الظاهرة العاطفية الانسانية في سيرة الرسول صلى الله عليه و آله

اشارة

نام كتاب: الظاهرة العاطفية الانسانية في سيرة الرسولصلى الله عليه و آله

نويسنده: الشيخ محمد علي التسخيري

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

سال چاپ: 1430 ه. ق.

نوبت چاپ: 1

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

المقدمة

ص:7

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل الحديث عن هذا الجانب المهم في سيرته (ص) نرى من المستحسن ذكر بعض النقاط وهي:

أولًا: العاطفة جزء مهم من الشخصية الإنسانية، والواقعية، وهي من أهمّصفات الإسلام العامّة تقتضي الاهتمام بها، وترشيدها لتتحقّق الثمار المرجوة. وهنا نجد الإمام علياً (ع) (في مجال وصفه للانسجام بين مكونات الشخصية الإنسانية، وهي العقل والفكر والعاطفة والحواس والسلوك) يقول: «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الجوارح» «بحار الأنوار للمجلسي ج 1ص، 98، غريب الحديث للهروي، ج 1،ص 241.» ليكشف بدقة عن جذور السلوك الإنساني الواعي.

والإسلام يعمل تماماً على تربية الإنسان في كلّ هذه المراحل:

ص: 8

أ يقوم بتربية عنصر التعقل الغريزي في الإنسان فيدفعه للتأمل والتدبر والتعقل والبرهنة والنظر وأمثال ذلك.

ب يؤكّد على الأسلوب المنطقي للعملية العقلية مبتعداً بها عن ما يخلّ بالنتائج من أساليب تتنافى والحوار السليم.

ج يربّي العنصر العاطفي ويشبعه بحب أصيل لأروع محبوب وهو (الله) تعالى الجامع لكل ما ترغب النفس فيه من كمال مطلق، فتسمو العاطفة غاية السمو.

د يعطي الشريعة الغراء الفطرية التي تنظم السلوك وترسم خارطة السعادة.

ه يربي الإرادة القوية الواعية التي تبقى أسمى من كل دافع عاطفي مهما كان متأجّجاً للتأكد من كون العاطفة تسير في الاتجاه الصحيح أم لا، و تحتفظ بحريتها في توجيه السلوك. وبهذه الحرية تحصل المسؤولية. فلسنا مع من يصف (الإرادة) ب (العاطفة المتأجّجة) وإلا لوقعنا في (الجبرية) وهو الأمر المرفوض وجداناً وشرعاً. ولكن يبقى للعواطف دورها المؤثر على الإرادة والسلوك. ومن هنا جاء التأكيد الإسلامي على

ص: 9

هذه المسألة بشتى الأساليب ومنها:

1 الأساليب التوجيهية المباشرة التي تحذّر من الأهواء الجامحة بل والطاغية، فيقول القرآن الكريم:

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا «(1)

2 الأساليب غير المباشرة باستخدام الأمثال والقصص التي تمجّد الذين سيطروا على دوافعهم وأهوائهم كالأنبياء والصالحين.

3 تقديم النماذج العملية المتمثّلة في سلوك النبي (ص) والقادة الذين رباهم من أهل البيت الطاهرين (ع) والصحابة الميامين (رضي الله عنهم).

4 دعوة المسلمين بالارتفاع بحبهم إلى أسمى المستويات وهي حبّ الله وحبّ رسوله وحبّ أهل بيته الطاهرين وأصحابه المخلصين، وحينئذ تنتظم العواطف في منظومة رائعة منسجمة مع الفكر، وخلاقة للعمل للصالح.

ثانياً: وتتمّ هذه العملية التربوية للعواطف بعد تأصيل

وتعميق الإيمان بالله الجامع لكلّصفات الكمال والجلال، وربط الإنسان به إلى أقصى حدٍّ من جهة، وتربية تصوّره عن الكون والحياة بتأكيد قيامهما على أصول أهمها (الحق، والعدل، والحبّ، والرحمة) ويبقى الفكر والعاطفة يعيشان في هذه الأجواء ويكملان فيها. وتأتي سيرة الرسول وسنّته لتوصّل هذه المعاني، وتقدم التجسيد الحسي الأمثل لها. ولشي ء من التوضيح نلاحظ هذه الأصول:


1- الفرقان: 43.

ص: 10

أولًا الحق سرّ الكون

يقول الراغب في مفرداته بتصرّف:

«الحق المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على إستقامة. والحق يقال على أوجه:

الأول: يقال لوجد الشي ء بسبب ما تقتضيه الحكمة. ولهذا قيل في الله تعالى هو الحق (ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق).

الثاني: (للموجد بحسب مقتضى الحكمة. ولهذا يقال الله تعالى كلّه حق (وأنّه للحق من ربك).

ص: 11

الثالث: من الاعتقاد بالشي ء المطابق لما عليه ذلك الشي ء في نفسه. كقولنا: اعتقادنا فلان في البعث والثواب ... حق (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق).

الرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب. كقولنا: فعلك حق (حق القول مني لأملأنّ جهنم)» (1)

ويمكننا أن نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات أن الحق يعني باختصار: الأمر الواقع أو الواقعي.

ونقصد بالواقع: الموجود المتعين في الواقع الموضوعي أو العالم المستقل عن الصور الذهنية، وبالواقعي الأمر الذي يطابق مقتضيات الواقع الخارجي.

وأروع إنطباق للحق هو في الذات الإلهية باعتبار أنّها بلغت من الوضوح لدى الفطرة الإنسانية بحيث عاد الإيمان بها إيماناً بديهياً. فأنوار الله تعالى قد غمرت الوجود فلم تعد تبصر الله تعالى في كل شي ء، لذا كان هو الحق الذي لا مراء


1- المفردات للراغب الاصفهاني،ص 125.

ص: 12

فيه والواقع الذي لا يشك فيه.

أما ما عداه تعالى من مخلوقاته وتشريعاته التي أسماها القرآن بالحق فهي كما أرى اكتسبتصفة الحق من وجهتين:

أ من كونها واقعاً موضوعياً وهذا كما نشاهده في قوله تعالى (يوم يقوم الناس بالحق) (1)فيلاحظ هنا التأكيد على الأشياء الخفية عن حس الإنسان وإعطائهاصفة كونها حقاً لتركيز الإيمان بها.

ب من كونها وجدت وفق مخطط إلهي عام للكون، كل جزء فيه ضروري لسير الحركة الكونية، ودخيل في تحقق الغاية المرجوة من الخلق التي أرادتها العناية الإلهية منذ ارادت أن يكون فكان، وفي هذا القسم الثاني تدخل كل الأشياء سواء كانت مخلوقات تكوينية أو قوانين تشريعية. يقول تعالى:

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (2)


1- المفردات للراغب الاصفهاني،ص 125
2- البقرة/ 176.

ص: 13

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بالحق) (1)

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (2)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (3)

(قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) (4)

(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (5)

ثانياً العدل يسري في أنحاء الوجود

رغم أن البحث الكلامي والجدل الذي دار بين الفرق الإسلامية كان ينتهي أحياناً إلى نتائج معيّنة، يتغلب فيها أنصار العدل حيناً، وتقوى الشبهات فيغلب أنصار رفض العدل حيناً آخر، فإنَّه مما لا شك فيه لدى المسلم: أنَّ العدل بأي معنى من معانيه يبدأ بالعدل الإلهي بمفهومه الإجمالي الذي حدّثنا عنه القرآن الكريم، وينتهي بتطبيقاته في كل ذرة من ذرات الوجود.


1- الأنعام/ 73
2- الأعراف/ 8
3- التوبة/ 33
4- يونس/ 35
5- العصر/ 3.

ص: 14

فالعدل العام إذن في اعتقاد المسلم قوة أخرى وعامل قوي من العوامل المعنوية، التي تتدخل لصالح القضية العادلة في الكون ... والظلم بنفسه يشكل عاملًا من عوامل الزوال والفناء، بغض النظر عن العوامل الأخرى.

هذا بإيجاز ملخص نظرة المسلم العامة، ولا مجال للإفاضة فيها أكثر، فلنلاحظ الآيات التالية:

وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ (1)

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ (2)

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَصِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ (3)

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أنفسهم (4)

قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(5)

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا (6)


1- الشورى/ 15
2- النحل/ 90
3- الأنعام/ 115
4- هود/ 101
5- البقرة/ 124
6- النمل/ 52.

ص: 15

إِنَّ اللّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (1)

وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (2)

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا (3)

لا ظُلْمَ الْيَوْمَ (4)

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ (5)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ «(6)

ثالثاً الحبّ إطار العلاقات بين مختلف أنحاء الوجود

اشارة

ومما يعتقد به المسلم على ضوء القرآن الكريم: أنَّ هناك إطاراً رحيماً عاماً شاملًا لكل أنحاء الوجود، وسارياً في


1- النساء/ 40
2- الكهف/ 49
3- الأنبياء/ 47
4- غافر/ 17
5- آل عمران/ 18
6- النساء/ 135.

ص: 16

مختلف أنواعها، فالعلاقات بين الخالق والمخلوقين يؤطرها الحبّ، والعلاقات بين المخلوقين المتَّحدي الهدف والمتأدّبين بأدب السماء روحها الحب، وحتى العلاقة بين المؤمنين في الكون وبين أجزاء الكون التي لا تمتلك شعور الإنسان، حتى هذه العلاقة، يحكمها الحبّ المتبادل.

ومبررات هذا الحبّ واضحة تماماً على ضوء العقيدة الإسلامية وتعاليم القرآن، فإذا بدأنا بالإطار الودي القائم بين الإنسان وربّه أدركنا أروع علاقة حبّ تتفاوت درجاتها، من حبّ يقوم على المصلحة في طرف الإنسان ولكنّه على أيّ حال حبّ جارف، إلى حبّ خالص واع يعبر عن قمة في هذا المعنى، أنّه حبّ الأوصياء المخلصين.

والإسلام يمتلك خاصية أنّه يبدأ بالأشياء ببداية بسيطة، كإقامة حبّ يقوم على ذلك الأساس المصلحي، ثم يرتفع به إلى مستوى يجعله جزءاً من كيان الإنسان. ودافعاً ذاتياً يتحكّم في سلوكه، ويوجّهه لصالح القضية الإنسانية العامة.

ص: 17

أما الحبّ من طرف الباري جل اسمه، فهو وأن كان يخلق في نفوس السذج من المؤمنين نفس الإيحاءات والتصورات البشرية من الحب بين الكائنات، ولكنه في الواقع أسلوب تعبيري عن القرب من العطاء الإلهي والاختصاص بالرحمة والرضوان بصورة أكبر من ذي قبل. وإنني قد أجزم بأنَّ الإيحاء الأول حاصل حتى عند بعض أعمق المؤمنين بالله تعالى بالنظرة الأولية: وأنّ هذا أيضاً بنفسه مطلوب ومقصود. إذ أنّ الحبّ حرارة ولوعة وشوق، والنصوص القرآنية الكريمة تركز على عملية خلق الانفعال وشدّ العواطف للباري عزّ وجلّ بأساليب، منها بل أعظمها الدوافع الناتجة من تصوّر الله تعالى يلقي بظلال المحبة على الإنسان العابد .. ويمكن للقارئ الكريم التأكد من ذلك بمراجعة وجدانه الحاكم في مثل هذه الموارد.

فالنصوص تثبت الحبّ لأصناف المؤمنين الواعين، من أمثال (المحسنين، التوابين، المتطهرين، المتّقين، الصابرين، المتوكّلين، المقسطين، الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِصَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ

ص: 18

مَرْصُوصٌ (1) والنصوص تثبت الحبّ بين أفراد المؤمنين (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِيصُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا) (2)

والنصوص تربط بعلاقة الحبّ بين الإنسان والطبيعة، بعد أن يشعر الإنسان بأنّ الطبيعة مسخرة له ولصالحه هو، وبعد الإيحاء إليه بأنّ يد العناية الإلهية قد باركت في الأرض أقواتها.

وقد ورد عن النبي العظيم (ص) أنه قال عندما رجع من غزوة تبوك وعندما أشرف على المدينة: «هذه طابة، وهذا جبل أحد يحبّنا ونحبّه» «(3)

كما عبر عن ذلك بأن «حبّ الوطن من الإيمان» (4)

وهكذا ننتهي إلى حلقة رائعة من حلقات هذا الحبّ، جعلها القرآن بمثابة أجر للرسالة الإسلامية، والجهود التي بذلها الرسول الأعظم في خدمة هذه الأمة، وهي حلقة ربط


1- الصف/ 4
2- الحشر/ 9
3- راجع سفينة البحار،ص 668،صحيح مسلم، ج 2،ص 1011، كتاب الحج، ب 93، ح 503، سنن البيهقي، ج 6،ص 72
4- ميزان الحكمة، ج 10،ص 522 الوطن، حبّ الوطن، الدرر المنتثرة للسيوطي، 74، تذكرة الموضوعات: 11.

ص: 19

الأمة كل الأمة بأهل البيت الذين هم خير مؤهل لقيادتها نحو شواطئ الأمان، والذين هم سفن النجاة، وباب حطّة للعالمين».

(قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) «(1)

وأخيراً ننتهي إلى حلقةصغرى من حلقاتها، وهي المودّة القائمة بين الزوجين (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة وَرَحْمَةً) (2)

وتعتبر النصوص على جوانب النفي مكملة للنصوص الإيجابية، فإنَّ تلك النصوص تؤكّد تارة على انقطاعصلة الحب بين الله و العباد الذين خرجوا عن أمرربّهم، من أمثال (المعتدين، الكافرين، الظالمين، من كان مختالًا فخوراً، من كان خواناً أثيماً، المفسدين، المسرفين، الخائنين، المتكبرين، الفرحين).

وأخرى على انقطاعها بين أفراد الإنسان: الذين يهتدون بهدى الله، والذين استزلهم الشيطان إلى الكفر (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (3)


1- الشورى/ 23
2- الروم/ 21
3- المجادلة/ 22.

ص: 20

النتيجة

من مجموع هذا نستخلص هذه النتيجة:

(أنَّ المسلم يعتقد بأنَّه يعيش في عالم من الحبّ المتبادل).

ولهذه العقيدة تأثيرها الواسع الأبعاد على خلق الأمل في نفس الإنسان: الأمل الإيجابي الدافع نحو سعادته ورقيه.

على أنَّنا نعترف هنا بأنا لم نف الموضوع حقّه في نفسه، لكنّنا يجب أن نتذكّر أنّنا لا نبحث هنا عنه إلّا بمقدار ما يوضح لنا الصورة التي نريد أن نرسمها.

رابعاً الرحمة: بها انطلق هذا الوجود الكائن

هذا المقطع المبارك يعتبر أروع مقطع جامع يعبّر عن سرّ العقيدة الإسلامية، فقد وردت بعض الروايات التي تركز على أنّ القرآن جمع في سورة الفاتحة، وأنّ سورة الفاتحة جمعت في البسملة ... وعند تحليلنا لهذا المضمون لا يسعنا إلّا أن نرى أنّها تشير إلى: أنّ سورة الفاتحة إنمّا اعتبرت روح القرآن

ص: 21

باعتبار أنّها تحوي أصول العقيدة الإسلامية بصورة إجمالية، والقرآن قد أطر كلّ شي ء تحدّث عنه بإطار العقيدة.

أما إذا انتقلنا إلى المرحلة الثانية، فسنجد أنّ البسملة نفسها شكلت روح العقيدة وأساسها، إذ ركزت على انطلاق كلّ شي ء في الوجود من اسم الله تعالى في مقطعها الأول، وعن الإطار الذي تم بموجبه ذلك الانطلاق بمقطعها الأخير.

فالانطلاق: «بسم الله» وموجبه: (الرحمة التي لا حدّ لها).

وهذه حقيقة نجدها متمشّية في مختلف المواضع من القرآن الكريم، معبرة عن مظهر من مظاهر الكمال في الذات الإلهية، مما خلق اعتقاداً راسخاً عند المسلم: أنّه منطلق من مصدر الرحمة، ومنته إلى عالم الرحمة، وسائر في كنف هذه الرحمة، التي تتجاوز عن الكثير من موارد الانحراف التي تطرأ أحياناً على سلوكه .. وسنجد عند استعراضنا لآثار الدعاء: الكثير من الأساليب التربوية العقائدية، التي تركز على هذا الجانب، في الأدعية المنقولة.

ص: 22

وفي القرآن الكريم نجد الكثير من الآيات الكريمة التي تقرنصفة العزّة الإلهية بالرحمة، وتنتهي بعبارة: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (1)

أو بعبارة: أنّه «خير الراحمين»، أو «كتب على نفسه الرحمة» أو (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (2)وهكذا الآيات الشريفة:

(فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) (3)

(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (4)

(فَانظُرْإِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (5)

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِاللَّهِ) (6)


1- الدخان/ 42
2- الأنعام/ 133
3- الأنعام/ 157
4- الأعراف/ 56
5- الروم/ 50
6- الزمر/ 53.

ص: 23

(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (1)

وحتى في أشدّ المواقف هيبة ورهبة تأتيصفة (الرحمن):

(وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) «(2)

وهكذا يعتقد المسلم بعنصرين آخرين بالإضافة إلى عنصري الحق والعدل اللذين يعنيان التوازن أول ما يعنيان وهما: الحبّ والرحمة، اللذان يعنيان: الفضل من الخير والإعطاء فوق الاستحقاق.

وبهذا نكون قد عرفنا القوانين الأساسية المتحكّمة في الكون، وهي قوانين: (الحق والعدل والحب والرحمة)، وكلّها مما تتعلّق به القلوب، وتنمو به العواطف والأحاسيس.

وقد قدم الإسلام رسوله الكريم أروع مثال لهذه الحقائق وكانت سنته وسيرته تعمّقها في النفوس.


1- طه/ 5
2- طه/ 108.

ص: 24

الرسول الكريم أعظم مظهر لهذه المعاني

اشارة

إنّ المتتبّع لسيرته وسنّته (ص) يجده بوضوح أروع تجل لهذه الحقائق، (الحقّ والعدل، والحبّ، والرحمة) ليكون بحقّ المتمّم لمكارم الأخلاق، والرحمة المهداة للبشرية.

وهذا ما سنستعرضه باختصار في العناوين والروايات الآتية. ولكن قبل الدخول في هذا الاستعراض نرى من الجميل أن نذكر بعض المقاطع من (نهج البلاغة) يصف فيها الإمام علي (ع) أستاذه ومعلّمه ونبيّه ومحبوبه رسول الله (ص) بأروع الأوصاف فيقول:

«بعث الله سبحانه محمداً رسول الله (ص) لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته، مأخوذاً على النبييّن ميثاقه، مشهورة سماته، كريماً ميلاده» (1) ويقول عنه: «قائماً بأمرك، مستفزاً في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولاواه في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى اورى قبس القابس،


1- نهج البلاغة: ضبطصبحي الصالحص 44.

ص: 25

وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام» «(1)

ويصف سيرته فيقول: «سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل» (2)

ويقول عنه: «فبالغصلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة، والموعظة الحسنة» (3)

وكذلك يقول: «حتى بعث الله محمداًصلى الله عليه وآله شهيداً، وبشيراً ونذيراً، خير البرية طفلًا، وأنجبها كهلًا، وأطهر المطهّرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة» (4)

وفي موضع آخر يقول عنه: «التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته ... فهو لعيشك نعمة للعالمين، ورسولك بالحق رحمة» (5)


1- نهج البلاغة: ضبطصبحي الصالحص 101.
2- المصدر السابق:ص 139.
3- المصدر السابق:ص 140.
4- المصدر السابق:ص 151.
5- المصدر السابق:ص 153 و 154.

ص: 26

وكذلك يقول: «طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذانصمّ، وألسنة بكم» (1)

«عبده ورسوله، ونجيبه وصفوته، لا يؤازى فضله، ولايجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة» (2)

«ولقد كان (ص) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه» (3)«أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته» (4)» ولا أجد أروع من هذه الأوصاف، كما لا استطيع أن أفصل في مواقفه (ص) بين موقف وموقف، وما علي إلّا أن أذكر بعض الروايات معلقاً عليها لا غير وفق العناوين التالية:


1- نهج البلاغة:ص 156.
2- المصدر السابق:ص 210.
3- المصدر السابق:ص 229.
4- المصدر السابق:ص 247.

ص: 27

معتبراً إياّها ظواهر عامة في حياته (ص).

أولًا: الرحمة سنة عامة ومع الجميع

1 عنه (ص) «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: انّ رحمتي تغلب غضبي» (1)وهو مفهوم شائع في الأدعية المروية عن أهل البيت (ع).

2 وعنه (ص) «أنّ الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كلّ رحمة طباق مابين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» (2)» فهي سنة تكوينية، والتشريع يتوازن مع التكوين.

3 عن ابن مسعود «كأني أنظرإلى رسول الله (ص) يحكي نبياً من الانبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:


1- رواه أحمد، ج 2،ص 260، 13 ومسلم، ج 4،ص 2107 كتاب التوبة، ب 4، ح 14، بحار الأنوار، ج 11،ص 182.
2- رواه مسلم، ج 4،ص 2109 كتاب التوبة، ب 4، ح 21، مستدرك الحاكم، ج 1،ص 56، وج 4،ص 247.

ص: 28

(اللهم اغفر لقومي فإنّهم لايعلمون). (1) إنّها رحمة حتى بالكافرين المعتدين.

4 روى جابر بن سمرة قال: «صلّيت مع رسول الله (ص)صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدّي أحدهم واحداً واحداً. قال: وأمّا أنا فمسح خدي. قال فوجدت ليده برداً أوريحاً كأنّما أخرجها من جؤنة عطار» (2) 5 قال (ص) «ترى المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» (3) وهكذا تسود أروع وأمتن علاقات الرحمة والحسب بين المؤمنين.

6 وقال (ص) «إذاصلّى أحدكم للناس فليخفّف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذاصلّى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء». (4)


1- رواه أحمد في المسند 1: 441، ومسلم، ج 3،ص 1917، ح 1792 ومسلم.
2- رواه مسلم، ج 4،ص 1814، كتاب الفضائل، ب 21، ح 80.
3- رواه البخاري الفتح 10 ومسلم، ج 4،ص 1999 كتاب البرّ والصلة، ب 17، ح 66، بحار الأنوار 234: 74 و 274.
4- رواه مسلم، ج 1،ص 341، كتاب الصلاة، ب 37، ح 185، تهذيب الأحكام، ج 3،ص 283، ح 1139.

ص: 29

7 وروى مالك بن الحويرت قال: أتينا النبي (ص) ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظنّ أنا أشتقنا أهلنا، وسألنا عمّن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم ومُروهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثم ليؤمّكم أكبركم». (1)» 8 «قدم على النبي سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، فإذا وجدتصبياً في السبي أخذته فالصقته ببطنها وارضعته. فقال النبيّ (ص) أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقال الصحابة (رض): لا وهي تقدر الا تطرحه فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها»(2)9 بعدما جرى في أحد نادته الملائكة إن شاء تطبق على


1- رواه مسلم، ج 1،ص 466 465 كتاب المساجد، ب 53، ح 292، وانظر علل الشرائع،ص 326، ح 3.
2- مسلم، ج 4،ص 2109 كتاب التوبة، ب 4، ح 22، المعجم الصغير 98: 1.

ص: 30

أعدائه الأخشبين فقال (ص): «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئاً» «(1)» 10 قال رسول الله (ص) «بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني اسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به» (2)

11 وروى أسامة بن زيد (رض) قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمّهما ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإنّي أرحمهما»(3)

12 وصلّى (ص) على جنازة فقال: «اللهم اغفر له وارحمه» (4)


1- شرح السنّة للبغوي، 13،ص 214 و 333.
2- رواه البخاري ج 3،ص 1279 كتاب الأنبياء 52 ومسلم، ج 4،ص 1761 كتاب السلام، ب 41، ح 155.
3- رواه البخاري، ج 5،ص 2236، كتاب الأدب، ب 33، أمالي الصدوق،ص 34، ح 153
4- رواه مسلم، ج 2،ص 662، فقه الرضا: 19، عوالي اللئالي، ج 2.

ص: 31

13 وكان يقول: «أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» (1) 14 وكان يقول: «رحم الله رجلًا سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» (2) 15 وقال (ص): «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»(3)» 16 وقيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» (4) وهكذا تأتي رحمة الله الإسلام لتشمل: الخلق كلّهم، بل الكون كلّه (وهو المفهوم من عبارة البسملة في القرآن بعد حديثها عن انطلاقة كلّ شي ء باسم الله، ووصفه تعالى بالرحمن الرحيم) وتشمل حتّى الكافرين المعتدين وتسرى في


1- رواه مسلم، ج 4،ص 1828، كتاب الفضائل، ب 34، ح 126، علل الشرائع، ج 1،ص 128، ب 106، ح 2، بحار الأنوار، ج 103،ص 104.
2- رواه البخاري، ج 2،ص 730، كتاب البيوع، ب 16، ح 1970.
3- رواه البيهقي في السنن الكبرى 41: 9، ميزان الحكمة، ج 4،ص 1416.
4- رواه مسلم، ج 4،ص 2006، كتاب البرّ والصلة، ب 24، ج 87، ميزان الحكمة، ج 9،ص 3684، رقم 18234.

ص: 32

كل العلاقات الاجتماعية الإسلامية بين المؤمنين، وتتركّز على الولدان والشباب وتصل إلى الحيوان، فهي إذن تشمل كلّ شي ء. والمسلم الواعي هو الإنسان الرحيم بكلّ شي ء.

ثانياً: البرّ والإحسان والإيثار مظاهر للرحمة:

وهي أمور تتّسع اتّساع الرحمة نفسها من خلال سنّة الرسول الأكرم وسيرته: فلنلاحظ هذه الباقة من الأحاديث:

1 قال (ص): «في كلّ ذات كبد رطبة أجر» وقد استند الإمام زين العابدين لهذا الحديث فجوّز إطعام الحرورية من الهدي رغم أنّهم كانوا من الدّ أعداء أهل البيت (ع). (1)2 وقال (ص): «كلّ معروفصدقة». (2)3 وعن أبي ذر (رض): قال لي النبي (ص): «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(3)


1- رواه أحمد، ج 2،ص 735، والبيهقي، ج 4،ص 186 و ج 8،ص 14، وراجع موجز أحكام الحج للسيد الصدرص 160.
2- رواه مسلم، ج 2،ص 697، كتاب الزكاة، ب 16، ح 52، مستدرك الوسائل، ج 12،ص 343، كتاب بالمعروف، ب 1، ح 20.
3- رواه مسلم، ج 4،ص 2026 كتاب البرّ والصلة، ب 43، ح 144، ثواب الأعمال، ج 2،ص 11ص 1240،ص 424، ح 7.

ص: 33

4 وقال (ص): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، (1)

5 قال (ص): «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (2)

6 وقال رسول الله (ص) «إنّ الأشعرييّن إذا أرملوا في الغزو، أوقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم» (3)

7 وقال (ص) «طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة» (4)

8 وقال (ص): «أربعون خصلة أعلاهنّ منيحة العنز. ما


1- رواه مسلم، ج 4،ص 1996، كتاب البرّ والصلة، ب 15، ح 58، مستدرك الوسائل
2- رواه أبو داود، ج 4،ص 280، كتاب الأدب، ح 4918، كتاب المؤمن للأهوازي،ص 41، ح
3- رواه مسلم، ج 4،ص 1944، كتاب فضائل الصحابة، ب 39
4- رواه البخاري، ج 5،ص 2061، كتاب الأطعمة، ب 10 ح 5077، دعائم الإسلام، ج 2،ص 16.

ص: 34

من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلّا أدخله الله بها الجنة»(1)

9 وقال (ص): «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» (2)

10 وقال (ص): «إخوانكم خولكم» (3)

11 وقال (ص): «من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفّس عن معسر أو يضع عنه» (4)

وبهذا يتحوّل المسلم المتبع لرسول الله (ص) إلى وجود بشري محسن. يحسن لكلّ ذات كبد رطبة إنساناً كان أم حيواناً، ويصنع المعروف أي معروف حتى ولو كان قليلًا، يعيش هم أخيه ويشعر بآلامه وآماله، وينظر إليه مرآة له،


1- رواه البخاري، ج 2،ص 927، كتاب الهبة، ب 33، ح 2488، الخصال، ج 2،ص 1543، ج 1
2- رواه البخاري ج 5،ص 3047، كتاب النفقات، ب 1، ح 5038، ومسلم، ج 1،
3- رواه البخاري، ج 1،ص 20، كتاب الإيمان، 30، ح 30، ومسلم ج 3،ص 1382، كتاب الأعمال، ب 10، ح 28، تنبيه الخواطر، ج 1،ص 57
4- رواه مسلم، ج 3،ص 1196 كتاب المساقاة، ب 6، ح 32، ثواب الأعمال، ج 1،ص 179، ح 1.

ص: 35

ويقاسمه لقمة عيشه (كالأشعريين) ويمنح عطائه للآخرين، ويسعى على الأرملة والمسكين ويتعهد عبده فهو أخوه أيضاً. وهكذا كان رسول الله نفسه بل كان في قمة هذه الصفات.

ثالثاً: التكريم، والعفو، والكلام الطيب والمداراة وحسن الظن بعض خلقه (ص)

وكلّها أيضاً مظاهر للعاطفة والرحمة النبوية المهداة. فلنلاحظ هذه النصوص الشريفة:

1 روى الإمام الصادق (ع) عن جابر بن عبدالله (رضى عنه الله) أنّ رسول الله (ص) خطب الناس بعرفة فقال: «انّ دماءكم واموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، (1)

2 وفي رواية أخرى في نفس المورد قال (ص): «اتقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهنّ


1- رواه مسلم، ج 2،ص 889، كتاب الحج، ب 19، ضمن، ح 147، دعائم الإسلام، ج 2،ص 413، ح 410، مستدرك الوسائل، ج 18،ص 206،.

ص: 36

بكلمة الله» (1)

3 وقال (ص): «استوصوا بالنساء خيراً» «(2)

4 وقال (ص): «إنّ الله تبارك وتعالى أرأف على الإناث منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلّا فرّحه الله تعالى يوم القيامة» «(3) 5 وقال (ص): «ما أكرم النساء إلّا كريم ولا أهانهنّ إلّا لئيم». (4)6 وقال (ص): «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً» (5)

7 وكان (ص) يوصي المقاتلين قائلًا: «اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً» (6)

8 وقال (ص) لأبي هريرة: «افش السلام، واطب الكلام


1- المصدر السابق، دعائم الإسلام، ج 2،ص 214، ح 789
2- رواه البخاري ج 3،ص 1212، كتاب الأنبياء، ب 2، ح 3154، عوالي اللئالي
3- الكافي للكليني ج 5ص 6
4- نهج الفصاحة 318
5- رواه البخاري، ج 3،ص 1155، كتاب الجزية، ب 5، ح 2995، بحار الأنوار، ج 16،ص 217
6- نصب الراية 380: 3، دعائم الإسلام، ج 1،ص 369.

ص: 37

وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام» «(1)

9 وقال (ص): «الكلمة اللينةصدقة» (2)

10 وقال (ص): «إنّا نكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم» (3)

11 وقال (ص): «مداراة الناسصدقة» (4)

وهكذا أيضاً نجده (ص) يدعو لتكريم الإنسان أياً كان، وينشر السلام والاحترام بين المؤمنين، ويوصي بالنساء خيراً، ويأمر باحترام حقوق المعاهدين، والتأدّب بالآداب الإنسانية للحروب وأن تعمّ المجتمع الإسلامي الخصال الحسنى: السلام الشامل، والكلام الطيب، وصلة الأرحام والصلاة الخاشعة في الليل، والكلمة الليّنة وأخيراً المداراة حتى مع من يكرهون. وما أحوجنا اليوم لمثل هذه الخصال.


1- رواه أحمد 2/ 493، تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 2،ص 17، مستدرك الوسائل، ج 8،ص 364
2- رواه أحمد 2/ 213، الكافي، ج 2،ص 103، ح 4
3- رواه البيهقي، 197: 8
4- رواه ابن حبان 2/ 216، ميزان الحكمة، ج 27،ص 1154 رقم 5496.

ص: 38

رابعاً: الرسول الكريم يواجه بالعاطفة الإنسانية مواقفصعبة

والمستعرض لسيرة رسول الله (ص) يجدها ملأى بالعطف والحنان والمشاركة للأصحاب في كلّ الأعمال، الأمر الذي يثير الحماس فيهم وينسيهم مصاعب المسير ويدفعهم للتفاني فقد أخبر الخليفة الراشد عثمان عن ذلك بقوله: «إنّا والله قدصحبنا رسول الله (ص) في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير» (1)

وفي الرواية عن الصادق «إنّ المساكين كانوا يبيتون في المسجد على عهد رسول الله (ص)، فأفطر النبي (ص) مع المساكين الذين في المسجد ذات ليلة عند المنبر في برمه فأكل منها ثلاثون رجلًا ثم ردت إلى أزواجه شبعهن» (2)

وكان (ص) يعمل مع أصحابه في الخندق عملًا شاقاً وربماصاحب ذلك الجوع الشديد.

فقد ورد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين علي: «كنّا


1- رواه أحمد 1/ 70، نهج البلاغة، للسيد الرضي: الخطبة رقم 100
2- بحار الأنوار، ج 16،ص 219.

ص: 39

مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءت فاطمة ومعها كسرة من خبز فدفعتها إلى النبيصلى الله عليه وآله فقال (ص) ما هذه الكسيرة؟ قالت: خبزته قرصاً للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي (ص): يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث» (1)ومن أروع مافي سيرته (ص) أنه كان يواجه المواقف الكبيرة مواجهة عقائدية وعاصفية كانت تلهب الحماس في النفوس وتدفعها نحو التضحيات الجسام.

يقول الإمام علي (ع) كما يذكر نهج البلاغة: «ولقد كنّا مع رسول اللهصلى الله عليه وآله: نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو.

... فلما رأى اللهصدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر» (2)


1- بحار الأنوار، ج 16،ص 225، طبقات ابن سعد، ج 2،ص 114
2- نهج البلاغة،ص 92.

ص: 40

وسنركز على موقفين من هذه المواقف باعتبارهما نموذجين رائعين وكل مواقفه (ص) رائعة.

الموقف الأول: حمراء الأسد

حدثنا التاريخ أن قريشاً بعد أن أوقعت القتل والهزيمة بجيش المسلمين في معركة أحد رحلت منتشية بنصرها فلمّا بلغت محلًا يقال له (الروحاء)، أدركت أنّها لم تستطع أن تستغل النصر استغلالًا كاملًا، ولعلّ ذلك كان بإيحاء من بعض الشياطين، فأعدّت العدّة للعودة إلى المدينة واستئصال المسلمين فيها، كماصرّح بذلك قائدها أبوسفيان، ووصلت هذه الأنباء إلى الرسول (ص) فبدأ بتعبئة المسلمين وحثهم على القتال، مثيراً فيهم أقوى العواطف الرسالية، وانطلق هو معهم، فخرجوا على مابهم من الجراح وعلى ما أصابهم من القرح، ولكنّهم كانوا كالأسود المجروحة، وهو مجروح معهم، وتحرّكوا حتى وصلوا إلى منطقة تدعى حمراء الأسد مستعدّين للتفاني

ص: 41

في سبيل العقيدة. وعلم أبوسفيان بالخبر، وأدرك أنّ هذه المجموعة المتفانية لا يمكن أن تقهر حينما لقي معبداً الخزاعي فسأله ماوراءك يا معبد؟ قال: «قد والله تركت محمداً وأصحابه وهم يحرقون عليكم» وجاء في سيرة ابن هشام: «قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع يتحرّقون عليكم تحرّقاً قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ماصنعوا، فيهم من الحنق عليكم شي ء لم أر مثله قطّ» (1)

وبهذا دخل الرعب في قلب أبي سفيان فأرسل مع ركب عبدالقيس رسالة إلى النبي (ص) يخبره فيها أنه عاد عن قراره فقال (ص) «والذي نفسي بيده، لقد سُومت لهم حجارة، لوصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب». ثم ردّد (ص) الآية حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ وكان بذلك يتفاعل مع تعليمات القرآن التي جاءت في سورة الأنعام والتي جاء فيها عشرات الآيات التي تلقي دروساً على المسلمين بعد معركة أحد لتعيد لهم العزيمة،


1- سيرة ابن هشام، ج 3،ص 108، بحار الأنوار، ج 20،ص 99.

ص: 42

وتعبئ الطاقات، وتعمق المفاهيم، وكان من تلك الدروس قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (1)

حيث ربت المسلمين على أن يحوّلوا التهديدات إلى فرص مستعينين بالله متوكلين عليه وهو نعم الوكيل.

والتاريخ هنا يحدثنا عن بطولات الصحابة (رضى عنه الله) بأروع الصور ومنها هذه الصورة: «كان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته التي كانت تسقي الماء في أحد، قالت سمعت النبي (ص) يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذ أشدّ القتال، وانّها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً» فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها


1- آل عمران 173، 174.

ص: 43

ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: إنّي لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، ولقد داوته سنة.

ثم نادى منادى النبي (ص): إلى حمراء الأسد فشدّت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم» (1)

لقد كان الحماس النبوي عظيماً حتى جاء في الخبر انّه كان يقول:

«والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي» (2)

ومن أروع ما ينقل انّه (ص) أمر مناديه أن يقول: «إنّ رسول الله يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال بالأمس» ليقول سعد بن خضير (رض) وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرّج على دواء جراحه».


1- كتاب المغازي للواقدي، ج 1،ص 270
2- المصدر السابق، ج 2،ص 327.

ص: 44

وهذان مسلمان جريحان يصلّهما النداء فيقول أحدهما لصاحبه «والله إن تركَنا غزوة مع رسول الله لغبن» وخرجا يزحفان يضعف أحدهما فيحمله الآخر على ظهره عقبةً «أي بالتناوب» (1)

الموقف الثاني: بعد معركة هوازن

ونقف هنا لنتأمل علاجه لحالة الضعف التي بدت لدى بعض المسلمين تجاه خطوة قام بها النبي (ص) في أموال هوازن، حيث أعطى الغنائم الكثيرة لأهل مكة الذين اشتركوا معه في مطلع حياتهم الرسالية، فقاتلوا الكافرين بعد ان كانوا هم الطليعة الكافرة، وكان هذا الإعطاء ذا دوافع اجتماعية سياسية عالية تحاول تأليف القلوب وإشعارها بفارق كبير بين حياة الاستغلال الجاهلية وحياة العزة الإسلامية، وغير ذلك. وهنا أشاع المنافقون بين الأنصار بأنّه (ص) لقي قومه فمال


1- كتاب المغازي للواقدي، ج 2،ص 335.

ص: 45

إليهم، الأمر الذي ولد حالة ضعف في نفوس بعض المسلمين الأنصار. وسرّت هذه الاشاعة لتؤدي إلى شبه موجة تساؤل وغضب. وهي حالة خطيرة في مجتمع يبنيه رسول الله (ص) ليحمل الرسالة الكبرى إلى العالم بعقيدة راسخة. وهنا جمعهم رسول الله (ص) ودار بينه وبينهم الحوار التالي:

قال (ص): يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ فقال الأنصار: بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل. فقال (ص): ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فردَّ الأنصار: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل.

فقال (ص): أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم، ولصُدّقتم أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلًا فآسيناك ...

ص: 46

وأضاف (ص) بعد هذا قوله: «أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، سلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار «وهنا يتأثر الأنصار أشد التأثر وتنفجر العواطف ليعلنوا أنهم رضوا برسول الله (ص) قسماً وحظاً (1)

وهنا يلاحظ أنّ الحالة كانت خطيرة جداً لأنها لا تنجسم مع الخلفيات العقائدية التي كانوا يؤمنون بها، وكذلك لا تنسجم مع المسبقات التجريبية التي اكتسبوها خلال حياتهم الطويلة نسبياً معه (ص)، ورؤيتهم له كأعدل وأوعى ما يكون الإنسان الرسالي الواسع الرؤية والقلب.


1- سيرة ابن هشام دار إحياء التراث العربي، م 4ص 142.

ص: 47

وهذه الحالة تحتاج إلى علاجين: أحدهما؛ على المدى الطويل، وهو تركيز العقيدة، ورفع كل شوائب ضعف النفس الإنسانية، والثاني؛ على المدى الفعلي الذي ينقذ الموقف الحاد، وهو العلاج العاطفي الواعي أنه يقول لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم» كل هذا بعد أن يسبق هذا الكلام العاطفي مدح للأنصار، وموقفهم من الرسالة، ويعقبه مدح وثناء لمواقفهم الرسالية، ممّا يفجر عواطفهم، فينطلقون باكين ليعلنوا أنّهم رضوا برسول الله قسماً وحظاً.

ويطول المقام لو أردنا استعراض النماذج الأخرى فلنكتف بما قدّمناه. نسأل الله جلّ وعلا أن يوفّقنا للاقتداء برسول الله وتطبيق الإسلام الحنيف، إنّه السميع المجيب

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.