بغير نثار فجاء كلّ واحد منهم بطبق من أطباق الجنّة عليه من اللّطائف فنثروه بين يديه. و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله اعطي عند السدرة ثلاثا الصلوات الخمس و خواتيم سورة البقرة و غفر لمن مات من امّته و هو غير مشرك باللّه شيئا.

ص: 268

[ما زاغَ الْبَصَرُ] أي ما مال بصر رسول اللّه أدنى ميل عمّا رآه [وَ ما طَغى و ما تجاوز مع ما شاهد هناك من الأمور العظيمة المدهشة للعقول و ما عدل عن رؤية العجائب الّتي امر برؤيتها و يستفاد من الآية على أنّ رؤيته صلّى اللّه عليه و آله الآيات كانت بعين بصره حقيقة و يقظة لا حكما و قلبا و لو كانت الرؤية قلبيّة لقال ما زاغ قلبه و لو كان المراد بالبصر بصر قلبه فلا بدّ له من القرينة و هي هاهنا معدومة.

[لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي و باللّه لقد رأى محمّد ليلة المعراج الآيات الّتي هي كبراها و عظماها ما لا يحيط به نطاق العبارة الّتي منها ما ذكر في الرفارف و السدرة و صورة جبرئيل و غيرها و اعلم أنّ القدم منزّه عن الحلول في المكان و كانت الشجرة مرآة لظهور جلاله تعالى جلّ جلاله و كان الإسراء ليلة السابع و العشرين من رجب في السنة الثانية عشر من النبوّة قبيل الهجرة.

قال صاحب تفسير روح البيان: إنّ وقوع الإسراء في هذا التاريخ فيه إشكال بل يكون قبل هذا التاريخ لأنّ هذه السورة على ما قيل: نزلت في السنة الخامسة من النبوّة.

و أوّل من رأى صلّى اللّه عليه و آله في السماء ليلة الإسراء آدم في السماء الدنيا و كان آدم قبل ذلك في أمن اللّه و جواره فأخرجه عدوّه إبليس منها و ما أشبه حاله صلّى اللّه عليه و آله بحال آدم حين أخرجه أعداؤه من حرم اللّه و جوار بيته و كربته.

ثمّ رأى صلّى اللّه عليه و آله في السماء الثانية عيسى و يحيى و هما الممتحنان باليهود أمّا عيسى فكذّبته اليهود و آذته و همّوا بقتله فرفعه اللّه و أمّا يحيى فقتلوه كذلك يشبه حاله صلّى اللّه عليه و آله بحالهما من أذى اليهود إيّاه صلّى اللّه عليه و آله و همّوا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه و سمّوا في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتّى قطعت أبهره.

و في السماء الثالثة لقاؤه ليوسف عليه السّلام يشبه حاله حال يوسف و ذلك أنّ يوسف ظهر بإخوته بعد ما أخرجوه من بين ظهرانيّهم فصفح عنهم و قال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» (1) الآية، و كذلك نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أسر يوم بدر جملة من أقاربه الّذين أخرجوه من

ص: 269


1- يوسف: 92.

مكّة و فيهم عمّه العبّاس و ابن عمّه عقيل فمنهم من أطلق و منهم من فداه و ظفر بعد ذلك عليهم عام الفتح فجمعهم و قال لهم: أقول لكم ما قال أخي يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ».

و كذلك لقاؤه صلّى اللّه عليه و آله إدريس في السماء الرابعة و هو المكان الّذي سمّاه اللّه مكانا عليّا و هو أوّل من آتاه اللّه الخطّ بالقلم و هو مؤذّن بحاله رافعة و علوّ شأنه حين أخاف الملوك و كتب صلّى اللّه عليه و آله إليهم يدعوهم إلى طاعته حتّى قال أبو سفيان: و هو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبيّ و رأى ما رأى من خوف هرقل لقد آل أمر ابن أبي (1) كبشة حتّى أصبح يخافه ملك ابن أبي الأصفر و كتب إلى بعض ملوك الأرض فمنهم من اتّبعه على دينه كالنّجاشيّ و ملك عمّان و منهم من هادنه و أهدى إليه و أتحفه كهرقل ملك الشام و مقوقس سلطان مصر و منهم من تعصّى عليه فأظفر اللّه عليه فهذا مقام عليّ.

و لقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السّلام يؤذن بحاله تشبه بحالة موسى حين أمر بغزوة الشام على الجبابرة بعد إهلاك فرعون كذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غزا تبوك من أرض الشام و ظهر على صاحب دومة الجندل حين صالحه على الجزية بعد أن أتى أسيرا و افتتح مكّة و أدخل أصحابه البلد الّذي خرجوا منه.

ثمّ لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم و هو الرافع لقواعد الكعبة المحجوجة و يؤذن بأنّه صلّى اللّه عليه و آله يحجّ هو و أصحابه و يتبع إبراهيم بالحجّ و قيام أمره.

قال أهل التحقيق: إنّ اللّه لا يرى و لا يمكن أن يرى كما هو الحقّ و هذه الآيات دالّة على أنّ محمّدا لم ير اللّه ليلة المعراج و إنّما رأى آيات ربّه المعظمة لأنّه تعالى ختم قصّة المعراج برؤية الآيات حيث قال: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى و قال في موضع آخر:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (2) إلى أن قال: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» و لو كان رآه لكان ذلك أعظم ما يكون من الكرامة و كان يذكره و يختم به.

أقول: و رؤية ذاته تعالى أمر محال غير ممكن و لا يحصل أبدا في الدنيا و لا في الآخرة

ص: 270


1- يلقبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. لما سيأتي ذيل قوله تعالى: «وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى .
2- الإسراء: 1.

و لكنّه أظهر سبحانه لحبيبه من قدرته المظاهر العظيمة و الآيات الكبرى الّتي مفاتيح الفيض من فيضه الأقدس سبحانه لحبيبه المنتخب من كلّ العالم بحيث صارت حياته صلّى اللّه عليه و آله مادّة حياة العالم كلّه علويّة و سفليّة روحانيّة و جسمانيّة معدنيّة و نباتيّة حيوانيّة و إنسانيّة كما قال عزّ و جلّ: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (1) و قال: لو لاك لما خلقت الأفلاك و قال صلّى اللّه عليه و آله: أنا من اللّه و المؤمنون منّي.

و كذلك علمه صلّى اللّه عليه و آله فقد علم الأوّلين و الآخرين و في رواية علم ما كان و ما سيكون و صار صلّى اللّه عليه و آله ببركة تجلّي صفاته تعالى شأنه له صار آدم بتبعيّته و خلافته خليفة العالم كما أخبر في كتابه العزيز «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» و أسجد اللّه الملائكة لتلألؤ نور هذا الحبيب في وجه آدم انتهى.

[أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللّات كانت لثقيف بالطائف و أصله من لويه لأنّهم كانوا يلوون عليها و يطوفون بها و هذا الأصل على قراءة الكسائيّ فإنّه كان يقف باللّاة بالهاء و يجعلها من هذه المادّة و الباقون يقفون بالتاء و أصله من اللّات و أصله من اسم رجل كان بيت السويق للحجّاج بسمن و أقط إذا قدموا و كان رجلا صالحا و كانت العرب تعظم ذلك الرجل بإطعامه في كلّ موسم فلمّا مات اتّخذوا مقعده الّذي كان بيت فيه السويق منسكا ثمّ سنح لهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصخرة الّتي كان يقعد عليها و مثّلوها صنما و سمّوها اللّات أي ملتّ السويق.

و العزّى تأنيث الأعزّ كانت لغطفان و هي سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خالد بن الوليد فقطّعها و هو يقول:

يا عزّ كفرانك لا سبحانك إنّي رأيت اللّه قد أهانك

قيل: فخرجت من أصلها شيطانة باشرة شعرها واضعة يدها على رأسها و هي تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتّى قتلها و قيل: صنم لا سمرة، و أوّل من اتّخذها ظالم بن اسعد من ملوك اليمن قيل: كانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها خالد فهدم البيت الّذي هي فيه و أحرق السمرة.

ص: 271


1- الأنبياء: 107.

و مناة صخرة لهذيل و خزاعة سمّيت، لأن دماء المناسك تمنى و تراق عندها و منه منى و في إنسان العيون: مناة صنم كان للأوس و الخزرج. أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سعد بن زيد الأشهليّ في عشرين فارسا إلى مناة ليهدم محلّها فلمّا وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة قال: أنت و ذاك فأقبل سعد إلى ذلك الصنم فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء تائرة الرأس تدعو بالويل و تضرب رأسها فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها و هدم محلّها.

و وصف مناة بالثالثة تأكيدا لأنّها لمّا عطفت عليها علم أنّها ثالثتهما و الاخرى صفة ذمّ لها و هي المتأخّرة الوضعيّة المقدار لأنّ الأخرى يستعمل في الضعفاء كقوله تعالى «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ» (1) أي ضعفاؤهم لرؤسائهم. و الاخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء و هو في الأصل المتأخّر في الوجود نقل في الاستعمال إلى المغايرة مع الاشتراك مع موصوفه فيما أثبت له و كانت الأوّليّة و التقدّم عندهم للّات فيكون مناة من المتأخّر الرتبيّ.

و قيل: إنّ المشركين أرادوا أنّ لآلهتهم من الأسماء الحسنى فسمّوا في مقابلة اسم اللّه اللات و في مقابلة العزيز العزّى و في مقابلة المنّان المناة و كانوا يقولون: إنّ الملائكة و تلك الأصنام بنات اللّه.

و الحاصل في معنى الآية: أخبروني عن حال آلهتكم الّتي تعبدونها و اتّخذتموها معبودا هل وجدتم فيها صفة من صفات الألوهيّة من الإيجاد و الإعدام و النفع و الضرّ لا بل اتّخذتموها آلهة لغاية جهلكم و ظلمكم على أنفسكم، و الهمزة للإنكار و التبكيت و المفعول الثاني من رأيتم محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره خالقة و كان بعض المشركين يقولون:

إنّ الملائكة بنات اللّه و هذه الأصنام صورتها و يعبدونها فقال سبحانه على سبيل التوبيخ مثل توبيخ الأوّل:

[أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى أي الّذي تستنكفون منه تنسبونه إليه تعالى [تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إشارة إلى القسمة القبيحة المستنبطة من الجملة الاستفهاميّة و ضيزى فعلى

ص: 272


1- الأعراف: 38.

بضمّ الضاد من ضاز يضيز ضيزا إذا جار في الحكم و ضازه حقّه إذا بخسه و نقصه أي ما هذا إلّا قسمة الجور.

[سورة النجم (53): الآيات 23 الى 30]

إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27)

وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)

[إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ] أي ليس تسميتكم هذه الأصنام بأنّها آلهة و أنّها بنات اللّه إلّا مجرّد الأسامي لا معاني لها و لا مصاديق تحت هذه الأسماء لأنّه لا ضرّ لها و لا نفع و ما هي إلّا مجرّد الأسامي لا معاني لها و لا مصاديق تحت هذه الأسماء لأنّه لا ضرّ لها و لا نفع و ما هي إلّا أسماء ألقيت على جمادات [ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي لم ينزل اللّه حجّة و كتابا لكم فيها و ليس لكم فيما تقولونه حجّة [سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ و أسماء خالية عن المسمّيات وضعتموها للأصنام أنتم و من تقدّم منكم بمقتضى أهوائكم الباطلة.

[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ التفات إلى الغيبة للإيذان بأنّ تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم و ما يتّبعون إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّا [وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ و يشتهونها تأسّيا بأفعال آبائهم و هوى أنفسهم [وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حال من فاعل يتّبعون و فيه تأكيد لبطلان اتّباع الظنّ و هوى النفس و الهدى القرآن و الرسول و لم يهتدوا بهما مع أنّ القرآن و الرسول و المعجزات من موجبات الهدى و قد أعرضوا لجهلهم.

[أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس للإنسان كلّ ما يتمنّاه و تشتهيه نفسه من الأمور الّتي من جملتها طمعهم الفاسد في شفاعة هؤلاء الجمادات.

ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ص: 273

و قيل: المعنى أم للإنسان ما اشتهى من طول الحياة و أن لا بعث و لا حشر و لا يتهيّأ له كلّ ما يتمنّاه إذ كلّ ميسّر لما أراد اللّه.

[فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمنّاه فإنّ اختصاص امور الآخرة و الاولى به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور التكوينيّة.

[وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ إقناط لهم ما طمعوا من شفاعة الملائكة حيث عبدوها و كم خبريّة مفيدة للتكثير و محلّها الرفع على الابتداء و الخبر الجملة المنفيّة أي و كثير من الملائكة [لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ عند اللّه [شَيْئاً] من الإغناء و لا تنفع شيئا من النفع و ليس المعنى أنّ الملائكة يشفعون فلا تنفع بل المعنى أنّهم لا يشفعون لأنّه لا يؤذن لهم في الشفاعة كما يفصح عن هذا المعنى [إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة [لِمَنْ يَشاءُ] أن يشفعوا له [وَ يَرْضى و يراه أهلا للشفاعة و يكون مرضيّ الدين و من أهل التوحيد و الإيمان و أمّا من عداهم من أهل الكفر و النفاق فهم من إذن اللّه بمعزل فإذا كان حال الملائكة في أمر الشفاعة كذلك فحال الأصنام الجماديّة و النباتيّة معلومة.

[إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ] و بما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر و المعاصي [لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ] المنزّهين عن سمات النقص [تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي تسمية مثل تسمية الأنثى.

فإن قيل: كيف يصحّ أن يقال: إنّهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنّهم كانوا يقولون:

هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه و كان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميّت على قبره و يعتقدون أنّه يحشر عليه؟

فالجواب أنّهم لا يجزمون به بل كانوا يقولون: لا نحشر فإنّ حشرنا فلنا شفعاء بدليل قوله حكاية عنهم: «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى (1) ثمّ إنّهم ما كانوا يعترفون على الوجه الّذي ورد به الرسل.

و اعلم أنّ الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث يعني أنّه ليس لهم آلة الرجوليّة و لا آلة الأنوثيّة و ما في الحديث من أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أتاني جبرئيل فعلّمني الوضوء و الصلاة

ص: 274


1- حم السجدة: 60.

فلمّا شرع في الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي محلّ الفرج من الإنسان.

[وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي يسمّون و الحال أنّه لا علم لهم بما يقولون أصلا [إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتّبعون [إِلَّا الظَّنَ الفاسد و ليس في الكلام تكرار لأنّ الأوّل متّصل بعبادتهم اللّات و العزّى و مناة و الثاني بعبادتهم الملائكة [وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً] مرّ تفسيره و الظنّ لا اعتداد به في شأن المعارف الاصوليّة. و الحقّ في الآية يجوز أن يكون بمعنى العلم و قيل: الحقّ في الآية بمعنى العذاب.

ثمّ خاطب نبيّه فقال: [فَأَعْرِضْ يا محمّد [عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا] و لم يقرّ بتوحيدنا و مال إلى الدنيا و منافعها و المراد من الإعراض في الآية أن لا تقابلهم على أفعالهم و احتملهم و لا تدع مع هذا دعاءهم إلى الحقّ.

[ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي الإعراض عن التدبّر في امور الآخرة و صرف الهمّة إلى التمتّع باللذّات العاجلة منتهى علمهم و هو مبلغ خسيس لأنّه من طباع البهائم لا تنتظر العافية.

[إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ منك و من جميع الخلق [بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و عدل عن سبيل الحقّ [وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازي كلّا على حسب أعمالهم.

[سورة النجم (53): الآيات 31 الى 41]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40)

ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)

ثمّ أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال:

[وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ و هذا اعتراض بين الآية السابقة و بين قوله:

ص: 275

[لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا] و اللام في قوله: «لِيَجْزِيَ» متعلّق بمعنى الآية السابقة لأنّه إذا كان أعلم بهم جازى كلّا منهم بما يستحقّه و اللام لام العاقبة و ذلك أنّ علمه تعالى بالفريقين أدّى إلى جزائهم باستحقاقهم و إنّما يقدر على مجازاة المحسن و المسي ء إذا كان كثير الملك و لذلك أخبر به في قوله: «وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ» في الآخرة «الَّذِينَ أَساؤُا» و أشركوا و عملوا بالمعاصي.

[وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا] و وحّدوا ربّهم لأنّه يعلم حالهم فيعلم ضلال من ضلّ و اهتداء من اهتدى [بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى الّتي هي الجنّة أو بسبب أعمالهم فالحسنى للزيادة المطلقة و الباء لتعدية الجزاء أو المقابلة.

[الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ صفة للّذين أحسنوا أو بدل منه و كبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب و هو ما خصّ عليه الوعيد كالشرك و الزنا و قتل النفس و أمثالها [وَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة و هي أقبح الذنوب و أفحشها و اختلف في عدد الكبائر قال ابن عبّاس: هي إلى السبعين أقرب، و قيل: إنّ الكبيرة ما أوعد اللّه عليها النار و الفاحشة كلّ ذنب فيه الحدّ.

[إِلَّا اللَّمَمَ و الاستثناء منقطع لأنّ معنى اللّمم التقارب و النزول بقربه و يعبّر به عن الصغيرة و الصغائر لا تدخل في الكبائر و يمكن أن يكون الاستثناء متّصلا لأنّ الصغيرة داخلة في أفراد الذنوب و ليس خارج عنه من حيث الذات بل متفاوتة بالصفة و حاصل المعنى إلّا ما قلّ و صغر فإنّه مغفور ممّن يجتنب الكبائر و إنّ الصلاة الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر قال سبحانه: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» (1).

قيل في النزول: إنّ نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر فقال لها: ادخلي الحانوت فعانقها و قبّلها فقالت المرأة: خنت أخاك و لم تصب حاجتك فندم و ذهب إلى رسول اللّه فنزلت الآية.

قال ابن عبّاس: المعنى إلّا أن يلمّ بالمعصية مرّة أو اتّفاقا ثمّ يتوب و لم يثبت عليها

ص: 276


1- النساء: 30.

و قال بعض المحقّقين: إنّ الذنوب كلّها كبائر على الحقيقة لأنّ الكلّ يتضمّن مخالفة أمر اللّه تعالى لكن بعضها أكبر من بعض عند الإضافة و لا كبيرة أعظم من الشرك و أمّا اللمم فهو من جملة الكبائر أيضا إلّا أنّ اللّه أراد باللمم الفاحشة الّتي يتوب عنها مرتكبها و هذا قول جماعة من علماء العامّة مثل مجاهد و الحسن.

[إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ] حيث يغفر الذنوب قال ابن عبّاس: لمن فعل ذلك و تاب و معناه أنّ رحمته تسع الذنوب مع التوبة و لا تضيق عنه.

ثمّ قال سبحانه: [هُوَ أَعْلَمُ منكم [بِكُمْ أي بأحوالكم قبل أن خلقكم [إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي أنشأ أباكم من أديم الأرض أو المراد جميع الخلق أي خلقكم من الأرض بسبب تناول الأغذية الّتي خلقها من الأرض فكأنّه أنشأهم منها [وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي علم سبحانه في وقت كونكم أجنّة في الأرحام ما أنتم صانعون و صائرون و إذا علم ذلك منكم قبل وجودكم فكيف لا يعلم ما حصل منكم؟

[فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ الفاء لترتيب النهي عن تزكية النفس أي لا تمدحوها بحسن الأعمال و لا تصفوها بالتطهير من الآثام لأنّ كلّ واحد من التخلية و التحلية إنّما يعتدّ به إذا كان خالصا للّه و إذا كان هو سبحانه أعلم بأحوالكم فلا حاجة إلى التزكية للناس فهي شرك خفيّ و معصية جليّة [هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي و الشرك و أعلم بمن برّ و أطاع و أخلص العمل من نفس العامل و تحقيق أعلميّة اللّه من نفس العامل هو أنّ الإنسان علمه و لو بنفسه علم إجماليّ و مقيّد بقواه البشريّة و هو متناه بحسب تناهي قواه البشريّة و علمه تعالى به علم مطلق إذ علمه عين ذاته في مقام الأحديّة و العلم المطلق أجمع و أكمل من العلم المقيّد.

[أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى نزلت الآيات السبع «أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي الآيات» في عثمان بن عفّان كان يتصدّق و ينفق ماله فقال أخوه من الرضاعة، عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك مال فقال عثمان:

إنّ لي ذنوبا و إنّي بما أصنع أطلب رضى اللّه فقال له عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها و أنا أ تحمّل عنك ذنوبك كلّها فأعطاه و أمسك بعد ذلك عن الصدقة فنزلت: «أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي

ص: 277

تَوَلَّى» أي يوم أحد حين ترك المركز «وَ أَعْطى قَلِيلًا» ثمّ قطع نفقته إلى قوله: «وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى .

قوله: «وَ أَكْدى من أكدى حافر البئر إذا بلغ الصلابة و لا يمكن الحفر أي قطع و أبخل بعطيّته و في تاج المصادر أي قطع القليل.

و قيل: نزلت الآية في الوليد بن المغيرة كان يتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و طمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في إسلامه فعيّره بعض المشركين و قال له: تركت دين الأشياخ و ضلّلتهم؟ فقال: أخشى عذاب اللّه فضمن أن يتحمّل العذاب عنه و كلّ شي ء يخافه في الآخرة إن أعطاه بعض ماله فارتدّ و تولّى عن استماع الكلام النبويّ و أعطاه بعض المشروط و بخل بالباقي. و الكلام لا يخلو عن التوبيخ و التهكّم، نعوذ باللّه من الحور بعد الكور (1) و من التنكير بعد التعريف.

[أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي أ عنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب فهو يرى و يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه عذابه.

[أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي ألم يخبر و لم يحدّث بما في أسفار التوراة و بما في صحف إبراهيم الّذي أكمل و أتمّ عليه السّلام ما أمر به و ما أوجب اللّه عليه من كلّ ما امر.

ثمّ بيّن سبحانه ما في صحفهما و هو [أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي مكتوب في صحفهما أن لا تحمل نفس حمل اخرى و لا تؤخذ نفس بإثم غيرها و الصحيفة الّتي يكتب فيها و يجمع على صحائف و صحف و المصحف مثلّث الميم ما جمع فيه القرآن و الصحف.

و عن أبي ذرّ الغفاريّ قال: سألت رسول اللّه كم من كتاب أنزل اللّه؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

مائة كتاب و أربع كتب أنزل اللّه على آدم عشر صحائف و على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة و على إبراهيم عشر صحائف و أنزل اللّه التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.

قال أبو ذرّ: قلت يا رسول اللّه ما كانت في صحف إبراهيم عليه السّلام؟ قال: كانت مواعظ وة.

ص: 278


1- أي النقص بعد الزيادة.

أمثالا منها أيّها الملك المغرور المبتلى إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض و لكن بعثتك كيلا تردّ دعوة المظلوم فإنّي لا أردّها و إن كانت من كافر، و كان فيها أمثال منها: و على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي ربّه فيها و يفكّر في صنع اللّه و ساعة يحاسب نفسه فيما قدّم و أخّر و ساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم و المشرب و غيرهما و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه و من علم أنّ كلامه من عقله قلّ كلامه إلّا فيما يفيده.

و إنّما قدّم سبحانه في الذكر صحف موسى على إبراهيم لأنّ التوراة عندهم أشهر و أكثر و إنّما وصف سبحانه إبراهيم بالتوفية لأنّه عليه السّلام بالغ في الوفاء و الابتلاء و احتمل أمورا عظيمة كالصبر على نار نمرود بيقين ثابت حتّى أتاه جبرئيل حين القي في النار فقال:

ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، و على ذبح الولد و على الهجرة و على ترك أهله و ولده في واد غير ذي ذرع. روي أنّه عليه السّلام كان يمشي كلّ يوم يرتاد ضيفا فإن وجده أكرمه و إلّا نوى الصوم و قد بذل مهجته للنيران و قلبه للرحمن و ولده للقربان و ماله للإخوان.

و بالجملة [وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى عطف على قوله: «أَلَّا تَزِرُ» أي و هذا أيضا ما في صحف موسى و إبراهيم أي ليس له من الجزاء إلّا جزاء عمله و السعي المشي الذريع دون العدو و يستعمل للجدّ في الأمر و «أَنْ» مخفّفة أي إنّ الشأن ليس للإنسان في الآخرة إلّا سعيه في الدنيا من العمل و هو بيان أنّه لا يؤخذ بذنب الغير و لا يعطى ثواب عمل الغير له. قيل: كان ذلك لقوم إبراهيم و موسى و أمّا هذه الامّة فلهم ما سعوا و ما سعى لهم غيرهم و ينفع اللّه الآباء في الأبناء و الأبناء في الآباء و على ذلك قوله تعالى:

«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» (1) و لما روي أنّ امرأة رفعت صبيّا لها من محفّه و قالت: يا رسول اللّه أ لهذا حجّ؟ قال: نعم و لك أجره و المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره.

و المراد من الآية أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع و يتحمّل عن غيره العقاب و هذا الحكم عامّ في كلّ الأمم و الأقرب أن يكون قوله: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى خالصا في

ص: 279


1- النساء: 10.

السيّئة و أمّا في الحسنة فمن باب التفضّل من العشر إلى السبعمائة و أزيد بطوله و رحمته.

قيل: إنّ من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلّا بعمله كاد أن يخرق الإجماع من الفريقين العامّة و الخاصّة و ذلك باطل من وجوه:

أحدها أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره و هو انتفاع بعمل الغير.

و الثاني أنّ النبيّ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثمّ لأهل الجنّة في دخولها و لأهل الكبائر في الإخراج من النار أو قبل الدخول و هذا الانتفاع بسعي الغير.

و الثالث أنّ كلّ نبيّ و صالح له شفاعة و ذلك انتفاع بعمل الغير.

و الرابع أنّ الملائكة يدعون و يستغفرون لمن في الأرض و ذلك منفعة بعمل الغير.

و الخامس أنّ اللّه تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قطّ بمحض رحمته و هذا انتفاع بغير عملهم.

و السادس أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنّة بعمل آبائهم ذلك انتفاع بمحض عمل الغير و كذا الميّت بالصدقة عنه و أنّ الحجّ المفروض يسقط عن الميّت بحجّ وليّه عنه و لو بغير ماله و كذا تبرأ ذمّة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها قاض و ذلك انتفاع بعمل الغير و كذا من عليه تبعات و مظالم إذا حلّل منها سقطت عنه.

و الحاصل قال ابن عبّاس في رواية الوالبيّ: إنّ هذا منسوخ الحكم في شريعتنا لأنّه سبحانه يقول: «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (1) و رفع درجة الذرّيّة و إن لم يستحقّوها بأعمالهم و من قال: غير منسوخ الحكم قال: الآية تدلّ على منع النيابة في الطاعات إلّا ما قام عليه الدليل كالحجّ و هو أنّ امرأة قالت: يا رسول اللّه إنّ أبي لم يحجّ قال صلّى اللّه عليه و آله:

فحجّي عنه.

[وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي ما يفعله الإنسان و يسعى فيه لا بدّ أن يرى فيما بعد و يجازى عليه و بيّن ذلك بقوله: [ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى و الهاء في «يُجْزاهُ» عائد إلى السعي أي يرى العبد سعيه يوم القيامة ثمّ يجزى سعيه أوفى الجزاء.

قوله تعالى: [سورة النجم (53): الآيات 42 الى 62]

وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)

وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى (51)

وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61)

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62)

ص: 280


1- الطور: 21.

المنتهى مصدر أي انتهاء الخلق في رجوعهم إلى اللّه بعد الموت لا إلى غيره فيجازيهم على أعمالهم [وَ أَنَّهُ تعالى [هُوَ] خلق قوّتي الضحك و البكاء و فعل سبب السرور و الحزن و قيل: المراد أضحك أهل الجنّة في الجنّة و أبكى أهل النار في النار. و قيل: أضحك الأشجار بالأنوار (1) و أبكى السحاب بالأمطار أو أضحك المطيع بالرحمة و أبكى العاصي بالسخطة و الضحك انبساط الوجه من سرور النفس و عجب في القلب و البكاء جريان الدمع على الخدّ عن غمّ في القلب و ربّما كان عن فرح يمازجه تذكّر حزن.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل: مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قطّ؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار و لقي يحيى عيسى عليه السّلام فتبسّم عيسى في وجه يحيى فقال يحيى: مالي أراك لاهيا كأنّك آمن؟ فقال عيسى: مالي أراك عابسا كأنّك آيس؟ فقالا: لا نبرح حتّى ينزل علينا الوحي فأوحى اللّه تعالى أحبّكما إليّ أحسنكما ظنّا بي و في رواية أحبّكما إليّ الطلق البسّام.

[وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا] لا يقدر على الإحياء و الإماتة غيره لا خلقا و لا كسبا فانّ أثر القاتل نقض البنية و تفريق الاتّصالات لكن يحصل الموت عنده بفعل اللّه على العادة فللقاتل نقض البنية كسبا دون الإماتة و تقديم الإماتة على الإحياء لعلّ لمراعاة الفواصل و لتقدّم العدم قبل الوجود.

[وَ أَنَّهُ سبحانه [خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ من كلّ الحيوان صنفين [الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ]ر.

ص: 281


1- جمع النور بالفتح منشأ الأثمار.

هي الماء القليل [إِذا تُمْنى و تدفّق و تصبّ في الرحم من أمنى يمنى إمناء أو من مادّة قدر إذا القي على قدر يتكوّن منه الولد بقدره المقدّرة بالحكمة البالغة و آدم و عيسى و حوّاء مستثنون من هذا الأمر.

[وَ أَنَّ عَلَيْهِ أي على اللّه [النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الخلقة الاخرى و هو الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده و فيه تصريح بأنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت النشأة الثانية للجزاء و و إيصال المؤمنين إلى كمالهم اللائق بهم و لو أراد تعجيل أجورهم في الدنيا لضاقت ثواب واحد منهم و أقلّ المؤمنين منزلة في الجنّة من له فيها مثل الدنيا عشر مرّات فما ظنّكم بالباقي.

[وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى أعطى الغنى و أغنى بعض الناس بالأموال [وَ أَقْنى و أعطى بعض الناس القنية و اصول المال و ما يدّخرون و يخزنون زيادة عن الكفاية. و قيل: أغنى بالقناعة و أقنى بالرضا و الاقتناء حفظ المال النفيس، يقال: ليس من لمس درهما صيرفيّا و لا من اقتنى درّا جوهريّا و قيل: المعنى أغنى من شاء و أقنى أي حرم من شاء. و قيل: أغنى بالذهب و الفضّة و الثياب و أقنى بالإبل و البقر و الغنم و الحشم، و إفراد القنية بالذكر بعد قوله:

«أَغْنى لأنّها أشرف الأموال و الأوفق من المعاني المذكورة في الإقناء الفقر مراعاة لصنعة الطباق و يكون الهمزة في باب الإفعال للسلب و الإزالة أي أزال المال.

[وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى كانت خزاعة تعبدها و أوّل من عبدها أبو كبشة من أقوام أجداد النبيّ من قبل امّهاته و كان المشركون يسمّون النبيّ ابن أبي كبشة لمخالفته صلّى اللّه عليه و آله إيّاهم في الدين كما خالف أبو كبشة غيره في عبادة الشعرى و الشعرى كوكب معروف نيّر خلف الجوزاء يقال له العبور و هي أشدّ بياضا من الغميصاء و إنّ الشعرى شعريان إحداهما اليمانيّة و هي المسمّاة بالعبور و ثانيتها الشاميّة و هي المسمّاة بالغميصاء فصّلت المجرّة بينهما، تزعم العرب أنّ الشعرويّين أختا سهيل و أنّ الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر السهيل نحو اليمن و تبعته العبور فعبرت المجرّة و لقيت سهيل و أقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل فغمضت عينها فكانت أقلّ نورا من العبور فقال أبو كبشة و هو رجل من أشراف خزاعة: إنّ النجوم تقطع السماء عرضا و هذه تقطع طولا فليس نجم مثلها فاتّخذوها

ص: 282

معبودا فقال سبحانه: إنّه خالق الشعرى و هو مربوب و لا يصلح للإلهيّة و كلّ من كان من أهل البدع من الزنادقة و الضلالة يقال له: أبو كبشة.

[وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى هي قوم هود اهلكوا بريح صرصر و عاد الاخرى إرم و وصفهم بالأولى لتقدّم هلاكهم بعد قوم نوح بحسب الزمان على هلاك سائر الأمم و عاد الأخيرة هي الّتي قاتلها موسى بأريحاء كانوا تناسلوا من الهزيلة بنت معاوية و هي الّتي نجت من قوم عاد مع بنيها الأربعة عمر و عمرو و عامر و العتيد و كانت الهزيلة من العماليق فالعاد الأخيرة أيضا من عاد الاولى [وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى أي و أهلك ثمود قوم صالح فما أبقى أحدا منهم.

[وَ قَوْمَ نُوحٍ عطف عليه أي أهلك قوم نوح [مِنْ قَبْلُ إهلاك قوم عاد و ثمود [إِنَّهُمْ أي قوم نوح [كانُوا هُمْ أَظْلَمَ لنبيّهم [وَ أَطْغى من الفريقين لأنّهم كانوا يضربون نوحا حتّى لا يكون به حراك و ما أثّرت فيهم دعوته قريبا من ألف سنة و ما آمن معه إلّا قليل.

[وَ الْمُؤْتَفِكَةَ] هي قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها و انقلبت أي أهلك المؤتفكة و أهلها [أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض مقلوبة و الأهواء بمعنى الإلقاء و ألقاها في الهاوية [فَغَشَّاها ما غَشَّى من فنون العذاب أي أستر تلك المدائن و ألبس اللّه المؤتفكة ما ألبسها من الحجارة المنضودة المسوّمة مثل قوله تعالى (1): «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ».

قوله: [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى الآلاء النعم واحدها آلى و التماري المجادلة و المحاجّة و الخطاب من باب التعريض بالغير مثل قوله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» و جعل الأمور المعدودة نعما مع أنّ بعضها نقم لما أنّها أيضا نعم من حيث إنّها نصرة للأنبياء و المؤمنين و فيها عظات و عبر للمعتبرين و هلاك أعداء اللّه من أعظم آلائه الواصلة إلى المؤمنين. و حاصل المعنى بأيّ هذه النعم يشكّون و يتردّدون و يتخاصمون و الخطاب لأفراد الامّة و لذا أفرد لاشتمال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على امّته و فيه إشارة إلى أنّه كما نصرت إخوانك من الأنبياء الماضين و أهلكت أعداءهم فكذلك أفعل بك فلا تك قلبك في حرج من عنادهم.

ص: 283


1- طه: 78.

[هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى إشارة إلى القرآن أي هذا القرآن إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدّمة أو إشارة إلى الرسول فحينئذ النذير بمعنى المنذر لا بمعنى المصدر الّذي هو نذير أي هذا الرسول نذير من جنس المنذرين المتقدّمين و كلّ منذر متأخّر فهو من قبيل النذير المتقدّم لاتّحاد كلمتهم و دعوتهم إلى اللّه على بصيرة فطوبى لمن تابع و ويل لمن خاف.

[أَزِفَتِ الْآزِفَةُ] في إيراده عقيب المذكورات إشعار بأنّ تعذيبهم مؤخّر إلى يوم القيامة تعظيما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأزف ضيق الوقت و إشارة قرب الساعة و دنوّها و كلّ ما هو آت قريب [لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ] إذا غشيت الخلق شدائدها و أهوالها لم يكشف عنهم أحد و لم يردّها أي لا يكون نفس كاشفة أو جماعة كاشفة و يجوز أن يكون مصدرا كالعافية و العافية و الواقية المعنى ليس من دون اللّه كشف و لا يكشف عنها غيره كقوله: «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» (1) أي ليس لها أنفس قادرة على إزالتها و كشفها عند وقوعها في وقتها إلّا اللّه و يجوز أن يكون التاء للمبالغة كتاء علامة و قيامة، العارفين باللّه المخصوصين بالولاية الكلّيّة مشهودة عنهم و لا يتوقّف شهودهم على وقوع القيامة الظاهرة كما قال سيّد الأولياء أمير المؤمنين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فطوبى لمن وصل إلى حقّ اليقين.

[أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ استفهام إنكاريّ و العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشي ء قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه أي أمن هذا الأخبار المتقدّمة ذكرها تعجبون قال الصادق عليه السّلام: هذا المعنى أو أ فمن هذا القرآن و نزوله من عند اللّه تعجبون أيّها المشركون و هذا دليل على حدوث القرآن.

[وَ تَضْحَكُونَ استهزاء و لا تبكون انزجارا و تنبيها من الوعيد [وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ و لاهون في الغفلة، و قيل: معرضون. و قيل: المراد الغناء بلغة الحمير لأنّ المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله ما رئي ضاحكا بعد نزول هذه الآية.

ص: 284


1- الأعراف: 186.

و عن أبي هريرة: لمّا نزلت هذه الآية بكى أهل الصفّة حتّى جرت دموعهم على خدودهم فلمّا سمع رسول اللّه حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا يلج النار من بكى من خشية اللّه و لا يدخل الجنّة مصرّ على معصية اللّه و لو لم تذنبوا لجاء اللّه بقوم يذنبون ثمّ يغفر لهم. و في تفسير روح البيان: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نزل عليه جبرئيل و عنده رجل يبكي فقال جبرئيل: من هذا؟ فقال: فلان فقال جبرئيل: إنّا نزن أعمال بني آدم كلّها إلّا البكاء فإنّ اللّه ليطفى ء بالدمعة بحورا من نيران جهنّم.

[فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا] الفاء لترتيب موجب الأمر على ما تقرّر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار و الاستهزاء و وجوب تلقّيه بالإيمان و كمال الخضوع أي و إذا كان الأمر كذلك و حال الكفّار ما بيّنّاه «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» الّذي فعل هذه الأمور و أنزل هذا الحديث و القرآن، و اعبدوه و لا تعبدوا غيره من ملك أو بشر فضلا عن جماد كالأصنام و الكواكب. تمّت السورة بعون اللّه

ص: 285

سورة القمر

اشارة

* (مكية)* عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من قرأ سورة اقتربت في كلّ غبّ بعث يوم القيامة و وجهه على صورة القمر ليلة البدر و من قرأها كلّ ليلة كان أفضل و جاء يوم القيامة و وجهه مسفرّ على وجوه الخلائق.

و روى بريد بن خليفة عن الصادق عليه السّلام: من قرأ سورة اقتربت أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنّة ختم اللّه تلك السورة بذكر أزفت الآزفة و افتتح هذه السورة بمثله فقال:

ص: 286

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9)

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)

الاقتراب لزيادة مبالغة في القرب كما في اقتدر مبالغة على قدر أي قربت الساعة الّتي تموت فيها الخلائق و تكون القيامة و الساعة جزءا من أجزاء الزمان عبّر بها عن القيامة تشبيها لها بذلك لسرعة حسابها أو لأنّها يقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنّها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم.

قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه جعل الدنيا كلّها قليلا فما بقي منها قليل من قليل و مثل ما بقي منها مثل الغدير شرب صفوه و بقي كدره فالاقتراب في الآية يدلّ على مضيّ الأكثر و يمضي الأقلّ عن قريب كما مضى الأكثر.

قال صاحب تفسير روح البيان: و قد قيل: إنّ مدّة هذه الأمد تزيد على ألف بنحو خمسمائة سنة و لا يكون الزيادة إلى خمسمائة سنة بعد الألف من الهجرة لعدم ورود الأخبار في ذلك؛ و قد قال صلّى اللّه عليه و آله: مثلي و مثل الساعة كفرس رهان فإذا وجوده صلّى اللّه عليه و آله من أشراط الساعة فمعجزاته من انشقاق القمر تكون كذلك. قيل: إنّ آدم خاطبته الدنيا و قالت:

يا آدم جئت و قد انقضى شبابي. فآدم على هذا التقدير جاء إلى الدنيا و قد انقضى عمرها و بقي شي ء قليل منها و على هذا يحمل قول من قال: إنّ عمر الدنيا سبعون ألف سنة.

ص: 287

و أمّا تعيين وقت الساعة فقد انفرد اللّه بعلمه و أخفاه عن عباده و في الحديث: إنّ بين يدي الساعة كذّابين فاحذروهم و المراد بالكذّابين الدجاجلة و هم الأئمّة المضلّون فكلّ كذّاب مبتدع فهو من مقدّمات الدجّال و أصحابه كما أنّ كلّ أهل صدق و حقّ من مقدّمات المهديّ انتهى كلام صاحب روح البيان.

قوله: [وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ] قال ابن عبّاس: اجتمع المشركون إلى رسول اللّه فقالوا:

إن كنت صادقا فانشقّ القمر فرقتين فقال لهم صلّى اللّه عليه و آله: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم، و كانت ليلة بدر فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا فانشقّ القمر فرقتين و رسول اللّه ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا قال عبد اللّه بن مسعود: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه شقّتين فقال لنا رسول اللّه: اشهدوا اشهدوا. و روي أيضا عن ابن مسعود أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لقد رأيت الحراء بين فلقي القمر. و عن جبير بن مطعم قال: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه فرقتين على هذا الجبل و هذا الجبل فقال ناس: سحرنا محمّد.

و قد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد اللّه بن مسعود و أنس بن ملك و حذيفة بن يمان و ابن عمر و ابن عبّاس و جبير بن مطعم و عبد اللّه عمر و عليه جماعة من المفسّرين إلّا ما روي عن عثمان بن عطا عن أبيه أنّه قال: سينشقّ القمر و أنكره الباقون.

قال البلخيّ: هذا لا يصحّ لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتدّ بخلاف من خالف فيه لأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه.

و من طعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار فقول باطل لأنّه يجوز أن يكون اللّه قد حجبه عن أكثرهم لمصلحة لا نعرفها و قد رآه المقترحون. و في كتاب فتح الباري لابن حجر: إنّ الجذع و انشقاق القمر نقل مستفيضا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق الحديث و أسند أبو إسحاق الزجّاج عشرين حديثا إلّا واحدا في تفسيره في انشقاق القمر، قال سعدي المفتي: و قد رواه ستّون أو أكثر من الصحابة.

[وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا] إخبار عن حال كفّار قريش إن يروا آية من آيات اللّه

ص: 288

و هي معجزة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و دليل على صدق نبوّته يعرضوا عن التأمّل فيها ليقفوا على حقيقتها فيؤمنوا [وَ يَقُولُوا] هذا [سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] مطّرد دائم يأتي به محمّد صلّى اللّه عليه و آله كسائر أنواع السحر. و الاستمرار بمعنى الاطّراد أي تبع بعضه بعضا و هو يدلّ على أنّهم رأوا قبل انشقاق القمر آيات اخرى مترادفة حتّى يقولوا ذلك و فيه تأييد وقوع الانشقاق لا أنّه سينشقّ يوم القيامة كما قاله بعض. و يجوز مستمرّ بالكسر من المرّة و القوّة أي سحر ذو قوّة شديدة يعلو كلّ سحر و قيل: معناه مستمرّ أي ذاهب يزول و لا يبقى من المرور.

[وَ كَذَّبُوا] بالنبيّ [وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الّتي زيّنها الشيطان لهم من ردّ الحقّ بعد ظهوره أو كذّبوا الآية الّتي هي الانشقاق و قالوا: سحر أعيننا و القمر بحاله و لم يصبه شي ء.

[وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ] أي و كلّ ما وعد اللّه به كائن في وقته و حاصل لا محالة فالخير يستقرّ بأهله و الشرّ بأهله أو أنّ المعنى كلّ أمر من خير و شرّ مستقرّ ثابت حتّى يجازي به صاحبه إمّا في الجنّة أو في النار.

[وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ] أي و باللّه لقد جاءهم يعني أهل مكّة في القرآن من الأخبار النافعة و لا يقال لخبر في الأصل: نبأ حتّى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظنّ أي أتاهم في القرآن أنباء القرون الخالية و أحوال الآخرة و ما وصف من عذاب الكفّار [ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ] أي ازدجار أو موضع ازدجار و تاء الافتعال يقلب دالا للتناسب في المخرج يقال: زجره أي نهاه عن السوء و وعظه غير أنّ افتعل أبلغ في المعنى من فعل و أيضا الزجر طرد بصوت ثمّ استعمل في الطرد تارة و في الصوت تارة فحينئذ قوله: «مُزْدَجَرٌ» أي فيه طرد و منع عن ارتكاب المآثم.

[حِكْمَةٌ بالِغَةٌ] لا خلل فيها و قد بلغت الغاية في الإنذار و الموعظة و هو بدل من ما أو خبر لمحذوف و الحكمة بالكسر العدل و العلم و الحكم و النبوّة و القرآن و إصابة الحقّ بالعلم و إذا وصف القرآن بالحكيم فلتضمّنه الحكمة و هي علميّة و عمليّة و القرآن حاولهما [فَما تُغْنِ النُّذُرُ] و مفعول تغني محذوف أي لم تغن النذر شيئا إذا كذّبوا و ما تنفعهم لتكذيبهم و فيه إشارة إلى عدم انتفاع النفوس المتمرّدة بإنذار منذر الروح [فَتَوَلَّ عَنْهُمْ و الفاء للسببيّة أي بسبب أنّ الإنذار لا يؤثّر فيهم أعرض عنهم إلى أن تؤمر بقتالهم و انتظر

ص: 289

عقوبتهم [يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أصله يدعو الداعي لمّا حذف الواو يدعو من التلفّظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخطّ أيضا اتّباعا للّفظ و أسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفا و يوم منصوب بيخرجون و الداعي إسرافيل ينفخ في الصور قائما على صخرة بيت المقدس و يدعو الأموات و ينادي: أيّتها العظام البالية و اللحوم المتمزّقة و الشعور المتفرّقة إنّ اللّه يأمر كنّ تجتمعن لفصل القضاء. و قيل: إنّ إسرافيل ينفخ و جبرئيل يدعو و ينادي بذلك و قال بعضهم: هو مجاز كالأمر في قوله: «كُنْ فَيَكُونُ»* فحينئذ الدعاء في البعث مثل كن في التكوين و يكون الدعاء عبارة عن مشيّة و الأصحّ بقاؤه على حقيقته.

[إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ] أي منكر غير معتاد بل أمر فظيع لم يروا مثله، قرئ بضمّتين و قرئ بسكون الكاف و كلاهما بمعنى المنكر ينكره النفوس و هو هول يوم القيامة و منه منكر و نكير لأنّه لم يعهد عند الميّت مثلها.

[خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل «يَخْرُجُونَ» أي خاشعة أبصارهم و ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب و إنّما وصف الأبصار بالخشوع لأنّ ذلّة الذليل و عزّة العزيز تتبيّن و تظهر في العين [يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور حالكونهم ذليلين [كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ] في الكثرة و التموّج و التفرّق في الأقطار.

[مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إلى جهة الداعي مادّين أعناقهم إليه ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يقال: هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشي ء لا يقلع عنه و أهطع إذا مدّ عنقه و أهطع في عدوه إذا أسرع.

[يَقُولُ الْكافِرُونَ استيناف وقع جوابا عمّا نشأ من وصف اليوم بالأهوال كأنّه قيل: فماذا يكون حينئذ فقيل في الجواب: يقول الكافرون [هذا يَوْمٌ عَسِرٌ] أي صعب شديد علينا فيمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة يقولون: أرحنا من هذا أو إلى النار ثمّ يؤمرون بالحساب و في إسناد القول المذكور إلى الكفّار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدّة بل ذلك اليوم يسير لهم ببركة إيمانهم و أعمالهم بل المطهّرون الّذين ما تدنّست بواطنهم بالشبهة المضلّة و لا ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعيّة آمنون.

ص: 290

[كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي فعل التكذيب قبل قومك قوم نوح تسلية للرسول [فَكَذَّبُوا عَبْدَنا] نوحا تفسير لذلك التكذيب المبهم مثل قوله (1): «وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ» فالمكذّب و المقامان واحد و الفاء تفصيليّة تفسيريّة تعقيبيّة في الذكر فإنّ التفصيل يعقّب الإجمال و في ذكره بعنوان العبوديّة مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم لنوح عليه السّلام و رفع لحاله و زيادة تشنيع لمكذّبيه و إشارة إلى أنّه لا شي ء أشرف من العبوديّة.

[وَ قالُوا] في حقّه [مَجْنُونٌ قد غطي على عقله [وَ ازْدُجِرَ] أي و زجر بالشتم و الرمي بالقبيح و توعّد بالقتل و منع عن التبليغ بأنواع الأذيّة و قيل: المعنى أنّ و ازدجر من جملة ما قالوه أي هو مجنون و قد ازدجرته الجنّ و تخبّطته و أفسدته و ذهبت بلبّه.

[فَدَعا رَبَّهُ أي لمّا زجروا نوحا عن الدعوة و منعوه أشدّ المنع و بلّغ مدّة التبليغ و كمل إلى تسعمائة و خمسين سنة دعا ربّه [أَنِّي مَغْلُوبٌ أي بأنّي مغلوب من جهة قومي و مالي قدرة على الانتقام منهم [فَانْتَصِرْ] فانتقم لي منهم و ذلك بعد تقرّر يأسه منهم فقد روي أنّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتّى يخرّ مغشيّا فيفيق و يقول: اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون فلمّا أذن اللّه له في الدعاء للإهلاك دعا فأجيب كما قال في الصافّات:

«وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» (2).

[سورة القمر (54): الآيات 11 الى 22]

فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

ثمّ بيّن سبحانه إجابته لدعاء نوح فقال:

[فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ] هاهنا حذف تقديره فاستجبنا لنوح دعاءه فأجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه باب كان مانعا له و ذلك من صنع اللّه الّذي لا يقدر عليه

ص: 291


1- هود: 45.
2- الصافات: 75.

سواه [بِماءٍ مُنْهَمِرٍ] الهمر صبّ الدمع و الماء؛ همره يهمره صبّه و انهمر انسكب و سال و المعنى بماء كثير منصبّ لم ينقطع أربعين يوما و كان مثل الثلج بياضا و بردا و الباء للملابسة.

[وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً] أي شققنا الأرض بالماء عيونا حتّى جرى الماء على وجه الأرض قيل: و كان ماء الأرض مثل الحميم حرارة و أصله: و فجّرنا عيون الأرض، فعبّر عن المفعوليّة إلى التمييز قضاء لحقّ المقام من المبالغة.

[فَالْتَقَى الْماءُ] أي ماء السماء و ماء الأرض و ارتفع على أعلى جبل في الأرض مائتين ذراعا [عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] على حال قد قدّره اللّه أو على حالة قدّرت و هو أنّ قدر ما أنزل اللّه من السماء على قدر ما اخرج من الأرض أو المعنى على أمر قدّره اللّه في اللوح المحفوظ و هو هلاك قوم نوح و إنّما لم يثنّ و لم يقل: فالتقى الماء ان لأنّه اسم الجنس يقع على القليل و الكثير.

[وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح مركّبة جمع بعضها إلى بعض و ألواحها خشباتها الّتي صنعت منها و اللوح كلّ صحيفة عريضة [وَ دُسُرٍ] جمع دسار و هو الدفع الشديد بقهر سمّي به المسمار لأنّه يدسر به منفذه و يدفع بالدقّ.

[تَجْرِي بِأَعْيُنِنا] أي تجري السفينة و تسير بمرأى منّا و محفوظة بحفظنا و منه قولهم للمودّع: عين اللّه عليك [جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ] أي فعلنا بهم ما فعلنا من إغراقهم جزاء لمن جحد نبوّته و كفر باللّه.

[وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] قيل: الضمير راجع إلى الفعلة و هي الغرق و قيل: راجع إلى السفينة أبقاها اللّه دهرا طويلا بياقردى من بلاد الجزيرة و في تفسير أبي الليث إنّ تلك السفينة كانت باقية على الجبل الجوديّ قريبا من خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ اضمحلّت أ لا ترى أنّ مقام إبراهيم مع كونه حجرا صلدا لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي ثمّ لم يبق نفسه على ما هو الأصحّ و المعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام و قيل: المراد من قوله: «تَرَكْناها» أي جنس السفينة صارت عبرة و أنّ الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة و اتّخذوا السفن بعد ذلك في البحر فكذلك كانت آية للناس.

ص: 292

قال بعضهم: لم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلّا البحر المحيط و ذلك أنّ اللّه أمر الأرض بعد الطوفان فابتلعت ماءها و بقي ماء السماء لم تبلعه الأرض فهذه البحور على وجه الأرض منها و أمّا البحر المحيط فغير ذلك بل هو جزر عن الأرض حين خلق اللّه الأرض من زبده و إليه الإشارة بقوله: «وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» و بالجملة و كان نوح نجّارا فجاء جبرئيل و علّمه صنعة السفينة «فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أصله مدتكر أدغمت الدال في التاء ثمّ قلبت دالا مشدّدة.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ] استفهام تعجيب و تعظيم على كيفيّة هائلة لا يحيط بها الوصف و النذر جمع نذير أصله نذيري حذفت الياء و اكتفي بالكسرة.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي و باللّه لقد سهّلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم كما قال: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ»* [لِلذِّكْرِ] بأن وشّحناه بأنواع العبر و المواعظ و عن الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو لا قول اللّه: «وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» لما أطاقت الإنس أن يتكلّم به [فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] إنكار و نفي للمتّعظ.

[كَذَّبَتْ عادٌ] بالرسول الّذي بعثه اللّه إليهم و هو هود فاستحقّوا الهلاك فأهلكهم.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي لهم [وَ نُذُرِ] أي و إنذاري.

ثمّ بيّن كيفيّة إهلاكهم فقال: [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً] أي شديدة الهبوب و قيل: المراد من الصرّ و هو البرد أو من صرّ الباب و القلم أي شديدة الصوت و هي ريح الدبور و تقدّم تفصيله [فِي يَوْمِ نَحْسٍ النحس ضدّ السعد أي شؤوم [مُسْتَمِرٍّ] صفة ليوم أو نحس أي استمرّ شؤمه عليهم و اتّصل عذابهم في الدنيا حتّى اتّصل بالعقبى و روى العيّاشيّ عن أبي جعفر أنّه كان في يوم الأربعاء آخر الشهر لا تدور و يمكن أن يكون المراد من اليوم الحين و ابتداء ذاك يوم الأربعاء.

[تَنْزِعُ النَّاسَ أي ريحا تقلع الناس روي أنّهم دخلوا الشعاب و الحفر و تمسّك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح و صرعتهم موتى أو ينزع أرواحهم من أجسادهم دامت عليهم سبع ليالي و ثمانية أيّام كيلا ينجو منهم أحد ممّن في كهف أو سرب فأهلكت من كان ظاهرا و مستترا بالاقتلاع و الهدم أو الجوع و العطش [كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ] عجز الإنسان

ص: 293

مؤخّره و النخل اسم جنس يفرق بين جمعه و واحده بالتاء، و المنعقر المنقلع عن أصله قيل:

شبّهوا بأعجاز النخل و هي أصولها بلا فروع لأنّ الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا و جثثنا بلا رؤوس.

قال أبو الليث: صرعتهم و كبّتهم على وجوههم كأنّهم اصول نخل منقلعة من الأرض فشبّههم لطولهم بالنخل الساقط قال مقاتل: كان طول كلّ واحد منهم اثني عشر ذراعا و قال الكلبيّ: كان طول كلّ واحد منهم سبعين ذراعا فاستهزءوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء و ضربوا بأرجلهم و غيّبوا في الأرض إلى قريب من الركبة فقالوا:

قل للريح حتّى ترفعنا فجاءت الريح و جعلت ترفع كلّ اثنين و تضرب أحدهما بالآخر بعد ما ترفعهما في الهواء ثمّ تلقيهما في الأرض ثمّ رمت بالرمل و التراب عليهم.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ تفسيرها.

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 24]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (24)

[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ] أي الإنذار الّتي سمعوها من صالح أو بالرسل فإنّ تكذيب أحدهم تكذيب للكلّ للاتّفاق على الأصول [فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا] أي من جنسنا و انتصاب بشر بفعل يفسّره ما بعده [واحِداً] أي منفردا لا تبع له أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم [نَتَّبِعُهُ في أمره [إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ] أي تقدير اتّباعنا له و هو منفرد و نحن امّة، في الغواية عن الحقّ و الصواب و جنون، يقال: ناقة مسعورة إذا كان بها جنون و أصله التهاب الشي ء.

[سورة القمر (54): الآيات 25 الى 32]

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

[أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ] بقيّة من كلام القوم أي أ ألقي الكتاب و الوحي [عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا] و

ص: 294

فينا من هو احقّ بذلك و الاستفهام للإنكار [بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] شديد الكذب فيما يقوله بطر متكبّر يريد أن يتعظّم علينا بالنبوّة [سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ] و هذا وعيد لهم سيعلمون يوم القيامة إذا نزل بهم العذاب أهو الكذّاب أم هم في تكذيبه فذكر مثل لفظهم مبالغة في توبيخهم و إنّما قال: «غَداً» على وجه التقرّب على عادة الناس كما يقال: إنّ مع اليوم غدا.

[إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ باعثو الناقة بإنشائها على ما طلبوها معجزة لصالح و اختبارا لهم إذ بها يتميّز المثاب من المعاقب [فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظر يا صالح فيهم أمر اللّه [وَ اصْطَبِرْ] على ما يصيبك من الأذى حتّى يأتي أمر اللّه.

[وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ يوم للناقة و يوم لهم [كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ] أي كلّ نصيب من الماء يحضره أهله لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة يحضر الناقة و في يومهم يحضرونه و حضر و احتضر بمعنى واحد و إنّما قال: «قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ» تغليبا لمن يعقل.

[فَنادَوْا صاحِبَهُمْ و هو قدار بن سالف بضمّ القاف و كان قصيرا شريرا أزرق أشقر أحمر يلقّب باحيمر ثمود [فَتَعاطى فَعَقَرَ] مجاز عن الاجتراء و التعاطي تناول الشي ء بتكلّف و العقر ضرب القوائم أي فاجترأ صاحبهم قدار على تعاطي الأمر العظيم فأحدث العقر بالناقة و معنى «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ» أي نبّهوا قدار على مجي ء الناقة و قربها من مكمنه.

[فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ] مرّ تفسيره [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً] هي صيحة جبرئيل جزاء الوفاق لفعلهم فإنّهم صاروا سببا لصيحة الولد بقتل امّه [فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ] أي فصاروا لأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة عيش و دعة كاليابس المكسّر من الشجر و غيره و أصله جمع الشي ء في حظيرة و المحتظر بكسر الظاء الّذي يجمع و يعمل الحظيرة قال الجوهريّ: الحظيرة الّتي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد و الريح.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ تفسيره و نعم المذكّر القرآن لكن لصالح النفس لا لثمود النفس:

و ما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة

ص: 295

و هي قبيلة تعرف بالدناءة و حقيقة النفس واحدة غير متعدّدة لكن بحسب توارد الصفات المختلفة عليها تسمّى بالأسماء المختلفة فإذا توجّهت إلى الحقّ توجّها تسمّى بالمطمئنّة و إذا توجّهت إلى الطبيعة البشريّة توجّها كلّيّا تسمّى بالأمّارة و إذا توجّهت إلى الحقّ تارة و إلى الطبيعة اخرى تسمّى اللوّامة.

[سورة القمر (54): الآيات 33 الى 42]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37)

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

[كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ] بالإنذار أو بالمنذرين و هم الرسل و من كذّب نبيّا فقد كذّب بالأنبياء [إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً] ريحا حصبتهم و رمتهم بالحجارة و الحصباء، يريد ما حصبوا من الحجارة في الريح قال الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام تضربنابحاصب كنديف القطن منشورا

ثمّ استثنى آل لوط، خلصناهم بسحر من ذلك العذاب من الأسحار و هو السدس الأخير من الليل أو السحر وقت اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار و الاستثناء منقطع لأنّه مستثنى من الضمير في عليهم و لا يدخل فيهم آل لوط [نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا] أنعمنا إنعاما منّا [كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء [نَجْزِي مَنْ شَكَرَ] نعمتنا بالإيمان و الطاعة من المؤمنين.

[وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا] أنذر لوط عليه السّلام أخذتنا الشديدة بالعذاب [فَتَمارَوْا] فكذّبوا [بِالنُّذُرِ] متشاكّين و أصله تماريوا على وزن تفاعلوا.

[وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فترود غير ما يروده لأنّهم أرادوا من لوط تمكينهم من أضيافه و هم الملائكة في صورة الشبّان و معهم جبرئيل و قصدوا الفجور بهم ظنّا منهم أنّهم بشر.

ص: 296

[فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ و الطمس المحو و استيصال أثر الشي ء أي مسحناها و سوّيناها كسائر الوجه بحيث لم بر لها شقّ روي أنّهم لمّا دخلوا دار لوط عنوة صفقهم جبرئيل بجناحه فتركتهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتّى أخرجهم لوط و الصفق الضرب الّذي ليس له صوت.

[فَذُوقُوا] قلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا [عَذابِي وَ نُذُرِ] و الطمس من جملة ما أنذروه [وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً] أي جاءهم وقت الصبح [عَذابٌ الخسف و الحجارة [مُسْتَقِرٌّ] يستقرّ بهم و يثبت لا يغارقهم حتّى يفضي بهم إلى النار عذاب دائم متّصل بعذاب القيامة لأنّهم ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالقيامة كما أشار إلى هذا المعنى قوله صلّى اللّه عليه و آله: من مات قامت قيامته.

[وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] مرّ ما فيه من التفسير.

[وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ] أي و باللّه لقد جاءهم الإنذارات من جهة موسى و هارون [كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها] يعني الآيات التسع و هي اليد و العصا و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و حلّ عقدة من لسانه و انفلاق البحر.

[فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب عند التكذيب [أَخْذَ عَزِيزٍ] لا يغالب [مُقْتَدِرٍ] و لا يعجزه شي ء و العذاب هو الإغراق في بحر القلزم أو النيل و لعلّ سرّ العذاب بالغرق أنّ فرعون كفر نعمة وجود موسى حيث وصل فرعون إلى تلك النعمة بسبب الماء الّذي ساقه إليه في تابوته فلم يشكر لا نعمة الماء و لا نعمة موسى فانقلب النعمة نقمة فأهلكه بالماء.

قوله: [سورة القمر (54): الآيات 43 الى 55]

أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (47)

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)

وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

ص: 297

[أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر العرب [خَيْرٌ] عند اللّه قوّة و شدّة [مِنْ أُولئِكُمْ المعدودين من قوم نوح و هود و صالح و لوط و آل فرعون و أصابهم ما أصابهم مع كونهم أقوى منكم عدّة و عددا فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك [أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ] إضراب أي بل أ لكم براءة و أمن من عذاب اللّه بمقابلة كفركم نازلة لكم في الكتب السماويّة فلذلك تصرّون على كفركم و تأمنون بتلك البراءة.

[أَمْ يَقُولُونَ جهلا منهم: [نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ] و الالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم و إسقاطهم عن رتبة الخطاب أي بل أ يقولون واثقين بشوكتهم نحن أولو حزم و أمرنا مجتمع لا نرام و لانضام و متناصرين ينصر بعضنا بعضا على أن يكون افتعل بمعنى تفعّل مثل اختصم و الإفراد في منتصر باعتبار لفظ جميع قال أبو جهل- و قد ركب فرسا كميتا و قد حلف أنّه يقتل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله-: و ننتصر اليوم من محمّد و أصحابه. و جرّ رأسه إلى رسول اللّه ابن مسعود.

[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ردّ و إبطال لقولهم أي سيهزم جمع قريش البتّة و يولّون الأدبار و الإفراد في الدبر إرادة الجنس أي ينصرفون عن الحرب منهزمين و ينصر اللّه رسوله و المؤمنين و قد كان ذلك يوم بدر قال ابن عبّاس: بين نزول هذه الآية و بدر سبع سنين فالآية على هذا مكّيّة.

[بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل القيامة موعد أصل عذابهم و هذا العذاب القليل من طلائعه [وَ السَّاعَةُ أَدْهى و القيامة أعظم داهية و أقصى غاية من الفظاعة و الداهية الأمر الّذي لا يهتدي إلى الخلاص منه [وَ أَمَرُّ] و أشدّ مرارة كما أنّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نارها.

[إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين و الكافرين من الأوّلين و الآخرين [فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ] أي في هلاك و نيران مسعرة ملتهبة أي في هلاك و ضلال عن الحقّ في الدنيا و نيران في الآخرة.

[يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يوم القيامة يجرّون في نار جهنّم على وجوههم يقال لهم:

ص: 298

[ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ] على لحنهم و لذلك لم يصرف أو اسم لطبقتها الخامسة من سقرته النار إذا غيّرته و المسّ كاللمس و هو إدراك ظاهر البشرة أي قاسوا حرّها و ألمها فإنّ مسّها سبب للتألّم بها.

[إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ] من الأشياء و هو منصوب بفعل يفسّره ما بعده، خلقناه بقدر متعيّن اقتضته الحكمة الّتي عليها يدور أمر التكوين فقدر بمعنى التقدير و هو تسوية صورته و شكله و صفاته أو المعنى خلقناه مقدّرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه فحينئذ المراد تقديره في علمه الأزليّ قضاء فالقضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح و القدر وجودها في الأعيان بعد حصول شرائطها و التعبير عن الخلق متعلّق بالوجود الظاهريّ في الوقت المعيّن و في الحديث كتب اللّه مقادير الخلق كلّه قبل أن يخلق السماوات و الأرض خمسين ألف سنة و عرشه على الماء.

[وَ ما أَمْرُنا] لشي ء نريد تكوينه [إِلَّا واحِدَةٌ] لا تثنّى سريعة التكوين يعبّر بالكلمة أي كن لأنّه تعالى تكلّم بكن و المراد إرادة من كن الإرادة المحضة [كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] اللمح لمعان البرق و سرعة النظر و حاصل المعنى أنّ قضاءه في الخلق أسرع من لمح البصر.

[وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] أي أشباهكم في الكفر من الأمم جمع شيعة و هو من يتقوّى به من الإنسان و أنصاره و أتباعه و يقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكّر و المؤنّث [فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] متّعظ يتّعظ بذلك فيخاف.

[وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ] من الكفر و المعاصي مكتوب على الفصيل في ديوان الحفظة جمع زبور بمعنى الكتاب فهو بمعنى مذبور كالكتاب بمعنى المكتوب [وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ] من الأعمال [مُسْتَطَرٌ] و مسطور في الكتاب بتفاصيله يقال: استطره أي كتبه، روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضرب لصغائر الذنوب مثلا فقال: إنّما محقّرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض و حضر جميع القوم فانطلق كلّ واحد منهم بحطب فجعل الرجل يجي ء بالعود و الآخر بالعود حتّى جمعوا سوادا و أجّجوا نارا فشووا خبزهم و لحمهم و إنّ

ص: 299

الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلّا أن يغفر اللّه له. اتّقوا صغائر الذنوب و محقّراتها فإنّ لها من اللّه طالبا و لقد أحسن من قال:

خلّ الذنوب صغيرها و كبيرها ذاك التقى و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ من المعاصي [فِي جَنَّاتٍ أي بساتين عظيمة الشأن [وَ نَهَرٍ] أي أنهار الماء و الخمر و العسل و اللبن و الإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ خبر بعد خبر و الصدق بمعنى الجودة أي في مكان مرضيّ و مجلس حقّ و سالم من الكدورات [عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] المراد من العنديّة قرب المكانة لا قرب المكان و المسافة و المليك أبلغ من المالك و التنكير للتعظيم قال الصادق عليه السّلام: مدح اللّه المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلّا أهل الصدق و هو المكان الّذي يصدق اللّه فيه وعده لأوليائه.

روي و هذه الرواية من طرق العامّة، روى صالح بن حيّان عن عبد اللّه بن بريدة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال في هذه الآية: إنّ أهل الجنّة يدخلون كلّ يوم مرّتين على الجبّار تعالى فيقرءون عليه القرآن و قد جلس كلّ امرئ مجلسه الّذي له و مجلسي على منابر الدرّ و الياقوت و الزمرّد و الذهب و الفضّة بأعمالهم فلم تقرّ أعينهم بشي ء قطّ كما تقرّ أعينهم بذلك ثمّ ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد.

أقول: و من المعلوم أنّ المراد بالدخول عليه تعالى دخول القرب و المكانة و الشرف في موضع مخصوص في الجنّة و ليس المراد أنّه تعالى متحيّز في مكان من الجنّة و هؤلاء يدخلون عليه تعالى شأنه أن يكون متحيّزا في مجلس و مكان و هذا معنى قوله عليه السّلام:

الفقراء جلساء اللّه و معلوم أنّ مقصد الصدق لا يقعد فيه إلّا الصادقين و لا بدّ أن يكون صادقا في قوله في الدنيا و فعله فيصون اللسان عن الكذب الّذي هو أقبح الذنوب.

قال صلّى اللّه عليه و آله: التجّار هم الفجّار فقيل: أليس اللّه قد أحلّ البيع؟ قال: نعم و لكنّهم يحلفون فيأثمون و يحدّثون فيكذبون قال صلّى اللّه عليه و آله: الكذب ينقص الرزق. في الحديث: أربع من كنّ فيه فهو منافق و إن

ص: 300

صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: إذا حدّث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان و إذا خاصم فجر، و أمّا الصدق في فعله بأن يصون حاله عمّا ينقصه و يفسد عمله غير خالص للّه و لا بدّ أن يكون عزمه مستمرّة على دوام الطاعة. نسأل اللّه أن يرزقنا الصدق و الكرامة إنّه حميد مجيد.

تمّت السورة

ص: 301

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.