غنيه النزوع الي علمي الاصول و الفروع

اشارة

سرشناسه : ابن زهره، حمزه بن علی، ق 585 - 511

عنوان و نام پديدآور : غنیه النزوع الی علمی الاصول و الفروع/ تالیف حمزه بن علی بن زهره الحلبی؛ تحقیق ابراهیم البهادری

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق(ع)، 1417ق. = 1375.

مشخصات ظاهری : ص 496

شابک : 12000ریال ؛ 12000ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه: ص. [481] - 486؛ همچنین به صورت زیرنویس

موضوع : فقه جعفری -- قرن ق 6

شناسه افزوده : بهادری، ابراهیم، محقق

شناسه افزوده : موسسه امام صادق(ع)

رده بندی کنگره : BP181/7/الف 24غ 9 1375

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 78-5857

ص: 1

اشارة

غنيه النزوع الي علمي الاصول والفروع

عزالدين ابوالمكارم حمزه بن علي بن زهره حسيني حلبي (511 - 585 ق.)؛ با مقابله خواجه نصيرالدين طوسي در 624 ق. و اجازه سالم بن بدران مازني مصري به وي در 619 ق.؛ با مقدمه سيدمحمد عمادي حائري.

ص: 2

التشيع في حلب عبر القرون و ترجمة المؤلف

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انتشر الإسلام في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في الجزيرة العربية، كما انتشر بعد رحيله في شتى الأقطار و ما ذلك إلا لأنه دين الفطرة، يدعو إلى عبادة رب واحد، لا شريك له، و نبذ عبادة الأصنام، و الحجر و البشر، و إلى العدل و المساواة، و كل عمل و خلق حسن، و ينهى عن كل خلق و عمل قبيح، إلى غير ذلك مما يرفع الإنسان عن حضيض الحيوانية إلى ذروة الكمال.

و والاه التشيع في الانتشار بسرعة في الأقطار الإسلامية، و ما ذلك إلا لأن أكثر المهاجرين و الأنصار كانوا يشايعون عليا عليه السلام و يحاربون معه، و يقفون معه في صف واحد خصوصا في الحروب التي وقعت في أيام خلافته. فبعد ما نزل الإمام بالكوفة، انتشر التشيع في العراق.

و لما غادر الإمام الصادق عليه السلام المدينة المنورة و نزل بالكوفة أيام أبي العباس السفاح حيث بقي فيها مدة سنتين، فعمد الإمام إلى نشر علومه، و تخرج على يديه الكثير من العلماء. فقويت شوكة التشيع و هذا الحسن الوشاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الإمام في العراق في تلك الظروف و يقول: أدركت في هذا المسجد يعني مسجد الكوفة

ص: 3

تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد (1).

و قد كان لهذه المدرسة العظيمة للإمام أكبر تأثير في انتشار التشيع في أقطار العالم و إن كانت جذوره موجودة قبل الإمام الصادق عليه السلام في الشام و مصر و غيرهما و قد بلغ من انتشار التشيع بواسطة مدرسة الإمام انه أصبح قسم من البلدان الإسلامية، شيعية أو يوجد فيها التشيع خصوصا في ثالث القرون و ما بعده.

و مع ان الشام كانت معقل الأمويين و دار خلافتهم نرى ان التشيع قد دب فيها دبيب الماء في الورد، فما من بلدة أو قرية إلا و فيها نجم لامع من علماء الشيعة يقتضي أثر أهل البيت و ينادي بموالاتهم التي نص القرآن الكريم عليها و قد كان لسماع كلمة أهل البيت جاذبية خاصة في قلوب المسلمين حيث يحنون إليهم حنان العاشق للمعشوق، خصوصا إنهم كانوا يصلون على أهل بيت محمد و آله و عترته في كل يوم و ليلة تسع مرات. و هذا يدل على احتلال أهل البيت مقاما كبيرا فلو كانوا أناسا عاديين لما أمر المسلمون قاطبة بالصلاة عليه و هذا الأمر يدفعهم إلى التعرف عليهم و الاعتناء بشأنهم.

و لهذا و ذاك، قوي انتشار التشيع و الموالاة لأئمة أهل البيت في أكثر الأقطار الإسلامية حتى في معاقل الأعداء و دار خلافتهم.

حلب الشهباء و جمالها الطبيعي

من المناطق التي اعتنقت التشيع من عصور قديمة هي سواحل سوريا و أخص منها بالذكر حلب الشهباء التي نبغ فيها كثير من بيوتات الشيعة، و تربى في أحضانها جيل كبير من المحدثين و الفقهاء و المتكلمين و الأدباء من الشيعة التي ستمر عليك أسماء بعضهم. و قبل التعرف عليهم، نذكر شيئا من هذه المدينة الزاهرة.

يقول ياقوت الحموي: «حلب» بالتحريك مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات

ص: 4


1- - النجاشي، الرجال: 1- 137، رقم 79.

طيبة الهواء صحيحة الأديم و الماء. (1).

و قد وصف الشعراء و الأدباء أزهارها و أثمارها، و أشاروا إلى ضواحيها و نواحيها و ما فيها من جمال الطبيعة و كمال الصنع، و كأنك ترى ماءها الفضي يجري على تراب كالذهب. و ترى فيها أنواعا من الأزهار و الفواكه كلها تسقى بماء واحد و كأن الشاعر بشعره يقصد تلك البلدة إذ يقول:

صبغت بلون ثمارها أوراقها فتكاد تحسب أنهن ثمار

و للشاعر أبي بكر الصنوبري قصيدة تبلغ مائة و أربعة أبيات يصف فيها منتزهات حلب و قرأها مستهلها:

احبسا العيس احبساها و سلا الدار سلاها

و من جملتها:

أنا أحمى حلبا دارا و أحمى من حماها

أي حسن ما حوته حلب أو ما حواها

إلى أن يقول:

حلب أكرم مأوى و كريم من أواها

بسط الغيث عليها بسط نور، ما طواها

و كساها حللا، أب دع فيها إذ كساها

حللا لحمتها السو سن و الورد سداها (2)

قال السيد الخوانساري نقلا عن كتاب تلخيص الآثار:

ان حلب مدينة عظيمة بأرض الشام كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة التربة، لها سور حصين، و كان الخليل عليه السلام يحلب غنمه، و يتصدق بلبنها يوم الجمعة،6.

ص: 5


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 282 و 286.
2- ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 282 و 286.

و لقد خص الله هذه المدينة ببركة عظيمة من حيث يزرع بأرضها القطن، و السمسم، و الدخن، و الكرم، و المشمش، و التين، يسقى بماء المطر، و هي مسورة بحجر أسود، و القلعة بجانب السور لأن المدينة في وطأ من الأرض، و القلعة على جبل مدور، لها خندق عظيم، وصل حفره إلى الماء، و فيها مقامان للخليل عليه السلام يزاران إلى الآن، و في بعض ضياعها بئر إذا شرب منها من عضه الكلب الكليب برأ.

و من عجائبها سوق الزجاج لكثرة ما فيها من الظرائف اللطيفة، و الآلات العجيبة. (1)

التشيع في حلب عبر القرون

اشارة

دخل التشيع في حلب قبل عهد الحمدانين (293- 392) و لكنه انتشر و قوى فيها على عهدهم و ذلك لان الدولة الحمدانية كانت من الدول الشيعية، يجاهرون بالتشيع و ينصرونه و كانوا يكرمون الأدباء و الشعراء و العلماء و المحدثين، و خصوصا الذين يجاهرون منهم بالتشيع و ولاء أهل البيت. و من أبرز شعراء الحمدانين أبو فراس الحمداني (320- 357) و له القصيدة الميمية الطائرة الصيت التي مستهلها:

الحق مهتضم و الدين مخترم و في ء آل رسول الله مقتسم

إلى أن قال:

قام النبي بها يوم الغدير لهم و الله يشهد و الأملاك و الأمم

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها باتت تنازعها الذؤبان و الرخم

و صيروا أمرهم شورى كأنهم لا يعلمون ولاة الحق أيهم

تالله ما جهل الأقوام موضعها لكنهم ستروا وجه الذي علموا

ثم ادعاها بنو العباس ملكهم و لا لهم قدم فيها و لا قدم

ص: 6


1- - السيد الخوانساري، روضات الجنات: 2- 115.

و لأجل تلك المناصرة، و وجود المناخ المساعد، أصبح التشيع مذهبا بارزا في تلك البلدة الخصبة ممتدا إلى ضواحيها كالموصل و تشهد بذلك نصوص كثير من المؤرخين.

يقول ياقوت الحموي و هو يذكر حلب: و الفقهاء يفتون على مذهب الإمامية. (1)

2- و قال ابن كثير الشامي في تاريخه: كان مذهب الرفض فيها في أيام سلطنة الأمير سيف الدولة بن حمدان رائجا رواجا تاما.

3- و قال مؤلف نهر الذهب: لم يزل الشيعة بعد عهد سيف الدولة في تصلبهم حتى حل عصبتهم و أبطل أعمالهم نور الدين الشهيد (543) و من ذلك الوقت ضعف أمرهم غير أنهم ما برحوا يجاهرون بمعتقداتهم إلى حدود (600) فأخفوها.

ثم ذكر أن مصطفى بن يحيى بن حاتم الحلبي الشهير ب- «طه زاده» فتك بهم في حدود الألف فاخفوا أمرهم، و ذكر بعض ما يفعله الحلبيون مع الشيعة من الأعمال الوحشية و المخازي و القبائح التي سودت وجه الإنسانية و يخجل القلم من نقلها.

و قال القاضي المرعشي: «أهل حلب كانوا في الأصل شيعة و إلى أواخر زمان الخلفاء العباسية كانوا على مذهب الإمامية، و قد أجبروا في زمان انتقال تلك الولاية إلى حكم السلاطين العثمانية على ترك مذهبهم» و ما مر من فعل (طه زاده) يؤيد ذلك فإن استيلاء العثمانيين على حلب كان في أوائل المائة العاشرة.

و قال مؤلف نهر الذهب: انه لم يزل يوجد في حلب عدة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض و التشيع و يتهابون الزواج معهم مع ان ظاهرهم على كمال الاستقامة و موافقة أهل السنة. (2)

4- و قال ابن كثير:

لما سار صلاح الدين إلى حلب فنزل على جبل جوشن، نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد1.

ص: 7


1- - ياقوت الحموي، معجم البلدان: ج 2، ص 273.
2- - السيد الأمين، أعيان الشيعة: ج 1، ص 201.

إليهم و تباكى لديهم و حرضهم على قتال صلاح الدين و ذلك عن إشارة الأمراء المقدمين فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد و شرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل، و أن يذكر في الأسواق و أن يكون لهم في الجامع، الجانب الشرقي، و أن يذكر أسماء الأئمة الاثني عشر بين يدي الجنائز، و أن يكبروا على الجنازة خمسا، و أن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر أبي المكارم حمزة بن زاهر (1) الحسيني فأجيبوا إلى ذلك كله، فأذن بالجامع و سائر البلد بحي على خير العمل. (2)

و نقل السيد الأمين عن أعلام النبلاء عن كتاب الروضتين، عن ابن أبي طي انه قال: فأذن المؤذنون في منارة الجامع و غيره بحي على خير العمل، و صلى أبي في الشرقي مسبلا و صلى وجوه الحلبيين خلفه و ذكروا في الأسواق و قدام الجنائز أسماء الأئمة و صلوا على الأموات خمس تكبيرات و اذن للشريف- ابن زهرة- أن يكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه و فعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه. (3)

5- قال ابن كثير:

ان بدر الدولة أبا الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب لما أراد بناء أول مدرسة للشافعية بحلب لم يمكنه الحلبيون، إذ كان الغالب عليهم التشيع.

ان ابتداء إمرة سليمان هذا في حلب نيابة عن عمه «ايلغاري» بن ارتق، كان سنة 515 ه و انتهاؤها 517 و إن تلك المدرسة تسمى «الزجاجية» و انه كلما بنى فيها شي ء نهارا خربة الحلبيون ليلا إلى أن أعياه ذلك، فاحضر الشريف زهرة بن علي بن إبراهيم الإسحاقي الحسيني و التمس منه أن يباشر بناءها فكف العامة عن هدم ماة.

ص: 8


1- - كذا في المصدر و الصحيح «زهرة».
2- - ابن كثير: البداية و النهاية: الجزء 12- 309 حوادث سنة 570 و في غير واحد من المعاجم، كالرياض 2- 208. تبعا لمجالس المؤمنين 1- 63 ط مكتبة الإسلامية، و قد صحف فيهما لفظ السبعين بسبع فلاحظ.
3- - السيد الأمين: أعيان الشيعة: ج 6، ص 250، ترجمة ابن زهرة.

يبنى، فباشر الشريف البناء ملازما له حتى فرغ منها. (1)

و خرج من حلب عدة من علماء الشيعة و فقهائهم منهم الشيخ كردي بن عكبري بن كردي الفارسي الفقيه الثقة الصالح، كان يقول: بوجوب الاجتهاد عينا و عدم جواز التقليد قرأ على الشيخ الطوسي و بينهما مكاتبات و سؤالات و جوابات. (2)

و منهم الفقيه المقدام أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي 374- 447 مؤلف الكافي، و التهذيب و المرشد و تقريب المعارف،- و قد طبع الأول و الأخير- و غيرها.

و قد كانت الصلة بين شيعة حلب و شيعة الكوفة وثيقة جدا و لأجل ذلك نرى ان بعض البيوت العراقية ينتسب إلى حلب و ما ذلك إلا لوجود الصلة التجارية أو العلمية بين البلدين فهذا هو عبيد الله بن علي بن أبي شعبة المعروف بالحلبي و ما هو إلا أنه كان يتجر هو و أبوه و إخوته إلى حلب فاشتهروا بالحلبيين. و عبيد الله هذا من فقهاء الشيعة في القرن الثاني و له كتاب يرويه أصحابنا عنه (3) و رواياته مبثوثة في المعاجم الحديثية.

هذا بعض ما كان للشيعة من الشأن في تلك التربة الزاهرة و أما مصيرهم في القرون فقد حدث عند المؤرخون و قد مر تصريح بعضهم بما جرى على شيعة آل البيت من المجاز فيها. و لنشر إلى النزر اليسير منها و نترك الكثير إلى مجال آخر.

ان تاريخ الشيعة تاريخ دموي حيث إنهم عاشوا بين الخوف و الرجاء، و بين الحجر و المدر و قد تعامل معهم الأمويون و العباسيون بشكل يندي له جئن البشرية فلم يكن السبب للفتك بهم إلا عدم تحالفهم مع الظالمين و مع ذلك فبقاء الشيعة اليوم يعد من أكبر المعاجز و من خوارق العادات إذ لم يشهد التاريخ أمة أصابتهم النوائب و المظالم و القتل الذريع مثل ما أصابت شيعة أهل البيت و مواليهم، و لو انك وقفت على0.

ص: 9


1- - السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة: ج 7- 69، و زهرة المذكور جد المؤلف فيعرب عن مكانة المؤلف في عصره حيث كان رئيسا مطاعا.
2- - الخوانساري: روضات الجنات ج 2، ص 115.
3- - النجاشي، الفهرست ترجمة عبيد الله، رقم 640.

ما في غضون التاريخ و أغواره لضقت ذرعا و لملئت مما جاء فيها رعبا.

6- قال كرد علي في خطط الشام:

كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح- في عهد سيف الدولة- فصار فيها شيعة و شافعية، و أتى صلاح الدين، و خلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، و كان المؤذن في جوامع حلب الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، و حاول السلجوقيون مرات، القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، و كان حكم بني حمدان و هم شيعة، من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، و لا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل «جوشن» بظاهر حلب ذكر الأئمة الاثني عشر، و قد خرب الآن. (1)

7- و قال ابن جبير: للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، و هم أكثر من السنيين بها، و قد عموا البلاد بمذاهبهم. (2)

دخل صلاح الدين الأيوبي إلى حلب عام 579 و حمل الناس على التسنن و عقيدة الأشعري و لا يقدم للخطابة و لا للتدريس إلا من كان مقلدا لأحد المذاهب الأربعة، و وضع السيف على الشيعة فقتلهم و أبادهم مثل عمله في مصر، إلى حد يقول الخفاجي في كتابه: «فقد غال الأيوبيون في القضاء على كل أثر للشيعة». (3)

و بما انه سبحانه شاء أن يبقى التشيع في حلب، نرى أن الدولة الأيوبية لم تتمكن من القضاء على التشيع فيها تماما بل بقي مع ما أصابه من الكوارث و المحن.

8- هذا هو ياقوت الحموي يكتب عن حلب عام 636 ه- أي بعد دخول الأيوبي لها بسبع و خمسين سنة ما لفظه: و عند باب الجنان مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رؤي فيه في النوم، و داخل باب العراق مسجد غوث، فيه حجر عليه8.

ص: 10


1- - كرد علي خطط الشام: 6- 258.
2- - ابن جبير، الرحلة، ص 250 ط مصر. قام برحلته هذه عام 581 و استغرقت ثلاث سنوات.
3- - الخفاجي: الأزهر في ألف عام: 1- 58.

كتابة زعموا انها خط علي بن أبي طالب عليه السلام و في غربي البلد في سفح جبل جوشن قبر المحسن بن الحسين يزعمون انه سقط لما جي ء بالسبي من العراق ليحمل إلى دمشق، أو طفل كان معهم بحلب فدفن هنا لك، و بالقرب منه مشهد مليح العمارة تعصب الحلبيون، و بنوه أحكم بناء، و أنفقوا عليه أموالا، يزعمون أنهم رأوا عليا عليه السلام في المنام في ذلك المكان. (1)

هكذا استمر التشيع في حلب رفيع البناء، لم يقلعه تلك الهزات العنيفة، و لم تقوضه تلك العواصف الشديدة، إلى أن أفتى الشيخ نوح الحنفي (2) بكفر الشيعة و استباحة دمائهم و أموالهم، تابوا أو لم يتوبوا، فزحفوا على شيعة «حلب» و أبادوا منهم أربعين ألفا أو يزيدون، و انتهبت أموالهم، و أخرج الباقون منهم من ديارهم إلى «نبل» و «النغاولة» و «أم العمد» و «الدلبوز» و «الفوعة» و غيرها من القرى، و اختبأ التشيع في أطراف حلب في هذه القرى و البلدان.

9- هاجم الأمير ملحم بن الأمير حيدر، بسبب هذه الفتوى جبل عامل عام 1048 فانتهك الحرمات و استباح المحرمات يوم وقعة قرية «أنصار» فلا تسئل عما أراق من دماء، و استلب من أموال، و انتهك من حريم، فقد قتل ألفا و خمس مائة، و أسر ألفا و أربع مائة، فلم يرجعوا حتى هلك في الكنيف ببيروت.

فيا لله من هذه الجرأة الكبرى على النفوس و الأعراض، و من تلك الفتيا، التي غررت بأولئك على تلك الفظائع و الجرائم. (3)

10- و لم يكن ذلك الفتك الذريع أول تصفية جسدية للشيعة، بل صبت عليهم قوارع في دار الخلافة، قبل قرنين بالوحشية التامة يندي لها جئن الإنسانية. فقد قتل السلطان سليم في الاناضول وحدها أربعين ألفا، و قيل سبعين لا لشي ء إلا انهم شيعة، و من جراء ذلك غادرت شيعة أهل البيت المراكز، نازلين الكهوف، و المناطق الجبلية،7.

ص: 11


1- - ياقوت الحموي، معجم البلدان: 2- 284.
2- - كان مفتي قونية في عصر الخلافة العثمانية توفي عام 1070 اقرء ترجمته في الإعلام للزركلي: 8- 51.
3- - محمد حسين المظفر، تاريخ الشيعة، ص 147.

و لم تزل قسم من العلويين حاليا في تركيا يعيشون تلك المناطق. (1)

ما أقبحها من عصبية و ما أقساها.

ترى أ كان يسوغ في شريعة الإنصاف أن يسأم قوم يدينون بدين الحق، و يتبعون أوصياء النبي الشرعيين الذين أوصى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بموالاتهم و محبتهم، و يمنعوا من أبسط حقوقهم الإنسانية و هي حرية الرأي و المعتقد، خاصة إذا كان ذلك المعتقد من النوع الذي يأخذ بصاحبه إلى الفضيلة و الطهر، و الإنسانية و الكمال.

ترى أ كان يسوغ أن تمنع جماعة يحترمون وصية النبي في ذريته و خلفائه الأبرار، من أداء شعائرهم النابعة من الكتاب و السنة إلا في غطاء التقية، و إذا كانت التقية أمرا قبيحا فعمل من حملهم عليها أقبح.

و هذا هو العالم الشاعر إبراهيم يحيى (2) يصف مظالم «جزار» و فظايعه على الشيعة في جبل عامل تلك المنطقة الخصبة بالعلم و الفضل، و جمال الطبيعة و كانت و لم تزل دارا للشيعة منذ عصور، تلمع كشقيقتها «حلب» في خريطة الشامات و قد صور الشاعر ما جرى عليهم في قصيدته على وجه يدمي الأفئدة و القلوب، و قد هاجر من موطنه إلى دمشق و نظم فيها القصيدة الميمية نقتطف منها ما يلي:

يعز علينا أن نروح و مصرنا لفرعون مغني يصطفيه و مغنم

منازل أهل العدل منهم خلية و فيها لأهل الجور جيش عرمرم

و عاثت يد الأيام فينا و مجدنا و بالرغم مني أن أقول مهدم

و لست ترى إلا قتيلا و هاربا سليبا و مكبوبا يغل و يرغم

و كم علم في عامل طوحت به طوائح خطب جرحها ليس يلام

و أصبح في قيد الهوان مكبلا و أعظم شي ء عالم، لا يعظم

و كم من عزيز ناله الضيم فاغتدى و في جيده حبل من الذل محكي.

ص: 12


1- - محمد جواد مغنية، الشيعة و الحاكمون، ص 194 نقلا عن أعيان الشيعة.
2- - اقرء ترجمته في الجزء الثاني من دائرة المعارف البنانية لرئيس الجامعة اللبنانية فؤاد البستاني.

و كم هائم في الأرض تهفوا بلبه قوادم أفكار تغور و تتهم

و لما رأيت الظلم طال ظلامه و ان صباح العدل لا يتبسم

ترحلت عن دار الهوان و قلما يطيب الثوى في الدار و الجار، أرقم

تملكها- و الملك لله- فاجر سواء لديه ما يحل و يحرم

عتل زنيم، يظهر الدين كاذبا و هيهات أن يخفى على الله مجرم

(1)نسب المؤلف

اشارة

اتفقت كلمة المترجمين على أن نسبه ينتهي إلى الإمام الصادق عليه السلام و لكن اختلفوا في عدد الوسائط فذكر الأفندي التبريزي نسبه بالنحو التالي:

السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي علي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن أبي إبراهيم محمد النقيب، بن علي، بن أبي علي أحمد، بن أبي جعفر محمد، بن أبي عبد الله الحسين، بن أبي إبراهيم إسحاق المؤتمن، بن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام الحسيني الحلبي، و قال:

هذا الذي ذكرناه، من نسبه هو الموجود في المواضع المعتبرة، و رأيت في أواخر بحث أصول الفقه من بعض نسخ الغنية له، نسبه هكذا:

السيد أبو المكارم حمزة، بن علي، بن زهرة، بن علي، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن الحسين، بن إسحاق بن جعفر الصادق عليه السلام و لعل فيه اختصارا كما هو الشائع في الأنساب (1) و على ما ذكره يصل نسب المؤلف إلى الإمام الصادق عليه السلام باثنتي عشرة واسطة.

و قد ذكر شيخ الباحثين آقا بزرگ الطهراني نسبه بالنحو المتقدم و كأنه تبع

ص: 13


1- - الأفندي التبريزي، الرياض: ج 2، ص 202.

صاحب الرياض. (1)

و يقول السيد الخوانساري: السيد بن زهرة الحلبي ينتهي نسبه إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق باثنتي عشرة واسطة سادات أجلاء. (2)

نعم حكى السيد الأمين عن كتاب اعلام النبلاء «أنه قد أبقت أيدي الزمان قبر المترجم في تربته الكائنة في سفح جبل جوشن جنوبي المشهد، و بينها و بين التربة أذرع و قد كانت تلك التربة مردومة فاكتشفت في جمادى الأولى سنة 1297 و قد حاط جميل باشا ما بقي من هذه التربة بجدران حفظا لها، و قبر المترجم ظاهر فيها و على أطرافه كتابة حسنة الخط هذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم: هذه تربة الشريف الأوحد ركن الدين أبي المكارم حمزة، بن علي، بن زهرة، بن علي، بن محمد، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن الحسين، بن إسحاق بن جعفر الصادق صلوات الله عليه و على آبائه و أبنائه الأئمة الطاهرين و كانت وفاته في رجب سنة 585 ه- رضي الله عنه- (3) و على ما ذكره ينتهي نسبه إلى الإمام الصادق عليه السلام بوسائط تسع.

و ذكر العمري نسب أبي إبراهيم محمد الذي هو الجد السادس للمؤلف إلى الإمام الصادق عليه السلام بالنحو التالي:

أبو إبراهيم: محمد، بن جعفر، بن محمد، بن أحمد، بن الحسين، بن إسحاق، بن جعفر الصادق عليه السلام. (4)

و قال: و كان أبو إبراهيم لبيبا عاقلا و لم تكن حاله واسعة، فزوجه الحسين الحراني، بنته خديجة المعروفة بأم سلمة- إلى أن قال:- فأمد أبا إبراهيم، الحسين الحراني9.

ص: 14


1- - الطهراني، طبقات أعلام الشيعة القرن السادس، ص 87.
2- - الخوانساري، روضات الجنات: ج 2، ص 374.
3- - السيد الأمين، أعيان الشيعة: 6- 249.
4- - العمري المجدي، ص 99.

بماله و جاهه، و نبغ أبو إبراهيم و تقدم و خلف أولادا سادة فضلاء، و لهم عقب منتشر بحلب. (1)

و قال الزبيدي في تاج العروس: بنو زهرة شيعة بحلب بل سادة نقباء، علماء، فقهاء، محدثون كثر الله أمثالهم و هو أكبر بيت من بيوت الحسين و هم:

أبو الحسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن أبي إبراهيم محمد الحراني و هو المنتقل إلى حلب و هو ابن أحمد الحجازي، بن محمد، بن الحسين، (و هو الذي وقع إلى حران) بن إسحاق، بن محمد (2) المؤتمن، ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام الحسيني الجعفري، و جمهور عقب إسحاق بن جعفر ينتهي إلى أبي إبراهيم المذكور». (3)

و لأجل التعرف على بعض الشخصيات الذين شادوا هذا البيت الرفيع نذكر شيئا من ترجمة أبيه و جده و نترك ترجمة الباقين من أجداده إلى آونة أخرى فإن الإشارة إلى حياتهم تحوجنا إلى القيام بتأليف مفرد.

1- أبوه: علي بن زهرة

قال في الرياض: و كان علي، والد السيد ابن زهرة هذا من أجلة العلماء بحلب، و يروي هو عن والده زهرة الحلبي المذكور، و يروي عنه ولده السيد ابن زهرة المذكور على ما رأيته بخط بعض الأفاضل نقله عن خط الشيخ سديد الدين يوسف والد العلامة- قدس الله سره-، و صرح بذلك محمد بن جعفر المشهدي في مزاره الكبير أيضا. و قال الكفعمي في أواخر فرج الكرب و فرج القلب: ان السيد العالم علي بن زهرة الحسيني طاب ثراه ألف في التغاير كتابا سماه آداب النفس، و مراده بالتغاير ما هو

ص: 15


1- - العمري المجدي، ص 99.
2- - كذا في المصدر و الصحيح «أبو محمد»، إذ لا واسطة بين إسحاق، و الإمام الصادق عليه السلام.
3- - الزبيدي، تاج العروس: ج 3، ص 248 (مادة زهرة).

مصطلح علماء البديع أعني به ما سماه بعضهم التلطيف. ثم قال: و اعلم ان هذا السيد و أباه زهرة و أولاده يحيى و حمزة و سائر سلسلته المعروفين، كلهم من أكابر العلماء ببلاد حلب. (1)

جده أبو المحاسن زهرة

جده أبو المحاسن(2) زهرة

قال في الرياض: كان من أكابر العلماء بحلب، و يروي عنه ولده علي المذكور، و هو يروي عن ابن قولويه على ما رأيته بخط بعض الأفاضل نقلا عن خط الشيخ سديد الدين يوسف والد العلامة- قدس سره- و به صرح الشيخ محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير أيضا، لكنه قال: انه يروي عن الصدوق.

و السيد زهرة الحلبي هذا هو الذي ينسب إليه سبطه حمزة المعروف بالسيد ابن زهرة و سائر أولاد زهرة و بنو زهرة معروفون.(3)

و لو كان يروي عن ابن قولويه المتوفى عام 369 ه- أو الصدوق المتوفى عام 381 ه-، فقد عاش (جد المؤلف) في العقد الثاني من القرن الرابع و أدرك سنين كثيرة من القرن الخامس.

و لعل في هذا الإلمام العابر، غنى و كفاية للقارئ في التعرف على حياة والد المؤلف و جده بوجه موجز.

ص: 16


1- - الأفندي التبريزي، رياض العلماء، ج 4، ص 97 و لاحظ روضات الجنات، ج 2، ص 374 و طبقات الأعلام القرن السادس، ص 181.
2- [1] اختلفت كلمة أصحاب المعاجم في كنيته، فصاحب الرياض على انه «أبو المحاسن» بينما يصر السيد الأمين على ان كنيته «أبو الحسن» و ان الأول كنية «زهرة» الثاني.
3- [2] الأفندي التبريزي، الرياض، ج 2، ص 356 و لاحظ أعيان الشيعة، ج 7، ص 69. أقول: نقل الجد عن الصدوق فضلا عن ابن قولويه بعيد جدا، لأن حفيده المترجم له المتوفى عام 585 ه ينقل عنه، فكيف يصح لشيخه أن ينقل عن الصدوق المتوفى عام 381 ه- أو عن ابن قولويه المتوفى عام 369 ه-، إذ لازم ذلك أن يكون الجد من المعمرين و لم يذكر في عدادهم!.

لقد ظل البيت، عامرا بالعلم و الفضل، و الفقه و الحديث، مشعا عبر القرون، حتى بعد مضي مؤلفنا الجليل الذي عاش بين 511- 585 و مع ما أصابته من نكبات و نوائب تدمى القلوب، و تهز المشاعر في أواخر القرن السادس- على ما عرفت- فما برح البيت ساعيا في تربية نوابغ العلم و إبطال الفقه و جهابذة الحديث حتى القرن السابع و الثامن و بعدهما و يكفيك ما نذكره في المقام من استجازة عدة من أعلام البيت و فقهائهم، علامة عصره و فقيه دهره الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي 648- 726، المشتهر بالعلامة على الإطلاق و هذا نص إجازته لبني زهرة نقتطف منه ما يلي قال: بعد البسملة و التحميد و المقدمة:

و بلغنا في هذا العصر، ورود الأمر الصادر من المولى الكبير، و السيد الجليل، الحسب النسيب، نسل العترة الطاهرة، و سلالة الأنجم الزاهرة، المخصوص بالنفس القدسية، و الرئاسة الإنسية، الجامع بين مكارم الأخلاق، و طيب الاعراق، أفضل أهل عصره على الإطلاق، علاء الملة و الحق و الدين، أبي الحسن علي،(1) بن أبي إبراهيم محمد، ابن أبي علي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة، بن أبي المواهب علي، بن أبي سالم محمد، بن أبي إبراهيم محمد النقيب، بن أبي علي أحمد، بن أبي جعفر محمد، بن أبي عبد الله الحسين، بن أبي إبراهيم إسحاق المؤتمن، ابن أبي عبد الله جعفر الصادق- صلوات الله و سلامه عليه- ابن أبي جعفر محمد الباقر- صلوات الله و سلامه عليه- ابن أبي الحسن علي بن زين العابدين- صلوات الله و سلامه عليه- ابن أبي عبد الله الحسين السبط الشهيد- صلوات الله و سلامه عليه- ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب-

ص: 17


1- [1]- هكذا في البحار المطبوع، الجزء 104- 61. فلو حذفنا الكنى يكون نسب المستجيز هكذا: على بن محمد بن الحسن، بن زهرة و على هذا، تكون الواسطة بينه و بين زهرة اثنين و لا يخفى بعده لأنه يصبح المستجيز ترب ولد المؤلف الذي كان يعيش في أوائل القرن السابع، و من البعيد أن يروي عن العلامة عام 723. و في البحار الجزء 26- 21 المطبوع عام 1315 «علاء الدين أبو الحسن، علي بن إبراهيم، بن محمد، بن أبي الحسن، بن أبي المحاسن زهرة فيكون نسبه بعد حذف الكنى هكذا: علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن زهرة، فتكون الواسطة بينهما ثلاثة، و لا يخلو عن بعد أيضا. أضف إليه ما فيه من الغلط فان محمدا والد إبراهيم هو الحسن لا ابن الحسن.

صلوات الله و سلامه عليه.

نسب تضاءلت المناسب دونه فضياؤه لصباحة في فجره

أيده الله تبارك و تعالى بالعنايات الإلهية، و أمده بالسعادات الربانية، و أفاض على المستفيدين من جزيل كماله كما أسبغ عليهم من فواضل نواله.

يتضمن سبب اجازة صادرة من العبد له و لأقاربه السادات الأماجد، المؤيدين من الله تعالى في المصادر و الموارد، و أجوبة عن مسائل دقيقة لطيفة، و مباحث عميقة شريفة، فامتثلت أمره رفع الله قدره، و بادرت إلى طاعته و إن استلزمت سوء الأدب، المغتفر في جنب الاحتراز عن مخالفته، و إلا فهو معدن الفضل و التحصيل، و ذلك غنى عن حجة و دليل.

و قد أجزت له أدام الله أيامه.

و لولده المعظم و السيد المكرم، شرف الملة و الدين أبي عبد الله الحسين.

و لأخيه الكبير الأمجد و السيد المعظم الممجد بدر الدين أبي عبد الله محمد.

و لولديه الكبيرين المعظمين أبي طالب أحمد أمين الدين، و أبي محمد عز الدين حسن عضدهما الله تعالى بدوام أيام مولانا.

أن يروي هو وهم، عني جميع ما صنفته في العلوم العقلية و النقلية أو أنشأته أو قرأته أو أجيز لي روايته أو سمعته من كتب أصحابنا السابقين، رضوان الله عليهم أجمعين، و جميع ما أجازه لي المشايخ الذين عاصرتهم و استفدت من أنفاسهم. إلى آخرها. (1)

و الإجازة مفصلة جديرة بالمطالعة، تعرب عن تضلع العلامة في غالب الفنون و العلوم، و اتصاله المستمر بالمشايخ و استجازته عن أساتذته العلوم و الحديث و الفقه و قد أرخها ب 25 شعبان 723.).

ص: 18


1- - المجلسي: البحار: 104- 61- 62. (ط بيروت).

و هذا الثناء العاطر الذي سمعناه عن العلامة على أبناء زهرة في القرن الثامن يوقفنا على ان ذلك البيت العلوي لم يزل باقيا على ذروة العلم و كان كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها إلى حد نرى ان العلامة الحلي، يتواضع للمستجيز، و يعد سؤاله، أمرا صادرا منه، فإذا كان هذا حال البيت في الأثمار و الإضاءة في القرن الثامن فكيف حاله في عصر المؤلف و بعده و لذلك نشير إلى شخصيات متعاصرة للمؤلف كلهم من نتاج بيته الرفيع.

أقطاب الطائفة في عصر المؤلف

1- الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني و هو أخو الشريف أبي المكارم مؤلفنا الجليل. قال المقريزي في خططه:

أنشد الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني و قد اجتاز بالمعشوق يريد الحج:

قد رأيت المعشوق و هو من المهجر بحال تنبو النواظر عنه

أثر الدهر فيه آثار سوء قد أدالت يد الحوادث منه

و «المعشوق» كما في معجم البلدان: قصر عظيم بالجانب الغربي من دجلة قبالة سامراء في وسط البرية عمره المعتمد. (1)

2- عبد الله بن علي بن زهرة إخوة الآخر ولد عام 531 و توفي عام 580.

و قد قرأ النهاية على أخيه أبي المكارم، و له من التأليف، التجريد لفقه الغنية عن الحجج و الأدلة، و لعله لخص كتاب أخيه «الغنية» الذي يزفه الطبع إلى القراء، و له ترجمة في غير واحد من الكتب. (2)

ص: 19


1- - المقريزي، الخطط: ج 3، ص 259، لاحظ أعيان الشيعة: ج 7، ص 70.
2- - الطهراني، طبقات أعلام الشيعة القرن السادس، ص 165.

3- السيد محي الدين أبو حامد محمد بن عبد الله بن علي بن زهرة و هو ابن أخي المؤلف، و يروي عنه يحيى بن سعيد مؤلف الجامع للشرائع المتوفى عام 690 ه- و علي بن موسى بن طاوس المتوفى سنة 664 و المحقق الحلي المتوفى سنة 676 و قد قرأ مقنعة المفيد على عمه أبي المكارم سنة 584 و له من العمر أقل من العشرين فيكون من مواليد حوالي عام 565 ه- و له ترجمة في طبقات أعلام الشيعة. (1)

4- أحمد بن محمد بن جعفر الشريف النقيب أبو طالب أمين الدين الحسيني، يروى عنه السيد محي الدين أبو حامد، محمد بن عبد الله بن زهرة في «الأربعين» و ابن أخي السيد أبي المكارم كما مر، و قد صرح بان الشريف خال والده عبد الله بن علي بن زهرة، و الظاهر انه من السادة العلماء النقباء بحلب من بني زهرة. (2)

هؤلاء بعض الشخصيات البارزة الذين تخرجوا من هذا البيت فهم بين متقدم على المؤلف أو معاصر له أو متأخر عنه، و هناك أجلاء فقهاء نبغوا من هذا البيت عبر العصور فالقيام بترجمتهم و لو بصورة العامة عابرة يحوجنا إلى تأليف مفرد.

حياة المؤلف و أشواطه العلمية

أظن انه قد حان حين القيام بترجمة مؤلفنا الكبير أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة ترجمة تناسب التقديم.

و ننقل قبل كل شي ء كلمات الأعلام في حقه و أول من ترجمه هو ابن شهرآشوب (488- 588) قال:

1- حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي، له كتاب قبس الأنوار في نصرة العترة الأخيار، و غنية النزوع حسن. (3)

ص: 20


1- - لاحظ الجزء المختص بالقرن السابع باسم الأنوار الساطعة في المائة السابعة، ص 160.
2- - السيد الأمين: أعيان الشيعة: 3- 91.
3- - ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص 46، برقم 303.

2- و قال العلامة الحلي: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني بضم الزاي الحلبي، قال السيد السعيد صفي الدين معد رحمه الله: ان له كتاب قبس الأنوار في نصرة العترة الأطهار و كتاب غنية النزوع. (1)

3- قال الزبيدي: فمن ولد علي، الشريف أبو المكارم حمزة بن علي المعروف بالشريف الطاهر، قال ابن العديم في تاريخ حلب: كان فقيها أصوليا نظارا على مذهب الإمامية، و قال ابن أسعد الجواني: الشريف الطاهر عز الدين أبو المكارم حمزة ولد في رمضان سنة 511 و توفي بحلب سنة 585. (2)

4- و قال في إعلام النبلاء: الشريف حمزة بن زهرة الإسحاقي الحسني (كذا) أبو المكارم السيد الجليل، الكبير القدر، العظيم الشأن، العالم، الكامل، الفاضل، المصنف، المجتهد، عين أعيان السادات و النقباء بحلب، صاحب التصانيف الحسنة و الأقوال المشهورة، له عدة كتب، و قبره بسفح جبل جوشن، عند مشهد الحسين، له تربة معروفة مكتوب عليها اسمه و نسبه إلى الإمام الصادق عليه السلام و تاريخ موته أيضا. (3)

5- و قال نظام الدين القرشي في كتاب نظام الأقوال: حمزة بن علي بن زهرة الحسيني، أبو المكارم المعروف بابن زهرة، عالم فاضل، متكلم من أصحابنا، له كتب:

منها غنية النزوع في الأصول و الفروع، و كتاب قبس الأنوار في نصرة العترة الأطهار، ولد في شهر رمضان في سنة إحدى عشرة و خمس مائة، و توفي سنة خمس و ثمانين و خمس مائة، و روى عنه ابن أخيه محمد بن عبد الله بن علي بن زهرة و محمد بن إدريس. (4)

6- و قال الشيخ الحر العاملي: هو فاضل عالم ثقة جليل القدر له مصنفات كثيرة، ثم ذكر تأليفه التي ستوافيك. (5)3.

ص: 21


1- - العلامة الحلي، إيضاح الاشتباه: 168- 169.
2- - الزبيدي، تاج العروس: ج 3، ص 249 (مادة زهرة).
3- - السيد الأمين، أعيان الشيعة: ج 6، ص 249 نقله عن أعلام النبلاء.
4- - الأفندي التبريزي، الرياض: ج 2، ص 206 نقله عن نظام الدين القرشي.
5- - الحر العاملي، أمل الآمل: 2- 105 رقم 293.

7- و قال القاضي نور الله ما هذا خلاصته: ان السيد أبا المكارم حمزة بن زهرة كان من مجتهدي علماء الإمامية، و صاحب التصانيف الكثيرة و كان رئيسا كبيرا بحلب- ثم قال:- و كان من أفاضل المتأخرين، المناظرين و من هذه السلسلة السيد علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي إبراهيم محمد بن أبي علي الحسن بن أبي المحاسن زهرة بن أبي علي الحسن- ثم ساق نسب علاء الدين إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. (1)

8- و قال العلامة المجلسي: و كتاب «غنية النزوع في علم الأصول و الفروع» للسيد العالم الكامل أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني. (2)

و قال في الفصل الثاني من فهرس البحار: و كتاب الغنية مؤلفه غنى عن الاطراء و هو من الفقهاء الأجلاء، و كتبه معتبرة مشهورة لا سيما هذا الكتاب. (3)

9- و قال السيد الخوانساري: السيد أبو المكارم من كبار فقهائنا الأصفياء النبلاء، و كلما أطلق السيد ابن زهرة ينصرف الإطلاق إليه و له كتاب «غنية النزوع إلى علم الأصول و الفروع» تعرض بتبيين مسائل الأصولين ثم الفقه في نحو من أربعة آلاف بيت، و هو غير «غنية» أخيه، و النزوع بضم النون بمعنى الاشتياق. (4)

10- و قال المحدث النوري: السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي الفقيه الجليل المعروف صاحب الغنية و غيرها المتولد في الشهر المبارك سنة إحدى عشر و خمس مائة، المتوفى سنة خمس و ثمانين و خمس مائة، هو و أبوه و جده و أخوه و ابن أخيه من أكابر فقهائنا، و بيتهم بيت جليل بحلب. (5)

11- و قال المحدث القمي: أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي العالم الفاضل الجليل الفقيه الوجيه صاحب المصنفات الكثيرة في الإمامة و الفقه و5.

ص: 22


1- - القاضي نور الله المرعشي، مجالس المؤمنين: 1- 508.
2- - و
3- - المجلسي: بحار الأنوار: ج 1- 21 و 40.
4- - السيد الخوانساري، روضات الجنات: ج 2، ص 374- 375 رقم الترجمة 225.
5- - النوري، المستدرك، الخاتمة، 3- الفائدة الثالثة، ص 475.

النحو و غير ذلك. ثم ذكر تأليفه. (1)

12- و قال شيخنا المدرس في موسوعته: ابن زهرة حمزة بن علي بن أبي المحاسن زهرة، عالم فاضل جليل القدر من أكابر علماء الإمامية و متكلميهم و فقهائهم، و يروى بواسطة واحدة عن أبي علي ولد الشيخ الطوسي المتوفى سنة 515. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة التي تعرب عن مكانة المؤلف العليا، و لعل في ما ذكرناه من الكلمات غنى و كفاية.

آثاره و تأليفه:

ان أحسن ما يستدل به على مكانة الإنسان و سعة باله و كثرة اطلاعه و رصانة تفكيره، هو الآثار التي يتركها الإنسان بعد رحيله فإنها مرآة لما كان ينطوي عليه من المواهب و الطاقات و قد ترك مؤلفنا الجليل آثارا قيمة، خالدة على جبين الدهر مشرقة عبر القرون و الأجيال لا تندرس بمر الحقب و الأيام، و ها هو أثره القيم الذي يزفه الطبع إلى القراء لم يزل مصدرا للعلم و مرجعا للفقهاء منذ تأليفه إلى يومنا هذا و قد كانت محور الدراسة في عصره و بعد رحيله حتى ان المحقق الطوسي قرأه على معين الدين المازني المصري، و كتب أستاذه إجازة له في خاتمة الكتاب و سيوافيك نصها.

و ها نذكر صورة موجزة من تصانيفه:

1- الاعتراض على الكلام الوارد من حمص(3).

2- الجواب عما ذكره مطران.(4) نصيبين.

ص: 23


1- - القمي، الكنى و الألقاب، ج 1، ص 294.
2- - المدرس التبريزي، ريحانة الأدب، ج 7، ص 550.
3- [1]- حمص بالكسر ثم السكون بلد مشهور قديم و هي بين دمشق و حلب، بناه رجل يقال له حمص بن المهر، معجم البلدان، ج 2، ص 302. و في الذريعة 5- 185 جواب الكتاب الوارد من حمص.
4- [2]- مطران: بفتح الميم و سكون الطاء رئيس الكهنة، و هو فوق الأسقف و دون البطريرك و الكلمة أصلها يونانية. المنجد مادة «مطر». و في الذريعة 5- 193 جواب المسألة الواردة من نصيبين.

3- الجواب عن الكلام الوارد من ناحية الجبل.

4- جواب الكتاب الوارد من حمص، رواها عنه ابن أخيه السيد محيي الدين محمد و غيره و يحتمل اتحاده مع الأول.

5- جواب المسائل الواردة من بغداد. (1)

6- قبس الأنوار في نصرة العترة الأخيار. و قد رد عليه بعض المخالفين من معاصري العلامة الحلي أسماه «المقتبس» ثم رد عليه الشيخ علي بن هلال بن فضل (ت 874) و أسماه الأنوار الجالبة لظلام الغلس من تلبيس صاحب المقتبس (الذريعة 17- 31).

7- مسائل في الرد على المنجمين تبلغ 21 مسألة، و للشريف المرتضى أيضا كتاب بهذا الاسم (الذريعة (2- 387).

8- مسألة في ان النظر الكامل على انفراده كاف في تحصيل المعارف العقلية.

9- مسألة في نفي الرؤية و اعتقاد الإمامية و مخالفيهم ممن ينسب إلى السنة و الجماعة.

و عبر عنها في الروضات (2- 375) ب «الشافية»، تلك المسألة التي تفترق فيها العدلية عن الأشاعرة فالطائفة الأولى ينزهون الرب عنها في الدنيا و الآخرة و الأشاعرة ينفونها في الدنيا و يثبتونها في الآخرة.

10- مسألة في كونه تعالى جبارا حيا.

11- المسألة الشافية في رد من زعم ان النظر على انفراده غير كاف في تحصيل المعرفة به تعالى. (2)

12- مسألة في ان نية الوضوء عند المضمضمة و الاستنشاق.

13- مسألة في تحريم الفقاع.2.

ص: 24


1- - و في الذريعة (5- 216 جواب المسائل البغدادية).
2- - قد كتب غير واحد من علمائنا رسالة في هذا الموضوع لاحظ الذريعة ج 5- 192 برقم 882.

14- مسألة في الرد على من ذهب إلى ان الحسن و القبح لا يعلمان إلا سمعا.

و هذه المسألة تعبر عنها، بأن الحسن و القبح عقليان- كما عليه العدلية- أو شرعيان كما عليه الأشاعرة.

15- مسألة في الرد على من قال في الدين بالقياس.

16- مسألة في إباحة نكاح المتعة.

17- نقض شبه الفلاسفة.

18- النكت في النحو.

19- غنية النزوع إلى علمي الأصول و الفروع.(1)

و ذكر في الذريعة ما يلي:

20- جوابات مسائل البلدان للسيد أبي المكارم عز الدين حمزة بن زهرة (الذريعة 5- 216).

21 مسائل البلدان أو عز إليه في ج 5- 216 قائلا بأنه يأتي في الميم. و لم يذكرها في محلها و يحتمل اتحادهما.

و الظاهر ان الزمان قد لعب بتصانيفه، إذ لم نجد في المعاجم شيئا يدل على وجود نسخة من كتبه في المكتبات و المتاحف، غير كتاب «الغنية» الذي نحن بصدد التقديم له، فما ظنك بكتب عالم أو طائفة أ غير عليها بخيل و ركاب، و قتلوا في عقر دارهم، أو أجبروا على ترك ديارهم، و النزول في الجبال و القرى البعيدة.

مشايخه و أساتذته

ان وليد بيت العلم و الفضل كابن زهرة- يتخذ- بطبع الحال- مشايخ بيته،

ص: 25


1- [1]- الحر العاملي: أمل الآمل: 2- 105 رقم 293، ذكر فهرس تصانيفه برمته، بالنحو الذي ذكرنا، و ذكرنا موارد اختلافه مع الذريعة في الهامش المتن. و العجب ان بعض ما ذكر في أمل الآمل، لم نعثر عليه في الذريعة و لعله ذكره بعنوان آخر.

سنادا و عمادا لرقيه. و أساتذة لعلومه و لذلك قرء سيدنا المترجم على لفيف منهم و إليك أسماء من وقفنا عليهم من أساتذته.

1- والده: علي بن زهرة الحلبي. (1)

2- جده: السيد أبو المحاسن زهرة الحلبي. (2)

3- أبو منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي تلميذ أبي علي ولد شيخ الطائفة. (3)

4- أبو عبد الله الحسين بن طاهر بن الحسين، و هو يروي عن الشيخ أبي الفتوح. (4)

تلامذته و من يروي عنه

يروي عنه لفيف من الأكابر.

1- الشيخ معين الدين المصري. (5)

2- الشيخ شاذان بن جبرئيل القمي الذي كان حيا سنه 584. (6)

3- الشيخ محمد بن جعفر المشهدي صاحب «المزار» المشهور.

4- ابن أخيه السيد محيي الدين محمد. (7)

5- محمد بن إدريس الحلي مؤلف السرائر (ت 598) و لو صح فهو من مشايخ روايته لا انه تتلمذ عليه كما يظهر من تعبيره عنه في السرائر .

ص: 26


1- - السيد الخوانساري: الروضات: 2- 374.
2- - السيد الخوانساري: الروضات: 2- 374.
3- - السيد الأمين: أعيان الشيعة: 6- 250 و هو يصر بأن كنيته «أبو الحسن».
4- - الأفندي التبريزي، الرياض: 2- 205 و في المصدر المعري مكان المصري و الصحيح ما أثبتناه.
5- - السيد الخوانساري: الروضات: 2- 375 و أمل الآمل: 2- 106.
6- - السيد الخوانساري: الروضات: 2- 375 و أمل الآمل: 2- 106.
7- - طبقات أعلام الشيعة، قسم القرن السابع: 160.

و قال السيد حسين البروجردي في نخبة المقال:

و ابن علي بن زهرة الأجل ذو غنية عنه ابن إدريس نقل

و لعله في غضون الكتب و المعاجم يوجد اسم أو أسماء من يروي عن المؤلف أو يروي عنه و لم نقف عليه و يقف عليه من سبرها.

[غنية النزوع إلى علمي الأصول و الفروع]

هذا هو الكتاب الذي نقدم له، و يزفه الطبع إلى عشاق الأصولين و الفروع و الكتاب مشتمل على العلوم الثلاثة:

أ الفقه الأكبر: و هذا القسم مشتمل على مهمات المسائل الكلامية من التوحيد إلى المعاد.

ب. أصول الفقه: و هو حاو لبيان القواعد الأصولية التي يستنبط منها الأحكام الشرعية، ألفه على غرار أصول القدماء، و من فصوله النافعة، بحثه عن القياس، و آثاره السلبية في الفقه. و قد خلت كتب المتأخرين من أصحابنا من طرح هذه المسألة و دراسة أدلة المثبتين و النافين، و ما هذا إلا لأن عدم حجيته هو الأصل المسلم في فقه أهل البيت.

ج. الفروع و الأحكام الشرعية: و هو دورة فقهية كاملة، استدلالية، يستدل بالكتاب و السنة النبوية و أحاديث العترة الطاهرة و الإجماع، و هذا القسم من محاسن الكتب و جلائلها و إليك مواصفاته:

1- يستمد من الكتاب العزيز في مسائل كثيرة على وجه ليس له مثيل فيما بأيدينا من كتب القدماء فقد استدل، بقرابة مائتين و خمسين آية، في موارد مختلفة فهو بحق جدير بالتقدير.

2- يعتمد على أحاديث نبوية وافرة إما استدلالا على المطلوب، أو احتجاجا على المخالف و هو الغالب على أسلوب الكتاب فهي عنده أشبه بأصول موضوعية تلقاها

ص: 27

المخالف بالقبول و لأجل هذا الامتياز صار الكتاب فقها مقارنا، سد به الفراغ الموجود في المكتبة الفقهية في عصره.

3- يعتمد على الإجماع في مسائل كثيرة تبلغ قرابة ستمائة و خمسين مسألة و مراده من الإجماع ليس الإجماع المصطلح، و هو اتفاق الأمة أو الإمامية على الحكم بشرائطه الخاصة، بل المصطلح الخاص له في هذا الكتاب و قبله للشيخ الطوسي في كتاب الخلاف، و قد صرح بهذا الاصطلاح في القسم الثاني من الكتاب في مبحث الإجماع و حاصله «ان المراد منه في مقام الاحتجاج هو قول المعصوم. لأن ملاك حجية الإجماع عند الإمامية هو اشتماله على قوله، و ليس الإجماع إلا طريقا إلى كشفه، فإذا اكتشفناه عن غير ذاك الطريق، يطلق عليه الإجماع، توسعا و مجازا».

و لا شك انه استعمال على خلاف الاصطلاح الدارج، لكنه التجأ إليه لأجل المجاراة مع المخالف في مقام الاحتجاج على المدعى، و سيوافيك تعبيره في مبحث الإجماع في القسم الثاني من الكتاب.

و بذلك يعلم، أن ما يساق إليه من الاعتراض من عصر صاحب الجواهر و الشيخ الأنصاري إلى يومنا، من انه كيف يدعي الإجماع في مسائل غير معنونة، أو مختلفة فهو، ناشى ء عن عدم الرجوع إلى مصطلحه في الكتاب.

و قد كان سيد مشايخنا المحقق البروجردي- قدس سره- يبرر بذلك الإجماعات الواردة في كتاب الخلاف لشيخ الطائفة، في درسه الشريف الذي كنا نحضره عام 1369 عند البحث عن حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد.

4- ان المؤلف يسير على ضوء كتاب الانتصار و الناصريات للسيد المرتضى، و كتاب الخلاف و المبسوط للشيخ الطوسي، و قد استفاد المحقق بالرجوع إليها في تحقيق نص الكتاب و تصحيحه.

5- أن المؤلف كان فقيها متضلعا عارفا بفقه أهل السنة كعرفانه بفقه الإمامية، و لم يكن اطلاعه على الأول أقل من الثاني و بذلك أضفى على كتابه صبغة السعة و الشمول.

ص: 28

عمل المحقق و تقييم جهوده

قد بذل المحقق جهوده في سبيل الأمور التالية:

1- تقويم النص و تصحيحه و ذلك بالدقة و المقابلة مع النسخ الثلاث و المراجعة إلى الكتب التي رجع إليها المؤلف فصارت النسخة محققة مصححة خالية عن التحريف و السقط.

2- إيضاح المفردات اللغوية المشكلة في المتن و الأحاديث بالرجوع إلى معاجم اللغة.

3- استخراج مصادر الأحاديث خصوصا ما روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في صحاح القوم و مسانيدهم.

و ربما نقل المؤلف حديثا لم يعثر عليه في الصحاح و المسانيد بعد الفحص الأكيد حتى بعد الاستعانة بالجهاز الجديد (الكومبيوتر) فبذل سعيه بالفحص في سائر الكتب حتى وقف عليه.

4- تنظيم فهارس مختلفة تسهل للقارئ العثور على ضالته، فقد وضع فهارس للآيات و الأحاديث و الأعلام و الكتب و الأماكن و الجماعات و القبائل و الفرق و المذاهب.

5- ترجمة الأعلام الواردة أسمائهم في الكتاب.

و أما كيفية التصحيح فقد اعتمد على نسخ ثلاث:

الف. نسخة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي و قد نسخت عام 614 ه- قريبا من عصر المؤلف حيث إنه توفي عام 585 ه و الكتاب يقع في 16 سنتيمتر طولا و 11 سنتيمتر عرضا المسجل برقم 86321 ضمن مجموعة كبيرة، و قد اتخذه أصلا في العمل و في آخر النسخة اجازة للشيخ العلامة سالم بن بدران بن علي المازني(1) المصري

ص: 29


1- [1]- مازن قوم من بني بكر بن وائل، و هناك مازن آخر قوم من بني غيم و أظن أن المصري مصحف «البصري» و ان أطبقت المعاجم و الكتب الفقهية عند نقل آراءه في الفرائض على الأول، بشهادة كونه ما زنيا.

كتبه بخطه للمحقق نصير الدين طوسي حيث قرأ قسم الفقه و أصوله من الكتاب على المجيز، و إليك نص الإجازة:

بسم الله الرحمن الرحيم قرأ علي- جميع الجزء الثالث من كتاب غنية النزوع إلى علم الأصول و الفروع، من أوله إلى آخره قراءة تفهم و تبين و تأمل مستبحث عن غوامضه، عالم بفنون جوامعه، و أكثر الجزء الثاني من هذا الكتاب و هو الكلام في أصول الفقه- الإمام الأجل، العالم، الأفضل، الأكمل البارع، المتقن المحقق نصير الملة و الدين وجيه الإسلام و المسلمين، سند الأئمة و الأفاضل، مفخر العلماء و الأكابر حسيب و أفضل خراسان محمد بن محمد الحسن الطوسي زاد الله في علائه و أحسن الدفاع عن حوبائه.(1) و أذنت له في رواية جميعه عني عن السيد الأجل، العالم الأوحد، الطاهر الزاهد، البارع، عز الدين أبي المكارم، حمزة بن علي بن زهرة الحسيني- قدس الله روحه و نور ضريحه- و جميع تصانيفه و جميع تصانيفي و مسموعاتي و قراءتي و إجازاتي عن مشايخي ما أذكر أسانيده، و ما لم أذكر إذا ثبت ذلك عنده، و ما لعلي أن اصنفه، و هذا خط أضعف خلق الله و أفقرهم إلى عفوه، سالم بن بدران بن علي المازني المصري.(2)

كتبه ثامن عشرة جمادى الآخرة سنة تسع عشر(3) و ستمائة حامدا لله و مصليا

ص: 30


1- [1]- النفس و القلب، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام يخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: و أفديك حوبائي و ما قدر مهجتي لمن انتمي عنه إلى الفرع و الأصل. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2- 187، ط دار الاضواء.
2- [2]- و هو الشيخ الجليل المعروف ب- «معين الدين المصري» صاحب التحرير و غيره و ينقل فتاواه في الكتب الفقهية خصوصا في مبحث الفرائض و له رسالة فيها، اقرء ترجمته في الرياض: 2- 408- 411 و أعيان الشيعة: 7- 172- 173.
3- [3]- و الخط قابل لأن يقرء «عشرين» أيضا و لعله الأنسب مع توصيف المستجيز بالإمام الأجل لأن المحقق الطوسي وليد عام 597 فيكون عمره على الأول اثنين و عشرين و على الثاني ثلاثة و ثلاثين و قد ذكر تاريخ الإجازة في أعيان الشيعة عام: 629 فلاحظ.

على خير خلقه محمد و آله الطاهرين.

2- النسخة المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهية عام 1276 و رمز إليه ب ج.

3- النسخة المطبوعة ضمن «سلسلة الينابيع الفقهية» الموزعة على أجزائها الكثيرة و رمز إليه ب س.

و النسختان من حيث الإتقان و الصحة، دون النسخة الأولى بكثير خصوصا ما طبع في ضمن الجوامع الفقهية إذ فيها سقطات كثيرة.

و بما أن المؤلف سار في كتابه هذا على ضوء كتاب الانتصار و الناصريات للسيد المرتضى، و الخلاف و المبسوط للشيخ الطوسي، فقد راجع المحقق إليها، في حل معضلات الكتاب فيصح أن يعتبر الجميع نسخة رابعة.

فهاك نسخة مصححة محققة خالية عن التحريف و الغلط و السقط، مزدانة بالتعاليق و الفهارس المذكورة و قد قدم تصحيح قسم الفقه و نشره على تصحيح الأصولين و نشرهما، لكثرة الحاجة إليه و هو بعد جاد في طريق العمل غير متوان و سوف ينشر قسم الأصولين بإذنه سبحانه تبارك و تعالى.

و ها نحن نتقدم بالشكر و الثناء العاطر إلى المحقق العلامة الشيخ إبراهيم البهادري المراغي- دامت إفاضاته- حيث أسدى إلى المكتبة الفقهية خدمة كبيرة و نرجو منه سبحانه أن يوفقه لإخراج ما لعلمائنا من التراث الثمين.

و يؤكد المحقق بان جميع الحقوق مختصة به، لا يطبع الكتاب و لا يصور إلا بإذنه.

قم- مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام حرر في 11 ذي القعدة الحرام، سنة 1416 يوم ميلاد الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه السلام جعفر السبحاني

ص: 31

ص: 32

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الطهارة

الكلام في التكليف السمعي

اعلم أن الأركان من عبادات الشرع خمسة: الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد.

الصلاة الشرعية يحتاج فيها إلى العلم بخمسة أشياء:

أقسامها و شروطها و كيفية فعلها و ما يقطعها و ما يتعلق بذلك من الأحكام.

و نحن نقدم الكلام في الشروط، و نتبعه بالكلام في باقي الفصول إن شاء الله تعالى فنقول:

شرائط الصلاة على ضربين: أحدهما يشترك فيه الوجوب و صحة الأداء، و الثاني يختص صحة الأداء.

فالأول على ضربين: ضرب يشترك فيه الرجال و النساء، و هو ثلاثة أشياء:

البلوغ و كمال العقل و دخول الوقت، و ضرب يختص النساء و هو: انقطاع دم الحيض و النفاس.

ص: 33

و ما يختص صحة الأداء ثمانية أشياء: الإسلام و الطهارة و ستر العورة مع الإمكان و أن يكون مكان الصلاة و موضع السجود- الجبهة(1)- على صفة مخصوصة، و النية و استقبال القبلة و القيام مع الإمكان، و ينضاف إلى ذلك شروط أخر تختص الجمعة و العيدين، نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

الفصل الأول: أما الطهارة فيحتاج فيها إلى العلم بخمسة أشياء:

الفصل الأول (2) أما الطهارة فيحتاج فيها إلى العلم بخمسة أشياء:

أقسامها و ما يوجبها و ما به يفعل، و كيفية فعلها و ما يتعلق بذلك من الأحكام.

و الطهارة على ضربين: طهارة عن حدث و طهارة عن نجس. فالطهارة عن الحدث على ضربين: وضوء و غسل، و قد أقام الشارع مقامهما في استباحة ما يستباح بهما- بشرط عدم التمكن منهما- التيمم و إن لم يرفع الحدث.

و الأحداث التي توجب كل واحد منها (3)- إذا انفرد من حدث الغسل- الوضوء أو ما يقوم مقامه من التيمم على من ثبت كونه مكلفا بفعل الصلاة أو ما جرى مجراها مما لا يستباح إلا بالطهارة، خمسة أشياء: البول و الغائط و الريح و دم الاستحاضة المخصوصة و ما يتفقد (4) معه التحصيل من نوم أو مرض.

و الأحداث التي توجب كل واحد منها، الغسل أو ما يقوم مقامه من التيمم، أيضا خمسة أشياء: الجنابة و دم الحيض و دم الاستحاضة المخصوصة و دم النفاس و مس بشرة الميت من الناس بعد برده بالموت و قبل تطهيره بالغسل.

ص: 34


1- (1)- في «ج»: بالجبهة.
2- - تعريف الفصول و ترقيمها فيما إذا تجاوزت فصلا واحدا منا.
3- - في «س»: منهما.
4- - كذا في النسخ التي بأيدينا و الأصح «يفقد»

و لا يوجب هذه الطهارة شي ء سوى ما ذكرناه، سواء كان خارجا من أحد السبيلين، كالمذي و الوذي [1] و الحصاة و الدود الخاليين من نجاسة، أو مما عداهما من البدن، كالقي ء و دم الفصد و الرعاف، أو لم يكن خارجا من البدن، كلمس المرأة، أو الفرج، أو القهقهة في الصلاة، أو الأكل من لحم الجزور، أو ما مسته النار، بدليل إجماع الإمامية، و فيه الحجة على ما بيناه في ما مضى من الأصول في هذا الكتاب، و لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها بما يوجب الطهارة بغير ما ذكرناه يحتاج إلى دليل، و ليس في الشرع ما يدل على ذلك، لأن اعتماد المخالف على أخبار آحاد أو قياس، و لم يرد التعبد بالعمل بهما في الشريعة على ما بيناه فيما مضى من أصول الفقه في هذا الكتاب.

و يجب على المكلف أن لا يستقبل القبلة و لا يستدبرها في حال بول و لا غائط مع الإمكان، و لا فرق في ذلك بين الصحاري و البنيان، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة و لا يستدبرها ببول و لا غائط» (1)، و لم يفصل.

و يستحب أن لا يستقبل الشمس و لا القمر، و لا يحدث في الماء الجاري و لا الكثير الراكد، فأما القليل و مياه الآبار فلا يجوز أن يحدث فيها. و يستحب أن يتقي بالبول الأرض الصلبة و جحرة الحيوان و استقبال الريح.ر.

ص: 35


1- - سنن البيهقي: 1- 91، باب النهي عن استقبال القبلة. و التاج الجامع للأصول: 1- 92 باختلاف يسير.

و يستحب أن لا يحدث في كل موضع يتأذى بحصول النجاسة فيه، كشطوط الأنهار، و مساقط الثمار، و أفنية الدور، و جواد [1] الطرق.

و يستحب تقديم الرجل اليسرى عند دخول الموضع الذي يتخلى فيه، و اليمنى عند الخروج، و الدعاء عندهما و عند الاستنجاء و عند الفراغ منه. كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و يجب الاستنجاء من الأحداث المقدم ذكرها إلا الريح و مس الميت و ما يفقد معه التحصيل، أما البول فيجب الاستبراء منه أولا بنتر [2] القضيب و المسح من مخرج النجو إلى رأسه ثلاث مرات، ليخرج ما لعله باق في المجرى منه، و لا يجزئ في إزالته إلا الماء و حده مع وجوده، و كذلك باقي هذه الأحداث، أعني التي يجب منها الاستنجاء إلا الغائط، فإنه يجزئ فيه الأحجار مع وجود الماء، أو ما يقوم مقامها من الجامد الطاهر المزيل للعين، سوى المطعوم و العظم و الروث.

و من السنة أن تكون ثلاثة إلا أن الماء أفضل، و الجمع بينهما أفضل من الاقتصار على الماء وحده، هذا ما لم يتعد النجو مخرجه، فإن تعداه لم يجز في إزالته إلا الماء. و يدل على جميع ذلك الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط، فإن من استنجى على الوجه الذي ذكرناه، و صلى برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك إذا لم يستنج، أو استنجى بخلاف ما ذكرناه.

و أما النوم فبمجرده (1) حدث، من غير اعتبار بأحوال النائم بدليل الإجماع المشار إليه، و قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.) الآية (2)، و المراد: إذا قمتم من النوم، على ما قاله المفسرون، لأنها خرجت على سبب6.

ص: 36


1- - في «ج»: فإنه بمجرده.
2- - المائدة: 6.

يقتضي ذلك، و هذا يوجب الوضوء من النوم بالإطلاق، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ [1]، و لم يفصل.

و أما الجنابة فتكون بشيئين: أحدهما خروج المني في النوم و اليقظة بشهوة و غير شهوة و على كل حال، و الثاني بالجماع في الفرج، و حده أن تغيب الحشفة فيه، و إن لم يكن هناك إنزال، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط.

و يحرم على الجنب دخول المساجد إلا عابر سبيل، و وضع شي ء فيها، سوى المسجد الحرام و مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنه لا يجوز له دخولهما على حال، و إن احتلم في أحدهما تيمم من موضعه و خرج، و يحرم عليه قراءة العزائم الأربع: سجدة لقمان، و حم، و النجم، و اقرأ باسم ربك، و ما عداها داخل تحت قوله تعالى:

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (1) و يحرم عليه مس كتابة المصحف، أو اسم من أسماء الله تعالى، أو أسماء الأنبياء و الأئمة عليهم السلام. و يكره له الأكل و الشرب إلا بعد المضمضة و الاستنشاق و النوم إلا بعد الوضوء و الخضاب، كل ذلك بدليل الإجماع0.

ص: 37


1- - المزمل: 20.

المشار إليه.

و أما دم الحيض فهو الحادث في الزمان المعهود له أو المشروع في زمان الالتباس على أي صفة كان، و كذا دم الاستحاضة، إلا أن الغالب على دم الحيض الغلظ و الحرارة و التدفق و الحمرة المائلة إلى الاسوداد، و على دم الاستحاضة الرقة و البرودة و الاصفرار.

و أقل الحيض ثلاثة أيام و أكثره عشرة، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه لا خلاف في أن من الثلاثة إلى العشرة من الحيض، و ليس في الشرع ما يدل على أن ما نقص من الثلاثة و زاد على العشرة منه. و أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام لمثل ما قلناه في المسألة الأولى، و لا حد لأكثره بلا خلاف.

و إذا ثبت أن أقل الطهر و أكثر الحيض ما ذكرناه، كان ذلك أصلا تعمل عليه المبتدئة من النساء و من اختلفت عادتها منهن، فإذا رأت المبتدئة الدم و انقطع لأقل من ثلاثة أيام فليس بحيض، و إن استمر ثلاثة كان حيضا، و كذا إلى تمام العشرة، فإن رأت بعد ذلك دما كان استحاضة إلى تمام العشرة الثاني (1) لأن ذلك هو أقل أيام الطهر.

فإن رأت في اليوم الحادي و العشرين دما، و استمر بها ثلاثة أيام، فهو حيض لمضي أقل أيام الطهر، و كذا لو انقطع الدم أول ما رأته بعد ثلاثة أيام، ثم رأته اليوم الحادي عشر من وقت ما رأت الدم الأول، فإنه دم الاستحاضة، لأنها رأته في أيام الطهر، و كذا إلى تمام الثالث عشر.

فإن رأت في اليوم الرابع عشر دما، كان من الحيضة المستقبلة، لأنها قد استوفت أقل أيام الطهر و هي عشرة، و على هذا تعتبر بين الحيضتين أقل أيام الطهر، و تحكم بأن الدم الذي تراه فيها دم استحاضة، إلى أن تستقر لها عادة تعملي.

ص: 38


1- - في الأصل و «ج»: العشرة الباقي.

عليها و ترجع إليها، و طريقة الاحتياط تقتضي ما ذكرناه، و العمل عليه عمل على أصل معلوم.

و يحرم على الحائض كل ما يحرم على الجنب، و لا يجب عليها الصلاة و يجب عليها الصوم تقضيه إذا طهرت، و يجب أن تمنع زوجها وطأها و يحرم عليه ذلك، و يجب عليه متى وطأها في الثلث الأول من زمان الحيض أن يكفر بدينار- قيمته عشرة دراهم جياد- و في الثلث الأوسط بنصف دينار، و في الأخير بربع دينار، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من أتى أهله و هي حائض فليتصدق (1)، فإن انقطع الدم عنها جاز لزوجها وطؤها إذا غسلت فرجها، سواء كان ذلك في أقل الحيض أو أكثره و إن لم تغتسل، بدليل الإجماع المشار إليه و قوله تعالى (وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ) (2) فجعل سبحانه انقطاع الدم غاية لزمان حظر الوطء، فيجب جوازه بعدها على كل حال إلا ما أخرجه الدليل من حظر ذلك قبل غسل الفرج.

و قوله تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ) (3) محمول على غسل الفرج، و يحتمل أن يكون كلاما مستأنفا، و ليس بشرط و لا غاية لزمان الحظر، و يحتمل أن يكون بمعنى «طهرن» لأن «تفعل» يجي ء بمعنى «فعل» يقال: تطعمت الطعام و طعمته.

و المستحاضة يلزمها إذا لوث الدم أحد جانبي الكرسف و لم يثقبه أن تغيره تتوضأ لكل صلاة، فإن ثقبه و لم يسل فعليها مع تغييره أن تغتسل لصلاة الفجر2.

ص: 39


1- - جامع الأصول: 8- 215. و لفظ الحديث: إذا وقع الرجل بأهله و هي حائض فليتصدق.
2- - البقرة: 222.
3- - البقرة: 222.

و تتوضأ لباقي الصلوات، و إن ثقبه و سال فعليها ثلاثة أغسال: غسل للفجر و غسل للظهر و العصر و غسل للمغرب و العشاء الآخرة. و لا يحرم على المستحاضة [و لا منها] (1) شي ء مما يحرم على الحائض [و منها] (2) بل حكمها حكم الطاهر إذا فعلت ما ذكرناه، بدليل الإجماع المشار إليه.

و أما دم النفاس فهو الحادث عقيب الولادة، و أكثره عشرة أيام، و كل دم تراه بعدها فهو استحاضة. و هي و الحائض سواء في جميع الأحكام إلا في حكم واحد، و هو أن النفاس ليس لأقله حد، و ذلك بدليل الإجماع السالف.

و أما مس الميت فقد قلنا إنه إنما يكون حدثا يوجب الغسل إذا كان بعد برده بالموت و قبل تطهيره بالغسل، و الدليل على ذلك أنه لا خلاف بين أصحابنا في ورود الأمر بالغسل من مسه، و ظاهره في الشرع يقتضي الوجوب، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من غسل ميتا فليغتسل». (3)

الفصل الثاني و أما الطهارة عن النجس التي هي شرط في صحة أداء الصلاة،

فعبارة عن إزالة النجاسة عن البدن و الثياب بما نبين أنها تزول في الشرع به.

و النجاسات هي:

بول و خرء ما لا يؤكل لحمه بلا خلاف، و ما يؤكل لحمه إذا كان جلالا، بدليل الإجماع، فأما إذا لم يكن جلالا فلا بأس ببوله و روثه، بدليل الإجماع، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما أكل لحمه فلا بأس

ص: 40


1- - ما بين المعقوفات موجود في النسخ التي بأيدينا و الظاهر انه زائد.
2- - ما بين المعقوفات موجود في النسخ التي بأيدينا و الظاهر انه زائد.
3- - سنن ابن ماجة: 1- 470 و سنن أبي داود: 3- 201، و مسند أحمد: 2- 280.

ببوله (1) و في رواية أخرى: فلا بأس ببوله و سلحه.(2)

و الخمر نجسة بلا خلاف ممن يعتد به(3)، و قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ) (4) يدل على نجاستها، و كل شراب مسكر نجس.

و الفقاع نجس بالإجماع المشار إليه.

و دم الحيض و الاستحاضة و النفاس نجس بلا خلاف.

و كذا الدم المسفوح من غير هذه الدماء، إلا أنه يجوز الصلاة في ثوب أصابه من دم القروح أو الجروح ما نقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي المضروب من درهم و ثلث مع الاختيار و رفع الحرج، و إن كان التنزه عن ذلك أفضل، فأما إن كان عليه في إزالة الدم حرج، لكون الجروح أو القروح لازمة له، فإن إزالته لا تجب عليه، قليلا كان أو كثيرا، و هذا بخلاف دم الحيض و الاستحاضة و النفاس، فإن الصلاة لا تجوز في ثوب أصابه شي ء منه، قليلا كان أو كثيرا، كل ذلك بدليل الإجماع.

فأما دم البراغيث و البق و السمك فطاهر، بدليل هذا الإجماع، و لأن النجاسة حكم شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ثبوتها في هذه الدماء، و يخص دم السمك قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ) (5)، لأنه يقتضي إباحة أكل السمك بجميع أجزائه، و قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (6) و دم السمك5.

ص: 41


1- - سنن البيهقي: 2- 413.
2- سلح الطائر سلحا- من باب نفع- و هو منه كالتغوط من الإنسان. المصباح المنير و في «ج»: ببوله و روثه و سلحه.
3- في «س»: بلا خلاف إلا من لا يعتد به.
4- - المائدة: 90.
5- - المائدة: 96.
6- - الأنعام: 145.

ليس بمسفوح، فيجب أن لا يكون محرما، و ذلك يقتضي طهارته.

و المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل، رطبا كان أو يابسا، بدليل الإجماع المذكور، و قوله تعالى (وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) (1). لأن المروي في التفسير أن المراد بذلك أثر الاحتلام، و إذا كان كذلك و كان معنى الرجز و الرجس و النجس واحدا بدلالة قوله تعالى:

(وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (2) و قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (3) دلت الآية على نجاسته، و أيضا فظاهر قوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)، يدل على تقدم النجاسة في الشرع بإطلاقه، و نحتج على المخالف بما روى عنهم (4) من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنما يغسل الثوب من البول و الدم و المني». (5)

و ميتة ذوات الأنفس السائلة نجسة بلا خلاف إلا في الآدمي، و يدل على نجاسته بعد الموت، إجماع الطائفة، فأما ما لا نفس له سائلة، كالذباب و الجراد، فلا ينجس الماء بموته فيه، بدليل هذا الإجماع، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه» (6)، و ذلك عام في الحي و الميت، و لأن المقل يوجب الموت، لا سيما إذا كان ما في الإناء حارا، و لو كان ينجس بموته لما أمر بمقله على الإطلاق.

و شعر الميتة و صوفها و عظمها طاهر، بدليل هذا الإجماع، و يخص الشعر و الصوف قوله تعالى (وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ) «7» لأنه سبحانه امتن علينا بما جعله لنا من النفع في ذلك، و لم يفصل0.

ص: 42


1- - الأنفال: 11.
2- - المدثر: 5.
3- - الحج: 30.
4- - في حاشية الأصل: بما روى عندهم.
5- - سنن البيهقي: 1- 14 و كنز العمال: 9- 349 برقم 26385 و مسند أبى يعلى: 3- 185 برقم 1611.
6- - سنن البيهقي: 1- 252.

بين الذكية و الميتة، و لا يجوز الامتنان بما لا يجوز الانتفاع به لنجاسته، و قوله تعالى:

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (1) لا يعارض ما ذكرناه، لأن اسم الميتة يتناول ما تحله الحياة، و هذه الأشياء لا تحلها الحياة، فلا يحلها الموت.

فأما جلد الميتة فلا يطهر بالدباغ، بدليل هذا الإجماع، و ظاهر قوله تعالى:

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)، و المراد الانتفاع بها بأكل أو بيع أو غيرها من التصرف، و اسم الميتة يتناول الجلد قبل الدباغ و بعده، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم قبل موته بشهر: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب» (2) و قول من قال: إن الجلد لا يسمى إهابا بعد الدباغ خارج عن اللغة و الشرع، فلا يعتد به.

و الخنزير نجس بلا خلاف.

و الكلب نجس بلا خلاف إلا من مالك (3)، و يدل على نجاسته إجماع الطائفة، و يغسل الإناء من ولوغه فيه ثلاث مرات، إحداهن- و هي الأولى- بالتراب، بدليل هذا الإجماع، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرات». (4) و في خبر آخر: «فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا» (5) و هذا بظاهره أيضا يقتضي وجوب الثلاث، من حيث لم يجز عليه الاقتصار على ما دونها، و لأن لفظة «أو» إما أن تفيد التخيير بين هذه الأعداد، و تكون كلها واجبة على جهة التخيير، و إما أن تفيد التخيير بين الاقتصار على الثلاث التي هي الواجبة، و بين الزيادة عليها على جهة الندب، فإذا كان الأول باطلا بالإجماع، لم يبق إلا الثاني.6.

ص: 43


1- - المائدة: 3.
2- - سنن البيهقي: 1- 14 و جامع الأصول: 8- 46 و سنن ابن ماجة: 2- 1194 برقم 3613 و مسند أحمد: 4- 310.
3- - تأتي ترجمته ص 362.
4- - سنن البيهقي: 1- 240 و 241 و جامع الأصول: 8- 36.
5- - سنن البيهقي: 1- 240 و 241 و جامع الأصول: 8- 36.

و الثعلب و الأرنب نجسان، بدليل الإجماع المذكور.

و الكافر نجس بدليله أيضا، و بقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (1)، و هذا نص. و كل من قال بذلك في المشرك، قال به فيمن عداه من الكفار، و التفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع. و قول المخالف: المراد بذلك نجاسة الحكم، غير معتمد، لأن إطلاق لفظ النجاسة في الشريعة يقتضي بظاهره نجاسة العين حقيقة، و حمله على الحكم مجاز، و اللفظ بالحقيقة أولى من المجاز، و لأنا نحمل اللفظ على الأمرين جميعا، لأنه لا تنافي بينهما.

و قولهم: لو كان نجس العين لما طهر بتجدد معنى هو الإسلام و انتفاء معنى هو الكفر، باطل، لأن الخمر نجسة العين، و تطهر بتجدد معنى هو الحموضة، و انتفاء معنى هو الشدة، و لا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى (وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (2) لأن لفظ الطعام إذا أطلق، انصرف إلى الحنطة.

و لا يمكن للمخالف إنكار ذلك، لأن أبا حنيفة و الشافعي اختلفا فيمن وكل وكيلا على أن يبتاع له طعاما، فقال الشافعي: لا يجوز أن يبتاع إلا الحنطة، و قال أبو حنيفة: و دقيقها أيضا، ذكر ذلك المحاملي (3) في آخر كتاب البيوع من كتابه الأوسط في الخلاف. و ذكره الأقطع [1] في آخر كتاب الوكالة من شرح2.

ص: 44


1- - التوبة: 28.
2- - المائدة: 5.
3- - هو أبو عبد الله حسين بن إسماعيل بن سعيد صاحب الأمالي المتوفى 330 ه- و قد أثنى عليه ابن كثير في تاريخه لاحظ الغدير: 1- 102.

القدوري [1]، و قال في الشرح: و الأصل في ذلك أن الطعام المطلق، اسم للحنطة و دقيقها.

و إنما أحوجنا إلى ذكر مذهب المخالف في ذلك و الإحالة على كتبهم إنكار من أنكره من جهالهم، على أنا نقول: لو وقع لفظ الطعام بإطلاقه على غير الحنطة، لحملناه عليها و على غيرها من الجامدات بدليل [الإجماع]. (1)

فأما ما عدا ما ذكرناه من الحيوان من ذوات الأربع و الطير و الحشرات فطاهر السؤر إلا أن يكون على فمه نجاسة، بدليل إجماع الطائفة، و ظاهر قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (2) و قوله (وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (3) فبين سبحانه أن الماء المطلق يطهر، و سؤر ما ذكرناه ينطلق عليه (4) اسم الماء، و إنما يخرج من هذا الظاهر ما أخرجه دليل قاطع.

و قد ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلالة، و عرق الجنب إذا أجنب من الحرام.

الفصل الثالث و أما ما به تفعل الطهارة فثلاثة أشياء:

الماء و التراب و الأحجار، أو ما يقوم مقامها، على ما قدمناه في الاستنجاء، فكل ماء استحق إطلاق هذا الاسم عليه

ص: 45


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
2- - النساء: 43.
3- - الفرقان: 48.
4- - في «ج»: يطلق عليه.

و لم تخالطه نجاسة، فإنه طاهر مطهر بلا خلاف، فإن خالطته و كان راكدا كثيرا ليس من مياه الآبار أو جاريا قليلا كان أو كثيرا، و لم يتغير بها أحد أوصافه، من لون أو طعم أو رائحة، فإنه طاهر مطهر أيضا بلا خلاف إلا في مقدار الكثير، و يدل على ذلك أيضا بعد إجماع الطائفة قوله تعالى (وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (1)، لأن مخالطة النجاسة للماء الجاري أو الكثير الراكد إذا لم يتغير أحد أوصافه، لا يخرجه عن استحقاق إطلاق هذا الاسم و الوصف معا عليه، و إذا كان كذلك وجب العمل بالظاهر إلا بدليل قاطع.

فإن تغير أحد أوصاف هذا الماء فهو نجس بلا خلاف، فإن كان الماء راكدا قليلا، أو من مياه الآبار، قليلا كان أو كثيرا، تغير بالنجاسة أحد أوصافه أو لم يتغير، فهو نجس بدليل إجماع الطائفة و ظاهر قوله تعالى (وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (2) و قوله (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (3) و قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (4) لأنه يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقا، من غير اعتبار بالكثرة و تغير أحد الأوصاف، و إنما يخرج من ذلك ما أخرجه دليل قاطع.

و حد الكثير ما بلغ كرا أو زاد عليه، و حد الكر وزنا ألف و مائتا رطل، و حده مساحة لموضعه ثلاثة أشبار و نصف طولا في مثل ذلك عرضا في مثله عمقا بالإجماع، و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (5).ر.

ص: 46


1- - الفرقان: 48.
2- - الأعراف: 157.
3- - المدثر: 5.
4- - المائدة: 3.
5- - نسبه المؤلف إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نسبه الشيخ في الخلاف- كتاب الطهارة المسألة 126- إلى أئمتنا عليهم السلام، و نقله السيد المرتضى في الانتصار: 8 و لم نعثر عليه مع الفحص الأكيد في الصحاح و المسانيد و إنما المروي في كتبهم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا كان الماء قدر قلتين لم يحمل الخبث» لاحظ السنن الكبرى: 1- 261 و جامع الأصول: 8- 12 مع اختلاف في التعبير.

و اختلف أصحابنا في الأرطال، فمنهم من قال عراقية، و منهم من قال مدنية (1) و الأول أظهر في الروايات، و الثاني تقتضيه طريقة الاحتياط، لأن الرطل المدني أزيد من العراقي.

فأما مياه الآبار فإنها تنجس بكل ما يقع فيها من النجاسات، قليلا كان ماؤها أو كثيرا على ما قدمناه بالإجماع، و أيضا فلا خلاف بين الصحابة و التابعين في أن ماء البئر يطهر بنزح بعضه.

و هذا يدل على حكمهم بنجاسته على كل حال من غير اعتبار بمقداره، و أن حكمه في ذلك بخلاف حكم ماء الأواني و الغدران (2).

و لا يمتنع أن يكون الوجه في اختلاف حكمها، أن ماء البئر يشق نزح جميعه، لبعده عن الأيدي، و لتجدده مع النزح، و ليس كذلك ماء الأواني و الغدران، و لهذا وجب غسل الأواني بعد إخراج الماء منها لما تيسر و سقط ذلك في الآبار لما تعذر.

و إذا خفف حكم البئر بالحكم بطهارة مائها عند نزح بعضه، و أسقط إيجاب غسلها بخلاف الأواني و الغدران، فما المنكر من تغليظ حكمها من وجه آخر؟! و هو إسقاط اعتبار الكثرة في مائها (و ما جرى مجراها و هو إيجاب نزحها) (3) بخلاف الأواني و الغدران.

فقد صار ما غلظ به حكم الآبار و هو ترك اعتبار الكثرة في مائها، ساقطا في الأواني و الغدران و ما غلظ به حكم الأواني و ما جرى مجراها و هو إيجاب غسلها ساقطا في الآبار و تساويا في باب التغليظ و التخفيف.».

ص: 47


1- - القائل هو السيد المرتضى: الناصريات، المسألة 2 و رسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة، ص 22 و اختاره الصدوق في الفقيه: 1- 6.
2- - الغدير: النهر، و الجمع غدران. المصباح المنير.
3- - ما بين القوسين ليس بموجود في «ج».

و الواقع في البئر من النجاسات على ضربين: أحدهما تغير أحد أوصاف الماء. و الثاني لا يغيره.

فما غير أحد أوصافه المعتبر فيه بأعم الأمرين من زوال التغير و بلوغ الغاية المشروعة (1) في مقدار النزح منه، فإن زال التغير قبل بلوغ المقدار المشروع في تلك النجاسة وجب تكميله، و إن نزح ذلك المقدار و لم يزل التغير وجب النزح إلى أن يزول، لأن طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، و العمل عليه عمل على يقين.

و ما لا يغير أحد أوصاف الماء على ضربين:

أحدهما يوجب نزح جميع الماء، أو تراوح أربعة رجال على نزحه، من أول النهار إلى آخره، إذا كان له مادة يتعذر معها نزح الجميع.

و الضرب الآخر يوجب نزح بعضه.

فما يوجب نزح الجميع أو المراوحة عشرة أشياء: الخمر و كل شراب مسكر و الفقاع و المني و دم الحيض و دم الاستحاضة و دم النفاس و موت البعير فيه، و كل نجاسة غيرت أحد أوصاف الماء و لم يزل التغير قبل نزح الجميع، و كل نجاسة لم يرد في مقدار النزح فيها (2) نص.

و ما يوجب نزح البعض على ضروب:

منه: ما يوجب نزح كر واحد، و هو موت أحد الخيل فيها، أو ما ماثلها في مقدار الجسم.

و منه: ما يوجب نزح سبعين دلوا، بدلو البئر المألوف، و هو موت الإنسان خاصة.

و منه: ما يوجب نزح خمسين، و هو كثير الدم المخالف للدماء الثلاثة».

ص: 48


1- - في «ج»: و بلوغ المقدرة المشروعة.
2- - في بعض النسخ: «منها» بدل «فيها».

المقدم ذكرها، و العذرة الرطبة أو اليابسة المتقطعة (1).

و منه: ما يوجب نزح أربعين، و هو موت الشاة، أو الكلب، أو الخنزير، أو السنور، أو ما كان مثل ذلك في مقدار الجسم، و بول الإنسان البالغ.

و منه: ما يوجب نزح عشر، و هو قليل الدم المخالف للدماء الثلاثة، و العذرة اليابسة غير المتقطعة (2).

و منه: ما يوجب نزح سبع، و هو موت الدجاجة، أو الحمامة، أو ما ماثلهما في مقدار الجسم، و الفأرة إذا انتفخت أو تفسخت، و بول الطفل الذي قد أكل الطعام.

و منه: ما يوجب نزح ثلاث، و هو موت الفأرة إذا لم تنتفخ أو لم تتفسخ، و الحية و العقرب و الوزغة و بول الطفل الذي لم يأكل الطعام.

و منه: ما يوجب نزح دلو واحدة، و هو موت العصفور، أو ما ماثله من الطير في مقدار الجسم، و الدليل على جميع ذلك الإجماع السالف.

و الماء المتغير ببعض الطاهرات، كالورس و الزعفران، يجوز الوضوء به ما لم يسلبه التغير إطلاق اسم الماء عليه، يدل على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (3) و قوله (وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (4) و هذا ينطلق عليه اسم الماء، و من ادعى أن التغير اليسير يسلبه إطلاق اسم الماء، فعليه الدليل، لأن إطلاق الاسم هو الأصل، و التقييد داخل عليه، كالحقيقة و المجاز.

و الماء المستعمل في الوضوء و الأغسال المندوبة طاهر مطهر يجوز الوضوء به و الاغتسال مرة أخرى بلا خلاف بين أصحابنا، و يدل عليه أيضا ما تلوناه من ظاهر القرآن.8.

ص: 49


1- - و
2- - في «ج»: المنقطعة.
3- - النساء: 43.
4- - الفرقان: 48.

فأما المستعمل في الغسل الواجب ففيه خلاف بين أصحابنا (1)، و ظاهر القرآن مع من أجراه مجرى المستعمل في الوضوء إلا أن يخرجه دليل قاطع.

و من يقول: إن الاستعمال على كل حال يخرجه عن تناول اسم الماء بالإطلاق، يحتاج إلى دليل، و لأن من شربه و قد حلف أن لا يشرب ماء يحنث بلا خلاف، و هذا يبطل قوله.

و لا يجوز الوضوء بغير الماء من المائعات، نبيذ تمر كان أو ماء ورد أو غيرهما، بدليل الإجماع المذكور، و ظاهر قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (2) لأنه يقتضي نقلنا عن الماء إلى التراب من غير واسطة، و من أجاز الوضوء بغير الماء، فقد جعل بينهما واسطة، و زاد في الظاهر ما لا يقتضيه.

و الوضوء بالماء المغصوب لا يرفع الحدث، و لا يبيح الصلاة بالإجماع، و أيضا فالوضوء عبادة يستحق بها الثواب، فإذا فعل بالماء المغصوب خرج عن ذلك إلى أن يكون معصية يستحق بها العقاب، فينبغي أن لا يكون مجزئا، و لأن نية القربة فيه مندوب إليها بلا خلاف، و التقرب إلى الله تعالى بمعصية محال.

و لا يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، و هو قول الأكثر من أصحابنا، و يدل عليه أن حظر الصلاة و عدم إجزائها في الثوب الذي أصابته نجاسة، معلوم، فمن ادعى إجزائها فيه إذا غسل بغير الماء، فعليه الدليل، و ليس في الشرع ما يدل على ذلك، و طريقة الاحتياط و اليقين ببراءة الذمة من الصلاة يقتضي ما ذكرناه، لأنه لا خلاف في براءة ذمة المكلف من الصلاة إذا غسل الثوب بالماء، و ليس كذلك إذا غسله بغيره.3.

ص: 50


1- - لاحظ المختلف: 1- 233 من الطبع الحديث.
2- - النساء: 43.

و يحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم لأسماء (1) في دم الحيض يصيب الثوب: «حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء» (2) و ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب.

و لا يجوز التحري (3) في الأواني و إن كانت جهة الطاهر أغلب، بالإجماع، و لأن المراد بالوجود في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)، التمكن من استعمال الماء الطاهر، و لهذا لو وجده و لم يتمكن من استعماله إما لعذر، أو فقد آلة أو ثمن، جاز له التيمم. و من لا يعرف الطاهر بعينه و لا يميزه من غيره، غير متمكن من استعماله.

و أما التراب فالذي يفعل به التيمم، و لا يجوز إلا بتراب طاهر، و لا يجوز بالكحل و لا بالزرنيخ و لا بغيرهما من المعادن، و لا بتراب خالطه شي ء من ذلك، بالإجماع و قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (4) و الصعيد هو التراب الذي لا يخالطه غيره، ذكر ذلك ابن دريد (5) و حكاه عن أبي عبيدة (6) و غيره من أهل اللغة، و الطيب هو الطاهر.5.

ص: 51


1- - أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن زبير، و هي أسن من عائشة أختها لأبيها، ماتت سنة 73 ه. لاحظ أسد الغابة: 5- 392.
2- - سنن البيهقي: 1- 13 و التاج الجامع للأصول: 1- 58 و جامع الأصول: 8- 32.
3- - قال الطريحي: التحري يجزي عند الضرورة أعني: طلب ما هو الأحرى في الاستعمال في غالب الظن، و منه التحري في الإنائين. مجمع البحرين.
4- - النساء: 43.
5- - هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري الإمامي شاعر، نحوي، لغوي كان واسع الرواية توفي 321 لاحظ كشف الظنون: 1- 162 و الكنى و الألقاب: 1- 279 و أعيان الشيعة: 9- 153.
6- - أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري، مولى بني تيم، أخذ عنه أبو حاتم و المازني و غيرهم مات سنة (211 ه-) لاحظ وفيات الأعيان: 5- 235.

الفصل الرابع: في كيفية الطهارة

و أما الوضوء فتقف صحته على فروض عشرة:

أولها: النية

بالإجماع و قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.) (1) الآية، لأن التقدير اغسلوا وجوهكم للصلاة، و إنما حذف ذكر الصلاة اختصارا، كقولهم: إذا لقيت الأمير فالبس ثيابك، و إذا لقيت العدو فخذ سلاحك، و تقدير الكلام افعل ذلك للقاء. و إذا أمر الله تعالى بهذه الأفعال للصلاة، فلا بد من النية، لأن بها يتوجه إلى الصلاة دون غيرها.

و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى (وَ ما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (2) و الإخلاص له لا يحصل إلا بالنية، و الوضوء من الدين، لأنه عبادة، بدليل الإجماع.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الوضوء شطر الإيمان» (3) و يحتج عليه في وجوب النية بما رووه أيضا من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الأعمال بالنيات و إنما لامرئ ما نوى» (4)، لأن أجناس الأعمال إذا كانت توجد من غير نية، ثبت أن المراد أنها لا تكون قربة و شرعية و مجزئة إلا بالنية، و لأن قوله: «و إنما لامرئ ما نوى» يدل على أنه ليس له ما لم ينو، لأن هذا حكم لفظة «إنما» في اللسان العربي على ما بيناه فيما مضى من الكتاب.

ص: 52


1- - المائدة: 6.
2- - البينة: 5.
3- - كنز العمال: 9- 288 برقم 26044 و ص 316 برقم 26200.
4- - سنن البيهقي: 1- 215.

و النية هي أن يريد المكلف الوضوء لرفع الحدث و استباحة ما يريد استباحته به من صلاة أو غيرها مما يفتقر إلى طهارة طاعة لله و قربة إليه.

اعتبرنا تعلق الإرادة برفع الحدث، لأن حصوله مانع من الدخول فيما ذكرناه من العبادة.

و اعتبرنا تعلقها باستباحة العبادة، لأن ذلك هو الوجه الذي لأجله أمر برفع الحدث، فما لم ينوه لا يكون ممتثلا للفعل على الوجه الذي أمر به لأجله.

و اعتبرنا تعلقها بالطاعة لله تعالى، لأن بذلك يكون الفعل عبادة.

و اعتبرنا القربة إليه سبحانه- و المراد بذلك طلب المنزلة الرفيعة عنده بنيل ثوابه، لا قرب المسافة، على ما بيناه فيما مضى من الأصول- لأن ذلك هو الغرض المطلوب بطاعته، الذي عرضنا سبحانه بالتكليف له.

و اعتبار القربة في النية عبادة في نفسه، أمر الله تعالى به، و مدح على فعلها، و وعد سبحانه عليه الثواب.

و دليل الأمر بها قوله تعالى (وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ) (1)، و قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (2) لأن المعنى إما أن يكون افعلوا ذلك على رجائكم الفلاح به، و إما أن يكون افعلوه لكي تفلحوا.

و دليل مدحه سبحانه على ذلك و وعده الثواب عليه قوله (وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ) (3) فأخبر سبحانه عن باطنهم و ما نووه من التقرب بالطاعة إليه، و مدحهم على ذلك، و وعدهم الثواب عليه.9.

ص: 53


1- - العلق: 19.
2- - الحج: 77.
3- - التوبة: 99.

فإن كان الوضوء واجبا، بأن يكون وصلة إلى استباحة واجب تعين، نوى وجوبه على الجملة، أو الوجه الذي له وجب، و كذا إن كان ندبا، ليميز الواجب من الندب، و يوقعه على الوجه الذي كلف إيقاعه عليه.

و يجوز أن يؤدى بالوضوء المندوب الفرض من الصلاة، بالإجماع المذكور، و من خالف في ذلك من أصحابنا (1) غير معتد بخلافه.

و الفرض الثاني: الذي يقف صحة الوضوء عليه، مقارنة آخر جزء من النية لأول جزء منه

، حتى يصح تأثيرها بتقدم جملتها على جملة العبادة، لأن مقارنتها على غير هذا الوجه، بأن يكون زمان فعل الإرادة هو زمان فعل العبادة أو بعضها، متعذر لا يصح تكليفه، أو فيه حرج يبطله ما علمناه من نفي الحرج في الدين، لأن ذلك يخرج ما وقع من أجزاء العبادة، و يقدم وجوده على وجود جملة النية عن كونه عبادة، من حيث وقع عاريا من جملة النية، لأن ذلك هو المؤثر في كون الفعل عبادة لا بعضه.

و الفرض الثالث: استمرار حكم هذه النية إلى حين الفراغ من العبادة

، و ذلك بأن يكون ذاكرا لها، غير فاعل لنية تخالفها، بالإجماع، و إذا كانت المضمضة و الاستنشاق أول ما يفعل من الوضوء، فينبغي مقارنة النية لابتدائهما، لأنهما و إن كانا مسنونين فهما من جملة العبادة و مما يستحق به الثواب و لا يكونان كذلك إلا بالنية على ما بيناه.

و الفرض الرابع: غسل الوجه

، و حده من قصاص شعر الرأس إلى محادر(2) شعر الذقن طولا [و] (3) ما دارت عليه الإبهام و الوسطى عرضا، مرة واحدة بكف من الماء، بالإجماع. و لأن ما اعتبرناه من الوجه بلا خلاف، و ما زاد على ذلك لا

ص: 54


1- - الشيخ: المبسوط: 1- 19.
2- محادر الذقن- بالدال المهملة-: أول انحدار الشعر عن الذقن، و هو طرفه. مجمع البحرين.
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «س».

دليل على أنه منه.

و الفرض الخامس: غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع

مرة واحدة، كل واحدة منهما بكف من الماء، و إدخال المرفق في الغسل، بالإجماع المشار إليه. و أيضا فطريقة الاحتياط يقتضي ذلك، لأنه إذا غسلها على الوجه الذي ذكرناه، زال حدثه بلا خلاف، و ليس كذلك إذا بدأ من الأصابع، أو لم يدخل المرافق في الغسل.

و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم توضأ مرة مرة و قال:

هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (1) و لا يخلو إما أن يكون ابتداء بالمرافق أو انتهى إليها، و لا يجوز أن يكون انتهى إليها، لأن ذلك يوجب أن لا تقبل صلاة من ابتدأ بها، و هو خلاف الإجماع، فثبت أنه عليه السلام ابتدأ بالمرافق، فيجب أن يكون صلاة من ابتدأ بالأصابع غير مقبولة.

و قوله تعالى (وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (2)، لا ينافي ما ذكرناه لأن «إلى» كما تكون للغاية تكون بمعنى «مع» بدليل قوله تعالى (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (3) و (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ) (4) و شواهد ذلك من كلام العرب أشهر من أن يحتاج إلى التطويل بذكرها، و الدليل على أنها في آية الطهارة بمعنى «مع» أنها لو كانت فيها بمعنى الغاية، لوجب الابتداء بالأصابع، و هذا بخلاف الإجماع، و هذه الآية دليلنا على وجوب إدخال المرافق في الغسل.

و الفرض السادس: مسح مقدم الرأس مرة واحدة،

و الأفضل أن يكون مقدار الممسوح ثلاث أصابع مضمومة، و يجزي مقدار إصبع واحدة، بالإجماع المذكور،

ص: 55


1- - سنن البيهقي: 1- 80، سنن ابن ماجة: 1- 145، المبسوط للسرخسي: 1- 9 و سنن الدار قطني: 1- 80.
2- - المائدة: 6.
3- - النساء: 2.
4- - الصف: 14.

و قوله سبحانه (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (1) لأنه لا بد لهذه الباء من فائدة، و إذا لم تكن فائدتها ها هنا تعدية الفعل- لأنه متعد بنفسه و الكلام مستقل بإسقاطها- لم يبق إلا أن يكون فائدتها التبعيض. و يحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم توضأ و رفع مقدم عمامته و أدخل يده تحتها فمسح مقدم رأسه. (2)

و الفرض السابع: مسح ظاهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين،

و هما الناتئان في وسط القدم عند معقد الشراك، و الأفضل أن يكون ذلك بباطن الكفين، و يجزي بإصبعين منهما، و يدل على ذلك مضافا إلى الإجماع المذكور قوله تعالى (وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (3)، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس، ثم عطف عليها الأجل، فوجب أن يكون لها بمقتضى العطف مثل حكمها، كما وجب مثل ذلك في الأيدي و الوجوه، و سواء في ذلك القراءة بالجر و النصب.

أما الجر فلا وجه له إلا العطف على الرؤوس، و من تعسف و جعله للمجاورة فقد أبعد، لأن محصلي علماء العربية قد نفوا الإعراب بالمجاورة أصلا، و تأولوا الجر في «جحر ضب خرب» على أن المراد «خرب جحرة» مثل «مررت برجل حسن وجهه» و لأنه عند من جوزه شاذ نادر لا يقاس عليه، فلا يجوز و الحال هذه حمل كتاب الله عليه، و لوجود حرف العطف في الآية الذي لا يبقى معه للإعراب بالمجاورة حكم، و لأن الإعراب بذلك إنما يكون في الموضع الذي ترتفع الشبهة فيه، لأن من المعلوم أن خربا لا يجوز أن يكون من صفات الضب، و ليس كذلك الأرجل، لأنه كما يصح أن تكون مغسولة، يصح أن تكون ممسوحة، فلا يجوز أن يكون إعرابها للمجاورة لحصول اللبس بذلك.

و أما النصب فهو أيضا بالعطف على موضع الرؤوس (كما قال:

ص: 56


1- - المائدة: 6.
2- - سنن البيهقي: 1- 61.
3- - المائدة: 6.

معاوي اننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا [1].

و الشواهد على ذلك كثيرة، و عطفها على موضع الرؤوس) (1) أولى من عطفها على الأيدي لاتفاق أهل العربية على أن إعمال أقرب العاملين أولى من إعمال الأبعد، و لهذا كان رد عمرو في الإكرام إلى زيد أولى من رده في الضرب إلى بكر من قولهم «ضربت زيدا و أكرمت بكرا و عمرا» و مثله «أكرمت و أكرمني عبد الله و أكرمني و أكرمت عبد الله) فإن إعمال أقرب الفعلين من الاسم فيه أولى من إعمال الأبعد.

و بذلك جاء القرآن قال الله تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (2)، و (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (3)، و (أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً) (4)، فإن العوامل في المنصوب في ذلك كله أقرب الفعلين إليه. و أيضا فقد بينا أن القراءة بالجر لا يحتمل سوى المسح، فيجب حمل القراءة بالنصب على ما يطابقها، لأن قراءة الآية الواحدة بحرفين يجري مجرى الآيتين في وجوب المطابقة بينهما.

و يحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم بال على سباطة قوم ثم توضأ و مسح على قدميه و نعليه. [2] و عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ما نزل القرآن7.

ص: 57


1- - ما بين القوسين سقط عن نسخة ج و س.
2- - الكهف: 96.
3- - الحاقة: 19.
4- - الجن: 7.

إلا بالمسح (1)، و عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فمسح على رجليه (2)، و عنه أنه قال: مسحتان و غسلتان (3)، و إذا ثبت أن فرض الرجلين هو المسح دون غيره ثبت أن الكعبين هما ما ذكرناه، لأن كل من قال بأحد الأمرين قال بالآخر، و القول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع، و أيضا فقد دللنا على أن فرض المسح يتعلق ببعض الرأس، فكذلك يجب في الأرجل بحكم العطف.

و قوله تعالى (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (4)، المراد به رجلا كل متطهر، و فيهما عندنا كعبان، و هذا أولى من قول مخالفنا أنه أراد رجل كل متطهر، لأن الفرض يتناول الرجلين معا، فصرف الخطاب إليهما أولى.

و الفرض الثامن: أنه لا يستأنف لمسح الرأس و الرجلين ماء جديدا

، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن من غسل وجهه و يديه مأمور بمسح رأسه و رجليه، و الأمر بمقتضى الشرع يوجب الفور، و من ترك المسح بالبلل الذي في يديه و عدل إلى أخذ ماء جديد، فقد ترك المسح في زمان كان يمكنه فعله فيه، و ترك العمل بظاهر الآية و ذلك لا يجوز، و لأن كل من أوجب مسح الرجلين على التضييق قال بما ذكرناه، و القول بأحد الأمرين دون الآخر خروج عن الإجماع.

و الفرض التاسع: الترتيب

و هو أن يبدأ بغسل وجهه، ثم بيده اليمنى، ثم اليسرى، ثم يمسح رأسه، ثم يمسح رجليه، بدليل الإجماع المذكور، و طريقة

ص: 58


1- - التهذيب: 1- 63 ح 175، و فيه «ما انزل) و التبيان: 3- 453.
2- - سنن البيهقي: 1- 44 عن رفاعة بن رافع و مسند أحمد بن حنبل: 1- 158 عن علي عليه السلام و نحوه في كنز العمال: 9- 448 برقم 26908 و التهذيب: 1- 63، ح 173.
3- - سنن الدار قطني: 1- 96، كنز العمال: 9- 433 برقم 26840 و التهذيب: 1- 63، ح 176.
4- - المائدة: 6.

الاحتياط، و أيضا قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (1) يدل على ما قلناه، لأن «الفاء» للتعقيب، سواء كانت عاطفة أو جزاء.

و إذا وجب غسل الوجه عقيب إرادة القيام إلى الصلاة و البداية به (2) ثبت ما قلناه إلا تقديم اليمنى على اليسرى، لأن أحدا من الأمة لم يفرق بين الأمرين، و إنما استثنينا ترتيب اليسرى على اليمنى لأن الشافعي لا يوافق في ذلك و إن وافق فيما عداه من ترتيب الأعضاء و كان لا يسلم لنا لو لم نستثنه [من] (3) الاستدلال بإجماع الأمة من الوجه الذي بيناه.

و نحتج على المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم توضأ مرة مرة و قال:

هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (4)، و لا بد أن يكون توضأ مرتبا على الوجه الذي ذكرناه، و إلا لزم ألا يقبل الله صلاة بوضوء مرتب على ذلك الوجه، و هذا باطل بالإجماع.

و الفرض العاشر: الموالاة

، و هي أن لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض، بمقدار ما يجف ما تقدم في الهواء المعتدل، و يدل على ذلك ما قلناه في المسألة الأولى من الإجماع و طريقة الاحتياط، و يحتج على المخالف بالخبر المتقدم، و أيضا فلا يجوز المسح على الخفين بالإجماع المذكور، و قوله تعالى (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (5)، لأنه تعالى أوجب المسح على ما يسمى رجلا حقيقة، و ليس

ص: 59


1- - المائدة: 6.
2- - كذا في «ج» و «س»: و لكن في الأصل: و البدار به.
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «س».
4- - سنن البيهقي: 1- 80، سنن ابن ماجة: 1- 145، المبسوط للسرخسي: 1- 9، سنن الدار قطني: 1- 80، و البحر الزخار: 1- 70.
5- - المائدة: 6.

الخف كذلك، فمن مسح عليه فقد عدل عن ظاهر الآية.

و يحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم توضأ مرة مرة و قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، لأنه لا بد أن يكون أوقع الفعل على الرجل، و بما روى عندهم من قول أمير المؤمنين عليه السلام: نسخ الكتاب المسح على الخفين (1)، و قوله:

ما أبالي أ مسحت على الخفين أم على ظهر عير بالفلاة (2). و مثل ذلك رووا عن أبي هريرة [1]. و عن ابن عباس أنه قال: سبق كتاب الله المسح على الخفين (3)، و عن عائشة أنها قالت: لأن تقطع رجلاي بالمواسي أحب إلي من أن أمسح على الخفين [2]، و لم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة.

و مسنونات الوضوء:

السواك، و غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء- من البول و النوم مرة و من الغائط مرتين-، و التسمية، و المضمضة و الاستنشاق- ثلاثا

ص: 60


1- - البحر الزخار: 1- 70، و نقله السيد المرتضى في الناصرات، المسألة 34.
2- - لم نجد النص في صحاح القوم و مسانيدهم، نعم نقله السيد المرتضى في الناصريات المسألة 34.
3- - سنن البيهقي: 1- 272 و التهذيب: 1- 236 برقم 1091 روى عن علي عليه السلام، و نحوه في الوسائل: 1- 323 ب 38 من أبواب الوضوء، ح 6 و 7 و 20. و بحار الأنوار: 77- 297، ح 52 نقلا عن إرشاد المفيد.

ثلاثا-، و غسل الوجه و اليدين مرة ثانية، و أن يبدأ الرجل في الغسلة الأولى بظاهر ذراعيه، و المرأة بباطنهما (1)، و في الغسلة الثانية بالعكس، و الدعاء عند المضمضة، و الاستنشاق، و عند غسل الوجه و اليدين، و عند مسح الرأس و الرجلين، كل ذلك بالإجماع المذكور.

و لا يجوز الصلاة إلا بطهارة متيقنة، فإن شك و هو جالس في شي ء من واجبات الوضوء، استأنف ما شك فيه، فإن نهض متيقنا لتكامله، لم يلتفت إلى شك يحدث له، لأن اليقين لا يترك للشك. [1]

الفصل الخامس و أما الغسل

اشارة

من الجنابة فالمفروض على من أراده: الاستبراء بالبول أو الاجتهاد فيه، ليخرج ما في مجرى المني منه، ثم الاستبراء من البول، على ما قدمناه، و غسل ما على بدنه من نجاسة، ثم النية، و مقارنتها، و استدامة حكمها، على ما بيناه في الوضوء، ثم غسل جميع الرأس إلى أصل العنق، على وجه يصل الماء إلى أصول الشعر، ثم الجانب الأيمن من أصل العنق إلى تحت القدم كذلك، ثم الجانب الأيسر كذلك. فإن ظن بقاء شي ء من صدره أو ظهره لم يصل الماء إليه، غسله، كل ذلك بالإجماع المذكور.

و مسنونة: غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ثلاث مرات، و التسمية،

ص: 61


1- - في «ج» و حاشية الأصل: بباطنها.

و المضمضة، و الاستنشاق، و الموالاة، و الدعاء، و يستباح بهذا الغسل الصلاة من غير وضوء بالإجماع السابق و قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (1)، و لم يشرط الوضوء.

و غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء، و لا يسقط عنها إلا وجوب الاستبراء بالبول، و ما عدا غسل الجنابة من باقي الأغسال الواجبة و المسنونة، تقديم الوضوء فيها واجب لاستباحة الصلاة، لأنه ليس في الشرع ما يدل على استباحتها بها من دونه، ثم يؤتى بها على كيفية غسل الجنابة سواء.

و الأغسال المسنونة:

غسل يوم الجمعة، و ليلة الفطر، و يوم الفطر، و يوم الأضحى، و يوم الغدير، و يوم المبعث، و ليلة النصف من شعبان، و أول ليلة من شهر رمضان، و ليلة النصف منه، و ليلة سبع عشرة منه، و ليلة تسع عشرة منه، و ليلة إحدى و عشرين منه، و ليلة ثلاثة و عشرين منه، و غسل إحرام الحج، و غسل إحرام العمرة، و غسل دخول الحرم، و غسل يوم عرفة، و غسل دخول المسجد الحرام، و غسل دخول الكعبة، و غسل دخول المدينة، و غسل دخول مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و غسل زيارة قبره صلى الله عليه و آله و سلم، و غسل زيارة قبور الأئمة عليهم السلام، و غسل زيارة البيت من منى، و غسل صلاة الاستسقاء، و غسل صلاة الحاجة، و غسل صلاة الاستخارة، و غسل صلاة الشكر (2)، و غسل التوبة من الكبائر، و غسل المباهلة، و غسل المولود و غسل قاضي صلاة الكسوف- إذا تعمد تركها مع احتراق القرص كله- و غسل القاصد لرؤية المصلوب من المسلمين بعد ثلاثة أيام.

كل ذلك بالإجماع المذكور.

ص: 62


1- - النساء: 43.
2- - في «ج» و «س»: «الشك» و هو تصحيف.

الفصل السادس: في التيمم

و أما التيمم فكيفيته: أن يضرب المحدث بما يوجب الوضوء أو الغسل، بيديه على ما يتيمم به ضربة واحدة، و ينفضهما، و يمسح بهما وجهه من قصاص شعر رأسه إلى طرف أنفه، ثم يمسح بباطن كفه اليسرى ظاهر كفه اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع، ثم يمسح بباطن كفه اليمنى ظاهر كفه اليسرى كذلك.

يدل على أنه ضربة واحدة قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (1)- و من مسح بضربة واحدة فقد امتثل المأمور به، و يعارض المخالف بما رووه عن عمار- رضي الله عنه-(2) من قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «التيمم ضربة للوجه و الكفين) (3)، و قد روى أصحابنا أن الجنب يضرب ضربتين إحداهما للوجه و الأخرى لليدين، و طريقة الاحتياط تقتضي ذلك.

و يدل على أن مقدار الممسوح من الوجه و اليدين ما ذكرناه، بعد إجماع الإمامية عليه قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، و فائدة الباء هاهنا التبعيض على ما سبق.

و النية تجب في التيمم لمثل ما قلناه في الوضوء، غير أنه لا ينوي به رفع

ص: 63


1- - المائدة: 6.
2- [1]- أبو اليقظان، عمار بن ياسر بن عامر من السابقين الأولين، و أمه سمية و هي أول من استشهد في سبيل الله و هو أول من بنى مسجدا في الإسلام (مسجد قبا)، قتل شهيدا في صفين سنة 37 ه. لاحظ أسد الغابة: 4- 43 و أعيان الشيعة: 8- 372.
3- - سنن الدار قطني: 1- 183 برقم 28 و 30 و سنن الدارمي: 1- 190 و لاحظ سنن البيهقي: 1- 210.

الحدث، لأنه لا يرفعه على ما قدمناه، و الترتيب واجب فيه لمثل ما قلناه في الوضوء أيضا، و كذلك الموالاة.

و لا يجوز التيمم إلا عند عدم الماء، أو عدم ما يتوصل به إليه من آلة أو ثمن غير مجحف، أو عدم ملك للماء أو إذن في استعماله، أو حصول خوف في استعماله، لمرض أو شدة برد، أو عطش، أو عدو، أو حصول علم أو ظن بفوت الصلاة قبل الوصول إليه، أو كون الماء نجسا، بالإجماع المذكور، و لا يجوز إلا في آخر وقت الصلاة، بدليل الإجماع، و لأنه أبيح للضرورة فلا يجوز فعله قبل تأكد الضرورة.

و لا يجوز فعله إلا بعد الطلب للماء رمية سهم في الأرض الحزنة، و في الأرض السهلة رمية سهمين يمينا و شمالا و أماما و وراء، بإجماعنا، و طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، لأنه لا خلاف في صحة تيممه، و براءة ذمته من الصلاة إذا تيمم على الوجه الذي شرحناه، و ليس كذلك إذا تيمم على خلافه.

و من دخل بالتيمم في الصلاة ثم وجد الماء، وجب عليه المضي فيها، لأنه إنما يدخل فيها عندنا، إذا بقي من الوقت قدر ما يفعل فيه الصلاة، فقطعها و الحال هذه، و الاشتغال بالوضوء أو الغسل، يؤدي إلى فواتها، و ذلك لا يجوز، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم إن الشيطان ليأتي أحدكم و هو في الصلاة، فينفخ بين أليتيه يقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا.(1)

و أما ما يتعلق بفصول الطهارة من الأحكام، فقد دخل في خلالها، فلا وجه لإعادتها.

ص: 64


1- (1)- كنز العمال: 1- 251 برقم 1269 باختلاف قليل و مسند أحمد بن حنبل: 3- 96 و الجامع الصغير: 1- 310 برقم 2027 باختلاف يسير و عوالي اللئالي: 1- 380 و نقله الشيخ في الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة 157.

كتاب الصلاة

الفصل الأول: في ستر العورة

يحتاج هذا الفصل إلى العلم بأمرين:

أحدهما: العورة.

و الثاني: ما به تستر.

و العورة الواجب سترها من الرجال القبل و الدبر، و من النساء جميع أبدانهن إلا رؤوس المماليك منهن، و العورة المستحب سترها من الرجال ما عدا القبل و الدبر مما بين السرة إلى الركبة، و من النساء رؤوس المماليك.

و أما ما به تستر فيحتاج في صحة الصلاة فيه إلى شروط ثلاثة:

أولها: أن يكون مملوكا، أو جاريا مجرى المملوك.

و ثانيها: أن يكون طاهرا.

و ثالثها: أن يكون مما تنبته الأرض، كالقطن و الكتان و غيرهما من النبات إذا صح الاستتار به، أو يكون من شعر ما يؤكل لحمه من الحيوان، أو صوفه أو وبره، و كذا جلدة إذا كان مذكى.

ص: 65

و يجوز الصلاة في الخز الخالص(1) و لا يجوز في الإبريسم المحض و جلود الميتة- و إن دبغت- و جلود ما لا يؤكل لحمه- و إن كان فيها ما يقع عليه الزكاة- و ما عمل من وبر الأرانب و الثعالب أو غش به، و اللباس النجس و المغصوب، يدل على جميع ذلك الإجماع المذكور و طريقة الاحتياط، و قد رويت رخصة في جواز الصلاة للنساء في الإبريسم المحض.

و قد عفى عن النجاسة تكون فيما لا تتم الصلاة فيه منفردا، كالقلنسوة و التكة، و الجورب، و الخف، و التنزه عن ذلك أفضل.

و تكره الصلاة في الثوب المصبوغ، و أشد كراهة الأسود، و يكره في المذهب و الملحم بالحرير أو الذهب، بالإجماع المذكور، و طريقة الاحتياط، و متى وجد بعد الصلاة على ثوبه نجاسة، و كان علمه بها قد تقدم لحال الصلاة، أعادها على كل حال، و إن لم يكن تقدم، أعادها إن كان الوقت باقيا، و لم يعدها بعد خروجه، للإجماع المذكور.

الفصل الثاني: في مكان الصلاة

لا تصح الصلاة إلا في مكان مملوك، أو في حكم المملوك، و لا يصح السجود بالجبهة إلا على ما يطلق عليه اسم الأرض، أو على ما أنبتته مما لا يؤكل و لا يلبس إذا كان طاهرا، بالإجماع المذكور و طريقة الاحتياط، و ما قدمناه من الدلالة على أن الوضوء بالماء المغصوب لا يصح، يدل أيضا على أن الصلاة في المكان المغصوب لا يصح.

ص: 66


1- [1]- في «س»: «و لا يجوز الصلاة في الخز الخالص» و الصحيح ما في المتن، و ادعى في الجواهر الإجماع بقسميه على الجواز. لاحظ جواهر الكلام: 8- 86.

و قول المخالف: إن الصلاة تنقسم إلى فعل و ذكر، و الذكر لا يتناول المكان [المقصود](1) فلا يمتنع أن تكون مجزئة من حيث وقع ذكرها طاعة، غير صحيح، لأن الصلاة عبارة عن الفعل و الذكر معا، و إذا كان كذلك وجب انصراف النية إلى الأمرين و كون الفعل معصية يمنع من نية القربة فيه.

و قولهم(2): كون الصلاة في الدار المغصوبة معصية لحق صاحب الدار لا يمنع من إجزائها من حيث استيفاء شروطها الشرعية، و نية المصلي تنصرف إلى الوجه الذي معه تتكامل الشروط الشرعية، دون الوجه الذي يرجع إلى حق صاحب الدار، غير صحيح أيضا، لأنه مبني على استيفاء هذه الصلاة بشروطها الشرعية، و ذلك غير مسلم لأن من شروطها كونها طاعة و قربة، و ذلك لا يصح فعلها في الدار المغصوبة.

و تكره الصلاة في معاطن الإبل، و مرابط الخيل و البغال و الحمير و البقر، و مرابض الغنم و المزابل و مذابح الأنعام، و الحمامات، و بيوت النيران، و غيرها من معابد أهل الضلال، و بين القبور، و تكره على البسط المصورة و الأرض السبخة، و على جواد الطرق و قرى النمل، و في البيداء و ذات الصلاصل و وادي ضجنان و الشقرة(3)، كل ذلك بالإجماع المذكور و طريقة الاحتياط.

ص: 67


1- (1)- ما بين المعقوفتين موجود في «س».
2- [1]- هو مبتدأ و خبره قوله: «غير صحيح».
3- [2]- في الجواهر: قيل: إن ذات الصلاصل اسم الموضع الذي أهلك الله فيه نمرود، و ضجنان واد أهلك الله فيه قوم لوط. و «البيداء» هي التي يأتي إليها جيش السفياني قاصدا مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيخسف الله به تلك الأرض. و في خبر ابن المغيرة المروي عن كتاب الخرائج و الجرائح: «نزل أبو جعفر عليه السلام في ضجنان فسمعناه يقول ثلاث مرات: لا غفر الله لك، فقال له أبي: لمن تقول جعلت فداك؟ قال: مر بي الشامي لعنه الله يجر سلسلته التي في عنقه و قد دلع لسانه يسألني أن أستغفر له، فقلت له: لا غفر الله لك». و عن عبد الملك القمي: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: بينا أنا و أبي متوجهان إلى مكة من المدينة فتقدم أبي في موضع يقال له «ضجنان» إذ جاءني رجل في عنقه سلسلة يجرها فأقبل علي فقال: اسقني، فسمعه أبي فصاح بي و قال: لا تسقه لا سقاه الله تعالى، فإذا رجل يتبعه حتى جذب سلسلته و طرحه على وجهه في أسفل درك الجحيم، فقال أبي: هذا الشامي لعنه الله تعالى. و المراد به على الظاهر معاوية صاحب السلسلة التي ذكرها الله تعالى في سورة الحاقة. أنظر جواهر الكلام 8- 349. و الوسائل 3- 450، الباب 33 و 34 من أبواب مكان المصلي. و قال في مجمع البحرين: في الحديث نهي عن الصلاة في وادي شقرة- و هو بضم الشين و سكون القاف. و قيل بفتح الشين و كسر القاف-: موضع معروف في طريق مكة. قيل: إنه و البيداء و ضجنان و ذات الصلاصل مواضع خسف و أنها من المواضع المغضوب عليها.

الفصل الثالث: في النية

أما نية الصلاة فواجبة بلا خلاف، و كيفيتها: أن يريد فعل الصلاة المعينة لوجوبها، أو لكونها ندبا على الجملة، أو للوجه الذي له كانت كذلك على التفصيل إن عرفه، طاعة لله و قربة إليه، و يجب مقارنة آخر جزء منها لأول جزء من تكبيرة الإحرام، و استمرار حكمها إلى آخر الصلاة، كما قلناه في نية الوضوء سواء.(1)

الفصل الرابع: في القبلة

القبلة هي الكعبة، فمن كان مشاهدا لها وجب عليه التوجه إليها، و من شاهد المسجد الحرام و لم يشاهد الكعبة، وجب عليه التوجه إليه، و من لم يشاهده توجه نحوه، بلا خلاف، قال الله تعالى:

ص: 68


1- [1]- في «ج» و حاشية الأصل: إلى آخر الصلاة و ذلك لمثل ما قلناه في نية الوضوء فلا وجه لإعادتها كما قلناه.

(وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(1). و فرض التوجه(2) العلم بجهة القبلة، فإن تعذر العلم قام الظن مقامه، و لا يجوز الاقتصار على الظن مع إمكان العلم، و لا على الحدس مع إمكان الظن، فمن فعل ذلك فصلاته باطلة، و إن أصاب بتوجهه جهة القبلة، لأنه ما فعل التوجه على الوجه المأمور به، فيجب أن يكون غير مجزئ.

و من توجه مع الظن، ثم تبين له أن توجهه كان إلى غير القبلة، أعاد الصلاة إن كان وقتها باقيا، و لم يعد إن كان قد خرج، إلا أن يكون استدبر القبلة، فإنه يعيد على كل حال.

و من لم يعلم جهة القبلة، و لا ظنها، توجه بالصلاة إلى أربع جهات، بالإجماع المذكور و طريقة الاحتياط.

الفصل الخامس: في أوقات الصلاة

أما أوقات فرائض اليوم و الليلة، فلكل واحد منها أول و آخر، فأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، فإذا مضى من زوالها مقدار أداء الظهر، دخل وقت العصر، و اشترك وقتاهما إلى أن يبقى من غروب الشمس مقدار أداء العصر، فيخرج وقت الظهر، و يختص(3) هذا المقدار للعصر.

فإذا غربت الشمس، خرج وقت العصر و دخل وقت المغرب، فإذا مضى مقدار أداء ثلاث ركعات، دخل وقت عشاء الآخرة، و اشتركت الصلاتان في

ص: 69


1- (1)- البقرة: 144.
2- (2)- في «س»: و فرض المتوجه.
3- (3)- في الأصل و «ج»: يخلص.

الوقت إلى أن يبقى من انتصاف الليل مقدار أداء صلاة العشاء الآخرة، فيخرج وقت المغرب، و يختص (1) ذلك المقدار للعشاء الآخرة، و يخرج وقتها بمضيه.

و أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر الثاني، و آخره ابتداء طلوع قرن الشمس، يدل على ذلك ما ذكرناه من الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (2) لأن الظاهر يقتضي أن وقت الظهر و العصر، يمتد من دلوك الشمس إلى غسق الليل، و لا يخرج من هذا الظاهر إلا ما أخرجه دليل قاطع.

و دلوك الشمس هو ميلها بالزوال إلى أن تغيب، بلا خلاف بين أهل اللغة و التفسير في ذلك، يقال: دلكت الشمس إذا مالت، و يدل على ما اخترناه أيضا قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) (3)، و المراد بذلك الفجر و العصر، و هذا يدل على أن وقت العصر ممتد إلى أن يقرب الغروب، لأن طرف الشي ء ما يقرب من نهايته، و جعل المخالف آخر وقت العصر مصير ظل كل شي ء مثليه، يقرب (4) من وسط النهار و لا يقرب من نهايته، و أيضا فإن الصلاة قبل وقتها لا تكون مجزئة لأنها غير شرعية.

و جواز صلاة العصر بعرفة عقيب الظهر بالاتفاق، دليل على أن ذلك هو أول وقتها، و يحتج على المخالف بما رواه ابن عباس أنه صلى الله عليه و آله و سلم جمع بين الصلاتين في الحضر لا لعذر (5)، لأنه يدل على اشتراك الوقت.4.

ص: 70


1- - في الأصل و «ج»: يخلص.
2- - الإسراء: 78.
3- - هود: 114.
4- - في «س»: و يقرب.
5- - مسند أحمد بن حنبل: 1- 283 و صحيح مسلم: 2- 151 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر و سنن البيهقي: 3- 166 و موطإ مالك: 1- 144.

و حملهم ذلك على أنه صلى الله عليه و آله و سلم صلى الظهر في آخر وقتها و العصر في أول وقتها غير صحيح، لأن ذلك ليس بجمع بين الصلاتين، و إنما هو فعل لكل صلاة في وقتها المختص بها، و في الخبر ما يبطل هذا التأويل و هو قوله: «لا لعذر» لأن فعل الصلاة في وقتها المختص بها، لا يفتقر إلى عذر، و بما روى من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من فاتته صلاة العصر حتى غربت الشمس فكأنما وتر أهله و ماله». (1) فعلق الفوات بالغروب، و هذا يدل على أن ما قبله وقت الأداء، و بما روى من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى (2)، لأنه يدل على أن وقت العصر لا يخرج حتى يدخل وقت المغرب.

فإن قيل: أ ليس قد ذهب بعض أصحابكم إلى أن آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شي ء مثله؟ و آخر وقت العصر أن يصير ظل كل شي ء مثليه؟ و آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق، و هو الحمرة؟ و وردت الرواية بذلك عن أئمتكم، و هذا يقتضي خلاف ما ذكرتموه، فكيف تدعون إجماع الإمامية عليه؟

قلنا: هذا التحديد لا ينافي ما ذكرناه، لأنه إنما جعل لتفعل فيه النوافل و التسبيح و الدعاء، و ذلك هو الأفضل، فكان ذلك المقدار حدا للفضل لا للجواز.

و أما أوقات النوافل في اليوم و الليلة فبيانها: أن وقت نوافل الظهر من زوال الشمس إلى أن يبقى من تمام أن يصير ظل كل شي ء مثله مقدار ما تصلى فيه أربع ركعات، و وقت نوافل الجمعة قبل الزوال، و وقت نوافل العصر من حين الفراغ من صلاة الظهر إلى أن يبقى من تمام أن يصير ظل كل شي ء مثليه مقدار ما تصلى فيه أربع ركعات، إلا في يوم الجمعة، فإنها تقدم قبل الزوال، كما قلناه في نوافل الظهر.5.

ص: 71


1- - الشافعي: الأم: 1- 73 كتاب الصلاة وقت العصر.
2- - المبسوط للسرخسي: 1- 145.

و وقت نوافل المغرب من حين الفراغ منها إلى أن يزول الشفق من ناحية المغرب، و وقت الوتيرة حين الفراغ من فريضة العشاء الآخرة، و وقت صلاة الليل من حين انتصافه إلى قبيل طلوع الفجر، و وقت ركعتي الفجر من حين الفراغ من صلاة الليل، إلى ابتداء طلوع الحمرة من ناحية المشرق.

و أما أوقات ما عدا فرائض اليوم و الليلة و نوافلهما من الفرائض و النوافل، فيأتي ذكرها مندرجا في ضمن فصولها إن شاء الله تعالى.

و يكره الابتداء بالنافلة من غير سبب، حين طلوع الشمس، و حين قيامها نصف النهار في وسط السماء (1) إلا في يوم الجمعة خاصة، و بعد فريضة العصر، و قبل غروب الشمس، و بعد فريضة الغداة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل السادس

اعلم أن مما تقدم من المفروض من الصلوات الخمس و إن لم يكن من شروط صحتها الأذان و الإقامة و هما (2) واجبان على الرجال في صلاة الجماعة، و مسنونان فيما عدا ما ذكرناه، و يتأكد استحبابهما في ذلك فيما يجهر فيه بالقراءة، و الإقامة أشد تأكيدا من الأذان، و يجوز للنساء أن يؤذن و يقمن من غير أن يسمعن أصواتهن الرجال.

و الأذان ثمانية عشر فصلا: يبتدأ بالتكبير في أوله أربع مرات، ثم بالشهادة لله بالوحدانية مرتين، ثم بالشهادة لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة مرتين، ثم يقول: حي على الصلاة مرتين، ثم يقول: حي على الفلاح مرتين، ثم يقول: حي على خير العمل

ص: 72


1- - في «ج» و وسط السماء.
2- - في «س»: فهما.

مرتين، ثم بالتكبير مرتين، ثم بالتهليل مرتين.

و الإقامة سبعة عشر فصلا: و هي تخالف الأذان بأن التكبير في أولها مرتان، و التهليل في آخرها مرة واحدة، و بأن يزاد فيها بعد حي على خير العمل «قد قامت الصلاة» مرتين، و الترتيب واجب فيهما، و يستحب في الأذان ترتيل كلمه و الوقوف على أواخر فصوله- و يجوز فعله على غير طهارة، و من غير استقبال القبلة [و في حال الجلوس و المشي، و التكلم في خلاله، و فعله على خلاف ذلك، كله أفضل، و السنة في الإقامة حدر كلماتها [1] و فعلها على طهارة في حال القيام و استقبال القبلة] (1)- و ألا يتكلم فيها بما لا يجوز مثله في الصلاة، كل ذلك بدليل الإجماع المقدم ذكره.

الفصل السابع: في أقسام الصلاة

الصلاة على ضربين: مفروض و مسنون:

فالمفروض في اليوم و الليلة خمس صلوات:

الظهر أربع ركعات، إلا في يوم الجمعة، فإن الفرض ينتقل إلى ركعتين، متى تكاملت الشروط التي نذكرها فيما بعد، و العصر أربع ركعات، و المغرب ثلاث ركعات، و العشاء الآخرة أربع، و الغداة ركعتان.

هذا في حق الحاضر أهله بلا خلاف، و في حق من كان حكمه حكم الحاضرين من المسافرين و هو من كان سفره أكثر من حضره كالجمال و المكاري و البادي أو في معصية لله أو للعب و النزهة، أو كان سفره أقل من بريدين و هما

ص: 73


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

ثمانية فراسخ.

و الفرسخ ثلاثة أميال و الميل ثلاثة آلاف ذراع [1] و من عزم على الإقامة في البلد الذي يدخله عشرة أيام، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و يدل أيضا على صحة ما ذكرناه من حد السفر الذي يجب فيه القصر قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1) فعلق سقوط فرض الصيام بما يتناوله اسم السفر، و لا خلاف أن كل سفر أسقط فرض الصيام، فإنه موجب لقصر الصلاة، و إذا كان كذلك، و كان اسم السفر يتناول المسافة التي ذكرناها، وجب القصر على من قصدها، و لا يلزم على ذلك ما دونها لأنا إنما عدلنا عن ظاهر الآية فيه، للدليل و هو الإجماع، و ليس ذلك فيما ذهبوا إليه.

فأما من عدا من ذكرناه من المسافرين، فإن فرضه في كل رباعية من الصلوات الخمس ركعتان، فإن تمم عن علم بذلك و قصد إليه، لزمته الإعادة على كل حال، و إن كان إتمامه عن جهل أو سهو، أعاد إن كان الوقت باقيا بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فإن فرض السفر إذا كان ركعتين، فمن صلى أربعا لم يمتثل المأمور به، على الوجه الذي تعبد به، فلزمته الإعادة.

و ليس لأحد أن يقول هذا مخالف لظاهر قوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (2) لأن رفع الجناح يقتضي الإباحة لا الوجوب، لأن هذه الآية لا تتناول قصر الصلاة في عدد الركعات، و إنما تفيد التقصير في الأفعال من الإيماء و غيره، لأنه تعالى علق القصر فيها بالخوف،1.

ص: 74


1- - البقرة: 184.
2- - النساء: 101.

و لا خلاف أنه ليس بشرط في القصر من عدد الركعات، و إنما هو شرط فيما ذكرناه من التقصير في الأفعال.

و ينضاف إلى فرائض اليوم و الليلة من مفروض الصلاة ست صلوات:

صلاة العيدين إذا تكاملت شرائط وجوبها، و صلاة الكسوف و الآيات العظيمة كالزلزلة و الرياح السود، و ركعتا الطواف الواجب و صلاة النذر، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و صلاة القضاء للفائت، و صلاة الجنائز بلا خلاف.

و يعارض المخالف في صلاة الكسوف بما يرويه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إن الشمس و القمر لا تنكسفان لموت أحد، و لا لحياة أحد، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» (1) و ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب، و يدل أيضا على وجوب صلاة الطواف قوله تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (2) و أمره تعالى على الوجوب، و لا أحد قال بوجوب صلاة في المقام سوى ما ذكرناه.

و يدل أيضا على وجوب صلاة النذر قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) و نذر الصلاة عقد فيه طاعة لله، فوجب الوفاء به، و يعارض المخالف بما روى عنه صلى الله عليه و آله و سلم:

«من نذر أن يطيع الله فليطعه». (4)

و تعلق المخالف في نفي وجوب هذه الصلوات بما روى من قوله صلى الله عليه و آله و سلم2.

ص: 75


1- - صحيح مسلم: 3- 35، كتاب الكسوف باب ذكر النداء بصلاة الكسوف و سنن الدار قطني: 2- 65 برقم 11 و التاج الجامع: 1- 206 و سنن البيهقي: 3- 320 و 321 و 337 كتاب صلاة الخسوف باب الأمر بالفزع إلى ذكر الله و إلى الصلاة متى كسفت الشمس. و كنز العمال: 7- 821، برقم 21551 و 21554 و 21563 و 21569 و 21574 و.
2- - البقرة: 125.
3- - المائدة: 1.
4- - سنن البيهقي: 9- 231، كتاب الجزية باب لا يوفى من العهود. و: 9- 68 باب من نذر نذرا. و ص 75 كتاب النذور و كنز العمال: 16- 710 برقم 46462.

للأعرابي: «لا إلا أن تتطوع» (1)، حين سأله، و قد أخبره أن عليه في اليوم و الليلة خمس صلوات، فقال: هل علي غيرهن؟

الجواب عنه أنه خبر واحد، و قد بينا أنه لم يرد التعبد بالعمل به في الشرعيات، ثم هو معارض بما قدمناه، ثم إنا نقول بموجبه، لأنا ننفي وجوب صلاة في اليوم و الليلة زائدة على الخمس، لأن ذلك عبارة في الشريعة عن كل صلاة تفعل على جهة التكرار في كل يوم و ليلة، على أن الظاهر لو تناول ذلك لأخرجنا هذه الصلوات بالدليل، كما أخرجنا كلنا صلاة الجنائز.

و أما المسنون من الصلاة:

فنوافل اليوم و الليلة، و نوافل الجمعة، و نوافل شهر رمضان، و صلاة الغدير، و صلاة المبعث، و صلاة النصف من شعبان، و صلاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم [و صلاة الأعرابي] (2) و صلاة أمير المؤمنين عليه السلام، و صلاة أخيه جعفر رضي الله عنه [1]، و صلاة الزهراء عليها السلام، و صلاة الإحرام، و صلوات الزيارات، و صلاة الاستخارة، و صلاة الحاجة، و صلاة الشكر، و صلاة الاستسقاء، و صلاة تحية المسجد.

الفصل الثامن: في كيفية فعل الصلاة

كيفيتها على ضربين: أحدهما: كيفية صلاة الخمس، و الثاني كيفية ما عداها من باقي الصلوات، و كيفية صلوات الخمس على ضربين: أحدهما كيفية صلاة المختار، و الثاني كيفية صلاة المضطر، و كل واحد منهما على ضربين: مفرد و

ص: 76


1- - صحيح مسلم: 1- 31 باب الإسلام ما هو. و سنن البيهقي: 2- 467.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج» و حاشية الأصل.

جامع.

فأما كيفية صلاة المفرد المختار فعلى ضربين: واجب و ندب، فالواجب منها عليه: القيام، و استقبال القبلة، و النية، بلا خلاف، و تكبيرة الإحرام، و هي أن يقول المصلي: «الله أكبر» دون ما عدا ذلك من الألفاظ، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فإن الصلاة في ذمته بيقين، و لا يقين في سقوطها عن الذمة إلا بما ذكرناه.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، ثم يستقبل القبلة و يقول: الله أكبر (1) و يجب عليه إذا كبر قراءة الحمد و سورة معها كاملة على جهة التضييق (2) في الركعتين الأوليين من كل رباعية و من المغرب و في صلاة الغداة و السفر، فإن كان هناك عذر أجزأت الحمد وحدها.

و هو مخير في الركعتين الأخريين و ثالثة المغرب بين الحمد وحدها و بين عشر تسبيحات، و هي: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله، يقول ذلك ثلاث مرات، و يقول في الثالثة: و الله أكبر، يدل على وجوب القراءة في الجملة قوله تعالى:

فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (3) لأن الظاهر يقتضي عموم الأحوال التي من جملتها أحوال الصلاة، و يدل على وجوبها على الوجه الذي ذكرناه الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة.

و يعارض المخالف في وجوب قراءة فاتحة الكتاب، بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم للذي علمه كيف يصلي: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب، ثم اركع و ارفع رأسك حتى تطمئن قائما، و هكذا فاصنع في كل

ص: 77


1- - المبسوط للسرخسي: 1- 36 و نقله السيد المرتضى في الناصريات، المسألة 83، و فيه «حتى يضع الوضوء» لاحظ سلسلة الينابيع الفقهية: 3- 233.
2- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س»: على جهة التضيق.
3- - المزمل: 20.

ركعة (1)، و قوله: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب (2).

و لا يجوز القراءة بغير العربية، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا قوله تعالى إِنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (3)، و قوله:

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (4) و من عبر عن معنى القرآن بغير العربية فليس بقارئ على الحقيقة كما أن من عبر عن معنى شعر امرئ القيس [1] مثلا بغير العربية لم يكن منشدا لشعرة على الحقيقة، و أيضا فلا خلاف في أن القرآن معجز، و القول بأن العبارة عن معنى القرآن بغير العربية قرآن يبطل كونه معجزا، و ذلك خلاف الإجماع.

و يجب الجهر بجميع القراءة في أوليي المغرب، و العشاء الآخرة، و صلاة الغداة، بدليل الإجماع المشار إليه، و ببسم الله الرحمن الرحيم فقط في أوليي الظهر و العصر من الحمد و السورة التي تليها عند بعض أصحابنا (5) و عند بعضهم هو مسنون. و الأول أحوط، لأن من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك من لم يجهر بها، و يجب الإخفات فيما عدا ما ذكرناه، بدليل الإجماع المشار إليه.

و لا يجوز أن يقرأ في فريضة سورة فيها سجود واجب، و هن أربع: تنزيل السجدة، و حم السجدة، و النجم، و اقرأ باسم ربك، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط، و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا فإن في هذه السور سجودا واجبا،

ص: 78


1- - صحيح مسلم: 2- 9، و سنن البيهقي: 2- 38 باب تعيين القراءة بفاتحة الكتاب.
2- - سنن ابن ماجة: 1- 273 برقم 837 و عوالي اللئالي: 1- 196.
3- - يوسف: 2.
4- - الشعراء: 195.
5- - الحلبي: الكافي: 117.

فإن فعله بطلت الصلاة للزيادة فيها، و إن لم يفعله أخل بالواجب، و إن اقتصر على قراءة ما عدا موضع السجود من السورة، كان قد بعض، و ذلك عندنا لا يجوز على ما قدمناه.

و يجب الركوع و السجود الأول و الثاني في كل ركعة، و يجب الطمأنينة في ذلك كله، و رفع الرأس منه، و الطمأنينة بعد رفع الرأس قائما و جالسا، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط. و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا فلا خلاف أنه صلى الله عليه و آله و سلم كان يفعل ذلك و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: صلوا كما رأيتموني أصلي. (1)

و يعارض المخالف بما رووه من أمره صلى الله عليه و آله و سلم للمسي ء [في] صلاته بالطمأنينة في الركوع و السجود و في رفع الرأس منهما (2) و ظاهر الأمر في الشريعة يقتضي الوجوب.

و يجب التسبيح في الركوع و السجود، و أقل ما يجزي في كل واحد منهما من ذلك، تسبيحة واحدة، و لفظه الأفضل: «سبحان ربي العظيم و بحمده» في الركوع، و في السجود: «سبحان ربي الأعلى و بحمده»، و يجوز فيهما «سبحان الله» و يدل على وجوبه في الجملة الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و أيضا فكل آية في القرآن تقتضي بظاهرها الأمر بالتسبيح تدل على ذلك، لأن عموم الظاهر يقتضي دخول أحوال (3) الركوع و السجود فيه، و من أخرج ذلك منه احتاج إلى دليل، و يدل على استحباب اللفظ الذي ذكرناه، الإجماع المشار إليه.

و يعارض المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لما نزل:ى.

ص: 79


1- - صحيح البخاري: 1- 162، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر و سنن الدارمي: 1- 286 و سنن الدار قطني: 1- 273.
2- - لاحظ صحيح مسلم: 2- 11 كتاب الصلاة، ح 45 و صحيح البخاري: 1- 193 و 201 و ما بين المعقوفتين منا أثبتناه لتتميم العبارة.
3- - في «س»: يقتضي دخول احدى.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (1) اجعلوها في ركوعكم، و قوله لما نزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (2)، اجعلوها في سجودكم، و الأمر يحمل على الاستحباب بدليل.

و يجب أن يكون السجود على سبعة أعضاء: الجبهة و الكفين و الركبتين و أطراف أصابع الرجلين، للإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و يعارض المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، اليدين و الركبتين و أطراف القدمين و الجبهة (3)، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: صلوا كما رأيتموني أصلي (4)، و يجب الجلوس للتشهدين- و الشهادتان فيهما و الصلاة على محمد و آله و سلم- بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط.

و يعارض المخالف بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: صلوا كما رأيتموني أصلي (5) و لا خلاف أنه كان يفعل ذلك في الصلاة، و يختص الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (6)، و الأمر الشرعي يقتضي الوجوب، إلا ما أخرجه دليل قاطع، و قد بين صلى الله عليه و آله و سلم كيفية الصلاة عليه حين سئل عن ذلك، فقال:

قولوا: اللهم صل على محمد و آل محمد، فثبت ما قلناه.

ص: 80


1- - الواقعة: 96.
2- - الأعلى: 1.
3- - سنن البيهقي: 2- 103 باب ما جاء في السجود. و الجامع الصغير: 1- 250 برقم 1637 و كنز العمال: 7- 458 برقم 19770 و 19799 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 292 و 305 و لفظ الحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم.
4- - صحيح البخاري: 1- 162، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر و سنن الدار قطني: 1- 273، و سنن الدارمي: 1- 286 و سنن البيهقي: 2- 345.
5- - صحيح البخاري: 1- 162، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر و سنن الدار قطني: 1- 273، و سنن الدارمي: 1- 286 و سنن البيهقي: 2- 345.
6- - الأحزاب: 56.

و يجب السلام، على خلاف بين أصحابنا في ذلك (1) و يدل على ما اخترناه أنه لا خلاف في وجوب الخروج من الصلاة، و إذا ثبت ذلك و لم يجز بلا خلاف بين أصحابنا الخروج منها بغير السلام من الأفعال المنافية لها، كالحدث و غيره على ما يقول أبو حنيفة، ثبت وجوب السلام.

و يعارض المخالف من غير أصحابنا بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: صلوا كما رأيتموني أصلي (2) و قوله: مفتاح الصلاة الطهور، و تحريمها التكبير، و تحليلها التسليم (3)، لأنه يدل على أن غير التسليم لا يكون تحليلا لها.

و يسلم المفرد تسليمة واحدة إلى جهة القبلة، و يومئ بها إلى جهة اليمين، و كذلك الإمام، و المأموم كذلك إلا أن يكون على يساره غيره، فإنه حينئذ يسلم يمينا و شمالا، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و يعارض المخالف بما روته عائشة من أنه صلى الله عليه و آله و سلم كان يسلم في صلاته تسليمة واحدة يميل بها إلى شقه الأيمن قليلا، و بما رواه سهل بن سعد الساعدي [1] من أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها، ذكر هذين الخبرين الدار قطني [2].

و يجب أن لا يضع المصلي اليمين على الشمال و لا يقول: «آمين» آخر الحمد، بدليل الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط، و اليقين ببراءة الذمة من الصلاة، و لأن ذلك عمل كثير خارج عن الأعمال المشروعة في الصلاة، من القراءة، و الركوع، و السجود، و التسبيح، و الدعاء، و ما كان كذلك لم يجز فعله.9.

ص: 81


1- - لاحظ جواهر الكلام: 10- 278.
2- - تقدم مصدر الحديث آنفا.
3- - سنن الدار قطني: 1- 379 برقم 1، و الجامع الصغير برقم 8193 و سنن البيهقي: 2- 85 و 379.

و ما يعول المخالف عليه في كون ذلك مشروعا، لا يصح أن يكون دليلا في الشرع، و قولهم: لفظة «آمين» و إن لم يكن دعاء و لا تسبيحا و لا من جملة القرآن، فهي تأمين على دعاء تقدم عليها، و هو قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (1) لا يصح الاعتماد عليه، لأن اللفظ إنما يكون دعاء بالقصد إلى ذلك، و القارئ إنما يقصد التلاوة دون الدعاء، و لو قصد الدعاء دون التلاوة، لم يكن قارئا للقرآن، و لم تصح صلاته، و هو إن جاز أن يقصد التلاوة و الدعاء معا، جائز منه ألا يقصد الدعاء، و إذا لم يقصده لم يجز أن يقول «آمين»، و المخالف يقول: إنها مسنونة لكل مصل من غير أن يعتبر قصده للدعاء، و إذا ثبت أن قولها لا يجوز لمن لم يقصده، ثبت أنه لا يجوز لمن قصده، لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين.

و يجب عليه ألا يفعل على جهة العمل فعلا كثيرا، ليس من أفعال الصلاة المشروعة، و قد دخل في ذلك القهقهة، و البكاء من غير خشية الله، و الكلام بما ليس من جنس أذكارها، سواء كان لمصلحة تتعلق بالصلاة، كإعلام الإمام بسهوه، أو تتعلق بغيرها كتحذيره الضرر لغيره، و قد دخل في ذلك التأفف بحرفين، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يجب الاستدامة على ما هو شرط في صحة الصلاة، كالطهارة، و ستر العورة، و غيرهما، و قد دخل في ذلك ترك الالتفات إلى دبر القبلة، و يجب عليه أن يجتنب الصلاة و أمامه أو إلى جانبه امرأة تصلي، سواء اشتركا في الصلاة، أو اختلفا فيها، بدليل الإجماع المتقدم ذكره و طريقة الاحتياط.

و أما الندب فالتوجه، و هو [1] أن يكبر بعد الإقامة ثلاث تكبيرات، يرفع مع كل واحدة منها يديه و يقول بعدهن:6.

ص: 82


1- - الفاتحة: 6.

اللهم أنت الملك الحق [المبين] (1) لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي ففزعت إليك تائبا مما جنيت فصل على محمد و آله و سلم و اغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يا أهل التقوى و أهل المغفرة. ثم يكبر تكبيرتين و يقول:

لبيك و سعديك و الخير كله لديك و الشر ليس بمنسوب إليك أو من بك و أتوكل عليك و أومن برسولك و ما جاء به من عندك فصل على محمد و آله و سلم و زك عملي بطولك و تقبل مني بفضلك.

ثم يكبر تكبيرة واحدة ينوي بعدها الدخول في الصلاة، و أن يقول بعد تكبيرة الإحرام:

وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً مسلما على ملة إبراهيم و دين محمد و ولاية أمير المؤمنين علي و الأئمة من ذريتهما وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ و أنا من المسلمين.

و تكبير الركوع و السجود، و رفع اليدين مع كل تكبيرة، و تكبيرة القنوت.

و القنوت و موضعه (2) بعد القراءة من الثانية في كل صلاة، و أفضله كلمات الفرج، و هي:

لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السموات السبع و رب الأرضين السبع و ما فيهن و ما بينهن و رب العرش العظيم و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.

و أن يزيد على التسبيحة الواحدة في الركوع و السجود إلى الثلاث و إلى الخمس و إلى السبع، و أن يدعو في الركوع فيقول:ه.

ص: 83


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «س».
2- - في «س»: و القنوت موضعه.

اللهم لك ركعت و لك خشعت و لك خضعت و لك أسلمت و بك آمنت خشع لك لحمي و دمي و عظمي و شعري و بشري و ما الأرض مني. و أن يقول عند رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده، و عند استوائه قائما: الحمد لله رب العالمين أهل الكبرياء و العظمة و الجود و الجبروت، و أن يدعو في السجود فيقول:

اللهم لك سجدت و لك خشعت و بك آمنت و لك أسلمت و عليك توكلت، سجد وجهي البالي الفاني لوجهك الدائم الباقي سجد وجهي للذي خلقه و برأه و صوره و شق سمعه و بصره تبارك الله أحسن الخالقين.

و الإرغام بالأنف في السجود، و أن يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي و ارحمني و اجبرني و اهدني و عافني و اعف عني إني لما أنزلت إلي من خير فقير، و أن يقول بعد السجدة الثانية حين ينهض: بحول الله و قوته أقوم و أقعد، و أن يقول في التشهد الأول:

بسم الله و بالله و الأسماء الحسنى كلها لله ما طاب و طهر و زكى و نمى و خلص فهو لله و ما خبث فلغير الله.

و أن يقول بعد الشهادتين: أرسله بالهدي و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون.

و أن يقول في التشهد الثاني: التحيات لله و الصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الناميات المباركات الغاديات الرائحات، لله ما طاب و طهر و زكى و نمى و خلص، و ما خبث فلغير الله.

و أن يقول بعد الشهادتين: أرسله بالحق بشيرا و نذيرا بين يدي الساعة داعيا إليه بإذنه و سراجا منيرا، و بعد الصلاة على محمد و آله: اللهم صل على ملائكتك المقربين و على أنبيائك المرسلين و على أهل طاعتك أجمعين،

ص: 84

و اخصص اللهم محمدا و آله بأفضل الصلاة و التسليم، السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته السلام علينا و على عباد الله الصالحين اللهم صل على محمد و آله المصطفين.

و أن يكون نظره في حال قيامه إلى موضع سجوده، و في حال الركوع إلى بين قدميه، و في حال سجوده إلى طرف أنفه، و في حال جلوسه إلى حجره، و أن يجعل يديه في حال قيامه على فخذيه محاذية لعيني ركبتيه، و في حال ركوعه على عيني ركبتيه، و في حال السجود، بحذاء الأذنين، و في جلوسه على الفخذين.

و أن يلقى الأرض عند الانحطاط إلى السجود بيديه قبل ركبتيه، و أن يعتمد عليهما عند القيام، و أن يسوي ظهره، و يمد عنقه في حال الركوع، و أن يكون متعلقا في حال السجود، يجافي بعض أعضائه عن بعض، و أن يرد رجله اليمنى إلى خلفه إذا جلس، و لا يقعي بين السجدتين، و أن يجلس في حال التشهد متوركا على وركه الأيسر، مع ضم فخذيه، و وضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى.

و أن لا يصلي و يداه داخل ثيابه، و لا يفرقع أصابعهما، و لا يتثاءب، و لا يتنخع، و لا ينفخ موضع سجوده، و لا يتأوه بحرف، و لا يدافع الأخبثين.

و أن لا يكون في قبلته سلاح مشهور، أو قرطاس مكتوب، أو نجاسة ظاهرة، و أن لا يكون معه سيف، أو سكين، أو شي ء فيه صورة، و لا يصلي في لباس أو مكان ذكرنا أن الصلاة تكره ففيه.

و أن يعقب فيكبر بعد التسليم ثلاث مرات، يرفع بها يديه، و يقول: لا إله إلا الله وحده وحده وحده صدق وعده و نصر عبده و أعز جنده و غلب الأحزاب وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت و يميت و يحيي و هو حي لا يموت بيده الخير و هو على كل شي ء قدير يولج الليل في النهار. الآية (1)3.

ص: 85


1- - فاطر: 13.

و يسبح تسبيح الزهراء عليها السلام و يدعو بما أراد، و أن يعفر بعد التعقيب بأن يطرح نفسه على الأرض، و يضع جبهته موضع سجوده و يقول:

اللهم إليك توجهت و إليك قصدت و بفنائك حللت و بمحمد و آله تقربت و بهم استشفعت و بهم توسلت فصل عليهم أجمعين و عجل فرجهم و اجعل فرجنا مقرونا بفرجهم.

ثم يضع خده الأيمن موضع جبهته و يقول:

اللهم ارحم ذلي بين يديك و تضرعي إليك و وحشتي من الناس و أنسي بك يا كريم يا كريم يا كريم.

ثم يضع خده الأيسر موضع الأيمن و يقول:

لا إله إلا الله حقا حقا لا إله إلا الله تعبدا و رقا لا إله إلا الله إيمانا و صدقا اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي يا كريم يا كريم يا كريم.

ثم يضع جبهته موضع سجوده و يقول:

شكرا شكرا مائة مرة أو ما تيسر له، ثم يرفع رأسه و يمسح موضع سجوده بيده اليمنى، و يمسح بها وجهه و صدره.

و صلاة المرأة كصلاة الرجل، و لا تخالفه إلا بما نذكره و هي: أنها يستحب لها أن تضع يديها في حال القيام على ثدييها، و في حال الركوع على فخذيها. و لا تطأطئ، و تجلس من غير أن تنحني، و تسجد منضمة و تجلس بين السجدتين و للتشهدين منضمة ناصبة ركبتيها واضعة قدميها على الأرض.

و إذا أرادت القيام وضعت يديها على جنبيها، و نهضت حالة واحدة كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فما ذكرناه من دعاء، و تسبيح و تعقيب، و تعفير، يدل عليه ظواهر الآيات المتضمنة للأمر بفعل الخير بالدعاء و التسبيح

ص: 86

و الذكر لله تعالى و الثناء عليه، و يخص القنوت قوله تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (1) و المفهوم من لفظة «قنوت» في الشرع هو الدعاء، فوجب حمل الآية عليه، دون ما يحتمله في اللغة، من طول القيام و غيره.

الفصل التاسع: في صلاة الجماعة

اشارة

الاجتماع في فرائض اليوم و الليلة عدا فريضة الجمعة سنة مؤكدة، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالأصل براءة الذمة، و شغلها بإيجاب الاجتماع للصلاة، يحتاج إلى دليل، و يعارض المخالف في ذلك بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (2) بسبع و عشرين درجة (3) و المفاضلة لا تكون إلا فيما اشترك فيه الشيئان، و زاد أحدهما على الآخر فيه، فلو كانت صلاة الفذ (4) غير مجزئة، لم يصح المفاضلة بينها و بين صلاة الجماعة.

و من شرط انعقاد الصلاة جماعة:

الأذان و الإقامة.

و أن يكون الإمام عاقلا مؤمنا بلا خلاف، عدلا بدليل الإجماع الماضي و طريقة الاحتياط، [و اليقين بالبراءة] (5) و قوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ (6) لأن الاقتداء بالفاسق ركون إليه، لا سيما و قد ورد من طرق المخالف قوله صلى الله عليه و آله و سلم: الإمام ضامن «7» و أيضا فالفضل معتبر في باب الإمامة، على ما

ص: 87


1- - البقرة: 238.
2- - في «ج» و «س»: «الفرد» و كلاهما بمعنى الواحد.
3- - صحيح البخاري: 1- 166، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة.
4- - في «ج» و «س»: «الفرد» و كلاهما بمعنى الواحد.
5- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
6- - هود: 113.

دل عليه سياق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: يؤمكم أقرؤكم (1) إلى آخر الخبر، و إذا ثبت ذلك و كان الفسق نقصا عظيما في الدين، لم يجز تقديم الفاسق على العدل التقي.

و أن يكون طاهر الولادة بمثل ما قدمناه، لأن ولد الزنا عندنا مقطوع على عدم عدالته في الباطن، و إن أظهر خلاف ذلك.

و لا يصح الائتمام بالأبرص و المجذوم و المحدود و الزمن و الخصي و المرأة إلا بمن كان مثلهم، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يكره الائتمام بالأعمى و العبد و من يلزمه التقصير، و من يلزمه الإتمام و المتيمم إلا بمن كان مثلهم، و إذا حضر جماعة لهم الصفات التي ذكرناها للإمامة، فالأولى بالتقديم رب القبيلة، أو المسجد، أو البيت، فإن لم يكن فأقرؤهم، فإن استووا فأفقههم، فإن استووا فالهاشمي، فإن استووا فأكبرهم سنا، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و أقل ما ينعقد به الجماعة فيما عدا يوم الجمعة اثنان، يقف المؤتم منهما عن يمين الإمام، و يلزم المؤتم أن يقتدي بالإمام عزما (2) و فعلا، و لا يقرأ في الأوليين من كل صلاة، و لا في الغداة، إلا أن يكون في صلاة جهر و هو لا يسمع قراءة الإمام، فأما الأخريان و ثالثة المغرب فحكمه فيها حكم المنفرد.

و يستحب أن يقدم في الصف الأول الخواص من ذوي الأحلام و النهي، و بعدهم العوام و الأعراب، و بعدهم العبيد، و بعدهم الصبيان، و بعدهم النساء، و لا يجوز أن يكون بين الإمام و المأمومين و لا بين الصفين ما (3) لا يتخطى مثله،ا.

ص: 88


1- - الوسائل: 5- 419، ب 28 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و سنن البيهقي: 3- 90، 91 كتاب الصلاة باب اجعلوا أئمتكم خياركم و.
2- - في «س»: «عرفا».
3- - في «س»: بما.

من مسافة، أو بناء أو نهر، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و من دخل المسجد و لم يجد مقاما له في الصفوف، أجزأه أن يقوم وحده، محاذيا لمقام الإمام، و انعقدت صلاته، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يعارض المخالف بما روى من طرقهم عن أبي بكر (1): أنه دخل المسجد و هو يلهث، فوجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم راكعا، فركع خلف الصف، ثم دخل في الصف، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: من أحرم خلف الصف؟ فقال: أنا، فقال: زادك الله حرصا و لا تعد. (2) و لو لم يكن صلاته انعقدت، لأمره بإعادتها.

و نهيه عن العود يحتمل أن يكون عن العود إلى تأخر عن الصلاة، أو عن دخول المسجد و هو يلهث، لأن المصلي مأمور بأن يأتي الصلاة و عليه السكينة و الوقار.

و من أدرك الإمام راكعا فقد أدرك الركعة بلا خلاف، فإن سبقه بركعته جعل ثانية الإمام له أولة، و إذا جلس الإمام للتشهد، جلس هو مستوفزا [1] و لم يتشهد، فإذا نهض الإمام إلى الثالثة، نهض معه إليها، و هي له ثانية، فقرأ لنفسه الحمد و سورة، فإذا ركع الإمام ركع بركوعه و سجد بسجوده، فإذا نهض الإمام إلى الرابعة جلس هو فتشهد تشهدا خفيفا، و لحق الإمام قائما، فركع بركوعه و سجد بسجوده، فإذا جلس الإمام للتشهد الأخير، فليجلس هو مستوفزا و لا يتشهد، فإذا سلم الإمام، نهض هو فتمم الصلاة.

و إن سبق بركعتين فآخرتا الإمام له أولتان، يقرأ فيهما لنفسه كالمنفرد، و يتبع الإمام فيما يفعله إلى أن يسلم، فإذا سلم، نهض هو، فتمم باقي الصلاة، و كذلك حكم من سبق بثلاث ركعات. و يدل على أن ما أدركه المسبوق أول صلاته الإجماع الماضي ذكره.6.

ص: 89


1- - في المصدر: عن أبي بكرة.
2- - سنن البيهقي: 2- 90 و: 3- 106.

و يعارض من قال: إن ذلك آخر صلاته، و يقضي ما فاته من أولها، بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها و أنتم تسعون ائتوها و أنتم تمشون، و عليكم السكينة و الوقار، فما أدركتم فصلوا، و ما فاتكم فأتموا (1)، و حقيقة الإتمام في إكمال ما تلبس به، و القول بأن ذلك قضاء لما فات ترك لظاهر الخبر.

الفصل العاشر

و أما الاجتماع في صلاة الجمعة فواجب بلا خلاف، إلا أن وجوبه يقف على شروط، و هي: الذكورة، و الحرية، و البلوغ، و كمال العقل، و زوال السفر و المرض و العمى و العرج، و الكبر الذي يمنع من الحركة، و تخلية السرب، و حضور الإمام العادل أو من نصبه و جرى مجراه، و حضور ستة نفر معه، و التمكن من الخطبتين، و أن يكون بين مكان الجمعة و بين المكلف بها فرسخان فما دونهما، و يسقط فرض حضورها عمن عدا من ذكرناه، فإن حضرها و كان مكلفا، لزمه الدخول فيها جمعة و أجزأته عن الظهر، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و لا يجوز انعقاد الجمعة في موضعين بينهما من المسافة دون ثلاثة أميال، و يجوز انعقادها بحضور أربعة نفر مع الإمام، و تنعقد بحضور من لم يلزمه من المكلفين إلا النساء [1] بدليل الإجماع المشار إليه.

و يستحب الغسل في يوم الجمعة كما قدمناه، و قص الشارب و الأظفار، و التجمل باللباس، و مس شي ء من الطيب، و يستحب للإمام التحنك و الارتداء و تقديم دخول المسجد، ليقتدي به الناس، فإذا زالت الشمس و أذن

ص: 90


1- - صحيح البخاري: 1- 163- 164، كتاب الصلاة، باب لا يسعى إلى الصلاة.

المؤذنون، صعد المنبر، فخطب خطبتين مقصورتين على حمد الله سبحانه و الثناء عليه، و الصلاة على محمد و آله، و الوعظ و الزجر، يفصل بينهما بجلسة، و يقرأ سورة خفيفة من القرآن.

و ينبغي للمأمومين الإنصات إلى الخطبة، و ترك الكلام بما لا يجوز مثله في الصلاة، فإذا فرغ من الخطبة، أقيمت الصلاة، و نزل فصلى بالناس ركعتين، يقرأ في الأولى منهما الحمد و سورة الجمعة، و في الثانية الحمد و سورة المنافقين، و يستحب أن يصلي بهم العصر عقيب الجمعة بإقامة من غير أذان.

و لا يجوز السفر إذا زالت الشمس، و تكاملت شروط وجوب الجمعة حتى يصلي، و يكره السفر من بعد طلوع الفجر إلى الزوال، و إذا فاتت الجمعة بأن يمضي من الزوال مقدار الأذان و الخطبة و صلاة الجمعة لم يجز قضاؤها، و وجب أن يؤدي ظهرا، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره. (1)

الفصل الحادي عشر: في كيفية صلاة المضطر

المضطر إلى ترك الشي ء مما بينا أنه يجب في كيفية صلاة المختار تختلف كيفية صلاته على حسب اختلاف حاله في الضرورات، و هو مكلف بأدائها في آخر الوقت، على أي صفة تمكن منها، فالمريض الذي لا يقدر على القيام إلا بأن يعتمد على حائط أو عصا يلزمه القيام كذلك، فإن لم يقدر عليه على هذه الصفة صلى جالسا، فإن لم يتمكن من ذلك، صلى مضطجعا على جنبه الأيمن، فإن لم يتمكن صلى مستلقيا على ظهره، و أقام تغميض عينيه مقام ركوعه و سجوده، و فتحهما مقام رفع الرأس منهما.

و المضطر إلى الركوب يصلي راكبا و يومئ بالركوع، و يسجد على ما تمكن،

ص: 91


1- - في «ج»: بدليل الإجماع المذكور الماضي ذكره.

و كذلك المضطر إلى المشي، يصلي ماشيا و يومئ بالركوع و السجود، و يتوجهان إلى القبلة إن تمكنا، و إلا بتكبيرة الإحرام.

و الراكب في السفينة يصلي قائما إن تمكن، و إلا جالسا، و يتوجه إلى القبلة في جميع الصلاة، فإن كانت السفينة دائرة توجه إلى القبلة، و دار إليها مع دور السفينة، فإن لم يتمكن أجزأه أن يستقبلها بتكبيرة الإحرام فإن لم يعرف القبلة توجه إلى صدر السفينة و صلى حيث توجهت، و كذا السابح و الغريق و الموتحل [1] و المقيد و المربوط، يصلون على حسب استطاعتهم و يومون بالركوع و السجود.

و العريان إن كان بحيث يراه أحد، صلى جالسا يومئ بالركوع و السجود، و إن كان بحيث لا يراه أحد، صلى قائما و ركع و سجد، فإن كان العراة جماعة صلوا جلوسا، إمامهم في وسطهم، لا يتقدمهم إلا بركبتيه.

و الخائف من العدو يصلي أيضا على حسب استطاعته، و الخوف بانفراده موجب لقصر الصلاة، سواء كان الخائف حاضرا أو مسافرا، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و كيفية صلاة الخوف جماعة: أن يفرق الإمام أصحابه فرقتين: فرقة يجعلها بإزاء العدو، و يصلي بالأخرى ركعة، فإذا نهض إلى الثانية صلوا لأنفسهم الأخرى، و هو قائم مطول للقراءة، فإذا سلموا انصرفوا (1) فقاموا مقام أصحابهم، و جاءت الفرقة الأخرى فلحقوا الإمام قائما في الثانية فاستفتحوا الصلاة، و ركعوا بركوعه، و سجدوا بسجوده، فإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا الركعة الأخرى، و ثبت جالسا حتى يلحقوه، فإذا جلسوا معه، سلم بهم، و انصرفوا بتسليمة، و الدليل على صحة هذا الترتيب الإجماع المشار إليه و أيضا قوله تعالى:ا.

ص: 92


1- - في «ج»: فإذا سلموا تفرقوا.

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ (1) الآية، لأن ظاهرها يقتضي أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام جميع صلاتها، و على مذهب أبي حنيفة المخالف فيما ذكرناه يصلي معه النصف، فقد خالف الظاهر، و لأنه تعالى قال فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ (2)، فظاهر هذا يقتضي أن يكون المراد سجود الطائفة الأولى في الركعة الثانية، لأنه أضاف السجود إليهم.

و الصلاة التي يشترك فيها الإمام و المأموم تضاف إلى الإمام أو إلى الإمام و المأموم، و لا تضاف إلى المأموم وحده لأنه تابع، و يشهد بصحة ما قلناه، أن فيه تسوية بين الفرقتين من وجهين: أحدهما أن الإمام يحرم بالفرقة الأولى و يسلم بالثانية، فيحصل للأولى فضيلة الإحرام، و للثانية فضيلة التحليل، و على قول المخالف يحرم بالأولى و لا يسلم بالثانية.

و الوجه الثاني أن الفرقة الأولى حين صلت مع الإمام، حرستها الثانية و ليست في الصلاة، و على قولنا: تحرس الأولى أيضا و ليست في الصلاة للثانية و هي في الصلاة فتساوتا في حال الحراسة.

و على قول المخالف تنصرف الأولى فتقف في وجه العدو، و لا تنقطع بذلك صلاتهم، فتقع حراستهم و هم في الصلاة، و يشهد بفساد قول المخالف أن الصلاة التي ذهب إليها تشتمل على أمور يبطل بمثلها الصلاة، من المشي الكثير، و استدبار القبلة، و الانتظار الكثير، و قد روي من طرق المخالف أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم صلى صلاة الخوف على الترتيب الذي ذكرناه (3) و ذلك مما يحتج عليهم.

فإن كانت الصلاة المغرب صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة إن شاء أو ركعتين، و بالثانية ما بقي، فإن خافوا العدو بالانقسام، صلوا على ظهور خيلهم9.

ص: 93


1- - النساء: 102.
2- - النساء: 102.
3- - لاحظ سنن البيهقي: 3- 261 و سنن الدار قطني: 2- 59.

في مصافهم، متوجهين إلى القبلة في جميع الصلاة إن أمكن، و إلا بتكبيرة الإحرام، و يومون بالركوع و يسجدون على قرابيس سروجهم، و إن كانت الحال حال طراد و مسايفة عقد كل واحد منهم الصلاة بالنية و تكبيرة الإحرام، و قال مكان كل ركعة: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و يتشهد و يسلم، كل ذلك بدليل الإجماع المقدم ذكره.

الفصل الثاني عشر

و نذكر الآن كيفية ما عدا فرائض اليوم و الليلة من الصلاة المفروضة.

الفصل الثالث عشر: في كيفية صلاة العيدين و ما يتعلق بها

صلاة العيدين واجبة عندنا بشروط و هي شروط الجمعة سواء، بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، لأن من صلاها برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك من لم يصلها، و هي ركعتان بلا خلاف باثنتي عشرة تكبيرة: سبع في الأولى و خمس في الثانية منها (1) تكبيرة الإحرام و تكبيرة القيام و تكبيرتا الركوع (2) في رواية، و في رواية أخرى أنه يقوم إلى الثانية منها بغير تكبير، و يعارض المخالف في عدد التكبيرات بما روى من طرقهم أن النبي صلى الله عليه و آله كبر في الأولى سبعا و في الثانية خمسا (3) و يقنت بين كل تكبيرتين بما نذكره، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و من السنة أن يصحر بها، و يخرج الإمام و المأمومون مشاة، و أن يقف

ص: 94


1- - في «س»: و منها.
2- - في «س»: و تكبيرة الركوع.
3- - سنن البيهقي: 3- 285 باب التكبير في صلاة العيدين.

الإمام كلما مشى قليلا و يكبر، حتى يبلغ المصلى فيجلس حتى تنبسط الشمس و ذلك أول وقتها، ثم يقوم و الناس معه بغير أذان و لا إقامة بلا خلاف ممن يعتد به، بل يقول المؤذنون: الصلاة، ثلاث مرات، ثم يدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام، و يقرأ الحمد و الشمس و ضحيها، فإذا فرغ من القراءة كبر و قنت فقال:

اللهم أهل الكبرياء و العظمة و أهل العزة و الجبروت و أهل القدرة و الملكوت و أهل الجود و الرحمة و أهل العفو و العافية أسألك بهذا اليوم الذي عظمته و شرفته و كرمته و جعلته للمسلمين عيدا و لمحمد صلى الله عليه و آله كرامة و ذخرا و مزيدا أن تصلي على محمد و آله و تغفر لنا و للمؤمنين و المؤمنات و تجعل لنا من كل خير قسمت فيه حظا و نصيبا برحمتك يا أرحم الراحمين.

ثم يكبر و يقول مثل ذلك، حتى تكمل ست تكبيرات بعد القراءة يركع بالسادسة، فإذا نهض إلى الركعة الثانية و استوى قائما كبر و قرأ الحمد، و هل أتاك حديث الغاشية (1) ثم يكبر بعد القراءة أربعا، يقنت بين كل تكبيرتين منها بما ذكرناه، و يركع بالرابعة، و على الرواية الأخرى (2) يقوم بغير تكبير و يكبر بعد القراءة خمسا يركع بالخامسة، و يحتج على المخالف بأنه لا خلاف أن من صلى على الترتيب الذي ذكرناه أجزأه ذلك إذا أداه اجتهاده إليه، و لا دليل على إجزاء ما خالفه، فكان الاحتياط فيما قلناه.

فإذا فرغ من الصلاة صعد المنبر فخطب بالناس، و الخطبة بعد الصلاة، بلا خلاف ممن يعتد به، و المكلف مخير بين سماع الخطبة و الانصراف، و السماع أفضل، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يستحب فعلها لمن لم يتكامل له شرائط وجوبها، و لا يجب قضاؤها إذا فاتت، و لا يفوت حتى تزول الشمس.د.

ص: 95


1- - الغاشية: 1.
2- - لاحظ الوسائل: 5- 105، ب 10 من أبواب صلاة العيد.

و لا يجوز التطوع بالصلاة للإمام و لا المأموم قبل صلاة العيد و لا بعدها، حتى تزول الشمس، إلا في مسجد النبي صلى الله عليه و آله فإن المكلف مرغب في صلاة ركعتين فيه، و لا يجوز انعقاد صلاة العيد في موضعين بينهما دون ثلاثة أميال، كما قلناه في الجمعة، و لا يجوز السفر في يوم العيد قبل صلاته الواجبة، و يكره قبل المسنونة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا اجتمع عيد و جمعة وجب حضورهما على من تكاملت له شرائط تكليفهما، و قد روي: أنه إذا حضر العيد كان مخيرا في (1) حضور الجمعة (2)، و ظاهر القرآن و طريقة الاحتياط يقتضيان ما قدمناه.

و يستحب أن يكبر ليلة الفطر عقيب أربع صلوات أولاهن المغرب، و يوم الأضحى عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى، و لمن كان بغيرها من الأمصار كبر عقيب عشر صلوات، و أول الصلوات الظهر من يوم العيد، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الرابع عشر: في كيفية صلاة الكسوف و الآيات العظيمة و ما يتعلق بها

هذه الصلاة عشر ركعات بأربع سجدات، يركع بعد القراءة، فإذا رفع رأسه من الركوع قرأ، فإذا فرغ ركع، هكذا حتى يكمل خمس ركعات، و لا يقول:

سمع الله لمن حمده إلا في رفع رأسه من الركعة الخامسة، ثم يسجد سجدتين، و ينهض فيصنع كما صنع أولا، و لا يقول: سمع الله لمن حمده إلا في رفع رأسه من الركعة العاشرة، ثم يسجد سجدتين و يتشهد و يسلم. و الدليل على ما ذكرناه الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالاحتياط يقتضي ما ذكرناه، لمثل ما قلناه في كيفية

ص: 96


1- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س»: كان مخيرا بين.
2- - لاحظ الوائل: 5 ب 15 من أبواب صلاة العيد.

صلاة العيد.

و يعارض المخالف بما رواه أبي بن كعب [1] قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله فصلى بنا، و قرأ سورة من الطوال، و ركع خمس ركعات، و سجد سجدتين، ثم قام فقرأ سورة من الطوال، و ركع خمس ركعات، و سجد سجدتين، و جلس صلى الله عليه و آله كما هو مستقبل القبلة، يدعو حتى تجلى القرص. (1)

و يستحب أن يصلي جماعة، و أن يجهر بالقراءة فيها، و أن يقرأ بالسور الطوال، و أن يكبر كلما رفع رأسه من الركوع، و أن يقنت في كل ركعتين، و أن يجعل زمان ركوعه بمقدار زمان قيامه، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و من تركها حتى تجلى القرص وجب عليه قضاؤها، فإن كان متعمدا فهو مأزور (2) و يلزمه مع القضاء التوبة و الاستغفار، و إن كان مع التعمد و قد احترق القرص كله، استحب له مع ذلك الغسل، كما قدمناه، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الخامس عشر: في كيفية صلاة الطواف و ما يتعلق بها

من طاف بالبيت وجب عليه بعد فراغه ركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام، و يستحب له أن يقرأ في الأولى مع الحمد سورة الإخلاص، و في الثانية قل يا أيها الكافرون، فإن نسي صلاتهما عند المقام كان عليه صلاتهما عنده، فإن لم يذكر حتى خرج، رجع فصلاهما عنده، فإن لم يتمكن صلاهما بحيث هو (3) و ذلك كله بدليل الإجماع المشار إليه.

ص: 97


1- - جامع الأصول: 7- 125 برقم 4278.
2- - من الوزر و هو الإثم.
3- - في «س»: حيث هو.

الفصل السادس عشر: في كيفية صلاة النذر و ما يتعلق بها

يجب من ذلك ما يشرطه المكلف على نفسه من صفة الصلاة، و من فعلها في الزمان، أو المكان المخصوص إن شرطه، فإن فعلها على خلاف ما شرطه لزمته الإعادة.

و إن كان ما علقها به من الزمان لا مثل له، كيوم معلوم من شهر مخصوص، فخرج و لم يؤدها مختارا لزمه عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوما، فإن لم يقدر فعليه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن لم يتمكن تصدق بما قدر عليه، فإن فوتها مضطرا فلا كفارة عليه، و القضاء لازم له، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل السابع عشر: في صلاة القضاء

القضاء عبارة عن فعل مثل الفائت بخروج وقته، و لا يتبع في وجوبه وجوب الأداء، و لهذا وجب أداء الجمعة و لم يجب قضاؤها، و وجب قضاء الصوم على الحائض و لم يجب عليها أداؤه، على ما قدمناه في أصول الفقه، و يجب فعله في حال الذكر له، إلا أن يكون ذلك آخر وقت فريضة حاضرة يخاف فوتها بفعله، بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط.

و يعارض المخالف بما روى من قوله صلى الله عليه و آله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها (1) و من صلى الأداء قبل تضيق وقته و هو ذاكر

ص: 98


1- - سنن الدارمي: 1- 280 و سنن البيهقي: 2- 218 و 219 و مسند أحمد بن حنبل: 3- 100 و 243 و 269 باختلاف يسير.

للفائت لم يجز، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا ففرض القضاء مضيق لا بدل له، و فرض الأداء موسع، له بدل هو العزم، على ما بيناه في أصول الفقه، و إذا كان كذلك لم يجز الاشتغال بالواجب الموسع و ترك الواجب المضيق، و يعارض المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله: لا صلاة لمن عليه صلاة. [1]

و من صلى الأداء قبل تضيق وقته، و هو غير ذاكر للفائت، لم يخل إما أن يذكره و هو في الصلاة، أو بعد خروجه منها، فإن ذكره و هو في الصلاة، لزمه نقل النية إليه إن أمكن ذلك، فإن لم يفعل لم يجز الأداء، و إن لم يذكره حتى خرج من الصلاة أجزأه، و ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و من فاتته صلاة من الخمس غير معلومة له بعينها، لزمه أن يصلي الخمس بأسرها، و أن ينوي بكل صلاة منها قضاء الفائت، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و من فاته من الصلاة ما لم يعلم كميته، لزمه أن يقضي صلاة يوم بعد يوم، حتى يغلب على ظنه الوفاء.

و من أغمي عليه قبل دخول وقت الصلاة لا لسبب أدخله على نفسه بمعصية (1) إذا لم يفق حتى خرج وقت الصلاة، لم يجب قضاؤها، بدليل الإجماع المشار إليه.

و المرتد يجب عليه إذا عاد إلى الإسلام قضاء ما فاته في حال ردته، و قبل أن يرتد، من الصلاة و غيرها من العبادات، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فقد دللنا فيما مضى على أن الكفار مخاطبون بالشرائع، و من جملتها قضاء ما يفوت منه.

ص: 99


1- - في «ج» و «س»: بمعصيته.

العبادات، و لا يلزم على ذلك الكافر الأصلي، لأنا أخرجناه بدليل، و هو إجماع الأمة على أنه ليس عليه قضاؤه.

و من مات و عليه صلاة، وجب على وليه قضاؤها، و إن تصدق عن كل ركعتين بمد أجزأه، فإن لم يستطع فعن كل أربع بمد، فإن لم يجد فمد لصلاة النهار و مد لصلاة الليل، و ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و كذلك نقول في وجوب قضاء الصوم و الحج على الولي.

و قوله تعالى وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى (1)، و ما روي من قوله صلى الله عليه و آله:

إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث (2)، لا ينافي ما ذكرناه، لأنا لا نقول:

ان الميت يثاب بفعل الولي، و لا أن عمله لم ينقطع، و إنما نقول: إن الله تعالى تعبد (3) الولي بذلك و الثواب له دون الميت، و يسمى قضاء عنه من حيث حصل عند تفريطه.

و يعارض المخالف في قضاء العبادة عن الميت بما رووه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و آله قال: من مات و عليه صيام صام عنه وليه (4)، و رووا أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: إنه كان على أمي صوم شهر، فأقضيه عنها؟ فقال صلى الله عليه و آله: أ رأيت لو كان على أمك دين أ كنت تقضينه؟ قالت: نعم، فقال صلى الله عليه و آله: فدين الله أحق أن يقضى (5)، و مثل ذلك رووا في الحج في خبر الخثعمية عنه صلى الله عليه و آله حين سألته عن قضائه عن أبيها (6)، و روى ابن عباس عنه صلى الله عليه و آله في صوم النذر: أنه أمر ولي الميتج.

ص: 100


1- - النجم: 39.
2- - بحار الأنوار: 2- 22 و 23، عوالي اللئالي: 1- 97، الجامع الصغير: 1- 130 برقم 850 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 372. و في بعض المصادر (إذا مات الإنسان.).
3- - في «س»: «يقيد» و الصحيح ما في المتن.
4- - صحيح مسلم: 3- 155 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.
5- - صحيح مسلم: 3- 155 كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.
6- - لاحظ صحيح البخاري: 2- 163 كتاب الحج باب وجوب الحج، و التاج الجامع للأصول: 2- 110، كتاب الحج.

أن يصوم عنه. (1)

الفصل الثامن عشر: في كيفية الصلاة على الأموات و ما يتعلق بذلك

لما كانت الصلاة عليهم تترتب على أمور يتقدمها، من تغسيل و تكفين، اقتضى ذلك تقديم ذكرهما، و نحن نفعل ذلك، ثم نتبعه بذكر كيفية الصلاة عليه، و نتبع ذلك بكيفية دفنه، إن شاء الله تعالى، فنقول:

غسل الميت و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المكلفين سقط عن الباقين بلا خلاف، و إذا أريد غسله استحب أن يوضع على سرير أو غيره، مما يرفعه عن الأرض، و أن يكون ذلك تحت سقف، و أن يوجه إلى القبلة بأن يكون باطن قدميه إليها، و أن يحفر لماء الغسل حفيرة تخصه، و أن يقف الغاسل على جانبه الأيمن، و أن لا يتخطاه، و أن يغسل يديه- أعني الميت- إلا أن يكون عليهما نجاسة، فيجب الغسل، و كذا حكم فرجه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و يستحب أن يوضئه بعد ذلك على قول الأكثر من أصحابنا، و لا خلاف بينهم أنه لا يمضمض و لا يستنشق (2)، و وجب بعد ذلك أن يغسل على هيئة غسل الجنابة ثلاث غسلات: الأولى بماء السدر، و الثانية بماء جلال الكافور [1] و الثالثة بماء القراح، و لا يجوز أن يقعد بل يستحب أن يمسح بطنه مسحا رقيقا في الغسلتين الأوليين بدليل الإجماع المشار إليه. و يكره إسخان الماء إلا أن يخاف

ص: 101


1- - صحيح مسلم: 3- 156 كتاب الصيام.
2- - كذا في «ج»: و لكن في الأصل و «س»: و لا ينشق.

الغاسل الضرر لشدة البرد، و لا يجوز قص أظفاره، و لا إزالة شي ء من شعره، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يغسل القتيل بحق (1) و غير حق، إلا قتيل المعركة في جهاد لازم فإنه لا يغسل و إن كان جنبا، و يدفن في ثيابه إلا القلنسوة و الفروة و السراويل، فإن أصاب شيئا من ذلك دم لم ينزع، و ينزع الخف على كل حال، فإن نقل عن المعركة و فيه حياة ثم مات غسل، و لا يغسل ما وجد من أبعاض الإنسان إلا أن يكون موضع صدره، أو يكون فيه عظم، و لا يغسل السقط إذا كان له أقل من أربعة أشهر، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا لم يوجد للرجل من يغسله من الرجال المسلمين غسلته زوجته أو ذوات أرحامه من النساء، فإن لم يوجد من هذه صفته، غسلته الأجانب في قميصه و هن مغمضات، و كذلك الحكم في المرأة إذا ماتت بين الرجال، و من أصحابنا من قال: إذا لم يوجد للرجل إلا الأجانب من النساء و للمرأة إلا الأجانب من الرجال، دفن كل واحد منهما بثيابه من غير غسل (2)، و الأول أحوط.

و أما الكفن فالواجب منه ثلاثة: مئزر و قميص و إزار، و المستحب أن يزاد على ذلك لفافتان أحدهما الحبرة و عمامة و خرقة يشد بها فخذاه، و لا يجوز أن يكون مما لا تجوز الصلاة فيه من اللباس، و أفضله الثياب البياض من القطن أو الكتان، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و الحنوط هو الكافور يوضع على مساجد الميت، و لا يجوز أن يطيب بغيره و لا به إذا كان محرما، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و السائغ منه ثلاثة عشر درهما و ثلث، و يجزي مثقال واحد، بدليل الإجماع أيضا.5.

ص: 102


1- - في «ج»: و يغسل القتيل بجور.
2- - الشيخ الطوسي: المبسوط: 1- 175.

و يستحب أن يوضع في الكفن جريدتان خضراوان، من جرائد النخل، طول كل واحدة منهما كعظم الذراع، و يستحب أن يكتب عليهما و على القميص و الإزار ما يستحب أن يلقنه الميت من الإقرار بالشهادتين و بالأئمة و البعث و الثواب و العقاب، ثم يلف عليهما شي ء من القطن، و يجعل إحداهما مع جانب الميت الأيمن قائمة من ترقوته ملصقة بجلده، و الأخرى من الجانب الأيسر كذلك، إلا أنها بين الذراع و الإزار، و ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و قد روي من طرق المخالفين في الصحاح أن النبي صلى الله عليه و آله اجتاز بقبرين فقال:

إنهما ليعذبان بكثير (1) إن أحدهما كان نماما و الآخر لا يستبرئ من البول، ثم استدعى بجريدة فشقها نصفين، و غرس في كل قبر واحدة و قال: إنهما لتدفعان عنهما العذاب ما دامتا رطبتين.

و أما كيفية الصلاة عليه فالواجب منها أن يكبر المصلي خمس تكبيرات يشهد بعد الأولى الشهادتين و يصلي بعد الثانية على محمد و آله و يدعو بعد الثالثة للمؤمنين و المؤمنات فيقول:

اللهم ارحم المؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات الأحياء منهم و الأموات، اللهم أدخل على أمواتهم رأفتك و رحمتك و على أحيائهم بركات سماواتك و أرضيك إنك على كل شي ء قدير.

و يدعو بعد الرابعة للميت إذا كان ظاهره الإيمان و الصلاح فيقول:

اللهم عبدك و ابن عبدك و ابن أمتك نزل بك و أنت خير منزول به، اللهمر.

ص: 103


1- - في «س»: ليعذبان و ما يعذبان بكثير.

لا نعلم منه إلا خيرا و أنت أعلم به منا، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه و إن كان مسيئا فتجاوز عنه و اغفر له و ارحمه، اللهم اجعله عندك في أعلى عليين و اخلف على أهله في الغابرين و ارحمه برحمتك يا أرحم الراحمين.

و إن كان الميت امرأة قال: اللهم أمتك بنت عبدك و أمتك، و كنى عن المؤنث إلى آخر الدعاء.

و إن كان طفلا قال: اللهم هذا الطفل كما خلقته قادرا قبضته طاهرا فاجعله لأبويه فرطا و نورا و ارزقنا أجرة و لا تفتنا بعده. (1)

و إن كان مستضعفا قال: ربنا اغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم.

و إن كان غريبا لا يعرفه قال: اللهم هذه النفس أنت أحييتها و أنت أمتها و أنت تعلم سرها و علانيتها فولها ما تولت و احشرها مع من أحبت.

و إن كان مخالفا للحق دعا عليه بما هو أهله، و يخرج بالتكبيرة الخامسة من الصلاة من غير تسليم، و الدليل على ذلك الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم كبر خمسا (2) و لا يعارض ذلك ما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم كبر أربعا (3) لأنه يحتمل أن يكون كبر أربعا سمعن و لم تسمع الخامسة، و لأن من روى أنه كبر أربعا لم ينف الزيادة عليها، و من كبر خمسا فقد كبر أربعا، و يعارض المخالف في إسقاط التسليم بإسقاط ما هو أوكد منه من الركوع و السجود، و إذا سقط ذلك بلا خلاف فما المنكر من إسقاط التسليم؟5.

ص: 104


1- - في «ج»: و لا تفتتنا بعده.
2- - صحيح مسلم: 3- 56، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، و سنن البيهقي: 4- 36، و جامع الأصول: 7- 143 برقم 4300.
3- - صحيح مسلم: 3- 54، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، و سنن البيهقي: 4- 35.

و المستحب أن يقدم للصلاة أولى الناس بالميت أو من يقدمه، و أن يقف الإمام حيال وسط الميت إن كان رجلا، و صدره إن كان امرأة، و لا ترفع اليدان إلا في التكبيرة الأولى، و أن يتحفى الإمام، و لا يبرح بعد فراغه حتى ترفع الجنازة، و أن يقول من يصليها بعد الخامسة: «عفوك» ثلاث مرات، و أن يكون على طهارة، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و إذا اجتمع جنازة رجل و امرأة و صبي، استحب أن يجعل الرجل مما يلي الإمام، و بعده المرأة، و بعدها الصبي، بدليل الإجماع أيضا، و لا يصلى على من لم يبلغ ست سنين فصاعدا، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الصلاة على الميت حكم شرعي يفتقر إلى دليل، و لا دليل من جهة الشرع على وجوب الصلاة على من نقصت سنه عما ذكرناه.

و لا يجوز أن يصلى على الميت بعد أن يمضي عليه يوم و ليلة مدفونا لمثل ما قدمناه في المسألة الأولى، و يجب إعادة الصلاة على الميت إذا كانت الجنازة مقلوبة، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و يصلى على قتلي المسلمين إذا لم يتميزوا من قتلي الكفار بالقصد إليهم، و يصلى على المصلوب و لا يستقبل المصلي وجهه، و الصلاة على الميت تكره أن تعاد، بدليل الإجماع المشار إليه.

و أما كيفية دفن الميت و ما يتعلق بها: فالواجب منها أن يوضع على جانبه الأيمن موجها إلى القبلة، و المستحب من ذلك تشييع الجنازة بالمشي خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها، و أن يوضع إذا انتهى بها إلى القبر من قبل رجله، إن كان الميت رجلا، و أن ينقل (1) إليه في ثلاث مرات، و لا يفجأ بها، و أن ينزل من قبل رجلي القبر أيضا إليه يسل سلا، و يسبق إلى القبر رأسه قبل رجليه، و إن كانت امرأة وضعت أمام القبر من جهة القبلة، و أنزلت فيه بالعرض.ل.

ص: 105


1- - في «س»: و إن انتقل.

و أن يكون عمق القبر قدر قامة، و أن يجعل فيه لحد أو شق، و اللحد أفضل.

و أن تحل حين وضعه فيه عقد أكفانه، و يوضع خده على التراب، و يلقن الشهادتين و أسماء الأئمة عليهم السلام، و يصنع ذلك به وليه أو من يأمره الولي، و لا يصنع ذلك بالمرأة إلا من كان يجوز له النظر إليها في حياتها.

و أن يشرج عليه اللبن(1) أو ما يقوم مقامه، و أن يرفع القبر من الأرض بعد طمه، مقدار شبر أو أربع أصابع مفرجات، و أن يربع و لا يسنم، و أن يرش عليه الماء، يبدأ من عند رأسه، و يدار عليه حتى يرجع إلى الرأس، و أن يلقن أيضا بعد انصراف الناس عنه، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره، و فيه الحجة.

الفصل التاسع عشر: في كيفية الصلوات المسنونات

أما نوافل اليوم و الليلة فأربع و ثلاثون ركعة

، في حق الحاضر و من هو في حكمه، ثمان منها بعد الزوال و قبل الظهر، و ثمان بعد الظهر و قبل العصر، و أربع بعد المغرب، و ركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة، و ثمان ركعات صلاة الليل، و ركعتا الشفع و ركعة الوتر، و ركعتا الفجر. و في حق المسافر و من هو في حكمه سبع عشرة ركعة، تسقط عنه نوافل الظهر و العصر و العشاء الآخرة، و يبقى ما عداها.

و يسلم في كل ركعتين من جميع النوافل، و يفتتح بالتوجه منها نوافل الظهر و المغرب و عشاء الآخرة و نوافل الليل و ركعة الوتر، و يقرأ فيهما بعد الحمد ما شاء

ص: 106


1- [1]- اللبن- بكسر الباء-: ما يعمل من الطين، شرج اللبن: نضده، أي ضم بعضه إلى بعض. المصباح المنير.

من السور أو من أبعاضها، و يجوز الاقتصار في النوافل كلها مع الاختيار على الحمد وحدها.

و يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الليل بعد الحمد، سورة الإخلاص ثلاثين مرة، و في الثانية قل يا أيها الكافرون ثلاثين مرة، و أن يطول في القراءة في باقي الركعات، إذا لم يخف طلوع الفجر، و أن يطول قنوت الوتر، و دعاؤه موجود في كتب العمل، لا نطول بذكره ها هنا.

و الأفضل الإخفات في نوافل النهار و الجهر في نوافل الليل، و كيفية النوافل فيما عدا ما ذكرناه كالفرائض، و يستحب قضاؤها إذا فاتت، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و نوافل الجمعة عشرون ركعة:

ست في صدر النهار، و ست إذا ارتفع، و ست قبل الزوال، و ركعتان في أول الزوال، فإن لم يتمكن من ترتيبها كذلك، صليت جملة واحدة قبل الزوال، فإن أدرك الزوال و قد بقي منها شي ء قضى بعد العصر، بدليل الإجماع المشار إليه.

و أما نوافل شهر رمضان فألف ركعة

زائدة على ما قدمناه من نوافل اليوم و الليلة، يصلى من ذلك في كل ليلة عشرون ركعة: ثمان منها بعد نوافل المغرب، و اثنتا عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة و قبل نافلتها، من أول الشهر إلى تمام عشرين ليلة منه، و في كل ليلة من العشر الأخيرة ثلاثون ركعة: اثنتا عشرة ركعة بعد نوافل المغرب، و ثمان عشرة ركعة بعد عشاء الآخرة، و يصلى ليلة تسع عشرة مائة ركعة، و ليلة إحدى و عشرين مائة ركعة، و ليلة ثلاث و عشرين مائة ركعة، مضافة إلى ما تقدم.

و إن اقتصر في الليالي الثلاث على المائة فقط، و صلى في كل يوم جمعة من الشهر عشر ركعات صلاة أمير المؤمنين و الزهراء و جعفر عليهم السلام، و في ليلة آخر جمعة من الشهر عشرين ركعة من صلاة أمير المؤمنين عليه السلام، و في ليلة السبت بعدها

ص: 107

عشرين ركعة من صلاة الزهراء عليها السلام كان حسنا.

و قد روي أنه يستحب أن يصلى ليلة النصف منه مائة ركعة، يقرأ في كل ركعة منها بعد الحمد سورة الإخلاص عشر مرات، و ليلة الفطر ركعتين، يقرأ في الأولى منهما بعد الحمد سورة الإخلاص ألف مرة، و في الثانية مرة واحدة.

و أما صلاة الغدير و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فركعتان

يصلى قبل الزوال بنصف ساعة، يقرأ في الأولى و الثانية بعد الحمد(1) سورة الإخلاص عشر مرات، و سورة القدر كذلك، و آية الكرسي كذلك، و يستحب أن يصلى جماعة، و أن يجهر فيها بالقراءة، و أن يخطب قبل الصلاة خطبة مقصورة على حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على محمد و آله، و ذكر فضل هذا اليوم و ما أمر الله به فيه من النص بالإمامة على أمير المؤمنين عليه السلام.

و أما صلاة يوم المبعث و هو اليوم السابع و العشرون من رجب فاثنتا عشرة ركعة

، يقرأ في كل ركعة منها بعد الحمد سورة يس.

و أما صلاة ليلة النصف من شعبان فأربع ركعات يقرأ في كل ركعة بعد الحمد سورة الإخلاص مائة مرة.

و أما صلاة أمير المؤمنين عليه السلام فأربع ركعات،

يقرأ في كل ركعة بعد الحمد سورة الإخلاص خمسين مرة.

و أما صلاة جعفر عليه السلام

و تسمى صلاة الحبوة(2) و صلاة التسبيح، فأربع ركعات يقرأ في الأولى منها بعد الحمد إذا زلزلت و في الثانية و العاديات

ص: 108


1- [1]- كذا في «س» و لكن في الأصل و «ج»: «يقرأ في الأولى بعد الحمد» و في حاشية الأصل: يقرأ في كل واحد منهما.
2- [2]- و إنما سميت بذلك لأنها حباء من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و منحة منه، و عطية من الله تفضل بها على جعفر بن أبي طالب عليه السلام لاحظ مجمع البحرين، مادة «حبا».

و في الثالثة إذا جاء نصر الله و الفتح و في الرابعة سورة الإخلاص، و يقول في كل ركعة بعد القراءة: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، خمس عشرة مرة، و في الركوع عشر مرات، و كذا بعد رفع الرأس منه، و كذا في كل سجدة و بعد رفع الرأس منها، و يسلم في كل ركعتين، و ذلك هو المشروع في النوافل كما ذكرناه أولا.

و أما صلاة الزهراء عليها السلام فركعتان

يقرأ في الأولى بعد الحمد سورة القدر مائة مرة، و في الثانية سورة الإخلاص مائة مرة.

و أما صلاة الإحرام فست ركعات

و يجزي ركعتان، يفتتحهما بالتوجه، و يقرأ في الأولى بعد الحمد سورة الإخلاص، و في الثانية قل يا أيها الكافرون، و وقتها حين يريد الإحرام أي وقت كان من ليل أو نهار، و أفضل أوقاتها بعد صلاة الظهر.

و أما صلاة الزيارة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أو لأحد الأئمة عليهم السلام فركعتان

عند الرأس، بعد الفراغ من الزيارة، فإن أراد الإنسان الزيارة لأحدهم و هو مقيم في بلده، قدم الصلاة ثم زار عقيبها.

و يصلي الزائر لأمير المؤمنين عليه السلام ست ركعات: ركعتان له، و أربع لآدم و نوح عليهما السلام، لأنه مدفون عندهما.

و أما صلاة الاستخارة فركعتان

يقول الإنسان بعدهما و هو ساجد: أستخير الله، مائة مرة، اللهم إني أستخيرك بعلمك و أستهديك بقدرتك إنك تعلم و لا أعلم و أنت علام الغيوب فصل على محمد و آله و خر لي في كذا و كذا، و يذكر حاجته التي قصد هذه الصلاة لأجلها.

و أما صلاة الحاجة فيستحب أن يصام لها الأربعاء و الخميس و الجمعة،

و يغتسل من يريد صلاتها، و يلبس أجمل ما له من الثياب، و يصعد إلى سطح داره أو غيره من الأماكن المنكشفة، فيصلي ركعتين يبتهل بعدهما إلى الله تعالى في نجاح

ص: 109

حاجته فإذا قضيت صلى ركعتين صلاة الشكر، و يقول في ركوعه و سجوده فيهما:

الحمد لله شكرا شكرا لله، و يقول بعد التسليم: الحمد لله الذي قضى حاجتي و أعطاني مسألتي، و يسجد و يقول و هو ساجد: شكرا شكرا، مائة مرة.

و أما صلاة الاستسقاء فركعتان

كصلاة العيد يقنت بين التكبيرين (1) بما يفتتح من الدعاء، فإذا فرغ الإمام من الصلاة صعد المنبر، فخطب خطبة يحث الناس فيها، بعد حمد الله تعالى و الثناء عليه و الصلاة على محمد و آله، على التوبة و فعل الخير، و يحذر الإقامة على المعاصي، و يعلم أن ذلك سبب القحط.

فإذا فرغ من الخطبة حول ما على منكبه الأيمن من الرداء إلى الأيسر، و ما على الأيسر إلى الأيمن، ثم استقبل القبلة فكبر مائة مرة، رافعا بها صوته و الناس معه، ثم حول وجهه إلى يمينه فسبح مائة مرة و الناس معه، ثم حول وجهه إلى يساره فحمد الله مائة مرة و الناس معه، ثم حول وجهه إلى الناس فاستغفر الله مائة مرة و الناس معه، ثم يحول وجهه إلى القبلة و يسأل الله تعالى تعجيل الغيث و يؤمن الناس على دعائه. و يستحب لهذه الصلاة صيام ثلاثة أيام و خروج إمام الصلاة و مؤذنيه و كافة أهل البلد معه إلى ظاهره على هيئة الخروج إلى صلاة العيد، و لا تصلى في مسجد إلا أن يكون بمكة.

و أما صلاة تحية المسجد فركعتان

يقدمهما داخله تحية له قبل شروعه فيما يريده من عبادة أو غيرها، و دليل ذلك كله الإجماع الماضي ذكره، و يعارض المخالف في صلاة الاستسقاء بما روى من طرقهم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خرج يوما يستسقي فصلى ركعتين (2) و عن عبد الله بن زيد الأنصاري [1]: أن

ص: 110


1- - في الأصل و «س»: بين التكبير.
2- - سنن البيهقي: 3- 347.

النبي صلى الله عليه و آله و سلم خرج يستسقي فصلى ركعتين و جهر بالقراءة و حول رداءه. (1)

الفصل العشرون: فيما يقطع الصلاة و يوجب إعادتها

تجب إعادة الصلاة على من تعمد ترك شي ء مما يجب فعله فيها، أو فعل شي ء مما يجب تركه، و قد قدمنا ذكره، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و يجب إعادتها على من سها فصلى بغير طهارة، أو قبل دخول الوقت، أو مستدبر القبلة، أو فيما لا يجوز الصلاة فيه و لا عليه، من النجس أو المغصوب، بدليل ما قدمناه، فإن لم يتقدم له علم بالنجاسة و الغصب، فصلى ثم علم بذلك و الوقت باق لزمته الإعادة، و لم تلزمه بعد خروجه، و هكذا حكم من سها فصلى إلى يمين القبلة أو شمالها، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و تلزم الإعادة لمن سها عن النية، أو تكبيرة الإحرام، أو عن الركوع حتى يسجد، أو عن سجدتين من ركعة و لم يذكر حتى رفع رأسه من الركعة الأخرى [1]، أو سها فزاد ركعة أو سجدة [2]، أو سها، فنقص ركعة أو أكثر منها (2) و لم يذكر حتى استدبر القبلة، أو تكلم بما لا يجوز مثله في الصلاة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و تجب الإعادة على من شك في الركعتين الأوليين من كل رباعية، و في صلاة المغرب و الغداة و صلاة السفر، فلم يدرأ واحدة صلى أم اثنتين أم ثلاثا، و لا غلب في ظنه شي ء من ذلك، بدليل ما تقدم.

ص: 111


1- - سنن البيهقي: 3- 350 كتاب صلاة الاستسقاء باب كيفية تحويل الرداء.
2- - في الأصل: و أكثر منها.

الفصل الحادي و العشرون: فيما يتعلق بالصلاة من الأحكام

اعلم أن أكثر ذلك و معظمه قد ذكرناه فيما تقدم من الفصول، و لم يبق إلا أحكام السهو فيها، و نحن نبين ذلك فنقول: هو فيها على ضروب خمسة:

أولها يوجب الإعادة.

و ثانيها يوجب الاحتياط.

و ثالثها يوجب التلافي.

و رابعها يوجب الجبران بسجدتي السهو.

و خامسها لا حكم له.

فأما ما يوجب الإعادة فقد بيناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل.

و أما ما يوجب الاحتياط فهو أن يشك في الركعتين الأخريين من كل رباعية فإنه يبني على الأكثر، و يجبر النقصان بعد التسليم، مثال ذلك: أن يشك بين اثنتين و ثلاث، أو بين ثلاث و أربع، أو بين اثنتين و ثلاث و أربع، فإنه يبني في الصورة الأولى على الثلاث، و يتمم الصلاة، فإذا سلم صلى ركعة من قيام، أو ركعتين من جلوس يقومان مقام ركعة، فإن كان ما صلاه ثلاثا، كان ما جبر به (1) نافلة، و إن كان اثنتين كان ذلك جبرانا لصلاته.

و كذلك يصنع في الصورة الثانية، و يصلي في الصورة الثالثة بعد التسليم ركعتين من قيام و ركعتين من جلوس، و يدل على ذلك الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، لأنه إذا بنى (2) على الأقل على قول المخالف لم يأمن أن يكون قد

ص: 112


1- - في «ج»: يجبر به.
2- - في «س»: يبني.

صلى الأكثر فتفسد صلاته بالزيادة فيها.

فإن قيل: و كذا إذا بنى على الأكثر لا يأمن أن يكون قد فعل الأقل و ما يفعله من الجبران غير نافع، لأنه منفصل من الصلاة و بعد الخروج منها؟

قلنا: تقديم السلام في غير موضعه لا يجري في إفساد الصلاة مجرى زيادة ركعة أو ركعتين، لأن العلم بأن الزيادة تفسد الصلاة على كل حال، و ليس كذلك العلم بتقديم السلام، فكان الاحتياط فيما ذهبنا إليه على ما قلناه.

و أما ما يوجب التلافي فأن يسهو عن قراءة الحمد و يقرأ سورة غيرها، فيلزمه قبل الركوع أن يتلافي بترتيب القراءة، و كذا إن سها عن قراءة السورة، و كذا إن سها عن تسبيح الركوع و السجود قبل رفع رأسه منهما، و كذا إن شك في الركوع و هو قائم تلافاه، فإن ذكر و هو راكع أنه قد كان ركع أرسل نفسه إلى السجود و لم يرفع رأسه، و كذا الحكم إن شك في سجدة أو سجدتين فذكر ذلك قبل أن يركع أو ينصرف أو يتكلم بما لا يجوز مثله في الصلاة، و كذا إن شك في التشهد، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط.

و أما ما يوجب الجبران فأن يسهو عن سجدة واحدة و يذكرها و قد ركع فإنه يلزمه مع قضائها بعد التسليم سجدتا السهو، و كذا الحكم في السهو عن التشهد، و يلزم الجبران بسجدتي السهو لمن قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، و لمن شك بين الأربع و الخمس، و لمن سلم في غير موضعه، و لمن تكلم بما لا يجوز مثله في الصلاة ناسيا، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يعارض من قال من المخالفين بأن كلام الساهي يبطل الصلاة بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه (1)، لأن المراد رفع الحكم لا رفع الفعل نفسه، و ذلك عام في جميع الأحكام إلا ما خصه5.

ص: 113


1- - الجامع الصغير: 2- 16، برقم 4461، و سنن ابن ماجة: 1- 659 برقم 2043 و 2045.

الدليل، و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1)، و لم يذكر الكلام، و لو كان حدثا يقطع الصلاة لذكره.

و سجدتا السهو بعد التسليم ليس فيهما قراءة و لا ركوع، بل يقول في كل واحدة منهما: بسم الله و بالله اللهم صل على محمد و آل محمد، و يتشهد تشهدا خفيفا و يسلم.

و يعارض من قال إنهما قبل التسليم بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إذا شك أحدكم في الصلاة فليتحر الصواب ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين (2) و في خبر آخر: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم. (3)

و أما ما لا حكم له فهو أن يشك في فعل و قد انتقل إلى غيره، مثل أن يشك في تكبيرة الإحرام و هو في القراءة، أو في القراءة و هو في الركوع، أو في الركوع و هو في السجود، أو في السجود و هو في حال القراءة، أو في التشهد و هو كذلك، أو في تسبيح الركوع أو في السجود بعد رفع رأسه منهما، و لا حكم للسهو الكثير المتواتر، و لا حكم له في النافلة، و لا في جبران السهو، بدليل الإجماع الماضي ذكره.1.

ص: 114


1- - مسند أحمد بن حنبل: 3- 96 و الجامع الصغير: 1 برقم 2027 و كنز العمال: 1- 251 برقم 1269 و 1270 و عوالي اللئالي: 1- 380 مع اختلاف يسير في بعض المصادر و نقله الشيخ في الخلاف كتاب الصلاة، المسألة 157 كما في المتن.
2- - مسند أحمد بن حنبل: 1- 379 و سنن الدار قطني: 1- 376 برقم 2.
3- - مسند أحمد بن حنبل: 1- 205 و 206 و سنن الدار قطني: 1- 375 برقم 1.

كتاب الزكاة

اشارة

يحتاج في الزكاة إلى العلم بسبعة أشياء: أقسامها و ما تجب فيه، و شرائط وجوبها، و صحة أدائها، و مقدار الواجب منها، و من المستحق لها، و مقدار ما يعطى منها، و ما يتعلق بذلك من الأحكام.

أما أقسامها فعلى ضربين: مفروض و مسنون:

فالمفروض على ضربين: زكاة الأموال، و زكاة الرؤوس.

فزكاة الأموال تجب في تسعة أشياء: الذهب و الفضة و الخارج من الأرض من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و في الإبل و البقر و الغنم بلا خلاف.

و لا تجب فيما عدا ما ذكرناه، بدليل الإجماع الماضي ذكره في كل المسائل، و لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها بإيجاب الزكاة من غير ما عددناه يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ذلك، و أيضا فظاهر قوله تعالى وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (1)، يدل على ما قلناه، لأن المراد أنه تعالى لا يوجب فيها حقوقا، و لا يخرج من هذا الظاهر إلا ما أخرجه دليل قاطع.

و يعارض المخالف في وجوب الزكاة في عروض التجارة خاصة بما روى من

ص: 115


1- - محمد: 36.

طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ليس على المسلم في عبده و لا فرسه صدقة (1)، و لم يفصل بين ما كان معرضا للتجارة و بين ما ليس كذلك، و إذا ثبت ذلك في العبد و الفرس ثبت في غيرهما، لأن أحدا لم يفصل بين الأمرين.

و تعلق المخالف بقوله تعالى وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (2)، لا يصح لأنا نقول له: لم قلت: إن المراد بذلك الحق المأخوذ على سبيل الزكاة، و ما أنكرت أن يكون المراد به الشي ء اليسير الذي يعطاه الفقير المجتاز، من الزرع وقت الحصاد على جهة التبرع؟ و ليس له أن ينكر وقوع لفظة «حق» على المندوب، لأنه قد روى من طريقه أن رجلا قال: يا رسول الله هل علي حق في إبلي سوى الزكاة؟ فقال عليه السلام:

نعم تحمل عليها و تسقى من لبنها. (3)

و يشهد بصحة ما قلناه في الآية أمور أربعة:

أحدها: ورود الرواية (4) بذلك عندنا.

و ثانيها: قوله تعالى وَ لا تُسْرِفُوا (5)، لأن الزكاة الواجبة مقدرة، و السرف لا ينهى عنه في المقدر.

و ثالثها: أن إعطاء الزكاة الواجبة في وقت الحصاد لا يصح، و إنما يصح بعد الدياس و التصفية، من حيث كانت مقدارا مخصوصا من الكيل، و ذلك1.

ص: 116


1- - صحيح مسلم: 3- 67 كتاب الزكاة، و جامع الأصول: 5- 339 و التاج الجامع للأصول: 3- 10 و الجامع الصغير: 2- 457 برقم 7614 و سنن البيهقي: 4- 117 كتاب الزكاة، باب لا صدقة في الخيل، و سن ابن ماجة: 1- 579 برقم 1812 و صحيح الترمذي 3- 24 برقم 628، كتاب الزكاة.
2- - الأنعام: 141.
3- - لم نعثر عليه في صحاح القوم و مسانيدهم نعم نقله السيد المرتضى- قدس سره- في الانتصار: 77 و الراوندي في فقه القرآن: 1- 217.
4- - في «ج» و «س»: «ورد الرواية» و لاحظ الوسائل: 6- 134 ب 13 من أبواب زكاة الغلاة.
5- - الأنعام: 141.

لا يؤخذ إلا من مكيل.

و رابعها: ما روي من نهيه عليه السلام عن الحصاد و الجذاذ (1) و هو صرم النخل بالليل، و ليس ذلك إلا لما فيه من حرمان الفقراء و المساكين، كما قلناه.

و قوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (2)، لا يصح أيضا التعلق به، لأنا لا نسلم أن اسم الإنفاق يقع بإطلاقه على الزكاة الواجبة، بل لا يقع بالإطلاق إلا على غير الواجب، و لو سلمنا ذلك لخصصنا الآية بالدليل.

و تعلق المخالف بقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (3)، و أن ذلك يدخل فيه عروض التجارة و غيرها، متروك الظاهر عندهم، لأنهم يضمرون أن تبلغ قيمة العروض مقدار النصاب، و إذا عدلوا عن الظاهر، لم يكونوا بذلك أولى من مخالفهم إذا عدل عنه، و خص الآية بالأصناف التي أجمع على وجوب الزكاة فيها.

و بهذا نجيب عن تعلقهم بقوله تعالى وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (4)، و أيضا فسياق هذه الآية يدل على أنها خارجة مخرج المدح للمذكورين فيها بما فعلوا، و على هذا يكون معناها: و يعطون من أموالهم حقا للسائل و المحروم، و إعطاءهم قد يكون ندبا، كما يكون واجبا، لأن المدح جائز على كل واحد منهما.

و قوله تعالى وَ آتُوا الزَّكاةَ (5)، لا يصح لهم أيضا التعلق به، لأن اسم3.

ص: 117


1- - لاحظ مستدرك الوسائل: 7- 93 من الطبع الحديث.
2- - البقرة: 267.
3- - التوبة: 103.
4- - الذاريات: 19.
5- - البقرة: 43.

الزكاة شرعي، فعليهم أن يدلوا على أن في عروض التجارة و غيرها مما ننفي (1) وجوب الزكاة فيه زكاة حتى يتناولها الاسم، فإن ذلك غير مسلم لهم، و قوله عليه السلام:

حصنوا أموالكم بالصدقة (2) لا دليل لهم أيضا فيه، لأنه خبر واحد، ثم هو مخصوص بما قدمناه، على أن ظاهره لا يفيد تحصين كل مال بصدقة منه، و يجوز تحصين أموال التجارة و ما لا زكاة تجب فيه، بالصدقة مما تجب فيه الزكاة.

الفصل الأول

و أما شرائط وجوبها في الذهب و الفضة: فالبلوغ، و كمال العقل، و بلوغ النصاب، و الملك له، و التصرف فيه بالقبض أو الإذن، و حؤول الحول عليه، و هو كامل في الملك و لم يتبدل أعيانه، و لا دخله نقصان، و أن يكونا مضروبين دنانير و دراهم منقوشين، أو سبائك فر بسبكها من الزكاة.

و الدليل على وجوب اعتبار هذه الشروط الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالأصل براءة الذمة من الحقوق، و قد ثبت وجوب الزكاة إذا تكاملت هذه الشروط، و ليس على وجوبها مع اختلاف بعضها دليل.

و يعارض المخالف في الصبي و المجنون بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، و عن النائم حتى ينتبه، و عن المجنون حتى يفيق. (3) و لا يلزمنا مثل ذلك في المواشي و الغلات، لأنا قلنا ذلك بدليل.

و اشتراط النصاب و الملك له لا خلاف فيه، و قد خرج العبد باشتراط

ص: 118


1- - كذا في الأصل، و لكن في «ج»: «مما ينبغي» و في «س»: مما ينفى.
2- - الجامع الصغير: 1- 576 برقم 3728 و 3729 و كنز العمال: 6- 293 برقم 15759 و 15760.
3- - التاج الجامع للأصول: 3- 35 و سنن الدار قطني: 3- 139 برقم 173 و الجامع الصغير: 2- 16 برقم 4462 و سنن البيهقي: 6- 84 و 206 و 8- 41 و 4- 269 و 3- 83.

الملك، لأن العبد لا يملك شيئا و إن ملكه سيده، لما يؤدي ذلك إليه من الفساد.

و اشتراط الملك للمتصرف فيه بما ذكرناه، احتراز من مال الدين الذي لا يقدر على ذلك فيه، و يعارض المخالف في اعتبار كمال الحول في السخال و الفصلان و العجاجيل بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول. (1)

و شرائط وجوبها في الأصناف الأربعة من الغلات شيئان: الملك لها و بلوغ النصاب، و في الأصناف الثلاثة من المواشي أربعة: الملك و الحول و السوم و بلوغ النصاب، بدليل ما قدمناه.

و أما شرائط صحة أدائها: فالإسلام، و البلوغ، و كمال العقل، و النية، و دخول الوقت في أدائها على جهة الوجوب، و لا أعلم في ذلك خلافا.

الفصل الثاني

و أما مقدار الواجب من الزكاة فنقول:

أما الذهب فلا شي ء فيه حتى يبلغ عشرين مثقالا، و ذلك المقدار النصاب الأول، فإذا بلغها و تكاملت الشروط، وجب فيه نصف مثقال، بلا خلاف، ثم لا شي ء فيما زاد على العشرين، حتى تبلغ الزيادة أربعة مثاقيل، و ذلك نصابه الثاني، فيجب فيها عشر مثقال، و على هذا الحساب بالغا ما بلغ، في كل عشرين مثقالا نصف مثقال، و في كل أربعة بعد العشرين عشر مثقال.

و أما الفضة فلا شي ء فيها حتى تبلغ مائتي درهم، و ذلك مقدار نصابها الأول، فإذا بلغتها و تكاملت الشروط، وجب فيها خمسة دراهم، بلا خلاف، ثم لا

ص: 119


1- - سنن أبي داود: 2- 101 و سنن البيهقي: 4- 95 و 103، و سنن ابن ماجة: 1- 571 برقم 1792 و عوالي اللئالي: 1- 210 و 2- 231.

شي ء فيما زاد على المائتين، حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما، فيجب فيها درهم واحد، ثم على هذا الحساب بالغا ما بلغت.

و الدليل على مقدار النصاب الثاني فيهما، الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالأصل براءة الذمة، و شغلها بإيجاب الزكاة في قليل الزيادة و كثيرها، يفتقر إلى دليل، و ليس في الشرع ما يدل عليه.

و يعارض المخالف في ذلك بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم لمعاذ [1] حين أنفذه إلى اليمن: لا شي ء في الورق حتى تبلغ مائتي درهم، فإذا بلغتها فخذ خمسة دراهم، و لا تأخذ من زيادتها شيئا، حتى تبلغ أربعين درهما، فإذا بلغتها فخذ درهما [2]، و هذا نص. و قوله: هاتوا زكاة الرقة من كل أربعين درهما درهما. (1)

و أما الغلات فالواجب في كل صنف منها إن كان سقيه سيحا أو بعلا أو بماء السماء العشر، و إن كان بالغرب و الدوالي و النواضح [3] فنصف العشر، و إن كان السقي بالأمرين معا كان الاعتبار بالأغلب من المدتين، فإن تساويا زكى النصف بالعشر، و النصف بنصف العشر، هذا إذا بلغ بعد إخراج المؤن و حق9.

ص: 120


1- - التاج الجامع للأصول: 3- 19.

المزارع (1) النصاب، على ما قدمناه، و هو خمسة أوسق- و الوسق ستون صاعا- بدليل الإجماع الماضي ذكره، و لأن ما اعتبرناه من النصاب لا خلاف في وجوب الزكاة فيه، و ليس على وجوبها فيما نقص عنه دليل.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة (2)، و قوله عليه السلام: ما سقت السماء ففيه العشر، و ما سقي بنضح أو غرب ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق (3)، و قوله عليه السلام في رواية أخرى: لا زكاة في شي ء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الصدقة (4).

و الوسق ستون صاعا، و الصاع عندنا أربعة أمداد بالعراقي، و المد رطلان و ربع بالعراقي، بدليل الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط باليقين لبراءة الذمة، لأن من أخرج ما ذكرناه برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك إذا أخرج دونه، فإذا وجب فيما ثبت في الذمة بيقين أن يسقط عنها بيقين، وجب في قدر الصاع ما ذكرناه.

و أما الواجب في الإبل فلا شي ء فيها حتى تبلغ خمسا، و هو نصابها الأول، فإذا بلغتها و تكاملت شروطها الباقية ففيها شاة، و في عشر شاتان، و في خمس عشرة ثلاث شياه، و في عشرين أربع شياه، و في خمس و عشرين خمس شياه، و في ست و عشرين بنت مخاض، و هي التي لها حول كامل، و في ست و ثلاثين بنت لبون، و هي التي لها حولان، و دخلت في الثالث، و في ست و أربعين حقة، و هي4.

ص: 121


1- - في «ج»: و حق الزراع.
2- - صحيح البخاري: 2- 147، كتاب الزكاة، و التاج الجامع للأصول: 3- 16، و سنن ابن ماجة: 1- 571 برقم 1793 و 1794.
3- - سنن البيهقي: 4- 121 كتاب الزكاة، و المستدرك على الصحيحين: 1- 395 و سنن أبي داود: 2- 108، برقم 1597 باختلاف يسير.
4- - سنن الدار قطني: 2- 98 برقم 16 و كنز العمال: 6- 326 برقم 15874.

التي لها ثلاثة أحوال و دخلت في الرابع، و في إحدى و ستين جذعة، و هي التي لها أربعة أحوال و دخلت في الخامس، و في ست و سبعين (1) بنتا لبون، و في إحدى و تسعين حقتان، فإذا بلغت مائة و إحدى و عشرين فصاعدا سقط هذا الاعتبار، و وجب في كل أربعين بنت لبون، و في كل خمسين حقة.

و لا شي ء فيما بين النصابين، و لا خلاف فيما ذكرناه من ذلك كله، إلا في خمس و عشرين، و ست و عشرين و فيما زاد على المائة و العشرين، و الدليل على ما قلناه في ذلك الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالأصل براءة الذمة.

و قد اتفقنا على وجوب الزكاة في مائة و ثلاثين فعندنا و عند الأكثر من المخالفين أن في ذلك حقة و ابنتي لبون، و عند أبي حنيفة حقتان و شاتان، و لم يقم دليل على أن فيما بين العشرين و الثلاثين حقا، فوجب البقاء على حكم الأصل.

و نعارض المخالف بما روى من طرقهم أنه وجد في كتاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن الإبل إذا زادت على مائة و عشرين فليس فيما زاد شي ء دون ثلاثين و مائة، فإذا بلغتها ففيها ابنتا لبون و حقة. (2)

و أما الواجب في البقر ففي كل ثلاثين منها تبيع [1] حولي أو تبيعة و هو2.

ص: 122


1- - في الأصل: و في خمس و سبعين.
2- - جامع الأصول: 4- 590 و كنز العمال: 6- 318 برقم 15832 و سنن البيهقي: 4- 93 و سنن الدار قطني: 2- 113 برقم 2.

الجذع منها، و في كل أربعين مسنة و هي الثنية فصاعدا، و لا شي ء فيما دون الثلاثين، و لا فيما بين النصابين، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و أيضا فالأصل براءة الذمة من الحقوق في الأموال، فمن ادعى أن فيما بين الأربعين و الستين حقا واجبا، لزمه الدليل الشرعي، و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

لا شي ء في الأوقاص (1)، و الوقص يقع على ما بين النصابين.

و أما الواجب في الغنم ففي كل أربعين منها شاة، و في مائة و إحدى و عشرين شاتان، و في مائتين و واحدة ثلاث شياه، و في ثلاث مائة و واحدة أربع شياه، فإذا زادت على ذلك، سقط هذا الاعتبار، و أخرج عن كل مائة شاة، و لا شي ء فيما دون الأربعين، و لا فيما بين النصابين، و المأخوذ من الضأن الجذع، و من المعز الثني، و لا يؤخذ دون الجذع، و لا يلزم فوق الثني، بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الثالث

و أما المستحق لذلك فالأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ. (2) الآية.

فالفقراء هم الذين لهم دون كفايتهم.

و المساكين هم الذين لا شي ء لهم، بدليل الإجماع المشار إليه، و قد نص على ذلك الأكثر من أهل اللغة.

و العاملون عليها هم عمالها و السعاة في جبايتها.

و المؤلفة قلوبهم هم الذين يستمالون إلى الجهاد، بلا خلاف.

ص: 123


1- - سنن البيهقي: 4- 99، كتاب الزكاة.
2- - التوبة: 60.

و أما الرقاب فالمكاتبون، بلا خلاف أيضا، و يجوز عندنا أن يشترى من مال الزكاة كل عبد هو في ضر و شدة، و يعتق، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فظاهر الآية يقتضيه.

و أما الغارمون فهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و أما سبيل الله فالجهاد، بلا خلاف. و عندنا أنه يجوز صرفها فيما عدا ذلك مما فيه مصلحة للمسلمين، كعمارة الجسور و السبل و في الحج و العمرة و تكفين أموات المؤمنين، و قضاء ديونهم، للإجماع المشار إليه، و لاقتضاء ظاهر الآية له، لأن سبيل الله هو الطريق إلى ثوابه و ما أفاد التقرب إليه (1)، و إذا كان ما ذكرناه كذلك، جاز صرف الزكاة فيه.

و أما ابن السبيل فهو المنقطع به، و إن كان في بلده غنيا، و روي أيضا أنه الضيف الذي ينزل بالإنسان و إن كان في بلده غنيا أيضا. (2)

و يجب أن يعتبر فيمن تدفع الزكاة إليه من الأصناف الثمانية- إلا المؤلفة قلوبهم و العاملين عليها- الإيمان و العدالة.

و أن لا يكون ممن يمكنه الاكتساب لما يكفيه.

و أن لا يكون ممن تجب على المرء نفقته، و هم الأبوان، و الجدان، و الولد، و الزوجة، و المملوك.

و أن لا يكون من بني هاشم المستحقين للخمس المتمكنين من أخذه، بدليل الإجماع المتكرر، و طريقة الاحتياط و اليقين ببراءة الذمة.

و قد روي من طرق المخالف: لا تحل الصدقة لغني و لا لذي مرة قوي، و في9.

ص: 124


1- - في «س»: المتقرب إليه.
2- - الوسائل: 6- 146 ب 1 من أبواب المستحقين للزكاة ح 9.

رواية أخرى: و لا لذي قوة مكتسب.(1) فإن كان مستحق الخمس غير متمكن من أخذه، أو كان المزكي هاشميا مثله، جاز دفع الزكاة إليه، بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الرابع

و أما مقدار المعطى منها فأقله للفقير الواحد ما يجب في النصاب الأول، فإن كان من الدنانير فنصف دينار، و إن كان من الدراهم فخمسة دراهم، و كذا في الأصناف الباقية، بدليل الإجماع و طريقة الاحتياط، و قد روي أن الأقل من ذلك ما يجب في أقل نصب الزكاة، و ذلك من الدنانير عشر مثقال، و من الدراهم درهم واحد، و يجوز أن يدفع إليه منها الكثير و إن كان فيه غناه، بدليل الإجماع المذكور.

الفصل الخامس: في ما يتعلق بالزكاة من الأحكام

يجب إخراجها على الفور، فإن أخرها من وجبت عليه لغير عذر ضمن هلاكها، و يجب حملها إلى الإمام ليضعها مواضعها، و إلى من نصبه لذلك، فإن تعذر ذلك و كان من وجبت عليه عارفا لمستحقها، جاز له إخراجها إليه، و إن لم يكن عارفا به حملها إلى الفقيه المأمون من أهل الحق، ليتولى إخراجها.

و لا يجوز لأحد سوى الإمام أو من نصبه أن يصرف شيئا من مال الزكاة إلى المؤلفة، و لا إلى العاملين، و لا في الجهاد، لأن تولي ذلك مخصوص بهما، كل ذلك

ص: 125


1- [1]- صحيح الترمذي: 3- 42، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة و سنن ابن ماجة: 1- 589 كتاب الزكاة، و جامع الأصول: 4- 661 و فيه: المرة: القوة و الشدة.

بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و من يجوز له أخذها من بني هاشم أولى بها من غيرهم، و من لا تجب نفقته من الأقارب أولى من الأجانب، و الجيران أولى من الأباعد، و أهل البلد أولى من قطان [1] غيره، بدليل الإجماع المشار إليه.

و من لم يدفعها إلى من يعلمه مستحقا لها في بلده، و حملها إلى غيره، ضمن هلاكها، و لم يضمن إذا لم يعلم لها في بلده مستحقا، و إن حملها مع خوف الطريق بغير إذن مستحقها ضمن، و لا ضمان عليه مع استئذانه، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يجوز إخراج الزكاة إلى أيتام المستحق لها عند فقده، و يجوز إخراجها قبل وقت وجوبها على جهة القرض، بدليل الإجماع المشار إليه، فإن دخل الوقت و المعطى من أهل الاستحقاق، أجزأت عن مخرجها، و إن لم يكن من أهله لم تجز عنه، بدليل الإجماع المتردد و طريقة الاحتياط.

و من وجب عليه سن و لم يكن عنده، فإن كان عنده أعلى منها بدرجة، أخذت منه، و يرد عليه شاتان أو عشرون درهما فضة، و إن كان عنده أدنى منها بدرجة أخذت منه، و معها شاتان أو عشرون درهما، مثال ذلك أن يجب عليه بنت مخاض، و عنده بنت لبون، أو يجب عليه بنت لبون، و عنده بنت مخاض، و على هذا الحساب يؤخذ مع ما علا أو دنا بدرجتين أو ثلاث، بالإجماع المشار إليه، فإن أصحابنا لا يختلفون في جواز أخذ القيمة في الزكاة، و عندنا أن بنت المخاض يساويها في القيمة ابن اللبون الذكر.

*-***

[1]- قطن بالمكان: أقام به فهو قاطن و الجمع قطان مثل كافر و كفار. المصباح المنير.

ص: 126

الفصل السادس: في زكاة الرؤوس

زكاة الفطرة واجبة على كل حر بالغ كامل العقل مالك لمقدار أول نصاب تجب فيه الزكاة عنه و عن كل من يعول، من ذكر و أنثى و صغير و كبير و حر و عبد و مسلم و كافر و قريب و أجنبي، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط، و اليقين لبراءة الذمة.

و يعارض المخالف في الزوجة و العبد و الكافر و الضيف بما روى من طرقهم عن ابن عمر [1] أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بصدقة الفطرة عن الصغير و الكبير و الحر و العبد و من تمونون (1) لأنه قال: و العبد. و لم يفصل بين المسلم و الكافر، و قال: فمن تمونون و الزوجة و الضيف طول شهر رمضان كذلك.

و مقدار الواجب صاع عن كل رأس من فضلة ما يقتات الإنسان به، سواء كان حنطة أو شعيرا أو تمرا أو زبيبا أو ذرة أو أرزا أو أقطا أو غير ذلك، و قد بينا مقدار الصاع فيما مضى، و يجوز إخراج قيمة الصاع، بدليل الإجماع المشار إليه.

و وقت وجوبها من طلوع الفجر من يوم العيد، إلى قبيل صلاته، فإن أخر إخراجها إلى بعد الصلاة لغير عذر، أخل بواجب، و سقط وجوبها، و جرت إن أخرجها مجرى ما يتطوع به من الصدقات، بدليل الإجماع المشار إليه.

و قد روي من طرق المخالف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فرض صدقة الفطرة

*-****

[1]- عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبيه و أبي بكر و عثمان و أبي ذر و معاذ بن جبل، و روى عنه ابن عباس و جابر، مات سنة 73 ه. لاحظ أسد الغابة: 3- 227.

ص: 127


1- - سنن الدار قطني: 2- 141 برقم 12 و سنن البيهقي: 4- 161، كتاب الزكاة، باب إخراج زكاة الفطرة عن نفسه و غيره.

طهرة للصائم من اللغو الرفث و طعمة للمساكين (1)، فمن أداها قبل الصلاة كانت له زكاة، و من أداها بعد الصلاة كانت صدقة من الصدقات، و إن كان عزلها من ماله انتظارا لمستحقها، فهي مجزية عنه، بدليل الإجماع المشار إليه، و المستحق لها هو المستحق لزكاة الأموال، و أقل ما يعطى منها الواحد ما يجب عن رأس واحد لمثل ما قدمناه.

الفصل السابع

و أما المسنون من الزكاة ففي أموال التجارة إذا طلبت برأس المال أو الربح، و في كل ما يخرج من الأرض مما يكال و يوزن، سوى ما قدمناه، فإن الزكاة واجبة فيه، و في الحلي و السبائك من الذهب و الفضة، إذا لم يفر بذلك من الزكاة، و المال الغائب الذي لا يتمكن مالكه من التصرف فيه، إذا قدر على ذلك، و قد مضى عليه حول أو أحوال، و المال الصامت لمن ليس بكامل العقل، إذا اتجر به الولي نظرا لهم.

و في الإناث من الخيل في كل رأس من العتاق ديناران، و من البراذين دينار واحد، و شرائط الاستحباب مثل شرائط الوجوب، و يسقط في الخيل اعتبار النصاب، و المقدار المستحب إخراجه، مثل المقدار الواجب، إلا في الخيل على ما بيناه، و يستحب إخراج الفطرة لمن لا يملك النصاب، و ذلك كله بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الثامن

و اعلم أن مما يجب في الأموال الخمس، و الذي يجب فيه الغنائم الحربية، و الكنوز، و معادن الذهب و الفضة، بلا خلاف، و معدن الصفر، و النحاس،

ص: 128


1- - جامع الأصول: 4- 644 برقم 2732 و سنن أبي داود: 2- 111 برقم 1609.

و الحديد، و الرصاص، و الزئبق، على خلاف في ذلك، و الكحل و الزرنيخ و القير و النفط و الكبريت و الموميا و الزبرجد و الياقوت و الفيروزج و البلخش [1] و العنبر و العقيق، و المستخرج بالغوص، بدليل الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط، و اليقين ببراءة الذمة، و ظاهر قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ (1).

و هذه الأشياء إذا أخذها الإنسان كانت غنيمة، و قد روي من طرق المخالف أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: في الركاز الخمس، فقيل: يا رسول الله و ما الركاز؟

فقال: الذهب و الفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها. (2) و هذه صفة المعادن.

و يجب الخمس أيضا في الفاضل عن مؤنة الحول على الاقتصاد من كل مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أي وجه كان، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و في المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، و في الأرض التي يبتاعها الذمي من مسلم، بدليل الإجماع المتردد، و وقت وجوب الخمس حين الاستفادة لما يجب فيه.

و يعتبر في الكنوز بلوغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة، و في المأخوذ بالغوص بلوغ قيمة دينار فصاعدا، بدليل الإجماع المتكرر، و الكنز يجب فيه الخمس، و يكون الباقي لمن وجده، إذا وجد في دار الحرب على كل حال، و كذا إن وجد في دار الإسلام في المباح من الأرض، و فيما لا يعرف له مالك من الديار الدارسة، فإن وجد في ملك مسلم أو ذمي وجب تعريفه منه، فإن عرفه أخذه، و إن لم يعرفه و كان عليه سكة الإسلام، فهو بمنزلة اللقطة، و إن لم يكن كذلك، كان بعد إخراجس.

ص: 129


1- - الأنفال: 41.
2- - سنن البيهقي: 4- 152 كتاب الزكاة، باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس.

الخمس لمن وجده، بدليل الإجماع المشار إليه.

و الخمس يقسم على ستة أسهم: ثلاثة منها للإمام القائم بعد النبي عليه السلام مقامه، و هي (1) سهم الله و سهم رسوله و سهم ذي القربى و هو الإمام، و ثلاثة لليتامى و المساكين و ابن السبيل، ممن ينتسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام و جعفر و عقيل و العباس رضي الله عنهم، لكل صنف منهم سهم يقسمه الإمام بينهم على قدر كفايتهم للسنة على الاقتصاد، و لا بد فيهم من اعتبار الإيمان أو حكمه، و ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و ليس لأحد أن يقول إن ذلك مخالف لظاهر قوله تعالى وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (2). لأنا نخص ذلك بالدليل، و هذه الآية مخصوصة بلا خلاف، لأن ذي القربى مخصوص بقربى النبي عليه السلام، و اليتامى و المساكين و ابن السبيل مخصوص بمن له صفة مخصوصة من الإسلام و غيره، على أن ظاهر قوله تعالى وَ لِذِي الْقُرْبى معنا [1] لأنه لفظ توحيد و لو أراد الجمع لقال: و لذوي القربى.1.

ص: 130


1- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س»: و هو.
2- - الأنفال: 41.

كتاب الصيام

اشارة

يحتاج في الصوم إلى العلم بأقسامه و شروطه و ما يفسده و ما يتعلق بذلك من الأحكام.

أما أقسامه فعلى ضرب ثلاثة: واجب و مندوب و محظور، و الواجب على ضربين: أحدهما يجب مطلقا من غير سبب، و الثاني يجب عند السبب، فالأول صوم شهر رمضان، و شروطه على ضربين: أحدهما يشترك فيه الوجوب و صحة الأداء، و الثاني يختص صحة الأداء، فالأول: البلوغ و كمال العقل و السلامة من المرض و الكبر و السفر و دخول الوقت، و الثاني: الإسلام و النية و الطهارة من الجنابة، على تفصيل نذكره، و من الحيض و الاستحاضة المخصوصة و النفاس.

و علامة دخوله- أعني الشهر- رؤية الهلال، و بها يعلم انقضاؤه، بدليل الإجماع من الأمة بأسرها من الشيعة و غيرها على ذلك، و عملهم به من زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ما بعده إلى أن حدث خلاف قوم من أصحابنا فاعتبروا العدد دون الرؤية، و تركوا ظواهر القرآن و المتواتر من روايات أصحابنا، و عدلوا إلى ما لا يجوز (1) الاعتماد عليه من أخبار آحاد شاذة، و من الجدول الذي وضعه عبد الله

ص: 131


1- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س»: و عولوا على ما لا يجوز.

بن معاوية بن عبد الله بن جعفر [1]، و نسبه إلى الصادق عليه السلام، و الخلاف الحادث لا يؤثر في دلالة الإجماع السابق.

و كما لا يؤثر حدوث خلاف الخوارج في رجم الزاني المحصن في دلالة الإجماع على ذلك، فكذلك حدوث خلاف هؤلاء، و هذا عبد الله بن معاوية مقدوح في عدالته بما هو مشهور، من سوء طريقته، مطعون في جدوله بما تضمنه من قبيح مناقضته، و لو سلم من ذلك كله لكان واحدا لا يجوز في الشرع العمل بروايته.

و يدل أيضا على أصل المسألة قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (1) و هذا نص صريح بأن الأهلة هي الدلالة على أوائل الشهور، و أيضا قوله سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ (2) و هذا أيضا نص ظاهر على أن العلم بعدد السنين و الحساب مستفاد من زيادة القمر و نقصانه.

و يعارض المخالف بما روى من قوله عليه السلام: صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين (3)، و قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيّاماً مَعْدُوداتٍ (4)، لا يدل على ما ظنه المخالف على صحة مذهبه في العمل بالعدد دون الرؤية، و لا على أن رمضان4.

ص: 132


1- - البقرة: 189.
2- - يونس: 5.
3- - سنن الدار قطني: 2- 160 برقم 15 و 20.
4- - البقرة: 183 و 184.

لا يكون إلا ثلاثين يوما على ما يزعمه، لأنه يفيد أن أيام الصيام معدودة، و هذا لا خلاف فيه، و إنما الخلاف فيما به يعلم أول هذا المعدود و آخره.

و ليس في الآية ما يدل عليه، على أن المراد بقوله تعالى مَعْدُوداتٍ أنها قليلات، كما قال تعالى وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ (1) و قال حكاية عن الكفار وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً (2)، و الفائدة في ذلك التسهيل لفرض الصيام، و أنه سبحانه (3) لم يكلف العباد ما لا يطيقون، و إذا كان ذلك هو المراد لم يكن لهم فيها دلالة على أنه لا يمتنع أن يكون للمعدود حدان، لا يتجاوز أكثرهما و لا ينقص عن أقلهما، كما نقول في أيام الحيض: أنها معدودة محصورة، و إن كان لأكثرها حد لا يزيد عليه و هو عشرة أيام، و لأقلها حد لا ينقص عنه و هو ثلاثة أيام، فكذلك أيام شهر رمضان لا يمتنع أن يسمى معدودة، و لها حدان أعلاهما ثلاثون و أدناهما تسعة و عشرون.

على أن أهل التفسير قد قالوا: إن المراد بهذه الأيام عشر المحرم، و أنه تعالى كان كتب صيامها و جعل على من أفطر مع القدرة على الصوم فدية من طعام، ثم نسخ ذلك بما فرضه عقيبه بلا فصل من صوم شهر رمضان (4)، و إذا كانت الآية منسوخة بطل التعلق بها على كل حال.

و قوله تعالى وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (5) لا يدل على وجوب إكمال رمضان ثلاثين يوما على ما ظنوه، لأن الله سبحانه محال أن يتعبد المكلفين بفعل الأيام و إكمالها، و إنما تعبدهم بإكمال العمل فيها، و ذلك بأن يصام إلى آخرها، سواء كانت ثلاثين، أو تسعة و عشرين، كما أن إكمال العدة للمعتدة بالشهور إذا طلقها أو مات عنها زوجها إنما هو باستيفاء أيام الشهور، سواء كان كل واحد منها ثلاثين أو تسعة و عشرين، و قد قال تعالى:5.

ص: 133


1- - يوسف: 20.
2- - البقرة: 80.
3- - في «ج»: إذ انه سبحانه.
4- - لاحظ مجمع البيان: 2- 273.
5- - البقرة: 185.

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (1)، فأطلق عليهما اسم الكمال، مع جواز أن يزيد أحدهما على الآخر يوما واحدا عند المخالف، لأنه يقول: إن ذي الحجة يكون ثلاثين يوما إذا كانت السنة كبيسة.

فدل ذلك على أن المراد بالكمال، الاستيفاء في العمل لا الزيادة في العدد، على أن سياق الكلام في الآية يدل على أن المراد كمال العدد في قضاء الفائت كائنا ما كان، لأنه تعالى قال وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (2)، و يكون المراد بقوله وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ، الأمر بتعظيمه و ما يجب من شكره، و ذلك يكون بألفاظ كثيرة يجوز أن يعبر عند الأمر به (3) بأحدها، و إن لم يكن المقصود ذلك الواحد بعينه.

و إذا رأى الهلال قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة، بدليل الإجماع المتردد، لأن من خالف من أصحابنا في ذلك (4) لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع، و يعارض المخالف من غيرهم بما روى من قوله عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فصوموا و إذا رأيتموه فأفطروا (5)، و هذا يدل على أن الصوم بعد الرؤية لا قبلها، و كذا قوله عليه السلام: صوموا لرؤيته (6)، فظاهر الاستعمال يدل على أن الصوم بعد الرؤية. كما دل قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «7» على أن الصلاة بعد الدلوك.

ص: 134


1- - البقرة: 233.
2- - البقرة: 184 و 185.
3- - في «س»: عند الأمر بها.
4- - السيد المرتضى: الناصريات، المسألة 126.
5- - سنن البيهقي: 4- 206 و 207 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 259 و 3- 329.
6- - سنن الدار قطني: 2- 167 و 160 و سنن البيهقي: 4- 247.

و يقوم مقام رؤية الهلال شهادة عدلين مع وجود العوارض من غيم أو غيره، و مع انتفائها شهادة خمسين، فإن فقد الأمران وجب تكميل عدة شعبان ثلاثين يوما، ثم الصوم بنية الفرض، بدليل الإجماع المتكرر، و يعارض المخالف في شهادة الواحد بما روى من طرقهم من قوله عليه السلام: فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فإن شهد ذوا عدل فصوموا و أفطروا، رواه الدار قطني (1) و لا تقبل في ذلك شهادة النساء، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يستحب صوم يوم الشك بنية أنه من شعبان، بدليل الإجماع المتردد و طريقة الاحتياط، لأنه إن كان من رمضان أجزأ عندنا عن الفرض، و إن كان من شعبان أحرز الأجر به، و أيضا قوله تعالى وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (2)، و لا يخرج من ذلك إلا ما أخرجه دليل قاطع، و أيضا قوله عليه السلام: الصوم جنة من النار (3)، و لم يفرق، و أيضا قول أمير المؤمنين عليه السلام: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان (4). و أيضا فإنه يوم في الحكم من شعبان بدليل قوله عليه السلام: فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين (5)، فجاز صومه بهذه النية.

و ما رواه المخالف من النهي عن صوم يوم الشك أخبار آحاد (6) ثم إنا نحمل ذلك على النهي عن صومه بنية أنه من رمضان، أو من غير نية أصلا، كما حمله مالك و الشافعي «7» على النهي عن صومه منفردا مما قبله، أو لمن لم يوافق عادة2.

ص: 135


1- - سنن الدار قطني: 2- 168 برقم 3 باب الشهادة على رؤية الهلال.
2- - البقرة: 184.
3- - جامع الأصول: 9- 455 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 414.
4- - من لا يحضره الفقيه: 2- 80 برقم 1 باب صوم يوم الشك، و الأم للشافعي: 2- 94 كتاب الصيام.
5- - سنن الدار قطني: 2- 160 برقم 20 و سنن البيهقي: 4- 205.
6- - سنن البيهقي: 4- 207 باب النهي عن استقبال. و النهي عن صوم يوم الشك.

له أو نذرا، و حمله أبو حنيفة على ما إذا لم ينو به التطوع، و حمله أحمد على ما إذا كان صحوا. (1)

و نية الصوم يجب أن تتعلق بكراهة المفطرات التي نذكرها من حيث كانت إرادة، و الإرادة لا تتعلق إلا بحدوث الفعل، و لا تتعلق بأن لا يفعل الشي ء على ما دل عليه في غير موضع، و كان المرجع بالإمساك عن المفطرات إلى أن لا يفعل، فلا بد من فعل تتعلق النية به، و ليس إلا الكراهة على ما قلناه.

و وقت النية من أول الليل إلى طلوع الفجر، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و إنما سقط وجوب المقارنة ها هنا رفعا للحرج، و يجوز لمن فاتته ليلا تجديدها إلى قبل الزوال، بدليل الإجماع المتردد و قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2)، و لم يذكر مقارنة النية.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم بعث إلى أهل السواد في يوم عاشوراء فقال: من لم يأكل فليصم و من أكل فليمسك بقية يومه، و كان صوم عاشوراء واجبا (3) و ما يرويه المخالف من قوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل [1] خبر واحد، و يعارضه ما قدمناه، و يجوز حمله على نفي الفضيلة و الكمال، لقوله عليه السلام: و لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (4) و لا صدقة و ذو رحم محتاج. (5)6.

ص: 136


1- - لاحظ الأم للشافعي: 2- 95 كتاب الصوم، و المغني لابن قدامة: 3- 5 كتاب الصيام، و الذخيرة تأليف القرافي: 2- 502.
2- - البقرة: 185.
3- - جامع الأصول: 6- 310 و سنن البيهقي: 4- 288.
4- - سنن البيهقي: 3- 57 و 111 و 174 و كنز العمال: 7- 650 برقم 20737.
5- - وسائل الشيعة: 6- 264 و 267 و 286 كتاب الزكاة و مستدرك الوسائل: 7- 196.

فأما الصوم النفل فيجوز النية له إلى بعد الزوال (1) بدليل ما قدمناه من الإجماع المتكرر، و أيضا قوله تعالى وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (2)، لأنه يتناول ما قبل الزوال و بعده، و ليس لأحد من المخالفين أن يقول: كيف تؤثر النية المتأخرة فيما مضى من النهار خاليا منها؟ لأن ما مضى يلحق في الحكم بما يأتي، كما يقوله الأكثر منهم فيمن نوى (3) التطوع قبل الزوال، و ليس لهم أن يقولوا: قبل الزوال مضي أقل العبادة و ليس كذلك بعد الزوال، لأن النية إذا أثرت فيما مضى خاليا منها حكما فلا فرق بين الأكثر و الأقل.

و قد أجاز أبو حنيفة و الشافعي و غيرهما أن يصير لصلاة المفرد حكم الجماعة بالنية المستأنفة، و لم يفرقوا (4) بين مضي الأكثر منها و الأقل، فما أنكروا من مثل ذلك ها هنا، و لا يلزم جواز النية في آخر جزء من اليوم، لأنها يجب أن تكون بحيث يصح وقوع الصوم بعدها، و هذا لا يتأتى في آخر جزء.

و نية القربة تجزئ في صوم رمضان، و لا يفتقر إلى نية التعيين بدليل الإجماع الماضي ذكره، و أيضا قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (5) فأمر بالإمساك فيه، و من أمسك مع نية القربة ممتثل للمأمور به فيجب أن تجزئه، و أيضا فنية التعيين يفتقر إليها في زمان الصوم الذي يصح أن يقع الصوم فيه على وجهين، كالصوم الواجب في الذمة مثل صوم القضاء و النذر و غير متعين بيوم مخصوص و غير ذلك من أنواع الصوم الواجب، و كصوم النفل.

فأما شهر رمضان فلا يصح أن يقع الصوم فيه إلا عن الشهر، حتى أنه لو5.

ص: 137


1- - كذا في الأصل و لكن في «س»: إلى ما بعد الزوال.
2- - البقرة: 184.
3- - في «ج» و «س»: فيمن ينوي.
4- - في «ج»: و لم يفرقا.
5- - البقرة: 185.

نوى صوم آخر من قضاء أو نفل لم يقع إلا عن رمضان، و إذا كان كذلك لم يحتج إلى نية التعيين فيه.

و نية واحدة في أول شهر رمضان تكفي لجميعه، و تجديدها لكل يوم أفضل، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن حرمة الشهر حرمة واحدة، فأثرت في جميعه النية الواقعة في ابتدائه، كما أثرت في جميع اليوم إذا وقعت في ابتدائه.

و ما يفسد الصوم فيه على ضربين:

أحدهما: يوجب مع القضاء الكفارة.

و الثاني: لا يوجبها، فالأول ما يصل إلى جوف الصائم، مع ذكره للصوم عن عمد منه و اختيار، سواء كان بأكل، أو شرب، أو شم، أو ازدراد لما لا يؤكل في العادة، أو حقنة في مرض لا يلجأ إليها (1)، و أن يحصل جنبا في نهار الصوم، مع الشرط الذي ذكرناه، سواء كان ذلك بجماع أو غيره، و سواء كان مبتدئا بذلك فيه، أو مستمرا عليه من الليل، و يجري مجرى ذلك إدراك الفجر له جنبا بعد الانتباه مرتين، و ترك الغسل من غير ضرورة، و تعمده الكذب على الله تعالى، أو على رسوله، أو أحد الأئمة عليهم السلام، و تعمده الارتماس في الماء إن كان رجلا، و إن كان امرأة فجلوسها فيه إلى وسطها، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط و اليقين ببراءة الذمة.

و يعارض المخالف في الكفارة في غير الجماع بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر (2) و لم يفصل، و بما روى من أن رجلا قال: يا رسول الله إني أفطرت في رمضان، فقال عليه السلام: أعتق رقبة (3)ر.

ص: 138


1- - في «ج» و «س»: و لا يلجأ إليها.
2- - سنن الدار قطني: 2- 190 برقم 52 مع اختلاف في اللفظ.
3- - سنن الدار قطني: 2- 208 برقم 22 و موطإ مالك: 1- 201 باب كفارة من أفطر.

و السؤال يصير مضمرا في الجواب، فكأنه قال: أعتق رقبة لأنك أفطرت، و لم يفصل.

و يعارض المخالف في الفطر في البقاء على الجنابة بما روى عن أبي هريرة من قوله: من أصبح جنبا فلا صوم له، ما أنا قلته، قاله محمد صلى الله عليه و آله و سلم و رب الكعبة (1)، و حملهم ذلك على من أصبح مجامعا ترك لظاهرة، و قولهم: حكم الجنابة لا ينافي الصوم، بدلالة ما إذا احتلم نهارا، غير لازم، لأنا لم نبطل الصوم للمنافاة، بل لاعتماد الجنابة في النهار.

و الكفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، مخير في ذلك، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من أنه صلى الله عليه و آله و سلم أمر من أفطر في شهر رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا (2). و لفظة «أو» للتخيير، و حملها على معنى الواو في الخبر، يحتاج إلى دليل، و لا دليل للمخالف على ذلك.

و الضرب الثاني الذي يوجب القضاء وحده، إدراك الفجر لمن نام جنبا بعد الانتباه مرة واحدة، و الحقنة و السعوط [1] في المرض المحوج إليهما (3). و تعمد القي ء، و بلع ما يحصل في الفم و الحلق منه إذا ذرعه [2]، و وصول الماء إلى الجوف بالمضمضة و الاستنشاق للتبرد، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و تناول ما يفطر مع الشك في دخول الليل و لم يكن داخلا، أو طلوع الفجر و كانا.

ص: 139


1- - مسند أحمد بن حنبل: 2- 284 و 286 و سنن ابن ماجة: 1- 543 برقم 1702 مع تقديم و تأخير في اللفظ.
2- - موطإ مالك: 1- 201 و سنن الدار قطني: 2- 208 برقم 22 و جامع الأصول: 6- 423.
3- - في «س»: في المرض من المحوج إليهما.

طالعا، أو لإخبار الغير بأنه لم يطلع، بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (1)، و قوله وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (2)، و هذا لم يصم إلى الليل و أفطر و لم يتبين له الفجر، فوجب عليه القضاء، و هذا حكم من أقدم على الإفطار من غير رصد للفجر و من لم يترك تناول ما يفطر مع إخبار الغير له بطلوعه.

و يوجب القضاء السفر الذي بيناه أنه يوجب قصر الصلاة، و المرض الذي لا يستطاع معه الصوم، أو يستطاع بمشقة تظهر بها الزيادة في المرض، بدليل الإجماع المشار إليه و قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (3)، لأنه سبحانه علق القضاء بنفس المرض و السفر، و من أضمر في الآية فأفطر يحتاج إلى دليل و لا دليل عليه.

الفصل الأول

و اعلم أن الشاب الذي به عطاش لا يرجى زواله يفطر و يكفر عن كل يوم بإطعام مدين أو مد من طعام، و هذا حكم الشيخ الكبير إذا أطاق الصوم بمشقة تدخل عليه الضرر العظيم، فأما إذا لم يطقه أصلا، فلا خلاف في أنه لا صوم و لا كفارة عليه، و الحامل و المرضع إذا خافتا على ولديهما، أفطرتا و كفرتا عن كل يوم بما ذكرناه، و عليهما القضاء.

و يوجبه على النساء بلا خلاف خروج دم الحيض و النفاس، و لا حكم لشي ء مما ذكرنا أنه يفطر مع النسيان للصوم، أو الاضطرار إلا ما يضطر إليه، من المرض و الحيض و النفاس بلا خلاف.

ص: 140


1- - البقرة: 187.
2- - البقرة: 187.
3- - البقرة: 184.

و يكره للصائم الاكتحال بما فيه صبر [1] أو ما أشبهه، و تقطير الدهن في الأذن، و شم المسك و الزعفران و الرياحين، و آكدها النرجس، و السواك الرطب، و الحقنة بالجامد مع الإمكان، و لبس الثوب المبلول للتبرد، و المضمضة و الاستنشاق كذلك، و إخراج الدم، و دخول الحمام على وجه يضعف، و ملاعبة الحلال من النساء، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الثاني

و أما الضرب الثاني من واجب الصيام، فصوم القضاء للفائت، و صوم كفارة من أفطر يوما من رمضان، و صوم النذر و العهد بلا خلاف، و صوم كفارة الفطر فيهما، بدليل الإجماع المذكور و طريقة الاحتياط، و صوم جزاء الصيد، و صوم دم المتعة، و صوم كفارة حلق الرأس، و صوم كفارة الظهار، و صوم كفارة قتل الخطأ، و صوم كفارة اليمين، بلا خلاف، و صوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان، و صوم كفارة البراءة، و صوم كفارة جز المرأة شعرها في مصاب، و صوم المفوت لعشاء الآخرة، و صوم الاعتكاف، و صوم كفارة فسخ الاعتكاف، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط، و اليقين ببراءة الذمة.

الفصل الثالث

و أما القضاء فهو مثل المقضي، و يلزم على الفور، و يفتقر إلى نية التعيين، و يجوز تفريقه، و موالاته أفضل، و من دخل عليه رمضان ثان، و عليه من الأول شي ء لم يتمكن من قضائه، قدم صيام الحاضر، و قضى الفائت بعده، و إن كان

**-***

[1]- الصبر: الدواء المر، بكسر الباء في الأشهر. المصباح المنير.

ص: 141

تمكن من القضاء ففرط، لزمه مع القضاء أن يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين، و من أفطر في يوم يقضيه عن شهر رمضان قبل الزوال أثم، و إن كان بعد الزوال تضاعف إثمه و وجب عليه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام عشرة مساكين، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و من أصحابنا من قال: إن كان الإفطار في قضاء وجب لإفطار يجب به الكفارة لزم فيه مثلها. (1)

و قد قدمنا أن صوم كفارة المفطر في شهر رمضان شهران و يجب التتابع فيهما و تكميلهما، فلا يصام شعبان لأجل رمضان، و لا شوال لأجل يوم العيد، و لا ذو القعدة لأجل يوم النحر و أيام التشريق في ذي الحجة، و من أفطر في شي ء من الشهرين مضطرا، بنى على ما صامه و لو كان يوما واحدا، و إن كان مختارا في الشهر الأول استأنف الصوم، و إن كان في الشهر الثاني أثم، و جاز له البناء و لو كان بعد صيام يوم واحد منه، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و قوله تعالى وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)، يدل على سقوط الاستئناف في الموضع الذي أجزنا فيه البناء، و الولي يقضي الصوم عن الميت، على ما بيناه في قضاء الصلاة.

الفصل الرابع

و أما صوم النذر و العهد فعلى حسبهما، و قد أوجبهما الله تعالى بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3) و قوله وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ (4)، فإن كان ما نذره أو عاهد عليه معينا بزمان مخصوص لا مثل له، ككل [يوم] (5) جمعة، أو أول جمعة من الشهر الفلاني، لزمه ذلك بعينه، و كذا إن كان له مثل كيوم جمعة ما أو شهر محرم

ص: 142


1- - الحلبي: الكافي: 184.
2- - الحج: 78.
3- - المائدة: 1.
4- - النحل: 91.
5- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

ما، و إن كان غير معين بزمان مخصوص، كيوم ما أو شهر ما، كان مخيرا في الأيام و الشهور.

فإن أفطر فيما تعين و لا مثل له مختارا، فعليه ما على المفطر في يوم من رمضان من القضاء و الكفارة، و إن كان له مثل أثم و عليه القضاء، فإن شرط في صوم الشهر الموالاة، ففرق مضطرا بنى على ما مضى، و إن كان مختارا لزمه الاستئناف على كل حال، و إن لم يشرط الموالاة فأفطر مضطرا، بنى، و إن كان مختارا في النصف الأول استأنف، و إن كان في النصف الثاني أثم و جاز له البناء، و إن شرط أداء ذلك في مكان مخصوص، لزم فعله (1) فيه مع التمكن، كل ذلك بدليل الإجماع المتكرر ذكره و طريقة الاحتياط، و رفع الحرج في الدين يسقط الاستئناف في الموضع الذي أجزنا فيه البناء.

و إن اتفق النذر المعين أو العهد في شهر رمضان سقط فرضه، و كذا إن اتفق في يوم يحرم صومه، و لم يلزم كفارة و لا قضاء لشي ء من ذلك، لأن النذر أو العهد لا يدخلان على ما ذكرناه من حيث كان صوم رمضان واجبا قبلهما و صوم المحرم معصية، و قد ذكر أن من أفطر فيما تعين صومه من ذلك و لا مثل له لضرورة يطيق معها الصوم بمشقة فعليه مع القضاء أن يكفر بإطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. (2)

الفصل الخامس

في صوم كفارة جزاء الصيد.

الأصل في وجوب ذلك قوله تعالى:

ص: 143


1- - في «ج»: لزمه فعله.
2- - لاحظ الكافي للحلبي: 185.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً. (1)

فمن قتل صيدا و كان محرما في الحل، و عجز عن الفداء بالمثل و الإطعام، وجب عليه الصوم، و هو يختلف على حسب اختلاف الصيد، ففي النعامة ستون يوما، فمن لم يستطع فثمانية عشر يوما، و في حمار الوحش أو بقرة الوحش ثلاثون يوما، فمن لم يتمكن فتسعة أيام، و في الغزال و ما أشبهه ثلاثة أيام، و فيما لا مثل له من النعم صيام يوم لكل نصف صاع بر من قيمته.

و إن كان محرما في الحرم، فعليه مثلا ما ذكرناه من الصوم، و المتابعة فيه أفضل من التفريق، و الدليل على هذا التفصيل الإجماع المتكرر و طريقة الاحتياط، فإن قيل: ظاهر الآية التي تلوتموها يدل على أن هذه الكفارة مخير فيها و أنتم قد قلتم إنها على الترتيب! قلنا: نعدل عن ظاهر لفظة أو للدليل، كما عدلنا كلنا عن ظاهر الواو في قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ. (2)

الفصل السادس: في صوم دم المتعة

الأصل في وجوبه قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (3) و الثلاثة في الحج يوم السابع و الثامن و التاسع من ذي الحجة، و من فرق صومها عن اختيار استأنف، و إن كان عن اضطرار و كان قد صام يومين قبل

ص: 144


1- - المائدة: 95.
2- - النساء: 3.
3- - البقرة: 196.

النحر صام الثالث بعد أيام التشريق، و إن صام قبله يوما واحدا صام الثلاثة بعد أيام التشريق، و من لم يتمكن من صومها بعد أيام التشريق جاز له صومها في طريقه، فإن لم يقدر صامها مع السبعة الباقية إذا رجع إلى أهله.

و التتابع واجب أيضا في السبعة، و لا يجوز أن يصام في السفر من الصوم الواجب إلا هذه الثلاثة الأيام، و النذر المشروط صيامه في السفر و الحضر، فإن جاور (1) بمكة أو صد عن بلده صام السبعة إذا مضى من المدة ما يصل في مثله إليه، و كل هذا التفصيل بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

الفصل السابع

و أما صوم كفارة حلق الرأس فثلاثة أيام، و كذا صوم كفارة اليمين، و الأصل في وجوبهما قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ (2)، و قوله سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ- إلى قوله:- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ (3)، و يجب التتابع في كل ذلك، فمن فرق مختارا استأنف، و من فرق مضطرا بنى، بدليل ما قدمناه.

الفصل الثامن: في الاعتكاف و ما يتعلق به من صوم و غيره

من شروط انعقاده الصوم، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، لأن

ص: 145


1- - في «ج» و «س»: «فإن جاوز» و الصحيح ما في المتن.
2- - البقرة: 196.
3- - المائدة: 89.

من أوجب على نفسه الاعتكاف بنذر أو عهد، لا بد أن يتيقن براءة ذمته منه، و لا خلاف في براءة ذمته إذا صام، و ليس كذلك إذا لم يصم، و أيضا قوله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (1)، و لفظ الاعتكاف شرعي و له شروط شرعية على حسب الخلاف في ذلك، و على كل حال يفتقر فيه إلى بيان، و إذا لم يبينه سبحانه في الكتاب احتجنا في بيانه إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و إذا وجدناه عليه السلام لم يعتكف إلا بصوم، كان فعله بيانا، و فعله إذا وقع على وجه البيان كان كالموجود في لفظ الآية، و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا اعتكاف إلا بصوم (2) و قوله لعمر: اعتكف و صم. (3)

و من شرط انعقاده أن يكون في مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أو إمام عدل بعده الجمعة، و ذلك أربعة: المسجد الحرام، و مسجد المدينة، و مسجد الكوفة، و مسجد البصرة، بدليل الإجماع المتكرر و طريقة الاحتياط، لأنه لا خلاف في انعقاده فيما ذكرناه من الأمكنة و ليس على انعقاده في غيرها دليل.

قوله تعالى وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، لا ينافي ما ذكرناه، لأن اللفظ مجمل، و لفظ المساجد ها هنا ينبئ عن الجنس لا عن الاستغراق.

و من شرط انعقاده أن يكون ثلاثة أيام فما زاد، لمثل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط، و تعلق المخالف في ذلك بظاهر قوله تعالى وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، و أنه يتناول ما نقص عن ثلاثة أيام، لا يصح لأنا قد بينا أن الاعتكاف إما أن يكون لفظه شرعيا أو لغويا له شروط شرعية، فلا بد من الرجوع إلى الشرع، إما في الاسم أو في الشروط، فعليهم أن يدلوا على أن ما نقص عن الثلاثة يتناوله في الشرع هذا الاسم، و يكمل له الشروط الشرعية حتى4.

ص: 146


1- - البقرة: 187.
2- - سنن أبي داود: 2- 333 برقم 2473 و سنن البيهقي: 4- 317.
3- - سنن الدار قطني: 2- 200 برقم 9 و سنن أبي داود: 2- 334 برقم 2474.

يصح تناول الآية له.

و ملازمة المسجد شرط في صحة الاعتكاف بلا خلاف إلا لعذر ضروري، من إرادة بول، أو غائط، أو إزالة حدث الاحتلام، أو أداء فرض تعين من شهادة أو غيرها، و عندنا يجوز أن يخرج لعيادة المريض، و تشييع الجنازة، بدليل الإجماع المتكرر.

و يعارض المخالف بما ورد من الحث على ذلك لأنه على عمومه، و لا يجوز لمن خرج لعذر أن يجلس تحت سقف مختارا حتى يعود إلى المسجد، و لا التجارة بالبيع و الشراء على كل حال، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و إذا أفطر المعتكف نهارا، أو جامع ليلا، انفسخ اعتكافه، و وجب عليه استئنافه و كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان، بدليل ما قدمناه في المسألة الأولى، و أيضا قوله تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (1)، لأنه لم يفصل بين الليل و النهار، و إن جامع نهارا كان عليه كفارتان: إحداهما لإفساد الصوم و الأخرى لإفساد الاعتكاف، و إن أكره زوجته على الجماع و هي معتكفة انتقلت كفارتها إليه.

و الاعتكاف المتطوع به يجب بالدخول فيه المضي فيه (2) ثلاثة أيام، و هو في الزيادة عليها بالاختيار إلا أن يمضي له يومان، فيلزم تكميل ثلاثة أخرى، للإجماع المتكرر و طريقة الاحتياط، و من أصحابنا من قال: إذا اضطر المعتكف إلى الخروج من المسجد لمرض خرج و قضى إذا صح الاعتكاف (3)2.

ص: 147


1- - البقرة: 187.
2- - في «ج»: و المضي فيه.
3- - الشيخ: النهاية: 172.

و منهم من قال: يبني على ما مضى (1)، و الأول أحوط.

الفصل التاسع

و صوم مفوت العشاء الآخرة هو اليوم الذي يلي ليلة الفوات، و ليس على من أفطر إلا التوبة و الاستغفار، و ما عدا ما ذكرناه من الكفارات شهران متتابعان، و حكم المفطر فيهما في الاستئناف و البناء، حكم المفطر في الكفارة عن شهر رمضان، و قد بيناه.

الفصل العاشر

و أما الصوم المندوب فعلى ضربين: معين و غير معين، فالأول صوم رجب كله، و صوم أول يوم منه، و صوم الثالث عشر منه مولد أمير المؤمنين عليه السلام، و السابع و العشرين منه مبعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و شعبان كله، و يوم النصف منه، و يوم السابع عشر من ربيع الأول مولد النبي عليه السلام، و أول يوم من ذي الحجة مولد إبراهيم عليه السلام، و يوم عرفة لمن لا يضعفه عن الدعاء، و يوم الغدير، و يوم دحو الأرض (2) و هو الخامس و العشرون من ذي القعدة، و ثلاثة أيام في كل شهر: أول خميس منه، و أول أربعاء في العشر الأوسط منه، و آخر خميس منه، و أيام البيض منه و هي: الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر، و صوم عاشوراء على وجه الحزن، و ثلاثة أيام لاستسقاء و لغيره من الحوائج و الشكر.

و يستحب للكافر إذا أسلم في يوم من شهر رمضان، و للمريض إذا بري ء، و للمسافر إذا قدم، و للغلام إذا بلغ، و للمرأة إذا طهرت من الحيض

ص: 148


1- - الحلبي: الكافي: 187.
2- - في «ج» و «س»: دحوة الأرض.

و النفاس، أن يمسكوا بقية ذلك اليوم، و هذا هو صوم التأديب.

و أما غير المعين فما عدا ما ذكرناه من الأيام إلا المحرمة.

و يستحب للمرأة أن لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، و كذا العبد مع مولاه و الضيف مع مضيفه، و هذا هو صوم الإذن، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط و قوله تعالى وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (1) و قوله:

وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ. (2)

و أما الصوم المحرم: فصوم العيدين، و أيام التشريق بمنى، و يوم الشك على أنه من رمضان، و صوم الوصال، و هو أن يجعل عشاءه سحوره، و صوم الصمت، و صوم الدهر، و صوم نذر المعصية، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و أما ما يتعلق بالصوم من الأحكام فقد بيناه في ضمن فصوله.7.

ص: 149


1- - البقرة: 184.
2- - الحج: 77.

ص: 150

كتاب الحج

اشارة

يحتاج في الحج إلى العلم بأقسامه، و شروطه، و كيفية فعله، و ما يفسده، و ما يتعلق بذلك من الأحكام.

الفصل الأول

أما أقسامه فثلاثة: تمتع بالعمرة إلى الحج و قران و إفراد.

فالتمتع: أن يقدم على أفعال الحج عمرة يتحلل منها و يستأنف الإحرام للحج.

و القران: أن يقرن بإحرام الحج سياق الهدي.

و الإفراد: أن يفرد الحج من الأمرين معا، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

فالتمتع فرض الله على من لم يكن من أهل مكة و حاضريها، و هم من كان بينه و بينها اثنا عشر ميلا فما دونها، لا يجزئهم مع التمكن في حجة الإسلام سواه، بدليل الإجماع و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة.

و يعارض المخالف بما روي من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم- لما نزل فرض التمتع

ص: 151

و كان قد ساق الهدي-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي (1)، و أمر من لم يسق هديا أن يحل و يجعلها عمرة، لأنه لو كان جائزا في حج الإسلام لمن ذكرناه، أو أفضل في حج التطوع على ما يقوله المخالف، لم يكن لأمره (2) بذلك معنى.

فأما أهل مكة و حاضروها ففرضهم القران و الإفراد و لا يجزئهم في حجة الإسلام غيرهما، بدليل الإجماع المذكور و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إلى قوله:

ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (3) و هذا نص، و ليس لأحد أن يقول: إن قوله تعالى ذلِكَ إشارة إلى الهدي لا إلى التمتع، لأن ذلك تخصيص بغير دليل.

و الحج على ضربين: مفروض و مسنون، فالمفروض: حج الإسلام، و حج النذر أو العهد، و حج الكفارة، و أما المسنون: فما عدا ما ذكرناه، و يفارق الواجب في أنه لا يجب الابتداء به، و يساويه بعد الدخول فيه في وجوب المضي فيه في سائر أحكامه إلا وجوب القضاء له إذا فات، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

الفصل الثاني

و أما شروطه فعلى ضربين: شرائط الوجوب و شرائط صحة الأداء.

فشرائط وجوب حج الإسلام: الحرية و البلوغ و كمال العقل و الاستطاعة بلا خلاف، و الاستطاعة يكون بالصحة، و التخلية، و أمن الطريق، و وجود الزاد

ص: 152


1- - جامع الأصول لابن الأثير: 3- 489.
2- - في «ج»: لم يكن بأمره.
3- - البقرة: 196.

و الراحلة، و الكفاية له و لمن يعول، و العود إلى كفاية، من صناعة أو غيرها، بدليل الإجماع المتردد، و أيضا فقد ثبت أن من شرط حسن الأمر بالعبادة القدرة عليها، على ما دللنا عليه فيما تقدم من الأصول.

فلما شرط سبحانه في الأمر بالحج الاستطاعة، اقتضى ذلك زيادة على القدرة من التمكن من النفقة و غيرها، و من لا يجد لعياله نفقة إلى حين عوده لا يكون كذلك، لتعلق فرض نفقتهم به، و إذا ثبت ذلك ثبت اعتبار العود إلى كفاية، لأن أحدا من الأمة لم يفرق بين الأمرين.

و يحتج على مالك بما روي من طرقهم أن رجلا سأله صلى الله عليه و آله و سلم لما نزلت وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. الآية (1) فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ فقال: زاد و راحلة (2). و تعلقه بقوله تعالى وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ (3) لأن معنى قوله رِجالًا رجالة،، لا حجة له فيه لأنا نحمله على أهل مكة و حاضريها، بدليل ما قدمناه، و لأنه ليس في الآية أكثر من الإخبار عن حالة من يأتيه، و نحن لا نمنع أن يأتي الحاج المتطوع ماشيا.

و أما شرائط صحة الأداء، فالإسلام، و كمال العقل، و الوقت، و النية، بلا خلاف، و الختنة بإجماع آل محمد عليهم السلام.

الفصل الثالث: في كيفية فعله

اعلم أن أفعال الحج: الإحرام، و الطواف، و السعي، و الوقوف بعرفة، و الوقوف بالمشعر الحرام، و نزول منى، و الرمي، و الذبح، و الحلق. و نحن نذكر كيفية

ص: 153


1- - آل عمران: 97.
2- - سنن البيهقي: 4- 327 و 330.
3- - الحج: 27.

كل قسم من ذلك، و ما يتعلق به في فصل مفرد إن شاء الله.

الفصل الرابع: في الإحرام

الإحرام ركن من أركان الحج من تركه متعمدا فلا حج له بلا خلاف، و لا يجوز إلا في زمان مخصوص، و هو شوال و ذو القعدة و تسع من ذي الحجة، فمن أحرم قبل ذلك لم ينعقد إحرامه، بدليل الإجماع المتردد و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (1)، و التقدير وقت الحج، لأن الحج لا يصح وصفه بأنه أشهر، و توقيت العبادة في الشرع بزمان، يدل على أنها لا تجزي في غيره.

و لا تعلق للمخالف بقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ (2)، لأنا نخص الإحرام بما ذكرناه من الشهور، بدليل ما قدمناه، كما خصصنا كلنا ما عداه من أفعال الحج بأيام مخصوصة من ذي الحجة، و لأن أبا حنيفة عنده: أن الإحرام ليس من الحج فلا يمكنه التعلق بالآية، و لأن توقيت الفعل بوقت يقتضي جواز فعله فيه من غير كراهة، و عند أبي حنيفة: أن تقديم الإحرام مكروه. (3)

و لا يجوز عقد الإحرام إلا في موضع مخصوص، و هو لمن حج على طريق المدينة ذو الحليفة، و هو مسجد الشجرة، و لمن حج على طريق الشام الجحفة، و لمن حج على طريق العراق بطن العقيق، و أوله المسلخ و أوسطه غمرة و آخره ذات عرق،

ص: 154


1- - البقرة: 197.
2- - البقرة: 189.
3- - لاحظ المغني لابن قدامة: 3- 224 كتاب الحج باب ذكر الإحرام.

و لمن حج على طريق اليمن يلملم، و لمن حج على طريق الطائف قرن المنازل.

و قلنا ذلك للإجماع المكرر و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وقت هذه المواقيت، و إذا كان معنى الميقات في الشرع ما يتعين للفعل، و لا يجوز تقديمه عليه، كمواقيت الصلاة، كان من جوز تقديم الإحرام على الميقات مبطلا لهذا الاسم.

و من تجاوز الميقات من غير إحرام متعمدا، و لم يتمكن من الرجوع إليه، كان عليه إعادة الحج من قابل، و إن كان ناسيا أحرم من موضعه، و يجوز لمن منزله دون الميقات الإحرام منه، و إحرامه من الميقات أفضل.

و ميقات المجاور ميقات أهل بلده، فإن لم يتمكن فمن خارج الحرم، فإن لم يقدر فمن المسجد الحرام، و ذلك بدليل الإجماع الماضي.

و يستحب لمريد الإحرام قص أظفاره و إزالة الشعر عن إبطيه و عانته، و أن يغتسل، بلا خلاف، و يجب عليه لبس ثوبي إحرامه، يأتزر بأحدهما و يرتدي بالآخر، و لا يجوز أن يكونا مما لا يجوز الصلاة فيه، و يكره أن يكونا مما تكره الصلاة فيه، و قد ذكرنا ذلك فيما تقدم، بدليل الإجماع المتردد، و يجزي مع الضرورة ثوب واحد بلا خلاف.

و يستحب أن يصلي صلاة الإحرام، و أن يقول بعدها إن كان متمتعا:

اللهم إني أريد التمتع بالعمرة إلى الحج على كتابك و سنة نبيك، فيسر لي أمري، و بلغني قصدي، و أعني على أداء مناسكي، فإن عرض لي عارض يحبسني فحلي حيث حبستني لقدرك الذي قدرت علي. اللهم إن لم يكن حجة فعمرة. اللهم إن لم يكن عمرة فحجة. أحرم لك لحمي و دمي و شعري و بشري من النساء و الطيب و الصيد، و كل محرم على المحرمين أبتغي بذلك وجهك و الدار الآخرة.

ص: 155

و إن كان قارنا قال:

اللهم إني أريد الحج قارنا فسلم لي هدي و أعني على أداء مناسكي، إلى آخر الدعاء.

و إن كان مفردا قال:

اللهم إني أريد الحج مفردا فسلم لي مناسكي و أعني على أدائها إلى آخر الدعاء، ثم يجب عليه أن ينوي نية الإحرام على الوجه الذي قدمناه، و يعقده بالتلبية الواجبة، و هي:

لبيك اللهم لبيك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك.

و لا ينعقد الإحرام إلا بها أو بما يقوم مقامها من الإيماء لمن لا يقدر على الكلام، و من التقليد أو الإشعار للقارن، بدليل الإجماع المتكرر و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا ففرض الحج مجمل في القرآن، و لا خلاف أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعل التلبية، و فعله عليه السلام إذا ورد مورد البيان كان على الوجوب.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج (1) و هذا نص، و بقوله لعائشة: انقضي رأسك و امتشطي و اغتسلي و دعي العمرة، و أهلي بالحج (2)، و الإهلال هو التلبية، و أمره على الوجوب، و ليس لهم أن يقولوا: المراد بالإهلال:

الإحرام لأن الإهلال في لغة العرب رفع الصوت، و منه قولهم: استهل الصبي: إذا صاح، و منه سمي الهلال هلالا، لارتفاع الأصوات عند رؤيته، و يبطل ذلك ما رووه عن ابن عباس من قوله: إنه صلى الله عليه و آله و سلم أهل في مصلاه، و حين مرت به راحلته،6.

ص: 156


1- - التاج الجامع للأصول: 2- 121.
2- - صحيح البخاري: 2- 172 كتاب الحج، و التاج الجامع للأصول: 2- 126.

و حين بلغ البيداء (1) لأن الإحرام متقدم على بلوغ البيداء.

و من الألفاظ المستحبة في التلبية:

لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك ذا الجلال و الإكرام لبيك، لبيك مبدئ الخلق و معيده لبيك، لبيك غافر الذنب لبيك، لبيك قابل التوب لبيك، لبيك كاشف الكرب العظام لبيك، لبيك فاطر السماوات لبيك، لبيك أهل التقوى و أهل المغفرة لبيك، لبيك متمتعا بالعمرة إلى الحج لبيك، إن كان متمتعا و لا يقول: لبيك بعمرة و حجة تمامها عليك، لأن ذلك يفيد بظاهره تعليق نية الإحرام بالحج و العمرة معا، و ذلك لا يجوز.

و إن كان قارنا أو مفردا قال: لبيك بحجة تمامها و بلاغها عليك، و إن كان نائبا عن غيره قال: لبيك عن فلان بن فلان لبيك.

و أوقات التلبية أدبار الصلوات، و حين الانتباه من النوم، و بالأسحار، و كلما علا نجدا، أو هبط غورا، أو رأى راكبا، و يستحب رفع الصوت بها للرجال، و أن لا يفعل إلا على طهر، و آخر وقتها للمتمتع إذا شاهد بيوت مكة، و حدها من عقبة مدنيين إلى عقبة ذي طوى، و للقارن (2) و المفرد إذا زالت الشمس من يوم عرفة، و للمعتمر عمرة مبتولة إذا وضعت الإبل أخفافها في الحرم، فإن كان المعتمر (3) خارجا من مكة فإذا شاهد الكعبة.

و المتمتع إذا لبى بالحج متعمدا بعد طواف العمرة و سعيها و قبل التقصير بطلت متعته، و صار ما هو فيه حجة مفردة، و إن لبى ناسيا لم تبطل، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.ع.

ص: 157


1- - جامع الأصول لابن الأثير: 3- 435 برقم 1364.
2- - هذا ما أثبتناه و في النسخ التي بأيدينا: و القارن.
3- - في «ج»: فإن كان المتمتع.

و إذا انعقد إحرامه حرم عليه أن يجامع، أو يستمني، أو يقبل، أو يلامس بشهوة بلا خلاف، و أن يعقد نكاحا لنفسه أو لغيره، أو يشهد عقدا، فإن عقد فالعقد فاسد، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا ينكح المحرم و لا ينكح و لا يخطب (1)، و في رواية: و لا يشهد، و هذا نص. و قولهم: لفظة نكاح حقيقة في الوطء خاصة، غير مسلم، بل و في العقد، بدليل ظاهر الاستعمال، قال الله تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (2) فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (3) فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (4) و لا خلاف أن المراد بذلك العقد.

و إذا كان لفظ النكاح مشتركا وجب حمله على الأمرين، و ما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم تزوج ميمونة [1] و هو محرم (5) معارض بما روي عن ميمونة من قولها:

خطبني رسول الله و هو حلال و تزوجني و هو حلال (6) و في خبر آخر: و تزوجني بعد رجوعه من مكة، و خبر المنكوحة أولى لأنها أعرف بحقيقة الحال، و أيضا فالعرب تسمي من كان في الشهر الحرام محرما قال الشاعر [2]:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما.

و لم يكن عاقدا للإحرام بلا خلاف، فيحمل خبرهم على أن الراوي أراد به تزويجها و هو في الشهر الحرام.7.

ص: 158


1- - التاج الجامع للأصول: 2- 117 كتاب الحج، و جامع الأصول لابن الأثير: 3- 412.
2- - النور: 32.
3- - النساء: 25.
4- - النساء: 3.
5- - صحيح البخاري: 3- 19، و التاج الجامع للأصول: 2- 117، و نيل الأوطار: 5- 14.
6- - سنن الترمذي: 3- 201، و جامع الأصول: 3- 411، و التاج الجامع للأصول: 2- 117.

و يحرم عليه أن يلبس مخيطا بلا خلاف، إلا السراويل عند الضرورة عند بعض أصحابنا (1) و بعض المخالفين (2)، و عند قوم من أصحابنا أنه لا يلبس حتى يفتق و يصير كالمئزر و هو أحوط، و أن يلبس ما يستر ظاهر القدم من خف أو غيره بلا خلاف، و أن تلبس المرأة القفازين [1] بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط.

و يعارض المخالف بما روى من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا تنتقب المرأة في الإحرام و لا تلبس القفازين (3) و هو نص.

و يحرم على الرجل تغطية رأسه، و على المرأة تغطية وجهها بلا خلاف، و يحرم عليه أن يستظل و هو سائر، بحيث يكون الظلال فوق رأسه كالقبة، فأما إذا نزل فلا بأس بجلوسه تحت الظلال، من خيمة أو غيرها، و يحرم عليه الارتماس في الماء، و ذلك بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط.

و يحرم عليه أن يصطاد، أو يذبح صيدا، أو يدل على صيد، أو يكسر بيضة بلا خلاف، و أن يأكل لحمه و إن صاده المحل و لم تكن منه دلالة عليه، بلا خلاف من الأكثر، و دليلنا على ذلك إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط، و قوله تعالى وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (4)، لأنه يتناول كل فعل لنا في الصيد (5) من غير تخصيص.

و يحرم عليه أن يدهن بما فيه طيب، أو يأكل ما فيه ذلك، و أن يتطيبف.

ص: 159


1- - القاضي ابن البراج: المهذب: 1- 212.
2- - لاحظ صحيح البخاري: 3- 21 كتاب الحج.
3- - صحيح البخاري: 3- 19 كتاب الحج.
4- - المائدة: 96.
5- - في «س»: «ينافي الصيد» و هو تصحيف.

بالمسك أو العنبر (1) أو العود أو الكافور أو الزعفران بلا خلاف، و يحرم عليه الفسوق و هو عندنا الكذب على الله تعالى، أو على رسوله، أو على أحد الأئمة من آل محمد عليهم السلام، و الجدال و هو عندنا قول: «لا و الله» و «بلى و الله» بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط.

و قول المخالف: ليس في لغة العرب أن الجدال هو اليمين، ليس بشي ء، لأنه غير ممتنع أن يقتضي العرف الشرعي ما ليس في الوضع اللغوي، كما يقوله في لفظة «غائط» ثم الجدال إذا كان في اللغة المنازعة و المخاصمة، و كان ذلك يستعمل للمنع و الدفع، و كانت اليمين تفعل لذلك كان كافيا فيها معنى المنازعة.

و يحرم عليه أن يقطع شيئا من شجر الحرم الذي لم يغرسه في ملكه، و ليس من شجر الفواكه، و الإذخر [1]، و أن يجز حشيشه بلا خلاف، فأما شجر الفواكه و الإذخر و ما غرسه الإنسان في ملكه فيجوز قطعه، و كذا رعي الحشيش بدليل إجماع الطائفة.

و أيضا فتحريم ذلك يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل عليه، و يخص الرعي عمل المسلمين من لدن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذلك و إلى الآن من غير إنكار من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد الصحابة أو أحد العلماء.

و يحرم عليه أن يزيل شيئا من شعره، أو يقص شيئا من أظفاره، و أن يتختم للزينة، أو يدمي جسده بحك أو غيره، و أن يزيل القمل عن نفسه، أو يسد أنفه من الرائحة الكريهة، بلا خلاف أعلمه.

و يحرم عليه أن يلبس سلاحا، أو يشهره إلا لضرورة، و أن يقتل شيئا منر.

ص: 160


1- - في «ج» و «س»: و العنبر.

الجراد و الزنابير مع الاختيار، فأما البق و البراغيث فلا بأس أن يقتل في غير الحرم، و لا بأس بقتل ما يخافه من الحياة و العقارب و السباع في الحرم و غيره بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و يحرم عليه أن يمسك ما كان معه من صيد قبل الإحرام، و أن يخرج شيئا من حمام الحرم منه، و أن لا يرده بعد إخراجه، و أن يمسك ما يدخل به إلى الحرم من الطير بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (1)، و المراد تحريم أفعالنا فيه، و استدامة الإمساك بعد الإحرام، و دخول الحرم، و الإخراج و استدامة فعلنا فيه، فيجب أن يكون محرما.

الفصل الخامس

و ما يفعله المحرم مما بينا أنه محرم عليه على ضروب ثلاثة:

أحدها يوجب الكفارة، سواء فعله عامدا أو ساهيا.

و الثاني يوجبها مع العمد دون النسيان.

و الثالث فيه الإثم دون الكفارة.

فالأول: هو الصيد بلا خلاف بين الجمهور، فمن قتل صيدا له مثل، أو ذبحه، و كان حرا كامل العقل، محلا في الحرم، أو محرما في الحل، فعليه فداؤه بمثله من النعم، بدليل الإجماع من الطائفة و طريقة الاحتياط و أيضا قوله تعالى:

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. (2) الآية، فأوجب مثلا من النعم، و ذلك يبطل قول من قال: الواجب قيمة الصيد.

ص: 161


1- - المائدة: 96.
2- - المائدة: 95.

و إن كان محرما في الحرم فعليه الفداء و القيمة، أو الفداء مضاعفا، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط و اليقين لبراءة الذمة، و أيضا فالجزاء إذا لزم المحل في الحرم، و المحرم في الحل، وجب اجتماع الجزاءين باجتماع الأمرين:

الإحرام و الحرم.

و إن كان مملوكا فكفارته على مالكه إن كان إحرامه بإذنه، و عليه إن كان بغير إذنه بالصوم، لأن العبد لا يملك شيئا فيلزمه مثل أو قيمة.

و إن كان غير كامل العقل فكفارته على وليه، لأنه الذي أدخله في الإحرام، و ليس بواجب عليه، و الدليل على ذلك إجماع الطائفة.

و تكرار القتل يوجب تكرار الكفارة بغير خلاف بين أصحابنا إذا كان القاتل ناسيا، و منهم من قال: هذا حكمه إن كان متعمدا، و منهم من قال: إن تعمد القتل مرة ثانية لم يلزمه كفارة، بل يكون ممن ينتقم الله منه كما ذكره تعالى (1) و الأول أحوط، و كونه ممن ينتقم الله منه إذا عاد، لا ينافي وجوب الكفارة عليه.

و المثل في النعامة بدنة بلا خلاف، فإن لم يجد فقيمتها، فإن لم يجد فض قيمة البدنة على البر و صام عن كل نصف صاع يوما، بدليل الإجماع من الطائفة و طريقة الاحتياط.

و المثل في حمار الوحش أو بقرة الوحش، بقرة، و في الظبي شاة بلا خلاف، و في الأرنب و الثعلب عندنا شاة، و حكم من لم يجد ذلك حكم ما قدمناه، و يجوز لمن لم يجد الفداء و القيمة، أن يصوم للنعامة ستين يوما، و للبقرة ثلاثين يوما، و للظبي و ما أشبهه ثلاثة أيام.

و من صام بالقيمة أقل مما ذكرناه من المدة أجزأه، و إن اقتضى ذلك زيادة عليها لم يلزمه أن يصوم الزيادة، و من عجز عن صوم الستين أو الثلاثين، صامث.

ص: 162


1- - لاحظ المختلف: 4- 122 من الطبع الحديث.

مكان كل عشرة أيام ثلاثة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و في كل حمامة من حمام الحرم، أو إخراج شي ء من حمامه منه، أو تنفيره فلا يرجع، شاة، و في فرخها حمل [1]، و في كل بيضة لها درهم، و في حمامة الحل درهم، و في فرخها نصف درهم، و في كل بيضة لها ربع درهم، و في كل بيضة من بيض النعام إذا كان قد تحرك فيها الفرخ فصيل، فإن لم يتحرك فإرسال فحولة الإبل على إناثها بعدد ما كسر، فما نتج منها كان ذلك هديا، فإن لم يكن لمن فعل ذلك إبل، فعليه لكل بيضة شاة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، و في بيض الدراج و الحجل [2] إرسال فحولة الغنم في إناثها بعدد البيض فما نتج فهو هدي، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و من رمى صيدا فغاب عنه و لم يعلم حاله، فعليه فداؤه، بدليل الإجماع المتكرر و طريقة الاحتياط، فإن رآه بعد ذلك كسيرا فعليه ما بين قيمته صحيحا و كسيرا، و قد روى (1) أن في كسر أحد قرني الغزال ربع قيمته، و فيهما جميعا النصف، و في إحدى عينيه إذا فقئت نصف قيمته، و فيهما معا الكل، و في يديه من الحكم ما في عينيه، و كذا في رجليه.

و في الجرادة أو الزنبور كف من طعام، و في الكثير من ذلك دم شاة، و في القنفذ و الضب و اليربوع حمل قد فطم و رعى، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و في قتل الأسد ابتداء لا على وجه المدافعة (2) كبش بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ. (3)

الآية، و اسم الصيد يقع على السبع المتوحش، قال الشاعر:5.

ص: 163


1- - لاحظ الوسائل: 9 ب 28 من أبواب كفارة الصيد، ح 3.
2- - في «ج»: لا عن وجه المدافعة.
3- - المائدة: 95.

ليث تردى زبية فاصطيدا

. و لا شبهة في أن العرب كانت تصطاد السباع و تأكلها، و تسميها صيدا، و تقول: سيد الصيد الأسد، و ورد الحظر لا يوجب سلب الاسم.

و من قتل ما لا مثل له من الصيد كالعصفور أو ما أشبهه، فعليه قيمته، أو عدلها صياما، و حكم المشارك في قتل الصيد حكم المنفرد، بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط، و أيضا قوله تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً (1)، إذ المشارك قاتل، و يجري ذلك مجرى قوله سبحانه وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (2)، و لا خلاف أن الجماعة إذا اشتركت في القتل، كان على كل واحد منهم كفارة.

و حكم من دل على صيد فقتل حكم القاتل، لمثل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط، لأنه لا خلاف أنه منهي عن الدلالة، و لا يقين ببراءة ذمته إذا دل على صيد فقتل إلا بالكفارة.

و يحتج على المخالف بما روي من طرقهم عن علي عليه السلام و ابن عباس أنهما جعلا على محرم- أشار إلى حلال ببيض نعام- الجزاء (3) و عن عمر و عبد الرحمن بن عوف [1] أنهما جعلا على محرم- أشار إلى ظبي فقتله صاحبه- دم شاة، و لا مخالف لهم، و هذا دليل الإجماع على أصل المخالف.

و أما الضرب الثاني الذي لا يلزم الكفارة فيه إلا مع العمد، فما عدا الصيد مما نذكره الآن، و قلنا بسقوطها مع النسيان، للإجماع الماضي ذكره، و يحتج على المخالف بما روي من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا6.

ص: 164


1- - المائدة: 95.
2- - النساء: 92.
3- - لاحظ المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 3- 286.

عليه (1)، و المراد رفع أحكام الأفعال، و من أحكامها لزوم الكفارة، و قولهم يخص ذلك برفع الإثم يحتاج إلى دليل.

ثم إن رفع الإثم عن الخاطئ مستفاد من قوله تعالى وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ (2)، و حمل كلامه عليه السلام على فائدة زائدة على ما هو معلوم لنا أولى.

فمن قبل زوجته من غير شهوة فعليه شاة، فإن قبلها أو لاعبها بشهوة فأمنى فعليه بدنة، و من نظر إلى غير أهله فأمنى، فعليه إن كان موسرا بدنة، فإن لم يقدر فبقرة، فإن لم يقدر فشاة، فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام، و في الوطء في الفرج في إحرام المتعة قبل طوافها أو سعيها مع فسادها، بدنة، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، بلا خلاف.

و الوطء في الفرج في إحرام الحج قبل الوقوف بعرفة، فساده (3) بلا خلاف، و يلزم المضي فيه، بلا خلاف إلا من داود [1]، و قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ (4)، يبطل قوله، لأنه لم يفرق في الأمر بالإتمام بين ما فسد و بين ما لم يفسد، و يجب عليه مع ذلك بدنة، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و يحتج على أبي حنيفة في قوله: شاة، بما روي من طرقهم عن عمر و ابن عباس من قولهما: من وطئ قبل التحليل أفسد حجه و عليه ناقة (5)، و لا مخالف لهما.

و حكم الوطء في الفرج بعد عرفة و قبل الوقوف بالمشعر عندنا حكم الوطء قبل عرفة، بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط، و أيضا فقد ثبت وجوب4.

ص: 165


1- - الجامع الصغير: 2- 16، و سنن الدار قطني: 4- 171 و سنن البيهقي: 7- 356، و كنز العمال: 12- 155.
2- - الأحزاب: 5.
3- - في «ج»: «قبل الموقف بعرفة فشاة» و الصحيح ما في المتن.
4- - البقرة: 196.
5- - لاحظ المغني لابن قدامة: 3- 513 و 514.

الوقوف بالمشعر على ما سندل عليه، و أنه ينوب في تمام الحج عن الوقوف بعرفة لمن لم يدركه، و كل من قال بذلك، قال بفساد الحج بالجماع قبله، فالتفرقة بين الأمرين يبطلهما الإجماع، و يعارض المخالف بما روي من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم و هو بالمزدلفة:

من وقف معنا هذا الموقف و صلى معنا هذه الصلاة و قد كان قبل ذلك وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه (1)، فعلق تمام الحج بالوقوف بالموقفين، و ما رووه من قوله عليه السلام: من وقف بعرفة فقد تم حجه (2) و قوله: الحج عرفة (3)، خبر واحد لا يحتج علينا به، و يعارضه ما قدمناه، و يجوز حمل قوله: الحج عرفة، على أن المراد به معظم الحج عرفة، و قوله: «فقد تم حجه» على أن المراد أنه قارب التمام، كما حملنا كلنا على ذلك قوله عليه السلام: إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة فقد تمت صلاته. [1]

و في الوطء بعد الوقوف بالمشعر و قبل التحليل بدنة، و لا يفسد الحج بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فإفساد الحج يفتقر إلى دليل و ليس في الشرع ما يدل عليه، فأما وطء المرأة في دبرها، و إتيان الغلام و البهيمة، فلا خلاف بين أصحابنا أن فيه بدنة، و اختلفوا في هل يفسد الحج إذا وقع قبل عرفة أو قبل المشعر أم لا؟

فمن قال: يفسده، دليله طريقة الاحتياط، و من قال: لا يفسده، دليله أن الأصل الصحة و براءة الذمة من القضاء.

و تكرار الوطء يوجب تكرار الكفارة و هي بدنة، سواء كان في مجلس واحد6.

ص: 166


1- - جامع الأصول لابن الأثير: 3- 68.
2- - جامع الأصول: 3- 69 و 70 و سنن البيهقي: 5- 116.
3- - جامع الأصول: 3- 69 و 70 و سنن البيهقي: 5- 116.

أم لا، و سواء كفر عن الأول أم لا، بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط، و ليس للمخالف أن يقول: إن الحج قد فسد بالوطء الأول، و الثاني لم يفسده، فلا يجب به كفارة، لأنه (1) و إن فسد بالأول فحرمته باقية بدليل وجوب المضي فيه، فتعلقت الكفارة بالمستأنف منه.

و من وطأ زوجة له أو أمة وطئا يفسد الحج فرق بينهما، و لم يجتمعا حتى يعودا إلى الموضع الذي وطأها فيه من الطريق، و إذا جاءا من قابل فبلغا ذلك المكان، فرق بينهما و لم يجتمعا حتى يبلغ الهدي محله، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يعارض المخالف بما روي عن عمر و ابن عباس من قولهما: إذا وطأ الرجل زوجته فقضيا من قابل، و بلغا الموضع الذي وطأها فيه فرق بينهما (2)، و لم يعرف راد لقولهما.

و في أكل شي ء من الصيد، أو بيضة، أو شم أحد ما ذكرناه من أجناس الطيب، أو أكل طعام فيه شي ء من ذلك، دم شاة، و كذا في تظليل المحمل، و تغطية رأس الرجل، و وجه المرأة مع الاختيار، عن كل يوم دم شاة، و مع الاضطرار لجملة الأيام دم شاة، بدليل ما قدمناه من الإجماع، و طريقة الاحتياط.

و في قص كل ظفر من أظفار يديه مد من طعام ما لم يكملهما، فإن كملهما فدم شاة، بدليل الإجماع المتكرر، و أيضا فما قلناه لا خلاف في لزوم الدم به، و ليس على لزومه فيما دونه دليل، فوجب نفيه، و هذا حكم أظفار رجليه إن قصهما في مجلس آخر، فإن قص الجميع في مجلس واحد لم يلزمه إلا دم واحد.

و إن جادل ثلاث مرات فما زاد صادقا، أو مرة كاذبا، فعليه دم شاة، و في مرتين كاذبا دم بقرة، و في ثلاث مرات فما زاد بدنة، و في لبس المخيط إن كان ثوبا5.

ص: 167


1- - في «ج»: فلأنه.
2- - المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 3- 315.

واحدا أو ثيابا جماعة في مجلس واحد، دم شاة، فإن لبس في كل مجلس ثوبا، فعليه من الشياه بعدد الثياب، و ينزع الثوب من قبل رجليه، كل ذلك بدليل الإجماع المتردد و طريقة الاحتياط.

و في حلق الرأس دم شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام بلا خلاف، و في قص الشارب، أو حلق العانة أو الإبطين، دم شاة، و في حلق أحد إبطيه إطعام ثلاثة مساكين، و في إسقاط شي ء من شعر رأسه أو لحيته، إذا مسهما في غير طهارة، كف من طعام، و كذلك في إزالة القمل عنه أو قتله، و في حك الجسم حتى يدمي مد من طعام.

و في قلع الشجرة الكبيرة من أصلها من الشجر الذي عيناه في الحرم دم بقرة، و في الصغيرة شاة، و في قطع البعض من ذلك، أو قطع حشيشه، ما تيسر من الصدقة، و من عقد و هو محرم على امرأة نكاحا لمحرم فدخل بها، كان على العاقد بدنة و ذلك بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط.

و أما الضرب الثالث الذي فيه الإثم دون الكفارة، فما عدا ما ذكرنا لزوم الكفارة فيه، و قلنا ذلك للإجماع (1) المتكرر ذكره، و لأن لزوم الكفارة يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ذلك، و يكره للمحرم من الطيب ما خالف الأجناس التي قدمنا ذكرها، و ليس ذلك بمحظور، لأن حظره يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل عليه.

و يكره الاكتحال و الخضاب للزينة و النظر في المرآة، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بقوله عليه السلام: الحاج أشعث أغبر (2)، و ذلك ينافي هذهن.

ص: 168


1- في «س»: بدليل الإجماع.
2- الجامع الصغير: 1- 583 برقم 3773 و كنز العمال: 5- 25 برقم 11892 و لفظ الحديث: (الحاج الشعث التفل) و نقله الشيخ في الخلاف، كتاب الحج، المسألة 106 كما في المتن.

الأشياء، فأما الاكتحال بما فيه طيب فمن أصحابنا من قال: إنه مكروه (1)، و الظاهر أنه محظور، لإجماع الأمة على أن المحرم لا يجوز له الطيب، و لم يفصلوا بين أن يكون في كحل أو غيره، و ما ورد من النهي عن الطيب عام في كل ذلك، و طريقة الاحتياط تقتضيه.

الفصل السادس

و يمضي المحرم على حاله حتى يشاهد بيوت مكة، فيقطع التلبية إن كان متمتعا، كما قدمناه، و يستحب له أن يكثر من حمد الله تعالى على بلوغها، فإذا انتهى إلى الحرم، استحب له الغسل، و أن يدخله ماشيا و عليه السكينة و الوقار، و أن يدخل مكة من أعلاها، و أن يغتسل قبل دخولها، و أن يدعو إذا عاين البيت بما نذكره، و أن يغتسل قبل دخول المسجد، و أن يدخله من باب بني شيبة، و أن يقول قبل دخوله:

بسم الله و بالله و على ملة رسول الله و ولاية أهل بيته صلى الله عليه و عليهم. الحمد لله على ما من به من بلوغ بيته الحرام، السلام على رسول الله و على أولي العزم من الرسل و على أوصيائهم المرضيين.

و أن يقول إذا دخل المسجد و عاين البيت:

اللهم إني أشهد أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس و أمنا مباركا و هدى للعالمين، اللهم فأمنى سخطك و أجرني من عذابك يا جار من لا جار له! أجرني من عذابك و أعذني من نقمتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

و يستحب أن يدعو إذا أتى الحجر الأسود فيقول:

الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله سبحان الله و

ص: 169


1- - لاحظ المختلف: 4- 76 من الطبع الحديث.

الحمد لله و لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم.

و أن يقبله بيده عليه و أن يقبلها إن لم يتمكن من تقبيله أو يشير بيده إليه و يقبلها إن لم يتمكن من مسحه بها و يقول:

أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة عند الله تعالى اللهم إيمانا بك و تصديقا بكتابك و على سنة نبيك أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله و أن الأئمة من ذريته (و تسميهم (1)) حججه في أرضه و شهداؤه على عباده صلى الله عليه و عليهم آمنت بالله و بكتبه و رسله و كفرت بالجبت و الطاغوت و بكل ند يدعى من دون الله سبحانه اللهم إليك بسطت يدي و فيما عندك عظمت رغبتي فاقبل اللهم إجابتي و اغفر لي و ارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين.

ثم يستلمه، ثم يجب عليه أن يفعل نية الطواف و يطوف، و دليل ذلك كله إجماع الطائفة.

الفصل السابع: في الطواف

الطواف على ضربين: مفروض و مسنون، فالمفروض ثلاثة: طواف المتعة، و طواف الزيارة، و هو طواف الحج، و طواف النساء.

و المسنون: ما عدا ما ذكرناه مما يتطوع به المكلف، و قد روي أنه يستحب أن يطوف مدة مقامه بمكة ثلاثمائة و ستين أسبوعا، أو ثلاثمائة و أربعة و ستين شوطا (2)، و روي أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (3) كان يطوف في كل يوم و ليلة عشرة أسابيع.

ص: 170


1- - كذا في النسخ التي بأيدينا و لعل الصحيح «و يسميهم».
2- - الوسائل: 9، ب 6 و 7 من أبواب الطواف.
3- - الوسائل: 9، ب 6 و 7 من أبواب الطواف.

أما طواف المتعة فوقته للمختار من حين يدخل المتمتع مكة إلى أن تغيب الشمس من يوم التروية، و للمضطر إلى أن يبقى من غروب الشمس ما يدرك في مثله عرفة في آخر وقتها، فمن فاته مختارا بطل حجه متمتعا، و كان عليه قضاؤه من قابل إن كان فرضا، و صار ما هو فيه حجة مفردة، و لم يجز عنه طواف الحج، بدليل إجماع الطائفة، و طريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه، لأنه لا خلاف في براءة ذمة من طاف طواف المتعة، و ليس على قول من يقول: يجزي عن ذلك طواف الحج دليل، و أيضا قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) فأمر تعالى بإتمامهما جميعا، و لكل واحد منهما أفعال مخصوصة، فوجب بالظاهر تكميلها.

و يعارض المخالف بما روي من طرقهم من قوله عليه السلام: من جمع الحج إلى العمرة، فعليه طوافان (2)، و بما روي عن علي عليه السلام أنه طاف طوافين، و سعى سعيين، لحجته و عمرته، و قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فطاف طوافين و سعى سعيين لحجته و عمرته (3) و من فاته طواف المتعة مضطرا قضاه بعد فراغه من مناسك الحج، و لا شي ء عليه، بدليل نفي الحرج في الدين.

و أما طواف الزيارة فركن من أركان الحج، من تركه متعمدا فلا حج له بلا خلاف، و من تركه ناسيا قضاه وقت ذكره، فإن لم يذكره حتى عاد إلى بلده، لزمه قضاؤه من قابل بنفسه، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، فإن لم يستطع استناب من يطوفه، بدليل الإجماع المشار إليه و قوله تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4).8.

ص: 171


1- - البقرة: 196.
2- - لم نجد النص في المجامع الحديثية و مسانيد القوم نعم قريب منه ما نقله البيهقي في سننه: 5- 108 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب الحج، المسألة 148 كما في المتن.
3- - لاحظ سنن الدار قطني 2- 263 برقم 130- 132، و البحر الزخار: 2- 378.
4- - الحج: 78.

و وقته للمتمتع من حيث يحلق رأسه من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، إلا أن يكون هناك ضرورة، من كبر أو مرض أو خوف حيض أو عذر، فيجوز تقديمه على ذلك، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و أول وقته للقارن و المفرد من حين دخولهما مكة، و إن كان ذلك قبل الموقفين، بدليل ما قدمناه.

و أما طواف النساء فوقته من حين الفراغ من سعي الحج إلى آخر أيام التشريق، فمن تركه متعمدا أو ناسيا حتى عاد إلى أهله لم يفسد حجه، لكنه لا يحل له النساء حتى يطوف، أو يطاف عنه، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و أيضا فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعل هذا الطواف، و المخالف يسميه طواف الصدر، و قد قال عليه السلام: خذوا عني مناسككم (1)، و قد روي من طرقهم أيضا عليه السلام قال: من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف (2)، و ظاهر الأمر الوجوب.

و الواجب في الطواف النية، و مقارنتها، و استمرار حكمها، و الطهارة من الحدث و النجس، و ستر العورة، و البداءة بالحجر الأسود، و الختام به، و أن يكون سبعة أشواط، و أن يكون البيت عن يسار الطائف، و أن يكون خارج الحجر، و أن يكون بين البيت و المقام، فمن ترك شيئا من ذلك لم يجزه الطواف، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و طريقة الاحتياط، و اليقين لبراءة الذمة، لأنه لا خلاف في براءة الذمة منه إذا فعل على الوجه الذي ذكرناه، و ليس على براءتها منه إذا فعل على خلافه دليل.

و المستحب استلام الحجر الأسود، و الدعاء إذا أراد الطواف، كما قدمناه،7.

ص: 172


1- - سنن البيهقي: 5- 125 كتاب الحج باب الإيضاع في وادي محسر، و البحر الزخار: 2- 338 و 346 و مسند أحمد بن حنبل: 3- 318 و فيه: «خذوا مناسككم.» و عوالي اللئالي: 1- 215 و 4- 36. و نقله الشيخ في الخلاف، كتاب الحج، المسألة 134.
2- - جامع الأصول: 4- 42 طواف الوداع، و مسند أحمد بن حنبل: 3- 417.

و أن يقول إذا وصل في الطواف إلى باب الكعبة:

سائلك فقيرك مسكينك ببابك فتصدق عليه بالجنة، اللهم صل على محمد و آله و أدخلني الجنة برحمتك و أوسع علي من الرزق الحلال و ادرأ عني شر فسقة الجن و الإنس و شر فسقة العرب و العجم.

و أن يقول إذا حاذى المقام مشيرا إليه:

السلام عليك يا رسول الله و على أهل بيتك المطهرين من الأنام، السلام على إبراهيم الخليل، الداعي إلى البيت الحرام، مسمع من في الأصلاب و الأرحام، السلام على أنبياء الله و ملائكته الكرام.

و أن يستلم الركن الشامي إذا وصل إليه و يقول- و هو مستقبل له-:

السلام عليك يا رسول الله السلام عليك غير مقلو (1) و لا مهجور، اللهم صل على محمد و آله و افتح علي أبواب رحمتك.

و أن يقول إذا استقبل الميزاب:

اللهم أعتقني من النار و أوسع علي من رزقك الحلال الطيب و ادرأ عني شر فسقة العرب و العجم و الجن و الإنس و أدخلني الجنة برحمتك.

و أن يستلم الركن الغربي مستقبلا له و يقول:

اللهم رب إبراهيم و إسماعيل اللذين أمرتهما أن يرفعا أركان بيتك و يطهراه للطائفين و العاكفين و الركع السجود و هما يسألانك أن تتقبل منهما فتقبل مني إنك أنت السميع العليم و تب علي إنك أنت التواب الرحيم.

و أن يقول بين الركن الغربي و اليماني:

اللهم اغفر لي و ارحمني و اهدني و عافني و اعف عني و ارزقنيي.

ص: 173


1- - في الأصل: غير مقلي.

و احفظني و وفقني.

و أن يقول إذا وصل إلى المستجار، و هو دون الركن اليماني بقليل:

اللهم هذا مقام من أساء و اقترف و استكان و اعترف و أقر بالذنوب التي اجترم، مقام المستغيث المستجير بك من النار، مقام من لا يدفع عن نفسه ضرا و لا يجر إليها نفعا، مقام من لاذ ببيتك الحرام راغبا راهبا و استعاذ بك من عذاب يوم لا ينفع فيه شفاعة الشافعين إلا من أذنت له يا رب العالمين.

و أن يستلم الركن اليماني و يعانقه و يقول:

يا سيدي إلى من يطلب العبد إلا إلى مولاه، و لمن يرجو العبد إلا سيده أسألك أن تصلي على محمد و آله الطاهرين، و أن تقبل مناسكي و تنجح حوائجي، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، آمنت بما جاء به، و اتبعت النور الذي أنزل معه، اللهم تب علي حتى أتوب، و اعصمني حتى لا أعود، أتوب إلى الله- ثلاثا- اللهم إني تائب إليك مما قدمت و أخرت و أسررت و أعلنت و سهوت عنه و أحصيته علما، نادم على ما مضى عازم على أن لا أعود إلى مثله أبدا، فاقبل توبتي و اعف عني و اغفر لي ما بيني و بينك و تحمل عني جرائر خلقك بجودك و كرمك و سعة رحمتك يا أرحم الراحمين.

و أن يستلم الحجر الأسود، و يقبله إذا عاد إليه و يقول:

اللهم صل على محمد و آله الطاهرين و عجل فرجهم يا رب العالمين! و أهلك أعدائهم أجمعين، اللهم تب علي توبة نصوحا و اعصمني فيما بقي من عمري، و ارزقني من رزقك الحلال الطيب، و أدخلني برحمتك الجنة، و أعذني من النار بعفوك.

ص: 174

و يصنع مثل ذلك في كل شوط حتى يكمل سبعة، و يستحب أن يقف على المستجار في الشوط السابع، و يلصق بطنه و خده به، و يبسط يديه على البيت و يقول:

اللهم رب البيت العتيق و اللطف الرفيق صل على محمد و آله المنتجبين، و الطف لي في الدين و الدنيا يا رب العالمين! اللهم هذا مقام العائذ بكرمك، اللائذ ببيتك و حرمك، رب إن البيت بيتك، و العبد عبدك، فاجعل قراي مغفرتك، و هب لي ما بيني و بينك، و ارض عني خلقك.

و يتعلق بأستار الكعبة و يقول:

اللهم بك استجرت فأجرني، و بك استغثت فأغثني! يا رسول الله يا أمير المؤمنين يا فاطمة بنت رسول الله يا حسن يا حسين- و يسمي الأئمة إلى آخرهم- بالله ربي أستغيث، و بكم إليه تشفعت، أنتم عمدتي، و إياكم أقدم بين يدي حوائجي، فكونوا شفعائي إلى الله في إجابة دعائي و تبليغي في الدين و الدنيا مناي (1) اللهم ارحم بهم عبرتي، و اغفر بشفاعتهم خطيئتي، و اقبل مناسكي، و اغفر لي و لوالدي، و احفظني في نفسي و أهلي و جميع إخواني، و أشركهم في صالح دعائي، إنك على كل شي ء قدير.

و يستحب أن يقول في الطواف:

اللهم إني أسألك باسمك الذي يمشى به على طلل الماء، كما يمشى به على جدد الأرض، و أسألك بكل اسم عظمته، و كتاب أنزلته، و رسول ارتضيته، و إمام اجتبيته (2) و مؤمن ارتضيته، و عمل قبلته، أن تقبل توبتي،».

ص: 175


1- - في «ج»: «مهماتي» بدل «مناي».
2- - في «ج»: «أحببته» بدل «اجتبيته».

و تغفر خطيئتي، و تجاوز عن زلتي، و تشكر سعيي في مرضاتك، و تضاعف ثوابي على طاعتك، و توسع علي من رزقك الحلال، إنك على كل شي ء قدير.

و أن يقرأ إنا أنزلناه، و لا يجوز قطع الطواف إلا لصلاة فريضة، أو لضرورة، و إن قطعه (1) للصلاة، بنى على ما طاف و لو كان شوطا واحدا، و إن قطعه لضرورة أو سهو بنى على ما طاف إن كان أكثر من النصف، و إن كان أقل منه استأنفه، و يستأنفه إن قطعه مختارا على كل حال، و يستأنفه إن شك و هو طائف فلم يدر كم طاف، و لا يحصل له شي ء جملة، أو شك بين ستة و سبعة، بالإجماع المذكور و طريقة الاحتياط.

فإن شك بين سبعة و ثمانية، قطعه و لا شي ء عليه، و هذا حكمه لو ذكر و هو في بعض الثامن أنه طاف سبعة، فإن ذكر بعد أن تممه أضاف إليه ستة أخرى، و صار له طوافان، و لزمه لكل طواف ركعتان، و قد دللنا على وجوب هاتين الركعتين في كتاب الصلاة، و لا يجوز له الطواف راكبا إلا لضرورة، بدليل الإجماع و طريقة الاحتياط.

الفصل الثامن

فإذا أراد السعي استحب له أن يأتي الحجر الأسود فيستلمه، و أن يأتي زمزم فيشرب من مائها، و يغتسل منه إن تمكن، أو يصب منه على بعض جسده، و ينبغي أن يكون ذلك من الدلو المقابل للحجر الأسود، و أن يكون الخروج إلى السعي من الباب المقابل للحجر أيضا، بدليل الإجماع المشار إليه.

ص: 176


1- - في «ج»: و إن كان قطعه.

الفصل التاسع: في السعي

السعي ركن من أركان الحج، و هو على ضربين: سعي المتعة و سعي الحج، و أول وقت سعي المتعة من حيث يفرغ من طوافها، و أول وقت سعي الحج من حين الفراغ أيضا من طوافه، و حكمه في جواز التقديم للضرورة حكم الطواف، و يمتد كل واحد منهما بامتداد وقت الطواف، و حكم كل واحد منهما في الإخلال به عن اختيار أو اضطرار ما ذكرناه من حكم المخل بالطواف، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، لأنه لا خلاف في براءة ذمة المكلف إذا سعى، و ليس على براءة ذمة من لم يسع سعي المتعة إذا اقتصر على سعي الحج، و من سعي الحج إذا جبر (1) بدم، دليل (2).

و المفروض من السعي النية، و مقارنتها، و استدامة حكمها، و البداءة بالصفا، و الختام بالمروة، و أن يكون سبعة أشواط، بدليل ما قدمناه.

و المسنون فيه أن يكون على طهارة، و أن يصعد الصفا، و يستقبل الكعبة، و يكبر الله، و يحمده، و يهلله، سبعا سبعا و يقول:

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي لا يموت بيده الخير و هو على كل شي ء قدير، ثلاث مرات.

و يصلي على محمد و آله كذلك، و يقرأ إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و يقول:

اللهم إني أسألك العفو و العافية و اليقين في الدنيا و الآخرة، اللهم

ص: 177


1- - في «ج» و «س»: إذا أجبر.
2- - قوله: «دليل» اسم «ليس».

اغفر لي كل ذنب أذنبته، و إن عدت فعد علي بالمغفرة إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أظلني بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم استعملني بطاعتك و طاعة رسولك، و توفني على ملته، و احشرني في زمرته، اللهم آتنا من فضلك، و أوسع علينا من رزقك، و بارك لنا في الأهل و المال، اللهم ارحم مسيرنا إليك من الفج العميق، و آتنا من لدنك رحمة، نستغني بها عن رحمة من سواك، اللهم صل على محمد و آله، و اغفر لي و لوالدي و لجميع المؤمنين.

و أن يقول إذا نزل من الصفا، و نوى السعي و ابتدأ فيه:

يا رب العفو يا من أمر بالعفو و هو أولى بالعفو العفو العفو.

و أن يكرر ذلك و هو يمشي حتى يبلغ المنارة، فإذا بلغها استحب له إن كان رجلا أن يهرول، و إن كانت امرأة مشت على حالها، و أن يقول:

اللهم اهدني للتي هي أقوم، و اغفر لي و ارحمني و تجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.

و يقول ذلك حتى يبلغ المنارة الأخرى، و يجاوز سوق العطارين، فيقطع الهرولة، و يمشي إلى المروة و هو يقول:

يا ذا المن و الطول و الكرم و الجود صل على محمد و آله و اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يا كريم.

و يكرر ذلك حتى يصل إلى المروة، و أن يصعد المروة و يقول من التكبير و التحميد و التهليل و الصلاة على محمد و آله مثل ما قال على الصفا ثم يقول:

اللهم إني أسألك حسن الظن بك، و صدق النية في التوكل عليك، اللهم افعل بي ما أنت أهله، و لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنك إن تفعل بي ما أنت

ص: 178

أهله، تغفر لي و ترحمني، و إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني و لم تظلمني. (1)

و إذا انحدر عائذا إلى الصفا فعل في كل موضع مثل ما فعل فيه أولا من دعاء و غيره، و لا يزال كذلك حتى يكمل سبعة أشواط، و حكم قطع السعي و السهو فيه و الشك حكم ذلك في الطواف، و لا يجوز الجلوس بين الصفا و المروة، و يجوز الوقوف عند الإعياء و الجلوس على الصفا و المروة، و يجوز السعي راكبا، و المشي أفضل، و دليل ذلك كله، إجماع الطائفة عليه.

الفصل العاشر

فإذا فرغ المتمتع من سعي المتعة وجب عليه التقصير، و هو أن يقص شيئا من أظفاره و أطراف شعر رأسه و لحيته، أو من أحد ذلك، فإذا فعل ذلك أحل من كل شي ء أحرم منه إلا الصيد، لكونه في الحرم، و الأفضل له أن يتشبه بالمحرمين إلى أن يحرم له بالحج، فإن نسي التقصير حتى أحرم بالحج فعليه دم شاة.

و الإحرام بالحج ينبغي أن يكون عند زوال الشمس من يوم التروية في المسجد الحرام، و أفضل ذلك تحت الميزاب أو عند المقام و يصنع فيه كما صنع في الإحرام الأول، من الغسل، و لبس ثوبيه، و الصلاة، و الدعاء، و النية، و عقده بالتلبية الواجبة، إلا أنه لا يذكر في الدعاء إلا الحج فقط، و لا يرفع صوته بالتلبية، ثم يخرج متوجها إلى منى (2)، و هو يقرأ إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فإذا بلغ إلى الرقطاء دون الردم [1] و أشرف على الأبطح، رفع صوته بالتلبية الواجبة و المندوبة، و

ص: 179


1- - في الأصل: و أن تظلمني.
2- - في «ج»: متوجها منه إلى منى.

يقول:

لبيك بحجة تمامها عليك، و يدعو فيقول:

اللهم إياك أرجو و إياك أدعو فبلغني أملي، و أصلح لي عملي، و تقبل مني، و أعطني سؤلي من رضوانك، و أجرني من عذابك.

فإذا أتى منى قال:

الحمد لله الذي أقدمنيها صالحا، و بلغنيها في عافية، اللهم هذه منى و هي مما مننت به علينا، فأسألك أن تمن علي فيها بما مننت به على أوليائك، فإنما أنا عبدك و في قبضتك، حيث أطلب رحمتك و أؤم رضوانك، فاجعل حظي منها أوفر حظ برحمتك.

و يستحب أن يبيت بمنى، و يصلي بها المغرب و عشاء الآخرة و الفجر، ليكون الإفاضة منها إلى عرفات، و لا يفيض منها الإمام حتى تطلع الشمس و يقول المتوجه إلى عرفات:

اللهم إليك صمدت و إياك اعتمدت و وجهك أردت، أسألك أن تصلي على محمد و آله و تبارك لي في رحلتي هذه و تجعلها خير غدوة غدوتها قط أقربها من رضوانك و أبعدها من سخطك.

و يلبي بالواجبة و المندوبة رافعا بهما صوته، و يقرأ إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حتى يأتي عرفات، و دليل هذا كله اتفاق الطائفة عليه.

الفصل الحادي عشر: في الوقوف بعرفة

الوقوف بها ركن من أركان الحج بلا خلاف، و أول وقته من حين تزول الشمس من اليوم التاسع بلا خلاف إلا من أحمد، و آخره للمختار إلى غروبها، و

ص: 180

للمضطر إلى طلوع الفجر يوم النحر، بلا خلاف، فمن فوته مختارا بطل حجه بلا خلاف، و إن كان مضطرا، فأدرك المشعر الحرام في وقت المضطر، فحجة ماض بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فقد ثبت وجوب الوقوف بالمشعر على ما سندل عليه، و كل من قال بذلك قال بما ذكرناه، و تفرقة (1) بين الأمرين يبطلها الإجماع.

و يستحب لمن أتى عرفات أن يضرب خباءه بنمرة و هي بطن عرنة، و أن يغتسل إذا زالت الشمس، و يجمع بين الظهر و العصر بأذان واحد و إقامتين، و أن يكون وقوفه في ميسرة الجبل، و أن يدعو في حال الوقوف، بدليل الإجماع المشار إليه.

و الواجب في الوقوف، النية، و مقارنتها، و استدامة حكمها، و أن لا يكون في الجبل إلا لضرورة، و لا في نمرة و لا ثوية و لا ذي المجاز و لا تحت الأراك، و أن يكون إلى غروب الشمس، فإن أفاض قبل الغروب متعمدا عالما بأن ذلك لا يجوز فعليه بدنة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و كيفية الوقوف أن يتوجه إلى القبلة، فيسبح الله تعالى مائة مرة، و يحمده مائة مرة، و يهلله مائة مرة، و يكبره مائة مرة، و يصلي على محمد و آله مائة مرة، و يقول:

ما شاء الله لا قوة إلا بالله أستغفر الله. مائة مرة و يقول:

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي لا يموت بيده الخير و هو على كل شي ء قدير. مائة مرة.

و يقرأ من أول سورة البقرة عشر آيات، و آية الكرسي، و آخر البقرة من قوله لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ (2) إلى آخرها، و آيات السخرة و هي في الأعراف من قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ إلى قوله إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (3)، و ثلاث آيات من آخر الحشر6.

ص: 181


1- - في حاشية الأصل: التفرقة.
2- - البقرة: 284.
3- - الأعراف: 54- 56.

و سورتي القدر و الإخلاص و المعوذتين، ثم يقول:

اللهم إني عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك و ارحم مسيري إليك، اللهم رب المشاعر الحرام كلها، فك رقبتي من النار، و أدخلني الجنة برحمتك، و أوسع علي من رزقك، و ادرأ عني شر فسقة الجن و الإنس، اللهم إني أسألك بحولك و طولك و مجدك و كرمك و فضلك يا أسمع السامعين، و يا أبصر الناظرين، و يا أسرع الحاسبين، و يا أرحم الراحمين، أن تصلي على محمد و آله، و أن تغفر لي و ترحمني و تفعل بي كذا و كذا.

و يذكر حوائجه للدنيا و الآخرة، و يقر بما يعرفه من ذنوبه، و يعترف به ذنبا ذنبا، و يستغفر الله منه، و ما لم يذكره يستغفر منه على الجملة، و يرفع رأسه إلى السماء و يقول:

اللهم حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرني ما منعتني، و إن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني فكاك رقبتي من النار، اللهم إني عبدك، ناصيتي بيدك، و أجلي بعلمك، أسألك أن توفقني لما يرضيك عني، و أن تسلم لي مناسكي التي أريتها خليلك إبراهيم عليه السلام، و دللت عليها نبيك محمدا صلى الله عليه و آله و سلم.

اللهم اجعلني ممن رضيت عمله و أطلت عمره و أحييته بعد الممات حياة طيبة، الحمد لله على نعمائه التي لا تحصى بعدد و لا تكافئ بعمل، الحمد لله الذي خلقني و لم أك شيئا مذكورا، و فضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد (1) لله الذي رزقني و لم أك أملك شيئا، الحمد لله على حلمه بعد علمه، و الحمد لله على عفوه بعد قدرته، الحمد لله على رحمته التي سبقت غضبه.

ثم يدعو بدعاء الموقف، و يجتهد في المسألة و الاستغفار.د.

ص: 182


1- - في «ج» و «س»: و الحمد.

الفصل الثاني عشر فإذا غربت الشمس و أفاض إلى المشعر

قال:

اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف، و ارزقنيه أبدا ما أبقيتني، و اقلبني اليوم مفلحا منجحا مستجابا لي مرحوما مغفورا لي بأفضل ما ينقلب به أحد من وفدك برحمتك يا أرحم الراحمين.

فإذا وصل إلى الكثيب الأحمر و هو عن يمين الطريق قال:

اللهم صل على محمد و آله، و زك عملي، و ارحم ذلي في موقفي [فوقني] (1) و سلم لي ديني و تقبل مناسكي.

فإذا وصل إلى المشعر- و حده ما بين المأزمين [1] إلى الحياض و إلى وادي محسر [2]- نزل به.

الفصل الثالث عشر: في الوقوف بالمشعر

الوقوف بالمشعر ركن من أركان الحج، و وقته للمختار من طلوع الفجر إلى ابتداء طلوع الشمس، و يمتد للمضطر الليل كله، فمن فاته حتى طلعت الشمس فلا حج له، يدل على ذلك الإجماع المتكرر ذكره و طريقة الاحتياط، لأنه لا خلاف

ص: 183


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج» و «س».

في صحة حج من وقف به، و ليس كذلك من لم يقف، و أيضا قوله تعالى:

فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (1). و ظاهر الأمر يقتضي الوجوب، و لا يصح الذكر فيه إلا بعد الكون به، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، و أيضا فعل (2) النبي عليه السلام يدل على ذلك، لأنه لا خلاف أنه وقف به، و قد قال عليه السلام: خذوا عني مناسككم (3)، و قد روي من طرق المخالف أنه عليه السلام قال: من ترك المبيت بالمزدلفة فلا حج له (4)، و يعارض المخالف بما قدمناه من روايتهم عنه عليه السلام من قوله، و هو بالمزدلفة:

من وقف معنا هذا الموقف و صلى معنا هذه الصلاة و قد كان قبل ذلك وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه (5) لأنه يدل على أن تمام الحج يتعلق بالوقوف بالموقفين، و قد قدمنا الجواب عن روايتهم عنه عليه السلام: من وقف بعرفة فقد تم حجه (6)، و قوله: الحج عرفة.

و الواجب في الوقوف النية و مقارنتها و استدامة حكمها، و أن لا يرتفع الواقف إلى الجبل إلا لضرورة من ضيق أو غيره، بدليل الإجماع المشار إليه، و الدعاء بأقل ما يسمى به المرء داعيا عند بعض أصحابنا(7)و الاحتياط يقتضي

ص: 184


1- - البقرة: 198.
2- - في «س»: ففعل.
3- - سنن البيهقي: 5- 125 و البحر الزخار: 2- 338 و 346، مسند أحمد بن حنبل 3- 318 و عوالي اللئالي: 1- 215 و: 4- 36.
4- - سنن الدار قطني: 2- 241 برقم 21 و 22 و لفظ الحديث «من فاته عرفات فقد فاته الحج» و عوالي اللئالي 1- 215 و نقله في الخلاف كتاب الحج المسألة 161 كما في المتن.
5- - جامع الأصول لابن الأثير: 4- 68.
6- - جامع الأصول: 3- 69 و سنن البيهقي: 5- 116.
7- (8)- الحلبي: إشارة السبق: 135.

ذلك، و ظاهر قوله تعالى فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (1).

و المستحب أن يطأ المشعر، و أن يكبر الله تعالى و يسبحه و يحمده و يهلله مائة مرة، و يصلي على محمد و آله ما تيسر و يقول:

اللهم اهدني من الضلالة، و أنقذني من الجهالة، و اجمع لي خير الدنيا و الآخرة، و خذ بناصيتي إلى هداك، و انقلني إلى رضاك، فقد ترى مقامي بهذا المشعر الذي انخفض لك فرفعته، و ذل لك فأكرمته، و جعلته علما للناس، فبلغني فيه مناي و نيل رجائي، اللهم إني أسألك بحق المشعر الحرام أن تحرم شعري و بشري على النار. و أن ترزقني حياة طيبة في طاعتك، و بصيرة في دينك، و عملا بفرائضك، و اتباعا لأوامرك، و خير الدارين جامعا، و أن تحفظني في نفسي و أهلي و مالي و إخواني برحمتك.

و أن يجتهد في الدعاء و المسألة إلى ابتداء طلوع الشمس، فإذا طلعت أفاض من المشعر، و لا يجوز لأحد مع الاختيار أن يخرج من المشعر قبل طلوع الفجر، و لا يجوز وادي محسر حتى تطلع الشمس، و لا يخرج الإمام من المشعر حتى تطلع الشمس، و يجوز للنساء إذا خفن مجي ء الدم الإفاضة ليلا، و إتيان منى و الرمي و الذبح و التقصير و دخول مكة للطواف و السعي.

و لا يجوز أن تصلي العشاءان إلا في المشعر إلا أن يخاف فوتها بخروج وقت المضطر، و يستحب الجمع بينهما بأذان واحد و إقامتين، و يستحب إذا أفاض من المشعر إلى منى أن يسير بسكينة و وقار، ذاكرا لله سبحانه مستغفرا له، و أن يقطع وادي محسر بالهرولة و يجزئه أن يهرول فيه مائة خطوة، و إن كان راكبا حرك فيه راحلته، كل ذلك بدليل الإجماع المتكرر ذكره.8.

ص: 185


1- - البقرة: 198.

الفصل الرابع عشر: في نزول منى

و حد منى من طرف وادي محسر إلى العقبة، و قد ذكرنا أن من السنة المبيت بها ليلة عرفة، و كذلك نزولها يوم النحر لقضاء المناسك بها، من رمي جمرة العقبة، و الذبح، و الحلق، و التقصير، و كذلك نزولها أيام التشريق للرمي، و المبيت بها ليالي هذه الأيام إلى حين الإفاضة، بلا خلاف، فإن ترك المبيت بها مختارا من غير عذر ليلة فعليه دم، فإن ترك ليلتين فعليه دمان، بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط.

فإن ترك الثالثة فلا شي ء عليه، لأن له أن ينفر في النفر الأول، و هو اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن لم ينفر فيه حتى غربت الشمس، فعليه المبيت الليلة الثالثة، فإن نفر و لم يبت فعليه دم ثالث، بدليل ما قدمناه، و أيضا قوله تعالى:

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (1). فعلق الرخصة باليوم الثاني، و هذا قد فاته اليوم الثاني (2)، فلا يجوز له أن ينفر.

و من أصاب النساء، أو شيئا من الصيد، أو كان صرورة [1] فليس له أن ينفر في النفر الأول، بل يقيم إلى النفر الأخير، و هو اليوم الثالث من أيام التشريق، و يجوز لمن عدا من ذكرناه (3) أن ينفر في الأول، و تأخير النفر الأخير أفضل له.

و من أراد النفر في الأول، فلا ينفر حتى تزول الشمس إلا لضرورة، فإنه

ص: 186


1- - البقرة: 203.
2- - في «س»: في اليوم الثاني.
3- - في «ج» و «س»: ما ذكرناه.

يجوز معها قبل الزوال، و من أراد النفر في الأخير جاز له ذلك بعد طلوع الشمس أي وقت شاء، و من أراد المقام بها جاز له ذلك، إلا الإمام وحده، فإن عليه أن يصلي الظهر بمكة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

الفصل الخامس عشر: في الرمي

لا يجوز الرمي إلا بالحصى، بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط، و يعارض المخالف بما روي من طرقهم من قوله صلى الله عليه و آله و سلم حين هبط وادي محسر: أيها الناس عليكم بحصى الخذف (1)، و هذا نص، و لا يجوز بالحصى المأخوذ من غير الحرم، و لا بالمأخوذ من المسجد الحرام، أو من مسجد الخيف، و لا بالحصى الذي قد رمي به مرة أخرى، سواء كان هو الرامي به أو غيره. بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط، و فعل النبي عليه السلام يدل على ذلك، لأنه لا خلاف أنه لم يرم بما ذكرناه، و قد قال: خذوا عني مناسككم. (2)

و مقدار الحصاة كرأس الأنملة، و أفضله الملتقط من المشعر الحرام البرش [1] منه ثم البيض و الحمر، و تكره السود، و يكره أن يكسره، بدليل الإجماع المشار إليه، و هو سبعون حصاة، يرمي يوم النحر جمرة العقبة، و هي القصوى، بسبع، و يرمي في كل يوم بعده الجمار الثلاث بإحدى و عشرين حصاة.

و وقت الاستحباب لرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس من يوم النحر بلا خلاف، و وقت الإجزاء من طلوع الفجر مع الاختيار، فمن رمى قبل ذلك لم يجز

ص: 187


1- - جامع الأصول: 4- 100 باختلاف قليل، و سنن البيهقي: 5- 126.
2- - سنن البيهقي: 5- 125 و جامع الأصول: 4- 99.

إلا أن يكون هناك ضرورة على ما قدمناه.

و وقت الرمي في أيام التشريق كلها بعد الزوال، و من فاته رمي يوم حتى غربت الشمس، قضاه في اليوم الثاني في صدر النهار، و من فاته الرمي بخروج أيام التشريق، قضاه من قابل، أو استناب من يرمي عنه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و يجب أن يبدأ بالجمرة الأولى، و هي العظمى، و هي التي إلى منى أقرب (1)، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، و هي التي إلى مكة أقرب، فإن خالف الترتيب استدركه، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فلا خلاف في صحته مع الترتيب، و ليس كذلك مع عدمه، و أيضا فقد اتفق على أنه عليه السلام رتب الرمي، و فعله يقع موقع البيان، فيجب الاقتداء به.

و يستحب أن يقف عند الأولى و الثانية و يكبر مع كل حصاة (2) و لا يقف عند الثالثة، كل ذلك بلا خلاف، و يستحب أن يكون الرامي على طهارة، و أن يقف من قبل وجه الجمرة، و لا يقف من أعلاها، و أن يكون بينه و بينها قدر عشرة أذرع إلى خمسة عشر ذراعا، و أن يقول و الحصاة في يده:

اللهم هذه حصياتي فأحصهن لي و ارفعهن في عملي.

و أن يرمي خذفا و هو أن يضع الحصاة على باطن إبهامه و يدفعها بظاهر مسبحته و يقول:

بسم الله اللهم صل على محمد و آله، و ادحر عني الشيطان و جنوده، اللهم إيمانا بك، و تصديقا بكتابك و على سنة نبيك، اللهم اجعله حجا مبرورا، و سعيا مشكورا، و ذنبا مغفورا.ة.

ص: 188


1- - في حاشية الأصل: التي تلي جانب منى.
2- - في «س»: مع عدد كل حصاة و في «ج» و يكبر مع عند كل حصاة.

و إذا نسي فرمى الأولى بثلاث حصيات، و رمى الجمرتين الأخرين على التمام، ثم ذكر، استأنف و رمى الجمرات الثلاث من أوله، فإن كان رمى الأولى بأربع، تمم رميها بثلاث حصيات، و لم يعد الرمي على الجمرتين الأخريين، و هذا حكمه إذا نسي فرمى الوسطى بثلاث أو أربع، و رمى الثالثة على التمام، و إذا علم أنه قد نقص حصاة و لم يعلم لأي الجمرات هي. رمى كل جمرة بحصاة، و إذا رمى حصاة فوقعت في محمل، أو على ظهر بعير، ثم سقطت على الأرض، أجزأت، و إلا فعليه أن يرمي عوضا عنها، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل السادس عشر: في الذبح

الذبح على ضربين: مفروض و مسنون:

فالمفروض في هدي النذر، و هدي الكفارة، و هدي التمتع، و هدي القران بعد التقليد أو الإشعار، و المسنون في هدي القران قبل التقليد و الإشعار و الأضحية، و هدي النذر يلزم من صفته، و سياقه، و تعيين موضع ذبحه أو نحره، ما يشترط الناذر بلا خلاف، و إن نذر هديا بعينه لم يجزه غيره، بدليل الإجماع من الطائفة و طريقة الاحتياط، و إن نذر مطلقا و لم يعين شيئا مما ذكرناه، فعليه أن يهدي إما من الإبل، أو البقر، أو الغنم، و أن ينحره، أو يذبحه بمكة قبالة الكعبة، بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط.

و لا يجوز أن يكون الهدي إلا ما ذكرناه، بدليل ما قدمناه و أيضا قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (1). لأنه لا خلاف أنه يتناول الإبل و البقر و الغنم دون غيرها، و هدي النذر مضمون على الناذر، يلزمه عوض ما انكسر منه، أو مات، أو

ص: 189


1- - البقرة: 196.

ضل (1)، و لا يحل له الأكل منه، بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط.

و أما هدي الكفارة فيختلف على حسب اختلاف الجنايات على ما قدمناه، و يلزم سياق ما وجب عن قتل الصيد من حيث حصل القتل إن أمكن ذلك، و لا يلزم سياق ما وجب عما عدا ذلك من الجنايات، و يذبح أو ينحر إن كان لتعد في إحرام المتعة، أو العمرة المبتولة المفردة، بمكة قبالة الكعبة، و في إحرام الحج بمنى، و حكمه في الضمان و تحريم الأكل، حكم هدي النذر.

و أما هدي التمتع فأعلاه بدنة، و أدناه شاة، و يذبح أو ينحر بمنى، و كذا هدي القران، و يلزم سياقه بعد التقليد أو الإشعار، على ما قدمناه و إن كان ابتداؤه تطوعا، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.

و التقليد: هو أن يعلق عليه نعل أو قلادة (2)، و الإشعار: أن يشق السنام من الجانب الأيمن بحديدة حتى يسيل الدم، و من السنة ذلك لكل من ساق هديا، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما روي من طرقهم من أنه عليه السلام صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعى ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها من الجانب الأيمن. (3)

و يجوز الأكل من هدي التمتع و القران، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (4)، و الهدي الذي يترتب عليه قضاء التفث هو هدي التمتع و القران، و يجوز الأكل من الأضحية بلا خلاف، و أفضل الهدي و الأضاحي من الإبل و البقر و المعز الإناث و من الغنم الفحولة.

ص: 190


1- - في «ج»: «أو فصل» و الظاهر انه تصحيف.
2- - في الأصل: «مزادة» بدل «قلادة».
3- - سنن البيهقي: 5- 232.
4- - الحج: 28- 29.

و لا يجوز من الإبل و البقر و المعز إلا الثني و هو من الإبل الذي قد تمت له خمس سنين و دخل في السادسة، و من البقر و المعز الذي قد تمت له سنة و دخل في الثانية، و يجزي من الضأن الجذع، و هو الذي لم يدخل في السنة الثانية.

و لا يجوز مع الاختيار أن يكون ناقص الخلقة، و لا أعور بين العور، و لا أعرج بين العرج، و لا مهزولا و لا أخرم [1] و لا أجدع و هو المقطوع الأذن، و لا خصيا، و لا أعضب و هو المكسور القرن، إلا أن يكون الداخل صحيحا، و الخارج مقطوعا فإنه جائز.

و لا يجوز التضحية بمنى إلا بما قد أحضر عرفات سواء هو أو غيره، و لا يجزي الهدي الواحد في الواجب إلا عن واحد مع الاختيار، و مع الضرورة تجزي البدنة أو البقرة عن خمسة و عن سبعة، فأما المتطوع به فيجوز اشتراك الجماعة فيه مع الاختيار إذا كانوا أهل خوان واحد، و إن لم يكونوا كذلك فاشتراكهم جائز مع الاضطرار.

و من السنة أن يتولى المهدي الذبح أو النحر بنفسه أو يشارك الفاعل لذلك، و أن ينحر لما ينحر و هو قائم معقول اليد اليسرى من الجانب الأيمن من اللبة، و لا يجوز أن يعطي الجزار شيئا من الهدي و لا من جلاله [2] على جهة الأجرة، و يجوز على وجه الصدقة.

و أيام الذبح بمنى أربعة: يوم النحر و ثلاثة بعده، و في سائر الأمصار ثلاثة:

يوم النحر و يومان بعده، و يجوز ذبح هدي التمتع طول ذي الحجة، و من لم يجده و وجد ثمنه، تركه عند من يثق به، ليشتريه في العام المقبل و يذبحه عنه، فإن لم يقدر على الثمن صام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله، على ما بيناه فيما مضى، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

**-***

[1]- الخرم- بالضم-: موضع الثقب، و خرمته: قطعته. المصباح المنير.

[1]- جل الدابة كثوب الإنسان يلبسه يقيه البرد، و الجمع جلال و إجلال. المصباح المنير.

ص: 191

الفصل السابع عشر: في الحلق

إذا ذبح الحاج هديه أو نحره فليحلق رأسه، يجلس مستقبل القبلة، و يأمر الحلاق أن يبدأ بالناصية من الجانب الأيمن، و يقول:

اللهم أعطني بكل شعرة نورا يوم القيامة و حسنات مضاعفات، و كفر عني السيئات إنك على كل شي ء قدير.

و الحلق نسك و ليس إباحة محضة كاللبس و الطيب، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ. (1) و قد جاء في التفسير أنه الحلق و باقي المناسك، من الرمي و غيره، و إذا أمر تعالى به فهو نسك، و يعارض المخالف بما رووه من أنه عليه السلام قال لأصحابه:

انحروا و احلقوا، و أنه دعا للمحلقين ثلاثا و للمقصرين مرة [1]، و لو لا أنه نسك لما أمر به، و لا استحق لأجله الدعاء، و يجوز التقصير بدلا من الحلق، و قد روي أن الصرورة لا يجزئه إلا الحلق (2)، و ينبغي أن يكون الحلق بمنى، فمن نسيه حتى خرج منها عاد إليها فحلق، فإن لم يتمكن، حلق بحيث هو، و بعث بشعره ليدفن بها، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الثامن عشر

ثم يدخل مكة من يومه أو من الغد لطواف الزيارة- و هو طواف الحج-،

ص: 192


1- - الحج: 29.
2- - لاحظ الوسائل: 10 ب 7 من أبواب الحلق، ح 10.

و للسعي بين الصفا و المروة، و لطواف النساء، و يصنع قبل دخوله مكة و المسجد و في الطواف و السعي، مثل ما فعله أولا، ثم يخرج من يومه إلى منى، للمبيت بها و رمي الجمار، على ما قدمناه، و يستحب له إذا نفر من منى أن يأتي مسجد الخيف، فيصلي فيه ست ركعات عند المنارة التي في وسطه، و يسبح تسبيح الزهراء عليها السلام، و يدعو بما أحب، و أن يحول وجهه إلى منى إذا جاوز جمرة العقبة، و يقول:

اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المقام و ارزقنيه أبدا ما أبقيتني.

و أن يدخل مسجد الحصباء إذا بلغ إليه، و يصلي فيه، و يستريح بالاستلقاء على ظهره، و إذا أراد المسير من مكة، استحب له أن يطوف بالبيت طواف الوداع، و أن يدخله و يصلي في زواياه، و على الرخامة الحمراء و يكثر من التضرع و الدعاء، و أن يأتي زمزم فيشرب من مائها، و يصلي عند المقام ركعتين، و يدعو بدعاء الوداع، كل ذلك بدليل الإجماع المتكرر.

الفصل التاسع عشر

و حكم النساء حكم الرجال إلا في النحر و الإحرام و الحلق، و عليهن كشف الوجوه و التقصير، و لا يستحب لهن رفع الصوت بالتلبية و لا الهرولة بين الميلين، و تؤدي الحائض و النفساء جميع المناسك إلا الطواف، فإنها تقضيه إذا طهرت، بدليل الإجماع المشار إليه، و ليس وجود المحرم شرطا في وجوب الحج على المرأة في صحة الأداء، بدليل الإجماع الماضي ذكره و قوله تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (1). و فسر النبي عليه السلام السبيل بالزاد و الراحلة، و لم يشترط المحرم.

ص: 193


1- - آل عمران: 97.

الفصل العشرون

و أما ما يفسد الحج فقد تقدم فيما مضى، فلا وجه لإعادته، و أما ما يتعلق به من الأحكام، قد مضى أيضا معظمه في المواضع التي يختص بذكره، و بقي ما نحن ذاكرون المهم منه.

اعلم أن من مات و عليه حجة الإسلام وجب إخراجها من أصل التركة، سواء أوصى بها أو لم يوص، بدليل إجماع الطائفة و طريقة الاحتياط، و أيضا فقد اتفقنا على وجوب الحج عليه، فمن أسقطه بالموت فعليه الدليل، و يعارض المخالف بخبر الخثعمية (1) لأنه عليه السلام سمى الحج دينا، و أكده على دين الآدمي بقوله: فدين الله أحق أن يقضى (2)، و الدين يخرج من أصل التركة و يقدم على الميراث.

و من نذر الحج و عليه حجة الإسلام لزمه أداء الحجتين، لأنهما فرضان اختلف سببهما، فلا يسقط أحدهما بفعل الآخر، و طريقة الاحتياط، و اليقين لبراءة الذمة يقتضي ما اخترناه، و لا يجري ذلك مجرى ما يتداخل من الحدود و الكفارات لأنها عقوبات، فجاز سقوط بعضها بفعل بعض، و ما نحن فيه مصالح و عبادات يفتقر صحة أدائها إلى النية، و إنما لامرئ ما نوى، و من كان فقيرا و بذلت له الاستطاعة لزمه الحج، لإجماع الطائفة، و ظاهر قوله تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. (3).

ص: 194


1- - في «س»: و يعارض المخالف به بخبر الخثعمية.
2- - صحيح البخاري: 3- 46 كتاب الصوم باب من مات و عليه صوم و ص 23 كتاب الحج باب الحج و النذور عن الميت، و صحيح مسلم: 2- 156 كتاب الصيام باب قضاء الصيام عن الميت، و سنن البيهقي: 4- 255 و 256 و جامع الأصول: 4- 197.
3- - آل عمران: 97.

و من صد بعدو أو أحصر بمرض فلم يستطع النفوذ لأداء المناسك، فإن كان قارنا أنفذ هديه (1)، و إن كان متمتعا أو مفردا أنفذ ما يبتاع به الهدي، فإذا بلغ محله، و هو يوم النحر، فليحلق رأسه، و يحل إن كان مصدودا بعدو من كل شي ء أحرم منه، و إن كان محصورا بمرض تحلل من كل شي ء إلا النساء حتى يطوف طوافهن من قابل أو يطاف عنه، و الدليل على ذلك الإجماع الماضي ذكره و أيضا قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (2) و ذلك عام في المرض و العدو معا.

و ليس لأحد أن يقول: الآية خاصة في الإحصار بالعدو، لأنها نزلت بسبب صد المشركين عام الحديبية للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و للمسلمين عن البيت، لأن الكلام إذا خرج على سبب لم يجز قصره عليه، بل يجب حمله على عمومه، و إدخال السبب فيه، على ما بيناه فيما مضى من أصول الفقه، و يؤيد ذلك في هذا الموضع، أنه تعالى لو أراد الإحصار بالعدو خاصة، لقال: «فإن حصرتم» لأنه اللفظ المختص بالعدو دون المرض، و لم يقل أُحْصِرْتُمْ من الإحصار المشترك بينهما.

قال الكسائي و الفراء و أبو عبيدة و ثعلب و أكثر أهل اللغة: يقال: أحصره المرض لا غير، و حصره العدو و أحصره أيضا، و ليس لأحد أن يقول: قوله تعالى في سياق الآية فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ (3) دليل على أنه أراد الإحصار بالعدو، و لأن الأمن قد يكون من المرض، و هو أن يأمن زيادته، على أن لفظ الإحصار إذا كان حقيقة في المرض و العدو، كان قوله تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ راجعا إلى بعض ما يتناوله العموم، و هذا لا يمتنع من دخول غير ما تعلق التخصيص في الخطاب.

و لا يجوز ذبح هدي الإحصار إلا بمحله من البيت أو منى مع الاختيار، و مع الضرورة يجوز ذبحه بحيث هو، بعد أن ينتظر به بلوغ محله، و هو يوم النحر،6.

ص: 195


1- - في «ج» و الأصل: نفذ.
2- - البقرة: 196.
3- - البقرة: 196.

بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (1)، و لا شبهة في أنه تعالى كلف ذلك مع التمكن منه، فإذا فقد التمكن يسقط تكليفه، و يحتج على من قال: بأن ذبحه لا يجوز إلا بالحرم، بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذبح هديه بالحديبية حين صده المشركون عن مكة و هذا مما قد اتفقوا على روايته.

و إذا لم يكن لمن ذكرنا حاله هدي و لا قدر على شرائه، لم يجز له التحلل، و يبقى الهدي في ذمته، و يبقى محرما إلى أن يذبحه من قابل، أو يذبح عنه، و لم ينتقل إلى الإطعام و لا إلى الصوم، بدليل الإجماع الماضي ذكره و أيضا قوله تعالى:

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. (2) الآية، و التقدير فإن أحصرتم و أردتم التحلل فما استيسر من الهدي، و لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، فإذا بلغ فاحلقوا، و لم يذكر لذلك بدلا، و لو كان له بدل، لذكره، كما ذكر بدل نسك حلق الرأس من الأذى، و بهذا نستدل على أن قوله: «فحلى حيث حبستني» لا يغني عن الهدي في التحلل، و إنما ندب المكلف إلى هذا القول تعبدا.

و يجب على ما ذكرنا حاله القضاء إن كان حجا واجبا، و لا قضاء عليه إن كان تطوعا، و الاستئجار على الحج عن الميت و المعضوب [1] جائز بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فالأصل جواز الإجارة في جميع الأشياء فمن منع من ذلك في بعضها فعليه الدليل، و يعارض المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة [2]: حج عن نفسك ثم عن شبرمة (3) و بخبر الخثعمية (4) لأنه دل علىا.

ص: 196


1- - البقرة: 196.
2- - البقرة: 196.
3- - جامع الأصول: 4- 197 و 199 أسد الغابة: 2- 384، و سنن ابن ماجة: 2- 969 برقم 2903.
4- - لاحظ سنن البيهقي: 4- 256 كتاب الصوم و ص 328 كتاب الحج، و التاج الجامع للأصول: 2- 110 و 111 و تقدمت مصادر الخبر آنفا.

جواز النيابة.

و يستحق الأجير جميع الأجرة بأداء الحج، بلا خلاف ممن أجاز الاستئجار، و كذا حكمه عندنا إن مات بعد الإحرام و دخول الحرم بلا خلاف بين أصحابنا، و يسقط الحج عن المحجوج عنه بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بخبر الخثعمية لأن ظاهره يقتضي أنه يسقط بالنيابة، كما يسقط أيضا الدين.

و متى صد النائب عن النفوذ قبل دخول الحرم وجب عليه أن يرد ما بقي عنده من نفقة الطريق، و يجب عليه أيضا قضاء الحج إذا أفسده، و كفارة ما يجنبه فيه من ماله، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يجوز أن يكون النائب صرورة إذا كان غير مخاطب بالحج لعدم الاستطاعة، فإذا كان مخاطبا بذلك لم تجز له النيابة حتى يؤدي ما عليه، و يلزم النائب أن ينوي بكل منسك أداه نيابة عن فلان بن فلان طاعة لله و قربة إليه، كل ذلك بدليل الإجماع المتكرر.

و من فاته الحج بقي على إحرامه إلى انقضاء أيام التشريق، ثم دخل مكة فطاف و سعى و جعل حجته عمرة، و من وكيد السنة قصد المدينة لزيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

الفصل الحادي و العشرون

و العمرة المبتولة واجبة على أهل مكة و حاضريها مرة في العمر، و من سواهم يغنيه عن نيل العمرة (1) تمتعه بها إلى الحج، و قد ندب إلى التطوع بها في كل شهر مرة أو في كل سنة، و أفضل الشهور للاعتمار «رجب» و يصنع مريدها في الإحرام لها، و الطواف و السعي، مثل ما قدمناه أولا، و يطوف بعد السعي طوافا آخر، و هو طواف النساء، لأنه لازم في العمرة المفردة كالحج، ثم يحلق رأسه و يذبح إن كان

ص: 197


1- - في الأصل و «ج»: عن تيل العمرة.

قد ساق هديا قبالة الكعبة، أو يتبرع بذلك إن شاء، و قد أحل من كل شي ء أحرم منه، و حكمه إن صد بعدو أو أحصر بمرض ما قدمناه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و يدل على وجوب العمرة أيضا قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1)، و الإتمام لا يحصل إلا بالدخول فوجب، و قد روى المخالف عن ابن عباس و ابن مسعود [1] أنهما قرأا: «و أقيموا الحج و العمرة لله» (2)، و يحتج على المخالف بما روي من قوله صلى الله عليه و آله و سلم للذي سأله عن الإسلام: هو أن يشهد أن لا إله إلا الله إلى قوله: و يحج و يعتمر (3)، و هذا نص لأنه عد العمرة من فرائض الإسلام.0.

ص: 198


1- - البقرة: 196.
2- - سنن البيهقي: 4- 341 و الدر المنثور: 1- 502 في ذيل الآية و فيه: و أقيموا الحج و العمرة للبيت. و التفسير الكبير: 5- 140 في ذيل الآية.
3- - سنن البيهقي: 4- 350.

كتاب الجهاد

الجهاد فرض من فرائض الإسلام بلا خلاف، و جملة ما يحتاج إلى علمه فيه خمسة أشياء:

شرائط وجوبه.

و كيف يجب.

و من يجب جهاده.

و كيفية فعله.

و ما يتعلق بذلك من أحكامه، و أحكام الغنائم.

أما شرائط وجوبه: فالحرية، و الذكورة، و البلوغ (1)، و كمال العقل، و الاستطاعة له بالصحة و القدرة عليه و على ما يفتقر إليه فيه، من ظهر و نفقة و أمر الإمام العادل به أو من ينصبه الإمام، أو ما يقوم مقام ذلك، من حصول خوف على الإسلام، أو على الأنفس و الأموال.

و متى اختل شرط من هذه الشروط، سقط فرض الجهاد بلا خلاف أعلمه، و مع تكاملها هو فرض على الكفاية، إذا قام به من فيه كفاية سقط عن غيره

ص: 199


1- - في الأصل و «س»: البلوغة.

بلا خلاف إلا من ابن المسيب [1] و يدل على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى:

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (1) الآية. لأنه تعالى فاضل بين المجاهدين و القاعدين، و وعد كلا منهم الحسنى، و هذا يدل على أن القعود جائز و إن كان الجهاد أفضل منه.

و أما من يجب جهاده: فكل من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفار، و من أظهره و بغى على الإمام العادل، و خرج عن طاعته، أو قصد إلى أخذ مال المسلم و ما هو في حكمه، من مال الذمي، و أشهر السلاح في بر أو بحر أو سفر أو حضر، بلا خلاف.

فأما كيفية الجهاد و ما يتعلق به و بالغنائم من الأحكام: فاعلم أنه ينبغي تأخير لقاء العدو إلى أن تزول الشمس، و تصلى الصلاتان، و أن يقدم قبل الحرب الإعذار و الإنذار و الاجتهاد في الدعاء إلى الحق، و أن يمسك عن الحرب بعد ذلك كله حتى يبدأ بها العدو، لتحق الحجة عليه، و يتقلد بذلك البغي.

فإذا عزم أمير الجيش عليها، استخار الله تعالى في ذلك، و رغب إليه في النصر، و عبأ [2] أصحابه صفوفا، و جعل كل فريق منهم تحت راية أشجعهم و أبصرهم بالحرب، و جعل لهم شعارا يتعارفون به، و قدم الدارع أمام الحاسر [3]، و وقف هو في القلب.5.

ص: 200


1- - النساء: 95.

و ليجتهد في الوصية لهم بتقوى الله، و الإخلاص في طاعته، و بذل الأنفس في مرضاته، و يذكرهم ما لهم في ذلك من الثواب في الآجل، و من الفضل و علو الكلمة في العاجل، و يخوفهم الفرار و يذكرهم ما فيه من عاجل العار و آجل النار.

فإذا أراد الحملة أمر فريقا من أصحابه بها، و بقي هو في فريق آخر ليكونوا فئة تتحيز إليها صفوفهم، فإذا تضعضع لهم العدو و زحف هو بمن معه زحفا، يبعث من أمامه على الأخذ بضم القوم (1)، فإذا زالت صفوفهم عن أماكنها حمل هو حملة واحدة.

و لا يجوز أن يبارز أحد إلا بإذن الإمام أو من نصبه، و لا يجوز أن يفر واحد من واحد و لا من اثنين، و يجوز من ثلاثة فصاعدا، و يجوز قتال العدو بكل ما يرجى به الفتح من نار و منجنيق و غير هما و إن كان فيما بينهم مسلمون، إلا إلقاء السم، فإنه لا يجوز أن يلقى في ديارهم، و لا يقاتل في الأشهر الحرم من يرى لها حرمة من الكفار إلا أن يبدأوا فيها بالقتال.

و جميع من خالف الإسلام من الكفار يقتلون مدبرين و مقبلين، و يقتل أسيرهم، و يجاز على جريحهم، و كذا حكم البغاة على الإمام إن كان لهم فئة يرجعون إليها، و إن لم يكن لهم فئة، لم يتبع مدبرهم، و لم يجهز على جريحهم، و لم يقتل أسيرهم.

و أسرى [1] من عدا من ذكرناه من المحاربين على أخذ المال إن كانوا قتلوا و لم يأخذوا مالا قتلوا، و إن أخذوا مع القتل مالا صلبوا بعد القتل، و إن تفردوا بأخذ المال قطعوا من خلاف، فإن لم يقتلوا و لم يأخذوا مالا نفوا من الأرضم.

ص: 201


1- - كذا في الأصل و «ج» و لكن في «س»: بكظم القوم.

بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر، كل ذلك بدليل الإجماع من الطائفة عليه.

و من لا كتاب له من الكفار لا يكف عن قتاله إلا بالرجوع إلى الحق، و كذا حكم من أظهر الإسلام من البغاة و المحاربين، و من له كتاب- و هم اليهود و النصارى و المجوس- يكف عن قتالهم إذا بذلوا الجزية و دخلوا تحت شروطها، و لا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان، سواء كانوا عجما أو عربا، و لا من الصابئين و لا من غيرهم، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1)، و قوله تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ (2)، و لم يذكر الجزية، و قوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ إلى قوله:

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ (3)، فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب، و هؤلاء ليسوا كذلك.

و الجزية ما يؤدونه في كل سنة مما يضعه الإمام على رؤوسهم، أو على أرضهم، و ليس لها قدر معين، بل ذلك راجع إلى ما يراه الإمام، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن تقدير ذلك يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل عليه.

و ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنه وضع على كل واحد من أغنيائهم ثمانية و أربعين درهما، و على من هو من أوساطهم أربعة و عشرين، و على من هو من فقرائهم اثني عشر (4)، إنما هو على حسب ما رآه في وقته، و ليس بتقدير لها على كل حال. و لا يجوز أخذها إلا من الذكور البالغين الكاملي العقول.

و إذا أسلم الذمي و قد وجبت عليه الجزية بحؤول الحول سقطت عنه بالإسلام، بدليل الإجماع المشار إليه، و يعارض المخالف بقوله: الإسلام يجب ما5.

ص: 202


1- - التوبة: 5.
2- - محمد: 4.
3- - التوبة: 29.
4- - لاحظ وسائل الشيعة: 11 باب 68 من أبواب جهاد العدو، ح 5.

قبله [1]، و بقوله: لا جزية على مسلم (1). و الجزية تصرف إلى أنصار الإسلام خاصة على ما جرت به السنة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و شرائط الجزية: أن لا يجاهروا المسلمين بكفرهم، و لا بتناول المحرمات في شريعة الإسلام، و لا يسبوا مسلما، و لا يعينوا على أهل الإسلام، و لا يتخذوا بيعة و لا كنيسة، و لا يعيدوا ما استهدم من ذلك، و تلزم نصرتهم و المنع منهم ما وفوا بهذه الشروط، و متى أخلوا بشي ء منها، صارت دماؤهم هدرا، و أموالهم و أهاليهم فيئا للمسلمين، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يغنم من جميع من خالف الإسلام من الكفار ما حواه العسكر و ما لم يحوه من الأموال و الأمتعة و الذراري و الأرضين، و لا يغنم ممن أظهر الإسلام من البغاة و المحاربين إلا ما حواه العسكر من الأموال و الأمتعة التي تخصهم فقط، من غير جهة غصب دون ما عداها.

و للإمام أن يصطفي لنفسه قبل القسمة ما شاء، من فرس، أو جارية، أو درع، أو سيف، أو غير ذلك- و هذا من جملة الأنفال- و أن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الإسلام، و ليس لأحد أن يعترض عليه و إن استغرق ذلك جميع الغنيمة، ثم يخرج منها الخمس لأربابه.8.

ص: 203


1- - سنن البيهقي: 9- 199 و لفظ الحديث: ليس على مؤمن جزية، و كنز العمال: 4- 379. و فيه «ليس على مسلم جزية» و كذا في جامع الأصول: 3- 268.

و يقسم ما بقي مما حواه العسكر بين المقاتلة خاصة، لكل راجل سهم، و لكل فارس سهمان و لو كان معه عدة أفراس، و يأخذ المولود في دار الجهاد، و من أدرك المجاهدين للمعونة لهم يأخذ مثل ما يأخذ المقاتل، و حكم غنيمة البحر في القسمة بين من له فرس و من ليست له، حكم غنيمة البر سواء، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و ما لم يحوه العسكر من غنائم من خالف الإسلام من الكفار، من أرض و عقار و غيرها، فالجميع للمسلمين المقاتل منهم و غير المقاتل، و الحاضر و الغائب، و هذه الأرض المفتتحة عنوة بالسيف، لا يجوز التصرف فيها ببيع و لا وقف و لا غيرهما، و للإمام أن يقبلها بما يراه، و على المتقبل- بعد إخراج حق القبالة فيما بقي في يده- الزكاة إذا تكاملت شروطها.

و أما أرض الصلح فهي أرض الجزية إذا شاء الإمام أن يضعها على الأرض بدلا من الرؤوس، و تسمى الخراجية، و قد بينا أن ذلك يختص بأهل الكتاب، و هذه الأرض يصح التصرف فيها لأربابها بسائر أنواع التصرف، و حكم ما يؤخذ من هذه الأرض، حكم جزية الرؤوس، يسقط بالإسلام، و إذا بيعت الأرض لمسلم سقط خراجها (1)، و انتقلت الجزية إلى رأس بائعها به.

و أما أرض الأنفال، و هي كل أرض أسلمها أهلها من غير حرب، أو جلوا عنها، و كل أرض مات مالكها، و لم يخلف وارثا بالقرابة و لا بولاء العتق، و بطون الأودية، و رؤوس الجبال، و الآجام، و قطائع الملوك من غير جهة غصب، و الأرضون الموات، فللإمام خاصة دون غيره، و له التصرف فيها بما يراه، من بيع أو هبة أو غيرهما، و أن يقبلها بما يراه، و على المتقبل- بعد حق القبالة و تكامل الشروط- ما بيناه من الزكاة.ا.

ص: 204


1- - في «ج»: يسقط خراجها.

و من أخذ أسيرا قبل أن تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، وجب قتله، و لم يجز للإمام استبقاؤه، و إن أخذ بعد الفتح، فالإمام مخير بين المن عليه بالإطلاق أو المفاداة أو الاستبعاد، و إذا غلب الكفار على شي ء من أموال المسلمين و ذراريهم، ثم ظهر عليهم المسلمون، فأخذوا ذلك، فالذراري خارجون عن الغنيمة، و ما عداهم من الأمتعة و الرقيق إن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير عوض، و إن وجده بعدها أخذه، و دفع الإمام إلى من وقع في سهمه قيمته من بيت المال، لئلا تنتقض القسمة، و دليل ذلك كله الإجماع المتكرر و فيه الحجة.

ص: 205

ص: 206

كتاب البيع

اشارة

جملة ما يحتاج إليه معرفة أقسامه و شروطه و أسباب الخيار فيه و مسقطاته و ما يتعلق بذلك من الأحكام به.

أما أقسامه فأربعة: بيع عين حاضرة مرئية، و بيع خيار الرؤية في الأعيان الغائبة، و بيع ما فيه الربا بعضه ببعض، و بيع موصوف في الذمة إلى أجل معلوم و هو السلم.

و أما شروطه فعلى ضربين: أحدهما شرائط صحة انعقاده، و الثاني شرائط لزومه.

فالضرب الأول: ثبوت الولاية في المعقود عليه، و أن يكون معلوما مقدورا على تسليمه، منتفعا به منفعة مباحة، و أن يحصل الإيجاب من البائع و القبول من المشتري من غير إكراه و لا إجبار إلا في موضع نذكره، و يختص بيع ما فيه الربا و بيع السلم بشروط زائدة على ذلك، نبينها في بابها إن شاء الله.

اشترطنا ثبوت الولاية احترازا من بيع من ليس بمالك للمبيع، و لا في حكم المالك له، و هم ستة: الأب و الجد و وصيهما و الحاكم و أمينه و الوكيل، فإنه لا ينعقد و إن أجازه المالك، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و لأن صحة انعقاده حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ثبوت ذلك

ص: 207

ها هنا، و يعارض المخالف بما رووه من نهيه صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده (1)، و من قوله: لا بيع إلا فيما يملك (2)، و لم يفصل بين ما أجازه المالك و ما لم يجزه.

و قد دخل فيما قلناه جواز بيع أم الولد إذا مات ولدها، أو كان حيا و ثمنها دينا على سيدها، و لا يقدر على قضائه إلا ببيعها، لأنها مملوكة للسيد بلا خلاف، و لهذا جاز له وطؤها و عتقها و مكاتبتها و أخذ ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها، و لهذا وجب على قاتلها قيمتها دون الدية، فالأصل جواز بيعها لأنه في حكم الملك (3) و إنما منعنا منه مع بقاء الولد و عدم الاستدانة لثمنها و العجز عن وفائه من غيرها، لدليل، و هو الإجماع على ذلك، و بقينا فيما عدا هذا الموضع على حكم الأصل.

و يدل على ما قلناه بعد إجماع الطائفة ظاهر قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (4). لأنه عام في أمهات الأولاد و غيرهن، و لا يخرج من هذا الظاهر إلا ما أخرجه دليل قاطع، و ما يتعلق به المخالف في المنع من بيعهن، أخبار آحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة، على ما بيناه فيما مضى، ثم غاية ما يحصل بها غالب الظن، و ما هذه حاله لا يجوز الرجوع به عما يوجب العلم، على أنها معارضة بأخبار مثلها واردة من طرقهم تقتضي جواز بيعهن، و إذا تعارضت الأخبار سقط التعلق بها.

و قول من يقول منهم: إذا كان ولد هذه الأمة حرا، و كان كالجزء منها، فحريته متعدية إليها، ظاهر البطلان، لأن أول ما فيه أن يقال لهم: كيف ادعيتم5.

ص: 208


1- - سنن البيهقي: 5- 267 و 317 و 339 كتاب البيع، و مسند أحمد: 3- 402 و 434.
2- - سنن البيهقي: 5- 340 و لاحظ جامع الأصول: 1- 380- 388، الباب الثاني في بيع. ما لا يملك.
3- - في الأصل: من حكم الملك.
4- - البقرة: 275.

إن حرية الولد تتعدى إلى الأم؟ و من مذهبكم أن الأم لا تتبع الولد في الأحكام بل الولد هو الذي يتبعها، و لهذا إذا أعتقت الأم عتق ما في بطنها و لا تعتق هي إذا عتق، ثم يلزمهم (1) أن يعتق في الحال، و في تأخر العتق إلى موت السيد ما يبطل ما قالوه، على أن من مذهب الشافعي أن من تزوج أمة ثم اشتراها بعد ما أولدها، لم تتعد الحرية من الولد إليها، بل هي أمة حتى تحمل منه و هي في ملكه (2) فلا يصح له التعلق بذلك.

و قد دخل أيضا فيما قلناه جواز بيع المدبر بعد نقض تدبيره- إن كان تدبيره تطوعا- لأنه مملوك، و تدبيره يجري مجرى الوصية، و تغييرها جائز للموصي ما دام حيا، و إن كان تدبيره واجبا- بأن يكون قضاء لنذر- لم يجز بيعه لأن ما هذه حاله لا يجوز نقضه و لا الرجوع فيه، و جواز بيع المكاتب أيضا متى شرط عليه أنه إن عجز عن الأداء أو عن بعضه (3) عاد رقا فعجز، فأما إذا كوتب من غير شرط فإنه لا يجوز بيعه، و يدل على ذلك كله الإجماع المشار إليه.

و قد دخل فيما أصلنا نفوذ بيع ما يصح بيعه إذا بيع معه في صفقة واحدة ما لا يجوز بيعه، لأنه مملوك يصح بيعه منفردا بلا خلاف، فمن أبطله في هذه الصورة فعليه الدليل، و يدل على ذلك بعد إجماع الطائفة ظاهر قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (4).

و قد دخل فيه أيضا جواز بيع المعقود عليه قبل قبضه من الثمن و المثمن معا، و سواء في ذلك المنقول و غيره إلا أن يكون المبيع طعاما، فإن بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعا، و يدل على ما قلناه الإجماع المتكرر و دلالة الأصل و ظاهر القرآن.5.

ص: 209


1- - في الأصل: ثم يلزمكم.
2- - لاحظ المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 12- 496 كتاب عتق أمهات الأولاد.
3- - في «ج» و «س»: و عن بعضه.
4- - البقرة: 275.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من ابتاع طعاما فلا يبيعه قبل أن يستوفيه (1)، فخص الطعام بذلك، و لو كان حكم غيره حكمه لبينه.

و يخرج على ما اشترطناه بيع العبد الجاني جناية توجب القصاص بغير إذن المجني عليه، فإنه لا يجوز بيعه، لأنه قد صار حقا له، فأما إن كانت توجب الأرش و التزمه السيد فإنه يجوز بيعه، لأنه لا وجه يفسده.

و يخرج على ذلك (2) أيضا بيع من ليس بكامل العقل و شراؤه، فإنه لا ينعقد و إن أجازه الولي، بدليل ما قدمناه من الإجماع، و نفي الدليل الشرعي على انعقاده، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، و عن النائم حتى يستيقظ، و عن المجنون حتى يفيق. (3)

و يخرج على ذلك أيضا شراء الكافر عبدا مسلما، بدليل ما قدمناه من الإجماع و نفي الدليل الشرعي، و أيضا قوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (4)، لأنه عام في جميع الأحكام، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه. [1]1.

ص: 210


1- - سنن النسائي: 7- 285 بيع الطعام قبل أن يستوفى، سنن البيهقي: 5- 314 و 6- 31.
2- - في «ج» و «س»: «و يخرج عن ذلك» و كذا فيما يأتي.
3- - سنن البيهقي: 6- 57 كتاب الحجر، و مسند أحمد بن حنبل: 6- 100 و 110 و المستدرك على الصحيحين: 2- 59 و الجامع الصغير 2- 16.
4- - النساء: 141.

و اشترطنا أن يكون المعقود عليه معلوما، لأن العقد على المجهول باطل بلا خلاف، لأنه من بيع الغرر، فلو قال: بعتك عبدا أو ثوبا أو بما يبيع به فلان سلعته، لم يصح، بل لا بد من علمه بالمشاهدة، و علم مقداره و أوصافه إن كان حاضرا ظاهرا، أو بتمييز الجنس و تخصيص العين بالصفة أو المبلغ أو بهما معا بالقول إن كان غائبا.

و يدل على جواز بيع الأعيان الغائبة إذا علمت بما ذكرناه من الإجماع الماضي ذكره، و ظاهر قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (1)، و قوله إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ (2)، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه. (3)

و يدخل فيما قلناه جواز بيع الأعمى و شرائه، سواء ولد أعمى، أو عمى بعد صحة، و يرجع في حصول صفة المبيع و انتفائها (4) إلى من يثق به.

و يدخل فيه أيضا المبيع إذا استثنى منه شي ء معين، كالشاة إلا رأسها، أو جلدها، أو ربعها، و الشجر إلا الشجرة الفلانية، لأن ما عدا المستثنى- و الحال هذه- معلوم.

و اعتبرنا أن يكون مقدورا على تسليمه، تحفظا مما لا يمكن ذلك فيه، كالسمك في الماء، و الطير في الهواء، فإن ما هذه حاله لا يجوز بيعه بلا خلاف، لأنه من بيع الغرر، و قد دخل فيما قلناه بيع الآبق.ه.

ص: 211


1- - البقرة: 275.
2- - النساء: 29.
3- - سنن البيهقي: 5- 268 كتاب البيع و كنز العمال: 4- 95 برقم 9703.
4- - في «ج»: أو انتفائه.

و قد رووا أصحابنا جواز بيعه إذا بيع معه في الصفقة سلعة أخرى، و بيع سمك الآجام مع ما فيها من القصب، و يدل على هذا الموضع الإجماع المشار إليه و ظاهر القرآن، و إنما أخرجنا منه ما عدا هذا الموضع لدليل قاطع، و البيع لما ذكرناه في هذه الصورة ليس بغرر، لأن ما ينضم في العقد إليه يخرجه عن ذلك، و لهذا جاز بيع الثمرة الموجود بعضها المتوقع وجود باقيها- عندنا و عند مالك- و طلع النخل الذي لم يؤبر مع أصوله و إن كان في الحال معدوما و لا يمكن تسليمه بلا خلاف.

و لما ذكرناه من هذين الشرطين نهى النبي صلى الله عليه و آله و سلم (1) عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، و ذلك لا يجوز فيها منفردة عن الأصول سنة واحدة بشرط التبقية إجماعا بلا خلاف، و يجوز بشرط القطع في الحال إجماعا، و لا يجوز بيعها مطلقا، و في ذلك خلاف، و دليلنا عليه إجماع الطائفة.

و يجوز عندنا خاصة بيعها مطلقا سنتين فصاعدا، لأنها إن خاست في سنة زكت في أخرى، و ظاهر القرآن و دلالة الأصل تدلان على ذلك بعد إجماع الطائفة، فإذا بدا صلاحها و أمنت العاهة [1] جاز بيعها على كل حال، مطلقا و بشرط القطع أو التبقية، بدليل ما قدمناه في المسألة الأولى.

و لما ذكرناه من الشرطين نهى أيضا عن بيع حبل الحبلة- و هو نتاج النتاج [2]- و عن بيع الملاقيح- و هو ما في بطون الأمهات- و عن بيع المضامين- و هو ما في أصلاب الفحول- لأن ذلك مجهول غير مقدور على تسليمه.ع.

ص: 212


1- - سنن البيهقي: 5- 301 و 310 كتاب البيع.

و لذلك نهى أيضا عن بيع اللبن في الضرع، و الصوف على الظهر، لأنهما مجهولان، فإن تركا و تأخر أحدهما صار غير مقدور على تسليمهما لاختلاطهما بما يحدث بعدهما.

و للجهالة بالمبيع نهى صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الحصاة على أحد التأويلين، و هو أن ينعقد البيع على ما تقع عليه الحصاة.

و للجهالة بالثمن و الأجل أيضا نهى صلى الله عليه و آله و سلم عن بيعتين في بيعة، نحو أنه يقول:

بعتك كذا بدينار إلى شهر و بدينارين إلى شهرين، فيقول المشتري: قد قبلت به.

و اشترطنا أن يكون منتفعا به، تحرزا مما لا منفعة فيه، كالحشرات و غيرها.

و قيدنا بكونها مباحة، تحفظا من المنافع المحرمة، و يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه الدليل، من بيع الكلب المعلم للصيد، و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هو إجماع الطائفة.

و يحتج على من قال من المخالفين بجواز بيع الكلاب مطلقا، و بيع سرقين [1] ما لا يؤكل لحمه، و بيع الخمر بوكالة الذمي على بيعها، بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه [2].

و يحتج على من منع من جواز بيع كلب الصيد و الزيت النجس للاستصباح به، بعموم الآيتين اللتين قدمناهما، و بما رووه عن جابر [3] من أنه صلى الله عليه و آله و سلم

**-***

[1]- كذا في الأصل و «ج» و لكن في «س»: «و بيع سرجين» و كلاهما بمعنى واحد. قال الفيومي:

السرجين: الزبل، كلمة أعجمية و أصلها سركين بالكاف فعربت إلى الجيم و القاف فيقال سرقين أيضا. المصباح المنير.

[2]- سنن الدار قطني: 3- 7 برقم 20 و مسند أحمد: 1- 293، و لفظ الحديث: إن الله عز و جل إذا حرم أكل شي ء حرم ثمنه و ص 322 مثله. و لاحظ جامع الأصول: 1- 379.

[3]- جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا و ثماني عشرة غزوة مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و شهد صفين مع علي بن أبي طالب عليه السلام، و حاله أشهر من أن يذكر، مات سنة 74 و قيل سنة 77 ه-، لاحظ أعيان الشيعة: 4- 45، و أسد الغابة: 1- 256.

ص: 213

نهى عن ثمن الكلب إلا أن يكون للصيد (1) و بما روى أبو علي [1] بن أبي هريرة في كتابه «الإفصاح» من أنه صلى الله عليه و آله و سلم أذن في الاستصباح بالزيت النجس (2)، و هذا يدل على جواز بيعه لذلك.

و اعتبرنا حصول الإيجاب من البائع و القبول من المشتري، تحرزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري و الإيجاب من البائع، و هو أن يقول: بعنيه بألف، فيقول: بعتك، فإنه لا ينعقد بذلك بل لا بد أن يقول المشتري بعد ذلك:

اشتريت أو قبلت، حتى ينعقد.

و احترازا أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة و يقول: أعطني بقلا، فيعطيه، فإن ذلك ليس ببيع و إنما هو إباحة للتصرف.

يدل على ما قلناه الإجماع المشار إليه، و أيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به، و ليس على صحته بما عداه دليل. و لما ذكرناه نهى صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الملامسة و المنابذة، و عن بيع الحصاة على التأويل الآخر، و معنى ذلك أن يجعل اللمس للشي ء أو النبذ له و إلقاء الحصاة بيعا موجبا.

و اشترطنا عدم الإكراه، لأن حصوله مفسد للعقد بلا خلاف، و استثنينا الموضع المخصوص، و هو الإكراه في حق، نحو إكراه الحاكم على البيع لإيفاء ما يلزم من حق، لأنه يصح البيع معه بلا خلاف أيضا.

و اعلم أن ما يقترن بعقد البيع من الشروط على ضروب:2.

ص: 214


1- - سنن البيهقي: 6- 6 و 7 من كتاب البيوع، و كنز العمال: 4- 80 برقم 9627 و 9628.
2- - نقله عنه الشيخ في الخلاف كتاب البيوع، المسألة 312.

منها: ما هو فاسد مفسد للعقد بلا خلاف، نحو أن يشترط في الرطب أن يصير تمرا، و في الحصرم أن يصير عنبا، و في الزرع أن يسنبل، و مثل أن يسلف في زيت (1) مثلا على أن يكون حادثا في المستقبل من شجر معين، لأن ذلك غير مقدور على تسليمه، و هذا قد دخل فيما قدمناه.

و منها: ما هو صحيح و العقد معه كذلك، و هذا على ضربين:

أحدهما لا خلاف فيه، نحو أن يشترط في العقد ما يقتضيه، أو ما للمتعاقدين مصلحة فيه، مثل أن يشترط القبض، و جواز الانتفاع، و الأجل و الخيار و الرهن و الكفيل.

و الثاني فيه خلاف، و هو أن يشترط ما يمكن تسليمه، نحو أن يشتري ثوبا على أن يخيطه البائع أو يصبغه، أو يبيعه شيئا آخر، أو يبتاع منه، و أن يبيع و يشترط على المشتري إن رد الثمن عليه في وقت كذا كان المبيع له، و أن يشترط على مشتري العبد عتقه.

و يدل على صحة العقد مع ذلك، الإجماع الماضي ذكره و ظواهر القرآن و دلالة الأصل، و يحتج على المخالف في صحة هذه الشروط بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

المؤمنون عند شروطهم (2)، و من قوله: الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب و لا سنة (3)، و بما رووه من خبر جابر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما ابتاع منه البعير بمكة، شرط عليه أن يحمله عليه إلى المدينة، و أنه عليه السلام أجاز البيع و الشرط. (4)3.

ص: 215


1- - في «س»: «في زمن» و هو تصحيف.
2- - بداية المجتهد: 2- 296، و البحر الزخار: 5- 76 باب الضمان، و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919، و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 و لفظ الحديث في بعض المصادر: «المسلمون.».
3- - التهذيب: 7- 22 و من لا يحضره الفقيه: 3- 127 و عوالي اللئالي: 3- 225 (قطعة منه).
4- - جامع الأصول: 1- 429- 435 و التاج الجامع: 2- 203.

و من الشروط ما هو فاسد بلا خلاف غير مفسد للعقد، و في ذلك خلاف، نحو أن يشترط ما يخالف مقتضى العقد مثل أن لا يقبض المبيع أو لا ينتفع به، أو يشترط ما يخالف السنة نحو أن يشترط بائع العبد أن يكون ولاؤه له إذا أعتق، و يدل على صحة العقد ما قدمناه من الإجماع، و ظاهر القرآن، و دلالة الأصل.

و نحتج على المخالف بما رووه من خبر بريرة [1] و أن مولاتها شرطت على عائشة حين اشترتها أن يكون ولاؤها لها إذا أعتقها، فأجاز النبي صلى الله عليه و آله و سلم البيع و قال:

الولاء لمن أعتق (1)، فأفسد الشرط.

و اعلم أنه قد نهى صلى الله عليه و آله و سلم عن سوم المرء على سوم أخيه، و هو أن يزيد على المشتري قبل العقد و بعد استقرار الثمن و الإنعام له بالبيع، و نهى عن البيع على بيعه، و هو أن يعرض على المشتري مثل ما اشتراه بعد العقد و قبل لزومه، و نهى عن النجش في البيع، و هو أن يزيد في الثمن من لا رغبة له في الشراء، ليخدع المشتري، و نهى أن يبيع حاضر لباد، و هو أن يصير سمسارا له، و يتربص بما معه حتى يغالي في ثمنه، فلا يتركه يبيع بنفسه حتى يكون للناس منه رزق و ربح، و نهى عن تلقي الركبان للشراء منهم و قال عليه السلام: فإن تلقى متلق فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق (2)، إلا أن ذلك عندنا محدود بأربعة فراسخ فما دونها، فإن زاد على ذلك كان جلبا و لم يكن تلقيا، و كل هذه المناهي لا تدل على فساد عقدر.

ص: 216


1- سنن البيهقي: 10- 339 و مسند أحمد: 2- 153 و 6- 213.
2- سنن البيهقي: 5- 347 و 348 باب النهي عن تلقي السلع، و جامع الأصول: 1- 445 و سنن الدارمي: 2- 254 باب النهي عن تلقي البيوع، و كنز العمال: 4- 164 برقم 9993 باختلاف يسير.

البيع إذا وقع مع شي ء منها، فاعرف ذلك إن شاء الله.

و أما شرائط لزومه فهي مسقطات الخيار في فسخه، و ها نحن ذاكروها:

الفصل الأول: في أسباب الخيار و مسقطاته

اشارة

إذا صح العقد ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بأحد أمور خمسة:

أحدها: اجتماعهما في مجلس العقد، و هذا هو خيار المجلس.

و لا يسقط إلا بأحد أمرين: تفرق و تخاير.

فالتفرق: أن يفارق كل واحد منهما صاحبه بخطوة فصاعدا عن إيثار.

و التخاير على ضربين: تخاير في نفس العقد، و تخاير بعده، فالأول أن يقول البائع: بعتك بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس، فيقول المشتري: قبلت، و الثاني أن يقول أحدهما لصاحبه في المجلس: اختر، فيختار إمضاء العقد.

يدل على ذلك إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار (1) فسماهما متبايعان، و ذلك لا يجوز إلا بعد وجود التبايع منهما- لأنه اسم مشتق من فعل كالضارب و القاتل- ثم أثبت لهما الخيار قبل التفرق- و أقل ما يحصل به ما ذكرناه- ثم استثنى بيع الخيار و هو الذي لم يثبت فيه الخيار بما قدمناه من حصول التخاير. و في خبر آخر: ما لم يفترقا عن مكانهما فإذا تفرقا فقد وجب البيع (2)، و في آخر: ما لم يفترقا أو يكون بيعهما

ص: 217


1- - سنن البيهقي: 5- 269، 270، 271 و جامع الأصول: 2- 5- 11 و مسند أحمد: 2- 9 و كنز العمال: 4- 91- 96.
2- - سنن البيهقي: 5- 268 باب المتبايعان بالخيار. و جامع الأصول: 2- 6.

عن خيار، فإن كان بيعهما عن خيار، فقد وجب البيع (1)، و في آخر: ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر. (2)

و حمل لفظ المتبايعين في الخبر الأول على المتساومين غير صحيح لما ذكرناه في الروايات الأخر، و لأن من قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، ثم ساوم عليه لم يعتق بلا خلاف، و لو ساغ ذلك في الخبر مجازا لكان الأصل الحقيقة، و لا يجوز العدول عنها إلا بدليل (3)، و ما يتعلق به من نفي خيار المجلس- في قوله صلى الله عليه و آله و سلم في بعض الأخبار: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا و لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (4)، و قولهم: انه أثبت الاستقالة في المجلس، و ذلك إنما يثبت في عقد لازم، لا دلالة له فيه، و هو بأن يكون دلالة عليهم أولى، لأن المراد و لا يحل له أن يفارقه خشية أن يفاسخه ما ثبت له من خيار المجلس، فعبر عن الفسخ بالاستقالة، و قلنا ذلك لأمرين:

أحدهما: أنه ذكر أمرا يفوت بالتفرق، و الاستقالة ليست كذلك، و إنما الذي يفوت بالتفرق هو الفسخ بحق خيار المجلس.

و الثاني: أنه نهى عن المفارقة خوفا من الاستقالة، و الاستقالة غير منهي عنها، لأن الإقالة غير واجبة، و إنما المنهي عنه مفارقة المجلس خوفا من الفسخ بحق الخيار، لأنه مأمور باستئذان صاحبه و اعتبار رضاه.

و السبب الثاني للخيار: اشتراط المدة،

و يجوز أن تكون ثلاثة أيام فما دونها بلا خلاف، و يجوز الزيادة على الثلاث، و يلزم الوفاء بذلك، و لا يفسد به العقد، بدليل إجماع الطائفة، و يدل على صحة العقد أيضا ظاهر القرآن و دلالة الأصل.

ص: 218


1- - جامع الأصول: 2- 5 و 6.
2- - جامع الأصول: 2- 5 و 6.
3- - في «ج» و «س»: لدليل.
4- - سنن البيهقي: 5- 271 و جامع الأصول: 2- 7 و كنز العمال: 4- 92 برقم 9694.

و يحتج على المخالف في جواز اشتراط ما زاد على الثلاث بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: المؤمنون عند شروطهم (1)، و بقوله: الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب و لا سنة (2) و ما روى من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: الخيار ثلاثة (3) خبر واحد. ثم إذا لم يمنع من النقصان منها لم يمنع من الزيادة عليها، فإن شرط الخيار و لم يعين مدة كان الخيار ثلاثا.

و يثبت خيار الثلاث في الحيوان بإطلاق العقد للمشتري خاصة من غير شرط، و في الأمة مدة استبرائها، بدليل الإجماع المتكرر، و لأن الثلاث هي المدة المعهودة في الشريعة لضرب الخيار، و الكلام إذا أطلق حمل على المعهود، و لأن العيوب في الحيوان لما كانت أخفى، و التغابن فيه أقوى، فسح فيه ما لم يفسح في غيره، و لا يمتنع أن يثبت هذا الخيار من غير شرط، كما ثبت خيار المجلس.

و ينقطع هذا الضرب من الخيار بأحد ثلاثة أشياء: انقضاء المدة المضروبة له بلا خلاف، و التخاير في إثباتها، بدليل الإجماع من الطائفة على ذلك، و التصرف في المبيع، و هو من البائع فسخ و من المشتري إجازة، بلا خلاف، و قد روى أصحابنا أن المشتري إذا لم يقبض المبيع و قال للبائع: أجيئك بالثمن، و مضى، فعلى البائع الصبر عليه ثلاثا، ثم هو بالخيار بين فسخ العقد و مطالبته بالثمن.

هذا إذا كان المبيع مما يصح بقاؤه، فإن لم يكن كذلك كالخضروات، فعليه الصبر يوما واحدا، ثم هو بالخيار على ما بيناه، و هلاك المبيع في هذه المدة من مالم.

ص: 219


1- - بداية المجتهد: 2- 296 و البحر الزخار: 5- 76 باب الضمان، و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون.، و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 كما في المتن.
2- - التهذيب: 7- 22 و الفقيه: 3- 127 و عوالي اللئالي: 3- 225 (قطعة منه).
3- - سنن البيهقي: 5- 274 و كنز العمال: 4- 91 برقم 9685 و لفظ الحديث: الخيار ثلاثة أيام.

المبتاع و بعدها من مال البائع، و يدل على ذلك كله إجماع الطائفة.

السبب الثالث للخيار: الرؤية في بيع الأعيان الغائبة

التي لم يتقدم من المتبايعين أو من أحدهما رؤية لها، و قد دللنا على صحة هذا البيع فيما تقدم، و ينقطع هذا الخيار و يزول حكمه بأحد أمرين:

أحدهما: أن يرى المبيع على ما عين و وصف، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فجواز الخيار مع ما ذكرناه يحتاج إلى دليل، و لا دليل عليه.

و الثاني: أن يرى بخلاف ما وصف، و يهمل الفسخ، لأنه على الفور.

و اعلم أن ابتداء المدة للخيار من حين التفرق بالأبدان، لا من حين حصول العقد، لأن الخيار إنما يثبت بعد ثبوت العقد، و هو لا يثبت إلا بعد التفرق، فوجب أن يكون الخيار ثابتا من ذلك الوقت، و يدخل خيار المجلس في جميع ضروب البيع- السلم و غيره- لإجماع الطائفة على ذلك، و كذا خيار الشرط لمثل ما قدمناه إلا عقد الصرف، فإن خيار الشرط لا يدخله بلا خلاف.

و لا يدخل خيار المجلس فيما ليس ببيع من سائر العقود، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا (1)، يخص بذلك المتبايعين دون غيرهما، فمن ادعى دخول ذلك فيما ليس ببيع فعليه الدليل.

و لا مانع من دخول خيار الشرط فيما ليس ببيع، و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: المؤمنون عند شروطهم (2)، يدل على ذلك.

ص: 220


1- - سنن البيهقي: 5- 268، جامع الأصول: 2- 5- 11، كنز العمال: 4- 92.
2- - التهذيب: 7- 371 برقم 1503 و تقدمت مصادر أخر آنفا.

و من له الخيار لو انفرد بالفسخ جاز و لم يفتقر إلى حضور صاحبه، و كذا الفسخ بالعيب، و سواء في ذلك قبل القبض و بعده، لأن حق الفسخ بالخيار قد ثبت لكل واحد منهما، فمن ادعى انه لا يصح لأحدهما إلا مع حضور الآخر، فعليه الدليل.

و إذا هلك المبيع في مدة الخيار فهو من مال البائع، إلا أن يكون المبتاع قد أحدث فيه حدثا يدل على الرضا، فيكون هلاكه من ماله.

و إذا وطئ المشتري في مدة الخيار لم يكن مأثوما، و يلحق به الولد، و يكون حرا، و يلزم العقد من جهته، على ما قدمناه، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و لم ينفسخ خيار البائع و لو شاهده يطأ فلم ينكر، لأنه لا دليل على ذلك، فإن فسخ البائع العقد لزم قيمة الولد للمشتري، و عشر قيمة الأمة- إن كانت بكرا- و نصف عشر قيمتها- إن كان ثيبا- لأجل الوطء، بدليل الإجماع المشار إليه.

و خيار المجلس و الشرط موروث، بدليل إجماع الطائفة، و لأنه إذا كان حقا للميت ورث كسائر حقوقه، لظاهر القرآن، و إذا جن من له الخيار أو أغمي عليه، انتقل الخيار إلى وليه، بدليل الإجماع المشار إليه.

السبب الرابع للخيار: ظهور عيب إذا كان في المبيع قبل قبضه، بلا خلاف، و لا ينقطع إلا بأحد أمور خمسة:

أحدها: اشتراط البراءة من العيوب حالة العقد،

فإنه يبرأ من كل عيب، ظاهرا كان أو باطنا، معلوما كان أو غير معلوم، حيوانا كان المبيع أو غيره، بدليل إجماع الطائفة. و يحتج على المخالف بقوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم (1)، و

ص: 221


1- - التهذيب: 7- 371 برقم 1503 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 364 برقم 10918 و 10919، و بداية المجتهد: 2- 296 و البحر الزخار: 5- 76 باب الضمان و لفظ الحديث في بعض المصادر: «المسلمون.».

قوله: الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب و لا سنة. (1)

و ثانيها: تأخير الرد مع العلم بالعيب،

لأنه على الفور بلا خلاف.

و ثالثها: الرضا بالعيب

، بلا خلاف أيضا.

و رابعها: حدوث عيب آخر عند المشتري

، و ليس له ها هنا إلا الأرش- و هو أن يرجع على البائع من الثمن بمقدار ما نقص من قيمة المبيع صحيحا- إلا أن يكون المبيع حليا، أو آنية من ذهب أو فضة (2) قد بيع بجنسه، فإن أخذ الأرش لا يجوز لما يؤدي ذلك إليه من الربا، و الأولى فسخ العقد، و استئنافه بثمن (3) ليس من جنس المبيع، ليسلم من ذلك.

و خامسها: التصرف في المبيع الذي لا يجوز مثله إلا بملك

أو الإذن الحاصل له بعد العلم بالعيب، فإنه يمنع من الرد بشي ء من العيوب، و لا يسقط حق المطالبة (4) بالأرش، لأن التصرف دلالة الرضا بالبيع لا بالعيب، و كذا حكمه إن كان قبل العلم بالعيب، و كان مما يغير المبيع بزيادة فيه، مثل الصبغ للثوب، أو نقصان منه كالقطع له، و إن لم يكن كذلك فله الرد بالعيب إذا علمه ما لم يكن المبيع أمة فيطؤها، فإن ذلك يمنع من ردها بشي ء من العيوب إلا الحبل، فإنها ترد به و معها نصف عشر قيمتها لأجل الوطء على ما مضى، كل ذلك بدليل الإجماع من الطائفة.

و أحداث السنة الجنون و الجذام و البرص فإنه يرد بكل واحد من ذلك العبد

ص: 222


1- - التهذيب: 7- 22 و من لا يحضره الفقيه: 3- 127 و عوالي اللئالي: 3- 225. (قطعة منه).
2- - في «ج» من الذهب و الفضة.
3- - في «ج»: فيمن.
4- - في الأصل و «ج»: و لا يسقط بحق المطالبة.

و الأمة إلى مدة سنة، إذا لم يمنع من الرد مانع، بدليل الإجماع المشار إليه أيضا.

و ترد الشاة المصراة و معها صاع من تمر أو بر عوض لبن التصرية، بدليل هذا الإجماع، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها و إن شاء ردها و صاعا من تمر (1) و في رواية أخرى: أو بر.

و إذا كان العيب في بعض المبيع فله أرشه أو رد الجميع، و ليس له رد المعيب خاصة، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا ضرر و لا إضرار (2)، و في رد المعيب خاصة إضرار بالبائع.

و لا يمنع من الرد بالعيب الزوائد المنفصلة الحاصلة من المبيع في ملك المشتري كالثمرة و النتاج، و متى رد فذلك له دون البائع، بدليل الإجماع المتكرر ذكره، و يحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم قضى بأن الخراج بالضمان [1] و لم يفرق بين الكسب و غيره.9.

ص: 223


1- - سنن البيهقي: 5- 320 باب مدة الخيار في المصراة، و مسند أحمد: 2- 386 و 4- 314 و كنز العمال: 4- 53- 55 و جامع الأصول: 1- 421.
2- - سنن البيهقي: 6- 69 باب لا ضرر و لا ضرار و ص 157 و كنز العمال: 3- 919.

السبب الخامس للخيار: ظهور غبن لم تجر العادة بمثله

، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا ضرر و لا ضرار- و من اشترى بمائة ما يساوي عشرة كان غاية في الضرر- و بنهيه صلى الله عليه و آله و سلم عن تلقي الركبان، و قوله: فإن تلقى متلق فصاحب السلعة بالخيار إذا دخل السوق (1)، لأنه إنما جعل له الخيار لأجل الغبن.

الفصل الثاني فإما الربا

فيثبت في كل مكيل و موزون، سواء كان مطعوما أو غير مطعوم، بالنص لا بعلة بدليل إجماع الطائفة، فلا يجوز بيع بعضه ببعض- إذا اتفق الجنس أو كان في حكم المتفق كالحنطة و الشعير عندنا- إلا بشروط ثلاثة زائدة على ما مضى: الحلول النافي للنسيئة، و التماثل في المقدار، و التقابض قبل الافتراق بالأبدان، بلا خلاف إلا من مالك فإنه قال: إذا كان أحد العوضين مصوغا (2) جاز بيعه بأكثر من وزنه و تكون الزيادة قيمة الصنعة (3) و يحتج عليه بما رووه من قوله عليه السلام: لا تبيعوا الذهب بالذهب و لا الورق بالورق(4) إلا سواء بسواء (5)، و لم يفصل، فأما قول ابن عباس و من وافقه من الصحابة بجواز التفاضل نقدا (6) فقد انقرض و حصل الإجماع على خلافه.

ص: 224


1- - جامع الأصول: 1- 445 و سنن البيهقي: 5- 347 باب النهي عن تلقي البيع.
2- - في «ج»: مصنوعا.
3- - لاحظ تفسير القرطبي: 3- 351 في تفسير الآية 275 من سورة البقرة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.
4- [1]- الورق- بكسر الراء و الإسكان للتخفيف-: النقرة المضروبة. المصباح المنير.
5- - جامع الأصول: 1- 457 و سنن البيهقي: 5- 276 و الفروق للقرافي: 3- 259 الفرق التسعون و المائة.
6- - المغني لابن قدامة: 4- 134 و الفروق للقرافي: 3- 259 الفرق التسعون و المائة.

فإن اختلف الجنس و كان أحدهما ذهبا و الآخر فضة سقط اعتبار التماثل فقط، و اعتبر الحلول و التقابض بلا خلاف، فإن لم يكونا ذهبا و فضة سقط اعتبار التماثل بلا خلاف، و أما اعتبار الحلول و التقابض ها هنا فهو الأحوط، و يصح البيع من دونهما و إن كان مكروها، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: فإن اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. (1)

و إن كان أحدهما ذهبا أو فضة و الآخر مما عداهما، سقط اعتبار الشروط الثلاثة بلا خلاف، و قد روى أصحابنا أنه إذا اتفق كل واحد من العوضين في الجنس، و أضيف إلى أحدهما ما ليس من جنسه، سقط اعتبار التماثل في المقدار، مثل بيع دينار و درهم بدينارين أو بدرهمين، و ألف درهم و ثوب بألفين، و يدل على ذلك بعد الإجماع المشار إليه، ظاهر القرآن و دلالة الأصل.

و اللحمان أجناس مختلفة، فلحم الإبل جنس منفرد عرابها و بخاتيها، و لحم البقر كذلك عرابها و جوامسها، و لحم الغنم صنف واحد ضأنها و ماعزها (2)، و لحم البقر الوحشي صنف غير الأهلي، و كذا لحم الغنم الوحشي مثل الظبي (3)، و حكم لبن هذه الأصناف في الاختلاف حكمها، يدل على ذلك إجماع الطائفة، و أيضا فهذه لحوم لأجناس مختلفة، ينفرد كل جنس منها باسم و حكم في الزكاة، فكانت تابعة لها في الاختلاف.

و لا يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا اتفق الجنس، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يحتج على المخالف بما رووه من نهيه عن بيع اللحم بالحيوان (4)، فأما إذا لم يكن من جنسه فلا بأس ببيعه، لإجماع الطائفة و ظاهر القرآن و دلالة الأصل.

و يجوز بيع الحيوان بالحيوان متماثلا و متفاضلا، سواء كان صحيحا أون.

ص: 225


1- - سنن البيهقي: 5- 282 باب جواز التفاضل في الجنسين.
2- - في «ج»: و معزها.
3- - في «س»: مثل الظباء.
4- - سنن البيهقي: 5- 296 باب بيع اللحم بالحيوان.

كسيرا، نقدا- لمثل ما قلناه في المسألة الأولى- و لا يجوز ذلك نسيئة في الظاهر من روايات أصحابنا، و طريقة الاحتياط تقتضي المنع منه، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: الحيوان بالحيوان واحد باثنين لا بأس به نقدا و لا يجوز نسيئة. (1)

و نهى صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع المحاقلة، و هو بيع السنابل التي انعقد فيها الحب، و اشتد بحب منه أو من غيره، و عن بيع المزابنة و هو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر منه أو من غيره، لأن ذلك لا يؤمن فيه الربا.

و رخص عليه السلام في بيع العرايا، و هي جمع عرية و هي النخلة تكون لإنسان في بستان غيره أو في داره، و يشق عليه دخوله إليها، فيبتاعها منه برخصها تمرا، بدليل الإجماع من الطائفة على هذا التفسير، و قد فسر أبو عبيدة العرية بما قلناه، و يحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن بيع التمر بالتمر و رخص في العرايا أن يباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا (2) و هذا نص.

و لا يجوز بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، لا متماثلا و لا متفاضلا، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما رووه من أنه صلى الله عليه و آله و سلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: أ ينقص إذا جف؟ فقيل له: نعم، فقال: فلا. (3)

فأما ما عدا التمر من الثمار، فلا نص لأصحابنا في المنع من بيع رطبه بيابسه، و يدل على جوازه ظاهر القرآن و دلالة الأصل، و حمله على الرطب قياس، و ذلك عندنا لا يجوز.

و لا ربا عندنا بين الوالد و ولده، و السيد و عبده، و الزوج و زوجته، و المسلم و الحربي، بدليل إجماع الطائفة و به يخص ظاهر القرآن في تحريم الربا على العموم،8.

ص: 226


1- - جامع الأصول: 1- 474 و سنن البيهقي: 5- 287 و 288 و التاج الجامع للأصول: 2- 208.
2- - جامع الأصول: 1- 396 و سنن البيهقي: 5- 309 و 310 و التاج الجامع للأصول: 2- 211 و لفظ الحديث: نهى عن بيع الثمر بالتمر.
3- - كنز العمال: 4- 190 برقم 10105 و التاج الجامع للأصول: 2- 208.

و إذا اختص تحريمه بجنس دون جنس، فما المنكر من اختصاصه بمكلف دون مكلف؟

الفصل الثالث و أما السلم

[1] فشرائطه الزائدة التي تخصه أربعة: ذكر الأجل المعلوم، و ذكر موضع التسليم، و أن يكون رأس المال مشاهدا، و أن يقبض في مجلس العقد، بدليل الإجماع من الطائفة، و لأنه لا خلاف في صحته مع تكامل هذه الشروط، و لا دليل على ذلك إذا لم يتكامل، و يحتج على المخالف في اعتبار الأجل المعلوم بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (1)، و ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب.

و لا يجوز التأجيل إلى الحصاد أو الدياس أو ما أشبه ذلك مما يختلف زمانه، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا تتبايعوا إلى الحصاد و لا إلى الدياس و لكن إلى شهر معلوم (2)، و هذا نص.

و لا يجوز السلف فيما لا ينضبط بوصف يتميز به، كالمعجونات، و المركبات، و الخبز، و اللحم- نيئا كان أو مطبوخا- و روايا الماء، و لا في المعدودات كالجوز و البيض إلا وزنا، و يجوز السلف في الحيوان بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على

ص: 227


1- - سنن البيهقي: 6- 18 باب جواز السلف. و كنز العمال: 6- 241 و جامع الأصول: 2- 17 و التاج الجامع للأصول: 2- 215 و المغني لابن قدامة: 4- 351.
2- - الشافعي: الأم: 3- 96 و ابن قدامة: المغني: 4- 356.

المخالف بما رووه من أمره عليه السلام حين أراد تجهيز بعض الجيوش بأن يبتاع البعير بالبعيرين و بالأبعر إلى خروج المصدق. (1)

و لا يجوز لمن أسلم في شي ء بيعه من المسلم إليه و لا من غيره قبل حلول أجله- و قد دخل في ذلك الشركة فيه و التولية له لأنهما بيع- فإذا حل جاز بيعه من المسلم إليه بمثل ما نقد فيه، و بأكثر منه من غير جنسه، و من غير المسلم إليه بمثل ذلك، و أكثر منه من جنسه و غيره، بدليل إجماع الطائفة و ظاهر القرآن و دلالة الأصل، إلا أن يكون المسلم فيه طعاما فإن بيعه قبل قبضه لا يجوز إجماعا، على ما قدمناه.

و تجوز الإقالة على كل حال لأنها فسخ و ليست ببيع، و يحتج على المخالف في ذلك بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (2)، و إقالة نفسه هو العفو و الترك، فوجب أن تكون الإقالة في البيع كذلك، و على هذا لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن أو بأقل، أو بجنس غيره.

و إذا جي ء بالمسلم فيه قبل محله لم يلزم المشتري قبوله، لأنه لا يمتنع أن يكون له في تأخيره غرض لا يظهر لغيره، و لأن إجباره على ذلك يحتاج إلى دليل، و يجوز التراضي على تقديم الحق عن أجله بشرط النقص منه، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه لا مانع من ذلك، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: المؤمنون عند شروطهم (3) و قوله: الصلح جائز بين المسلمين إلا ما حرم حلالا أو حلل حراما (4)، فأما تأخير الحق عن أجله بشرط الزيادة فيه فلا يجوز بلا خلاف، لأنه ربا.3.

ص: 228


1- - سنن البيهقي: 5- 287 و 288 و جامع الأصول: 1- 473.
2- - كنز العمال: 4- 90 و سنن البيهقي: 6- 27.
3- - سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 364 و بداية المجتهد: 2- 294 و البحر الزخار: 5- 76 و التهذيب: 7- 371 و لفظ الحديث في بعض المصادر (المسلمون.)
4- - سنن البيهقي: 6- 65 و كنز العمال: 4- 365 برقم 10933.

الفصل الرابع و أما ما يتعلق بالبيع من الأحكام

فقد مضى في خلال الفصول المقدمة منه مما يناسبها، و بقي ما نذكر منه اللائق بغرض الكتاب.

و اعلم أن من حكم البيع وجوب تسليم المعقود عليه في الحال إذا لم يشرط التأجيل بلا خلاف، فإن تشاحا و قال كل واحد منهما: لا أسلم حتى اتسلم، فعلى الحاكم إجبار البائع على تسليم المبيع أولا، لأن الثمن إنما يستحق على المبيع، فوجب الإجبار على تسليمه، ليستحق الثمن، فإن امتنع البائع من التسليم حتى هلك المبيع، فهلاكه من ماله على كل حال، و يبطل العقد لتعذر تسليمه، و إن كان قبضه المشتري فهلك، و قد لزم البيع، فهلاكه من ماله دون مال البائع، سواء كان قبضه أو رضي بتركه في يد البائع.

و القبض فيما لا يمكن نقله، كالأرضين التخلية و رفع الحظر، و كذا حكم ما يمكن ذلك فيه، مما يتصل بها من الشجر و ثمره المتصل به و البناء، و فيما عدا ذلك التحويل و النقل، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و يكره بيع المرابحة بالنسبة إلى الثمن، كقوله: ثمن هذه السلعة كذا، و قد بعتكها برأس مالي و ربح درهم في كل عشرة، و الأولى تعليق الربح بعين المبيع.

و من ابتاع شيئا بثمن مؤجل لم يجز أن يبيع مرابحة حتى يخبر بذلك، فإن باع و لم يخبر بالأجل صح البيع بلا خلاف، إلا أن المشتري إذا علم ذلك كان بالخيار (1) بين أن يدفع الثمن حالا و بين أن يرد بالعيب، لأن ذلك تدليس في الثمن.

و من قال لغيره: هذه السلعة علي بمائة، بعتكها بربح درهم في كل عشرة،

ص: 229


1- - في الأصل: فهو بالخيار.

فقال: اشتريته، ثم قال: غلطت بل اشتريتها بتسعين، فالبيع صحيح، لأنه لا دليل على فساده، و المشتري بالخيار بين أن يأخذها بمائة و عشرة، لأن العقد على ذلك وقع، و بين أن يردها، لأن ما علمه من النقصان في الثمن عيب، له ردها به إن شاء.

و من حط من الثمن بعد لزوم العقد شيئا، و أراد البيع مرابحة، لم يلزمه حطه، بل يخبر بما وقع العقد عليه، لأن الثمن قد استقر، و من قال: إن الحط بعد لزوم العقد يلحق به فعليه الدليل، و إذا أراد أن يحسب أجرة القصارة مثلا و الطراز في بيع المرابحة، قال (1): صار علي بكذا، أو جاء علي، و لم يقل: اشتريته.

و من باع بشرط حكم البائع (2) و المشتري في الثمن، فالبيع فاسد، لما قدمناه من الجهالة بالثمن، فإن تراضيا بإنفاذه فحكم المشتري بالقيمة فما فوقها، أو حكم البائع بالقيمة فما دونها، مضى ما حكما به، و إن حكم البائع بأكثر و المشتري بأقل لم يمض، و قد قدمنا أن تعليق البيع بأجلين و ثمنين كقوله: بعت إلى مدة كذا بكذا، و إلى ما زاد عليها بكذا، يفسده، فإن تراضيا بإتمامه كان للبائع أقل الثمنين في أبعد الأجلين، بدليل إجماع الطائفة على ذلك.

و قد قدمنا أن من جمع في صفقة واحدة بين شيئين يصح بيع أحدهما دون الآخر، نفذ البيع فيما يصح فيه، فإذا ثبت ذلك فالمشتري بالخيار بين أن يرد الجميع أو يمسك ما يصح فيه البيع بما يخصه من الثمن الذي يتقسط عليه، لأن جميع الثمن إنما كان في مقابلتهما، و يتقسط عليهما معا، فإذا بطل بيع أحدهما سقط من الثمن بحسابه (3) و من أوجب الجميع فعليه الدليل، و لا خيار للبائع على المشتري في ذلك، لأن البيع قد ثبت من جهته، فمن جوز له الخيار، فعليه الدليل.ه.

ص: 230


1- - في الأصل: و قال.
2- - في «س» «بشرط حوم البائع» و هو تصحيف و الصحيح ما في المتن.
3- - في «ج»: من الثمن الذي يتقسط بحسابه.

و لا يدخل في بيع الشجر ما عليه من ثمر إلا بالشرط، و كذلك حكم الزرع مع الأرض، و الحمل مع الحيوان، و ما يصاحبه من أداة و دثار [1] و مال يكون مع العبد أو الأمة.

و من قال: بعت هذه الأرض بحقوقها، دخل فيها الشجر، فإن قال: بعت هذه الدار بحقوقها، دخل في ذلك كل شي ء ثابت بثبوت البناء (1) كالشجر، و الرفوف، و الأوتاد، و الأغلاق المنصوبة، و الفرد التحتاني من الرحا المبنية، بلا خلاف، و عندنا الرحا الفوقاني و المفتاح أيضا كذلك، لأنهما من حقوقها المنتفع بها.

و من اشترى من يحرم عليه مناكحته من ذوي نسبه، عتق عليه عقيب العقد.

و إذا اختلف المتبايعان في جنس المبيع أو في عينه (2) و فقدت البينة، لزم كل واحد منهما أن يحلف على ما أنكره، لأنه مدعى عليه، فيحلف البائع أنه لم يبع ما ادعاه المشتري، و يحلف المشتري أنه لم يشتر ما ادعاه البائع.

و إن اختلفا في مقدار المبيع، فالقول قول البائع مع يمينه، لأنه المنكر، و إن اختلفا في مقدار الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه، و يعتبر أصحابنا هنا أن تكون السلعة تالفة، فإن كانت سالمة، فالقول عندهم قول البائع مع يمينه.

و إن اختلفا في أصل الأجل، أو الخيار، أو مقدار مدتهما، أو في وقت حدوث العيب، أو في كون العقد واقعا على البراءة من العيوب، فاليمين على من أنكر منهما، لأنه لا خلاف أن اليمين على من أنكر على ما ورد في الخبر. (3)

و لا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها، و لا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص.2.

ص: 231


1- - في الأصل و «س»: ثبوت البناء.
2- - في «ج»: و في عينه.
3- - الكافي: 7- 415 ح 1، و سنن البيهقي: 10- 252.

فصل في الشفعة

الشفعة في الشرع عبارة عن استحقاق الشريك المخصوص على المشتري تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه أو قيمته، و هي مأخوذة من الزيادة، لأن سهم الشريك يزيد بما ينضم إليه، فكأنه كان وترا فصار شفعا.

و يحتاج فيها إلى العلم بأمرين: شروط استحقاقها، و ما يتعلق بها من الأحكام.

و شروط استحقاقها ستة و هي:

أن يتقدم عقد بيع ينتقل معه الملك إلى المشتري.

و أن يكون الشفيع شريكا بالاختلاط في المبيع أو في حقه، من شربه أو طريقه.

و أن يكون واحدا.

و أن يكون مسلما إن كان (1) المشتري كذلك.

و أن لا يسقط حق المطالبة.

و لا يعجز عن الثمن.

اشترطنا تقدم عقد البيع، لأن الشفعة لا تستحق قبله بلا خلاف، و لا

ص: 232


1- - في الأصل: إذا كان.

تستحق بما ليس ببيع، من هبة أو صدقة أو مهر زوجة أو مصالحة أو ما أشبه ذلك، بدليل إجماع الطائفة، و لأن إثبات الشفعة في المهر، و في المصالحة، و في الهبة على بعض الوجوه، يفتقر إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل عليه.

و اعتبرنا أن ينتقل الملك معه إلى المشتري، تحرزا من البيع الذي فيه الخيار للبائع أو له و للمشتري معا، فإن الشفعة لا تستحق ها هنا، لأن الملك لم يزل عن البائع، فأما ما لا خيار فيه، أو فيه الخيار للمشتري وحده ففيه الشفعة، لأن الملك قد زال به عنه.

و اشترطنا أن يكون شريكا للبائع، تحرزا من القول باستحقاقها بالجوار، فإنها لا تستحق بذلك عندنا، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: الشفعة فيما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (1) و لا يعارض ذلك ما رووه من قوله عليه السلام: الجار أحق بسقبه [1] لأن في ذلك إضمارا، و إذا أضمروا أنه أحق بالأخذ بالشفعة، أضمرنا أنه أحق بالعرض عليه، و لأن المراد بالجار في الخبر الشريك، لأنه خرج على سبب يقتضي ذلك، فروى عمرو بن الشريد (2) عن أبيه قال: بعت حقا من أرض لي فيها شريك فقال شريكي: أنا أحق بها، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: الجار أحق بسقبه (3)، و الزوجة تسمى جارة لمشاركتهاة.

ص: 233


1- - سنن البيهقي: 6- 102 باب الشفعة فيما لم يقسم، و صحيح البخاري: 3- 114 باب الشفعة و مسند أحمد: 3- 296.
2- - عمرو بن الشريد بن الثقفي أبو الوليد الطائفي، روى عن أبيه و أبي رافع و سعد بن أبي وقاص و ابن عباس، و عنه إبراهيم بن ميسرة و محمد بن ميمون و صالح بن دينار و غيرهم. لاحظ تهذيب التهذيب: 12- 47.
3- - سنن النسائي: 7- 320 الشفعة و أحكامها، و البحر الزخار: 4- 3، كتاب الشفعة.

للزوج في العقد قال الأعشى [1]:

يا جارتي بيني فإنك طالقة.

و هي تسمى بذلك عقيب العقد و تسمى به و إن كانت بالمشرق و الزوج بالمغرب، فليس لأحد أن يقول إنما سميت بذلك لكونها قريبة (1) مجاورة، فقد صار اسم الجار يقع على الشريك لغة و شرعا.

و اشترطنا أن يكون واحدا، لأن الشي ء إذا كان مشتركا بين أكثر من اثنين فباع أحدهم لم يستحق شريكه الشفعة، بدليل إجماع الطائفة، و لأن حق الشفعة حكم شرعي يفتقر في ثبوته إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ذلك ها هنا، و على هذا إذا كان الشريك واحدا و وهب بعض السهم أو تصدق به، و باع الباقي للموهوب له، أو المتصدق عليه، لم يستحق فيه الشفعة.

و اشترطنا أن يكون مسلما إذا كان المشتري كذلك، تحرزا من الذمي لأنه لا يستحق على مسلم شفعة، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا عموم قوله تعالى:

وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (2)، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا شفعة لذمي على مسلم. (3)

و اشترطنا أن لا يسقط حق المطالبة، لأنه أقوى من قول من يذهب إلى أن حق الشفعة على الفور، و تسقط بتأخير الطلب مع القدرة عليه، من أصحابنا (4)4.

ص: 234


1- - في «ج»: قرينة.
2- - النساء: 141.
3- - البحر الزخار: 4- 5 كتاب الشفعة و لفظ الحديث: لا شفعة للذمي على المسلم.
4- - الشيخ: المبسوط: 3- 108 و النهاية: 424 و الخلاف كتاب الشفعة المسألة 4.

و غيرهم، لأن ما قلناه هو الأصل في كل حق عقلا و شرعا، و لا يخرج من هذا الأصل إلا ما أخرجه دليل قاطع، كحق الرد بالعيب، على أن حق الرد ربما كان في تأخيره إبطاله، لجواز تغير أمارات العيب و خفائها، فحصلت الشبهة في وجوده، فوجب لذلك المسارعة إلى الرد، و ليس كذلك حق الشفعة، لأن ما يجب به من عقد البيع قد أمن ذلك فيه، و ما يتعلق به المخالف في ذلك أخبار آحاد لا يعول على مثلها في الشرع.

و قولهم: إذا لم تبطل الشفعة بتأخير الطلب دخل على المشتري ضرر، لأنه إذا علم بذلك امتنع من التصرف (1) في المبيع بما يحتاج إليه من غرس و بناء و تغيير، لأن الشفيع يأمره بإزالة ذلك إذا أخذ و هو من أخذه على وجل، و ذلك ممنوع منه عقلا و شرعا، الجواب عنه أن يقال: يمكن أن يتحرز من هذا الضرر بما به يسقط الشفعة أصلا، أو بما لا ينشط معه الشفيع إلى الأخذ، أو لا يقدر عليه من زيادة الثمن، و وجوه التحرز من ذلك كثيرة.

ثم يقال لهم على سبيل المعارضة: في مقابلة ضرر المشتري بما ذكرتموه من ضرر الشفيع بالشركة، و إزالة ضرره ها هنا هو المقصود المراعى دون إزالة ضرر المشتري، و لهذا يستحق بالشفعة من علم بالبيع بعد السنين المتطاولة، بلا خلاف و إن كان حاضرا في البلد، و كذا حكم المسافر إذا قدم، و الصغير إذا بلغ، و لم يمنع ما ذكرتموه من ضرر المشتري من استحقاقها.

و اشترطنا عدم عجزه عن الثمن، لأنه إنما يملك الأخذ إذا دفع إلى المشتري ما بذله للبائع، فإذا تعذر عليه ذلك سقط حقه من الشفعة، و سواء كان عجزه لكونه معسرا، أو لكون ما وقع عليه العقد أو بعضه غير معلوم القيمة، و قد فقدت عينه، بلا خلاف في ذلك.ت.

ص: 235


1- - في «ج»: من التصرفات.

و روى أصحابنا أن كذا حكمه متى لم يحضر الثمن من البلد التي هو فيه حتى مضت ثلاثة أيام، و متى ادعى إحضاره من مصر آخر فلم يحضره حتى مضت مدة يمكن فيها وصول الثمن و زيادة ثلاثة أيام، هذا ما لم يؤد الصبر عليه إلى ضرر، فإن أدى إلى ذلك بطلت الشفعة، بدليل إجماع الطائفة.

و إذا كان الثمن مؤجلا فهو على الشفيع كذلك، و يلزمه إقامة كفيل به إذا لم يكن مليا، و هذا لا يتفرع على مذهب من قال من أصحابنا: إن حق الشفعة لا يسقط بالتأخير. (1)

و إذا حط البائع من الثمن بعد لزوم العقد فهو للمشتري خاصة، و لم يسقط عن الشفيع، لأنه إنما يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد البيع عليه، و ما يحط بعد ذلك هبة مجددة لا دليل على لحوقها بالعقد.

و إذا تكاملت شروط استحقاق الشفعة، استحقت في كل مبيع، من الأرضين و الحيوان و العروض- كان ذلك مما يحتمل القسمة أو لم يكن- و هذا هو المذهب الذي تقدم الإجماع عليه من أصحابنا.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: الشفعة فيما لم يقسم (2) و لم يفصل، و بقوله: الشفعة في كل شي ء (3)، على أنه يقال لهم: إذا كنتم تذهبون إلى أن الشفعة وجبت لإدخاله الضرر على الشفيع، و كان هذا المعنى حاصلا في سائر المبيعات، لزمكم القول بوجوب الشفعة فيها.

و قولهم: من صفة الضرر الذي تجب الشفعة لإزالته أن يكون حاصلا علىة.

ص: 236


1- - السيد المرتضى: الانتصار: 219.
2- - سنن البيهقي: 6- 102 و 103 باب الشفعة فيما لم يقسم، و كنز العمال: 7- 8 برقم 17707 و مسند أحمد بن حنبل 3- 296 و صحيح البخاري: 3- 114 باب الشفعة، و البحر الزخار: 4- 3 كتاب الشفعة.
3- - جامع الأصول: 2- 13 و البحر الزخار: 4- 3 كتاب الشفعة.

جهة الدوام، و هذا لا يكون إلا في الأرضين، ليس بشي ء لأن الضرر المنقطع يجب أيضا إزالته عقلا و شرعا، كالدائم، فكيف وجبت الشفعة لإزالة أحدهما دون الآخر؟ على أن فيما عدا الأرضين ما يدوم كدوامها و يدوم الضرر بالشركة فيه كدوامه، كالجواهر و غيرها.

و من أصحابنا من قال: لا يثبت حق الشفعة إلا فيما يحتمل القسمة شرعا من العقار و الأرضين، و لا يثبت فيما لا يحتمل القسمة من ذلك، كالحمامات و الأرحية، و لا فيما لا ينقل و يحول (1) إلا على وجه التبع للأرض كالشجر و البناء. (2)

و الشفعة مستحقة على المشتري دون البائع و عليه الدرك للشفيع، بدليل إجماع الطائفة، و لأنه قد ملك بالعقد و الشفيع يأخذ منه ملكه بحق الشفعة فيلزمه دركه.

و إذا كان الشريك غير كامل العقل فلوليه أو الناظر في أمور المسلمين، المطالبة له بالشفعة، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بقوله عليه السلام:

الشفعة فيما لم يقسم (3)، و لم يفصل، و إذا ترك الولي ذلك، فللصغير إذا بلغ، و المجنون إذا عقل، المطالبة، بدليل الإجماع المتكرر، و لأن ذلك حق له لا للولي، و ترك الولي لاستيفائه لا يؤثر في إسقاطه.

و إذا غرس المشتري و بنى، ثم علم الشفيع بالشراء و طالب بالشفعة، كان له إجباره على قلع الغرس و البناء إذا رد عليه ما نقص من ذلك بالقلع، لأن المشتري فعل ذلك في ملكه، فلم يكن متعديا، فاستحق ما ينقص بالقلع، و لأنه لا خلاف في أن له المطالبة بالقلع إذا رد ما نقص به، و لا دليل على وجوب المطالبة إذا لم يرد.ا.

ص: 237


1- - كذا في الأصل و «ج» و لكن في «س»: «و لا فيما لا ينقل و يحول».
2- - الشيخ: المبسوط: 3- 106 و 107 و النهاية: 424 و الخلاف المسألة 1 و 16 من كتاب الشفعة.
3- - تقدم مصدره آنفا.

و إذا استهدم المبيع لا بفعل المشتري، أو هدمه هو قبل علمه بالمطالبة بالشفعة، فليس للشفيع إلا الأرض و الآلات، و إن هدمه بعد العلم بالمطالبة، فعليه رده إلى ما كان، بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا عقد المشتري البيع على شرط البراءة من العيوب، أو علم بالعيب و رضي به، لم يلزم الشفيع ذلك، بل متى علم بالعيب رد المشتري إن شاء.

و إذا اختلف المتبايعان و الشفيع في مبلغ الثمن، و فقدت البينة، فالقول قول المشتري مع يمينه، بدليل الإجماع المتكرر.

و حق الشفعة موروث عند بعض أصحابنا (1) لعموم آيات الميراث، و عند بعضهم لا تورث. (2)9.

ص: 238


1- - المفيد: المقنعة: 619 و السيد المرتضى: الانتصار: 217.
2- - الشيخ: النهاية: 425، و الخلاف: كتاب الشفعة المسألة 12، و القاضي: المهذب: 1- 459.

فصل في القرض

القرض جائز من كل مالك للتبرع، فلا يجوز للولي أو الوصي إقراض مال الطفل، إلا أن يخاف ضياعه ببعض الأسباب، فيحتاط في حفظه بإقراضه.

و في القرض فضل كثير و ثواب جزيل، و يكره للمرء أن يستدين ما هو غني عنه، و يحرم ذلك عليه مع عدم القدرة على قضائه، و زوال الضرورة إليه.

و كل ما يجوز السلم فيه يجوز للمسلم إقراضه، من المكيل و الموزون و المذروع و الحيوان و غير ذلك، لأن الأصل الإباحة، و المنع يحتاج إلى دليل، و يحتج على المخالف بالأخبار الواردة في جواز القرض و الحث على فعله، لأنها عامة لا تخصيص فيها.

و هو مملوك بالقبض، لأنه لا خلاف في جواز التصرف فيه بعد قبضه، و لو لم يكن مملوكا لما جاز ذلك فيه.

و يجوز أن يقرض غيره مالا على أن يأخذه في بلد آخر، أو على أن يعامله في بيع أو إجارة أو غيرهما، بدليل إجماع الطائفة، و لأن الأصل الإباحة، و المنع يفتقر إلى دليل شرعي.

و يحرم اشتراط الزيادة فيما يقضى به، سواء كانت في القدر أو الصفة، و يجوز أن يأخذ المقرض خيرا مما كان له من غير شرط- و لا فرق بين ذلك أن يكون عادة من المقترض أو لم يكن- بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الأصل إباحة ذلك.

ص: 239

و إن كان للدين مثل، بأن يكون مكيلا أو موزونا، فقضاؤه بمثله لا بقيمته، بدليل الإجماع المتكرر، و لأنه إذا قضاه بمثله، برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك إذا قضاه بقيمته، و إذا كان مما لا مثل له، كالثياب و الحيوان، فقضاؤه برد قيمته.

و لا يحل المطل [1] بالدين بعد المطالبة به لغني، و يكره لصاحبه المطالبة به مع الغنى عنه و ظن حاجة من هو عليه إلى الارتفاق به، و يحرم عليه ذلك مع العلم بعجزه عن الوفاء، لقوله تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (1)، و لا يحل له المطالبة في الحرم على حال، و يكره له النزول عليه، فإن نزل لم يجز له أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام، و يكره له قبول هديته لأجل الدين، و الأولى به إذا قبلها الاحتساب بها من جملة ما عليه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و لا يجوز لصاحب الدين المؤجل، أن يمنع من هو عليه من السفر، و لا أن يطالبه بكفيل، و لو كان سفره إلى الجهاد، أو كانت مدته أكثر من أجل الدين، لأن الأصل براءة الذمة من الكفيل، و دعوى جواز المطالبة به تفتقر إلى دليل، و لأنه لا يستحق عليه شيئا في الحال، فلا يستحق المطالبة بإقامة الكفيل.

و يكره استحلاف الغريم المنكر، لأن في ذلك تضييعا للحق و تعريضا لليمين الكاذبة، و متى حلف لم يجز لصاحب الدين إذا ظفر بشي ء من ماله أن يأخذ منه بمقدار حقه، و يجوز له ذلك إذا لم يحلف إلا أن يكون ما ظفر به وديعة عنده، فإنه لا يجوز له أخذ شي ء منها بغير إذنه على حال، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و يخص الوديعة عموم قوله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. (2)

و إذا استدان العبد بغير إذن سيده فلا ضمان عليه و لا على السيد إلا أن8.

ص: 240


1- - البقرة: 280.
2- - النساء: 58.

يعتق فيلزمه الوفاء.

و من مات حل ما عليه من دين مؤجل، بلا خلاف إلا من الحسن البصري [1]، و لا يحل له ما له من دين مؤجل بلا خلاف إلا ما رواه بعض أصحابنا من طريق الآحاد أنه يصير حالا. (1)

و لا يثبت الدين في التركة إلا بإقرار جميع الورثة، أو شهادة عدلين منهم أو من غيرهم به مع يمين المدعي، فإن أقر بعضهم و لم يكن على ما ذكرناه، لزمه من الدين بمقدار حقه من التركة، و لم يلزم غيره، و متى لم يترك المقتول عمدا ما يقضي دينه لم يجز لأوليائه القود إلا أن يضمنوا قضاءه، بدليل الإجماع المتكرر ذكره.4.

ص: 241


1- - الشيخ: النهاية: 310، و لاحظ الوسائل: 13، ب 12، من أبواب الدين و القرض، ح 1 و 4.

فصل في الرهن

الرهن في الشريعة عبارة عن جعل العين وثيقة في دين، إذا تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، استوفي من ثمن العين.

و شروط صحته ستة:

حصول الإيجاب و القبول من جائزي التصرف.

و أن يكون المرهون عينا لا دينا، لأنا قد بينا أنه وثيقة عين في دين.

و أن يكون مما يجوز بيعه، لأن كونه بخلاف ذلك ينافي المقصود به.

و أن يكون المرهون به دينا لا عينا مضمونة، كالمغصوب مثلا، لأن الرهن إن كان على قيمة العين إذا تلفت لم يصح، لأن ذلك حق لم يثبت بعد، و إن كان على نفس العين فكذلك، لأن استيفاء نفس العين من الرهن لا يصح.

و أن يكون الدين ثابتا، فلو قال: رهنت كذا بعشرة تقرضنيها غدا لم يصح.

و أن يكون لازما كعوض القرض (1) و الثمن و الأجرة و قيمة المتلف و أرش الجناية. [1]

و لا يجوز أخذ الرهن على مال الكتابة المشروطة، لأن عندنا أن ذلك غير لازم على ما قدمناه.

ص: 242


1- - في «ج» و «س»: لعوض القرض.

و إذا تكامل ما ذكرناه من هذه الشروط (1) صح الرهن بلا خلاف، و ليس على صحته مع اختلال بعضها دليل، فأما القبض فهو شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن، و من أصحابنا من قال: يلزم بالإيجاب و القبول لقوله تعالى:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2) قال: و هذا عقد يجب الوفاء به (3) و القول الأول هو الظاهر من المذهب و الذي عليه الإجماع.

و إذا تعين المخالف من أصحابنا باسمه و نسبه لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع، لأنه إنما كان حجة لدخول قول المعصوم فيه لا لأجل الإجماع (4)، و لما ذكرناه يستدل في المسألة بالإجماع، و إن كان فيها خلاف من بعض أصحابنا فليعرف ذلك، و أما قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فلا يمتنع ترك ظاهره للدليل.

و استدامة القبض في الرهن ليست بشرط، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (5)، فشرط القبض و لم يشترط الاستدامة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: الرهن محلوب و مركوب (6) و ذلك لا يجوز بالإطلاق إلا للراهن بلا خلاف.

و لا يجوز للراهن أن يتصرف في الرهن بما يبطل حق المرتهن، كالبيع و الهبة و الرهن عند آخر، و العتق، فإن تصرف كان تصرفه باطلا، و لم ينفسخ الرهن، لأن الأصل صحته، و القول بفسخه يحتاج إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل عليه، و إنما ينفسخ الرهن إذا فعل ما يبطل به حق المرتهن منه بإذنه.

و يجوز له الانتفاع بما عدا ذلك، من سكنى الدار، و زراعة الأرض، و خدمة العبد، و ركوب الدابة، و ما يحصل من صوف و نتاج و لبن، إذا اتفق هو8.

ص: 243


1- - في «ج»: و إذا تكاملت هذه الشروط.
2- - المائدة: 1.
3- - الشيخ: الخلاف، كتاب الرهن المسألة 5.
4- - في «ج»: لا لأجل الاجتماع.
5- - البقرة: 283.
6- - سنن البيهقي: 6- 38 و كنز العمال: 6- 288 برقم 15738.

و المرتهن على ذلك و تراضيا به، و كذا يجوز للمرتهن الانتفاع بالسكنى و الزراعة و الخدمة و الركوب و الصوف و اللبن إذا أذن له الراهن، و تكفل بمؤنة الرهن، و الأولى أن يصرف قيمة منافعه من صوف و لبن في مؤنته، و ما فضل من ذلك كان رهنا مع الأصل، يدل على ذلك إجماع الطائفة، فإن سكن المرتهن الدار، أو زرع الأرض بغير إذن الراهن أثم و لزمه أجرة الأرض و الدار، و كان الزرع له، لأنه عين ماله، و الزيادة حادثة فيه، و هي غير متميزة منه.

و لا يحل للراهن و لا المرتهن وطء الجارية المرهونة، فإن وطأها الراهن بغير إذن المرتهن أثم، و عليه التعزير، فإن حملت و أتت بولد، فإن كان موسرا وجب عليه قيمتها، تكون رهنا مكانها، لحرمة الولد، و إن كان معسرا بقيت رهنا بحالها، و جاز بيعها في الدين، بدليل الإجماع المشار إليه، فإن وطأها بإذن المرتهن لم ينفسخ الرهن، حملت أو لم تحمل، لأن ملكه لها ثابت، على ما بيناه فيما مضى، و إذا كان ثابتا، كان الرهن على حاله.

فإن وطأها المرتهن بغير إذن الراهن، فهو زان، و ولدها منه (1) رق لسيدها، و رهن معها، فإن كان الوطء بإذن الراهن، و هو عالم بتحريم ذلك، لم يلزمه مهر، لأن الأصل براءة الذمة، و إلزامه المهر يفتقر إلى دليل شرعي، فإن أتت بولد كان حرا لاحقا بالمرتهن بلا خلاف، و لا يجب قيمته، لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها بذلك يحتاج إلى دليل، و ليس في الشرع ما يدل عليه.

و رهن المشاع جائز كالمقسوم، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى:

فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (2) و لم يفصل، و يجوز توكيل المرتهن في بيع الرهن، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فالأصل جواز ذلك، و المنع منه يفتقر إلى دليل، و يحتج على المخالف بعموم الأخبار الواردة في جواز التوكيل.3.

ص: 244


1- - في «ج»: و ولده منها.
2- - البقرة: 283.

و إذا كان الرهن مما يسرع إليه الفساد، و لم يشرط (1) بيعه إذا خيف فساده، كان الرهن باطلا، لأن المرتهن لا ينتفع به، و الحال هذه، و إذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بشرط أن يكون ثمنه رهنا مكانه، كان ذلك جائزا، و لم يبطل البيع، بدليل قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ (2)، و يحتج على المخالف بقوله: المؤمنون عند شروطهم (3)، و إن قال له: بع الرهن بشرط أن تجعل ثمنه من ديني قبل محله، صح البيع، و كان الثمن رهنا إلى وقت المحل، و لم يلزم الوفاء بتقديم الحق قبل محله، لأنه لا دليل على لزوم ذلك.

و الرهن أمانة في يد المرتهن، إن هلك من غير تفريط، فهو من مال الراهن، و لا يسقط بهلاكه شي ء من الدين، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه و عليه غرمه (4)، لأن المراد بالغنم الزيادة، و بالغرم النقصان و التلف، و قولهم: المراد بالغرم النفقة و المئونة، لا ينافي ما قلناه، فيحمل اللفظ على الأمرين، و أيضا فقوله «الرهن من صاحبه» المراد به من ضمان صاحبه، و معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يغلق» أي لا يملكه المرتهن، و يحتج عليهم بقوله:

الخراج بالضمان [1]، و خراجه إذا كان للراهن بلا خلاف، وجب أن يكون من ضمانه.9.

ص: 245


1- - في «س»: و لم يشترط.
2- - البقرة: 275.
3- - بداية المجتهد: 2- 296 و التهذيب: 7- 371 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون.
4- - سنن البيهقي: 6- 39، باب الرهن غير مضمون، و كنز العمال: 6- 289.

و لا يعارض من ذلك ما رووه من أن رجلا رهن فرسه عند إنسان فنفق، فسأل المرتهن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك، فقال: ذهب حقك (1) لأن المراد بذلك ذهب حقك من الوثيقة لا من الدين، و قلنا ذلك لوجهين (2): أحدهما: أنه و حد الحق، و لو أراد ذهاب الدين و الوثيقة معا لقال: ذهب حقاك، و الثاني: أن الدين إنما يسقط عند المخالف إذا كان مثل قيمة الرهن أو أقل، و لا يسقط الزيادة منه إذا كان أكثر، فلو أراد ذهاب حقه من الدين، لاستفهم عن مبلغه، أو فصل في الجواب.

و قولهم: سقوط الحق من الوثيقة معلوم بالمشاهدة، فلا فائدة في بيانه، غير صحيح، لأن تلف الرهن لا يسقط حق المرتهن من الوثيقة على كل حال، بل إذا أتلفه الراهن، أو أتلفه أجنبي، فإن القيمة تؤخذ و تجعل رهنا مكانه، فأراد عليه السلام أن يبين أن الرهن إذا تلف من غير جناية (3) سقط حق الوثيقة.

و إذا ادعى المرتهن هلاك الرهن، كان القول قوله مع يمينه، سواء ادعى ذلك بأمر ظاهر أو خفي، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فقد بينا أنه أمانة في يده، و إذا كان كذلك، فالقول قوله في هلاكه.

و إذا اختلف الراهن و المرتهن في الاحتياط و التفريط، و فقدت البينة، فالقول قول المرتهن أيضا مع يمينه، و إذا اختلفا في مبلغ الرهن، أو مقدار قيمته، فالقول قول الراهن مع يمينه، و إذا اختلفا في مبلغ الدين، أخذ ما أقر به الراهن (4) و حلف على ما أنكره، و يدل على ذلك كله، الإجماع المتكرر ذكره.ن.

ص: 246


1- - سنن البيهقي: 6- 41.
2- - في «ج»: بوجهين.
3- - في «ج»: من غير خيانة.
4- - في «س»: للراهن.

فصل في التفليس

المفلس في الشرع من ركبته الديون، و ماله لا يفي بقضائها.

و يجب على الحاكم الحجر عليه بشروط أربعة:

أحدها: ثبوت إفلاسه، لأنه سبب الحجر عليه، فلا يجوز قبل ثبوته.

و الثاني: ثبوت الديون عليه لمثل ذلك.

و الثالث: كونها حالة، لأن المؤجل لا يستحق المطالبة به قبل حلول أجله.

و الرابع: مسألة الغرماء الحجر عليه، لأن الحق لهم، فلا يجوز للحاكم الحجر به إلا بعد مسألتهم.

فإذا حجر عليه تعلق بحجره أحكام ثلاثة:

أولها: تعلق ديونهم بالمال الذي في يده.

و ثانيها: منعه من التصرف في ماله بما يبطل حق الغرماء، كالبيع، و الهبة، و الإعتاق، و المكاتبة، و الوقف، و لو تصرف لم ينفذ تصرفه، لأن نفوذه يبطل فائدة الحجر عليه، و يصح تصرفه فيما سوى ذلك، من خلع، و طلاق، و عفو عن قصاص، و مطالبة به، و شراء بثمن في الذمة، و لو جنى جناية توجب الأرش، شارك المجني عليه الغرماء بمقداره، لأن ذلك حق ثبت على المفلس بغير اختيار صاحبه، و لو أقر بدين، و ذكر أنه كان عليه قبل الحجر، قبل إقراره، و شارك المقر له سائر الغرماء، لأن إقراره صحيح، و إذا كان كذلك، فظاهر الخبر في قسمة ماله بين غرمائه يقتضي ما ذكرناه، فمن خصصه فعليه الدليل.

ص: 247

و ثالثها: أن كل من وجد عين ماله من غرمائه (1) كان أحق بها من غيره، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: أيما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه (2)، هذا إذا وجد العين بحالها لم تتغير و لا تعلق بها حق لغيره برهن أو كتابة.

فإن تغيرت، لم يخل تغيرها إما أن يكون بزيادة أو نقصان.

فإن كان بنقصان كان بالخيار بين أن يترك و يضرب بالثمن مع باقي الغرماء، و بين أن يأخذ، فإن أخذ و كان نقصان جزء، و ينقسم الثمن عليه، كعبدين تلف أحدهما، أخذ الموجود، و ضارب الغرماء بثمن المفقود، و إن كان نقصان جزء لا ينقسم الثمن عليه، كذهاب عضو من أعضائه، فإن كان لا أرش له، لكونه بفعل المشتري، أو بآفة سماوية، أخذ العين الناقصة، من غير أن يضرب مع الغرماء بمقدار النقص، و إن كان له أرش، لكونه من فعل أجنبي، أخذه و ضرب بقسط ما نقص بالجنابة مع الغرماء.

و إن كان تغيير العين بزيادة لم يخل إما أن تكون متصلة أو منفصلة، فإن كانت متصلة لم يخل إما أن تكون بفعل المشتري أو بفعل غيره، فإن كان بفعله، كصبغ الثوب و قصارته، كان شريكا للبائع بمقدار الزيادة، و إلا أدى إلى إبطال حقه، و ذلك لا يجوز، و إن كانت بغير فعله، كالسمن، و الكبر، و تعليم الصنعة، أخذ العين بالزيادة، لأنها تبع، و إن كانت منفصلة كالثمرة و النتاج، أخذ العين دون الزيادة، لأنها حصلت في ملك المشتري.

و لو كانت العين زيتا، فخلطه بأجود منه سقط حق بائعه من عينه، لأنها فيل.

ص: 248


1- - في «ج»: عن غرمائه.
2- - المستدرك على الصحيحين: 2- 51 كتاب البيوع و لاحظ كنز العمال: 4- 275 برقم 10465 كتاب التفليس، و سنن البيهقي: 6- 45 و 46 باختلاف قليل.

حكم التالفة، بدلالة أنها ليست موجودة (1) مشاهدة و لا من طريق الحكم، لأنه ليس له أن يطالب بقسمته.

و لا يجب على المفلس بيع داره التي يسكنها، و لا عبده الذي يخدمه، و لا دابته التي يجاهد عليها، بدليل إجماع الطائفة، و لأنه لا دليل على وجوب بيع ما ذكرناه، و يلزمه بيع ما عدا ذلك، فإن امتنع باع الحاكم عليه، و قسم الثمن بين الغرماء، بدليل الإجماع المشار إليه، و نحتج على المخالف بما رووه من أنه عليه السلام:

حجر على معاذ و باع ماله في دينه (2) و ظاهر ذلك أنه باعه بغير اختياره.

و إذا ظهر غريم آخر بعد القسمة، نقضها الحاكم و قسم عليه، لأن حقه ثابت فيما كان في يد المفلس، و لا دليل على سقوطه منه بقسمته على غيره.

و لا تصير الديون المؤجلة على المفلس حالة بحجر الحاكم عليه للحالة، لأن الأصل كونها مؤجلة، و على من ادعى أنها تصير حالة الدليل.

و يسمع البينة على الإعسار، بدليل إجماع الطائفة، و لأنها ليست على مجرد النفي، و إنما تتضمن إثبات صفة له، و يجب سماعها في الحال، و لا يقف ذلك على حبس المعسر، بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا ثبت إعساره بالبينة، أو صدقه في دعوى ذلك الغرماء، لم يجز (3) للحاكم حبسه، و وجب عليه المنع من مطالبته و ملازمته إلى أن يستفيد مالا، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و أيضا قوله تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ (4) و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام لغرماء الرجل الذي أصيب0.

ص: 249


1- - في «ج»: بموجودة.
2- - سنن البيهقي: 6- 48 باب الحجر على المفلس، و البحر الزخار: 5- 89 كتاب الحجر.
3- - في «ج»: لم يجب.
4- - البقرة: 280.

بما ابتاعه من الثمار: خذوا ما وجدتم و ليس لكم إلا ذلك (1)، و لم يذكر الملازمة.

و ليس للغرماء مطالبة المعسر بأن يؤجر نفسه، و يكتسب لإيفائهم، بدليل ما قدمناه في المسألة الأولى سواء، بل هو إذا علم من نفسه القدرة على ذلك و ارتفاع الموانع منه، فعله ليبرئ ذمته.

و على الحاكم إشهار المفلس، بدليل الإجماع، ليعرف، فلا يعامله إلا من رضي بإسقاط دعواه عليه.0.

ص: 250


1- - مسند أحمد بن حنبل: 3- 36 و 58 و كنز العمال: 4- 278 برقم 10480.

فصل في الحجر

المحجور عليه هو الممنوع من التصرف في ماله، و هو على ضربين: محجور عليه لحق غيره، و محجور عليه لحق نفسه.

و الأول ثلاثة: المفلس، و قد قدمنا حكمه، و المريض محجور عليه في الوصية بما زاد على الثلث من التركة، لحق ورثته، بلا خلاف، و المكاتب محجور عليه فيما في يده، لحق سيده.

و الضرب الثاني أيضا ثلاثة: الصبي و المجنون و السفيه، و لا يرتفع الحجر عن الصبي إلا بأمرين: البلوغ و الرشد، و البلوغ يكون بأحد خمسة أشياء: السن، و ظهور المني و الحيض و الحلم و الإنبات، بدليل إجماع الطائفة.

و حد السن في الغلام خمس عشرة سنة، و في الجارية تسع سنين، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف في الغلام بما رووه من قوله عليه السلام: إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة، كتب ما له و عليه، و أخذت منه الحدود (1) و بما رووه عن ابن عمر من قوله: عرضت على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عام بدر، و أنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني و لم يرني بلغت، و عرضت عليه عام الخندق و أنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني في المقاتلة (2)، فنقل الحكم، و هو الرد و الإجازة، و سببه هو السن.

ص: 251


1- - المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 4- 515 كتاب الحجر الفصل الثالث في البلوغ، و نقله الشيخ في الخلاف كتاب الحجر المسألة 2.
2- - سنن البيهقي: 6- 55 كتاب الحجر باب البلوغ بالسن، و المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 4- 513 كتاب الحجر.

و الرشد يكون بشيئين: أحدهما: أن يكون مصلحا لماله بلا خلاف، و الثاني: أن يكون عدلا في دينه، فإن اختل أحدهما استمر الحجر أبدا إلى أن يحصل الأمران، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً (1).

و الفاسق سفيه، و أيضا قوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ (2) فاشترط الرشد، و من كان فاسقا في دينه كان موصوفا بالغي، و من وصف بذلك لم يوصف بالرشد، لتنافي الصفتين، و أيضا فلا خلاف في جواز دفع المال إليه مع اجتماع العدالة و إصلاح المال، و ليس على جواز دفعه إذا انفرد أحد الأمرين دليل.

و إذا اجتمع الأمران معا جاز (3) على كل حال، فإن ارتفع الحجر ثم صار مبذرا مضيعا، أعيد الحجر عليه، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فالمبذر سفيه و غير رشيد بلا خلاف، فوجب إعادة الحجر عليه، لظاهر ما قدمناه من القرآن، و أيضا قوله تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ (4) و ذمه تعالى للتبذير يوجب المنع منه، و لا يصح ذلك إلا بالحجر.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: اقبضوا على أيدي سفهائكم [1] و لا يصح القبض إلا بالحجر، و قوله عليه السلام: إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل و قال،7.

ص: 252


1- - النساء: 5.
2- - النساء: 6.
3- - في «ج»: «بناء» بدل «جاز».
4- - الإسراء: 27.

و كثرة السؤال و إضاعة المال (1)، و ما يكره الله تعالى يجب المنع منه، لأنه لا يكون إلا محرما.

و إن عاد الفسق دون تبذير المال، فالاحتياط يقتضي إعادة الحجر أيضا، لأنا قد بينا أن الفاسق سفيه، و إذا كان كذلك فهو ممنوع من دفع المال إليه، لما قدمناه من الاستدلال.

و يصح طلاق المحجور عليه للسفه، و خلعه، و لا تدفع المرأة بذل الخلع إليه، و يصح مطالبته بالقصاص، و إقراره بما يوجبه، و لا يصح تصرفه في أعيان أمواله، و لا شراؤه بثمن في الذمة.8.

ص: 253


1- - سنن البيهقي: 6- 63 و فيه: ان الله كره لكم ثلاثا. و نحوه في مسند أحمد بن حنبل: 2- 327، و 4- 246 و 249 و مثله في كنز العمال: 16- 46 برقم 43871 و 44028.

فصل في الصلح

الصلح جائز بين المسلمين ما لم يؤد إلى تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا يحل أن يؤخذ بالصلح ما لا يستحق و لا يمنع به المستحق، و هو جائز مع الإنكار، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ (1) و لم يفرق، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: الصلح جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا. (2)

و الشوارع على الإباحة يجوز لكل أحد التصرف فيها بما لا يتضرر به المارة، فإن أشرع جناحا و كان عاليا لا يضر بالمجتازين، ترك ما لم يعارض فيه أحد من المسلمين، فإن عارض وجب قلعه، لأن الطريق حق لجميعهم، فإذا أنكر أحد لم يجز أن يغصب على حقه، و أيضا فلا خلاف أنه لا ينفرد بملك شي ء من القرار و الهواء، و البناء تابع له، و أيضا فلو سقط ما أشرعه على إنسان فقتله، أو مال فأتلفه، للزمه الضمان بلا خلاف، و لو كان يملك ذلك لما لزمه.

و السكة إذا كانت غير نافذة فهي ملك لأرباب الدور الذين فيها طرقهم، فلا يجوز لبعضهم فتح باب فيها، و لا إشراع جناح إلا برضا الباقين، ضر ذلك أو لم يضر، و متى أذنوا في ذلك، كان لهم الرجوع فيه، لأنه إعادة (3)، و لو صالحوه على

ص: 254


1- - النساء: 128.
2- - سنن البيهقي: 6- 65 كتاب الصلح، و كنز العمال: 4- 365 برقم 10933 و الوسائل: 18- 170 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 5.
3- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: لانه اعارة.

ترك الجناح بعوض لم يصح، لأن إفراد الهواء بالبيع باطل، و لا يجوز منعه من فتح كوة في حائطه، لأن ذلك تصرف في ملكه خاصة، و لا أعلم في ذلك كله خلافا.

فإن تساوت الأيدي في التصرف في شي ء و فقدت البينة، حكم بالشركة- أرضا كان ذلك، أو دارا، أو سقفا، أو حائطا أو غير ذلك- لأن التصرف دلالة الملك و قد وجد.

فإن كان للحائط عقد إلى أحد الجانبين، أو فيه تصرف خاص لأحد المتنازعين، كوضع الخشب، فالظاهر أنه لمن العقد إليه، و التصرف له، فتقدم دعواه، و يكون القول قوله مع يمينه، و إنما كلفناه اليمين، لجواز أن يكون هذا التصرف مأذونا فيه، أو مصالحا عليه، و الحائط ملك لهما.

و يحكم بالخص [1] لمن إليه معاقد القمط [2]، و هي: مشاد الخيوط في القصب، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من طرقهم من أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعث عبد الله بن اليمان (1) ليحكم بين قوم اختصموا في خص، فحكم به لمن إليه القمط، فلما رجع إليه عليه السلام أخبره بذلك فقال: أصبت و أحسنت. (2)

و إذا انهدم الحائط المشترك لم يجبر أحد الشريكين على عمارته و الإنفاق عليه، و كذا القول في كل ملك مشترك، و كذا لا يجبر صاحب السفل على إعادته لأجل العلو، لأن الأصل براءة الذمة و من أوجب إجباره على النفقة في ذلك، فعليه الدليل، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا يحل مال امرئ2.

ص: 255


1- - في المصدر: حذيفة بن اليمان.
2- - سنن ابن ماجة: 2- 785 برقم 2343، و سنن البيهقي: 6- 67 و أسد الغابة: 1- 262.

مسلم إلا بطيب نفس منه. (1)

و إذا أراد أحدهما الانفراد بالعمارة لم يكن للآخر منعه، فإن عمر متبرعا بالآلات القديمة، لم يكن له المطالبة لشريكه بنصف النفقة، و لا منعه من الانتفاع، و إن عمر بآلات مجددة، فالبناء له، و له نقضه إذا شاء، و المنع لشريكه من الانتفاع، و ليس له سكنى السفل و لا منع شريكه من سكناه، لأن ذلك انتفاع بالأرض لا بالبناء.

و لا يجوز لأحد الشريكين في الحائط أن يدخل فيه خشبة خفيفة لا تضر بالحائط ضررا كثيرا إلا بإذن الآخر، لأن ذلك هو الأصل من حيث كان تصرفا فيما لا يملكه على الانفراد، و من ادعى جواز ذلك لزمه الدليل، و متى أذن لشريكه في الحائط في وضع خشب عليه، فوضعه ثم انهدم أو قلع، لم يكن له أن يعيده إلا بإذن مجدد، لأن جواز إعادته يفتقر إلى دليل، و الأصل أن لا يجوز ذلك إلا بإذن، و ليس الإذن في الأول إذنا في الثاني.

و إذا تنازع اثنان دابة، أحدهما راكبها و الآخر آخذ بلجامها، و فقدت البينة، فهي بينهما نصفين، لأنه لا دليل على وجوب الحكم بها للراكب، و تقديمه على الآخذ، فمن ادعى ذلك فعليه الدليل.

و من ادعى على غيره مالا مجهولا، فأقر له به، و صالحه فيه على مال معلوم، صح الصلح، لقوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ (2) لأنه لم يفرق، و قوله عليه السلام: الصلح جائز بين المسلمين، الخبر. (3)3.

ص: 256


1- - سنن البيهقي: 6- 100 و كنز العمال: 1- 92 و مسند أحمد: 5- 72 و البحر الزخار: 5- 89.
2- - النساء: 128.
3- - سنن البيهقي: 6- 65 كتاب الصلح، و كنز العمال: 4- 365 برقم 1033.

فصل في الحوالة

[1] الحوالة تفتقر في صحتها إلى شروط:

منها: رضا المحيل إجماعا، لأن من عليه الدين مخير في جهات قضائه.

و منها: رضا المحال- بلا خلاف إلا من داود- لأن نقل الحق من ذمة إلى أخرى مع اختلاف الذمم، تابع لرضا صاحبه، و لأنه إذا رضي عليه صحت الحوالة بلا خلاف، و ليس على صحتها مع عدم رضاه دليل، و قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إذا أحيل أحدكم على ملي ء فليحتل (1)، محمول على الاستحباب، لما فيه من قضاء حاجة أخيه و إجابته إلى ما ينبغي.

و منها: رضا المحال عليه، لأن إثبات الحق في ذمته لغيره- مع اختلاف الغرماء في شدة الاقتضاء و سهولته- تابع لرضاه، و لأنه لا خلاف في صحتها إذا رضي، و ليس كذلك إذا لم يرض.

و منها: أن يكون المحال عليه مليا في حال الحوالة، بلا خلاف بين أصحابنا، فإن رضي المحال بعدم ملاءته جاز، لأنه صاحب الحق.

و تصح الحوالة على من ليس عليه دين، لأن الأصل جواز ذلك، و المنع منه يفتقر إلى دليل.

ص: 257


1- - سنن البيهقي: 6- 70 كتاب الحوالة، و كنز العمال: 5- 575 برقم 14015.

و إذا كان عليه دين اعتبر شرطان آخران:

أحدهما: اتفاق الحقين في الجنس و النوع و الصفة، لأن المحال عليه لا يلزمه أن يؤدي خلاف ما هو عليه.

و الثاني: أن يكون الحق مما يصح أخذ البدل فيه قبل قبضه، لأن ذلك في الحوالة و هذه حالها في معنى المعاوضة.

و إذا صحت الحوالة، انتقل الحق إلى ذمة المحال عليه، بلا خلاف إلا من زفر [1] لأنها مشتقة من التحويل، و ذلك لا يكون مع بقاء الحق في الذمة الأولى.

و لا يعود الحق إلى ذمة المحيل إذا جحد المحال عليه الحق و حلف عليه، أو مات مفلسا، أو أفلس و حجر الحاكم عليه، لأنه لا دليل على عود الحق إليه بعد انتقاله عنه، و لأن عوده إليه عند إعسار المحال عليه، يبطل فائدة اشتراط ملاءته، و قد بينا أن ذلك يشترط.

و إذا أحال المشتري البائع بالثمن، ثم رد المبيع بالعيب، بطلت الحوالة، لأنها بحق البائع و هو الثمن، و إذا بطل البيع سقط الثمن فبطلت، فإن أحال البائع على المشتري بالثمن ثم رد المبيع بالعيب، لم تبطل الحوالة، لأنه تعلق به حق لغير المتعاقدين.

و إذا اختلفا فقال المحيل: وكلتك بلفظ الوكالة، و قال المحال: بل أحلتني بلفظ الحوالة، فالقول قول المحيل بلا خلاف، لأنهما اختلفا في لفظه، و هو أعرف به من غيره، و لو كان النزاع بالعكس من ذلك، كان القول قول المحال، لأن الأصل بقاء حقه في ذمة المحيل.

**-***

[1]- و هو زفر بن الهذيل بن قيس بن مسلم من بني العنبر أحد الفقهاء و الزهاد، تفقه و غلب عليه الرأي، و هو أول من قدم البصرة برأي أبي حنيفة مات بالبصرة سنة 158 ه- لاحظ الفهرست لابن النديم: 256 و لسان الميزان: 2- 476.

ص: 258

و إذا اتفقا في لفظ الحوالة، و ان القدر الذي جرى بينهما منه أنه قال:

أحلتك بما لي عليه من الحق، ثم اختلفا فقال المحيل: أنت وكيلي في ذلك، و قال المحال: بل أحلتني لآخذ ذلك لنفسي، فالقول قول المحيل، لأن الأصل بقاء حق المحال في ذمته، و بقاء حقه على المحال عليه، المحال يدعي زوال ذلك، و المحيل ينكره، كان القول قوله مع يمينه.

ص: 259

فصل في الضمان

[1] من شرط (1) صحته:

أن يكون الضامن مختارا، غير مولى عليه، مليا في حال الضمان- إلا أن يرضى المضمون له بعدم ملاءته، فيسقط هنا هذا الشرط.

و أن يكون إلى أجل معلوم.

و أن يقبل المضمون له ذلك.

و أن يكون المضمون حقا لازما في الذمة- كمال القرض و الأجرة و ما أشبه ذلك- بدليل الإجماع المشار إليه، و مصيره إلى اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، لقوله عليه السلام: الزعيم غارم (2)، و لم يفصل.

و يصح ضمان مال الجعالة بشرط أن يفعل ما يستحق به، للخبر المتقدم، و قوله تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ. (3)

و ليس من شرط صحته أن يكون المضمون معلوما، بل لو قال: كل حق يثبت على فلان فأنا ضامنه، صح و لزمه ما يثبت بالبينة أو الإقرار، بدليل الإجماع

ص: 260


1- - في الأصل: من شروط.
2- - سنن البيهقي: 6- 72 كتاب الضمان و مسند أحمد بن حنبل: 5- 267 و كنز العمال: 15- 178 برقم 40490.
3- - يوسف: 72.

المشار إليه.

و ليس من شرط صحته أيضا رضا المضمون عنه، و لا معرفته و معرفة المضمون له، لأنه لا دليل على ذلك.

و يحتج على المخالف بما رووه من أن عليا عليه السلام و أبا قتادة [1] لما ضمنا الدين عن الميت أجازه النبي عليه السلام و لم يحصل رضاه لموته، و لا سألهما النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن معرفته و لا معرفة صاحب الدين (1)، فدل على أن ذلك ليس من شرط صحة الضمان. (2)

و إذا صح الضمان انتقل الحق إلى ذمة الضامن، و بري ء المضمون عنه منه و من المطالبة به، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعلي لما ضمن الدرهمين عن الميت: جزاك الله عن الإسلام خيرا، و فك رهانك كما فككت رهان أخيك (3)، و قوله لأبي قتادة لما ضمن الدينارين: هما عليك و الميت منهما بري ء؟ قال: نعم (4) فدل أن المضمون عنه يبرأ من الدين بالضمان.

و لا يرجع الضامن على المضمون عنه بما ضمنه إذا ضمن بغير إذنه، فإن كان أذن له في الضمان رجع عليه، بدليل الإجماع المشار إليه، سواء أذن في الأداء أو لم يأذن، لأنا قد بينا أن الحق انتقل إلى ذمته، فلا حاجة إلى استئذانه في القضاء.

و يحتج على المخالف في المسألة الأولى بخبر علي عليه السلام و أبي قتادة، لأن7.

ص: 261


1- - سنن الدار قطني: 3- 78 و 79 برقم 291 و 293 و سنن أبي داود: 3- 247 برقم 3343 و سنن النسائي: 4- 65 و سنن البيهقي: 6- 72 و 73 كتاب الضمان و البحر الزخار: 5- 77 و مستدرك الوسائل: 13- 435 كتاب الضمان، الباب 2، ح 1 و الباب 3، ح 4 و 3.
2- - في «ج» و «س»: صحته الضمان.
3- - سنن الدار قطني: 3- 78 و 79 برقم 291 و 293 و سنن أبي داود: 3- 247 و سنن النسائي: 4- 65 و مستدرك الوسائل: 13- 435 كتاب الضمان و سنن البيهقي: 6- 73 و البحر الزخار: 5- 77.
4- - سنن الدار قطني: 3- 78 و 79 برقم 291 و 293 و سنن أبي داود: 3- 247 و سنن النسائي: 4- 65 و مستدرك الوسائل: 13- 435 كتاب الضمان و سنن البيهقي: 6- 73 و البحر الزخار: 5- 77.

ضمانهما لما كان بغير إذن لم يكن لهما الرجوع على المضمون عنه، لأن ذلك لو كان لهما لم يكن في الضمان فائدة، و لكان الدين باقيا على الميت كما كان.

و يصح ضمان الدين عن الميت المفلس، لأنه لا مانع من ذلك، و لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أجاز الضمان مطلقا في الخبر المتقدم، و لم يستفهم عن حال الميت.

و إذا تكفل ببدن إنسان، و ضمن إحضاره بشرط البقاء، صح بلا خلاف، إلا ما رواه المروزي [1] من قول آخر للشافعي (1)، و إذا طولب بإحضاره، و هو حي، فلم يحضره، لزمه أداء ما يثبت عليه في قول من أجاز كفالة الأبدان، و إن مات قبل ذلك بطلت الكفالة، و لم يلزمه أداء شي ء مما كان عليه، بلا خلاف بين من أجاز هذه الكفالة إلا من مالك (2) و ابن سريج [2].

و يدل على ذلك إجماع الطائفة، لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها يحتاج إلى دليل، و أيضا فهذه الكفالة إنما كانت ببدنه لا بما في ذمته، و لا يجب عليه ما لم يتكفله، و لو قال: إن لم آت به في وقت كذا فعلي ما يثبت عليه، لزمه ذلك إذا لم يحضره- حيا كان أو ميتا- بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه قد تكفل بما في ذمته، فيلزمه أداؤه.5.

ص: 262


1- - لاحظ المغني لابن قدامة: 5- 95 و بداية المجتهد: 2- 295.
2- - لاحظ المغني لابن قدامة: 5- 105.

فصل في الشركة

و من شرط صحة الشركة:

أن يكون في مالين متجانسين إذا خلطا اشتبه أحدهما بالآخر.

و أن يخلطا حتى يصيرا مالا واحدا.

و أن يحصل الإذن في التصرف في ذلك، بدليل إجماع الطائفة على ذلك كله، و أيضا فلا خلاف في انعقاد الشركة بتكامل ما ذكرناه، و ليس على انعقادها مع عدمه أو اختلال بعضه دليل، و هذه الشركة التي تسميها الفقهاء شركة العنان. [1]

و على ما قلناه لا يصح شركة المفاوضة و هي: أن يشتركا في كل ما لهما و عليهما، و ما لا هما متميزان، و لا شركة الأبدان و هي: الاشتراك في أجرة العمل، و لا شركة الوجوه و هي: أن يشتركا على أن يتصرف كل واحد منهما بجاهه لا برأس ماله (1)، على أن يكون ما يحصل من فائدة، بينهما.

ص: 263


1- - في الأصل و «س»: برأس مال.

و يدل على فساد هذه الشركة أيضا أنه عليه السلام قد نهى عن الغرر [1] و هو حاصل فيها، لأن كل واحد من الشريكين لا يعلم أ يكسب الآخر شيئا أم لا، و لا يعلم مقدار ما يكسبه، و يدخل فيه شركة المفاوضة على أن يشاركه فيما يلزمه بعدوان و غضب و ضمان، و ذلك غرر عظيم.

و إذا انعقدت الشركة اقتضت أن يكون لكل واحد من الشريكين من الربح بمقدار رأس ماله، و عليه من الوضيعة بحسب ذلك، فإن اشترطا تفاضلا في الربح، أو الوضيعة مع التساوي في رأس المال، أو تساويا في كل ذلك مع التفاضل في رأس المال، لم يلزم الشرط، بدليل الإجماع المشار إليه، و كذا إن جعل أحد الشريكين للآخر فضلا في الربح بإزاء عمله لم يلزم ذلك، و كان للعامل أجر مثله، و من الربح بحسب رأس ماله، و يصح كل من ذلك بالتراضي، و يحل تناول الزيادة بالإباحة دون عقد الشركة، و يجوز الرجوع بها لمبيحها مع بقاء عينها، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الأصل جواز ذلك، و المنع يفتقر إلى دليل.

فإن قال المخالف: اشتراط الفضل في الوضيعة بمنزلة أن يقول: ما ضاع من مالك فهو علي، و هذا فاسد، قيل له: ما أنكرت أن يكون بمنزلة أن يقول: ما ضاع فهو من مالي و مالك إلا أني قد رضيت أن يكون من مالي خاصة، و تبرعت لك بذلك؟- و هذا لا مانع منه، و يلزم أبا حنيفة على ذلك أن لا يجيز اشتراط التفاضل في الربح، لأنه بمنزلة أن يقول: ما أستفيده في مالي فهو لك.

و التصرف في مال الشركة على حسب الشرط، إن شرطا أن يكون لهما معا على الاجتماع، لم يجز لأحدهما أن ينفرد به، و إن شرطا أن يكون تصرفهما على الاجتماع و الانفراد، فهو كذلك، و إن اشترطا التصرف لأحدهما، لم يجز للآخر إلا بإذنه، و كذا

**-***

[1]- الوارد في المصادر هو النهي عن بيع الغرر دون النهي عن مطلق الغرر سواء كان في البيع أم في غيره نعم نقل الشيخ في الخلاف- كتاب الضمان المسألة 13 و كتاب الشركة المسألة 5- انه روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انه نهى الغرر.

ص: 264

القول في صفة التصرف في المال، من السفر به، و البيع بالنسيئة، و التجارة في شي ء معين، و متى خالف أحدهما ما وقع عليه الشرط، كان ضامنا.

و الشركة عقد جائز من كلا الطرفين، يجوز فسخه لكل واحد منهما متى شاء، و لا يلزم شرط التأجيل فيها، و تنفسخ بالموت.

و الشريك المأذون له في التصرف مؤتمن على مال الشركة، و القول قوله، فإن ارتاب به شريكه حلف على قوله.

و إذا تقاسم الشريكان لم يقتسما الدين، بل يكون الحاصل منه بينهما و المنكسر عليهما، و لو اقتسماه فاستوفى أحدهما و لم يستوف الآخر، لكان له أن يقاسم شريكه على ما استوفاه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

فإذا باع من له التصرف في الشركة، و أقر على شريكه الآخر بقبض الثمن- مع دعوى المشتري ذلك و هو جاحد- لم يبرأ المشتري من شي ء منه، أما ما يخص البائع فلأنه ما اعترف بتسليمه إليه و لا إلى من وكله على قبضه، فلا يبرأ منه، و أما ما يخص الذي لم يبع، فلأنه منكر لقبضه، و إقرار شريكه البائع عليه لا يقبل، لأنه وكيله، و إقرار الوكيل على الموكل بقبض الحق الذي وكله في استيفائه، غير مقبول، لأنه لا دليل على ذلك، و لو أقر الذي لم يبع، و لا أذن له في التصرف، أن البائع قبض الثمن، بري ء المشتري من نصيب المقر منه (1) بلا خلاف.

و تكره شركة المسلم للكافر بلا خلاف إلا من الحسن البصري، فإنه قال: إن كان المسلم هو المنفرد في التصرف لم تكره. (2)4.

ص: 265


1- - كذا في الأصل، و لكن في «ج» و «س»: من النصيب المقربة.
2- - المغني لابن قدامة: 5- 110 و المحلى: 6- 416- المسألة 1244.

فصل في المضاربة

المضاربة و القراض عبارة عن معنى واحد، و هو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليتجر به، على أن ما رزق الله تعالى من ربح، كان بينهما على ما يشترطانه.

و من شرط صحة ذلك، أن يكون رأس المال فيه، دراهم أو دنانير معلومة مسلمة إلى العامل، و لا يجوز القراض بالفلوس و لا بالورق المغشوش، لأنه لا خلاف في جواز القراض مع حصول ما ذكرناه، و ليس على صحته إذا لم يحصل دليل.

و تصرف المضارب موقوف على إذن صاحب المال، إن أذن له في السفر به، أو في البيع نسيئة، جاز له ذلك، و لا ضمان عليه لما يهلك أو يحصل من خسران، و إن لم يأذن له في البيع بالنسيئة، أو في السفر، أو أذن له فيه إلى بلد معين، أو شرط أن لا يتجر إلا في شي ء معين و لا يعامل إلا إنسانا معينا، فخالف لزمه الضمان، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف في صحة القراض مع هذه الشروط بقوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم (1)، لأنه لم يفصل.

و إذا سافر بإذن رب المال، كانت نفقة السفر من المأكول و المشروب و الملبوس من غير إسراف من مال القراض، و لا نفقة للمضارب منه في الحضر،

ص: 266


1- - البحر الزخار: 5- 76 و بداية المجتهد: 2- 296 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون. و التهذيب: 7- 371 برقم 1503.

و من أصحابنا من اختار القول بأنه لا نفقة له حضرا و لا سفرا، قال: لأن المضارب دخل على أن يكون له من الربح سهم معلوم، فليس له أكثر منه إلا بالشرط. (1)

و إذا اشترى العامل من يعتق على رب المال بإذنه، صح الشراء و عتق عليه، و انفسخ القراض إن كان الشراء بجميع المال، لأنه خرج عن كونه مالا، و إن كان ببعض المال انفسخ من القراض بقدر قيمة العبد، و إن كان الشراء بغير إذنه و كان بعين المال، فالشراء باطل، لأنه اشترى ما يتلف و يخرج عن كونه مالا عقيب الشراء، و إذا اشترى بثمن في الذمة، صح الشراء و وقع الملك للعامل، و لا يجوز له أن يدفع الثمن من مال القراض، فإن فعل لزمه الضمان، لأنه تعدى بدفع مال غيره في ثمن لزمه في ذمته.

و إذا اشترى المضارب من يعتق عليه قوم، فإن زاد ثمنه على ما اشتراه، انعتق منه بحساب نصيبه من الربح، و استسعى في الباقي لرب المال، و إن لم يزد ثمنه على ذلك، أو نقص عنه، فهو رق، بدليل إجماع الطائفة.

و المضاربة عقد جائز من كلا الطرفين، لكل واحد منهما فسخه متى شاء، و إذا بدا لصاحب المال من ذلك بعد ما اشترى المضارب المتاع لم يكن له غيره، و يكون للمضارب أجر مثله.

و المضارب مؤتمن لا ضمان عليه إلا بالتعدي، فإن شرط عليه رب المال ضمانه، صار الربح كله له دون رب المال، و يكره أن يكون المضارب كافرا، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.2.

ص: 267


1- - الشيخ: المبسوط: 3- 172.

فصل في الوكالة

لا تصح الوكالة إلا فيما يصح دخول النيابة فيه، مع حصول الإيجاب و القبول ممن يملك عقدها بالإذن فيه، أو بصحة التصرف منه فيما هي وكالة فيه بنفسه.

فلا تصح الوكالة في أداء الصلاة و الصوم عن المكلف بأدائهما، لأن ذلك مما لا يدخل النيابة فيه، و لا يصح من محجور عليه أن يوكل فيما قد منع من التصرف فيه، و لا تصح الوكالة من العبد، و إن كان مأذونا له في التجارة، لأن الإذن له في ذلك ليس بإذن في الوكالة، و كذلك الوكيل لا يجوز له أن يوكل فيما جعل له التصرف فيه إلا بإذن موكله.

و لا يصح أن يتوكل المسلم على تزويج المشركة من الكافر، و لا أن يتوكل الكافر على تزويج المسلمة من المسلم، لأنهما لا يملكان ذلك لأنفسهما، و لا يجوز للمسلم أن يوكل الكافر، و لا يتوكل له على مسلم، بدليل إجماع الطائفة.

و تصح وكالة الحاضر، و يلزم الخصم مخاصمة الوكيل، و لا يعتبر رضاه بالوكالة، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بعموم الأخبار الواردة في جواز الوكالة، لأن الأصل جواز ذلك، و من منع منه فعليه الدليل.

و تصرف الوكيل موقوف على ما يقع العقد عليه، إن كان مطلقا عمت الوكالة كل شي ء إلا الإقرار بما يوجب حدا أو تأديبا، فإن كان مشروطا بشي ء اختصت الوكالة به دون ما سواه، و متى فعل الوكيل ما لم يجعل له لم يصح، و لزمه الدرك فيه.

و لو أقر الوكيل في الخصومة- دون الإقرار- بقبض موكله الحق الذي وكله

ص: 268

في المخاصمة عليه، لم يلزمه إقراره، لأن الأصل براءة الذمة، و على من ألزمه ذلك بإقرار الوكيل الدليل، فإن أذن له في الإقرار عنه لزمه ما يقر به، لأن الأصل جواز ذلك، و المنع يفتقر إلى دليل، و قوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم (1)، يدل عليه.

و الوكيل مؤتمن لا ضمان عليه إلا أن يتعدى.

و مطلق الوكالة بالبيع أن يبيع بثمن المثل من نقد البلد حالا، فإن خالف لم يصح البيع، لأنه لا خلاف في صحته مع حصول ما ذكرناه، و ليس على صحته إذا لم يحصل دليل، و إذا اشترى الوكيل وقع الملك للموكل من غير أن يدخل في ملك الوكيل، و لهذا لو وكله على شراء من يعتق عليه فاشتراه لم ينعتق.

و الوكالة عقد جائز من كلا الطرفين، يجوز لكل واحد منهما فسخه، فإذا فسخه الوكيل و عزل نفسه انفسخ- سواء كان موكله حاضرا أو غائبا- و لم يجز له بعد ذلك التصرف فيما وكل فيه.

و متى أراد الموكل فسخه و عزل الوكيل، افتقر ذلك إلى إعلامه إن أمكن، فإن لم يمكن فليشهد به، و إذا فعل ذلك انعزل الوكيل، و لم ينفذ بعده شي ء من تصرفه، و إن اقتصر على عزله من غير إشهاد، أو على الإشهاد من غير إعلام- و هو متمكن- لم ينعزل، و نفذ تصرفه إلى أن يعلم.

فإن اختلفا في الإعلام، فعلى الموكل البينة به، فإن فقدت فعلى الوكيل اليمين أنه ما علم بعزله، فإن حلف مضى ما فعله، و إن نكل عن اليمين، بطلت وكالته من وقت قيام البينة بعزله، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و تنفسخ الوكالة بموت الموكل، أو عتقه للعبد الذي وكل في بيعه، أو بيعه له قبل بيع الوكيل، بلا خلاف.ن.

ص: 269


1- - بداية المجتهد: 2- 296 و البحر الزخار: 5- 76 باب الضمان و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون. و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 كما في المتن.

فصل في الإقرار

لا يصح الإقرار على كل حال إلا من مكلف غير محجور عليه لسفه أو رق، فلو أقر المحجور عليه للسفه بما يوجب حقا في ماله، لم يصح، و يقبل إقراره فيما يوجب حقا على بدنه، كالقصاص و القطع و الجلد.

و لا يقبل إقرار العبد على مولاه بما يوجب حقا في ماله، من قرض أو أرش جناية، بل يلزمه ذلك في ذمته، يطالب به إذا عتق إلا أن يكون مأذونا له في التجارة، فيقبل فيما يتعلق بها خاصة، نحو أن يقر بثمن مبيع، أو أرش عيب أو ما أشبه ذلك، و لا يقبل إقراره بما يوجب حقا على بدنه، بدليل إجماع الطائفة، و لأن في ذلك إتلافا لمال الغير و هو السيد، و ذلك لا يجوز، و متى صدقه السيد قبل إقراره في كل ذلك بلا خلاف.

و يصح إقرار المحجور عليه لفلس، و إقرار المريض للوارث و غيره، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (1)، و الشهادة على النفس هي الإقرار و لم يفصل، و على من ادعى التخصيص الدليل.

و يصح إقرار المبهم مثل أن يقول: لفلان علي شي ء، و لا تصح الدعوى المبهمة، لأنا إذا رددنا الدعوى المبهمة، كان للمدعي ما يدعوه إلى تصحيحها و ليس كذلك الإقرار، لأنا إذا رددناه لا نأمن أن لا يقر ثانيا.

ص: 270


1- - النساء: 135.

و المرجع في تفسير المبهم إلى المقر، و يقبل تفسيره بأقل ما يتمول في العادة، و إن لم يفسره، جعلناه ناكلا، و رددنا اليمين على المقر له، فيحلف على ما يقول و يأخذه، فإن لم يحلف فلا حق له.

و إذا قال: له علي مال عظيم، أو جليل، أو نفيس، أو خطير، لم يقدر ذلك بشي ء، و يرجع في تفسيره إلى المقر، و يقبل تفسيره بالقليل و الكثير، لأنه لا دليل على مقدار معين، و الأصل براءة الذمة، و ما يفسر به مقطوع عليه، فوجب الرجوع إليه.

و يحتمل أن يكون أراد به عظيم عند الله تعالى من جهة المظلمة، و أنه نفيس جليل عند الضرورة إليه، و إن كان قليل المقدار، و إذا احتمل ذلك وجب أن يرجع إليه في تفسيره، لأن الأصل براءة الذمة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (1) و لأنه يقتضي إلا يؤخذ منه أكثر مما يفسر به.

و إذا قال: له علي مال كثير، كان إقرارا بثمانين، بدليل إجماع الطائفة، و روي في تفسير قوله تعالى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (2)، أنها كانت ثمانين موطنا. (3)

و إذا قال: له علي ألف و درهم، لزمه درهم، و يرجع في تفسير الألف إليه، لأنها مبهمة، و الأصل براءة الذمة، و قوله «و درهم» زيادة معطوفة على الألف، وة.

ص: 271


1- - سنن البيهقي: 6- 100 و 8- 182 و سنن الدار قطني: 3- 26 و كنز العمال: 1- 92 برقم 397 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 72 و 113.
2- - التوبة: 25.
3- - تفسير العياشي: 2- 82 ح 37 و الكافي: 7- 463 ح 21، وسائل الشيعة: 16 ب 3 من أبواب النذر و العهد ح 1 و 4 و تفسير التبيان: 5- 197 و مجمع البيان: 5- 17 في ذيل الآية: 25 من سورة التوبة.

ليست بتفسير لها، لأن المفسر لا يكون بواو العطف، و كذا الحكم لو قال: ألف و درهمان، فأما إذا قال: و ثلاثة دراهم، أو ألف و خمسون درهما، أو خمسون و ألف درهم، أو ما أشبه ذلك، فالظاهر أن الكل دراهم، لأن ما بعده تفسير.

و إذا قال: له علي عشرة إلا درهما، كان إقرارا بتسعة، فإن قال: إلا درهم، بالرفع، كان إقرارا بعشرة، لأن المعنى غير درهم، و إن قال: ما له علي عشرة إلا درهما، لم يكن مقرا بشي ء، لأن المعنى ما له علي تسعة، و لو قال: ما له علي عشرة إلا درهم، كان إقرارا بدرهم، لأن رفعه بالبدل من العشرة، فكأنه قال: ما له علي إلا درهم.

فإذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما، كان إقرارا بثمانية، لأن المراد إلا ثلاثة لا يجب إلا درهما من الثلاثة يجب، لأن الاستثناء من الإيجاب نفي، و من النفي إيجاب، و استثناء الدرهم يرجع إلى ما يليه فقط، و لا يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدم، لسقوط الفائدة، على ما بيناه في أصول الفقه، و إذا كان الاستثناء الثاني معطوفا على الأول، كانا جميعا راجعين إلى الجملة الأولى، فلو قال: علي عشرة إلا ثلاثة و إلا درهما، كان إقرارا بستة.

و إذا استثنى بما لا يبقى معه من المستثنى منه شي ء كان باطلا، لأنه يكون بمنزلة الرجوع عن الإقرار فلا يقبل، و إن استثنى بمجهول القيمة (1) كقوله: علي عشرة إلا ثوبا، فإن فسر قيمته بما يبقى معه من العشرة شي ء، و إلا كان باطلا.

و يجوز استثناء الأكثر من الأقل بلا خلاف إلا من ابن درستويه النحوي [1]ة.

ص: 272


1- - في «ج» و «س»: مجهول القيمة.

و ابن حنبل [1] و يدل على صحته قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (1) و قال حكاية عن إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (2)، فاستثنى من عباده «الغاوين» مرة، و «المخلصين» أخرى، و لا بد أن يكون أحد الفريقين أكثر من الآخر.

و إذا قال: علي كذا درهم، بالرفع لزمه درهم، لأن التقدير هو درهم، أي الذي أقررت به درهم، و إن قال: كذا درهم، بالخفض، لزمه مائة درهم، لأن ذلك أقل عدد يخفض ما بعده، و لا يلزم أن يكون إقرارا بدون الدرهم، لأنه أقل ما يضاف إلى الدرهم، لأن ذلك ليس بعدد صحيح، و إنما هو كسور، و إن قال: كذا درهما، لزمه عشرون درهما، لأنه أقل عدد ينتصب ما بعده.

و إن قال: كذا كذا درهما، لزمه أحد عشر، لأن ذلك أقل عددين ركبا و انتصب ما بعدهما، و إن قال: كذا و كذا درهما، كان إقرارا بأحد و عشرين، لأن ذلك أقل عددين عطف أحدهما على الآخر و انتصب الدرهم بعدهما.

و إذا أقر بشي ء و أضرب عنه و استدرك غيره، فإن كان مشتملا على الأول، بأن يكون من جنسه و زائدا عليه و غير متعين، لزمه دون الأول، كقوله: علي درهم لا بل درهمان، و إن كان ناقصا عنه، لزمه الأول دون الثاني، كقوله: علي عشرة لا بل تسعة، لأنه أقر بالعشرة ثم رجع عن بعضها فلم يصح رجوعه، و يفارق ذلك ما إذا قال: له علي عشرة إلا درهما، لأن عن التسعة عبارتين: أحدهما لفظ التسعة،3.

ص: 273


1- - الحجر: 42.
2- - ص: 82 و 83.

و الآخر لفظ العشرة، مع استثناء الواحد، فبأيهما أتى فقد عبر عن التسعة.

و إن كان ما استدركه من غير جنس الأول كقوله: علي درهم لا بل دينار، أو قفيز حنطة لا بل قفيز شعير، لزمه الأمران معا، لأن ما استدركه لا يشتمل على الأول، فلا يسقط برجوعه عنه، و إن كان ما أقر به أولا و ما استدركه متعينين (1) فبالإشارة إليهما أو بغيرهما (2) مما يقتضي التعريف، لزمه أيضا الأمران، سواء كانا من جنس واحد، أو من جنسين، أو متساويين في المقدار، أو مختلفين، لأن أحدهما- و الحال هذه- لا يدخل في الآخر، فلا يقبل رجوعه عما أقر به أولا، كقوله: هذا الدرهم لفلان لا بل هذا الدينار، أو هذه الجملة من الدراهم لا بل هذه الأخرى.

و إذا قال: له علي ثوب في منديل، لم يدخل المنديل في الإقرار، لأنه يحتمل أن يريد في منديل لي، و لا يلزم من الإقرار إلا المتعين دون المشكوك فيه، لأن الأصل براءة الذمة، و كذا القول في كل ما جرى هذا المجرى.

و إذا قال: له علي ألف درهم وديعة، قبل منه، لأن لفظة «علي» للإيجاب، و كما يكون الحق في ذمته، فيجب عليه تسليمه بإقراره، كذلك يكون في يده فيجب عليه رده و تسليمه إلى المقر له بإقراره.

و لو ادعى التلف بعد الإقرار قبل، لأنه لم يكذب إقراره، و إنما ادعى تلف ما أقر به بعد ثبوته بإقراره، بخلاف ما إذا ادعى التلف وقت الإقرار، بأن يقول:

كان عندي أنها باقية فأقررت لك بها و كانت تالفة في ذلك الوقت، فإن ذلك لا يقبل منه، لأنه يكذب إقراره المتقدم، من حيث كان تلف الوديعة من غير تعد (3) يسقط حق المودع.ط.

ص: 274


1- - في «ج» و «س» معينين.
2- - كذا في «ج» و «س»، و لكن في الأصل: «أو بغيرها».
3- - في «ج»: من غير تفريط.

و إذا قال: له علي ألف درهم إن شئت، لم يكن إقرارا، لأن الإقرار إخبار عن حق واجب سابق له، و ما كان كذلك لم يصح تعليقه بشرط مستقبل.

و إذا قال: له من ميراثي من أبي ألف درهم، لم يكن إقرارا، لأنه أضاف الميراث إلى نفسه، ثم جعل له منه جزء، و لا يكون له جزء من ماله إلا على وجه الهبة.

و لو قال: له من ميراث أبي ألف، كان إقرارا بدين في تركته، و كذا لو قال:

داري هذه لفلان، لم يكن إقرارا، لمثل ما قدمناه.

و لو قال: هذه الدار التي في يدي لفلان، كان إقرارا، لأنها قد تكون في يده بإجارة، أو عارية، أو غصب.

و يصح إقرار المطلق للحمل، لأنه يحتمل أن يكون من جهة صحيحة، مثل ميراث، أو وصية، لأن الميراث يوقف له، و يصح له الوصية، و الظاهر من الإقرار عندنا الصحة، فوجب حمله عليه.

و من أقر بدين في حال صحته، ثم مرض فأقر بدين آخر في حال مرضه صح، و لا يقدم دين الصحة على دين المرض إذا ضاق المال عن الجميع، بل يقسم على قدر الدينين، بدليل قوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (1)، من غير فصل، و لأن الأصل تساويهما في الاستيفاء، من حيث تساويا في الاستحقاق، و على من ادعى تقديم أحدهما على الآخر، الدليل.1.

ص: 275


1- - النساء: 11.

فصل في العارية

العارية على ضربين: مضمونة و غير مضمونة، فالمضمونة العين و الورق [1] على كل حال، و ما عداهما بشرط التضمين أو التعدي، و غير المضمونة ما عدا ما ذكرناه، بدليل إجماع الطائفة المحقة.

و إذا اختلف المالك و المستعير في التضمين و التعدي، و فقدت البينة، فعلى المستعير اليمين، و إذا اختلفا في مبلغ العارية أو قيمتها، أخذ ما أقر به المستعير، و كان القول قول المالك مع يمينه فيما زاد على ذلك، بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا اختلف مالك الدابة و راكبها، فقال المالك: آجرتكها، أو غصبتنيها، و قال الراكب: بل أعرتنيها، فالقول قول الراكب مع يمينه، و على المالك البينة، لأن الأصل براءة الذمة، و المالك مدع للضمان بالغصب، أو الأجرة بالكراء (1) فعليه البينة، و كذلك الحكم إذا اختلف مالك الأرض و زارعها. (2)

و إذا استعار من غيره دابة ليحمل عليها وزنا معينا، فحمل أكثر منه، أو ليركبها إلى مكان فتعداه، كان متعديا، و لزمه الضمان و لو ردها إلى المكان المعين، بلا خلاف.

و إذا أذن مالك الأرض للمستعير في الغراس أو البناء، فزرع، جاز، لأن

ص: 276


1- - في «ج» و «س»: أو الأجر بالكراء.
2- - في «ج» و «س»: و زراعها.

ضرر الزرع أخف من ضرر ما أذن له فيه، و لا يجوز له الغراس أو البناء إذا أذن له في الزرع، لأن ضرر ذلك أكثر، و الإذن في القليل لا يكون إذنا في الكثير، و كذا لا يجوز له أن يزرع الدخن أو الذرة إذا أذن له في زرع الحنطة، لأن ضرر ذلك أكثر، و يجوز له أن يزرع الشعير لأن ضرره أقل.

و إذا أراد مستعير الأرض للغراس و البناء قلعه كان له ذلك، لأنه عين ماله، و إذا لم يقلعه (1) و طالبه المعير بذلك بشرط أن يضمن له أرش النقص- و هو ما بين قيمته قائما و مقلوعا- أجبر المستعير على ذلك، لأنه لا ضرر عليه فيه، و ليس للمستعير أن يطالب بالتبقية بشرط أن يضمن أجرة الأرض، فإن طالبه المعير بالقلع من غير أن يضمن أرش النقصان، لم يجبر عليه، لأنه لا دليل على ذلك.

و يحتج على المخالف فيه بما رووه من قوله عليه السلام: من بنى في رباع قوم بإذنهم فله قيمته (2)، فأما إن أذن له إلى مدة معلومة، ثم رجع قبل مضيها، و طالب بالقلع، فإن ذلك لا يلزمه إلا بعد أن يضمن الأرش، بلا خلاف.

و إذا أعار شيئا بشرط الضمان، فرده المستعير إليه أو إلى وكيله، بري ء من ضمانه، و لا يبرأ إذا رده إلى ملكه، مثل أن يكون دابة فيشدها في إصطبل صاحبها، لأن الأصل شغل ذمته ها هنا، و من ادعى أن ذلك يبرئ ذمته، فعليه الدليل.3.

ص: 277


1- - في «ج»: لم يفعله.
2- - سنن البيهقي: 6- 91 و سنن الدار قطني: 4- 243 برقم 142 و كنز العمال: 10- 643 برقم 30373.

فصل في الغصب

من غصب شيئا له مثل- و هو ما تساوت قيمة أجزائه، كالحبوب، و الأدهان، و التمور [1] و ما أشبه ذلك- وجب عليه رده بعينه، فإن تلف فعليه مثله، بدليل قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1)، و لأن المثل يعرف مشاهدة، و القيمة يرجع فيها إلى الاجتهاد، و المعلوم مقدم على المجتهد فيه، و لأنه إذا أخذ المثل أخذ وفق حقه، و إذا أخذ القيمة، ربما زاد ذلك أو نقص.

فإن أعوز المثل أخذت القيمة، فإن لم يقبض بعد الإعواز حتى مضت مدة اختلفت القيمة فيها، كان له المطالبة بالقيمة حين القبض لا حين الإعواز- و إن كان قد حكم بها الحاكم حين الإعواز- لأن الذي ثبت في ذمته المثل، بدليل أنه متى زال الإعواز قبل القبض، طولب بالمثل، و حكم الحاكم بالقيمة لا ينقل المثل إليها، و إذا كان الواجب المثل، اعتبر بدل مثله (2) حين قبض البدل، و لم ينظر إلى اختلاف القيمة بعد الإعواز و لا قبله.

و إن غصب ما لا مثل له- و معناه لا يتساوى قيمة أجزائه، كالثياب، و الرقيق، و الخشب، و الحطب، و الحديد، و الرصاص و العقار، و غير ذلك من الأواني و غيرها- وجب أيضا رده بعينه.

ص: 278


1- - البقرة: 194.
2- - في الأصل: بذل مثله.

فإن تعذر ذلك بتلفه وجب قيمته، لأنه لا يمكن الرجوع فيه إلى المثل، لأنه إن ساواه في القدر، خالفه في الثقل، و إن ساواه فيهما، خالفه من وجه آخر و هو القيمة، فإذا تعذرت المثلية، كان الاعتبار بالقيمة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: من أعتق شقصا من عبد قوم عليه (1)، فأوجب عليه القيمة دون المثل.

و يضمن الغاصب ما يفوت من زيادة قيمة المغصوب بفوات الزيادة الحادثة فيه، لا بفعله، كالسمن و الولد و تعلم الصنعة و القرآن- سواء رد قيمة المغصوب أو مات في يده- لأن ذلك حادث في ملك المغصوب منه، لأنه لم يزل بالغصب، و إذا كان كذلك فهو مضمون على الغاصب، لأنه حال بينه و بينه.

فإما زيادة القيمة لارتفاع السوق، فغير مضمونة مع الرد، لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها يفتقر إلى دليل، فإن لم يرد حتى هلكت العين، لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، لأنه إذا أدى ذلك برئت ذمته بيقين، و ليس كذلك إذا لم يؤده.

و إذا صبغ الغاصب الثوب بصبغ يملكه، فزادت لذلك قيمته، كان شريكا فيه بمقدار الزيادة فيه، و له قلع الصبغ، لأنه عين ماله، بشرط أن يضمن ما ينقص من قيمة الثوب، لأن ذلك يحصل بجنايته.

و لو ضرب النقرة دراهم، و التراب لبنا، و نسج الغزل ثوبا، و طحن الحنطة، و خبز الدقيق، فزادت القيمة بذلك، لم يكن له شي ء، لأن هذه آثار أفعال، و ليست بأعيان أموال، و لا يدخل المغصوب بشي ء من هذه الأفعال في ملك الغاصب، و لا يجبر صاحبه على أخذ قيمته، لأن الأصل ثبوت ملك المغصوب منه، و لا دليل على زواله بعد التغيير.7.

ص: 279


1- - بداية المجتهد: 2- 317.

و يحتج على المخالف بقوله عليه السلام: على اليد ما قبضت حتى تؤدي (1)، و قوله:

لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. (2)

و من غصب زيتا فخلطه بأجود منه، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من ذلك، و يلزم المغصوب منه قبوله، لأنه تطوع له بخير من زيته، و بين أن يعطيه مثله من غيره، لأنه صار بالخلط كالمستهلك، و لو خلطه بأردأ منه، لزمه أن يعطى من غير ذلك، مثل الزيت الذي غصبه، و لا يجوز أن يعطيه منه بقيمة زيته الذي غصبه، لأن ذلك ربا، و إن خلطه بمثله، فالمغصوب منه شريكه فيه، يملك مطالبته بقسمته.

و من غصب حبا فزرعه، أو بيضة فأحضنها، فالزرع و الفرخ لصاحبهما دون الغاصب، لأنا قد بينا أن المغصوب لا يدخل في ملك الغاصب بتغييره، و إذا كان باقيا على ملك صاحبه، فما تولد منه ينبغي أن يكون له دون الغاصب، و من أصحابنا من اختار القول: بأن الزرع و الفرخ للغاصب و عليه القيمة، لأن عين الغصب تالفة (3)، و المذهب هو الأول.

و من غصب ساجة [1] فأدخلها في بنائه، لزمه ردها، و إن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه، لمثل ما قدمناه من الدليل في مسألة ضرب النقرة، و طحن الحنطة، و كذا لو غصب لوحا، فأدخله في سفينة، و لم يكن في رده هلاك ما له حرمة، و على الغاصب أجرة مثل ذلك من حين الغصب إلى حين الرد، لأن الخشب يستأجر2.

ص: 280


1- - سنن البيهقي: 6- 90 و 95 و 100 و 8- 276 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 8 و 13 و كنز العمال: 10- 29811 و لفظ الحديث: على اليد ما أخذت.
2- - سنن البيهقي: 6- 100 و كنز العمال: 1- 29 برقم 397 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 72 و البحر الزخار: 4- 173.
3- - الشيخ: الخلاف، كتاب الغصب، المسألة 38، و القاضي: المهذب: 1- 452.

للانتفاع به.

و كل منفعة تملك بعقد الإجارة، كمنافع الدار، و الدابة، و العبد، و غير ذلك، فإنها تضمن بالغصب، بدليل قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1)، و المثل يكون من حيث الصورة و من حيث القيمة، و إذا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة، وجبت القيمة.

و إذا غصب أرضا فزرعها ببذر من ماله، أو غرسها كذلك، فالزرع و الشجر له، لأنه عين ماله، و إنما تغيرت صفته بالزيادة و النماء، و عليه أجرة الأرض، لأنه قد انتفع بها بغير حق، فصار غاصبا للمنفعة، و يلزمه ضمانها، و عليه أرش نقصانها إن حصل بها نقص، لأن ذلك حصل بفعله.

و متى قلع الشجر فعليه تسوية الأرض، و كذا لو حفر بئرا أجبر على طمها، و للغاصب ذلك و إن كره مالك الأرض، لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردى فيها.

و من حل دابة فشردت، أو فتح قفصا فذهب ما فيه، لزمه الضمان، سواء كان ذلك عقيب الحل و الفتح، أو بعد أن وقفا، لأن ذلك كالسبب في الذهاب، و لولاه لما أمكن، و لم يحدث سبب آخر من غيره، فوجب عليه الضمان.

و لا خلاف أنه لو حل رأس الزق فخرج ما فيه، و هو مطروح لا يمسك ما فيه غير الشد، لزمه الضمان، و لو كان الزق قائما مستندا و بقي محلولا حتى حدث عليه (2) ما أسقطه من ريح أو زلزلة أو غيرهما، فاندفق ما فيه، لم يلزمه الضمان بلا خلاف، لأنه قد حصل ها هنا مباشرة و سبب من غيره.

و من غصب عبدا فأبق، أو بعيرا فشرد، فعليه قيمته، فإذا أحرزها صاحبن.

ص: 281


1- - البقرة: 194.
2- - في «ج»: «حتى حدث عليه سقطة» و الصحيح ما في المتن.

العبد ملكها بلا خلاف، و لا يملك الغاصب العبد، فإن عاد انفسخ الملك عن القيمة و وجب [عليه] (1) ردها و أخذ العبد، لأن أخذ القيمة إنما كان لتعذر أخذ العبد و الحيلولة بين مالكه و بينه، و لم يكن عوضا عنه على وجه البيع، لأنا قد بينا أن ملك القيمة يتعجل ها هنا، و ملك القيمة بدلا عن العين الفائتة بالإباق لا يصح على وجه البيع، لأن البيع يكون فاسدا عندنا- و عند المخالف في هذه المسألة يكون موقوفا، فإن عاد العبد سلمه المشتري، و إن لم يعد رد البائع الثمن- و لما ملكت القيمة ها هنا- و العبد آبق و لم يجز الرجوع بها مع تعذر الوصول إلى العبد- ثبت أن ذلك ليس على وجه البيع.

و ما يلزم بالجناية على الحيوان، سنذكر تفصيله في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى.».

ص: 282


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

فصل في الوديعة

المرء مخير في قبول الوديعة و الامتناع من ذلك، و هو أولى ما لم يكن فيه ضرر على المودع، و يجب عليه حفظها بعد القبول لها، كما يحفظ ماله.

و هي أمانة لا يلزم ضمانها إلا بالتعدي، فإن تصرف فيها أو في بعضها، ضمنها و ما أربحت، و كذا إن فك ختمها، أو حل شدها، أو نقلها من حرز إلى ما هو دونه، كان متعديا، و يلزمه الضمان بدليل إجماع الطائفة، و كذا إن لم يكن هناك ضرورة من خوف نهب (1) أو غرق أو غيرهما، فسافر بها، أو أودعها أمينا آخر و صاحبها حاضر، أو خالف مرسوم صاحبها في كيفية حفظها، و كذا لو أقر بها لظالم يريد أخذها، من دون أن يخاف القتل، أو سلمها إليه بيده، أو بأمره، و إن خاف ذلك، و يجوز له أن يحلف أنه ليس عنده وديعة إذا طولب بذلك، و يروى في يمينه بما يسلم به من الكذب، بدليل الإجماع المشار إليه، و لا ضمان عليه إن هجم الظالم، فأخذ الوديعة قهرا.

و لو تعدى المودع ثم أزال التعدي، مثل أن يردها إلى الحرز بعد إخراجها، لم يزل الضمان، لأنه لا خلاف أنه كان لازما له قبل الرد، و من ادعى سقوطه عنه بعده، فعليه الدليل، و لو أبرأه صاحبها من الضمان بعد التعدي، و قال: قد جعلتها وديعة عندك من الآن، بري ء، لأن ذلك حق له، فله التصرف فيه بالإبراء و الإسقاط، و يزول الضمان بردها إلى صاحبها أو وكيله، سواء أودعه إياها مرة ثانية، أم لا، بلا خلاف.

ص: 283


1- - في «ج»: من خوف و نهب.

و إذا علم المودع أن المودع لا يملك الوديعة، لم يجز له ردها إليه مع الاختيار، بل يلزمه رد ذلك إلى مستحقه، إن عرفه بعينه، فإن لم يتعين له، حملها إلى الإمام العادل، فإن لم يتمكن لزمه الحفظ بنفسه في حياته، و بمن يثق إليه في ذلك بعد وفاته، إلى حين التمكن من المستحق، و من أصحابنا من قال: تكون- و الحال هذه- في الحكم كاللقطة (1)، و الأول أحوط.

و إن كانت الوديعة من حلال و حرام لا يتميز أحدهما من الآخر، لزم رد جميعها إلى المودع متى طلبها، بدليل الإجماع المشار إليه.

و متى ادعى صاحب الوديعة تفريطا فعليه البينة، فإن فقدت، فالقول قول المودع مع يمينه، و روى أنه لا يمين عليه إن كان ثقة غير مرتاب به. (2) و إذا ثبت التفريط و اختلفا في قيمة الوديعة، و لا بينة، فالقول قول صاحبها مع يمينه، و من أصحابنا من قال: يأخذ ما اتفقا عليه، و يحلف المودع على ما أنكره من الزيادة. (3)1.

ص: 284


1- - القائل هو الشيخ في النهاية: 436، و ابن الجنيد. لاحظ المختلف: 444 من الطبعة القديمة.
2- - لاحظ جواهر الكلام: 27- 148، و الوسائل: 13 ب 4 من أبواب أحكام الوديعة ح 7.
3- - الحلبي: الكافي- 231.

فصل في الإجارة

كل شي ء يستباح بالعارية، يستباح بعقد الإجارة، بلا خلاف ممن يعتد به، و تفتقر صحتها إلى شروط:

منها: ثبوت ولاية المتعاقدين، فلا يصح أن يؤجر الإنسان ما لا يملك التصرف فيه، لعدم ملك أو إذن، أو ثبوت حجر، أو رهن، أو إجارة متقدمة، أو غير ذلك.

و منها: أن يكون المعقود عليه من الجانبين معلوما، فلو قال: آجرتك إحدى هاتين الدارين، أو بمثل ما يؤجر به فلان داره، لم يصح.

و منها: أن يكون مقدورا على تسليمه، حسا و شرعا، فلو آجر عبدا آبقا أو جملا شاردا، لا يتمكن من تسليمه، أو ما لا يملك التصرف فيه، لم يصح.

و منها: أن يكون منتفعا به، فلو آجر أرضا للزراعة في وقت يفوت بخروجه، و الماء واقف عليها لا يزول في ذلك الوقت، لم يصح، لتعذر الانتفاع.

و منها: أن تكون المنفعة مباحة، فلو آجر مسكنا، أو دابة، أو وعاء في محظور، لم يجز.

فإن كان المستأجر مسكنا، احتيج مع ما تقدم من الشروط إلى تعيين المدة، و إن كان دابة، افتقر إلى ذلك أيضا، أو إلى تعيين المسافة، كل ذلك، بدليل إجماع الطائفة المحقة، و لأنه لا خلاف في صحة العقد مع تكامل ما ذكرناه، و ليس على صحته مع اختلال بعضه دليل.

ص: 285

و إذا صح العقد استحقت الأجرة عاجلا، إلا أن يشرط التأجيل، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (1)، لأن المراد فإن بذلن لكم الرضاع، بدليل قوله في آخر الآية وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى، و التعاسر أن لا ترضى بأجرة مثلها.

و يملك المؤجر الأجرة و المستأجر المنفعة بنفس العقد، حتى لو استأجر دابة ليركبها إلى مكان بعينه، فسلمها إليه، فأمسكها مدة يمكنه المسير فيها، فلم يفعل، استقرت الأجرة عليه، بدليل الإجماع الماضي ذكره، و لأنه عقد له على منفعة، و مكنه منها، فلم يستوفها، و ضيع حقه، و ذلك يسقط حق المؤجر.

و إذا قال: آجرتك هذه الدار كل شهر بكذا، صح العقد و إن لم يعين آخر المدة، لأن الأصل الجواز، و المنع يحتاج إلى دليل، و يستحق الأجرة للزمان المذكور بالدخول فيه، و يجوز الفسخ بخروجه، ما لم يدخل في الثاني، و من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يؤجر مدة قبل دخول ابتدائها، لافتقار صحة الإجارة إلى التسليم (2)، و منهم من اختار القول بجواز ذلك (3) و هو أولى لقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (4)، و قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» (5)، و أما التسليم فهو مقدور عليه حين استحقاق المستأجر له، و تعذره قبل ذلك لا ينافي عقد الإجارة.

و لا يجوز أن يؤجر بأكثر مما استأجره من جنسه- سواء كان المستأجر هون.

ص: 286


1- - الطلاق: 6.
2- - الشيخ: الخلاف: كتاب الإجارة، المسألة 13 و المبسوط: 3- 230 و الحلبي: الكافي- 349.
3- - القاضي: المهذب: 1- 473.
4- - المائدة: 1.
5- - بداية المجتهد: 2- 29 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و البحر الزخار: 5- 76 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون عند شروطهم. و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 كما في المتن.

المؤجر أو غيره- إلا أن يحدث فيما استأجره حدثا يصلحه، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه لا خلاف في جواز ذلك بعد الحدث، و لا دليل على جوازه قبله.

و لا بأس بذلك مع اختلاف الجنس، مثل أن يستأجر بدينار، فيؤجره بأكثر من قيمته من العروض، لأن الربا لا يدخل مع الاختلاف، و لأن الأصل في العقل و الشرع جواز التصرف فيما يملك إلا لمانع.

و إذا ملك المستأجر التصرف بالعقد، جاز أن يملكه لغيره، على حسب ما يتفقان عليه، من زيادة أو نقصان، اللهم إلا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن، و الدابة على أن يكون هو الراكب، فإنه لا يجوز- و الحال هذه- إجارة ذلك لغيره على حال، بدليل الإجماع المشار إليه.

و الإجارة عقد لازم من كلا الجانبين، لا ينفسخ إلا بحصول عيب من قبل المستأجر- نحو أن يفلس فيملك المؤجر الفسخ- أو من قبل المستأجر- مثل انهدام المسكن، أو غرقه على وجه يمنع من استيفاء المنفعة- فيملك المستأجر الفسخ، و يسقط عنه الأجرة، إلى أن يعيد المالك المسكن إلى الحالة الأولى، لأن المعقود عليه قد فات، اللهم إلا أن يكون ذلك بتعدي المستأجر، فيلزمه الأجرة و الضمان.

و تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين، بدليل الإجماع الماضي ذكره، لأن من خالف في ذلك من أصحابنا (1) لا يؤثر خلافه في دلالة الإجماع، لما بيناه فيما مضى، و أيضا فالمستأجر دخل على أن يستوفي المنفعة من ملك المؤجر، و قد فات ذلك بموته، و كذا إن كان المؤجر عقد على أن يستوفي المستأجر المنفعة لنفسه.

و لا يملك المستأجر فسخ الإجارة بالسفر- و إن كان ذلك بحكم الحاكم- و لا بغير ذلك من الأعذار المخالفة، لما قدمنا ذكره، مثل أن يستأجر جملا للحج8.

ص: 287


1- - الحلبي: الكافي- 348.

فيمرض، أو يبدو له من الحج، أو حانوتا ليتجر ببيع البز [1] فيه و شرائه، فيحترق بزه أو يأخذ ماله اللصوص.

و لا تنفسخ الإجارة بالبيع، و على المشتري إن كان عالما بالإجارة الإمساك عن التصرف، حتى تنقضي مدتها، و إن لم يكن عالما بذلك، جاز له الخيار في الرد بالعيب، بدليل الإجماع المشار إليه، و يدل أيضا على أن الإجارة لا تنفسخ بشي ء مما ذكرناه قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)، و هذا عقد فوجب الوفاء به، و أيضا فقد ثبت صحة العقد، و القول بأن شيئا من ذلك يبطله يفتقر إلى دليل.

و متى تعدى المستأجر ما اتفقا عليه، من المدة، أو المسافة، أو الطريق، أو مقدار المحمول، أو عينه إلى ما هو أشق في الحمل، أو المعهود في السير، أو في وقته، أو في ضرب الدابة، ضمن الهلاك أو النقص، و يلزمه أجر الزائد على الشرط، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه لا خلاف في براءة الذمة منه إذا أدى ذلك، و ليس على براءتها إذا لم يؤده دليل.

و لو رد الدابة إلى المكان الذي اتفقا عليه بعد التعدي بتجاوزه، لم يزل الضمان، بدليل الإجماع المتكرر، و أيضا فقد ثبت الضمان بلا خلاف، فمن ادعى زواله بالرد إلى ذلك المكان، فعليه الدليل، فإن ردها إلى البلد الذي استأجرها منه إلى يد صاحبها، زال ضمانه.

و الأجير ضامن لتلف ما استؤجر فيه، أو نقصانه، إذا كان ذلك بتفريطه، أو نقصان من صنعته (2) سواء كان ختانا، أو حجاما، أو بيطارا، أو غير ذلك، و سواء كان مشتركا- و هو المستأجر على عمل في الذمة- أو مفردا- و هو المستأجر للعمل مدة معلومة- لأنه يختص عمله فيها بمن استأجره، يدل علىه.

ص: 288


1- - المائدة: 1.
2- - في «س»: أو نقصان صنعته.

ذلك الإجماع الماضي ذكره، و يحتج على المخالف بقوله عليه السلام: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (1)، لأنه يقتضي ضمان الصناع على كل حال، إلا ما خصه الدليل، مما ثبت أنهم غلبوا عليه، و لم يكن بجنايتهم.

و أجرة الكيال و وزان البضاعة على البائع، لأن عليه تسليم ما باعه معلوم المقدار، و أجرة وزان الثمن و ناقده على المشتري، لأن عليه تسليم الثمن معلوم الجودة و الوزن.

و أجر رد الضالة على حسب ما يبذله مالكها، فإن لم يعين شيئا كان أجر رد العبد أو الأمة أو البعير في المصر عشرة دراهم فضة، و من غير المصر أربعين درهما، و ما عدا ذلك يقضى فيه بالصلح.

و من آجر غيره أرضا ليزرع فيها طعاما صح العقد، و لم يجز له أن يزرع غير ذلك، بدليل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2)، و قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» (3)، و إذا آجرها للزراعة من غير تعين لما يزرع، كان له أن يزرع ما شاء، لأن الأصل الجواز، و المنع يفتقر إلى دليل، و إذا آجرها على أن يزرع و يغرس، و لم يعين مقدار كل واحد منهما، لم يصح، لأن ذلك مجهول، و الضرر فيه مختلف، و إذا لم يعين بطل العقد.

و إذا اختلف المؤجر و المستأجر في قدر الأجرة، أو المنفعة، و فقدت البينة، حكم بينهما بالقرعة، فمن خرج اسمه حلف و حكم له، لإجماع الطائفة على أن كل أمر مجهول مشتبه فيه القرعة.ن.

ص: 289


1- - سنن البيهقي: 6- 95 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 8 و 13.
2- - المائدة: 1.
3- - بداية المجتهد: 2- 29 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و البحر الزخار: 5- 76 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون. و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 كما في المتن.

فصل في المزارعة و المساقاة

تجوز المزارعة- و تسمى المخابرة- على الأرض، سواء كانت خلال النخل أم لا، و المساقاة على النخل و الكرم و غيرهما من الشجر المثمر بنصف غلة ذلك، أو ما زاد عليه أو نقص، بدليل إجماع الطائفة المحقة، و أيضا فالأصل الجواز، و المنع يفتقر إلى دليل.

و يحتج على المخالف بما رووه من أنه عليه السلام عامل أهل خيبر بشطر (1) ما يخرج من تمر و زرع، و ما روى من نهيه عن المخابرة، محمول على إجارة الأرض ببعض الخارج منها، و إن كان معينا، لأن ذلك لا يجوز باتفاق، لعدم القطع على إمكان تسليمه.

و من شرط صحة العقد مشاهدة ذلك، و إمكان تسليمه، و تعيين المدة فيه، و تعيين حق العامل، و شرطه أن يكون جزءا مشاعا من الخارج، فلو عامله على وزن معين منه، أو على غلة مكان مخصوص من الأرض، أو على تمر نخلات بعينها، بطل العقد بلا خلاف بين من أجاز المزارعة و المساقاة، و لأنه قد لا يسلم إلا ما عينه، فيبقى رب الأرض و النخل بلا شي ء، و قد لا يعطيه (2) إلا غلة ما عينه، فيبقى العامل بغير شي ء.

و إذا تمم المزارع و المساقي عمله على هذا الشرط، بطل المسمى له، و استحق أجرة المثل.

ص: 290


1- - في الأصل: بشرط.
2- - في الأصل و «ج»: «لا يعطب» بدل «لا يعطيه».

و تصرف العامل بحسب (1) ما يقع العقد عليه، إن كان مطلقا، جاز له أن يولي العمل لغيره، و يزرع ما شاء، و إن شرط عليه أن يتولى العمل بنفسه، و أن يزرع شيئا بعينه، لم يجز له مخالفة ذلك، بدليل إجماع الطائفة، و قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم. (2)

و لو زارع ببعض الخارج من الأرض، و البذر من مالكها، و العمل و الحفظ من المزارع جاز، و كذا لو شرط على العامل في حال العقد ما يجب على رب المال، أو بعضه- و هو ما فيه حفظ الأصل، كبناء الحيطان، و إنشاء الأنهار، و الدواليب، و شراء الدابة التي ترفع الماء- أو شرط على رب المال ما يجب على العامل، أو بعضه- كالتأبير، و التلقيح، و قطع ما يصلح النخل، من جريد، و حشيش، و إصلاح السواقي، ليجري فيها الماء، أو إدارة الدولاب، و حفظ التمر، و جداده (3) و نقله إلى المقسم- صح ذلك، لدلالة الأصل و ظاهر الخبر.

و لو ساقاه بعد ظهور الثمرة، صح إن كان قد بقي من العمل شي ء و إن قل، لدلالة الأصل، و لأن الأخبار عامة في جواز المساقاة، من غير فصل.

فأما الزكاة فإنها تجب على مالك البذر أو النخل (4): فإن كان ذلك لمالك الأرض، فالزكاة عليه، لأن المستفاد من ملكه، من حيث (5) كان نماء أصله، و ما يأخذه المزارع أو المساقي كالأجرة عن عمله، و لا خلاف أن الأجرة لا تجب فيهاث.

ص: 291


1- - في «ج»: على حسب.
2- - بداية المجتهد: 2- 29، سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و البحر الزخار: 5- 76 و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 و لفظ الحديث في بعض المصادر: المسلمون عند شروطهم.
3- - في «ج» «جذاذه» و كلاهما بمعنى القطع. المصباح المنير.
4- - و لصاحب السرائر تعليق على المقام جدير بالمطالعة، لاحظ السرائر: 2- 442.
5- - في «س»: و من حيث.

الزكاة، و كذا إن كان البذر للمزارع، لأن ما يأخذه مالك الأرض كالأجرة، عن أرضه، فإن كان البذر منهما، فالزكاة على كل واحد منهما، إذا بلغ مقدار سهمه النصاب.

و عقد المزارعة و المساقاة يشبه عقد الإجارة، من حيث كان لازما، و افتقر إلى تعيين المدة، و يشبه القراض، من حيث كان سهم العامل مشاعا في المستفاد.

و المزارعة و المساقاة إذا كانت على أرض خراجية، فخراجها على المالك إلا أن يشترطه على العامل، و هو على المتقبل إلا أن يشترطه على المالك.

و إذا اختلف صاحب الشجر (و العامل، فقال صاحبه: شرطت لك الثلث، و قال العامل: لا بل النصف، و فقدت البينة، فالقول قول صاحب الشجر) (1) مع يمينه، لأن جميع الثمرة لصاحب الشجرة، لأنها نماء أصله، و إنما يثبت للعامل من ذلك شي ء بالشرط، فإذا ادعى شرطا كان عليه البينة، فإذا عدمها كان القول قول صاحب الشجر مع يمينه، و إن كان مع كل واحد منهما بينة، قدمت بينة العامل، لأنه المدعي، لقوله عليه السلام: البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه (2) و صاحب الشجر مدعى عليه فعليه اليمين.6.

ص: 292


1- - ما بين القوسين سقط من نسخة «س».
2- - سنن البيهقي: 10- 252 و سنن الدار قطني: 4- 157 برقم 8 و 4- 218 برقم 53 و 54 و الوسائل: 18- 170 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6.

فصل في إحياء الموات

قد بينا فيما مضى أن الموات من الأرض للإمام القائم مقام النبي صلى الله عليه و آله و سلم خاصة، و أنه من جملة الأنفال، يجوز له التصرف فيه بأنواع التصرف، و لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه، و يدل على ذلك إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: ليس لأحدكم إلا ما طابت به نفس إمامه. (1)

و من أحيى أرضا بإذن مالكها، أو سبق إلى التحجير عليها، كان أحق بالتصرف فيها من غيره، و ليس للمالك أخذها منه، إلا أن لا يقوم بعمارتها، أو لا يقبل عليها ما يقبل غيره، بالإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: من أحيى أرضا ميتة فهي له (2)، و قوله: من أحاط حائطا على أرض فهي له (3)، و المراد بذلك ما ذكرناه، من كونه أحق بالتصرف، لأنه لا يملك رقبة الأرض بالإذن في إحيائها.

و لا يجوز لأحد أن يغير ما حماه النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الكلاء، لأن فعله حجة في الشرع، يجب الاقتداء به كقوله، على أن ذلك لمصلحة المسلمين، و ما قطع على أنه مفعول لمصلحتهم لم يجز نقضه.

و للإمام أيضا أن يحمى من الكلاء لنفسه، و لخيل المجاهدين، و نعم

ص: 293


1- - المحلى: 7- 74 كتاب احياء الموات المسألة 1347، و لفظ الحديث: إنما للمرء ما طابت نفس إمامه و نحوه في كنز العمال: 16- 741 برقم 46598 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب احياء الموات المسألة 4 بلفظ: ليس للمرء إلا.
2- - سنن البيهقي: 6- 143 و مسند أحمد بن حنبل: 3- 338 و كنز العمال: 3- 910 برقم 9140.
3- - سنن البيهقي: 6- 148 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 12 و 21.

الصدقة و الجزية و للضوال ما يكون في الفاضل عنه كفاية لمواشي المسلمين، و ليس لأحد الاعتراض عليه، و لا نقض ما فعله، لأنه عندنا يجري في وجوب الاقتداء به مجرى الرسول، و لأنا قد بينا أن الموات ملك له، و من ملك أرضا فله حمايتها، بلا خلاف، و قد روى المخالف أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا حمى إلا لله و لرسوله و لأئمة المسلمين. (1)

و لا يجوز للإمام أن يقطع شيئا من الشوارع و الطرقات و رحاب الجوامع، لأن هذه المواضع لا يملكها واحد بعينه، و الناس فيها مشتركون، فلا يجوز له- و الحال هذه- إقطاعها، و من أجاز ذلك فعليه الدليل.

و الماء المباح يملك بالحيازة، سواء حازه في إناء، أو ساقه إلى ملكه في نهر، أو قناة، أو غلب [عليه] (2) بالزيادة فدخل إلى أرضه، و هو أحق بماء البئر التي ملك التصرف فيها بالإحياء، و إذا كانت في البادية، فعليه بذل الفاضل عن حاجته لغيره، لنفسه و ماشيته، ليتمكن من رعي ما جاور البئر من الكلاء المشترك، و ليس عليه بذله لزرعه، و لا بذل آلة الاستقاء، و قد روى المخالفون أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من منع فضل مائه ليمنع به الكلاء، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. (3)

و لمن أحيى البئر من حريمها ما يحتاج إليه في الاستقاء، من آلة و مطرحن.

ص: 294


1- - سنن البيهقي: 6- 146 باب ما جاء في الحمى و سنن الدار قطني: 4- 238 برقم 120 و 122 و المحلى: 7- 77 كتاب احياء الموات المسألة 1347 و مسند أحمد بن حنبل: 4- 38 و 71 و 73 و كنز العمال: 4- 383 برقم 11025 و لفظه: لا حمى إلا لله و لرسوله و نقله الشيخ في الخلاف، كتاب احياء الموات المسألة 6 كما في المتن.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
3- - كنز العمال: 3- 900 برقم 9101 و 9102 و 9103 و 4- 83 برقم 9641 باختلاف قليل و نقله النوري- قدس سره- في مستدرك الوسائل: 17- 116 ب 6 من أبواب إحياء الموات ح 7 و الشيخ في الخلاف كتاب احياء الموات المسألة 13 كما في المتن.

الطين، و روى أصحابنا أن حد ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا، و ما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا، و ما بين بئر العين إلى بئر العين في الأرض الصلبة خمسمائة ذراع، و في الرخوة ألف ذراع (1)، و على هذا لو أراد غيره حفر بئر إلى جانب بئره، ليسوق (2) منها الماء، لم يكن له ذلك بلا خلاف، و لا يجوز له الحفر إلا أن يكون بينهما الحد الذي ذكرناه.

فأما من حفر بئرا في داره، أو في أرض له مملوكة، فإنه لا يجوز له منع جاره من حفر بئر أخرى في ملكه، و لو كانت بئر بالوعة يضر به، بلا خلاف أيضا، و الفرق بين الأمرين أن الموات يملك التصرف فيه بالإحياء، فمن سبق إلى حفر البئر صار أحق بحريمه، و ليس كذلك الحفر في الملك، لأن ملك كل واحد منهما مستقر ثابت، فجاز له أن يفعل فيه ما شاء.

و من قرب إلى الوادي، أحق بالماء المجتمع فيه من السيل، ممن بعد عنه، و قضى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن الأقرب إلى الوادي يحبس الماء للنخل إلى أن يبلغ في أرضه إلى أول الساق، و للزرع إلى أن يبلغ إلى الشراك، ثم يرسله إلى من يليه (3) ثم هكذا يصنع الذي يليه مع جاره.

و لو كان زرع الأسفل يهلك إلى أن يصل إليه الماء، لم يجب على من فوقه أن يرسله إليه حتى يكتفي و يأخذ منه القدر الذي ذكرناه.ت.

ص: 295


1- - الوسائل: 17 ب 11 من أبواب إحياء الموات ح 2 و 5.
2- - في الأصل: ليسرق.
3- - لاحظ الوسائل: 17 ب 8 من أبواب إحياء الموات.

فصل في الوقف

تفتقر صحة الوقف إلى شروط:

منها: أن يكون الواقف مختارا مالكا للتبرع، فلو وقف و هو محجور عليه لفلس، لم يصح.

و منها: أن يكون متلفظا بصريحه، قاصدا له و للتقرب به إلى الله تعالى.

و الصريح من ألفاظه: وقفت و حبست و سبلت، فأما قوله: تصدقت، فإنه يحتمل الوقف و غيره، و كذا حرمت و أبدت، مع أنه لم يرد بهما عرف الشرع، فلا يحمل على الوقف إلا بدليل، و من أصحابنا من اختار القول بأنه لا صريح في الوقف إلا قوله: وقفت (1). و لو قال: تصدقت، و نوى به الوقف، صح فيما بينه و بين الله تعالى، لكن لا يصح في الحكم، لما ذكرناه من الاحتمال.

و منها: أن يكون الموقوف معلوما مقدورا على تسليمه، يصح الانتفاع به، مع بقاء عينه في يد الموقوف عليه، و سواء في ذلك المنقول و غيره، و المشاع و المقسوم، بدليل إجماع الطائفة.

و يحتج على المخالف في وقف المنقول بخبر أم معقل [1] فإنها قالت: يا رسول الله إن أبا معقل (2) جعل ناضحة في سبيل الله، و أنا أريد الحج فأركبه؟

ص: 296


1- - الشيخ: المبسوط: 3- 292.
2- - أبو معقل الأنصاري لاحظ ترجمته في أسد الغابة: 5- 301.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: اركبيه فإن الحج و العمرة من سبيل الله (1)، و في وقف المشاع بقوله عليه السلام لعمر في سهام خيبر: حبس الأصل و سبل الثمرة. (2) و السهام كانت مشاعة، لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما قسم خيبر و إنما عدل السهام.

و لا يجوز وقف الدراهم و الدنانير بلا خلاف ممن يعتد به، لأن الموقوف عليه لا ينتفع بها مع بقاء عينها في يده.

و منها: أن يكون الموقوف عليه غير الواقف، فلو وقف على نفسه لم يصح (3) و في ذلك خلاف، فأما إذا وقف شيئا على المسلمين عامة، فإنه يجوز له الانتفاع به بلا خلاف، لأنه يعود إلى أصل الإباحة، فيكون هو و غيره فيه سواء.

و منها: أن يكون معروفا متميزا، يصح التقرب إلى الله تعالى بالوقف عليه، و هو ممن يملك المنفعة حالة الوقف، فلا يصح أن يقف على شي ء من معابد أهل الضلال، و لا على مخالف للإسلام، أو معاند للحق (4) إلا أن يكون ذا رحم له، و لا على أولاده و لا ولد له، و لا على الحمل قبل انفصاله، و لا على عبد، بلا خلاف.

و لو وقف على أولاده و فيهم موجود صح، و دخل في الوقف من سيولد له على وجه التبع، لأن الاعتبار باتصال الوقف في ابتدائه بمن هو من أهل الملك.

و يصح الوقف على المساجد و القناطر و غيرهما، لأن المقصود بذلك مصالح المسلمين، و هم يملكون الانتفاع.ق.

ص: 297


1- - سنن البيهقي: 6- 274 باب الوصية.
2- - سنن الدار قطني: 4- 192 و 193 باب في حبس المشاع و سنن البيهقي: 6- 162 كتاب الوقف باب وقف المشاع و البحر الزخار: 4- 147 كتاب الوقف و مسند أحمد بن حنبل: 2- 114 و فيه: «احبس أصله و سبل ثمرته» و مثله في كنز العمال: 16- 632 برقم 46142 و 46150 و 46156 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب الوقف المسألة 1 كما في المتن.
3- - في «ج»: لا يصح.
4- - في «ج»: و لا على مخالف أهل الإسلام أو معاند الحق.

و منها: أن يكون الوقف مؤبدا غير منقطع، فلو قال: وقفت كذا سنة، لم يصح، فأما قبض الموقوف عليه، أو من يقوم مقامه في ذلك، فشرط في اللزوم.

و يدل على صحة ما اعتبرنا من الشروط بعد إجماع الطائفة، أنه لا خلاف في صحة الوقف و لزومه إذا تكاملت [هذه الشروط] (1) و ليس على صحته و لزومه إذا لم تتكامل دليل.

و إذا تكاملت هذه الشروط زال ملك الواقف، و لم يجز له الرجوع في الوقف، و لا تغييره عن وجوهه و لا سبله، إلا على وجه نذكره، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأنه لا خلاف في انقطاع تصرف الواقف في الرقبة و المنفعة، و هذا هو معنى زوال الملك به، و ينتقل الملك إلى الموقوف عليه، لأنه يملك التصرف فيه، و قبض منافعه، و هذا هو فائدة الملك.

و تعلق المخالف بالمنع من بيعه، لا يدل على انتفاء الملك، لأن الراهن ممنوع من بيع المرهون، و إن كان مالكا له، و السيد ممنوع من بيع أم الولد، في حال عندنا، و عندهم في كل حال، و هو مالك لها، على أنه يجوز عندنا بيع الوقف للموقوف عليه، إذا صار بحيث لا يجدي نفعا، و خيف خرابه، أو كانت بأربابه حاجة شديدة، و دعتهم الضرورة إلى بيعه، بدليل إجماع الطائفة، و لأن غرض الواقف انتفاع الموقوف عليه، فإذا لم يبق له منفعة إلا من الوجه الذي ذكرناه جاز.

و يتبع في الوقف ما يشرطه الواقف من ترتيب الأعلى على الأدنى، و اشتراكهما، أو تفضيل في المنافع، أو مساواة فيها، إلى غير ذلك بلا خلاف.

و إذا وقف على أولاده و أولاد أولاده، دخل فيهم ولد البنات (2) بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن اسم الولد يقع عليهم (3) لغة و شرعا، و قد أجمع».

ص: 298


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
2- - في «ج»: أولاد البنات.
3- - في الأصل و «ج»: «عليهن» بدل «عليهم».

المسلمون على أن عيسى عليه السلام ولد آدم و هو من ولد ابنته (1)، و قد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحسن و الحسين عليهما السلام: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (2)، و إذا وقف على نسله أو عقبه أو ذريته، فهذا حكمه، بدليل قوله تعالى وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى قوله وَ عِيسى وَ إِلْياسَ (3)، فجعل عيسى من ذريته، و هو ينسب إليه من الأم.

و إن وقف على عترته، فهم ذريته، بدليل الإجماع المشار إليه، و قد نص على ذلك ثعلب [1] و ابن الأعرابي [2] من أهل اللغة، و إذا وقف على عشيرته، أو على قومه، و لم يعينهم بصفة، عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق، و روي أنه إذا وقف على عشيرته، كان ذلك على الخاص من قومه الذين هم أقرب الناس إليه في نسبه. (4)

و إذا وقف على قومه، كان ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث، و إذا وقف على جيرانه و لم يسمهم، كان ذلك على من يلي داره من جميع الجهات إلى أربعين ذراعا، بدليل إجماع الطائفة.

و متى بطل رسم المصلحة التي الوقف عليها، أو انقرض أربابه، جعل ذلك في وجوه البر، و روي أنه يرجع إلى ورثة الواقف (5)، و الأول أحوط.9.

ص: 299


1- - في «ج»: من ولد آدم و هو ولد ابنته.
2- - علل الشرائع: 1- 211 ب 59، عوالي اللئالي: 3- 129 و البحار: 36- 289 و 325 و 43- 278.
3- - الأنعام: 84- 85.
4- - لاحظ النهاية: 599.
5- - لاحظ النهاية: 599.

فصل في الهبة

تفتقر صحة الهبة إلى الإيجاب و القبول، و هي على ضربين (1): أحدهما: لا يجوز [له] (2) الرجوع فيه على حال، و الثاني: يجوز.

و الأول: أن تكون الهبة مستهلكة، أو قد تعوض عنها، أو يكون لذي رحم، و يقبضها هو أو وليه، سواء قصد بها وجه الله تعالى أم لا، أو لم تقبض و قد قصد بها وجه الله تعالى، و يكون الموهوب له ممن يصح التقرب إلى الله تعالى بصلته.

و الضرب الثاني: ما عدا ما ذكرناه. و يدل على ذلك الإجماع، و قول المخالف: جواز الرجوع في الهبة ينافي القول بأنها تملك بالقبض، يبطل بالمبيع في مدة الخيار، فإنه يجوز الرجوع فيه و إن ملك بالعقد، و مهما اعتذروا به عن ذلك قوبلوا بمثله، و تعلقهم بما يروونه من قوله عليه السلام: الراجع في هبته كالراجع في قيئه (3)، لا يصح، لأنه خبر واحد، ثم هو معارض بأخبار واردة من طرقهم في جواز الرجوع، على أن الألف و اللام إن كانتا للجنس، دخل الكلب فيمن أريد باللفظ، و إن كانتا للعهد، فالمراد الكلب خاصة، لأنه لا يعهد الرجوع في القي ء إلا له.

و على الوجهين، لا يجوز أن يكون المستفاد بالخبر التحريم، لأن الكلب لا

ص: 300


1- - في «ج»: و هي ضربان.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
3- - سنن البيهقي: 6- 180 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 250 و 291 و 339 و 342 و 2- 182، و لفظ الحديث: العائد في هبته كالعائد في قيئه و نحوه في الجامع الصغير: 2- 184 برقم 5650 و كنز العمال: 16- 640 برقم 46164 و 46171 و 46175 و البحر الزخار: 4- 132 كتاب الهبات.

تحريم عليه، بل يكون المراد الاستقذار و الاستهجان، و قد روى من طريق آخر:

الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه (1)، و ذلك يصحح ما قلناه، على أنه لو دل على التحريم، خصصناه (2) بالموضع الذي يذهب إليه بالدليل.

و الهبة في المرض المتصل بالموت، محسوبة من أصل المال لا من الثلث، بدليل الإجماع المشار إليه، و لا تجري الهبة مجرى الوصية، لأن حكم الهبة منجز في حال الحياة، و حق الورثة لا يتعلق بالمال في تلك الحال، و حكم الوصية موقوف إلى بعد الوفاة، و حق الورثة يتعلق بالمال في ذلك الوقف، فكانت محسوبة من الثلث.

و هبة المشاع جائزة، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الأصل الجواز، و المنع يفتقر إلى دليل، و يحتج على المخالف بالأخبار الواردة في جواز الهبة، لأنه لا فصل فيها بين المشاع و غيره.

و لو قبض الهبة من غير إذن الواهب، لم يصح، و لزمه الرد، لأنه لا خلاف في صحة ذلك مع الإذن، و ليس على صحته من دونه دليل.

و إذا وهب ما يستحقه في الذمة، كان ذلك إبراء بلفظ الهبة، و يعتبر قبول من عليه الحق، لأن (3) في إبرائه منه منة عليه، و لا يجبر على قبول المنة.

و من منح غيره ناقة، أو بقرة، أو شاة، لينتفع بلبنها مدة [معلومة] (4)، لزمه الوفاء بذلك إذا قصد به وجه الله تعالى، و كان ذلك الغير ممن يصح التقرب إلى الله تعالى ببره، و يضمن هلاك المنيحة و نقصانها بالتعدي.».

ص: 301


1- - سنن البيهقي: 6- 180 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 291 و كنز العمال: 16- 640 برقم 46172 و 46173 و 46174 و 46176 باختلاف قليل.
2- - في «ج» لخصصناه.
3- - في «ج» و «س»: لأنه.
4- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

و كذا لا يجوز الرجوع في السكنى و الرقبى و العمرى إذا كانت مدتها محدودة، و قصد بها وجه الله تعالى، و الرقبى و العمرى سواء، و إنما يختلفان بالتسمية، فالرقبى أن يقول: أرقبتك هذه الدار مدة حياتك، أو حياتي.

و العمرى أن يقول: أعمرتك كذلك. (1)

و إذا علق المالك ذلك بموته، رجع إلى ورثته إذا مات، فإن مات الساكن قبله، فلورثته السكنى إلى أن يموت المالك، فإن علقة بموت الساكن، يرجع إليه إذا مات، فإن مات المالك قبله، فله السكنى إلى أن يموت، و متى لم يعلق ذلك بمدة، كان له إخراجه متى شاء. و لا يجوز أن يسكن من جعل ذلك له من عدا ولده (2) و أهله إلا بإذن المالك، و من شرط صحة ذلك كله الإيجاب و القبول على ما قدمناه.

و من السنة الإهداء، و قبول الهدية إذا عريت من وجوه القبح، و متى قصد بها وجه الله تعالى و قبلت، لم يجز له الرجوع فيها، و لا التعويض عنها، و كذا إن قصد بها التكرم و المودة الدنيوية، و تصرف فيها من أهديت إليه، و كذا إن قصد بها العوض عنها، فدفع، و قبله المهدى، و هو مخير في قبول هذه الهدية و ردها، و يلزم العوض عنها إذا قبلت بمثلها، و الزيادة أفضل.

و لا يجوز التصرف فيها إلا بعد التعويض، أو العزم عليه، و من أراد عطية أولاده، فالأولى أن يسوي بينهم و لو كانوا ذكورا و إناثا، و إن فضل بعضهم على بعض، جاز ذلك (3) بدليل إجماع الطائفة و فيه الحجة.ك.

ص: 302


1- - كذا في الأصل و «س» و لكن في «ج»: أعمرتك كذا مدة عمرك أو مدة عمري.
2- - في «ج» من عدا والده.
3- - في «ج»: جاز كل ذلك.

فصل في اللقطة

من وجد ضالة من الإبل لم يجز له أخذها بإجماع الطائفة (1)، و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال- و قد سئل عن ذلك-: ما لك و لها خفها حذاؤها و كرشها سقاؤها (2).

و من وجد ما عدا ذلك كره له أخذه، فإن أخذه و كانت قيمته دون الدرهم، لم يضمنه، و يحل له التصرف فيه، و فيما بلغ أيضا الدرهم و زاد عليه مما يخاف فساده بالتعريف، كالأطعمة، من غير تعريف.

و أما ما سوى ذلك فعليه تعريفه حولا كاملا في أوقات بروز الناس، و أماكن اجتماعهم، كالأسواق و أبواب المساجد، و هو بعد الحول إن لم يأت صاحبه بالخيار بين حفظه انتظارا للتمكن منه، و بين أن يتصدق به عنه، و يضمنه إن حضر و لم يرض، و بين أن يتملكه و يتصرف فيه، و عليه أيضا الضمان إلا لقطة الحرم، فإنه لا يجوز تملكها، و لا يلزم ضمانها إن تصدق بها.

و يدل على ذلك كله الإجماع المشار إليه، و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال، و قد سئل عن اللقطة: اعرف عفاصها و وكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها،

ص: 303


1- - في «ج»: بدليل إجماع الطائفة.
2- - سنن البيهقي: 6- 189 كتاب اللقطة باب ما يجوز له أخذه و ما لا يجوز. و مسند أحمد بن حنبل: 2- 186 و 4- 116 و 117 و صحيح مسلم: 5- 134 كتاب اللقطة.

و إلا فاستمتع بها و في خبر آخر: و إلا فشأنك (1)، و العفاص: هو الذي يكون فوق رأس القارورة و شبهها، من جلد أو غيره [يكون] (2) فوق الصمامة، و هي: ما يحشى في الرأس، و الوكاء: هو ما يشد به العفاص من سير [1] أو خيط.

و حكم لقطة المحجور عليه يتعلق بوليه، و لقطة العبد يتعلق حكمها بمولاة، و اللقيط حر لا يجوز تملكه، و إذا تبرع ملتقطة بالإنفاق عليه، لم يرجع عليه بشي ء إذا بلغ و أيسر، و إذا لم يرد التبرع، و لم يجد من يعينه على الإنفاق [عليه] (3) من سلطان أو غيره، فأنفق للضرورة، جاز له الرجوع، و ليس له عليه بالإنفاق ولاء.

و إذا ادعى اثنان في لقيط أنه ولد لهما، ألحق بمن أقام البينة، فإن أقاماها جميعا و تكافأت، أقرع بينهما، فمن خرج اسمه ألحق به، بدليل الإجماع المشار إليه، و قد بينا فيما مضى حكم الموجود من الكنوز و قدر أجر رد العبد أو البعير. (4)ر.

ص: 304


1- - صحيح مسلم: 5- 134 كتاب اللقطة و سنن البيهقي: 6- 189 كتاب اللقطة باب ما يجوز له أخذه و ما لا يجوز مما يجده.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
4- - كذا في «ج» و حاشية الأصل، و لكن في متنه و «س»: و قدر أجرة العبد أو البعير.

فصل في الوصية

قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: الوصية حق على كل مسلم (1). و قال: ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلا و وصيته تحت رأسه (2) و قال: من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية. (3)

و الواجب منها البداية بالإقرار على جهة الجملة بما أوجب الله سبحانه علمه و العمل به، ثم الوصية بالاستمساك بذلك، و بتقوى الله، و لزوم طاعته، و مجانبة (4) معاصيه، و يعين من ذلك ما يجب من غسله و تكفينه و مواراته، ثم الوصية بقضاء ما عليه من حق واجب ديني أو دنيوي، و يخرج ذلك من أصل التركة، إن أطلق و لم يقيد بالثلث.

فإن لم يكن عليه حق، استحب له أن يوصي بجزء من ثلثه، و يصرف في النذور و الكفارات، و جزء في الحج و الزيارات، و جزء يصرف إلى مستحقي الخمس، و جزء إلى مستحقي الزكاة (5) و جزء إلى من لا يرثه من ذوي أرحامه.

و تصح الوصية من المحجور عليه للسفه، و من بلغ (6) عشر سنين فصاعدا

ص: 305


1- - الوسائل: 13- 351 ب 1 من أبواب أحكام الوصايا ح 3 و 4 و 6.
2- - نفس المصدر ح 5 و 7.
3- - نفس المصدر ح 8.
4- - في «ج»: «و محاسبة معصيته» و الصحيح ما في المتن.
5- - في «ج»: إلى مستحق الخمس و جزء إلى مستحق الزكاة.
6- - في «ج»: و ممن بلغ.

من الصبيان، فيما يتعلق بأبواب البر خاصة.

و من شرط صحتها حصول الإيجاب من الموصي و القبول من المسند إليه، و من شرطه أن يكون حرا مسلما بالغا عاقلا عدلا بصيرا بالقيام بما أسند إليه، رجلا كان أو امرأة، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و يجوز للمسند إليه القبول في الحال، و يجوز له تأخير ذلك، لأن الوصية بمنزلة الوكالة، و هي عقد منجز في الحال، فجاز القبول فيها، بخلاف قبول الموصى له، فإنه لا يعتد به إلا بعد الوفاة، لأن الوصية تقتضي تمليكا له في تلك الحال، فتأخر القبول إليها.

و للموصي الرجوع في الوصية و تغييرها بالزيادة و النقصان، و الاستبدال بالأوصياء ما دام حيا، و لا يجوز للمسند إليه ترك القبول إذا بلغه ذلك بعد موت الموصي، و لا ترك القيام بما فوض إليه من ذلك، إذا لم يقبل و رد فلم يبلغ الموصى ذلك حتى مات، بدليل إجماع الطائفة، و لا يجوز للوصي أن يوصي إلى غيره إلا أن يجعل له ذلك الموصي.

و إذا ضعف الوصي عما أسند إليه، فعلى الناظر في مصالح المسلمين أن يعضده بقوي أمين و لا يعزله، فإن مات أقام مقامه من يراه لذلك أهلا.

و الوصية المستحبة و المتبرع بها محسوبة من الثلث، سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض، و تبطل فيما زاد عليه إلا أن يجيز ذلك الورثة بلا خلاف.

و تصح الوصية للوالدين و الأقربين في المرض (1) المتصل بالموت بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (2)، و هذا نص في موضع الخلاف، و لا يمكن0.

ص: 306


1- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: «و تصح للوارث في المرض».
2- - البقرة: 180.

أن يدعى نسخ هذه الآية بآية المواريث، لأنه لا تنافي بينهما، و إذا أمكن العمل بمقتضاهما، لم تصح دعوى النسخ.

و قولهم: «نخص الآية بالوالدين و الأقربين إذا كانوا كفارا» يفتقر إلى دليل، و لا دليل لهم على ذلك.

و ما يروونه من قوله: لا وصية لوارث (1)، قد نص أصحاب الحديث على تضعيف رواته (2)، ثم هو مخالف لظاهر القرآن المعلوم، و لا يجوز ترك المعلوم للمظنون، و لو سلم من ذلك كله لكان خبر واحد، و قد بينا أنه لا يجوز العمل بذلك في الشرعيات.

و لا تصح الوصية للكافر إلا أن يكون ذا رحم للموصي، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فلا خلاف في جوازها له إذا كان ذا رحم، و ليس على جوازها إذا لم يكن كذلك دليل. و تجوز الوصية للحمل، فإن ولد ميتا، فهو لورثة الموصي.

و إذا وصى بثلث ماله في أبواب البر، فلم يذكر تفصيلا، كان لكل باب منها مثل الآخر، و كذا إن أوصى لجماعة و لم يرتبهم و لا سمى لكل واحد منهم شيئا معينا، و إن رتبهم و عين ما لكل واحد منهم، بدأ بالأول، ثم الثاني، إلى تكميل الثلث، ثم لا شي ء لمن بقي منهم.

و من أوصى بوصايا من ثلثه، و عين منها الحج، و كانت عليه حجة الإسلام، وجب تقديم الحج على الوصايا الأخر و إن لم يبق لها شي ء من الثلث، لأن الحج واجب و ما هو متبرع به، و يستأجر للنيابة عنه من ميقات الإحرام،م.

ص: 307


1- - التاج الجامع للأصول: 2- 266 و سنن البيهقي: 6- 264 و مسند أحمد بن حنبل: 4- 186، 187، 238 و 5- 267 و كنز العمال: 16- 615 برقم 46062 و 46071، 46072 و 46119.
2- - لاحظ سنن البيهقي: 6- 264 و 265 و الاعتصام بالكتاب و السنة تأليف الأستاذ العلامة آية الله الشيخ جعفر السبحاني، ص 237- 260 فقد ناقش رجال الحديث و أثبت ان السند مشتمل على أناس لا يحتج بهم.

بدليل إجماع الطائفة.

و من أوصى بسهم من ماله، أو شي ء من ماله، كان ذلك السدس، فإن أوصى بجزء منه كان ذلك السبع (1) بدليل إجماع الطائفة على ذلك كله، و قد روي عن إياس بن معاوية [1] في السهم أنه قال: هو في اللغة السدس (2) و روي عن ابن مسعود (3) أن رجلا أوصى بسهم من ماله فأعطاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم السدس. (4)

و من أوصى لقرابته دخل في ذلك كل من تقرب إليه (5) إلى آخر (6) أب و أم في الإسلام، و من أوصى بثلثه في سبيل الله، صرف ذلك في جميع مصالح المسلمين، مثل بناء المساجد، و القناطر، و الحج، و الزيارة، و ما أشبه ذلك، بدليل الإجماع «7» المشار إليه، و لأن ما ذكرناه طرق إلى الله تعالى، و إذا كان كذلك، فالأولى حمل لفظة «سبيل» على عمومها.

ص: 308


1- - في «ج»: «التسع» بدل «السبع».
2- - المبسوط للسرخسي: 27- 145، و المغني لابن قدامة: 6- 581.
3- - تقدمت ترجمته ص 198.
4- - المغني لابن قدامة: 6- 581.
5- - في الأصل: دخل في ذلك من يتقرب إليه.
6- - في «ج»: من آخر.

كتاب الفرائض

اشارة

جملة ما يحتاج إلى العلم به في ذلك ستة أشياء:

ما به يستحق الميراث.

و ما به يمنع.

و مقادير سهام الوارث. (1)

و ترتبهم في الاستحقاق.

و تفصيل أحكامهم مع الانفراد و الاجتماع.

و كيفية القسمة عليهم.

فأما ما به يستحق الميراث فشيئان: نسب و سبب، و السبب ضربان:

زوجية و ولاء، و الولاء على ضروب ثلاثة: ولاء العتق، و ولاء تضمن الجريرة، و ولاء الإمامة.

و أما ما به يمنع فثلاثة أشياء: الكفر، و الرق، و قتل الموروث عمدا على وجه الظلم.

الفصل الأول

و أما مقادير السهام فستة: النصف، و الربع، و الثمن، و الثلثان، و الثلث، و السدس.

ص: 309


1- - في «ج» و «س»: سهام الوارث.

فالنصف سهم أربعة: سهم الزوج مع عدم الولد، و ولد الولد و إن نزلوا، و سهم البنت إذا لم يكن غيرها من الأولاد، و الأخت من الأب و الأم، و الأخت من الأب، إذا لم تكن أخت من أب و أم.

و الربع سهم اثنين: سهم الزوج مع وجود الولد، أو ولد الولد، و إن نزلوا، و سهم الزوجة مع عدمهم.

و الثمن سهم الزوجة فقط، مع وجود الولد و ولد الولد، و إن نزلوا.

و الثلثان سهم ثلاثة: سهم البنتين فصاعدا، و الأختين فما زاد من الأب و الأم، و الأختين فصاعدا من الأب، إذا لم يكن أخوات من أب و أم.

و الثلث سهم اثنين: سهم الأم مع عدم الولد و ولد الولد، و عدم من يحجبها من الإخوة، و سهم الاثنين فصاعدا من كلالة الأم.

و السدس سهم خمسة: سهم كل واحد من الأبوين مع وجود الولد، و ولد الولد (1)، و إن نزلوا، و سهم الأم مع عدم الولد، و وجود من يحجبها من الإخوة، و سهم الواحد من الإخوة أو الأجداد من قبل الأم.

الفصل الثاني

و أما ترتيب الوراث، فاعلم أن الواجب تقديم الأبوين و الولد، فلا يجوز أن يرث مع جميعهم و لا مع واحدهم أحد ممن عداهم، إلا الزوج و الزوجة، فإنهما يرثان مع جميع الوراث، و حكم ولد الولد و إن نزلوا، حكم آبائهم و أمهاتهم في الاستحقاق، و مشاركة الأبوين، و حجبهما عن أعلى السهمين [إلى أدناهما] (2)،

ص: 310


1- - في «ج»: أو ولد الولد.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

و حجب من عداهما من الإرث جملة إلا من استثنيناه.

و الأقرب من الأولاد أولى من الأبعد، و إن كان الأقرب بنتا و الأبعد ابن ابن، فإن عدم الأبوان و الولد، فالواجب تقديم الإخوة و الأخوات و الأجداد و الجدات، فلا يرث مع جميعهم و لا واحدهم أحد ممن عداهم إلا الزوج و الزوجة.

و حكم أولاد الإخوة و الأخوات و إن نزلوا، حكم آبائهم و أمهاتهم في الاستحقاق و مشاركة الأجداد و حجب من سواهم و اعتبار الأقرب منهم فالأقرب، فإن لم يكن أحد من هؤلاء، وجب تقديم الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات أو واحدهم على غيرهم من الوراث إلا من استثنيناه.

و حكم الأولاد منهم و إن نزلوا، حكم آبائهم و أمهاتهم على ما قدمناه إلا في مشاركة الأخوال و الأعمام و فيما رواه أصحابنا- رضي الله عنهم- من أن ابن العم للأب و الأم، أحق بالميراث من العم للأب، فإن عدم هؤلاء الوراث، فالمستحق من له الولاء بالعتق أو تضمن الجريرة دون الإمام عليه السلام، و يقوم ولد المعتق الذكور [منهم] (1) دون الإناث مقامه، فإن لم يكن له ولد قام عصبته مقامهم.

الفصل الثالث: في تفصيل أحكام الوراث مع الانفراد و الاجتماع

و قد بينا أن أول المستحقين الأبوان و الولد، فالأبوان إذا انفرد من الولد، كان المال كله لهما، للأم الثلث، و الباقي للأب، و المال كله لأحدهما إذا انفرد، فإن كان معهما زوج أو زوجة، فللأم الثلث من أصل التركة، و الباقي للأب بعد سهم

ص: 311


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

الزوج أو الزوجة.

يدل على ذلك بعد إجماع الطائفة، قوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ. (1)

الآية، و هذا نص في موضع الخلاف، لأنه لا يفهم من إيجاب الثلث لها إلا الثلث من الأصل، كما لا يفهم (2) من إيجاب النصف للبنت أو للزوج مع عدم الولد إلا ذلك.

و أيضا فإنه تعالى لم يسم للأب مع الأم شيئا، و إنما يأخذ الثلثين، لأن ذلك هو الباقي بعد المسمى للأم، لا لأنه الذي لا بد أن يستحقه، بل الذي اتفق له.

فإذا دخل عليهما زوج أو زوجة، وجب أن يكون النقص داخلا على من له ما يبقى، و هو الأب، كما أن له الزيادة، دون صاحب السهم المسمى و هو الأم، و لو جاز نقصها عما سمي لها في هذا الموضع، لجاز ذلك في الزوج أو الزوجة، و قد علمنا خلاف ذلك.

و حمل المخالف الآية على أن المراد للأم الثلث مع الأب إذا لم يكن وارث غيرهما، ترك للظاهر من غير دليل.

و قولهم: لما ورث الأبوان بمعنى واحد و هو الولادة و كانا في درجة واحدة أشبها الابن و البنت، فلم يجز أن تفضل الأنثى على الذكر، قياس لا يجوز أن تثبت به الأحكام الشرعية، ثم لو منع ذلك من التفضيل منع من التساوي، كما منع في الابن و البنت منه، و قد علمنا تساوي الأبوين.

و قولهم: «إذا دخل على الأبوين من يستحق بعض المال، كان الباقي بعد أخذ المستحق (3) بينهما على ما كان في الأصل، كالشريكين في مال لأحدهما ثلثه ون.

ص: 312


1- - النساء: 11.
2- - في الأصل: «كما يفهم» و الصحيح ما في المتن.
3- - في «س»: «بعد هذا المستحق» و في «ج»: «كان الباقي أخذ المستحق» و الصحيح ما في المتن.

للآخر ثلثاه، استحق عليهما بعضه» ليس بشي ء، لأن الشريكين قد استحق كل واحد منهما سهما معينا، فإذا استحق من المال شيئا (1) كان ما يبقى بينهما على قدر سهامهما المسماة المعينة، و ليس كذلك ما نحن فيه، لأنا قد بينا أن الأب لا يأخذ الثلثين بالتسمية، و لا هما سهمه الذي لا بد أن يستحقه، و إنما له الفاضل بعد ما سمي للأم، فاتفق أنه الثلثان له.

و بهذا نجيب عن قولهم: إذا دخل النقص على الابن و البنت معا، لمزاحمة الزوج أو الزوجة، فكذلك يجب في الأبوين، لأن الله سبحانه قد صرح في الابن و البنت بأن لِلذَّكَرِ مثل حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فوجب أن تكون القسمة بينهما على ذلك في كل حال، و لم يصرح بأن للأب في حال الانفراد من الولد الثلثين، و إنما أخذهما اتفاقا، فافترق الأمران.

فإن كان مع الأبوين أخوان، أو أربع أخوات، أو أخ و أختان لأب، أو لأب و أم، أحرار مسلمون، فالأم محجوبة عن الثلث إلى السدس، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فلا خلاف في صحة الحجب بمن ذكرناه، و ليس كذلك الحجب بمن عداهم، و قوله تعالى فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (2)، و إن تناول ظاهره الإخوة من الأم، فإنا نعدل عن الظاهر للدليل.

و للأبوين مع الولد السدسان بينهما بالسوية، و لأحدهما السدس، واحدا كان الولد أو أكثر، ذكرا كان أو أنثى [ولد صلب كان أو غيره] (3) إلا أنه إن كان ذكرا فله جميع الباقي بعد سهم الأبوين، و إن كان ذكرا و أنثى، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، و هذا كله بلا خلاف، و إن كان أنثى فلها النصف و الباقي رد عليها و على الأبوين، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى:».

ص: 313


1- - في «ج» و «س»: استحق من المال شي ء.
2- - النساء: 11.
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (1)، و إذا كانت البنت و الأبوان أقرب إلى الميت، و أولى برحمة من عصبته و من المسلمين (2) و بيت المال، كانوا أحق بميراثه.

و نحتج (3) على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: المرأة تحوز ميراث ثلاثة:

عتيقها و لقيطها و ولدها (4)، و هي لا تحوز جميعه إلا بالرد، و بما رووه من أنه عليه السلام جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه و لذريتها من بعدها (5) و ظاهر ذلك أن جميعه لها، و لا يكون لها ذلك إلا بالرد، و بما رووه عن سعد [1] أنه قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: إن لي مالا كثيرا، و ليس يرثني إلا بنتي، أ فأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: فبالنصف؟

قال: لا، قال: فبالثلث؟ قال: الثلث و الثلث كثير (6)، فأقره عليه السلام على قوله «ليس يرثني إلا بنتي» و لم ينكر عليه، و روي الخبر بلفظ آخر و هو أنه قال: أ فأوصي بثلثي مالي و الثلث لبنتي؟ قال: لا، قال: أ فأوصي بنصف مالي و النصف لبنتي؟

قال: لا، قال: أ فأوصي بثلث مالي و الثلثان لبنتي؟ قال: الثلث و الثلث كثير «7» و هذا يدل على أن البنت قد ترث الثلثين.

و قول المخالف: إن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف، فكيف تزاد عليه؟ لا حجة فيه، لأنها تأخذ النصف بالتسمية، و ما زاد عليه بسبب آخر،ا.

ص: 314


1- - الأنفال: 75.
2- - في «ج»: و امام المسلمين.
3- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س»: و يحتج.
4- - التاج الجامع للأصول: 2- 260 و مسند أحمد بن حنبل: 3- 490 و 4- 107 و كنز العمال: 11- 7 برقم 30388 و لفظ الحديث: ان المرأة تجوز ثلاثة مواريث و البحر الزخار: 5- 360.
5- - سنن البيهقي: 6- 259 باب ميراث ولد اللاعنة، و التاج الجامع للأصول: 2- 254.
6- - سنن الترمذي: 4- 430 كتاب الوصايا باب ما جاء في الوصية بالثلث و سنن البيهقي: 6- 269 و التاج الجامع للأصول: 2- 265 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 168 و 171 و 172 و 173 و 174 و 176 و البحر الزخار: 5- 303 كتاب الوصايا.

و هو الرد بالرحم، و لا يمتنع أن ينضاف سبب إلى آخر، كالزوج إذا كان ابن عم و لا وارث معه، فإنه يرث النصف بالزوجية، و النصف الآخر عندنا بالقرابة، و عند المخالف بالعصبة.

الفصل الرابع

فإن كان مع الأبوين ابنتان فما زاد، كان لهما الثلثان، و للأبوين السدسان، و لأحد الأبوين معهما السدس، و الباقي رد عليهم بحساب سهامهم، فإن كان هناك إخوة يحجبون الأم، لم يرد عليها شي ء [و رد ذلك على الأب و البنت فحسب] (1).

فإن كان مع الأبوين و الولد زوج أو زوجة، كان للولد ما يبقى بعد سهم الأبوين و الزوج أو الزوجة، واحدا كان الولد أو جماعة، ذكرا كان أو أنثى، و إن لم يف الباقي بالمسمى للبنت أو الابنتين، و يكون النقص داخلا على البنت أو ما زاد عليها، دون الأبوين، و دون الزوج أو الزوجة.

و هذه من مسائل العول التي يذهب المخالفون فيها إلى إدخال النقص على جميع ذوي السهام، و يشبهون ذلك بمن مات و عليه ديون لا تتسع تركته لوفائها.

و العول في اللغة عبارة عن الزيادة و النقصان معا، فإن (2) أضيف ها هنا إلى المال، كان نقصانا، و إن أضيف إلى السهام، كان زيادة.

يدل على صحة ما نذهب إليه إجماع الطائفة عليه، و أيضا فلا خلاف أن النقص ها هنا داخل على البنات، و لا دليل على دخوله هنا على ما عداهن، من إجماع و لا غيره، فوجب البقاء فيهم على الأصل الذي اقتضاه ظاهر القرآن.

و أيضا فدخول النقص على جميع ذوي السهام، تخصيص لظواهر كثيرة من

ص: 315


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
2- - في «ج» و «س»: فإذا.

القرآن، و عدول عن الحقيقة فيها إلى المجاز، و دخوله على البعض رجوع عن ظاهر واحد، فكان أولى، و إذا ثبت أن نقص البعض أولى، ثبت أنه الذي عيناه، لأن كل من قال بأحد الأمرين، قال بالآخر، و القول بأن المنقوص غيره مع القول بأن نقص البعض أولى، خروج عن الإجماع.

و الفرق بين ما نحن فيه و بين الديون على التركة، أن الغرماء مستوون في وجوب استيفاء حقوقهم منها، و لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك، و ليس كذلك مسائل العول، لأنا قد بينا أن في الورثة من لا يجوز أن ينقص عن سهمه، و فيهم من هو أولى بالنقص من غيره، فخالفت حالهم الغرماء.

و دعواهم على أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول بالعول و روايتهم عنه أنه قال- بغير روية، و قد سئل و هو على المنبر عن ابنتين و أبوين و زوجة-: صار ثمنها تسعا [1]، غير صحيحة، لأن ابنيه عليهما السلام و شيعته أعلم بمذهبه من غيرهم، و قد نقلوا عنه خلاف ذلك، و ابن عباس ما أخذ مذهبه في إبطال العول إلا عنه، و قد روى المخالف عنه أنه قال: من شاء باهلته أن الذي أحصى رمل عالج ما جعل

**-***

[1]- سنن الدار قطني: 4- 69 كتاب الفرائض برقم 5 و وسائل الشيعة: 17- 429 ب 7 من أبواب موجبات الإرث ح 13 و 14 و نقله المجلسي- قدس سره- في بحار الأنوار: 40- 159، و الشيخ في الخلاف، كتاب الفرائض المسألة 45 و 81 و قال في ذيل الرقم الأخير ما هذا نصه:

و الجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يكون خرج مخرج التقية، لأنه كان يعلم من مذهب المتقدم عليه القول بالعول، و تقرر ذلك في نفوس الناس، فلم يمكنه إظهار خلافه، كما لم يمكنه المظاهرة بكثير من مذاهبه، و لأجل ذلك، قال لقضاته و قد سألوه بم نحكم يا أمير المؤمنين؟ فقال: اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة، أو أموات كما مات أصحابي و قد روينا شرح هذا في كتابنا الكبير، و ما روى من تصريح أمير المؤمنين عليه السلام بمذهبه لعمر، و انه لم يقبل ذلك، و عمل ما أراده.

و الوجه الآخر: أن يكون ذلك خرج مخرج النكير لا الإخبار و الحكم، كما يقول الواحد منا إذا أحسن إلى غيره، و قابله بالذم و الإساءة فيقول: قد صار حسني قبيحا، و ليس يريد بذلك الخبر، يريد الإنكار.

ص: 316

في مال نصفا و ثلثا و ربعا. (1)

ثم إن اعتمادهم في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام لما ادعوه من قوله بالعول في الفرائض، على أخبار آحاد، لا يعول على مثلها في الشرع، ثم هي موقوفة على الشعبي [1] و النخعي (2) و الحسن بن عمارة، و الشعبي ولد في سنة ست و ثلاثين، و النخعي ولد في سنة سبع و ثلاثين، و أمير المؤمنين عليه السلام قتل في سنة أربعين، فلا يصح روايتهما عنه، و الحسن بن عمارة مضعف عند أصحاب الحديث [2]، و لما ولي المظالم قال سليمان بن مهران الأعمش (3): ظالم ولي المظالم.

و أما ما ادعوه من قوله عليه السلام: صار ثمنها تسعا، فرواه سفيان [3] عن رجل لم يسمه، و المجهول لا يعتمد (4) بروايته، على أنه يتضمن ما لا يليق به عليه السلام، لأنه سئل عن ميراث المذكورين، فأجاب عن ميراث الزوجة فقط، و إغفال من عداها- و قد سئل عنه- غير جائز عليه عليه السلام.

و قد قيل: إن الخبر لو صح لاحتمل أن يكون المراد به، صار ثمنها تسعا عند من يرى العول، على سبيل التهجين له و الذم، كما قال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (5)، أي عند قومك و أهلك، و احتمل أيضا أن يكون أراد الاستفهام، و أسقط حرفه، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (6)، و كما قال عمر بن أبي ربيعة:1.

ص: 317


1- - التعليق المغني على الدار قطني: 4- 69 و المحلى: 8- 279 و المبسوط للسرخسي: 29- 162 و المغني لابن قدامة: 7- 27 و التهذيب: 9- 248 ح 962 و 963 باختلاف يسير.
2- تأتي ترجمته ص 321
3- تأتي ترجمته ص 321
4- - في «ج» و «س»: لا يعتد.
5- - الدخان: 49.
6- - البلد: 11.

ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرا عدد القطر و الحصى و التراب [1]

الفصل الخامس

و إذا انفرد الولد من الأبوين و أحد الزوجين، فله المال كله، سواء كان واحدا أو جماعة، ذكرا كان أو أنثى.

فلا يرث مع البنت أحد سوى من قدمناه، عصبة كان أم لا، بل النصف لها بالتسمية [الصريحة] (1) و النصف الآخر بالرد بالرحم، على ما بيناه، و مخالفونا يذهبون إلى أنه لو كان مع البنت عم أو ابن عم، لكان له النصف بالتعصيب، و كذا لو كان معها أخت، و يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، و يسقطون من هو في درجة العم أو ابن العم من النساء، كالعمات و بنات العم إذا اجتمعوا، و يخصون بالميراث الرجال دونهن، لأجل التعصيب، و نحن نورثهن.

و يدل على صحة ما نذهب إليه بعد إجماع الطائفة عليه ما قدمناه (2) من آية ذوي الأرحام، لأن الله سبحانه نص فيها على أن سبب استحقاق الميراث (3) القربى و تداني الأرحام، و إذا ثبت ذلك، و كانت البنت أقرب من العصبة، وجب أن تكون أولى بالميراث.

و يدل أيضا على أنه لا يجوز إعطاء الأخت النصف مع البنت، قوله تعالى:

ص: 318


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
2- - كذا في الأصل و لكن في «ج» و «س» يدل على صحة ما نذهب إجماع الطائفة عليه و ما قدمناه.
3- - في الأصل: نص فيها على سبب استحقاق الميراث.

إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ (1)، فشرط في استحقاقها للنصف فقد الولد، فيجب أن لا تستحقه (2) مع البنت، لأنها ولد.

و يدل على بطلان تخصيص الرجال بالإرث دون النساء، قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (3) فأوجب سبحانه للنساء نصيبا، كما أوجب للرجال، من غير تخصيص، فمن خص الرجال بالميراث في بعض المواضع، فقد ترك الظاهر، فعليه الدليل، و لا دليل يقطع به على ذلك.

و لا يلزمنا مثل ذلك إذا خصصنا البنت بالميراث دون العصبة، لأن الاستواء في الدرجة مراعى مع القرابة (4)، بدليل أن ولد الولد لا يرث مع الولد، و إن شمله اسم الرجال، إذا كان من الذكور، و اسم النساء إذا كان من الإناث، و إذا ثبت ذلك و كان هو المراد بالآية، و ورث المخالف العم دون العمة، مع استوائهما في الدرجة، كان ظاهر الآية حجة عليهم دوننا، على أن التخصيص بالأدلة غير منكر، و إنما المنكر أن يكون ذلك بغير دليل.

فإن قالوا: نحن نخص الآية التي استدللتم بها بما رواه ابن طاوس [1] عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قوله: يقسم المال على أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت فلأولى ذكر قرب (5)، و تورث الأخت البنت بما رواه الهذيل عن3.

ص: 319


1- - النساء: 176.
2- - في «ج»: أن لا تستحقها.
3- - النساء: 7.
4- - في «ج»: مع القربة.
5- - سنن أبي داود: 3- 122 برقم 2898 و فيه: «اقسم المال» و سنن الترمذي: 4- 418 باب ميراث العصبة برقم 2098 و سنن البيهقي: 6- 258 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 313.

ابن شرحبيل [1] من أن أبا موسى الأشعري [2] سئل عمن ترك بنتا و بنت ابن و أختا لأب و أم فقال: للبنت النصف و ما بقي فللأخت (1).

و بما رواه الأسود بن يزيد [3] قال: قضى فينا معاذ بن جبل (2) على عهد رسول الله عليه السلام فأعطى البنت النصف و الأخت النصف و لم يورث العصبة شيئا. (3)

فالجواب: إن ترك ظاهر القرآن لا يجوز بمثل هذه الأخبار، لأن أول ما فيها أن الخبر المروي عن ابن عباس لم يروه أحد من أهل الحديث (4) إلا من طريق ابن طاوس.

و مع هذا فهو مختلف اللفظ، فروي على ما تقدم، و روى: فلأولى عصبة قرب، و روى: فلأولى عصبة ذكر، و روى: فلأولى رجل ذكر عصبة، و اختلافث.

ص: 320


1- - سنن أبي داود: 3- 120 برقم 2890 و سنن البيهقي: 6- 233.
2- - تقدمت ترجمته ص 120.
3- - سنن أبي داود: 3- 121 برقم 2893 و سنن البيهقي: 6- 233.
4- - في «ج»: من أصحاب الحديث.

لفظه مع اتحاد طريقه دليل ضعفه.

على أن مذهب ابن عباس في نفي التوريث بالعصبة مشهور، و راوي الحديث إذا خالف كان قدحا في الحديث، و الهزيل ابن شرحبيل مجهول ضعيف.

ثم إن أبا موسى لم يسند ذلك إلى النبي عليه السلام، و فتواه لا حجة فيها، و لا حجة أيضا في قضاء معاذ بذلك، و لا في كونه على عهد رسول الله ما لم يثبت علمه عليه السلام به و إقراره عليه، و في الخبر ما يبطل أن تكون الأخت أخذت بالتعصيب، و هو قوله:

و لم يورث العصبة شيئا، لأنها لو كانت ها هنا عصبة، لقال: و لم يورث باقي العصبة شيئا.

على أن هذه الأخبار لو سلمت من كل قدح، لكانت معارضة بأخبار مثلها، واردة من طرق المخالف، مثل قوله عليه السلام: من ترك مالا فلأهله (1)، و قول ابن عباس و جابر بن عبد الله: إن المال كله للبنت دون الأخت، و روى الأعمش [1] مثل ذلك عن إبراهيم النخعي [2]، و به قضى عبد الله بن الزبير [3] على ما حكاه8.

ص: 321


1- - صحيح الترمذي: 4- 413 برقم 2090 و سنن أبي داود: 3- 123، و سنن البيهقي: 6- 201 و 351، و مسند أحمد بن حنبل: 2- 287 و 450 و 3- 215 و 338.

الساجي [1] و الطبري (1)، و ما نختص نحن بروايته في إبطال التوريث بالعصبة كثير.

و إذا تعارضت الأخبار سقطت، و وجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، على أن أخبارهم لو سلمت من المعارضة، لكانت أخبار آحاد، و قد دللنا على فساد العمل بها في الشرعيات.

على أنهم قد خالفوا لفظ الحديث عن ابن عباس، فورثوا الأخت مع البنت و ليس برجل و لا ذكر، و ورثوها أيضا مع الأخ إذا كان (2) مع البنت و لم يخصوا الأخ، و كذا لو كان مكان الأخ عم، و إذا جاز لهم تخصيصه بموضع دون موضع، جاز لنا حمله على من ترك أختين لأم و أخا لأب مع أولاد إخوة لأب و أم، أو ترك زوجة و أخا مع عمومة و عمات، فإن ما يبقى بعد الفرض المسمى، للأختين أو للزوجة لأولى ذكر قرب، و هو الأخ بلا خلاف.

على أنهم إذا جعلوا الأخت عند فقد الإخوة عصبة، لزمهم أن يجعلوا البنت مع عدم البنتين عصبة و بل هي أولى، لأن الابن أحق بالتعصيب من الأب، و الأب أحق بالتعصيب من الأخ، و أخت الابن يجب أن تكون أحق بالتعصيب من أخت الأخ بلا شبهة، و ليس لهم أن يفرقوا بأن البنت لا تعقل عن أبيها، لأن الأخت أيضا لا تعقل.ا.

ص: 322


1- - لاحظ سنن البيهقي: 6- 233 و المغني لابن قدامة: 7- 7 و 28 و المحلى: 8- 268 و 269 و بداية المجتهد: 2- 341.
2- - في «ج»: إذا كانا.

الفصل السادس

و قد بينا فيما تقدم أن ولد الولد و إن نزلوا، يقومون مقام آبائهم و أمهاتهم في مشاركة من يشاركونه، و حجب من يحجبونه، و يأخذ كل منهم ميراث من يتقرب به، كابن بنت و بنت ابن، فإن لابن البنت الثلث، و لبنت الابن الثلثان.

و الدليل على ذلك- بعد إجماع الطائفة- أن اسم الولد يقع على ولد الولد و إن نزلوا، سواء كان الولد ذكرا أو أنثى، لما قدمناه من إطلاق المسلمين في عيسى عليه السلام (1) أنه من ولد آدم عليه السلام، و من قول النبي عليه السلام في الحسن و الحسين عليهما السلام:

ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (2)، و لأن جميع ما علقه سبحانه من الأحكام بالولد، قد عم به ولد البنين و البنات في قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ- إلى قوله تعالى:- وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ (3)، و قوله وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ (4)، و في قوله وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ- إلى قوله:- أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ. (5)

و إذا وقع اسم الولد على ولد الولد [حقيقة] (6) تعلق بهم من أحكام الميراث إذا لم يوجد ولد للصلب، مثل ما تعلق به، بظاهر القرآن، و ليس لأحد أن يقول: إن اسم الولد يقع على ولد الولد مجازا، فلا يدخل في الظاهر إلا بدليل، لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، على ما بيناه فيما مضى من أصول الفقه، و من ادعى المجاز

ص: 323


1- - في «ج»: في حق عيسى عليه السلام.
2- - علل الشرائع: 1- 211 ب 59، عوالي اللئالي: 3- 129 و بحار الأنوار: 36- 289 و 325 و 43- 278.
3- النساء: 23.
4- النساء: 23.
5- - النور: 31.
6- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

فعليه الدليل.

و لا يلزم على ذلك مشاركة ولد الولد لولد الصلب في الميراث، و لا مشاركة الأجداد للآباء الأدنين لظاهر قوله تعالى وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (1)، لأنا عدلنا عن الظاهر في ذلك، للدليل القاطع، و لا دليل يوجب الرجوع عنه فيما اختلفنا فيه، فبقينا على ما يقتضيه [الظاهر]. (2)

الفصل السابع

و يستحب أن يخص الأكبر من الولد الذكور (3) بسيف أبيه و مصحفه و خاتمة (4) إذا كان هناك تركة سوى ذلك، بدليل إجماع الطائفة، و من أصحابنا من قال (5) يحتسب بقيمة ذلك عليه من سهمه، ليجمع بين ظاهر القرآن و ما أجمعت عليه الطائفة، و كذا قال فيما رواه أصحابنا: من أن الزوجة لا ترث من الرباع و الأرضين شيئا، فحمله على أنها لا ترث من نفس ذلك بل من قيمته. (6)

الفصل الثامن

و لواحد الإخوة و الأخوات «7» أو الأجداد و الجدات إذا انفرد جميع المال من أي الجهات كان، و إذا اجتمع كلأه الأم مع كلالة الأب و الأم كان للواحد من

ص: 324


1- - النساء: 11.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
3- - في الأصل و «س»: الذكورة.
4- - كذا في الأصل و «س» و لكن في «ج»: و مصحفه و خاتمه و ثياب جلده.
5- - القائل هو السيد المرتضى: الانتصار ص 299 و 301.
6- - القائل هو السيد المرتضى: الانتصار ص 299 و 301.

قبل الأم- أخا كان أم أختا جدا أم جدة- السدس، و للاثنين فصاعدا الثلث و الذكر و الأنثى فيه سواء، و روى أن لواحد الأجداد من قبل الأم الثلث نصيب الأم، و الباقي لكلالة الأب و الأم، أخا كان أم أختا جدا أم جدة، فإن كانوا جماعة ذكورا و إناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين.

و لا يرث أحد من الإخوة و الأخوات من قبل الأب خاصة، مع وجود واحد منهم من الأب و الأم، أخا كان أم أختا، و متى اجتمع واحد من كلالة الأم مع أخت أو أختين فصاعدا من الأب و الأم، كان الفاضل من سهامهم مردودا على كلالة الأب و الأم خاصة، و يشترك كلالة الأم مع كلالة الأب في الفاضل على قدر سهامهم، و من أصحابنا من قال: يختص بالرد كلالة الأب، لأن النقص يدخل عليها خاصة إذا نقصت التركة عن سهامهم لمزاحمة الزوج أو الزوجة، و لا يدخل على كلالة الأم و لا على الزوج و الزوجة على حال. (1)

و ولد الإخوة و الأخوات و إن نزلوا يقومون عند فقدهم مقامهم في مقاسمة الأجداد و في الحجب لغيرهم، و كذا حكم الأجداد و الجدات و إن علوا، و الأدنى من جميعهم- و إن كان أنثى- أحق من الأبعد و إن كان ذكرا، كل ذلك بدليل الإجماع من الطائفة عليه.

و يستحب إطعام الجد أو الجدة من قبل الأب السدس من نصيب الأب إذا كان حيا و سهمه الأوفر، فإن وجدا معا فالسدس بينهما نصفان، و من أصحابنا من قال: إن هذا حكم الجد و الجدة أيضا من قبل الأم معها. (2)

الفصل التاسع

و يرث الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات مع فقد من قدمنا ذكره من

ص: 325


1- - لاحظ النهاية: 637 و 638.
2- - القاضي: المهذب: 2- 130.

الوراث، و يجري الأعمام و العمات من الأب و الأم مجرى الإخوة و الأخوات من قبلهما في كيفية الميراث، و في إسقاط الأعمام و العمات من قبل الأب فقط، و يجري الأخوال و الخالات مجرى الإخوة و الأخوات من قبل الأم، لواحدهم إذا اجتمع مع الأعمام و العمات السدس و لمن زاد عليه الثلث، الذكر و الأنثى فيه سواء، و الباقي للأعمام و العمات من قبل الأب و الأم أو [من الأم] (1) إذا لم يكن واحد منهم من قبل أب و أم، للذكر من هؤلاء مثل حظ الأنثيين، بدليل إجماع الطائفة، و ظاهر القرآن الذي قدمنا ذكره في توريث ذوي الأرحام و القرابات.

فإن اجتمع الأعمام و العمات المتفرقون مع الأخوال و الخالات المتفرقين، كان للأعمام و العمات الثلثان، لمن هو للأم من ذلك السدس، و الباقي لمن هو للأب و الأم دون من هو للأب، و للأخوال و الخالات الثلث، و لمن هو للأم منه السدس، و الباقي لمن هو للأب و الأم دون من هو للأب.

و لا يقوم ولد الأعمام و العمات مقام آبائهم و أمهاتهم في مقاسمة الأخوال و الخالات، و لا يقوم أيضا ولد الخؤولة و الخالات مقام آبائهم و أمهاتهم في مقاسمة الأعمام و العمات، فلو ترك عمة أو خالة مثلا مع ابن عم و ابن خال، لكانت كل واحدة من العمة و الخالة أحق بالميراث منهما، و لا يرث الأبعد من هؤلاء مع من هو أدنى منه إلا من استثنيناه فيما مضى من ابن العم للأب و الأم، فإنه أحق عندنا من العم للأب، و كل هذا دليله الإجماع من الطائفة عليه.

الفصل العاشر

فإن لم يكن أحد ممن قدمنا ذكره من الوراث، كان ميراثه لمن أعتقه تبرعا، لا فيما يجب عليه من الكفارات، سواء كان المعتق رجلا أو امرأة، و الدليل على أن

ص: 326


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج» و «س». و الظاهر أن الصحيح: «من الأب».

الولاء لا يثبت إلا في العتق المتبرع به، بعد الإجماع المشار إليه، أن الولاء حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي، و ليس في الشرع ما يدل على ثبوته في الموضع الذي اختلفنا فيه، فوجب نفيه.

فإن لم يكن المعتق باقيا فالميراث لولده الذكور منهم دون الإناث، و من أصحابنا من قال: إن ولد المعتقة لا يقومون مقامها في الميراث ذكورا كانوا أو إناثا. (1)

فإن لم يكن للمعتق أولاد فالميراث لعصبته، و أولاهم الإخوة، ثم الأعمام، ثم بنو العم.

و من زوج عبده بمعتقة غيره، فولاء أولادها لمن أعتقها، فإن أعتق أبوهم انجر ولاء الأولاد إلى من أعتقه ممن أعتق أمهم، و إن أعتق جدهم من أبيهم مع كون أبيهم عبدا انجر ولاء الأولاد إلى من أعتق جدهم (2) فإن أعتق بعد ذلك أبوهم أنجز الولاء ممن أعتق جدهم إلى من أعتق أباهم.

و حكم المدبر حكم المعتق سواء، و لا يثبت الولاء على المكاتب إلا بالشرط، فإن لم يشرط (3) ذلك كان سائبة [و هي من ليس له ولاء] (4).

الفصل الحادي عشر

فإن لم يكن أحد ممن ذكرناه و كان الميت سائبة- بأن يكون معتقا في كفارة

ص: 327


1- - الشيخ: النهاية: 670 باب ميراث الموالي مع وجود ذوي الأرحام.
2- - في نسخة الأصل و «ج» هنا زيادة مع تقدم و تأخر و ما في المتن مطابق لنسخة «ج» و هو الصحيح.
3- - في «ج» و «س»: فإن لم يشترط.
4- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».

واجب (1) أو معتقا تطوعا، و قد تبرأ تطوعا، و قد تبرأ معتقه من جريرته- أو مكاتبا غير مشروط عليه الولاء و قد توالى إلى من ضمن جريرته، كان ميراثه له، فإن مات لم ينتقل إلى ورثته.

فإن عدم جميع هؤلاء الوراث فالميراث للإمام، فإن مات انتقل إلى من يقوم مقامه في الإمامة، دون من يرث تركته، و سهم الزوج أو الزوجة ثابت مع جميع من ذكرناه، على ما مضى بيانه، و كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

الفصل الثاني عشر

و قد بينا فيما سبق أن الكافر لا يرث المسلم، فأما المسلم فإنه يرث الكافر عندنا و إن بعد نسبه، و يدل على ذلك الإجماع الماضي ذكره، و ظاهر آيات الميراث، لأنه إنما يخرج من ظاهرها ما أخرجه دليل قاطع.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه (2)، و قوله: الإسلام يزيد و لا ينقص (3)، فأما ما رووه من قوله عليه السلام: لا توارث بين أهل ملتين (4)، و من قول بعض الصحابة في ذلك، فأكثره مضعف مقدوح في رواته (5)، ثم هو مخالف لظاهر القرآن، و معارض بما قدمناه، و لو سلم من ذلك

ص: 328


1- - في «ج»: في كفارة واجبة.
2- - سنن الدار قطني: 3- 252 و الجامع الصغير: 1- 474 برقم 3063 و سنن البيهقي: 6- 205 و جامع الأصول: 10- 368 برقم 7362 كتاب الفرائض و المواريث و كنز العمال: 1- 66 برقم 246 و وسائل الشيعة: 17 ب 1 من أبواب موانع الإرث ح 11 و قد تقدم الحديث مع تعليقته في كتاب البيع ص 210 فلاحظ.
3- - سنن البيهقي: 6- 205 و 254 و 255 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 236 و كنز العمال: 1- 66 برقم 245 و الجامع الصغير: 1- 474 برقم 3062.
4- - سنن الدار قطني: 4- 72 برقم 16 و 17 و لفظ الحديث: لا يتوارث أهل ملتين، و نحوه في كنز العمال: 6- 106 برقم 15052.
5- - في «ج»: في روايتهم.

كله لكان من أخبار الآحاد التي لا يجوز العمل بها في الشرعيات.

على أنا نقول بموجب قوله عليه السلام: لا توارث بين أهل ملتين، لو سلمناه (1) لأن التوارث تفاعل، و ذلك لا يكون إلا بأن يرث كل واحد منهما الآخر، و نحن لا نقول: بأن الكافر يرث المسلم، فلا توارث بينهما و الحال هذه.

و قول بعض المخالفين: إن التوارث إنما هو للنصرة و الموالاة، و لذلك يرث الذكور من العصبة دون الإناث، و لا يرث القاتل، و لا العبد، لنفي النصرة، مما لا يعول على مثله، لأنه غير مسلم أن التوارث لما ذكروه، و قد ورث النساء و الأطفال مع فقد ذلك فيهم.

ثم إن النصرة مبذولة من المسلم للكافر في الحق (2) و الواجب، كما أنها مبذولة للمسلم بهذا الشرط.

و إذا كان للكافر أولاد أصاغر، و قرابة مسلم، أنفق عليهم من التركة حتى يبلغوا، فإن أسلموا فالميراث لهم، و إن لم يسلموا كان لقرابته المسلم، و إذا أسلم الكافر أو عتق المملوك بعد القسمة لم يرث شيئا.

و متى لم يكن للميت إلا وارث مملوك، ابتيع من التركة و عتق و ورث الباقي، و يجبر المالك على بيعه، هذا إذا كانت التركة تبلغ قيمته فما زاد، فأما إذا نقصت عن ذلك فلا يجب شراؤه، و من أصحابنا من قال: إذا كانت التركة أقل من ثمن المملوك أستسعي في الباقي [1]، و الأول أظهر.ق.

ص: 329


1- - في «ج»: لو سلمنا تسليم الجدل.
2- - في «ج»: من الحق.

و أم الولد إذا مات سيدها، و ولدها حي جعلت في نصيبه و عتقت عليه، فإن لم يخلف غيرها عتق منها نصيب الولد و استسعيت في الباقي لغيره من الورثة، فإن كان ثمنها دينا على سيدها، قومت على ولدها، و تركت حتى يبلغ الولد، فإذا بلغ أجبر على قضاء ثمنها، فإن مات قبل البلوغ بيعت لقضائه.

و لا يرث القاتل عمدا مقتوله على وجه الظلم، على ما بيناه بلا خلاف، و يرثه إن كان قتله خطأ ما عدا الدية المستحقة عليه، بدليل الإجماع من الطائفة على ذلك و ظاهر آيات المواريث، و قاتل العمد إنما أخرجناه من الظاهر، بدليل قاطع، و ليس ذلك في قاتل الخطأ.

و قول المخالف: لو كان قاتل الخطأ وارثا لما وجب تسليم الدية عليه، ليس بشي ء لأنه لا تنافي بين وجوب تسليم الدية و بين الميراث مما عداها، و لا يورث من الدية أحد من كلالة الأم [و لا من يتقرب بها] (1) و يرثها من عداهم من ذوي الأنساب و الأسباب.

و يرث (2) ولد الملاعنة لأمه و لمن يتقرب بها، و ترثه هي و من يتقرب بها، و لا يرثه أبوه و لا من يتقرب به على حال، و لا يرثه الولد إلا أن يقر به بعد اللعان، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فالاحتياط فيما ذكرناه، لأن الإقرار بالولد بعد نفيه قد يكون للطمع في ميراثه، فإذا لم يورث، كان ذلك صارفا له عن الإقرار به لهذا الغرض، و اقتضى أن لا يكون بعد الجحود إلا لتحري الصدق فقط.

و ولد الزنا لا يرث أبويه و لا من يتقرب بهما، و لا يرثونه على حال، لأنه ليس بولد شرعا، لأن الولد للفراش على ما جاء به الأثر (3)، و من أصحابنا من4.

ص: 330


1- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
2- - في «ج» و «س»: «و ميراث».
3- - مسند أحمد بن حنبل: 5- 326 و 267 و سنن البيهقي: 7- 157 و 402 و 412 باب الولد للفراش و وسائل الشيعة: 14 ب 58 من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 2، 3، 4، 7 و ج 17 ب 8 من أبواب ميراث ولد الملاعنة ح 1 و 4.

قال: حكمه و حكم ولد الملاعنة سواء (1). و هو مذهب من خالفنا من الفقهاء.

و يعزل من التركة مقدار نصيب الحمل، و الاستظهار يقتضي عزل نصيب ذكرين، فإن ولد ميتا فلا ميراث له (2)، و إن ولد حيا ورث، و تعلم حياته بالاستهلال و الحركة الكثيرة التي لا تكون إلا من حي، و إن ولد و له ما للرجال و ما للنساء، اعتبرت حاله بالبول فمن أي الفرجين خرج ورث عليه، فإن خرج منهما اعتبر بالسبق، فمن أيهما سبق ورث عليه، فإن تساوى خروجه منهما، فمن أيهما انقطع أخيرا ورث عليه، فإن تساوى انقطاعه منهما ورث نصف ميراث الرجال و نصف ميراث النساء، و قد روى: أنه تعد أضلاعه، فإن نقص أحد الجانبين ورث ميراث الرجال، و إن تساويا ورث ميراث النساء (3)، فإن لم يكن للمولود فرج أصلا استخرج بالقرعة، فما خرج ورث عليه.

و إذا عقد على الصغيرين عقد النكاح أبواهما توارثا، و إن كان العاقد غيرهما، فلا توارث بينهما حتى يبلغا و يمضيا العقد، و إن بلغ أحدهما فأمضاه ثم مات انتظر بلوغ الآخر، فإن بلغ و أمضاه حلف أنه لم يرض به للميراث، فإن حلف ورث، و إلا فلا ميراث له.

و يتوارث الزوجان بعد الطلاق الرجعي، سواء كان في الصحة أو المرض، ما دامت المرأة في العدة، و إن كان في حال مرض الزوج، ورثته المرأة و إن كان بائنا، إذا مات من مرضه ذلك ما لم تتزوج أو يمض لطلاقها سنة، و إذا تزوج المريض و مات قبل الدخول بطل العقد و لم ترثه المرأة.

و إذا انفرد الزوج بالميراث، فله النصف بالتسمية، و النصف الآخر بالرد،5.

ص: 331


1- - الحلبي: الكافي: 377 و الصدوق: المقنع: 177 و 178.
2- - في «ج»: فلا شي ء له.
3- - الوسائل: 17 ب 2 من أبواب ميراث الخنثى، ح 3، 5.

بدليل إجماع الطائفة، و لا يلزم أن يرد على الزوجة، لأن الشرع لا يؤخذ بالقياس.

و إذا تعارف المجلوبون من بلاد الشرك بنسب يوجب الموارثة بينهم قبل قولهم بلا بينة، و ورثوا عليه، و يوقف نصيب الأسير في بلاد الكفر إلى أن يجي ء أو يصح موته، فإن لم يعلم مكانه، فهو مفقود، و حكمه أن يطلب في الأرض أربع سنين، فإن لم يعلم له خبر في هذه المدة، قسم ماله بين ورثته.

و إذا مات اثنان أو ما زاد عليهما في وقت واحد، بهدم (1)، أو غرق، و لم يعلم أيهما مات قبل صاحبه، ورث أحدهما من الآخر من نفس تركته، لا مما يرثه من صاحبه، و أيهما قدم في التوريث جاز، و روي أن الأولى تقديم الأضعف في الاستحقاق و تأخير الأقوى (2) ثم ينقل ميراث كل واحد منهما من صاحبه إلى وارثه، فإن كان أحدهما يرث صاحبه، و الآخر لا يرثه، بطل هذا الحكم، و انتقل كل واحد منهما إلى وارثه من غير واسطة.

و من أصحابنا من قال (3): يورث المجوس و غيرهم من أهل الملل المختلفة في الكفر إذا تحاكموا إلينا على ما قرره شرع الإسلام، من الأنساب و الأسباب الصحيحة و السهام، و منهم من قال (4): يورثون على ما يرونه في ملتهم، و الدليل على ذلك كله- سوى ما لم يتعين المخالف من الطائفة فيه- إجماعها عليه، و فيه الحجة على ما بيناه.

الفصل الثالث عشر

في كيفية القسمة على الوراث يحتاج إلى تصحيح السهام في قسمة الأرضين

ص: 332


1- - في «ج»: لهدم.
2- - الوسائل: 17 ب 6 من أبواب ميراث الغرقى و المهدوم عليهم ح 1 و 2.
3- - الحلبي: الكافي: 376.
4- - الشيخ: النهاية: 683.

و الرباع، و الوجه في ذلك أن يضرب سهام المنكسر عليهم في أصل الفريضة، فما بلغت إليه خرجت منه السهام صحاحا.

و أصل الفريضة هو أقل عدد يخرج منه السهام المسماة فيها صحاحا، مثل أن يجتمع مع النصف ثلث أو سدس، فيكون أصلها (1) من ستة، فإن كان معه ربع فأصلها من أربعة، فإن كان مع النصف ثمن فأصلها من ثمانية، فإن كان مع الربع ثلث أو سدس، فأصلها من اثني عشر، و إن كان مع الثمن ثلثان أو سدس، فأصلها من أربعة و عشرين.

مثال ما قدمناه في تصحيح السهام، أن نفرض أبوين و ابنا و بنتا، فأصل فريضتهم من ستة، للأبوين سهمان و تبقى أربعة تنكسر على الابن و البنت، و فتضرب سهامهما و هي ثلاثة- للابن سهمان و للبنت سهم- في أصل الفريضة و هي ستة، فتكون ثمانية عشر، لكل واحد من الأبوين ثلاثة، و يبقى اثنا عشر، للابن منها ثمانية و للبنت أربعة، و كذا لو كان مكان الابن و البنت ثلاث بنات، فإنا نضرب سهامهن، و هي ثلاثة، في أصل الفريضة، فيكون للأبوين ستة، و لكل واحدة من البنات أربعة.

و إن كان في الفريضة رد ينكسر، فالوجه أن يجمع مخرج فرائض من يجب الرد عليه ثم يضرب في أصل الفريضة و يقسم الجميع، كفريضة الأبوين و البنت مثلا فإن أصلها من ستة، للأبوين الثلث، و للبنت النصف، و يبقى سهم ينكسر في الرد عليهم، فمخرج الثلث من ثلاثة، و مخرج النصف من اثنين، و ذلك خمسة، فتضرب في أصل الفريضة و هي ستة، فيكون ثلاثين، للأبوين عشرة، و للبنت خمسة عشر بالفرض، و للأبوين من الباقي، و هو خمسة، سهمان و للبنت ثلاثة بالرد، و على هذا يجري الحساب في جميع الفرائض فليتأمل.ا.

ص: 333


1- - في «ج»: فيكون أصلهما.

و الوجه في تصحيح المناسخات [1]، أن تصحح مسألة الميت الأول، ثم تصحح مسألة الميت الثاني، و تقسم ما يختص بالميت الثاني من المسألة الأولى على سهام مسألته.

فإن انقسمت، فقد صحت المسألتان مما صحت منه مسألة الميت الأول، كمن مات و خلف أبوين و ابنين، فأصلها من ستة، للأبوين سهمان، و لكل واحد من الابنين سهمان، فإن مات أحد الابنين، و خلف ابنين، كان لكل واحد منهما سهم من هذين السهمين، فقد صحت المسألتان من المسألة الأولى.

و إن لم تنقسم الثانية من الأولى، جمعنا سهام المسألة الثانية، و ضربناها في سهام المسألة الأولى، مثل أن يخلف أحد الابنين في المسألة التي قدمناها ابنا و بنتا، فإن سهمه و هو اثنان من ستة ينكسر عليهما، فيضرب سهم الابن و هو اثنان و سهم البنت و هو واحد في أصل الفريضة من المسألة الأولى و هي ستة، فتكون ثمانية عشر، للأبوين السدسان ستة، و لكل واحد من الابنين ستة، فيكون لابنه و بنته اللذين خلفهما للذكر مثل حظ الأنثيين من غير انكسار.

و كذا الحكم لو مات ثالث و رابع فما زاد، فإنا نصحح مسألة كل ميت، و يقسم ماله من مسائل من مات قبله من السهام على سهام مسألته، فإن انقسمت فقد صحت لنا المسائل كلها، و إن لم تصح، ضربنا جميع مسألته فيما صحت من مسائل من مات قبله، فما اجتمع صحت منه المسائل (1) كلها إن شاء الله.ل.

ص: 334


1- - في «ج»: صحت منه بقية المسائل.

كتاب النكاح

اشارة

نحتاج أولا أن نبين من يحرم نكاحه، ثم نبين أقسام النكاح المباح و شروطه، و الأسباب الموجبة لتحريم الوطء بعد صحة العقد، و ما يتعلق بذلك كله من الأحكام، فنقول:

من يحرم العقد عليهن على ضربين:

اشارة

أحدهما يحرم على كل حال، و الثاني يحرم في حال دون حال.

فالضرب الأول: المحرمات بالنسب

و هن ست (1): الأم و إن علت، و البنت و إن نزلت، و الأخت، و بنت الأخ و الأخت و إن نزلتا، و العمة و الخالة و إن علتا، بلا خلاف.

و المحرمات بالرضاع، و هن ست (2) كالمحرمات بالنسب، إلا أن الراضع من لبن المرأة يحرم عليه كل من ينتسب إلى بعلها بالولادة و الرضاع، و لا يحرم عليه من ينتسب إلى المرأة إلا بالولادة دون الرضاع.

و لا يقتضي التحريم الرضاع إلا بشروط:

منها: أن يكون سن الراضع و المرتضع من لبنه له دون الحولين، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى:

ص: 335


1- - في «ج»: و هي ستة.
2- - في «ج»: و هي ستة.

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (1)، لأن المراد إثبات الرضاع الشرعي، الذي يتعلق به الحرمة، بدليل أنه تعالى لا يجوز أن يريد الرضاع اللغوي، لأنه ينطلق (2) على ما يحصل بعد الحولين و قبل تمامهما، و لا يريد نفي جوازه دونهما، أو بعدهما، لأن ذلك جائز بلا خلاف، و لا نفي الكفاية بدونهما، لأن الكفاية قبل تمامهما قد تحصل بلا شبهة، فلم يبق إلا ما قلناه.

و من شروط تحريم الرضاع: أن يكون لبن ولادة لا در، بدليل إجماع الطائفة.

و منها: أن يكون مما ينبت اللحم و يشد العظم، بأن يكون يوما و ليلة، أو عشر رضعات متواليات، عند بعض أصحابنا (3)، و عند بعضهم خمس عشرة رضعة (4)، و الأول أحوط، كل رضعة منها تروي الصبي لا يفصل بينها (5) برضاع امرأة أخرى، بلا خلاف بين أصحابنا، و لا يثبت الرضاع بقول المرضعة، بل يفتقر ثبوته إلى بينة عادلة.

و من هذا الضرب من المحرمات أم المعقود عليها، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله عز و جل وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ (6) و لم يشترط الدخول، و أيضا فقد روى المخالفون أنه عليه السلام قال: من نكح امرأة ثم ماتت قبل الدخول بها لم تحل له أمها «7»، و هذا نص.

و من هذا الضرب أيضا ابنة المدخول بها، سواء كانت في حجر الزوج أوا.

ص: 336


1- - البقرة: 233.
2- - في «ج»: لانه يطلق.
3- - القاضي: المهذب: 2- 190.
4- - الشيخ: المبسوط: 5- 305، كتاب الرضاع.
5- - في «ج» و «س»: بينهما.
6- - النساء: 23.

لم تكن، بلا خلاف إلا من داود فإنه قال: إن كانت في حجره حرمت و إلا فلا (1)، ظنا منه أن قوله تعالى اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ (2)، شرط في التحريم. و ليس ذلك شرطا، و إنما هو وصف لهن، لأن الغالب أن الربيبة تكون في حجره.

و من هذا الضرب أم المزني بها و ابنتها، فهو الظاهر من مذهب أصحابنا و الأكثر من رواياتهم، و طريقة الاحتياط تقتضيه.

و تحرم على الابن زوجة الأب و أمته المنظور إليها بشهوة، بلا خلاف بين أصحابنا، و على الأب زوجة الابن أيضا و أمته المنظور إليها بشهوة، و من أصحابنا من قال: الموطوءة (3)، و الأول أحوط.

و يحرم على كل واحد منهما العقد على من زنى بها الآخر، بدليل إجماع الطائفة و يخص التحريم على الابن قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ (4) لأن لفظ النكاح يقع على العقد و الوطء معا.

و تعلق المخالف بما يروونه من قوله عليه السلام: الحرام لا يحرم الحلال (5)، غير معتمد لأنه خبر واحد، ثم هو مخصوص بالإجماع، و يحمل على مواضع:

منها: أن وطء المرأة في الحيض حرام و لا يحرم ما عداه من الحلال منها.

و منها: أن الزنا بالمرأة لا يحرم التزويج بها إذا تابت.

و منها: أن وطء الأب لزوجة ابنه و الابن لزوجة أبيه حرام و لا يحرم من الزوجة ما كان حلالا منها.ن.

ص: 337


1- - لاحظ بداية المجتهد: 2- 33 و المغني لابن قدامة: 7- 473.
2- - النساء: 23.
3- - الشيخ المفيد لاحظ المختلف- 524 من الطبع القديم.
4- - النساء: 22.
5- - سنن البيهقي: 7- 169 و سنن الدار قطني: 3- 268 برقم 88 و 89 و 90 و لفظ الحديث: لا يحرم الحرام الحلال و نقله الشيخ في الخلاف كتاب النكاح المسألة 71 كما في المتن.

و يحرم العقد على الزانية و هي ذات بعل أو في عدة رجعية ممن زنى بها، و على أم الغلام الموقب و أخته و ابنته ممن لاط به، و يحرم أيضا على التأبيد المعقود عليها في عدة معلومة أو إحرام معلوم، و المدخول بها فيهما على كل حال، و المطلقة للعدة تسعا ينكحها بينها رجلان، و الملاعنة و المقذوفة من زوجها و هي صماء أو خرساء، يدل على ذلك كله إجماع الطائفة، و أيضا فلا يجوز أن يستباح التمتع بالمرأة إلا بيقين و لا يقين فيما ذكرناه.

و يعارض المخالف في الملاعنة (1) بما يروونه من قوله عليه السلام: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (2)، و قوله لعويمر [1] حين فرق بينه و بين زوجته باللعان: لا سبيل لك عليها (3)، و قول المخالف: أراد بذلك في هذه الحال، تخصيص بغير دليل.

و استدلال المخالف بأن الأصل الإباحة و بظاهر القرآن كقوله تعالى:

فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (4)، و قوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (5)، غير لازم، لأنا نعدل عن ذلك بالدليل، كما عدلوا عنه في تحريم نكاح المرأة على عمتها و خالتها.

و حكم الأم و البنت و الأخت بالرضاع في التحريم بهذه الأسباب، حكم4.

ص: 338


1- - في «س»: بالملاعنة.
2- - سنن الدار قطني: 3- 276 برقم 116 و سنن البيهقي: 7- 409 و كنز العمال: 15- 204 برقم 40582.
3- - بداية المجتهد: 2- 115 و 121 و التاج الجامع للأصول: 2- 349 و الفقه على المذاهب الأربعة: 5- 107 و 113.
4- - النساء: 3.
5- - النساء: 24.

ذوات النسب، و حكم الإماء في التحريم بالنسب و الرضاع و غيره من الأسباب، حكم الحرائر.

و أما من يحرم العقد عليهن في حال دون حال

فأخت المعقود عليها بلا خلاف، أو الموطوءة بالملك بلا خلاف إلا من داود، و يدل على ذلك قوله تعالى وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (1) لأنه لم يفصل، و الخامسة حتى تنقبض الأربع بما يوجب البينونة، و المطلقة للعدة ثلاثا، أو للسنة، على ما نبينه، حتى تنكح زوجا آخر و تبين منه، و كذا حكم كل مزوجة، و المعتدة من الطلاق الرجعي حتى تخرج من عدتها، كل هذا بلا خلاف، و بنت الأخ على عمتها، و بنت الأخت على خالتها حتى تأذنا، و الأمة على الحرة حتى تأذن، و الزانية حتى تتوب، بدليل إجماع الطائفة.

و ظواهر القرآن المبيحة للعقد على النساء بالإطلاق تبيح تزويج المرأة على عمتها و خالتها إلا ما أخرجه الدليل من حظر ذلك إذا لم يكن منهما إذن، و ما يرويه المخالف من قوله عليه السلام: لا تنكح المرأة على عمتها و خالتها (2)، خبر واحد مخالف لظاهر القرآن، و معارض بأخبار تقتضي الإباحة مع الاستئذان، و محمول لو سلم من ذلك كله على ما إذا لم يكن منهما إذن، فلا يمكن الاعتماد عليه.

و يحرم العقد على الكافرة و إن اختلفت جهات كفرها حتى تسلم- إلا على وجه نذكره- بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ (3)، و قوله وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (4)، و قوله لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ (5)، لأنه نفي ما لظاهر التساوي في

ص: 339


1- - النساء: 23.
2- - سنن البيهقي: 7- 165، 166 باب ما جاء في الجمع بين المرأة و عمتها. و مسند أحمد بن حنبل: 1- 78 و: 2- 189 و 207 و كنز العمال: 16- 326 برقم 44744.
3- - الممتحنة: 10.
4- - البقرة: 221.
5- - الحشر: 20.

جميع الأحكام التي من جملتها المناكحة.

و قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (1)، نخصه بنكاح المتعة، فإنه جائز عندنا على الكتابيات، أو نحمله على ما إذا كن مسلمات، بدليل ما قدمناه، و لا يمتنع أن يكون من جهة (2) الشرع قبل ورود هذا البيان فرق بين من آمنت بعد كفر، و بين من لم تكفر أصلا، فيكون في البيان لإباحة نكاح الجميع فائدة، و ليس لأحد مع جواز هذا أن يقول: قد أغنى عما اشترطتموه من إسلام الكتابيات قوله تعالى وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ.

فإن قالوا: لستم بتخصيص هذه الآية بما ذكرتموه، لتسلم لكم ظواهر آياتكم بأولى منا إذا خصصنا ظواهركم بالمرتدات و الحربيات، ليسلم لنا ظاهر الآية التي نستدل بها؟! قلنا: غير مسلم لكم التساوي في ذلك، بل نحن أولى بالتخصيص منكم، لأنكم تعدلون عن ظواهر كثيرة، و نحن نعدل عن ظاهر واحد، و إذا كان العدول عن الحقيقة إلى المجاز إنما يفعل للضرورة، فقليله أولى من كثيره بغير شبهة.

و أما أقسام النكاح المباح فثلاثة: نكاح غبطة، و نكاح متعة، و نكاح بملك اليمين.

و نكاح المستدام مستحب بلا خلاف إلا من داود، فإنه قال: واجب، و يدل على ما قلناه بعد إجماع الطائفة قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ، إلى قوله فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (3)، لأنه تعالى علق ذلك باستطابتنا، و ما كان كذلك فليس بواجب، و لأنه خير بينه و بين ملك اليمين، و التخيير لا يكون بين واجب و مباح، و لأن ذلك يقتضي جواز الاقتصار على ملك اليمين،3.

ص: 340


1- - المائدة: 5
2- - في «س»: من جملة.
3- - النساء: 3.

و المخالف لا يجيزه، و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ إلى قوله وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ (1)، و لو كان نكاح الأمة عند عدم طول الحرة واجبا، لم يكن الصبر خيرا منه، و عند المخالف أن الصبر لا يجوز، فضلا عن أن يكون خيرا من النكاح.

و من شرط صحة عقد النكاح:

اشارة

أن يكون المعقود عليه معلوما متميزا، فلو قال: زوجتك من عندي، أو امرأة، أو حمل هذه الجارية، لم يصح للجهالة.

و أن يكون ممن يحل نكاحه، فلا يصح العقد بين الكافر و المسلم بلا خلاف.

و لا بين المسلم و بين إحدى المحرمات عليه اللاتي قدمنا ذكرهن.

و أن يحصل الإيجاب و القبول، و أيهما سبق جاز، فلو قال: زوجنيها، قال الولي: زوجتكها، صح، و يحتج على المخالف بما رووه من حديث سهل بن سعد (2) فإنه قال: زوجنيها يا رسول الله، فقال: زوجتكها بما معك من القرآن (3)، و لم يأمره بعد ذلك بالقبول.

و لو قال: أ تزوجنيها؟ فقال: زوجتكها، لم يصح حتى يقبل الإيجاب، لأن السابق له استفهام، و لو اقتصر القائل على قوله: قبلت، صح العقد، لأن ذلك جواب الإيجاب و هو منضم إليه، فكأن معناه قبلت هذا التزويج بلا شبهة.

و من شرط ذلك أن يكون بلفظ النكاح، أو التزويج، أو الاستمتاع في النكاح المؤجل عندنا، مع القدرة على الكلام، و لا يصح العقد بلفظ الإباحة، و لا

ص: 341


1- - النساء: 25.
2- - تقدمت ترجمته ص 81.
3- - سنن ابن ماجة: 1- 608 برقم 1889 و سنن الترمذي: 3- 421 برقم 1114 و سنن الدارمي: 2- 142 و سنن البيهقي: 7- 144 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 336.

التحليل، و لا التمليك، و لا البيع، و لا الإجارة، و لا الهبة، و لا العارية، بدليل إجماع الطائفة، و لأن ما اعتبرناه في نكاح الدوام، مجمع على انعقاده، و ليس على انعقاده بما عداه دليل.

و من شرطه أن يكون صادرا ممن له ولاية، و الولاية [1] التي يجوز معها تزويج الصغيرة غير البالغ [2]- سواء كانت بكرا أو قد ذهبت بكارتها بزوج أو غيره، و لا يكون لها بعد البلوغ خيار، بلا خلاف بين أصحابنا- و تزويج البكر البالغ من غير إذنها- على خلاف بينهم في ذلك- مختصة بأبيها و جدها له في حياته، فإن لم يكن الأب حيا فلا ولاية للجد، و من يختاره الجد أولى ممن يختاره الأب، و ليس لأحدهما فسخ العقد الذي سبق الآخر إليه، و إن كان بغير إذنه، و الأولى بالأب استئذان الجد، بدليل إجماع الطائفة.

و يحتج على المخالف في أن لا ولاية على الصغيرة إلا للأب و الجد بما رووه من قوله عليه السلام لقدامة بن مظعون [3] و قد زوج ابنة أخيه: إنها يتيمة و إنها لا تنكح إلا بإذنها (1)، و لا يجوز أن يقال: سماها يتيمة و إن كانت بالغا، لقرب عهدها باليتم، لأن ذلك رجوع عن الظاهر في الشرع بغير دليل، لأنه لا يتم بعد الحلم، على ما ورد به الخبر. (2)

و على الأب أو الجد استئذان البكر البالغ، و إذنها صماتها على ما ورد به4.

ص: 342


1- - سنن الدار قطني: 3- 230 برقم 37 و سنن البيهقي: 7- 113 و 120.
2- - مستدرك الوسائل: 13- 428 ب 2 من أبواب كتاب الحجر ح 3 و 4.

الخبر (1)، فإن عقد بغير إذنها، فأبت العقد، لم ينفسخ العقد عند من قال من أصحابنا: لهما إجبارها على النكاح، و عند من قال منهم: ليس لهما ذلك، ينفسخ [1]، و طريقة الاحتياط تقتضي اعتبار رضاها في صحة العقد، لأنه لا خلاف في صحته إذا رضيت، و ليس كذلك إذا لم ترض، و على هذا، النكاح يقف على الإجازة، سواء كانت من الزوج أو الولي أو المنكوحة.

و يحتج على المخالف في ذلك بما روي من أن امرأة بكرا أتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالت: إن أبي زوجني و أنا كارهة، فخيرها النبي عليه السلام (2)، و هذا يدل على أن النكاح يقف على الفسخ و الإجازة.

و لا تعقد البكر على نفسها بغير إذنهما، فإن عقدت و أبيا العقد انفسخ، إلا أن يكونا قد عضلاها بمنعها من التزويج بالأكفاء، فإنه لا ينفسخ بدليل إجماع الطائفة.

و لا ولاية لغير الأب و الجد على البكر، و لا ولاية لهما و لا لغيرهما على البنت البالغ الرشيدة إلا أن تضع نفسها مع غير كف ء، فيكون لأبيها أو جدها فسخ العقد.

و الكفاءة تثبت عندنا بأمرين: الإيمان، و إمكان القيام بالنفقة، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن ما اعتبرناه مجمع على اعتباره، و ليس على اعتبار ما عداه دليل.

و للثيب إذا كانت رشيدة أن تعقد على نفسها بغير ولي، و كذا البكر إذا لم يكن لها أب، و إن كان الأولى لهما رد أمرهما إلى بعض الصلحاء من الأقارب أو7.

ص: 343


1- - سنن البيهقي: 7- 122 باب إذن البكر الصمت و سنن الدارمي: 2- 138.
2- - سنن البيهقي: 7- 117.

الأجانب، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (1)، فأضاف عقد النكاح إليها، و هذا يقتضي بظاهره أنها المتولية لعقدها، و مثل ذلك قوله سبحانه فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. (2)

و ما يتعلق به المخالف من قوله عليه السلام: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل (3)، غير معتمد، لأنه مقدوح في روايته، مع أنه خبر واحد، و معارض بما ورد من طرقهم من قوله عليه السلام: الأيم أحق بنفسها من وليها (4)، و الأيم التي لا زوج لها، و هذا عام، و قوله عليه السلام: ليس للولي مع الثيب أمر (5)، و لو سلم من ذلك كله لجاز حمله على الأمة إذا تزوجت بغير إذن مولاها، لأن الولي في اللغة و المولى بمعنى واحد.

و يشهد بهذا التأويل، أنه قد روي من طريق آخر: أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها (6)، و قول المخالف: في الخبر ما يمنع من ذلك، و هو قوله عليه السلام: «فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها» لأنه أضاف المهر إليها و الأمة لا تملكه، ليس بشي ء يعول على مثله، لأن ذلك إنما جاز للعلقة التي بينهما و إن لم تملكه، كما قال عليه السلام: من باع عبدا و له مال كان المال لمولاه.

ص: 344


1- - البقرة: 230 و 232.
2- - البقرة: 230 و 232.
3- - سنن الدار قطني: 1- 84 برقم 2 و 3- 221 برقم 10 و سنن البيهقي: 7- 111 و 219 و 125 و سنن الدارمي: 2- 137.
4- - سنن الدارمي: 2- 138 و سنن البيهقي: 7- 115 و 118 و 122 و سنن الدار قطني: 3- 239 برقم 65.
5- - سنن الدار قطني: 3- 239 برقم 66 و 67 و سنن البيهقي: 7- 118 باب ما جاء في إنكاح الثيب.
6- - سنن البيهقي: 7- 105 و 138.

و تعلقهم بما رووه من قوله عليه السلام: لا نكاح إلا بولي (1)، يسقط بمثل ما قدمناه من القدح، و المعارضة، و بأنه خبر واحد، و بأنا نقول بموجبه، لأن الولي هو الذي يملك العقد، و المرأة عندنا هذه حالها، فإذا عقدت النكاح كان ذلك نكاحا بولي، و لفظة «ولي» تقع على الذكر و الأنثى بغير شبهة على من يعرف اللغة، كما تقع عليها لفظة «وصي» و بأنا نحمله على نفي الفضيلة، كما قال عليه السلام:

لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد (2)، و لا صدقة و ذو رحم محتاج. (3)

الفصل الأول

و ليس من شرط صحة العقد الشهادة، بل من مستحباته، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (4) فقد أمر تعالى (5) بالنكاح، و لم يشترط الشهادة، و لو كانت شرطا لذكرها.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، و استحللتم فروجهن بكلمة الله [1]، و لا كلام يستباح به فرج المرأة إلا الإيجاب و القبول، فيجب بظاهر الخبر حصول الاستباحة بذلك، من غير أمر آخر سواه، و لا يجوز حمل الخبر على أن المراد بكلمة الله قوله

ص: 345


1- - سنن الدار قطني: 3- 225 برقم 21 و 22 و 23 و 24 و سنن البيهقي: 7- 105 و 124 باب لا نكاح إلا بولي مرشد.
2- - سنن الدار قطني: 1- 420 برقم 1، و سنن البيهقي: 3- 111 و 174.
3- - الوسائل: 6- 286 ب 20 من أبواب الصدقة ح 4.
4- - النور: 32.
5- - في الأصل و «س»: بدليل الإجماع و أيضا فقد أمر تعالى.

تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (1)، و ما أشبه ذلك، لأن المستفاد به الإذن فيما يقع به تحليل الفرج، و هو ما قلناه، من الإيجاب و القبول، و لهذا لا يستغنى بذلك عنها.

و تعلقهم بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا نكاح إلا بولي و شاهدي عدل (2)، قد بينا الجواب عنه، على أن أبا حنيفة لا يصح على مذهبه أن يزيد الشهادة بأخبار الآحاد، لأن عنده أن كل زيادة في القرآن توجب النسخ، و نسخ القرآن لا يجوز بأخبار الآحاد.

الفصل الثاني

و ليس من شرط صحة عقد الدوام ذكر المهر بلا خلاف، بل من مستحباته، و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (3)، و الطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح.

و المهر ما تراضي عليه الزوجان، دائما كان العقد أو مؤجلا، مما له قيمة، و يحل تملكه (4)، قليلا كان أو كثيرا، و يجوز أن يكون تعليم شي ء من القرآن و لو كان آية واحدة، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (5)، و في موضع آخر فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (6)، و الاسم يتناول القليل و الكثير، و أيضا قوله تعالى وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «7»، و لم يفرق بين القليل و الكثير، و عند المخالف

ص: 346


1- - النور: 32.
2- - سنن الدار قطني: 3- 225 برقم 21 و 22 و 23 و سنن البيهقي: 7- 124 و 125.
3- - البقرة: 236.
4- - في «س»: تمليكه.
5- - النساء: 4 و 24
6- - النساء: 4 و 24

إذا فرض لها خمسة دراهم وجبت كلها.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: أدوا العلائق، فقيل له: ما العلائق؟ فقال: ما تراضى عليه الأهلون [1]، و قوله عليه السلام: من استحل بدرهمين فقد استحل (1)، و قوله عليه السلام: لا جناح على امرئ أصدق امرأة صداقا قليلا أو كثيرا (2)، و قوله عليه السلام للرجل الذي طلب منه تزويج المرأة: زوجتكها بما معك من القرآن (3)، بعد أن طلب منه أن يصدقها بشي ء، و قال له: التمس و لو خاتما من حديد (4).

و الظاهر أنه عليه السلام جعل ما معه من القرآن صداقا، لأنه لم يطلب الفضل و الشرف، و إنما طلب المهر، و لأنه قال: «بما معك» و الباء تدل على البدل و العوض، و لو أراد الشرف لقال: لما معك من القرآن، و لا يصح جعل القرآن صداقا إلا على وجه التعليم له، و في خبر آخر عن أبي هريرة أنه قال عليه السلام للرجل:

قم فعلمها عشرين آية و هي امرأتك (5)، و هذا نص.

و لا يجوز (6) أن يقول الإنسان لغيره: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك،ح.

ص: 347


1- - الأم: 5- 95 و سنن البيهقي: 7- 238 و فيه: «بدرهم» و نقله الشيخ في الخلاف، كتاب الصداق، المسألة 2.
2- - سنن الدار قطني: 3- 244 برقم 7 و 8 باختلاف يسير، و نقله الشيخ في الخلاف كتاب الصداق المسألة 2 كما في المتن.
3- - سنن الدار قطني: 3- 247 برقم 21 و سنن البيهقي: 7- 144 و سنن الدارمي: 2- 142 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 336.
4- - تقدم مصدر الحديث آنفا.
5- - سنن أبي داود: 2- 236 برقم 2112 و بداية المجتهد: 2- 19.
6- - في «ج»: و لا يصح.

على أن يكون بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى، لأن ذلك هو نكاح الشغار، الذي نهى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عنه، و لا خلاف من أصحابنا في تحريمه. (1)

و يجوز جعل العتق مهرا، بأن يقول لأمته: قد تزوجتك و جعلت عتقك مهرك، و لو قال: قد أعتقتك و تزوجتك و جعلت عتقك صداقك، ثبت العتق، و كانت مخيرة في التزويج به.

و إذا عين المهر حالة العقد، كان للزوجة أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض جميعه، فإذا قبضته فله نقلها إلى منزله، و ليس لها الامتناع، و لو دخل بها، و هو أو بعضه باق في ذمته، لم يكن لها منع نفسها منه حتى تقبض ذلك، و إنما لها المطالبة به فقط.

و إذا لم يسم لها مهرا حالة العقد، و دخل بها، فإن كان أعطاها قبل الدخول شيئا، و قبضته منه، لم يكن لها غيره، لأنها لو لم ترض به لما مكنته من نفسها، و إن لم يكن أعطاها شيئا، لزمه مهر مثلها، و يعتبر في ذلك السن، و النسب، و الجمال، و التخصيص، و كلما يختلف المهر لأجله، فإن نقص عن مهر السنة، و هو خمسمائة درهم فضة أو قيمتها خمسون دينارا، لم يكن لها غيره، و إن زاد على ذلك رد إليه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و إذا وقع العقد على عبد مجهول، أو دار مجهولة، صح، و كان لها من أوسط العبيد أو الدور، و إذا وقع على عين محرمة، كالخمر، و عين الغصب، صح العقد و بطل المسمى بلا خلاف، إلا من مالك (2) و بعض أصحابنا (3)، و نبين صحة ماظ.

ص: 348


1- - في «ج»: و لا خلاف في تحريمه.
2- - لاحظ بداية المجتهد: 2- 27 و المغني لابن قدامة: 8- 23.
3- - الشيخ: النهاية- 469 و الحلبي: الكافي- 293 و نسب العلامة- قدس سره- في المختلف من الطبع القديم ص 541 هذا القول إلى الشيخ المفيد و ابن البراج و ما في النسخة المطبوعة من المقنعة و المهذب خلاف ذلك، فلاحظ.

اخترناه، أن أكثر ما يلزم في هذه الصورة سقوط المسمى، و ذلك لا يؤثر في صحة العقد، لأنا قد بينا أنه لا خلاف في صحته مع عدم ذكر المهر.

و الزوجة تملك الصداق المسمى لها كله بنفس العقد، و هو من ضمان الزوج إن تلف قبل القبض، و من ضمانها إن تلف بعده، خلافا لمالك، فإن دخل بها أو مات عنه استقر كله بلا خلاف، و إن طلقها قبل الدخول بها رجع بنصف العين التي قدمها، دون الزيادة المنفصلة الحادثة في يد الزوجة، كحمل الحيوان، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ (1)، و الظاهر أن الكل لهن من غير فصل بين ما قبل الدخول و بعده.

و من لم يسم لها مهر إذا طلقت قبل الدخول، فلا مهر لها، و لها المتعة، و يعتبر بحال الزوج، فعلى الموسر خادم أو دابة أو ما أشبه ذلك، و على المتوسط ثوب أو ما أشبهه، و على الفقير خاتم أو نحوه، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. (2)

و إذا أصدقها على أن لأبيها ألفا، صح العقد بلا خلاف، و يجب عليه الوفاء بما سمى لها، و هو بالخيار فيما شرط لأبيها، بدليل إجماع الطائفة، و لو أصدقها و شرط أن لا يتزوج عليها و لا يتسرى، لصح النكاح و الصداق، و بطل الشرط، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فذلك شرط يخالف الكتاب و السنة، فكان باطلا.

و لو شرط في النكاح أن لا يسافر بها، لكان الأولى الوفاء بذلك، لقوله عليه السلام:

المؤمنون عند شروطهم (3)، و إذا شرط في النكاح أو فيه و في الصداق معا خيارن.

ص: 349


1- - النساء: 4.
2- - البقرة: 236.
3- - بداية المجتهد: 2- 296 و البحر الزخار: 5- 76 و سنن البيهقي: 6- 79 و 7- 249 و كنز العمال: 4- 363 برقم 10918 و 10919 و لفظ الحديث في بعضها: المسلمون. و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 كما في المتن.

المدة، بطل النكاح و الصداق، لأن ثبوت عقد النكاح حكم شرعي يحتاج إلى دلالة شرعية، و ليس في الشرع ما يدل على ثبوت ذلك ها هنا.

و لو شرط الخيار في الصداق وحده، لم يبطل النكاح، و صح الشرط و الصداق، لقوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم (1)، و هذا شرط لا يخالف الكتاب و السنة، فكان صحيحا. (2)

و من السنة في عقد الدوام الخطبة قبله- بلا خلاف إلا من داود فإنه قال:

واجبة- و الإعلان به، و الوليمة له، و اجتماع الناس، بدليل إجماع الطائفة، و لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها بإيجاب شي ء من ذلك، يفتقر إلى دليل.

الفصل الثالث

و لا يجوز للحر أن يجمع في عقد الدوام بين أكثر من أربع حرائر، أو أمتين، و لا للعبد أن يجمع بين أكثر من أربع إماء، أو حرتين، و إذا اجتمع عنده أربع حرائر، لزم العدل بينهن في المبيت، و لا يفضل واحدة إلا برضى الأخرى، بلا خلاف، فإن كان عنده زوجتان جاز أن يفضل إحداهما بليلتين، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فإن له حقا، بدلالة أن له أن يتزوج اثنتين أخراوين، فجاز أن يجعل نصيبهما (3) لإحدى زوجتيه.

و إن كان له زوجتان حرة و أمة، كان للحرة ليلتان و للأمة ليلة، بدليل

ص: 350


1- - تقدم مصدره آنفا.
2- - في «س»: فكان صحيحا هنا.
3- - في الأصل و «س»: «أن يجعل نصيبه» و الصحيح ما في المتن.

الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما روى من قوله عليه السلام: من نكح أمة على حرة فللحرة ليلتان و للأمة ليلة (1)، و هذا نص، و روي مثل ذلك عن علي عليه السلام (2) و لا مخالف له في الصحابة.

و إن كان عنده زوجة أو أكثر، فتزوج بأخرى، فإن كانت بكرا، فلها حق التقديم و حق التخصيص بسبعة أيام، و إن كانت ثيبا، فلها حق التقديم و التخصيص بثلاثة أيام، من غير قضاء، أو سبعة يقضيها في حق الباقيات، و لها الخيار في ذلك، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يحتج على المخالف في التخصيص- فإن التقديم لا خلاف فيه- بما رووه من قوله عليه السلام: للبكر سبع و للثيب ثلاث (3)، فأضاف إليهما ذلك بلام الملك، و قوله لأم سلمة [1] لما دخلت عليه: إن شئت سبعت عندك، و سبعت عندهن، و إن شئت ثلثت عندك و درت. (4)

الفصل الرابع

و يكره للحر أن يتزوج بأمة (5) و هو يجد طولا للحرة، و لا يخاف على نفسه

ص: 351


1- - لاحظ سنن الدار قطني: 3- 285 و سنن البيهقي: 7- 299 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب القسم بين الزوجات المسألة 3 كما في المتن.
2- - لاحظ سنن الدار قطني: 3- 285 و سنن البيهقي: 7- 299 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب القسم بين الزوجات المسألة 3 كما في المتن.
3- - سنن الدار قطني: 3- 283 برقم 140 و الجامع الصغير: 2- 416 و نقله الشيخ في الخلاف كتاب القسم بين الزوجات المسألة 6 و لاحظ سنن البيهقي: 7- 301 و 302.
4- - سنن البيهقي: 7- 300 باب الحال التي يختلف فيها حال النساء و نقله الشيخ في الخلاف كتاب القسم بين الزوجات المسألة 6 و لاحظ سنن الدار قطني: 3- 283 و 284.
5- - في «ج»: أن يتزوج أمة.

العنت، بدليل إجماع الطائفة، و لا يجوز للحر أن يتزوج أمة، و لا للحرة أن تتزوج عبدا إلا بإذن السيد، فإن فعلا ذلك بغير إذنه، كان العقد موقوفا على إجازته، و الولد حر مع الإذن، إلا أن يشترط الرق، و رق مع عدمه.

و إذا مات السيد أو باع العبد، فالوارث و المبتاع بالخيار بين إمضاء العقد و فسخه، و كذا لو أعتق الأمة، كان الخيار لها في ذلك، سواء كان الزوج حرا أو عبدا، و إذا حصل الرضا من هؤلاء، لم يكن لهم بعد الرضا خيار، و لا توارث بين الزوجين إذا كان أحدهما رقا.

و إذا زوج عبده بأمة غيره فالطلاق بيد الزوج، و الولد- إن لم يكن هناك شرط أنه رق لأحد السيدين- بينهما في الملك على السواء، و من زوج عبده بأمته، استحب له أن يعطيها شيئا من ماله مهرا، و الفراق بينهما بيده، يأمر كل واحد منهما باعتزال صاحبه متى شاء، و ليس للزوج طلاق على حال، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

الفصل الخامس

و إذا كانت الزوجة ممن يصح الدخول بها، لبلوغها تسع سنين فصاعدا، و تسلمها الزوج، لزمه إسكانها، و الإنفاق في كسوتها و إطعامها بالمعروف، و لزمها طاعته في نفسها، و ملازمة منزله، فإن عصته و هي مقيمة فيه، وعظها و خوفها الله تعالى، فإن لم يؤثر ذلك هجرها بالإعراض عنها، و اعتزال الفراش، أو تحويل وجهه عنها فيه، فإن لم يؤثر ذلك ضربها ضربا رفيقا (1) غير مؤثر في جسدها، و لا يترك ما تضطر إليه من غذاء و لباس.

فإن خرجت من منزله بغير إذنه، أو بإذنه و امتنعت من العود إليه، سقط

ص: 352


1- - في «ج»: دقيقا.

عنه فرض نفقتها، و كان له ردها إليه و إن كرهت، و تأديبها بما قدمناه، قال الله تعالى وَ اللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ (1)، و قال كثير من أهل التفسير: معنى تَخافُونَ تعلمون، و من لم يقل ذلك، و حمل الخوف على ظاهره، لا بد أن يضمر: «و علمتم ذلك منهن» لأن بمجرد الخوف من النشوز و قبل حصوله، لا يفعل شي ء مما ذكرناه.

و أما الزوج إذا نشز على المرأة، و كره المقام معها و هي راغبة فيه، فلا بأس أن تبذل له على استدامة المقام معه شيئا من مالها، و تسقط عنه فرض نفقتها و الليلة التي لها منه، و يصطلحا على ذلك، قال الله تعالى وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ. (2)

و الشقاق بين الزوجين يكون بأن يكره كل واحد منهما صاحبه، و يقع بينهما الخصام، و لا يستقر بينهما صلح، لا على طلاق (3)، و لا على مقام من غير شقاق، و أيهما رفع الخبر إلى الحاكم، فعليه أن يبعث رجلين مأمونين، أحدهما من أهل الزوج و الآخر من أهل المرأة ينظران بينهما، فإن أمكنهما الإصلاح نجزاه (4)، فإن رأيا أن الفرقة أصلح، أعلما الحاكم بذلك، ليرى رأيه.

و ليس له إجبار الزوج على الطلاق إلا أن يمنع من حقوق الزوجة واجبا عليه (5)، قال الله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما. (6)5.

ص: 353


1- - النساء: 34.
2- - النساء: 128.
3- - في «ج»: إلا على طلاق.
4- - في «ج»: تحراه.
5- - في «ج»: إلا أن يمنع من حقوق الزوجية ما وجب عليه.
6- - النساء: 35.

و من تزوج امرأة على أنها حرة فخرجت أمة، أو بنت حرة فخرجت بنت أمة، أو سليمة فخرجت مجذومة، أو برصاء، أو عمياء، أو رتقاء، أو مفضاة، أو مجنونة، أو عرجاء- و من أصحابنا من ألحق بذلك كونها محدودة في الزنا (1)- كان له ردها، و فسخ العقد بغير طلاق، بإجماع الطائفة، و يأخذ ما دفع إليها من المهر إلا أن يكون قد وطئها قبل العلم بالعيب، فإنه يكون المهر لها بما استحل من فرجها، و يرجع به على من تولى أمرها، إن كان علم بالعيب، و دلسها عليه.

و إن كانت أمة فرزق منها ولدا، فإن كان عقد على أنها حرة بشهادة شاهدين لها بالحرية، فالولد حر، و يرجع السيد بقيمة الولد و المهر على من تولى أمرها، و إن كان عقد من غير بينة بذلك، فولدها رق، و يلزم سيدها دفعه إلى الأب بالقيمة، و على الأب دفعها إليه، فإن لم يكن له مال استسعى فيها، فإن أبى ذلك، فعلى الإمام القيام بها من سهم الرقاب، و على الأب لمولى الجارية، عشر قيمتها إن كانت بكرا، و نصف عشرها إن لم تكن كذلك.

و إن علم الزوج بأحد هذه العيوب، فوطئها، أو رضي به، لم يكن له بعد ذلك رد، و لا أخذ شي ء من المهر، و يكون الولد من الأمة رقا لسيدها إن كان العقد بغير إذنه، و لا يلزم دفعه بالقيمة بلا خلاف.

و الحرة إذا تزوجت برجل على أنه حر، فظهر عبدا، أو سليم، فظهر أنه مجنون، أو عنين، أو مجبوب، فلها الرد، و لا يرد الرجل بغير هذه العيوب- و حكم الولد من العبد ما قدمناه من حكم ولد الأمة- غير أن العنين يجب الصبر عليه سنة، فإن تعالج و وصل إليها فيها و لو مرة واحدة، فلا خيار لها في رده، و إن لم يصل إليها في هذه المدة، فلها الخيار، و هذا حكم العنة الحادثة بعد الدخول و الصحة، بدليل إجماع الطائفة.

و الجنون الحادث بعد الدخول، إن كان يعقل معه أوقات الصلاة، فلا خيار1.

ص: 354


1- - القاضي: المهذب: 2- 231.

لها في فراقه، و إن كان لا يعقل ذلك، كان لها الخيار، و لزم وليه أن يطلقها منه، إن طلبت الفراق بلا خلاف بين أصحابنا.

و إذا حدث بالزوجة بعد الدخول أحد ما قدمناه من العيوب، لم يكن للزوج به فسخ العقد، و إنما يفارقها إذا شاء بالطلاق، على خلاف بينهم في ذلك.

و يجوز لمن أراد نكاح امرأة أن ينظر إلى وجهها و كفيها، بدليل إجماع الطائفة، و قد روى جابر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها و كفيها (1)، و روى أبو الدرداء [2] أنه قال: إذا طرح الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها. (2)

الفصل السادس

و أما نكاح المتعة تفتقر صحته إلى شرطين زائدين على ما تقدم من الشروط:

أحدهما تعيين الأجر (3) و الثاني تعيين الأجل، فإن ذكر الأجر دون الأجل كان دواما، و إن ذكر الأجل فقط، فسد العقد، و يستحب ذكر ما عدا هذين الشرطين، نحو أن يقول: على أن لا ترثيني و لا أرثك، و أن أضع الماء حيث شئت، و أنه لا

ص: 355


1- - رواه النووي في المجموع في شرح مهذب الشيرازي: 17- 215 من الطبعة الوحيدة، الناشر مكتبة الإرشاد، جدة المملكة العربية السعودية، كتاب النكاح.
2- - رواه النووي في المجموع: 17- 123- 214 و أحمد بن حنبل في مسنده: 4- 226 عن محمد بن سلمة باختلاف يسير.
3- - في «ج»: تعيين المهر.

سكنى لك و لا نفقة، و عليك العدة إذا انقضت المدة.

و المتمتع بها لا يتعلق بها حكم الإيلاء، و لا يقع بها طلاق، و لا يصح بينها و بين الزوج لعان، و يصح الظهار، و انقضاء الأجل يقوم في الفراق مقام الطلاق، و يدل على ذلك كله إجماع الطائفة، و لا سكنى لها، و لا نفقة، و لا توارث بينهما، بلا خلاف بينهم أيضا، و لو شرط ذلك كله، لم يجب أيضا عند بعض أصحابنا (1)، لأنه شرط يخالف السنة، و عند بعضهم يثبت بالشرط. (2)

و يجوز الجمع في هذا النكاح بين أكثر من أربع، و لا يلزم العدل بينهن في المبيت، و يلحق الولد بالزوج، و يلزم الاعتراف به إذا وطئ في الفرج و إن كان يعزل الماء، بدليل الإجماع المشار إليه.

و يدل أيضا على إباحة نكاح المتعة أن ذلك هو الأصل في العقل، و إنما ينقل (3) عن الأصل العقلي بدليل، و لا دليل يقطع به في ذلك، فوجب البقاء على حكم الأصل، و أيضا فهذا النكاح كان مباحا في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا خلاف، و إنما ادعى النسخ، و على من ادعاه الدليل.

و أيضا قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (4) الآية، و الاستمتاع بالنساء بعرف الشرع مختص بهذا العقد، فوجب حمل الآية عليه به.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بالاستمتاع ها هنا الالتذاذ و الانتفاع دون العقد المخصوص، بدليل أن قوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ، يتناول عقد الدوام بلا خلاف؟

قلنا: لا يجوز حمل لفظ الاستمتاع على ما ذكر لأمرين: أحدهما: أنه يجب4.

ص: 356


1- - الحلبي: الكافي- 298.
2- - الشيخ: النهاية- 492.
3- - كذا في الأصل: و لكن في «ج» و «س»: ينتقل.
4- - النساء: 24.

حمل الألفاظ الواردة في القرآن على ما يقتضيه العرف الشرعي، دون الوضع اللغوي، على ما بيناه في أصول الفقه، و الثاني: أن الالتذاذ لا اعتبار به في وجوب المهر، لأنا لو قدرنا ارتفاعه عمن وطئ زوجته و لم يلتذ، لأن نفسه كرهتها، أو لغير ذلك، لوجب المهر بالاتفاق، فيثبت أن المراد ما قلناه.

و أما إباحته تعالى بالآية نكاح الدوام، فغير مناف لما ذكرناه، من إباحة نكاح المتعة، لأنه سبحانه عم الأمرين معا بقوله وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، ثم نص سبحانه نكاح المتعة بقوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.

و يؤيد ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام و عبد الله بن عباس و ابن مسعود و مجاهد [1] و عطاء [2] من أنهم كانوا يقرأون: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى» (1) و قوله تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ (2)، و المراد بذلك على ما اتفق عليه أصحابنا. و رووه عن آل الرسول عليه و عليهم السلام الزيادة من الزوج في الأجر، و من الزوجة في الأجل.

و تعلق المخالف [3] بقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (3)، و ادعاؤهم أن المتمتع بها ليست زوجة، لأنها لا ترث و لا تورث و لا تبين بالطلاق، و لا يلحقها حكم الإيلاء و الظهار، و لا يصح بينها و بين زوجها7.

ص: 357


1- - سنن البيهقي: 7- 205 و لاحظ مجمع البيان: 3- 32.
2- - النساء: 24.
3- - المؤمنون: 5- 7.

لعان، و لا يلحق الولد بزوجها، و لا تعتد لانقضاء الأجل و للوفاة إذا كانت حرة، كعدة الحرائر من الأزواج، و لا تحلل للمطلق ثلاثا، العود إلى الزوجة، و لا يجب لها سكنى و لا نفقة [1]، ليس بشي ء يعول على مثله، لأن الأحكام الشرعية إنما تثبت بالأدلة الشرعية، و لا مدخل فيها للقياس على ما بيناه في أصول الفقه. (1)

و إذا ثبت ذلك، و كان الدليل الشرعي قد قدر (2) هذه الأحكام في المتمتع بها، وجب القول بها، و لم يجز قياسها على غيرها من الزوجات.

على أن ما ذكروه من الميراث ينتقض بالقاتلة لزوجها، فإنها لا ترثه، و بالزوجة إذا كانت ذمة أو أمة، فإنه لا توارث بينها و بين زوجها.

و أما الطلاق فقد قام مقامه في الفرقة غيره في كثير من الزوجات، كالملاعنة، و المرتدة، و الأمة المبيعة، و المالكة لزوجها، فما أنكروا أن يكون انقضاء الأجل يقوم في الفرقة مقام الطلاق، و لا يحتاج إليه؟! و ليس لأحد أن يقول: فإلا وقع الطلاق قبل انقضائه؟! لأن كل من أجاز النكاح إلى أجل، منع من وقوع الطلاق قبله، فالقول بأحد الأمرين دون الآخر، يبطله الإجماع.

و أما الإيلاء فإن الله تعالى علق حكم من لم يراجع و يكفر بالطلاق (3)، و لا يقع بالمتمتع بها طلاق، فلا يلحقها حكم الإيلاء، مع أنه قد يكون أجل المتعة أقل من الأجل المضروب في الإيلاء، و هو أربعة أشهر، فكيف يصح في هذا النكاح الإيلاء؟

و أما اللعان فعند أبي حنيفة أن الشرط في وقوعه بين الزوجين أن يكونا حرين مسلمين، و عنده أن الأخرس لا يصح قذفه و لا لعانه، فلا يصح له التعلق في نفيق.

ص: 358


1- - في «ج»: على ما بيناه فيما مضى في أصول الفقه.
2- - في «ج»: قد قرر.
3- - في «ج»: حكم من يراجع و لم يكفر بالطلاق.

زوجية المتمتع بها بانتفاء اللعان.

و أما الظهار فيقع بالتمتع بها عندنا، و يلحق الولد بأبيه في هذا النكاح، بخلاف ما ظنوه.

و أما العدة إذا انقضى أجلها فقرءان، و قد ثبت بلا خلاف أن عدة الأمة كذلك، و إن كانت زوجة، و إذا توفي زوجها قبل انقضاء الأجل، فعدتها عندنا أربعة أشهر و عشرة أيام، كعدة المعقود عليها عقد الدوام.

و ما يتعلق به المخالف في تحريم المتعة من الأخبار، أخبار آحاد لو سلمت من القدح في رواتها و المعارضة لها، لم يجز العمل في الشرع بها، فكيف و قد طعن أصحاب الحديث في رواتها، و ضعفوهم بما هو مسطور؟! و عارضها أخبار كثيرة في إباحة المتعة، و استمرار العمل بها، حتى ظهر من نهي عمر عنها ما نقله الرواة؟! و قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حلالا أنا أحرمهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحج (1) يبطل دعوى المخالف: أن النبي عليه السلام هو الذي حرمها، لأنه اعترف بأنها كانت حلالا في عهده، و أضاف النهي و التحريم إلى نفسه.

فإن قيل: كيف يصرح بتحريم ما أحله النبي عليه السلام، و لا ينكر ذلك عليه؟

قلنا: ارتفاع النكير يحتمل أن يكون للتقية، و يحتمل أن يكون لشبهة، و هي اعتقاد التغليظ و التشديد في إضافة النهي إليه، و إن كان النبي عليه السلام هو الذي حرمها، أو اعتقاد جواز نهي بعض الأئمة عما أباحه الله إذا أشفق في استمرار عليه من ضرر في الدين (2).12

ص: 359


1- - سنن البيهقي: 7- 206 باب نكاح المتعة و كنز العمال: 16- 519 برقم 45715، 45722 و المغني لابن قدامة: 7- 572، و الغدير: 6- 211.
2- - و للسيد المرتضى قدس سره كلام في المقام جدير بالمطالعة، لاحظ الانتصار: 112

و هذا الوجه هو الذي حمل الفقهاء نهي عمر عن متعة الحج عليه، على أن المتمتع لا يستحق حدا من رجم و لا غيره باتفاق، و قد قال عمر: لا أوتي بأحد تزوج متعة إلا رجمته بالحجارة (1)، و ما أنكر أحد ذلك عليه، و مهما اعتذروا به عن ذلك، كان عذرا في ترك النكير لتحريم المتعة.

الفصل السابع

و أما ملك اليمين فيكون بأحد أسباب التمليك، و إذا انتقلت إلى الملك بأحد أسبابه، لم يجز وطؤها حتى تستبرئ بحيضة أو خمسة و أربعين يوما إن كانت ممن لا تحيض، إلا أن يكون البائع لها قد استبرأها قبل البيع، و هو ممن يوثق بأمانته، فإنه لا يجب على المشتري- و الحال هذه- استبراؤها، و إنما يستحب له ذلك، فإن كانت حاملا لم يجز له وطؤها في الفرج- حتى يمضى لها أربعة أشهر- إلا بشرط عزل الماء، فإن لم يعزل لم يجز له بيع الولد، و لا أن يعترف به ولدا، بل يجعل له قسطا من ماله، لأنه غذاه بنطفته، بدليل إجماع الطائفة.

و لا يحل وطء الأمة إذا كان بعضها حرا و بعضها رقا، بل يكون لمالك البعض من خدمتها في الزمان بمقدار ما يملكه منها، و لها من نفسها بمقدار ما هو حر منها، و قد روى أنه يجوز أن يعقد عليها في يومها عقد المتعة خاصة. (2)

و إن كانت مشتركة بين شريكين لم يجز لأحدهما وطؤها، إلا أن يحلله شريكه من ذلك، على ما رواه أصحابنا (3)، و لا بد من اعتبار لفظ التحليل، بأن يقول:

حللتك من وطئها، أو: جعلتك منه في حل، و كذا لو كانت خاصة في الملك، فإنه يجوز وطؤها لغير المالك بتحليله لها، فإن وطئها أحد الشريكين من غير تحليل، أثم

ص: 360


1- - كنز العمال: 16- 520 برقم 45716 و 45725 و سنن البيهقي: 7- 206 باب نكاح المتعة باختلاف يسير و نقله السيد المرتضى في الانتصار ص 112.
2- - لاحظ النهاية: 494 كتاب النكاح باب السراري و ملك الأيمان.
3- - لاحظ النهاية: 494 كتاب النكاح باب السراري و ملك الأيمان.

و وجب تأديبه، فإن جاءت بولد ألحق به، و لزمه لشريكه سهمه من قيمته، فإن وطأها جميعا إثما و أدبا، فإن جاءت بولد ألحق بمن خرج له اسمه بالقرعة، و دفع إلى شريكه مقدار نصيبه من قيمته.

و يجوز شراء الجارية و وطؤها، و إن سباها الظالمون، إذا كانت مستحقة للسبي و إن لم يخرج منها الخمس، لتحليل مستحقيه شيعتهم (1) إياهم خاصة من ذلك لتطيب مواليدهم، و يجوز وطؤها و إن لم تسلم إذا كانت كتابية.

و متى ملك المرء من يحرم عليه مناكحته بالنسب، عتق عليه عقيب ملكه بلا فصل، و يجري على أم الولد جميع أحكام الرق إلا بيعها و ولدها حي (2) في غير ثمنها، فإنه لا يجوز [بيعها] (3) على ما بيناه في كتاب البيع، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه.

و يجوز الجمع في الوطء بملك اليمين بين قليل العدد و كثيره، و يجوز الجمع بين المحرمات بالنسب و السبب في الملك، دون الوطء، على ما دللنا عليه فيما مضى.

و وطء الحلائل من النساء في الدبر غير محظور، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ (4)، و معنى أَنّى شِئْتُمْ من أين شئتم، و كيف شئتم، في قول العلماء بالتفسير و اللغة، و حمل ذلك على الوقت، و أن يكون المعنى «متى شئتم» على ما حكى عن الضحاك [1] خطأ عند جميعهم.

و قول المخالف: إذا سمى الله تعالى النساء حرثا، وجب أن يكون الوطء3.

ص: 361


1- - في «ج»: لشيعتهم.
2- - في «ج»: و ولدها حر.
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
4- - البقرة: 223.

حيث يكون النسل، لا يعول على مثله، لأنه لا يمتنع تسميتهن بذلك، مع إباحة وطئهن فيما لا يكون منه الولد، لأنه (1) لا خلاف في جواز وطئهن فيما عدا القبل و الدبر، لأنه لو صرح بأن قال: فأتوا حرثكم أنى شئتم، من قبل و دبر لحسن و لما (2) كان متنافيا، و لو كان ذكر الحرث يمنع من الوطء في الدبر، لتنافى ذلك و لم يحسن التصريح به.

و من يقول: إن المراد بالآية إباحة وطء المرأة في قبلها من جهة دبرها، خلافا لما يكرهه اليهود، مخصص للظاهر (3) من غير دليل، و لو صح نزول الآية على هذا السبب، لم يجز (4) أكثر من مطابقتها له، فأما منع تعديها إلى غيره مما يقتضيه ظاهرها فلا يجب.

و قد حكى الطحاوي [1] عن الشافعي أنه قال: ما صح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في تحريم ذلك و لا تحليله شي ء، و القياس أنه مباح (5)، و حكى عن مالك أنه قال:

ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أن وطء المرأة في دبرها حلال، و تلا الآية، و روى مالك [2] ذلك عن نافع عن ابن عمر. (6)ة.

ص: 362


1- - في «ج» و «س»: بدليل انه.
2- - في «س»: لحسن منه و لما.
3- - في الأصل: «مخصص لظاهر» و راجع في توضيح مقالة اليهود إلى المجمع: 1- 320 و سنن البيهقي: 7- 195.
4- - في «ج»: لم يجب.
5- - الدر المنثور: 1- 638 في ذيل الآية 223 من سورة البقرة، و نيل الأوطار: 6- 201.
6- - الدر المنثور: 1- 638 في ذيل الآية 223 من سورة البقرة و روح المعاني: 2- 124 في تفسير الآية.

الفصل الثامن

و أما ما يقتضي تحريم الحلائل من النساء فعلى ضربين:

أحدهما: يصاحب ما يقتضي تحليلهن.

و الثاني: يوجب فسخه.

فالأول: الدخول في الإحرام، و الصوم الواجب، و حدوث دم الحيض و النفاس، و الإيلاء و الظهار.

و الثاني: الطلاق و اللعان و الارتداد، على ما نبينه.

الفصل التاسع: في الإيلاء

يفتقر الإيلاء الشرعي- الذي يتعلق به إلزام الزوج بالفيئة أو الطلاق، بعد مطالبة الزوجة بذلك- إلى شروط:

منها: أن يكون الحالف بالغا كامل العقل.

و منها: أن يكون المولى منها زوجة دوام.

و منها: أن يكون الحلف بما ينعقد به الأيمان من أسماء الله تعالى خاصة.

و منها: أن يكون ذلك مطلقا من الشروط.

و منها: أن يكون مع النية و الاختيار، من غير غضب ملجى ء و لا إكراه.

ص: 363

و منها: أن تكون المدة التي حلف أن لا يطأ الزوجة فيها، أكثر من أربعة أشهر.

و منها: أن تكون الزوجة مدخولا بها.

و منها: أن لا يكون الإيلاء في صلاحه لمرض يضر به الجماع، أو في صلاح الزوجة، لمرض، أو حمل، أو رضاع. (1)

يدل على ذلك كله إجماع الطائفة، و أيضا فإن وقوع الإيلاء و تعلق الأحكام به، طريقه الشرع، و لا خلاف في ثبوت ذلك مع تكامل ما ذكرناه، و ليس على ثبوته مع اختلال بعضه دليل، فوجب نفيه، و يخص ما اشترطناه من كونها زوجة دوام ما قدمناه في فصل المتعة.

و يحتج على المخالف فيما اعتبرناه من كون اليمين بأسماء الله تعالى خاصة بما رووه من قوله عليه السلام: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2)، و يحتج عليه في النية بقوله عليه السلام: إنما الأعمال بالنيات (3)، و المراد أن أحكام الأعمال إنما تثبت بالنية، لما علمناه من حصول الأعمال في أنفسها من غير نية، و يحتج عليه في الإكراه بما رووه من قوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه (4)، و يدخل في ذلك رفع الحكم و المآثم، لأنه لا تنافي بينهما.

و يخص كون المدة أكثر من أربعة أشهر قوله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (5)، فأخبر سبحانه أن له التربص هذه المدة، فثبت6.

ص: 364


1- - في «س»: أو إرضاع.
2- - سنن الدارمي: 2- 185 و سنن البيهقي: 10- 28.
3- - سنن البيهقي: 7- 341 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 25 و سنن الدار قطني: 1- 51 برقم 1.
4- - سنن البيهقي: 7- 356 و 357 و الجامع الصغير: 2- 16 برقم 4461 و سنن ابن ماجة: 1- 659 برقم 2045 و الفقيه: 1- 59 برقم 132.
5- - البقرة: 226.

أن ما يلزمه من الفيئة أو الطلاق يكون بعدها.

و يخص كونها مدخولا بها قوله تعالى فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)، لأن المراد بالفيئة العود إلى الجماع بلا خلاف، و لا يقال: عاد إلى الجماع، إلا لمن تقدم منه فعله، و هذا لا يكون إلا في المدخول بها.

و لا يصح اعتماد المخالف فيما ذكرناه من الشروط على ظاهر قوله تعالى:

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لأنا نخص ذلك بالدليل، على أنا نمنع من تسمية من أخل ببعض ما اشترطناه موليا، فعليهم أن يدلوا على ذلك حتى تتناوله الآية، و لا دليل لهم عليه.

و إذا تكاملت هذه الشروط في الإيلاء، فمتى جامع حنث، و لزمته كفارة يمين، و إن استمر اعتزاله لها، فهي بالخيار بين الصبر عليه و بين مرافعته إلى الحاكم، فإن رافعته إليه أمره بالجماع و التكفير، فإن أبى أنظره أربعة أشهر من حين المرافعة، لا من حين اليمين، ليراجع نفسه، فإن مضت هذه المدة، و لم يجب إلى ما أمره، فعليه أن يلزمه بالفيئة أو الطلاق، فإن أبى ضيق عليه في التصرف، و المطعم، و المشرب، حتى يفعل أيهما اختاره.

و لا تقع الفرقة بين الزوجين بانقضاء المدة، و إنما يقع بالطلاق، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ (2) فأضاف الطلاق إلى الزوج، كما أضاف الفيئة إليه، فكما أن الفيئة لا تقع إلا بفعله، فكذلك الطلاق، و قوله تعالى فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3)، لأنه يفيد أن هناك ما يسمع، و لا يوصف بذلك إلا الطلاق دون انقضاء المدة، و أيضا فإن الأصل بقاء العقد فمن ادعى أن انقضاء المدة طلقة بائنة، أو رجعية، فعليه الدليل.7.

ص: 365


1- - البقرة: 226.
2- - البقرة: 227.
3- - البقرة: 227.

و من آلى أن لا يقرب زوجته المعقود عليها عقد متعة، أو أمته، لزمه الوفاء، و متى لم يف حنث و عليه الكفارة، و لا حكم لها عليه إذا استمر على مقتضى الإيلاء.

الفصل العاشر: في الظهار

يفتقر صحة الظهار الشرعي إلى شروط:

منها: أن يكون المظاهر بالغا، كامل العقل، و لا يصح من صبي، و لا مجنون، و لا سكران.

و منها: أن يكون مؤثرا له، فلا يصح من مكره، و لا غضبان لا يملك مع غضبه الاختيار.

و منها: أن يكون قاصدا به التحريم، فلا يقع بيمين، و لا مع سهو، و لا لغو.

و منها: أن يكون متلفظا بقوله: أنت علي كظهر أمي، أو إحدى المحرمات عليه، فلو علق ذلك بغير الظهر، من رأس أو يد، أو غيرهما، لم يصح.

و منها: أن يكون ذلك مطلقا من الاشتراط، فلو قال: أنت كظهر أمي إن كان كذا، لم يصح، و إن حصل الشرط.

و منها: أن يكون موجها ذلك إلى معقود عليها، سواء كانت حرة، أو أمة، دائما نكاحها، أو مؤجلا، فلو قال: إذا تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، لم يقع بها ظهار و إن تزوجها.

و منها: أن يكون معينا لها، فلو قال- و له عدة أزواج-: زوجتي أو إحدى زوجاتي علي كظهر أمي، من غير تمييز لها بنية، أو إشارة، أو تسمية، لم يصح.

و منها: أن تكون طاهرا من الحيض، أو النفاس، طهرا لم يقربها فيه بجماع،

ص: 366

إلا أن تكون حاملا، أو ليست ممن تحيض، و لا في سنها من تحيض، أو غير مدخول بها، أو مدخولا بها و هي غائبة عن زوجها، فإنه لا اعتبار بهذا الشرط فيها.

و منها: أن يكون الظهار منها بمحضر من شاهدي عدل.

و يدل على ذلك كله ما قدمناه في اعتبار شروط الإيلاء من إجماع الطائفة، و نفي الدليل الشرعي على وقوعه مع اختلال بعضها، و لا يقدح فيما اعتمدناه من الإجماع خلاف من قال من أصحابنا (1) بوقوع الظهار مع الشرط، و بحصول التحريم، و ثبوت حكم الظهار مع تعليق اللفظ بغير الظهر، و بنفي وقوعه بغير المدخول بها، لتميزه من جملة المجتمعين باسمه و نسبه، على أن قوله تعالى:

وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ (2)، ينافي تعليقه بغير الظهر، و عدم وقوعه بغير المدخول بها، لأن الظهار مشتق من لفظ الظهر، و غير المدخول بها توصف بأنها من نساء الزوج.

و إذا تكاملت شروط الظهار، حرمت الزوجة عليه، فإن عاد لما قال، بأن يريد استباحة الوطء، لزمه أن يكفر قبله بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا.

و يدل على أن العود شرط في وجوب الكفارة ظاهر القرآن، و لأنه لا خلاف أن المظاهر لو طلق قبل الوطء لا تلزمه الكفارة، و هذا يدل على أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار، و يدل على أن العود ما ذكرناه، أن الظهار إذا اقتضى التحريم، و أراد المظاهر الاستباحة، و آثر رفعه، كان عائدا لما قال، و معنى قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا (3) أي المقول فيه (4) كقوله سبحانه وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (5)،9.

ص: 367


1- - الشيخ: الخلاف كتاب الظهار المسألة 3 و 9 و 20.
2- - المجادلة: 3.
3- - المجادلة: 3.
4- - في الأصل: أي لمقول فيه.
5- - الحجر: 99.

أي الموقن به، و كقوله عليه السلام: الراجع في هبته (1)، أي في الموهوب، و كما يقال: اللهم أنت رجاؤنا، أي مرجونا.

و لا يجوز أن يكون المراد بالعود الوطء، على ما ذهب إليه قوم، لأن قوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا (2) أوجب (3) الكفارة بعد العود و قبل الوطء، فدل على أنه غيره.

و لا يجوز أن يكون العود إمساكها بعد الظهار زوجة، مع القدرة على الطلاق، على ما قال الشافعي، لأن العود يجب أن يكون رجوعا إلى ما يخالف مقتضى الظهار، و إذا لم يقتض فسخ النكاح، لم يكن العود الإمساك عليه، و لأنه تعالى قال ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا، و ذلك يقتضي التراخي، و القول بأن العود هو البقاء على النكاح، قول بحصوله عقيب الظهار من غير فصل، فهو بخلاف الظاهر. (4)

و إذا جامع المظاهر قبل التكفير فعليه كفارتان: إحداهما كفارة العود، و الأخرى عقوبة الوطء قبل التكفير، بدليل إجماع الطائفة، و لأن بذلك يحصل اليقين ببراءة الذمة. (5)

و إن استمر المظاهر على التحريم فزوجة الدوام- و إن كانت أمة- بالخيار بين الصبر على ذلك و بين المرافعة إلى الحاكم، و على الحاكم أن يخيره بين التكفير و استباحة الجماع، و بين الطلاق، فإن لم يجب إلى شي ء من ذلك، أنظره، فإن فاء إلى أمر الله تعالى في ذلك، و إلا ضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يفي ء، و لا يلزمهة.

ص: 368


1- - تقدم مصدر الحديث ص 300.
2- - المجادلة: 3. و في «س»: لأنه تعالى قال فَتَحْرِيرُ.
3- - في «س»: لأنه تعالى قال:. فأوجب.
4- - في الأصل: بخلاف الظهار.
5- - كذا في «س» و لكن في الأصل و «ج»: لبراءة الذمة.

الحاكم بالطلاق إلا إذا كانت قادرا على الكفارة و أقام على التحريم مضارة، بدليل إجماع الطائفة.

و إذا طلق قبل التكفير سقطت عنه الكفارة، فإن راجع في العدة لم يجز له الوطء حتى يكفر، فإن خرجت من العدة، و استأنف العقد عليها، جاز له الوطء من غير تكفير، و من أصحابنا من قال: لا يجوز له الوطء إلا أن يكفر على كل حال (1)، و ظاهر القرآن معه، لأنه يوجب الكفارة بالعودة من غير فصل.

و إذا ظاهر من زوجتين له فصاعدا، ألزمه مع العود لكل واحدة منهن كفارة، سواء ظاهر من كل واحدة على الانفراد، أو جمع بينهن في ذلك كله بكلمة واحدة، و إذا كرر كلمة الظهار، لزمه بكل دفعة كفارة، فإن وطئ التي كرر القول عليها قبل أن يكفر، يلزمه كفارة واحدة عن الوطء و كفارات التكرار، بدليل الإجماع المشار إليه.

و فرض العبد في الكفارة، الصوم، و فرضه فيه كفرض الحر، لظاهر القرآن، و من أصحابنا من قال: الذي يلزمه شهر واحد [1]، و من أصحابنا من قال:

لا يصح الظهار من المنكوحة بملك اليمين (2)، و منهم من قال: يصح (3)، و في ذلك نظر.م.

ص: 369


1- - ذهب إليه أبو الصلاح و سلار، لاحظ المختلف: 601 من الطبع القديم.
2- - القاضي: المهذب: 2- 298 و المفيد: المقنعة: 534 و اختاره أبو الصلاح و سلار لاحظ المختلف ص 599 من الطبع القديم.
3- - الشيخ: النهاية- 527 و الخلاف كتاب الظهار المسألة 8 و ذهب إليه ابن أبي عقيل و ابن حمزة لاحظ المختلف ص 599 من الطبع القديم.

الفصل الحادي عشر: في الطلاق

تفتقر صحة الطلاق الشرعي إلى مثل ما افتقر إليه الظهار من الشروط، و لا يصح إلا من عاقل مختار قاصد إلى التحريم به غير حالف و لا ساه و لا حاك عن غيره و لا لاعب، متلفظ بصريحه- و هو لفظ الطلاق دون كناياته نحو: أنت حرام أو بائنة أو خلية أو برية أو الحقي بأهلك أو حبلك على غاربك و ما أشبه ذلك، و إن قارنته النية- مطلق له من الاشتراط، موجه به إلى معقود عليها عقد دوام، معين لها، معلق له بجملتها دون أبعاضها، بمحضر من شاهدي عدل، في طهر لا جماع فيه، إلا في حق من استثنيناه.

و يدل على ذلك ما قدمناه من الدليل في شروط الإيلاء.

و يخص اعتبار لفظ الطلاق، أنه الذي ورد به القرآن و تعلقت به الأحكام، فيجب أن لا يتعلق بغيره، و لا يقال لمن فعل ما فيه معنى الطلاق «مطلق» كما لا يقال لمن فعل ما فيه معنى الضرب «ضارب».

و يخص تعليق الطلاق بالشرط، أن ذلك غير مشروع، لأن الله سبحانه لم يشرع لمريد الطلاق أن يعلقه بأمر يجوز حصوله و ارتفاعه، لأن ذلك لا يطابق مراده، و إذا لم يكن مشروعا، لم يتعلق به شي ء من الأحكام الشرعية، و بمثل ذلك يبطل تعليق الطلاق بالأبعاض، لأنه ليس من الألفاظ المشروعة في الطلاق فيجب أن لا يقع، و أيضا قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (1)، يدل على ذلك، لأنه علق الطلاق بما يتناوله اسم النساء، و اليد أو الرجل لا يتناولهما

ص: 370


1- - الطلاق: 1.

ذلك.

و يخص اعتبار الشهادة قوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، إلى قوله:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (1)، لأن ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب، و هذا يوجب عود ذلك إلى الطلاق و إن بعد عنه، لأنه لا يليق إلا به دون الرجعة التي عبر عنها بالإمساك، لأنه لا خلاف في أن الإشهاد عليها غير واجب، كما وجب عود التسبيح إليه تعالى مع بعد ما بينهما في اللفظ في قوله سبحانه إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ (2)، من حيث لم يلق إلا به.

و حمل الأمر بالإشهاد على الاستحباب، ليعود إلى الرجعة، عدول عن الظاهر في عرف الشرع بغير دليل، و لا يجوز أن يكون الأمر بالإشهاد متعلقا بقوله تعالى أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (3) لأن المراد بذلك ها هنا ترك المراجعة، و الاستمرار على موجب الطلاق المقتضي للفرقة، و ليس بشي ء يتجدد فعله فيفتقر إلى إشهاد.

و يخص اعتبار الطهر أنه لا خلاف في أن الطلاق في الحيض بدعة و معصية، و قد فسر العلماء قوله تعالى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، بالطهر الذي لا جماع فيه، و إذا ثبت أنه مخالف لما قد أمر الله تعالى لم يقع و لم يتعلق به حكم شرعي.

و يحتج على المخالف بما رووه من أن ابن عمر طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد، و هي حائض، فسأل عمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك، فردها عليه و لم يره شيئا (4)، و ظاهر ذلك نفي التأثيرات كلها، و التخصيص ببعضها يفتقر إلى دليل، و بما رووه من4.

ص: 371


1- - الطلاق: 2.
2- - الفتح: 8- 9.
3- - الطلاق: 2.
4- - سنن الدار قطني: 4- 7 برقم 14 و صحيح مسلم: 4- 181 باب تحريم طلاق الحائض و سنن البيهقي: 7- 334.

طريق آخر من قوله صلى الله عليه و آله و سلم لعمر: مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء (1)، و ظاهر الأمر على الوجوب.

و إذا أوجب المراجعة دل ذلك على أن الطلاق لم يقع، و المراد بالمراجعة على هذا ردها إليه و ترك اعتزالها، لأنه كان فارقها ظنا منه لوقوع الطلاق، و ذلك يقال على سبيل الحقيقة لمن طلق زوجته طلاقا فاسدا، و لمن ظن وقوعه، فأخرجها من منزله و اعتزلها.

و إذا تقرر ما ذكرناه من شروط الطلاق، فاعلم أنه على ضروب أربعة:

واجب، و محظور، و مستحب، و مكروه.

فالواجب طلاق المولى بعد التربص، لأن عليه أن يفي ء أو يطلق على ما قدمناه، و طلاق الخلع على ما نبينه.

و المحظور طلاق المدخول بها في الحيض، أو الطهر الذي جامعها فيه، قبل أن يظهر بها حمل، و لا خلاف في حظره، و إنما الخلاف في وقوعه على ما بيناه.

و المستحب طلاق من كانت الحال بينه و بين زوجته فاسدة بالشقاق، و تعذر الإنفاق، و عجز كل واحد منهما عن القيام بما يجب عليه لصاحبه.

و المكروه طلاقه إذا كانت الحال بينهما عامرة، و كل واحد قيم بحق صاحبه.

و النساء في الطلاق على ضربين: منهن من ليس في طلاقها سنة و لا بدعة، و منهن من في طلاقها ذلك.

فالضرب الأول: الآئسة من الحيض، لصغر أو كبر، و الحامل، و غير المدخول بها، و الغائب عنها زوجها.4.

ص: 372


1- - صحيح مسلم: 4- 181 باب تحريم طلاق الحائض و سنن الدار قطني: 4- 7 برقم 15 و سنن البيهقي: 7- 323 و 324.

و الضرب الثاني: المدخول بها لا غير، إذا كانت حائلا، من ذوات الأقراء، و طلاقها للسنة في طهر لا جماع فيه، و للبدعة في حيض أو طهر فيه جماع.

ثم اعلم أن الطلاق على ضربين: رجعي و بائن.

و البائن على ضروب أربعة: طلاق غير المدخول بها، و طلاق العدة، و الخلع، و المبارأة [و التطليقة الثالثة بعد كل تطليقتين من أي طلاق كان] (1).

أما الرجعي فهو أن يطلق المدخول بها واحدة، و يدعها تعتد في سكناه و نفقته، و يحل له النظر إليها، و مراجعتها بالعقد الأول ما دامت في العدة، و ليس لها عليه في ذلك خيار، و تجوز المراجعة من غير إشهاد، و الإشهاد أولى، و إن قال: قد راجعتك، كان حسنا، و إن لم يقل ذلك، و وطأها أو قبلها بشهوة كان ذلك رجعة، بدليل إجماع الطائفة و قوله تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ (2) فسمى المطلق طلاقا رجعيا بعلا، و لا يكون كذلك إلا و المرأة بعلة، و هذا يقتضي ثبوت الإباحة، لأنها تابعة للزوجية، و لم يشترط الشهادة و لا لفظ المراجعة.

فإن خرجت من العدة ملكت نفسها، فإن آثر مراجعتها فبعقد جديد و مهر جديد، و تبقى معه على طلقتين أخراوين، فإن كمل طلاقها ثلاث مرات في ثلاثة أطهار، مع تخلل مراجعته لها- على ما سندل عليه- و لم تكن تزوجت فيما بينهما سواه، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، نكاح دوام، و يكون بالغا، و يدخل بها، و يفارقها، و تنقضي عدتها منه.

و يهدم الزوج الثاني التطليقات الثلاث و إن تكررت من الأول أبدا، و يبيح المرأة بالعقد المستأنف، و كذا إن تزوجت فيما بين الأولى و الثانية، أو الثانية و الثالثة، هدم ذلك ما تقدم من الطلاق، على الأظهر الأكثر من روايات أصحابنا،8.

ص: 373


1- - ما بين المعقوفتين موجود في حاشية الأصل و «ج».
2- - البقرة: 228.

و منهم من قال: لا يهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث، و متى رجعت إلى الأول، كانت معه على ما بقي من تمام الثلاث (1)، و ظاهر قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (2) معه، لأنه يدل على تحريمها عليه بالثالثة، حتى تنكح زوجا غيره من غير فصل.

و أما غير المدخول بها فإنه إذا طلقها واحدة، بانت منه، و ملكت نفسها في الحال، فإن اختار مراجعتها و رضيت، فبعقد جديد و مهر جديد، فإن راجعها و طلقها قبل الدخول تمام ثلاث مرات، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، و هذا مختص بحرائر النساء، فأما الأمة فأقصى طلاقها- حرا كان الزوج أو عبدا- طلقتان.

و أما طلاق العدة فيختص بالمدخول بها المستقيمة الطهر و الحيض، و صفته أن يطلقها في طهر لا جماع فيه، بشاهدي عدل، ثم يراجعها قبل أن تخرج من عدتها، و يطأها، فإذا حاضت و طهرت، طلقها ثانية بشاهدي عدل، ثم راجعها قبل الخروج من العدة، و وطئها، فإذا حاضت و طهرت طلقها ثالثة بشاهدي عدل، فإذا فعل ذلك حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، و لا يهدم الزوج الثاني هذه التطليقات الثلاث أبدا، بل متى طلقها على هذا الوجه تسع تطليقات، ينكحها بينها رجلان، حرمت عليه أبدا، على ما قلناه فيما مضى.

و أما الخلع فيكون مع كراهة الزوجة خاصة الرجل (3)، و هو مخير في فراقها إذا دعته إليه حتى تقول له: لئن لم تفعل (4) لأعصين الله بترك طاعتك، و لأوطئنل.

ص: 374


1- - في «ج» و «س»: «بقي من الأول تمام الثلاث» و لاحظ المبسوط: 5- 81 و الخلاف كتاب الطلاق، المسألة 59.
2- - البقرة: 230.
3- - في «ج»: دون الرجل.
4- - في «ج»: إن لم تفعل.

فراشك غيرك، أو يعلم منها العصيان في شي ء من ذلك (1) فيجب عليه- و الحال هذه- طلاقها.

و يحل له أخذ العوض على ذلك- سواء بذلته له ابتداء، أو بعد طلبه منها، و سواء كان مثل المهر الذي دفعه إليها أو أكثر- بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (2).

و لا يقع الخلع بمجرده، بل لا بد من التلفظ معه بالطلاق، فيقول مريده: قد خلعتك على كذا و كذا فأنت طالق، و الدليل على ذلك إجماع الطائفة، لأن من قال من أصحابنا: لفظ الخلع كاف في الفرقة (3)، لا يؤثر خلافه في دلالة الإجماع، و أيضا فلا خلاف بين الأمة في حصول الفرقة بما ذكرناه، و ليس على حصولها بمجرد لفظ الخلع دليل.

و أما طلاق المبارأة فيكون مع كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه، و يجوز للزوج أخذ البذل عليه إذا لم يزد على ما أعطاها من المهر، و لا يحل له أخذ الزيادة عليه، و يقول من يريد ذلك: قد بارئتك على كذا و كذا فأنت طالق، و ذلك لفظه بدليل الإجماع (4) المشار إليه.

فإذا تلفظ بالطلاق في الخلع و المبارأة، بانت الزوجة منه بواحدة، و لم يملك رجعتها في العدة بالعقد الأول، إلا أن تعود فيما بذلت له أو في بعضه فيها، و لا خيار لها في العود بشي ء من ذلك بعد العدة في التطليقتين.

و إذا كمل هذا الطلاق ثلاث مرات، على الوجه الذي بيناه فيما مضى،ع.

ص: 375


1- - في «ج»: أو يعلم منها الموجب في شي ء من ذلك.
2- - البقرة: 229.
3- - ذهب إليه السيد المرتضى و ابن الجنيد، لاحظ المختلف: 594 من الطبع القديم.
4- - في الأصل: و ذلك بدليل الإجماع.

حرمت المطلقة على الأول، حتى تنكح زوجا غيره، على ما قدمناه، و ذلك بدليل إجماع الطائفة، و تسقط السكنى و النفقة في الطلاق البائن، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها بإيجاب شي ء من ذلك، يفتقر إلى دليل.

و من طلق ثلاثا بلفظ واحد كان مبدعا في قوله «ثلاثا»، و وقعت واحدة إذا تكاملت الشروط، على الصحيح من المذهب، لأنه إذا تلفظ بالطلاق مع تكامل شروطه المسنونة وجب وقوعه، و ما أبدع من قوله «ثلاثا» لا حكم له في الشرع، لأنه مخالف للسنة، و لا تأثير له في إفساد ما قد تكاملت شروطه الشرعية من الطلاق، و لا فرق بين أن يتبع الطلاق بقوله: «ثلاثا» و بين أن يتبعه بشتم المرأة، و كما أن ذلك- و إن كان بخلاف السنة- غير مانع من وقوع الطلاق، فكذلك ما نحن فيه.

و يدل على أن قوله «ثلاثا» بدعة بعد إجماع الطائفة قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ (1)، و المراد بذلك الأمر، لأنه لو كان خبرا لكان كذبا، فكأنه قال: طلقوا مرتين، كما قال الله تعالى وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (2)، أي فأمنوه، و لا يكون الطلاق مرتين إلا بحصول واحدة بعد أخرى، و كما أن من أعطى درهمين دفعة واحدة لم يوصف بأنه معط مرتين، و لا يكون كذلك حتى يفرق الإعطاء لهما في وقتين، فكذلك المطلق.

و ليس لهم أن يقولوا: العدد في الآية مذكور عقيب اسم، و إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق، كما إذا قال: له علي عشرة، مرتين، و إنما يقتضيه إذا ذكره عقيب فعل، كما إذا قال: أعطه مرتين، أو أدخل الدار مرتين، لأنا قد بينا أن معنى قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ، الأمر، و العدد- و الحال هذه- في الآية مذكور عقيب فعل.7.

ص: 376


1- - البقرة: 229.
2- - آل عمران: 97.

فإن قيل: ليس فيما ذكرتموه أكثر من وجوب التفريق، فلم قلتم: إنه لا بد أن يكون في طهرين مع تحلل المراجعة؟ قلنا: لإجماع الطائفة على ذلك، و لأنه إذا ثبت وجوب التفريق فكل من أوجبه قال بما ذكرناه، و القول بأحد الأمرين دون الآخر، خروج عن إجماع الأمة.

و يحتج على المخالف في ذلك أيضا بما رووه عن ابن عمر من قوله: طلقت زوجتي و هي حائض، فقال لي النبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما هكذا أمرك ربك، إنما السنة أن تستقبل بها الطهر، فتطلقها في كل قرء مرة. (1)

و يحتج عليهم في أن التلفظ بالثلاث بدعة، و غير واقع ثلاثا، بما رووه من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: في حديث ابن عمر: إذن عصيت ربك، حين قال له: أ رأيت لو طلقتها ثلاثا (2). و بما رووه من أن رجلا طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله النبي عليه السلام: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، فقال عليه السلام: إنما تلك واحدة فراجعها إن شئت، فراجعها (3)، و الأخبار في ذلك كثيرة.

فإن احتج من ذهب إلى وقوع الثلاث بلفظ واحد، و إن كان بدعة، بما روى في حديث ابن عمر، من قوله عليه السلام: إذن عصيت ربك و بانت منك امرأتك (4)، فغير معول على مثله، لأن أول ما فيه، أنه خبر واحد، ثم هو معارض بغيره، ثم يحتمل أن يكون عليه السلام أراد بقوله: بانت منك امرأتك، إذا خرجت من العدة، لأنا قد بينا أنه يقع بذلك واحدة، على أن قول ابن عمر: أ رأيت لو طلقتها ثلاثا، يحتمل أن يكون أراد في ثلاثة أطهار تتخللها المراجعة.4.

ص: 377


1- - سنن الدار قطني: 4- 31 برقم 84 و سنن البيهقي: 7- 330 و 334.
2- - سنن الدار قطني: 4- 31 برقم 84 و سنن البيهقي: 7- 330 و 334.
3- - سنن البيهقي: 7- 339 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 265.
4- - سنن الدار قطني: 4- 31 برقم 84 و سنن البيهقي: 7- 334.

و يحتمل ذكر المعصية على هذا لأمرين: أحدهما أن إخراج الزوج نفسه من التمكن من مراجعة المرأة حتى تنكح زوجا غيره مكروه، لأنه لا يدري كيف يتقلب (1) قلبه، و ربما هم بالمعصية، و الثاني أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يمتنع أن يكون عالما من زوجة ابن عمر صلاحا و خيرا يوجبان المعصية بفراقها، و مع ما ذكرناه في الخبر من الاحتمال يسقط به الاستدلال.

الفصل الثاني عشر: في اللعان

تقف (2) صحة اللعان بين الزوجين على أمور:

منها أن يكونا مكلفين، سواء كانا أو أحدهما من أهل الشهادة أم لا. (3)

و منها: أن يكون النكاح دواما.

و منها: أن تكون الزوجة مدخولا بها، و حكم المطلقة طلاقا رجعيا إذا كانت في العدة كذلك.

و منها: أن لا تكون صماء و لا خرساء.

و منها: أن يقذفها الزوج بزنا يضيفه إلى مشاهدته، بأن يقول: رأيتك تزنين، و لو قال: يا زانية، لم يثبت بينهما لعان، أو ينكر حملها، أو يجحد ولدها، و لا يقيم أربعة من الشهود بما قذفها به.

و أن تكون منكرة لذلك، و يدل على هذا كله إجماع الطائفة، و أيضا فلا

ص: 378


1- - في «ج»: كيف ينقلب.
2- - في «ج»: تفتقر.
3- - في «ج»: سواء كان كل منهما أو أحدهما من أهل الشهادة أو الخبرية أم لا؟

خلاف في صحة اللعان مع تكامل ما ذكرناه، و ليس على صحته مع اختلال بعضه دليل.

و صفة اللعان أن يجلس الحاكم بينهما مستدبر القبلة، و يوقفهما بين يديه، المرأة عن يمين الرجل، موجهين إلى القبلة، و يقول للرجل: قل: أشهد بالله إني فيما ذكرته عن هذه المرأة من الفجور لمن الصادقين، فإذا قال ذلك أمره أن يعيده تمام أربع مرات.

فإذا شهد الرابعة قال له الحاكم: اتق الله عز و جل و اعلم أن لعنته شديدة، و عذابه أليم، فإن كان حملك على ما قلت غيرة أو غيرها فراجع التوبة، فإن عقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة.

فإن رجع عن قوله، جلده حد المفتري، و إن أصر على ما ادعاه قال له: قل:

إن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين، فإذا قالها، أقبل على المرأة و قال لها: ما تقولين فيما رماك به؟

فإن اعترفت رجمها، و إن أقامت على الإنكار، قال لها: قولي: أشهد بالله أنه فيما رماني به لمن الكاذبين، فإذا قالت، طالبها بإتمام أربع شهادات كذلك، فإذا شهدت الرابعة، وعظها كما وعظ الرجل، فإن اعترفت رجمها، و إن أصرت على الإنكار، قال لها: قولي: إن غضب الله علي إن كان من الصادقين، فإذا قالت ذلك، فرق الحاكم بينهما، و لم تحل له أبدا، على ما قدمناه فيما مضى من الكتاب.

و لفظ الشهادة و عدد الشهادات و الترتيب واجب في اللعان، فلو قال:

أحلف بالله، أو أقسم بالله، أو نقص شيئا من العدد، أو بدأ الحاكم بالمرأة أولا، لم يعتد باللعان، و لم تحصل الفرقة، و إن حكم الحاكم بذلك، لأن ما قلناه مجمع على صحته و ليس على صحة ما خالفه دليل.

و لأن ما عدا ما ذكرناه مخالف لظاهر القرآن، لأنه تعالى ذكر لفظ الشهادة

ص: 379

و العدد و الترتيب، من حيث أخبر أنها تدرأ عن نفسها العذاب بلعانها، و المراد بالعذاب عندنا الحد، و عند أبي حنيفة الحبس و لا يثبت واحد منهما إلا بعد لعان الزوج، فصح ما قلناه.

الفصل الثالث عشر: في الردة

متى أظهر المرء الكفر بالله تعالى، أو برسوله عليه السلام، أو الجحد بما يعم فرضه و العلم به من دينه صلى الله عليه و آله و سلم، كوجوب الصلاة، أو الزكاة، أو ما جرى مجرى ذلك، بعد إظهاره التصديق به، كان مرتدا.

و هو على ضربين: أحدهما أن يكون مولودا على فطرة الإسلام، و الثاني أن يكون إسلامه بعد كفر. (1)

فالأول تبين زوجته منه في الحال، و يقسم ماله بين ورثته، و يجب قتله من غير أن يستتاب، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام:

من بدل دينه فاقتلوه (2)، و قوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (3)، و لم يشترط الاستتابة، فمن اشترطها في هذا الموضع، فعليه الدليل.

و الثاني هو المرتد عن إسلام حصل بعد كفر يستتاب، فإن رجع إلى الإسلام، كان العقد ثابتا بينه و بين زوجته، فإن أسلم ثم ارتد ثانية، قتل من غير أن

ص: 380


1- - في «ج»: بعد كفره.
2- - سنن الدار قطني: 3- 108 برقم 90 و ص 113 برقم 108 و سنن البيهقي: 8- 195 و 205 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 282 و 283 و كنز العمال: 1- 90 برقم 387.
3- - سنن البيهقي: 8- 19 و 25 و 194 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 61 و 63 و 70.

يستتاب، و متى لحق بدار الحرب و عاد إلى الإسلام، و المرأة لم تخرج عن عدتها (1) كان أملك بها من غيره.

و لا تقتل المرتدة، بل تحبس حتى تسلم أو تموت في الحبس، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من نهيه صلى الله عليه و آله و سلم عن قتل المرتدة، و نهيه عن قتل النساء و الولدان (2) و لم يفصل، و روى أصحابنا أن الزنديق- و هو من يبطن الكفر و يظهر الإسلام- يقتل و لا تقبل توبته.

الفصل الرابع عشر: في العدة

العدة على ضربين: عدة من طلاق و ما يقوم مقامه، و عدة من موت أو ما يجري مجراه.

و المطلقة على ضربين: مدخول بها و غير مدخول بها، و غير المدخول بها لا عدة عليها بلا خلاف.

و المدخول بها لا تخلو إما أن تكون حاملا أو حائلا.

فإن كانت حاملا، فعدتها أن تضع الحمل، حرة كانت أو أمة، بلا خلاف يعتد به، و قوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3)، يدل على ذلك، و لا يعارض هذه الآية قوله تعالى:

ص: 381


1- - في الأصل: من عدتها.
2- - الجامع الصغير: 2- 702 برقم 9496 و سنن الدار قطني: 3- 117 برقم 118 و صحيح مسلم: 5- 144 كتاب الجهاد و السير باب تحريم قتل النساء و الصبيان.
3- - الطلاق: 4.

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1)، لأن آية وضع الحمل عامة في المطلقة و غيرها و ناسخة لما تقدمها بلا خلاف، و يبين ذلك أن قوله سبحانه وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ في غير الحوامل، لأنه تعالى قال وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ (2)، و من كانت مستبينة الحمل لا يقال فيها ذلك، و إذا كانت خاصة في غير الحوامل لم يعارض آية الحمل، لأنها عامة في المطلقة و غيرها.

و إن كانت حائلا فلا يخلو إما أن تكون ممن تحيض أم لا، فإن كانت ممن تحيض، فعدتها إن كانت حرة ثلاثة قروء بلا خلاف، و إن كانت أمة فعدتها قرءان بلا خلاف إلا من داود، فإن عتقت في العدة تممتها عدة الحرة.

و القرء المعتبر، الطهر بين الحيضتين، بدليل إجماع الطائفة، و إن كانت لا تحيض و مثلها تحيض، فعدتها إن كانت حرة ثلاثة أشهر بلا خلاف، و إن كانت أمة فخمسة و أربعون يوما.

و إن كانت لا تحيض لصغر أو كبر و ليس في سنها من تحيض، فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدة عليها، فمنهم من قال: لا تجب (3)، و منهم من قال:

يجب أن تعتد بالشهور، و هو اختيار المرتضى رضي الله عنه (4) و به قال جميع المخالفين (5)، و طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، و أيضا قوله تعالى وَ اللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللّائِي لَمْ يَحِضْنَ (6)، و هذا نص، و قوله تعالى إِنِ ارْتَبْتُمْ معناه على ما ذكره جمهور المفسرين: إن كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء، و غير عالمين بمقدارها، فقد روى4.

ص: 382


1- - البقرة: 228.
2- - البقرة: 228.
3- - الشيخ النهاية: 532 و القاضي: المهذب: 2- 315 و 316.
4- - الانتصار: 146.
5- - في «ج»: و هو اختيار المرتضى و هي ثلاثة أشهر و به قال جميع المخالفين.
6- - الطلاق: 4.

أن أبي بن كعب قال: يا رسول الله أن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب، الصغار و الكبار و أولات الأحمال، فأنزل الله تعالى وَ اللّائِي يَئِسْنَ إلى قوله:

وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1).

و لا يجوز أن يكون الارتياب بأنها يائسة من الحيض أو غير يائسة، لأنه تعالى قد قطع فيمن تضمنته الآية باليأس من المحيض بقوله وَ اللّائِي يَئِسْنَ و المرتاب في أمرها لا تكون يائسة، و إذا كان المرجع في حصول حيض المرأة و ارتفاعه إلى قولها، و كانت مصدقة فيما تخبر به من ذلك، و أخبرت بأحد الأمرين، لم يبق للارتياب في ذلك معنى، و كان يجب لو كان الريبة راجعة إلى ذلك أن يقول: «إذا ارتبن» لأن الحكم في ذلك يرجع إلى النساء و يتعلق بهن.

و لا يجوز أن يكون الارتياب بمن تحيض أو لا تحيض ممن هو في سنها، لأنه لا ريب في ذلك. من حيث كان المرجع فيه إلى العادة، على أنه لا بد فيما علقنا به الشرط و جعلنا الريبة واقعة فيه من مقدار عدة من تضمنته الآية، من أن يكون مرادا، من حيث لم يكن معلوما لنا قبل الآية، و إذا كانت الريبة حاصلة فيه بلا خلاف تعلق الشرط به، و استقل بذلك الكلام، و مع استقلاله يتعلق الشرط بما ذكرناه، و لا يجوز أن يعلق بشي ء آخر، كما لا يجوز فيه لو كان مستقلا اشتراطه.

و أما ما يقوم مقام الطلاق: فانقضاء أجل المتمتع بها

، و عدتها قرءان إن كانت ممن تحيض، و خمسة و أربعون يوما، إن كانت ممن لا تحيض، بدليل إجماع الطائفة.

و المتوفى عنها زوجها إن كانت حرة حائلا، فعدتها أربعة أشهر و عشرة أيام، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مدخولا بها، أو غير مدخول بها، بلا خلاف،

ص: 383


1- - الدر المنثور: 8- 210 ذيل الآية و القرطبي: 18- 193 ذيل الآية.

و قد دخل في هذا الحكم، المطلقة طلاقا رجعيا، إذا توفي زوجها و هي في العدة، لأنها زوجته على ما بيناه فيما مضى، و هذه عدة المتمتع بها، إذا توفي عنها زوجها قبل انقضاء أيامها، و عدة أم الولد لوفاة سيدها، و عدتها لو زوجها سيدها و توفي زوجها.

و إن كانت الوفاة بعد ما انقضت أيام المتمتع بها، فعدتها شهران و خمسة أيام، سواء كانت في العدة أم لا، و هذه عدة الزوجة إذا كانت أمة، فإن عتقت و هي في العدة فعليها أن تكمل عدة الحرة، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و إن كان المتوفى عنها زوجها حاملا، فعليها أن تعتد عندنا خاصة بأبعد الأجلين، فإن وضعت قبل انقضاء الأيام المعينة لها لم تنقض عدتها حتى تكمل تلك المدة، و إن كملت قبل وضع الحمل لم تنقض عدتها حتى تضع الحمل، بدليل الإجماع المشار إليه (1)، و طريقة الاحتياط، و لأن العدة عبادة تستحق عليها الثواب، و إذا كان الثواب فيما ذهبنا إليه أوفر، لأن المشقة فيه أكثر، كان أولى من غيره.

و قوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (2)، معارض بقوله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً. (3)

و أما ما يجري مجرى الموت فشيئان:

أحدهما: غيبة الزوج، التي لا تعرف الزوجة معها له خبرا

، فإنها إذا لم تختر الصبر على ذلك، و رفعت أمرها إلى الإمام، و لم يكن له ولي يمكنه الإنفاق عليها،

ص: 384


1- - في «ج»: بدليل إجماع الطائفة المشار إليه.
2- - الطلاق: 4.
3- - البقرة: 234.

فيلزمه الإمام ذلك، حتى يجب عليها الصبر، و يبعث الإمام من يتعرف خبره في الآفاق، فإن لم يعرف له خبر حتى انقضت أربع سنين من يوم رفعت أمرها إلى الإمام، فعدتها عدة المتوفى عنها زوجها.

و الثاني: الارتداد عن الإسلام على الوجه الذي لا يقبل التوبة منه

، بدليل الإجماع المشار إليه، فأما ما تصح التوبة منه، فقد روى أن عدتها ثلاثة أشهر.

و حكم العدة في الطلاق الرجعي أن لا تخرج المرأة من بيت مطلقها إلا بإذنه، و لا يجوز له إخراجها منه إلا أن تؤذيه، أو تأتي فيه بما يوجب الحد، فيخرجها لإقامته و يردها، و لا تبيت إلا فيه، و لا يردها إذا أخرجها للأذى، و روى أن أقل ما يحصل به الأذى أن تخاصم أهل الرجل. (1)

و تجب النفقة في عدة الطلاق الرجعي بلا خلاف، و لا تجب في عدة البائن بدليل إجماع الطائفة، و لأن الأصل براءة الذمة، و شغلها يحتاج إلى دليل، إلا أن تكون حاملا، فإن النفقة تجب لها بلا خلاف، لقوله تعالى وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (2)، و لا نفقة للمتوفى عنها زوجها إذا كانت حائلا بلا خلاف، و إن كانت حاملا أنفق عليها عندنا خاصة من مال ولدها، حتى تضع الحمل.

و تبيت المتوفى عنها زوجها حيث شاءت، و يلزمها الحداد بلا خلاف، و هو اجتناب الزينة في الهيئة و مس الطيب و اللباس، و لا يلزم المطلقة و إن كانت بائنة، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه، و دلالة الأصل و قوله تعالى (3) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ. (4)

ص: 385


1- - الوسائل: 15 ب 23 من أبواب العدد برقم 1، 2، 5 و 6.
2- - الطلاق: 6.
3- - في الأصل: و دلالة قوله تعالى:
4- - الأعراف: 32.

و تلزم عدة الوفاة للغائب عنها زوجها من يوم يبلغها الخبر، بلا خلاف بين أصحابنا، و لأن العدة من عبادات المرأة، فلا تصح إلا بنية في ابتدائها، و هذا حكم العدة من الطلاق على خلاف بين أصحابنا في ذلك.

الفصل الخامس عشر: في أحكام الأولاد

السنة في المولود أن يحنك عند وضعه بماء الفرات إن وجد أو بماء عذب، فإن لم يوجد إلا ملحا، جعل فيه عسل أو تمر، و أن يؤذن في أذنه اليمنى و يقام في اليسرى، و أن يحلق رأسه في اليوم السابع، و يتصدق بزنة شعره (1) ذهبا أو فضة، و أن يختن و يسمى بأحسن الأسماء و أفضلها اسم النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد الأئمة من أهل بيته عليهم السلام.

و أن يعق في هذا اليوم عن الذكر بذكر من الضأن، و عن الأنثى بأنثى، و يعطي القابلة ربع العقيقة، و يكون ذلك الورك بالرجل، إلا أن تكون ذمية، فإنها لا تعطى من اللحم شيئا، بل تعطى قيمته.

و يطبخ الباقي من اللحم، و يدعى إلى تناوله جماعة من فقراء المؤمنين، و إن فرق اللحم عليهم جاز، و الأول أفضل، و لا يأكل الأبوان من العقيقة شيئا، و لا خلاف بين أصحابنا في ذلك كله إلا في العقيقة، فإن منهم من يقول: إنها واجبة [1] و منهم من يقول: سنة مؤكدة (2).

ص: 386


1- - في «ج»: بوزن شعره.
2- - الشيخ: النهاية ص 501. و الحلبي: الكافي ص 314.

و لا تجبر الحرة على رضاع ولدها، و تستحق أجرة على أبيه، فإن كان قد مات استحقته من مال الولد، و هي أحق برضاعه، إلا أن تطلب من الأجر برضاعه (1)، أكثر مما قد رضى به غيرها.

و المطلقة أحق بالذكر من الأب مدة الرضاع، و بعدها الأب أحق به، فإن كان أنثى، فالأم أحق بها إلى سبع سنين، إلا أن تتزوج، فيكون الأب أحق على كل حال، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و اعلم أن أقل الحمل ستة أشهر، لقوله تعالى وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (2) و قوله وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (3)، و أكثره في غالب العادة تسعة أشهر، بلا خلاف، و ينضاف إلى ذلك أشهر الريب، و هي ثلاثة أشهر، و هي أكثر أيام الطهر بين الحيضتين، فتصير أكثر مدة الحمل سنة، بدليل إجماع الطائفة، و لأن ما ذهبنا إليه من أكثر مدة الحمل مجمع عليه، و ليس على قول من ذهب إلى أن أكثره سنتان، أو أربع، أو سبع، دليل. [1]

و على ما ذكرناه إذا طلق الرجل زوجته، أو مات عنها، فتزوجت، و جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا، من يوم دخل الثاني بها، فهو لاحق به، و إن أتت به لأقل من ستة أشهر، لحق بالأول إن كان مدة طلاقها أو الوفاة عنها سنة فما دونها، و إن كان مدة ذلك أكثر من سنة لم يلحق به، و لا يحل للرجل الاعتراف بالولد في الموضع الذي قلنا إنه لا يلحق به فيه.3.

ص: 387


1- - في «س» و حاشية الأصل: برضاعته.
2- - الأحقاف: 15.
3- - البقرة: 233.

فصل في العتق و التدبير و المكاتبة

لا يصح العتق إلا من كامل العقل غير مولى على مثله، مختار له قاصد إليه، متلفظ بصريحه، مطلق له من الشروط- إلا بالنذر- موجه به إلى مسلم أو من هو في حكمه، متقرب به إلى الله تعالى.

فلا يقع العتق من طفل، و لا مجنون، و لا سكران، و لا محجور عليه، و لا مكره، و لا ساه، و لا حالف، و لا بالكتابة أو الإشارة، مع القدرة على النطق باللسان، و لا بكنايات العتق كقوله: أنت سائبة، أو: لا سبيل لي عليك، و لا بقوله:

إن فعلت كذا فعبدي حر، و لا بكافر (1) و لا للأغراض الدنيوية من نفع أو دفع ضرر أو إضرار بالغير، و يدل على وجوب اعتبار هذه الشروط إجماع الطائفة، و أيضا فلا خلاف في صحة العتق مع تكاملها، و لم يقم بصحته مع اختلال (2) بعضها دليل.

و إذا أعتق مالك العبد، نصفه، أو ربعه، أو ما زاد على ذلك، أو نقص منه، عتق الجميع، و إن كان العبد مشتركا، فأعتق أحد الشريكين نصيبه، انعتق ملكه خاصة، إلا أنه إن كان موسرا، طولب بابتياع الباقي، فإذا ابتاعه انعتق الجميع، و إن كان معسرا استسعى العبد في قيمة باقية، فإذا أداها عتق جميعه، فإن عجز عن ذلك كان بعضه عتيقا، و بعضه رقيقا، بدليل الإجماع المشار إليه.

ص: 388


1- - في الأصل و «ج»: و لا بكاف.
2- - في «ج»: و ليس على صحته مع اختلال.

و العتق في مرض الموت من أصل التركة إن كان واجبا، و إن كان متبرعا به، فهو من الثلث، فإن كان المتبرع به لجماعة عبيده، و لا مال له غيرهم، استخرج ثلثهم بالقرعة، و إن كان لواحد و لا مال له غيره، عتق ثلثه و استسعى في باقيه، و إن كان على الميت دين، فإن كان ثمن العبد مثل الدين مرتين، صح العتق و استسعى العبد في قضائه، و إن كان أقل من ذلك لم يصح العتق.

و لا يجوز أن يعتق في الكفارة الأعمى و لا الأعرج و لا الأشل و لا المجذوم.

و إذا أعتق مملوكه (1) و له مال يعلم به فهو للمعتق، و إن لم يعلم به، أو علم فاشترطه لنفسه فهو له، و ينبغي أن يقول: مالك لي و أنت حر، فإن قال: أنت حر و مالك لي، لم يكن له على المال سبيل، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و التدبير عتق بعد الوفاة، و يفتقر صحته إلى شروط العتق المنجز في الحياة، و قد بينا في باب البيع، الموضع الذي يجوز بيعه فيه، فلا نطول بإعادته.

و أما المكاتبة فهي أن يشترط المالك على عبده أو أمته تأدية شي ء معلوم يعتق بالخروج منه إليه، و هي بيع العبد من نفسه، و قد بينا في باب البيع أيضا أنها على ضربين: مشروطة و غير مشروطة، [و بينا جواز بيعه على وجه] (2) و يدل على ذلك إجماع الطائفة، و لأن الكتابة عقد يتعلق بالشرط الذي يتراضيانه (3) فيجب أن يكون بحسب ذلك الشرط، و قوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم (4) يدل على ذلك.

و إذا أدى المكاتب من غير شرط شيئا من مال الكتابة، عتق منه بحسابه، بدليل الإجماع المشار إليه، و لأن الرقبة قد جعلت بإزاء المال، فيجب أن يتحرر منر.

ص: 389


1- - كذا في الأصل: و لكن في «ج» و «س»: مملوكا.
2- - ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
3- - في «ج»: يتراضيان به.
4- - بداية المجتهد: 2- 296 و التهذيب: 7- 371 برقم 1503 و الاستبصار: 3- 232 برقم 835 و الوسائل: 15- 30 ح 4 ب 20 من أبواب المهور.

الرقبة بمقدار ما يؤدي من المال.

و لا يجوز للرجل وطء أمته المكاتبة، سواء كانت الكتابة (1) مطلقة أو مشروطة بلا خلاف، فإن وطئها و كانت مشروطا عليها لم يحد، لأن هناك شبهة يسقط بها الحد، و إن كانت غير مشروط عليها، و قد أدت من مال الكتابة شيئا، كان عليه الحد بمقدار ما تحرر منها، بدليل إجماع الطائفة.

و لا يجوز مكاتبة الكافر (2) للإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى:

فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً (3)، و حمل ذلك على الإيمان و الدين، أولى من حمله على المال و التكسب، لأنه لا يقال للكافر- و إن كان موسرا أو مكتسبا- أن فيه خيرا، و لا أنه خير، و يقال ذلك لمن كان فيه إيمان و دين، و إن لم يكن مكتسبا و لا ذا مال، و لو تساوى ذلك في الاحتمال، لوجب الحمل على الجميع.3.

ص: 390


1- - في «ج»: كانت المكاتبة.
2- - في «ج»: مكاتبة العبد الكافر.
3- - النور: 33.

فصل في اليمين و العهد و النذر

لا يمين شرعية إلا بالله تعالى، أو اسم من أسمائه الحسنى، دون غيرها من كل مقسوم به، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فالحالف بغير الله تعالى عاص بمخالفة المشروع (1) من كيفية اليمين، و إذا كان انعقاد اليمين و لزوم الكفارة بالحنث حكما شرعيا لم يثبت بالمعصية، و أيضا الأصل براءة الذمة، و شغلها يفتقر إلى دليل.

و اليمين المنعقدة الموجبة للكفارة بالحنث، هي أن يحلف العاقل المالك لاختياره أن لا يفعل في المستقبل قبيحا أو مباحا لا ضرر عليه في تركه، أو أن يفعل طاعة أو مباحا لا ضرر عليه في فعله مع عقد اليمين بالنية، و إطلاقها من الاستثناء بالمشيئة (2) فيخالف ما عقد اليمين عليه، مع العمد و الاختيار، بدليل الإجماع المشار إليه، لأنه لا خلاف في انعقاد اليمين في المواضع التي ذكرناها (3)، و ليس على انعقادها فيما سواها دليل.

و يخص النية قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (4)، و عقد اليمين لا يكون إلا بالنية، و يحتج على

ص: 391


1- - في «س»: بمخالفة الشرع و في «ج»: لمخالفة الشرع.
2- - في حاشية الأصل: من الاشتراط بالمشيئة.
3- - في «ج»: في الموضع الذي ذكرناه.
4- - المائدة: 89.

المخالف في سقوط الكفارة بالسهو و الإكراه بقوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه. (1)

و اليمين التي لا تنعقد، و لا كفارة فيها، ما عدا ما ذكرناه، مثل أن يحلف الإنسان على يمين (2) هو كاذب فيه، أو يقول: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد ذلك بنية، و هذه يمين اللغو، أو يحلف أن يفعل، أو يترك ما يكون خلافه طاعة لله تعالى، واجبة أو مندوبا إليها، أو يكون أصلح له في دنياه.

و يحتج على المخالف في هذا بقوله عليه السلام: من حلف على شي ء فرأى ما هو خير منه فليأت الذي هو خير منه و تركه كفارته (3)، و يخص اليمين على المعصية، أن معنى انعقاد اليمين، أن يجب على الحالف، أن يفعل أو يترك ما علق اليمين به، و هذا لا يصح في المعصية، لأن الواجب تركها، و ليس لأحد أن يقول: معنى انعقاد اليمين لزوم الكفارة بالمخالفة، لأن ذلك تابع لانعقاد اليمين و موجب عنه، فكيف يفسر الانعقاد به؟

و كفارة اليمين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد صام (4) ثلاثة أيام، و الكسوة على الموسر ثوبان، و على المعسر ثوب، و الإطعام شبع المسكين في يومه.

و لا كفارة قبل الحنث، و لا يمين للولد مع والده، و لا للعبد مع سيده، و لا للمرأة مع زوجها، فيما يكرهونه من المباح.م.

ص: 392


1- - الجامع الصغير: 2- 16 برقم 4461 و سنن البيهقي: 7- 256 و 10- 61، و فيه: «تجاوز الله عن أمتي» و الوسائل: 3- 270 ح 6 و 7 و 8 ب 12 من أبواب لباس المصلي.
2- - كذا في «ج» و لكن في الأصل: «على ماض» و في «س»: على ما مضى.
3- - الجامع الصغير: 2- 596 برقم 8641 و كنز العمال: 16- 722 برقم 46524 و 46527 و سنن البيهقي: 10- 53 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 204 و 360 و 3- 76 و 4- 256 باختلاف يسير.
4- - في «ج»: فصيام.

و لا يجوز اليمين بالبراءة من الله، أو من رسوله، أو أحد الأئمة عليهم السلام، فإن فعل أثم، و لزمه- إن خالف ما علق البراءة به- كفارة ظهار، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و من قال: علي عهد الله أن أفعل كذا من الطاعات، أو أترك كذا من المقبحات، كان عليه الوفاء، و متى خالف لزمه عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، مخير في ذلك، بدليل الإجماع الماضي ذكره.

و أما النذر فهو أن يقول: لله علي كذا إن كان كذا، و يلزم الوفاء متى حصل ما نذر فيه،- و قد دللنا على وجوب ذلك فيما تقدم من الكتاب في باب الصلاة- فإن لم يفعل لزمه كفارة نقض العهد، بدليل الإجماع المشار إليه.

و متى قال: علي كذا إن كان كذا، و لم يقل: لله، أو قال: لله علي كذا، و لم يقل: إن كان كذا، لم يكن ناذرا، و لم يلزمه بالمخالفة كفارة، لأن ما اعتبرناه (1) مجمع على انعقاد النذر به، و لا دليل على انعقاده من دونه، و قد روي عن ثعلب أنه قال:

النذر عند العرب وعد بشرط، و من أصحابنا من أجرى قول القائل: لله علي كذا، من غير شرط مجرى العهد. (2)

و لا ينعقد نذر المعصية، و لا النذر فيها، بدليل ما قدمناه من الإجماع و نفي الدليل الشرعي على انعقاده، و أيضا فمعنى انعقاد النذر أن يجب على الناذر فعل ما أوجبه على نفسه، و إذا انتفى بالإجماع أن تجب المعصية على حال، ثبت أن النذر لا ينعقد فيها، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا نذر في معصية. (3)5.

ص: 393


1- - في «ج»: لأن ما ذكرناه.
2- - الشيخ: النهاية، ص 564 و الخلاف كتاب النذور، المسألة 1.
3- - سنن البيهقي: 10- 69 و 70 و كنز العمال: 16- 713 و 714 برقم 46479 و 46482 و 46485.

فصل في الصيد و الذبائح و الأطعمة و الأشربة

لا يجوز الصيد عندنا إلا بالكلب المعلم، دون غيره من سباع الوحش و الطير، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ (1) لأنه سبحانه لما أتى بلفظة «مكلبين» و هي تختص الكلاب، علمنا أنه لم يرد بالجوارح جميع ما استحق هذا الاسم، و إنما أراد الكلاب خاصة، و يجري ذلك مجرى أن يقال: ركب القوم مبقرين أو مجمزين، في أنه يختص ركوب البقر و الجمازات [1] و إن كان اللفظ الأول عام الظاهر.

و لا يجوز حمل لفظة «مكلبين» في الآية على أن المراد بها التضرية للجوارح، و التمرين لها، حتى يدخل في ذلك غير الكلاب، لأن «مكلبا» عند أهل اللغة، هو صاحب الكلاب بلا خلاف بينهم، و قد نص على ذلك صاحب كتاب الجمهرة [2] و أنشد قول الشاعر:

تباري مراخيها الزجاج كأنها ضراء أحست نبأة من مكلب

ص: 394


1- [6]- المائدة: 4.

و لم يقل أحد من أهل اللغة أن المكلب هو المضري و المعلم، على أن حمل مكلبين على ما ذكروه يقتضي التكرار، لأنا قد استفدنا هذا المعنى من قوله تعالى:

وَ ما عَلَّمْتُمْ و حملها على ما قلناه يفيد زيادة على ذلك، و هو أن هذا الحكم يختص بالكلاب دون غيرها.

و الكلب يعتبر في كونه معلما، أن يرسله صاحبه فيسترسل، و يزجره فينزجر، و لا يأكل مما يمسكه، و يتكرر هذا منه، حتى يقال في العادة: إنه معلم، و ما هذا حاله، يحل أكل ما قتله، بلا خلاف إذا سمى صاحبه المسلم عند إرساله، و في ذلك خلاف. (1)

و التسمية شرط عند إرسال الكلب و السهم و عند الذبح، بدليل إجماع الطائفة، و طريق الاحتياط و قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (2)، و إنما أخرجنا من هذا الظاهر ما تركت التسمية عليه سهوا أو نسيانا، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: إذا أرسلت كلبك المعلم و ذكرت اسم الله عليه فكل (3)، فأباح ذلك بشرط الإرسال و التسمية، و في خبر آخر: فكل و إلا فلا.

و لا يحل أكل الصيد إذا أكل منه الكلب، و كان أكله معتادا، لأن ذلك يخرجه عن كونه معلما، على ما قلناه، و لقوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (4)، و ما هذه حاله ممسك على نفسه دون صاحبه، فإن كان أكله نادرا لم يخرجه عن كونه معلما، لأن العاقل إذا لم يخرجه السهو و الغلط فيما كان عالما به، عن كونه عالما بذلك بالإطلاق، فالبهيمة مع فقد العقل بذلك أولى.4.

ص: 395


1- - الخلاف في التسمية واقع عند العامة. لاحظ الخلاف كتاب الصيد و الذباحة المسألة 6.
2- - الأنعام: 121.
3- - سنن البيهقي: 9- 235 و 237 و كنز العمال: 9- 236 برقم 25812.
4- - المائدة: 4.

و كل صيد أخذ حيا و لم تدرك ذكاته، لا يحل أكله، و لا يحل أكل ما قتله غير كلب المسلم المعلم من الجوارح، و لا ما قتله الكلب إذا انفلت من صاحبه و لم يرسله، أو كان المسمي عند إرساله غير صاحبه الذي أرسله، أو شاركه في القتل غير واحد من الكلاب المعلمة، و لم يسم أحد أصحابها، و كذا حكم كل صيد وجد مقتولا، بعد ما غاب عن العين، أو سقط في ماء، أو من موضع عال، أو ضرب بسيف فانقطع نصفين و لم يتحرك واحد منهما، و لا سال منه دم، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه، و طريقة الاحتياط.

و لا يحل أكل ما قتل من مصيد الطير بغير النشاب، و لا به إذا لم يكن فيه حديد، بدليل ما قدمناه، و ما عدا الطير من صيد البر يحل أكل ما قتل منه بسائر السلاح- و إن كان قتله بالعقر في غير الحلق و اللبة [1] من بدنه- بلا خلاف، بشرط كون المتصيد مسلما، بدليل إجماع الطائفة.

و حكم ما استعصى من الأنعام أو وقع في زبية [2] و تعذر نحره أو ذبحه، حكم الوحش في صحة ذكاته بسائر السلاح، على أي وجه كان، و في ذلك خلاف، و يدل عليه إجماع الطائفة.

و النحر في الإبل، و الذبح فيما عداها، هو السنة بلا خلاف، و لا يجوز في الإبل الذبح و فيما عداها النحر، فإن ذبح الإبل مع القدرة و التمكين من نحرها، أو نحر ما عداها فكذلك لم يحل الأكل (1) بدليل إجماع الطائفة.

و إذا أراد نحر شي ء من الإبل، عقل يديه، و طعنه في لبته و هو بارك، و يذبح و يضجع ما عدا الإبل، فإن كان من الغنم، عقل يديه و أحد رجليه، و إن كان من البقر، عقل يديه و رجليه.ل.

ص: 396


1- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: فإن فعل ذلك لم يحل الأكل.

و لا تكون الذكاة صحيحة مبيحة للأكل إلا بقطع الحلقوم و الودجين و المري على الوجه الذي قدمناه، مع التمكن من ذلك بالحديد، أو ما يقوم مقامه في القطع عند فقده، من زجاج، أو حجر أو قصب، مع كون المذكي مسلما، و مع التسمية، و استقبال القبلة، بدليل ما قدمناه.

و لا تحل التذكية بالسن و الظفر المتصلين بلا خلاف و لا بالمنفصلين، و في ذلك خلاف، و طريقة الاحتياط تمنع من ذلك بعد إجماع الطائفة.

و لا تحل ذبائح الكفار، لأنهم لا يرون التسمية فرضا و لا سنة، و لأنهم لو سموا لما كانوا مسمين لله تعالى، لأنهم غير عارفين به سبحانه، و لا في حكم العارفين، و لا يلزم على ذلك تحريم ما يذبحه الصبي الذي يحسن الذبح، لأنه غير كافر، و في حكم العارف، و لأنا نخرجه من ظاهر الآية بدليل.

و لا يحل أكل كل ذبيحة تعمد فيها (1) قلب السكين و الذبح من أسفل إلى فوق، أو فصل الرأس منها، أو سلخ جلدها قبل أن تبرد بالموت، أو لم تتحرك، أو تحركت و لم يسل منها دم، بدليل الإجماع الماضي ذكره و طريقة الاحتياط.

و ذكاة ما أشعر أو أوبر من الأجنة ذكاة أمه، إن خرج ميتا حل أكله، و إن خرج حيا فأدركت ذكاته أكل و إلا فلا، و إن لم يكن أشعر أو أوبر لم يحل أكله إذا خرج ميتا، بدليل إجماع الطائفة.

و ذكاة السمك و الجراد صيد المسلم له فقط، و من أصحابنا من قال: يجوز صيد الكافر لهما، لأنه ليس من شرط ذلك التسمية، و إن كانت أولى، إلا أنه لا يحل أكل شي ء من ذلك إذا لم يشاهد المسلم أخذ الكافر له حيا (2) و القول الأول أحوط.

و لا يحل من السمك إلا ما كان له فلس، و لا يحل الدبا من الجراد، و لا يحل6.

ص: 397


1- - في «ج»: تعمل فيها.
2- - الشيخ: المبسوط: 6- 276.

من السمك ما مات في الماء، و لا من الجراد ما مات في الصحراء، و كذا حكم ما مات من السمك لذهاب الماء عنه، و ما مات من الجراد لوقوعه في ماء أو نار، بدليل ما قدمناه من الإجماع و طريقة الاحتياط.

و يحرم أكل الكلب و الخنزير و الثعلب و الأرنب و الضبع و الضب و اليربوع و السلحف (1) و القنفذ و الفأر و السنور و القرد و الدب [1] و الفيل و كل ذي ناب و مخلب من السباع و كل ذي مخلب من الطير، و ما لا حوصلة له منه و لا قانصة، و دواب البحر ما عدا ما قدمناه من السمك، و حشرات الأرض، و الميتة، و الدم المسفوح، و الطحال، و القضيب، و الأنثيين، و الغدد، و المشيمة، و المثانة، و الطين، إلا اليسير من تربة الحسين عليه السلام، و بيض ما لا يؤكل لحمه و لبنه، و ما اتفق طرفاه من مجهول البيض، و السموم القواتل، و ما قطع من الحيوان قبل الذكاة و بعدها، قبل أن يبرد بالموت، و ما كان في بطن ما شرب خمرا من ذلك و إن غسل، و الذي في بطن ما شرب بولا حتى يغسل، و ما وطئه الإنسان من الأنعام، و ما شرب من لبن خنزيرة و اشتد به، و ما كان من ولد ذلك و نسله، و ما أدمن شرب النجاسات حتى يمتنع (2) منه عشرا، و جلالة الغائط إذا كان غذاؤه كله من ذلك، حتى تحبس الإبل أربعين يوما، و البقر عشرين يوما، و الشاة عشرة أيام، و روي سبعة (3)، و البط و الدجاج خمسة أيام، و روي في الدجاج ثلاثة أيام (4)، و السمك يوما و ليلة، و الطعام النجس، و المغصوب، و الطعام في آنية الذهب و الفضة.3.

ص: 398


1- - في «ج»: و السلحفاة.
2- - في «ج»: حتى يمنع.
3- - مستدرك الوسائل: 16- 187 ب 19 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 و 3.
4- - الوسائل: 16 ب 28 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 2 و 8 و مستدرك الوسائل: 16- 187 ب 19 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 و 2 و 3.

و يحرم شرب قليل المسكر و كثيره- من عنب كان أو من غيره، مطبوخا كان أو غير مطبوخ- و الفقاع و كل ما ليس بطاهر من المياه و غيرها من المائعات.

و ثمن كل ما يحرم أكله و شربه من المسوخ و الأنجاس- إلا ما استثنيناه في كتاب البيع- و أجر عمل المحرمات من الملاهي و آلات القمار و غير ذلك من كل محرم حرام، و كذا الأجر على العبادات التي أمر بها المكلف لا بسبب الاستئجار، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة و طريق الاحتياط.

و يحتج على الشافعي في قوله بإباحة أكل الثعلب و الضبع بما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام: كل ذي ناب من السباع حرام (1)، و من طريق آخر أنه عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطير (2)، و يحتج عليه في تحليل أكل الضب بما رووه من أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أتى أصحابه و قد نزلوا بأرض كثيرة الضباب و هم يطبخون فقال: ما هذا؟ فقالوا: ضباب أصبناها، فقال عليه السلام:

إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابا في هذه الأرض و إني أخشى أن تكون هذه، فاكفؤا القدور. (3)

و يحتج على أبي حنيفة في تحليل ما عدا الخمر من النبيذ بما رووه من قوله عليه السلام: ما أسكر كثيره فقليله حرام (4)، و قوله: حرمت الخمر بعينها و المسكر من كل شراب. (5)

و يحتج على المخالف في تحريم الفقاع بما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام [1]3.

ص: 399


1- - سنن البيهقي: 9- 315 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 236 و 1- 289 و 327 و 373.
2- - سنن البيهقي: 9- 315 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 236 و 1- 289 و 327 و 373.
3- - سنن البيهقي: 9- 325 باب ما جاء في الضب و كنز العمال: 15- 452 برقم 41793.
4- - سنن البيهقي: 8- 296 و مسند أحمد بن حنبل: 2- 167 و 3- 112 و 343.
5- - سنن البيهقي: 8- 297 و 10- 213.

و الساجي في كتاب اختلاف الفقهاء عن أم حبيبة [1] زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أن قوما من أهل اليمن قدموا عليه صلى الله عليه و آله و سلم لتعلم الصلاة و الفرائض و السنن، فقالوا: يا رسول الله إن لنا شرابا نتخذه من القمح و الشعير، فقال عليه السلام: الغبيراء؟- فقالوا: نعم، فقال: لا تطعموه، قال الساجي في حديثه: إنه عليه السلام قال ذلك ثلاثا، و قال أبو عبيد في حديثه: لما كان بعد ذلك بيومين ذكروها له عليه السلام، فقال: الغبيراء؟- فقالوا:

نعم، قال عليه السلام: لا تطعموها، قالوا: فإنهم لا يدعونها، فقال عليه السلام: من لم يتركها فاضربوا عنقه. (1)

و روى أبو عبيد أيضا عن زيد بن أسلم [2] أن النبي عليه السلام سئل عن الغبيراء فنهى عنها و قال: لا خير فيها، قال و قال زيد بن أسلم: و الأسكركة هي [3]، و قد علمنا أن الأسكركة اسم يختص في لغة العرب بالفقاع، و قد روى ابن حنبل عن ضمرة أنه قال: الغبيراء التي نهى عليه السلام عنها الفقاع، و قال ابن حنبل: إن مالك بن أنس كان يكره الفقاع و يكره بيعه في الأسواق، و إن ابن المبارك [4] كان يكرهه، و كان يزيد بن هارون [5] يكرهه أيضا، و هؤلاء عند المخالف من كبار شيوخ7.

ص: 400


1- - سنن البيهقي: 8- 292 و مسند أحمد بن حنبل: 6- 427.

أصحاب الحديث. (1)

و لحوم الحمر الأهلية و البغال غير محرمة بدليل إجماع الطائفة، و أيضا الأصل الإباحة و المنع يحتاج إلى دليل، و لا دليل يقطع به على ذلك، لأن ما يتعلق به المخالف في تحريم لحم الحمر، أخبار آحاد لا يجوز العمل بها في الشرعيات، ثم هي معارضة بغيرها، و محمولة على أن سبب النهي عن ذلك قلة الظهر في ذلك الوقت لا تحريم اللحم، كما كان نهيه عليه السلام عن لحوم الخيل كذلك.

و قوله تعالى وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً (2)، لا دلالة للمخالف فيه، لأن جعلها للركوب و الزينة لا يمنع من كونها لغيرهما، بدليل جواز الحمل عليها- و إن لم يذكره- و أكل لحوم الخيل عند الأكثر (3) و لأن الظاهر أن المقصود بذلك الركوب و الزينة دون أكل اللحم، و كذا نقول، و ليس ذلك بمانع من كون لحمها حلالا إذا أريد أكله، ألا ترى أن من قال لغيره: قد وهبتك هذه الفرس لتركبها، لا يمنع من جواز انتفاعه به بغير الركوب.

و يجوز أن ينتفع من ميتة ما يقع الذكاة عليه بالصوف و الشعر و الوبر و القرن و الظلف و الخف و المخلب و السن و اللبن و الإنفحة (4) و الريش.

و متى وجد لحم و لم يعلم أ ذكي هو أو ميت (5) طرح على النار، فإن تقلص فهو ذكي، و إن انبسط فهو ميتة. و يعتبر السمك (6) بطرحه في الماء، فإن رسب [1] فهو ذكي، و إن طفا فهو ميت، كل ذلك بدليل الإجماع الماضي ذكره.ك.

ص: 401


1- - لاحظ الخلاف كتاب الأشربة، المسألة 6، و الانتصار: 199.
2- - النحل: 8.
3- - في «ج»: و أكل لحوم الخيل عند الأكثر جائز.
4- - الإنفحة هي الكرش. المصباح المنير.
5- - في «ج»: أو ميتة.
6- - في «ج»: و يعتبر في السمك.

كتاب الجنايات

و ما توجبه الجنايات على ضربين: قتل و غير قتل، فالقتل على ضروب ثلاثة:

عمد محض، و خطأ محض، و خطأ شبيه العمد.

فالعمد المحض هو ما وقع من كامل العقل عن قصد إليه بلا خلاف، سواء كان بمحدد، أو مثقل، أو سم، أو خنق، أو تغريق، أو تحريق، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً (1)، لأنه لم يفصل (2) بين أن يكون القتل بمحدد أو غيره.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، و أنا و الله عاقلته، فمن قتل بعده قتيلا، فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا و إن أحبوا أخذوا الدية (3)، لأنه لم يفرق أيضا.

و الخطأ المحض، هو ما وقع من غير قصد إليه، و لا إيقاع سببه بالمقتول، نحو أن يقصد المرء رمي طائر مثلا فيصيب إنسانا فيقتله، بلا خلاف.

و الخطأ شبيه العمد، هو ما وقع من غير قصد إليه، بل إلى إيقاع ما يحصل القتل عنده مما لم تجر العادة بانتفاء الحياة بمثله بالمقتول، نحو أن يقصد المرء تأديب من له تأديبه، أو معالجة غيره بما جرت العادة بحصول النفع عنده، من مشروب، أو فصد أو غيرهما، بدليل إجماع الطائفة.

ص: 402


1- - الإسراء: 33.
2- - في «ج»: لأنه لم يفرق.
3- - سنن البيهقي: 8- 52 كتاب الجنايات، باب الخيار في القصاص، و سنن الترمذي: 4- 21 و سنن الدار قطني: 3- 95 برقم 54 و 55 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 358.

و نحتج على مالك في قوله بقوله عليه السلام (1): ألا إن في قتيل عمد الخطأ بالسوط و العصا مائة من الإبل (2)، و من طريق آخر: ألا إن دية الخطأ شبيه العمد ما كان بالسوط و العصا مائة من الإبل (3)، و هذا نص أن ذلك (4) غير مختص بما رووه من قوله.

و الضرب الأول من القتل موجبه القود بشروط:

منها: أن يكون غير مستحق بلا خلاف.

و منها: أن يكون القاتل بالغا كامل العقل، فإن حكم العمد ممن ليست هذه حاله، حكم الخطأ، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: رفع القلم عن ثلاثة. (5)

و منها: أن لا يكون المقتول مجنونا، بلا خلاف بين أصحابنا.

و منها: أن لا يكون صغيرا، على خلاف بينهم فيه، و ظاهر القرآن يقتضي الاستفادة به. (6)

و منها: أن لا يكون القاتل والد المقتول، بدليل الإجماع المشار إليه، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا يقتل الوالد بولده. «7»

و منها: أن لا يكون القاتل حرا و المقتول عبدا، سواء كان عبد نفسه، أو عبد9.

ص: 403


1- - و في «ج»: و يحتج على المالك بقوله عليه السلام.
2- - سنن البيهقي: 8- 44 كتاب الجنايات باب شبه العمد. و مسند أحمد بن حنبل: 2- 103.
3- - سنن البيهقي: 8- 44 كتاب الجنايات باب شبه العمد. و مسند أحمد بن حنبل: 2- 103.
4- - كذا في الأصل و «ج»: و لكن في «س»: لأن ذلك.
5- - سنن الدار قطني: 3- 139 برقم 173 و الجامع الصغير: 2- 16 برقم 4462 و سنن البيهقي: 7- 359 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 140، 155.
6- - في «س»: «الاستفادة به» و هو تصحيف و الصحيح ما في المتن.

غيره، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ (1)، يدل على ما قلناه، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: لا يقتل حر بعبد. (2)

و منها: أن لا يكون القاتل مسلما و المقتول كافرا، سواء كان معاهدا أو مستأمنا أو حربيا، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (3)، و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام:

لا يقتل مسلم بكافر و لا ذو عهد في عهده (4) و يقتل الحر بالحرة بشرط أن يؤدي أوليائها إلى ورثته الفاضل عن ديتها من ديته، و هو النصف، بدليل إجماع الطائفة و قوله تعالى وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى [يدل على أن الذكر لا يقتل بالأنثى] (5)، و إنما أخرجنا من ذلك قتله بها مع الشرط الذي ذكرناه، بدليل الإجماع.

و تقتل الجماعة بالواحد بشرط أن يؤدي ولي الدم إلى ورثتهم الفاضل عن دية صاحبه، فإن اختار ولي الدم قتل واحد منهم، كان له ذلك، و يؤدي المستبقون ما يجب عليهم من أقساط الدية إلى ورثة المقاد منه، و يدل على ذلك إجماع الطائفة، و أيضا فما اشترطناه أشبه بالعدل و أليق به. (6)

و يدل على جواز قتل الجماعة بالواحد بعد الإجماع المشار إليه قوله تعالى:

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ، لأنه لم يفرق بين الواحد و الجماعة و أيضا قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (7)، لأن المعنى

ص: 404


1- - البقرة: 178.
2- - سنن البيهقي: 8- 34 و 35 كتاب الجنايات باب لا يقتل حر بعبد.
3- - النساء: 141.
4- - سنن البيهقي: 8- 29 و 30 و 31، و لاحظ صحيح البخاري: 9- 16.
5- - البقرة: 178 و ما بين المعقوفتين موجود في «ج».
6- - و في «س»: «بالعدل و التوبة» و الصحيح ما في المتن.
7- (8)- البقرة: 179.

أن القاتل إذا علم أنه إذا قتل قتل (1) كف عن القتل، و كان في ذلك حياته و حياة من هم بقتله، و سقوط القود بالاشتراك في القتل يبطل المقصود بالآية.

و يحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام: فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين. الخبر (2)، لأنه لم يفرق، و قوله تعالى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (3) و الْحُرُّ بِالْحُرِّ (4) المراد به الجنس لا العدد، فكأنه قال: إن جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس، و جنس الأحرار يؤخذ بجنس الأحرار.

و لا تجب الدية في قتل العمد مع تكامل الشروط الموجبة للقود، فإن بذلها القاتل و رضى بها ولي الدم جاز ذلك، و سقط حقه من القصاص، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (5)، و قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ (6)، و من أوجب زيادة على ذلك فقد ترك الظاهر.

و متى هرب قاتل العمد، و لم يقدر عليه حتى مات، أخذت الدية من ماله، فإن لم يكن له مال، أخذت الدية من الأقرب فالأقرب من أوليائه الذين يرثون ديته، بدليل الإجماع المتكرر.

و يقتل الواحد بالجماعة إن اختار أولياء الدم قتله، و لا شي ء لهم غيره، فإن تراضوا بالدية، فعليه إذا قبل [من الديات الكاملة بعدة من قتل] و إن أراد بعض الأولياء القود و بعضهم الدية، كان لهم ذلك، و إن عفا بعضهم، سقط حقه، و بقي حق من لم يعف على مراده.ح.

ص: 405


1- - في «ج»: إذا علم القاتل انه إذا قتل به يقتل.
2- - سنن البيهقي: 8- 52 كتاب الجنايات.
3- - المائدة: 45.
4- - البقرة: 178.
5- - المائدة: 45.
6- - البقرة: 178.

و لو كان المقتول واحدا، و أولياؤه جماعة، فاختار بعضهم القود، و البعض الآخر الدية و العفو، جاز قتله بشرط أن يؤدي من أراده إلى مريدي الدية أقساطهم منها، أو إلى ورثة المقاد منه أقساط من عفا، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً (1) و من أسقط القود مع عفو بعض الأولياء، أو أراد به الدية، فقد ترك الظاهر.

و يجوز لأحد الأولياء استيفاء القصاص من غير استئذان لشركائه فيه، بشرط أن يضمن نصيبهم من الدية، بدليل إجماع الطائفة و ظاهر الآية، لأنه ولي فيجب أن يكون له سلطان.

و يقتل الذمي بمن قتله من المسلمين، و يرجع على تركته أو أهله (2) بديات الأحرار و قيمة الرقيق، أو بما يلحقه من قسط ذلك إن كان مشاركا في القتل.

و إذا قتل العبد الحر، وجب تسليمه إلى ولي الدم و ما معه من مال و ولد، إن شاء قتله و تملك ماله و ولده، و إن شاء استرقه أيضا، بدليل إجماع الطائفة.

فإن كان العبد شريكا للحر في هذا القتل، و اختار الأولياء قتل الحر، فعلى سيد العبد لورثته نصف ديته، أو تسليم العبد إليهم يكون رقا لهم، بدليل الإجماع المشار إليه، و إن اختاروا قتل العبد، كان ذلك لهم، بلا خلاف بين أصحابنا.

و ليس لسيد العبد على الحر سبيل عند الأكثر منهم، و هو الظاهر في الروايات، و منهم من قال: يؤدي الحر إلى سيد العبد نصف قيمته (3)، و إن اختاروا قتلهما جميعا، كان لهم ذلك بلا خلاف بين أصحابنا، و منهم من قال:

بشرط أن يؤدوا قيمة العبد إلى سيده خاصة، و منهم من قال: و إلى ورثة الحر6.

ص: 406


1- - الإسراء: 33.
2- - في «ج»: و يرجع على أهله و تركته.
3- - الحلبي: الكافي: 386.

أيضا. (1).

و إذا قامت البينة بالقتل على إنسان، و أقر آخر بذلك القتل، و برأ المشهود عليه منه، فأوليائه مخيرون بين قبول الدية منهما نصفين، و بين قتلهما، و رد نصف ديته على ورثة المشهود عليه، دون المقر، و لا شي ء لورثته على المشهود عليه، و إذا لم يبرء المقر المشهود عليه، كانا شريكين في القتل، متساويين فيما يقتضيه.

و إذا أقر إنسان بقتل يوجب القود، و أقر آخر بذلك القتل خطأ، كان ولي الدم بالخيار بين قتل المقر بالعمد، و لا شي ء لهم على الآخر، و بين أخذ الدية منهما نصفين، و القود على المباشر للقتل، دون الآمر به أو المكره عليه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه، و قد روي: أن الآمر إن كان سيد العبد، و كان معتادا لذلك، قتل السيد و خلد العبد [في] (2) الحبس، و إن كان نادرا، قتل العبد، و خلد السيد [في] (3) الحبس. (4)

و إذا اجتمع ثلاثة في قتل، فأمسك أحدهم، و ضرب الآخر، و كان الثالث عينا لهم، قتل القاتل، و خلد الممسك [في] (5) الحبس، و سملت عين الرقيب، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف لما رووه من قوله عليه السلام: يقتل القاتل و يصبر الصابر (6)، قال أبو عبيدة [1]: معناه يحبس الحابس.

و إذا قتل السيد عبده، بالغ السلطان في تأديبه، و أغرمه قيمته، و تصدق بها، فإن كان معتادا لقتل الرقيق، مقرا عليه، قتل لفساده في الأرض- لا على وجه القصاص- و كذا لو كان معتادا لقتل أهل الذمة.

و لا يستقيد إلا سلطان الإسلام، أو من يأذن له في ذلك، و هو ولي من ليس5.

ص: 407


1- - لاحظ في الوقوف على الأقوال المختلف: 791 من الطبع القديم.
2- - ما بين المعقوفات موجود في «ج».
3- - ما بين المعقوفات موجود في «ج».
4- - لاحظ الكافي للحلبي: 387.
5- - ما بين المعقوفات موجود في «ج».
6- - سنن الدار قطني: 3- 140 برقم 175.

له ولي من أهله، يقتل بالعمد أو يأخذ الدية و يأخذ دية الخطأ، و لا يجوز له العفو كغيره من الأولياء.

و لا يستقاد إلا بضرب العنق، و لا يجوز قتل القاتل بغير الحديد (1) و إن كان هو فعل ذلك، بلا خلاف بين أصحابنا في هذا كله، و من أصحابنا من قال (2):

إن قصاص الطرف يدخل في قصاص النفس، و كذلك ديته تدخل في دية النفس، و منهم من قال (3): إن قطع يده أو قلع عينه ثم قتله بفعل آخر، فعل به مثل ذلك ثم قتل، و ظاهر قوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ (4)، و قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (5)، معه.

و أما الضربان الآخران من القتل ففيهما الدية، على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

و تجب الكفارة في ضروب القتل كلها إلا أنها في العمد عتق رقبة و صيام شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكينا على الجمع، و لا تجب إلا مع التراضي بالدية، و في الخطأ على التخير، بدليل إجماع الطائفة على ذلك، و طريقة الاحتياط تقتضي ذلك.

و يحتج على المخالف في كفارة قتل العمد بما رووه من أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني و أدت في الجاهلية، فقال: أعتق عن كل موؤدة رقبة [1]،4.

ص: 408


1- - في الأصل: و لا يجوز القتل بغير الحديد.
2- - لاحظ المختلف: 809 الطبع القديم كتاب القصاص و الديات الفصل الخامس.
3- - الشيخ: النهاية: 771 و الخلاف كتاب الجنايات المسألة 89.
4- - المائدة: 45.
5- - البقرة: 194.

و بما رواه واثلة [1] قال: أتينا رسول الله في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. (1)

و أما ما عدا القتل من الجناية (2) على الآدمي في بدنه بالجروح و غيرها، و في القصاص مع حصول الشروط التي اعتبرناها في القصاص بالقتل، و ينضاف إلى ذلك (3) شرطان آخران: أحدهما أن يكون ما فعله الجاني مما لا يرجى صلاحه كقطع اليد مثلا، أو عطبها و قلع العين أو ذهاب ضوئها، و ما أشبه ذلك، و الثاني أن لا يخاف بالاقتصاص به تلف نفس المقتص منه، كالجائفة و المأمومة و ما جرى مجراهما، فإنها يخاف منها تلف النفس (4) و لا يصح فيها و لا في مثلها القصاص.

و متى اقتص بجرح أو كسر أو قلع (5) قبل اليأس من صلاحه، فبرأ أحدهما،ع.

ص: 409


1- - المغني لابن قدامة: 10- 38 و سنن البيهقي: 8- 133 باب الكفارة في قتل العمد، و الفقه على المذاهب الأربعة: 5- 255 و المجموع للنووي: 17- 550 باب كفارة القتل. و نقله أحمد بن إدريس القرافي في الذخيرة: 12- 419.
2- - في «ج»: من الجنايات.
3- - كذا في جميع النسخ و الظاهر «فينضاف» جوابا لأما.
4- - في «ج»: و ما جرى مجراهما مما يخاف فيه.
5- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: أو خلع.

و لم يبرأ الآخر، أعيد القصاص عليه إن كان بإذنه، و إن كان بغير إذنه، رجع المقتص منه على المعتدي دون المجني عليه.

و إذا لم يتعد المقتص المشروع له و مات المقتص منه، لم يكن عليه شي ء، فإن تعدى بما لا يقصد معه تلف النفس، كان ضامنا لما يفضل عن أرش الجناية عليه من ديته، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و من قطع أصابع غيره، أو واحدة منها، و قطع آخر يده من الزند، أو المرفق، أو الإبط، فعلى الأول دية ما جناه، و على الثاني دية ما بقي بعده، و إن شاء اقتص منهما، و رد على الثاني دية ما جناه الأول، أو أخذ من الأول دية ما جناه، فدفعها إلى الثاني، بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا قوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ (1) يدل على جواز القصاص.

و من قطع يمين غيره، و لا يمين له، قطعت يساره، فإن لم يكن له يسار، قطعت رجله اليمنى، فإن لم يكن له، قطعت اليسرى، بدليل الإجماع المشار إليه.

و ما لم يتكامل فيه الشروط التي معها يجب القصاص، ففيه الدية، و يضمن الحر قيمة ما أفسده و أرش ما جناه عن عمد، أو خطأ، أو قصد، أو سهو، و ما يحصل من ذلك عند فعله، أو فعل من يلي عليه على الوجه الذي نذكره.

فمن قتل حيوان غيره، أو جرحه، أو كسر آلته، أو مزق ثوبه، أو هدم بناءه، ضمن، و كذا لو حصل شي ء من ذلك بإحداثه في طريق المسلمين، أو في غيره من الملك المشترك، أو ملك الغير الخاص ما لم يبح له.

و يضمن ما يحصل بمداواته من فساد إذا (2) لم يبرأ إلى المداوي أو وليه منه، أو بإرساله جمله الهائج، و كلبه العقور، أو بإرسال غنمه ليلا على كل حال، و لاا.

ص: 410


1- - المائدة: 45.
2- - في «ج»: بمداوائه و غيره إذا.

يضمن ما تجنيه نهارا إلا أن يكون أرسلها في ملك غيره.

و روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن ناقة البراء بن عازب [1] دخلت حائطا فأفسدته فقضى عليه: أن على أهل الأموال حفظها نهارا، و على أهل المواشي حفظها ليلا، و أن على أهلها الضمان في الليل. (1)

و يضمن ما تجنيه دابته بيدها إذا كان راكبا لها أو قائدا، و لا يضمن ما تجنيه برجلها إلا أن يؤلمها بسوط أو مهماز أو لجام، و يضمن كل ذلك إذا كان سائقا، و لم يحذر، أو حاملا عليها من لا يعقل على كل حال، و يضمن ما تفسده إذا نفرها إلا أن يكون قصد بذلك دفع أذاها عنه، أو عمن يجري مجراه، و يضمن جناية الخطإ عن رقيقه و عمن هو في حجره، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه.2.

ص: 411


1- - سنن الدار قطني: 3- 154 برقم 216- 222.

فصل: في الديات

دية الحر المسلم في قتل العمد مائة من مسان الإبل (1) أو مائتا بقرة، أو مائتا حلة، أو ألف شاة، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم فضة جيادا، على حسب ما يملكه من يؤخذ منه في الموضع الذي ذكرناه، يدل على ذلك إجماع الطائفة، و أيضا فالأصل براءة الذمة.

و من قال: إنها من الغنم ألفان، و من الدراهم اثنا عشر ألفا (2)، فعليه الدليل. و تجب هذه الدية في مال القاتل بلا خلاف، و تستأدى في سنة، بدليل إجماع الطائفة.

و دية قتل الخطأ شبيه العمد على أهل الإبل ثلاثة و ثلاثون حقة، و ثلاث و ثلاثون جذعة و أربعة و ثلاثون ثنية، كلها طروقة الفحل، و قد روى: ثلاث و ثلاثون بنت لبون [1] و ثلاث و ثلاثون حقة و أربع و ثلاثون خلفة (3)، و روي:

أنها ثلاثون بنت مخاض و ثلاثون بنت لبون و أربعون خلفة (4)، و ما ذكرناه أولا

ص: 412


1- - لاحظ في الوقوف على معنى «المسان» عند الفقهاء و اللغويين جواهر الكلام: 43- 5.
2- - ذهب إليه بعض العامة، لاحظ الخلاف كتاب الديات، المسألة 10.
3- - لاحظ الوسائل: 19 ب 1 من أبواب ديات النفس ح 13. و في «ج»: أربع و أربعون خلفة.
4- - مستدرك الوسائل: 18 ب 2 من أبواب ديات النفس ح 6.

تقتضيه طريقة الاحتياط، لأن الأسنان فيه الأعلى، و تجب هذه الدية في مال القاتل.

فإن لم يكن له مال استسعى فيها، و أنظر إلى حين اليسر، فإن مات أو هرب أخذت من أوليائه الذين يرثون ديته الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن له أولياء، أخذت من بيت المال، يدل على ذلك إجماع الطائفة، و أيضا فذمة العاقلة في الأصل بريئة و شغلها بإيجاب الدية مع قدرة القاتل عليها، يفتقر إلى دليل، و تستأدى هذه الدية في سنتين، بلا خلاف من أصحابنا.

و دية قتل الخطأ المحض على أهل الإبل ثلاثون حقة، و ثلاثون بنت لبون، و عشرون بنت مخاض، و عشرون ابن لبون ذكرا، و روى: أنها خمس و عشرون بنت مخاض، و خمس و عشرون بنت لبون، و خمس و عشرون حقة، و خمس و عشرون جذعة (1). و الأول أظهر في الروايات.

و تجب هذه الدية على العاقلة، بلا خلاف إلا من «الأصم» [1] و تستأدى في ثلاث سنين، بلا خلاف إلا من «ربيعة» [2] فإنه قال: في خمس، و إذا لم يكن للعاقلة مال، أو لم يكن له عاقلة، وجبت الدية في ماله، فإن لم يكن له مال، وجبت في بيت المال، بدليل إجماع الطائفة.

و عاقلة الحر المسلم عصبته الذين يرثون ديته، و عاقلة الرقيق مالكه، و عاقلة الذمي الفقير الإمام، و لا تعقل العاقلة (2) صلحا و لا إقرارا و لا ما وقع عن تعد،ن.

ص: 413


1- - لاحظ الوسائل: 19، ب 2 من أبواب ديات النفس، ح 10.
2- - في «ج»: «و لا يقبل العاقلة» و الصحيح ما في المتن.

كحدث الطريق و ما دون الموضحة.

و دية رقيق المسلمين قيمته، ما لم يتجاوز قيمة العبد دية الحر المسلم، و قيمة الأمة دية الحرة، فإن تجاوزت ذلك ردت إليه.

و دية اليهودي و النصراني و المجوسي ثمانمائة درهم، بدليل إجماع الطائفة و أيضا فالأصل براءة الذمة، و شغلها بما زاد على ذلك يفتقر إلى دليل، و دية رقيقهم قيمته ما لم يتجاوز قيمة العبد دية الحر الذمي، و قيمة الأمة دية الحرة الذمية، فإن تجاوزت ذلك فترد إليها، بدليل الإجماع المشار إليه.

و دية المرأة نصف دية الرجل، بلا خلاف إلا من «ابن علية» [1] و «الأصم» فإنهما قالا: هما سواء (1)، و يحتج عليهما بما روي من طرقهم من قوله عليه السلام: دية المرأة على النصف من دية الرجل. (2)

و يجب على القاتل في الحرم أو في شهر حرام دية و ثلث.

و من أخرج غيره من منزله ليلا، ضمن ديته في ماله حتى يرده، أو يقيم البينة بسلامته أو براءته من هلاكه، و كذا حكم الظئر مع الصبي الذي تحضنه.

و إذا وجد صبي في بئر لقوم و كانوا متهمين على أهله، فعليهم الدية، و إن كانوا مأمونين فلا شي ء عليهم، و القتيل إذا وجد في قرية، و لم يعرف من قتله، فديته على أهلها، فإن وجد بين القريتين، فالدية على أهل الأقرب إليه منهما، فإن كان وسطا فالدية نصفان، و حكم القبيلة و المحلة و الدرب و الدار حكم القرية.

و دية كل قتيل لا يعرف قاتله و لا يمكن إضافته إلى أحد، على بيت المال،5.

ص: 414


1- - لاحظ المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 9- 532 كتاب الديات و البحر الزخار: 5- 275.
2- - سنن البيهقي: 8- 95 كتاب الديات و التاج الجامع للأصول: 3- 11 و كنز العمال: 15- 57 برقم 40071 و البحر الزخار: 5- 275.

كقتيل الزحام، و الموجود بالأرض التي لا مالك لها، كالبراري و الجبال، كل ذلك بطريق إجماع الطائفة.

و من عزل عن زوجته الحرة بغير إذنها، لزمه لها دية النطفة عشرة دنانير، و إن كان ذلك بإفزاع غيره، فالدية لهما عليه.

و من جنى على امرأة فألقت نطفة، فعليه في ماله ديتها عشرون دينارا، و إن ألقت علقة، و هي قطعة دم كالمحجمة، فأربعون دينارا، و إن ألقت مضغة، و هي بضعة من لحم، فستون دينارا، و إن ألقت عظما، و هو أن يصير في المضغة سبع عقد، فثمانون دينارا، و إن ألقت جنينا كامل الصورة فمائة دينار (1) و إن ألقته حيا ثم مات، لزم فيه دية كاملة، و إن مات الجنين في الجوف ففيه نصف الدية، و تجب الدية للأم خاصة إن كان الزوج هو الجاني، و تجب للزوج خاصة إن كانت الجانية هي.

و إذا كان للحمل حكم الرقيق أو أهل الذمة ففيه بحساب دياتهم.

و في قطع رأس الميت عشر ديته، و في قطع أعضائه بحساب ذلك، و لا يورث ذلك، بل يتصدق به عنه، كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.

و قضى أمير المؤمنين عليه السلام في ستة غلمان كانوا يسبحون، فغرق أحدهم فشهد منهم ثلاثة على اثنين بتغريقه، و شهد الاثنان على الثلاثة بذلك: أن على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، و على الثلاث خمسا الدية. (2)

و قضى عليه السلام في أربعة تباعجوا بالسكاكين فمات اثنان و بقي اثنان: أن على الباقين دية المقتولين يقاصان منهما بأرش جراحهما. (3)1.

ص: 415


1- - كذا في الأصل و «س» و لكن في «ج»: فإن وضعته كامل الخلقة و لم تلجه الروح فمائة دينار.
2- - لاحظ الوسائل: 19، ب 2 من أبواب موجبات الضمان ح 1.
3- - الوسائل: 19، ب 1 من أبواب موجبات الضمان ح 1.

و قضى عليه السلام في امرأة ركبت عنق أخرى فجاءت أخرى فقرصت المركوبة فقمصت فوقعت الراكبة فاندق عنقها: أن على القارصة ثلث الدية، و على المركوبة الثلث و أسقط الثلث، لأن الراكبة كانت لاعبة و لم تكن مستأجرة، و لو كانت كذلك لوجبت الدية عليهما كاملة. [1]

و اعلم أن في ذهاب العقل الدية كاملة بلا خلاف.

و في شعر الرأس و اللحية إذا لم ينبت الدية كاملة، فإن نبت كان في شعر رأس الرجل أو لحيته عشر الدية، و في شعر المرأة مهر مثلها، بدليل إجماع الطائفة.

و في قلع العينين أو ذهاب ضوئهما الدية كاملة، و في إحداهما نصف الدية بلا خلاف، و يعتبر بالفتح في عين الشمس، فإن أطرق حكم بالسلامة، و إن لم يطرق حكم بذهاب النور.

و في قلع عين الأعور- إذا كان عورة خلقة أو بآفة من قبل الله تعالى- الدية كاملة، بدليل إجماع الطائفة، فإن كان عورة بغير ما ذكرناه فنصف الدية.

و في بعض البصر بحساب ما ذكرناه، و تقاس إحدى العينين بالأخرى بلا خلاف، و العينان بعيني من هو من أبناء سنه عندنا، و يعتبر مدى ما يبصر بها من أربع جهات، فإن استوى ذلك صدق، و إن اختلف كذب بلا خلاف.

و في شفر العين الأعلى ثلث ديتها، و في الأسفل نصف ديتها، و العين العمياء إذا كانت واقفه (1) ففي خسفها ثلث ديتها، و في طبقها إذا كانت مفتوحة أو ذهاب سوادها، ربع ديتها.ة.

ص: 416


1- - في «س»: واقعة.

و في ذهاب شعر الحاجبين إذا لم ينبت، الدية كاملة، و في أحدهما نصف الدية، فإن نبت ففيه الأرش.

و في قطع الأذنين أو ذهاب السمع جملة، الدية كاملة، و في إحديهما نصف الدية، و في نقصان السمع بحساب ذلك، يقاس بالصوت في الجهات، كالقياس في العين بالبصر، و في قطع شحمة الأذنين ثلث ديتها، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و في ذهاب الشم، الدية كاملة بلا خلاف، و يعتبر بتقريب الحراق، فإن دمعت العين، فحاسة الشم سليمة و إلا فلا.

و في استئصال الأنف بالقطع الدية كاملة، و في قطع الأرنبة نصف الدية، و في إحدى المنخرين الربع منها، و في النافذة في المنخرين ثلث الدية، و إن كانت في إحداهما فالسدس، فإن صلحت الأولى و التأمت كان فيها خمس الدية، و إن التأمت الثانية كان فيها العشر، و في كسره و جبره من غير عيب و لا عثم عشر الدية أيضا، بدليل الإجماع المشار إليه.

و في استئصال اللسان بالقطع، أو ذهاب النطق به جملة، الدية كاملة، و يعتبر بالإبرة، فإن لم يخرج دم أو خرج و كان أسود فهو أخرس، و إن خرج أحمر فهو صحيح، و في قطع بعضه بحساب الواجب في جميعه، و يقاس بالميل، و كذا الحكم في ذهاب بعض اللسان، و يعتبر بحروف المعجم، فما ذهب من المنطق به منها فعلى الجاني من الدية بعدده، و في لسان الأخرس إذا قطع ثلث دية الصحيح، بدليل الإجماع المشار إليه.

و في الشفتين الدية كاملة بلا خلاف، و في العليا الثلث منها، و في السفلى الثلثان، و في البعض منها بحساب ذلك، و في شق إحديهما ثلث ديتها، فإن التأمت فالخمس، بدليل إجماع الطائفة.

ص: 417

و في الأسنان الدية كاملة بلا خلاف، و في كل واحدة مما في مقاديم الفم، و هي اثنتا عشرة، نصف عشر الدية، و في كل واحدة مما في مآخيره، و هي ست عشرة، ربع عشر الدية، و في السن الزائدة على هذا العدد الأرش.

و في سن الصبي قبل أن يثغر [1] فيها عشر عشر الدية، و في بعض السن بحساب ديتها، و في اسودادها ثلثا دية سقوطها، و في قلعها بعد الاسوداد ثلث ديتها صحيحة.

و في الثديين الدية كاملة، و في أحدهما نصف الدية.

و في اليدين الدية كاملة، و في إحداهما النصف منها، و في كل واحد من الساعدين أو العضدين نصف الدية، و في كل إصبع عشر الدية إلا الإبهام، فإن فيها ثلث دية اليد، و في أنملة كل إصبع ثلث ديتها إلا الإبهام، فإن في الأنملة منها نصف ديتها، و حكم الفخذين و الساقين و القدمين و أصابعهما حكم اليدين، و في كل إصبع زائدة ثلث دية الأصابع الأصلية.

و في الصلب إذا كسر الدية الكاملة، فإن جبر و صلح من غير عيب، فعشر الدية.

و في قطع الحشفة فما زاد من الذكر، الدية الكاملة، و في الأنثيين الدية كاملة، و في إحديهما نصف الدية، و روي: أن في اليسرى منهما الثلثين، و في اليمنى الثلث (1).

و في إفضاء الحرة ديتها.2.

ص: 418


1- - الوسائل: 19، ب 1 من أبواب ديات الأعضاء ح 1 و ب 18 من أبواب ديات الأعضاء ح 2.

و في كسر عظام العضو (1) خمس دية ذلك العضو، فإن جبر و صلح من غير عيب، فأربعة أخماس ديته، و في موضحة كل عضو من اليدين ربع دية كسره، و في رضه ثلث ديته، فإن جبر فصلح من غير عيب، فأربعة أخماس رضه، و كل عضو فيه مقدر إذا جني عليه، فصار أشل، وجب فيه ثلثا ديته، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و حكم الشجاج [1] في الوجه حكمها في الرأس و هي ثمانية.

فأولها الحارصة: و هي الدامية، و هي التي تقشر (2) الجلد و تسيل الدم، ففيها عشر عشر دية المشجوج.

ثم الباضعة: و هي التي تبضع اللحم، و فيها خمس عشر ديته.

ثم النافذة و تسمى المتلاحمة: و هي التي تنفذ في اللحم، و فيها خمس عشر و عشر عشر.

ثم السمحاق: و هي التي تبلغ القشرة التي بين اللحم و العظم، و فيها خمسا عشر ديته.

و يثبت في هذه الأربع أيضا القصاص، بدليل إجماع الطائفة، و قال جميع الفقهاء: فيها حكومة و ليس فيها شي ء مقدر و لا قصاص.

ثم الموضحة: و هي التي توضح عن العظم، و فيها نصف عشر الدية بلا خلاف، و فيها القصاص أيضا بلا خلاف.

ثم الهاشمة: و هي التي تهشم العظم، و فيها عشر الدية.ق.

ص: 419


1- - في «ج»: و في كسر عظم العضو.
2- - في «س»: تشق.

ثم المنقلة: و هي التي تحوج مع كسر العظم إلى نقله من موضع إلى آخر، و فيها عشر و نصف عشر.

ثم المأمومة: و هي التي تصل إلى أم الدماغ، و فيها ثلث الدية، و في هذه الثلاث ما ذكرناه من المقدر بلا خلاف، و ليس فيها قصاص بلا خلاف.

و أما الجائفة فليست من الشجاج، لأنها في البدن و هي التي تبلغ الجوف، و لا قصاص فيها، و فيها ثلث الدية أيضا بلا خلاف.

و في لطمة وجه الحر إذا احمر موضعها دينار و نصف، فإن أخضر أو أسود فثلاثة دنانير، و في لطمة الجسد، النصف من لطمة الوجه.

و المرأة تساوي الرجل في ديات الأعضاء و الجراح حتى تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ذلك، رجعت إلى النصف من ديات الرجال، و ديات ذلك في العبيد بحساب قيمتهم ما لم تزد على دية الحر فإن زادت ترد إلى ذلك (1) على ما قدمناه، و ديات ذلك في أهل الذمة بحساب ديات أنفسهم.

و لا دية للمستأجر بما يحدث عليه (2) في إجارته بفعله أو عند فعله.

و لا دية لمقتول الحدود و الآداب المشروعة، و لا للمدافعة عن النفس أو المال، و ما تسقط الدية فيه تسقط قيمة المتلف (3) و أرش الجناية، و دليل ذلك كله إجماع الطائفة عليه، و فيه الحجة على ما بيناه.ف.

ص: 420


1- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: ما لم تزد على دية الحر فيرد إلى ذلك.
2- - في «س»: مما يحدث عليه.
3- - في «ج»: قيمة التلف.

كتاب الحدود

الفصل الأول: في حد الزنا

متى ثبت الجماع في الفرج على عاقلين (1) مختارين، من غير عقد، و لا شبهة عقد، و لا ملك يمين، و لا شبهة ملك، ثبوتا شرعيا، فهما زانيان، يجب عليهما الحد بلا خلاف.

و الزناة على ضروب:

منهم من يجب عليه القتل، حرا كان أو عبدا، محصنا أو غير محصن، و على كل حال، و هو من زنى بذات محرم له، أو وطئها مع العقد عليها، و العلم برحمها منه، أو زنى بامرأة أبيه، أو غصب امرأة على نفسها، أو زنى و هو ذمي بمسلمة، أو زنى و هو حر بكر رابعة، و قد جلد في الثلاثة قبلها، أو زنى و هو عبد ثامنة، و قد جلد فيما قبلها من المرات، بدليل إجماع الطائفة.

و يحتج على المخالف (2) بما رووه من قوله عليه السلام: من وقع على ذات محرم فاقتلوه (3) و لم يفصل، و ليس لهم أن يحملوا ذلك على المستحل، لأنه تخصيص بغير دليل، و لأنه لو أراد ذلك لم يكن لتخصيص ذوات الأرحام بالذكر فائدة، و روى

ص: 421


1- - في «ج»: مع عاقلين.
2- - في «س»: و يحتج فيها على المخالف.
3- - التاج الجامع للأصول: 3- 30، كتاب الحدود و سنن الدار قطني: 3- 126 برقم 142 و سنن البيهقي: 8- 234 و 237 كتاب الحدود باب من وقع على ذات محرم له و جامع الأصول: 4- 275.

المخالف أيضا: أن رجلا تزوج امرأة أبيه، قال أبو بردة [1]: فأمرني النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن أقتله. (1)

و غصب المرأة على نفسها أفحش و أغلظ من الزنا مع التراضي، و كذا المعاودة للزنا بعد الجلد ثلاث مرات و سبع مرات (2) لا شبهة في عظم ذنبه، و تأكد فحشه، فلا يمتنع أن يكون الحد أغلظ، و في زنا الذمي بالمسلمة خرق للذمة، و من خرق لا ذمة فهو مباح القتل بلا خلاف، و ليس لأحد أن يقول: كيف يقتل من ليس بقاتل؟ لأن المحصن و المرتد يقتلان بلا خلاف و ليسا بقاتلين.

و من الزناة من يجب عليه الجلد ثم الرجم، و هو المحصن إذا كان شيخا أو شيخة، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فالرجم لا خلاف فيه إلا من الخوارج، و خلافهم غير معتد (3) به، و قد انقرض و حصل الإجماع على خلافه، و إنما الخلاف في لزوم الجلد مع الرجم، و ظاهر القرآن يدل عليه، و يحتج على المخالف (4) بما رووه من قوله عليه السلام: و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم. (5)

و من الزناة من يجب عليه الرجم فقط، و هو كل محصن ليس بشيخ و لا شيخة، بلا خلاف إلا من الخوارج، فإنهم أوجبوا الجلد، و نفوا أن يجب الرجم في4.

ص: 422


1- - جامع الأصول: 4- 275 و سنن البيهقي: 8- 237.
2- - في «ج»: أو سبع مرات.
3- - في «س»: غير معتمد.
4- - في «س»: و يحتج فيها على المخالف.
5- - صحيح مسلم: 5- 115 كتاب الحدود باب حد الزاني و التاج الجامع للأصول: 3- 24 كتاب الحدود و سنن البيهقي: 8- 210 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 320 و 321 و جامع الأصول: 4- 264.

موضع من المواضع، و قد بينا انعقاد الإجماع على خلافه، و من أصحابنا من قال بوجوب الجلد ها هنا أيضا مع الرجم (1)، و الظاهر من المذهب هو الأول.

و من الزناة من يجب عليه الجلد ثم النفي عاما إلى مصر آخر، و هو الرجل إذا كان بكرا، بدليل إجماع الطائفة، و قد روي من طرق المخالف أنه عليه السلام قال: البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام. (2)

و من الزناة من يجب عليه الجلد فقط، و هو كل من زنى و ليس بمحصن و لا بكر، و المرأة إذا زنت (3) بكرة، بدليل الإجماع المشار إليه.

و من الزناة من يجب عليه جلد خمسين فقط، و هو العبد أو الأمة، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، شيخين أو غير شيخين، و على كل حال.

و من الزناة من يجب عليه من حد الحر و من حد العبد بحساب ما تحرر منه و بقي رقا، و هو المكاتب الذي قد تحرر بعضه.

و من الزناة من يجب عليه التعزير، و هو الأب إذا زنى بجارية ابنه، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و ليس لأحد أن ينكر سقوط الحد عن الأب ها هنا، مع اعترافه بسقوط القصاص عنه في القتل، لأن ما أوجب ذلك في أحد الموضعين، و هو الدليل الشرعي يوجبه في الآخر.

و الإحصان الموجب للرجم هو أن يكون الزاني بالغا كامل العقل، له زوجة دوام، أو ملك يمين، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، مسلمة أو ذمية- عند من أجاز نكاح الذمية- و يكون قد وطأها، و لا يمنعه من وطئها مستقبلا مانع، منت.

ص: 423


1- - الشيخ المفيد: المقنعة: 775 و السيد المرتضى: الانتصار: 254.
2- - التاج الجامع للأصول: 3- 24 كتاب الحدود و سنن البيهقي: 8- 210 و مسند أحمد بن حنبل: 5- 320 و 321 و جامع الأصول: 4- 264.
3- - في «س»: إذا كانت.

سفر أو حبس أو مرض منها، و يعتبر عمن هذه حاله بالثيب أيضا.

و البكر هو الذي ليس بمحصن، و قد أملك على امرأة و لم يدخل بها، و حكم المرأة في ذلك كله حكم الرجل، و يدل على ما قلناه الإجماع المشار إليه.

و يثبت حكم الزنا إذا كان الزاني ممن يصح منه القصد إليه (1) سواء كان مكرها أو سكران، و إن كان مجنونا مطبقا لا يفيق فلا شي ء عليه، و إن كان يصح منه القصد إليه جلد مائة جلدة، محصنا كان أو غير محصن، إذا ثبت فعله ببينة أو علمه (2) الإمام، و لا يعتد بإقراره و إن كان ممن يفيق و يعقل، كان حكمه في حال الإفاقة حكم العقلاء.

و سواء في ثبوت الحكم على الزاني كون المزني بها صغيرة أو مجنونة أو ميتة، و يسقط الحد عنها إن كانت مكرهة أو مجنونة لا تفيق، و إن كانت ممن تفيق فحكمها في حال الإفاقة حكم العاقلة.

و إذا تاب أحد الزانيين قبل قيام البينة عليه، و ظهرت توبته و صلاحه، سقط الحد عنه، و كذا إن رجع عن إقراره بالزنا قبل إقامة الحد، أو في حاله، أو فر منه، و لا تأثير لفراره إذا كان بعد ثبوت الزنا عليه لا بإقراره.

و إن تاب بعد ثبوت الزنا عليه، فللإمام العفو عنه، و ليس ذلك لغيره، و يحفر للمرجوم حفيرة يجعل فيها، و يرد التراب عليه إلى صدره، و لا يرد التراب عليه إن كان رجمه بإقراره.

و إذا اجتمع الجلد و الرجم بدئ بالجلد، و أمهل حتى يبرأ من الضرب، ثم رجم، و يبدأ الإمام بالرجم فيما يثبت بعلمه أو بإقراره، و يبدأ الشهود فيما ثبت بشهادتهم، و بعدهم الإمام، و بعده من حضره من عدول المسلمين و أخيارهم دونم.

ص: 424


1- - في «ج»: يصح منه العقد.
2- - في «ج»: أو علم الإمام.

فساقهم، و يتولى الإمام أو من يأذن له في الجلد إذا ثبت موجبه بعلمه أو بإقراره، و إن كان ثبوته بالبينة، تولاه الشهود.

و يقام الحد على الرجل على الهيئة التي رؤي زانيا عليها من عرى أو لباس، و لا يقام الحد في زمان القيظ في الهواجر [1] و لا في زمان القر في السوابر [2]، و يضرب أشد الضرب على سائر بدنه، سوى رأسه و فرجه، و يجلد الرجل قائما و المرأة جالسة، قد شدت عليها ثيابها.

و يجوز للسيد إقامة الحد على من ملكت يمينه بغير إذن الإمام، و لا يجوز لغير السيد ذلك إلا بإذنه، و كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه، و فيه الحجة، و يحتج فيها على المخالف في السيد بما رووه من قوله عليه السلام: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. (1)

الفصل الثاني: في حد اللواط و السحق

اللواط هو فجور الذكران بالذكران و هو على ضربين: إيقاب و ما دونه من التفخيذ.

ففي الأول إذا ثبت الثبوت الشرعي، قتل الفاعل و المفعول به.

و في الثاني جلد كل واحد منهما (2) مائة جلدة، بشرط كونهما بالغين عاقلين

ص: 425


1- - سنن الدار قطني: 3- 158 برقم 228 و سنن البيهقي: 8- 245 و مسند أحمد بن حنبل: 1- 95.
2- - في «س» و حاشية الأصل: ففي كل واحد منهما.

مختارين، و لا فرق في ذلك بين المحصن و البكر، و الحر و العبد، و المسلم و الذمي.

و الإمام مخير في قتله إن شاء صبرا أو رجما أو تردية من علو أو إلقاء جدار عليه أو إحراقا له بالنار، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه عن عكرمة [1] عن ابن عباس من قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من وجدتموه على عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل و المفعول به. (1)

و السحق هو فجور الإناث بالإناث، و فيه إذا ثبت جلد مائة لكل واحدة من الفاعلة و المفعول بها، بشرط البلوغ و كمال العقل و الاختيار، و لا فرق بين حصول الإحصان و الحرية و الإسلام و ارتفاع ذلك، و روي: وجوب الرجم مع الإحصان ها هنا و في القسم الثاني من اللواط. (2)

و حكم ذلك كله مع الإكراه أو الجنون أو التوبة قبل ثبوت الفاحشة و بعدها، و في الرجوع عن الإقرار، و في كيفية الجلد و وقته، و في القتل في المرة الرابعة، مثل الذي ذكرناه في الزنا، فلا نطول بإعادته، و ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.س.

ص: 426


1- - التاج الجامع للأصول: 3- 27 كتاب الحدود و سنن الدار قطني: 3- 124 برقم 140 و سنن البيهقي: 8- 232 و جامع الأصول: 4- 305 و سنن الترمذي: 4- 57 برقم 1456.
2- - لاحظ الوسائل: 18، ب 1 من أبواب حد السحق و القيادة، ح 1، و مستدرك الوسائل: 18، ب 1 من أبواب حد اللواط، ذيل الحديث الخامس.

الفصل الثالث: في حد القيادة

من جمع بين رجل و امرأة أو غلام، أو بين امرأتين للفجور، فعليه جلد خمسة و سبعين سوطا، رجلا كان أو امرأة، حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا، و يحلق رأس الرجل، و يشهر في المصر، و لا يفعل ذلك بالمرأة.

و حكم الرجوع عن الإقرار، و حكم الفرار و التوبة قبل ثبوت ذلك و بعده، و كيفية إقامة الحدود و وقته، ما قدمناه.

و من عاد ثانية جلد و نفي عن المصر، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و روي: أنه إن عاد ثالثة جلد، فإن عاد رابعة، عرضت عليه التوبة، فإن أبى قتل، و إن أجاب قبلت توبته، و جلد، فإن عاد خامسة بعد التوبة، قتل من غير أن يستتاب. (1)

الفصل الرابع: في حد القذف

من قذف- و هو كامل العقل- حرا أو حرة بزنا أو لواط- حرا كان القاذف أو مملوكا- رجلا أو امرأة، فهو مخير بين العفو عنه و بين مطالبته بحق القذف، و هو جلد ثمانين سوطا، بدليل إجماع الطائفة و أيضا قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (2)، و لم يفصل

ص: 427


1- - لم نجد النص في الجوامع الحديثية نعم نقله الحلبي في الكافي: 410.
2- - النور: 4.

بين العبد و غيره.

و إن كان القاذف ذميا قتل بخروجه من الذمة، و سواء في ذلك الصريح من اللفظ، و الكناية المفيدة لمعناه، فالصريح: لفظ الزنا، و اللواط، و الكناية: كلفظ القحوبية و العلوقية و الفسق و الفجور و القرننة [1] و الدياثة، و ما أشبه ذلك مما يفيد في عرف القاذف معنى الصريح.

و من قال لغيره: زنيت بفلانة، فهو قاذف لاثنين، و عليه لهما حدان، و كذا لو قذف جماعة، و أفرد كل واحد منهم بلفظ، سواء جاؤوا به على الاجتماع أو الانفراد، و لو قذفهم (1) بلفظ واحد و جاء به كل واحد منهم على الانفراد، فإن جاؤوا به مجتمعين حد لجميعهم حدا واحدا.

و حد القذف موروث يرثه كل من يرث المال من ذوي الأنساب دون الأسباب، و إذا طالب أحدهم بالحد و أقيم له، سقط حق الباقين، و إذا عفا بعضهم كان لمن لم يعف المطالبة باستيفاء الحد، و إذا لم يكن للمقذوف المتوفى ولي، أخذ بحقه سلطان الإسلام، و لم يجز له العفو.

و لا يسقط حد (2) القذف بالتوبة على حال، و إنما يسقط بعفو المقذوف، أو وليه من ذوي الأنساب خاصة، و يقتل القاذف في المرة الرابعة إذا حد فيما قبلها من المرات.

و يقتل من سب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيره من الأنبياء أو أحد الأئمة عليهم السلام، و ليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استئذان لصاحب الأمر (3) سبيل، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.ر.

ص: 428


1- - كذا في «ج» و لكن في الأصل و «س»: و قذفهم، و لعل الأصح «أو قذفهم».
2- - في الأصل و «س»: حق القذف.
3- - في «س»: «بصاحب الأمر»، و في «ج»: من استيذان صاحب الأمر.

الفصل الخامس

و الحد في شرب قليل المسكر و كثيره، و إن اختلفت أجناسه، إذا كان شاربه كامل العقل، حرا كان أو عبدا، رجلا كان أو امرأة، مسلما أو كافرا، متظاهرا بذلك بين المسلمين، ثمانون جلدة بدليل إجماع الطائفة.

و قد روي من طرق المخالف: أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم جلد شارب الخمر ثمانين (1)، و رووا عن علي عليه السلام أنه قال في شارب الخمر: إذا شرب سكر، و إذا سكر هذي، و إذا هذي افترى (2) فيجب أن يحد حد المفتري، و لا مخالف له من الصحابة في ذلك.

و يقتل المعتاد لشرب المسكر في الثالثة، و قد حد فيما قبلها، بدليل الإجماع المشار إليه، و حكم شارب الفقاع حكم شارب الخمر بدليل هذا الإجماع، و أيضا فقد ثبت تحريم شربه بما قدمناه فيما مضى، و كل من قال بذلك أوجب فيه حكم حد الخمر، و القول بأحد الأمرين دون الآخر خروج عن الإجماع.

و حكم التائب من ذلك قبل ثبوته أو بعده، حكم التائب من الزنا و غيره، مما يوجب حدا لله تعالى، و لا يتعلق به حق لآدمي و قد تقدم، و يضرب الرجل على ظهره و كتفيه و هو عريان، و المرأة في ثيابها.

ص: 429


1- - كنز العمال: 5- 484 برقم 1387.
2- - جامع الأصول: 4- 331 و سنن البيهقي: 8- 320 و 321 و كنز العمال: 5- 474 برقم 13660.

الفصل السادس: في حد السرقة

يجب القطع على من ثبت كونه سارقا بشروط:

منها: أن يكون مكلفا.

و منها: أن لا يكون والدا من ولده، و إن كان غنيا عن ماله، و لا عبدا من سيده بلا خلاف.

و منها: أن يكون مقدار المسروق، ربع دينار فصاعدا، أو قيمة ذلك مما يتمول عادة و شرعا، سواء كان محرزا بنفسه، و هو الذي إذا ترك لم يفسد، كالثياب و الحبوب اليابسة، أو لم يكن كذلك، كالفواكه و اللحوم، و سواء كان أصله الإباحة، كالخشب و القصب و الطين، و ما يعمل من الأواني، و ما يستخرج من المعادن أو لم يكن كذلك، كالثياب و الأثاث.

و منها: أن يكون المسروق لاحظ و لا شبهة للسارق فيه.

و منها: أن يكون مخرجا من حرز، و روى أصحابنا: أن الحرز في المكان هو الذي لا يجوز لغير مالكه أو مالك التصرف فيه دخوله إلا بإذن (1)، و يدل على جميع ذلك إجماع الطائفة.

و السارق هو الآخذ على جهة الاستخفاء و التفزع، و على هذا ليس على المنتهب و المختلس و الخائن (2) في وديعة أو عارية قطع- خلافا لأحمد- بدليل الإجماع المشار إليه، و أيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به، و ليس على

ص: 430


1- - لاحظ المبسوط: 8- 22.
2- - في «ج»: و المختلس و المختالين و الخائن.

وجوبه بما خالفه دليل.

و يحتج على المخالف بما روي من طرقهم عن جابر من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ليس على المنتهب و لا على المختلس و لا على الخائن قطع (1)، و هذا نص.

و نحتج على المخالف بما اعتبرناه من النصاب بما رووه عن عائشة من قوله عليه السلام: القطع في ربع دينار فصاعدا (2)، و هذا أيضا نص، و أيضا فالأصل براءة الذمة، و من أوجب القطع فيما نقص عما ذكرناه احتاج إلى دليل.

و نحتج على أبي حنيفة في إسقاط القطع بسرقة ما ليس بمحرز بنفسه، و ما كان أصله الإباحة، سوى الذهب و الفضة و الياقوت و الفيروزج (3) فإنه لم يسقط القطع بسرقته، بقوله تعالى وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (4)، لأنه لم يفصل، و لا يجوز أن يخرج من ذلك إلا ما أخرجه دليل قاطع، و بقوله عليه السلام:

القطع في ربع دينار. (5) و إنما أراد ما قيمته ذلك بلا خلاف، و لم يفرق.

و إذا تكاملت شروط القطع، قطعت يمين السارق أول مرة، فإن سرق ثانية، قطعت رجله اليسرى، بلا خلاف إلا من عطاء [1]، فإنه قال: يده اليسرى (6)، و قد5.

ص: 431


1- - التاج الجامع للأصول: 3- 22 كتاب الحدود و سنن الدار قطني: 3- 187 برقم 310 و سنن البيهقي: 8- 279 و جامع الأصول: 4- 321 و كنز العمال: 5- 381 برقم 13334.
2- - التاج الجامع للأصول: 3- 21 و جامع الأصول: 4- 310 و 325 و صحيح مسلم: 5- 112 كتاب الحدود باب حد السرقة و سنن البيهقي: 8- 254.
3- - لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة: 5- 174 و المغني لابن قدامة: 10- 243.
4- - المائدة: 38.
5- - تقدم مصدر الحديث آنفا.
6- - المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 10- 265.

روي من طرق المخالف عن جابر: أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أتي بسارق فقطع يده، ثم أتي به و قد سرق ثانية فقطع رجله اليسرى. (1)

فإن سرق ثالثة خلد الحبس إلى أن يموت، أو يرى ولي الأمر فيه رأيه، فإن سرق في الحبس ضربت عنقه، بدليل إجماع الطائفة.

و يحتج على المخالف بما روي عن علي عليه السلام من أنه أتي بسارق مقطوع اليد و الرجل، فقال: إني لأستحي من الله أن لا أترك له ما يأكل به و يستنجي (2)، و لم ينكر ذلك عليه أحد، و أيضا فالأصل براءة الذمة من القطع، فمن أوجبه في الثالثة فعليه الدليل.

و يحتج على المخالف في جواز قتله بما رووه عن جابر من أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قتل السارق في الخامسة (3)، و بما رووه عن عثمان و عبد الله بن عمر و عمر بن عبد العزيز من أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه. (4)

و إذا كانت يمين من وجب عليه القطع لها شلاء قطعت، و لم تقطع يساره، و كذلك من وجب قطع رجله اليسرى و كانت شلاء، تقطع دون رجله اليمنى، بدليل إجماع الطائفة.

و موضع القطع في اليدين من أصول الأصابع و يترك له الإبهام، و في الرجل عند معقد الشراك، و يترك له مؤخر القدم و العقب، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب قطعه، و ليس على قطع ما زاد عليه دليل.

و قد روى الناس كلهم عن علي عليه السلام: أنه قطع السارق من الموضع الذي2.

ص: 432


1- - سنن البيهقي: 8- 272 و بداية المجتهد: 2- 453.
2- - المغني لابن قدامة: 10- 268 و سنن البيهقي: 8- 275 باختلاف يسير، و الوسائل: 18 ب 5 من أبواب حد السرقة، ح 1 و 2.
3- - بداية المجتهد: 2- 453 و جامع الأصول: 4- 322 و سنن البيهقي: 8- 272.
4- - المغني لابن قدامة: 10- 267 و سنن البيهقي: 8- 272.

ذكرناه بمشهد من الصحابة و لم ينكر أحد منهم ذلك عليه، و هذا يقتضي على «أصل المخالف» [1] الإجماع على ذلك في تلك الحال.

و إذا سرق اثنان فما زاد عليهما شيئا، فبلغ نصيب كل واحد منهم المقدار الذي يجب فيه القطع، قطعوا جميعا بلا خلاف، سواء كانوا مشتركين في السرقة، أو كان كل واحد منهم يسرق لنفسه، و إن لم يبلغ نصيب كل واحد منهم ذلك المقدار، و لم يكونوا مشتركين، فلا قطع على واحد منهم بلا خلاف.

و إن كانوا مشتركين في ذلك، ففي إخراجه من الحرز قطعوا جميعا بربع دينار، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (1)، لأن ظاهره يقتضي أن وجوب القطع إنما كان بالسرقة المخصوصة، و إذا استحق كل واحد منهم هذا الاسم، وجب أن يستحق القطع.

و يحتج على المخالف بما رووه من الخبر المقدم لأنه عليه السلام أوجب القطع في ربع دينار فصاعدا، و لم يفصل بين الواحد و بين ما زاد عليه، و من أصحابنا من اختار القول: بأنه لا قطع على واحد من الجماعة حتى يبلغ نصيبه المقدار الذي يجب فيه القطع على كل حال (2)، و المذهب هو الأول.

و تقطع الأم بالسرقة من مال ولدها، و الولد بالسرقة من مال أحد الوالدين، و كل واحد من الزوجين بالسرقة من مال الآخر، بشرط أن يكون المال المسروق محرزا ممن سرقه، و لا قطع على من سرق [منهم] (3) من هؤلاء بدل ما يجب من النفقة لمن يستحق الإنفاق، بدليل الإجماع المشار إليه و ظاهر الآية و الخبر.».

ص: 433


1- - المائدة: 38.
2- - الشيخ: الخلاف، كتاب السرقة، المسألة 8.
3- - ما بين المعقوفتين موجود في «س».

و يقطع الطرار من الجيب و الكم من الثوب التحتاني، و يقطع النباش إذا أخذ كل واحد منهما ما قيمته ربع دينار فصاعدا، بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فظاهر الآية و الخبر يدلان على ذلك، لأن السارق هو الآخذ للشي ء على جهة الاستخفاء و التفزع، فيدخل من ذكرناه في ظاهر الآية.

و قد روى المخالف عن عائشة و عمر بن عبد العزيز أنهما قالا: سارق موتانا كسارق أحيائنا (1)، و الغرم لازم للسارق و إن قطع، بدليل الإجماع المشار إليه و ظاهر الآية و الخبر، لأنه يقتضي إيجاب القطع على كل حال، فمن منع منه مع الغرم فعليه الدليل.

و من أقر أو قامت عليه البينة بسرقات كثيرة، قطع بأولها و أغرم الباقي، و إذا رجع المقر بالسرقة عن إقراره، لم يقطع، و كذلك إن تاب و ظهر صلاحه قبل أن يرفع خبره إلى ولي الأمر، فإن تاب بعد ما ارتفع خبره إليه، كان مخيرا بين قطعه و العفو عنه، و ليس لغيره في ذلك خيار، و عليه رد ما سرقه إن كانت عينه باقية، و غرم قيمته إن كانت تالفة على كل حال، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و قد روى أصحابنا: أن الصبي إذا سرق هدد، فإن عاد ثانية أدب بحك أصابعه بالأرض حتى تدمى، فإن عاد ثالثة قطعت أطراف أنامله الأربع من المفصل الأول، فإن عاد رابعة قطعت من المفصل الثاني، فإن عاد خامسة قطعت من أصولها. (2)

و روي: أنه لا قطع على من سرق طعاما في عام مجاعة (3)، و قد بينا في كتاب4.

ص: 434


1- - الذخيرة تأليف القرافي: 12- 165 كتاب الحدود و المغني لابن قدامة: 10- 281 باب القطع في السرقة. و فيه «سارق أمواتنا.» و نحوه في البحر الزخار: 5- 173 كتاب الحدود. و نقله الشيخ في الخلاف كتاب السرقة المسألة 28 و الحلي في السرائر: 3- 514 كما في المتن.
2- - لاحظ الوسائل: 18، ب 28 من أبواب حد السرقة أحاديث الباب.
3- - الوسائل: 18، ب 25 من أبواب حد السرقة ح 2 و 3 و 4.

الجهاد حد المحارب فلا وجه لإعادته.

الفصل السابع

و اعلم أن التعزير يجب بفعل القبيح، أو الإخلال بالواجب الذي لم يرد الشرع بتوظيف حد عليه، أو ورد بذلك فيه و لم تتكامل شروط إقامته، فيعزر على مقدمات الزنا و اللواط من النوم في إزار واحد و الضم و التقبيل إلى غير ذلك، على حسب ما يراه ولي الأمر، من عشرة أسواط إلى تسعة و تسعين سوطا.

و يعزر من وطئ بهيمة، أو استمنى بيده، و يعزر العبد إذا سرق من مال سيده، و الوالد إذا سرق من مال ولده، و من سرق أقل من ربع دينار، و من سرقة أو أكثر منه من غير حرز، و من قذف- و هو حر مسلم- ولدا له، أو عبدا له، أو لغيره، أو ذميا، أو صغيرا، أو مجنونا، و يعزر العبيد و الإماء و أهل الذمة إذا تقاذفوا.

و من قذف غيره بما هو مشهور به، و معترف بفعله من سائر القبائح، لم يستحق حدا و لا تعزيرا، و يعزر المسلم إذا عير مسلما بعمي أو عرج أو جنون أو جذام أو برص، فإن كان كافرا فلا شي ء عليه.

و التعزير لما يناسب القذف من التعريض بما لا يفيد زنا، و لا لواطا، و النبز بالألقاب، من ثلاثة أسواط إلى تسعة و سبعين (1) سوطا، و إذا تقاذف اثنان بما يوجب الحد، سقط عنهما، و وجب تعزيرهما، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة، و روي: أنه متى عزر المرء رابعة استتيب، فإن أصر و عاد إلى ما يوجب التعزير ضربت عنقه. (2)

ص: 435


1- - في «ج» و «س»: «تسعة و تسعين» و الصحيح ما في المتن.
2- - لم نجد النص في المجامع الحديثية نعم نقله الحلبي في الكافي: 420 باختلاف يسير.

كتاب القضاء و ما يتعلق به

اشارة

يجب في متولي القضاء (1) أن يكون عالما بالحق في الحكم المردود إليه بدليل إجماع الطائفة، و أيضا فتولية المرء ما لا يعرفه قبيحة عقلا، و لا يجوز فعلها، و أيضا فالحاكم مخبر في الحكم عن الله تعالى، و نائب عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و لا شبهة في قبح ذلك من دون العلم، و أيضا قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. (2)

و من حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل الله، و يحتج على المخالف بما رووه في خبر تقسيم القضاة: «و رجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار» (3) و من قضى بالفتيا فقد قضى على جهل، و يجب فيه أن يكون عدلا بلا خلاف إلا من الأصم و خلافه غير معتد به.

و ينبغي أن يكون كامل العقل، حسن الرأي، ذا علم و ورع، و قوة على القيام بما فوض إليه (4)، و يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال و الحدود و القصاص و غير ذلك.

و سواء في ذلك ما علمه في حال الولاية أو قبلها، بدليل إجماع الطائفة،

ص: 436


1- - في «ج»: في المتولي للقضاء.
2- - المائدة: 44.
3- - سنن البيهقي: 10- 116 كتاب آداب القاضي باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل، و الجامع الصغير: 2- 264 برقم 6189.
4- - في «ج» و «س»: بما فوض الله.

و أيضا قوله تعالى وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (1)، و قوله يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (2)، و من حكم بعلمه فقد حكم بالحق و العدل، و أيضا قوله تعالى الزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (3)، و قوله وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. (4)

و من علمه الإمام أو الحاكم زانيا أو سارقا وجب عليه امتثال الأمر، و إذا ثبت ذلك في الحد ثبت في الأموال، لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين، و أيضا فلو لم يقض الحاكم بعلمه، لأدى إما إلى فسقه، من حيث منع الحق الذي يعلمه، أو إعطاء ما لم يعلم استحقاقه، و إما إلى إيقاف الحكم، و الأول يقتضي فسخ ولايته و إبطال أحكامه مستقبلا، و الثاني ينافي المقصود بها، و أيضا فإنما يحتاج إلى البينة ليغلب في الظن صدق المدعى، و لا شبهة في أن العلم بصدقه آكد من غلبة الظن.

فإذا وجب الحكم مع الظن ذلك، فلأن يجب مع العلم به أولى و أخرى، و يدل أيضا على ما قلناه إمضاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الحكم له بالناقة على الأعرابي من أمير المؤمنين عليه السلام (5) و من خزيمة بن ثابت (6)، و سماه لذلك ذا الشهادتين «7» من حيث علما صدقه صلى الله عليه و آله و سلم بالمعجز.

و قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح(7) لما طالبه بالبينة على ما ادعاه في درع طلحة: ويحك خالفت السنة بمطالبة إمام المسلمين ببينة، و هو مؤتمن على أكثر من هذا(8)، يدل على ما قلناه، لأنه أضاف الحكم بالعلم إلى البينة على رؤوس

ص: 437


1- - المائدة: 42.
2- - ص: 26.
3- - النور: 2.
4- - المائدة: 38.
5- - لاحظ الوسائل: 18 ب 18 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
6- - لاحظ ترجمته في أسد الغابة: 2- 114 و تهذيب التهذيب: 13- 140.
7- (8)- شريح بن الحارث الكوفي القاضي لاحظ ترجمته في تهذيب التهذيب: 4- 326.
8- (9)- راجع الوسائل: 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

الأشهاد من الصحابة و التابعين، فلم ينكر ذلك أحد منهم.

و ليس لأحد أن يمنع من الحكم بالعلم من حيث إن ذلك ربما اقتضى تهمة الحاكم، لأن ذلك استحسان محض، فلا يجوز العدول به عما اقتضاه الدليل، و يلزم على ذلك أن لا يجوز الحكم في المستقبل بالبينة و الإقرار المتقدمين من حيث كان مستند هذا الحكم العلم السابق لهما.

على أن الشروط المراعاة في الحاكم تقتضي حسن الظن به، و تمنع من تهمته في الحكم بعلمه، كما تمنع من ذلك في قوله: أقر عندي بكذا، أو قامت البينة بكذا.

و إذا وجب عليه الحكم بما ثبت عنده بإقرار أو بينة، و إن لم يحضر ذلك أحد سواه، و حرم عليه الامتناع من الحكم لأجل التهمة، فكذلك ما نحن فيه.

و يقضى بشهادة المسلمين بشرط: الحرية و الذكورة و البلوغ و كمال العقل و العدالة في جميع الأشياء بلا خلاف، غير أنه لا يقبل في الزنى إلا شهادة أربعة رجال بمعاينة الفرج في الفرج، مع اتحاد اللفظ و الوقت، و متى اختلفوا في الرؤية، أو نقص عددهم أو لم يأتوا بها في وقت واحد، حدوا حد الافتراء بلا خلاف، أو شهادة ثلاثة رجال و امرأتين، و كذا حكم اللواط و السحق، بدليل إجماع الطائفة، و يقبل فيما عدا ذلك شهادة (1) عدلين، و يعتبر في صحتها اتفاق المعنى و مطابقة الدعوى دون الوقت بلا خلاف.

و لا يقبل شهادة النساء فيما يوجب حدا، لا على الانفراد من الرجال و لا معهم، بلا خلاف إلا في الزنى عندنا على ما قدمناه، و لا تقبل شهادتهن على كل حال في الطلاق، و لا في رؤية الهلال، بدليل إجماع الطائفة.

و تقبل شهادتهن على حال الانفراد من الرجال في الولادة و الاستهلال و العيوب التي لا يطلع عليها الرجال، كالرتق و الإفضاء بلا خلاف.ة.

ص: 438


1- - في «ج» و «س»: بشهادة.

و تقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت مأمونة في الولادة و الاستهلال، و يحكم لأجلها بربع الدية أو الميراث، و تقبل شهادتهن فيما عدا ما ذكرناه مع الرجال بدليل إجماع الطائفة، و يقوم كل امرأتين مقام رجل بلا خلاف.

و يقضى بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الديون خاصة، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما رووه من طرق كثيرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أنه قضى باليمين مع الشاهد (1)، و على المسألة إجماع الصحابة أيضا.

و تقبل شهادة كل واحد من الولد و الوالدين و الزوجين للآخر، و تقبل شهادة العبيد لكل واحد و عليه إلا في موضع نذكره، كل ذلك بإجماع الطائفة و ظاهر القرآن، لأنه على عمومه إلا ما أخرجه دليل قاطع، و يقبل شهادة الأخ لأخيه بلا خلاف إلا من الأوزاعي [1] مطلقا و من مالك في النسب (2)، و تقبل شهادة الصديق لصديقه و إن كان بينهما ملاطفة و مهاداة بلا خلاف إلا من مالك فإنه قال: لا تقبل إذا كان ذلك بينهما.

و تقبل شهادة الأعمى فيما لا يحتاج فيه إلى مشاهدة، و ليس للمخالف أن يقول: إن الأعمى لا طريق له إلى معرفة المشهود عليه، لاشتباه الأصوات، لأن مثل ذلك يلزم في البصير، لاشتباه الأشخاص، و إذا كانت حاسة البصر طريقا إلى العلم مع جواز الاشتباه، فكذلك حاسة السمع، و لا شبهة في أن الأعمى يعرف أبويه (3) و زوجته و ولده ضرورة من جهة إدراك الصوت، و قد ثبت أن الصحابةه.

ص: 439


1- - سنن البيهقي: 10- 167 و سنن الدار قطني: 4- 214 برقم 37 و 38.
2- - المغني لابن قدامة و الشرح الكبير: 12- 69 كتاب الشهادات.
3- - في الأصل: يعرف أباه.

كانت تروي عن أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هن من وراء حجاب على التعيين لهن، و هذا يدل على أن التمييز (1) بينهن حصل من جهة السماع.

و تقبل شهادة الصبيان في الشجاج و الجراح خاصة، إذا كانوا يعقلون ذلك، و يؤخذ بأول أقوالهم، و لا يؤخذ بآخرها، بدليل إجماع الطائفة، و قد اشتهر عند الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قضى في ستة غلمان دخلوا الماء فغرق أحدهم فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنهما غرقاه، و شهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه: أن على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، و على الثلاثة الخمسان (2)، و قد ذكرنا هذه في فصل الديات، و لا يمتنع قبول شهادة الصبيان في بعض الأشياء دون بعض، كما نقوله كلنا في شهادة النساء.

و تقبل شهادة القاذف إذا تاب و أصلح عمله، و من شرط التوبة أن يكذب نفسه بدليل إجماع الطائفة، و لا تقبل شهادة الولد على والده، و لا العبد على سيده فيما ينكرانه، و تقبل عليهما بعد الوفاة بإجماع الطائفة، و لا تقبل شهادة ولد الزنا، بدليل هذا الإجماع.

و لا تقبل شهادة العدو على عدوه، و لا الشريك لشريكه فيما هو شريك له، و لا الأجير لمستأجره، و لا شهادة ذمي على مسلم إلا في الوصية في السفر خاصة عندنا، بشرط عدم أهل الإيمان.

و اعلم أنه يحكم بالقسامة إذا لم يكن لأولياء الدم عدلان يشهدان بالقتل، و تقوم مقام شهادتهما في إثباته، و القسامة خمسون رجلا من أولياء المقتول، يقسم كل واحد منهم يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فإن نقصوا عن ذلك، كررت عليهم الإيمان حتى تكمل خمسين يمينا، و إن لم يكن (3) إلا ولي الدم وحده، أقسمن.

ص: 440


1- - في «ج» و «س»: التمييز.
2- - الوسائل: 19، ب 2 من أبواب موجبات الضمان ح 1.
3- - في «ج»: و لو لم يكن.

خمسين يمينا، فإن لم يقسم أولياء المقتول، أقسم خمسون رجلا من أولياء المتهم أنه بري ء مما ادعى عليه، فإن لم يكن له من يقسم، حلف هو خمسين يمينا و بري ء.

و القسامة لا تكون إلا مع التهمة بأمارات ظاهرة، و يدل على ذلك إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله عليه السلام: البينة على المدعي و اليمين على من أنكر إلا في القسامة (1)، و قوله للأنصار لما ادعت على اليهود أنهم قتلوا عبد الله [1] بخيبر: تحلفون خمسين يمينا، و تستحقون دم صاحبكم، فقالوا: أمر لم نشاهده كيف نحلف عليه؟! فقال: يحلف لكم اليهود خمسين يمينا، فقالوا: لا نرضى بأيمان قوم كفار، فأداه عليه السلام من عنده. (2)

و القسامة فيما فيه دية كاملة من الأعضاء ستة نفر، و فيما نقص من العضو بحسابه، و أدنى ذلك رجل واحد في سدس العضو، بدليل الإجماع المشار إليه، و روى أصحابنا: أن القسامة في قتل الخطأ خمسة و عشرون رجلا. (3)

و اعلم أن من دعي إلى تحمل الشهادة و هو من أهلها، فعليه الإجابة لقوله تعالى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا (4)، فإذا تحملها لزمه أداؤها متى طلبت منه، لقوله سبحانه وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ (5)، و هو مخير فيما سمع أو شاهد من تحمله و إقامته أو ترك ذلك.

و لا يجوز لأحد أن يتحمل شهادة إلا بعد العلم بما يفتقر فيها إليه، و لا تجزئه3.

ص: 441


1- - سنن الدار قطني: 4- 218 برقم 51 و 52 و سنن البيهقي: 8- 123.
2- - سنن البيهقي: 8- 118 و 119 كتاب القسامة.
3- - لاحظ الوسائل: 19، ب 11 من أبواب دعوى القتل ح 1 و 2.
4- - البقرة: 282.
5- - البقرة: 283.

مشاهدة المشهود عليه و لا تحليته [1] و لا تعريف من لا يحصل العلم بخبره، و لا يجوز له أداؤها إلا بعد الذكر لها، و لا يعول على وجود خطه، لقوله تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (1)، و لأن الشاهد مخبر على جهة القطع بما يشهد به (2)، و إخبار المرء على هذا الوجه بما لا يعلمه قبيح.

و تثبت شهادة الأصل بشهادة عدلين، و تقوم مقامهما إذا تعذر حضور الأصل بموت أو مرض أو سفر (3)، و لا يجوز ذلك إلا في الديون و الأموال (4) و العقود، و لا يجوز في الحدود، و لا يجوز شهادة على شهادة على شهادة في شي ء من الأشياء، بدليل إجماع الطائفة.

و إذا شهد اثنان على شهادة واحد، ثم شهدا على شهادة آخر، تثبت شهادة الأول بلا خلاف، و تثبت أيضا شهادة الثاني عندنا، و هو قول الأكثر من المخالفين، و الصحيح من قول الشافعي، و الأخبار التي وردت بأن شهادة الأصل تثبت بشاهدين يتناول (5) هذا الموضع.

و لا يحكم ببينة المدعي بعد استحلاف المدعى عليه، بدليل إجماع الطائفة، و يحتج على المخالف بما روى من طرقهم من قوله عليه السلام: من حلف فليصدق و من حلف له فليرض، و من لم يفعل، فليس من الله في شي ء (6)، و للمدعى عليه رد اليمين على المدعي بدليل إجماع الطائفة، و أيضا قوله تعالى أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ «7»، و المراد وجوب أيمانهم للإجماع على أن اليمين لا ترد بعد8.

ص: 442


1- - الإسراء: 36.
2- - في «ج»: عما يشهد به.
3- - في «ج»: لموت أو لمرض أو سفر.
4- - في «ج»: و الأملاك.
5- - في «ج»: تثبت بشهادة عدلين يتناول.
6- - سنن البيهقي: 10- 181 و وسائل الشيعة: 16- 151 ب 6 من أبواب الأيمان ح 1 و 3.

حصول يمين أخرى، و هذا يبطل قول من لم يجز رد اليمين على حال.

و نحتج على المخالف بما روي من طرقهم من قوله عليه السلام: المطلوب أولى باليمين من الطالب (1)، لأنه يدل على اشتراكهما في جواز المطالبة باليمين، و أن للمطلوب مزية عليه بالتقديم، لأن لفظة «أولى» كلفظة «أفضل» و هي في اللغة تفيد تفضيل أحد الشيئين على الآخر فيما اشتركا فيه.

و لا يجوز الحكم إلا بما قدمناه من علم الحاكم أو ثبوت البينة على الوجه الذي قرره الشرع، أو إقرار المدعى عليه، أو يمينه، أو يمين المدعي، دون ما سوى ذلك، مما لم يرد التعبد بالعمل به، من قياس أو رأي و اجتهاد (2) أو كتاب حاكم آخر إليه، و إن ثبت بالبينة كتابه أو قوله مشافهة له: ثبت عندي كذا، بدليل إجماع الطائفة و قوله تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (3)، و إذا حكم (4) بما ذكرناه تيقن براءة ذمته مما تعلق بها من الحكم بين الخصمين، و ليس كذلك إذا حكم بما خالفه.

و تسمع بينة الخارج و هو المدعى، دون بينة الداخل و هو صاحب اليد، لقوله عليه السلام: البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه. (5)

و إن كان مع كل واحد منهما بينة و لا يد لأحدهما، حكم لأعدلهما شهودا، فإن استويا في ذلك، حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه، فإن استويا (6) أقرع بينهما،ا.

ص: 443


1- - لم نعثر عليه بهذا اللفظ نعم في مسند أحمد بن حنبل: 1- 356 «المدعى عليه أولى باليمين» و في الجامع الصغير للسيوطي: 2- 665 «المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم عليه البينة» و نحوه في سنن الدار قطني: 4- 129 و سنن البيهقي: 10- 256. و نقله الشيخ- قدس سره- في الخلاف كتاب الشهادات المسألة 28 كما في المتن و جواهر الكلام: 40- 186.
2- - في الأصل و في «س»: من قياس و رأي و اجتهاد.
3- - الإسراء: 36.
4- - في «ج»: و لأنه إذا حكم.
5- - سنن الدار قطني: 4- 157 برقم 8 و ص 218 برقم 53 و سنن البيهقي: 10- 252.
6- - في «س»: فان استووا.

فمن خرج اسمه حلف و حكم له. و إن كان لكل واحد منهما يد و لا بينة لأحدهما، كان الشي ء بينهما نصفين، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.

و إذا ثبت أن الشاهد شهد بالزور، عزر و أشهر و أبطل الحاكم حكمه بها إن كان حكم و رجع على المحكوم له بما أخذ، إن أمكن، و إلا على شاهد الزور، و إن كان ما شهد به قتلا أو جرحا أو حدا اقتص منه، و إذا رجع عن الشهادة بشبهة دخلت عليه، لزمه دية القتل، أو الجرح، و مثل العين المستهلكة بشهادته، أو قيمتها إن يرضى المحدود [1] بما يتفقان عليه، بدليل الإجماع المشار إليه.

و اعلم أنه ينبغي للحاكم أن يفرد الوقت الذي يجلس فيه للحكم له خاصة، و لا يشوبه بأمر آخر سواه، و أن لا يجلس و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان و لا مشغول القلب بشي ء من الأشياء، و يجلس مستدبر القبلة و عليه السكينة و الوقار، و ينزه مجلسه عن الدعابة و المجون (1)، و يوطن نفسه على إقامة الحق و القوة في طاعة الله تعالى.

و ينبغي له أن يسوي بين الخصمين في المجلس و اللحظ و الإشارة، و لا يبدأهما بخطاب إلا أن يطيلا الصمت، فحينئذ يقول لهما: إن كنتما حضرتما لأمر فاذكراه، فإن أمسكا أقامهما، و إن ادعى أحدهما على الآخر لم تسمع دعواه إلا أن تكون مستندة إلى علم، مثل أن يقول: أستحق عليه، أو ما أفاد هذا المعنى، و لو قال: أدعي عليه كذا، أو أتهمه بكذا، لم يصح، و أن يكون ما ادعاه معلوما متميزا بنفسه أو بقيمته، فلو قال: أستحق عليه دارا أو ثوبا، لم يصح للجهالة.

و إذا صحت الدعوى أقبل الحاكم على الخصم و قال: ما تقول فيما ادعاه؟

فإن أقر به و كان ممن يقبل إقراره، للحرية، و البلوغ، و كمال العقل، و الإيثارد.

ص: 444


1- - في «ج» و «س»: أو برضى المحدود.

للإقرار، ألزمه الخروج إلى خصمه منه، فإن أبى أمر بملازمته، فإن آثر صاحب الحق حبسه حبسه، و إن آثر إثبات اسمه و نسبه في ديوان الحكم أثبته، إذا كان عارفا بعين المقر و اسمه و نسبه، أو قامت (1) عليه البينة العادلة له عنده بذلك.

و إن أنكر ما ادعى عليه فقال للمدعي: قد أنكر دعواك، فإن قال: لي بينة، أمره بإحضارها، فإن ادعى أنها غائبة ضرب له أجلا لإحضارها، و فرق بينه و بين خصمه، و له أن يطلب كفيلا بإحضاره إذا أحضر بينته. و يبرأ الكفيل من الضمان إذا انقضت المدة و لم يحضرها، فإن أحضرها و كانت مرضية حكم بها، و إلا ردها.

و إن أحضر شاهدا واحدا أو امرأتين قال له الحاكم: تحلف مع ذلك على دعواك، فإن حلف ألزم خصمه ما ادعاه، و إن أبى أقامهما، و إن لم يكن له بينة قال له: ما تريد؟ فإن أمسك أقامهما، و إن قال: أريد يمينه، قال: أ تحلف؟ فإن قال: نعم، خوفه الله تعالى من عاقبة اليمين الفاجرة في الدنيا و الآخرة.

فإن أقر بما ادعاه عليه ألزمه به، و إن أصر على اليمين عرض عليهما الصلح، فإن أجابا أمر بعض أمنائه أن يتوسط ذلك بينهما، و لم يجز أن يلي هو ذلك بنفسه، لأنه منصوب لبت الحكم (2) و إلزام الحق- و يستعمل الوسيط في إصلاح ما يحرم على الحاكم فعله- و إن لم يجيبا إليه أعلم المدعى أن استحلاف خصمه (3) يسقط حق دعواه، و يمنع من سماع بينة بها عليه.

و إن نزل عن استحلافه (4) أقامهما و إن لم ينزل و استحلفه (5) سقط حق دعواه، و إن نكل المدعى عليه عن اليمين ألزمه الخروج إلى خصمه مما ادعاه، و إنه.

ص: 445


1- - كذا في الأصل، و لكن في «س»: «أو ما قامت» و في «ج»: و قامت البينة.
2- - في «ج»: لثبت الحكم.
3- - في «ج»: ان المدعي إن استحلف خصمه.
4- - في «ج»: فإن تولى عن استحلافه» و في «س»: و إن ترك عن استحلافه.
5- - في «ج»: و أن يتولى و استحلفه. و في «س»: و إن لم يترك و استحلفه.

قال: يحلف و يأخذ ما ادعاه، قال له الحاكم: أ تحلف؟ فإن قال: لا، أقامهما، و إن قال: نعم، خوفه الله تعالى، فإن رجع عن اليمين أقامهما، و إن حلف استحق ما ادعاه، و الأكثر من هذا لا خلاف فيه، و ما فيه منه الخلاف فقد قدمنا الدلالة عليه، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

و في النسخة المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهية بزيادة ما يلي:

و إذ قد وفينا بما اشترطناه على أنفسنا في صدر الكتاب، فنحن قاطعون للكلام، حامدون لله سبحانه على نعمه الدوام، و آلائه العام، حمدا يكون لحقه قضاء، و لشكره أداء، مستغفرون له تعالى من نقص عن واجب ما قصدناه، و عدول عن حق فيما سطرناه، بريئون إليه سبحانه من كل ما خالف الصواب و جانبه و ضاده، متوسلون إليه بأكرم الوسائل لديه في توفير حظنا من الثواب عليه، إنه على كل شي ء قدير، و هو حسبنا و نعم الوكيل، و صلى الله على سيدنا محمد نبيه و آله الطاهرين، و سلم عليهم أجمعين تسليما باقيا إلى يوم الدين.

و الحمد لله رب العالمين

اللهم صل على محمد و آل محمد

ص: 446

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.