كتاب الطهاره

اشارة

سرشناسه : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1368 - 1279

عنوان و نام پديدآور : كتاب الطهاره/ تاليف الامام الخميني

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1380.

مشخصات ظاهري : ج 4

شابك : 964-335-460-1(دوره) ؛ 964-335-485-x(ج.1) ؛ 964-335-459-811000ريال:(ج.2) ؛ 964-335-380-x13000ريال:(ج.3) ؛ 964-335-381-811000ريال:(ج.4)

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرستنويسي براساس اطلاعات فيپا.

يادداشت : كتابنامه

موضوع : طهارت

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)

رده بندي كنگره : BP185/2 /خ75ك2 1380

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 80-2199

الجزء الاول

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

[مقدمة]

الحمد للّٰه كما هو أهله و كما ينبغي لكرم وجهه و عزّ جلاله، و الصلاة و السلام على رسوله و آله.

و بعد لا زالت الحوزة العلميّة المقدّسة ببلدة «قم» المشرّفة من بدء تأسيس أساسها و غرس فسيلها بيد بطل العلم و الورع آية اللّٰه العظمى «الحاجّ الشيخ عبد- الكريم الحائري اليزديّ»- رضوان اللّٰه عليه- إلى الآن تزداد سعة و نميّة، و بهجة و نضارة، و تتكامل صورة و معنى، و ظاهرا و باطنا، حتّى أصبحت أكبر معهد علميّ للشيعة الإماميّة، و أسهل منهل لروّاد سنم العلم الصافي، و أيسر مشرع لروّام معين الفضيلة الخالدة، و كان هذا هو المتوقّع، إذا أسّست من أوّل يوم على التقوى، و بنيت على الإخلاص و الصلاح، «شجرة طيّبة أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي السَّمٰاءِ تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا».

و قد قاست تلك الشجرة المباركة طيلة حياته حوادث صعبة جمّة كادت أن تقلعها من أصلها فضلا عن أثمارها و أغصانها لو لا ما ضمن اللّٰه تعالى من إحقاق الحقّ و حفظه، و إنماء ما حرث بالإخلاص لوجهه، و إرباء ما غرس لإصلاح أرضه و عمارة بلاده، فبالرغم على ما كان يأمله شرذمة شاردة، و يستهدفه أيادي خائنة، ربت و نمت و أنبتت و آتت أكلها بإذن الرّب تبارك و تعالى.

و قد كفّل سقايتها و تعاهد حراستها امّة عظيمة من رجالات العلم و الفضيلة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 3

و جهابذة الأدب و الفقاهة، بدراسات متوالية، و تعاليم متتابعة، فجاهدوا في إحياء الدين و إعلاء الكلمة الحقّة و نشر علوم أهل البيت عليهم السلام، و كابدوا في سبيل ذلك كلّ ألم

و تعب، و قاسوا كلّ عناء و نصب، و لم يخافوا في اللّٰه لومة لائم، و ما وهنوا لما أصابهم في جنبه، وَ مٰا ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكٰانُوا، وَ اللّٰهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشٰاءُ- إِنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

نعم، قد أثمرت تلك الشجرة، و ينعت ثمارها، و حان قطافها، فلا يزال يبرز من الحوزة رجال عظماء، و أبطال كبراء، و أساتذة و زعماء، ينتشر في البلاد آثارهم، و يستفيد الناس من علومهم، و يستضي ء الفضلاء بأنوارهم، و يستصبح المتعلّمون بأضوائهم. و في الرعيل الأوّل من أولئك العباقرة سماحة الأستاذ الأكبر، الحجّة الفذّ، الآية العظمى «الحاجّ آقا روح اللّٰه الموسويّ الخمينيّ»- أطال اللّٰه بقاءه و أدام على رءوسنا ظلاله- فقد طال ما ينتفع الطّلاب من دروسه الراقية، و أفكاره العميقة، و آرائه القيّمة، جزاه اللّٰه عنّا خير الجزاء.

و ممّا تفضّل الأستاذ علينا بإلقائه دروس عالية في الفقه آخذا على طريقة الأصحاب من كتاب الطهارة، و قد كتب بقلمه الشريف جلّ ما أفاد، ثمّ منّ علينا بإجابة مسئولنا الّذي لم نزل نكرّر عليه التماسه، فأجاز لنا أن نقدم في طبعه و نشره، حتّى يكون الانتفاع به أشمل و أعمّ، و الاستفادة منه أكمل و أتمّ.

و نحن بعون اللّٰه تعالى نبذل غاية جهدنا في تنميق طبع هذا السّفر القيّم و الأثر الفخم، و نبلغ جهيدانا في تصحيحه و تخريج رواياته، رجاء أن يبدو للقرّاء الكرام بصورة بهيّة رائقة، و طبعة رشيقة رائعة، و إن كان خروج الكتاب خاليا عن الأغلاط ربما يعدّ من الآمال الّتي لا يرجى تحقّقها! إلّا أنّ ترك السعي في ذلك- و لا أقلّ من تقليل الخطأ- خطاء لا يقبل الاعتذار منه. نرجو من

اللّٰه التوفيق لإتمام هذا الجزء و ما يليه و لكلّ خير، و اللّٰه المستعان.

علي أكبر المسعودي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 4

[مقدمة المؤلف]

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فلمّا انتهى بحثنا في الدورة الفقهيّة إلى الدماء الثلاثة أحببت أن أفرز رسالة فيها حاوية لمهمّات مسائلها. و فيها مقاصد:

المقصد الأول في الحيض

اشارة

و البحث في أطراف معناه اللغويّ غير مهمّ، و يشبه أن يكون دم الحيض ما تقذفه الرحم حال استقامتها و استقامة مزاج المرأة، و دم الاستحاضة ما تقذفه حال الانحراف لضعف؟؟؟، أو مرض أو غيرهما. و لمّا كانت النساء نوعا في حال الاستقامة و السلامة لا يقذفن الدم أقلّ من ثلاثة أيّام و لا أكثر من عشرة، و نوعهنّ لا تقذف أرحامهنّ قبل البلوغ و بعد اليأس و خلاف ذلك من شذوذ الطبيعة و نوادرها تصرّف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 5

الشارع المقدّس في الموضوع، و حدّده بحدود، لا حظا فيه حال النوع الغالب، و إلحاقا للشواذّ و النوادر بالعدم.

فلو رأت المرأة قبل سنّ البلوغ ما تراه البالغات منظّمة مرتّبة في كلّ شهر ثلاثة أو خمسة مثلا بحيث علم أنّه الدم المعهود الّذي تقذفه الرحم بحسب العادة، أو رأت بعد الخمسين في عادتها كما رأت قبل الخمسين بحيث علم أنّه هو الدم المعهود الّذي كانت تقذفه رحمها قبل زمان يأسها لم يحكم بالحيضيّة، لا لأجل أنّه ليس بحيض- أي الدم الّذي تقذفه الرحم في حال استقامتها و اعتدالها- بل لإسقاط الشارع شواذّ الطبيعة و نوادرها عن الحكم الّذي لغالب النسوة و نوعهنّ. و كذا الحال في ما إذا رأت يومين أو أكثر من عشرة أيّام مع فرض كون الرحم في حال السلامة، و الدم المقذوف هو الدم

المعهود الّذي تقذفه الأرحام.

و ما ذكرنا هو الأقرب لفتاوى الأصحاب- رحمهم اللّٰه- و الأخبار الكثيرة في الباب، مع عدم مخالفته للوجدان و الضرورة، فإنّ الالتزام بأنّ الدم إلى الدقيقة الأخيرة من اليوم العاشر يكون حيضا و يكون مجراه مجرى خاصّا ثمّ ينسدّ دفعة ذلك المجرى و ينفتح عرق آخر هو عرق العاذل و يخرج منه دم الاستحاضة كأنّه مخالف للضرورة، و كذا حال الدم إلى الدقيقة الأخيرة من عادتها لمن استمرّ بها الدم، و كذا الأشباه و النظائر. و بعض الروايات الّتي يتراءى منها أنّ مجراهما مختلفان كرواية معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: «إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إنّ دم الاستحاضة بارد و إن دم الحيض حارّ» «1» لا بدّ من توجيهها بوجه لا يخالف الوجدان و الضرورة، فكيف يمكن الالتزام بأنّ من استمرّ بها الدم و تكون ذات عادة يكون مجرى دمها إلى آن ما قبل العادة و آن ما بعدها غير مجراه في زمان العادة؟! و قد حكي عن العلّامة أنّه لو قيل بأنّ الدم بعد الخمسين من المرأة في زمن عادتها على ما كانت تراه قبل ذلك ليس بحيض كان تحكّما لا يقبل. و لعلّ مراده أنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الحيض، ب 3، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 6

الدم الكذائيّ و لو كان حيضا و لا افتراق بينه و بين الدم قبل الخمسين لكنّ الشارع مع ذلك أسقط حكمه، و هو يوافق ما ذكرناه نتيجة، تأمّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الشرع حدّد الدم في موارد، فما كان خارجا عن الحدود الّتي جعلت للحيض و لو

كان في الواقع حيضا لا يكون محكوما بحكمه. فما أفاده المحقّق الخراسانيّ من تقريب خلاف ذلك و حمل أخبار الحدود على مورد الاشتباه، لبعد عدم ترتّب أحكام الحيض شرعا على ما علم أنّه حيض واقعا، مؤيّدا ببعض الروايات كموثقة سماعة و رواية إسحاق بن عمّار، و منكرا للإجماع استنادا إلى المحكيّ من المنتهى كما تقدّم ذكره، لا يمكن مساعدته. و ليت شعري أيّ بعد في الالتزام بجعل الشارع قسما خاصّا من الدم موضوعا لحكمه على ما قرّبنا وجهه؟! و هل هذا إلّا مثل تحديد السفر بثمانية فراسخ و غير ذلك من التحديدات الواقعة في الشرع؟ و هل يمكن مع هذا الاستبعاد رفع اليد عن الإجماع و الأخبار بل ضرورة الفقه؟

و أمّا ما استند إليه من عبارة العلّامة فغير واضح، فلعلّه ليس بصدد بيان كون دم الحيض بعد الخمسين أيضا موضوعا لحكمه بل مراده أنّه مع كونه حيضا لا يترتّب عليه حكمه. و لو كان مراده ذلك فلعلّه مبنيّ على أنّ حدّ اليأس زائد من الخمسين بل إلى الستّين، و أمّا بعد اليأس- و هو الستّون على جميع الأقوال- فلا يلتزم أحد ببقاء حكم الحيض و لو كان الدم مثل ما رأت قبلها، كما أنّه قبل البلوغ لم يذهب أحد منّا إلى ترتّب أحكام الحيض عليه، و كذا في الدم المرئيّ أقلّ من ثلاثة أو أكثر من عشرة ممّا نقل الإجماع عليهما كثير من الفقهاء. و عن الأمالي في الحدّين أنّهما من دين الإماميّة الّذي يجب الإقرار به.

و أمّا الروايات الّتي استند إليها فلا بدّ من توجيهها كما لعلّه يأتي من ذي قبل، أو ردّ علمها إلى أهلها بعد مخالفتها للنصوص الكثيرة و الإجماع بل ضرورة

الفقه، فالأخذ بالحدود الشرعيّة الواردة في الروايات لا محيص عنه، فتدبّر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 7

ثم هاهنا مطالب

المطلب الأول إذا علمت المرأة أنّ دمها من أيّ أقسام الدم تعمل على طبق أحكامه،

اشارة

و مع الاشتباه فإمّا أن يشتبه دم الحيض بدم الاستحاضة، أو بدم البكارة، أو بدم القرحة أو بغيرها، و قد يكون الاشتباه ثلاثيّ الأطراف أو رباعيّها، فيتمّ الكلام فيه برسم مسائل:

المسألة الأولى: وردت روايات بذكر أوصاف يشخّص بها دم الحيض

و الاستحاضة كالحرارة و السواد و الخروج بالحرقة و كونه عبيطا بحرانيّا و له دفع و إقبال إلى غيرها في أوصاف الحيض، و الصفرة و البرودة و الفساد و الكدرة و الإدبار في الاستحاضة. فيقع الكلام في أنّ تلك الأوصاف هل هي أمارة تعبّديّة واحدة كالخاصّة المركّبة، أو أمارات مستقلّة، أو ليست بأمارات رأسا بدعوى أنّ ظاهر الروايات أنّها بصدد رفع اشتباه الحيض بالاستحاضة بذكر أوصافها الّتي تعهدها النساء، و أنّه لا مجال معها للاشتباه لحصول القطع غالبا، و بالجملة هذه الأوصاف وردت لرفع الاشتباه لا لجعل الإمارة في موضوع الشبهة، أو يكون بين الأوصاف تفصيل: ففي غير إقبال الدم و إدباره يكون كما ذكر من عدم الأماريّة بخلافهما بدعوى ظهور الأخبار في هذا التفصيل؟ و على فرض الأماريّة هل تكون الأمارة لتشخيص الحيض أو هو و الاستحاضة مطلقا فيجب الأخذ بها في جميع موارد الشبهة إلّا ما دلّ الدليل على خلافه؛ أو تكون لتشخيصه عند اشتباهه بالاستحاضة مطلقا فلو اشتبه دم المبتدئة بينهما تكون الأوصاف أمارة؛ أو عند اشتباهه بها في موضوع أخصّ و هو عند استمرار الدم بها، ففي المثال المتقدّم لا تكون أمارة؟ وجوده و أقوال.

ثم إنّه يقع كلام آخر في أنّ الأوصاف الّتي ذكرت للحيض أمارات على- الحيضيّة و كذا الأوصاف الّتي في الاستحاضة أمارات عليها، فجعل الشارع أمارتين:

إحديهما للحيض، و الأخرى للاستحاضة؛ أو تكون أوصاف الحيض أمارة دون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 8

الاستحاضة،

ثمّ عند فقد أمارة الحيض هل يكون استحاضة من غير جعل أمارة عليها أو لا يكون استحاضة أيضا فلا بدّ أن تعمل مع فقد أمارة الحيضيّة على طبق العلم الإجماليّ أو القواعد الأخر؟

ذهب المحقّق الخراسانيّ إلى التفصيل المتقدّم، فأنكر الأماريّة التعبّديّة في الأوصاف غير إقبال الدم و إدباره، و فيهما ذهب إلى الأماريّة التعبّديّة، و قال:

«نعم، ظاهر المرسلة الطويلة جعل إقبال الدم و إدباره أمارة تعبّديّة على الحيض و عدمه، لكنّ الإقبال و الإدبار لا دخل له بالأوصاف، بل العبرة بتغيّر الصفة الّتي كان عليها شدّة و ضعفا» انتهى.

فلا بدّ أوّلا من الكلام معه حتى يتّضح الحال من هذه الجهة، ثمّ الكلام في سائر الجهات، فلا محيص إلّا من ذكر الروايات و البحث في دلالتها:

ففي صحيحة حفص بن البختريّ قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام امرأة، فسألته عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري أ حيض هو أو غيره. قال: فقال لها: إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة. قال: فخرجت و هي تقول: و اللّٰه لو كان امرأة ما زاد على هذا. «1»

و لا يخفى أن ظاهرها أنّ من لم تدر أنّ دمها حيض أو غيره فطريق تشخيصها هو هذه الأوصاف، و إنما الكلام في أنّ سوق الرواية بصدد بيان ما يرفع به الشبهة تكوينا و أنّه مع هذه الأوصاف تقطع المرأة بأنّه حيض، أو أنّها أوصاف غالبيّة يحصل بها الظنّ النوعيّ بالموضوع و قد جعلها الشارع أمارة عند الاشتباه. و بعبارة اخرى:

إنّها بصدد رفع الشبهة تكوينا و إرشادها إلى آثار تقطع منها بالواقع

أو بصدد رفع الشبهة تشريعا. الظاهر هو الثاني، لأنّ هذه الأوصاف لا تكون من اللّوازم العاديّة بحيث تقطع النساء غالبا لأجلها بالحيض، نعم يحصل لهنّ غالبا العلم به، لكن لا

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 9

لأجل هذه الأوصاف، بل للعادة المستمرّة لهنّ و عدم اعوجاج طبائعهنّ غالبا، ففي حال الاستقامة تعلم المرأة بقرائن غالبا أنّ ما تقذفه الرحم حيض، و أمّا لو استمرّ مثلا بها الدم أو حصلت شبهة اخرى لها فليس أن تقطع مع ذلك بالواقع لأجل تلك الصفات، و مع عدم حصول القطع وجدانا لا محيص عن كونها أمارة ظنّية اعتبرها الشارع، نظير الشهوة و الفتور و الدفع في المنيّ، مع أنّ تشخيص المنيّ عادة أسهل للرجال من تشخيص الحيض عند الاشتباه للنساء.

و بالجملة كون الرواية بصدد بيان أنّ هذه الأوصاف علامات يحصل بها القطع فلا معنى للسؤال، في غاية البعد. و في مرسلة يونس موارد للدلالة على أنّ تغيّر لون الدم أمارة تعبّديّة، ففيها: انّ فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّي أستحاض و لا أطهر، فقال لها النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: ليس ذلك بحيض إنّما هو عزف، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي- إلى أن قال:- فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها، ألا تسمعها تقول: إنّي أستحاض و لا أطهر؟ و كان أبي يقول: إنّها استحيضت سبع سنين، ففي أقلّ من هذا تكون الريبة و الاختلاط، فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره

و تغيّر لونه من السواد إلى غير ذلك، و ذلك أنّ دم الحيض أسود يعرف، و لو كانت تعرف أيّامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم، لأنّ السنّة في الحيض أن تكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيّام الحيض- إذا عرفت- حيضا كلّه إن كان الدم أسود أو غير ذلك. فهذا يبيّن لك أنّ قليل الدم و كثيره أيّام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومة، فإذا جهلت الأيّام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم و إدباره و تغيّر لونه «1»- الحديث.

فإنّ الظاهر منها أنّ إقبال الدم و إدباره و تغيّر لونه أمارة تعبّديّة لتشخيصه و أنّها إذا اختلط عليها أيّامها و لم تعرف عددها و لا وقتها ممّا هي أمارة تعبّديّة اخرى احتاجت إلى أمارة دونها في الأماريّة، و هي إقبال الدم و إدباره و تغيّر لونه

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3؛ ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 10

من السواد إلى غير ذلك. فلا يكون تغيّر لون الدم أمارة قطعيّة على الحيض، و إلّا لم يعقل تأخّرها عن الرجوع إلى العادة المعلومة، مع أنّ أماريّة العادة أيضا لا تكون قطعيّة، خصوصا مع حصولها بمرّتين، و بالأخصّ في زمان اختلاط الدم و الريبة كما هو المفروض.

و بهذا يظهر أنّ المراد بقوله «إنّ دم الحيض أسود يعرف» ليس هو المعروفيّة الوجدانيّة القطعيّة بل الظنيّة التعبّديّة. و لهذا قال «و لو كانت تعرف أيّامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم، لأنّ السنّة في الحيض- إلخ-» فإنّ الرجوع إلى معرفة لونه إذا كان بحسب احتياجها إليه و عند فقد ما يوصلها إلى معرفة الأيام و لو تعبّدا لا

يعقل إلّا أن يكون أمارة ظنّية دون أمارية العادة. و يؤكّد ذلك تعليله بأنّ السنّة في الحيض أن تكون الصفرة في أيّام الحيض حيضا.

و ممّا يؤكّد ما ذكرنا قوله عليه السّلام في المرسلة «فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث لا تكاد تخلو من واحدة منهنّ: إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها و خلقتها الّتي جرت عليها ليس فيها عدد معلوم موقّت غير أيّامها، فإن اختلطت الأيام عليها و تقدّمت و تأخّرت و تغيّر عليها الدم ألوانا فسنّتها إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته» حيث جعل تغيّر حالات الدم من السنن الثلاث الّتي سنّها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قبال السنّتين الأخريين، و معلوم أنّ الأخذ بتغيّر اللون لأجل التبعية عن السنّة لا للعلم الوجدانيّ بالموضوع، و لهذا تمسّك في ذيلها أيضا للرجوع إلى تغيّر دمها مع اختلاط الأيام بقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «إنّ دم الحيض أسود يعرف» و لو كان يحصل العلم بالحيض من لون الدم لم يعقل التشبّث بالتعبّد. و بالجملة لا يشكّ الناظر في المرسلة في أنّ تغيّر الدم ألوانا من الأمارات التعبّديّة الّتي جعلها الشارع أمارة عند فقد أمارة هي أقوى في الأماريّة منها.

و العجب من المحقّق الخراسانيّ- رحمه اللّٰه- حيث اعترف بظهور المرسلة في أماريّة إقبال الدم و إدباره و أنكر الأماريّة في تغيّر اللون، مع أنّ الإقبال و الإدبار ذكرا فيها مع تغيّر اللون بسياق واحد، و لا يمكن التفكيك بينهما.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 11

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في موثّقة إسحاق بن جرير، قال:

سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فاستأذنت لها، فأذن لها فدخلت- إلى أن قال:- فقالت له: ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيّام حيضها؟ قال: إن كان أيّام حيضها دون عشرة أيّام استظهرت بيوم واحد ثمّ هي مستحاضة. قالت: فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر و الشهرين و الثلاثة، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أيّام حيضها ثمّ تغتسل لكلّ صلوتين. قالت له: إنّ أيّام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدّم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و يتأخّر مثل ذلك، فما علمها به؟! قال:

دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حارّ تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد.

قال: فالتفتت إلى مولاتها فقالت: أ ترينه كانت امرأة مرّة؟! «1» و هذه الموثّقة عمدة ما تشبّث بها لما ادّعى من عدم إمكان كونها بصدد جعل أمارة تعبّديّة. و أنت خبير بأنّ المتعيّن فيها أيضا هو الحمل على جعل الأمارة لا إرجاعها إلى ما تقطع بها بالحيض، ضرورة أنّ إرجاعها إلى الأوصاف المذكورة يكون بعد فقد أمارة تعبّديّة هي أيّام حيضها، و معه كيف يمكن أن يقال: إنّ تغيّر الأوصاف ممّا تقطع منه بالحيض؟ و كيف يمكن الإرجاع أوّلا إلى أمارة ظنيّة ثمّ مع فقدها إلى ما يحصل به العلم؟! و أمّا التعبير بأنّه ليس به خفاء و إن كان مشعرا بما ذكره، لكن مع ما ذكرنا و مع النظر إلى المرسلة المتقدّمة لا ينبغي الشكّ في أنّ المراد أنّ تلك الأوصاف أمارات له و معها لا خفاء به، و بعبارة اخرى: إنّ الموضوع الّذي له أمارة من أوصافها و حالاتها لا يكون به خفاء.

و أمّا قول المرأة «أ ترينه كان- إلخ-» فلا

يدلّ على تصديقها بأنّ دم الحيض وجدانا كذلك، بل لا يبعد أن يكون تعجّبها من ذكره أوصافا لا يطّلع عليها إلّا النساء، فإنّ الحرارة و الحرقة ممّا لا يطّلع عليهما إلّا صاحبة الدم، فتعجبت من ذكر أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أوصاف الدم الّذي يكون من النساء فقط. و هذا القول و إن كان

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 12

ربما يستشعر منه ما ادّعاه لكن لا يمكن معه رفع اليد عمّا هو كالنصّ في جعل الأمارة بل بما ذكرنا يقطع المنصف بأماريّة الأوصاف.

ثمّ بعد البناء على الأماريّة يقع الكلام في أنّها أمارة مطلقة لتشخيص مطلق الدماء من الحيض و أنّ الحيض دائر مدار وجودها و عدمها في الثبوت التعبّديّ و اللّاثبوت، أو أنّها أمارة لتشخيص الحيض من الاستحاضة مطلقا، أو مع استمرار الدم، وجوه و أقوال أقربها أوسطها ثمّ الأخير. و أمّا الأوّل و هو الّذي نسب إلى المدارك و الحدائق و المستند فضعيف، أما أولا فلأنّ تلك الأوصاف الّتي ذكرت للحيض لا تكون مختصّة به وجدانا، خصوصا مع البناء على استفادة طريقيّة كلّ واحد منها مستقلّا كما هو الأقوى، ضرورة أنّ نوع الدماء الخارجة من الإنسان مع خلوّ طبيعته عن الانحراف و الضعف و المرض يكون عبيطا حارّا أحمر يضرب إلى السواد، بل كثير منها يكون له دفع، و يكون بحرانيّا مقبلا، فلا تكون تلك الأوصاف من خواصّ دم الحيض بحيث تميّزه عن سائر الدماء.

و امّا دم الاستحاضة فهو بحسب النوع لمّا كان مقذوفا من الطبيعة المنحرفة بواسطة ضعف و فتور و مرض لا محالة يكون فاسدا باردا أصفر مدبرا غير دافع،

فهذا الأمر الوجدانيّ يساعدنا في الاستفادة من الأخبار، و أنّ المنظور من ذكر الأوصاف ليس تمييز دم الحيض من سائر الدماء مع اشتراكها نوعا فيها، بل هذه الأوصاف المشتركة بين الحيض و غير الاستحاضة ذكرت في ما دار الأمر بين الحيض و الاستحاضة لامتيازها عنه لا امتيازه عن غيرها. و لهذا لم تذكر هذه الأوصاف في دوران الأمر بينه و بين العذرة و كذا بينه و بين القرحة، فحينئذ لو دار الأمر بين الحيض و بين جريان الدم من شريان لانقطاعه لا تكون تلك الأوصاف معتبرة، فإنّ الضرورة حاكمة بأنّ دم الشريان أيضا طريّ عبيط له دفع و حرارة، و يكون أسود كدم الحيض بحسب النوع، و معه كيف يمكن الذهاب إلى ما ذهب إليه الأعلام المتقدّم ذكرهم.

و أما ثانيا فلأنّ سياق الروايات يشهد بأنّها في مقام تشخيص الحيض عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 13

الاستحاضة لا غير، ألا ترى إلى صحيحة حفص بن البختريّ مع كون السؤال عن أنّها لا تدري حيض هو أو غيره أجاب عن الحيض و الاستحاضة و سكت عن غيرهما؟ و ذلك لأنّ نوع الاشتباه الحاصل للنساء إنما هو الاشتباه بين الدمين، و أمّا سائر الدماء فنادرة الوجود لا يكون السؤال و الجواب محمولين عليها إلّا بالتنصيص، فيكون محطّ الجواب و السؤال هو الاختلاط و الاشتباه بين الدمين، فلا يمكن استفادة الأمارة المطلقة لا من منطوقها و لا من مفهوم مثل رواية حفص، فدعوى دلالة السياق على مدّعاهم في غاية السقوط، بل دعوى دلالته على تشخيص الدمين قريبة جدّا.

نعم، حمل الروايات على التشخيص بين الدمين في حال الاستمرار بحيث يكون التمييز بها لمستمرّة الدم كما

ذهب إليه الشيخ الأعظم بل نسب إلى المشهور غير وجيه ظاهرا، لأنّ السؤال في صحيحة ابن البختريّ مثلا و إن كان عن مستمرّة الدم لكن ظاهر الجواب هو ذكر الأوصاف الّتي لماهيّة دم الحيض في مقابل مهيّة دم الاستحاضة لا قسم خاصّ منه، فقوله عليه السّلام بعد السؤال «إنّ دم الحيض حارّ عبيط ..

و دم الاستحاضة أصفر بارد» ظاهر في أنّ هذه الأوصاف لطبيعة الدمين و مهيّتهما لا لصنف خاصّ منهما، كما أنّ قوله عليه السّلام في موثّقة إسحاق «إنّ دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حارّ ... و دم الاستحاضة دم فاسد ..» يدلّ على ما ذكرنا، و حمله على صنف خاصّ بمجرّد كون السؤال عنه بعيد، و قوله «فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة» متفرّعا على قوله السابق في الصحيحة يؤيّد ما ذكرنا.

و يدلّ على ذلك صحيحة معاوية بن عمّار أو حسنته، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إنّ دم الاستحاضة بارد، و إنّ دم الحيض حارّ» «1» و لا تكون هذه الرواية مسبوقة بالسؤال حتّى يأتي فيها ما ذكر في غيرها، و لو سلّم عدم الاستفادة ممّا سبق فلا مجال لرفع اليد عن ظهورها في أنّ وصف الحرارة لمطلق دم الحيض، و لا إشكال في كونها بصدد بيان تشخيص الدمين، و لا معنى للإهمال في هذا الحال، و غاية الأمر في الروايات الأخر عدم الدلالة

______________________________

(1) قد مرت الرواية بعينها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 14

لا الدلالة على العدم، مع أنّ عدم الدلالة ممنوع.

نعم، بقيت المرسلة الطويلة حيث يدّعى دلالتها على أنّ

الرجوع إلى الصفات ليس سنّة المبتدئة، و أنّه مختصّ بالمضطربة الّتي لها أيّام متقدّمة مغفول عنها، و أنّ المبتدئة الّتي لم تسبق بدم فسنّتها الرجوع إلى الروايات. ففيها بعد ذكر السنّتين من السنن الثلاث الّتي سنّها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «قال: و أمّا السنّة الثالثة ففي الّتي ليس لها أيّام متقدّمة و لم تر الدم قطّ و رأت أوّل ما أدركت فاستمرّ بها، فإنّ سنّة هذه غير سنة الاولى و الثانية، و ذلك أنّ امرأة يقال لها «حمنة بنت جحش» أتت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّي استحضت حيضة شديدة، فقال: احتشي كرسفا، فقالت: إنّه أشدّ من ذلك، إنّي أثجّه ثجّا، فقال: تلجّمي و تحيّضي في كلّ شهر في علم اللّٰه ستّة أيّام أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين أو أربعة و عشرين- إلى أن قال:- قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فأراه قد سنّ في هذه غير ما سنّ في الاولى و الثانية، و ذلك أنّ أمرها مخالف لأمر تينك- إلى أن قال:- فهذا بيّن واضح، إنّ هذه لم يكن لها أيّام قبل ذلك قط، و هذه سنّة الّتي استمرّ بها الدم، أوّل ما تراه أقصى وقتها سبع و أقصى طهرها ثلاث و عشرون حتّى تصير لها أيّام معلومة فتنتقل إليها، فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهنّ: إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها و خلقتها الّتي جرت عليه، ليس فيه عدد معلوم موقّت غير أيّامها، و إن اختلطت الأيام عليها و تقدّمت و تأخّرت و

تغيّر عليها الدم ألوانا فسنّتها إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته، و إن لم تكن لها أيّام قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون، و إن استمرّ بها الدم أشهرا فعلت في كلّ شهر كما قال لها- إلى أن قال بعد ذكر حصول العادة بمرّتين:- و إن اختلط عليها أيّامها و زادت و نقصت حتّى لا تقف منها على حدّ و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره، ليس لها سنّة غير هذا لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي؛ و لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إنّ دم الحيض أسود يعرف. كقول أبي: إذا رأيت الدم البحرانيّ ..

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 15

و إن لم يكن الأمر كذلك و لكنّ الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد و حالة واحدة فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها كقصّة «حمنة» حين قالت: إنّي أثجّه ثجّا. «1»

فهذه الرواية عمدة مستند من ذهب إلى أنّ المبتدئة سنّتها الرجوع إلى السبعة و الثلاثة و العشرين ليس لها سنّة غيرها و ليس لها الرجوع إلى الصفات، لكنّ المتأمّل فيها من أوّلها إلى آخرها لا يبقى له ريب في أنّ الرجوع إلى التمييز بعد الرجوع إلى العادة مقدّما على الرجوع إلى الروايات، و أنّ الرجوع إليها أي إلى السنّة الثالثة إنّما هو مع فقد الأمارة على الحيض أو الاستحاضة، و أنّ من كانت لها عادة معلومة يجب عليها الرجوع إليها، لأنّ العادة طريق قويّ إلى

الحيض، و مع فقد الأمارة القويّة ترجع إلى الأمارة الّتي دونها و هي إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته و ألوانه، و مع فقد هذه أيضا يكون المرجع هو السنّة الثالثة، و هي الّتي لفاقدة الأمارة. و معلوم من الرواية حتّى مع قطع النظر عن ذيلها الّذي هو كالصريح في المطلوب أنّ «حمنة بنت جحش» كانت فاقدة الأمارة، أمّا فقدها للعادة فمعلوم، و أمّا فقدها للتمييز فلأنّ الظاهر منها أن الدم كان في جميع الأزمنة كثيرا له دفع، حيث قالت «إني استحضت حيضة شديدة» و قالت «إنّه أشدّ من ذلك، إنّي أثجّه ثجّا. فقال: تلجّمي و تحيّضي ..» فإنّ الثجّ هو سيلان دم الأضاحي و الهدي، و الدم الّذي بهذه الشدّة و الكثرة لا ينفكّ عن الحرارة و الحمرة، فله دفع و شدّة و حرارة و كثرة من غير تغيّر حال، و إنّما جعلت السنّة الرجوع إلى السبع لأجل ذلك.

ثمّ لو فرض إبهام فيها من هذه الجهة فلا إشكال في أنّ ذيلها يرفع كلّ إبهام متوهّم، حيث قال: فإن لم يكن الأمر كذلك- إلى آخرها- فيعلم من ذلك أنّ قصّة «حمنة» هي كون الدم على حالة واحدة من الحرارة و الدفع و الكثرة و على لون واحد لا يكون لها تميّز، و أنّ الثجّ دليل عليه كما ذكرنا. فلا إشكال في أنّ الرواية تدلّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 16

على أنّ الرجوع إلى السبع و الثلاث و العشرين سنّة الّتي فقدت الأمارتين المتقدّمتين و تكون الاستحاضة دارّة عليها، و يكون في جميع الأوقات لها درّ و دفع و على لون واحد و

على حالة واحدة، فمن كانت قصّتها هذه لا إشكال في أنها ترجع إلى الروايات، فلا يستفاد منها أنّ المبتدئة إذا رأت أوّل ما رأت بصفة الحيض لا تكون الصفات أمارة لها، كيف و صدر الرواية يدلّ على أماريّة الصفات مطلقا، حيث قال: فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره، و تغيّر لونه من السواد إلى غيره، و ذلك أنّ دم الحيض أسود يعرف. فترى كيف علّل رجوعها إلى الصفات بقوله «إنّ دم الحيض أسود يعرف» فيعلم منها أنّ العلّة في الرجوع هي كون مهيّة دم الحيض بهذه الصفة لا أنّ صنفا منها كذلك، فتدلّ على أنّ هذه الصفات من مميّزات هذه الماهيّة عن مهيّة الاستحاضة، و لهذا أرجعها إليها، فيستفاد منها أنّه كلّما وجدت هذه الصفة امتاز الحيض عن الاستحاضة في ما دار الأمر بينهما في غير ذات العادة الّتي سنتها الرجوع إليها. و الظاهر أنّ المسألة لا تحتاج إلى زيادة إطناب.

ثمّ إنّ صريح المستند و ظاهر الحدائق و المحكيّ عن المدارك أنّ هذه الأوصاف خاصّة مركّبة متى اجتمعت في الدم يحكم بأنّه حيض، و استدلّ الأوّل منهم بأنّ ذلك مقتضى الجمع بين الروايات الّتي ذكرت بعضها و ما ذكر الجميع بتقييد الإطلاق. و هو في غاية البعد، فإنه لا توجد في الروايات رواية تستجمع جميع الصفات و أجمع الروايات في ذلك صحيحة حفص، حيث قال فيها: «إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة» و مع ذلك لم تذكر فيها الكثرة الّتي ذكرها صحيحة «أبي المغراء» و رواية ابن مسلم في باب جمع الحيض و

الحمل، و ترك الحرقة المذكورة في موثقة إسحاق بن جرير، و ترك ذكر العبيط في ذيلها مع ذكرها في صدرها. و دعوى تقييد كلّ رواية برواية أخرى في غاية البعد، بل ارتكابه في مرسلة يونس ممتنع، فإنّ أبا عبد اللّٰه عليه السّلام نقل قضيّة شخصيّة عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي» فترك أبي عبد اللّٰه عليه السّلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 17

سائر الصفات لو كانت في كلام رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم غير ممكن، و عدم ذكر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم مع كونه في مقام بيان تكليفها و تأثيرها في الحكم أيضا غير ممكن، و ليس المقام مقام ذكر الكلّيات و القواعد و المطلقات و ترك القرائن إلى زمان آخر كما نقول ذلك في الروايات الملقاة إلى أصحاب الأصول و الكتب، ففي مثل المقام لا يجوز تأخير البيان مع حاجتها الفعليّة. و احتمال تغيّر الحكم بعد قصّة فاطمة مع بعده في نفسه يدفعه ذكر أبي عبد الهّّٰ عليه السّلام ذلك في مقام بيان الحكم و إفادة أحكام المستحاضة.

و بالجملة إنّ روايات الباب على كثرتها لا يشتمل واحدة منها على جميع- الصفات، بل في غالبها اكتفي بخاصّة واحدة كصحيحة معاوية بن عمّار، حيث ذكر فيها الحرارة و في مقابلها البرودة، و كمرسلة يونس حيث ذكر إقبال الدم في مقابل الإدبار تارة، و استشهد بقول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «إنّ دم الحيض أسود» و علّل الحكم بأنّ دم الحيض

أسود يعرف، اخرى. و في صحيحة أبي المغراء اكتفى بذكر الكثرة و في مقابلها القلّة، و في موثّقة إسحاق بن عمّار اقتصر على كون الدم عبيطا، و في بعضها ذكر الوصفين منها كموثّقة إسحاق بن جرير حيث اكتفى فيها بذكر الحرارة و الحرقة في الحيض و ذكر الفساد و البرودة في الاستحاضة، و في مرسلة يونس اكتفى بذكر البحرانيّ و فسّره بالكثرة و اللون، و في رواية محمّد بن مسلم في باب جمع الحبل و الحيض اقتصر على الكثرة و الحمرة في مقابل القلّة و الصفرة، و في رواية حفص الّتي هي أجمعها ذكر في صدرها أربع صفات و اقتصر في ذيلها على الثلاث، فكيف يمكن أن تكون الأوصاف من قبيل الخاصّة المركّبة الّتي يكون لجميعها دخل في الموضوع و لم يذكر الجميع في رواية؟ و معه كيف يمكن تقييد الإطلاق مع الغضّ عمّا ذكرنا من عدم إمكانه بالنسبة إلى المرسلة الطويلة؟

فالقول بالخاصّة المركّبة غير صحيح، إلّا أن يدّعى أنّ بين الصفات ملازمة عاديّة غالبيّة بحيث يستغني المتكلّم عن ذكر جميعها، فذكر الواحد أو الاثنين بمنزلة ذكر الجميع مع تلك الغلبة. لكنّ الدعوى غير ثابتة، فأيّ ملازمة غالبيّة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 18

بين كون الدم عبيطا و بين كثرته، أو بين الدفع و السواد، أو بين الحرقة و العبيطيّة؟

فربما كان الدم أسود غير دافع، أو حارّا غير كثير. و بالجملة هذه الدعوى غير ثابتة بل خلافها ثابت، فلا يمكن إلّا المصير إلى استقلال كلّ صفة في الأماريّة.

ثمّ إنّه قد يدّعى كون مطلق الظنّ بالحيضيّة حجّة كما نفى البعد عنه صاحب الجواهر، أو كون الظنّ الحاصل من أيّ صفة من

صفات الحيض حجّة و لو لم تذكر في الروايات، بل و لو كانت مختصّة بمرأة. بحسب حالها كما نفى البعد عنه المولى الهمدانيّ. و الظاهر بعدهما، خصوصا الاولى منهما، فإنّه إن كان المراد أنّ المستفاد من الأخبار هو حجيّة الظنّ الشخصيّ بحيث يدور الحكم بالحيضيّة مداره، فإن حصل من غير الصفات المذكورة في الروايات يكون حجّة، و إن لم يحصل من المذكورات فيها ظنّ لم يحكم بالحيضيّة، فهو تحريص غريب لا يمكن الالتزام به خصوصا في الشقّ الثاني. و إن كان المراد هو حجيّة الظنّ الحاصل نوعا من الصفات الخاصّة بالحيض و لو لم تذكر في الروايات مثل النتن المذكور في بعض الروايات الغير المعتبرة فله وجه، بدعوى عدم خصوصيّة لتلك الصفات إلّا كونها من الصفات الغالبيّة، فلو فرض صفة أخرى غالبيّة لاستفيد منها بالارتكاز العرفيّ و إلغاء الخصوصيّة كونها أمارة أيضا. لكنّه غير خال عن الإشكال و بعيد عن مساق كلامهما، فالجمود علي الروايات أسدّ و أشبه.

ثمّ الظاهر أنّ المستفاد منها هو جعل الأمارتين للحيض و الاستحاضة، فكما أنّ الصفات المذكورة لدم الحيض أمارة تعبّديّة له كذلك الصفات المذكورة لدم الاستحاضة كالبرودة و الفساد و الصفرة و غيرها، فلو وجد في دم بعض صفاتهما يكون من قبيل تعارض الأمارتين، و سيأتي زيادة توضيح للمقام إن شاء اللّٰه.

المسألة الثانية إذا اشتبه دم الحيض بدم العذرة

فتارة لا يحتمل غيرهما، و اخرى يحتمل الآخر من استحاضة أو قرحة أو غيرهما كاحتمال انقطاع عرق في الباطن، و على أيّ حال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 19

قد يكون زوال البكارة معلوما فيدور الأمر بين كون الدم منها أو من غيرها، و اخرى يشكّ في زوالها فيحتمل الزوال و الخروج منها

أو من غيرها، و يحتمل عدم الزوال و الخروج من غيرها، و على أيّ تقدير قد يكون الدم في أيّام العادة و قد يكون في غيرها، و قد تكون له حالة سابقة من حيض أو غيره و قد لا تكون، فيقع الكلام في جهات:

منها أنّ المستفاد من روايات الباب هل هو جعل أمارة تعبّديّة على العذرة أو ما ذكر فيها من تطوّق الدم لرفع الاشتباه، و معه يحصل القطع بكونه دم العذرة- كما تقدّم من المحقّق الخراسانيّ في أوصاف دم الحيض و احتمل ذلك في المقام أيضا-؟ ثّمّ على فرض الأماريّة هل تكون أمارة مطلقة لتشخيص دم العذرة مطلقا أو في ما إذا دار الأمر بينهما مطلقا، أو في ما إذا كان زوال البكارة معلوما أيضا؟ و هل يكون التطوّق أمارة على العذرة و عدمه على عدمها أو لا أماريّة لعدمه؟ و هل يكون الاستنقاع أيضا أمارة على الحيضيّة أو لا؟ احتمالات يظهر حالها في خلال الجهات المبحوث عنها، و لا بدّ من تقديم ذكر مستند الحكم حتّى يتّضح الحال.

ففي صحيحة خلف بن حمّاد الكوفيّ قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام بمنى، فقلت له: إنّ رجلا من مواليك تزوّج جارية معصرا لم تطمث، فلمّا اقتضّها سال الدم، فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيّام، و إنّ القوابل اختلفن في ذلك، فقال بعضهنّ: دم الحيض، و قال بعضهنّ: دم العذرة، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال: فلتتّق اللّٰه، فإن كان دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتّى ترى الطهر، و ليمسك عنها بعلها، و إن كان من العذرة فلتتّق اللّٰه و لتتوضّأ و لتصلّ، و يأتيها بعلها إن أحبّ ذلك. فقلت له:

و كيف لهم أن يعلموا ما هو حتّى يفعلوا ما ينبغي؟ قال: فالتفت يمينا و شمالا في الفسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد، قال:

فنهد إليّ فقال: يا خلف! سرّ اللّٰه فلا تذيعوه، و لا تعلّموا هذا الخلق أصول دين اللّٰه، بل ارضوا لهم ما رضي اللّٰه لهم من ضلال. قال: ثّمّ عقد بيده اليسرى تسعين ثّمّ قال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 20

تستدخل القطنة ثّمّ تدعها مليّا، ثّمّ تخرجها إخراجا رفيقا، فإن كان الدم مطوّقا في القطنة فهو من العذرة، و إن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض. قال خلف: فاستخفّني الفرح فبكيت، فلمّا سكن بكائي قال: ما أبكاك؟ قلت: جعلت فداك، من كان يحسن هذا غيرك؟! قال: فرفع يده إلى السماء و قال: إنّي و اللّٰه ما أخبرك إلّا عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن جبرئيل عن اللّٰه عزّ و جلّ. «1» و قريب منها غيرها.

قال بعض شرّاح الحديث: إنّ قوله «عقد بيده اليسرى تسعين» لعلّه من اشتباه الراوي، أو كان لحساب العقود ترتيب آخر غير مشهور، و إلّا فاليد اليسرى للمئات لا العشرات (انتهى) و الأمر سهل بعد وضوح أنّ المراد منه وضع رأس ظفر مسبّحة يسراه على المفصل الأسفل من إبهامها لإفهام كيفيّة وضع القطنة.

و لا إشكال في أنّ ظاهر الرواية هو بيان الأمارة الشرعيّة التعبّديّة لرفع الاشتباه تعبّدا لا التنبيه على أمر تكوينيّ لحصول القطع، لعدم الملازمة بين الاستنقاع و الحيض لاحتمال اجتماع دم البكارة في جوف المحلّ و حصول الاستنقاع به، كاحتمال كون الحيض موجبا للتطوّق أحيانا، فحصول العلم لأجله ممنوع. مع أنّ الظاهر من صدر الرواية و ذيلها

حيث عدّ ذلك من سرّ اللّٰه الّذي لا بدّ من كتمانه و عدم إفشائه للناس و من أصول دين اللّٰه و من وحي اللّٰه إلى رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بتوسّط جبرئيل أنّ ذلك من أحكام الشريعة و الأمارات التعبّديّة، و إلّا لم يكن وجه لهذه التعبيرات و التقيّة الشدية مع حصول العلم به لنوع النساء و كونه من الأمور الطبيعيّة، فاحتمال عدم الأماريّة ضعيف لا يمكن رفع اليد عن ظاهر النصوص به.

و منها أنّ المفروض في الروايات و إن كان العلم بالاقتضاض و أنّه مع فرض العلم به دار الأمر بينه و بين الحيض لكنّ المتفاهم منه أنّ التطوّق في هذا الحال أي حال الدوران بينهما من خواصّ دم العذرة المميّزة إيّاه من دم الحيض، و أنّ دم الحيض لا يوجب التطوّق بل يوجب الاستنقاع و الانغماس، كما يساعده الاعتبار أيضا، فإنّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 2، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 21

دم الحيض من الباطن فلا يتطوّق منه القطنة غالبا و دم العذرة من زوال غشاء البكارة و خرقه، فيخرج الدم من الأطراف فتصير مطوّقة نوعا، فلأجل هذه الغلبة جعل الشارع التطوّق أمارة للعذرة.

و بالجملة المتفاهم من الروايات عرفا أنّه مع الدوران بين الأمرين يكون التطوّق أمارة للعذرة من غير تأثير للعلم بزوال البكارة و عدمه في ذلك، فحينئذ لو شكّت في زوالها و دار الأمر بينهما فوضعت القطنة على نحو ما في الرواية فأخرجت و كانت مطوّقة يحكم بكون الدم من العذرة، فيكشف عن تحقّق زوالها فيرفع ذلك الشكّ، لحجيّة الأمارة بالنسبة إلى لوازمها و ملزوماتها.

و منها أنّ الظاهر من الروايات خصوصا

من رواية «خلف بن حمّاد» المتقدّمة أنّ المفروض في السؤال و الجواب هو دوران الدم بين العذرة و الحيض و لا ثالث للاحتمالين، فإنّ قوله «إنّ القوابل اختلفن- إلخ-» ظاهر في أنّهن اتّفقن على نفي الثالث و لو لأجل لازم قولهنّ، سواء قلنا بأماريّة قول القوابل و أنّ الأمارتين لدى التعارض لا تسقطان بالنسبة إلى مدلولهما الالتزاميّ أولا، أمّا على الأوّل فظاهر، و أمّا على الثاني فلأنّ الظاهر أنّ هذا الاختلاف صار سببا لصرف ذهن السائل عن سائر الدماء و احتمالها، مضافا إلى أنّ سائر الدماء حتّى دم الاستحاضة على خلاف العادة و من انحرافات الطبيعة، بخلاف دم الحيض فإنّه طبيعيّ، فالسؤال و الجواب منصرف إليه عن غيره و لهذا يفهم ذلك من صحيحة «ابن سوقة» «1» أيضا، مع أنّ ظاهر السؤال فيها هو السؤال عن تكليفها بالنسبة إلى الصلاة، فجواب أبي جعفر عليه السّلام بأنّه مع التطوّق من العذرة و مع الانغماس من الحيضة إنّما هو في الموضوع الخاصّ لا لأجل كون التطوّق يرفع جميع الاحتمالات إلّا العذرة، و الانغماس جميعها إلّا الحيضة، حتّى يكون الاستنقاع و الانغماس من مميّزات الحيض عن جميع الدماء لكن لا مطلقا و إلّا لذكر في الأوصاف في الروايات المتقدّمة في المسألة السابقة بل عند

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، أبواب الحيض- ب 2، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 22

إضافة احتمال العذرة أيضا. فإنّ هذا بمكان من البعد، كيف و لو كان لدم الحيض خاصّة مميّزة لم يكن معنى لتأثير زوال العذرة أو احتماله فيها. هذا، مع أنّ الوجدان أيضا غير مساعد لذلك، فإنّ دم الحيض و الاستحاضة كليهما يخرجان من الجوف و تصير

القطنة بهما مستنقعة منغمسة نوعا من غير افتراق من هذه الجهة بينهما، فلا يكون الاستنقاع خاصّة مميّزة للحيض عن مطلق الدماء، بل الظاهر أنّه من مميّزات سائر الدماء الخارجة من الجوف عن دم العذرة الّذي يخرج من غشاء البكارة، على إشكال في ذلك أيضا، فإنّ مقتضى الجمود على الروايات هو كون التطوّق أمارة على العذرة و الاستنقاع على الحيض في حال دوران الأمر بينهما مطلقا و لو مع الشكّ في زوال العذرة و لو كان هذا خارجا عن مفادها بدوا، و أمّا التخطّي عن مورد الدوران بينهما إلى غيره فمشكل بعد خروجه عن مفادها و عدم مساعدة العرف عليه أيضا.

نعم، لا إشكال في حصول الظنّ بأنّ التطوّق من العذرة في الدوران بينها و بين الاستحاضة و الاستنقاع من الاستحاضة، لكن لا دليل على اعتبار هذا الظنّ أو الغلبة مع قصور الأدلّة. و كما أنّ التطوّق ليس أمارة على العذرة في الدوران بينها و بين الاستحاضة كذلك الاستنقاع ليس أمارة على الاستحاضة، و لا على عدم العذرة حتّى يؤخذ بلازمها، لعدم الدليل على ذلك، لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّه في الموضوع الخاصّ كما يكون التطوّق أمارة على العذرة يكون الاستنقاع أمارة على الحيض لا أنّه أمارة على عدم العذرة، و لو سلّم أماريّته على عدمها فإنّما هي في مورد الدوران فقط لا مطلقا.

و منها أنّ مقتضى إطلاق صحيحة «زياد بن سوقة» و رواية «خلف بن حمّاد» الثانية «1» المحتمل كونها صحيحة لاحتمال كون «جعفر بن محمّد» الواقع في سندها هو جعفر بن محمّد بن يونس الثقة، و كونها حسنة لاحتمال كونه جعفر بن محمّد بن عون أنّ التطوّق أمارة العذرة في حال الدوران مطلقا لذات العادة

و غيرها، كما أنّ مقتضى إطلاق جميع الروايات هو أماريّته لها و لو كان الدم بصفة الحيض.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 2، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 23

و توهم أنّ وقوع الاختلاف في متن رواية «خلف بن حمّاد» يوجب الترديد في جواز التعويل عليها، حيث قال في الرواية الأولى: «قال: فقلت له: إنّ رجلا من مواليك تزوّج جارية معصرا لم تطمث، فلمّا اقتضّها سال الدم، فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيّام» «1» و في الثانية قال: «قلت لأبي الحسن الماضي عليه السّلام: جعلت فداك، رجل تزوّج جارية أو اشترى جارية طمثت أو لم تطمث أو في أوّل ما طمثت، فلمّا افترعها غلب الدم، فمكث أيّاما و ليالي- إلخ-» «2» فترى أنّ الظاهر من الاولى أنّ السؤال كان مقصورا على معصر لم تطمث، و الثانية عن الّتي طمثت أو لم تطمث أو في أوّل ما طمثت.

مدفوع بأنّ هذا ليس من التشويش و الاختلاف الموجبين للتأمّل فيها، فإنّ ترك بعض الخصوصيّات ممّا لا يضرّ بالحكم لبعض الدواعي أو لعدم الداعي في النقل لا يوجب خللا فيها، و لا ريب في أنّ اختلافهما إنّما هو لأجل ذلك، ألا ترى أنّ مقدّمات ملاقاته و غيرها ممّا هي مذكورة في الرواية الأولى إنّما ترك ذكرها في الثانية لبعض الدواعي أو عدم الداعي على النقل؟ فترك بعض شقوق المسألة أيضا من هذا القبيل. و لا ظهور للرواية الاولى في كون السؤال مقصورا على ما ذكر إلّا لعدم الذكر و السكوت، و المذكور فيها أحد الشقوق الّتي ذكرت في الرواية الثانية، و هو قوله «أو في أوّل ما طمثت» أي في أول زمان طمثها،

و هو بمنزلة قوله «معصرا» فإنّ المراد منه كونها في عصر الطمث و زمانه، و معنى «أوّل ما طمثت» أوّل زمان طمثها في مقابل الّتي طمثت أي كانت امرأة ليس أوّل طمثها بل طمثت سابقا، و قوله «لم تطمث» في مقابلهما أي الّتي في سنّ الطمث و لمّا تطمث، أي مضى منها أوقات كان من شأنها أن تطمث فيها و لم تطمث، فلا إشكال من هذه الجهة فيها.

فتحصّل أنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ذات العدّة و غيرها، و الدم الموصوف بصفات الحيض و غيره، و لا ينافيها ما دلّ على اعتبار العادة و الصفة، أمّا اعتبار الصفات فلأنّ الظاهر من أدلّتها هو أنّ تلك الصفات مميّزات الحيض عن الاستحاضة لا عن مطلق

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 2، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 2، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 24

الدماء كما مرّ، و أمّا اعتبار العادة فكذلك أيضا، فإنّ أقوى ما دلّ عليه هو مرسلة يونس القصيرة، حيث قال فيها: «و كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كلّ ما رأته بعد أيّام حيضها فليس من الحيض» «1» و الظاهر منها- بعد الغضّ عن الإشكالات الآتية فيها سندا و متنا- أنّها ناظرة إلى مثل ما نحن فيه، و ليست الكلّيّة إلّا في مورد الصفات لا مطلق الدم، فالجمع العرفيّ يقتضي اختصاص الرجوع إلى العادة بمورد الدوران بين الحيض و الاستحاضة دون الحيض و العذرة ممّا ذكر له طريق خاصّ و أمارة مستقلّة.

و منها أنّ المرأة الّتي اشتبه دم حيضها بالعذرة تارة تعلم حال سابقها، و أخرى لا تعلم، بل

حال حدوث الدم تشكّ في أنّه منه أو منها أو مختلط منهما، و على الأوّل تارة تكون الحالة السابقة هي الحيض ثمّ تشكّ في عروض دم العذرة؛ و اخرى تكون هي دم العذرة ثمّ يحدث الشكّ في عروض الحيض، فتحتمل بقاء دم العذرة و عدم كون الدم من الحيض، و انقطاع دم العذرة و كونه من الحيض، و اختلاطهما؛ و ثالثة تكون الحالة السابقة هما معا ثمّ تشكّ في بقاء أحدهما و انقطاع الآخر أو بقائهما و امتزاجهما؛ و قد يكون الشكّ ساريا و يأتي فيه الفروض المتقدّمة. فالكلام يقع في أنّ المستفاد من روايات الباب أنّ التطوّق أمارة للعذرة و الانغماس للحيض في جميع صور الشكّ أولا، و على الأوّل هل يجب الاختبار في جميعها أولا؟

لا يبعد استفادة جميع الصور ما عدا الشكّ في زوال البكارة منها، أمّا غير صورة كون الحالة السابقة هي الحيض فلإطلاقها، فإنّه بعد سيلان الدم و عدم انقطاعه يمكن أن يكون الشكّ ساريا فتشكّ في أنّ الدم من أوّل الأمر من أيّهما كان، و يمكن أن تكون عالمة بكونه من العذرة و تشكّ في حدوث الحيض، و يمكن أن تكون عالمة بكونه منهما ثمّ تشكّ لأجل الشكّ في انقطاع أحدهما، فترك الاستفصال دليل على إطلاق الحكم. و أمّا الصورة المذكورة فلاستفادتها من رواية خلف الثانية، فإنّ قوله «جارية طمثت أو لم تطمث أو في أوّل ما طمثت» يحتمل وجوها، أقربها أن

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 25

يكون المراد من الّتي طمثت هي المرأة الّتي كانت تحيض، و من الّتي لم تطمث هي من لم تحض سواء كانت

معصرا أو لا، فحينئذ يكون المراد من الّتي في أوّل ما طمثت بقرينة المقابلة هي الّتي طمثت فعلا و كان طمثها ذلك أوّل طمث لها، فلمّا افترعها غلب الدم و صار كثيرا لا أنّه حدث الدم، و عليه فالصورة المذكورة تكون مسئولا عنها بالخصوص. و مع الغضّ عنه يكون قوله «جارية طمثت» بإطلاقه شاملا لهذه الصورة، و قوله «غلب الدم» أعمّ من غلبة الدم حدوثا و غلبته بعد وجود أصله لو لم نقل بظهوره في الثاني. و كيف كان فلا يبعد استفادة جميع الصور من الرواية.

و أمّا صورة الشكّ في زوال العذرة و إن كانت خارجة منها لكن يفهم حكمها منها عرفا، فإنّ الظاهر كما مرّ أنّ التطوّق أمارة لماهيّة دم العذرة من غير تأثير للعلم و الشكّ فيه، فمع الشكّ في حصوله لو اختبرت فخرجت القطنة مطوّقة يحكم بزوال البكارة كما يحكم بكون الدم من العذرة.

ثم بعد كون التطوّق أمارة مطلقة في حال الدوران بينهما- و كذا الاستنقاع على الظاهر- فالظاهر وجوب الاختبار في جميع الصور حتّى صورة الشكّ في زوال البكارة.

أمّا في غير هذه الصورة فظاهر بعد دخولها في مفاد الروايات، و أمّا في هذه الصورة فلأنّ الظاهر منها أنّه مع إمكان تحصيل الأمارة على أحدهما يسقط الأصل، فإنّ صورة عدم المسبوقيّة بالحيض هي المتيقّنة في شمول الروايات لها، و مع ذلك لم يعوّل عليها أبو الحسن عليه السّلام مؤكّدا بقوله «فلتتّق اللّٰه» فيفهم منه أنّ الأصل في مثل ما يمكن تحصيل الأمارة الشرعيّة غير معوّل عليه. مع أنّ العرف لا يساعد على الرجوع إلى الأصل مع وجود الأمارة الحاكمة و إمكان الاطّلاع عليها بالاختبار، تأمّل. فوجوب الاختبار مطلقا أحوط، بل أوجه و

أقوى.

ثم إنّ وجوبه ليس نفسيّا و لا شرطيّا، بل طريقيّ كوجوب العمل بخبر الواحد فإذا تركته و صلّت فإن كانت حائضا تستحقّ العقوبة لأجل الصلاة في حال الحيض، و إن كانت طاهرة تصحّ صلوتها مع حصول قصد القربة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 26

و ليس في الروايات لإدخال القطنة كيفيّة خاصّة غير ما في رواية «خلف» فهل الودع مليّا و الإخراج رفيقا واجبان أولا؟ وجهان: من أنّ مقتضى الجمع بينها و بين إطلاق صحيحة «زياد» تقييد إطلاقها، و من إمكان الحمل على الأولويّة و الاستحباب أخذا بإطلاقها الّذي في مقام البيان، و الأوّل أحوط لو لم يكن أقوى. و اختلاف روايتي «خلف» من هذه الجهة لا يضرّ بعد تقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة عند العقلاء، خصوصا مثل تلك الزيادة الّتي لا يحتمل فيها الخطأ و الاشتباه، فعدم الذكر في الرواية الثانية لجهة من الجهات.

ثم إنّه إذا تعذّر عليها الاختبار ترجع إلى سائر القواعد المقرّرة للشّاك.

المسألة الثالثة إذا اشتبه دم الحيض بدم القرحة

فعن المشهور وجوب الاختبار و ملاحظة خروج الدم من الأيسر أو الأيمن، فإن كان من الأيسر فهو من الحيض، و إن كان من الأيمن فهو من القرحة، و عن المعتبر عدم الاعتبار بالاختبار، و تبعه الأردبيليّ و صاحب المدارك، و عن الشهيد في الدروس عكس المشهور، و عن الذكرى الميل إليه، لكنّه أفتى في البيان موافقا للمشهور.

و مبنى ذلك هو الاختلاف الواقع في نسخة الكافي و التهذيب في المرفوعة الّتي هي الأصل في هذا الحكم. ففي الكافي: عن محمّد بن يحيى، رفعه عن أبان، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: فتاة منّا بها قرحة في جوفها، و الدم سائل لا تدري من

دم الحيض أو من دم القرحة. فقال: مرّها، فلتستلق على ظهرها، ثمّ ترفع رجليها، ثمّ تستدخل إصبعها الوسطى، فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة. و عن الشيخ في التهذيب روايتها، لكن فيها: قال:

فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة.

ثم إنّ الظاهر ترجيح نسخة الشيخ على نسخة الكافي للشهرة المنقولة على الفتوى بمضمونها قديما و حديثا، بل عن جامع المقاصد نسبتها إلى فتوى الأصحاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 27

و عن حاشية المدارك نقل اتّفاق المتقدّمين و المتأخّرين من المحدّثين على موافقة المشهور، و هو الموافق لرسالة عليّ بن بابويه إلى الصدوق الّتي قيل إنّها كانت المرجع عند إعواز النصوص، و الموافق للفقه الرضويّ، و أفتى به المفيد و غيره، فلا إشكال في اشتهار الحكم بين الأصحاب.

و في مقابله فتوى ابن الجنيد، لكن مفروض كلامه دوران الأمر بين الحيض و الاستحاضة، فإنّ المحكيّ عنه أنّ دم الحيض أسود عبيط تعلوه حمرة، يخرج من الجانب الأيمن، و تحسّ المرأة بخروجه، و دم الاستحاضة بارد رقيق يخرج من الجانب الأيسر. و الظاهر أنّه من الصفات المميّزة بين الحيض و الاستحاضة كسائر الصفات المذكورة، فلا يعلم فتواه في المقام.

و عن ابن طاوس و الشهيد في الذكرى أنّ ما في التهذيب مخالفا للكافي إنّما هو في النسخ الجديدة، و قطعا بأنّه تدليس و كانت النسخ القديمة موافقة للكافي، و قد رجع الشهيد عن هذا الاعتقاد ظاهرا، لفتواه في «البيان» الّذي يقال إنّه متأخّر في التصنيف عن الذكرى موافقا للمشهور. و عن شرح

المفاتيح أنّ ابن طاوس لم ينقل عنه مخالفة المشهور. و أمّا حديث التدليس في النسخ الجديدة فيردّه فتوى الشيخ في المبسوط و النهاية على وفق المشهور، و لا إشكال في أنّ مستنده هذه الرواية، مع أنّ اختلاف النسخ لم ينقل إلّا من ابن طاوس و الشهيد، فعن ابن طاوس نسبة كون الحيض من الأيسر إلى بعض نسخ التهذيب الجديدة، و عن الذكرى أنّ كثيرا من نسخ التهذيب موافقة لرواية الكليني.

و كيف كان، لو كان الاشتباه من النسّاخ لما أفتى الشيخ في كتبه الفتوائيّة خصوصا مثل النهاية بخلافها، و لو كانت النسخ الموافقة للكافي بهذه الكثرة لما خفي على غيرهما مع بناء محشّي التهذيب- على ما قيل- على نقل النسخ المختلفة و لم ينقلوا ذلك، بل عن شرح المفاتيح أنّه اعترف جميع المحقّقين باتّفاق نسخ التهذيب على ما وجدناه.

فاتّضح أنّه لم يكن خلاف في المسألة بين المتقدّمين كالصدوقين و المفيد و الشيخ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 28

و من تأخّر عنهم سوى المحقّق في المعتبر على ما حكي عنه، و قد حكي عن المعتبر أنّ ما في الكافي لعلّه من وهم الناسخ. و أمّا الأردبيليّ فطريقته المناقشة و عدم الاعتناء بالشهرات و كذا متابعوه، و من ذلك كلّه يقع الترديد في ما نقل عن ابن طاوس و الشهيد، و ليس عندي كتابهما حتّى أ تأمّل في عبارتهما، فمن المحتمل أن يكون قطعهما بالتدليس كان لأمر غير ما ذكر كالاعتماد التامّ على الكافي و حفظه و على أيّ حال فالمسألة مشهورة فتوى، و الخلاف لو ثبت شاذّ نادر، و قد ذكرنا في محلّه أنّ الشهرة الفتوائيّة ليست من المرجّحات حتّى يناقش بأنّ

ما نحن فيه ليس من الروايتين المتعارضتين، بل بقيامها تمتاز الحجّة عن غيرها، و أنّ المشتهر بين الأصحاب فتوى بيّن رشده فيتّبع، و الشاذّ النادر بيّن غيّه فيجتنب.

و الإنصاف أنّ الشهرة في مثل هذا الحكم المخالف للاعتبار و القواعد و التعبّديّ المحض حجّة معتبرة في نفسها مع قطع النظر عن الرواية، فضلا عن المقام الّذي يمكن حصول الاطمئنان باتّكالهم على رواية «أبان» أو الفقه الرضويّ، فالمسألة من هذه الجهة خالية من الإشكال.

و أمّا ما يقال من أنّ الحكم على خلاف الاعتبار، و أنّ القرحة قد تكون في الطرف الأيسر و قد تكون محيطة بالمحلّ فلا ينبغي الإصغاء إليه في الأحكام التعبّديّة مع أنّ كيفيّة خروج الدم غير معلومة لنا، فلعلّ الغالب في خروج الحيض إذا كانت المرأة مستلقية كذلك. و كيف كان لا يمكن رفع اليد عن الدليل المعتبر بمثل ذلك مع دعوى شهادة النساء بما يوافق المشهور.

ثم إنّ إطلاق الرواية و ترك الاستفصال فيها و إن اقتضى عدم الفرق بين الجهل بمحلّ القرحة و العلم به سواء كانت في الأيمن أو الأيسر، و دعوى جهل المرأة بمحلّها غالبا مع كون القرحة ذات ألم غالبا في غير محلّها، لكنّ الالتزام به مع العلم بكون القرحة في الطرف الأيسر في غاية الإشكال مع عدم إحراز فتوى الأصحاب في مثل تلك المسألة الّتي تكون على خلاف الاعتبار، فالاتّكال على مثل ترك الاستفصال في القضيّة الّتي لا يبعد أن تكون شخصيّة مشكل، تأمّل. كما أنّ الظاهر أنّ تلك الأمارة خاصّة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 29

بدور ان الأمر بين الحيض و القرحة لا مطلقا. و ما عن المدارك أنّ الجانب إن كان له

مدخل في الحيض وجب اطّراده و إلّا فلا، فهو كما ترى.

المسألة الرابعة في سائر الاشتباهات بين دم الحيض و غيره،

فإنّ منشأ الشكّ في دم الحيض قد يكون فقدان الأمارة كما لو اشتبه بدم الجرح مثلا ممّا لم يرد فيه نصّ، و قد يكون تعارض الأمارتين كما لو رأت دما فيه بعض صفات الحيض و بعض صفات الاستحاضة إن قلنا بأماريّة الصفات، و قد يكون قصور اليد عن الوصول إلى الأمارة المحقّقة كما لو علمت بتحقّق التطوّق أو الانغماس لكن اشتبه عليها حاله لأجل مانع من ظلمة أو غيرها، و قد يكون عدم التمكّن من استعمال الأمارة كما لو غلب الدم أو ضاق المجرى. و من فقدان الأمارة ما إذا كان الاشتباه ثلاثيّ الأطراف أو أكثر، كما لو دار الأمر بين الحيض و الاستحاضة و القرحة، أو هي و الجرح أو العذرة ممّا قصرت النصوص من شمولها.

و أيضا قد يكون الشكّ لأجل الشكّ في المكلّف، كما لو شكّت الخنثى في ذكورتها و أنوثتها فصار منشأ للشكّ في كون الدم حيضا، أو شكّت في بلوغها أو يأسها فصار منشأ لشكّها في كونه حيضا، و قد يكون الشكّ لأجل الشكّ في تحقّق شرط أو مانع، كما لو شكّت في كون الدم بعد العشرة أو لا، أو شكّت في تحقّق الفصل المعتبر بين الدمين؛ و قد يكون لأجل الشكّ في شرطيّة شي ء كالتوالي ثلاثة أيّام، أو مانعيّة شي ء كالفترات اليسيرة بين ثلاثة أيّام؛ و قد يكون لأجل الشكّ في تحقّق شرطه بعد، كالمبتدئة الّتي تشكّ في استمرار دمها إلى ثلاثة أيّام، إلى غير ذلك كالشّك في كونه حيضا مع وجدان الشرائط و فقدان الموانع بحسب الأدلّة الشرعيّة و مع تحقّق ما تحتمل شرطيّته و فقدان ما تحتمل

مانعيّته بحسب الشبهات الحكميّة لكن مع ذلك تشكّ في الحيضيّة لأجل بعض الاحتمالات الشخصيّة الجزئيّة الّتي تختلف بحسب اختلاف الحالات و الأمزجة.

هذه هي نوع الشكوك الواقعة أو ممكنة الوقوع للنساء. فيقع الكلام في أنّه مع فقدان الأمارات أو تعارضها أو عدم إمكان التعويل عليها هل تكون قاعدة شرعيّة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 30

أو عقلائيّة ممضاة ترفع الشكّ شرعا و تكون معوّلا عليها لدى الشبهة أو لا؟ و على فرض وجودها فما حدّها سعة و ضيقا؟ و هل يمكن رفع جميع الشكوك المتقدّمة بها أو تختصّ ببعضها؟

و ليعلم أنّ ما هو الدائر في الألسن و المشتهر بين الأصحاب في المقام هو «قاعدة الإمكان» و هي أنّ كلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض، و قد تكرّر نقل الإجماع عليها، و أرسلوها إرسال المسلّمات، فلا بدّ من بسط الكلام فيها موضوعا و مدركا و موردا.

أمّا الأول فيحتمل في بادئ الأمر أن يكون الإمكان بمعنى الاحتمال بقول مطلق فيشمل جميع الصور من الشكوك المتصوّرة، لمساوقة الشكّ الاحتمال أو أعمّيّته من الشكّ؛ و أن يكون بمعنى عدم الامتناع بحسب القواعد الشرعيّة أي إذا لم يرد دليل شرعيّ على عدم حيضيّته بحسب نفس الأمر وصل إلينا أو لم يصل؛ و أن يكون بمعنى عدم الامتناع بحسب ما وصل إلينا من القواعد الشرعيّة، أي إذا لم يدلّ دليل شرعيّ على عدم حيضيّته و أحرز عدم امتناعه كذلك، لا بمعنى الإمكان العامّ حتّى يشمل مورد قيام الأمارة على الحيضيّة، بل بمعنى أنّه إذا لم يقم أمارة و دليل شرعيّ على الطرفين تكون القاعدة معوّلا عليها. و لعلّ هذا مراد من قال: إنّ الإمكان هو الاحتماليّ

لكن الاحتمال المستقرّ؛ و أن يكون بمعنى الإمكان الذاتيّ و عدم الامتناع ذاتا أي سلب الضرورة عن الجانب المخالف للحكم بالحيضيّة. هذا، لكنّ الاحتمال الأخير غير صحيح، لأنّ المراد من الدم هو الدم الخارجيّ الموجود لا مهيّة الدم، و الدم الموجود إمّا واجب الحيضيّة أو ممتنعها، و كذا الاحتمال الثاني، فإنّ العلم بالواقعيّات غير حاصل للمكلّفين، فتقييد الموضوع بأمر غير محقّق موجب للغويّة القاعدة.

فيبقى الاحتمال الأوّل و الثالث، و لازم الاحتمال الأوّل هو الحكم بحيضيّة كلّ محتمل إلّا ما قام دليل على خلافها، بل المعوّل عليه هو القاعدة في موارد الشبهات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 31

المصداقيّة لأدلّة جعل الأمارات، فلو شكّت في تحقّق أمارة العذرة أو الاستحاضة مثلا فلا يجوز التمسّك بدليلهما، و معه ينسلك في موضوع القاعدة، لأنّ موضوعها هو الاحتمال، و مع عدم إحراز الأمارة يتحقّق الاحتمال الّذي هو موضوعها، و كذا في تعارض الأمارتين. و لازم الثاني هو الحكم بحيضيّة ما أحرز استجماعه للشرائط المقرّرة له، فقبل استمرار الدم إلى ثلاثة أيّام لا يحكم بالحيضيّة إلّا إذا أحرز الشرط بالأصل، و كذا مع الشبهة المصداقيّة للقواعد المقرّرة الشرعيّة لعدم إحراز الإمكان بحسب القواعد المقرّرة، و كذا مع الشكّ في قيام الأمارة بعد إحراز أماريّتها، كما لو اشتبهت الأمارتان لأجل الظلمة مثلا لعدم إحراز موضوع القاعدة و هو الإمكان الواقعيّ بالنظر إلى المقرّرات الشرعيّة. ثمّ إثبات أنّ الإمكان في موضوع القاعدة بأيّ معنى يكون تابع للدليل الدالّ عليه.

و اما الثاني فقد استدلّ عليها بوجوه:

الأول أصالة السلامة، و قد عوّل عليها في «الرياض» و قرّبها في «مصباح الفقيه» بما لا مزيد عليه، و محصّله أنّ أصل السلامة أصل

معتبر معتمد عليه عند العقلاء كافّة في جميع أمورهم معاشا و معادا، و يشهد به تتبّع الأخبار و سيرة العقلاء. و إنّ دم الحيض تقذفه الرحم بمقتضى طبعها و مع عدم انحرافها عن حالتها الطبيعيّة، و أمّا سائر الدماء حتّى دم الاستحاضة دماء غير طبيعيّة منشأها خلل في المزاج أو آفة، فلا يعتني العقلاء باحتمال ينافي أصالة السلامة، فعند الاشتباه بين دم الحيض و غيره لا بدّ من البناء على الحيضيّة عملا بأصل السلامة.

ثم بالغ في التأييد و الاستشهاد بطوائف من الأخبار يأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه، و جعل جميعها دليلا على كون الأصل في دم النساء هو الحيضيّة، و أنّ ملاحظة سيرة النساء و الأسئلة و الأجوبة الواردة في الأخبار تكاد تلحق المسألة بالبديهيّات- إلى آخر ما فصّل و قرّر.

و يمكن المناقشة فيه بوجوه:

منها أنّ بناء النساء على أنّ الدم المقذوف حيض لو سلّم فكونه لأجل الاتّكال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 32

على أصل السلامة غير مسلّم، خصوصا مع هذه الحدود الّتي قرّرها الشارع، فلو علمت المرأة أنّ الدم بأيّ صفة و في أيّ وقت خرج إذا لم يبلغ ثلاثة أيّام و نقص منها و لو ساعة واحدة ليس بحيض شرعا، و كذلك الدم المتجاوز عن العشرة و لو قليلا و الدم الخارج قبل تمام عشرة أيّام من الحيضة السابقة و هكذا، فهل تبني على الحيضيّة بمجرّد رؤية الدم اتّكالا على أصالة الصحّة فتحكم باستمراره إلى ثلاثة أيّام؟! و هل ترى أنّ العقلاء يحكمون بأنّ الدم مع انقطاعه قبل ثلاثة أيّام بساعة من انحراف المزاج، بخلافه إذا استمرّ إلى تمام الثلاثة؟! و الّذي يمكن أن يقال: أنّ بناء

النساء على حيضيّة الدم غالبا غير قابل للإنكار لكن لا لأجل الاتّكال على أصالة الصحّة، بل معهوديّة الدم و الحالات الّتي تعرضهنّ في حال خروج الدم أو قبله و الأوصاف و الخصوصيّات الّتي للدم المعهود و غير ذلك من الغلبة و غيرها صارت موجبة لقطعهنّ أو اطمئنانهنّ بكون الدم هو المعهود من النساء. و أمّا الاتّكال على مجرّد أصالة الصحّة لو فرض عدم وجود الغلبة و القرائن و العلائم الّتي للدم و للمرأة في قرب رؤيته أو حينها فغير معلوم لو لم نقل إنّه معلوم العدم.

و منها أنّه بعد تسليم جريان أصالة الصحّة و كون اتّكالهنّ عليها لا يمكن أن تكون دليلا على قاعدة الإمكان، سواء فسّرناها بالمعنى الأوّل من المعاني المتقدّمة أو بالثالث، ضرورة أنّ أصالة السلامة ليست من الأصول التعبّديّة، فإنّه مضافا إلى عدم ثبوت التعبّد في الأمور العقلائيّة لازمة أن لا نحكم على الدم بالحيضيّة، لأنّ الحيضيّة من لوازم صحّة المزاج و سلامته فأصالة السلامة مجراها المزاج، و لازم صحّة الرحم أن يكون قذفها طبيعيّا، و لازم ذلك كون الدم حيضا و كون المرأة حائضا، فلا محيص لإثبات المدّعى، إلّا أن يدّعى أنّ أصالة السلامة طريق عقلائيّ لإثبات متعلّقة، و أنّ الظنّ الحاصل لأجل الغلبة و غيرها طريق إلى السلامة و مع ثبوتها تثبت لوازمها. فمع تسليم هذه الأمارة العقلائيّة و الغضّ عن المناقشة فيها لا يمكن أن تكون مبنى القاعدة، لأنّ مفاد القاعدة أنّ ما يمكن أن يكون حيضا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 33

فهو حيض بمجرّد احتمال الحيضيّة على المعنى الأوّل، أو إمكانها أي عدم الدليل على خلافها على المعنى الثاني، و مع قيام الأمارة

على الحيضيّة يخرج المورد عن موضوع القاعدة، و كيف يمكن أن يكون دليل الشي ء معدما لموضوعه؟! و بعبارة اخرى: إنّ موضوع القاعدة هو إمكان الحيضيّة، فوجوب الحيضيّة و امتناعها خارجان عن مصبّها، إلّا أن يفسّر الإمكان بالإمكان العامّ أي سلب الضرورة عن الجانب المخالف بالنظر إلى القواعد الشرعيّة حتّى لا ينافي الوجوب، و هو كما ترى، فإنّ مرجعها في كثير من الموارد أو جميعها أنّ كلّ ما يجب أن يكون حيضا فهو حيض، و أنّ كلّ ما دلّت الأدلّة الشرعيّة و الأمارات المعتبرة على حيضيّته فهو حيض. فلا محيص عن أن يقال: إنّ قاعدة الإمكان قاعدة برأسها، مؤسّسة للحكم بالحيضيّة في ما لم يدلّ دليل على أحد الطرفين و كانت المرأة فاقدة الأمارة، فتأسيس القاعدة لرفع الشكّ عند فقد الأمارة، و الالتزام بكونها منتزعة من موارد قيام الأدلّة على الحيضيّة إنكار لأصل القاعدة.

و منها أنّه على فرض تسليم ذلك لا تفي أصالة السلامة بجميع موارد قاعدة الإمكان، ففي مورد تعارض الأمارتين أو الجهل بالأمارة القائمة أو كون المرأة في معرض اختلال المزاج و انحرافه لا مصير إلى أصالة الصحّة، مع أنّ موضوع القاعدة يشملها. فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الاستدلال بأصالة السلامة لإثبات المدّعى ممّا لا مجال له.

الثاني التمسّك بطوائف من الأخبار إمّا مستقلّا أو مؤيّدا بها لأصالة السلامة.

منها ما وردت في تحيّض الحامل، معلّلة بأنّ الحبلى ربما قذفت بالدم، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه سئل عن الحبلى ترى الدم أ تترك الصلاة؟

قال: نعم، إنّ الحبلى ربما قذفت بالدم. «1» و قريب منها مرسلة حريز، «2» و هي تدلّ على أنّ احتمال قذف الدم موضوع للتحيّض، و هذا هو

قاعدة الإمكان.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 34

و فيه أنّ الحكم لمّا كان محلّ خلاف بين العامّة و كان أبو حنيفة منكرا لاجتماع الحيض مع الحبل وردت هذه الروايات لرفع استبعاد اجتماعهما، و لهذا ترى في بعضها ذكر وجه خروج دم الحيض، كصحيحة سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: جعلت فداك، الحبلى ربما طمثت، قال: نعم، و ذلك أنّ الولد في بطن امّه غذاؤه الدم، فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة. «1» فقوله «إنّ الحبلى ربما قذفت بالدم» إخبار عن الواقع لرفع الاستبعاد لا للتعبّد بجعل الدم حيضا بمجرّد الاحتمال، كما ترى أنّ ما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الحبلى، ترى الدم؟ قال: نعم، إنّه ربما قذفت المرأة الدم و هي حبلى. كالصريح في ما ذكرنا، فإنّ قوله «نعم» جواب سؤاله بأنّ الحبلى ترى الدم أو لا؟ و قوله «إنّه ربما قذفت ..» إخبار عن واقع محفوظ، و لا معنى للتعبّد في هذا المقام.

و لا يخفى أنّ مضمون الروايات الّتي ذكر فيها هذه الجملة واحد، فقوله في صحيحة عبد اللّٰه المتقدّمة «إنّ الحبلى ترى الدم، أ تترك الصلاة؟» مراده أنّها ترى الدم المعهود مثل سائر النساء فهل عليه أن تترك الصلاة أو لا؟ و لهذا عرّف «الدم» في الروايات باللام، كما ترى في صحيحة عبد الرحمن، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الحبلى ترى الدم و هي حامل كما كانت ترى قبل ذلك في كلّ شهر، هل تترك

الصلاة؟

قال: تترك الصلاة إذا دام. «2» و في صحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الحبلى ترى الدم كما كانت ترى أيّام حيضها مستقيما في كلّ شهر «3»- الحديث- أنّ السؤال عن ترك الصلاة بعد الفراغ عن كون الدم في أيّام العادة أو بصفات الحيض لاحتمال أن لا يجتمع الحيض و الحبل كما قال أبو حنيفة.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 14.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 2.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 35

و كيف كان فالتأمّل في الروايات يورث القطع بعدم كونها في مقام إفادة القاعدة بل يمكن أن يدّعى أنّ في أخبار جواز اجتماع الحمل و الحيض ما يشهد بعدم اعتبار قاعدة الإمكان للإرجاع إلى الصفات، ففي صحيحة أبي المغراء: إن كان دما كثيرا فلا تصلّين، و إن كان قليلا فلتغتسل عند كلّ صلوتين؛ «1» و في موثّقة إسحاق: إن كان دما عبيطا فلا تصلّي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كلّ صلاة «2» و في رواية محمّد بن مسلم: إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان دما قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء. «3» فتحصّل أن الاستدلال بهذه الروايات للقاعدة في غير محلّه.

و منه يظهر حال ما دلّ على التحيّض قبل وقت حيضها معلّلا بأنّه ربما تعجّل الوقت، و هو موثّقة سماعة، قال: سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها، فقال:

إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنّه ربما تعجّل بها الوقت. «4»

فإنّ الظاهر أنّ قوله «ربما تعجّل بها الوقت» ليس بصدد بيان أنّ مجرّد احتمال التعجّل موضوع للحكم

بالحيضيّة، بل بصدد أنّ الدم المعهود للنساء إذا جرى قبل العادة فهو من الحيض و يكون من تعجّل الوقت، فإنّ العادة في النساء ليست مضبوطة بالدقّة بحيث لا تتقدّم يوما أو يومين، بل كثيرا ما يتعجّل الوقت فيكون من العادة بل يمكن دعوى إشعارها أو دلالتها بعدم اعتبار قاعدة الإمكان، فإنّها لو كانت معتبرة و كان كلّ دم يمكن أن يكون حيضا محكوما بالحيضيّة لم يكن وجه لتخصيص الحكم بما يصدق عليه عرفا عنوان تعجّل الوقت، و قد حدّده في بعض الروايات بيوم أو يومين، فالتقييد بذلك لأجل أماريّة العادة للحيض لكن لا بمعنى أنّها منضبطة بحيث لا تتقدّم قليلا أو لا تتأخّر كذلك، و بالجملة لا يستفاد من مثل تلك الرواية قاعدة الإمكان.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30؛ ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30 ح 6. و في نسخة الوسائل [عند كل صلوتين].

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 16.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 15، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 36

و مما استدل به لها ما دلّ على أنّ ما رأت قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: و إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الاولى، و إن كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة. «1» و روايته عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى، و إذا رأته بعد عشرة أيّام فهو من حيضة أخرى مستقبلة. «2» و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه في أبواب

العدد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة إذا طلّقها زوجها متى تكون هي أملك بنفسها؟ قال: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها. قلت: فإن عجل الدم عليها قبل أيّام قرئها؟ فقال: إن كان الدم قبل عشرة أيّام فهو أملك بها و هو من الحيضة الّتي طهرت منها، و إن كان الدم بعد العشرة أيّام فهو من الحيضة الثالثة و هي أملك بنفسها «3».

دلّت هذه الأخبار على أنّ الدم بمجرّد رؤيته محكوم بالحيضيّة، لكن إذا كان قبل العشرة فهو من الاولى؛ و إذا كان بعدها فهو من الثانية، و أنت خبير بأنّ الظاهر من الروايات مفروغيّة كون الدم حيضا، و أنّ محلّ البحث كونه من الأولى أو الثانية. و بعبارة أخرى: إنّها في مقام بيان أنّ أيّ دم من الحيضة الثانية، لا في مقام بيان أنّ كلّ ما رأته فهو من الحيض.

و ممّا يوضح ذلك قوله في رواية ابن مسلم «أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة» فإنّ قوله «إذا رأت الدم ..» عقيب ذلك يؤكّد أن المراد منه هو دم الحيض، كما أنّ قوله في الرواية الأخيرة «فإن عجل الدم عليها قبل أيّام قرئها» كالصريح في تعجّل دم الحيض فقوله «إن كان الدم قبل عشرة أيّام- إلخ-» جوابا عن ذلك ظاهر في أنّ الكلام بعد فرض حيضيّة الدم. و توهّم عدم علمها بالحيضيّة لو لا القاعدة مدفوع بأنّ النساء

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب العدد، ب 17، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 37

كثيرا ما علمن بها بواسطة القرائن و الأمارات الّتي عندهنّ، مع

أنّ الشارع جعل للحيض طريقا إذا اشتبه بالاستحاضة، و الاشتباه قلّما يتّفق في غيرهما. و بالجملة استفادة مثل تلك القاعدة من مثل تلك الروايات غير ممكن.

و منها صحيحة عبد اللّٰه بن المغيرة عن أبي الحسن الأوّل في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما، ثمّ طهرت، ثمّ رأت الدم بعد ذلك، قال: تدع الصلاة، لأنّ أيّامها أيّام الطّهر قد جازت مع أيّام النفاس. «1» حيث حكم بالحيضيّة بمجرّد عدم الامتناع و خروج أيّام الطهر.

و فيه أولا أنّ تلك الرواية في عداد سائر الروايات الّتي دلّت على أنّ أيّام النفاس يمكن أن تكون ثلاثين يوما أو أزيد ممّا أعرض أصحابنا عنها، مع أنّ ظاهرها أنّ أيّام النفاس تجتمع مع أيّام الطهر، و هو أيضا يوجب الاضطراب في المتن، و إن أمكن تأويله بالحمل على أيّام النفاس عرفا و إن لم يكن واقعا و شرعا، لكنّه تأويل بعيد ينافي تقريره ترك الصلاة ثلاثين يوما. إلّا أن يقال: إنّ قوله «لأنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس» في مقام الردع عن ترك الصلاة، فإنّ أيّام النفاس ليست أيّام الطهر عينا، فيحمل على أنّ الثلاثين ليست أيّام النفاس جميعا بل بعضها أيّام النفاس و بعضها أيّام الطهر، فيكون قد أظهر الحكم الواقعيّ تحت حجاب التقيّة.

و ثانيا أنّ المراد من الدم هو دم الحيض مقابل الصفرة، و هو أمارة الحيض عند دوران الأمر بينه و بين الاستحاضة، و الشاهد عليه- مضافا إلى أنّ الدم في الروايات ذكر في مقابل الصفرة- صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا إبراهيم عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوما أو أكثر، ثمّ طهرت و صلّت، ثمّ رأت دما أو صفرة، قال: إن كان

صفرة فلتغتسل و لتصلّ و لا تمسك عن الصلاة. «2» و روى الشيخ مثلها، إلّا أنّه قال «فمكثت ثلاثين ليلة أو أكثر» و زاد في آخرها «فإن كان دما ليس

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 38

بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيّام قرئها، ثمّ لتغتسل و لتصلّ» فتدلّ على أنّ مرجعها الصفات لا قاعدة الإمكان، و الإنصاف أنّها على خلاف المطلوب أدلّ.

و منها صحيحة يونس بن يعقوب أو موثّقته، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تدع الصلاة، تصنع ما بينها و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم و إلّا فهي بمنزلة المستحاضة. «1» و قريب منها رواية أبي بصير، لكنّ التمسّك بمثلهما لا يجوز، للزوم كون الحيض أكثر من عشرة أيّام أو كون الطهر أقلّ منها، و كلاهما خلاف الواقع، فلا بدّ من طرحهما أو توجيههما، و قد وجّههما الشيخ و المحقّق بما لا بأس به. هذا، مع أنّ قوله «ترى الدم» في مقابل «ترى الطهر» أي ترى الحيض و الدم المعهود، مضافا إلى أنّ الرواية في مقام بيان حكم آخر و لا يمكن أن يتمسّك بها للمقام كما لا يخفى.

و منها ما دلّ على أن الصائمة تفطر بمجرّد رؤية الدم، و لا يخفى ما فيه بعد الرجوع إليها، كما لا يخفى ما في التمسّك بقوله «و الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض» كصحيحة ابن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها فقال: لا تصلّي حتّى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة

في غير أيّامها توضأت و صلّت «2» إذ لا إشكال في أنّ الظاهر من الأيّام خصوصا قوله «أيّامها» هو أيّام العادة دون أيّام الإمكان كما قيل.

و منها صحيحة العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة ذهب طمثها سنين ثمّ عاد إليها شي ء، قال: تترك الصلاة حتّى تطهر. «3» فإن عود شي ء أعمّ من الموصوف بصفات الحيض و غيره و في زمان العادة و غيره.

و فيه أنّ ظاهر العود مجي ء الطمث، مع أنّ الأخذ بإطلاق قوله «شي ء» لا معنى له، فلا بدّ من تقدير، و الظاهر أنّ التقدير: عاد إليها شي ء من الطمث، فإنّه

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 1.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 32، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 39

ذهب فعاد، و لا أقلّ من احتماله، و معه لا يجوز التمسّك به للقاعدة.

الثالث الإجماع، كما في الخلاف، و حكي عن المعتبر و المنتهى و النهاية و بعض من تأخّر عنهما.

و فيه- مضافا إلى و هن دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة الّتي كثرت الأخبار و القواعد فيها بحيث يمكن اتّكال القوم عليها، فكيف يمكن حصول العلم أو الاطمئنان بوجود شي ء آخر غير تلك الأدلّة كان هو منشأ الإجماع؟- أنّ في أصل الدعوى تأمّلا، و إشكالا، فلا بدّ من نقل عباراتهم حتّى يتّضح الحال.

قال في الخلاف: الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض و في أيّام الطهر طهر سواء كانت أيّام العادة أو الأيّام الّتي يمكن أن تكون حائضا فيها، و على هذا أكثر أصحاب الشافعيّ- إلى أن قال:- دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه إجماع

الفرقة و قد بيّنّا أن إجماعها حجّة، و أيضا روى محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. ثمّ تمسّك برواية أبي بصير. و قد نقل عن المبسوط تفسير قوله «و الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض» بأيّام الإمكان، فكأنّ الشيخ فهم من قوله «أيّامها» و «أيّام الحيض» أيّام الإمكان، فحينئذ من الممكن مطابقة عبارات الأصحاب أو جملة منهم لهذا النصّ الّذي استند إليه، و قد فهم الشيخ منها ما فهم، و أسند إليهم الحكم باجتهاده، فصارت المسألة بتخلّل اجتهاده إجماعيّة.

و بالجملة بعد استظهار الشيخ أيّام الإمكان من «أيّامها» في مثل رواية ابن مسلم لا يبقى وثوق بنقل إجماعه، لإمكان استظهاره ذلك من عبائر الفقهاء أيضا، خصوصا مع دعواه أنّ الفقهاء كان بناؤهم على عدم التخطّي عن النصوص بل عن عباراتها أيضا. هذا، مع أنّ في مطلق إجماعات الخلاف كلاما على نحو الكلام الّذي في إجماعات الغنية.

و عن المعتبر: و ما تراه المرأة بين الثلاثة إلى العشرة حيض إذا انقطع، و لا عبرة بلونه ما لم يعلم أنّه لقرح أو لعذرة، و هو إجماع، و لأنّه زمان يمكن أن يكون حيضا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 40

فيجب أن يكون الدم فيه حيضا.

و عن المنتهى: كلّ دم تراه المرأة ما بين الثلاثة إلى العشرة لم ينقطع عنها فهو حيض ما لم يعلم لعذرة أو قرح، و لا اعتبار باللون، و هو مذهب علمائنا أجمع و لا نعرف مخالفا، لأنّه في زمان يمكن أن يكون حيضا فيكون

حيضا.

و عن النهاية: كلّ دم يمكن أن يكون حيضا و ينقطع على العشرة فإنّه حيض، سواء اتّفق لونه أو اختلف، قوي أو ضعف إجماعا. ثمّ استدلّ بأنّه دم في زمان يمكن- إلخ.

و أنت خبير بأنّ شيئا من تلك الكلمات لا يدلّ على دعوى الإجماع على القاعدة، بل يكون محلّ كلامهما هو المسألة الفرعيّة، و هي ما ترى المرأة بين الثلاثة إلى العشرة، فادّعيا الإجماع على هذه المسألة الفرعيّة، و أضافا التمسّك بالقاعدة من غير دعوى الإجماع عليها.

و توهّم كون موضوع كلام العلّامة في النهاية قاعدة الإمكان فاسد جدّا، للزوم المصادرة و الاستدلال على القاعدة بنفسها. فمن المحتمل بعيدا أن يكون مفروض كلامهما بعد مفروغيّة كون الثلاثة حيضا، و يكون مستندهما في حيضيّة الزائد إلى العشرة هو الاستصحاب، و ذكر إمكان حيضيّة الدم لتنقيح موضوع الاستصحاب لا التمسّك بالقاعدة، كما عن الذكرى أنّ ما بين الأقلّ و الأكثر حيض مع إمكانه و إن اختلف لونه، لاستصحاب الحيض، و لخبر سماعة. و معلوم أنّ التمسّك بالاستصحاب بعد مفروغيّة كون الدم في الثلاثة حيضا.

و ممّا ذكرنا يتّضح حال دعوى عدم الخلاف و الإجماع و الشهرة من المتأخّرين و المقاربين لعصرنا، لعدم الوثوق بها في هذه المسألة الّتي مرّ حالها من ترامي الأدلّة و الاستدلالات فيها، و طريق الاحتياط واضح، و هو سبيل النجاة.

و اما الثالث أي بيان موردها و مقدار سعة نطاقها فهو تابع لمدرك القاعدة، فيختلف باختلافه، فإن كان مثل أصالة السلامة فيلاحظ بناء العقلاء في الإجراء و الاستناد، و لا إشكال في عدم مورد لجريانها إلّا في ما شكّ موضوعا أنّ الدم الخارج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 41

منها هو الدم

الطبيعيّ المقذوف من الرحم السالم أو لا، و كان منشأ الشكّ فيها هو الشكّ في السلامة و الانحراف، دون سائر الموارد من الشبهات الحكميّة، أو الشكّ في تحقّق ما يعتبره الشارع، أو الشبهة الحاصلة من تعارض الأمارات، أو عدم إمكان العلم بالأمارة الموجودة، أو عدم إمكان استعمال الأمارة، و غير ذلك من الشبهات المتقدّمة.

و إن كان المستند هو الروايات فلا بدّ من ملاحظة مفاد المستند، و أشملها دلالة على الفرض هو روايات اجتماع الحمل و الحيض و ما دلّ على أنّ الوقت ربما يعجل بها، و رواية النفاس، و شي ء منها لا يدلّ إلّا على البناء على الحيض في الشبهة الموضوعيّة و الشكّ في أنّ الدم الخارج حيض أو لا، فإنّ الظاهر من الروايات الواردة في الحمل أنّ الشبهة كانت في أنّ الحامل تقذف الحيض أو لا تقذف لكون الدم غذاء ولدها، فدلّت الروايات على أنّ الغذاء قد يزيد عن الطفل فتقذفه الرحم. و أما سائر الشكوك كالشكّ في اعتبار الشارع أمرا في لزوم ترتّب الآثار، أو الشكّ في تحقّق ما اعتبره الشارع و أمثال ذلك فلا دلالة فيها بالبناء عليها بوجه. و منه يظهر حال سائر الروايات.

و أمّا الإجماع فالقدر المتيقّن منه الشبهة الموضوعيّة بعد إحراز ما له مدخل في الحكم بالحيضيّة كالبلوغ و عدم اليأس و الاستمرار إلى ثلاثة أيّام، بل مع الشبهة الحكميّة في دخل شي ء فيه كالشكّ في شرطيّة التوالي مثلا أو مانعيّة شي ء يشكل التمسّك بالقاعدة، لعدم ثبوت الإجماع في مثله أيضا على فرضه.

و الإنصاف أنّ القاعدة بنفسها غير ثابتة، و بعض الفروع الّتي ادّعي الإجماع فيها لو ثبت قيامه عليها كالفرع المتقدّم الّذي سيأتي الكلام فيه نلتزم به لا

لأجل القاعدة بل للإجماع في المسألة الفرعيّة.

ثم إنّ القاعدة على فرض تماميّتها في كونها أصلا أو أمارة تابعة لمدركها، فإن كان المدرك لها هو أصالة السلامة و قلنا بأماريّتها أو الظنّ الحاصل لأجل الغلبة فتكون أمارة، و إن كان المدرك لها الإجماع و الأخبار فلا تكون إلّا أصلا معوّلا عليه لدى الشبهة. ثمّ إنّ تقديمها على الاستصحاب بناء على أماريّتها واضح أصلا و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 42

كيفيّة، و أمّا بناء على أصليّتها فمقدّمة عليه أيضا للزوم لغويّتها لو عملنا بالاستصحاب لندرة مورد لا يكون فيه استصحاب. و تأخّرها عن سائر الأمارات الشرعيّة على الأصليّة واضح، و أمّا على الأماريّة فلأنّ جعل الأمارات الشرعيّة لغير الحيض رادع عن بناء العقلاء، فلو دار الأمر بين الحيض و الاستحاضة في المبتدئة مثلا و قلنا بأماريّة البرودة و الصفرة و الفتور للاستحاضة فلا مجال للتمسّك بالقاعدة حتّى على الأماريّة لعدم اعتبار بناء العقلاء مع قيام الأمارة على خلافه.

هذا تمام الكلام في قاعدة الإمكان، و قد تحصّل عدم اعتبارها، فمع الشكّ في كون دم حيضا أو غيره ممّا لم تقم أمارة أو دليل على رفع الشبهة لا محالة يرجع الأمر إلى الأصول الشرعيّة، موضوعيّة أو حكميّة- و اللّٰه العالم.

المطلب الثاني في حدود الحيض و قيوده و شرائطه. و هي أمور:

«الأمر الأوّل» لا إشكال نصّا و فتوى في أنّ ما تراه الصبيّة قبل بلوغها تسعا ليس بحيض

و إن كان مع الصفات و المميّزات، و قد تكرّر دعوى الإجماع عليه، و تدلّ عليه بعده صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: ثلاث يتزوّجن على كلّ حال:

الّتي لم تحض و مثلها لا تحيض، قال: قلت: و ما حدّها؟ قال: إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين «1»- الحديث- و ليس في سندها من يمكن التوقّف فيه إلّا

«سهل بن زياد» و هو مورد وثوق على الأصحّ. و رواها الشيخ بسند فيه «الزبيريّ» و فيه توقّف و إن لم يبعد وثاقته.

و الظاهر منها أنّ الحدّ هو تمام التسع، لأنّ تسع سنين لا يصدق إلّا من حين الولادة إلى آخر التسعة، فإتيان تسع سنين لا يكون إلّا بتمامه، للفرق بين قوله «أتى لها تسع

______________________________

(1) الوسائل: أبواب العدد، ب 2، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 43

سنين» و قوله «أتى لها السنة التاسعة» فمع وردها في التاسعة أتى لها السنة التاسعة و لكن أتى لها أقلّ من تسع سنين كما أنّها لم تبلغ تسع سنين كما في روايته الأخرى.

كما أنّ المراد منه التحقيق لا التقريب، لا لما قيل: إنّ الظاهر من مقام التحديد هو ذلك- و إن لم يخل من وجه- و لا لما قيل من أنّ تطبيق المفاهيم على المصاديق يكون بالدقّة العقليّة لا بتشخيص العرف، فإنّه ضعيف، لأنّ مبنى مخاطبات الشرع معنا كمخاطبات بعضنا مع بعض، و لا شبهة في أنّ المخاطبات العرفيّة لا تكون مبنيّة على الدقّة العقليّة لا مفهوما و لا في تشخيص المصاديق، فإذا قال «اغسل ثوبك من الدم» فكما أنّ مفهومه يؤخذ من العرف كذلك المعوّل عليه في تشخيص المصداق هو العرف، فلون الدم دم عقلا لكن لا يجب غسله لعدم كونه دما عرفا بل هو لون الدم، بل لأنّ الميزان في تشخيص المفاهيم و المصاديق نظر العرف بحسب فهمه و دقّته لا مع التسامح العرفيّ، فإذا كان للمفهوم مثلا ثلاثة مصاديق: أحدها مصداق برهانيّ عقليّ لا سبيل للعرف إلى تشخيصه و لو مع الدقّة و عدم التسامح كلون الدم، فإنّ العرف لا

يدرك استحالة انتقال العرض، و أنّ المنتقل أجزاء صغار جوهريّة، فلا يكون اللون دما في أدقّ نظر العرف، و لا يتسامح في سلب الدميّة عنه؛ و ثانيها مصداق عرفيّ من غير تسامح عرفيّ، بل يكون مصداقا بدقّته العرفيّة؛ و ثالثها مصداق مسامحيّ لدى العرف، كإطلاق «الألف» على عدد ناقص منه بواحد أو اثنين، و إطلاق «الرطل» على ما نقص بمثقال أو درهم، و لا إشكال في أنّ هذا الإطلاق مسامحيّ مجازيّ يحتاج إلى التأوّل، فميزان تشخيص موضوعات الأحكام هو الثاني، لا الأوّل و هو معلوم، و لا الثالث إلّا مع قيام قرينة حالا أو مقالا على تسامح المتكلّم، و إلّا فأصالة الحقيقة محكّمة. هذا من غير فرق بين الموضوعات، و لا بين مقام التحديد و غيره، فالماء موضوع لهذا المائع المعروف، و تسامح العرف في إطلاقه على شي ء لا يكون متّبعا.

فإطلاق العرف بلوغ التسع على من بلغت التسع إلّا عدّة أيّام مسامحيّ مجازيّ، و لهذا لو سئلوا: هل بلغت تمام التسع؟ لأجابوا بالنفي و اعترفوا بالتسامح، فبلوغ التسع لا يكون إلّا بتمام الدورة التاسعة من السنة القمريّة الّتي هي المنصرف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 44

إليها عند العرف العامّ، و الشمسيّة يحتاج معرفتها إلى مباني علميّة و نجوميّة لا يعرفها عامّة الناس خصوصا الأعراب و في تلك الأزمنة إلّا أن تكون قرينة موجبة للتعيّن كما قد تدّعى في باب سنة الخمس. كما لا إشكال في التلفيق و حساب المنكسر لقضاء العرف به.

ثم إنّ هاهنا إشكالا مشهورا بل إشكالين: أحدهما ما في «الروض» قال: إنّ المصنّف و غيره ذكروا أنّ الحيض للمرأة دليل على بلوغها و إن لم يجامعه السنّ، و

حكموا هنا بأنّ الدم الّذي قبل التسع ليس بحيض، فما الدم المحكوم بكونه حيضا؟

(انتهى) و هذا- كما ترى- ليس إشكال الدور بل إشكال التناقض في كلامهم بأنّ لازم القول الأوّل أنّ الحيض قبل التسع دليل البلوغ فيمكن تحقّقه قبله، و صريح القول الثاني عدم كون الحيض إلّا بعد التسع، فلا يمكن أن يتحقّق قبله.

و الاشكال الثاني أنّ القوم جعلوا الحيض و الحمل دليلين على البلوغ، و قالوا في المقام: إنّ كلّ دم تراه المرأة قبل التسع ليس بحيض، فإحراز الحيضيّة يتوقّف على إحراز التسع، و لو كان إحراز التسع متوقّفا على إحراز الحيضيّة لدار الأمر على نفسه.

و لقد أجاب الشهيد في الروض عن الإشكال الأوّل بما يناسب الإشكال الثاني، و يمكن أن يجاب عن الأوّل بأنّه لا تنافي بين كون الحيض دليلا على البلوغ مستقلّا و عدم كون الدم قبل التسع حيضا، إذا أريد بالثاني عدم ترتّب آثار الحيضيّة على الدم قبل التسع لا عدم تحقّق الحيض تكوينا، فالحيض الّذي لا يترتّب عليه أحكام الحيض كترك الصلاة و حرمة مسّ الكتاب مثلا دليل على البلوغ، فيجب على الحائض قبل التسع الصلاة لبلوغها، لكنّ الالتزام بذلك بعيد بل ممنوع و إن شهد به بعض الأخبار، و لعلّ رجوع الشهيد إلى الجواب المذكور لأجل ما ذكر، فالأولى أن يقال:

إنّ المصنّف و غيره لم يلتزموا بكون الحيض بلوغا مستقلا و لو قبل التسع بل ادّعي الإجماع أو عدم الخلاف على أنّ الحيض لا يكون بلوغا.

فبقي الإشكال الثاني، فأجيب عنه بأنّه مع العلم بالسنّ لا اعتبار بالدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 45

قبله و إن جمع الصفات، و مع اشتباهه و وجود الدم في

وقت إمكان البلوغ يحكم بالبلوغ، و لا إشكال حينئذ. لكن هذا الجواب مبنيّ على أنّ الدم المعهود المقذوف من النساء أعني دم الحيض لا يتحقّق قبل التسع و يكون السنّ دخيلا في تحقّقه تكوينا، حتّى تكون الأمارة على الحيضيّة أمارة على السنّ، أو كان القذف قبل التسع مع إمكانه بحدّ من الندرة يعدّ معه قذف الدم المتّصف بالصفات المعهودة من الأمارات العقلائيّة على السنّ، و كلاهما محلّ تأمّل و إشكال، و إن كان الثاني لا يخلو من قرب.

ثم إنّه لا مجال للتمسّك بروايات الصفات للحكم بالحيضيّة و السنّ، لأنّ الصفات أمارات في مقام الدوران بين الحيض و الاستحاضة، و الدم الخارج قبل التسع لا يكون أمره دائرا بينهما، و مع الشكّ في السنّ يشكّ في الموضوع. مضافا إلى أنّ مقتضى النصّ و الفتوى أنّ الدم الخارج ممّن لم تبلغ التسع ليس بحيض و لو كان على صفاته، و مع استصحاب عدم كونها بالغة يحرز موضوع المخصّص، فلا مجال معه للتمسّك بأدلّة الصفات، نعم، مع العلم أو الاطمئنان بكون الدم المقذوف حيضا لا يبعد الحكم ببلوغ التسع و ترتيب آثار البلوغ و الحيضيّة على إشكال.

«الأمر الثاني» ما تراه المرأة بعد يأسها ليس بحيض

و لو كان بصفاته بلا إشكال نصّا و فتوى. إنّما الإشكال في حدّ اليأس: هل هو ستّون مطلقا، أو خمسون كذلك، أو تفصيل بين القرشيّة و بين غيرها، أو بين القرشيّة و النبطيّة و بين غيرهما؟ وجوه و أقوال منشأها اختلاف الأخبار. ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: حدّ الّتي قد يئست من المحيض خمسون سنة. «1» و ليس في طريقها من يتأمّل فيه إلّا «محمّد بن إسماعيل النيسابوريّ» الّذي لم يرد فيه توثيق،

و إنّما هو رواية «الفضل بن شاذان» لكن من تفحّص رواياته اطمأنّ بوثاقته و إتقانه، فإنّ كثيرا من رواياته لو لم نقل

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31 ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 46

أغلبها منقولة بطريق آخر صحيح أو موثّق أو معتبر طابق النعل بالنعل، و الوثوق و الاطمئنان الحاصل من ذلك أكثر من الوثوق الّذي يحصل بتوثيق الشيخ أو النجاشيّ أو غيرهما.

و في صحيحته الأخرى قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: ثلاث يتزوّجن على كلّ حال- إلى أن قال:- و الّتي قد يئست من المحيض و مثلها لا تحيض. قال: قلت: و ما حدّها؟

قال: إذا كان لها خمسون سنة. «1» و في طريقها «سهل بن زياد الآدميّ» و أمره سهل بعد اشتراكه في إتقان الرواية و كثرته مع «النيسابوريّ» بل هو أكثر رواية منه، و له قدم راسخ في جميع أبواب الفقه كما يتّضح للمتتبّع، مع قرائن كثيرة توجب الاطمئنان بوثاقته.

و في مرسلة البزنطيّ عن بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: المرأة الّتي قد يئست من المحيض حدّها خمسون سنة. «2»

نعم، روى الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج الرواية المتقدّمة مع اختلاف يسير من التقديم و التأخير في العبارة، و فيها: إذا بلغت ستّين سنة فقد يئست من المحيض و مثلها لا تحيض. «3» لكن في سندها تأمّل، فإنّ في طريق الشيخ إلى عليّ بن الحسن، عليّ بن محمّد بن الزبير القرشيّ، و لم يرد فيه توثيق، و إنّما قال النجاشيّ في ترجمة «أحمد بن عبد الواحد»: و كان قد لقي أبا الحسن عليّ بن محمّد القرشيّ المعروف بابن الزبير و كان علوا

في الوقت. و قد جعل بعض المتأخّرين كالمحقّق الداماد الجملة الأخيرة و صفا له، ففهم منه التوثيق أو قريبا منه. مع أنّ قول النجاشيّ لا يبعد أن يكون مربوطا بأحمد بن عبدون، لأنّه في مقام ترجمته لا ترجمة ابن الزبير. مع أنّ قوله «كان علوا في الوقت» يحتمل قريبا جريه على الاصطلاح من كونه علوا في السند من حيث كثرة عمرة أو عمر واسطته، فإنّ ابن الزبير عمّر مائة

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31، ح 6.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31، ح 3.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31 ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 47

سنة على ما ذكروا، و معنى علوّا السند قلّة الوسائط، فقول النجاشيّ مربوط ظاهرا بابن عبدون و أنّه لأجل لقائه القرشيّ كان عالي السند في رواياته في ذلك الزمان.

و كيف كان فمع الإشكال في السند- و إن كان الأرجح عندي قبول رواياته- يحتمل قريبا وقوع اشتباه في الرواية إمّا من الرواة أو من النسّاخ، لبعد كونها رواية أخرى مستقلّة غير الصحيحة، و بعد الاشتباه في الصحيحة لتأيّدها بالصحيحة الاولى و مرسلة البزنطيّ، بل و مرسلات ابن أبي عمير و الصدوق و المفيد و الشيخ. بل لا يبعد أن يكون الاشتباه من النسّاخ في النسخ الأوّليّة من كتاب الشيخ، لأنّ الفتوى بهذه الرواية حدثت بعد زمان الشيخ في عصر المحقّق و العلّامة، و نقل عن مبسوطة: و تيأس المرأة إذا بلغت خمسين سنة، إلّا أن تكون امرأة من قريش، فإنّه روي أنّها ترى دم الحيض إلى ستّين سنة. و لم يشر إلى رواية ستّين مع إشارته إلى المرسلة.

و كيف كان فلا يبقى مع ما ذكرنا وثوق

بالرواية، و ليست حجّيّة الخبر الواحد تعبّديّة محضة، بل لأجل عدم ردع بناء العقلاء أو تنفيذه، و لا إشكال في أنّ العقلاء لا يعملون بمثل هذه الرواية و لا أقلّ من عدم إحراز بنائهم على العمل بمثلها، فلا إشكال في ضعف القول بالستّين مطلقا. و الأقوى هو التفصيل بين القرشيّة و غيرها، و البحث عن النبطيّة لا يجدي بعد عدم معروفيّة هذه الطائفة.

و أمّا القرشيّة فقد دلّت على التفصيل بينها و بين غيرها مرسلة ابن أبي عمير «1» الّتي هي في حكم الصحيحة عندهم، حتّى أنّ المجلسيّ- رحمه اللّٰه- وصف هذه المرسلة بالصحيحة في مرآته، و لا تقصر عنها مرسلة الصدوق، قال: قال الصادق عليه السّلام المرأة إذا بلغت خمسين لم تر حمرة، إلّا أن تكون امرأة من قريش، و هو حدّ المرأة الّتي تيأس من المحيض. «2» فإنّ هذا النحو من الإرسال و النسبة إلى الصادق عليه السّلام على نحو الجزم من مثل الصدوق لا يصحّ إلّا مع علمه بصدور الرواية، و معلوم من طريقته أنّ النسبة ليس من الاجتهاد. فهو إمّا اتّكل على مرسلة ابن أبي عمير،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 31، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 48

فحكمه على نحو الجزم يوجب الوثوق بها، و إمّا جزم بصدورها مستقلا، و هو لا يقصر عن توثيق الوسائط بالنظر إلى طريقته.

و مثلها ما عن «المقنعة» قال: روي أنّ القرشيّة من النساء و النبطيّة تريان الدم إلى ستّين سنة. و عن الشيخ في المبسوط: تيأس المرأة إذا بلغت خمسين سنة، إلّا أن تكون امرأة من قريش، فإنّه روي أنّها ترى دم الحيض إلى

ستّين سنة. و هما مرسلتان مستقلّتان غير السابقتين لافتراقهما عنهما مضمونا كافتراق أنفسهما.

هذا، مع اشتهار الحكم بين الأصحاب قديما و حديثا، و قد نقل الشهرة عن جامع المقاصد و فوائد الشرائع في التفصيل بين القرشيّة و النبطيّة و غيرهما، و ادّعاها في الروضة، و ادّعى الشهرة في التفصيل بين القرشيّة و غيرها صاحب المسالك و الجواهر، و عن التبيان و المجمع نسبة ذلك إلى الأصحاب. بل هو مقتضى الجمع بين الروايات على فرض استقلال رواية ابن الحجّاج و مرسلة الكليني على تأمّل. فلا ينبغي الإشكال بعدم صراحة «الحمرة» في الحيض كما في مرسلتي ابن أبي عمير و الصدوق، و لا «الدم» فيه كما في مرسلة المفيد، و عدم ذكر الستّين للقرشيّة فيهما، و لعلّ فتوى المشهور كان لأجل الجمع بين روايتي ابن الحجّاج و مرسلة ابن أبي عمير، و بعد ترجيح تصحيف الستّين لا يبقى دليل على التفصيل إلّا مرسلة الشيخ و المفيد. و هما غير كافيتين للاحتجاج بعد احتمال أنّ إرسالهما لأجل الجمع و تخلّل الاجتهاد. ضرورة أنّ مثل هذه الاحتمالات العقليّة تأتي في جميع الفقه، و هي ليست معتدّا بها و معيارا لفهم الأحكام، و لا يجوز نسبة هذا الجمع الغير المقبول لدى العقلاء إلى الفقهاء، و أنّ مبنى اشتهار الفتوى هذا الجمع البعيد الغير الوجيه، بل عدم ذكر الستّين في المرسلتين يؤكّد كون الحكم كذلك كان مشهورا لدى الإماميّة و معروفا من لدن زمن الأئمّة عليهم السلام من غير احتياج إلى الاستناد إلى رواية. و الشهرة في مثل هذا الحكم التعبّديّ المخالف للقواعد حجّة مستقلّة لو لم نقل بكفاية مرسلتي المفيد و الشيخ مع انجبارهما بفتوى الطبقة المتقدّمة و المتأخّرة.

ثم مع الشكّ

في كون امرأة قرشيّة لا تجري أصالة عدم القرشيّة أو عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 49

الانتساب إلى القريش لو كان المراد بها الاستصحاب لما حقّق في محلّه، و إن كان المراد بها الأصل العقلائيّ المستند إلى الغلبة و ندرة الطائفة بين سائر الطوائف فلها وجه، و إن لم يخل من إشكال منشأه عدم ثبوت هذا الأصل و عدم ندرة هذه الطائفة بحدّ يتّكل العقلاء على الأصل لدى الشبهة. نعم، لا بأس بها مع الشكّ في النبطيّة لاحتمال الانقراض رأسا، فاحتمال النبطيّة ضعيف إلى حدّ لا يعتني به العقلاء.

«الأمر الثالث» لا إشكال نصّا و فتوى في عدم كون ما رأت المرأة أقلّ من ثلاثة أيّام حيضا،
اشارة

و نقل الإجماع عليه مستفيض، و عن الأمالي أنّه من دين الإماميّة الّذي يجب الإقرار به، و عن المعتبر: هو مذهب فقهاء أهل البيت عليهم الصلاة و السلام. نعم، يقع الكلام هاهنا في جهتين:

الجهة الاولى

و هي الّتي لا تختصّ بالمقام و قد مرّ فيها بعض الكلام أنّ الروايات الواردة في حدود الحيض كعدم كونه قبل التسع و بعد اليأس، و عدم كونه أقلّ من ثلاثة أيّام و أكثر من عشرة أيّام هل هي في مقام تحديد واقع الحيض و أنّ ما خرج على خلاف تلك الحدود ليس من الحيض تكوينا، بل من مبدأ آخر، إمّا من عرق العاذل أو من القرحة في الجوف أو غير ذلك؛ أو في مقام التحديد الشرعيّ بمعنى جعل الشارع موضوع الأحكام صنفا خاصّا من دم الحيض لا مطلقه، كما جعل موضوع السفر صنفا خاصّا من السفر، فقبل ثمانية فراسخ و إن كان سفرا واقعا لكن لا يترتّب عليه الأحكام، و كذا سفر المعصية و الصيد، فكذا لو فرض تحقّق دم الحيض أي الدم الطبيعيّ المعهود قبل التسع أو بعد الخمسين أو أقلّ من ثلاثة أو أكثر من عشرة لم يكن موضوعا للحكم الشرعيّ؛ أو في مقام بيان جعل الشارع أمارات للحيض عند الاشتباه، و كانت الأحكام مترتّبة على واقع الحيض و نفس طبيعة الدم المعهود، لكن لمّا كان الموضوع غالبا مورد الاشتباه جعل أمارات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 50

له أو لعدمه، فكون الدم أقلّ من ثلاثة أو أكثر من عشرة أو قبل البلوغ و بعد اليأس محكوم بعدم الحيضيّة ظاهرا، فلو علمت بحيضيّة ما خرج قبل البلوغ أو بعد اليأس يجب عليها التحيّض و

العمل بالوظائف لكونها حائضا، و هي موضوع للأحكام؟

قد يقال بالأخير جمعا بين أدلّة أحكام الحيض الظاهرة في كون الحكم لنفس مهيّة الدم و بين موثّقة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا عبد الهّٰ عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم و اليومين، قال: إن كان الدم عبيطا فلا تصلّ ذينك اليومين و إن كان صفرة فلتغتسل عند كلّ صلاة. و كذا موثّقة سماعة الظاهرة في وجوب الجلوس إذا رأت الدم يومين، قال: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيّام، يختلف عليها، لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء. قال فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتّفق الشهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها. «1» بدعوى أنّ الروايتين محمولتان على صورة عدم الشبهة و العلم بكون الدم حيضا، و سائر الروايات محمولة على صورة الشبهة.

و أنت خبير بأنّ ذلك مضافا إلى مخالفته للإجماع ليس من الجمع المقبول، فإنّ الظاهر من الروايتين صورة الاشتباه و عدم العلم، و لهذا أرجعها إلى الأمارة و كونه عبيطا أو صفرة. و دعوى كون الرواية بصدد رفع الاشتباه و التنبيه على عدم كون المورد من موارد الاشتباه لا لجعل الأمارة لدى الشبهة كما ترى. كما أنّ رواية سماعة لا تدلّ على ما ذكر إلّا من حيث تقرير الإمام قعودها في الشهر يومين، و هو لا يقاوم الأدلّة الناصّة بأنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام، مع ما في ذيلها من أنّه إذا اتّفق الشهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها، من ظهوره في أكثر من يومين. و أمّا قوله «فلها أن تجلس و تدع الصلاة» فحكم ظاهريّ

لمن رأت الدم، كما في رؤية الدم في أيّام العادة. و إن أبيت عن جميع ذلك فلا بدّ من ردّ علمهما إلى قائلهما مع إعراض الأصحاب عنهما، فالاحتمال الأخير أضعف الاحتمالات.

و لا يبعد أن يكون أقربها ثانيها، لما مرّ من بعد كونها تحديدا للواقع،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 14، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 51

فإنّ الحيض أيّ الدم المعهود قد يكون أكثر من عشرة أو أقلّ من ثلاثة، و لا يمكن الالتزام بأنّ الدم إلى الساعة الأخيرة من اليوم العاشر حيض تكوينا و له مجرى، و إذا بلغ آخر العشرة انسدّ الطريق المخصوص بالحيض و انفتح طريق آخر، و إن كان ظاهر بعض الروايات تحديد الواقع كمرسلة يونس القصيرة و غيرها، لكن ورود التحديد في لسان الشارع محمول على التحديد التعبّديّ لا التكوينيّ، لعدم اهتمام الشارع في مقام بيان الأحكام و موضوعاتها ببيان حال التكوين، بل همّه بيان موضوع أحكامه.

الجهة الثانية هل يشترط التوالي في رؤية الدم ثلاثة أيّام

فلا يحكم بحيضيّة ما تراه ثلاثة متفرّقة و لو بين العشرة، أو يكفي كونها في جملة العشرة، أو يكفي كونها متفرّقة بحيث لا يتخلّل بين أبعاضها عشرة أيّام، أو يفصّل بين الحامل و غيرها؟ و المشهور هو الأوّل كما في المسالك و الحدائق و الجواهر و طهارة الشيخ الأعظم و عن الذكرى و شرح المفاتيح، و تدلّ عليه قبل الأصول الّتي يأتي البحث عنها الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام. ففي صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة أيّام، و أكثر ما يكون عشرة أيّام. «1» و مثلها أو قريب منها غيرها. تقريب الاستدلال بها أنّ الحيض

إمّا الدم المعهود أو سيلانه أو أمر معنويّ محصّل به، و على أيّ حال لا يصدق كون أقلّه ثلاثة أيّام إلّا مع الاستمرار، فإنّ الدم إذا جرى يوما و انقطع يوما ثمّ جرى يوما و انقطع يوما ثمّ جرى يوما و قلنا بأنّ هذه الدماء حيض يكون أقلّ الحيض يوما واحدا، ضرورة أنّ الدم في اليوم الأوّل بعد تعقّبه بالثاني و الثالث يكون دما مستقلا منقطعا عن الدمين المتأخّرين، و هو حيض حسب الفرض، فيكون أقلّ الحيض يوما واحدا لا ثلاثة أيّام، إلّا بتأويل و توجيه يأتي الكلام فيه.

و بعبارة اخرى: إنّ الدم و كذا كلّ أمر تدريجيّ الوجود ما دام كونه سائلا يعدّ مصداقا واحدا للطبيعة، و إذا انقطع و تخلّل بينه و بين قطعة اخرى نقاء أو طهر

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 10 ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 52

تكون القطعتان مصداقين للطبيعة لا مصداقا واحدا، فالدماء المتفرّقة في عشرة أيّام إذا كان عدد مجموعها ثلاثة أيّام تكون مصاديق متعدّدة مستقلّة للدم و لسيلانه أيضا وجدانا، و مع كونها حيضا تكون ثلاثة مصاديق لدم الحيض، فيكون أقلّ دم الحيض يوما واحدا و كذا أقلّ سيلانه إلّا بالتأويل و ارتكاب التجوّز. و هكذا لو قلنا بأنّ الحيض عبارة عن أمر معنويّ حاصل بالدم إذا بلغ ثلاثة أيّام في العشرة، فإنّ هذا الأمر المعنويّ يحصل بالدم المتعقّب بثلاثة أيّام، فإذا قيل بكفاية التفرّق لا يمكن أن يكون الأقلّ ثلاثة، لأنّه إذا قلنا بأنّ الفترات طهر يكون الحيض في زمان جريان الدم مصداقا مستقلا، و مع تخلّل الطهر بينه و بين مصداق آخر لا يمكن أن يكون المصداقان واحدا إلّا

بالتأوّل و التجوّز و الاعتبار، فيكون أقلّ الحيض يوما لا ثلاثة أيّام. و لو قلنا بأنّ الفترات أيضا حيض يكون أقلّ الحيض في الفرض أكثر من ثلاثة أيّام، لأنّه إذا فرض جريان الدم يومين ثمّ انقطع يوما و جرى يوما يكون الحيض أي الأمر المعنويّ أربعة أيّام، فكون أقلّ الحيض ثلاثة أيّام حقيقة لا يمكن إلّا بتوالي الأيّام الثلاثة على جميع الاحتمالات.

و بما ذكرنا يظهر أنّه لا وقع للاعتراض عليه تارة بمقايسة المقام بنذر الصوم و هو واضح، و اخرى بالنقض بالعشرة المقابلة للثلاثة لقيام الإجماع على عدم لزوم التوالي. فإنّ كون أكثر الحيض- بمعنى الدم أو سيلانه أو الأمر المعنويّ- عشرة أيّام لا ينافي الإجماع المذكور، ضرورة أنّه مع هذا الإجماع تكون العشرة مع تفرّق أيّام الدم بعد توالي ثلاثة أيّام حيضا لا دم الحيض و سيلانه، فإذا كان المراد من الحيض في الروايات دم الحيض أو سيلانه يكون أكثر الحيض عشرة أيّام متوالية، و تكون العشرة المذكورة حيضا حكما لا حقيقة.

بل لنا أن نقول: إنّ الدم الّذي بعد النقاء الحاصل بعد الثلاثة المتوالية حيض حكما لدلالة الأدلّة على أنّ الحيض لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام، و لو كان الدم المرئيّ يوما حيضا لكان منافيا للروايات المتقدّمة، تأمّل. و لو قلنا بأنّ الحيض أمر معنويّ يكون أكثر الحيض عشرة أيّام، سواء استمرّ الدم في العشرة أو رأت الدم بعد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 53

الثلاثة متفرّقا إلى العاشرة، فلا يرد النقض أصلا. بل لو قلنا ذلك لم يرد علينا النقض بأنّ رؤية الدم يوما واحدا بعد الثلاثة المتوالية قبل تمام العشرة مصداق من الدم و هو حيض، فيكون

الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام، ضرورة أنّ الحيض على هذا الفرض أكثر من ثلاثة أيّام، لأنّ أيّام النقاء أيضا حيض كما يأتي الكلام فيه. نعم، بناء على كون النقاء طهرا كما يراه صاحب الحدائق يرد هذا النقض، لكنّ المبنى غير تامّ.

ثم إنّ في مقابل هذه الروايات روايات عمدتها مرسلة يونس القصيرة الّتي رواها في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن بعض رجاله، قال: أدنى الطهر عشرة أيّام، «1» و ذلك أنّ المرأة أوّل ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم، فيكون حيضها عشرة أيّام، فلا تزال كلّما كبرت نقصت حتّى ترجع إلى ثلاثة أيّام، فإذا رجعت إلى ثلاثة أيّام ارتفع حيضها، و لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام، فإذا رأت المرأة الدم في أيّام حيضها تركت الصلاة، فإن استمرّ بها الدم ثلاثة أيّام فهي حائض، و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلّت و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيّام، فإن رأت في تلك العشرة أيّام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتّى يتمّ لها ثلاثة أيّام فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر مع هذا الّذي رأته بعد ذلك في عشرة فهو من الحيض، و إن مرّ بها من يوم رأت الدم عشرة أيّام و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الّذي رأته لم يكن من الحيض، إنّما كان من علّة: إمّا قرحة في جوفها، و إمّا من الجوف، فعليها أن تعيد الصلاة تلك اليومين الّتي تركتها، لأنّها لم تكن حائضا فيجب أن تقضي ما تركت من الصلاة في اليوم و اليومين، و إن تمّ لها ثلاثة أيّام فهو

من الحيض و هو أدنى الحيض، و لم يجب عليها القضاء، و لا يكون الطهر أقلّ من عشرة أيّام، و إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام ثمّ انقطع الدم اغتسلت و صلّت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتمّ لها من يوم طهرت عشرة أيّام فذلك من الحيض تدع الصلاة، و إن رأت الدم من أوّل ما رأت

______________________________

(1) روى هذه الرواية في الوسائل مقطعة، و هذه الفقرة في أبواب الحيض، ب 11، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 54

الثاني الّذي رأته تمام العشرة أيّام و دام عليها عدّت من أوّل ما رأت الدم الأوّل و الثاني، عشرة أيّام، ثمّ هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة. و قال: كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كلّ ما رأته بعد أيّام حيضها فليس من الحيض.

و هذه المرسلة كما ترى تدلّ على أنّ الثلاثة لا يلزم أن تكون متّصلة متوالية، فتفسّر ما في الروايات من أنّ الدم لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام، فلو لا الإشكالات الآتية لكان الجمع بينها و بين تلك الروايات عقلائيّا لحكومتها عليها، و يكون نتيجته هو القول المخالف للمشهور، و لكنّ العمل بمثل تلك المرسلة في غاية الإشكال لا لكون الحكم على خلاف المشهور و إن كان له وجه وجيه. و احتمال تخلّل الاجتهاد في البين أو عمل المعارضة و ترجيح الروايات المقابلة لا الإعراض عنها بعيد بل فاسد مع ما ترى من الجمع الوجيه العقلائيّ بين الطائفتين بحيث لا يبقى معه شبهة المعارضة، فكيف يمكن نسبة عدم فهم هذا النحو من الجمع المقبول العرفيّ إلى

مشهور العلماء و أرباب اللسان؟

بل لأنّ في المرسلة اضطرابات و مناقضات و مخالفات للمشهور ربما تبلغ المناقشات فيها إلى عشر أو أكثر، مع الغضّ عن التأمّل في سندها بإسماعيل بن مرار الّذي لم يرد فيه توثيق، و أكثر ما ورد فيه عدم استثناء «ابن الوليد» إيّاه عن رجال يونس، و في كفايته تأمّل و إن كانت غير بعيدة خصوصا مع قول الصدوق في شأن «ابن الوليد»، و عن إرسالها و إن كان المرسل يونس، لعدم ثبوت كون مرسلاته حجّة، بل عدم ثبوت ذلك في سائر أصحاب الإجماع أيضا، لأنّ استفادة ذلك من إجماع الكشيّ و عباراته الواردة في شأن الطوائف الثلاث محلّ إشكال، و الشهرة المتأخّرة عنه غير معتمدة مع قرب احتمال كون الاشتهار- على فرض ثبوته- من فهم تلك العبارة الواردة من الكشّي فراجع عباراته.

فمن الاضطرابات فيها هو التعليل الواقع فيها لكون أدنى الطهر عشرة أيّام، لعدم التناسب بينهما، فإنّ كون المرأة في أوّل حيضها كثيرة الدم في بعض الأحيان ليس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 55

علّة لكون أقلّ الطهر عشرة و لا مناسبا له أصلا. «1» و التوجيه بأنّ المناسبة المصحّحة للعلّيّة هي معلوميّة عدم تحيّض النساء عادة في كلّ شهر إلّا مرّة و إن كان ربما يعجل بها الوقت بيوم أو يومين لكن ليس التحيّض في شهر مرّتين تامّتين عادة لهنّ، فإذا كان المتعارف بينهنّ ذلك فيحسن التعليل، لأنّه إذا كان حيض كثيرة الدم عشرة أيّام و لم يتعدّ عنها فكيف يكون الطهر أقلّ من عشرة مع أنّها لا تحيض إلّا مرّة واحدة في كلّ شهر؟ غير وجيه، لأنّه إذا كان المتكلّم بصدد بيان عادة نوع النساء

فمع هذا التوجيه لا بدّ و أن يقول: لا يكون أقلّ من عشرين، لا عشرة. و ذكر العشرة إنّما يحسن إذا علّلها بأنّ المرأة لا تحيض زائدا عن مرّتين في الشهر كلّ مرّة عشرة أيّام، و معه يكون أقلّ الطهر عشرة أيّام، فتعليل كون أقلّ الطهر عشرة أيّام و عدم كونه أقلّ من ذلك بزيادة دم النساء في أوّل الحيض لا يكون له وجه صحّة فضلا عن حسن.

و منها قوله «اغتسلت» مع أنّ الغسل مع الشكّ في الحيض بل في الاستحاضة و احتمال دم ثالث كما أبداه في نفس الرواية حيث قال مع عدم رؤية اليوم الثالث إنّه ليس بحيض بل من قرحة في الجوف أو من الجوف، ليس له وجه مع جريان الاستصحاب و أنّه لا ينبغي لها أن تنقض اليقين بالشكّ، و إيجاب الاحتياط عليها كما هو ظاهر الرواية لا يناسب الاحتياط الغير اللازم، بل لا يبعد دعوى عدم ملاءمة أدلّة الاستصحاب لحسن الاحتياط بالعمل على خلافها.

و منها الأمر بالانتظار إلى عشرة أيّام من يوم رأت الدم، مع أنّ الانتظار إلى العشرة إنّما يجب في بعض الأحيان لا مطلقا، فإنّها إذا رأت يوما و انقطع و لم تر إلى اليوم التاسع انقطع انتظارها، فإنّ رؤيته في أثناء اليوم التاسع يوجب أن لا تكون الثلاثة في أثناء العشرة، و معه لا يكون الدم حيضا بحكم المرسلة، و إنّما دم الحيض ما إذا تمّت الثلاثة في العشرة، و كذا سائر الفروض المشابهة لما ذكرنا.

و منها أنّ صريحها في الموضعين منها أنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة أيّام،

______________________________

(1) سيأتي في باب النفاس ما يمكن أن يكون وجه التناسب (منه مد ظله).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)، ج 1، ص: 56

و ظاهر بعض فقرأتها أنّ الطهر أقلّ من عشرة كما اتّكل عليه صاحب الحدائق و حمل الأوّل على ما بين الحيضتين المستقلّتين و الآخر على ما بين الحيض الواحد، و هو كما ترى خروج عن طريق المحاورة، مع أنّ المناسب على زعم صاحب الحدائق أن يذكر في الرواية الطهر بين الحيضة الواحدة و يقول: إنّ الطهر قد يكون أقلّ من عشرة، لا أن يقول: إنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة أيّام، ثمّ يردفه بما يثبت الأقلّيّة، ثمّ يعقّب ذلك بأنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة أيّام، فإنّ كلّ ذلك اضطراب و اغتشاش.

و منها جعل حساب العشرة تارة من أوّل ما رأت الدم الأوّل، و اخرى من أوّل يوم طهرت، فالدم في ما بعد العشرة من أوّل رؤية الدم ليس بحيض على الحساب الأوّل و حيض على الحساب الثاني. و لو كان بدل طهرت «طمثت» كما نقل عن نسخة مصحّحة مقروّة علي الشيخ العامليّ فهو اغتشاش و اضطراب آخر.

و منها جعل ميزان الحساب ثالثا نفس الدم الأوّل و الثاني، و جعل الاستحاضة بعد العشرة من الدمين، فلو فرض أنّها رأت الدم خمسة أيّام و رأت الطهر ثلاثة أيّام ثمّ الدم عشرة أيّام فالدم في اليوم الحادي عشر من مبدأ اليوم الأوّل ليس بحيض بناء على مفاد أوّل الرواية، و حيض بناء على الثاني و الثالث، و أمّا الدم في الخامسة عشر فليس بحيض بناء على الأوّل و الثاني دون الثالث.

و منها الحكم بحيضيّة الدم المتجاوز عن العشرة في ذات العدّة كما هو ظاهرها، إلى غير ذلك.

و الإنصاف أنّ مثل تلك المرسلة مع هذا التشويش و مخالفات الشهرة بل الإجماع

في بعضها و الوهن في بعض تعابيرها غير صالحة للاتّكال عليها و الاحتجاج بها، مع ما مرّ من أنّ العمل بالروايات ليس لتعبّد صرف، بل العمدة هو بناء العقلاء و عدم الردع أو الإمضاء، و هم لا يعملون بمثل تلك الروايات مع ما عرفت.

و قد يستدلّ لعدم اشتراط التوالي بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

و إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة فهو من الحيضة الاولى، و إن كان بعد العشرة فهو من

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 57

الحيضة المستقبلة. «1» و روايته عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى، و إذا رأته بعد عشرة أيّام فهو من حيضة أخرى مستقبلة. «2» بدعوى إطلاقهما لرؤية الدم أوّلا يوما أو يومين.

قال في الحدائق: التقريب فيهما أنّهما ظاهرتان في أنّه إذا رأت المرأة الدم بعد ما رأته أوّلا سواء كان يوما أو أزيد، فإن كان بعد توسّط عشرة أيّام خالية من الدم كان الدم الثاني حيضة مستقلّة، و إن كان قبل ذلك كان من الحيضة الاولى.

و أنت خبير بما فيها، فإنّ الرواية الاولى مع إجمال صدرها أعني قوله «إذا رأت الدم قبل عشرة» لا يفهم منها شي ء، فلا محالة إمّا أنّها كانت مسبوقة بكلام آخر أسقطه الرواة لبعض الدواعي، أو كان المعهود أمرا رافعا للإجمال، و إلّا فلا يفهم من عشرة مبهمة شي ء و لا يعلم ما كان معهودا ذهنا أو ذكرا، فكيف يستدلّ بها، و بأيّ إطلاق يكون الاستدلال؟ مع إمكان أن يستكشف المعهود من نفس الرواية، أي قوله «من الحيضة الأولى»

فكأنّ الكلام بتلك القرينة كان مسبوقا بأنّه إذا حاضت المرأة و انقطع حيضها و رأت الدم قبل عشرة فهو كذلك، فكأنّه قال: إذا رأت المرأة الدم بعد حيضها قبل عشرة أيّام- إلخ- و الدليل عليه أنّ الحيضة كانت مفروضة الوجود بل الدم الثاني أيضا كان مفروض الحيضيّة و وقع الكلام في إلحاق الحيض المفروض بالحيض المفروض المتقدّم أوّلا أو كونه بنفسه حيضا مستقلا، و هذا هو المتفاهم منها، و معه لا دلالة لها على دعوى صاحب الحدائق، بل لها إشعار أو دلالة على خلافها.

و منه يظهر الكلام في الرواية الثانية، بل هي أظهر في ما ذكرنا لكونها مسبوقة بقوله «أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة أيّام» ممّا يفهم منه الاستمرار بالتبادر أو بما قرّرناه سابقا، و متعقّبة بقوله «و إذا رأت الدم قبل عشرة أيّام- إلخ-» و ظاهرها أنّ المرأة بعد أن تحيّضت بثلاثة أيّام إذا طهرت و رأت الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيض المفروض التحقّق بتحقّق ثلاثة أيّام متوالية، فتدلّ على خلاف مقصود صاحب الحدائق.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 58

و إن تنزّلنا عن ذلك نقول: إنّ الروايتين ليستا في مقام بيان كون الدم حيضا حتّى يتمسّك بإطلاقها، بل في مقام بيان أمر آخر و هو استقلال الحيض و عدمه.

و منه يظهر الكلام في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المنقولة في أبواب العدد قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة إذا طلّقها زوجها متى تكون أملك بنفسها؟ قال:

إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها، قلت: فإن عجل الدم عليها

قبل أيّام قرئها؟ فقال: إذا كان الدم قبل عشرة أيام فهو أملك بها و هو من الحيضة الّتي طهرت منها، و إن كان الدم بعد العشرة أيّام فهو من الحيضة الثالثة و هي أملك بنفسها.

«1» ضرورة أنّ المفروض رؤيتها الحيضتين و وقع الكلام في الدم الّذي عجل بها، و كانت الشبهة لأجل التعجّل بعد فرض حيضيّة الثاني بل حيضيّة الدم الّذي رأته بعد الثانية، و إنّما شبهته كانت في أنّ الدم إذا عجل عليها هل يوجب الخروج عن العدّة أم لا؟ فأجاب بما أجاب، ففرض الحيضة الثانية ممّا لا إشكال فيه، فلا وجه للتمسّك بإطلاقها لمدّعاه كما مرّ الوجه فيه، هذا. و أمّا التمسّك بقاعدة الإمكان و أدلّة الأوصاف فضعيف لما مرّ من عدم الدليل على القاعدة، و على فرض تمامها لا ترفع بها الشبهة الحكميّة بل مصبّها الشبهة الموضوعيّة، كما أنّ مصبّ الإرجاع بالأوصاف عند الدوران بين الحيض و الاستحاضة هو الشبهة الموضوعيّة لا الحكميّة.

ثم إنّ هاهنا أصولا موضوعيّة و حكميّة مع الغضّ عن الأدلّة كأصالة عدم كون المرأة حائضا، و أصالة عدم تحقّق حيضها، و أصالة عدم كون الدم حيضا، و أصالة عدم حيضيّة الدم، و الفرق بينها لا يكاد يخفى على المتأمّل، فإنّ القضيّة المتيقّنة في الأولى أنّ المرأة ليست بحائض بنحو اللّيس الرابط، فيتحقّق بها موضوع الأدلّة الاجتهاديّة الّتي رتّب الحكم بها على من لم تكن حائضا، فمن لم تكن حائضا يجب عليها الصلاة، و يجوز لها اللبث في المسجد إلى غير ذلك، و الاستصحاب محقّق موضوعها، و في الثانية تكون القضيّة المتيقّنة عدم تحقّق حيضها و عدم كون حيضها موجودا بنحو العدم المحموليّ، و لا يترتّب على هذا الاستصحاب ما

تقدّم من الآثار إلّا على الأصل

______________________________

(1) الوسائل: أبواب العدد، ب 17، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 59

المثبت، فإنّ عدم كونها حائضا من لوازم عدم تحقّق حيضها، نعم لو كان لعدم تحقّق الحيض أثر لترتّب عليه بالأصل المذكور؛ و في الثالثة تكون القضيّة المتيقّنة أنّ الدم ليس بحيض بنحو اللّيس الناقص، و بالاستصحاب يترتّب عليه حكم عدم كون الدم حيضا إذا كان له حكم شرعيّ، و أمّا الأحكام السابقة فلا تترتّب عليه إلّا على الأصل المثبت، فإنّ عدم كون المرأة حائضا لازم عدم كون الدم حيضا، كما لا يترتّب عليه حكم عدم حيضتها؛ و في الرابعة تكون القضيّة عدم تحقّق حيضيّة الدم بنحو اللّيس التّام، و لا يترتّب عليه شي ء من الأحكام المتقدّمة المترتّبة على موضوعات سائر القضايا لعين ما ذكرنا من المثبتيّة.

و لا يتوّهم أنّ ما ذكرنا مخالف لصحيحتي زرارة، حيث قال في الأولى: فإنّه على يقين من وضوئه و لا ينقض اليقين أبدا بالشّك، و في الثانية: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت. و ظاهرهما جريان الأصل في الوجود المحموليّ و ترتّب أثر الرابط. فإنّه مدفوع بمنع الظهور، بل الظاهر منهما الكون الرابط، فإنّ المتفاهم العرفيّ من قوله «إنّك كنت على يقين من طهارتك» بإضافتها إلى الضمير أنّك كنت على يقين من كونك طاهرا، أو كونك على وضوء، على نحو ربط الصفة بموصوفها.

ثم إنّ جريان أصالة عدم كون الدم حيضا موقوف على أحد الأمرين: إمّا كون الدم في الباطن غير حيض و تكون الحيضيّة من صفات الدم الخارج، و إمّا جريان الأصل في الأعدام الأزليّة، و كلاهما ممنوعان. ضرورة أنّ دم الحيض هو الدم المعهود

المختزن في الرحم المقذوف في أوقات معيّنة- كما يظهر من روايات باب اجتماع الحمل و الحيض- نعم، لا يترتّب عليه حكم إلّا بعد القذف و تحقّق سائر شرائطه، و لو كان الحيض عبارة عن سيلان الدم لم يجر الأصل أيضا، و قد فرغنا عن عدم جريان الأصل في الأعدام الأزليّة كأصالة عدم القرشيّة في الأصول، فلا نطيل بالبحث حولها.

و بما ذكرنا ظهر النظر في كلام الشيخ الأعظم خصوصا في إجراء أصالة عدم كون الدم حيضا لإثبات كون المرأة مستحاضة، حيث قال: إن قلنا بعدم الواسطة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 60

بينهما- أي بين دم الحيض و دم الاستحاضة- أي في دم لم يعلم أنّه نفاس أو قرحة أو عذرة فأصالة عدم الحيض حاكمة على أصالة عدم الاستحاضة أيضا، لأنّ المستفاد من الفتاوى بل النصوص أنّ كلّ دم لم يحكم عليه بالحيضيّة شرعا و لم يعلم أنّه لقرحة أو عذرة أو نفاس فهو محكوم عليه بأحكام الاستحاضة. و حينئذ فإذا انتفى كونه حيضا بحكم الأصل تعيّن كونه استحاضة، فتأمّل (انتهى) و سيأتي الكلام إن شاء اللّٰه في النصّ و الفتوى المدّعيين، و مع تسليم ما ذكر لا يجري استصحاب عدم كون الدم حيضا كما مرّ، و مع الجريان لا يترتّب على المرأة أحكام المستحاضة بمجرّد جريان أصالة عدم كون الدم حيضا كما يظهر منه ذلك، إلّا أن يدّعى كشف التلازم الشرعيّ ببركة النصّ و الفتوى بين عدم كون الدم حيضا و كون المرأة مستحاضة، و على المدّعي إثبات ذلك. ثمّ على فرض عدم جريان الأصول الموضوعيّة تجري الحكميّة، و هي مختلفة، و لا داعي إلى البحث عنها بعد قلّة الجدوى.

و هل

المراد من التوالي هو توالي الأيّام و إن لم يستمرّ الدم فيها بأن ترى في كلّ يوم في الجملة لكن تكون أيّام الرؤية متواليات، فيحمل عليه قوله في الفقه الرضويّ «فإن رأت الدم يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر الدم ثلاثة أيّام متواليات» لصدق رؤية الدم في كلّ يوم من الثلاثة المتواليات على ما لو رأت في كلّ يوم منها في الجملة، خصوصا إذا كان مقدارا معتدّا به. و عليه تحمل الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ أدنى الحيض ثلاثة، أو أدنى ما يكون من الحيض ثلاثة، أو أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة أيّام- على اختلاف التعابير- فإنّ الثلاثة لا يمكن أن تكون محمولة حقيقة على الحيض و أدناه و أقلّه، بل تكون ظرفا له ذكر حرف الجرّ أو لم يذكر، فيكون المراد أنّ أدنى تحقّق الدم في ثلاثة أيّام، و هو يصدق مع رؤيتها فيها في الجملة. و تشهد له موثّقة سماعة، قال: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض، فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيّام، يختلف عليها، لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء، قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتّفق الشهران عدّة أيّام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 61

سواء فتلك أيّامها. «1» حملا للقعود يومين على يومين تامّين مع رؤية الدم في ثلاثة أيّام غير مستمرّ إلى تمام الثلاثة، بل لو سلّم دلالة الروايات المتقدّمة على الثلاثة المستمرّة تكون هذه الرواية شاهدة على عدم لزوم استمراره، إلى آخر اليوم، فيكون لها نحو حكومة و تفسير لثلاثة أيّام في تلك الروايات.

بل لا يبعد ظهور مرسلة يونس المتقدّمة في رؤية الدم في الثلاثة في الجملة.

أو المراد استمرار الدم في الثلاثة بحيث متى وضعت الكرسفة تلوّثت به كما نسب إلى المشهور، و عن جامع المقاصد أنّ المتبادر إلى الأفهام من كون الدم ثلاثة أيّام حصوله فيها على الاتّصال، بحيث متى وضعت الكرسف تلوّث به. و قد يوجد في بعض الحواشي الاكتفاء بحصوله فيها في الجملة، و هو رجوع إلى ما ليس له مرجع.

و استجوده الجواهر جدّا، و يظهر منه ندرة القائل بخلافه. و عن الجامع: لو رأت يومين و نصفا و انقطع لم يكن حيضا لأنّه لم يستمرّ بلا خلاف من أصحابنا. و يظهر منه أنّ اعتبار الاستمرار غير مختلف فيه لدى الأصحاب. و عن التذكرة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام بلياليها بلا خلاف بين فقهاء أهل البيت، و ظاهره الاستمرار و إن لم يخلّ به بعض الفترات.

و كيف كان فهذا هو الأقوى، لما ذكرنا سابقا من أنّ الظاهر من روايات أقلّ الدم أنّ ثلاثة أيام أقلّ مصداق يتحقّق لدم الحيض، و هو لا يمكن إلّا باستمراره، و إلّا فلو رأت في يوم ساعة و انقطع بحصول النقاء و رأت في اليوم الثاني ساعة أخرى و انقطع و رأت في الثالثة فهذه الدماء في الساعات المزبورة كما مرّ لا تكون مصداقا واحدا لدم الحيض عرفا و عقلا بل ثلاثة مصاديق، ضرورة أنّ استقلال كلّ مصداق حتّى في نظر العرف عن مصداق آخر إنّما هو بتخلّل الطهر. و إذا كانت هذه الدماء حيضا لا يكون أقلّ دم الحيض ثلاثة أيّام بل أقلّه ساعة، فإنّ كلّ ساعة دم حيض مستقلّ في التحقّق و الوجود. و لو فرض كون الحيض

أمرا معنويّا محصّلا من الدم لم يكن الأقلّ ثلاثة أيّام أيضا، سواء جعل النقاء في البين طهرا- و هو ظاهر- أو لا، فإنّها

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 14، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 62

لو رأت الدم في اليوم الثالث في أوّل النهار و طهرت و لم تر الدم إلى عشرة أيّام كان هذا النقاء من أوّله طهرا فيكون أقلّ الحيض يومين و ساعة. إلّا أن يحمل قوله «أقلّ الحيض ثلاثة أيّام» على التسامح حتّى يصدق على الثلاثة الناقصة، و هو كما ترى.

كما أنّ حمل الروايات على كونه أمرا معنويّا أيضا بعيد مع ظهورها في كونه نفس الدم أو سيلانه. و كيف كان فحملها على عدم الاستمرار و الرؤية في الجملة يحتاج إلى تكلّف و اعتبار و ارتكاب تجوّز محتاج إلى القرينة.

و لا يرد على ما ذكرنا من التقريب ما يرد على دعوى التبادر العرفيّ، و هو أن يقال: إنّ قوله «أقلّ الحيض ثلاثة أيّام» غير ممكن الحمل على ظاهره، فلا بدّ و أن تكون «الثلاثة» ظرفا، فهي إن كانت ظرفا لأصل تحقّق الدم فلا يدلّ على الاستمرار، و إن كانت ظرفا لاستمراره و سيلانه لا يبعد ظهوره في الاستمرار في تمام اليوم، و لم يعلم أنّه أريد به في الروايات نفسه أو سيلانه و استمراره، و حذف حرف الجرّ لا يفيد شيئا، ضرورة أنّ الظرفيّة باقية معه على حالها.

و لو قيل إنّه مع حذفه يكون الحمل لتأوّل، و مع الاستمرار يكون التأويل أقرب بخلافه مع عدمه، فيه أنّه مع تسليمه لا يوجب ظهورا حجّة يتمسّك به لدى الشكّ مع إمكان التأويل بغير ذلك، خصوصا إذا كان الدم في

كلّ يوم مقدارا معتدّا به أو أكثر من النقاء.

فالعمدة ما ذكرناه، و معه لا مجال للتمسّك بموثّقة سماعة، مع أنّ الظاهر منها أنّ القعود في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة كناية عن رؤية الدم يومين و ثلاثة، كما يشهد به قوله «يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء» فلا دلالة فيها على ما ادّعي حتّى نحتاج إلى جواب الشيخ الأعظم ممّا لا يخلو عن تكلّف، فلا بدّ من حمل الرواية على لزوم ترك الصلاة إذا رأت الدم استظهارا حتّى يتّضح حالها، أو ردّ علمها إلى أهله مع مخالفتها للأخبار و الإجماع، و مرسلة يونس مع ما عرفت حالها لا تدلّ على ما ادّعي لو لم تدلّ على خلافه.

و ممّا ذكرنا يظهر حال الاحتمال الثالث ممّا نفى البعد عنه شيخنا البهائيّ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 63

على ما نقل عنه و نسب إلى بعض معاصري شيخنا الشهيد الثاني من اشتراط رؤيته أوّل الأوّل و آخر الثالث و أيّ وقت من الثاني. نعم، لو بنينا على أنّ الحيض أمر معنويّ يكون هذا القول أسلم من الإشكال من القول الأوّل.

ثم لا يبعد عدم مضرّيّة الفترات اليسيرة المعهودة للنساء إذا كانت بحيث لا تضرّ بالاستمرار العرفيّ و رؤية الدم ثلاثة أيّام، كما نقل عن العلّامة دعوى الإجماع عليه، و لعلّ مراد القائلين بالاستمرار ليس إلّا هذا النحو، فقول جامع المقاصد «متى وضعت الكرسف تلوّث به» لعلّه لا ينافي ذلك، فتأمّل. و هذا لا يخلو من قوّة إذا ثبتت المعهوديّة، و إلّا فمحلّ إشكال و تأمّل.

و هل المراد من ثلاثة أيّام هي مع لياليها؛ أو هي مع اللّيلتين المتوسّطتين؛ أو نفس

الأيّام بلا لياليها؛ أو تختلف بحسب الموارد: فإن رأت في أوّل اللّيل لا بدّ من دخول اللّيالي الثلاث و كذا لو رأت وسط النهار، بخلاف ما لو رأت أوّل النهار فلا يدخل فيها اللّيلة الأخيرة؛ أو يختلف الأمر بحسب المبنى المشهور فيدخل فيها اللّيلتان المتوسّطتان في بعض الفروض و اللّيالي الثلاث في آخر، و بحسب مبنى صاحب الحدائق فلا تدخل فيها اللّيالي مطلقا؟

يمكن أن يبتني الحكم على أن المراد من قوله «لا يكون الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام» أو «أدنى الحيض ثلاثة» هل هو نفس الثلاثة بحيث يكون النهار دخيلا في الموضوع و مقوّما له كتقوّم الصوم بالنهار و الصلاة بالأوقات المخصوصة؛ أو أنّ ذكر ثلاثة أيّام لمجرّد التقدير، فتكون آلة محضا لتقدير مقدار الدم و أنّه إذا سال بهذا المقدار يكون حيضا. و يأتي هذا الكلام في كثير من المواضع كالنزح يوما إلى اللّيل متراوحا لموت الكلب مع غلبة الماء.

لا إشكال في أنّه قد يفهم العرف و العقلاء بمناسبات مغروسة في أذهانهم أنّ ذكر الأيّام و أمثالها لمجرّد التقدير من غير مدخل لذات اليوم في الموضوع و الحكم، مثل أن يؤمر بوضع شي ء في الماء يوما، أو وضع المشمّع على الجرح يوما، فإنّ العرف لا يفهم منه إلّا وضعهما مقدار يوم، و لا يرى ذكر اليوم إلّا لمحض التقدير، فإذا وضعهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 64

بمقدار يوم في اللّيل أو ملفّقا يرى نفسه عاملا بالخطاب؛ و قد يرى لليوم دخلا تقويميّا للحكم و موضوعه. و لا يبعد أن يكون النزح متراوحا من قبيل الأوّل، فإنّ العرف يرى أنّ تمام الموضوع لتطهير البئر أو تنظيفه هو إخراج الماء بهذا

المقدار من الزمان تراوحا، و لا يرى لليوم دخلا في الحكم، بل يكون ذكره لمجرّد التقدير، فالنزح في اللّيل بمقدار يوم إلى اللّيل عمل بالنصّ عرفا.

فحينئذ يقع الكلام في أنّ المقام من قبيل ذلك و إنّما جي ء بثلاثة أيّام لمجرّد تقدير مقدار خروج الدم من غير مدخل لليوم فيه بحيث لو رأت مقدار ثلاثة أيّام أي ستّ و ثلاثين ساعة من أوّل اللّيل مثلا إلى مضيّ هذا المقدار مستمرّا كان ذلك كافيا في جعله حيضا، و كذا لو كانت المرأة في أقطار تكون لياليها شهرين و أيّامها كذلك أو أكثر فرأت بمقدار ذلك كان حيضا و وجب عليها التحيّض، و بعبارة اخرى: إنّ العرف لا يرى لطلوع الشمس و غروبها دخلا في حيضيّة الدم كما لا يرى لهما تأثيرا في تطهير البئر بالنزح، و وضع المشمّع على الجرح و أمثالهما؛ أو يكون المقام من قبيل الأوّل بأن يكون للأيّام الثلاثة دخل في الموضوع، فليس الموضوع إلّا رؤية الدم و استمراره ثلاثة أيّام، و مع رؤية يوم و ليلتين أو بالعكس لا يصدق أنّها رأت ثلاثة أيّام، و ليس للمقدار اسم و لفظ حتّى يستفاد منه ذلك، و إلغاء خصوصيّة الثلاثة غير ممكن، لأنّه لا بدّ فيه من حكم العرف بذلك و هو غير معلوم، لكنّ الإنصاف أنّه لو لا مخالفة ما ذكرنا للقوم حيث لم أر احتماله في كلام أحد لكان للذهاب إليه وجه، فتأمّل.

لكنّ الأوجه هو اعتبار اللّيالي، لأنّ الظاهر من الأدلّة هو اعتبار الاستمرار و أنّ المراد من قوله «لا يكون دم الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام» من حين رؤيته، فيفهم منه الاستمرار و من الاستمرار دخول اللّيالي، فكأنّه قال: إذا رأت الدم

من حين ما رأت ثلاثة أيّام يكون حيضا، ففهم دخول اللّيالي لذلك لا لدخل بياض النهار فيه. و في مثل التراوح أيضا يفهم ذلك إذا قال «يتراوح ثلاثة أيّام» لا لفهم تأثير اليوم فيه و لذا نقول بالتلفيق، بل لفهم الاستمرار من التراوح من حين الاشتغال، و يفهم دخول اللّيالي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 65

لفهم الاستمرار.

فالأقوى هو الجمود على مقتضى النصوص، مؤيّدا بما قلنا سابقا من أنّ التحديدات الشرعيّة الواردة لدم الحيض ليست تحديدات للحيض الواقعيّ- أي للدم المعهود المقذوف من الرحم في أوقات خاصّة- بل هي لمعرّفيّة الموضوع الّذي هو صنف من الدم المعهود، فلهذا لو علمنا بأنّ الدم الأقلّ من ثلاثة أيّام هو الدم المعهود لم نحكم عليها بالتحيّض و لا تكون حائضا محكوما عليها بالأحكام الخاصّة، و معه لا مجال للعرف لإلغاء الخصوصيّة، و ليس حال ثلاثة أيّام الحيض حال التراوح ممّا يمكن فيه إلغاء الخصوصيّة عرفا، مع أنّك قد عرفت في التراوح ما عرفت.

نعم، لو كان التحديد لواقع دم الحيض لكان لما ذكر وجه، لكنّه ضعيف مخالف للاعتبار و الوجدان، فلا يمكن رفع اليد عن ظواهر الأدلّة المتظافرة الدالّة على كون أقلّ الحيض ثلاثة. و على ما ذكرنا يرفع الاستبعاد من اختلاف أقلّ الحيض قلّة و كثرة بحسب وقت الرؤية من أوّل اللّيل أو أوّل النهار.

ثم إنّه على ما ذكرنا لا إشكال في دخول الليلتين المتوسّطتين إذا رأت في أوّل النهار، و الليلة الأولى أيضا إذا رأت أوّل الليل، و التلفيق إذا رأت بين النهار بحكم العرف و فهمه من قوله «لا يكون الدم أقلّ من ثلاثة أيّام» فإنّها إذا رأت أوّل الزوال إلى أوّل

زوال اليوم الرابع يصدق عرفا أنّها رأت ثلاثة أيّام، كما أنّ الأمر كذلك في أشباهه و نظائره. نعم، بناء على مذهب صاحب الحدائق فالظاهر عدم دخول الليل مطلقا، لأنّ عمدة مستنده المرسلة، و ظاهرها أنّها لو رأت يوما ثمّ رأت بعد الانقطاع ما يتمّ به ثلاثة أيّام يكون الدمان حيضا، و لا شبهة في صدق ثلاثة أيّام متفرّقة بين العشرة على الأيّام بغير لياليها. و دعوى إطلاق اليوم على اليوم و الليلة ضعيفة مخالفة للعرف و اللغة، و إنّما فهمنا دخول الليالي من ظهور الأدلّة في الاستمرار أو من الوجه الّذي سبق، كما أنّه على فرض كون المراد من ثلاثة أيّام مقدارها يكون المقدار المفروض هو مقدار بياض الأيّام، لأنّه اليوم عرفا و لغة. نعم، قد يطلق على مطلق الوقت، لكن إطلاقه على اليوم و الليلة ليس على نحو الحقيقة، و مع التسليم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 66

لا ريب في انصرافه إلى بياض النهار فقط. و هذا أيضا أحد وجوه المناقشة على مرسلة يونس القصيرة.

ثم إنّ التلفيق من الساعات خلاف ظواهر الأدلّة و لو على مبنى صاحب الحدائق كما يظهر بالنظر إلى المرسلة.

«الأمر الرابع» لا إشكال في كون أكثر الحيض عشرة أيّام،

و عن الأمالي: هذا من دين الإماميّة الّذي يجب الإقرار به، و عن المعتبر: هو مذهب فقهاء أهل البيت، و نقل الإجماع عليه متكرّر كنقل عدم الخلاف، و النصوص به مستفيضة. نعم، في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: قال: إنّ أكثر ما يكون من الحيض ثمان، و أدنى ما يكون منه ثلاثة «1». و هي مع ما فيها من احتمال وقوع السهو لأجل تذكير لفظة «ثمان» كما في النسخ الّتي

عندنا أو التقدير الموجب للإجمال شاذّة. و عن الشيخ أنّ الطائفة أجمعت على خلاف ما تضمّنه هذا الحديث، أو محمولة على بعض المحامل.

و إنّما الإشكال و الكلام في اعتبار التوالي فيها كما عن ظاهر المشهور بل عن ظاهر النهاية عدم القائل بالخلاف، و عدمه كما قال به صاحب الحدائق، و هو خالف المشهور في توالي الثلاثة و توالي العشرة و أقلّ الطهر، و قد مرّ التقريب في دلالة ما دلّ على أنّ أدنى الحيض ثلاثة أيّام على التوالي، و يمكن تقريبها في العشرة أيضا، لكن لا يمكن إلزام صاحب الحدائق بذلك إلّا بعد إثبات عدم كون الطهر مطلقا أقلّ من عشرة أيّام، و إلّا فله أن يقول: إنّ كون أكثر الحيض عشرة أيّام متوالية لا ينافي تفرّق الأيّام على تسعين يوما، و مع ذلك لا تكون الأيّام المتفرّقة أكثر أيّام الحيض، لأنّ الأكثريّة بأكثريّة الدم المستمرّ. لكنّه لا يلتزم بذلك، بل يدّعي أنّ الأكثر يمكن أن يكون متفرّقا، و عليه يكون التقريب المتقدّم حجّة عليه و ملزما له.

و الانصاف أنّ ظهور الروايات المحدّدة لأقلّ الحيض و أكثره في التوالي

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 10، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 67

مطلقا ممّا لا ينكر، و كذا لزوم التوالي في كلّ مصداق واحد من الحيض كان الأقلّ أو الأكثر أو الأوسط، بالتقريب المتقدّم. فلا بدّ لرفع اليد عن هذا الظهور المستقرّ و الدليل المتّبع من دليل، و إلّا كان هو المتّبع.

و استند صاحب الحدائق لمقالته بروايات منها ذيل مرسلة يونس القصيرة، و هو قوله «فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام ثمّ انقطع الدم اغتسلت و صلّت، فإن رأت

بعد ذلك الدم و لم يتمّ لها من يوم طهرت عشرة أيّام فذلك من الحيض تدع الصلاة، و إن رأت الدم من أوّل ما رأت الثاني الّذي رأته تمام العشرة أيّام و دام عليها عدّت من أوّل ما رأت الدم الأوّل و الثاني، عشرة أيّام، ثمّ هي مستحاضة» «1» و التقريب فيها من وجهين: أحدهما قوله «فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتمّ لها من يوم طهرت عشرة أيّام فذلك من الحيض» حيث جعل مبدأ الحساب من الطهر، فإذا رأت خمسة و طهرت خمسة ثمّ رأت خمسة، فالخمستان الحاشيتان من الحيض لرؤيتها قبل مضيّ عشرة أيّام من الطهر، و لا يتمّ ذلك إلّا بعدم اعتبار التوالي. و ثانيهما قوله «و إن رأت الدم من أوّل ما رأت الثاني- إلخ-» حيث جعل عدّ الدمين ميزانا للعشرة لا من مبدأ الدم الأوّل إلى عشرة أيّام حتّى يكون النقاء داخلا في الحساب، و هو لا يتمّ إلّا بعدم اعتبار التوالي.

و في الوجهين نظر، حاصله أنّ صدر المرسلة ظاهر بل صريح في أنّ مبدأ حساب عشرة أيّام من أوّل رؤية الدم يوما أو يومين، و أنّ كلّ دم رأت في العشرة الّتي مبدأها ذلك هو من الحيض، و مع عدم الرؤية فيها ليس اليوم و اليومان من الحيض، بل إمّا من قرحة أو غيرها، و يجب عليها قضاء الصلاة، فيكون مبدأ الحساب بحسب الصدر هو أوّل رؤية الدم، فحينئذ يكون قوله «إذا رأت خمسة أيّام» إمّا من أمثلة ما ذكر في الصدر و إنّما أعاد مثالا آخر للتوضيح، أو فرضا آخر حكمه غير الفرض الأوّل فيستفاد منها التفصيل بين رؤية الدم يوما أو يومين و بين خمسة أيّام

مثلا، أو كان الفرض الأوّل لغير ذات العادة بخلاف الثاني، و هذان التفصيلان ممّا لا قائل بهما

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 12، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 68

ظاهرا و إن لم يبعد التزام صاحب الحدائق بهما. و لا يبعد دعوى كون المثال للتوضيح لا لبيان مطلب مستقلّ و لو لما ذكرنا من عدم القائل بهما، فيتعيّن الاحتمال الأوّل، و معه يكون الصدر رافعا لإجمال الذيل، فإنّ قوله «من يوم طهرت» في الجملة الأولى الّتي استند إليها يمكن أن يكون متعلّقا ب «لم يتمّ» و أن يكون متعلّقا بعشرة أيّام، و لا ترجيح لأحدهما ابتداء، لكن مع ملاحظة الصدر الصريح في كون مبدأ الحساب هو أوّل رؤية الدم يرتفع هذا الإجمال و يتعيّن تعلّقه بقوله «لم يتمّ» و يكون المعنى:

إذا رأت الدم مع عدم تمام العشرة المتقدّمة الّتي مبدأها من رؤية الدم .. فتكون أيّام الطهر متمّمة للعشرة لا مبدأها، و بعبارة أخرى: إذا لم يأت عليها من الطهر متمّم للعشرة و رأت الدم يكون حيضا، فصارت هذه الجملة مطابقة للجملة السابقة و للشهرة بل الإجماع. هذا مع الغضّ عمّا قال الشيخ الأعظم انّ في نسخة مصحّحة مقروّة على الشيخ الحرّ بدل طهرت «طمثت».

و ممّا ذكرنا يظهر حال الجملة الثانية مع إجمالها و اضطرابها، فإنّ المراد منها بعد ضمّ الصدر إليها أنّه إن رأت من أوّل ما رأت الثاني الّذي رأته متمّما للعشرة المتقدّمة الّتي مبدأها من رؤية الدم الأوّل .. فتكون رؤية الدم في العشرة الّتي مبدأها مصرّح به في الصدر، فتكون هذه الجملة أيضا مطابقة للصدر و القول المشهور، و إلّا فلو أريد من قوله «تمام العشرة»

العشرة التامّة من رؤية الدم الثاني تكون هذه الجملة لغوا محضا، فإنّ رؤية العشرة التامّة من مبدأ الدم الثاني لا دخل لها في الحكم المترتّب عليه أصلا، و لا في مدّعى صاحب الحدائق رأسا، فإنّ الحكم إنّما يكون على الدم المتجاوز عن عشرة أيّام بعد حساب الدمين مجتمعا، فمع رؤية خمسة أيّام كما هي مفروضة الرواية إن طهرت يوما مثلا و رأت ستّة أيّام يكون اليوم السادس منها استحاضة على قول صاحب الحدائق، و لا دخل لرؤية العشرة الكاملة لترتّب هذا الحكم عليه. هذا كلّه مع الغضّ عمّا تقدّم في المسألة السابقة. و الإنصاف أنّ هذه المرسلة مع هذه التكلّفات في توجيهها و تأويلها و الإجمالات الكثيرة فيها لا يمكن الاتّكال عليها لإثبات حكم شرعيّ.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 69

و ممّا استدلّ به لمذهب صاحب الحدائق رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: أقلّ ما يكون من الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الاولى، و إذا رأته بعد عشرة أيّام فهو من حيضة أخرى مستقبلة. «1» و قريب منها روايته الصحيحة الأخرى و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المتقدّمتان.

و التقريب فيها أنّ الظاهر منها أنّ العشرة المذكورة فيها عشرة واحدة جعل لرؤية الدم قبلها و بعدها حكم، و لا إشكال في أنّ مبدأ العشرة في الفقرة الثانية هو أوّل الطهر و إلّا لزم كون الدم حيضة مستقبلة قبل عشرة الطهر و هو خلاف الإجماع و النصّ، فلا محالة يكون مبدأ العشرة في الأولى أيضا هو الطهر، فحينئذ إن جعل النقاء المتخلّل حيضا يصير أكثر الحيض أكثر من

عشرة أيّام، و هو أيضا خلاف الإجماع و النصّ، فلا بدّ من جعله طهرا، و به يتمّ المطلوب و هو عدم توالي عشرة أيّام الحيض، بل و تتمّ دعوى اخرى، و هي كون الطهر أقلّ من العشرة إذا كان في خلال الحيضة الواحدة.

و فيه أنّه لا إشكال في لزوم ارتكاب خلاف ظاهر في المقام، فلا بدّ من عرض الأخبار الواردة على العرف حتّى نرى أنّ ارتكاب أيّ خلاف ظاهر أوهن، و توضيحه أنّ هاهنا طوائف من الروايات: إحديها الروايات الكثيرة القائلة بأنّ أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة و أكثره عشرة الظاهرة في التوالي، و هذه الروايات بإطلاقها تدلّ على أنّ العشرة حدّ للأكثر سواء استمرّ الدم أو تخلّل نقاء في البين، و لازمة كون النقاء حيضا؛ و الطائفة الثانية ما دلّت على أنّ أقلّ الطهر عشرة أيّام كمرسلة يونس و غيرها؛ و الطائفة الثالثة تلك الروايات المتقدّمة الظاهرة في كون العشرة واحدة، و استفاد صاحب الحدائق منها أنّ النقاء المتخلّل طهر و لا يشترط التوالي في العشرة جمعا بينها.

و لنا أن نقول مع قطع النظر عن فتاوى الأصحاب و عدم الاعتناء بالشهرة و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 10، ح 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 70

الإجماع كما هو دأب صاحب الحدائق: إنّ الجمع بينها لا ينحصر في ما ذكر، بل يمكن الجمع بوجه آخر، و هو رفع اليد عن إطلاق ما دلّ على أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام، فإنّ مقتضى إطلاقها أنّ الأكثر عشرة، سواء كان الدم سائلا أو تخلّل النقاء في البين، فمع رفع اليد عن إطلاقها و اختصاصها بما إذا رأت الدم في جميع العشرة يجمع بين الروايات

أيضا، فيكون مبدأ العشرتين من حين رؤية الدم كما هو الظاهر منها، و مع حفظ ظهور الروايات الدالّة على أنّ أقلّ الطهر عشرة أيّام نحكم بحيضيّة النقاء المتخلّل، و تكون النتيجة أنّ الحيض الحكميّ يكون أكثره أكثر من عشرة أيّام.

و هذا الجمع أقرب ممّا ذكره صاحب الحدائق، لأنّ الحيض عبارة عن الدم أو سيلانه لغة، فما دلّ على أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام يمكن دعوى ظهورها في أنّ أكثر جريان الدم الّذي هو حيض عشرة أيّام و لا يكون متعرّضة للحيض الحكميّ، فيجمع حينئذ بين الروايات من غير ارتكاب خلاف ظاهر أصلا. و لو قيل بالإطلاق كان هذا الجمع أيضا أقرب، لما ذكر أو لاحتماله و ضعف الإطلاق، و لا أقلّ من كون الجمعين متساويين من غير ترجيح، بل بناء على هذا الجمع يكون التصرّف في الأدلّة أقلّ ممّا ارتكبه صاحب الحدائق.

بيانه أنّ الجمع بينها على مسلكه يوجب التصرّف في جميع الطوائف الثلاث، أمّا في ما دلّت على أنّ أقلّ الطهر عشرة فبتقييد إطلاقها بما بين الحيضتين المستقلّتين، و أمّا في ما دلّت على أنّ أكثر الحيض عشرة أيّام فبرفع اليد عن ظهورها في العشرة المتوالية، و أمّا في الطائفة الثالثة فبرفع اليد عن ظهورها في أنّ مبدأ العشرة هو الدم، ضرورة أنّ قوله في رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى- إلخ- ظاهر في أنّ مبدأ العشرة هو مبدأ الثلاثة المذكورة، و ليس من الطهر ذكر حتّى تحمل العشرة على العشرة من الطهر، و أمّا بناء على ما ذكرنا من حمل الروايات الدالّة على

أكثر الحيض على عشرة الدم لا يكون التصرّف إلّا فيها- على فرض تسليم إطلاقها و عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 71

انصرافها إلى وجدان الدم- و في الطائفة الثانية برفع اليد عن ظهورها في كون العشرة واحدة و مبدأ الثاني هو مبدأ الأولى، فيكون هذا التصرّف أقلّ ممّا سلكه صاحب الحدائق و أهون.

لكن مع ذلك و مع الغضّ عن كونه خلاف الإجماع يكون الجمع بينها بما يوافق قول المشهور أهون و أقلّ محذورا منه، فضلا عن الجمع على مسلك الحدائق، فإنّه لو سلّم كون الطائفة الثالثة مطلقة و في مقام البيان كان التصرّف مختصّا بها على مذهب المشهور و تكون ما دلّت على أكثر الحيض و أقلّ الطهر محفوظة عن التصرّف، و أمّا التصرّف في هذه الطائفة فإمّا بجعل العشرة الأولى غير الثانية كما قد يؤيّده تنكير الثانية على بعض النسخ، أو حفظ هذا الظهور و تقييد الفقرة الثانية بمضيّ أقلّ الطهر و هو عشرة أيّام طاهرة، و هذا تصرّف واحد أهون من تصرّفين أو تصرّفات في جميع الأدلّة.

هذا مع التسليم، و إلّا فالحقّ أنّ هذه الروايات ليست في مقام البيان من هذه الجهة بلا إشكال كما تقدّم، و يظهر بالمراجعة إليها، فإنّ قوله في رواية ابن مسلم «أقلّ ما يكون الحيض ثلاثة، و إذا رأت الدم قبل عشرة- إلخ-» ظاهر في أنّ الحيض في مبدأ العشرة كان مفروض الوجود، و كذا الدم المتأخّر كان مفروض الحيضيّة، و إنّما الكلام في استقلاله و عدمه و أنّه من الحيضة الأولى أو حيضة مستقبلة، و ليست بصدد بيان أنّ الدم كذا حتّى يتمسّك بإطلاقه. و لهذا لا ينقدح في الذهن تعارض بين

صدرها حيث حكم بأنّ أقلّ الحيض ثلاثة و بين ذيلها، و لو كان للذيل إطلاق لكان متعارضا مع الصدر. و كذا لا ينقدح التعارض بينه و بين ما دلّ على اعتبار شرائط في الحيض، و ذلك آية عدم الإطلاق كما ينادي به نفس الرواية. و مثلها رواية عبد الرحمن المتقدّمة، فإنّ الظاهر منها أنّ حيضيّة الدم المتقدّم و المتأخّر مفروضة، و تكون الرواية في مقام بيان أنّه ملحق بالثانية أو حيضة مستقلّة، فحينئذ لا يكون الجمع بين تلك الطوائف بما يوافق المشهور موجبا لتصرّف فيها.

نعم هنا روايات أخر يتمسّك بها لعدم اعتبار التوالي، و لكون أقلّ الطّهر بين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 72

الحيضة الواحدة أقلّ من عشرة أيّام، و أنّ ما دلّت على أنّ أدنى الطهر عشرة مختصّة بما بين الحيضتين. منها موضعان من مرسلة يونس: أحدهما قوله «و إن انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلّت» حيث إنّ الأمر بالاغتسال إنّما يكون للحيض المحتمل و الأمر بالصلاة لكونها طاهرة. و فيه أنّه كما يحتمل أن يكون ذلك لأجل احتمال الحيض يمكن أن يكون لأجل احتمال الاستحاضة. و يمكن أن يقال: إنّ الثاني موافق للأصل بناء على أنّ هذه المرأة إذا لم تكن حائضا فهي مستحاضة شرعا، و إحراز عدم كونها حائضا بال. صل، و لو أغمض عن ذلك أو استشكل فيه فلا ظهور للرواية في تعيين شي ء من الاحتمالين. كما أنّ الأمر بالصلاة يمكن أن يكون للتكليف الظاهريّ و استصحاب عدم كونها حائضا فلا ظهور لها في ما ادّعى صاحب الحدائق.

و ثانيهما قوله «فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر مع هذا الّذي رأته بعد

ذلك في العشرة هو من الحيض» حيث حكم بحيضيّة الدمين، و لو كان النقاء حيضا كان عليه بيان حيضيّة المجموع. و فيه أنّ الظاهر من قوله «فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر» إلى قوله «من الحيض» حيث أتى بلفظة «من» الظاهرة في التبعيض أنّ مجموع الدم الأوّل و الثاني بعض الحيض، و هو لا يتمّ إلّا بكون النقاء حيضا، و إلّا كان تخلّل «من» التبعيضيّة غير مناسب، بل كان عليه أن يقول: هو الحيض، لا هو من الحيض. نعم، لو كان الضمير راجعا إلى بعض الدم كان تخلّلها صحيحا، لكن لا إشكال في رجوعه إلى كلّه و هو لا يستقيم إلّا بما ذكرنا.

هذا، مضافا إلى أنّ كون الوسط طهرا موجب لاستقلال الدمين في الوجود، فجعلهما واحدا و من حيضة واحدة لا يستقيم إلّا بتأوّل و تجوّز و اعتبار وحدة. مع أنّ تصريحه في موضعين منها بأنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة لا يناسب بيان أقلّيّته منها، فمن يريد أن يبيّن أنّ الطهر يمكن أن يكون أقلّ من عشرة أيّام لا يقول بقول مطلق إنّ أدنى الطهر عشرة أيّام، و لا يذيّل كلامه بأنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة.

و أضعف ممّا ذكر الاستدلال بآخر المرسلة حيث قال «عدّت من أوّل ما رأت الدم الأوّل و الثاني، عشرة أيّام» و قد مرّ الكلام في الجمل الأخيرة منها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 73

و منها روايتا محمّد بن مسلم المتقدّمتان حيث جعل فيهما الدم بعد الانقطاع من الحيضة الأولى إذا رأت قبل عشرة أيّام، فتدلّان على أنّ النقاء ليس بحيض. و مثلهما رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه. و الجواب عنهما

بما تقدّم من أنّ الظاهر من قوله «من الحيضة الاولى» أنّ الحيضة مستمرّة من مبدأ الدم الأوّل إلى الدم الثاني و إلّا كان حيضا مستقلا، فلا يصدق كونه من الاولى بلا تجوّز و اعتبار وحدة تأوّلا إلّا ببقاء الاولى و استمراره، فيكون النقاء وجودا بقائيّا لها فيكون حيضا. مضافا إلى أنّ تلك الروايات كما تقدّم إنّما تكون بصدد بيان أمر آخر، و لا تكون بصدد بيان حال الطهر فلا دلالة لها على مذهب صاحب الحدائق. هذا مع الغضّ عن سند رواية عبد الرحمن و إحدى روايتي ابن مسلم و إجمال الأخرى.

و منها رواية داود مولى أبي المغراء عمّن أخبره عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال:

قلت له: المرأة يكون حيضها سبعة أيّام أو ثمانية أيّام، حيضها دائم مستقيم، ثمّ تحيض ثلاثة أيّام، ثمّ ينقطع عنها الدم و ترى البياض لا صفرة و لا دما، قال: تغتسل و تصلّي، قلت: تغتسل و تصلّي و تصوم ثمّ يعود الدم، قال: إذا رأت الدم أمسكت عن الصلاة و الصيام، قلت: فإنّها ترى الدم يوما و تطهر يوما، قال: فقال: إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر صلّت، فإذا مضت أيّام حيضها و استمرّ بها الطهر صلّت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة، قد انتظمت لك أمرها كلّه. «1» حيث أمرها بالغسل و الصلاة و الصيام في أيّام النقاء فتكون طهرا حقيقة، و أيضا لم يأمرها بقضاء الصوم، مع أنّ قضاءه لازم على الحائض، فتدلّ على أنّ النقاء طهر.

و فيه أنّ عدم الأمر بقضاء الصوم إنّما هو لعدم كونه في مقام بيانه، و لا يجب بيان جميع الأحكام المرتبطة بالحيض في رواية واحدة، و أمّا الأمر بالصلاة

و الصيام فيمكن أن يكون احتياطا و استظهارا كما هو متكرّر في أبواب الدماء من الأمر بالترك أو الفعل للاستظهار حتّى مع وجود الأصل المنقّح، فلا تدلّ على تحقّق الطهر الحقيقيّ و لا كون الدم حيضا. كما لا محيص عن حمل صحيحتي يونس بن يعقوب و أبي

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 74

بصير على ذلك، ففي الأولى: قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام، قال: تدع الصلاة، قلت: فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تصلّي، قلت: فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تدع الصلاة تصنع ما بينها و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم و إلّا فهي بمنزلة المستحاضة. «1»

ضرورة أنّ الحمل على الحيض و الطهر في جميع الأيّام إلى شهر ممّا لا يمكن، للزوم كون الطهر بين الحيضتين المستقلّتين أقلّ من عشرة إذا كان كلّ دم حيضا مستقلا، و كون الحيض الواحد أكثر من عشرة إذا كانت الدماء حيضة واحدة، فلا محالة تحمل على الأمر بالاحتياط و ترجيح جانب الحيض في أيّام الدم و جانب الطهر في أيّام النقاء كما صنع العلمان الشيخ و المحقّق، و عليه يحمل فتوى من أفتى بمضمونهما.

و منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا يكون القرء في أقلّ من عشرة أيّام فما زاد، و أقلّ ما يكون عشرة من حين تطهر إلى أن ترى الدم «2». فقد يتمسّك بها للفريقين بدعوى أنّ القرء هو الطهر بين الحيضتين المستقلّتين كما تدلّ عليه صحيحتا زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر

عليه السّلام: القرء ما بين الحيضتين. «3»

فاختصاص القرء بالذكر لكون الطهر أعمّ، و هو لا يكون عشرة أيّام، مع ظهور قوله «أقلّ ما يكون عشرة من حين تطهر إلى أن ترى الدم» في طهرها من الحيض إلى رؤية الدم من الحيضة المستقبلة.

و فيه ما لا يخفى، فإنّ القرء على ما صرّح به أئمّة اللغة هو الطهر ضدّ الحيض و لم أر في ما عندي من كتب اللغة و كلام شرّاح الحديث و المفسّرين التفسير بما بين الحيضتين إلّا عبارة من الصدوق في الفقيه و ما في الصحاح عن الأخفش عن بعضهم، و إلّا فكلماتهم متطابقة على أنّ القرء هو الطهر و الحيض و هو من «الأضداد» و عن الأخفش أنّه انقضاء الحيض. و الظاهر أنّ كلام الصدوق تبع للرواية لا نقل للّغة. و أمّا الروايات

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 1.

(3) الوسائل: أبواب العدد، ب 14، ح 1- 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 75

الواردة في باب العدد فهي في مقام بيان الحكم الشرعيّ لا ذكر المعنى اللغويّ، لوقوع الخلاف بين الخاصّة و بعض العامّة كأبي حنيفة في المراد من القرء في آية التربّص: هل هو الطهر كما عليه أصحابنا، أو الحيض كما عليه أبو حنيفة و بعض آخر منهم، فتلك الروايات واردة في بيان المراد من القرء في آية التربّص، و أنّ القرء ليس بمعنى الحيض فيها بل هو الطهر بين الحيضتين، فلا يستفاد منها شي ء من المذهبين في المقام. مع أنّه على فرض تفسير القرء بما بين الحيضتين يمكن الاستدلال بها للمشهور بضميمة ما دلّ على أنّ الأقراء هي الأطهار

كصحيحة زرارة في باب العدد، و الظاهر من تخلّل ضمير الفصل هو كون القرء و الطهر واحدا، فما لم يكن قرء لا يكون طهرا، فإذا كان النقاء أقلّ من عشرة لا يكون قرء و لا طهرا فيكون حيضا. و الإنصاف أنّ رواية باب العدد أجنبيّة عمّا نحن بصدده.

و أمّا صحيحة محمّد بن مسلم فحاكمة بأنّ القرء لا يكون أقلّ من عشرة أيّام، و هو لغة الطهر، فلا يكون الطهر أقلّ منها، و الجملة التالية أعني قوله «و أقلّ ما يكون عشرة من حين تطهر إلى أن ترى الدم» تفسير للسابقة، و معناها أنّ الطهر إذا عقّبه الدم ليس بقرء و لا طهر إلّا إذا كان بينهما عشرة أيّام، فدلالتها على القول المشهور ظاهرة، مع إمكان أن يقال: إنّ عمل المشهور على رواية يونس في تلك الفقرة الّتي لا إجمال فيها يكفي في جبران ضعفها سندا، و التشويش المتنيّ ليس في هذه الفقرة، فالحقّ ما عليه المشهور في المسائل الثلاث، و طريق الاحتياط معلوم و هو سبيل النجاة.

المطلب الثالث (في أقسام الحائض و أحكامها)

اشارة

الحائض إمّا ذات عادة أولا؛ فالأولى إمّا وقتيّة و عدديّة، أو وقتيّة فقط، أو عدديّة كذلك؛ و الثانية إمّا مبتدئة و هي الّتي لم تر الدم سابقا و كان ما رأت أوّل دمها، و إمّا مضطربة و هي الّتي لم تستقرّ لها عادة و إن رأت الدم كرارا كمن رأت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 76

ثلاثة في أوّل شهر و خمسة في وسط شهر آخر و سبعة في آخر شهر ثالث و أربعة في شهر آخر في غير الأيّام المتقدّمة و هكذا، و إمّا ناسية و هي الّتي كانت لها عادة فنسيتها و

يقال لها المتحيّرة. و قد تطلق المبتدئة على الأعمّ ممّن تقدّمت و من لم تستقرّ لها عادة، كما تطلق المضطربة على الناسية، و الأمر سهل. و الأولى صرف الكلام إلى أحكام الأقسام في ضمن مسائل:

الاولى لا إشكال في حصول العادة برؤية الدم مرّتين

في الجملة دون مرّة واحدة نصّا و فتوى، و خلاف بعض العامّة كنقل موافقة بعض أصحابنا معه- مع عدم ثبوته- لا يعتنى به، و إنّما الإشكال- مع قطع النظر عن الإجماع أو الشهرة- في استفادة حصول العادة بمرّتين في أصول أقسام ذات العادة الّتي تقدّمت من الأدلّة كمرسلة يونس الطويلة و غيرها، و كذا في استفادة حصولها بهما في سائر الأقسام المتكثّرة المذكورة في كتب المحقّق و العلّامة و الشهيد- على ما حكيت- و أشار إلى بعضها الشيخ الأعظم و غيره. فنقول: لا إشكال في استفادة حصولها بمرّتين في ذات العادة الوقتيّة و العدديّة من مرسلة يونس، و ادّعى بعضهم استفادة العدديّة فقط أيضا منها أي شمول ظهورها اللفظيّ لهما دون الوقتيّة فقط. لكنّ الظاهر منها بعد التأمّل التامّ في جميع فقرأتها هو تعرّضها لذات العادة العدديّة و الوقتيّة دون غيرها، بل شمولها لذات العادة الوقتيّة أقرب من العدديّة، فالأولى ذكر بعض فقرأتها حتّى يتّضح الحال.

قال بعد كلام: أمّا إحدى السنن فالحائض الّتي لها أيّام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثمّ استحاضت و استمرّ بها الدم و هي في ذلك تعرف أيّامها و مبلغ عددها- إلخ- «1» لا إشكال في أنّ ما ذكر لا ينطبق إلّا على ذات العادة العدديّة و الوقتيّة مع كونها ذاكرة لعددها و وقتها، و أمّا لو كان لها عدد معلوم لكن كان مختلطا في ثلاثين يوما فلا تكون لها أيّام معلومة قد أحصتها بلا

اختلاط عليها، و أيّ اختلاط أكثر من اختلاط ثلاثة في ثلاثين مثلا؟ و أوضح من ذلك قوله «تعرف أيّامها و مبلغ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 5، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 77

عددها» فعرفان الأيّام غير عرفان مبلغ العدد، فلا إشكال في أنّ موضوع السنّة الاولى هو ما ذكر. و أمّا قوله بعد ذلك حاكيا عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في تكليف هذه المرأة «تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها» و إن كان في نفسه مع قطع النظر عن الصدر و الذيل للعدديّة فقط لكن مع لحاظ أنّ ذلك بيان حكم الموضوع المتقدّم لا يبقى ريب في أنّ المراد قدر أقرائها الّتي تعرفها ذاتا و مبلغا، و لهذا قال بلا فصل «هذه سنّة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في الّتي تعرف أيّام أقرائها لم تختلط عليها» و معرفة أيّام الأقراء غير معرفة العدد و المبلغ، ضرورة أنّ نفس اليوم هو العلم بشخصه و أنّه في أيّ موضع من الشهر، و مع الجهل بذلك تكون ممّن تختلط عليها أيّامها و لم تعرفها. فقوله بلا فصل «ألا ترى أنّه لم يسألها كم يوم هي؟» لا يدلّ على شموله لذات العادة العدديّة، ضرورة أنّه بصدد بيان حال من تقدّم ذكرها، و لذا قال بلا فصل «و إنّما سنّ لها أيّاما معلومة ما كانت من قليل أو كثير بعد أن تعرفها» و معلوميّة نفس الأيّام و معروفيّتها لا تصدقان إلّا بما تقدّم.

و يزيده وضوحا قوله بعد ذلك في بيان تكليفها «فلتدع الصلاة أيّام أقرائها» ضرورة أنّ مثل ذلك لا يقال لمن لا تعلم أيّامها

و لا تعرفها بشخصها، للفرق الواضح بين أن يقول «فلتدع الصلاة مقدار أيّام أقرائها» و بين ما ذكر. فقوله بعد ذلك «فهذه سنّة الّتي تعرف أيّامها لا وقت لها إلّا أيّامها قلّت أو كثرت» ممّا يؤكّد المطلوب.

كما يؤكّده و يوضحه قوله «و أمّا سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتّى أغفلت عددها و موضعها من الشهر فإنّ سنّتها غير ذلك» إلى غير ذلك ممّا يؤكّد المطلوب.

فلا ريب في أنّ المرسلة متعرّضة لذات العادة العدديّة و الوقتيّة، فحينئذ يكون ذيلها أيضا بيان تقسيم الصدر لا شيئا آخر. فقوله «فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، فلا تزال كذلك حتّى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء، حتّى توالى عليها حيضتان- إلخ-» متعرّض لما تقدّم، فقوله «لوقته من الشهر الأوّل» أي يكون الانقطاع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 78

وقت الشهر الأوّل، و قوله «سواء» أي عددا بقرينة الصدر و الذيل، فلا إشكال في تعرّضها لذات العادة العدديّة و الوقتيّة. فحينئذ يقع الإشكال في المرسلة بأنّ صريحها أنّ سنّ السنن الثلاث لرفع كلّ مشكل لمن سمعها و فهمها حتّى لا يدع لأحد مقالا فيه بالرأي، و أنّ جميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث لا تكاد أبدا تخلو عن واحدة منهنّ، مع أنّ كثيرا من حالات المستحاضة و أقسامها غير مذكورة فيها كالعدديّة المحضة و الوقتيّة كذلك و الصور الكثيرة الّتي تعرّض لها المحقّقون.

و يمكن دفع الإشكال عنها بوجهين: أحدهما أن يقال: إنّ السنّة

الأولى أي الرجوع إلى خلقها و وقتها إنّما هي لمن لها خلق معروف معلوم، و يكون وجه الإرجاع إلى خلقها هو معروفيّة الخلق و معلوميّة الأيّام و ذلك تمام الموضوع للإرجاع، و يكون المثال المذكور أوضح المصاديق من غير أن يكون الحكم منحصرا به، بدعوى أنّ العرف بمناسبات الحكم و الموضوع و إلغاء الخصوصيّة يفهم منها أنّ الخلق المعروف و العدد المعلوم يكون مرجعا لأجل أقوائيّة أماريّته من حالات الدم، و الرجوع إلى صفات الدم إنّما هو مع فقد الأمارة الأقوى. فإذا كانت المرأة- حسب ما رأت متكرّرا في الزمان الطويل- ذات خلق معروف عددا و وقتا أو عددا فقط أو وقتا فقط يكون هو المرجع لأجل معروفيّة الخلق و معلوميّة العادة. و بالجملة العادة الحاصلة من تكرّر الدم أقوى الأمارات، فذاك الخلق مرجعها لأجل كونه عادة و خلقا، فالمرأة الّتي ترى الدم في أوّل الشهر لا تتخلّف عادتها منه في الأزمنة المتطاولة و إن اختلف عددها يكون لها خلق معروف معلوم بحسب الوقت و هو أقوى الأمارات، و كذا في العدديّة المحضة، كما يشهد به قوله في مقابل السنّة الاولى «و أمّا سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتّى أغفلت عددها و موضعها من الشهر ..» مع أنّ مقابل ما ذكره في السنّة الاولى هو إغفال أحدهما لا إغفالهما معا، فذكر إغفالهما دليل على أنّ الصدر بصدد بيان أمر أوسع ممّا مثّل به، فيشمل الذاكرة و لو عددا فقط أو وقتا. كذلك، فحينئذ يدخل جميع الصور الّتي تتصوّر للخلق المعروف و العادة المعروفة و لو بنحو التركيب و غيره في السنّة الاولى، و مع

فقد الخلق و العادة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 79

يكون المرجع هو الأمارة الأخرى أي اختلاف ألوان الدم و تغيّر حالاته، و مع فقدها يكون المرجع السبع و الثلاث و العشرين، فهذه جميع حالات المستحاضة تقريبا أو تحقيقا.

و ثانيهما أن يقال: إنّ السنّة الأولى لذات العادة الوقتيّة و العدديّة معا، و السنّة الثانية لغيرها سواء لم تكن لها عادة أصلا، أو كانت و أغفلها مطلقا، أو أغفل إحديهما، فيدخل فيها جميع الأقسام ما عدا الأوّل، و إنّما اختصّ بالذكر قسم منها هو أحد مصاديق المفهوم. فقوله إن كانت لها أيّام معلومة فكذا، أو قوله فالحائض الّتي لها أيّام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها كذا يكون بالمفهوم شاملا لجميع أقسام المستحاضة غير ما في المنطوق، فكأنّه قال: المستحاضة إمّا ذات عادة وقتيّة و عدديّة أو لا، فالأولى حكمها الرجوع إلى خلقها، و الثانية إمّا أن يكون لدمها اختلاف لون و تغيّر حال أو لا، فالأولى حكمها الرجوع إلى الصفات، و الثانية الرجوع إلى السبع و الثلاث و العشرين. و ذكر من كلّ مفهوم مصداقا، فذكر من مفهوم الجملة الأولى الّتي أغفلت مطلقا، و من مفهوم الجملة الثانية المبتدئة فقط من باب المثال لا من باب كونهما تمام الموضوع للحكم، فحينئذ تحيط السنن الثلاث بجميع حالات المستحاضة إلّا بعض النوادر.

و هذان الوجهان و إن كان يدفع بكلّ منهما الإشكال عن المرسلة لكنّ الرجحان للوجه الأوّل، لمساعدة الارتكازات العرفيّة عليه، و معها لا يبقى للوجه الثاني محلّ، و لموافقته لفتوى الأصحاب و دعاوي الشهرة و الإجماع بإلحاق العدديّة المحضة و الوقتيّة المحضة بالسنّة الأولى. مضافا إلى خصوصيّات في المرسلة تؤيّد ذلك أو

تدلّ عليه، كقوله في ذيل السنّة الثانية «فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها- إلى أن قال- فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم- إلخ» فجعل وجه الاحتياج إلى الرجوع إلى الصفات عدم معرفة العدد و لا الوقت معا فيفهم منه أنّها لو عرفت وقتها لا تحتاج إلى معرفة لون الدم و كذا لو عرفت العدد، فمورد الاحتياج فقدان الأمارة الّتي هي أقوى، و هي الخلق المعروف و العادة المعلومة، و يؤكّده قوله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 80

«فإذا جهلت الأيّام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم و إدباره و تغيّر لونه» إلى غير ذلك من الخصوصيّات.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ من لها خلق معروف سواء كان خلقها العدد و الوقت أو أحدهما أو كان مركّبا في الوقت أو في العدد أو في كليهما و كذا سائر أقسام الخلق فسنّتها الرجوع إلى خلقها المعروف و عادتها المعلومة لا سنّة لها غيرها، و لا إشكال في تلك الكبرى الكليّة و استفادتها من الرواية بعد النظر التامّ في فقرأتها و التأمّل في خصوصيّاتها، كما قال الإمام عليه السّلام في صدرها «بيّن كلّ مشكل لمن سمعها و فهمها».

فحينئذ يقع الكلام في أنّه هل يستفاد من ذيل المرسلة أنّ الحيضتين مطلقا و في جميع الفروع و صغريات الكبرى الكلّية موجبتان لتحقّق العادة، أو يختصّ ذلك بموضع و محلّ خاصّ و لا يتجاوز منه؟ و وجه الاختصاص هو أخذ خصوصيّات في المرسلة في الموضوع منها كون الحيضتين من المرأة المبتدئة لا غيرها، فإنّ قوله «فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع» راجع إلى من استمرّ

بها الدم أوّل ما رأت و هي قسم من المبتدئة، فالعادة تحصل بالحيضتين بالنسبة إليها خاصّة. و منها تحقّقهما في شهرين هلاليّين لا غيرهما كما هو ظاهر الشهر في لسان الشرع. و منها استواؤهما أخذا و انقطاعا، لقوله «فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء» فالوقت إشارة إلى المحلّ من الشهر، و السواء إلى العدد، فلا بدّ من اختصاص الحيضتين لتحصيل العادة الشرعيّة التعبّديّة بالموضوع الّذي دلّت عليه المرسلة، و في ما سواه ترجع إلى العادة العرفيّة و مع عدمها إلى الصفات.

لكن الإنصاف أنّ المرسلة آبية عن دخل تلك الخصوصيّات في موضوع حصول العادة، لأنّ الإمام عليه السّلام بيّن لنا طريق استفادة كفاية الحيضتين في حصول العادة و الوقت و الخلق المعروف حيث قال بعد قوله «فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه» بهذه العبارة: «و إنّما جعل الوقت إن توالى عليه حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم للّتي تعرف أيّامها: دعي الصلاة أيّام أقرائك،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 81

فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنّة لها فيقول لها: دعي الصلاة أيّام قرئك، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا- إلخ-» فيظهر منه أنّ الحيضتين بما هما أقلّ الأقراء الواردة في قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم موضوع السنّة الاولى و لا دخل لشي ء آخر فيه، فكلّ من كان لها أيّام معلومة و إقراء معروفة لا بدّ لها من الرجوع إلى أيّامها و أقرائها كائنة من كانت، و تحصل الأقراء بأدنى مراتبها و هو حيضتان،

فكونهما موضوع السنّة الأولى لدخولهما في قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم ليس إلّا. فلو كان لما ذكر من الخصوصيّات دخل لما تمّ ما ذكره و لما أفادنا طريق الاستفادة و الاجتهاد كذلك.

فذيل المرسلة حاكم على صدرها بتحصيل موضوع ذات العادة تعبّدا، و بيان له، فكأنّه قال: كلّ ذات عادة و خلق سنّتها الرجوع إليهما، و يحصل الخلق و العادة بحيضتين.

و أما ما يقال من أنّ العادة العرفيّة تحصل بمرّتين لخصوصيّة في عادات النساء من حيث إنّ الرحم بالطبع تقذف الدم بنظام معيّن نوعا، فإذا قذفت مرّتين على نسق واحد حصلت العادة، و أنّ الرواية بصدد بيان حدّ المعنى العرفيّ كتعيين ثلاث في باب كثير السهو إلى غير ذلك ممّا أفاد المشايخ فلا يخلو من الإشكال، خصوصا بالنسبة إلى بعض الموارد، بل ظاهر الرواية يأبى عن ذلك.

الثانية هل تثبت العدديّة الناقصة برؤية [الدم] مرّتين مختلفتين عددا

بحيث يلزم الأخذ بالقدر المتيقّن سواء كانت ذات عادة وقتيّة أولا، فإذا رأت أربعة أيّام في أوّل شهر و ستّة في أوّل شهر آخر أو أربعة في أوّل شهر و ستّة في وسط شهر آخر تصير الأربعة عادة ناقصة لها، و كذا في جانب الأكثر فيكون الخارج عنهما غير أيّام حيضها؛ أو لا؛ أو يفصّل بين ذات العادة الوقتيّة فتأخذ بالقدر المتيقّن من العدد فتثبت لها العدديّة الناقصة و بين غيرها فلا تثبت؟ وجوه: فعن العلّامة و الشهيد ثبوتها و اختاره بعض المحقّقين، و عن جامع المقاصد و الروض عدمه و اختاره صاحب الجواهر و الشيخ الأعظم و المحقّق الخراسانيّ.

و استدلّ على عدمه بظهور مضمرة سماعة و المرسلة في اعتبار التساوي في العدد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 82

و

بأنّ أقلّ ما يحصل به العادة حيضتان، و من رأت في شهر أربعة و في شهر ستّة فكما أنّ الأخذ بالستّة أخذ بقرء واحد كذلك الأخذ بالأربعة، لأنّ الأربعة في ضمن الستّة لا تكون قرء مستقلا، و القرء الواحد لا يكون عادة بنصّ المرسلة.

و يمكن أن يقال: إنّ المضمرة لا تدفع العدديّة الناقصة، فإنّ قوله «فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها» إمّا أن يدّعى دلالته على النفي بمفهوم الشرط فلا مفهوم له في المقام ظاهرا لو سلّم مفهوم الشرط في غيره، فإنّ المفهوم فيه: إذا لم يتّفق شهران كذلك فليس تلك أيّامها، أي ليس الأيّام المتقدّمة المتساوية في صورة الاختلاف أيّامها، و هذا نفي بنفي الموضوع لا لأجل المفهوم، و إمّا بمفهوم القيد، بأن يقال: إذا اتّفق شهران عدّة أيّام غير سواء فليس تلك أيّامها، و معناه حينئذ أنّ الأيّام الّتي هي غير سواء ليس أيّامها، و هو مع الغضّ عن عدم المفهوم لا ينفي إلّا عدم جميع الأيّام الّتي هي غير سواء و هو مسلّم، و أمّا الأقلّ فلا ينفيه، تأمّل. و بمثله يجاب عن المرسلة أيضا.

و أمّا كون الناقص قرء واحدا فمسلّم لكن يمكن دعوى استفادة ذلك من المرسلة بإلغاء الخصوصيّة عرفا، بأن يقال: إنّ العرف يفهم منها أنّ تكرّر الدم على نحو واحد يوجب الخلق، و إن شئت قلت: لا ريب في شمول قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» لمن كانت له عادة ناقصة عددا مع كونها ذات العادة المستقرّة وقتا، فمن رأت سنين متمادية أوّل الشهر حيضا مع اختلاف العدد زيادة و نقيصة تكون لها أيّام معلومة هي القدر المتيقّن كأوّل

الشهر إلى اليوم الرابع مثلا، فيشملها قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و زيادة العدد و نقصه لا توجبان عدم الشمول بالنسبة إلى القدر المتيقّن.

و المرسلة دلّت على أنّ الرؤية مرّتين موجبة للخلق المعلوم حيث قال لمن توالى عليها حيضتان «فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه» نعم، ظاهرها حيضتان تامّتان، كما أنّ الظاهر حصولهما في شهرين، فكما أنّ العرف يفهم منها أنّ خصوصيّة الشهر غير دخيلة يفهم أنّ العدد الزائد على الأربعة في المثال لا دخل له.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 83

و أمّا قولهم إنّ ذلك هو الأخذ بقرء واحد و قد صرّح المرسلة بعدم صيرورتها ذات عادة بقرء واحد، ففيه أنّه فرق بين الأخذ بالأربعة بحدّها و جعل الأربعة وقتها و بين الأخذ بالجامع بين الناقص و الزائد و القدر المتيقّن منهما، ففي الصورة الثانية لا تكون آخذة بالناقص بل به و بما يشاركه و هو القرء الثاني، فهي آخذة بهما و إن لم تأخذ بجميعهما.

و قد يقال: إنّ ما ذكر مناف لقوله في المرسلة «و إن اختلط عليها أيّامها و زادت و نقصت حتّى لا يقف منها على حدّ و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره، ليس لها سنّة غير هذا». و فيه أنّ ذلك مسلّم في العدديّة الناقصة غير الوقتيّة ممّا ذكرنا في صدر المبحث لا في ذات العادة الوقتيّة مع العدديّة الناقصة، و نحن نلتزم به و نفصّل بينهما، و ذلك لأنّه في المرسلة- كما يعلم بالنظر في صدرها و ذيلها- جعل التمييز مرجعا لمن لا

تكون لها أيّام معلومة لا من حيث العدد و لا الوقت كما صرّح به في موارد منها كقوله «و أمّا سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتّى أغفلت عددها و موضعها من الشهر- إلخ-» و ما في ذيلها هو السنّة الثانية الّتي في صدرها، و موضعها هي الّتي اختلط عليها أيّامها من حيث موضع الشهر و زادت و نقصت عددا، و لا إشكال بحسب مفاد المرسلة في أنّ مرجعها إلى التمييز. و أمّا من عرفت موضعها من الشهر و لم تحص عددها فهي غير داخلة في السنّة الثانية بل داخلة في السنّة الأولى كما مرّ. كما أنّ من أحصت عددها و لم تعرف موضعها لا يكون مرجعها في العدد إلى التمييز، فهذه الفقرة الأخيرة غير شاملة لذات العادة الوقتيّة المحضة، و هو ظاهر لمن سمع المرسلة و فهمها. و أمّا ما أفاده بعض المحقّقين في جواب هذا الإشكال فهو كما ترى.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى هو التفصيل بين ذات العادة الوقتيّة المحضة فتأخذ بالقدر المتيقّن من العدد و يصير ذلك عادة لها بمرّتين، و بين ذات العدديّة الناقصة مع عدم العادة الوقتيّة لها فمرجعها التمييز، و ليس لها سنّة مع التمييز غيره.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 84

الثالثة أنّ حصول المرّتين قد يكون بالأخذ و الانقطاع

مع كون الدم حيضا وجدانا؛ و قد يكون بقيام أمارة معتبرة على الحيضيّة، كمن كانت مبتدئة و استمرّ بها الدم فرأت في أوّل شهرين متّصلين عددا معيّنا بصفات الحيض؛ و قد يكون الحكم بحصول الحيض بقاعدة الإمكان، كمن رأت في أوّل شهرين متّصلين عددا معيّنا محكوما بالحيضيّة بقاعدة الإمكان؛ و قد

يكون ذلك بالاقتداء بعادة نسائها، كمن كانت عادة نسائها خمسة في أوّل كلّ شهر فاقتدت بهنّ مرّتين؛ و قد يكون بشهادة القوابل بناء على قبولها؛ و قد يكون بالاستصحاب، كما لو فرض العلم بحيضيّة ثلاثة أيّام من أوّل شهرين و الشكّ في بقائها إلى الخامس و قلنا بجريان الاستصحاب فيه؛ و قد يكون بالتحيّض سبعة أيّام من شهرين في وقت معيّن عملا بالرواية.

لا إشكال في حصول العادة في الفرض الأوّل كما لا إشكال في عدم حصولها في الأخير، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الأخير فلأنّ السبعة ليست بحيض وجدانا و لا تعبّدا، بل المرأة تعمل فيها عمل الحائض كما قال في المرسلة، تمسّكا بقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «تحيّضي» و ليس يكون التحيّض إلّا للمرأة الّتي تريد تكلّف ما تعمل الحائض. و أمّا الأقسام الأخرى فالظاهر تحقّقها بها، أمّا في ما قامت الأمارة على الحيضيّة فلأنّ الأمارة كاشفة عن الحيض الواقعيّ، فمع قيامها عليه و تكرّرها مرّتين ينقّح بها موضوع قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «دعي الصلاة أيّام أقرائك» مفسّرا بكلام أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «و أدناه حيضتان».

و ترجيح بعض المحقّقين العدم بدعوى خروج الفروض عن مورد الروايتين و عدم الوثوق بكون واجد الصفات حيضا لا غير، و أنّ الأوصاف أمارات ظنّية اعتبرها الشارع في الجملة كعادة نسائها الّتي ترجع إليها في بعض الصور، فلا تكون موجبة للوثوق بمعرفة أيّام أقرائها حتّى ترجع إليها، لا يخلو من غرابة، ضرورة أنّه مع قيام الأمارة المعتبرة على الحيضيّة تصير الحيضيّة الواقعيّة ثابتة و لو تعبّدا، و مع تحقّقها و تكرّرها مرّتين وجدانا يتحقّق موضوع ما دلّ على أنّ

أدنى ما يتحقّق به

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 85

العادة حيضتان، و لو فرض عدم الوثوق بالحيضيّة لم يضرّ ذلك بلزوم ترتيب الأحكام عليها، لانسلاكها تحت الدليل الشرعيّ، فأيّ فرق بين المقام و سائر الموارد ممّا يكون الحكم مترتّبا على العناوين الواقعيّة مع إحرازها بالأمارات الشرعيّة.

كما أنّ ما في الجواهر من عدم تناول الخبرين- أي المرسلة و المضمرة- له مع ظهور غيرهما في عدمه كالأخبار الآمرة بالرجوع إلى الصفات إذ هي متناولة بإطلاقها ما تكرّر الجامع مثلا مرّتين ثمّ اختلف محلّه أو عدده في الدور الثالث فإنّه يجب اتّباع الأوصاف أينما كانت تكرّرت أو لا، أيضا لا يخلو من غرابة، ضرورة أنّ الرجوع إلى التمييز إنّما يكون بعد فقد العادة، و إلّا فهي المرجع لا غير، و بعد ثبوت الحيضتين الواقعيّتين بالصفات يندرج الموضوع تحت قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» مفسّرا بقول أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «أدناه حيضتان» فالحيضتان الواقعيّتان محقّقتان للعادة، و مع تحقّقها تكون هي المرجع دون التمييز بل لو فرض أنّ الموضوع لحصول العادة هو الحيض المعلوم و الأيّام المعروفة لقلنا بثبوتها في المقام بالحيضتين، لقوله عليه السّلام في المرسلة بعد فرض تكرّر الحيضتين «فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا» متمسّكا بقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» و انّ أدناه حيضتان، فالحيضتان محقّقتان للخلق المعروف و العادة المعلومة الّتي هي موضوع الحكم، فتدبّر.

و أمّا ما يمكن أن يقال: انّ التمسّك بدليل التمييز لمنع الرجوع إلى التمييز يلزم منه كون الدليل رافعا لنفسه أو لعلّته، و

أيضا يلزم منه حكومته على نفسه، فممّا لا يصغى إليه بعد التأمّل في ما تقدّم، و لا مانع من أن يحصل العادة بمصداقين من التمييز و لأجله يرتفع موضوع الرجوع إلى التمييز في ما بعد، كما في الأصل السببيّ و المسبّبيّ بل ما نحن فيه أولى منه كما يظهر بالتأمّل.

ثم إنّه لو فرض أنّ ثبوت الحيض بقاعدة الإمكان أو بالاقتداء بأقراء نسائها من قبيل الثبوت بالأمارة فالكلام فيها هو الكلام، و أمّا لو فرض كون القاعدة أصلا و كذا الاقتداء بعادة النساء فكذلك إن كانا أصلين محرزين، بدعوى أنّ معقد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 86

الإجماع القائم على فرضه لو لم يكن مفاده التحقّق الواقعيّ فلا أقلّ من ظهوره في التعبّد بتحقّقه، فإنّ معقده أنّ كلّ دم أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، فهو إمّا بصدد بيان أنّ أسباب الحيضيّة و عللها متحقّقة لو لا الامتناع، و الإمكان مساوق للتحقّق الواقعيّ فتكون أمارة للواقع، أو بصدد بيان التعبّد بوجودها عند إمكانها فلا محالة يكون أصلا محرزا. و مع التعبّد بوجودها مرّتين تنسلك في موضوع ما دلّ على أنّ العادة تحصل بأدنى الأقراء و هو حيضتان، كما ينقّح موضوع الأدلّة الاجتهاديّة بالأصول المحرزة في غير المقام.

و من هذا يظهر حال الاقتداء بالأقراء لو أخذنا برواية سماعة، فإنّ قوله «أقراؤها مثل أقراء نسائها» «1» إمّا أمارة بقرينة أنّ مماثلة حالات النساء في طائفة أمارة على كشف حال مورد الشكّ، و لو أغمض النظر عنه فلا أقلّ من أنّ لسانها لسان التعبّد بأنّ أقراءها مثل أقرائهنّ، فإذا كانت أقراؤهنّ خمسة في أوّل الشهور يكون قرؤها كذلك، فمع الاقتداء بهنّ مرتين ينقّح الموضوع كما

مرّ، و يأتي هذا الكلام في الاستصحاب أيضا على ما حقّقنا في محلّه أنّ الاستصحاب في الموضوعات منقّح لنفس موضوع الأدلّة الاجتهاديّة، فتبصّر.

و ممّا ذكرنا يظهر حال غيرها من الفروع كما لو ثبتت الحيضتان بأمارتين مختلفتين، كأن يكون أحد الدمين واجدا لبعض صفات الحيض و الآخر لبعض آخر بعد فرض كون كلّ صفة أمارة مستقلّة. و أمّا التفصيل بين جامع الصفات و غيره لحصول الظنّ القويّ في الأوّل دون الثاني ففي غير محلّه بعد فرض أماريّة كلّ صفة، فقوّة لظنّ كأصل حصوله كالحجر جنب الإنسان. فلا إشكال في تحقّق العادة بالمرّتين مطلقا حتّى لو ثبتت إحدى الحيضتين بالتمييز و الأخرى بالقاعدة، أو إحديهما بالقاعدة و الأخرى بالرجوع إلى الأقران و هكذا. و عليك بالتأمّل في ما مرّ و استخراج كلّ فرع يرد عليك.

الرابعة هل تحصل العادة بالمرّتين مع حصول النقاء في البين أو لا؟

و على الأوّل هل العبرة بالدمين مطلقا، سواء كانت الرؤية في وقت واحد

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 87

أو عدد معيّن فتصير ذات عادة وقتيّة في الأوّل و عدديّة في الثاني، و سواء كان النقاءان متساويين في المرّتين أولا، و سواء كان النقاء في كلتا المرّتين أو في مرّة دون أخرى، أو يفصّل في المقامات؛ أو العبرة بالدم المستمرّ أوّلا؛ أو بالدمين و إلغاء النقاء؟ وجوه أوجهها الأوّل، أي حصول العادة بالمرّتين و احتساب النقاء و الدمين مطلقا. و ذلك لأنّ الظاهر من المرسلة الطويلة أنّ الميزان في حصول العادة المعلومة و الخلق المعروف هو حصول القرءين عدّة أيّام سواء لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» مفسّرا بقول أبي عبد اللّٰه عليه

السّلام أنّ أدناه حيضتان، فيكون الذيل قاعدة كليّة يندرج فيها جميع أفراد القرء، سواء كانت المرأة في أيّام القرء مستمرّة الدم أولا، بشرط صدق أيّام القرء عليها، و إنّما ذكر فيها الدم و استمراره مثالا للمقام. فقوله «فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع- إلخ-» و إن كان ظاهرا في استمرار الدم عدّة أيّام سواء مع حصول الانقطاع في وقت معيّن من الشهر لكن استدلال أبي عبد اللّٰه عليه السّلام بكلام رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و تحديده الجمع بحيضتين فصاعدا حاكم على هذا الظهور و مبيّن للمراد و أنّ تمام الملاك هو تكرّر أيّام القرء مرّتين فصاعدا، فإذا ضمّ إلى هذه الكلّيّة كون أيّام النقاء قرء و حيضا تمّ المطلوب و تمّت الحكومة.

و يدل على ذلك- مضافا إلى دعوى عدم وجدان الخلاف كما في الجواهر، و عن شرح المفاتيح أنّه لم ينقل في ذلك خلاف، بل ادّعى الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة على كون الكلّ حيضا- ما دلّ على أنّ أقلّ الطهر عشرة أيّام و عدم الواسطة بين الطهر و الحيض، فالنقاء في البين إن لم يكن طهرا فهو حيض. و يدلّ عليه أيضا رواية يونس القصيرة، حيث قال فيها «فذلك الّذي رأته في أوّل الأمر مع هذا الّذي رأته بعد ذلك في عشرة فهو من الحيض» بالتقريب الّذي مرّ في بعض المسائل السابقة، و كذا روايتا محمّد بن مسلم حيث قال فيهما «إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى» بالتقريب المتقدّم.

و يؤيده أنّ كون النقاء طهرا في الواقع مع وجوب ترك الصلاة عليها فيه بعيد جدّا، و هذا أبعد ممّا استبعده أبو عبد اللّٰه عليه

السّلام في مرسلة يونس الطويلة حيث قال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 88

في السنّة الثالثة: ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقلّ من ذلك ما قال لها تحيّض سبعا؟ فيكون قد أمرها بترك الصلاة أيّاما و هي مستحاضة غير حائض!- إلخ- فإذا لم يأمر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم المستحاضة غير الحائض بترك الصلاة لم يأمر قطعا الطاهرة غير الحائض بتركها، فلا بدّ إمّا من التزام مقالة صاحب الحدائق و هو خلاف الإجماع و الأدلّة، أو البناء على كون النقاء حيضا و جميع الأيّام قرء و هو المتعيّن، فحينئذ يثبت المطلوب، و هو أنّ القرءين سواء كانا مع استمرار الدم أو مع تخلّل النقاء مطلقا موجب لحصول الخلق المعروف. و بما ذكرنا يظهر النظر في سائر الوجوه و الأقوال.

و قد يقال: إنّ مقتضى المرسلة و مضمرة سماعة اعتبار تساوي عدد أيّام الدم في الحيضتين في حصول العادة العدديّة، و مقتضى صدق أيّامها على أيّام الدم و النقاء في الوقتيّة هو التفصيل بينهما بأن يقال: إنّ الاعتبار بالدمين في العدديّة و بالدمين و النقاء في الوقتيّة. و فيه ما لا يخفى، لما عرفت من حال المرسلة، و أمّا المضمرة فلا بدّ من نقلها و بيان الوجوه فيها حتّى يظهر الأمر. قال سماعة: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض، فتقعد في شهر يومين و في شهر ثلاثة أيّام، يختلف عليها، لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء. قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها. «1» لا ريب في أنّ السائل

بصدد رفع شبهته في اختلاف أيّام الطمث، و أنّه إذا لم يكن طمثها عدّة أيّام سواء فما تكليفها؟ من غير نظر إلى أنّ الطمث ما هو، و هل هو نفس الدم أو هو مع النقاء المتخلّل؟ و كذا الجواب إنّما هو عن ذلك، و أنّه مع عدم تجاوز الدم عشرة أيّام تجلس و تدع الصلاة. و قوله «فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء ..» يحتمل فيه اتّفاق أيّام القعود، و اتفاق أيام الطمث، و اتّفاق أيّام الدم المستمرّ المعهود في الكلام، و اتّفاق مطلق الدم. و لازم الاحتمال الأوّل أن يكون أيّام النقاء محسوبة من العادة و لو لم تكن حيضا، إلّا أن يكون أيّام القعود كناية عن الطمث؛ و لازم الثاني أن يكون

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 14، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 89

أيّام النقاء على فرض كونها من أيّام الطمث محسوبة منها؛ و لازم الثالث أن يكون الدم الأوّل المستمرّ محسوبا لا غير، و لازم الرابع أن يكون الدمان محسوبين دون النقاء.

و لا ترجيح لأحدها لو لم نقل إنّه لمّا كان السؤال عن الطمث يكون المراد من الجواب اتّفاق أيّامه، و لو فرض الظنّ بترجيح اتّفاق أيّام الدم المذكور في الكلام أخيرا فاعتبار مثل هذا الظنّ الغير المستند إلى الظهور مشكل بل ممنوع، مع أنّ لازمة كون العبرة بالدم الأوّل المستمرّ لا الدمين.

و الانصاف أنّ الرواية لا تقاوم ما استظهرناه من المرسلة و سائر الأدلّة لو لم نقل بظهورها في تأسيس الكبرى الكلّية الّتي في المرسلة، بل لا يبعد تحكيم المرسلة عليها على نحو ما مرّ من تحكيم بعض فقرأت المرسلة على بعض. فلا ريب في

أنّ الأظهر هو احتساب النقاء و الدمين. و يظهر حال الفروع الكثيرة في المقام من التأمّل في ما ذكرنا و استفدنا من الأدلّة.

الخامسة كما تحصل العادة العدديّة بتكرّر العدد

في شهرين أو أقلّ أو أزيد هل تحصل الوقتيّة بتكرّر الحيض مطلقا؛ أو يعتبر في حصولها تخلّل طهرين متساويين مطلقا؛ أو لا يعتبر ذلك في شهرين هلاليّين مع حفظ الوقت كما لو رأت أوّل شهرين أو وسطهما مثلا، و أمّا لو رأت في شهر مرّتين أو رأت مرّتين في أزيد من شهر كما لو رأت خمسة و طهرت خمسة و خمسين فرأت خمسة لا تحصل العادة إلّا برؤية طهر آخر خمسة و خمسين، و كذا في الناقص عن الشهر؟

الأقوى هو التفصيل، لأنّ الملاك في حصولها بعد الرجوع إلى الارتكاز العرفيّ و إلغاء الخصوصيّات بالتقريب المتقدّم هو تكرّر العدد في حصول العدديّة و تكرّر الوقت في الوقتيّة، فمع رؤية الطمث في أوّل شهرين هلاليّين مثلا يحصل التكرّر المحصّل للعادة بالنسبة إلى الوقت، لتكرّر الحيض في أوّل الشهر كما هو المصرّح به في مرسلة يونس، و أمّا إذا رأت في شهر مرّتين مع فصل أقلّ الطهر أو أزيد، فمع تساوي العدد لا إشكال في حصول العادة العدديّة لتكرّر العدد، و أمّا الوقت فلم يتكرّر، لأنّ وسط الشهر ليس عودا لأوّله كما هو واضح، فالحيضتان مكرّرتان من حيث الذات و العدد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 90

دون الوقت، فلا يحصل العادة الوقتيّة لها إلّا بتخلّل طهر مساو للأوّل، فحينئذ يصدق أنّ وقتها بعد كلّ عشرة مثلا، و كذا في ما إذا رأت في أكثر من شهرين.

و على ما ذكرنا لا يرد الإشكال بأنّ ظاهر النصّ حصول العادة بالحيضتين، و مع

اعتبار الطهرين لا يحصل إلّا بثلاث حيضات، فإنّ اعتبار الثلاث ليس لأجل حصول العادة بها بل لأجل تكرّر الوقت، و هو موقوف على ذلك. و بالجملة، الوقت لا ينضبط إلّا بتخلّل طهرين، إلّا إذا انضبط بالشهر كما مرّ.

السادسة لا إشكال في عدم زوال العادة

عرفيّة كانت أو تعبّديّة بمرّة واحدة بخلافها، خلافا لأبي يوسف على ما حكي عنه، و كذا لا إشكال في زوالها بطروّ عادة اخرى عرفيّة، فهل تزول بعادة شرعيّة مطلقا؛ أو لا تزول كذلك؛ أو تزول الشرعية دون العرفيّة؟ الأقرب هو الأوّل لما مرّ من الصغرى و الكبرى المستفادتين من مرسلة يونس، و أنّ قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إذا انطبق على كلّ موضوع عرفيّ تقوم المرّتان مقامه. و لا إشكال في أنّ العادة الثانية إذا كانت عرفيّة مستقرّة تصير ناسخة للأولى، لكونها العادة الفعليّة، فقوله «دعي الصلاة أيام أقرائك» و قوله «ليس لها سنّة إلّا أيّامها» لا ينطبقان إلّا على الثانية، فإذا كان حال العرفيّة كذلك فالمرّتان تقومان مقامها لتفسير الصادق عليه السّلام قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «دعي الصلاة أيّام أقرائك» بحيضتين فصاعدا.

و بهذا التقريب يدفع ما يمكن أن يقال انّ المرسلة و كذا المضمرة واردتان في المبتدئة، و لها خصوصيّة عرفا لا يمكن إلغاؤها و إسراء الحكم منها إلى من لها عادة مستمرّة سنين عديدة، و كذا إلى من لم يستقرّ لها عادة مع رؤيتها الدم في سنين عديدة لأنّ طبيعة المبتدئة المخلّاة عن عادة مستمرّة أو اعوجاج مستمرّ إذا قذفت مرّتين بمنوال واحد يمكن أن يكشف ذلك عن خلقها و عادتها، لأنّ انتظام الدم نوعيّ للنساء، فمع حصول المرّتين لا يبعد تحقّق النظم حتّى بنظر العرف، و لهذا

يمكن أن يقال: ليس قول الصادق عليه السّلام بأنّ أدناه حيضتان لأجل كون أقلّ الجمع كذلك، بل لكون الموضوع ذا خصوصيّة بها صار التكرّر كاشفا عن الخلق المعهود، و قوله «فقد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 91

علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا» ممّا يؤيّد ما ذكرنا، لأنّ التكرّر المطلق لا يوجب العلم بالخلق المعروف إلّا بقرائن و خصوصيّات مقرونة به، و هي موجودة بالنسبة إلى المبتدئة، و أمّا من كانت لها عادة مستمرّة أو انحراف مستمرّ فالخروج عن عادتها و انحرافها لا يحصل بدفعتين أو ثلاث، فإذا فرق بين المبتدئة الواردة فيها الروايتان و ذات العادة العرفيّة أو الانحراف العادي المستمرّ، فلا يمكن إلغاء الخصوصيّة من الروايتين، فلا بدّ في زوال العادة من الرجوع إلى العرف بحصول كرّات و مرّات.

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال لمنع إلغاء الخصوصيّة، و لو كان الدعوى إسراء الحكم لمحض ارتكاز العرف و إلغاء الخصوصيّة كان لما ذكر وجه وجيه، بل لو كان المستند هو الفهم العرفيّ كما استندوا إليه كان رفع اليد عن الشهرين الهلاليّين و إسراء الحكم إلى الشهر الحيضيّ أو أكثر من الشهرين في غاية الإشكال، لأنّ للشهرين المتصلين أيضا خصوصيّة ليست لغيرهما من الأقلّ و الأكثر، ضرورة أنّ نوعيّة عادات النساء إنّما هي الرؤية في كلّ شهر مرة لا مرّتين و لا التأخير عن الشهر، فإذا للرؤية مرّتين في شهرين على النظم خصوصيّة و هي الغلبة و العادة، و الخروج عنها نوع انحراف عن الطبيعة، و لذا تكون المرّتان من الطبيعة السليمة الغير المنحرفة كاشفتين عن الخلق و العادة دون المرّتين من غيرها. لكنّ العمدة

هو تمسّك أبي عبد اللّٰه عليه السّلام بقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» و قوله عليه السّلام «أدناه حيضتان» و الظاهر منه أن لا خصوصيّة للموضوع إلّا ذلك، و أن الحيضتين تمام الموضوع، و لو كانت الخصوصيّات الأخر دخيلة في الحكم كان عليه بيانها، خصوصا في المورد ممّا يغفل العامّة عن الخصوصيّات الخفيّة المربوطة بما في الأرحام. فقوله عليه السّلام «و إنّما جعل الوقت إن توالى عليه حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم- إلخ-» يدلّ على أنّ الوجه هو قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم من غير مدخل لشي ء آخر خصوصا بناء على دلالة كلمة «إنّما» على الحصر و مع إنكارها يكفي الإطلاق في مقام البيان، و لا مجال للتشكيكات العلميّة الخارجة عن أفهام العامّة، و إلّا لانسدّ باب التمسّك بالإطلاق في كثير من الموارد.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 92

فتحصل منه أنّ الأقرب زوال العادة العرفيّة بالرؤية على خلافها مرّتين منتظمتين، و أمّا مع رؤيتها مرّتين غير منتظمتين فلا ينبغي الإشكال في عدم نسخ العادة العرفيّة بها، لعدم مساعدة العرف عليه، و عدم دليل شرعيّ، فلا بدّ لزوالها من تكرّرها مرارا حتّى بحكم العرف بنسخ عادتها.

و ممّا ذكرنا يظهر الكلام في العادة الحاصلة بمرّتين متماثلتين بعين ما مرّ، بل هي أولى بذلك من العادة العرفيّة. و هل تزول بمرّتين غير متماثلتين؟ فيه تردّد، لعدم جريان ما تقدّم فيه، و لاحتمال انصراف دليل العادة عمّا تكرّر على خلافها كذلك. و ظاهر المحكيّ عن العلّامة عدم الزوال، حيث قال في ردّ أبي يوسف القائل بزوال

العادة بمرّة: إنّ العادة المتقدّمة دليل على أيّامها الّتي عادت، فلا يبطل حكم هذا الدليل إلّا بدليل مثله، و هي العادة بخلافه. و قد نفى الريب عن الزوال المحقّق الخراسانيّ، و أوّل كلام العلّامة بما هو بعيد عن ظاهره، و المسألة محلّ إشكال في غير ما تكرّر بحيث يحكم العرف بزواله. نعم، هنا بعض أصول حكميّة بل موضوعيّة على تأمّل في هذه.

السابعة ذات العادة الوقتيّة سواء كانت عدديّة أو لا

إمّا أن ترى الدم في أيّام عادتها أولا، و على الثاني إمّا أن ترى قبلها أو بعدها، و على الفرضين إمّا أن تكون القبليّة و البعديّة قريبة من أيّامها كاليوم و اليومين أو لا، و على الفروض إمّا أن يكون ما رأت واجدا لصفات الحيض كالحمرة و الحرارة، أو لصفات الاستحاضة كالصفرة و البرودة، أو لبعض من كلّ منهما كأن رأت حمرة باردة.

و ذات العادة العدديّة المحضة تارة ترى ما هو جامع لصفات الحيض، و اخرى لصفات الاستحاضة، و ثالثة لصفتهما. فهذه عمد الوجوه الّتي لا بدّ من البحث عنها. و يتمّ الكلام فيها في ضمن جهات:

أوليها لا إشكال في أنّ ذات العادة الوقتيّة مطلقا تتحيّض برؤية الدم في أيّامها مطلقا، كان واجدا لصفات الحيض أو صفات الاستحاضة أو صفتهما، و حكي الإجماع عليه من المعتبر و التذكرة و المنتهى و غيرها. و تدلّ عليه بعده روايات كثيرة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 93

يدّعى تواترها دلّت على أنّ الصفرة في أيّام الحيض حيض. و تنظّر في دلالة هذه الروايات بعض المحقّقين بأنّ مفادها ليس إلّا أنّ ما تراه من صفرة أو كدرة في أيّامها فهو من الحيض، و قد ثبت بالنصّ و الإجماع تقييدها بما إذا لم يكن

أقلّ من ثلاثة أيّام، فالحكم بتحيّضها برؤية الدم مع عدم العلم بأنّه يستمرّ ثلاثة أيّام يحتاج إلى دليل آخر. و هو لا يخلو من غرابة، لأنّ ما دلّ على أنّ الحيض لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام إنّما هو في مقام تحديد حدود الحيض، و هو لا ينافي لزوم التحيّض مع قيام الأمارة على الحيضيّة بمجرّد الرؤية. نعم، لو كانت الأمارة متقيّدة بذلك كان لما ذكره وجه، لكنّه ضعيف مخالف للأدلّة. هذا، مع إمكان التشبّث بالأصل لبقاء الدم ثلاثة أيّام.

فالتحقيق أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام العادة بما أنّها طريق شرعيّ إلى حيضيّة ما وقع فيها محكومة بالحيضيّة ما لم يعلم الخلاف، و لا يتوقّف الحكم بحيضيّة ما وقع فيها على إحراز سائر شرائط الحيض و عدم موانعه، و لا إحراز القيود المعتبرة فيه كما هو الشأن في كلّ أمارة قائمة على موضوع. نعم، بعد انقطاع الدم قبل تمام الثلاثة يعلم بعدم الحيضيّة فتسقط الأمارة، و هو واضح.

و يدل على المقصود مضافا إليها صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتّى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1» و رواية إسماعيل الجعفيّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيّام عادتها لم تصلّ، و إن كانت صفرة بعد انقضاء أيّام قرئها صلّت. «2» و مرسلة يونس القصيرة، قال: فإذا رأت المرأة الدم في أيّام حيضها تركت الصلاة، فإن استمرّ بها الدم ثلاثة أيّام فهي حائض. «3» ثمّ إنّه لا فرق في التحيّض بمجرّد الرؤية في الوقت بين ذات العادة الوقتيّة

مع العدديّة التامّة أو الناقصة في المورد المتيقّن من العدد لإطلاق الأدلّة و كون الأيّام أيّامها.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4 ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 12، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 94

ثانيتها إذا رأت الدم أو الصفرة قبل أيّام الحيض قليلا كيوم أو يومين أو رأت بعد تمام أيّام الحيض كذلك فهل يحكم بحيضيّتهما مطلقا؛ أو يفصّل بين ما رأت قبلها أو بعدها فيحكم بالتحيّض في الأوّل دون الثاني؛ أو العكس؟ وجوه لا يبعد دعوى أقربيّة الأوّل. أمّا في ما رأت قبل وقتها قليلا فلإمكان دعوى دلالة العمومات عليه، مثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» و قوله عليه السّلام «الصفرة في أيّام العادة حيض» بتقريب أنّ عادات النساء غالبا ليست منضبطة دقيقا على وجه لا تتخلّف بمثل يوم أو يومين، فغالب النسوة تختلف عليها بمثل ذلك، و لا أظنّ الانضباط الدقيق في مرأة، و لو فرض فهي نادرة. فحينئذ لو قيل لامرأة: دعي الصلاة أيّام أقرائك، أو:

إنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض، لم ينقدح في ذهنها إلّا الأيّام الّتي قد تتقدّم بمثل نصف يوم أو يوم أو يومين، فإذا رأت الصفرة قبيل الوقت تكون حيضا بمقتضى فهم العرف من الروايات.

و بعبارة أخرى: فرق بين جعل الموضوع لحكم أمرا منضبطا محدودا بحدّين دقيقين كاليوم من طلوع الشمس إلى الغروب، و بين الموضوع الغير المنضبط كذلك كأيّام العادة ممّا تتقدّم عادة و نوعا بيوم أو يومين. و هذا غير بعيد بالنظر إلى عادات النساء و أحكام العرف و مرتكزاته. نعم، هو غير تامّ

بالنسبة إلى تأخّر الدم عن تمام العادة، فإنّ التأخّر بمثله غير عاديّ و لا غالبيّ بل الأمر بالعكس، هذا.

و يدل على المطلوب روايات خاصّة، منها: موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة ترى الصفرة، فقال: إن كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض، و إن كان بعد الحيض بيومين فليس من الحيض. «1» و مضمرة معاوية بن حكيم قال: قال:

الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من الحيض و بعد أيّام الحيض فليس من الحيض، و هي في أيّام الحيض حيض. «2» و لا يضرّ الإضمار بعد كون المضمر مثل معاوية الّذي لا يضمر إلّا من المعصوم. و صحيحة الصحّاف و موثّقة سماعة، إلّا أنّ المذكور فيهما الدم بدل

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 95

الصفرة، ففي الاولى: و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنّه من الحيضة «1»- إلخ- و في الثانية: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة، فإنّه ربما تعجّل بها الوقت. «2»

و الظاهر منها و لو بقرينة بعضها أنّ المراد من جميعها حدوث الرؤية قبل أيّام الحيض، أي قبل أيّام عادتها، و في مقابله حدوثه بعد أيّام العادة. و احتمال كون المراد قبل نفس الحيض و بعدها في موثّقة أبي بصير بعيد محتاج إلى التأويل و التوجيه، بأن يقال: إنّ الصفرة الّتي هي من صفات الاستحاضة إذا وقعت قبل الدم الّذي قامت الأمارة- أي الوقت- على حيضيّته حيض، و هذا التوجيه و إن أخرج الكلام عن الاختلال لكن

لا يوجب الإجمال، أو الظهور في ذاك الاحتمال، فإنّ الظاهر العرفيّ منها هو قبل وقت الحيض و بعده- كما صرّح به في سائر الروايات- و الاطمئنان حاصل بأنّ مفادها من هذه الجهة ليس مغايرا لسائر الروايات. و حينئذ يستدلّ بها لحدوث الصفرة بعد أيّام الحيض أقلّ من يومين للتحديد الواقع فيها بيومين و حمل ما بعدها على غير ما قبلها خلاف الظاهر جدّا، و خلاف المتبادر من مقابلته بما قبلها.

نعم، على الاحتمال المتقدّم يكون مقابل الرؤية قبل وجود الحيض الرؤية بعد وجوده فتكون في أيّام العادة، فتخرج عمّا نحن بصدده، لكن قد عرفت بعده و بطلانه.

و يشهد لما قلنا من ترجيح الاحتمال الأوّل مضافا إلى ما ذكر أنّ قوله «إن كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض» ليس إخبارا عن واقع لغرض كشف واقعيّته، بل لغرض تحيّضها في وقت رؤية الصفرة، فلا بدّ من حمل الحيض على أيّامه لكون الوقت مضبوطا و الأيّام معلومة و لو تقريبا بحسب النوع، فتعلم المرأة تكليفها عند رؤية الصفرة قبل وقته. و أمّا إذا كان المراد نفس الدم المحكوم بالحيضيّة بواسطة التمييز أو الوقت فلا تعلم وقت حدوثه حتّى تعلم أنّ الصفرة قبله بيومين، و فرض العلم على تسليم واقعيّته نادر جدّا، فلا محيص إلّا عن حمل الرواية على ما ذكرنا. هذا

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 3، و ب 15، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 15، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 96

مضافا إلى أنّ كون الصفرة قبل أيّام الحيض من الحيض إنّما هو لأجل خصوصيّة في أيّام العادة دون نفس الدم، فإنّ العادة كما أنّها كاشفة عن كون الصفرة

الواقعة في نفسها حيضا لا يبعد كاشفيّتها بالنسبة إلى ما حصل قبل وقتها قليلا كيوم أو يومين، خصوصا مع ما عرفت من عدم انضباطها نوعا على الوجه الدقيق، فحينئذ تكون للعادة خصوصيّة لأجلها حكم بحيضيّة الصفرة فيها و في ما قبلها بقليل، كما يشهد به أو يدلّ عليه قوله في موثّقة سماعة «ربما تعجّل بها الوقت».

و بالجملة يحصل من جميع ما ذكرنا الاطمئنان بأنّ المراد من الموثّقة هو رؤية الصفرة قبل أيّام الحيض، و حينئذ لا ريب في أنّ المراد من الجملة المقابلة للأولى هو أيّام الحيض، و التفكيك بينهما في غاية الفساد، فتمّت الدلالة على أنّه إذا حدثت الصفرة بعد أيّام الحيض بأقلّ من يومين فهي من الحيض، فلا بدّ من التحيّض بمجرّد رؤيتها. نعم، إذا لم تستمرّ إلى ثلاثة أيّام تعلم بعدم حيضيّتها كما في سائر الموارد.

هذا مضافا إلى دعوى عدم القول بالفصل بين المتقدّم و المتأخّر. و أمّا التمسّك بقاعدة الإمكان و بزيادة الانبعاث ففيه ما لا يخفى.

ثالثتها إذا رأت قبل أيّام العادة أو بعدها بما لا تشمله الأدلّة المتقدّمة فهل تتحيّض بمجرّد الرؤية مطلقا؛ أو تستظهر إلى ثلاثة أيّام مطلقا؛ أو يفصّل بين المتّصف بصفات الحيض و غيره؛ أو يفصّل بين ما قبل الأيّام و ما بعدها، فتتحيّض في الثاني مطلقا و في الأوّل بشرط الاتّصاف؟ وجوه و أقوال، و الأظهر هو التفصيل بين الجامع للصفة و غيره مطلقا سواء كان قبل الأيّام أو بعدها. أمّا في الجامع فلأخبار الصفات، و قد مرّ في أوائل هذا المختصر ما يمكن أن يقرّر به وجه استفادة أماريّة الصفات للحيض في ما دار الأمر بينه و بين الاستحاضة مطلقا و عدم اختصاص ذلك بمستمرّة

الدم، فهي أمارة للحيضيّة في ذات العادة و المبتدئة و المضطربة في ما دار الأمر بين الدمين، فراجع.

و تدل عليه أيضا صحيحة عبد اللّٰه بن المغيرة، عن أبي الحسن الأوّل في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما، ثمّ طهرت ثمّ رأت الدم بعد ذلك، قال: تدع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 97

الصلاة، لأنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس. «1» فتدلّ بإطلاقها على لزوم تحيّض ذات العادة و غيرها كانت الرؤية بعد أيّام العادة أو قبلها بقليل أو كثير. و إطلاقها و إن يقتضي شمول الصفرة أيضا على إشكال ناش من احتمال كون الدم مقابل الصفرة كما في بعض الروايات كصحيحة ابن الحجّاج الآتية لكنّه متقيّد بما يأتي. و توهّم كون تلك الصحيحة واردة مورد التقيّة لتقرير الإمام ترك الصلاة ثلاثين يوما، و هو موافق لمذهب العامّة القائلين بأنّ أكثر النفاس أربعون أو ستّون يوما، مدفوع بأنّ قوله «إنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس» ردع لتركها الصلاة، ضرورة أنّ أيّام النفاس ليست عين أيّام الطهر، فمعنى مضيّ أيّام الطهر مع أيّام النفاس هو أنّ الثلاثين ليس جميعها أيّام النفاس، بل بعضها أيّام النفاس و بعضها أيّام الطهر و إن استمرّ بها الدم، فبيّن الحكم الواقعيّ بنحو لا يتنبّه له الغالب.

و تدل على المطلوب أيضا صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا إبراهيم عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوما أو أكثر، ثمّ طهرت و صلّت، ثمّ رأت دما أو صفرة. قال: إن كانت صفرة فلتغتسل و لتصلّ و لا تمسك عن الصلاة. «2» و في رواية الشيخ: و إن كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن

الصلاة أيّام قرئها ثمّ لتغتسل و لتصلّ. و إنّما تدلّ على المطلوب مفهوما على رواية الكليني، و منطوقا على رواية الشيخ، و قوله «فلتمسك عن الصلاة أيّام قرئها» محمول على مقدار أيّام قرئها، أو أيّام إمكان قرئها. و لا يمكن إبقاؤه على ظاهره، للزوم كون الصفرة في أيّام القرء محكومة بعدم الحيضيّة بقرينة المقابلة و هو مقطوع البطلان، و التفكيك بين الفقرتين بعيد جدّا.

نعم هنا روايات ربما يتوهّم دلالتها على عدم التحيّض، كمرسلة يونس القصيرة «قال: و كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض، و كلّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 98

ما رأته بعد أيّام حيضها فليس من الحيض» «1» و مفهوم موثّقة سماعة، قال: سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها، فقال: إذا رأت الدم قبل وقت حيضها فلتدع الصلاة فإنّه ربما تعجّل بها الوقت. «2» و صحيحة الصحّاف في الحامل. «3»

لكن المرسلة- مضافا إلى ما تقدّم من ضعفها سندا و اضطرابها متنا- لا يبعد بملاحظة ما قبل هذه الفقرة أن يكون موردها ما إذا تجاوز الدم عشرة أيّام، فراجع.

و لا مفهوم لموثّقة سماعة، لأنّ الشرط فيها سيق لتحقّق الموضوع، و لا مفهوم للقيد فإنّه من مفهوم اللقب. و أمّا صحيحة الصحّاف فراجعة إلى الحامل، و بإزائها روايات لا بدّ من إفراز البحث عنها، و سيأتي في محلّه، فالحكم في واجد الصفات خال من الإشكال.

و أما مع اتّصاف الدم بصفات الاستحاضة كالصفرة و البرودة فهل تتحيّض بمجرّد رؤيتها مطلقا؛ أو لا تتحيّض مطلقا؛ أو يفصّل بين قبل

العادة و بعدها فيقال بالتحيّض في الثاني دون الأوّل؟ وجوه أقربها العدم مطلقا.

و تدل عليه أدلّة التمييز حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأوصاف كالحرارة و الحمرة و الدفع و غيرها كما تكون أمارة الحيض كذلك مقابلاتها أي الصفرة و البرودة و الفساد و الفتور أمارات الاستحاضة، و لا وجه للتفكيك بينهما مع كون لسان الدليل واحدا. و فائدة جعل الأمارتين ظاهرة، ضرورة أنّه مع أماريّة صفات الحيض فقط لا يحكم على الدم الخالي منها بكونه استحاضة، فمع تماميّة قاعدة الإمكان يحكم بالحيضيّة، و مع عدم تماميّتها لا بدّ من الاحتياط و العمل بالعلم الإجماليّ، بخلاف ما كانت الصفات المقابلة أمارات الاستحاضة فلا تجري القاعدة لحكومة أدلّة الأمارات عليها و إخراج موضوعها عن تحت القاعدة.

بل يمكن أن يقال: إنّ جعل أوصاف الاستحاضة أمارة عليها أقرب من جعل

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 15، ح 2.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 15، ح 1، و ب 30، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 99

أوصاف الحيض أمارة عليه، لأنّ صفات الحيض نوعا صفات مشتركة بينه و بين سائر الدماء، بخلاف صفات الاستحاضة فإنّها صفات مختصّة بها نوعا، و كون الصفات المختصّة أمارة على ما تختصّ به أقرب من أماريّة الصفات المشتركة و لو في فرض الدوران بينهما. و الإنصاف ظهور الروايات في أماريّة كلّ من القبيلين، فحينئذ يحكم بكون الصفرة استحاضة مطلقا إلّا ما خرج بالدليل، ككونها في أيّام العادة أو قبلها أو بعدها بقليل كما مرّ و تدل على المطلوب أيضا روايات، كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة ترى

الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتّى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1» ظاهرها حدوث الرؤية في العادة أو بعدها، و لو أنكر الظهور فيه فلا أقلّ من الإطلاق. و العجب أنّ الشيخ الأعظم تمسّك بها لعدم التحيّض بما رأت قبل أيّام العادة و لم يتمسّك بها لما بعدها و أفتى بالتحيّض برؤية الصفرة لوجوه ضعيفة.

و كموثّقة أبي بصير المتقدّمة بالتقريب المتقدّم دلّت على أنّ الصفرة قبل أيّام الحيض بأكثر من يومين و بعدها بيومين و صاعدا ليست بحيض. و كذا الروايات الدالّة على أنّه إذا رأت الصفرة قبل انقضاء أيّام عادتها لم تصلّ، و إن رأت بعدها صلّت. فإنّ إطلاقها يقتضي أن لا تكون الصفرة و إن حدثت بعد العادة حيضا، سواء رأت الدم في العادة فطهرت ثمّ رأت صفرة، أو لم تر في العادة و رأت بعدها، و تخصيصها بما إذا استمرّ دمها إلى ما بعد العادة لا وجه له. و كصريح صحيحة ابن الحجّاج المتقدّمة، إلى غير ذلك من الروايات. و ليس في مقابلها إلّا قاعدة الإمكان، و قد مرّ عدم الدليل عليها، و مع تسليم تماميّتها تكون الأدلّة المتقدّمة حاكمة أو واردة عليها، ضرورة أنّ موضوعها ما يمكن أن يكون حيضا، و قد مرّ أنّ معناه ما لم يدلّ دليل على عدم حيضيّته، فبقيام الأمارة على الاستحاضة و ما تقدّم من الأدلّة على عدم الحيضيّة ينتفي موضوعها.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 100

و قد أورد الشيخ الأعظم على القاعدة بأنّ موضوعها الإمكان المستقرّ، و لا يمكن إحرازه بالأصل لمنع جريان أصالة البقاء في

مثل المقام، بل الأصل عدم حدوث الزائد على ما حدث، و لو سلّم جريانها لكنّه لا يجدي في إثبات الإمكان المستقرّ ليدخل تحت معاقد إجماعات القاعدة، لأنّ مراد المجمعين من الاستقرار هو الواقعيّ المتيقّن، و بعبارة أخرى: الدم الموجود في ثلاثة أيّام، و ليس لفظ الإمكان المستقرّ واردا في نصّ شرعيّ حتّى يترتّب على الثابت منه بالاستصحاب ما يترتّب على المستقرّ الواقعيّ فافهم (انتهى).

و فيه أنّ عدم جريان الأصل لو كان لأجل عدم جريانه في المتصرّمات لعدم البقاء لها، لأنّ كلّ قطعة منها غير الآخر، فالدم في اليوم الثاني غير ما في اليوم الأوّل فلا يجري فيها الأصل إلّا على القول بالجريان في القسم الثالث من الكلّي، فلا محيص إلّا من إجراء أصل عدم الحدوث بالنسبة إلى غير الموجود، ففيه أنّه قد حقّق في محلّه جريان الأصل فيها، و أنّ هذه المتصرّمات ليست مركّبة من قطعات متكثّرة، لا عقلا و إلّا لزم مفاسد الجزء الّذي لا يتجزّى، و لا عرفا لأنّ العرف يرى الماء الجاري و الحركة شيئا واحدا له البقاء و إن كانت وحدته و بقاؤه بنحو التصرّم و التغيّر، فالدم الجاري المتّصل من أوّل وجوده إلى زمان انقطاعه شي ء واحد متّصل متصرّم باق دائم، لا أمور متكثّرة و مصاديق متعدّدة متلاصقة، فمع العلم بوجوده و الشكّ في انقطاعه تكون القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها واحدة، و يصدق عدم نقض اليقين بالشك بلا ريب، فحينئذ يكون المستصحب شخصيّا لا كلّيّا. مضافا إلى أنّ التحقيق جريان الأصل في القسم الثالث من الكلّي في مثل الدم السائل، و أصالة عدم حدوث الزائد لا تنفي الكلّيّ إلّا بالأصل المثبت.

و أما ما ذكره ثانيا من عدم إجداء الأصل

في إثبات الإمكان المستقرّ الظاهر منه الفرق بين كون الدليل عليه الإجماع و الدليل اللفظيّ، ففيه أنّه إن كان المدّعى أنّ الإجماع قائم على الدم المتيقّن في ثلاثة أيّام بحيث كان اليقين جزء للموضوع فلا يخفى ما فيه، ضرورة أنّ ما ادّعي الإجماع عليه على فرض صحّته هو أنّ كلّ دم يمكن أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 101

يكون حيضا فهو حيض. و إن كان المراد أنّ الحكم و إن ثبت للدم الواقعيّ المستمرّ إلى ثلاثة لكنّ القدر المتيقّن من الإجماع هو الدم الثابت باليقين، ففيه أنّ الثبوت باليقين إن كان قيدا للموضوع فيرجع إلى الوجه الأوّل، و إن كان الحكم ثابتا للموضوع الواقعيّ فالأصل محرز له.

نعم لو كان موضوع القاعدة هو عنوان الإمكان لم يمكن إحرازه بأصالة بقاء الدم إلى ثلاثة أيّام إلّا بالأصل المثبت، لكنّ الظاهر كما مرّ سابقا أنّ موضوع القاعدة ليس هذا العنوان، إذ ليس المراد بالإمكان ما هو المصطلح عند المنطقيّين بل المراد ما لم يقم دليل شرعيّ على عدم حيضيّته، فكلّ دم لم يقم دليل من عقل أو شرع على عدم حيضيّته فهو حيض، فالدم الموجود ممّا لم يقم دليل على عدم حيضيّته من غير ناحية عدم الاستمرار إلى ثلاثة أيّام بالوجدان و من ناحيته بالأصل، فيحرز الموضوع بهما لأنّ الموضوع مركّب لا مقيّد.

رابعتها ذات العادة العدديّة المحضة إن رأت بصفة الحيض تتحيّض بمجرّد الرؤية لما مرّ من أخبار الصفات، و قد مرّ عدم اختصاصها بمستمرّة الدم، و سيأتي إن شاء اللّٰه في الاستحاضة تتمّة البحث فيها. و إن رأت بصفات الاستحاضة يحكم بها بناء على أماريّة الأوصاف لها. و قد يقال بتحيّضها مطلقا،

و استأنس له صاحب الجواهر- بعد الإجماع المدّعى على ذات العادة و صدق اسم ذات العادة عليها- بما دلّ على التحيّض بمجرّد الرؤية في معتادة الوقت لو رأت قبل وقتها، كخبر عليّ بن أبي حمزة قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا حاضر عن المرأة ترى الصفرة، فقال: ما كان قبل الحيض فهو من الحيض، و ما كان بعد الحيض فليس منه. «1» و مضمر معاوية بن حكيم قال: قال: الصفرة قبل الحيض بيومين فهو من الحيض، و بعد أيّام الحيض فليس من الحيض. «2» و خبر سماعة «3» أنّه ربما تعجّل بها الوقت، بتقريب أن يقال:

إنّه لو كان مدار التحيّض بالرؤية على الوقت لما حكم في هذه الأخبار بذلك و إن لم تره فيه.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 6.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 102

و فيه ما لا يخفى، أمّا الإجماع فلعدم ثبوته، بل الظاهر اختصاص معقد الإجماع بذات العادة الوقتيّة، فعن المعتبر: تترك ذات العادة الصلاة و الصوم برؤية الدم، و هو مذهب أهل العلم لأنّ المعتاد كالمتيقّن، و لما رواه يونس عن بعض رجاله عن الصادق عليه السّلام قال: إذا رأت المرأة الدم في أيّام حيضها تركت الصلاة. و هو كما ترى مختصّ بذات العادة الوقتيّة، ضرورة أنّ ذات العادة العدديّة ليست بالنسبة إلى الوقت معتادة، و ليس لها أيّام معلومة حتّى ترجع إليها. و أصرح منه عبارة المنتهى، قال: و تترك ذات العادة الصلاة و الصوم برؤية الدم في وقت عادتها، و هو قول كلّ من يحفظ عنه العلم،

لأنّ العادة كالمتيقّن. و روى الجمهور عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك». و هي كما ترى صريحة في ذات العادة الوقتيّة، و حينئذ لا يبقى وثوق بإطلاق الشرائع، و لا يحضرني التذكرة.

و أمّا الروايات فالاستئناس بها بعيد بل غير ممكن، لأنّ لتقدّم الوقت و تأخّره خصوصيّة كما تقدّم، فلا يمكن إلغاؤها و رفع اليد عن أدلّة التمييز بهذا الوجه المخالف للاعتبار و دلالة الأخبار، فعدم التحيّض بمجرّد الرؤية مع فقد صفات الحيض أشبه بالقواعد و الأصول.

ثمّ إنّه بما مرّ من الأدلّة ظهر حال المبتدئة و المضطربة بل الناسية أيضا، فإنّ الدليل فيها هو تلك الأدلّة، و يأتي فيها التفصيل المتقدّم. نعم، قد يتوهّم في المبتدئة دلالة بعض الأخبار بتحيّضها بمجرّد الرؤية مطلقا، كرواية «ابن بكير» في الجارية أوّل ما تحيض يدفع عنها الدم فتكون مستحاضة، إنّها تنتظر بالصلاة فلا تصلّي حتّى يمضي أكثر ما يكون من الحيض «1»- الحديث- و كموثّقته عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: المرأة إذا رأت الدم في أوّل حيضها فاستمرّ بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيّام- إلخ- و مضمرة سماعة، قال: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض فتقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيّام، يختلف عليها، لا يكون طمثها في

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 103

الشهر عدّة أيّام سواء، قال: فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة. «1»

و فيه- مضافا إلى احتمال انصراف الدم إلى المتّصف بصفات الحيض أي الحمرة كما جعل مقابل الصفرة- أنّ تلك الروايات في

مقام بيان حكم آخر، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها لما نحن بصدده، و هو واضح، و سيأتي الكلام في حال موثّقتي ابن بكير في باب الاستحاضة.

بقي من الفروع المتقدّمة ما إذا تعارضت الأمارتان، كما إذا رأت حمرة باردة أو صفرة بدفع و حرارة، فمقتضى العلم الإجماليّ هو الجمع بين الوظيفتين، و هذا واضح لو قلنا بعدم حرمة العبادة عليها حرمة ذاتيّة. و يمكن أن يقال: إنّه كذلك لو قلنا بها أيضا، لأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى العبادات و إن كان غير مؤثّر للدوران بين المحذورين لكن هنا علم إجماليّ آخر، و هو العلم بوجوب العبادة عليها أو حرمة مسّ الكتاب و اللبث في المسجد و غيرهما من المحرّمات على الحائض، فمقتضى القاعدة هو التخيير بين الترك و الفعل في العبادة و لزوم الترك في غيرها من تروك الحائض.

لكن تنجيز العلم الإجماليّ الّذي لا يؤثّر في بعض أطرافه محلّ إشكال بل منع، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

الثامنة لو رأت الدم ثلاثة أيّام و انقطع

فلا يخلو إمّا أن تكون ذات عادة أو لا، و على التقديرين إمّا أن ترى الدم بصفات الحيض أو لا، و على التقادير إمّا أن ترى الدم بعد الانقطاع قبل عشرة أيّام من أوّل الرؤية و ينقطع على العشرة، أو على الأقلّ، أو ترى بعد عشرة أيّام و بعد مضيّ أقلّ الطهر، أو قبله، أو ترى قبل العشرة و يتجاوز عنها، و الدم الثاني في التقادير إمّا بصفة الحيض أو لا.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 1، ص: 103

هذه عمد صور المسألة. و أمّا حكمها فلا إشكال في أنّ الدم

الأوّل إذا كان بصفة الحيض أو في أيّام العادة حيض، لأدلّة الصفات، و لما دلّ على أنّ كلّ ما رأت في أيّام العادة من صفرة أو حمرة حيض. و أمّا إذا لم يكن بصفته و لا في أيّام العادة فلا دليل على

______________________________

(1) قد تكرر هذه الرواية مرارا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 104

الحيضيّة إلّا قاعدة الإمكان و الإجماع المدّعى في خصوص الفرع، المعتضد بدعوى الشهرة و عدم الخلاف. و الظاهر أنّ المسألة من المسلّمات، و القاعدة في المورد مسلّمة عندهم، و مع المناقشة في إجماعيّه القاعدة فالمسألة الفرعيّة مسلّمة مجمع عليها ظاهرا، فلا إشكال فيها.

و أما التمسّك بصحيحة يونس بن يعقوب «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: المرأة ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تدع الصلاة، قلت: فإنّها ترى الطهر ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تصلّي، قلت: فإنّها ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة، قال: تدع الصلاة، تصنع ما بينها و بين شهر، فإن انقطع عنها الدم و إلّا فهي بمنزلة المستحاضة» «1» و بصحيحة أبي بصير «2» القريبة منها، ففي غير محلّه، لأنّه لا يمكن الالتزام بهما لما مرّ، فلا بدّ من حملهما على ما لا يخالف الإجماع مثل ما حملهما الشيخ و المحقّق عليه من اختلاط حيضها أو غير ذلك.

و أما الدم الثاني فإن كان بصفة الحيض أو في وقت العادة فحيض بلا إشكال، و كذا النقاء بينهما لما مرّ من أنّ النقاء المتخلّل حيض. و أمّا مع عدم الأمرين فالحكم بالحيضيّة إمّا لقاعدة الإمكان- على فرض ثبوتها- أو للإجماع في خصوص هذا الفرع.

و أما التمسّك بالأخبار الدالّة على أنّ ما رأت المرأة من الدم قبل

عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى فمشكل، لما مرّ من أنّ تلك الروايات لا إطلاق لها، فإنّها بصدد بيان حكم آخر بعد فرض حيضيّة الدمين، لا بصدد بيان حال الدم حتّى يتمسّك بإطلاقها، مع احتمال كون الدم هو الأحمر انصرافا في مقابل الأصفر على إشكال فيه، مع معارضتها بالنسبة إلى ذات العادة إذا رأت بعد عادتها بيومين أو أزيد بالمستفيضة الدالّة على أنّ الصفرة بعد العادة ليس بحيض. و الجمع بينهما بأحد الوجوه: إمّا بحمل أخبار الصفرة على مورد استمرار الدم إلى بعد العادة؛ أو حملها على مورد رؤية الدم بعد الأيّام من غير رؤيته في الأيّام؛ أو حمل الروايات المقابلة لها على غير الصفرة. و هذا

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 105

الوجه على فرض إطلاقها أقرب الوجوه، لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام به للشهرات و الإجماعات المنقولة و عدم وجدان التفصيل بين الدم و الصفرة في خصوص المسألة، فتتقيّد بها أخبار الصفرة بمثل الفرض.

هذا إن رأت قبل تمام العشرة و انقطع عليها، و إن رأت بعد العشرة و بعد تخلّل أقلّ الطهر، فإن كان الدمان على صفة الحيض أو في العادة أو كان أحدهما في العادة و الآخر مع الصفة فلا إشكال، و أمّا مع فقد الأمرين فالدليل عليه هو قاعدة الإمكان لو تمّت أو الإجماع على أنّ الدم المستمرّ إلى ثلاثة أيّام حيض. و أمّا الحكم بالحيضيّة بمجرّد الرؤية فموقوف على الاتّصاف أو الوقوع في العادة، و مع عدمهما فلا يحكم بها بل يحكم بالاستحاضة مع صفاتها لأدلّتها. اللّٰهمّ إلّا أن يقال: بعد

قيام الإجماع على أنّ الدم المستمرّ ثلاثة أيّام حيض ينقّح الموضوع بالاستصحاب، لكنّ الشأن في ثبوت الإجماع في الفرع. و لو رأت بعد العشرة و قبل مضيّ أقلّ الطهر فإن كان الحكم بحيضيّة الدم الأوّل بقاعدة الإمكان أو الإجماع لفقد الصفات و كان الدم الثاني أيضا فاقدا لها فانطباق القاعدة على الدم الأوّل يخرج الدم الثاني عن موضوع القاعدة، لأنّ الدم الأوّل في زمان تحقّقه كان ممكن الحيضيّة فهو حيض، و مع حيضيّته لا يمكن أن يكون الدم الثاني حيضا للزوم كون أقلّ الطهر أقلّ من عشرة أو كون الحيض أكثر منها. و القول بعدم الترجيح بين انطباق القاعدة في الموردين غير تامّ، لأنّ الدم الأوّل ممكن بلا معارض فتنطبق عليه القاعدة، و معه يخرج الثاني عن الإمكان و لا وجه لعدم جريانها مع تحقّق موضوعها بلا معارض، تأمّل فإنّ فيه إشكالا ربما يأتي التعرّض له.

و أما لو كان الدم الثاني بصفة الحيض ففيه وجهان: أحدهما ما تقدّم، و مع خروج الثاني عن الإمكان لا اعتبار بالصفات؛ و الثاني تحكيم أدلّة الصفات على القاعدة لكون الصفات أمارة و هي قاعدة معتبرة حيث لا أمارة، و هو الأظهر. هذا بحسب القاعدة، لكن نسب إلى الأصحاب كون الثاني استحاضة و لو كان بصفة الحيض و ما رأته أوّلا بصفة الاستحاضة. و استدلّ عليه- مضافا إلى إطلاق الأصحاب في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 106

فتاويهم و معاقد إجماعاتهم المنقولة- بصحيحة صفوان بن يحيي- على الأصحّ من كون محمّد بن إسماعيل النيشابوريّ ثقة- عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إذا مكثت المرأة عشرة أيّام ترى الدم ثمّ طهرت فمكثت ثلاثة أيّام طاهرا

ثمّ رأت الدم بعد ذلك أ تمسك عن الصلاة؟ قال: لا، هذه مستحاضة. «1» على تأمّل في دلالتها على الصفرة و إن كانت أقوى لأنّها دم، و مقابلتها في بعض الروايات بالدم لا توجب الانصراف.

و أمّا إذا تجاوز الدم عن العشرة فسيأتي الكلام فيه.

التاسعة إذا انقطع الدم في الظاهر و احتمل بقاؤه في الباطن

مع احتمال الحيضيّة بأن كان الانقطاع قبل عشرة أيّام فمقتضى الأصل عدم وجوب الاختبار و الفحص على المرأة، لإطلاق أدلّة الاستصحاب. و احتمال وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة إذا كان رفع الشبهة سهلا كالنظر و الاختبار أو كان الموضوع ممّا يترتّب عليه أمر مهمّ مثل ترك الصلاة أو لزم من الرجوع إلى الأصل الوقوع في مخالفة الواقع كثيرا، مدفوع بإطلاق الأدلّة، بل في صحيحة زرارة الواردة في باب الاستصحاب «قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصاب شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا، و لكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك» مع أنّ الشكّ كان يرفع بمجرّد النظر بسهولة.

ثم إنّه مع جريان الاستصحاب في المقام على ما هو التحقيق في جريانه في مثل الأمور التدريجيّة و القول بحرمة الغسل عليها ذاتا لا إشكال في عدم إمكان التقرّب به مع التفاتها حكما و موضوعا، و أمّا لو اغتسلت عن غفلة بقصد التقرّب فصادف الطهر صحّ، كما أنّه يصحّ إن قلنا بعدم حرمته ذاتا فأتت به رجاء و صادف الطهر. فالحكم بوجوب الفحص و عدم صحّة الغسل قبله مطلقا يحتاج إلى الدليل.

و استدل على وجوب الاستبراء بروايات: منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل، و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و

إن رأت بعد ذلك صفرة

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 107

فلتتوضّأ «1» و فيها احتمالات كاحتمال الوجوب التعبّدي الشرعيّ، و احتمال الوجوب الشرطيّ بمعنى كون الاختبار شرطا لصحّة الغسل، و احتمال عدم الوجوب بل الأمر به لمجرّد الإرشاد إلى حسن الاحتياط لئلّا يقع غسله لغوا و عمله باطلا، و احتمال الوجوب الطريقيّ بمعنى وجوب الاختبار لأجل الاطّلاع على الواقع بحيث لو تركته فكان مخالفا للواقع عوقبت على مخالفته لا على ترك الاختبار، و لو اغتسلت و صلّت و صادف غسلها الطهر صحّ غسلها و صلوتها و إن كانت متجرّية في ترك التكليف الطريقيّ، أقربها الأخير و أبعدها الأوّل، و أمّا الاحتمال الثاني فبعيد أيضا.

و القول بظهور أمثال ذلك في الوضع، كقوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ- إلخ-» و قوله عليه السّلام «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» ممّا هي ظاهرة في الشرطيّة و المانعيّة، فوزان قوله «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة» وزان قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا- إلخ-» فيستفاد منه الوجوب الشرطيّ غير وجيه و القياس مع الفارق، ضرورة أنّ الاختبار في المقام ليس له نفسيّة بل طريق إلى العلم بالواقع، و معه لا يستفاد منه شرطيّة نفس الاختبار، لعدم كونه ملحوظا بذاته، بل هو ملحوظ لمحض إرادة الواقع، و المنظور إليه نفس الواقع، و معه لا يبقى له ظهور في الشرطيّة و يتّضح الفارق بينه و بين المثالين. و أمّا الاحتمال الثالث و إن لم يكن بذلك البعد لكن رفع اليد عن الأمر بلا حجّة غير جائز، فالأظهر هو الوجوب الطريقيّ عند إرادة الغسل،

لكن هذا لا يثبت وجوب الاختبار عند الانقطاع، بل يجب عند إرادة الغسل، فيمكن الاتّكال على استصحاب عدم وجوب التكاليف عليها لو قلنا بسقوط الاستصحاب الموضوعيّ، فيحكم بعدم وجوب الغسل عليها لكن عند إرادة الغسل يجب عليها الاختبار. نعم، لو قلنا بسقوط الاستصحاب في المقام مطلقا و لزوم العمل على طبق العلم الإجماليّ بالجمع بين ما على الطاهرة و ما على الحائض فلا محيص إلّا من الغسل، و معه يجب الاختبار.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الصحيحة دلّت على الوجوب عند الانقطاع و حضور

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض ب 17، ح 1. و في نسخة الوسائل [فلتتوض و لتصل]

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 108

وقت الصلاة، بدعوى أنّ قوله «إذا أرادت الحائض أن تغتسل ..» ليس بصدد إيكال الأمر إلى إرادتها، بل بصدد بيان أنّها إذا احتاجت إلى الغسل بحضور وقت العبادة المشروطة به و أرادته بحسب طبع التكليف، و بعبارة أخرى: إذا احتاجت إليه و كان في الخروج عن التكليف لا بدّ منه فعليها الاختبار، فوجوب الغسل و لزوم إرادته مفروض الوجود، و إنّما أوجب عليها الاختبار عنده. و هذا و إن كان بعيدا عن ظاهر اللفظ لكنّه غير بعيد بالنظر إلى أنّ إيكال الأمر على إرادته أبعد منه جدّا.

و منها مرسلة يونس «1» و رواية «شرحبيل الكنديّ» «2» و هما مع ضعفهما سندا لا تدلّان على وجوب الاختبار، بل ظاهرتان في كيفيّة معرفة المرأة بطمثها و طهرها عند الشكّ فيهما. و مثلهما موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت:

المرأة ترى الطهر و ترى الصفرة أو الشي ء فلا تدري أطهرت أم لا، قال: فإذا كان كذلك فلتقم فلتلصق

بطنها إلى حائط و ترفع رجلها على حائط كما رأيت الكلب يصنع إذا أراد أن يبول، ثمّ تستدخل الكرسف، فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج، فإن خرج دم فلم تطهر و إن لم تخرج فقد طهرت. «3»

و سؤاله و إن احتمل فيه أمران: أحدهما السؤال عن الوظيفة الشرعيّة، و الثاني عن كيفيّة معرفتها بالطمث كما في رواية الكنديّ، بل الاحتمال الأوّل أقربهما، لكن يظهر من الجواب أنّ مقصوده كان معرفة الطمث، فإنّ قوله «فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج» هو الجواب عن سؤاله، و هو مناسب للاحتمال الثاني. و بالجملة إنّ جوابه إنّما يكون عن أمر تكوينيّ، إلّا أن يقال إنّه مقدّمة للأمر الشرعيّ و الوظيفة و هو كما ترى، فلا تدلّ الموثّقة على المطلوب بوجه. و منه يظهر الحال في دلالة ما عن الفقه الرضويّ مع الغضّ عن سنده، فالعمدة هي صحيحة ابن مسلم مع تأيّدها بدعوى الشهرة و عدم الخلاف.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 3.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 109

ثم لا إشكال في أنّ الوجوب الطريقيّ مقدّمة لوضوح حالها لأجل العبادات لأنّ الغسل ليس بواجب نفسيّ، فالوجوب هاهنا لأجل تحصيل الواجب الشرطيّ للعبادات الّتي هي واجبات نفسيّة.

و هل يحب الاختبار ثانيا و ثالثا إذا اختبرت و رأت الدم أو لا يجب إلّا دفعة واحدة؟ وجهان: من أنّ القطع عن الظاهر يوجب الظنّ نوعا بالقطع عن الداخل، فيمكن أن يكون ذلك منشأ إلغاء الاستصحاب و إيجاب الفحص، و أمّا لو اختبرت و رأت الدم في الداخل فيجري

الاستصحاب، فتترك العبادة اتّكالا عليه إلى العلم بالنقاء أو تجاوز العشرة؛ و من أنّ الظاهر من صحيحة ابن مسلم بالتقريب المتقدّم أنّها كلّما احتاجت إلى الغسل حسب احتياج سائر المكلّفين يجب عليها الاختبار. و الفرق المذكور بين موردي الاستصحاب بعيد. مضافا إلى العلم الإجماليّ بوجوب العبادات أو حرمة ما على الحائض كالدخول في المسجدين و اللبث في سائر المساجد، فمع عدم الحرمة الذاتيّة في العبادات يجب عليها الإتيان بها بمقتضى العلم الإجماليّ فيجب الغسل بحكم العقل، فإذا أرادت الغسل يجب عليها الاختبار بحكم صحيحة ابن مسلم.

و إن قلنا بالحرمة الذاتيّة كان من قبيل الدوران بين المحذورين، فمع عدم جريان الاستصحاب يجب الاختبار بحكم العقل لاتّضاح الحال. و لا يبعد ترجيح الوجه الثاني.

ثم على القول بشرطيّة الاختبار للغسل لا يصحّ بدونه و لو صادف الطهر، و هل يصحّ مع فرض وقوعه على وجه تعذّر فيه كنسيان الاستبراء و نحوه؟ قطع بذلك صاحب الجواهر، و فيه تأمّل و إشكال، لأنّه على فرض الشرطيّة يكون الشرط هو واقع الاختبار من غير دخل لعذر المكلّف فيه. نعم، لو قلنا بأنّ الوضع ينتزع من التكليف، و لا يجوز تكليف المعذور فلا منشأ لانتزاع الوضع كان له وجه، لكنّ المبنى صغرى و كبرى محلّ إشكال، ضرورة أنّ الظاهر من مثل قوله «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» بحسب فهم العرف في أمثال المقام أنّ النهي إرشاد إلى عدم تحقّق الصلاة مع الوبر، فالنهي لأجل عدم إمكان الوجود، فيستفاد منه مانعيّة ما لا يؤكل للصلاة مطلقا، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 110

كذا سائر المقامات الّتي تكون مثل ذلك و منها ما نحن بصدده، مع

أنّ في عدم تعلّق التكليف بالمعذور كلاما و إشكالا قد تعرّضنا له في محلّه، نعم في خصوص النسيان لا يبعد التمسّك بحديث الرفع على ما قوّينا شموله لمثل المقام.

و هل يسقط الشرط على فرض الشرطيّة مع التعذّر كالعمى و الظلمة و ضيق المجرى؟ وجهان: من دعوى قصور الأدلّة لقطع الاستصحاب في مثله، لكونها واردة في غير المعذورة، و المعذورة لها الاتّكال على الاستصحاب و ترك العبادات إلى القطع بالنقاء أو تجاوز العشرة، و من احتمال قطع الاستصحاب في المقام و كذا الشرطيّة لتعذّره فلا بدّ من الاحتياط. و يمكن أن يقال: إنّ الشرطيّة لا تنافي التعذّر، و ورود الروايات كذلك لا ينافي انفهام الشرطيّة منها مطلقا، و معها لا يصحّ غسلها إلّا بعد العلم بالنقاء أو تجاوز العشرة.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم تعيّن كيفيّة خاصّة في الاستبراء، لإطلاق صحيحة محمّد بن مسلم و عدم استفادة التعيين من سائر الروايات بعد اختلافها و معلوميّة ورودها للإرشاد إلى ما هو الأسهل، و معلوميّة عدم دخل بعض الخصوصيّات كالإدخال بيدها اليمنى، فالمقصود هو حصول الاستبراء بأيّ وجه كان، إلّا أنّ الأحوط العمل عليها، و أمّا ترجيح رفع اليسرى كما صنع الشيخ الأعظم بدعوى تعدّد ما دلّ عليه و قوّة سنده فغير معلوم، لأنّ سند ما دلّ على رفع اليمنى أرجح، فإنّ مرسلة يونس أرجح من رواية الكنديّ و الفقه الرضويّ. و لمّا كان الاستبراء و الفحص لا يحصل غالبا إلّا بالمكث و لو قليلا لا يبعد لزومه، كما ورد مثله في رواية خلف بن حمّاد الواردة في اشتباه دم العذرة بالحيض، فالأحوط اعتباره لو لم يكن أقوى.

العاشرة المرأة إمّا مبتدئة أو مضطربة لم تستقرّ لها عادة أو ذات عادة،
اشارة

و على أيّ تقدير إمّا أن تخرج القطنة بعد الاستبراء

نقيّة أو ملوّثة بالدم أو بالصفرة، و ذات العادة إمّا ذات عادة عرفيّة بحصول العادة في أزمنة كثيرة أو ذات عادة بحكم الشرع بالمرّتين أو ثلاث مرّات، فهاهنا صور لا بدّ من البحث عنها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 111

[الصورة] الأولى: إذا كانت مبتدئة أو مضطربة و خرجت القطنة نقيّة

فلا إشكال في أنّها طاهرة يجب عليها الغسل شرطا عند وجوب مشروطه، و لا يجب عليها الاستظهار بل لا يجوز، لأصالة عدم حدوث الدم و أصالة بقاء الطهر و لأخبار الاستبراء المتقدّمة و لو ظنّت العود، لعدم اعتباره و لا يرفع اليد عن الدليل به. و قد يقال بالاستظهار مستظهرا بدليل الحرج، و هو كما ترى لمنع الحرج.

و أمّا ذات العادة فإن كانت لها عادة عرفيّة توجب الاطمئنان بنظامها و كانت عادتها انقطاع الدم و عوده فلا إشكال في عدم الاستبراء لها و لزوم ترك العبادة لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «دعي الصلاة أيّام أقرائك» و النقاء المتخلّل من أيّام الأقراء، و كذا لو كانت العادة غير موجبة للاطمئنان كالعادة الشرعيّة فالظاهر عدم لزوم الاستبراء و لزوم ترك العبادة، لا لما قيل من لزوم الحرج لما مرّ من عدم الحرج، مع أنّ الحرج لا يوجب التفصيل بين الظنّ الحاصل من العادة و غيره كما نسب إلى جمع، بل لحكومة مرسلة يونس الطويلة على أدلّة الاستبراء، فإنّ تلك الأدلّة موضوعها من لم تدر أطهرت أم لا، و المرسلة بالتقريب الّذي تقدّم تدلّ على أنّ العادة الحاصلة بالمرّتين توجب الخلق المعروف و الأيّام المعلومة، و قد مرّ عدم اختصاصها بمستمرّة الدم، فإذا رأت خمسة أيّام دما و يومين نقاء و يومين دما في شهرين بهذا النظام تصير تلك الأيّام

عادتها و خلقها المعروف و لا تكون ممّن لم تدر أطهرت أم لا، بل تكون عالمة بعدم طهرها لقيام الأمارة عليها، فتكون مشمولة لقوله «دعي الصلاة أيّام أقرائك» فتخرج بالمرسلة عن موضوع تلك الأدلّة.

ثم اعلم أنّ ترك العبادة في هذا المورد ليس لأجل الاستظهار، بل لأجل الدليل على الحيضيّة، و لهذا لو قلنا باستحباب الاستظهار و جواز العبادة لم نقل به في المقام.

و بالجملة إنّ الاستظهار للمردّدة و هذه ليست كذلك.

[الصورة] الثانية: إذا رأت المبتدئة أو المضطربة حمرة بالاستبراء

أي خرجت القطنة ملوّثة بالحمرة فلا إشكال في لزوم التحيّض و ترك العبادة للأصل و دلالة جملة من الأخبار

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 112

منها أخبار الاستبراء، ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة، فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل- الحديث- «1» و في موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام .. فإذا كان ثمّة من الدم مثل رأس الذباب خرج، فإن خرج دم فلم تطهر «2».

و منها رواية خلف بن حمّاد «3» الواردة في اشتباه الحيض بدم العذرة، الدالّة على لزوم ترك العبادة لمن استمرّ بها الدم إلى عشرة أيّام إذا خرجت القطنة مستنقعة.

و منها روايتا محمّد بن مسلم «4» الدالّتان على أنّه إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الاولى. و مثلهما ما ورد في باب العدد على تأمّل فيها.

و منها ما ورد في خصوص المبتدئة أو خصوص المضطربة، كموثّقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: المرأة إذا رأت الدم في أوّل حيضها فاستمرّ بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيّام، ثمّ تصلّي عشرين يوما. «5»

و قريب منها روايته الأخرى.

و في موثّقة سماعة قال: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض تقعد في الشهر يومين و في الشهر ثلاثة أيّام يختلف عليها لا يكون طمثها في الشهر عدّة أيّام سواء، قال:

فلها أن تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم يجز العشرة، فإذا اتّفق الشهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها. «6»

فلا إشكال في المسألة، إنّما الإشكال في ما إذا خرجت ملوّثة بالصفرة هل هو كالتلوّث بالحمرة فتمكث إلى حصول النقاء أو مضيّ عشرة أيّام أو يجب عليها العبادات

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 2، ح 3.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 10، ح 11. و ب 12 ح 1.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 6.

(6) الوسائل: أبواب الحيض، ب 7، ج 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 113

و عمل المستحاضة؛ مقتضى الاستصحاب هو الأوّل، كإطلاق الأدلّة المتقدّمة الواردة في الجارية البكر و غيرها، و إن لم يخل من تأمّل، لاحتمال كون المراد من الدم هو غير الصفرة، و إن كان الأقرب شمولها لها، و مجرّد جعله في بعض الروايات في مقابلها لا يوجب صرف المطلقات عنها مع دخولها في عنوان الدم. نعم، إذا قوبلت به يكون المراد منه صنفا خاصّا و هو الأحمر.

و أمّا صحيحة سعيد بن يسار- بناء على وثاقة الرواسيّ كما لا يبعد- قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة تحيض ثمّ تطهر و ربما رأت بعد ذلك الشي ء من الدم الرقيق بعد اغتسالها من طهرها، فقال: تستظهر بعد أيّامها بيومين أو ثلاثة ثمّ تصلّي.

«1» فهي في

غير ما نحن فيه، لأنّ كلامنا في من انقطع الدم عن ظاهرها دون الباطن، و ظاهر الصحيحة هو تطهّرها و اغتسالها منه ثمّ رؤية الدم الرقيق، و هو موضوع آخر، مع ظهورها في ذات العادة بمقتضى كون مصبّ أخبار الاستظهار هو هي، و ظهور قوله «بعد أيّامها» في من لها أيّام و عادة. و أبعد منه التمسّك بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام حيث قال: و إن لم تر شيئا فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضّأ و لتصلّ. «2» لتعليق الاغتسال على عدم رؤية شي ء، ففيه أنّ هذه الجملة ملحوقة بقوله «فإن خرج فيها شي ء من الدم فلا تغتسل» و معه لا إطلاق فيها كما لا يخفى.

و أمّا ذيلها فلا يخالف مسألتنا، لا لما في الجواهر من حمله على العلم بعدم الحيضيّة، لأنّه غير وجيه و لا شاهد عليه، بل لما أشرنا إليه آنفا من أنّ كلامنا في من استمرّ دمها في الباطن لا من انقطع دمها عن الظاهر و الباطن و صارت طاهرة ثمّ رأت بعد اغتسالها. نعم، هي تنافي صحيحة سعيد بن يسار، فلا بدّ من الجمع بينهما إمّا بحمل الدم الرقيق على الأحمر الرقيق، أو حمل صحيحة ابن مسلم على ما بعد أيّام الاستظهار أو بعد عشرة أيّام، و الأوّل أقرب لو لا مخافة مخالفته للإجماع أو الشهرة، كما أنّ الرجوع إلى الأوصاف و أماريّة الصفرة للاستحاضة أقرب بحسب الأدلّة في

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 114

ما نحن فيه، و به يقطع الاستصحاب و يرفع اليد عن إطلاق

الروايات- على فرض ثبوته- لو لا تلك المحافة.

[الصورة] الثالثة إذا رأت ذات العادة بعد أيّامها صفرة

فهل يجب عليها أو يستحبّ الاستظهار بمقتضى ما دلّ عليه؛ أو تعمل عمل المستحاضة بمقتضى ما دلّ على أنّ الصفرة بعد الحيض أو بعد أيّام الحيض ليست بحيض؟ فعن الرياض أنّ تلك الأخبار مخالفة للإجماع بسيطا أو مركّبا و لأخبار الاستظهار، و لهذا حملها في الجواهر على ما بعد الحيض و الاستظهار، و هو المتّجة لو كانت مخالفة للإجماع، و إلّا فالجمع العقلائيّ بينها و بين أدلّة الاستظهار يقتضي تحكيمها عليها، لأنّ موضوع أدلّة الاستظهار هو من لم تعلم أنّ الدم حيض أولا، و لهذا عبّر في بعضها بأنّها تحتاط، بل نفس الاستظهار يدلّ على ذلك، بل المورد مورد الشبهة و التحيّر، لأنّ الدم إذا انقطع على العشرة يكون جميعه حيضا بمقتضى الأدلّة، و إذا تجاوز عنها تكون أيّام العادة كذلك، فتكون شاكّة في حيضيّة ما تجاوز عن العادة لأجل الشكّ في تجاوزه عن العشرة. و الأخبار الدالّة على أنّ الصفرة بعد أيّام العادة ليست بحيض حاكمة على أدلّة الاستظهار و نافية لموضوعها، سواء كان بينها و بين أدلّة الاستظهار عموم مطلقا و ذلك إذا حملت تلك الأخبار على من استمرّ بها الدم كما احتمله أو قرّ به الشيخ الأعظم، أو عموم من وجه بناء على إطلاقها كما هو الأقرب.

هذا إذا حملنا موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة ترى الصفرة فقال:

إن كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض، و إن كان بعد الحيض بيومين فليس من الحيض «1» على ما حدث بعد الأيّام، كما لا يبعد بلحاظ قوله «ترى الصفرة» و إلّا فالوجه حمل مطلقات تلك الأخبار عليها في من استمرّ بها

الدم أي تجاوز عن عادتها، فحينئذ يمكن القول بأنّ المراد من قوله «و إن كان بعد الحيض بيومين فليس من الحيض» هو أيّام الاستظهار، فتكون مطابقة لما دلّ على أنّه إن كان أيّام حيضها دون عشرة أيّام استظهرت بيوم أو يومين ثمّ هي مستحاضة، فيحمل عدم الحيضيّة على التكليف

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 115

الظاهريّ ككونها مستحاضة لا على عدم الحيضيّة الواقعيّة. و هذا الوجه أقرب إلى جمع الأخبار و كلمات الأصحاب و إن لم يخل عن إشكال.

[الصورة] الرابعة إذا خرجت القطنة بعد أيّام عادتها ملوّثة بالدم
اشارة

بل بالصفرة بناء على ما تقدّم آنفا ففيه جهات من البحث. و قبل الورود فيها لا بأس بذكر ما تقتضي القاعدة فنقول:

لو قلنا بجريان الاستصحاب في المقام فالظاهر جريان استصحاب استمرار الدم إلى ما بعد العشرة، فيترتّب عليه كون العادة أيّامها و لا سنّة لها غيرها، و لو قلنا بعدم جريانه إمّا لعدم الجريان في التدريجيّات أو لقطع الاستصحاب في المقام فمقتضى القاعدة الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة للعلم الإجماليّ بكونها حائضا أو مستحاضة. هذا إذا قلنا بالحرمة التشريعيّة في العبادات، و ما قيل من أنّه لا يجب عليها للأصل، لأنّ الشكّ بالنسبة إليها مرجعه إلى الشكّ في أصل التكليف و المرجع فيه البراءة، في غير محلّه بعد العلم الإجماليّ.

و أمّا إن قلنا بالحرمة الذاتيّة ففي العبادات يدور الأمر بين المحذورين فتتخيّر مع عدم الترجيح محتملا و احتمالا، و إلّا فتأخذ بأرجحهما، و أمّا بالنسبة إلى محرّمات الحائض كمسّ الكتابة و غيره فقد يقال بلزوم تركها لكونها طرفا للعلم الإجماليّ و إن كان أحد الطرفين من قبيل الدوران بين المحذورين، لكنّ الظاهر عدم

لزومه، لأنّ العلم ليس منجّزا بالنسبة إلى أحد الطرفين- أي العبادات الّتي دار أمرها بين المحذورين- و معه يكون الآخر في حكم الشبهة البدويّة، لأنّ من شروط تنجيز العلم تعلّقه بتكليف منجّز به على كلّ تقدير.

ثم إنّ التخيير العقليّ في المقام استمراريّ لا بدويّ، فهي مختارة في كلّ واقعة في الأخذ بأيّ طرف شاءت، إلّا أن يلزم منه محذور كحصول العلم التفصيليّ ببطلان عملها في بعض الصور، كما لو تركت الظهر و أنت بالعصر فتعلم تفصيلا ببطلانها لفقد الترتيب أو الطهور.

الجهة الاولى: لا إشكال في أنّ مصبّ أخبار الاستظهار هو الامرأة المتحيّرة،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 116

أي الّتي تتحيّر في أنّها حائض أو مستحاضة، و منشأ هذا الشكّ هو الشكّ في تجاوز دمها عن العشرة حتّى لا تكون لها سنّة إلّا أيّامها كما سيأتي و عدمه حتى يكون المجموع حيضا كما مرّ، و ذلك لظهور عنوان الاستظهار و الاحتياط في ذلك، و أخبار الباب تدور على هذين العنوانين، فمن علمت أو اطمأنّت بعدم تجاوز دمها عن العشرة أو تجاوزه فهي خارجة عن مصبّها، فمثل المرأة الّتي يستمرّ بها الدم شهورا أو أقلّ خارجة عن مصبّها كما يظهر بالتأمّل فيها، فإنّه مضافا إلى اقتضاء العنوانين ذلك قد وردت الروايات في موردين: أحدهما- و هو ما ورد فيه غالب الروايات حتّى أنّ غيره بالنسبة إليه قليل- هو من رأت الدم وقت حيضها أو قبله و جاز أيّامها، و ممّا ورد في ذلك موثّقتا سماعة، و رواية إسحاق بن جرير، و مرسلة داود مولى أبي المغراء، و صحيحتا سعيد بن يسار و ابن أبي نصر، و رواية محمّد بن عمرو و عبد اللّٰه بن المغيرة و يونس بن يعقوب و أبي بصير و

غيرها. و هذه الطائفة لا إشكال فيها من حيث كون مصبّها ما ذكرنا.

و ثانيهما ما وردت في المستحاضة كرواية إسماعيل الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المستحاضة تقعد أيّام قرئها ثمّ تحتاط بيوم أو يومين، فإن هي رأت طهرا اغتسلت «1» و رواية زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ثمّ تستظهر على ذلك بيوم «2» و رواية أخرى لزرارة عنه عليه السّلام قال: المستحاضة تستظهر بيوم أو يومين «3» و رواية فضيل و زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: المستحاضة تكفّ عن الصلاة أيّام قرئها و تحتاط بيوم أو اثنين ثمّ تغتسل- إلخ- «4» و رواية عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المستحاضة أ يطأها زوجها، و هل تطوف بالبيت؟ قال: تقعد قروءها الّذي

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 7.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 14.

(4) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 117

كانت تحيض فيه، فإن كان قروءها مستقيما فلتأخذ به، و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل- إلخ- «1».

و المستحاضة و إن كانت أعمّ ممّن يستمرّ بها الدم شهرا أو أزيد و ممّن تجاوز دمها عن أيّام عادتها لكن لا بدّ من حملها في تلك الروايات على الثانية بقرينة قوله «تستظهر» و «تحتاط» فإنّ العنوانين لا ينطبقان إلّا عليها، و أمّا من استمرّ بها الدم فلا يكون لها احتياط لكون عادتها هي الحيض و الزائد عليها استحاضة كما صرّح به في المرسلة

الطويلة من غير ريب و شائبة إشكال.

و دعوى الشيخ الأعظم ظهور بعض فقرأتها في غير مستمرّة الدم غير وجيهة كما يظهر للمتأمّل، و ما ذكرنا هو الظاهر من روايات أخر كصحيحة معاوية بن عمّار و الحلبيّ و عبد اللّٰه بن سنان و غيرها، فلا إشكال في هذا الحمل في الروايات سوى موثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه حيث فصلّ فيها بين استقامة القروء و غيرها، و الظاهر كون المراد فيها مستمرّة الدم، و هي لا تنافي الروايات، لأنّ صدرها موافق لمرسلة يونس و ما هو بمضمونها، و ذيلها فرض آخر غير المفروض في سائر الروايات، و لا بأس بالحكم بالاحتياط في مستمرّة الدم مع الخلاف في عادتها كما تدلّ عليه الرواية.

فتحصل ممّا ذكرنا أنّ مستمرّة الدم لا سنّة لها إلّا أيّامها إذا كانت لها أيّام معلومة غير مختلفة، و مع الاختلاف تحتاط بيوم أو يومين كما في موثّقة البصريّ، و أنّ الحائض و النفساء إذا جاوز دمهما عن عادتهما شرع في حقّهما الاستظهار. و يشهد للجمع موثّقة إسحاق بن جرير حيث فصلّ فيها بين من تحيض و جازت أيّام حيضها فأمرها بالاستظهار، و بين من استمرّ بها الشهر و الشهرين و الثلاثة فأمرها بالجلوس أيّام حيضها ثمّ الاغتسال للصلاة.

الجهة الثانية: قد اختلفت الروايات في هذه المسألة غاية الاختلاف،

و هي على اختلافها على طوائف: منها ما هي ظاهرة في مستمرّة الدم كالمرسلة و أشباهها ممّا قد مرّ الكلام فيها. و منها ما هي ظاهرة أو صريحة في غير المستمرّة، و قد حكم

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 118

فيها بالاستظهار إمّا مطلقا أو بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام إلى غير ذلك.

و منها ما هي محمولة على الثانية لبعض القرائن الداخليّة و الخارجيّة، و هي الروايات الواردة في أنّ المستحاضة تستظهر كما مرّ الكلام فيها.

و منها ما وردت في غير مستمرّة الدم و أمر فيها بالاغتسال و الصلاة بعد عادتها كصحيحة زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: النفساء تكفّ عن الصلاة أيّامها الّتي كانت تمكث فيها ثمّ تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة. «1» و كحسنة عبد- الرحمن بن أعين، قال: قلت له: إنّ امرأة عبد الملك ولدت فعدلها أيّام حيضها، ثمّ أمرها فاغتسلت و احتشت، و أمرها أن تلبس ثوبين نظيفين و أمر بالصلاة، فقالت له:

لا تطيب نفسي أن أدخل المسجد فدعني أقوم خارجا عنه و أسجد فيه، فقال: قد أمر بذا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قال: فانقطع الدم عن المرأة و رأت الطهر، و أمر عليّ عليه السّلام بهذا قبلكم فانقطع الدم عن المرأة و رأت الطهر، فما فعلت صاحبتكم؟ قلت: ما أدري. «2»

حيث تدلّ على أنّه أمرها بعد عادتها و عدول الدم عنها بالاغتسال و الصلاة، فقال له:

إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام أمرا بذلك و كمرسلة داود مولى أبى المغراء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت له: المرأة يكون حيضها سبعة أيّام أو ثمانية أيّام حيضها دائم مستقيم ثم تحيض ثلاثة أيّام ثمّ ينقطع عنها الدم و ترى البياض لا صفرة و لا دما، قال: تغتسل و تصلّي، قلت: تغتسل و تصلّي و تصوم ثمّ يعود الدم، قال: إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر صلّت، فإذا مضت أيّام حيضها و استمرّ بها الطهر صلّت،

فإذا رأت الدم فهي مستحاضة، قد انتظمت لك أمرها كلّه. «3» و كصحيحة الصحّاف على بعض الوجوه و الاحتمالات.

و اختلاف هذه الأخبار صار سببا لاختلاف الأنظار في الجمع بينها في موضوع الاستظهار و الاقتصار و في حكم الاستظهار و مقداره. و قد مرّ في الجهة الاولى أنّ مصبّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 9.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 119

أخبار الاستظهار هو ذات العادة الّتي تجاوز دمها عن عادتها و صارت متحيّرة لأجله، و أنّ مصبّ طائفة من روايات الاقتصار هو مستمرّة الدم، فموضوع كلّ غير الآخر، و لا اختلاف في الأخبار من هذه الجهة.

و أما الروايات الواردة في استظهار المستحاضة فهي ظاهرة في الطائفة الأولى- أي من تجاوز دمها عن عادتها- بمقتضى عنوان الاستظهار و مقتضى رواية الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المستحاضة تقعد أيّام قرئها ثمّ تحتاط بيوم أو يومين، فإذا هي رأت طهرا اغتسلت، و إن هي لم تر طهرا اغتسلت و احتشت «1» أو محمولة عليها بمقتضى مرسلة يونس الّتي نصّت على أنّ مستمرّة الدم إذا كانت لها عادة لا وقت لها و لا سنّة إلّا أيّامها، و هي على أيّامها.

و أما الروايات الواردة في الاقتصار فما هي ظاهرة في مستمرّة الدم كمرسلة يونس و صحيحة معاوية و الحلبيّ و عبد اللّٰه بن سنان فلا إشكال فيها، و ما هي مطلقة يحفظ ظهورها في الوجوب بالنسبة إلى مستمرّة الدم، و يرفع اليد عن وجوب الاقتصار بالنسبة إلى ذات العادة الّتي جازت أيّامها، فتصير كالطائفة الّتي دلّت على الاقتصار ذات

العادة الّتي جازت أيّامها، فحينئذ يقع التعارض ظاهرا بين روايات الاستظهار و هذه الطائفة من أدلّة الاقتصار ممّا تكون ظاهرة في ذات العادة الّتي جازت في أيّامها بالإطلاق أو بالورود في هذا المورد كصحيحة زرارة، فلا بدّ من الجمع بينهما، و الأقرب في النظر حمل جميع الروايات على الإرشاد إلى حكم العقل، و قد مرّ أنّ العقل في المقام يحكم بالتخيير ما دام لم يتّضح حالها و دار الأمر بين المحذورين بناء على حرمة العبادات ذاتا كما هو الأقوى و سيأتي الكلام فيه، فإذا حكم العقل بعد مضيّ أيّام العادة و تحيّر المرأة بين انقطاع الدم على العشرة و عدمه بتخييرها بين الفعل و الترك لم يبق ظهور في الروايات في إعمال التعبّد، فلا يفهم منها إلّا ما هو حكم العقل.

و توهم دلالة هذه الأخبار الكثيرة على وجوب الاستظهار بيوم واحد، فإنّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 120

الاستظهار بالأقلّ هو القدر المتيقّن الثابت بجميع الروايات، فلا بدّ من الأخذ به و حمل سائر المراتب على التخيير أو الاستحباب مدفوع بما دلّ على الاقتصار في اليوم الأوّل في الموضوع الّذي دلّت الروايات على الاستظهار كصحيحة زرارة و موثّقة عبد الرحمن بن أعين و غيرهما، و معها لا بدّ من رفع اليد عن ظهور الروايات في الوجوب لو سلّم ظهورها، مع أنّه غير مسلّم أولا لما مرّ من ورودها في مورد حكم العقل، و في مثله لا يسلّم الظهور في التعبّد، و ثانيا مع هذا الاختلاف الفاحش فيها لا يبقى ظهور لها في الوجوب فضلا عن التعيينيّ، فضلا عنه في اليوم الواحد.

لا يقال: لا يمكن

رفع اليد عن الأوامر الكثيرة الواردة في الاستظهار و الاحتياط و لو سلّم عدم بقاء ظهورها في الوجوب فلا محيص عن الحكم بالرجحان، لا رجحان نفس الاستظهار و الاحتياط، بل يفهم منها ترجيح الشارع جانب الحرمة على جانب الوجوب، فالرجحان بهذا المعنى ممّا لا مناص عنه.

فإنّه يقال: هذا صحيح لو كانت أخبار الاستظهار خالية عن المعارض، لكنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه في كلّ مورد من اليوم الأوّل إلى العاشر ممّا وردت رواية أو روايات على الأمر بالاستظهار وردت رواية أو روايات أخر على الأمر بالاغتسال و الصلاة و عمل الاستحاضة. ففي اليوم الأوّل أي بعد مضيّ أيّام العادة كما وردت روايات بالاستظهار وردت روايات بالاغتسال و الصلاة و عمل المستحاضة كما مرّ؛ و في اليوم الثاني أيضا وردت روايات بالاستظهار مثل ما دلّ عليه بيوم أو يومين، و وردت روايات على أنّها مستحاضة، و هي روايات الاقتصار، و الروايات الّتي دلّت على لزوم الاستظهار بيوم واحد ثمّ الحكم بأنّها مستحاضة؛ و في اليوم الثالث دلّت الطوائف الثلاث على كونها مستحاضة و طائفة أخرى على لزوم الاستظهار، و هكذا. ففي كلّ مورد تعارضت الروايات، فلا يبقى مجال للحمل على الرجحان في جانب منها، و لا يخفى على المتأمّل في جميع الروايات مع التوجّه إلى حكم العقل و تخالف الروايات هذا التخالف الفاحش أنّ ما ذكرنا أولى ممّا ذكره المحقّقون: كالحمل على الوجوب التخييريّ، فإنّه مع الإشكال في أصل التخيير كذلك يرد عليه أنّ الروايات كما عرفت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 121

متعارضة في كلّ يوم يوم فكما ورد الأمر بالاستظهار يوما أو يومين أو ثلاثة إلى عشرة كذلك وردت الروايات الآمرة

بعمل الاستحاضة في كلّ يوم إلى العاشر، فلا بدّ من حمل هذه الطائفة أيضا على الوجوب التخييريّ، فتتخيّر بعد العادة بين الاستظهار بيوم أو يومين إلى العاشر بمقتضى أدلّة الاستظهار على ما تقدّم، و تتخيّر في عمل الاستحاضة بين يوم أو يومين إلى العاشر، و هل هذا إلّا حكم العقل بالتخيير؟

نعم لو قلنا بأنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو مع تساوي الاحتمالين، و أمّا مع كون أحد احتمالي الحيض و الاستحاضة أقوى يتعيّن الأخذ بالأقوى، و قلنا بإطلاق الروايات بالنسبة إلى قوّة الاحتمال و عدمها كان لحمل الروايات على التخيير إلى اليوم العاشر وجه، و عليه كان التخيير شرعيّا لا عقليّا و توهّم عدم جواز التخيير بين فعل الواجب و تركه لا إلى بدل فاسد لأنّ العبادات في أيّام الحيض حرام ذاتيّ، فيكون التخيير بين الحرام و الواجب، و من قبيل الدوران بين المحذورين و إن كان الموضوع في الأخبار أعمّ من الموضوع العقليّ.

و كالحمل على الاستحباب، و هو أسوأ من الأوّل، لعدم رجحان في حمل أخبار الاستظهار على الاستحباب دون الأخبار الآمرة بالاغتسال و عمل الاستحاضة. و أبعد منهما ما صنعه صاحب الجواهر و الشيخ الأعظم من حمل الروايات على التنويع، تارة بحمل ما دلّ على استظهار يوم على من كانت عادتها تسعة أيّام، و ما دلّ على يومين على من كانت عادتها ثمانية، و هكذا؛ و اخرى بحمل ما دلّ على يوم على من تظهر حالها بيوم، و ما دلّ على يومين على من تظهر حالها بعد يومين، و هكذا. و لعمري إنّ الطرح أولى من مثل هذا الحمل الغريب البعيد عن الأذهان، المستحيل ورود مثله من متكلّم يريد إفهام الحكم. و أغرب

منه ما أيّد به كلام صاحب الجواهر من أنّ كلام المعصومين ككلام واحد من متكلّم واحد، و هو كما ترى لا يمكن الالتزام به، و لا معنى له، مع أنّه مستلزم لمفاسد يختلّ بها الفقه، على أنّه لا يصلح الحمل المذكور أيضا. كما أنّ الاستدلال بالاستصحاب و قاعدة الإمكان و ما دلّ على أنّ ما رأت المرأة قبل عشرة أيّام من الحيضة الاولى في غير محلّه، ضرورة أنّ الاستصحاب قد انقطع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 122

بالروايات، و كذا قاعدة الإمكان، و الروايات الأخيرة لا بدّ و أن يكون موضوعها غير موضوع هذه الروايات، و إلّا فمع فرض الاستصحاب و القاعدة و الروايات المذكورة لا يبقى مجال للاحتياط و الاستظهار كما هو واضح.

ثم إنّ موضوع الاستظهار كما قلنا هو المرأة المتحيّرة لأجل الشكّ في قطع الدم على العشرة و عدمه، فمع فرض العلم أو الاطمئنان بأحد الطرفين تخرج عن موضوع الاستظهار، و هذا لا ينافي ما تقدّم منّا آنفا من الإشكال على ما صنعه المحقّقان:

صاحب الجواهر، و الشيخ الأعظم. و بما ذكرنا ظهر ما هو الحقّ في «الجهة الثالثة» و هي مقدار الاستظهار، و هو تابع لبقاء موضوعه.

«تتميم» لو انقطع الدم على العشرة فهل المجموع حيض،

أو أيّام العادة، أو هي مع أيّام الاستظهار دون ما بعدها؟ و هذه المسألة غير ما سبقت من الرؤية ثلاثة أيّام مثلا و انقطاع الدم ثمّ الرؤية ثانيا و الانقطاع قبل عشرة أيّام و إن اشتركتا في بعض الأدلّة.

و كيف كان فالأقوى كون الجميع حيضا كما هو المشهور على ما في طهارة شيخنا الأعظم، بل نسب إلى الأصحاب، بل ادّعي الإجماع عليه كما عن الخلاف و المعتبر و التذكرة و المنتهى و

النهاية. و يدلّ عليه بعد ذلك ما دلّ على حيضيّة الجمع في المسألة المتقدّمة المشار إليها آنفا، كروايتي محمّد بن مسلم أنّ ما رأت المرأة قبل عشرة أيّام فهو من الحيضة الأولى- على تأمّل فيه- و قاعدة الإمكان في خصوص مثل المسألة مضافا إلى الاستصحاب- تأمّل- و أخبار الاستبراء الدالّة على أنّ القطنة إذا خرجت ملوّثة لم تطهر.

و ليس في مقابلها إلّا توهّم دلالة أدلّة الاستظهار على أنّ ما بعد أيّامه مستحاضة و هو كما ترى، ضرورة أنّ هذه الروايات بنفسها تدلّ على أنّ الحكم بالاستحاضة ظاهريّ لا واقعيّ فإنّ جملة منها تدلّ على أنّها في اليوم الثاني بعد الاستظهار مستحاضة و جملة منها تدلّ على أنّها في اليوم الثاني مستظهرة، و كذا في اليوم الثالث تدلّ جملة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 123

على أنّها مستحاضة و جملة على الترخيص في الاستظهار، و معه كيف يمكن القول بالاستحاضة الواقعيّة؟ إلّا أن يقال بالتنويع، و قد مرّ تضعيفه. هذا مضافا إلى ما ورد من أنّها تعمل كما تعمل المستحاضة، كموثّقة سماعة «1» و رواية يعقوب الأحمر عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في النفساء «2» و أوضح منهما رواية حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام، ففيها: «قلت: فما حدّ النفساء؟ قال: تقعد أيّامها الّتي كانت تطمث فيهنّ أيّام قرئها، فإن هي طهرت، و إلّا استظهرت بيومين أو ثلاثة أيّام، ثمّ اغتسلت و احتشت، فإن كان انقطع الدم فقد طهرت، و إن لم ينقطع الدم فهي بمنزلة المستحاضة» «3» فيحمل ما دلّت على أنّها مستحاضة على أنّها بمنزلة المستحاضة و تصنع كما تصنع المستحاضة، و كذا يحمل

على ذلك ما دلّت على أنّ الصفرة بعد أيّام الحيض بيومين ليس من الحيض، كما سبقت الإشارة إليه.

و كيف كان فلا إشكال في هذه المسألة، و لأجل ذلك يرفع الشكّ عن مسألة أخرى و هي كون أيّام العادة حيضا دون غيرها إذا تجاوز الدم عن العشرة، ضرورة أنّه لو كان جميع العشرة حيضا سواء انقطع الدم عليها أو تجاوز عنها لم يبق للمرأة شكّ في حيضيّة ما بعد العادة و وقع جميع أخبار الاستظهار و الاحتياط بلا مورد، و لزم منه الحكم بالعبادة و عمل الاستحاضة في زمان الحيض المعلوم، و هو واضح الفساد، و سيأتي في الاستحاضة تحقيق المقام.

ثم إنّه إذا انقطع على العشرة هل يجب قضاء ما صامت بعد أيّام العادة لتبيّن فساده، أو الأمر بالصيام موجب للإجزاء لو قلنا بأنّ التخيير شرعيّ و الحكم بالاستحاضة و عمل ما تعمله المستحاضة تعبّديّ ظاهريّ، فإنّ الأمر الظاهريّ بالصيام موجب للإجزاء و إلغاء اعتبار الطهارة من الحيض في الصيام؟ و لو لا كون العبادة في أيّام الحيض محرّمة ذاتيّة عليها لم يكن الحكم بالإجزاء بعيدا كما رجّحنا في أمثال

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 20.

(3) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 124

المقام. لكن مع كونها محرّمة ذاتيّة و كون الأمر بالاستحاضة لأجل الدوران بين ترك الواجب و فعل الحرام كالدوران بين المحذورين عقلا لا مجال للإجزاء، ففي مثله لا يستفاد من الأمر بالصيام إلغاء اعتبار الطهور أو إلغاء مانعيّة الحيض. هذا مضافا إلى الإشكال في أصل المبنى أي كون التخيير شرعيّا، فعليها قضاء ما فعلته، كما

ادّعي عدم الخلاف بل الإجماع عليه.

و أما مع تجاوز الدم و كشف كون جميع ما بعد العادة استحاضة فلا إشكال في صحّة ما فعلت بعد أيّام الاستظهار و كذا قضاء ما تركت في أيّامه. و دعوى عدم وجوب القضاء لعدم وجوب الأداء و كون القضاء تابعا له بل كون الأداء حراما على فرض وجوب الاستظهار كما ترى، ضرورة أنّ المستفاد من الأخبار أنّ الاستظهار و الاحتياط بترك العبادة كعمل المستحاضة حكم ظاهريّ كحكم العقل بالتخيير في الدوران بين المحذورين، فيكون الحكم الواقعيّ محفوظا فيجب قضاء ما تركت لدى انكشاف الخلاف، كما أنّ دعوى استفادة عدم القضاء من الأخبار الكثيرة الساكتة عنه في غير محلّها، ضرورة أنّ الأخبار تكون في مقام بيان حكم آخر، كدعوى فهم إلحاق أيّام الاستظهار بالحيض حكما في جميع الآثار، و كيف كان فلا إشكال في الحكم كما هو المشهور نقلا و تحصيلا، بل لعلّه لا خلاف فيه سوى ما عسى أن يظهر من المنقول عن العلّامة كما في الجواهر.

المطلب الرابع في بعض مهمّات أحكام الحيض و الحائض.
اشارة

و لمّا كان كثير من أحكامها واضح المأخذ اقتصرنا على المهمّ منها، و هو أمور:

الأمر الأوّل لا إشكال في حرمة وطئها في القبل حتّى تطهر

كتابا و سنّة و إجماعا، بل في المدارك: أجمع علماء الإسلام على تحريم وطء الحائض قبلا، بل صرّح جمع من الأصحاب بكفر مستحلّه ما لم يدّع شبهة محتملة، لإنكاره ما علم من الدين ضرورة، و لا ريب في فسق الواطئ بذلك و وجوب تعزيره بما يراه الحاكم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 125

مع علمه بالحيض و حكمه (انتهى).

أقول: أمّا كون حرمة الوطء من ضروريّات الإسلام ففي محلّ المنع، فإنّ معنى كون الشي ء ضروريّا عقلا أنّه واضح لا يحتاج إلى الدليل لدى العقول، ككون الواحد نصف الاثنين، و كون الكلّ أعظم من جزئه، و أمّا كون شي ء ضروريّا واضحا لقيام الأدلّة الواضحة عليه لدى طائفة خاصّة دون اخرى لا يوجب ضروريّته لا في الأمور العقليّة و لا في الأمور الشرعيّة، فإنّ كثيرا من الأحكام الشرعيّة ضروريّة واضحة لدى الفقهاء، أو صارت ضروريّة لدى المتعبّدين، أو في بلدة غلب فيها العلماء مع أنّها ليست ضروريّة واضحة عند جميع المسلمين كمطهّريّة المطر و الشمس، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

ثمّ إنّ إنكار الضروريّ لا يكون بنفسه موجبا للكفر، بل إنّما يوجبه إذا كان مستلزما لإنكار الألوهيّة أو التوحيد أو النبوّة كما حقّق في محلّه، و أمّا فسق الواطئ فمبتن على أن يكون الفسق عبارة عن مطلق الخروج عن طاعة اللّٰه، و أمّا لو قلنا بأنّه عبارة عن ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة فلا، لعدم ثبوت كون الوطء حال الحيض كبيرة، و تحقيق المسألة موكول إلى محلّه.

ثم لا إشكال في الحرمة ظاهرا مع قيام أمارة على الحيضيّة،

ككون الدم في أيّام العادة، أو متّصفا بالصفات في مورد أماريّتها، كما أنّه لو تمّت قاعدة الإمكان وجب ترتيب أحكام الحيضيّة للتعبّد بوجود الحيض مع إمكان كون الدم حيضا إن قلنا بأنّ التعبّد بحيضيّة الدم مستلزم عرفا للتعبّد بحائضيّة المرأة. كما أنّ الظاهر أنّ ما اختارت المتحيّرة من أيّام الشهر للحيض يترتّب عليه أحكام الحيض، لا لكون اختيارها طريقا تعبّديّا شرعا للحيضيّة، ضرورة أنّه ليست لاختيارها طريقيّة عقلائيّة أمضاها الشارع و لا دلّ دليل على طريقيّته التعبّديّة، بل لظهور قوله في المرسلة «تحيّضي في كلّ شهر في علم اللّٰه سبعة أيّام ..» في أنّ اختيارها موجب للزوم ترتّب جميع أحكام الحيض على المختار، فيجب معاملة الحيضيّة على ما اختارته، فمعنى التحيّض جعل نفسها حائضا في سبعة أيّام، و مع جعلها تصير

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 126

حائضا تعبّدا بحسب الأحكام.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: معنى «تحيّضي» تكلّفي أعمال الحائض، كما فسّره به أبو عبد اللّٰه عليه السّلام و حينئذ لا يدلّ على الحيضيّة التعبّديّة. نعم، لا يبعد استفادتها من قوله «فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون» فإنّ الوقت المقابل للطهر هو الحيض، و في قوله «فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون» إشعار بها. هذا مضافا إلى أنّ مقتضى العلم الإجماليّ بحيضها في الشهر أيّاما مع عدم العلم بالتعيين لزوم الاحتياط في جميع الشهر للزوج، لكن بعد اختيارها السبع للحيض و الثلاث و العشرين للطهر رخّص الشارع في وطئها أيّام اختيارها الطهر، لقوله «طهرها ثلاث و عشرون» و لقوله في بعض الروايات «كلّ شي ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها».

و أما أيّام الاستظهار فهل تلحق بالحيض و يترتّب عليها جميع أحكامه فلا

يجوز للزوج وطؤها؟ فيه إشكال ينشأ من أنّ مقتضى استصحاب بقاء الدم إلى بعد عشرة أيّام هو كون أيّام ما بعد العادة استحاضة، فإنّ كون أيّام العادة حيضا و ما بعدها استحاضة من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على من استمرّ بها الدم، و باستصحاب بقاء الدم و استمراره بها يثبت الموضوع و يترتّب عليه الأحكام، فيكون حاكما على استصحاب الحرمة الثابتة في أيّام الحيض، كما أنّه حاكم على استصحاب بقاء الحيض أيضا، لأنّ الشكّ في بقاء الحيضيّة و كون ما بعد الأيّام حيضا ناش عن الشكّ في استمرار الدم و بقائه إلى بعد العشرة، و باستصحاب بقائه إلى ما بعدها يرفع هذا الشكّ بالدليل الاجتهاديّ المنقّح موضوعه بالاستصحاب على ما حقّقنا في محلّه من سرّ تقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ.

هذا إذا لم نقل بعدم كون الاستصحاب في المقام معوّلا عليه، و إلّا فإن قلنا بأنّ الإرجاع إلى الاستظهار و الاحتياط دليل على عدم كون الأصل مرجعا في المقام، فمقتضى أصل البراءة مع الشكّ في انقطاع الدم على العشرة و عدمه هو جواز الوطء.

هذا حال الأصل، و أمّا حال أدلّة الاستظهار فلا يفهم منها على كثرتها أنّ أيّام الاستظهار حيض أو يترتّب عليها جميع أحكام الحيض حتّى بالنسبة إلى الزوج، ضرورة أنّ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 127

مفادها الاحتياط و الاستظهار، و لو قلنا بوجوب الاستظهار لم يفهم منها إلّا وجوب الاحتياط على المرأة، و أمّا على الزوج فلا يفهم من مجرّد الأمر بالاستظهار و وجوب الاحتياط على المرأة وجوبه عليه، لاختصاص الأدلّة بها، و للفرق بينهما، فإنّ المرأة تعلم إجمالا إمّا بحرمة الصلاة عليها أو وجوبها، فيكون المورد من دوران الأمر

بين المحذورين بعد القول بالحرمة الذاتيّة- كما هو الأظهر- فرجّح الشارع جانب الحرمة، و أمّا الزوج فمقتضى الأصول جواز الوطء له فلا يقاس حاله بحالها.

نعم، هنا روايات يمكن استفادة الحرمة منها، لكن بناء على وجوب الاحتياط و الاستظهار دون استحبابه. منها رواية الفضيل و زرارة عن أحدهما عليهما السلام و لا يبعد كونها موثّقة للكلام المتقدّم في الزبيريّ و لتوثيق جمع محمّد بن عبد اللّٰه بن زرارة، قال: المستحاضة تكفّ عن الصلاة أيّام أقرائها و تحتاط بيوم أو اثنين ثمّ تغتسل كلّ يوم و ليلة ثلاث مرّات، و تحتشي لصلاة الغداة و تغتسل، و تجمع بين الظهر و العصر بغسل، و تجمع بين المغرب و العشاء بغسل، فإذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها أن يغشاها. «1» فإنّها تدلّ على أنّ حلّيّة الغشيان ملازمة لحلّيّة الصلاة أو مترتّبة عليها، فإن وجب عليها الاستظهار كان الحلّيّة بعده، و أمّا مع الاستحباب فيكون الحلّ بعد أيّام الأقراء، و مجرّد اختيار الاستظهار لا يوجب حرمة الصلاة عليها، لعدم الدليل على صيرورتها حائضا أو بحكم الحائض بالاختيار، ففي اليوم الأوّل لها الاحتياط بترك العبادات و لها إتيانها، و بالاختيار لا تصير حراما عليها، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى ترتّب جواز الوطء على الحلّيّة الفعليّة الّتي هي أعمّ من الذاتيّة و التشريعيّة، و يكون المراد ترتّب الحليّة على الغسل أو عليه مع سائر أعمال المستحاضة، فتكون خارجة عمّا نحن فيه. نعم، بناء على حرمة الصلاة ظاهرا و وجوب الاحتياط عليها تستفاد حرمة الوطء منها.

و فيها احتمال آخر، و هو كونها مربوطة بالمستحاضة المستمرّة الدم أي في غير الدورة الأولى، فالحكم فيها وجوب الاستظهار بعد أيّام العادة يوما أو يومين،

______________________________

(1)

الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 128

لكن بعد تقييدها بموثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه حيث فصّلت بين كون قرئها مستقيما فلتأخذ به و بين كونه غير مستقيم فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين، و قد قلنا سابقا إنّه لا بأس بالعمل بتلك الموثّقة.

و منها صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن أبي جعفر عليه السّلام في الحائض إذا رأت دما بعد أيّامها الّتي كانت ترى الدم فيها فلتقعد عن الصلاة يوما أو يومين، ثمّ تمسك قطنة، فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كلّ صلوتين بغسل، و يصيب منها زوجها إن أحبّ، و حلّت لها الصلاة. «1» هذه الرواية راجعة إلى الدورة الأولى، لكن دلالتها على حرمة الوطء في أيّام الاستظهار و على وجوب الاستظهار أضعف من الاولى.

و منها رواية مالك بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها، ثمّ تستظهر بيوم، فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها، يأمرها فتغتسل ثمّ يغشاها إن أحبّ. «2» و هي تدلّ على ثبوت البأس قبل الاستظهار بيوم و هو أعمّ من الحرمة، مع أنّها ظاهرة في لزوم الاستظهار و قد فرغنا عن عدم لزومه. و الإنصاف أنّه لا دليل على حرمة الوطء في أيّام الاستظهار لو قلنا بعدم وجوبه. و أمّا توقّف الحلّيّة على الغسل فمسألة أخرى سيأتي- إن شاء اللّٰه- التعرّض لها.

الأمر الثاني لا إشكال في جواز استمتاع الزوج من زوجتها الحائض

بما فوق السرّة و دون الركبة، بل الظاهر أنّ الحكم مسلّم بين الفريقين، فما في

بعض الروايات من عدم جواز مطلق الاستمتاع شاذّ مطروح أو مؤوّل. و أمّا الاستمتاع بما بينهما ففيه خلاف بين الفريقين، فعن الحنفيّة و الشافعيّة حرمة الاستمتاع بما بين السرّة و الركبة بغير حائل و جوازه بحائل، و أمّا الوطء فغير جائز مطلقا و لو بحائل؛ و عن المالكيّة عدم جواز التمتّع بما بينهما بوطء، و أمّا

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 15. و ب 1 من أبواب الاستحاضة، ح 14.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 4، و ب 7، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 129

الاستمتاع بغيره ففيه قولان و المشهور بينهم عدم الجواز و لو بحائل، و عن بعضهم الجواز بغير حائل؛ و عن الحنابلة حرمة الوطء فقط و أمّا الاستمتاع بما بينهما بغير حائل فجائز عندهم؛ و المشهور بين أصحابنا بل ادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع عليه جواز الاستمتاع بما بينهما مطلقا حتّى الوطء في الدبر، و عن ظاهر التبيان و المجمع أيضا الإجماع عليه، خلافا لمّا نقل عن السيّد في شرح الرسالة من تحريم الوطء في الدبر بل مطلق الاستمتاع بما بين السرّة و الركبة، و عن الأردبيليّ الميل إليه. و الأولى بيان ما يستفاد من الآية الكريمة ثمّ النظر إلى الأخبار.

قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ لا إشكال بين المسلمين في جواز معاشرة النساء بغير الاستمتاعات في أيّام الحيض، فلا يمكن الأخذ بالمعنى اللغويّ للاعتزال و القرب، فلا بدّ من أن تكون الجملتان كناية، و لا يمكن جعلهما كناية عن مطلق الاستمتاعات و لو بمثل

القبلة و لمس فوق السرّة و الأخذ بالساق لإجماع الفريقين على جوازه، فلا بدّ من جعلهما كناية عن أحد أمور: إمّا الدخول في القبل، و إمّا الأعمّ منه و من الدبر، و إمّا هما مع الاستمتاع بما بين السرّة و الركبة.

و الأرجح هو الأوّل، لأنّ التكنية عنه مناسبة لقوله «قُلْ هُوَ أَذىً» و معلوم أنّ الأذى على ما هو المتفاهم العرفيّ هو القذارة الّتي ابتلي بها الفرج خاصّة في زمان الحيض، و لقوله «حَتّٰى يَطْهُرْنَ» فإنّ الطهر على ما مرّ سابقا هو النقاء عن الدم، فمناسبة الحكم و الموضوع قرينة على المعنى المكنيّ عنه. و أمّا التكنية عن حدّ خاصّ مثل الاستمتاع بما بين السرّة و الركبة بلا حائل كما قال المخالفون، أو عن الوطء في الدبر و القبل، أو عنهما و عن التفخيذ مثلا من غير قيام شاهد و قرينة و تناسب تدلّ عليها فغير صحيح، و بعيد عن الكلام المتعارف فضلا عن القرآن الكريم.

و بالجملة بعد رفع اليد عن المعنى اللغويّ و الحقيقيّ و عن الكناية عن مطلق الاستمتاع المتعارف بين الرجال و النساء لا يمكن التكنية عن غير إتيان الفرج و القبل لعدم التناسب و عدم القرينة، و أمّا هو فموافق للفهم العرفيّ و مناسب لكون المحيض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 130

أذى و لسائر الجمل الّتي في الآية صدرا و ذيلا، لو لم نقل إنّ الاعتزال عن النساء و عدم القرب بنفسهما كناية عرفا عن الدخول المتعارف، و لم نقل إنّ المحيض عبارة عن مكان الحيض كما قال الشيخ الطوسيّ- رحمه اللّٰه.

و تدلّ على المقصود روايات: منها حسنة عبد الملك بن عمرو، قال: سألت أبا عبد

اللّٰه عليه السّلام: ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال: كلّ شي ء ما عدا القبل منها بعينه «1» و منها مرسلة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا حاضت المرأة فليأتها زوجها حيث شاء ما اتّقى موضع الدم. «2» و منها موثّقة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يأتي المرأة في ما دون الفرج و هي حائض، قال: لا بأس إذا اجتنب ذلك الموضع.

«3» و لا إشكال في أنّ المراد بذلك الموضع هو موضع الدم، و بها تفسّر ما في رواية عبد اللّٰه بن سنان «4» و موثّقة معاوية بن عمّار «5» ممّا دلّت على حلّيّة ما دون الفرج، و احتمل فيه أنّ المراد منه ما دون مقابل ما فوق، و إن كان فيه ما فيه.

و منها رواية أخرى لعبد الملك بن عمرو، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: ما يحلّ للرجل من المرأة و هي حائض؟ قال: كلّ شي ء غير الفرج، قال: ثمّ قال: إنّما المرأة لعبة الرجل. «6» و لا يبعد أن تكون إحدى الروايتين نقلا بالمعنى عن الآخر، لبعد سؤاله عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام هذه المسألة مرّتين، فحينئذ تدلّ تلك الرواية على أنّ الفرج هو القبل و لو انصرافا في تلك الأزمنة أيضا، فدلالة تلك الروايات المتقدّمة على المقصود واضحة.

و لا يعارضها ما دلّ على أنّ الاستمتاع مقصور على ما بين الفخذين أو بين الأليتين،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 6.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25؛ 3.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 2.

(6) الوسائل: أبواب الحيض،

ب 25، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 131

كرواية عمر بن حنظلة و صحيحة عمر بن يزيد، ففي الأولى: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما بين الفخذين. «1» و في الثانية: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام:

ما للرجل من الحائض؟ قال: ما بين أليتيها و لا يوقب. «2» و كذا ما دلّ على لزوم الاتّزار كصحيحة الحلبيّ أنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحائض ما يحلّ لزوجها منها؟

قال: تتّزر بإزار إلى الركبتين و تخرج سرّتها، ثمّ له ما فوق الإزار. «3» و قريب منها غيرها، من وجوه:

منها الجمع العقلائيّ بينها، لصراحة الأخبار المتقدّمة بعدم البأس بما عدا القبل بعينه و ظهور هذه في الحرمة، و الجمع بينهما بحملها على الكراهة. و منها موافقة مضمونها خصوصا صحيحة الحلبيّ و نحوها لمذهب أبي حنيفة و الشافعيّ.

و منها مخالفتها للمشهور بين الأصحاب، و لإطلاق الكتاب، و لهذا يشكل القول بالكراهة بواسطة تلك الروايات، لكن لا يبعد القول بها لغيرها ممّا يحكي فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم مع أنّ كراهة الإتيان في القبل كراهة شديدة ثابتة، فالمسألة بلا إشكال، و الاحتياط حسن على كلّ حال.

الأمر الثالث إن وطأها الزوج قبلا في أيّام الحيض وجبت عليه الكفّارة

دونها و إن كانت مطاوعة، كما هو خيرة قدماء أصحابنا، بل هو المجمع عليه كما في الانتصار و الخلاف و الغنية، و عن السرائر أنّه الأظهر في المذهب، و عن الدروس و كشف اللثام أنّه المشهور، و عن التذكرة و الذكرى و جامع المقاصد و شرح الجعفريّة أنّه مذهب الأكثر، و في مفتاح الكرامة أنّ اتّفاق قدماء الأصحاب عليه. و قيل: لا تجب، و هو مذهب أكثر

المتأخّرين كما عن شرح المفاتيح، و هو خيرة النهاية و محكيّ المبسوط و المعتبر و النافع، و خيرة الشرائع بناء على أنّ مراده من الأحوط هو الاستحباب كما عن تلميذه، و فيه إشكال.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 7.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 8.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 26، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 132

و تدل على الأوّل رواية داود بن فرقد الّتي فيها إرسال و ضعف عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في كفّارة الطمث أن يتصدّق إذا كان في أوّل بدينار، و في وسطه نصف دينار، و في آخره ربع دينار. قلت: فإن لم يكن عنده ما يكفّر؟ قال: فليتصدّق على مسكين واحد، و إلّا استغفر اللّٰه و لا يعود، فإنّ الاستغفار توبة و كفّارة لكلّ من لم يجد السبيل إلى شي ء من الكفّارة. «1» و عن الفقه الرضويّ: و متى ما جامعتها و هي حائض فعليك أن تتصدّق بدينار، و إن جامعت أمتك و هي حائض فعليك أن تتصدّق بثلاثة أمداد من الطعام. و إن جامعت امرأتك في أوّل الحيض تصدّقت بدينار، و إن كان في وسطه فنصف دينار، و إن كان في آخره فربع دينار. «2» و في المقنع: و روي: إن جامعها في أوّل الحيض فعليه أن يتصدّق بدينار- إلى آخر التفصيل- «3» و عن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل أتى المرأة و هي حائض، قال: يجب عليه في استقبال الحيض دينار و في وسطه نصف دينار.

و هذه الروايات تدلّ على ما هو المشهور بين القدماء. نعم، ربما يحتمل في رواية داود بن فرقد كونها

بصدد بيان مقدار الكفّارة بعد فرض ثبوتها فلا تدلّ على الوجوب لكنّه ضعيف لعدم مسبوقيّتها بالسؤال، بل الظاهر منها أنّ البيان ابتدائيّ و هو ظاهر في الوجوب، خصوصا قوله في ذيلها «فليتصدّق على مسكين» ممّا هو ظاهر في الوجوب بلا إشكال و يرفع الاحتمال المتقدّم على ضعفه، ضرورة أنّ وجوب البدل دليل على وجوب المبدل منه.

نعم بإزاء هذه الروايات روايات أخر إمّا دالّة على وجوب الكفّارة لكن لا يمكن جمعها معها، أو معارضة معها في وجوبها. فمن الأولى رواية محمّد بن مسلم الّتي لا يبعد أن تكون صحيحة، قال: سألته عمّن أتى امرأته و هي طامث، قال: يتصدّق

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 1.

(2) مستدرك الوسائل: أبواب الحيض، ب 23، ح 1.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 133

بدينار و يستغفر اللّٰه. «1» و موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: من أتى حائضا فعليه نصف دينار و يتصدّق به. «2» و في موثّقة الحلبيّ التصدّق على مسكين بقدر شبعه «3» و في مرسلة عليّ بن إبراهيم التصدّق بدينار في أوّل الحيض و بنصف دينار في آخره. «4»

و من الثانية صحيحة عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل واقع امرأته و هي طامث، قال: لا يلتمس فعل ذلك و نهى اللّٰه أن يقربها، قلت: فإن فعل أ عليه كفّارة؟ قال: لا أعلم فيه شيئا. «5» و في موثّقة زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الحائض يأتيها زوجها، قال: ليس عليه شي ء، يستغفر اللّٰه و لا يعود «6» و في رواية أبي بصير، قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن وقوع الرجل على امرأته و هي طامث خطأ، قال: ليس عليه شي ء و قد عصى ربّه. «7» بناء على كون المراد من الخطأ هو العصيان.

و هذه الروايات كما ترى لا يمكن الجمع بينها، لا بين الروايات الدالّة على مقدار الكفّارة، ضرورة أنّ حمل الدينار بقول مطلق في رواية محمّد بن مسلم و نصف دينار كذلك في رواية أبي بصير و التصدّق على مسكين كذلك في رواية الحلبيّ على التفصيل في رواية داود ليس جمعا عقلائيّا مقبولا، و لهذا قد يقال: إنّ هذه الاختلافات في نفس تلك الروايات شاهدة على أنّ الحكم ليس بإلزامىّ بل حكم استحبابيّ و لو مع الغضّ عن الروايات المعارضة لها؛ و لا بين الطائفة الأخيرة مع الروايات الدالّة على

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 5.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 28، ح 6.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 29، ح 1.

(6) الوسائل: أبواب الحيض، ب 29، ح 2.

(7) الوسائل: أبواب الحيض، ب 29، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 134

لزوم الكفّارة، ضرورة معارضة قوله «لا أعلم فيه شيئا» في جواب قوله «أ عليه كفّارة؟» مع قوله «عليه أن يتصدّق» و قوله «يجب عليه في استقبال الحيض دينار».

و لو حاول أحد الجمع بينهما بحمل «لا أعلم فيه شيئا» على عدم العلم بثبوت شي ء على نحو الوجوب، و قوله عليه كذا أو يجب عليه على ثبوته استحبابا لما بقي مورد للتعارض بين الأخبار، مع أنّ ميزان الجمع و عدم التعارض هو نظر العرف، و لا إشكال في

معارضة هذه الأخبار بنظر العرف، إذ ليس بينها جمع مقبول عقلائيّ، و لو لا الجهات الخارجيّة لكان المتعيّن عمل باب التعارض و العلاج، لكنّ الظاهر عدم وصول النوبة إلى ذلك، ضرورة أنّ إعراض قدماء أصحابنا من مثل صحيحة عيص و موثّقة زرارة ممّا هي معتبرة الإسناد صريحة الدلالة، و العمل بمثل رواية داود بن فرقد ممّا هي مرسلة ضعيفة غير صريحة في المفاد يوجب الوثوق بثبوت الحكم يدا بيد و جيلا قبل جيل إلى عصر المعصوم عليه السّلام خصوصا بالنظر إلى أنّ العامل بها أو بمضمونها و المدّعي للإجماع أو الأظهريّة في المذهب من يكون طريقته العمل بالقطعيّات.

و إن شئت قلت: إنّ الدليل على العمل بالخبر الواحد ليس إلّا طريقة العقلاء، و ما ورد من الشارع في هذا الباب ليس إلّا الإنفاذ لما عليه العقلاء، و لا تأسيس و لا تعبّد للشارع في العمل به، و ليس بناء العقلاء على العمل بمثل تلك الروايات الّتي خرجت عن تحت نظر كبراء الأصحاب و فقهاء المذهب مع تماميّة السند و الدلالة و لم يعملوا بها مع كونها موافقة للأصل و القاعدة، و إنّما عملوا على رواية مرسلة ضعيفة. و الإنصاف أنّ الإعراض و الجبر لو كان لهما محلّ فهذا هو محلّهما.

و أضعف شي ء في المقام هو حمل الروايات الأخيرة على نفي الوجوب و الأوّلة على الاستحباب، مع أنّ التعارض و عدم الجمع العقلائيّ بينهما كالنار على المنار، فلا بدّ لهم من طرح تلك الروايات المعمول بها و العمل بما هي معرض عنها بين الأصحاب و إلّا فلا مجال للجمع، و لكن مع ذلك إنّ المسألة مشكلة لا بدّ من أخذ طريق الاحتياط فيها.

ثم إنّه لا إشكال في

تكرّر الكفّارة مع تكرّر الوطء منه في أوّل الحيض و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 135

وسطه و آخره، بمعنى كون التكرار مع اختلاف الزمان، و أمّا إذا تكرّر في وقت واحد كالثلث الأوّل فهل تتكرّر مطلقا، أوّلا كذلك، أو يفصّل بين ما إذا تخلّل التكفير فتتكرّر و ما لم يتخلّل فلا؟ وجوه، و قبل النظر في مقام الإثبات لا بأس بذكر ما يتصوّر ثبوتا و لوازمه، فنقول:

يمكن أن يكون السبب للكفّارة صرف وجود الوطء، و معناه هو أخذ الطبيعة بقيود لا تنطبق إلّا على أوّل الوجود، و لازم ذلك عدم تكرّر السبب بتكرّر أفراد الطبيعة، لأنّ تكرّرها لا يوجب تكرّره، فوجود الثاني وجود للطبيعة و فرد لها لا لما أخذ سببا، لعدم انطباق السبب إلّا على أوّل الوجودات، و مع عدم تكرّر السبب لا وجه لتكرّر الكفّارة.

و يمكن أن يكون السبب أفراد الطبيعة، سواء كانت الأفراد هي الأفراد الذاتيّة بنفسها، أو مع الخصوصيّات الفرديّة المقارنة أو المتّحدة معها خارجا، و الفرق بينهما أنّ المأخوذ سببا في الأوّل هو نفس ما ينطبق عليه العنوان ذاتا، و تكون الخصوصيّات اللاحقة للأفراد في الخارج غير دخيلة في موضوع الحكم، مثلا إذا قال «أكرم كلّ عالم» فتارة يكون الموضوع للحكم بوجوب الإكرام هو ما ينطبق عليه عنوان العالم بالذات و هو الفرد بما أنّه عالم، فتكون حيثيّة العدالة و الروميّة و الزنجيّة و أمثالها خارجة عن الموضوع، فيكون تمام الموضوع هو العالم بما أنّه عالم، و تارة يكون الموضوع هو الهويّة الخارجيّة مع جميع خصوصيّاتها و متّحداتها فيكون الفرد بجميع خصوصيّاته موضوعا للحكم و حيثيّة العالم جزء موضوع له.

و لازم أخذ الموضوع أفراد الطبيعة

بكلتا الصورتين هو استقلال كلّ فرد بالسببيّة وجد قبله مصداق آخر أولا، لكن تكرّر المسبّب يحتاج إلى جهات أخر كإمكان تكرّره و عدم التداخل في الامتثال و غير ذلك ممّا يأتي الإشارة إليه.

و يمكن أن يكون السبب هو نفس الطبيعة بلا نظر إلى أفرادها و لا أخذها مع قيد لا تنطبق معه إلّا على أوّل الوجودات، فهل لازم ذلك تكرّر السبب بتكرّر وجود الطبيعة أولا؟ قولان مبنيّان على أنّ الطبيعة في الخارج متكثّرة، أو واحدة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 136

و إنّما التكثّر لأفرادها لا لنفسها، و على الأوّل يتكرّر السبب بتكرّر المصاديق دون الثاني.

و التحقيق هو الأوّل، أمّا عقلا فواضح لدى أهله، و أمّا عرفا فلأنّ العرف أيضا يرى أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان إنسان و كذا سائر الطبائع، و يرى تكرّر الإنسان و سائر الطبائع بتكرّر الأفراد، فزيد عند العرف إنسان و عمرو إنسان آخر و بكر كذلك، فإذا كان الموضوع لحكم كالحلّيّة طبيعة البيع فكلّ فرد وجد في الخارج يحكم العرف بحلّيّته لكونه بيعا و ليس معنى «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» أحلّ اللّٰه أفراد البيع لما حقّق في محلّه من أنّ الطبائع لا يمكن أن تكون مرائي لخصوصيّات الأفراد، بل المتفاهم العرفيّ من قوله «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» هو كون البيع بنفسه موضوعا، فإذا وجد في الخارج مصداق وجد به طبيعة البيع الّتي هي الموضوع، و بمصداق آخر أيضا توجد الطبيعة فتصير محكومة بالحلّيّة، و هكذا. فإذا كانت طبيعة المجامعة موضوعة لحكم التكفير و سببا له فكلّ مجامعة في الخارج عين الطبيعة و تتكرّر الطبيعة بتكرّره، فيقال:

وجدت مجامعات كثيرة.

و الشيخ الأعظم قد أصاب الحقّ في أوّل كلامه و

حقّ له أن يصيب، لكنّه رجع في آخر كلامه إلى غير ما هو التحقيق، و تبعه المحقّق صاحب المصباح في ذلك، فقال:

إنّ تعليق الجزاء على طبيعة الشرط لا يقتضي إلّا سببيّة مهيّة الشرط من حيث هي بلحاظ تحقّقها في الخارج مطلقا في الجزاء، من دون أن يكون لأفرادها من حيث خصوصيّاتها الشخصيّة مدخليّة في الحكم، و من المعلوم أنّ الطبيعة من حيث هي لا تقبل التكرار، و إنّما المتكرّر أفرادها الّتي لا مدخليّة لخصوصيّاتها في ثبوت الجزاء، فيكون تحقّق الطبيعة في ضمن الفرد الثاني من الأفراد المتعاقبة بمنزلة تحقّقها في ضمن الفرد الأوّل بعد حصول المسمّى، فكما أنّه لا أثر لتحقّق الطبيعة في ضمن الفرد الأوّل بعد حصول المسمّى عند استدامته إلى الزمان الثاني كذا لا أثر لتحقّقها في ضمن الفرد الثاني بعد كونه مسبوقا بتحقّقها في ضمن الفرد الأوّل- إلى أن قال- و الإنصاف أنّ هذا الكلام قويّ جدّا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 137

أقول: بل الإنصاف أنّ هذا الكلام بمكان من الضعف، و لا يساعده العقل و لا العرف، فإنّ تكرّر الطبائع بتكرّر الأفراد من المرتكزات العرفيّة الّتي تساعدها العقول، ألا ترى أنّ علامة التثنية و الجمع الداخلة على الطبائع إنّما هي لتكثير مدخولها، و ليس في نظر العرف العامّ و أهل اللغات في مثلها مسامحة و تجوّز، و ليس ذلك إلّا لما ارتكز في أذهانهم من قبول الطبائع الكثرة.

و ما قرع الأسماع من أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي أمر غير مربوط بالمقام و ليس المراد منه أنّها لا تقبل الكثرة كما أشار إليه في صدر كلامه بقوله «انّ الطبيعة من حيث هي لا تقبل التكرار»

و لهذا قال بعض أئمّة الفنّ: إنّ الماهيّة لمّا لم تكن كثيرة و لا واحدة كثيرة و واحدة. و ما أفاد و فصّل هذا المحقّق الهمدانيّ هو ما ذهب إليه الرجل الهمدانيّ الّذي صادف الشيخ أبا عليّ بمدينة «همدان» و نحن لسنا بصدد إثبات المطلوب بالوجوه العقليّة البعيدة عن هذا المضمار، لكنّ المدّعى أنّ العرف أيضا مساعد لما عليه العقل في هذا المقام.

فتحصل ممّا ذكر أنّ في إثبات استقلال كلّ مصداق للطبيعة بالسببيّة لا نحتاج إلى إثبات جعل السببيّة للأفراد، بل جعل السببيّة لنفس الطبيعة بلا قيد يثبت المطلوب، فما في تقريرات بعض أعاظم فنّ الأصول من إتعاب النفس لإرجاع القضايا الشرطيّة إلى القضايا الحقيقيّة و إثبات أنّ كلّ فرد سبب مستقلّ، غير محتاج إليه.

مع أنّ أصل الدعوى غير تامّ كما حقّق في محلّه. هذا كلّه حال السبب.

و أما المسبّب في المقام فتارة يكون حكما تكليفيّا مثل قوله «يجب عليه في استقبال الحيض دينار» أو قوله «يتصدّق بدينار» أو «عليه أن يتصدّق» ممّا هو بمنزلة إيجاب التصدّق؛ و اخرى يكون حكما وضعيّا كقوله في رواية أبي بصير «من أتى حائضا فعليه نصف دينار و يتصدّق به» فإن كان الجزاء على النحو الثاني ممّا هو ظاهر في الوضع و يستفاد منه العهدة و الضمان لنفس الدينار يقع التعارض بين إطلاق الجزاء و إطلاق الشرط، و لازم إطلاق الشرط هو سببيّة الطبيعة مطلقا للضمان، و لازم إطلاق الجزاء هو كون الجزاء نفس الطبيعة، و ليس الضمان لنفس طبيعة الدينار

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 138

متكثّرا إلّا بعلّة توجب العهدة للطبيعة بوجود آخر، فلا بدّ من تقييد الدينار بدينار آخر، و إلّا فالدينار

لا يمكن أن يقع في العهدة مرّتين إلّا بتبع وجود آخر، و هو ينافي الإطلاق، و ما ذكرنا هاهنا لا ينافي ما تقدّم منّا آنفا من كون الطبيعة قابلة للتكرار، تأمّل تعرف.

و اما إذا كان الجزاء من قبيل الحكم التكليفيّ أي إيجاب التصدّق فلأحد أن يقول أن لا معارضة بين الجزاء و الشرط، لأنّ كلّ فرد من الطبيعة علّة لإيجاب نفس الدينار، و تصير النتيجة التأكيد في الحكم، و لا يكون التأكيد خلاف الظاهر، لأنّ الهيئة تستعمل في باب التأكيد في معناها المستعمل فيه أوّلا أي معناها الحقيقيّ، و هو البعث الصادر عن الإرادة الأكيدة، و ليس معنى التأكيد استعمال الهيئة في هذا المعنى الاسميّ، بل هو أمر انتزاعيّ من استعمال الهيئة مرّة ثانية في ما استعملت أوّلا فيه متعلّقة بما تعلّقت به في الأوّل، فلا يكون خلاف ظاهر إلّا لما قيل من أنّ التأسيس أولى من التأكيد، و هذا على فرض كونه ظهورا سياقيّا لا يقاوم ظهور الإطلاق، هذا.

لكن الإنصاف أنّ العرف بمساعدة الأمور المرتكزة في ذهنه إذا رأى دلالة الصدر على سببيّة الطبيعة لجميع مصاديقها لا ينقدح في ذهنه أنّ في تكرّر المسبّب خلاف ظاهر، من غير فرق بين كون المسبّب أمرا وضعيّا أو تكليفيّا و لا يحمل الأمر على التأكيد، و يكون الصدر عند العرف قرينة على الذيل. و لعلّ سرّه هو الارتكاز الّذي حصل في ذهنه من العلل الطبيعيّة كما احتملناه في الأصول و حقّقنا المسألة بجميع شئونها فيه. هذا حال مقام الثبوت.

و اما حال الأدلّة و مقام الإثبات فالظاهر أنّ مستند المشهور في أصل الحكم هو رواية داود بن فرقد كما تمسّك بها شيخ الطائفة، و لا يبعد أن تكون

مرسلة المقنع أيضا إشارة إليها، و إن كان يحتمل كونها مرسلة أخرى مستقلّة. و كيف كان فالظاهر المتفاهم عرفا منها أنّ الإتيان في حال الطمث موضوع لحكم الكفّارة، و تكون الرواية من هذه الجهة في مقام البيان، و لا يضرّ عدم ذكر اسم «كان» بالمقصود بعد القطع بأنّ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 139

اسمه الجماع أو الإتيان أو نحو ذلك، كما أنّ المرسلة المقنع إطلاقا في مقام البيان، و مفاده أنّ المجامعة تمام الموضوع لوجوب الكفّارة كإطلاق معاقد الإجماعات.

فدعوى صاحب الجواهر أنّها في مقام الإهمال في غير محلّها، مع أنّه على فرض الإهمال لا وجه للفرق بين تخلّل الكفّارة و عدمه. و تشبّثه بوجود المقتضي و عدم المانع ممّا لا مجال له، لعدم ثبوت المقتضي بعد فرض إهمال الأدلّة و كون مفادها أنّ الوطء في الجملة سبب.

و الانصاف أنّه لا إهمال في الروايات، نعم لو قيل بعدم ثبوت كون مستند المشهور هو رواية داود و مرسلة المقنع و القدر المتيقّن من الإجماع هو ثبوت السببيّة في الجملة لكان للقول بعدم التكرّر مطلقا حتّى مع التخلّل مجال، لكنّ الاحتمال ضعيف لحصول الوثوق بكون مستندهم هو رواية داود أو هي مع مرسلة المقنع و فقه الرضا خصوصا بعد تمسّك الشيخ بها. و مع إطلاقها لا يبعد إلحاق الزنا و الشبهة في وجوب الكفّارة، و دعوى الانصراف في غير محلّها بعد تعليق الحكم على الطمث، و لا ينافي أن يكون للوقاع في حال الطمث كفّارة و للزنا حدّ من غير كفّارة و مع اجتماع العنوانين في محلّ يرتّب الحكمان عليه، فلا تكون الكفّارة للزنا حتّى يقال إنّ الزنا أعظم من ذلك، كما أنّ

دعوى الأولويّة في غير محلّها. و الإنصاف أنّ الوسوسة في الإطلاق أو تخيّل الانصراف غير وجيهين.

ثم إنّ الدينار هو الشرعيّ المسكوك المتداول في عصر صدور الروايات، لكن لمّا كان الرائج في تلك الأعصار هو الدرهم و الدينار و كانا ثمنين متداولين بين الناس لا يفهم من الأدلّة خصوصيّة لعين الدينار، فيجوز قيمته بالأثمان لا بالعروض، و كذا في كلّ مورد حكم بالدينار. نعم، لو كان عصر الصدور كعصرنا في كون الدينار أي الذهب المسكوك غير رائج في المعاملات و كون حكمه حكم العروض لكان لاحتمال الخصوصيّة وجه، لكن من المعلوم خلافه، فلا ينبغي الإشكال في كفاية الثمن الرائج، كما لا ينبغي الإشكال في اعتبار القيمة يوم الأداء، لأنّ التكليف متعلّق بتصدّق الدينار فيجب تصدّق الدينار وقت الأداء.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 140

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ لكلّ حيض أوّلا و وسطا و آخرا، و لو لا تسلّم الحكم بين الأصحاب و ادّعاء السيّد الإجماع على أنّ في الثلث الأوّل دينارا و في الثلث الوسط نصفا و في الثلث الآخر ربعا لكان للإشكال في تعيينها مجال، فإنّ أوّل الحيض و وسطه و آخره كأوّل الشهر و وسطه و آخره، فكما أنّ المتفاهم من الثاني اليوم الأوّل و الوسط و الآخر فكذا في الأوّل. و لو قيل إنّ الحيض أمر ممتدّ إلى ستّة أيّام مثلا لكان الأوّل منه و الوسط و الآخر غير الثلث الأوّل و الوسط و الآخر عرفا، خصوصا على نسخة الوسائل حيث نقل فيها مرسلة المقنع مكان الوسط النصف، و لكنّ الظاهر خطأ النسخة، لأنّ ما في المقنع هو الوسط كما في سائر الروايات. لكن بعد تسلّم كون

ما بين اليوم الأوّل و الوسط و كذا ما بين الوسط و الآخر غير خال عن الكفّارة لا يبعد دعوى فهم العرف التثليث.

و اما احتمال كون الوسط بين اليوم الأوّل و الآخر أيّ مقدار كان فضعيف، لأنّ الوسط نسب إلى الحيض لا إلى الأوّل و الآخر. نعم، لو كان اللفظ الأوّل و الآخر و ما بينهما لكان ظاهرا في ذلك، لكن أوّل الحيض و وسطه و آخره ظاهر في الاحتمال الأوّل، و بعد ثبوت الكفّارة في جميع أيّامه لا محيص من التثليث.

ثم إنّ إلحاق النفاس بالحيض في ذلك ممّا لا دليل عليه، و دعوى الإجماع المتكرّرة على أنّ النفاس في جميع الأحكام كالحيض بعد استثناء موارد كثيرة و اختلافهما في الأحكام العديدة لا يمكن الاتّكال عليها، مع إمكان أن يكون الاشتراك المدّعى في التكليفيّات.

الأمر الرابع إذا طهرت الحائض جاز لزوجها وطؤها قبلا قبل الغسل

و لا يجب عليها الغسل للوطء كما هو المشهور نقلا عن التذكرة و المختلف و المنتهى و جامع المقاصد، و عن الخلاف و الانتصار و الغنية و ظاهر التبيان و المجمع و السرائر و الروض و أحكام الراونديّ دعوى الإجماع عليه، و عن الصدوق عدم الجواز قبل اغتسالها، لكنّه قال في آخر كلامه: إنّه إن كان زوجها شبقا أو مستعجلا و أراد وطأها قبل الغسل أمرها أن تغسل فرجها ثمّ يجامعها. و هذا كما ترى خصوصا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 141

بملاحظة عطف الاستعجال على الشبق يدلّ على أنّ مراده الكراهة الشديدة لا الحرمة.

و كيف كان فيدلّ على المشهور الآية الشريفة، و هي قوله- عزّ و علا- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ

حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ سواء في ذلك قراءة التخفيف و التضعيف، أمّا الأولى فظاهر، ضرورة أنّ صدر الآية يدلّ على أنّ وجوب الاعتزال متفرّع على الأذى، و أنّ المحيض بما أنّه أذى صار سببا لإيجابه، و قوله «وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ» ظاهر في كونه بيانا لقوله «فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ» لا لأمر آخر غير مربوط بالحيض و الأذى، فكأنّه قال: إنّ المحيض لمّا كان أذى فاعتزلوهنّ و لا تقربوهنّ حتى يرتفع الأذى و يطهرن من الطمث. و قوله «فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ» تفريع على ذلك، و ليس مطلبا مستأنفا مستقلّا بشهادة فاء التفريع و الفهم العرفيّ، فيكون معناه إذا صرن طاهرات، على أحد معاني باب التفعيل.

و الحمل على الاغتسال أو الوضوء أو غسل الفرج يدفعه السياق و التفريع، و ينافي صدر الآية الّذي هو ظاهر في علّيّة نفس المحيض الّذي هو أذى في وجوب الاعتزال و حرمة القربان.

و ما قيل من أنّ التطهّر فعل اختياريّ، و يشهد به ذيل الآية، لأنّ تعلّق الحبّ إنّما هو على فعل اختياريّ، في غير محلّه إن أريد ظهوره في ذلك، ضرورة أنّ لصيغة التفعّل معاني و موارد للاستعمال بعضها مشهور و بعضها غير مشهور كالمجي ء للصيرورة، نحو «تأيّمت المرأة» أي صارت أيّما، و للانتساب، نحو «تبدّى» أي انتسب إلى البادية. و الظاهر في المقام بمناسبة التفريع على ما سبق و بما أنّ الظاهر من الآية أنّ المحيض هو تمام الموضوع للحكم بالاعتزال و عدم القربان هو كونه بمعنى الصيرورة.

و دعوى عدم تعلّق الحبّ إلّا بالفعل الاختياريّ غير وجيهة، كما ورد «إنّ اللّٰه جميل و يحبّ الجمال» و لا إشكال في تعلّق الحبّ على أمور غير اختياريّة إلى ما

شاء اللّٰه.

و أغرب من ذلك دعوى كون الطهر حقيقة شرعيّة للطهارات الثلاث،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 142

ضرورة أنّ استعمال الطهر في المقابل للطمث شائع لغة و عرفا و في الأخبار المتظافرة، فاختصاصه بها على فرض تسليم الحقيقة الشرعيّة ممنوع، كما أنّ حصول الحقيقة الشرعيّة عند نزول الآية ممنوع، و تقدّم الحقيقة الشرعيّة على العرفيّة و اللغويّة لا يخلو من منع. و بالجملة من تأمّل الآية الكريمة و خصوصيّاتها صدرا و ذيلا لا يشكّ في أنّ المراد من الطهر و التطهّر هو زوال الأذى الّذي هو المحيض.

و ممّا ذكرنا يظهر تقريب الدلالة على قراءة التضعيف، فإنّ صدر الآية كما عرفت ظاهر في أنّ المحيض الّذي هو أذى موجب لوجوب الاعتزال، و معه تكون الغاية لرفعه هو ارتفاع الأذى، فيصير ذلك قرينة على تعيين أحد المعاني لباب التفعّل و هو الصيرورة، و ليس في هذا ارتكاب خلاف ظاهر بوجه، و لا يمكن العكس بحمل التطهّر على الاغتسال و رفع اليد عن ظهور الصدر، لأنّ حمله عليه بلا قرينة بل مع القرينة على ضدّه غير جائز، و يلزم منه حمل صدر الآية على خلاف ظاهره، ضرورة أنّه مع كون غاية الحرمة هي الاغتسال لا يكون المحيض الّذي هو أذى سببا لوجوب الاعتزال، بل لا بدّ و أن يكون حدث الحيض ممّا هو باق بعد رفعه سببا له، مع أنّه خلاف ظاهر بارد بلا قرينة و شاهد، و بالجملة دار الأمر بين حفظ ظهور الصدر و قرينيّته لتعيين أحد المعاني للّفظ المشترك، و بين حمل اللفظ المشترك على بعض معانيه بلا قرينة و رفع اليد عن ظاهر آخر بلا وجه.

فتحصل ممّا ذكرنا أنّ ما

عليه أصحابنا هو الظاهر من الآية الشريفة بعد ملاحظة الصدر و الذيل و قرينيّة بعض الكلام المبارك لبعض، و عليه فلا مجال للدعاوي الّتي في الباب خصوصا ما فصّل شيخنا الشهيد في الروضة من الوجوه الكثيرة، و تبعه في بعضها الشيخ الأعظم مع إضافات غير وجيهة.

هذا مع أنّ ترجيح قراءة التخفيف على التضعيف كالنار على المنار عند أولي الأبصار، ضرورة أنّ ما هو الآن بين أيدينا من الكتاب العزيز متواتر فوق حدّ التواتر بالألوف و الآلاف، فإنّ كلّ طبقة من المسلمين و غيرهم ممّن يبلغ الملايين أخذوا هذا القرآن بهذه المادّة و الهيئة عن طبقة سابقة مثلهم في العدد، و هكذا إلى صدر الإسلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 143

و قلّما يكون شي ء في العالم كذلك، و هذه القراءات السبع أو العشر لم تمسّ كرامة القرآن رأسا، و لم يعتن المسلمون بها و بقرّائها، فسؤره الحمد هذه ممّا يقرؤها الملايين من المسلمين في الصلوات آناء الليل و أطراف النهار، و قرأها كلّ جيل على جيل، و أخذ كلّ طائفة قراءة و سماعا من طائفة قبلها إلى زمان الوحي ترى أنّ القرّاء تلاعبوا بها بما شاءوا، و مع ذلك بقيت على سيطرتها، و لم يمسّ كرامتها هذا التلاعب الفضيح، و هذا الدسّ القبيح، و هو أدلّ دليل على عدم الأساس لتواتر القراءات إن كان المراد تواترها عن النبيّ الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم مؤيّدا بحيث وضعه بعض أهل الضلال و الجهل، و قد كذّبه أولياء العصمة و أهل بيت الوحي قائلا: إنّ القرآن واحد من عند واحد. هذا مع أنّ كلّا من القرّاء على ما حكي عنهم استبدّ

برأيه بترجيحات أدبيّة و كلّما دخلت امّة لعنت أختها! و ظنّي أنّ سوق القراءة لمّا كان رائجا في تلك الأعصار فتح كلّ دكّة لترويج متاعه و اللّٰه تعالى بري ء من المشركين و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم.

نعم ما هو المتواتر هو القرآن الكريم الموجود بين أيدي المسلمين و غيرهم، و أمّا غيره من القراءات و الدعاوي فخرافات فوق خرافات، ظلمات بعضها فوق بعض! و هو تعالى نزّل الذكر و حفظه أيّ حفظ، فإنّك لو ترى القرآن في أقصى بلاد الكفر لتراه كما تراه في مركز الإسلام و أيدي المسلمين، و أيّ حفظ أعظم من ذلك؟! ثم إنّه لو فرضنا تواتر القراءات و الإجماع على وجوب العمل بكلّ قراءة وقع التعارض ظاهرا بين القراءتين، و لكنّ التأمّل في ما أسلفناه يقضي بالجمع العقلائيّ بينهما بحمل التطهّر على الطهر بعد الحيض، فإنّ رفع اليد عن ظهور التطهّر في الفعل الاختياريّ على فرض تسليمه و حفظ ظهور الصدر الدالّ على أنّ المحيض بما هو أذى علّة أو موضوع لحرمة الوطء و وجوب الاعتزال أهون من رفع اليد عن الظهور السياقيّ للطهر في كونه مقابل الحيض، و عن الظهور القويّ للصدر المشعر بالعلّية أو الظاهر فيها، فإنّ الغاية إذا كانت هي الاغتسال فلا بدّ أن تكون العلّة أو الموضوع حدث الحيض، لا الحيض الّذي أخذ في الآية موضوعا، بل لا بدّ و أن يحمل الأذى على التعبّديّ لا العرفيّ المعلوم للعقلاء، و كلّ ذلك خلاف الظاهر، و ارتكابه بعيد. و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 144

أمّا حمل التطهّر على صيرورتها طاهرا فغير بعيد بعد قضاء مناسبة الحكم و الموضوع له، فترجيح

الشيخ الأعظم كأنّه وقع في غير محلّه.

ثم مع الغضّ عن دلالة الآية الشريفة فمقتضى عموم الكتاب و السنّة أو إطلاقهما هو جواز إتيان النساء في كلّ زمان، خرج منه أيّام المحيض و بقي الباقي تحت العموم أو الإطلاق. و لا مجال للتمسّك باستصحاب حكم المخصّص كما حقّق في محلّه، خصوصا إذا قلنا إنّ قوله تعالى «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ» بمعنى متى شئتم.

و اما الإشكال في أصل جريان الاستصحاب بدعوى أنّ الحرمة منوطة بأيّام الحيض أو الحائض و قد ارتفع المناط على كلّ تقدير بعد الطهر من الحيض فغير وجيه، أمّا أوّلا فلأنّ الموضوع لوجوب الاعتزال و حرمة القربان هو النساء بعلّيّة الحيض، و مع الشكّ في كون العلّة واسطة في الثبوت أو العروض لا إشكال في جريان الاستصحاب؛ و أمّا ثانيا فلأنّه لو فرضنا أنّ الحكم تعلّق بعنوان الحائض لكن بعد انطباق العنوان على الخارج تكون المرأة الحائض موضوعة له، و بعد ارتفاع صفتها بقي موضوع الاستصحاب و إن لم يبق موضوع الدليل. فمناقشة الشيخ الأعظم في الاستصحاب و تمسّكه بأصل الإباحة كأنّها على خلاف مبناه في الأصول.

هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار، و أمّا بالنظر إليها فالحكم أوضح، لدلالة روايات ابن بكير و ابن يقطين و ابن المغيرة على الجواز صراحة، ففي الأولى الّتي لا يبعد كونها موثّقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا انقطع الدم و لم تغتسل فليأتها زوجها إن شاء. «1» و في الثانية الّتي سندها كذلك عن أبي الحسن عليه السّلام، قال:

سألته عن الحائض ترى الطهر، يقع بها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: لا بأس، و بعد الغسل أحبّ إليّ. «2» و في الثالثة الّتي فيها إرسال

عن العبد الصالح في المرأة إذا طهرت من الحيض و لم تمسّ الماء فلا يقع عليها زوجها حتّى تغتسل، و إن فعل فلا بأس به. و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 145

قال: تمسّ الماء أحبّ إليّ. «1»

و لا يعارضها رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن امرأة كانت طامثا فرأت الطهر أ يقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال: لا، حتّى تغتسل. قال: و سألته عن امرأة حاضت في السفر ثمّ طهرت فلم تجد ماء يوما و اثنين، أ يحلّ لزوجها أن يجامعها قبل أن تغتسل؟ قال: لا يصلح حتّى تغتسل. «2» و رواية سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت له: المرأة تحرم عليها الصلاة ثمّ تطهر فتوضّأ من غير أن تغتسل، أ فلزوجها أن يأتيها قبل أن تغتسل؟ قال: لا، حتّى تغتسل. «3» و صحيحة أبي عبيدة- على الأصحّ- قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام- إلى أن قال- فيأتيها زوجها في تلك الحال؟ قال: نعم، إذا غسلت فرجها و تيمّمت فلا بأس. «4» و موثّقة عبد- الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة حاضت ثمّ طهرت في سفر، فلم تجد الماء يومين أو ثلاثا، هل لزوجها أن يقع عليها؟ قال: لا يصلح لزوجها أن يقع عليها حتّى تغتسل. «5» من وجوه، أقربها وجود الجمع العقلائيّ المقبول بينها، بل في روايات المنع إشعار أو دلالة على الكراهة، هذا مع موافقتها للعامّة و مخالفتها للكتاب و الشهرة، فلا إشكال

في الحكم من هذه الجهة.

و اما صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في المرأة ينقطع عنها الدم دم الحيض في آخر أيّامها، قال: إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغتسل فرجها ثمّ يمسّها إن شاء قبل أن تغتسل. «6» فغير صالحة للشهادة بالجمع بين الأخبار و التفصيل بين الشبق و غيره كما عن الصدوق، ضرورة أنّ نفس تلك الصحيحة بتعليق الحكم على الشبق

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 4.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 6.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 7.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 21، ح 1.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 21، ح 3.

(6) الوسائل: أبواب الحيض، ب 27، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 146

دالّة على أنّ الحكم على سبيل الكراهة لا الحرمة، و إلّا فلم يكن يعلّقه على شدّة الميل و الشبق.

ثم إنّ ظاهر الصحيحة هو كون الانقطاع في آخر أيّام الحيض لا بعد أيّامه- كما هو ظاهر «آخر أيّامها»- بل يشعر به قوله «ينقطع عنها الدم» فما في الفروض من أنّ الدليل و الفتوى شامل للانقطاع قبل انقطاع العادة وجيه لما ذكرنا و لإطلاق بعض الأدلّة، فما ربما يستشكل من جهة احتمال معاودة الدم لأنّ عوده في العادة من الأمور الجبلّيّة بخلافه بعدها في غير محلّه. نعم، لو كانت عادتها الرجوع بعد الانقطاع و لو بالعادة الشرعيّة لكان الإشكال في محلّه، بل الظاهر خروج مثله عن موضوع أدلّة الجواز و دخوله في أيّام العادة كما مرّ الكلام فيه.

ثمّ إنّ ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم وجوب غسل الفرج شرطا لجواز إتيان الزوج كما عن ظاهر الأكثر و صريح الغنية، و في

المجمع و عن ظاهر التبيان و أحكام الراونديّ توقّفه على أحد الأمرين: غسل الفرج، أو الوضوء، و لم يتّضح دليل الثاني. و عن الحلّيّ و المحقّق في المعتبر و الشهيد الندب، و هو الأقوى، لقوّة ظهور الآية الشريفة في عدم دخل شي ء غير ارتفاع الحيض و حصول الطهر من وجوه: كالتعليل المستفاد من تفريع الاعتزال على الأذى الذي هو المحيض، و من جعل الغاية لحرمة القربان الطهر منه، و من تفريع التطهّر عليه- و قد مرّ ترجيح حمله على حصول الطهر- و من ظهور الآية في علّيّة التطهّر الّذي هو حصول الطهر لجواز الإتيان، و لعموم آية حرثيّة النساء أو إطلاقها، و إطلاقات الروايات الّتي في مقام البيان، و من جعل غسل الفرج قرينا للتيمّم في صحيحة أبي عبيدة المتقدّمة، و لا إشكال في عدم شرطيّة التيمّم وجوبا، لأنّه بدل الغسل الّذي قد عرفت عدم شرطيّته للجواز، فنفس هذا الاقتران يشعر بل يدلّ على كون الغسل من قبيل التيمّم، كما أنّ جعل الجزاء عدم البأس مشعر أو دالّ على الكراهة مع فقدانهما أو فقدان أحدهما.

و من جميع ذلك يعلم تعيّن حمل صحيحة ابن مسلم على الرجحان أو رفع الكراهة فيستفاد من مجموع الروايات كون الكراهة ذات مراتب، يرفع جميعها بالغسل، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 147

بعضها بالتيمّم و غسل الفرج، ثمّ بالتيمّم فقط أو غسل الفرج فقط. و أمّا الوضوء و إن لم نعثر على دليله، لكن لا بأس باستحبابه بعد ظهور فتوى الشيخ في التبيان و أحكام الراونديّ على ما حكي، و بعد نسبة الطبرسيّ ذلك إلى مذهبنا، و الأولى الإتيان به رجاء.

ثم إنّ الظاهر من أدلّة بدليّة

التيمّم للغسل و التراب للماء و كونه أحد الطهورين و ربّه و ربّ الماء واحد هو قيامه مقامه في زوال المنع على القول به و في زوال الكراهة على المشهور لو لا بعض الأخبار الدالّة على بقاء الكراهة بمرتبة، و ما يقال انّ بدليّته له إنّما هي في ما يشترط بالطهر دون مطلق الأغسال ففيه أنّ ما نحن فيه أيضا كذلك، لأنّ الظاهر من الأدلّة هو اشتراط الجواز على فرضه و زوال الكراهة بالطهور الّذي هو شرط الصلاة. و قد يقال انّ أثر التيمّم يزول بالجماع و معه لا معنى له، و فيه- على ما سيأتي في محلّه- منع زوال أثره أي رفع حدث الحيض عن موضوع الفاقد كسائر الأحداث و أنّ التيمّم رافع لا مبيح، هذا مع أنّ صحيحة أبي عبيدة و رواية الساباطيّ تدلّان على المقصود، و المناقشة في سند الاولى في غير محلّه، فإنّ «سهل بن زياد» و إن ضعّف لكنّ المتتبّع في رواياته يطمئنّ بوثاقته من كثرة رواياته و إتقانها و اعتناء المشايخ بها فوق ما يطمئنّ من توثيق أصحاب الرجال، كما رجّحنا بذلك وثاقة إبراهيم بن هاشم القميّ و محمّد بن إسماعيل النيشابوريّ رواية الفضل بن شاذان و غيرهما، و لا أستبعد كون الزبيريّ أيضا من هذا القبيل.

الأمر الخامس إذا طهرت [الحائض] وجب عليها الغسل

للغايات المشروطة بالطهارة وجوبا شرطيّا، و هو غير الوجوب المقدّميّ لما قد ذكرنا في محلّه من عدم وجوب المقدّمة شرعا، بل أثبتنا عدم تعقّل وجوبها الشرعيّ. و أمّا الوجوب الشرطيّ للطهور سواء كان بمعنى نفس الأغسال و الوضوء أو أمر حاصل منها فلا مانع منه، لكونه إرشادا إلى الحكم الوضعيّ، لا بمعنى استعمال الهيئات الموضوعة للبعث و الإغراء في المعنى الوضعيّ، بل

بمعنى استعمالها في معانيها لغرض إفهام التوقّف و الحكم الوضعيّ، فقوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 148

- إلخ-» بعث و إغراء إلى الغسل و المسح لكن لغرض إفهام اشتراط الصلاة بهما أو بما يحصل منهما، و بهذا المعنى يقال للوضوء أنّه فريضة، و كذا للغسل.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد بالفريضة المستعملة في الروايات على الوضوء و الغسل هو الفريضة في الصلاة، أي ما هو لازم للصلاة، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة في باب الوضوء، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الفرض في الصلاة، فقال: الوقت، و الطهور، و القبلة، و التوجّه، و الركوع، و السجود، و الدعاء. «1» فمقارنة الوقت سائر المذكورات دليل على أنّ الفرض فيها كالفرض فيه، و معلوم أنّ المراد بكون الوقت فرضا في الصلاة ليس إلّا كون الوقت شرطا فيها أو كون الصلاة المقيّدة به واجبة، لا أنّ الوقت واجب نفسيّ أو غيريّ، و حال سائر المذكورات كحاله، فلا يكون الوضوء و الغسل فريضة نفسية أو غيريّة، بل هما مستحبّان عباديّان و جعلا شرطا للصلاة بما هما كذلك، و لهذا لا يقعان بلا قصد التقرّب، و لا يمكن أن يكون ذلك لأجل الأمر الغيريّ المقدّميّ لو فرض إمكان هذا الأمر و تحقّقه، ضرورة أنّ الأمر الغيريّ لا يتعلّق إلّا بما هو موقوف عليه و به يتوصّل إلى ذي المقدّمة، فلو توقّفت الصلاة على الغسل مطلقا لم يدع الأمر إلّا إليه، و لازمة صحّته و لو بلا قصد التقرّب كسائر الشرائط، و لو توقّفت على الغسل العباديّ فلا بدّ من تقدّم عباديّته على الأمر الغيريّ و لا يعقل أن

يكون الأمر الغيريّ مصحّحا لعباديّته، و التفصيل موكول إلى محلّه.

و كيف كان فالتحقيق عدم وقوع الطهارات إلّا مستحبّة نفسيّة، و لا تخرج بواسطة وقوعها مقدّمة للواجب عمّا هي عليها، كما لا يوجب تعلّق النذر و العهد بها انقلابها عمّا هي عليها، ضرورة أنّ متعلّق وجوب النذر هو عنوان الوفاء لا عنوان الوضوء و الغسل و إن اتّحد العنوانان في الخارج، و الاتّحاد في ظرف العين لا يمكن أن يكون موجبا لسراية الوجوب عن عنوان إلى آخر. فالواجب المقدّميّ الغيريّ على فرض التسليم ليس إلّا حيثيّة ما يتوصّل به إلى ذي المقدّمة، لا ذات المقدّمة على ما هو التحقيق من وجوب المقدّمة الموصلة بما أنّها موصلة على فرض وجوبها، و هي متّحدة

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الوضوء، ب 1، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 149

في الخارج مع ذات المقدّمة، و لا يسري الوجوب من موضوعه إلى موضوع آخر و لو اتّحد العنوانان في الخارج كما حقّق في محلّه. فلا يكون الغسل واجبا غيريّا كما لا يكون واجبا نفسيّا. و لا يمكن استفادة الوجوب النفسيّ من الأوامر المتعلّقة به، ضرورة ظهورها في الإرشاد بالمعنى المتقدّم في أمثال المقام، فما عن المدارك من تقوية الوجوب لذاته في غير محلّه.

ثم إنّ المشهور عدم إجزاء الغسل غير الجنابة عن الوضوء للصلاة و غيرها ممّا هي مشروطة بالطهور، بل عن الصدوق أنّ لزوم الوضوء معه من دين الإماميّة، و لم ينقل الخلاف من المتقدّمين إلّا عن السيّد و أبي علىّ. و الأقوى ما هو المشهور حتّى مع قطع النظر عن الشهرة الّتي هي في مثل تلك المسألة حجّة برأسها، للعمومات الدالّة على لزوم الوضوء عند عروض

أسبابه، و لا يمكن تخلّفه في ما نحن فيه حتّى نحتاج إلى عدم القول بالفصل مع عدم تماميّة أدلّة الخصم، فلا بدّ من بيان حال الروايات حتّى يتّضح الحال، فنقول: إنّ الأخبار على طوائف:

منها ما يدلّ على أنّ الغسل يجزي عن الوضوء من غير قيد، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الغسل يجزي عن الوضوء، و أيّ وضوء أطهر من الغسل؟ «1» و مرسلة الكليني، قال روي: أيّ وضوء أطهر من الغسل؟ «2» و صحيحة حكم بن حكيم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن غسل الجنابة- إلى أن قال- قلت: إنّ الناس يقولون يتوضّأ وضوء الصلاة قبل الغسل، فضحك و قال: و أيّ وضوء أنقى من الغسل و أبلغ؟

«3» بناء على كون الذيل بصدد بيان الماهيّة لا غسل الجنابة.

و منها ما دلّ على أنّ الوضوء معه بدعة، كصحيحة سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الوضوء بعد الغسل بدعة. «4» و رواية عبد اللّٰه بن سليمان، قال: سمعت

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 8.

(3) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 33، ح 4.

(4) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 150

أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: الوضوء بعد الغسل بدعة. «1»

و منها ما ورد في خصوص غسل الجنابة، كصحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام ذكر فيها كيفيّة غسل الجنابة فقال: ليس قبله و لا بعده وضوء. «2» و رواية محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ أهل الكوفة يروون عن عليّ أنّه كان يأمر بالوضوء قبل

الغسل من الجنابة، فقال: كذبوا على عليّ، ما وجدوا ذلك في كتاب عليّ، قال اللّٰه تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا. «3» و صحيحة البزنطيّ عن أبي الحسن عليه السّلام قال بعد ذكر كيفيّة غسل الجنابة و آدابه: و لا وضوء فيه. «4».

و منها ما فصّل بين غسل الجنابة و غيره كمرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كلّ غسل قبله وضوء إلّا غسل الجنابة. «5» و روايته الأخرى الصحيحة إليه عن حمّاد بن عثمان أو غيره عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: في كلّ غسل وضوء إلّا الجنابة. «6».

و هذه الروايات كما ترى قابلة للجمع العقلائيّ بحمل الروايات المطلقة على غسل الجنابة بشهادة الطوائف الأخر، و لا يبعد هذا الجمع بعد كون غسل الجنابة هو الغسل المتداول الأكثريّ المحتاج إليه جميع طوائف المكلّفين، بخلاف سائر الأغسال كالحيض و النفاس ممّا يحتاج إليهما طائفة منهم في بعض أوقاتها، و كغسل الاستحاضة الّذي يكون الاحتياج إليه نادرا لبعض المكلّفين، و كغسل الجمعة و غيره ممّا لا يكون إلّا في بعض الأحيان و لبعض المكلّفين، فلا يكون الحمل المذكور موجبا لحمل المطلق على الفرد النادر البشيع.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 6.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 25، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 33، ب 5.

(4) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 25، ح 6. و ب 33، ح 3.

(5) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 34، ح 1.

(6) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 34، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 151

هذا مضافا إلى أنّ الظاهر من صحيحة حكم بن حكيم حيث قال فيها «إنّ الناس يقولون يتوضّأ وضوء الصلاة قبل

الغسل- إلخ-» و رواية محمّد بن مسلم حيث قال فيها «إنّ أهل الكوفة يروون عن عليّ عليه السّلام- إلخ-» أنّ كون الوضوء قبل غسل الجنابة كان موردا للبحث بين الناس، حتّى كذبوا على عليّ بأنّه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة، و هو يوجب قرب الحمل المذكور و قرب احتمال أن يكون تلك الروايات القائلة بأنّ الوضوء قبل الغسل أو بعده بدعة، و أنّ الغسل يجزي من الوضوء، و أنّ أيّ وضوء أطهر من الغسل؟ ناظرة إلى الكذب المذكور أو الخلاف المعهود، مع أنّ أحد قول الشافعيّ أيضا وجوب الوضوء قبل الغسل من الجنابة أو بعده، و كيف كان فلا أرى بأسا بهذا الجمع بعد التنبّه إلى ما ذكرنا.

نعم هنا طائفة أخرى من الروايات متعرّضة للأغسال الأخرى إمّا ضعيفة سندا و إن كانت تامّة الدلالة أو معتبرة سندا ضعيفة دلالة لا بدّ من التعرّض لها.

فمن الأولى رواية إبراهيم بن محمّد أنّ محمّد بن عبد الرحمن الهمدانيّ كتب إلى أبي الحسن الثالث عليه السّلام يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة، فكتب: لا وضوء للصلاة في غسل يوم الجمعة و غيره. «1» و هذه الرواية و إن كانت صريحة الدلالة إلّا أنّ ضعف سندها مانع عن العمل بها، كمرسلة حمّاد بن عثمان الضعيفة زائدا على الإرسال عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك، أ يجزيه من الوضوء؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: و أيّ وضوء أطهر من الغسل؟ «2» و من الثانية موثّقة عمّار الساباطيّ قال: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو يوم الجمعة أو يوم عيد هل عليه الوضوء قبل

ذلك أو بعده؟ فقال: لا، ليس عليه قبل و لا بعد، قد أجزأه الغسل، و المرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل و لا بعد، قد أجزأه الغسل. «3» و هذه الرواية و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 152

إن كانت معتبرة سندا لكن في دلالتها ضعف و مناقشة، لقرب احتمال كون المراد منها أنّ الأغسال جنابة كانت أو جمعة أو غيرها لا يشترط فيها الوضوء لا قبل و لا بعد، فليست الرواية بصدد بيان حكم الصلاة، بل بصدد بيان حكم الغسل، و أنّ الغسل هل يتمّ بلا وضوء؛ و يجزي غسل الجنابة عن رفع الحدث و كذا غسل الحيض؛ و يجزي غسل الجمعة عن الوظيفة المستحبّة أو يحتاج إلى ضمّ وضوء قبله أو بعده؟ و الشاهد على قرب هذا الاحتمال ذكر قبل و بعد ممّا يشعر بارتباط بين الوضوء و الغسل، و إلّا فوضوء الصلاة غير مرتبط بالغسل، فكان على السائل أن يسأل أنّ الغسل مجز عن الوضوء للصلاة؟ كما في مكاتبة الهمدانيّ، و عليه يمكن حمل الروايات الواردة في أنّ الوضوء قبل الغسل أو بعده بدعة على هذا المعنى، أي على أنّ الوضوء لأجل تتميم الغسل قبله أو بعده بدعة. و هو كذلك في جميع الأغسال من غير فرق بين غسل الجنابة و غيره، و هو غير مربوط بإجزاء الغسل عن الوضوء للصلاة.

و يشهد لما ذكرنا ملاحظة سائر الروايات الواردة في هذا المضمار، كصحيحة يعقوب بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام

قال: سألته عن غسل الجنابة فيه وضوء أم لا في ما نزل به جبرئيل؟ قال الجنب يغتسل، يبدأ فيغسل يديه إلى المرفقين قبل أن يغمسهما في الماء، ثمّ يغسل ما أصابه من أذى، ثمّ يصبّ على رأسه و على وجهه و على جسده كلّه، ثمّ قد قضى الغسل و لا وضوء عليه. «1» حيث إنّ الظاهر من سؤاله أنّ غسل الجنابة فيه وضوء أم لا؟ و أنّ جبرئيل كيف بيّن مهيّة غسل الجنابة و شرح كيفيّته؟ أنّ ما نزل به جبرئيل هل هو مع الوضوء بحيث يكون الوضوء شرطا له أم لا؟ و يشهد لذلك كيفيّة الجواب، حيث شرع في بيان كيفيّة الغسل و قال بعد تمام الكيفيّة «ثمّ قد قضى الغسل و لا وضوء عليه» أي تمّ الغسل من غير مدخل للوضوء في تحقّقه و تماميّته، و هو أمر آخر غير إجزاء الغسل عن الوضوء للصلاة، و لو كان السؤال عنه لما كان بهذه العبارة كما أنّ الجواب لا يناسب ذلك.

و مثلها صحيحة زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن غسل الجنابة فقال: تبدأ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 33.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 153

فتغسل كفّيك، ثمّ تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك و مرافقك، ثمّ تمضمض و استنشق، ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك، ليس قبله و لا بعده وضوء، و كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته، و لو أنّ رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده. «1» فإنّ زرارة سأله عن كيفيّة غسل الجنابة، و هو عليه السّلام بصدد بيانها، و ذكر عدم الوضوء قبله و

بعده خصوصا في خلال بيان الكيفيّة و بالأخصّ مع تعقيبه بقوله «و كلّ شي ء أمسسته الماء فقد أنقيته» ممّا يوجب الظهور في أنّ المراد عدم دخل الوضوء في كيفيّة الغسل و تحقّقه و رفع الجنابة، و هو أمر غير احتياج الصلاة إلى الوضوء و عدمه بعد رفع الجنابة.

و مثلهما بل أوضح منهما صحيحة حكم بن حكيم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن غسل الجنابة، قال: أفض على كفّك اليمنى من الماء فاغسلها- و ذكر كيفيّة الغسل إلى أن قال- قلت إنّ الناس يقولون يتوضّأ وضوء الصلاة قبل الغسل، فضحك و قال: و أيّ وضوء أنقى من الغسل و أبلغ؟ «2» حيث إنّ السائل سأل عن الكيفيّة و بعد ما رأى عدم ذكر من الوضوء في كيفيّة الغسل قال إنّ الناس يقولون- إلخ- و مراده ظاهرا أنّ الناس يزعمون في كيفيّة الغسل أنّ للغسل وضوء كوضوء الصلاة، فكما أنّ الصلاة لا تصحّ بلا وضوء كذلك الغسل و هذا كالصريح في ما ذكرنا من عدم كون السائل و المجيب في مقام بيان إجزاء الغسل عن الوضوء، بل بصدد السؤال و الجواب عن دخله في تحقّق الغسل و صحّته، و يؤيّده قوله «أيّ وضوء أنقى من الغسل و أبلغ» أي لا دخل له في النقاء، و الغسل أبلغ في حصول الطهارة و الرافعيّة من الوضوء.

و ممّا ذكرنا يظهر حال سائر الروايات حتّى أنّ رواية أبي بكر الحضرميّ الّذي تخالف تلك الروايات تشهد بما ذكرنا، قال: سألته، قلت: كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال: اغسل كفّك و فرجك و توضّأ وضوء الصلاة ثمّ اغتسل. «3» لأنّ الظاهر منها أنّ هذا الأمر كان معهودا في تلك الأعصار، و أنّ

اشتراط تحقّق الغسل

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 25، ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 33، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 33 ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 154

بالوضوء كان مورد البحث و الكلام، فورود تلك الروايات لرفع الشبهة المذكورة.

و حينئذ لا يبعد أن تكون مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام كلّ غسل قبله وضوء إلّا غسل الجنابة «1» و مرسلته الأخرى أو صحيحته عنه قال: في كلّ غسل وضوء إلّا الجنابة «2» أيضا من هذا الوادي، و لا تكون ناظرة إلى إجزائه عنه للصلاة، فتبقى صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، قال: الغسل يجزي عن الوضوء، و أيّ وضوء أطهر من الغسل «3» بلا معارض، إلّا أن يقال: إنّه بعد كون جميع الروايات- إلّا رواية واحدة هي مكاتبة الهمدانيّ- مربوطة بتلك المسألة أي بدخل الوضوء في تحقّق الغسل و أنّ تلك المسألة كانت مطرحا في ذلك العصر لم يبق ظهور للصحيحة في إجزاء الغسل عن الوضوء للصلاة، بل من المحتمل قويّا كونها بصدد بيان ما تكون سائر الروايات بصدده من إجزاء كلّ غسل و كفايته عن الوضوء في رفع الجنابة أو حدث الحيض أو حصول وظيفة الجمعة و العيد، خصوصا مع ورود نظير قوله «أيّ وضوء أطهر من الغسل؟» في صحيحة حكم بن حكيم الّتي عرفت ظهورها في عدم شرطيّة الوضوء للغسل، فحينئذ يبقى إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء للصلاة بلا دليل إلّا قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا على تأمّل في دلالته، لكنّ الحكم واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل.

و اما سائر الأغسال فمقتضى القاعدة و العمومات عدم كفايتها للصلاة مع الابتلاء بالحدث

الأصغر، و في غير مورده يتمّ بعدم القول بالفصل، و يدلّ على المقصود في خصوص ما نحن فيه بل في أعمّ منه و من غسل الاستحاضة بعض الروايات كمرسلة يونس الطويلة، و فيها في السنّة الاولى من السنن الثلاث: و سئل عن المستحاضة فقال:

إنّما هو عرق غامد أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة. قيل: و إن سأل؟ قال: و إن سال مثل الشعب. «4» فإنّ الظاهر

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 34، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 34، ح 1.

(3) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 32، ح 1.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 5، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 155

أنّ الغسل هو غسل الحيض و قد أمرها بالوضوء لكلّ صلاة، تأمّل. و قد يستدلّ لعدم الاحتياج إلى الوضوء بإطلاق الأوامر الواردة في الأغسال من غير ذكر وضوء، و هو محلّ المنع. نعم، وردت روايات في باب الاستحاضة لا يبعد إطلاقها، و سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّٰه.

هذا كلّه مع قطع النظر عن اشتهار الحكم بين الأصحاب ممّا يشرف المنصف بالنظر إليه بالقطع بكون الحكم معروفا من الصدر الأوّل و مأخوذا من الطبقات المتقدّمة على زمن المعصومين عليهم السلام و خلاف ابن الجنيد غير معتدّ به، و خلاف السيّد لا يضرّ بعد عدم موافق له من المتقدّمين، كخلاف الأردبيليّ و أتباعه ممّن لا يعتنون بالشهرات و الإجماعات.

و مما ذكرنا يظهر الحال في خلاف آخر، و هو وجوب تقديم الوضوء على الغسل وجوبا شرطيّا في خصوص الأغسال الواجبة؛ أو فيها و في المستحبّة؛ أو وجوب التقديم شرعيّا لا شرطيّا كما عن المولى البهبهانيّ. و

وجه اللزوم شرطيّا هو الاستظهار من مرسلتي ابن أبي عمير و حمل المطلق على المقيّد أي إحدى المرسلتين على الأخرى، فمع دعوى اختصاصهما بالواجبات تكونان مبنى الأوّل، و مع التعميم مؤيّدا برواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضّأ و اغتسل «1» تكونان مبنى الثاني، و مع إنكار الظهور في الشرطيّة مبنى الثالث.

لكن قد عرفت كون جميع روايات الباب تقريبا من واد واحد هو إثبات الشرطيّة و نفيها، فحينئذ يقع التعارض بين ما تقدّم و بين موثّقة عمّار الساباطيّ حيث صرّح فيها بعدم الوضوء قبل غسل الجنابة و الجمعة و العيد و الحيض و بعدها، فلا بدّ من حمل المرسلتين و رواية ابن يقطين على الاستحباب جمعا و إن كان القول بالاستحباب أيضا لا يخلو من مناقشة، لما دلّ على أنّ الوضوء قبل الغسل و بعده بدعة، و لعدم ذكر عن الوضوء في شي ء من الروايات الواردة في باب الأغسال الواجبة و المستحبّة مع كثرتها جدّا و كون كثير منها في مقام بيان الآداب، و بعد عدم التنبيه على

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 34، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 156

هذا الأدب الّذي لو كان مستحبّا لكان أهمّ من سائر الآداب، و إنّما ذكر ذلك في رواية واحدة هي رواية ابن يقطين و مرسلة يمكن أن تكون عين تلك الرواية، مع ظهورها في الشرطيّة الّتي قد عرفت حالها.

و كيف كان فممّا يوجب الجزم بعدم شرطيّة الوضوء للأغسال الواجبة و المستحبّة هو تلك الروايات الكثيرة الواردة في مقام بيان كيفيّة الغسل، كروايات غسل الميّت و غسل المسّ و ما ورد في

الأغسال المستحبّة على كثرتها، فإنّ عدم ذكر منه فيها دليل قطعيّ على عدم اشتراطها به و عدم وجوبه قبلها.

بقي الكلام في شي ء تعرّض له صاحب الجواهر، و هو أنّ الغسل و الوضوء هل هما مشتركان في رفع الحدثين، أو هما رافعان على التوزيع: فالغسل للأكبر، و الوضوء للأصغر؟ و تفصيل الكلام بحسب مقام التصوّر أنّه قد يقع الكلام في ما إذا وجد سبب الأصغر و الأكبر و تقدّم أحدهما على الآخر أو تأخّر أو تقارنا؛ و قد يقع في ما إذا وجد سبب الأكبر فقط؛ فعلى الأوّل يمكن أن يكون الحدثان مهيّتين متباينتين فيؤثّر الأصغر في مهيّة، و الأكبر في مهيّة مباينة لها، و يمكن أن يؤثّر كلّ في مهيّة متخالفة مع الأخرى قابلة للانطباق على وجود خارجيّ في القدر المشترك، فيكون الحدث الأصغر عنوانا منطبقا على مرتبة من الحدث الأكبر، و يكون الأكبر ذا مراتب: مرتبة غير منطبق عليها عنوان الأصغر، و مرتبة منطبق عليها عنوانه، و يمكن أن يكون المقدار المشترك وجودا شخصيّا إن قدّم سبب الأصغر في إيجاده يكون سبب الأكبر مؤثّرا في مرتبة اخرى، و إن قدّم سبب الأكبر لا يؤثّر الأصغر، فيكون السببان بالنسبة إلى المرتبة المشتركة كالأسباب المتعاقبة للحدث الأصغر.

ثم إنّ مقتضى الاحتمال الأوّل و الثاني هو فعليّة سببيّة كلّ موجب في مسبّبه الخاصّ، و رافعيّة الوضوء للحدث الأصغر و الغسل للأكبر، فمع الغسل ترفع الماهيّة الآتية من سبب الأكبر و تبقى الماهيّة الآتية من سبب الأصغر، و أمّا احتمال اشتراكهما في رفع المجموع فضعيف جدّا، و لازم الثالث هو رفع الغسل ما يأتي من قبل سبب الأكبر، و عدم الاحتياج إلى الوضوء إن كان الغسل رافعا لتمام ما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 157

يجي ء من سبب الأكبر، و بمقدار الاختصاص لو قلنا بأنّ ما يجي ء من سبب الأكبر لا يرتفع تمامه به، فيكون الرافع للبقيّة هو الوضوء. و أمّا احتمال كونهما مشتركين في أصل الرفع بمعنى عدم تأثير الغسل مطلقا إلّا بضمّ الوضوء فقد دفعناه في المسألة السابقة، كما أنّ احتمال كون الغسل رافعا لتمام ما يأتي من سبب الأكبر في الفرض الثالث ممّا يلزم منه عدم الاحتياج إلى الوضوء تدفعه الشهرة السابقة مع عمومات أسباب الوضوء كما مرّ. فاحتمال الاشتراك بهذا المعنى ضعيف مدفوع بما سلف. و أمّا على سائر الاحتمالات فلا يكون الاشتراك إلّا بوجه لا ينافي الاختصاص، فحينئذ يكون الوضوء على جميع الاحتمالات المعتبرة رافعا لما يأتي من سبب الأصغر، و الغسل لما يأتي من سبب الأكبر على بعض الاحتمالات المتقدّمة، و على بعض الاحتمالات يكون الوضوء رافعا لبعض لما يأتي من سبب الأكبر و الغسل لبعض آخر فيكون كلّ منهما رافعا.

فما عن السرائر من كون الوضوء غير رافع بل مبيح تقدّم أو تأخّر، و الغسل رافع كذلك غير وجيه.

هذا كلّه مع تحقّق السببين، و أمّا مع تحقّق سبب الأكبر دون الأصغر فمع القول بلزوم الوضوء للصلاة لا بدّ و أن يكون سبب الأكبر موجبا لشي ء لا يرتفع بالغسل، فحينئذ إن قام الدليل على جواز دخول المرأة في المسجدين و اللبث في المساجد مثلا مع الغسل فقط يكون هو مع ما دلّ على لزوم الوضوء للصلاة دالّين بالاقتضاء على التوزيع في التأثير، فيكون الوضوء رافعا لمرتبة ممّا يأتي بسبب الحيض و الغسل لمرتبة اخرى. و أمّا احتمال كون الوضوء مبيحا غير رافع فضعيف. و كيف

كان فالقول بالتوزيع هو الأقوى، مع كون الحكم موافقا لارتكاز المتشرّعة، و الظاهر استفادته من مجموع الأدلّة، فتدبّر.

الأمر السادس إذا دخل وقت الصلاة فحاضت،

فتارة تدرك طاهرة من الوقت بمقدار أداء الصلاة و فعل الطهارة و تحصيل سائر الشرائط بحسب حالها و تكليفها الفعليّ من القصر و الإتمام و الوضوء و الغسل و التيمّم و غيرها من شرائط مطلقة كانت أو غيرها؛ و اخرى لا تكون سعة الوقت بهذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 158

المقدار سواء كانت بمقدار أداء الصلاة فقط أو أدائها مع الطهارة المائيّة أو الترابيّة فقط دون سائر الشرائط؛ و ثالثة لا تكون السعة بمقدار صلاة المضطرّ. و الأولى البحث أوّلا عن مقتضى القواعد الأوّليّة أي أدلّة القضاء و أدلّة عدم القضاء على الحائض ثمّ النظر إلى الأدلّة الخاصّة، فنقول:

إنّ أدلّة القضاء على طائفتين: إحديهما ما يظهر منها أنّ القضاء تابع لعنوان الفوت كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعة: صلاة فاتتك، فمتى ذكرتها أدّيتها- الحديث- «1» و غيرها ممّا هي قريبة منها. و هذه الطائفة و إن كانت في الغالب بصدد بيان حكم آخر، لكن يستفاد منها مفروغيّة لزوم قضاء ما فات من الصلاة. و هذا ممّا لا إشكال فيه، لكنّ الإشكال في أنّ الفوت عبارة عن نفس عدم الإتيان مطلقا و لو مع عدم مجعوليّة الصلاة في حقّ المكلّف بل مع حرمتها عليه كصلاة الحائض أو هو عنوان أخصّ منه؟ الظاهر هو الثاني، ضرورة أنّ المتفاهم عرفا من هذا العنوان هو ذهاب شي ء مرغوب فيه عن يد المكلّف و لو من قبيل طاعة المولى أو الوالدين ممّا هل مستحسن عقلا سواء كان

لازما أو راجحا، فإذا نام عن صلاة الليل يقال فاتته، إمّا لأجل فوت المثوبة المترتّبة عليها، أو لأجل ترك نفس أمر المولى الراجح عقلا، و أمّا إذا كان الفعل ذا مفسدة أو غير راجح عقلا و شرعا فتركه العبد لا يقال فاته ذلك، فعنوان الفوت ليس نفس ترك الفعل و لو لم يكن فيه رجحان أو في تركه منقصة، و هذا واضح عند مراجعة موارد استعمال اللفظ عرفا و في الأخبار الواردة فيها هذه اللفظة. فدعوى كونه عبارة عن عدم إتيان الصلاة في وقتها و لو كانت غير مطلوبة و راجحة بل و لو كانت محرّمة غير وجيهة.

و لا يرد النقض على ذلك بمثل ترك النائم و الساهي، و لا بمثل من اكره على ترك الصلاة بحيث صار اللازم على المكلّف تركها، ضرورة أنّ النائم و الساهي فاتتهما الصلاة لأجل ذهاب مثوبتها و مصلحتها من يدهما بل لأجل ترك أمر المولى بلا اختيار على ما حقّقنا في محلّه من أنّ الأوامر فعليّة بالنسبة إليهما و إن كانا معذورين في تركها

______________________________

(1) الوسائل: أبواب قضاء الصلوات، ب 2، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 159

و أمّا المكره فهو أيضا كذلك و لا تصير الصلاة بالإكراه على الترك حراما بعنوانها، بل ما هو المحرّم إيقاع المكلّف نفسها في التهلكة و نحوها، و هو لا يوجب حرمة الصلاة بعنوانها و إن اتّحد العنوانان في الخارج. و دعوى صدق الفوت بمجرّد الشأنيّة أو بملاحظة نوع المكلّفين غير وجيهة، فإنّ ميزان وجوب القضاء هو الفوت من كلّ مكلّف بحسب حال نفسه، و هو لا يصدق بالنسبة إلى الشخص الّذي لم تجعل الصلاة له أو حرّمت

عليه كالحائض، و الشأنيّة لا محصّل لها إلّا معنى تعليقيّ لا يوجب صدق الفوت فعلا.

و أعجب من ذلك ما قد يقال: إنّ المستفاد من الأمر بالقضاء أنّ الأوامر المتعلّقة بالصلاة من قبيل تعدّد المطلوب، فكونها في الوقت مطلوب لكن بفوات الوقت لا تفوت المطلوبيّة مطلقا، فإنّ ذلك على فرض تسليمه- كما لا يبعد- أدلّ دليل على خلاف مطلوبه، لأنّ استفادة تعدّد المطلوب فرع وجود الطلب و المطلوب في الوقت، و مع حرمة الصلاة على الحائض في الوقت أين الطلب و المطلوب حتّى يستفاد منه تعدّده؟! فتحصل ممّا ذكرنا أنّ القاعدة في باب القضاء على فرض أخذ عنوان الفوت في موضوعه هو وجوب القضاء في كلّ مورد يكون الأداء مطلوبا أو راجحا ذاتا و لو فرض سقوط الطلب لأجل بعض المحاذير على فرض صحّة ذلك المبنى، و أمّا مع عدم الرجحان و المطلوبيّة الذاتيّة فلا، فضلا عن الحرمة الذاتيّة. فالحائض إذا أدركت من الوقت بمقدار تعلّق الطلب يجب عليها القضاء مع تركها، و مع عدم توجّه الطلب أو توجّه النهي إليها لا يجب عليها القضاء بحسب القاعدة، بل الظاهر أنّ الأمر كذلك لو تمكّن من الصلاة الاضطراريّة، فلو قلنا بأنّها لو علمت مفاجاة الطمث عليها بعد مقدار من الزمان يتمكّن فيه من إتيان صلاة مع الطهارة الترابيّة و فقدان بعض الشرائط الاختياريّة تجب عليها الصلاة كذلك فالقاعدة تقتضي القضاء مع تركها لأجل الجهل بالواقعة، لتوجّه أمر الصلاة إليها و فوتها منها.

بل الأمر كذلك لو تمسّكنا في وجوب القضاء بالطائفة الثانية من أخبار القضاء،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 160

و هي ما لم يؤخذ فيها عنوان الفوت، لأنّ مساقها فيما إذا ترك المكلّف

الصلاة الّتي كانت مكتوبة عليه في الوقت، كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها، أو نام عنها، قال: يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها. «1» إلى غير ذلك من الروايات، و ليس فيها ما يدلّ على وجوب القضاء على من ترك الصلاة الّتي هي غير مشروعة له فضلا عمّا كانت محرّمة عليه. بل الظاهر أنّ نفس عنوان القضاء أيضا يدلّ على المطلوب، لأنّه بحسب المتفاهم العرفيّ عبارة عن جبران ما شرع في الوقت إيجابا أو استحبابا خارج الوقت، و أمّا إذا لم يشرع في الوقت أو كان حراما عليه فلا يصدق على إتيانه خارج الوقت عنوان القضاء، فتبعيّة القضاء للأداء على ما ذكرنا موافقة للقاعدة.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ كلّ مورد لو اطّلع المكلّف على الواقعة كان واجبا عليه إتيان الصلاة و لو بنحو الاضطرار يجب عليها القضاء لو تركها لصدق الفوت، فإذا وسع الوقت بحسب الواقع بمقدار صلاة اضطراريّة بل بمقدار نفس الصلاة فقط فطمثت وجب عليها بمقتضى أدلّة القضاء إتيانها بعد الطهر قضاء. و ما يتوهّم من عدم الأمر بالمقدّمات قبل الوقت قد فرغنا عن ضعفه و ذكرنا في محلّه أن مناط عباديّة الطهارات ليس هو الأوامر الغيريّة، بل الأمر النفسيّ المتعلّق بها، و ذكرنا في محلّه حال التيمّم أيضا.

هذا، و لكن في مقابل أدلّة القضاء ما دلّ على أنّ الحائض لا تقضي الصلاة، ففي صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قضاء الحائض الصلاة ثمّ تقضي الصيام؛ قال: ليس عليها أن تقضي الصلاة، و عليها أن تقضي صوم شهر رمضان. ثمّ أقبل عليّ فقال: إنّ رسول اللّٰه

صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم كان يأمر بذلك فاطمة، و كانت تأمر المؤمنات. «2» و رواية الحسن بن راشد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الحائض تقضي الصلاة؟ قال:

لا، قلت: تقضي الصوم؟ قال: نعم، قلت: من أين جاء هذا؟ قال: أوّل من قاس إبليس-

______________________________

(1) الوسائل: أبواب قضاء الصلاة، ب 1، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 41، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 161

الحديث- «1» إلى غير ذلك.

و يقع الكلام فيها بعد القطع بلزوم استناد الترك في عدم وجوب القضاء إلى الحيض في الجملة في أنّه هل المتفاهم منها أنّ الصلاة إذا كان تركها مستندا إلى الحيض في الجملة و لو في بعض الوقت لا تقضى، حتّى يكون لازمة عدم القضاء و لو حاضت قبل تمام الوقت بمقدار يسع الصلاة، لأنّ تركها و إن كان غير مستند إلى الحيض فقط لكنّه مستند إليه في الجملة؛ أو أنّ المراد هو الاستناد إليه فقط، فإذا تركها في بعض الوقت بتخيّل سعته فأدركها الطمث وجب عليها القضاء، لعدم كون الترك مستندا إلى الحيض فقط، بل كان الاستناد في بعض الوقت إلى غيره؟ الظاهر هو الثاني، لظهور الأدلّة في أنّ ترك الطبيعة إذا كان مستندا إلى الحيض لا يجب القضاء، و هو لا يصدق إلّا على الوجه الثاني بحسب نظر العرف المتّبع في مثل المقام، و هذا ظاهر، لكنّ الإشكال في أنّ الظاهر من الأدلّة هل هو ترك الصلاة المتعارفة لها مع قطع النظر عن عروض الحيض، أي إذا استند ترك صلوتها إليه بحسب حالها المتعارف من القصر و الإتمام و الطول و القصر و الاشتمال على المستحبّات المتداولة لا يجب

عليها القضاء؛ أو إذا كان مستندا إليه مع أقلّ الواجب؛ أو إذا كان مستندا إليه حتّى بمصداقها الاضطراريّ من الطّهور و غيره حتّى مثل ترك بعض الواجبات كالسورة مثلا، و بعبارة أخرى: ترك الصلاة الّتي لو علمت بالواقعة وجب عليها إتيانها إذا كان مستندا إلى الحيض لا يجب عليها قضاؤها، فيجب عليها القضاء إذا وسع الوقت لنفس الصلاة بمصداقها الاضطراريّ مع فقد جميع المستحبّات و بعض الواجبات إذا قلنا بسقوطه عند الاضطرار و الضيق؟

الأقوى هو الأوّل، لا بمعنى ملاحظة حالها الشخصيّ و لو كان غير متعارف كقراءة السور الطوال و الأذكار الكثيرة الغير المعمولة، بل بمعنى المصداق المتعارف عند نوع المكلّفين، أي المشتمل على الواجبات و المستحبّات المتداولة و الواجد للشرائط بحسب تكليفها الفعليّ من القصر و الإتمام و وجدان الماء و فقدانه و واجديّتها

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 41، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 162

للمقدّمات و عدمها، إلى غير ذلك. ضرورة أنّ العرف لا ينقدح في ذهنه عند سماع تلك الروايات و عرضها عليه إلّا ذلك، و غيره يحتاج إلى تقدير الحائض على غير ما هي عليه، و هو خلاف الارتكاز العرفيّ و التفاهم العقلائيّ من الروايات. فهل ترى من نفسك أنّ المرأة إذا سمعت فقيها يقول: إذا تركت صلوتك لأجل عروض الحيض ليس عليك قضاء، فاشتغلت في أوّل الوقت بالطهور و الصلاة فعرض لها الطمث في الركعة الثالثة تشكّ في كونها مشمولة للفتوى باحتمال لزوم تقدير نفسها مقام المضطرّ الفاقد للماء المضيق عليها الوقت؛ أم لا ينقدح في ذهنها إلّا صلوتها المتعارفة بحسب حالها مع قطع النظر عن عروض الحيض؟ و لعمري إنّ هذا التنزيل و

التقدير ممّا لا ينقدح إلّا في ذهن الأوحديّ من الناس أي أهل العلم فقط لا نوع العقلاء و العرف ممّن يكون فهمهم معيارا لتعيين مفاهيم الأخبار.

ثم إنّ ما ذكرنا إنّما هو بالنسبة إلى الشرائط الّتي يتعارف تحصيلها في الوقت كالوضوء و الغسل مثلا- على تأمّل في الثاني- و أمّا الشرائط الحاصلة لنوع المكلّفين قبل الوقت كالستر و العلم بالقبلة فلا يلاحظ مقدار تحصيلها لو اتّفق عدم حصولها، فالفاقدة للساتر و الجاهلة للقبلة إذا كانتا بصدد تحصيلهما و طال الوقت حتّى عرض لهما الطمث يجب عليهما قضاء صلوتهما، لإطلاق أدلّة الفوت و عدم وجود مقيّد لها، لخروج هذه الفروض النادرة عن مثل قوله «الحائض لا تقضي الصلاة» لأنّ ترك الصلاة بحسب المتعارف غير مستند إلى الحيض فقط. و كذا من كان تكليفها التيمّم لكن أخّرت الصلاة إلى آخر الوقت فطمثت يجب عليها القضاء، لعدم الاستناد بحسب التعارف إلى الحيض. و بالجملة لا بدّ من لحاظ حال المرأة و حال الشرائط و تعارفها و تكليف المرأة بالفعل و حالاتها الاختياريّة، إلّا أن يكون الاضطرار من غير جهة الحيض.

هذا كلّه بحسب القواعد الأوّليّة، و أمّا الأخبار الخاصّة ففي موثّقة يونس بن يعقوب- بناء على وثاقة الزبيريّ- عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: في امرأة دخل عليها وقت الصلاة و هي طاهرة، فأخّرت الصلاة حتّى حاضت، قال: تقضي إذا طهرت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 163

«1» و ليست هذه مخالفة للقاعدة المتقدّمة، لظهورها في سعة الوقت و تأخيرها حتّى طمثت. نعم، يخالفها إطلاق رواية عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألته عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس و لم تصلّ الظهر، هل عليها قضاء

تلك الصلاة؟ قال:

نعم «2» و إطلاقها يشمل ما إذا ضاق الوقت عن إدراك الصلاة، و ليس لها ظهور في سعة الوقت للصلاة لو لم نقل إنّ السؤال منحصر بما إذا زالت الشمس و طمثت و لم يمهلها أن تصلّي، فكأنّه قال: لو طمثت بعد زوال الشمس بلا مهلة و قبل صلوتها هل عليها القضاء أو لا بدّ من مضيّ زمان تدرك الصلاة؟ و لو لم يسلّم ذلك فلا أقلّ من الإطلاق.

و دعوى أنّ الظاهر أنّ السلب بسلب المحمول لا الموضوع كأنّها في غير موقعها، و لو لا ضعف سندها بشاذان بن الخليل أو عدم ثبوت اعتبارها لأجل عدم ثبوت وثاقته، و مخالفتها لفتاوى الأصحاب لكان العمل بها متعيّنا و لا تنافيها الأخبار المتقدّمة، لكنّهما مانعان عن العمل بها.

و اما موثّقة سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة صلّت من الظهر ركعتين ثمّ إنّها طمثت و هي جالسة، فقال: تقوم عن مكانها و لا تقضي الركعتين «3» فلا بدّ من حملها على النهي عن إتيان بقيّة الصلاة لو لم نقل بظهورها فيه بملاحظة قوله «تقوم عن مكانها» فكأنّه قال: تقوم عن مكانها و لا تأتي بالركعتين الأخيرتين، و حمل القضاء على المعنى اللغويّ غير بعيد كحمل الركعتين على الأخيرتين، و إلّا فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهله، فإنّ الحمل على أوّل الوقت حمل على النادر. و الظاهر منها عدم قضاء الركعتين الأوّلتين لو حمل القضاء على الاصطلاحيّ منه، و في مقام التحديد و البيان يفهم منها عدم لزوم قضاء الأوّلتين و لزوم قضاء البقيّة، و هو كما ترى لا يمكن الالتزام به، فمصيرها حينئذ مصير ضعيفة أبي الورد، قال: سألت أبا جعفر

عليه السّلام عن المرأة الّتي تكون في صلاة الظهر و قد صلّت ركعتين ثمّ ترى الدم، قال: تقوم

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 48، ح 4.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 48، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 48، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 164

من مسجدها و لا تقضي الركعتين، و إن كانت رأت الدم و هي في صلاة المغرب و قد صلّت ركعتين فلتقم من مسجدها، فإذا تطهّرت فلتقض الركعة الّتي فاتتها من المغرب «1» فلا بدّ من توجيهها كما وجّهها العلّامة في المختلف أو ردّ علمها إلى أهله. كما أنّ موثّقة الفضل بن يونس «2» ممّا هي دالّة على خروج وقت الظهر بعد أربعة أقدام في سلك الروايات الواردة في تحديد الوقت على خلاف الإجماع بل الضرورة و الروايات الكثيرة المعمول بها، فهي أيضا مطروحة أو مؤوّلة.

الأمر السابع إن طهرت الحائض في آخر الوقت

فإن أدركت جميع الصلاة بشرائطها الاختياريّة فلا إشكال في وجوبها عليها. و مع تركها في وجوب القضاء بحسب القواعد و النصوص الخاصّة، و عليه الفتوى. و كذا لو أدركت ركعة من وقت العصر و العشاء و الصبح مع جميع الشرائط الاختياريّة بلا وجدان خلاف كما في الجواهر، و عن المنتهى نفي الخلاف بين أهل العلم، و في الخلاف و المدارك الإجماع عليه. و يدلّ عليه النبويّ المشهور «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» «3» و العلويّ «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» «4» و رواية أصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة. «5» و ضعف إسنادها منجبر بالعمل بها

قديما و حديثا، فقد تمسّك بها الشيخ في الخلاف و ادّعى إجماع الأمّة على ذلك، و قال في الصبيّ و المجنون و الحائض و النفساء و الكافر: إنّه لا خلاف بين أهل العلم في أنّ واحدا من هؤلاء الّذين ذكرناهم إذا أدرك قبل غروب الشمس بركعة انّه يلزمه العصر، و كذلك إذا أدرك قبل طلوع الفجر الثاني مقدار ركعة انّه يلزمه

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 48، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 48، ح 1.

(3) الوسائل: أبواب المواقيت، ب 31، ح 4.

(4) الوسائل: أبواب المواقيت، ب 31، ح 5.

(5) الوسائل: أبواب المواقيت، ب 31، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 165

العشاء، و قبل طلوع الشمس بركعة يلزمه الصبح، لما روي عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: انّه قال: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، و كذلك روي عن أئمّتنا. و في المدارك بعد ذكر الروايات: و هذه الروايات و إن ضعف سندها إلّا أنّ عمل الطائفة عليها، و لا معارض لها، فيتعيّن العمل بها. و الإنصاف أنّ فتوى الأصحاب على طبقها و تمسّك أرباب الاستدلال بها في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد موجب لانجبار سندها، فلا إشكال من هذه الحيثيّة.

و إنّما الإشكال في دلالتها و حدود مفادها، فقد يستشكل في النبويّ الّذي هو أوسع دلالة باحتمال أنّ إدراك ركعة مع الإمام بمنزلة إدراك جميع الصلاة، و فيه- مع أنّه مخالف لظاهرة، فإنّ الظاهر إدراك نفس الصلاة لا إدراك الجماعة أو فضيلتها و هو لا ينطبق إلّا على إدراك الوقت- أنّ ورود سائر الروايات في الغداة و العصر بهذا المضمون يوجب

الاطمئنان بأنّ النبويّ و سائر ما يشابهه مضمونا و عبارة من واد واحد، فيرفع الاحتمال أو الإجمال منه على فرضه بغيره، مع أنّ فهم الأصحاب بل سائر العلماء قديما و حديثا يوجب الوثوق بمفاده، فلا إشكال من هذه الجهة أيضا.

و قد يستشكل فيها بأنّ مفادها هو مضيّ الركعة خارجا لا جواز الدخول في الصلاة من أوّل الأمر لمن علم إدراك ركعة من الوقت، فمعنى «من أدرك ركعة ..»

من دخل في الصلاة غافلا أو باعتقاد سعة الوقت ثمّ أدرك ركعة منها فقد أدرك الوقت، و هذا نظير إدراك أوّل الوقت إذا دخل في الصلاة قبل الوقت فوقع بعضها فيه. و فيه:

أنّ المتفاهم من هذه العبارة هو توسعة الوقت للمدرك ركعة، فكأنّه قال: إدراك ركعة من الوقت إدراك لجميع الوقت، و بعبارة أخرى: لا يفهم العرف خصوصيّة للدخول في الصلاة، بل ما يفهم منه أنّ لإدراك بعض الوقت خصوصيّة، و قياس آخر الوقت بأوّله في غير محلّه بعد كون لسان الدليلين مختلفين، و الشاهد على هذا الفهم العرفيّ فهم علماء الفريقين، و ليس شي ء في الباب غير تلك الروايات، مع عدم بعد استفادة المعنى الاستقباليّ منه، فقوله «من أدرك ركعة ..» معناه من يدرك، فحينئذ لا قصور في دلالة اللفظ أيضا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 166

ثم إنّ المتفاهم منها أنّ المدرك لركعة من الصلاة الّتي هي تكليفها فعلا بشرائطها الاختياريّة من الطهور و غيره بمنزلة مدرك الوقت، فلا تعمّ ما إذا أدركها بمصداقها الاضطراريّ، فإدراك ركعة مع الطهارة الترابيّة لمن كان تكليفها الطهارة المائيّة غير مشمول لها كإدراكها مع فقد سائر الشرائط. و بعبارة اخرى: إنّ الظاهر منها أنّ الصلاة المكتوبة

على الشخص الّذي تكون وظيفته الإتيان بها إذا أدرك ركعة منها في الوقت فقد أدرك الوقت. نعم، لا إشكال في خروج الآداب و المستحبّات، فمن أدركها بواجباتها و شرائطها فقد أدرك، و إن كان الوقت مضيقا عن إتيان المستحبّات.

هذا كله في إدراك العشاء و العصر و الصبح ممّا لا مزاحم لها، و أمّا بالنسبة إلى صلاة المغرب و الظهر فهو أيضا كذلك، كما هو المشهور نقلا و تحصيلا على ما في الجواهر، و ادّعى في الخلاف عدم الخلاف فيه، و عن طهارة المبسوط و عن بعض آخر الاستحباب، و عن بعض استحباب فعل الظهرين بإدراك خمس قبل الغروب، و العشاءين بإدراك أربع قبل الفجر، و عن الفقيه: إن بقي من النهار بمقدار ستّ ركعات بدأ بالظهر. و يدلّ على ما ذكرنا النبويّ المتقدّم.

و قد يقال: إنّ «من أدرك ..» لا يقتضي مزاحمة الظهر مثلا للوقت الاختياريّ من العصر، و انّ مقتضى أدلّة الاختصاص عدم وقوع الظهر في الوقت الاختصاصيّ، بل الظاهر قصور دليل «من أدرك ..» عن تجويز تأخير العصر اختيارا إلى إدراك ركعة منه، كما لا يستفاد منه جواز تأخير الصلاة في سعة الوقت إلى زمان إدراك الركعة.

و فيه: أنّه إن كان المانع من التمسّك به هو أدلّة الاختصاص فلا تكون مزاحمة له، فإنّ مفادها هو لزوم العصر إذا بقي من الوقت أربع ركعات، ففي صحيحة إسماعيل بن همام- على الأصحّ- عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال في الرجل يؤخّر الظهر حتّى يدخل وقت العصر: إنّه يبدأ بالعصر ثمّ يصلّي الظهر. «1» و في صحيحة الحلبيّ قال: سألته عن رجل نسي الاولى و العصر جميعا ثمّ ذكر ذلك عند غروب الشمس،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب

المواقيت، ب 4، ح 17.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 167

فقال: إن كان في وقت لا يخاف فوت إحديهما فليصلّ الظهر ثمّ يصلّي العصر، و إن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا، و لكن يصلّي العصر في ما قد بقي في وقتها ثمّ ليصلّ الاولى بعد ذلك على أثرها. «1»

إلى غير ذلك.

و ظاهر الاولى هو أنّه إذا دخل وقت العصر أي الوقت الاختصاصيّ يجب البدء به، و هو الظاهر من الثانية أيضا، و حينئذ تكون تلك الروايات مشعرة بأنّ الظهر لا يزاحم العصر في جميع وقتها لا في بعضه، و إلّا كان الحقّ أن يقول: إذا بقي من الوقت سبع ركعات يصلّي العصر، فهذه إن لم تكن مؤيّده لانطباق حديث «من أدرك ..»

على الظهر لم تكن مخالفة له أيضا.

و إن كان المانع هو الأدلّة العامّة لجعل الأوقات فلا إشكال في حكومته عليها، و إن كان المانع هو عدم انطباقه على العصر الّذي يمكن إدراكه بجميع وقته فلا يجوز تأخير العصر اختيارا إلى ضيق الوقت بمقدار إدراك ركعة، ففيه أنّ انطباقه على الظهر موجب لحصول الموضوع للعصر، ضرورة أنّ ترك العصر حينئذ ليس باختيار المكلّف بل بحكم الشارع، و بعبارة اخرى: إنّه لا إشكال على فرض اختصاص الوقت بالعصر في أنّه إن بقي من الوقت خمس ركعات يكون الظهر مشمولا للنبويّ، و مع شموله له يجب بحكمه إتيان الظهر المدرك لوقته التنزيليّ، و مع لزوم إتيانه يبقى للعصر ركعة فيشمله النبويّ، و ليس هذا تأخير العصر اختيارا حتّى يقال لا يجوز التأخير إلى زمان إدراك الركعة، بل هو تأخير بحكم الشرع.

هذا كله حال

إدراك ركعة جامعة للشرائط، و أمّا لو لم تدرك ركعة بل أدركت أقلّ منها فمقتضى القواعد الأوّليّة و الثانويّة فوتها، أمّا الأوّليّة فواضح، و أمّا الثانويّة فكذلك أيضا، لأنّ الظاهر منها أنّ إدراك الركعة غاية ما يمكن الإدراك معه، و لو كانت تدرك الصلاة بأقلّ منها لما جاز التحديد بالركعة، نعم هنا روايات سيأتي التكلّم عليها.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب المواقيت، ب 4، ح 18.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 168

ثم لو أمكن لها إدراك تمام الصلاة في الوقت لكن لا الاختياريّ منها بل الاضطراريّ كالصلاة مع التيمّم أو بلا ستر أو مع نجاسة البدن أو غير ذلك، فهل القواعد مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة تقتضي لزوم الإتيان و على فرض الترك القضاء؟

قد يقال: إنّ الأصل في كلّ شرط انتفاء المشروط بانتفائه، مع الشكّ في شمول ما دلّ على سقوطه عند الاضطرار لمثل المقام الّذي هو ابتداء التكليف. لكنّ الإنصاف أنّ ملاحظة الموارد الكثيرة الّتي رجّح الشارع فيها جانب الوقت على سائر الشرائط كترجيحه على الطهارة المائيّة و على الستر و طهارة البدن، بل ترجيحه على الركوع و السجود الاختياريّين إلى غير ذلك من الموارد توجب القطع بأنّ للوقت خصوصيّة ليست لسائر الشرائط، و أنّ المكلّف إذا أمكنه إتيان الصلاة بأيّ نحو في الوقت يلزم عليه الإتيان. و يدلّ عليه قوله «إنّ الصلاة لا تترك بحال» فمع النظر إلى هذا و إلى تلك الموارد الكثيرة يشرف الفقيه بالقطع بأنّ المكلّف إذا أمكنه إدراك الصلاة في الوقت و لو بفردها الاضطراريّ يجب عليه الإتيان، و مع الترك يجب القضاء للفوت، من غير فرق بين التكليف الابتدائيّ و غيره.

هذا كلّه بحسب القواعد، و أمّا

الروايات الخاصّة فهي على طوائف:

منها ما دلّت على أنّها إن طهرت قبل غروب الشمس أو قبل الفجر صلّت، كرواية أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلّت المغرب و العشاء، و إن طهرت قبل أن تغيب الشمس صلّت الظهر و العصر.

«1» و مثلها موثّقة ابن سنان و رواية الدجاجيّ و رواية عمر بن حنظلة، و الظاهر أنّها مستند المحقّق في إيجابه الصلاة عليها مع تمكّنها من الطهارة و الشروع في الصلاة كما هو المحكيّ عن المعتبر، لكنّ الظاهر منها مع قطع النظر عن سائر الروايات هو حصول الطهر قبل خروج الوقت بمقدار يمكنها إدراك الصلاة أداء، فإنّها ظاهرة في كون الصلاة أداء لا قضاء، فهي متعرّضة لوجوب الصلاة عليها إذا طهرت قبل غروب الشمس و أدركت ما هو تكليفها الفعليّ، و على فرض الأخذ بإطلاقها و الجمود عليها

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 49، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 169

يكون مفادها بالإطلاق أوسع ممّا ذكره المحقّق، فلا يلزم في وجوبها عليها إدراك الطهور و بعض الصلاة في الوقت، ضرورة صدق الطهر قبل أن تطلع الفجر على الطهر قبله بهنيئة لا يمكنها فيها التطهّر و إدراك بعض الصلاة، مع أنّه لا يلتزم به، و بعده لا وجه لما ذكره، بل الوجه هو إدراك الصلاة أداء على ما هو وظيفتها. نعم، لا فرق ظاهرا بين إدراكها مع الطهارة المائيّة أو الترابيّة أو مع إدراك سائر الشرائط الاختياريّة و عدمه، فلا تنافي تلك الروايات القاعدة المؤسّسة المتقدّمة بل تعاضدها فتجب عليها الصلاة إذا أدركت ثماني ركعات مع الطهارة الترابيّة و فقد الشرائط الاختياريّة،

كما يجب عليها مع إدراك ركعة بشرائطها الاختياريّة حسب ما فصّلناه آنفا.

و منها ما فصّلت بين حصول الطهر قبل العصر و غيره كرواية منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا طهرت الحائض قبل العصر صلّت الظهر و العصر، فإن طهرت في آخر وقت العصر صلّت العصر. و الظاهر أنّ المراد بقبل العصر قبل الوقت المختصّ و بآخر الوقت هو المختصّ، و هي شارحة لمفاد الروايات المتقدّمة أو مقيّدة لها على فرض إطلاقها، لكنّ المستفاد منها أنّها إن طهرت في آخر وقت العصر أي الوقت المختصّ به تجب عليها الصلاة. و معلوم أنّ نوع النساء لا يمكنهنّ إدراك الطهارة المائيّة إذا طهرن آخر وقت العصر، فإيجاب الصلاة عليهنّ لا يكون إلّا مع الطهارة الترابيّة، و حملها على آخر الوقت الإضافيّ أي أواخر الوقت بحيث يمكنهنّ الطهارة و إدراك الصلاة و لو ركعة في غاية البعد، خصوصا مع السبق بالجملة المتقدّمة.

و أمّا صحيحة إسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليه السّلام في الحائض إذا اغتسلت في وقت العصر تصلّي العصر ثمّ تصلّي الظهر «1» فقد حملها الشيخ على أنّها طهرت وقت الظهر و أخّرت الغسل حتّى ضاق الوقت، و لا بأس به جمعا بينها و بين سائر الروايات، مع أنّ التعبير ب «اغتسلت في وقت العصر» دون «طهرت» لا يخلو من إشعار بذلك.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 49، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 170

و منها ما تعرّضت للقضاء و استدلّوا بها للزوم سعة الوقت في الأداء و القضاء بمقدار الطهارة المائيّة و عدم كفاية الترابيّة، كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قال:

أيّما امرأة رأت الطهر و هي قادرة على أن تغتسل في وقت الصلاة ففرّطت فيها حتّى يدخل وقت صلاة أخرى كان عليها قضاء تلك الصلاة الّتي فرّطت فيها.

و إن رأت الطهر في وقت صلاة فقامت في تهيئة ذلك فجاز وقت الصلاة و دخل وقت صلاة اخرى فليس عليها قضاء، و تصلّي الصلاة الّتي دخل وقتها. «1» و موثّقة الحلبيّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة تقوم في وقت الصلاة فلا تقضي طهرها حتّى تفوتها الصلاة و يخرج الوقت، أ تقضي الصلاة الّتي فاتتها؟ قال: إن كانت توانت قضتها، و إن كانت دائبة في غسلها فلا تقضي. «2» و موثّقة محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: قلت: المرأة ترى الطهر عند الظهر فتشتغل في شأنها حتّى يدخل وقت العصر، قال: تصلّى العصر وحدها، فإن ضيّعت فعليها صلاتان. «3»

و ادّعى الأعلام استفادة اشتراط سعة الوقت للطهارة المائيّة منها، و في الجواهر أنّه مجمع عليه هنا بحسب الظاهر. و كلمات الأصحاب و إن كانت مقصورة على ذكر الطهارة بلا قيد المائيّة لكنّ الظاهر أنّ مرادهم المائيّة، لأنّ الترابيّة ليست عندهم طهارة بل مبيحة على المشهور نقلا و تحصيلا بل كاد أن يكون إجماعا كما في الجواهر، و لو لا اشتهار الحكم بين الأصحاب على الظاهر لكان للخدشة فيه مجال، فإنّ الروايات كلّها بصدد بيان حكم القضاء، و أنّ المرأة إذا طهرت ففرّطت يجب عليها القضاء، و إن طهرت فقامت في تهيئة الغسل و العمل بالوظيفة فجاز الوقت ليس عليها القضاء. و لا يبعد أن يكون المتفاهم منها و لو بحسب القرائن الخارجيّة أنّ المرأة إذا طهرت فقامت لإتيان الغسل و تهيئة أسبابه فجاز الوقت فجأة مع

غفلتها عن أنّ الاشتغال بشأنها يوجب فوت الوقت ليس عليها قضاء، و هذا لا يدلّ على عدم

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 49، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 49، ح 8.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 49، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 171

وجوب الأداء عليها مع الطهارة الترابيّة لو علمت بضيق الوقت. و بالجملة إنّ الروايات متعرّضة لحكم آخر و هو حكم القضاء على فرض عدم تقصيرها و تفريطها و أمّا تكليفها في الوقت ما ذا؟ و أنّه مع ضيق الوقت عن الطهارة المائيّة ليس عليها الأداء أو عليها ذلك؟ فليست ناظرة إليها، فرفع اليد عن إطلاق ما دلّت على وجوب الصلاة عليها لو طهرت قبل الغروب أو أخر وقت العصر مشكل.

هذا إذا كان المراد منها ما إذا اشتغلت المرأة بشأنها حتّى جاز الوقت فجأة كما لا يبعد من سوق الروايات، و أمّا إذا كان لها إطلاق من حيث العمد و عدمه و أنّها مع الالتفات إلى ضيق الوقت و عدم الفرصة لتحصيل الطهارة المائيّة اشتغلت بتهيئة الغسل حتى جاز الوقت، فالظاهر دلالتها على مقصودهم بملاحظة استفادة ذلك من الدلالة على عدم تفريطها و العمل بوظيفتها، و بملاحظة أنّ القضاء تابع للأداء، و الحكم بعدم القضاء عليها يكشف عن عدم الأداء عليها.

و الانصاف أنّ الإطلاق و إن كان مشكلا أو ممنوعا في بعض الروايات لكنّ الظاهر إطلاق بعض منها، فالوجه ما عليه الأصحاب و اشتهر بينهم و ادّعي الإجماع عليه، فلا بدّ من تقييد المطلقات. و أمّا رواية منصور بن حازم المتقدّمة ففيها ضعف بمحمّد بن الربيع المجهول، بل المطلقات المتقدّمة أيضا ضعيفة، أمّا رواية أبي الصباح فلاشتراك محمّد

بن الفضيل بين الثقة و غيره، و رواية عمر بن حنظلة بأبي جميلة مفضّل بن صالح الضعيف. نعم، رواية عبد اللّٰه بن سنان لا يبعد أن تكون موثّقة و إن كان في سندها الزبيريّ، لكن يمكن إنكار الإطلاق فيها بدعوى أنّه بعد عدم إمكان الأخذ بهذا الظاهر أي مجرّد الطهر قبل الفجر و الغروب فلا محالة يكون المراد منها وقتا تدرك فيه الصلاة، و لم يعلم مقدار هذا الوقت، و لعلّ المقدار المقدّر هو بمقدار الطهارة المائيّة، فليتأمّل.

ثم إنّ هاهنا فروعا اخرى تنقيح بعضها مربوط بغير هذا المقام، و بعضها واضح مدركا و قولا تركناه مخافة التطويل، و نتعرّض لبعضها في المقصد الثاني إن شاء اللّٰه تعالى، و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 172

المقصد الثاني في الاستحاضة

اشارة

و قد اختلفت كلمات اللغويّين فيها، ففي الصحاح: استحيضت المرأة أي استمرّ بها الدم بعد أيّامها، فهي مستحاضة. و قريب منه عن نهاية ابن الأثير. و يشعر ذلك بعدم الاستعمال المعلوم فيها مع استعمالها كرارا في مرسلة يونس الطويلة. و في القاموس: و المستحاضة من يسيل دمها لا من الحيض بل من عرق العاذل. و قال أيضا:

العاذل عرق يخرج منه دم الاستحاضة. و به قال الجوهريّ أيضا. و نقل عن ابن عبّاس أنّه قال حيث سئل عن دم الاستحاضة: ذاك العاذل. و عن المغرب: استحيضت- بضمّ التّاء- استمرّ بها الدم. و في المجمع: إذا سال الدم من غير عرق الحيض فهي مستحاضة. و لم يذكر في المنجد الاستحاضة و لا عرق العاذل. و عن الزمخشريّ:

الاستحاضة تخرج من عرق يقال له العاذل. و عن الفائق: كان تسمية ذلك العرق بالعاذل لأنّه سبب لعذل

المرأة أي ملامتها عند زوجها.

و المظنون أنّ اللغة في المقام لا تخلو عن شوب بما عن الشرع، و لعلّ قول ابن عبّاس في بعض الروايات كبعض فقرأت مرسلة يونس على بعض النسخ صار منشأ لذلك، و عدم ذكر المنجد ما ذكره غيره غير خال عن التأييد لما ذكرنا، و إلّا فمن المستبعد جدّا بل كاد أن يكون ممتنعا أن تكون الاستحاضة بتلك الحدود الّتي لها في الشرع أو أفتى بها الفقهاء منطبقة على ما ذكره الجماعة من خروجها من عرق العاذل و كون مجراها غير مجرى الحيض، فيكون الدم إلى آخر دقائق اليوم العاشر مثلا خارجا من عرق الحيض، و بعد ذلك ينسدّ ذلك العرق و ينفتح عرق العاذل لدفع الاستحاضة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 173

و الناظر في مثل المرسلة لا ينبغي أن يشكّ في أنّ التعبيرات الّتي فيها تعبّديّة خارجة عن فهم العرف و أهل اللغة، كقوله «إنّما هو عزف» بالزاي المعجمة و الفاء على ما في أكثر النسخ كما قال المجلسيّ، أو قوله «عزف عامر» أو «ركضة من الشيطان» قال في الوافي بعد نقله عن نهاية ابن الأثير أنّ العزف بمعنى اللعب بالمعازف أي الدفوف و غيرها: أقول: كأنّ المراد أنّه لعب الشيطان بها في عبادتها، كما يدلّ عليه قول الباقر عليه السّلام «عزف عامر» فإنّ «عامر» اسم الشيطان (انتهى). نعم في بعض النسخ بدل «عزف» إنّما هو عرق، و بدل قوله «عزف عامر» عرق غامد، و عن بعض روايات العامّة «عرق عائد» و كيف كان فلا يمكن لنا استفادة موضوع الاستحاضة من اللغة بحيث يخرج عن الإبهام. و ما ذكره الجوهريّ مع إمكان أخذه من الروايات و

مخالفته لمقتضى الاشتقاق لا يمكن الركون إليه و الوثوق به. و الأخبار الواردة في الاستحاضة و إن وردت غالبا في من استمرّ بها الدم بعد العادة إلّا أنّها ليست على وجه يستفاد منها انحصار الاستحاضة بالدم المستمرّ بعد العادة و إن كان بعضها لا يخلو من إشعار بذلك، و سيأتي دلالة بعضها على كونها أعمّ من ذلك.

و ليس للاستحاضة معنى عرفيّ لدى العرف العامّ يمكن تطبيقه على الحدود الّتي وردت لها في الشرع، بل لا يرى العرف الاستحاضة و الحيض دمين، بل قد يرى دم الحيض قليلا محدودا و قد يراه كثيرا مستمرّا، و يقال: صارت فلانة دائمة الحيض، كما هو ظاهر الاشتقاق على وجه. و في مرسلة يونس أنّ حمنة بنت جحش قالت لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: إنّي استحضت حيضة شديدة، و فيها أيضا أنّ فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّي أستحاض فلا أطهر، فقال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم:

ليس ذلك بحيض، إنّما هو عزف. فأرادت بقوله «إنّي أستحاض فلا أطهر» صرت حائضا حيضا دائما، و لذا نفى حيضيّته و قال إنّه عزف، أي لعب الشيطان كما مرّ.

نعم هنا كلام قد مرّ في أوّل بحث الحيض، و مجملة أنّ الحيض هو الدم الطبيعيّ المقذوف من أرحام النساء، و لمّا كانت الأرحام السليمة عن الآفات و الصحيحة عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 174

الأمراض لا تقذف بحسب النوع أقلّ من ثلاثة أيّام و لا أكثر من عشرة أيّام و قذف الأقلّ و الأكثر منهما بحسب الطبع نادر جدّا و كذا الحال بالنسبة إلى

ما قبل البلوغ و بعد اليأس حدّد الشارع لدم الحيض حدودا، فجعل أقلّ الحيض ثلاثة و أكثره عشرة و علّق أحكاما على الدم المقذوف من الثلاثة إلى العشرة، بحيث لو علمنا أنّ الأقلّ أو الأكثر هو الدم المعهود المقذوف و كذا لو قذفت قبل البلوغ و بعد اليأس و علمنا أنّه هو المعهود المقذوف بحسب طبيعتها الشخصيّة لم نحكم بحيضيّته و لم نرتّب عليه أحكامها، لتحديد الشارع موضوع حكمه، فلا يكون الدم الطبيعيّ مطلقا موضوعا لحكمه، بل ألغى النادر عن الحساب و حكم عليه بغير حكم الحيض، فالأقلّ من الثلاثة ليس من الحيض كالأكثر من العشرة، و كالمرئيّ في حال الصغر و اليأس و غير ذلك ممّا حدّده الشارع. ثمّ إذا اختلّ الرحم و خرج عن السلامة و الصحّة و الاعتدال الّتي لنوع الأرحام قذفت الأقلّ أو الأكثر، فاستمرار الدم لعارض، و عدم الرؤية على طبق عادات النوع أيضا لعارض و خلل، و لذا يحتاج كلّ ذلك إلى العلاج و استرجاع الصحّة و السلامة.

و لمّا كانت الأرحام في غير أحوالها الطبيعيّة و في حال اختلالها و خروجها عن الاعتدال لا تقذف نوعا الدم الصالح الطبيعيّ بل يكون غالبا فاسدا كدرا له فتور ممّا هي لازمة لضعف المزاج و خروجه عن الاعتدال جعل الشارع المقدّس الصفات الغالبيّة أمارة على الاستحاضة أي الدم المقذوف حال خروج المزاج و الرحم عن الاعتدال نوعا. فالصفات أمارات غالبيّة يرجع إليها لدى الشك، إلّا إذا قام الدليل على خلافها.

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في مقامات:

المقام الأول: في الأوصاف الّتي جعلت بحسب الروايات أمارة،

و هي كثيرة مستفادة منها إمّا لذكرها فيها أو لذكر مقابلها للحيض مع الدوران بينهما. ففي صحيحة معاوية بن عمّار ذكر البرودة صفة للاستحاضة مقابل الحرارة

للحيض؛ و في موثّقة إسحاق بن جرير جعل الفساد و البرودة صفة الاستحاضة، و الحرقة و الحرارة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 175

صفة الحيض؛ و في صحيحة حفص بن البختريّ أنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد. «1» و منها يستفاد أنّ لدم الاستحاضة كدرة و فتورا أو فسادا و فتورا، فإنّ العبيط هو الطريّ الصالح، و في مرسلة يونس جعل إقبال الدم علامة الحيض و إدباره علامة الاستحاضة، و الإدبار هو الضعف و الفتور و القلّة مقابل الكثرة و الدفع و القوّة؛ و فيها أيضا وصف دم الحيض بالبحرانيّ، و قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّما سمّاه أبي بحرانيّا لكثرته و لونه. و مقابلة القلّة و ضعف اللون، و هو الأصفر كما في غيرها؛ و في صحيحة أبي المغراء في باب اجتماع الحيض و الحمل جعل القلّة موضوعا لوجوب الغسل عند كلّ صلوتين؛ و في موثّقة إسحاق بن عمّار جعل الصفرة موضوعا؛ و في رواية محمّد بن مسلم جعل القلّة و الصفرة موضوعا لوجوب الوضوء، كصحيحته الأخرى و روايتي عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام. و في صحيحة عليّ بن يقطين ذكر الرقّة صفة للاستحاضة. و عن دعائم الإسلام: روينا عنهم عليهم السلام أنّ دم الحيض كدر غليظ منتن، و دم الاستحاضة دم رقيق. «2» و عن فقه الرضا أنّ دمها يكون رقيقا تعلوه صفرة. «3» و في مرسلة يونس: تكون الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض إذا عرفت حيضا كلّه. «4» و يعلم منها كون الكدرة من صفات الاستحاضة، إلى غير ذلك.

لكن الفقهاء لم يذكروا غالبا في صفة

الاستحاضة غير الصفرة و البرودة و الرقّة و الفتور على اختلاف منهم في ذكر الأربعة و الاقتصار على بعضها. و عن المقنعة أنّه دم رقيق بارد صاف. فذكر الصفاء و ترك الصفرة و الفتور، و لا يبعد أن يكون بعض تلك الصفات ملازما لبعض، و يرجع أصولها إلى أربع أو أقلّ منها، و به يجمع بين الكلمات بل الأخبار، لا بأن تكون خاصّة مركّبة كما مرّ في باب الحيض دفع القول

______________________________

(1) قد مرت الروايات في أوائل المقصد الأول.

(2) مستدرك الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 2.

(3) مستدرك الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 3.

(4) الوسائل: أبواب الحيض ب 3، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 176

به، بل كلّ صفة من الأصول مستقلّة في الأماريّة، لكن بعضها لا ينفكّ من بعض الصفات، و لا يبعد أن تكون الصفرة غير منفكّة عن الفتور و الرقّة غالبا، و الكدرة عن الفساد، و البرودة عن الفتور، و قد مرّ في باب الحيض ما يفيد في المقام، فراجع.

ثم إنّه لا إشكال في حصول التميّز بالأوصاف المنصوصة في الحيض و الاستحاضة، و أمّا غيرها كالغلظة و النتن و غيرهما فالأقرب عدم الاعتداد بها، لعدم دليل معتبر عليها. نعم، ورد في الدعائم- كما تقدّم- الكدر و الغليظ و المنتن، و في دم الاستحاضة الرقيق، لكنّ الاعتماد على مثل تلك المرسلة غير جائز.

و ما يقال من أنّ المستفاد من الأدلّة كقوله في المرسلة الطويلة «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي- إلخ-» و قوله «دم الحيض أسود يعرف» و قوله «دم الحيض ليس به خفاء» أنّ العبرة بمطلق الأمارات المختصّة بالحيض غالبا الكاشفة عنه ظنّا،

من إيكاله إلى الوضوح مع أنّه لا يتّضح عند العرف إلّا بالقوّة و الضعف مطلقا لا خصوص ما نصّ عليه، هو ما ذكرنا.

ففيه ما لا يخفى، فإنّ قوله «إذا أقبلت الحيضة ..» يراد به الكثرة و الدفع الواردان في الأمارات، و لا يفهم منه اعتبار مطلق الظنّ الحاصل بكلّ وصف، و قوله «أسود يعرف» أو «ليس به خفاء» لا تسلّم دلالتهما على ما ذكر بعد عدم إرادة حصول العلم من الأوصاف كما يدلّ عليه تأخير ذكرها عن العادة، بل لا يبعد أن يكون المراد منهما أنّ له أمارات شرعيّة ليس به لأجلها خفاء، ضرورة أنّ هذه الأوصاف ليست أمارة و لو ظنيّة عند العقلاء في من استمرّ بها الدم، فإنّ الدم المستمرّ عندهم ليس طبائع مختلفة كما مرّ مرارا. نعم، قد يكون بعض الأمارات و القرائن في غير من استمرّ بها الدم موجبا لحصول العلم أو الاطمئنان، و قلّما يتّفق ذلك في مستمرّة الدم الّتي هي موضوع البحث هاهنا. فالتجاوز عن الأوصاف المنصوصة ممّا لا يمكن الالتزام به.

المقام الثاني في بيان حدود دلالة الروايات

اشارة

الدالّة على أماريّة الصفات على الاستحاضة، و أنّه هل يكون فيها ما يدلّ على كون الصفات أمارة مطلقا حتّى بالنسبة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 177

إلى ما قبل البلوغ و بعد اليأس، و بالنسبة إلى الأقلّ من الثلاثة؟ و بالجملة هل تدلّ على ثبوت الكلّيّة المذكورة في كلام المحقّق و من بعده، و هي أنّ كلّ دم تراه المرأة و لم يكن حيضا و لا دم قرح و لا جرح فهو استحاضة، و كذا ما يزيد عن العادة و يتجاوز العشرة أو يزيد عن أيّام النفاس و ما تراه بعد اليأس أو

قبل البلوغ أو مع الحمل بناء على عدم اجتماع الحمل و الحيض، و بعبارة أخرى: كلّ دم ليس بحيض و لا قرح و لا جرح هو استحاضة مع الاتّصاف بصفاتها؟ أو يمكن إثبات أنّ كلّ دم ليس بحيض و لا نفاس و لم يعلم كونه استحاضة أو قرحا أو جرحا فهو استحاضة مع الاتّصاف بصفاتها؟

فلا بدّ من ذكر ما يمكن أن يستدلّ به للمطلوب أو بعضه و حدود دلالته حتّى يتّضح الحال، فنقول و على اللّٰه الاتّكال:

منها صحيحة معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إنّ دم الاستحاضة بارد، و إنّ دم الحيض حارّ. «1» و هي لا تدلّ إلّا على أنّ الفرق بينهما ذلك، و في دوران الأمر بينهما يمتاز أحدهما عن الآخر بما ذكر، و أمّا أنّ كلّ بارد استحاضة أو كلّ حارّ حيض فلا يستفاد منها. نعم، إذا كان الاحتمال ثلاثيّا أو أكثر و كان الدم باردا يحكم بعدم الحيضيّة، و إن كان حارّا يحكم بعدم كونه استحاضة، لظهورها في أنّ ما كان باردا ليس بحيض فإنّ صفته هي الحرارة، و ما كان حارّا ليس باستحاضة. و كذا إذا كان الدوران بين الاستحاضة و الجرح مثلا و كان الدم حارّا يحكم بعدم كونه استحاضة، و لا يبعد إثبات مقابلها بلازمه.

و منها صحيحة حفص بن البختريّ، قال: دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام امرأة فسألته عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري أ حيض هو أو غيره؟ قال: فقال لها: إنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة بارد- إلخ. «2» تقريب الاستدلال بها

على جعل الأمارة مطلقا سواء كان الاحتمال ثنائيّا أو أكثر أنّها سألت عمّن استمرّ بها الدم مطلقا، فلا يختصّ سؤالها بذات العادة أو غيرها، فيشمل جميع

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 178

النسوة؛ و أيضا فرضت استمرار الدم من غير سبقه بالحيض، فلا يكون مفروضها استمرار الدم بعد الحيض؛ و أيضا قالت «فلا تدري حيض هو أو غيره» و لم تقل: أو استحاضة، و مع ذلك أجاب الإمام عليه السّلام بما أجاب بلا اعتناء بسائر الاحتمالات، فكان احتمال كون الدم من قرح أو جرح أو مبدأ آخر غير ذلك غير معتنى به، فتكون الأوصاف الاولى أمارة أو أمارات على الحيضيّة، و الأخرى على كونه استحاضة.

و إن شئت قلت: إنّ الحرارة مثلا أمارة الحيض مطلقا احتمل معه الاستحاضة أو القرح و الجرح أو غيرها، و كذا البرودة أمارة الاستحاضة مطلقا، بل بمناسبة الإرجاع إلى الصفات بعد كون الرجوع إليها متأخّرا عن الرجوع إلى العادة يعلم أنّ المرأة الّتي كانت غير ذات لعادة تكليفها الرجوع إلى صفة الحيض و صفة الاستحاضة، فيعلم منها أنّ الاستحاضة لا تنحصر بما يخرج بعد العادة كما زعم صاحب الصحاح و نقل عن النهاية، بل الدم المستمرّ و لو من غير ذات العادة مبتدئة كانت أو مضطربة إذا كان بصفة الاستحاضة استحاضة، فما في بعض كلمات أهل التحقيق من أنّ الاستحاضة لم تستعمل في الأخبار إلّا في ما استمرّ الدم و تجاوز عن أيّام الحيض كما قال الجوهريّ ليس على ما ينبغي، و ستعرف استعمالها في غيره في بعض الروايات الأخر، مع أنّ في

ما ذكر كفاية، هذا.

و لكن يمكن أن يقال- مضافا إلى قصور الرواية عن إثبات عموم المدّعي أي الكلّيّة المتقدّمة-: إنّ معهوديّة دم النساء في الدمين أو الدماء الثلاثة و كون احتمال القرح و الجرح ممّا لا ينقدح في الذهن غالبا لندرتهما توجب أن تكون الرواية سؤالا و جوابا منصرفة عن سائر الدماء غير الدمين، فكان السؤال عن الدم المعهود منهنّ الدائر أمره بين الحيض و الاستحاضة، و قولها «أو غيره» ليس المراد منه إبداء احتمال غير الاستحاضة و الحيض، فكأنّها قالت: حيض أولا، و لهذا أجاب عليه السّلام عن الحيض و الاستحاضة فقط، فحينئذ لا يستفاد منها أماريّة الصفات في غير مورد الدوران.

نعم، يستفاد منها أنّ الاستحاضة لا تنحصر بالدم المستمرّ بعد أيّام العادة، كما أنّه مستفاد من مرسلة يونس، فإنّ تقسيم حالات المستحاضة إلى الأقسام الثلاثة و جعل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 179

السنّة الثالثة للمستحاضة الّتي لم تر الدم قطّ، و رأت أوّل ما أدركت، و استحاضت أوّل ما رأت، و غيرها من التعبيرات دليل على عدم الانحصار بما ذكره الجوهريّ و ابن الأثير. نعم، لا تدلّ هي و لا الصحيحة على إطلاقها على غير استمرار الدم، و لا على الاستمرار مطلقا كالاستمرار قبل البلوغ و بعد اليأس.

و منها صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتّى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1» و الظاهر من رؤية الصفرة في غير أيّامها حدوثها في غير أيّامها سواء كان قبلها أو بعدها. و أمّا احتمال كون المراد استمرار الصفرة إلى

ما بعد أيّامها ففاسد، كما أنّ قوله «توضّأت و صلّت» ظاهر في أنّ الصفرة موجبة للوضوء، لا أنّ ذكر الوضوء إنّما هو لكونه شرطا للصلاة، ضرورة أنّ ظاهر الشرطيّة دخل الشرط في ترتّب الجزاء، مع أنّ اختصاص الوضوء بالذكر من بين سائر الشرائط يبقى بلا وجه.

و كيف كان فلا إشكال في ظهورها في أنّ الصفرة مطلقا في غير أيّام العادة موجبة للوضوء، و تكون حدثا بصرف وجودها استمرّت أولا، يخرج منها المستمرّة إلى ثلاثة أيّام مع عدم التجاوز عن العشرة للإجماعات المتقدّمة و يبقى الباقي. و لعلّ ذكر الوضوء دون الغسل مع أنّ المتوسّطة و الكثيرة توجبانه لكون الصفرة غالبا غير منفكّة عن القلّة كما تشهد له بل تدلّ عليه صحيحة يونس في أبواب النفاس، قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر ممّا كانت ترى، قال: فلتقعد أيّام قرئها الّتي كانت تجلس ثمّ تستظهر بعشرة أيّام، فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل عند وقت كلّ صلاة، و إن رأت صفرة فلتتوضّأ ثمّ لتصلّ. «2» حيث جعل الصفرة في مقابل الصبيب أي المنحدر الكثير، مع أنّه إطلاق قابل للتقييد.

ثم إنّ دلالتها على أنّ الصفرة في غير أيّامها أمارة الاستحاضة لا ينبغي أن

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 180

تنكر، لأنّ ما يوجب الوضوء من الدماء ليس إلّا الاستحاضة، فيكشف الأمر بالوضوء عن كونها استحاضة. و احتمال كون الأمر بالوضوء للزوم عمل الاستحاضة عليها و لا يلزم أن تكون مستحاضة و الدم استحاضة، بعيد عن فهم العرف و الصواب. و الإنصاف أنّ العرف بعد ما

يرى أنّ الصفرة جعلت علامة للاستحاضة في الجملة و يرى أنّ حكم الاستحاضة الوضوء، دون سائر الدماء ثمّ يسمع هذا الحديث لا تنقدح في ذهنه هذه الوساوس، و يفهم من الرواية أنّ الصفرة أمارة الاستحاضة. نعم، لو ثبت كون الاستحاضة لغة و عرفا هي ما قال الجوهريّ لم يكن بدّ عن الالتزام بلزوم ترتيب أحكامها من غير أن يكون الدم استحاضة و المرأة مستحاضة، بل مع احتمال ذلك أيضا يشكل الحكم بهما، لكن معهوديّة انحصار دم النساء بالثلاثة توجب الكشف المشار إليه آنفا.

و منها رواية قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن المرأة ترى الصفرة أيّام طمثها كيف تصنع؟ قال: تترك لذلك الصلاة بعدد أيّامها الّتي كانت تقعد في طمثها ثمّ تغتسل و تصلّي، فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها يجزيها الوضوء عند كلّ صلاة و تصلّي. «1» و دلالتها واضحة، لأنّ الوضوء عند كلّ صلاة حكم الاستحاضة.

و منها روايته الأخرى عنه عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن المرأة ترى الدم في غير أيّام طمثها، فتراها اليوم و اليومين، و الساعة و الساعتين، و يذهب مثل ذلك، كيف تصنع؟ قال: تترك الصلاة إذا كانت تلك حالها ما دام الدم، و تغتسل كلّما انقطع عنها. قلت: كيف تدفع؟ قال: ما دامت ترى الصفرة فلتتوضّأ من الصفرة و تصلّي، و لا غسل عليها من صفرة تراها إلّا في أيّام طمثها- إلخ- «2» و الظاهر سقوط شي ء أو تقديم و تأخير في الرواية، و لعلّ الصحيح: قلت: كيف تصنع إذا رأت صفرة؟ قال- إلخ- أو: قلت: كيف تصنع ما دامت ترى الصفرة؟ قال: فلتتوضّأ من

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض،

ب 4، ح 7.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 4، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 181

الصفرة. و كيف كان فهي ناصّة في أنّ الوضوء من الصفرة و أنّها حدث، و يدفع به الاحتمال عن صحيحة محمّد بن مسلم على فرضه، و تقريب الدلالة كما تقدّم، و لا بدّ من توجيه صدرها، و لعلّه حكم ظاهريّ عند رؤية الدم و الطهر.

و منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و فيها: و إن لم تر شيئا (أي بعد الاستبراء) فلتغتسل، و إن رأت بعد ذلك صفرة فلتوضّأ و لتصلّ. «1»

و منها روايات في باب اجتماع الحيض و الحمل، كصحيحة أبي المغراء، و فيها إن كان دما كثيرا فلا تصلّينّ، و إن كان قليلا فلتغتسل عند كلّ صلوتين. «2» و كموثّقة إسحاق بن عمّار عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم و اليومين، قال: إن كان دما عبيطا فلا تصلّي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كلّ صلوتين. «3» بعد توجيه صدرها، و كرواية محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء. «4» و غاية ما يستفاد من مجموع الروايات أماريّة الصفات للاستحاضة في ما دار الأمر بينها و بين الحيض و لو في غير مستمرّة الدم، أو في أعمّ منه و ممّا احتمل فيه شي ء آخر من قرح أو جرح بشرط عدم تحقّق مبدئهما، على تأمّل فيه كما مرّ. و أمّا استفادة حكم دم الصغيرة و اليائسة فلا، لعدم عموم أو إطلاق يرجع إليهما، و لعدم إمكان تنقيح المناط و إلغاء الخصوصيّة عرفا.

و

منه يظهر الكلام في «المقام الثالث» أي انّ كلّ ما يمتنع أن يكون حيضا فهو استحاضة و لو لم يتّصف بصفاتها، حيث إنّ الروايات الّتي استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها لذلك مثل ما دلّت على أنّها مستحاضة بعد الاستظهار، و مثل صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إذا مكثت المرأة عشرة أيّام ترى

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 17، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 6.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 15.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 182

الدم ثمّ طهرت فمكثت ثلاثة أيّام طاهرا ثمّ رأت الدم بعد ذلك أ تمسّك عن الصلاة؟

قال: لا، هذه مستحاضة تغتسل و تستدخل قطنة- إلخ- «1» و كصحيحة الصحّاف الواردة في الحامل «2»، لا يمكن استفادة تلك الكلّيّة منها.

نعم قد يقال: إنّ المستفاد من موارد الدماء الممتنعة كونها حيضا الّتي تعرّض لها الشارع ابتداء و في جواب السؤال و حكم بكونها استحاضة حقيقيّة أو حكميّة أو كون صاحبها مستحاضة مع احتمال وجود دم آخر في الجوف غير الحيض و الاستحاضة عدم الاعتناء بهذا الاحتمال في كلّ ما امتنع كونه حيضا و إن لم يتعرّض له في الأخبار، فيحصل حدس قطعيّ للفقيه بأنّه لو تعرّض الإمام عليه السّلام للدم الخارج عن اليائسة الفاقدة لصفات الاستحاضة لحكم بكونها استحاضة. مع إمكان أن يقال: إنّه إذا حكم على الصفرة مطلقا بكونها حدثا- كما تقدّم استفادة ذلك من بعض الأخبار- فيكون الحمرة الممتنعة كونها حيضا كذلك بطريق أولى، فتأمّل (انتهى).

و فيه:- مع ممنوعيّة الحدس القطعيّ و كون العهدة على مدّعيه- أنّه

على فرض تسليمه غير مفيد، بل القطع بكون ما تقذفه بعد اليأس أو قبل البلوغ هو الدم الطبيعيّ الّذي تقذفه الرحم في أيّام إمكان الحيض، بل القطع بكونه استحاضة غير مفيد ما لم يدلّ دليل على أنّ كلّ استحاضة أو مستحاضة محكومة بتلك الأحكام، و إلّا فقد أوضحنا سابقا أنّ الدم المقذوف من الرحم يعدّه العرف مع قطع النظر عن حكم الشارع حيضا، كان مستمرّا بعد العادة أولا، كان أقلّ من ثلاثة أيّام أولا، أكثر من عشرة أيّام أو لا، بعد اليأس أو قبله. لكنّ الشارع جعل لقسم منه أحكاما و لقسم آخر أحكاما أخرى و سمّى الثاني استحاضة، فما جعله الشارع موضوعا لحكمه الأوّل ليس مهيّة مباينة لما جعله موضوعا لحكمه الثاني، فحينئذ بعد العلم بكون الدم حيضا أو استحاضة لا بدّ من التماس الدليل على موضوعيّته للحكم، فالدم

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 183

المقذوف قبل البلوغ أو بعد اليأس ليسا حيضا حكما بلا إشكال و كلام و إن ثبت كونهما حيضا موضوعا، أي ثبت كونهما الدم المعهود المقذوف بحسب العادة الطبيعيّة، فلا بدّ في ثبوت حكم الاستحاضة لهما من قيام دليل على أنّ كلّ دم لم يكن حيضا و لو حكما فهو استحاضة حكما، أو إثبات الحكم لكلّ مستحاضة.

و الأخبار الواردة في أبواب الحيض و الاستحاضة ليس فيها ما يدلّ على ذلك غير موثّقة سماعة، قال: قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلوتين. «1» ثمّ ذكر فيها أقسام الاستحاضة و أحكامها، لكن استفادة الإطلاق منها مشكلة، حيث إنّها في مقام بيان أقسام

الاستحاضة و المستحاضة، فكأنّه قال:

المستحاضة على أنواع: منها كذا، و منها كذا .. فاستفادة ثبوت الأحكام لكلّ مستحاضة حتّى في حال الصغر ممنوعة لعدم كون الأحكام للصغيرة، و كذلك بعد الكبر.

و غير رواية العيون عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون: و المستحاضة تغتسل و تحتشي و تصلّي، و الحائض تترك الصلاة و لا تقضي، و تترك الصوم و تقضي. «2» و هي أيضا في مقام بيان حكم آخر، فإنّ جعل المستحاضة في مقابل الحائض و أنّها كذا و هي كذا يمنع عن الإطلاق، و أمّا سائر الأخبار فكلّها على الظاهر واردة في الّتي تحيض كأخبار الاستحاضة و أخبار النفاس و أخبار الاستظهار.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الشكّ في ثبوت أحكام المستحاضة لما بعد اليأس و قبل البلوغ إمّا لأجل احتمال كون الدم بعد اليأس و قبل البلوغ مهيّة غير مهيّة دم الحيض و الاستحاضة و يكون مجراه غير مجراهما و لا تكون حقيقته هي الدم الطبيعيّ المقذوف من الأرحام كسائر الدماء المقذوفة منها، فهو مقطوع الفساد و مخالف للوجدان في بعض مصاديقها، كما لو استمرّ دم المرأة من ما قبل يأسها إلى ما بعده، فهل يحتمل كونه إلى آن ما قبل اليأس من مجرى مستقلّ، مقذوفا من الرحم معهودا من النساء، فلمّا انقضى ذلك الآن تغيّر المجرى و خرج من مجرى آخر غير السابق

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 6.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 41، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 184

و لا يكون الدم المقذوف المعهود؟! و كذا الحال في ما قبل البلوغ، فإذا فرض رؤية الدم على النهج المألوف في سنة قبل بلوغها و

استمرّ في شهر قبل البلوغ حتّى بلغت، فهل يجوز احتمال اختلاف طبيعته و مجراه ساعة ما قبل البلوغ و ما بعده؟! و الانصاف أنّ الشكّ من جهة الموضوع في مثل ما ذكر في غاية الوهن، و يعدّ من الوسوسة و مخالفا للعرف و اللغة. و بعد رفع الشكّ من هذه الجهة يبقى الشكّ من جهة أخرى، و هي احتمال أن يكون الدم المحكوم بكونه استحاضة شرعا هو ما ترى في زمان البلوغ إلى حدّ اليأس. و هذا الشكّ مدفوع أمّا بالنسبة إلى اليائسة فبإطلاق الأدلّة في بعض الموارد كما إذا رأت دما عشرة أيّام مثلا و طهرا ثلاثة أيّام و تكون هذه الأيّام قبل اليأس ثمّ رأت دما بعده، فهذا مشمول إطلاق صحيحة صفوان بن يحيى المتقدّمة، و كون ما ذكر فردا نادرا لا يوجب الانصراف و عدم الإطلاق، فهل ترى عدم إطلاقها بالنسبة إلى ما قبل الياس بشهر مثلا؟ مع عدم الفرق بينه و بين ما ذكرنا في ذلك.

و كذا يشمل بعض الفروض إطلاق مرسلة يونس الطويلة، كما إذا استمرّ دم ذات العادة إلى ما بعد اليأس، و يكون آخر عادتها متّصلا بيأسها، فتكون مشمولة لقوله «فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة» و كذا يشمل بعض فقرأتها بعض الفروض الأخرى، فحينئذ تثبت لليائسة أحكام الاستحاضة في بعض الفروض بالأدلّة و في بعضها بالاستصحاب أيضا، و يتمّ في ما عداها بالقطع بعدم الفرق، و بعدم القول بالفصل قطعا، بل لا يبعد إطلاق مثل موثّقة سماعة و رواية العيون. و المناقشة المتقدّمة لعلّها في غير محلّها بعد فرض تحقّق الموضوع عرفا و لغة، بل يمكن أن يقال: إنّ الأحكام المترتّبة على المستحاضة

مترتّبة ظاهرا على نفس الطبيعة و إن كان مورد كثير منها ذات العادة أو من تحيض، لكن لا يفهم منها الخصوصيّة، بل كثير منها يشمل بعض الفروض المتقدّمة، هذا كلّه حال اليائسة.

و أما الصغيرة فبعد فرض تحقّق الموضوع أي كون الدم المستمرّ منها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 185

استحاضة يمكن استفادة حكمها من بعض الأدلّة في الجملة، فإنّ الظاهر من مثل قوله «و إذا رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت» و قوله «ما دامت ترى الصفرة فلتتوضّأ من الصفرة» أنّ لها سببيّة للوضوء، و أنّ دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء وضعا، فيكون المقام نظير ما ورد في سببيّة النوم و البول للوضوء ممّا يعلم منه كونهما سببين من غير فرق بين صدورهما من الصغير و الكبير و المجنون و غيرهم، فقوله «فلتتوضّأ من الصفرة» ظاهر في سببيّة طبيعتها للوضوء، و يكون إيجاب الوضوء إرشادا إلى السببيّة، فيفهم العرف أنّ نفس الطبيعة سبب وضعا للوضوء، و إن كان التكليف لا يتعلّق بالصغيرة في حال صغرها. و الإنصاف أنّ الحكم ثابت بعد تحقّق الموضوع، نعم مع الشكّ في تحقّقه كما لو رأت الصغيرة الدم في أوائل سني ولادتها لا يمكن إثبات الحكم. و الظاهر أنّ مثلها خارج عن نظر الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم.

«فرع»

كان مقتضى الترتيب ذكر جواز اجتماع الحمل و الحيض في باب الحيض، لكن لمّا كان بحثنا على ترتيب الشرائع وقع في بعض المباحث خلاف ترتيب، و الأمر سهل.

و قد اختلفت كلمات الأصحاب اختلافا كثيرا في هذا الفرع، فقيل باجتماعهما مطلقا كما عن المبسوط في العدد، و الفقيه و المقنع و الناصريّات، و عن كثير من كتب العلّامة و عن

الشهيد و المحقّق الثاني و غيرهم. و عن المدارك أنّه مذهب الأكثر، و عن جامع المقاصد أنّه مذهب المشهور، بل عن الناصريّات الإجماع عليه، و في الجواهر أنّه المشهور نقلا و تحصيلا. و قيل بعدمه مطلقا كما عن الكاتب و المفيد و الحلّيّ و العجليّ، و هو مختار الشرائع، و عن النافع أنّه أشهر الروايات، و عن شرح المفاتيح، و ادّعى تواتر الأخبار في ذلك، و لعلّ المراد بأشهر الروايات أو الروايات المتواترة الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة، كما وردت في استبراء الجواري و السبايا و ما وردت في جواز طلاق الحامل على كلّ حال و غيرها ممّا سيأتي الكلام فيها. و قيل بالتفصيل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 186

بين استبانة الحمل و عدمها، فلا تحيض في الأوّل كما عن النهاية و التهذيب و الاستبصار، و عن المحقّق في المعتبر الميل إليه، و عن المدارك تقويته. و قيل إنّه إن رأت في أيّام عادتها و استمرّت ثلاثة أيّام فهو حيض. و قيل بحيضيّة ما ترى في العادة و ما تقدّمها و ما ترى جامعا للصفات، و بعدم الحيضيّة في غيرهما إلى غير ذلك.

فالمسألة ليست من المسائل الّتي يمكن فيها التمسّك بالشهرة و الإجماع، فلا بدّ من النظر في أدلّة القوم. فتدلّ على الأوّل أي الاجتماع مطلقا- بعد الأصل في بعض الفروع و العمومات الدالّة على أنّ ما رأت في أيّام العادة حيض و أدلّة الصفات- الأخبار المستفيضة المعتبرة الأسناد و الواضحة الدلالة، مثل صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه سئل عن الحبلى ترى الدم أ تترك الصلاة؟ فقال: نعم، إنّ الحبلى ربما قذفت بالدم.

«1» و صحيحة صفوان، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيّام أو أربعة أيّام، تصلّي؟ قال: تمسك عن الصلاة.

«2» و صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الحبلى ترى الدم كما كانت ترى أيّام حيضها مستقيما في كلّ شهر، قال: تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع في حيضها، فإذا طهرت صلّت. «3» و صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الحبلى، ترى الدم؟ قال: نعم، إنّه ربما قذفت المرأة الدم و هي حبلى. «4» و صحيحة سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: جعلت فداك، الحبلى ربما طمثت؟ قال: نعم، و ذلك أنّ الولد في بطن امّه غذاؤه الدم، فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة. «5» إلى غير ذلك

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30 ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 7.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 10.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 187

مما لا شبهة في دلالتها. و تدلّ على الاجتماع في الجملة جملة كثيرة من الروايات الأخر كصحيحة ابن الحجّاج «1» و الحسين بن نعيم الصحّاف «2» و أبي المغراء حميد بن المثنّى «3» و موثّقة إسحاق بن عمّار «4» ممّا صرّحت بالجمع مع قيود سيأتي الكلام فيها.

و استدلّ على النفي مطلقا بطوائف من الروايات: منها ما في هذا الباب، عمدتها قويّة السكونيّ عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و

سلّم: ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع حبل. يعني إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة، إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة. «5» و ليعلم أنّ التفسير لأبي جعفر عليه السّلام أو لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام أو للسكونيّ، و مع الاحتمال و عدم الدليل على كونه للإمام عليه السّلام لا يمكن التمسّك بالتفسير. و مع قطع النظر عنه يمكن الخدشة في ما نقل عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أمّا أوّلا فلأنّ هذا التعبير ممّا يستشمّ منه الطفرة عن بيان الحكم، فإنّ لمثل هذا التعبير مقاما خاصّا و لا يناسب عدم اجتماع الحمل و الحيض فإنّ قوله «ما كان اللّٰه ليفعل كذا.» يناسب موردا يكون صدور الفعل خلاف شأن الفاعل أو المفعول به، كقوله تعالى وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ و قوله مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ إلى غير ذلك ممّا هو على هذا الأسلوب، و معلوم أنّ اجتماع الحيض و الحمل ليس كذلك لا تكوينا و لا تشريعا، و الظاهر أنّ الرواية بصدد بيان التشريع، و إلّا فلا شبهة بحسب التكوين في اجتماع الدم المعهود قذفه من طبيعة الأرحام في بعض الأوقات مع الحمل كما أشار إليه بعض الروايات المتقدّمة، فحينئذ أيّ محذور في جعل الحكم على الدم المقذوف

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 3.

(3) الوسائل:

أبواب الحيض، ب 30 ح 5.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 6.

(5) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 188

في حال الحمل حتّى يستحقّ هذا التعبير؟ تأمّل.

و أمّا ثانيا فلإمكان أن يقال: إنّ المراد من قوله هذا هو نفي التلازم بين حيض و حمل فقوله «ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع حبل» أي ما كان اللّٰه ليجعل المعيّة و الملازمة بينهما بل قد يفترقان و قد يجتمعان، و هذا التوجيه و إن كان مخالفا لفهم العرف بدء لكن في مقام الجمع بينها و بين ما صرّح بالقذف في بعض الأحيان لا يكون بذلك البعد.

و إن أبيت عنه فلا محيص عن ردّ علمها إلى أهله بعد عدم مقاومتها سندا و دلالة لما تقدّم و بعد كونها موافقة لأشهر فتاوى العامّة و كون الراوي عاميّا، و سيأتي بعض الكلام في الرواية في باب النفاس.

و اما صحيحة حميد بن المثنّى قال: سألت أبا الحسن الأوّل عليه السّلام عن الحبلى ترى الدفقة و الدفقتين من الدم في الأيّام و في الشهر و الشهرين، فقال: تلك الهراقة، لبس تمسك هذه عن الصلاة. «1» فلا ربط لها بالمقام، فإنّ عدم الإمساك عنها لأجل عدم حصول شرط الحيض، فغير الحبلى أيضا كذلك، لكنّ السائل لمّا سأل عن الحبلى أجاب عنها، و لو سأله عن غيرها أيضا كان الحكم عدم الإمساك.

و كذا رواية مقرن الفتيانيّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سأل سلمان عليّا عليه السّلام عن رزق الولد في بطن أمّه، فقال: إنّ اللّٰه تبارك و تعالى حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن امّه. «2» فإنّها لا تدلّ على عدم

الاجتماع، بل هو إخبار عن الواقع، و يكفي في صحّته احتباسها نوعا أو احتباس مقدار منها كما في بعض ما تقدّم.

و أمّا التمسّك بروايات صحّة طلاق الحبلى مع الإجماع على عدم صحّة طلاق الحائض ففيه أنّ الإجماع في الحامل ممنوع، فلا تدلّ تلك الروايات على عدم الاجتماع، كما أنّ في تلك الروايات صحّة طلاق الغائب و غير المدخول بها، فتكون تلك الروايات مخصّصة لأدلّة اعتبار الطهر في الطلاق، بل حاكمة عليها.

و اما روايات الاستبراء بحيضة فهي أيضا غير دالّة على عدم الاجتماع مطلقا،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 189

فإنّ الاجتماع إنّما يكون في بعض الأحيان كما أشار إليه بعض الروايات المتقدّمة بقوله «ربما قذفت بالدم» أو «فربما فضل عنه- أي عن غذاء الطفل- فدفقته» إلى غير ذلك، فحينئذ يكون الاستبراء بحيضة أمارة على عدم الحيض لندرة الاجتماع، بل جعل العدّة لأجل استبراء الأرحام ثلاث حيض أو حيضتين دليل على جواز الاجتماع.

نعم هناك روايات أخر ربما تشعر بعدم الاجتماع، منها رواية محمّد بن حكيم المنقولة في أبواب العدد عن العبد الصالح عليه السّلام قال: قلت له: المرأة الشابّة الّتي تحيض مثلها يطلّقها زوجها فيرتفع طمثها، ما عدّتها؟ قال: ثلاثة أشهر، قلت: فإنّها تزوّجت بعد ثلاثة أشهر، فتبيّن بها بعد ما دخلت على زوجها أنّها حامل! قال:

هيهات من ذلك يا ابن حكيم! رفع الطمث ضربان: إمّا فساد من حيضة فقد حلّ لها الأزواج و ليس بحامل، و إمّا حامل فهو يستبين في ثلاثة أشهر. «1» و منها روايته الأخرى عن أبي عبد اللّٰه أو أبي الحسن عليهما السلام قال:

قلت له: رجل طلّق امرأته، فلمّا مضت ثلاثة أشهر ادّعت حبلا- إلى أن قال- هيهات! هيهات! إنّما يرتفع الطمث من ضربين: إمّا حبل بيّن، و إمّا فساد من الطمث. «2» و في رواية رفاعة المنقولة في أبواب نكاح العبيد و الإماء قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام- إلى أن قال- فقال: إنّ الطمث تحبسه الريح من غير حبل. «3» و في رواية عبد اللّٰه بن محمّد قال:

دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فقلت له: اشتريت جارية- إلى أن قال- ثمّ أقبل عليّ فقال: إنّ الرجل يأتي جاريته فتعلق منه، ثمّ ترى الدم و هي حبلى، فترى أنّ ذلك طمث، فما أحبّ للرجل المسلم أن يأتي الجارية حبلى. «4» إلى غير ذلك.

و هذه الروايات و إن كانت تشعر أو يدلّ بعضها على عدم الاجتماع، لكنّ الجمع بينها و بين الروايات المتقدّمة الصريحة في اجتماعهما يقتضي حمل هذه على رفع

______________________________

(1) الوسائل: أبواب العدد، ب 25، ح 4.

(2) الوسائل: أبواب العدد، ب 25 ح 5.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 1، ص: 189

(3) الوسائل: أبواب نكاح العبيد و الإماء، ب 3، ح 1.

(4) الوسائل: أبواب نكاح العبيد و الإماء، ب 4، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 190

الحيض بالحمل نوعا، و أنّ وقوعه في أيّام الحيض نادر، فيصحّ أن يقال يرتفع طمثها و انّ ارتفاعه قد يكون بالحمل، إلى غير ذلك من التعبيرات، فلا ينافي ذلك قذف الرحم في بعض الأحيان كما في الروايات المتقدّمة من أنّه ربما قذفت؛ أو ربما كثر ففضل

عنه، فإذا فضل دفقته. و هذا جمع عقلائيّ بين الطائفتين، و لا إشكال فيه.

ثم إنّه بعد ما قلنا بالجمع في الجملة فالأرجح في الجمع بين روايات الباب مع قطع النظر عن صحيحة الصحّاف هو الحكم بالتحيّض إذا رأت في أيّام العادة، دما كان أو صفرة أو كدرة، و التحيّض بالصفات في غيرها، و الحكم بالاستحاضة مع الاتّصاف بصفاتها، و ذلك لأنّ الروايات على طوائف: منها ما دلّت على وجوب ترك الحبلى الصلاة إذا رأت الدم كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان و صحيحة صفوان و مرسلة حريز و صحيحتي أبي بصير و سليمان بن خالد و رواية زريق بن الزبير.

و غالب هذه الروايات ليس في مقام بيان أنّ الدم في زمان الحبل حيض، بل لها إهمال من هذه الجهة، و إنّما هي بصدد بيان أنّ الحبل يجتمع مع الحيض، و لما كان القول بامتناع الاجتماع معروفا و موافقا لفتوى أكثر فقهاء العامّة و أشهر مذاهبهم على ما حكي كانت الأسئلة و الأجوبة في مقام التعرّض لهم و الردّ عليهم و بيان نكتة قذف الحبلى الدم كقوله «ربما كثر ففضل عنه- أي عن غذاء الولد- فدفقته» و كقوله في صحيحة أبي بصير قال: سألته عن الحبلى ترى الدم؟ قال: نعم، إنّه ربما قذفت المرأة الدم و هي حبلى.

فلا يمكن مع ذلك استفادة الإطلاق من غيرها أيضا كصحيحة صفوان ممّا يوهم الإطلاق، و لو فرض إطلاق فيها أو في بعض آخر، فلا إشكال في عدم الإطلاق في غالبها، و الإطلاق في البعض على فرض التسليم ضعيف يرفع اليد عنه بما دلّت على الرجوع إلى الصفات، فيقيّد إطلاقها بما دلّ على أنّه إن كان دما كثيرا فلا تصلّي، و

إن كان قليلا فلتغتسل عند كلّ صلوتين؛ و قوله «إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء» و هذه هي الطائفة الثانية المقيدة للأولى على فرض إطلاقها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 191

و الطائفة الثالثة ما تعرّضت لأيّام العادة كصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الحبلى ترى الدم و هي حامل كما كانت ترى قبل ذلك في كلّ شهر، هل تترك الصلاة؟ قال: تترك الصلاة إذا دام. «1» و الظاهر منها هو السؤال عن ذات العادة، و إن كان لاحتمال الأعمّ أيضا وجه، و قوله «تترك الصلاة إذا دام» ليس المراد منه إلّا الدوام إلى زمان حضور الصلاة في مقابل الدفقة و الدفقتين لا الدوام إلى ثلاثة أيام كما قد يتوهّم. و كصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الحبلى ترى الدم كما كانت ترى أيّام حيضها مستقيما في كلّ شهر، قال: تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع في حيضها، فإذا طهرت صلّت. «2» و هي تدلّ على أنّ الحبلى إذا رأت الدم في أيّام حيضها فسبيلها سبيل غيرها، و غاية ترك الصلاة هي الطهر. و موثّقة سماعة قال: سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل، قال:

تقعد أيّامها الّتي كانت تحيض، فإذا زاد الدم على الأيّام الّتي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيّام ثمّ هي مستحاضة. «3» و رواية الصحّاف الآتية، و فيها: و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنّه من الحيضة، فلتمسك عن الصلاة. «4» و الظاهر منها عدم التفصيل

في التحيّض في العادة بين كون الدم موصوفا بصفات الحيض أو غيرها. و إطلاق أدلّة الصفات و إن اقتضى التفصيل لكن قوّة ظهور صحيحة محمّد بن مسلم في عدم الافتراق بين الحامل و غيرها في ما إذا رأت في أيّام الحيض المؤيّدة بما دلّت على أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض، و ما دلّت على تقديم العادة على الأوصاف، و قوّة الظنّ الحاصل من العادات توجب تقديم تلك الأخبار على أخبار الأوصاف، و حمل أخبارها على غير ذات العادة و الرؤية في غير العادة.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 7.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 11.

(4) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 192

فتحصل من جميع ما ذكر بعد ردّ المطلقات إلى المقيّدات و تقديم ما حقّه التقديم أنّ الحبلى إذا رأت في أيّام عادتها تتحيّض مطلقا، و إذا رأت في غيرها إمّا لأجل عدم كونها ذات العادة أو لأجل رؤيتها في غيرها يجب عليها التحيّض مع اتّصاف الدم بصفة الحيض من الحمرة أو الكثرة الّتي تلازم الدفع أو غيرها من الأوصاف، و إذا رأت بصفة الاستحاضة تجعله استحاضة و تعمل عملها.

بقي الكلام في صحيحة الحسين بن نعيم الصحّاف، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ أمّ ولد لي ترى الدم و هي حامل، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: فقال لي: إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم من الشهر الّذي كانت تقعد فيه فإنّ ذلك ليس من الرحم و لا من الطمث، فلتتوضّأ و تحتشي

بالكرسف و تصلّي، و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الّذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنّه من الحيضة، فلتمسك عن الصلاة عدد أيّامها الّتي كانت تقعد في حيضها- الحديث- «1».

و هي تدلّ على ثبوت التحيّض برؤية الدم في أيّام العادة و قبلها بقليل، و على عدم حيضيّة ما رأت بعد عشرين يوما، و عن الشيخ في النهاية و التهذيب الفتوى بمضمونها، و عن المحقّق في المعتبر الميل إليه، و في المدارك أنّه يتعيّن العمل بها، و هو لا يخلو من قوّة لصحّة سندها و وضوح دلالتها و حكومتها على أدلّة الصفات الواردة في الحبلى، فإنّ مدلول أدلّة الصفات أنّ الحبلى إذا رأت دما كثيرا أو دما أحمر كثيرا أو دما عبيطا فلا تصلّي، فهي تدلّ على ثبوت الحكم، و الصحيحة تدلّ على نفي الموضوع بقوله «فإنّ ذلك ليس من الرحم و لا من الطمث» و هذا لسان الحكومة، و يقدّم عرفا على ما كان لسانه ثبوت الحكم.

نعم بين الصحيحة و أدلّة الأوصاف من غير الباب كصحيحة معاوية بن عمّار و حفص بن البختريّ و ما يحذو حذوهما معارضة العموم من وجه، لكن قوّة ظهور الصحيحة في مضمونها و بعد حملها على الدم الفاقد للصفات- مع أنّ الفاقد غير

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 193

محكوم بالحيضيّة كان قبل عشرين أو بعدها، و لا وجه لاختصاص هذا المصداق القليل الوجود بالذكر- يوجب تقديمها على أدلّة الأوصاف. و أنت إذا راجعت وجدانك و نظرت إلى الصحيحة و روايات الأوصاف و عرضتهما على الفهم العرفيّ الخالي عن الدقائق العقليّة ترى

أنّ ذهن العرف لا يتوجّه إلى كون نسبة الصحيحة مع مقابلاتها عموما من وجه، و لا ينقدح في ذهنك التعارض، بل ترى أنّ الصحيحة مقيّدة عرفا لأدلّة الصفات، و هذا هو الميزان لتقديم دليل على غيره، كان بينهما عموم من وجه أولا، و لهذا يقدّم الحاكم على المحكوم و لا يلاحظ النسبة لحكومة العرف بذلك، فميزان تشخيص التعارض و التقديم و الجمع هو فهم العرف العامّ لا الدقّة العقليّة.

و اما ردّ الصحيحة بدعوى إعراض معظم الأصحاب عنها و عدم إمكان التأويل في الروايات الكثيرة مع قبولها للتوجيه القريب فلا يبعد أن يكون في غير محلّه، فإنّ الإعراض غير ثابت، لأنّ المحتمل قريبا بل الظاهر من بعض الكلمات أنّ الأصحاب إنّما كانوا بصدد بيان اجتماع الحمل و الحيض في الجملة في مقابل أكثر العامّة القائلين بعدم الاجتماع مطلقا من غير تعرّض لهذه المسألة الّتي هي من فروع الاجتماع، و المتأخّرون لم يردّوها لشذوذها و عدم العمل بها بل جمعوا بينها و بين غيرها و رجّحوا غيرها و بعضهم عملوا بها، نعم بعض المتأخّرين رماها بالوحدة و عدم اشتهار القول بها بل و إعراض الأصحاب عنها، و هو غير ظاهر من المتقدّمين الّذين إعراضهم مناط الوهن.

و أمّا عدم إمكان التأويل في الروايات الكثيرة فقد مرّ عدم إطلاق أكثر الروايات، و ما هو مطلق قليل ضعيف الإطلاق، و ما هو متعرّض للصفات و إن كان مطلقا لكن رواية محمّد بن مسلم مرسلة و رواية إسحاق بن عمّار مطروحة لعدم العمل بها فلا يبقى إلّا صحيحة أبي المغراء، و لا مانع من التصرّف فيها خصوصا بعد ما عرفت من الحكومة. و أمّا القبول للتوجيه فقد عرفت ما فيه بعد

ما ظهر من مساعدة العرف على الجمع المتقدّم.

لكن مع ذلك كلّه لا تخلو المسألة من إشكال منشأه احتمال الإعراض مع شهادة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 194

مثل السيّد في الرياض و صاحب الجواهر و غيرهما- على تأمّل في استفادة الإعراض من كلام الأوّل- فلا بدّ من الاحتياط إلى ما بعد الفحص الكامل حتّى يتّضح الحال.

ثم ان هاهنا مطالب:

المطلب الأوّل إذا تجاوز الدم عن أكثر الحيض ممّن تحيض

اشارة

فلا يخلو إما أن تكون المرأة ممّن لم تر الدم قبل ذلك أولا؛ و الثانية إمّا ذات عادة مستقرّة أو لا؛ و الاولى منهما إمّا أن تكون ذاكرة لعادتها أولا؛ فالأولى من الأقسام هي المبتدئة، و قد تطلق على الثالثة أي من لم تستقرّ لها عادة، و قد تطلق عليها المضطربة كما تطلق على الناسية، فالمبتدئة كالمضطربة لها إطلاقان: عامّ، و خاصّ، و الأمر سهل، و المتّبع في الأحكام هو الدليل، فلا بدّ في بيان الأقسام و أحكامها من ذكر مسائل:

المسألة الأولى المبتدئة بالمعنى الأعمّ
اشارة

أي من لم تستقرّ لها عادة إمّا لعدم سبق الدم أو لعدم استقرار العادة لها ترجع أوّلا إلى التمييز فتجعل ما شابه دم الحيض حيضا و ما شابه الاستحاضة استحاضة، و هو مذهب فقهاء أهل البيت كما عن المعتبر، و مذهب علمائنا كما عن المنتهى، و عن الخلاف و التذكرة الإجماع في المبتدئة، و عن المدارك فيها أنّ هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب، و عن المعتبر أنّ جماعة من الأصحاب لم يتعرّضوا للتمييز في ما أجد كالصدوقين و المفيد و أبي المكارم و سلّار، و أمّا أبو الصلاح فقد قال: إنّ المضطربة ترجع إلى نسائها، و إن فقدت فإلى التمييز، و اقتصر للمبتدئة على الرجوع إلى نسائها إلى أن يستقرّ لها عادة، و نصّ في الغنية على أنّ عمل المبتدئة و المضطربة على أصل أقلّ الطهر و أكثر الحيض- إلخ- و عن المبسوط ما يلوح منه عدم اعتبار التمييز.

و كيف كان فتدلّ على اعتبار التمييز في المبتدئة بالمعنى الأعمّ إطلاقات أدلّة التمييز، كصحيحة معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد،

إنّ دم الاستحاضة بارد، و إنّ دم الحيض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 195

حارّ. «1» و ظاهرها أنّ الصفة لماهيّة الدمين، و أنّ التمييز حاصل بهما عند الاشتباه و الاختلاط بينهما مطلقا من غير فرق بين أقسام الاستحاضة و المستحاضة. و صحيحة حفص بن البختريّ، و فيها أنّ دم الحيض حارّ عبيط أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر بارد، فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة. «2» و إطلاق هذه الرواية قويّ جدّا، و السؤال إنّما هو عن مستمرّة الدم مطلقا، و الجواب بيان الأمارات لماهيّة الدمين، استمرّ الدم أو لا، كانت المرأة مبتدئة أو غيرها. و عدم الاكتفاء بذكر الأمارات فقط و تعقيبه بقوله «فإذا كان للدم حرارة .. إلخ-» تحكيم للإطلاق. و الإطلاق في الصحيحتين و غيرهما متّبع لا يرفع اليد عنه إلّا بدليل و مقيّد كما ورد في ذات العادة.

ففي موثّقة إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة منّا أن أدخلها على أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت- إلى أن قال- فقالت له: ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيّام حيضها؟ قال: إن كان أيّام حيضها دون عشرة أيّام استظهرت بيوم واحد ثمّ هي مستحاضة، قالت: فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر و الشهرين و الثلاثة، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: تجلس أيّام حيضها ثمّ تغتسل لكلّ صلوتين.

قالت: إنّ أيّام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدّم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة و يتأخّر مثل ذلك، فما علمها به؟ قال: دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حارّ تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد. «3» فأرجعها إلى

الصفات بعد اختلاف العادة- كما سيأتي الكلام فيه- و إطلاقها لما نحن بصدده لا يقصر عن المتقدّمين.

نعم هنا روايات أخر تمسّك بها صاحب الحدائق ردّا على الأصحاب زاعما أنّ الحكم في المبتدئة و سنّتها الرجوع إلى التمييز مطلقا، منها مرسلة يونس الطويلة،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 2.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 3، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 196

و لمّا كان فيها أحكام كثيرة تدور عليها سنن الاستحاضة و المستحاضة لا بدّ من التيمّن بنقلها على طولها و بيان بعض فقرأتها:

روى الشيخ الكليني عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى العبيديّ- و هو ثقة على الأصحّ- عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، سألوا أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الحيض و السنّة في وقته، فقال: إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم سنّ في الحيض ثلاث سنن، بيّن فيها كلّ مشكل لمن سمعها و فهمها، حتّى لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي، أمّا إحدى السنن فالحائض الّتي لها أيّام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها ثمّ استحاضت و استمرّ بها الدم و هي في ذلك تعرف أيّامها و مبلغ عددها، فإنّ امرأة يقال لها «فاطمة بنت أبي حبيش» استحاضت فأتت أمّ سلمة، فسألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن ذلك فقال: تدع الصلاة قدر أقرائها- أو قدر حيضها- و قال: إنّما هو عزف، و أمرها أن تغتسل و تستثفر بثوب و تصلّي. قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: هذه سنّة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في الّتي تعرف

أيّام أقرائها لم تختلط عليها، ألا ترى أنّه لم يسألها كم يوم هي، و لم يقل إذا زادت على كذا يوما فأنت مستحاضة؟ و إنّما سنّ لها أيّاما معلومة ما كانت من قليل أو كثير بعد أن تعرفها. و كذلك أفتى أبي عليه السّلام و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما ذلك عزف عامر «1» أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة. قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب. قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام:

هذا تفسير حديث رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و هو موافق له، فهذه سنّة الّتي تعرف أيّام أقرائها لا وقت لها إلّا أيّامها، قلّت أو كثرت.

و أمّا سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتّى أغفلت عددها و موضعها من الشهر فإنّ سنّتها غير ذلك، و ذلك أنّ «فاطمة بنت أبي حبيش» أتت النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّي أستحاض فلا أطهر، فقال له النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: ليس ذلك بحيض، إنّما هو عزف، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلّي. و كانت تغتسل في كلّ صلاة، و كانت تجلس في مركن لأختها، و كانت صفرة الدم تعلو الماء. قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أما تسمع

______________________________

(1) في الوسائل: عرق غامد.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 197

رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أمر هذه بغير ما أمر به تلك؟ ألا تراه لم يقل لها: دعي الصلاة أيّام أقرائك، و

لكن قال لها: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة و إذا أدبرت فاغتسلي و صلّي؟ فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها، ألا تسمعها تقول: إنّي أستحاض فلا أطهر؟ و كان أبي يقول: إنّها استحيضت سبع سنين، ففي أقلّ من هذا تكون الريبة و الاختلاط، فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره و تغيّر لونه من السواد إلى غيره. و ذلك أنّ دم الحيض أسود يعرف، و لو كانت تعرف أيّامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم، لأنّ السنّة في الحيض أن يكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيّام الحيض- إذا عرفت- حيضا كلّه، إن كان الدم أسود أو غير ذلك، فهذا يبيّن لك أنّ قليل الدم و كثيره أيّام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومة، فإذا جهلت الأيّام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم و إدباره و تغيّر لونه ثمّ تدع الصلاة على قدر ذلك.

و لا أرى النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قال لها: اجلسي كذا و كذا يوما فما زادت فأنت مستحاضة كما لم يأمر الأولى بذلك، و كذلك أبي أفتى في مثل هذا، و ذلك أنّ امرأة من أهلنا استحاضت فسألت أبي عن ذلك، فقال: إذا رأيت الدم البحرانيّ فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي و صلّي. و أرى جواب أبي هاهنا غير جوابه في المستحاضة الأولى، ألا ترى أنّه قال: تدع الصلاة أيّام أقرائها؟ لأنّه نظر إلى عدد الأيّام، و قال هاهنا: إذا رأت الدم البحرانيّ فلتدع الصلاة، و أمرها هاهنا أن تنظر إلى الدم إذا أقبل و

أدبر و تغيّر. و قوله «البحرانيّ» شبه قول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله «إنّ دم الحيض أسود يعرف» و إنّما سمّاه أبي بحرانيّا لكثرته و لونه، فهذه سنّة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في الّتي اختلط عليها أيّامها حتّى لا تعرفها و إنّما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيّام و كثيره.

قال: و أمّا السنّة الثالثة ففي الّتي ليس لها أيّام متقدّمة و لم تر الدم قطّ و رأت أوّل ما أدركت و استمرّ بها، فإنّ سنّة هذه غير سنّة الاولى و الثانية. و ذلك أنّ امرأة يقال لها «حمنة بنت جحش» أتت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّي استحضت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 198

حيضة شديدة، فقال: احتشي كرسفا، فقالت: إنّه أشدّ من ذلك، إنّي أثجّه ثجّا.

فقال: تلجّمي و تحيّضي في كلّ شهر في علم اللّٰه ستّة أيّام أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما أو أربعة و عشرين، و اغتسلي للفجر غسلا، و أخّري الظهر و عجلي العصر و اغتسلي غسلا، و أخّري المغرب و عجّلي العشاء و اغتسلي غسلا.

قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فأراه قد سنّ في هذه غير ما سنّ في الأولى و الثانية، و ذلك لأنّ أمرها مخالف لأمر تينك، ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقلّ من سبع و كانت خمسا أو أقلّ من ذلك ما قال لها «تحيّضي سبعا» فيكون قد أمرها بترك الصلاة أيّاما و هي مستحاضة غير حائض؟ و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع و كان أيّامها عشرة أو أكثر لم يأمرها بالصلاة و هي

حائض ثمّ ممّا يزيد هذا بيانا قوله «تحيّضي» و ليس يكون التحيّض إلّا للمرأة الّتي تريد أن تكلّف ما تعمل الحائض، إلا تراه لم يقل لها: أيّاما معلومة تحيّضي أيّام حيضك؟ و ممّا يبيّن هذا قوله «في علم اللّٰه» لأنّه قد كان لها و إن كانت الأشياء كلّها في علم اللّٰه. فهذا بيّن واضح أنّ هذه لم تكن لها أيّام قبل ذلك قطّ، و هذه سنّة الّتي استمرّ بها الدم أوّل ما تراه، أقصى وقتها سبع، و أقصى طهرها ثلاث و عشرون، حتّى تصير لها أيّام معلومة فتنتقل إليها.

فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث، لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهنّ: إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها و خلقها الّذي جرت عليه، ليس فيه عدد معلوم موقّت غير أيّامها؛ و إن اختلطت الأيّام عليها و تقدّمت و تأخّرت و تغيّر عليها الدم ألوانا فسنّتها إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته؛ و إن لم تكن لها أيّام قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون، و إن استمرّ بها الدم أشهرا فعلت في كلّ شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي فلا تزال كذلك حتّى تنظر إلى ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء حتّى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 199

لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه، و تكون

سنّتها في ما يستقبل إن استحاضت قد صارت سنّة إلى أن تجلس أقراءها، و إنّما جعل الوقت إن توالى عليها حيضتان أو ثلاث لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم للّتي تعرف أيّامها «دعي الصلاة أيّام أقرائك» فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنّة لها فيقول لها: دعي الصلاة أيّام قرئك، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا. و إن اختلط عليها أيّامها و زادت و نقصت حتّى لا تقف فيها على حدّ و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره، ليس لها سنّة غير هذا لقوله عليه السّلام «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي» و لقوله «إنّ دم الحيض أسود يعرف» كقول أبي «إذا رأيت الدم البحرانيّ ..» و إن لم يكن الأمر كذلك و لكنّ الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد و حالة واحدة فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها قصّة «حمنة» حين قالت «إنّي أثجّه ثجّا». (انتهى الحديث المبارك).

و قد استدلّ به صاحب الحدائق على أنّ المبتدئة ليس لها سنّة إلّا الرجوع إلى الأيّام و إنّما التمييز سنّة المضطربة خاصّة، و ما ذكره و إن كان يوهمه بعض فقرأت المرسلة لكنّ التأمل الصادق في مجموعها يدفع ذلك، فلا بأس ببيان بعض فقرأت الحديث حتّى يتّضح الحال: فنقول أوّلا على نحو الإجمال:

إنّ الظاهر منها أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أجاب عن ثلاث وقائع شخصيّة، وردت اثنتان منها عليه لفاطمة بنت أبي حبيش- إن كانت الواقعتان لمرأة واحدة في حالتين مختلفتين- و يحتمل أن تكون فاطمة بنت أبي حبيش

اثنتين كما ربما يشعر به بعض فقرأت المرسلة كقوله «أما تسمع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أمر هذه بغير ما أمر به تلك» و قوله «فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها» و الواقعة الثالثة هي واقعة «حمنة بنت جحش» لكنّ الصادق عليه السّلام قال: إنّه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بيّن في هذه السنن كلّ مشكل لمن سمعها و فهمها و لم يدع لأحد مقالا فيه بالرأي و الاجتهادات الظنّية الخارجة عن طريق فهم السنّة، و هذا يبيّن أنّ فهم القواعد الكلّيّة من بعض القضايا الشخصيّة بإلغاء الخصوصيّات عرفا ليس من الاجتهاد الممنوع و المقال بالرأي كما أفاد أبو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 200

عبد الهّٰا عليه السّلام طريقة في هذه الرواية، و نبّه على طريق الاستفادة و استنباط الأحكام الكليّة من السنّة، كما هو الطريق المألوف.

ثم إنّ الظاهر من قول السائل عن الحيض و السنّة في وقته هو أنّ السؤال إنّما كان عن السنّة في تعيين وقت الحيض لا عن موضوعه و لا عن حكمه، و إنّما يصحّ هذا السؤال في ما إذا اختلط الحيض بغيره و لم يعلم أنّ الدم الخارج أيّ مقدار منه حيض و أيّ الأيّام أيّامه و وقته، فأجاب بما هو مناسب لشبهته ببيان السنن الثلاث، فهذه السنن كفيلة لرفع الشبهة الواقعة في وقت الحيض في ما إذا اختلط الحيض بالاستحاضة، فبمقتضى سوق الرواية و الحصر في السنن الثلاث لا بدّ من دخول سنن جميع أقسام المستحاضة في الرواية الشريفة، و استفادة حكم جميع حالات المستحاضة منها.

ثم إنّ الظاهر منها في السنن الثلاث أنّ إرجاع كلّ

منهنّ إلى سنّة ليس لأجل اختصاص السنّة بها، بل لأجل اختصاص مرجعها بها، مثلا إنّ الرجوع إلى العادة ليس مختصّا بذات العادة الّتي استمرّ بها الدم مع علمها بعادتها، بل ذات العادة الكذائيّة لا مرجع لها إلّا عادتها كما نصّ عليه في الرواية، و كذا الحال في السنّتين الأخريين، فلا يكون الرجوع إلى التمييز مختصّا بالّتي اختلط عليها أيّامها، بل الّتي اختلط عليها أيّامها و لا يكون دمها على لون واحد و حالة واحدة لا مرجع لها إلّا الرجوع إلى التمييز، و كذا الحال في المبتدئة الّتي سيأتي الكلام فيها في ذيل الحديث.

ثم لا إشكال في أنّ ذات العادة مع إحصائها أيّام حيضها و عدم اختلاط فيها و علمها بها مرجعها إلى عادتها، و يأتي الكلام فيها في محلّه، و نحن الآن بصدد بيان السنّة الثانية و الثالثة. فقوله «و أمّا سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم فزادت و نقصت حتّى أغفلت عددها و موضعها؟؟؟ من الشهر ..»

ففيه احتمالان:

أحدهما أنّ المراد ممّا ذكر هي الناسية، فإنّ طول زمان استمرار الدم صار سببا لغفلتها عن عددها و موضعها من الشهر بعد كون العدد و الموضع معلومين لها، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 201

يؤيّد ذلك- إذا استظهر من الرواية كون «فاطمة بنت أبي حبيش» امرأة واحدة- أنّها أتت مرّة أمّ سلمة في زمان كانت ذاكرة لعدد أيّامها و وقتها من الشهر، و اخرى أتت النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بعد طول مدّة الدم و نسيانها لهما، كما يشهد به قوله «و كان أبي يقول: إنّها استحيضت سبع سنين».

و ثانيهما أنّ

المراد منه هي الّتي كانت لها أوّلا أيّام مضبوطة و كانت ذات عادة مستقرّة عددا و وقتا، ثمّ اختلط الأيّام و تقدّمت و تأخّرت و زادت و نقصت ثمّ استمرّ عليها الدم، و يشهد لهذا الاحتمال- بعد منع كون فاطمة امرأة واحدة طرأت عليها الحالتان، لما تقدّم من ظهور الرواية في كون ما ذكرت فيها مرأتين مسمّيتين بفاطمة و أنّ أباهما كان مكنّى بأبي حبيش- قوله «زادت و نقصت» فإنّ الظاهر منه أنّ الزيادة و النقص إنّما عرضتا للأيّام المتقدّمة، فكانت الأيّام أوّلا مضبوطة غير مختلفة، ثمّ صارت مختلفة ناقصة تارة و زائدة أخرى، و هذا المعنى لا يتصوّر في مستمرّة الدم. و يؤيّده قوله في ما بعد «و إن اختلطت الأيّام عليها و تقدّمت و تأخّرت» فإنّ التقدّم و التأخّر المنسوبين إلى الأيّام لا يتصوّران إلّا قبل استمرار الدم. و يشهد بذلك قوله «أغفلت» بصيغة أفعال، فإنّ معنى «أغفل الشي ء» أهمله و تركه، على ما في المنجد، و في الصحاح: أغفلت الشي ء إذا تركته على ذكر منك.

فالعدول عن «غفلت عن عددها» إلى «أغفلت عددها» لأجل أنّ أيّامها كانت مضبوطة و كانت آخذة بعددها و موضعها من الشهر، ثمّ اختلطت فزادت و نقصت و تقدّمت و تأخّرت، حتّى تركت الأيّام المضبوطة و أهملها، فحينئذ تكون الرواية متعرّضة لقسم من المضطربة.

و لا ينافي ما ذكرناه بعض فقرأتها كقوله «إنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها» لأنّ مختلطة الأيّام بما ذكرنا أيضا لا تعرف عددها لأنّ أيّامها زادت و نقصت، و لا وقتها لتقدّمها و تأخّرها، و لا يبعد أن يكون أرجح الاحتمالين هو الثاني كما استظهر المحقّق الخوانساريّ ظاهرا و

إن ضعّفه شيخنا الأعظم قائلا: إنّ عدّة مواضع من الرواية تأبى عن ذلك، و لم يتّضح

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 202

موارد الإباء.

نعم ربما يأباه قوله «ثمّ اختلط عليها من طول الدم» فإنّ الظاهر منه أنّ طول الدم و استمراره صار سببا للاختلاط، و هو لا ينطبق إلّا على النسيان. و يمكن أن يقال: إنّ المراد من طول الدم ليس طول استمراره بل المراد أنّ طول سني رؤيته أوجب الاختلاط، لأنّ في أوائل الأمر لمّا كان الرحم معتدلة سليمة كانت تقذف مضبوطا عددا و وقتا، ثمّ بعد طول الزمان صارت ضعيفة فخرج قذفها عن الاعتدال و الانضباط. و هذا التوجيه و إن كان لا يخلو من خلاف ظاهر لكنّه أهون من رفع اليد عن قوله «زادت و نقصت و تقدّمت و تأخّرت» أو توجيهه بوجه بعيد، بل لا يبعد أن يكون التعبير بطول الدم دون استمراره لإفادة ذلك.

و كيف كان فيظهر من التأمّل في فقرأت الرواية أنّ أبا عبد اللّٰه الصادق عليه السّلام استشهد على حكم من كان لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلطت عليها كما هو مفروض كلامه بالسنّة الّتي سنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في واقعة فاطمة باعتبار عدم إرجاعها إلى العادة و إرجاعها إلى التمييز، فاستفاد من ذلك أنّ هذه امرأة اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها ممّا هي معتبرة في الرجوع إلى العادة، فعدم الإرجاع إليها شاهد على اختلاط الأيّام و عدم معرفتها بها، و إن لم يكن شاهدا على كون الاختلاط بعد ما كانت لها أيّام مضبوطة متقدّمة أولا. ففتوى الصادق عليه السّلام في الامرأة الّتي كانت لها

أيّام متقدّمة ثمّ اختلطت لم يكن لأجل معلوميّة أنّ فاطمة بنت أبي حبيش كانت كذلك بل لأجل معلوميّة اختلاط أيّامها و عدم معرفتها بها و كون دمها ذا تميّز و إن لم يعلم أنّها كانت ذات عادة منضبطة ثمّ اختلطت أيّامها، كما يظهر من قوله «فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط- إلخ-».

فمن أجل ذلك يستفاد أنّ تمام الموضوع للرجوع إلى الصفات هو الاختلاط و عدم المعرفة مع كون الدم ذا تميّز، بل يظهر من التعبيرات المختلفة في الرواية تارة بالّتي كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها؛ و اخرى بأنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها، من غير ذكر للأيّام المتقدّمة، و ثالثة بقوله: إذا جهلت الأيّام و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 203

عددها احتاجت- إلخ- إلى غير ذلك أنّه لا يعتبر في الرجوع إلى التمييز إلّا عدم إمكان الرجوع إلى العادة، سواء كان لفقدانها أو اختلاطها أو نسيانها أو غير ذلك.

و ممّا يبيّن ذلك التأمّل الصادق في قوله «فلهذا احتاجت إلى أن تعرف- إلى قوله- و لو كانت تعرف أيّامها ما احتاجت- إلخ-» فإنّ المتفاهم عرفا منه أنّ الاحتياج إلى معرفة لون الدم إنّما هو في ما قصرت يدها عن الأمارة الّتي هي أقوى منها عرفا و شرعا، و أنّ الرجوع إلى التمييز لأجل أنّ دم الحيض أسود يعرف، فأماريّة الصفات أوجبت الإرجاع إليها عند فقد الأمارة المتقدّمة عليها قوّة و كشفا من غير دخل لتقدّم الأيّام و عدمه أو اختلاطها و عدمه في ذلك. فموضوع الإرجاع عرفا هو وجدان هذه الأمارة و فقدان ما هي أقوى منها، و لو فرض كون المرأة مبتدئة ذات تمييز يفهم من

التأمّل في الفقرات أنّ تكليفها الرجوع إلى التمييز، و عند فقدانه يكون تكليفها غير ذلك.

و اما السنّة الثالثة فإن كان يوهم بعض فقرأت الرواية كونها للمبتدئة، كانت ذات تمييز أولا، لكنّ التأمّل، في جميع فقرأتها يدفع هذا الوهم، فإنّ الظاهر منها كما تقدّم أنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم سنّ في ثلاث وقائع شخصيّة ثلاث سنن يفهم منها جميع حالات المستحاضة، فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن لا أنّ المستحاضة تنحصر في الموارد الثلاثة الّتي وردت على النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و بيّن أحكامها. نعم، وردت السنّة الثالثة بحسب الواقعة الشخصيّة في من لم تر الدم و رأت أوّل ما أدركت و استمرّ بها، و كانت كثيرة الدم، و كان دمها ذا دفع و شدّة، و على لون واحد و حالة واحدة، كما يستفاد من قوله «أثجّه ثجّا» و قد صرّح به في آخر الرواية، فالمستفاد من جميع المرسلة أنّ السنّة الثالثة و إن وردت في من رأت الدم أوّل ما أدركت و استمرّ بها على لون واحد بحسب الواقعة الشخصيّة و القضيّة الخارجيّة لكنّها سنّة لكلّ من لم تكن لها عادة و لا تمييز، كما ينادي به قوله في آخر الرواية «و إن لم يكن الأمر كذلك و لكنّ الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد و حالة واحدة فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها قصّة حمنة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 204

حين قالت: أثجّه ثجّا» فيستفاد منه أنّ كلّ من كانت قصّتها كقصّة حمنة؟؟؟ من هذه الحيثيّة أي إطباق الدم و كونه

على لون واحد و حالة واحدة المستفادة من قوله «أثجّه ثجّا» تكون سنّتها كسنّتها، و لا تكون السنّة الّتي وردت لها مختصّة بها و بمن رأت الدم أوّل ما أدركت، بل الميزان في قصّتها هو الاستمرار و عدم تغيّره.

فتحصل من جميع ذلك أنّ المستحاضة لا تخلو إمّا أن تكون ذات عادة معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها أو لا، فالأولى مرجعها إلى العادة لا غيرها؛ و الثانية إمّا أن تكون ذات تميّز و تغيّر في لون الدم و حالاته أو لا، فالأولى مرجعها إلى التمييز، و الثانية إلى السبع و الثلاث و العشرين، و لا تخلو مستحاضة من تلك الحالات، و يستفاد جميع سنن المستحاضة و حالاتها من السنن الثلاث بعد التأمّل التامّ و التدبّر الصادق في فقرأتها، كما قال في أوّل الرواية: بيّن كلّ مشكل لمن سمعها و فهمها، ثمّ أفاد عليه السّلام طريق الاستفادة من قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم. و لا يخفى أنّ أبا عبد اللّٰه عليه السّلام إنّما أرشد السائلين إلى طريق الاستفادة من كلام رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و أبي جعفر عليه السّلام لفتح باب الاجتهاد عليهم، لا أنّ طريق علمه بالأحكام هو هذا النحو من الاجتهادات الظنّية و الاستظهارات العرفيّة، كما هو مقتضى أصول المذهب.

و ممّا تمسّك به صاحب الحدائق لمذهبه رواية سماعة، قال: سألته عن جارية حاضت أوّل حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر و هي لا تعرف أيّام أقرائها، فقال: أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيّام و أقلّه ثلاثة أيّام. «1» و موثّقة عبد اللّٰه بن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه

السّلام قال: المرأة إذا رأت الدم أوّل حيضها فاستمرّ بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيّام ثمّ تصلّي عشرين يوما، فإن استمرّ بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيّام و صلّت سبعا و عشرين يوما. «2»

و فيه أنّ لأدلّة الأوصاف نحو حكومة عليهما، أمّا على الاولى فظاهر، لأنّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 205

السؤال عمّا لا تعرف أيّام أقرائها، و لسان روايات الأوصاف مثل قوله «إنّ دم الحيض أسود يعرف» و قوله «إنّ دم الحيض ليس به خفاء» هو أنّه مع الأوصاف تخرج المرأة عن موضوع عدم المعرفة. و أمّا على الثانية فلأنّ الظاهر منها أنّ ترك الصلاة عشرة أيّام في الدورة الاولى و ثلاثة أيّام في ما بعدها ليس لأجل كونها حيضا، بل هو حكم تعبّديّ لدى التحيّر عن معرفة أيّامها، و يشهد له قول ابن بكير في روايته الأخرى الّتي لا يبعد أن تكون عين الاولى و يكون الاختلاف في النقل، فتارة نقلها بجميع ألفاظها و تارة اقتصر على جوهر القضيّة حيث قال «فإذا مضى ذلك و هو عشرة أيّام فعلت ما تفعله المستحاضة» و قال في ذيلها «و جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها للصلاة أقلّ ما يكون من الحيض» و معلوم أنّ ظاهر هذه الفقرات هو أنّ الحيض و الاستحاضة لمّا لم يكونا معلومين و كانا مختلطين وجب عليها التحيّض في أيّام و الصلاة في أخرى، و هذا نظير قوله في مرسلة يونس المتقدّمة «تحيّضي في علم اللّٰه ..» فلسان الروايتين لسان الأصل، و لسان أدلّة

الأوصاف لسان الأمارة فتكون حاكمة عليها.

و ينبغي التنبيه على أمور: الأمر الأوّل

يشترط في الرجوع إلى التمييز أمور: منها أن لا ينقص ما شابه دم الحيض عن ثلاثة أيّام. و منها أن لا يزيد على عشرة أيّام. و منها عدم نقصان ما شابه الاستحاضة عن عشرة أيّام. و هذه الشروط أي عدم جواز جعل ما شابه الحيض حيضا إذا نقص عن ثلاثة أيّام أو زاد عن عشرة و عدم جواز جعل الطهر بين الحيضتين أقلّ من عشرة أيّام ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، لما دلّ من المستفيضة على أنّ الحيض لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام و لا أكثر من عشرة أيّام و ما دلّ على أنّ الطهر لا يكون أقلّ من عشرة أيّام. و هذه الأدلّة حاكمة على أدلّة الأوصاف، لأنّ جعل الأمارة إنّما هو بعد الفراغ عن إمكان الحيض الواقعيّ و احتمال وجوده، و هذه الأدلّة تحديد لواقع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 206

الحيض، و ليست الأمارة إلّا كاشفة عمّا يمكن أن يكون حيضا و يحتمل تحقّقه، و هذه الروايات ترفع الموضوع و تخرجه عمّا يمكن فيه ذلك، فهي بلسانها مقدّمة على لسان الأمارات عرفا. فما ذهب إليه صاحب الحدائق من أنّها تتحيّض بالأقلّ و الأكثر زاعما أنّ ذلك مقتضى إطلاق الروايات بل مقتضى قوله في مرسلة يونس «ما كان من قليل الأيّام و كثيره» مردود، ضرورة أنّ أدلّة التحديد الحاكمة على أدلّة الصفات توجب تحديد القليل و الكثير بأيّام إمكان الحيض.

و مما ذكرنا ظهر حال ما تمسّك به لردّ الشرط الثالث و هو بلوغ الدم الضعيف وحده أو مع النقاء عشرة أيّام، قائلا انّ ذلك لا دليل عليه، بل ظاهر الأخبار يردّه:

كموثّقة أبي

بصير، قال: سألت الصادق عليه السّلام عن المرأة ترى الدم خمسة أيّام و الطهر خمسة أيّام، و ترى الدم أربعة أيّام و الطهر ستّة أيّام. فقال: إن رأت الدم لم تصلّ، و إن رأت الطهر صلّت ما بينها و بين ثلاثين يوما، فإذا مضت ثلاثون يوما- إلخ- «1» و قريب منها موثّقة يونس بن يعقوب «2».

و الروايتان صحيحتان، و توصيفهما بالموثّقة كأنّه في غير محلّه، و كيف كان فأمّا قوله «لا دليل عليه» فقد مرّ الدليل عليه، و أمّا تمسّكه بالروايتين ففيه أوّلا أنّ موردهما غير ما نحن فيه، لظهورهما في حصول النقاء لا في استمرار الدم و اختلاف الألوان، و ثانيا قد مرّ في محلّه ما هو مفادهما، و قد حملهما الشيخ على محمل صحيح و بيّن المحقّق ما هو المحمل فيهما فلا نعيد.

«الأمر الثاني» إذا فقد الشرط الأوّل أي كان ما رأت بصفة الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام،

فهل هي فاقدة التمييز و لا بدّ لها من الرجوع إلى الأمارات أو الروايات لو قلنا برجوع الفاقدة إليهما مطلقا، أو هي واجدة له في الجملة؟ قد يقال بالأوّل لأنّ أمارة الحيض في اليومين

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 6 ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 207

مثلا، الّتي يلزم منها كون الثالث حيضا لما دلّ على عدم كون الحيض أقلّ من ثلاثة أيّام، معارضة لأمارة الاستحاضة في اليوم الثالث، الّتي يلزم منها كون اليومين أيضا استحاضة، فتتساقط الأمارتان، فهي فاقدة التمييز.

و قد يجاب عنه بأنّ سوق الأخبار يشهد بورودها لتمييز الحيض عمّا ليس بحيض الّذي هو الاستحاضة، و إنّما ذكر أوصاف الاستحاضة استطرادا لبيان أنّه ليس بحيض، فإذا تبيّن كون بعض ما رأته بصفة الاستحاضة حيضا باعتبار كونه

مكمّلا لما علم حيضيّته بالأوصاف الّتي اعتبرها الشارع لا ينافيه هذه الأدلّة (انتهى).

و فيه أنّه لم يتّضح معنى الاستطراد، فإن كان المراد أنّ ذكر أوصاف الاستحاضة وقع بعد أوصاف الحيض تبعا له، فهو مع عدم تماميّته في جميع الروايات- فإنّ في صحيحة معاوية بن عمّار قدّم ذكر الاستحاضة و صفتها على الحيض و صفته- لا يوجب عدم كون الصفات أمارة أو رفع اليد عن أماريّتها لدى التعارض. و إن كان المراد أنّ الإمام عليه السّلام ليس بصدد بيان أماريّة أوصاف الاستحاضة بل يكون بصدد أماريّة الحيض فقط، و ذكر الأوصاف المقابلة ليس لأجل أماريّتها بل لبيان فقد أمارة الحيض كما يظهر من القائل في خلال كلامه، فهو غير وجيه، ضرورة ظهور الأدلّة في أماريّة كلّ من الطائفتين، و لا يمكن الالتزام بذلك خصوصا في صحيحة معاوية، بل كأنّه أشرنا سابقا إلى أولويّة أماريّة صفات الاستحاضة من صفات الحيض. و كيف كان فلا وجه لرفع اليد عن ظهور الروايات في أماريّة صفاتهما.

و يمكن أن يقال في جواب الإشكال المتقدّم: أنّ إمارة الاستحاضة في ما نحن فيه لا يمكن أن تعارض أمارة الحيض، للعلم بكذب مفادها، فإنّ المفروض أنّ غير اليومين من أيّام الدم يكون بصفة الاستحاضة، فالأخذ بدليل صفات الاستحاضة اللازم منه جعل اليومين أيضا استحاضة ممّا لا يمكن، للعلم بكون بعض الأيّام حيضا، ضرورة اتّفاق النصّ و الفتوى على حيضيّة بعض الدم المستمرّ، فحينئذ تكون الأمارة الدالّة على كون الجميع استحاضة، مخالفة للواقع، فلا يمكن الأخذ بها، فتبقى أمارة الحيض في اليومين بلا معارض، و لازمها تتميم ما نقص.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 208

نعم يبقى الكلام في كيفيّة التتميم، فقد

يقال بالرجوع إلى عادات النساء أو الروايات، فإنّه لم يعرف من أخبار التمييز إلّا كون الدمين مثلا حيضا في الجملة، و هذا المقدار من المعرفة لا يوجب خروجها من موضوع ما دلّ على الرجوع إلى عادات النساء أو الأخبار، و على تقدير انصراف الأخبار يفهم حكمه منها عرفا، لأنّ هذه الأخبار ليست تعبّديّة محضة، بل مناطها أمور مغروسة في الأذهان.

و فيه أنّ إطلاق أدلّة التمييز يحكم بأنّ اليومين حيض، و لو لم يكن دليل تحديد الحيض بثلاثة أيّام لقلنا بمفادها بمقتضى إطلاقها، و دعوى عدم الإطلاق في الروايات و خروج الفرض و أمثاله منها في غاية السقوط، ضرورة أنّ الروايات في مقام البيان بلا إشكال، و إطلاقها محكّم، و إنّما يخرج منه بقدر ما ورد من التقييد، و لا ينافيها أدلّة تحديد الحيض بثلاثة أيّام، لعدم المنافاة بين كون اليومين حيضا مع كون اليوم الثالث أيضا حيضا، لأنّ وجدان الصفة أمارة على الحيضيّة و أمّا فقدانها فليس أمارة على شي ء. نعم وجدان صفات الاستحاضة أمارة عليها و لازمها عدم الحيضيّة، لكن قد عرفت عدم إمكان الأخذ بها، فحينئذ يؤخذ بأمارة الحيض في اليومين و يترك أمارة الاستحاضة بمقدار تتميم أقلّ الحيض، لما دلّ على عدم كون الحيض أقلّ من ثلاثة، و تبقى أماريّة صفات الاستحاضة في اليوم الرابع و ما زاد بلا معارض، فيؤخذ بها. و مع قيام الأمارة على الاستحاضة في الأيّام الزائدة و قيام الأمارة أيضا على حيضيّة ثلاثة أيّام لا وجه للرجوع إلى عادات النساء ممّا ثبت نصّا و فتوى تأخّر أماريّتها عن أماريّة التمييز.

و أوضح منه عدم الرجوع إلى الروايات، الّذي هو تكليف فاقدة التمييز و الأمارة، فرفع اليد عن أدلّة

التمييز إمّا لدعوى قصور أدلّتها عن شمول هذه الفروض، فهي مدفوعة بما تقدّم من إطلاق الأدلّة، و يظهر إطلاقها من الرجوع إليها و التأمّل في مفادها، و لعمري إنّ الناظر فيها لا يشكّ في شمولها لجميع الفروض مع قطع النظر عن روايات التحديد. و إمّا لدعوى دخول الفروض في أدلّة الرجوع إلى النساء و الأخبار، ففيها أنّه مع شمول إطلاقات أدلّة التمييز له لا معنى للرجوع إليهما، لحكومة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 209

أدلّة التمييز عليهما على فرض شمولها له، فالتتميم بالرجوع إلى العادات و الأخبار ممّا لا أرى له وجها وجيها.

ثمّ إنّه على فرض خروج هذه الفروض عن مفاد الأدلّة و انصرافها عنها لا وجه لفهم أحكامها بالرجوع إلى العرف بدعوى ارتكازيّة المناط. اللّٰهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الارتكاز و المغروسيّة في أذهان العرف يوجب عدم الانصراف بل إلغاء الخصوصيّات عرفا، فله وجه، لكنّه يرجع إلى دلالة الأدلّة لا إلى حكم العرف، فإنّه لا معنى للرجوع إليه إلّا في فهم مفادها.

«الأمر الثالث» إذا فقد الشرط الثاني بأن ترى زائدا على العشرة بصفة الحيض،

فهل هي فاقدة التمييز مطلقا أولا؟ و على الثاني هل يجب عليها التحيّض من أوّل الرؤية إلى عشرة أيّام؛ أو التحيّض من أوّل الرؤية و تتميمه بمقدار عادات النساء أو الأخبار؛ أو يجب عليها الرجوع إلى عادات النساء أو الأخبار في أيّام رؤية الدم بصفة الحيض مخيّرة بينها؛ أو يفصّل بين ما إذا كانت للأمارات جهة مشتركة أو لا كما تأتي الإشارة إليه؟ وجوه، مقتضى القواعد هو التفصيل الأخير. أمّا القول بكونها فاقدة التمييز مطلقا فضعيف، لأنّ رفع اليد عن أمارة الاستحاضة في أيّام رأت بصفتها ممّا لا وجه له بعد ما عرفت من إطلاق الأدلّة، كما أنّ

لازم الأمارات المتعارضة في صورة التعارض بينها هو عدم حيضيّة الضعيف في الجملة، فأمارات الحيضيّة المتعارضة لأجل أدلّة تحديد الحيض بالعشرة، متّفقة في عدم حيضيّة الضعيف و إن تعارضت في محلّ الحيض من الأيّام، و لازم الأمارات المتعارضة مع اتّفاقها فيه حجّة، فلا إشكال في التمييز في الجملة، لا لفهم العرف بعد انصراف الأدلّة كما قيل، بل لما ذكرنا من إطلاق أدلّة أمارات الاستحاضة، و لازم أمارات الحيض في فرض التعارض.

و أمّا التحيّض في أوّل الرؤية بعشرة أيّام كما عن شيخ الطائفة أو بالتتميم بالعادات أو الأخبار فغير تامّ، لعدم الترجيح بين الأيّام في بعض الصور، بل الترجيح

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 210

لغير الأوّل في بعضها كما يأتي. و التمسّك بقاعدة الإمكان مع ما تقدّم من عدم الدليل عليها لا وجه له هاهنا و لو فرض الدليل عليها، لعدم الرجحان بين الأيّام بعد قيام الأمارة على جميعها و تساوي جريان القاعدة فيها. و دعوى ظهور الأدلّة في التحيّض أوّل ما رأت كقوله في صحيحة حفص بن البختريّ «فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد فلتدع الصلاة» و قوله في مرسلة يونس «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» غير وجيهة، لأنّ الأدلّة إنّما هي بصدد بيان أماريّة الأوصاف مطلقا لا في أوّل الحدوث، فمعنى قوله «إذا كان للدم حرارة- إلخ-» أنّه كلّما كان للدم حرارة كان حيضا، و لهذا لو لم تكن أدلّة التحديد لقلنا بحيضيّة جميع الأيّام، و مع تلك الأدلّة يقع التعارض في الأيّام بين الأمارات من غير ترجيح. و الترجيح بتقدّم الزمان بدعوى خروج الزمان المتأخّر عن إمكان الحيضيّة بعد انطباق الأدلّة بلا مانع على الأيّام الاولى

ممّا لا وجه له، لأنّ التقدّم الزمانيّ لا يوجب الترجيح، و التطبيق على الاولى و رفع اليد عن الأدلّة في الأيّام الأخرى من غير مرجّح لا وجه له.

و الأقوى بحسب القواعد هو التفصيل بين ما إذا كانت للأمارة جهة مشتركة كما إذا رأت خمسة عشر يوما، فإنّ اليوم السادس إلى العاشر مورد اتّفاق الأمارات على حيضيّتها بعد الأخذ بإطلاق أدلّتها و تحديد الحيض بما دلّ على أنّه لا يزيد عن عشرة أيّام، فحينئذ يقع التعارض بين الأمارات من أوّل رؤية الدم بصفة الحيض إلى الخامس و من اليوم الحادي عشر إلى الخامس عشر، و تتّفق في المفاد من اليوم السادس إلى العاشر، فتكون المرأة ذات تمييز وقتا و عددا، فلا ترجع إلى عادات نسائها و الأخبار مطلقا لتقدّم التمييز عليهما. و أمّا إذا وقع التعارض بينها من غير اتّفاق كما لو رأت عشرين يوما بصفة الحيض فتتعارض الأمارات في جميع الأيّام، فتكون من جهة الوقت ذات تمييز في الجملة و من جهة العدد غير ذات التمييز، فترجع إلى التمييز في الوقت في الجملة، بمعنى أنّه لو كانت عادة النساء في آخر الشهر خمسة أيّام و رأت متّصفا بصفات الحيض من أوّل الشهر إلى العشرين تتحيّض في أيّام التمييز فتقدّم أدلّة التمييز على أدلّة عادات النساء بالنسبة إلى الوقت، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 211

أمّا بالنسبة إلى العدد فلا مزاحم لإطلاق أدلّة الرجوع إلى عادات النساء، لأنّ رفع اليد عنها بعد إطلاقها إنّما هو لفهم تقدّم أدلّة التمييز عليها و كون التمييز أمارة أقوى من أمارة العادات كما تشهد به رواية سماعة، بل يمكن الاستدلال عليه بمرسلة يونس، و مع

التعارض بين أمارات التمييز تصير فاقده بالنسبة إلى العدد، هذا.

مع إمكان أن يقال: إنّ التعارض بين الأمارات إنّما وقع في محلّ التحيّض لا في عدد الأيّام، فهي ذات أمارة و تمييز بالنسبة إلى العشرة و غير ذات تمييز بالنسبة إلى المحلّ الخاصّ، فتتخيّر بين جعل العشرة في أيّ محلّ من اليوم الأوّل إلى العشرين إلّا إذا عيّنت عادات النساء وقت حيضها، كما لو فرض كون العادات من أوّل الشهر إلى خمسة أيّام فيجب عليها الأخذ بالعشرة من أوّل الشهر، لأنّها بالنسبة إلى الوقت غير ذات تمييز، فلا بدّ من رجوعها إلى الأمارة المتأخّرة عن التمييز.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من لزوم الأخذ بعشرة أيّام جار في الفرع المتقدّم أي ما إذا كانت للأمارات جهة مشتركة لعدم ما يدفع لزوم الأخذ بعشرة أيّام، فإنّ عادات نسائها أمارة متأخّرة عن أمارة التمييز على عشرة أيّام، فتدبّر.

و لو فقدت النساء و قلنا بأنّها غير ذات تمييز بالنسبة إلى العدد، فلا يبعد الرجوع إلى الأخبار، بدعوى فهم ذلك من رواية يونس حيث قال في ذيلها عند بيان القاعدة الكليّة بعد بيان السنّتين الأوّلتين «فإن لم يكن الأمر كذلك و لكنّ الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد- إلخ-» بأن يقال:

إنّ قوله «فإن لم يكن الأمر كذلك» له مصاديق، و يكون جميع مصاديقها موضوعا للحكم المترتّب عليه أي السبع و الثلاث و العشرين، و إنّما ذكر بعض مصاديقه الواضحة من غير أن يكون الحكم منحصرا في هذا المصداق، فمع فقدان التمييز الّذي يمكن الرجوع إليه يكون تكليفها الرجوع إلى الروايات لصدق قوله «لم يكن الأمر كذلك» و بعبارة اخرى: إنّ الإرجاع إلى التمييز في السنّة

الثانية إنّما يكون في ما يمكن الإرجاع إليه، و هو كون التمييز بلا مزاحم، فموضوع الحكم في التمييز هو التمييز القابل للإرجاع إليه، و في مقابله المعبّر عنه بقوله «فإن لم يكن الأمر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 212

كذلك» هو مطلق ما لا يكون التمييز مرجعا لها، سواء فقد التمييز و هو المصداق الواضح المذكور في المرسلة، أو كان تمييز لكن لم يمكن الرجوع إليه كما في ما نحن فيه، فتدبّر جيّدا.

لكن قد عرفت أنّها بالنسبة إلى العدد ذات تمييز، فلا يجوز لها الرجوع إلى عادات النساء في العدد فضلا عن الرجوع إلى الروايات، نعم لو كانت بالنسبة إلى الوقت غير ذات تمييز كما لو رأت عشرين يوما ترجع إلى عادات النساء في تعيين الوقت، و إلّا فتتخيّر. و أمّا لو كانت ذات تمييز بالنسبة إليه أيضا كما لو رأت خمسة عشر يوما كانت بالنسبة إلى اليوم السادس إلى العاشر ذات تمييز وقتا فتأخذ به، لكن لو كانت عادة النساء في أوّل الشهر مثلا لا يبعد تقدّم الأخذ بالعشرة من أوّل الشهر إلى العاشر على الأخذ من السادس إلى العاشر، و في العكس تقدّم العكس.

«الأمر الرابع» إذا فقد الشرط الثالث بأن ترى بين الدمين المتّصفين بصفة الحيض

الصالح كلّ منهما في نفسه أن يكون حيضا، دما بصفة الاستحاضة أقلّ من عشرة أيّام، فتارة يكون مجموع الطرفين و الوسط عشرة أيّام أو أقلّ، و اخرى يكون متجاوزا عنها؛ و حينئذ تارة يكون بعض الدم الثالث متمّما للعشرة، و اخرى يكون الدم المتوسّط متمّما لها؛ فعلى الأوّل هل يحكم بكون الطرفين حيضا و يتبعهما الوسط، إمّا بدعوى أولويّة جعل الدم المتوسّط حيضا من جعل النقاء حيضا كما مرّ سابقا، أو بدعوى أنّ أوصاف الاستحاضة

ليست أمارات لها بل الأماريّة مختصّة بأوصاف الحيض و إنّما ذكر أوصافها استطرادا و لبيان فقدان أوصاف الحيض لا لوجدان أوصاف الاستحاضة، فحينئذ يكون الأمارة القائمة على حيضيّة الطرفين بلا مانع، فتأخذ بها و تجعل الوسط حيضا تبعا، لكون أقلّ الطهر عشرة أيّام؟

و لا يخفى ما في الدعويين، لما مرّ من ظهور الأدلّة في أماريّة الوصفين، و لا دليل على كون صفة الاستحاضة مذكورة استطرادا، فحينئذ لا يكون جعل الدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 213

الموصوف بصفات الاستحاضة حيضا أولى من جعل النقاء كذلك، لقيام الأمارة هاهنا على الاستحاضة و عدم الحيضيّة بخلاف هناك.

ثم على فرض أماريّة أوصاف الاستحاضة كما هو التحقيق فهل تصير المرأة فاقدة التمييز؛ أو يحكم بكون الدم المتقدّم حيضا و المتوسّط استحاضة و يتبعها المتأخّر؛ أو يعكس الأمر فيحكم بكون الدم المتقدّم و المتوسّط استحاضة دون المتأخّر؟ وجوه أوجهها الأوّل، لمعارضة الأمارات في الأطراف، فالأخذ بأمارة الطرفين تعارضه أمارة الوسط، و الأخذ بالوسط و اتباع الأوّل أو الثاني تعارضه أمارة الحيضيّة و مع عدم رجحان شي ء منها لا يمكن الأخذ بواحدة منها، فتصير فاقدة التمييز من هذه الجهة و إن كانت واجدة من بعض الجهات، فإنّ أمارة الحيض في الطرفين توجب انحصار الحيض في أحدهما كما أنّ إمارة الاستحاضة في ما بعد الأيّام تدفع حيضيّته.

و قد يقال: إنّ المتّجه في هذه الصورة الحكم بكون الوسط استحاضة و كون الأسود اللاحق تابعا له، لإطلاق أدلّة الأوصاف المقيّدة بالإمكان، فحينئذ يكون الأصفر موجودا في زمان إمكان الاستحاضة بخلاف الأسود اللاحق، فإنّه وجد في زمان امتناع الحيضيّة إلّا على فرض كون الأصفر حيضا، و حيث إنّ الأصفر طهر بمقتضى

إطلاق الأدلّة فالأسود اللاحق ليس بحيض. و ببيان آخر: اعتبار وصف الدم اللاحق موقوف على عدم اعتبار صفة الدم السابق، فلو كان عدم اعتبار صفة السابق موقوفا على اعتبار صفة اللاحق لزم الدور.

و فيه أنّ ترجيح أماريّة صفة السابق على صفة اللّاحق إن كان لتقدّمها الزمانيّ فلا وجه له، ضرورة أنّ مجرّد القبليّة في التحقّق لا يوجب الترجيح عقلا و لا نقلا، و إن كان لأجل امتناع الأخذ بالثاني لكونه موجودا في زمان يمتنع أن يكون حيضا ففيه أنّه مستلزم للدور، لأنّ الامتناع يتوقّف على الترجيح، و لو كان الترجيح متوقّفا على الامتناع لزم الدور. و أمّا الدور المدّعى ففيه ما لا يخفى، ضرورة أنّه لا توقّف لأحد الطرفين على الأخر، و لا تقدّم و لا تأخّر لأحدهما حتّى يتحقّق التوقّف.

مع أنّه يمكن المعارضة بأنّ اعتبار وصف الدم السابق موقوف على عدم اعتبار صفة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 214

اللاحق، و لو كان عدم اعتبار صفة اللاحق موقوفا على اعتبار صفة السابق لزم الدور.

و الحقّ أنّه لا توقّف و لا دور، و لا وجه لترجيح إحدى الأمارات على الأخرى. و منه يظهر الحال في الصورتين الأخيرتين، فإنّ التحقيق فيهما أيضا كونها فاقدة التمييز، لتعارض الأمارات و عدم رجحان شي ء منها.

ثم إنّه مع إمكان التمييز من بعض الجهات دون بعض يجب عليها تقديم التمييز، فيما يمكن و الأخذ بعادة النساء أو الاخبار في ما لا يمكن، و يظهر الحال ممّا مرّ.

«الأمر الخامس» إن فقدت المبتدئة التمييز

بأن ترى على لون واحد و حالة واحدة أو كان التمييز بحيث لا يجوز الرجوع إليه كما في تعارض الأمارات في ما لا يجوز الاتّكال عليها مطلقا فالمشهور كما عن

جماعة الرجوع إلى عادة نسائها، بل عن جماعة دعوى الإجماع و الاتّفاق عليه، و هذا على الإجمال ممّا لا إشكال فيه، لكنّ الكلام يقع في جهات.

منها بيان كيفيّة الجمع بين روايات التمييز و روايات العدد و روايات الرجوع إلى عادة النساء، فنقول: إنّ الظاهر من روايات التمييز أنّ أماريّة ألوان الدم و حالاته قويّة كاملة بحيث تستحقّ أن يطلق عليها أنّ دم الحيض ليس به خفاء، و أنّه أسود يعرف، و إن كانت أماريّته متأخّرة عن العادة نصّا و فتوى. و أمّا لسان روايات الرجوع إلى العدد و الأخبار فلسان أصل عمليّ كما يظهر بالنظر إلى مرسلة يونس حيث قال فيها «تحيّضي في علم اللّٰه.» و فسّره الإمام عليه السّلام بتكلّف عمل الحائض، و كذا الحال في رواية عبد اللّٰه بن بكير حيث قال فيها «جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها للصلاة أقلّ ما يكون من الحيض» فالظاهر من روايات العدد هو كون مفادها تكليف من لا طريق لها إلى حيضها و تكون متحيّرة فيه، و لهذا أرجعها في مضمرة سماعة إلى العدد بعد اختلاف عادات النساء، فلا إشكال في تأخّر الرجوع إلى العدد من الرجوع إلى عادات النساء و التمييز.

و اما حال التمييز مع عادات النساء فالظاهر من أدلّتهما تقدّم التمييز على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 215

العادات، لأنّ ما وردت في الرجوع إلى العادات منها موثّقة سماعة على رواية الشيخ، و قد حكم فيها بالرجوع إلى عادة النساء في من لم تعرف أيّام أقرائها، و منها رواية أبي بصير، و فيها: و إن كانت لا تعرف أيّام نفاسها فابتليت جلست بمثل أيّام أمّها أو

أختها أو خالتها- إلخ- بناء على كون النفاس بحكم الحيض على ما قيل و إن كان للإشكال فيه مجال. و كيف كان فأدلّة التمييز حاكمة عليهما، لأنّ لسان تلك الأدلّة هو معروفيّة الحيض بالأمارة، و هما حكما بالرجوع إلى النساء مع عدم المعرفة.

و اما رواية زرارة و محمّد بن مسلم الموثّقة على الأقرب عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها، ثمّ تستظهر على ذلك بيوم «1» فهي و إن لم تكن مثلهما لكنّ الظاهر حكومة مثل قوله «إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها و خلقها الّذي جرت عليه، ليس فيها عدد معلوم موقّت غير أيّامها» و قوله في ذات التمييز «إنّما تعرفها- أي تعرف أيّامها- بالدم» و قوله «و ذلك أنّ دم الحيض أسود يعرف» إلى غير ذلك على مثل قوله «يجب للمستحاضة أن تنظر بعض نسائها فتقتدي بأقرائها» فإنّه لا معنى للاقتداء بالغير مع معلوميّة العدد و الأيّام، و إنّما الاقتداء بالنساء و الأقارب لأجل الكشف الظنّيّ عن أيّامها، و مع كون الطريق لنفسها و في دمها لا مجال للرجوع إلى عادة الغير، و هذا بوجه نظير ظنّ المأموم مع اعتباره إذا عارض ظنّ الإمام، حيث إنّ الظاهر تقدّم ظنّه على ظنّ الإمام، بل ما نحن فيه أولى منه بوجوه.

و بالجملة بعد النظر إلى الروايات لا يبقى شكّ في تقدّم أدلّة التمييز على الرجوع إلى عادات النساء، كتقدّم عادتهنّ على العدد و الأخبار، هذا. مع أنّ في موثّقة محمّد بن مسلم وجوها من الخدشة توهن متنها بحيث توجب الإشكال في الاتّكال عليها، كورود التخصيص الكثير المستهجن عليها، فإنّ إطلاقها يشمل جميع أقسام

المستحاضة، ذات عادة كانت أو مميّزة أو مبتدئة أو غيرها، و لا فرق في الاستهجان بين

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 216

التقييد و التخصيص الاصطلاحيّ. و دعوى الانصراف في غاية الوهن، ألا ترى أنّه لو لم يكن عندنا إلّا هي لما توقّفنا و لا توقّف أحد في كون حكم المستحاضة الاقتداء ببعض نسائها، كانت الاستحاضة ما كانت و المستحاضة من كانت؟ و ميزان الانصراف هو النظر إلى نفس الرواية دون معارضاتها و مقيّداتها، فلا إشكال في إطلاقها. مع أنّ ذات العادة سواء كانت حافظة لعادتها أو ناسية لها، و ذات التمييز سواء كانت مبتدئة أو غيرها خارجة منها نصّا و فتوى، و إجماعا في بعضها، فلا تبقى فيها إلّا المبتدئة بلا تمييز و غير مستقرّة العادة مع عدم التمييز- على إشكال في الثانية- و لا إشكال في ندرة غير ذات العادة و التمييز، فذكر هذا المطلق في مقام البيان لإفادة حكم أفراد قليلة غير صحيح، فيوهن ذلك جواز التمسّك بها.

و كالإرجاع إلى بعض نسائها، و هو مخالف للنصّ و الفتوى، و العذر بأنّ عادة بعض نسائها أمارة على عادة سائرهنّ غير موجّه، أمّا أوّلا فلعدم أماريّة عادة فرد واحد من طائفة على عادة جميعها لا عقلا و لا عرفا، و لا يحصل منها الظنّ بها بلا شبهة و ريب؛ و أمّا ثانيا فلأنّ ظاهرها أنّ الاقتداء ببعض النسوة هو تكليفها الأوّليّ لا لأجل كشف عادتها عن عادات الطائفة، و لا إشكال في أنّ العرف يرى التعارض بينها و بين موثّقة سماعة الّتي تلقّاها الأصحاب بالقبول.

و كالأمر بالاستظهار الّذي لم يعهد القول به، فالظاهر

إعراض الأصحاب عن مضمونها، فلا يمكن الاتّكال عليها، كعدم إمكان الاتّكال على موثّقة أبي بصير الّتي هي كالنصّ في تخييرها بين الرجوع إلى أمّها أو أختها أو خالتها، مع فرض اختلافهنّ في العادة.

و منها أنّه لا إشكال نصّا و فتوى في رجوع المبتدئة بالمعنى الأخصّ إلى عادة نسائها، فهل هو مختصّ بها، أو يعمّ من لم تستقرّ لها عادة و لو رأت مرارا؟ يمكن أن يقال بالتعميم، بدعوى استفادة حكمها من مضمرة سماعة، فإنّ الحكم بكون الأقراء أقراء نسائها و إن كان في مورد الجارية الّتي حاضت أوّل حيضها و استمرّ بها الدم و هي لا تعرف أيّام أقرائها لكنّ العرف لا يرى لابتداء الدم خصوصيّة، لأنّ الإرجاع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 217

إلى الأقارب حكم موافق لارتكاز العقلاء، لارتكازيّة كون عادات نساء طائفة إذا كانت متوافقة كاشفة عن حال المجهولة، و لحوق مجهولة الحال بهنّ. و لا ريب في أنّ أماريّة عادتهنّ إنّما هي لقرب أمزجتهنّ، و عادة النساء أمارة لمن لم تكن لها أمارة من نفسها كعادتها الشخصيّة أو تميّز دمها، فإذا لم تعرف عادتها بالأمارات الّتي عندها تكون عادات الطائفة و الأرحام نحو طريق إلى عادتها، و هذا أمر ارتكازيّ عقلائيّ و إن لم يصل إلى حدّ يعتني به العقلاء بترتيب الآثار. لكن إذا ورد من الشارع على هذا الموضوع حكم الاقتداء بنسائها و أنّ أقراءها أقراؤهنّ لا ينقدح في ذهن العقلاء إلّا ما هو المغروس في أذهانهم من كون عادات الطائفة متشابهة، و ما هو المغروس في الأذهان ليس إلّا ذلك من غير دخل لابتدائيّة الدم و عدمها، فإذا ضمّ هذا الارتكاز إلى موثّقة سماعة تلغى

خصوصيّة كون الجارية في أوّل ما حاضت، و يرى العقلاء أنّ تمام الموضوع للإرجاع هو عدم معرفتها بأيّامها و لو بالطرق الخاصّة الّتي عندها، و كون عادات الطائفة شبيهة.

هذا غاية التقريب لاستفادة حكم غير مستقرّة العادة من موثّقة سماعة، و فيه أنّ ذلك إنّما يتمّ لو لم تكن للمبتدئة خصوصيّة لدى العرف، و لا لغير مستقرّة الدم خصوصيّة مخالفة لخصوصيّة المبتدئة بحيث تكون تلك الخصوصيّة موجبة لقرب احتمال الافتراق بينهما في الحكم، لكن فرق بين المبتدئة و غير مستقرّة الدم، فإنّ الثانية مخالفة في رؤية الدم لنسائها، فإنّها ترى في كلّ شهر بعدد و وقت مغاير لما ترى في الشهر الآخر في حين تكون عادة نسائها على الفرض منتظمة متوافقة في العدد أو مع الوقت أيضا، فلا يمكن مع هذا الاختلاف بينها و بين الطائفة أن تكون عادة الطائفة لدى استمرار دمها كاشفة و لو ظنّا عن عادتها بل الظنّ حاصل ببقاء الاختلاف، و هذا بخلاف المبتدئة الّتي لم تر الدم قطّ و لم تخالف نساءها في العادة بعد، فتكون عاداتهنّ كاشفة ظنّا عند العقلاء عن عادتها، فهذا الفرق لا يدع مجالا لإلغاء الخصوصيّة المأخوذة في موضوع الحكم و لو كانت في سؤال السائل.

و العجب من صاحب الجواهر حيث قال في الردّ على أنّ ثبوت اختلافها مع نسائها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 218

يمنع من الرجوع إلى عادتهنّ عند الاشتباه: إنّ ذلك مجرّد اعتبار لا يصلح مدركا للأحكام الشرعيّة. فإنّ هذا الاعتبار و الاحتمال يمنع عن إثبات الحكم الشرعيّ لها لا أنّ مجرّده مدرك للحكم الشرعيّ، و بينهما فرق واضح. نعم، مع التقريب المتقدّم لا يبعد إلحاق من رأت مرّة

واحدة كعادة نسائها ثمّ استمرّ بها الدم بها، و هذا لا يوجب إلحاق المخالفة لهنّ بهنّ، كما يمكن دعوى إلحاق بعض ناسيات العادة بالمبتدئة، و هي من تكون ناسية لعادتها و لم تعلم إجمالا مخالفتها لعادات نسائها، لكنّ المحكيّ عدم التزامهم بذلك.

و قد يتمسّك لإثبات الحكم في غير المستقرّة بموثّقة محمّد بن مسلم المتقدّمة، و قد مرّ أنّها بما لها من الظاهر غير معمول بها، بل بما قيل في تأويلها من كون الرجوع إلى بعض النساء أمارة على عادة الكلّ أيضا غير معمول بها. بل قد عرفت و هن إطلاقها لورود التقييد الكثير عليه، فيكشف ذلك عن خلل فيها، و لعلّه كان فيها قيد لم يصل إلينا، مع أنّ فيها حكمين غير معمول بهما لا غير، و لا يمكن أن يقال إنّ المراد ببعض النساء هي الّتي تكون معتدّا بها بمقدار تكشف من عادتها عادة سائر النساء، أو المراد الحدّ الّذي يكون غيره بالنسبة إليه نادرا بحكم العدم، فإنّ مثل ذلك التصرّف غير مرضيّ عند العقلاء. و الإنصاف أنّ تلك الرواية موهونة المتن، مغشوشة الظاهر، و لهذا خصّ الشيخ- على ما حكي عنه- رواية سماعة بكونها متلقّاة بالقبول بين الأصحاب.

و منها أنّ المعتبر في الرجوع إلى الأقارب هل هو اتّفاق جميع نسائها و أقاربها من الأبوين أو أحدهما حيّا و ميّتا و قريبا و بعيدا كائنة من كانت؛ أو يكفي اتّفاق الغالب مع الجهل بحال البقيّة؛ أو مع العلم بالمخالفة أيضا؛ أو يكفي الغالب إذا كانت المخالفة معهنّ كالمعدوم؛ أو إذا لم يعلم حال النادر كذلك؛ أو يكفي موافقة بعضهنّ مع الجهل بحال البقيّة؟ و هل يعتبر التساوي أو التقارب في السنّ معهنّ؛ أو يعتبر

اتّحاد البلد أو قربه من حيث الآفاق؛ أو لا؟ احتمالات و وجوه.

لا يبعد القول بأنّ المتفاهم عرفا من موثّقة سماعة و لو بضميمة ارتكاز العقلاء- من

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 219

أنّ الإرجاع إليهنّ ليس لمحض التعبّد الصرف بل لأجل أماريّة خلق الطائفة لخلقها لتشابه أفراد طائفة في الأمزجة و غيرها- أنّ اتّفاق النوع بمثابة تكون من تخالف معهنّ نادرة يكفي في الأماريّة، لأنّ مثل تلك المخالفة لا يصدق عليها قوله فإن كانت نساؤها مختلفات، و لا انّهنّ غير متّفقات، بل تكون عادة تلك المرأة النادرة المخالفة لنوع الطائفة عند العقلاء معلولة بعلّة، فيقال: إنّ الطائفة متّفقة و إنّما تخلّفت عنها تلك النادرة، و هذا لا يعدّ اختلاف الطائفة، و لا يضرّ بأماريّة حال النوع على مجهولة الحال ارتكازا.

و بالجملة بعد ارتكازيّة الحكم يفهم العرف من رواية سماعة أنّ الشارع جعل موافقة أمزجة الطائفة كاشفة عن عادة المبتدئة المستمرّة الدم على وزان الارتكاز العقلائيّ، و هو عدم إضرار التخلّف النادر بها، و أولى بذلك ما إذا جهل حال بعضهنّ إذا كانت البقيّة بحيث يقال إنّ الطائفة خلقها كذا.

ثم إنّ ما هو المتفاهم من الموثّقة بضميمة الارتكاز المشار إليه أنّ عدد النساء لو كان قليلا جدّا كالاثنتين و الثلاث مثلا لا يجوز الاقتداء بعادتهنّ إلّا إذا علم حال الأموات منهنّ بحيث يصدق على اتّفاقهنّ أنّ نساء الطائفة كانت عادتهنّ كذلك، و بالجملة الميزان في الرجوع إلى نسائها هو ما ذكرنا.

و من هنا يظهر أنّ الإرجاع إلى عادة النساء من الفروض النادرة التحقّق بحيث لا ينافي الحصر المستفاد من المرسلة، فإنّ السكوت عنه فيها كالسكوت عن مصداق غير مبتلى به، و أمّا

التعرّض له في المرسلة فلا مانع منه، لأنّ التعرّض بالخصوص لفرد نادر غير عزيز.

ثم إنّ الظاهر من الموثّقة هو كون موضوع الإرجاع إلى النساء متقيّدا بأمر وجوديّ و هو كون النساء متماثلة الأقراء، و أمّا الإرجاع إلى العدد فلا يتوقّف إلّا على فقد هذا المرجع. و بعبارة اخرى: إنّ الاختلاف المفروض ليس موضوعا للحكم بالرجوع إلى العدد، بل عدم الموافقة موضوع له، فحينئذ لو قلنا بجريان أصالة عدم الموافقة على نحو أصل العدم الأزليّ يحرز موضوع الرجوع إلى الروايات مع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 220

الشكّ في الموافقة و المخالفة، و هذا بخلاف ما لو كانت المخالفة أيضا مأخوذة في موضوع العدد، لكونها أمرا وجوديّا غير مسبوق بالعلم، لكن في أصل جريان تلك الأصول العدميّة إشكال و منع، و قد فرغنا عن عدم جريانها في محلّه، فلا يبقى لذلك النزاع ثمرة.

ثمّ إنّ نساءها قد يتّفقن في العدد و الوقت و قد يتّفقن في واحد منهما دون الآخر، فهل المستفاد من الموثّقة هو كون النساء مرجعا لها عند اتّفاقهنّ فيهما، و مع الاختلاف و لو في واحد منهما لا ترجع إليهنّ بل ترجع إلى العدد؟ و بعبارة أخرى:

هل يكون الاختلاف أو عدم الاتّفاق في الجملة موضوعا للرجوع إلى العدد، أو يكون الاتّفاق في الجملة موضوعا للرجوع إلى النساء، و عدم الاتّفاق مطلقا و الاختلاف فيهما موضوعا للرجوع إلى العدد؟ قد يقال: إنّ ظاهر ذيل الموثّقة حيث تعرّض للعدد هو الإرجاع إليهنّ مع اتّفاقهنّ في العدد و لا تعرّض لها للوقت، مع أنّه لو توقّف الرجوع إلى النساء على اتّفاقهنّ عددا و وقتا يلزم منه أن يكون الرجوع إليهنّ فرضا في غاية

القلّة. و فيه أنّ التعرّض للعدد في الذيل لا يدلّ على كون فرض الصدر كذلك، لإمكان أن يكون الاتّفاق عددا و وقتا أمارة على عادتها، و مع الاختلاف في الجملة تكون فاقدة الأمارة و حكمها الرجوع إلى العدد و الاختيار في الوقت، مع إمكان أن يقال: إنّ الرواية لا تكون بصدد التعرّض للعدد و الإرجاع إليه، بل تكون بصدد بيان أنّه مع اختلافهنّ تكون غاية جلوسها من طرف الزيادة هي العشر و من طرف النقيصة هي الثلاث مخيّرة بين الحدّين، فتكون في العدد و الوقت مخيّرة، و سيأتي بيان ذيل الرواية عن قريب. و أمّا صيرورة الفرد نادرا فلا محذور فيه، بل هي مؤيّدة لحصر رواية يونس، و موجبة لتوافق الروايات.

لكن التحقيق شمول الموثّقة لاتّفاقهنّ عددا فقط و وقتا كذلك، فإنّ الظاهر من صدرها حيث جعل أقراءها أقراء نسائها أنّه إذا كان للنساء أقراء يكون أقراؤها مثلها و مع اتّفاق النساء في العدد لا شبهة في صدق كونهنّ ذوات الأقراء، بل و كذلك إذا اتّفقن في الوقت يصدق أنّ لهنّ أقراء، فيجب عليها بحسب إطلاق الرواية الرجوع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 221

إليهنّ في أقرائهنّ.

و اما ذيل الرواية أي قوله «فإن كانت نساؤها مختلفات» فقد عرفت أنّ الاختلاف ليس موضوعا للحكم، بل ما يتفاهم عرفا من الرواية أنّ الذيل في مقام بيان مقابل ما يفهم من الصدر، فكأنّه قال: إذا لم يكن لهنّ أقراء .. و عدم الأقراء عرفا بعدم جميع المصاديق، كما أنّ تحقّقها بتحقّق فردّ ما.

هذا مع موافقة الارتكاز العرفيّ لذلك، و قد عرفت أنّ الظاهر أنّ الرواية وردت موافقة له لا للتعبّد المحض، مع أنّه لو قلنا

بأنّ الرواية تعرّضت للعدد فقط يجب أن يلتزم بأنّه إذا اتّفقن في العدد و الوقت جاز لها تخلّفهنّ في الوقت دون العدد، مع أنّه مخالف لفهم العرف من الرواية كما لا يخفى.

و منها أنّه نسب إلى المشهور تارة أنّها ترجع إلى عادة أقرانها مع فقد نسائها أو اختلافهنّ، و اخرى إلى مذهب الأكثر، و ثالثة إلى ظاهر كلام المتأخّرين، و استظهر بعضهم دعوى الإجماع عليه من عبارة السرائر، و هو في محلّ المنع كما يظهر وجهه من الرجوع إليها، مع ضعف دعواه بعد أنّ القول بعدم اعتبار الرجوع إليهنّ محكيّ عن جمع من الأصحاب كالصدوق و المرتضى و الشيخ في الخلاف و النهاية و المحقّق و العلّامة و غيرهم. فلا تكون المسألة إجماعيّة و لا مشهورة بحيث يمكن الاتّكال عليها، و لا دليل عليها إلّا بعض وجوه ضعيفة، كحصول الظنّ من موافقة الأقران، و هو على فرض حصوله لا يعتمد عليه و لا دليل على اعتباره. و كالتشبّث بمرسلة يونس القصيرة حيث اعتبرت فيها مراتب السنين في القلّة و الكثرة في الحيض، و فيه أنّها- مع ضعفها سندا و وهنها متنا كما تقدّم- لا تدلّ على المقصود، غاية الأمر أنّ فيها إشعارا لا يصل إلى حدّ الدلالة. و كدعوى شمول «نسائها» لأقرانها خصوصا إذا كنّ في بلدها، و فيه مع منع ذلك أنّ لازمة اشتراك الأقرباء و الأقران في جواز الرجوع إليهنّ، و هو ليس بمراد قطعا و لم يقل به أحد، و الاتّكال في الترتيب بينهما على فهم العرف في غير محلّه، لمنع ذلك، فالأقوى هو عدم اعتبار الأقران، و معه لا داعي إلى تعيين الموضوع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص:

222

«الأمر السادس» إذا لم يكن لها الرجوع إلى نسائها
اشارة

إمّا لأجل اختلافهنّ أو فقدان عدّة يمكن الرجوع إليهنّ- بناء على ما تقدّم من أنّ الميزان في الرجوع إمكان كشف حال النوع منهنّ بأن تكون عدّتهنّ بمقدار يقال عند اتّفاقهنّ إنّ الطائفة عادتها ذلك- فأقوال الأصحاب فيه مختلفة جدّا لا يمكن الاتّكال على دعوى الشهرة أو الاتّفاق فيه فلا بدّ من النظر إلى روايات الباب ليتّضح الحال.

فنقول: إنّ الروايات مختلفة بحيث لا يكون بينها جمع عقلائيّ مقبول يمكن الاتّكال عليه، و ما قيل في وجه الجمع بينها غير مرضيّ، ففي موثّقة سماعة بطريق الشيخ: فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة أيّام و أقلّه ثلاثة أيّام «1» و في رواية الخزّاز الّتي لا يبعد أن تكون موثّقة عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن المستحاضة كيف تصنع إذا رأت الدم و إذا رأت الصفرة؟ و كم تدع الصلاة؟ فقال:

أقلّ الحيض ثلاثة، و أكثره عشرة، و تجمع بين الصلاتين. «2»

و قد يجمع بينهما و بين سائر الروايات كموثّقتي ابن بكير و مرسلة يونس الطويلة بحملهما على التخيير بين الثلاثة إلى عشرة أيّام و حمل رواية يونس و ابن بكير على مراتب الفضل. و فيه أوّلا أنّ موثّقة سماعة لا تدلّ على التخيير بين الثلاثة إلى العشرة، بل يحتمل أن يكون المراد التخيير بين خصوص الحدّين، تأمّل. و الأظهر أنّها ليست في مقام بيان كيفيّة جلوس عشرة أيّام و ثلاثة، بل من هذه الجهة مهملة أو مجملة ترفع إجمالها رواية ابن بكير الظاهرة في أنّ العشرة إنّما تكون في الدورة الاولى، و الثلاثة في بقيّة الدورات، فالجمع بينهما عقلائيّ.

و أمّا حمل روايتي ابن بكير على أحد طرفي التخيير لأجل كونه أفضل الأفراد فهو فرع

كون دلالة موثّقة سماعة على التخيير أقوى من دلالتهما على التعيين، و هو في محلّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 8، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 223

المنع، بل التصرّف في موثّقة سماعة بقرينيّة الموثّقتين أهون، لو لم نقل بأنّه ليس تصرّفا فيها بل من قبيل تفصيل ما أجمل فيها و توضيح ما أبهم، كما لا يخفى وجهه على الناظر فيهما.

و منه يظهر الحال في رواية الخزّاز حرفا بحرف مع الغضّ عن الوهن الّذي في متنها من حيث ورود التقييد الكثير عليها، فإنّ موضوعها المستحاضة مع أنّ الحكم لقليل من أفرادها. إلّا أن يقال: إنّ المراد بقوله: إذا رأت الدم .. و إذا رأت الصفرة ..

هو رؤية الدم محضا بلا تغيّر حال، أو رؤية الصفرة كذلك، فلا إشكال من هذه الجهة.

و من حيث إنّ ظاهرها أنّ مقدار تركها الصلاة أقلّ الحيض و أكثره أي مجموعهما، و من حيث إنّ قوله «و تجمع بين الصلاتين» وقع في غير محلّه، فلا يخلو متنها من التشويش و الاضطراب.

و ثانيا إنّ فقرأت مرسلة يونس آبية عن هذا الجمع كالانحصار المستفاد منها؛ و كقوله انّ التحيّض بالستّة أو السبعة إنّما هو في علم اللّٰه؛ و كقوله: أقصى وقتها سبع و أقصى طهرها ثلاث و عشرون، و كقوله: فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، ممّا هي آبية عن الحمل على الأفضليّة، و لا يكون الجمع المذكور بينها و بين تلك الروايات مقبولا عقلائيّا.

و الذي يمكن أن يقال في المقام أنّ الجمع بين موثّقتي ابن بكير و موثّقة سماعة بما تقدّم جمع عقلائيّ فتحمل الموثّقة على الموثّقتين حملا للمجمل على

المفصّل و المبيّن، فيقع التعارض بينها و بين مرسلة يونس من غير إمكان الجمع بينهما، لكن لا إشكال في أنّ المشهور اتّكلوا على المرسلة، و لا ريب في أنّ مبنى أحد طرفي التخيير سواء كان سبعا أو كانت مخيّرة بين السبع و الستّ إنّما هو المرسلة، و أمّا الطرف الآخر للتخيير بالمعنى الّذي ادّعي الشهرة و الاتّفاق عليه- و هو ثلاثة من شهر و عشرة من شهر كما نسب إلى أشهر الروايات تارة و إلى المشهور أخرى؛ أو الثلاثة في الأوّل و العشرة في الثاني كما ادّعي الإجماع عليه؛ أو أنّ المضطربة مخيّرة بين الستّة و السبعة في شهر و الثلاثة و العشرة في شهر آخر كما قيل انّ هذا الحكم هو المعروف بين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 224

الأصحاب- فلا يمكن أن تكون الروايات الواردة في الباب مستنده له، ضرورة عدم دلالة شي ء منها عليه لا فردا و لا جمعا، فإنّ الموثّقتين ظاهرتان ظهورا قويّا في التفصيل بين الدور الأوّل فثلاثة، و سائر الأدوار فعشرة، و لو نوقش في دلالتهما على التفصيل المذكور فلا شبهة في عدم شائبة دلالة لهما على فتوى المشهور، خصوصا إذا قيل بتقدّم الثلاثة على العشرة فإنّه على عكس مفاد الروايتين، كما أنّ موثّقة سماعة أيضا لا يمكن أن تكون مستندة لفتوى المشهور، سواء قلنا بظهورها في التخيير بين الثلاثة إلى العشرة أو في التخيير بين خصوص الحدّين، أو قلنا بإجمالها من هذه الجهة. و الجمع بينهما أيضا لا يقتضي ذلك.

و توهّم غفلة المشهور عن ظاهر الموثّقتين أو عدم دلالة موثّقة سماعة في غاية السقوط، فهذه الروايات ممّا لا يمكن الاتّكال عليها بعد شذوذها و

عدم نقل العمل بها إلّا عن الإسكافيّ و بعض متأخّري المتأخرين، و لا يجوز رفع اليد عن ظهور مرسلة يونس الّتي لا إشكال في كونها مورد اعتماد الأصحاب بمثل تلك الروايات، و ليست الشهرة في المسألة الفرعيّة بحيث يمكن الاتّكال عليها و يثبت الحكم بها بعد كون المسألة ذات أقول كثيرة. و بعبارة اخرى: إنّ الأصحاب على اختلافهم في الفتوى متّفقون تقريبا على العمل بمرسلة يونس و على ترك العمل بالموثّقات، و معه لا يبقى مجال للعمل بها، و لكن لا يوجب ذلك جواز الاتّكال على نقل الشهرة في المسألة الفرعيّة، لعدم قيام الشهرة المعتبرة بحيث يمكن كشف دليل معتبر، فتبقى مرسلة يونس بلا معارض. نعم، تختلف فقرأت المرسلة في التخيير بين الستّة و السبعة المستفاد من قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم «تحيّضي في علم اللّٰه ستّة أيّام أو سبعة أيّام» و تعيين خصوص السبعة المستفاد من جملة من فقرأتها، كقول أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقلّ من سبع و كانت خمسا أو أقلّ من ذلك ما قال لها تحيّضي سبعا» و قوله «لو كان حيضها أكثر من سبع- إلخ-» و قوله «أقصى وقتها سبع و أقصى طهرها ثلاث و عشرون» و قوله «فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون» و قوله «فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 225

و الجمع بينهما بحمل ما عدا الفقرة الأولى على الإجمال في البيان و الإشارة إلى تكليفها التخييريّ الّذي سبق الكلام فيه و حمل قوله «أقصى طهرها- إلخ-» على الأقصى مع الأخذ بالسبع في غاية البعد، خصوصا الحمل الأخير، ضرورة

أنّ الأخذ بالسبع لا يوجب صيرورة الثلاث و العشرين أقلّ الطهر. و ما قيل انّ الثلاث و العشرين أقصاه على تقدير اختيار السبع حيث إنّه ربما يكون على هذا التقدير طهرها أقلّ من ذلك إذا كان الشهر ناقصا، مبنيّ على كون المراد بالشهر هو الشهر الهلاليّ، و سيأتي الإشكال فيه. أو أنّ المقصود في ما إذا اتّفق سيلان الدم في أوّل الشهر الهلاليّ و قلنا في مثل الفرض بأنّ الميزان هو الشهر الهلاليّ و لو كان ناقصا، فيكون الأقصى إضافيّا في بعض الفروض النادرة، فهو كما ترى مخالف للفهم العرفيّ. فلا إشكال في تعارض الفقرات، فإنّ قوله وقتها السبع؛ أو سنّتها السبع؛ أو أقصى طهرها ثلاث و عشرون، لا يجتمع مع التخيير، كما أنّ القول بسهو الراوي مخالف للأصل، بل بعيد جدّا في المقام، خصوصا مع تكرار الترديد بقوله «صومي ثلاثة و عشرين يوما أو أربعة و عشرين» و خصوصا مع الجزم في سائر الفقرات.

لكن مع ذلك لزوم الأخذ بالسبعة لا يخلو من قوّة، إمّا لأجل الدوران بين التعيين و التخيير و لزوم الأخذ بالتعيين، و إمّا لأنّ أصالة عدم الخطأ أصل عقلائيّ يشكل جريانها في مثل المقام الّذي كانت الفقرات المتأخّرة كلّها شاهدة عليه، و ليس الكلام ظاهرا في التخيير، بل وقوع التعارض إنّما هو لأجل جريان الأصل العقلائيّ، و هو محلّ إشكال، فالأخذ بالسبع لو لم يكن أقوى فهو أحوط.

ثم إنّ الظاهر عدم اختصاص لزوم الأخذ بالسبع- بعد ما رجّحنا العمل بالمرسلة- بالمبتدئة بالمعنى الأخصّ، لما تقدّم من استفادة حكم من لم تستقرّ لها عادة من ذيل المرسلة. نعم، لا إشكال في اختصاص الموثّقات بالمبتدئة بالمعنى الأخصّ، فلو رجّحناها على المرسلة أو قلنا

بالتخيير بين المضمونين لما جاز إسراء الحكم إلى غيرها.

و القول بأنّ اختصاص مورد تلك الموثّقات بالمبتدئة مثل اختصاص مورد المرسلة بها و المناط في الجميع سواء، كما ترى. فإنّ مورد ما سئل عنه رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في المرسلة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 226

و إن كان المبتدئة لكنّ الذيل ظاهر في أعمّية الحكم، مضافا إلى حصر السنن، و لو لا ذلك لما تعدّينا عن مفاد الصدر. و هذا بخلاف الموثّقات، فإنّها واردة في المبتدئة من غير دليل على التعدّي، و دعوى وحدة المناط في غير محلّها.

كما أنّ دعوى استفادة ذلك من قوله في ذيل المرسلة عند بيان من لم تستقرّ لها عادة «انّ سنتها السبع و الثلاث و العشرون لأنّ قصّتها قصّة حمنة» بعد أن مثّل للمبتدئة بالمعنى الأخصّ بحمنة و علم من سائر الروايات أنّ لها الخيار، في غير محلّها، لأنّ كون قصّتها قصّة حمنة في الأخذ بالسبع لا يوجب أن يكون حكمها حكم حمنة مطلقا، و بعبارة أخرى: يستفاد من التعليل أنّ من كانت قصّتها قصّة حمنة تكون سنّتها السبع و الثلاث و العشرين، لا أنّ كلّ ما لحمنة يكون لها، فالتخيير المستفاد من جمع الروايتين على فرض صحّته أو من الفتوى بالتخيير على فرض لا يشمل غير المبتدئة بالمعنى الأخصّ.

(تنبيه)

هل تتخيّر في وضع العدد في ما تشاء من الشهر، أو يتعيّن عليها جعله في أوّل الشهر الهلاليّ، أو يتعيّن جعله في أوّل رؤية الدم؟ نسب صاحب الحدائق إلى الأصحاب تخيّرها، و عن المعتبر و المنتهى و جامع المقاصد و المسالك و المدارك و غيرها اختيارها و كذا عن ظاهر المبسوط.

و عن التذكرة و كشف اللثام أنّه يتعيّن عليها وضع ما تختاره من العدد أوّل ما ترى الدم، و هو الأقوى، لظهور مرسلة يونس فيه، حيث قال فيها «تحيّضي في كلّ شهر في علم اللّٰه ستّة أيّام أو سبعة أيّام، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما أو أربعة و عشرين، و اغتسلي للفجر غسلا- إلخ-» و الشهر في غير المورد و إن كان ظاهرا في الهلاليّ، لكن حمله في المورد على الهلاليّ في غاية البعد، بل فاسد، لأنّ لازمة عدم التعرّض لحكمها من حين الرؤية إلى أوّل الشهر الهلاليّ أو عدم حكم لها إذا رأت الدم في ما بين الشهر، و كلاهما فاسدان، مضافا إلى أنّ الظاهر من المرسلة أنّ السبع و كذا الثلاث و العشرون يجب أن تكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 227

متّصلة لا متفرّقة، و مع حساب الشهر من أوّل الهلاليّ يلزم إمّا زيادة الطهر على الثلاث و العشرين أو التفرّق بين أجزائها، و هما خلاف المتفاهم من الرواية.

و بالجملة الظاهر منها أنّه من حين رؤية الدم يحسب الشهر، و لا تكون بقيّة الشهر من حين الرؤية ساقطة عن الحكم، فحينئذ يكون ظاهرها أنّه من حين الرؤية تجعل الستّ أو السبع حيضا ثمّ تجعل ثلاثة و عشرين أو أربعة و عشرين طهرا، و لا إشكال في أنّ الظاهر منها مع العطف ب «ثمّ» هو تقديم الحيض على الطهر. و بعد كون الظاهر منها أنّ الحساب من حين الرؤية و أنّ أيّام الحيض و الطهر لا بدّ و أن تكون متّصلة لا متفرّقة كما هو المتفاهم من المرسلة لا يبقى ريب في ما تقدّم ذكره.

و

توهّم عدم كون المرسلة في مقام البيان فاسد جدّا، فإنّ عدم البيان المدّعى إن كان في نقل أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قصّة حمنة فظاهر المرسلة أنّه عليه السّلام ذكر جميع الخصوصيّات حتّى ما لا تكون دخيلة في الحكم، و إن كان في بيان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم فهو مع فساده عقلا- لأنّ حمنة سألته عن تكليفها الفعليّ فلا يعقل الإهمال في الجواب- خلاف ظاهر الرواية بعد بيان خصوصيّات تكليفها من الغسل و تأخير الظهر و المغرب و تقديم العصر و العشاء إلى غير ذلك، فلا إشكال في كونه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في مقام البيان و كون أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في مقام نقل خصوصيّات القضيّة، فلا بدّ من الأخذ بجميع الخصوصيّات الّتي يستفاد منها الحكم، و منها تخلّل «ثمّ» المستفاد منه تأخّر ثلاثة و عشرين عن السبعة.

و عدم الأخذ ببعض مفاد القضيّة لخلل لا يوجب عدم الأخذ بالخصوصيّة الّتي لا خلل فيها، فإذا ضمّ إليه ما قلنا من كون مبدأ الشهر أوّل الرؤية يستفاد المقصود منها.

و اما موثّقة ابن بكير فقد عرفت أنّها ليست مستندة للحكم، كما أنّ التشبّث بمرسلة يونس القصيرة غير محتاج إليه، مع أنّ موردها غير ما نحن فيه، مضافا إلى ورود الإشكالات المتقدّمة عليها.

و اما تقريب كون المعيار من أوّل الرؤية بأنّه ربما يمنع جعل الابتداء من أوّل الشهر الهلاليّ، كما لو كان ابتداء رؤيتها في أواخر الشهر بحيث لا يتخلّل بين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 228

أقلّ الحيض منه و بين أوّل الشهر الثاني أقلّ الطهر، فإنّ الأظهر بل المعلوم أنّه يجب عليها في

أوّل الرؤية أن تتحيّض إلى العاشر، كما يدلّ عليه مضافا إلى الإجماع و قاعدة الإمكان النصوص الكثيرة الّتي منها موثّقتا ابن بكير، و مع التجاوز عن العشرة و عدم التصادف للعادة و التمييز فلا مقتضى لرفع اليد عمّا ثبت عليها بمقتضى تكليفها الظاهريّ، و لا دليل على عدم كونه حيضا. فغير وجيه فإنّ لزوم التحيّض في أوّل الرؤية لا يوجب كونه حيضا، نعم لو انقطع على العاشر أو قبله يكون المجموع حيضا و هو القدر المتيقّن من الإجماع المدّعى على قاعدة الإمكان كما تقدّم، و أمّا مع التجاوز فلا إشكال في عدم الدليل على الحيضيّة فضلا عن قيام النصوص الكثيرة. و موثّقتا ابن بكير ظاهرتان في أنّ تكليف مستمرّة الدم هو العدد، لكن في الدورة الأولى يكون عددها عشرة، و في سائر الدورات ثلاثة، و لا دلالة فيهما و لا في غيرهما على أنّ العشرة الأولى حيض واقعا حتّى يمتنع جعل أوّل الهلاليّ المفروض حيضا.

و منه يظهر أنّ القول بأنّ الأخذ بالعدد مطلقا إنّما هو بعد العشرة الاولى، و أمّا قبل تمامها فليست مستحاضة، غير تامّ، لأنّ ظاهر المرسلة و الموثّقات هو أنّ تكليف مستمرّة الدم مطلقا هو الأخذ بالعدد، و عدم علمها بكونها مستمرّة الدم لا يوجب عدم محكوميّتها بحكمها. و كيف كان فالمعوّل عليه في المقام هو المرسلة، و قد عرفت ظهورها في لزوم التحيّض من حين رؤيتها في كلّ شهر سبعا، و بعده محلّ طهرها.

ثم الظاهر أنّه لو صادف أوّل الرؤية أوّل الشهر الهلاليّ يجب عليها في السبع الأوّل منه التحيّض و في بقيّة الشهر الصلاة و إن كان ناقصا، و ذكر الثلاث و العشرين إنّما هو لأجل كون الوقوع في أوّل

الهلاليّ نادرا، خصوصا في صورة نقصان الشهر، و الغالب وقوعه بين الهلالين، فيجب عليها التلفيق و الأخذ بالثلاث و العشرين.

المسألة الثانية لا إشكال في أنّ ذات العادة تجعل عادتها حيضا

مع استمرار دمها و تجاوزها عن العشرة، و ما سواها استحاضة، مع عدم معارضتها لتمييز، و أمّا مع اجتماع العادة و التمييز و التعارض بينهما كأن لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 229

ينفصل بينهما أقلّ الطهر من الدم الغير المتميّز، فهل تعمل على العادة كما عن المشهور، أو على التمييز كما عن ظاهر الخلاف و المبسوط، أو تتخيّر بينهما كما عن الوسيلة؟

لا ريب في أنّ العادة مقدّمة لما يظهر من مرسلة يونس و موثّقة إسحاق بن جرير أنّ ذات العادة لا وقت لها إلّا أيّامها المعلومة، و أنّ الرجوع إلى التمييز متأخّر عن الرجوع إلى العادة الّتي هي أقوى الأمارات، و أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام العادة حيض، فلا إشكال في المسألة، بل الظاهر أنّ ذات العادة الوقتيّة فقط ترجع في وقتها إلى عادتها، و ترجع إلى غيرها من التمييز و غيره في عددها، و كذا ذات العدديّة ترجع في العدد إلى العادة و في الوقت إلى غيرها، كما يظهر ذلك كلّه من المرسلة، و تقدّم بعض الكلام فيها.

المسألة الثالثة في الناسية،
اشارة

و فيها جهات من البحث.

الجهة الأولى: الناسية إمّا ناسية للعادة وقتا و عددا، أو وقتا فقط

مع ذكر عددها، أو عددا مع ذكر وقتها، و أيضا قد تكون ناسية للوقت و العدد مطلقا، و قد تكون ذاكرة في الجملة لهما و ناسية كذلك، كما إذا علمت أنّها في أوّل الشهر كانت حائضا و لم تعلم أنّ أوّل الشهر أوّل حيضها أو آخره أو وسطه، هذا بالنسبة إلى الوقت، و أمّا في العدد فكما إذا علمت أنّه لم يكن أقلّ من خمسة أيّام و نسيت الزيادة أنّها يوم واحد أو أكثر؛ و قد تكون ذاكرة في الجملة لأحدهما و ناسية للآخر مطلقا؛ و أيضا قد تكون ذاكرة لكون حيضها في النصف الأوّل من الشهر مثلا و ناسية لمحلّه من النصف، و حينئذ قد يكون تمييزها في هذا النصف من الشهر، و قد يكون في النصف الآخر؛ و أيضا قد تعلم أنّ عادتها في كلّ شهر مرّة واحدة و قد تنسى ذلك؛ و أيضا قد يكون تمييزها بمقدار عددها، و قد يكون أقلّ، و قد يكون أكثر. و الحاصل أنّ الناسية قد تكون غير ذاكرة بقول مطلق لا تكون لها جهة ذكر مطلقا، و قد تكون ذاكرة لجهة من الجهات، و على أيّ تقدير قد تكون ذات تمييز و قد لا تكون كذلك.

الجهة الثانية: لا ينبغي الإشكال في رجوع الناسية ذات التمييز إلى التمييز

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 230

في الجملة، و ذلك لا لكونها القدر المتيقّن من مرسلة يونس كما قيل، لما تقدّم من أنّ فيها احتمالين و أرجحهما أنّ المراد من مختلطة الأيّام هي الّتي كانت لها أيّام منضبطة ثمّ اختلطت بالنقص و الزيادة و التقدّم و التأخّر حتّى أهملت و تركت أيّامها، بل لاستفادة حكمها من المرسلة بعد التأمّل في مفادها، حيث إنّ أبا عبد اللّٰه

عليه السّلام و إن بيّن أوّلا في السنّة الثانية سنّة الّتي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلطت عليها لكن تمسّك في ذيلها بقول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و قال: و ذلك أنّ فاطمة بنت أبي حبيش- إلى أن قال- أما تسمع رسول اللّٰه صلّٰى اللّٰه عليه و آله أمر هذه بغير ما أمر به تلك؟ ألا ترى أنّه لم يقل لها: دعي الصلاة أيّام أقرائك، و لكن قال لها: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة؟ فطريق استفادة حكم مختلطة الأيّام بناء على إرشاد أبي عبد اللّٰه عليه السّلام هو أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لم يأمرها بترك الصلاة أيّام الأقراء و أمرها بتركها إذا أقبلت الحيضة، فدلّ ذلك على أنّ هذه امرأة لم تكن عارفة بوقتها و لم تكن أيّامها معلومة قد أحصتها كما في السنّة الأولى. فمنه تعلم قاعدة كلّيّة هي أنّ كلّ امرأة لم تعلم عددها و لا وقتها لا بدّ لها من الرجوع إلى التمييز، و يستفاد من تلك القاعدة حال مختلطة الأيّام بالمعنى المتقدّم الّتي هي إحدى المصاديق لمطلق الجاهلة بالأيّام و الّتي لم تعرف أيّامها.

فقوله عليه السّلام «فهذه يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيّامها لم تعرف عددها و لا وقتها» ليس المراد منه المختلطة بالمعنى المتقدّم، ضرورة أنّ مجرّد إرجاع النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إيّاها إلى التمييز و عدم إرجاعها إلى العادة لا يبيّن ذلك، بل يبيّن الاختلاط بمعنى أعمّ منه، فيكون المراد من الاختلاط في هذه الفقرة هو عدم المعرفة بالعدد و الوقت مطلقا، و لهذا جعل عدم معرفتها موضحا للاختلاط. و ممّا يبيّن

ذلك قوله عليه السّلام «فهذا يبيّن لك أنّ قليل الدم و كثيره أيّام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومة، فإذا جهلت الأيّام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم و إدباره» حيث جعل الجهل بالأيّام مطلقا مقابل العلم بها موضوعا لاحتياجها إلى التمييز. و بالجملة إنّ التأمّل في فقرأت الرواية يدفع الريب في دلالتها على حكم الناسية، و هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 231

في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

كما أنّ الأظهر اعتبار العادة و تقدّمها على التمييز إذا أمكن التشخيص بها و لو في الجملة، فإذا ذكرت عادتها من حيث الوقت في الجملة و نسيت العدد وجب عليها التحيّض في الوقت على حسب ذكرها، و في العدد الرجوع إلى المرتبة المتأخّرة و كذا مع ذكر العدد و نسيان الوقت لا بدّ لها من أخذ العدد حسب عادتها و العمل بالتمييز لتشخيص وقتها بمقدار الإمكان، حتّى أنّه لا يبعد ذلك لو كانت عالمة إجمالا بأنّ وقتها لا يكون خارجا عن النصف الأوّل، فلا يبعد تقديم العادة في هذه الصورة على التمييز الحاصل في النصف الآخر، و مع عدم التمييز في الأوّل ترجع إلى المرتبة المتأخّرة. كما أنّه لا يبعد عدم الاعتبار بالتمييز إذا كان في الشهر أزيد من مرّة واحدة مع علمها بعدم زيادة عادتها في كلّ شهر على مرّة واحدة.

و بالجملة لا يبعد أن يكون المتفاهم من الرواية و الحصر المصرّح به و غير ذلك من الفقرات أنّ الدم في العادة لمّا كان أمارة قويّة على الحيض تكون تلك الأمارة مقدّمة على التمييز الّذي هو أيضا أمارة بعدها، و كلّما يمكن كشف الحيض بالأمارة القويّة لا

تصل النوبة إلى الأمارة المتأخّرة سواء كانت كاشفة عن الوقت و العدد مطلقا أو عن واحد منهما أو عنهما في الجملة، فيجب عليها الرجوع إلى العادة حتّى الإمكان، و مع عدمه ترجع إلى التمييز، كما يشعر به بل يدلّ عليه في الجملة قوله «حتّى أغفلت عددها و موضعها من الشهر» فعلّق الحكم بالرجوع إلى التمييز على إغفال العدد و الموضع من الشهر، فيستفاد منه أنّه مع عدم إغفال أحدهما لا يجوز الرجوع إلى التمييز في مورده، فيعلم من ذلك حال جميع الصور المتقدّمة في الجهة الاولى و غيرها.

ثم إنّ المتحيّرة الّتي كان تكليفها الرجوع إلى التمييز يجب عليها التحيّض عند وجود التمييز، و لا تنتظر استقرار حيضها بمضيّ ثلاثة أيّام مثلا، لأدلّة التمييز كصحيحة معاوية بن عمّار و مرسلة يونس و غيرهما.

الجهة الثالثة: إذا فقدت الناسية التمييز
اشارة

بأن استمرّ عليها الدم على نهج واحد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 232

أو اختلف لكن لا على وجه يمكن الرجوع إليه، فإمّا أن تكون ذاكرة العدد ناسية الوقت، أو العكس، أو ناسيتهما، فيقع الكلام في ثلاثة مواضع:

الموضع الأوّل: لو ذكرت العدد دون الوقت

بأن تكون ناسية للوقت مطلقا بحيث لا تذكر منه شيئا لا تفصيلا و لا إجمالا بأن كان العدد المحفوظ في ضمن عدد لا يزيد عن نصف ما وقع الضلال فيه كالخمسة و الأربعة في العشرة لا كالستّة فيها. فعن المبسوط وجوب الاحتياط عليها بأن تعمل في الزمان الّذي وقع الضلال فيه عمل المستحاضة و تترك ما يحرم على الحائض و تغتسل للحيض في كلّ وقت تحتمل انقطاع دم الحيض فيه و تقضي صوم عادتها قضاء للعلم الإجماليّ.

و نوقش فيه بأنّ الاحتياط مستلزم للحرج و الضرر المنفيّين في الشريعة. و فيه أنّ دليل نفي الحرج ظاهر في أنّ اللّٰه تعالى لم يجعل في الدين الحرج كالغسل و الوضوء الحرجيّين بواسطة شدّة البرد و المرض و غيرهما، و في ما نحن فيه لا يكون المجعول الشرعيّ أو موضوعه حرجيّا، و إنّما الحرج من قبل الجمع بين المحتملات اللازم عقلا، و هو أمر غير مجعول، لعدم كون الاحتياط واجبا شرعيّا حتّى يرفع بدليل الحرج، و لا دليل على أنّ كلّ تكليف يستلزم الحرج مطلقا مرفوع، و ما ورد من الآيات و الأخبار في هذا المضمار إنّما يدلّ على عدم جعل الشارع العسر و الحرج في الدين. إلّا أن يقال: إن قوله تعالى يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ دالّ على أنّ الجمع بين المحتملات اللازم منه العسر خلاف إرادة اللّٰه و رضاه، لكنّ

الظاهر أنّ سوق الآية من قوله «وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ- إلخ-» أنّ أحكام اللّٰه تعالى لا تكون حرجيّة، و لا يريد في أحكامه الحرج على العبيد. و هو نظير قوله في ذيل آية الوضوء مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ هذا، و لكنّ الظاهر منهم عدم الفرق بين الحرج الّذي في أصل التكليف أو موضوعه و الّذي يلزم منه و لو بواسطة جهات خارجيّة، و المسألة تحتاج إلى زيادة تأمّل. هذا مضافا إلى أنّ الحرج إنّما ينفي مثل الغسل و الوضوء على الفرض بعد تسليم حصول الحرج بمثل هذا الاحتياط دون مثل حرمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 233

اللبث في المسجد و مسّ الكتاب و قراءة العزائم و أمثالها، مع أن الموارد مختلفة، و الأشخاص متفاوتة، فلا يفي دليل الحرج بجميع الموارد.

و قد يردّ دليل الاحتياط بعدم تنجيز العلم الإجماليّ في التدريجيّات، و هو ضعيف لما حقّق في محلّه من عدم الفرق بين الدفعيّات و التدريجيّات في تنجيز العلم.

لكنّ التنجيز في المقام إنّما هو إذا قلنا في العبادات بالحرمة التشريعيّة، و هو خلاف ظاهر الأدلّة، و أمّا إذا قلنا بالحرمة الذاتيّة فمحلّ إشكال كما سبقت الإشارة إليه من أنّ أمر العبادات حينئذ دائر بين المحذورين، فلا يكون العلم في مورد الدوران منجّزا، و مع عدم التنجيز في أحد الأطراف تبقى بقيّة الأطراف بلا منجّز، فالقاعدة تقتضي جواز ترك الصلاة و ارتكاب محرّمات الحائض، إلّا أنّه قام الإجماع على عدم جواز ترك الصلاة في جميع الأيّام، هذا. و لكنّ الّذي يسهّل الخطب أنّ استفادة حكم

الواقعة من الأدلّة كمرسلة يونس لا يدع مجالا للعلم الإجماليّ و الاحتياط، فإنّ الظاهر منها أنّ ذات العادة لا وقت لها إلّا عادتها و قد مرّ أنّ المتفاهم منها بعد التأمّل في فقرأتها أنّ الدم في العادة أمارة قويّة لا تصل النوبة معها إلى التمييز الّذي هو أيضا أمارة عليه، فضلا عمّا إذا لم يكن لها تمييز.

ففي المرسلة في ضمن بيان السنّة الثالثة قال: ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقلّ من سبع و كانت خمسا أو أقلّ من ذلك ما قال لها تحيّضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة و هي مستحاضة غير حائض؟ و كذا لو كان حيضها أكثر من سبع و كانت أيّامها عشرا أو أكثر لم يأمرها بالصلاة و هي حائض. و هذا صريح في أنّ ذات العادة أيّامها حيض و الزائد عليها استحاضة، و مع كون أيّامها عددا معيّنا يكون هذا العدد بخصوصه حيضها، و لا يجوز لها التحيّض زائدا عنه و لا ناقصا.

و يدلّ على المقصود أيضا قوله «ممّا يزيد هذا بيانا قوله لها تحيّضي، و ليس يكون التحيّض إلّا للمرأة الّتي تريد أن تكلّف ما تعمل الحائض، إلا تراه لم يقل لها أيّاما معلومة تحيّضي أيّام حيضك؟» فإنّ الظاهر منه أنّ من كانت لها أيّام معلومة تكون أيّامها أيّام الحيض، لا أنّ عليها التحيّض و التكلّف، و إنّما يقال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 234

تحيّضي و تكلّفي عمل الحائض لمن لم تكن لها أيّام. و يدلّ عليه أيضا قوله «إن كانت لها أيّام معلومة من قليل أو كثير فهي على أيّامها و خلقها ..» إلى غير ذلك من فقرأتها.

ثم إنّ تلك الناسية هل

هي مختارة في جعل عددها في الشهر حيث شاءت أو يتعيّن عليها جعله في ما يظنّ كونه وقتا لحيضها، أو يتعيّن جعله في أوّل الدورة إذا علمت أوّلها، و في سائر الدورات على هذا النسق؟ فلو كان مبدأ دورتها أوّل الشهر يجب عليها التحيّض في أوّل كلّ شهر، أو يتعيّن جعله في أوّل الدورة الاولى و تختار في سائر الدورات، أو يجب عليها التحيّض في الوقت المظنون كونه وقتا لها في غير الدورة الأولى؟

قد يقال بوجوب جعله في أوّل الدورة، فإنّ الأخبار و إن كانت منصرفة عن الناسية لكن لمّا كان المتعيّن عليها التحيّض في ابتداء رؤية الدم إلى العشرة يتعيّن عليها جعل حيضها في جملة العشرة، إذ لا دليل على جواز تحيّضها ثانيا بعد انكشاف أمرها و صيرورتها مستحاضة، بل الأدلّة قاضية بخلافه كما أشرنا إليه في المبتدئة. و إذا تعيّن عليها ذلك في الدور الأوّل يتبعه سائر الأدوار، لما يستفاد من جملة من الأخبار من وجوب جعل المستحاضة حيضها قبل طهرها (انتهى).

و فيه أنّه بعد الانصراف لا وجه لذلك، لعدم الدليل على وجوب تحيّضها في ابتداء رؤية الدم مطلقا، لعدم تماميّة قاعدة الإمكان خصوصا في مثل ناسية الوقت، و ليس في المقام إجماع أو نصّ، فإنّ موثّقتي ابن بكير مع ما تقدّم من الإشكال فيهما مختصّان بالمبتدئة. نعم، لو رأت بصفة الحيض أوّل ما رأت يجب عليها العمل بالأمارة لكن بعد بقاء الدم على صفة واحدة إلى تجاوزه عن العشرة تتعارض الأمارتان، و يكشف ذلك عن خطئها. و القول بأنّ المتعيّن هو الأخذ بالأمارة المتقدّمة زمانا لإمكان كون الدم حيضا في الزمان الأوّل و تحقّق موضوع الأمارة، و بعد ذلك يخرج الدم في

الزمان المتأخّر عن الإمكان، فلا تكون الأمارة حجّة، قد سبق الإشكال فيه بأنّ التقدّم الزمانيّ ليس مناطا لتقدّم الأمارة، فراجع. مع أنّه لو سلّم الأمر في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 235

الدورة الاولى فلا دليل على تبعيّة سائر الدورات لها، و ما دلّ على أنّ المستحاضة تجعل حيضها قبل طهرها على فرض ارتباطه بالمقام إنّما يدلّ على التقديم في الدورة الاولى من غير تعرّض له لسائر الدورات كما يأتي الكلام فيه.

و اما الاستدلال على وجوب الجعل في أوّل الدورة الاولى و على نسقه في سائر الدورات بدوران الأمر بين التعيين و التخيير و الأصل فيه الاشتغال، ففيه أنّه على فرض الدوران بينهما فالاشتغال في مثل هذا الدوران غير مسلّم، بل المسلّم في الاشتغال هو في مورد يعلم بتعلّق تكليف بمعيّن و يشكّ في أنّ له طرفا يسقط التكليف بإتيانه أولا، و أمّا إذا كان الدوران من أوّل الأمر فلا، و المسألة تحتاج إلى زيادة بحث و تحقيق لا يسعها المجال.

و قد يقال بلزوم التحيّض في أوّل الدورة لظهور بعض الأخبار في وجوب عمل المستحاضة بعد التحيّض بمقدار العادة و الاستظهار، و في مقابلة احتمال إطلاق بعض الأدلّة على أخذ المستحاضة مقدار عادتها، و مقتضى الإطلاق تخييرها في وضعه حيث شاءت، و كما أنّها بإطلاقها تنفي تعيّن التحيّض في أوّل الدورة الأولى و على نسقه في سائر الدورات كذلك تنفي تعيّن جعل العدد في الوقت المظنون، فإنّ تعيّنه إنّما يكون في ما إذا كان الحاكم بالتخيير العقل، بأن يقال: إنّما يحكم العقل بالتخيير مع تساوي الأزمنة، و أمّا مع ترجيح بعضها و لو ظنّا يرتفع موضوع حكمه، و أمّا إذا استفيد

حكم التخيير من إطلاق الدليل فلا يبقى للترجيح بالظنّ مجال.

و لا بأس بذكر بعض الروايات الّتي يمكن دعوى إطلاقها أو دلالتها على التعيين حتّى يتّضح الحال.

فمنها رواية محمّد بن عمرو بن سعيد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الطامث و قدر جلوسها، فقال: تنتظر عدّة ما كانت تحيض، ثمّ تستظهر بثلاثة أيّام، ثمّ هي مستحاضة. «1» بدعوى أنّ المراد من الطامث و قدر جلوسها هي من استمرّ بها الدم و لو بقرينة الجواب، و إطلاقها يقتضي كونها مخيّرة في وضع عدّة أيّام

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 236

حيضها حيث شاءت. و فيه أنّها بصدد بيان مقدار الجلوس سؤالا و جوابا، فلا إطلاق لها من جهة محلّ الجلوس لو لم نقل بانصرافها إلى الجلوس في أوّل الرؤية.

نعم، هي تدلّ بإطلاقها على أنّ مقدار جلوس ذاكرة العدد و لو كانت ناسية للوقت هو عدّة أيّام العادة.

و منها رواية يونس بن يعقوب، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: امرأة رأت الدم في حيضها حتّى تجاوز وقتها، متى ينبغي لها أن تصلّي؟ قال: تنتظر عدّتها الّتي كانت تجلس، ثمّ تستظهر بعشرة أيّام- إلخ- «1» بدعوى إطلاق الجواب و إن كان السؤال عن ذاكرة الوقت، و فيه ما لا يخفى.

و منها رواية عبد اللّٰه بن المغيرة عن رجل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة الّتي ترى الدم، فقال: إن كان قرؤها دون العشرة انتظرت العشرة، و إن كانت أيّامها عشرة لم تستظهر. «2» و هي أيضا لا إطلاق فيها لكونها في مقام بيان حكم الاستظهار.

و اما ما يمكن أن يستدلّ به على

لزوم التحيّض في أوّل الرؤية فمنها رواية عبد اللّٰه بن المغيرة المتقدّمة، بدعوى أنّ المنصرف منها أنّها تنتظر من أوّل الرؤية إلى العشرة، و لا يبعد ذلك لو لا ضعف سندها، و قد يحتمل هذا الانصراف في رواية محمّد بن عمرو المتقدّمة، لكنّه بعيد بل ممنوع. و منها صحيحة زرارة، قال: قلت له:

النفساء متى تصلّي؟ فقال: تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم و إلّا اغتسلت- إلى أن قال- قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء. «3» بدعوى أنّه لا إشكال في أنّ الواجب على النفساء الجلوس أوّل ما رأت الدم، فعموم التسوية بينها و بين الحائض يدلّ على المطلوب، و هو تحيّضها في أوّل الدورة، لكنّه لا يخلو من إشكال لاحتمال انصراف التسوية إلى مقدار التحيّض و الاستظهار و سائر الأحكام المذكورة دون مبدأ التحيّض.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، باب 13، ح 12.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 13، ح 11.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 237

ثم لو سلّم دلالة الأدلّة على لزوم التحيّض في أوّل الدورة الاولى فلا دليل على تبعيّة سائر الدورات لها إلّا بعض أمور اعتباريّة لا يصلح للاستناد إليه، و إن كان الأحوط ذلك. و لو قلنا بدلالة الأدلّة على تعيّن التحيّض في مبدأ الدورة الاولى و أنّ المتفاهم منها النظم على نهج واحد لا وجه لتقدّم العمل بالظنّ عليها، بل المتعيّن تقدّم العمل بها على الظنّ كما هو واضح.

الموضع الثاني: لو ذكرت الوقت في الجملة و نسيت العدد

فأمّا ذاكرة لأوّل حيضها، أو لآخره، أو لوسطه الحقيقيّ، أو لوسطه الغير الحقيقيّ، أو ذاكرة لكون اليوم الكذائيّ بين أيّام الحيض أي بين المبدأ و المنتهي، أو عالمة بكون

اليوم الفلانيّ من أيّام الحيض في الجملة. و هاهنا صور كثيرة يعلم حكمها من ذكر حكم بعضها.

و على أيّ حال قد تعلم أنّ عددها كان مخالفا لما في الروايات و قد لا تعلم ذلك. فإن كانت ذاكرة لأوّل حيضها و لم تعلم مخالفة عددها للروايات فلا إشكال في لزوم إكماله ثلاثة أيّام إذا لم تعلم زيادة عددها عليها، و إلّا فبمقدار العلم بالزيادة، لما دلّ على أنّ الصفرة و الكدرة و ما فوقها في أيّام الحيض حيض، و أنّ قليل الدم و كثيره أيّام الحيض حيض كلّه إذا كانت الأيّام معلومة. و التقييد بالعلم بالأيّام ليس إلّا لطريقيّته إلى الواقع لا لتقييد واقع الحيض به، فمع العلم بكون اليوم الفلانيّ أوّل حيضها يكون الدم فيه دم الحيض بمقتضى إطلاق الأدلّة، و أقلّ الحيض و هو ثلاثة أيّام متيقّن الحيضيّة، فيجب عليها إكماله بالثلاثة أو بما فوقها ممّا تعلم عدم نقصان حيضها منه، و هذا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في ما زاد على العشرة ممّا تحتمل كونه من عادتها، فقد يقال:

إنّ مقتضى العلم الإجماليّ هو الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة و غسل الحيض في وقت تحتمل انقطاعه و قضاء صوم عشرة أيّام، و هو الّذي اختاره المحقّق- رحمه اللّٰه. و فيه أوّلا ما مرّ مرارا من عدم منجّزيّة هذا العلم الإجماليّ بناء على الحرمة الذاتيّة في العبادات كما هي ظاهر الأدلّة، و ثانيا على فرض منجّزيّته ينحلّ بالاستصحاب، و لا إشكال في جريان استصحاب الحيضيّة. و ما أفاد الشيخ الأعظم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 238

في المقام من عدم جريانه في الأمور التدريجيّة، بل يجري استصحاب عدم الحيضيّة بالنسبة

إلى الأيّام المشكوك فيها، فيجب عليها أن تعمل عمل المستحاضة بعد ثلاثة أيّام، فغير وجيه، لما حقّق في محلّه من جريانه فيها، فلا يبقى مجال للاحتياط و الاشتغال و لا للزوم عمل المستحاضة، هذا.

لكن التحقيق استفادة حكم المسألة من مرسلة يونس، فإنّ المتأمّل في جميع فقرأتها لا يكاد يشكّ في أنّ الّتي ليس مرجعها العادة و لا التمييز مرجعها السبع و الثلاث و العشرون، خصوصا فقرأتها الأخيرة من قوله «فجميع حالات المستحاضة» إلى آخر الرواية. فقوله «و إن اختلط عليها أيّامها و زادت و نقصت حتّى لا يقف منها على حدّ و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم ..» شامل لذاكرة الوقت في الجملة فحينئذ قوله «و إن لم يكن الأمر كذلك- إلخ-» دالّ على المقصود.

و الإنصاف أنّ المتأمّل في المرسلة و الحصر المستفاد منها و القواعد المستنبطة من السنن الثلاث الواردة عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في ثلاث قضايا شخصيّة لا ينبغي أن يرتاب في أنّ السنن المذكورة مرجع المستحاضة على الترتيب الّذي فيها، و لا تكاد تكون امرأة خارجة عنها، و أنّها مع الإمكان ترجع إلى العادة و لو في الجملة، و مع التمييز و عدم إمكان الرجوع إلى العادة ترجع إليه و لو في الجملة، و مع فقدانهما ترجع إلى العدد، و مع إمكان الرجوع إلى إحدى المتقدّمتين لا ترجع إلى الأخيرة. و أمّا الرجوع إلى الأقارب فقد عرفت أنّه لشدّة ندرته لا يكون مضرّا بالحصر.

و ممّا ذكرنا يظهر حال سائر الصور، فلا تحتاج إلى التطويل، و قد مرّ أنّ الرجوع إلى خصوص السبع من بين الروايات لو لم يكن أقوى فهو أحوط. نعم، لو

بنينا على العمل بالأصل و أغمضنا عن الروايات يكون الحال الأصل بالنسبة إلى الصور المتقدّمة مختلفة كما هو واضح.

و أمّا «الموضع الثالث» و هو ما إذا نسيت الوقت و العدد جميعا

و لم تحفظ شيئا منهما فقد ظهر ممّا مرّ أنّ سنّتها السبع و الثلاث و العشرون على الأحوط بل الأقرب، لما مرّ من المناقشة في سائر الروايات، و في الستّ الواردة في المرسلة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 239

المطلب الثاني في أقسام الاستحاضة

المشهور بين الأصحاب نقلا و تحصيلا شهرة كادت أن تكون إجماعا كما في الجواهر أنّ للاستحاضة أقساما ثلاثة: القليلة، و الكثيرة، و المتوسّطة. خلافا للمحكيّ عن ابن أبي عقيل، فأنكر القسم الأوّل، و عن ابن الجنيد و ابن أبي عقيل أيضا و الفاضلين في المعتبر و المنتهى إدخال الثانية في الثالثة، فأوجبوا الأغسال الثلاثة فيها، و المحقّق الخراسانيّ فصّل بين الدم و الصفرة، و قسّم الدم قسمين: الأوّل أن يثقب الكرسف فأوجب فيه الأغسال الثلاثة، و الثاني أن لا يثقب فأوجب الغسل في كلّ يوم مرّة واحدة و الوضوء لكلّ صلاة. و قسّم الصفرة أيضا على قسمين: القليلة، فأوجب فيها الوضوء لكلّ صلاة. و قسّم الصفرة أيضا على قسمين: القليلة، فأوجب فيها الوضوء لكلّ صلاة و لم يوجب الغسل، و الكثيرة فأوجب فيها الأغسال الثلاثة، و ادّعى أنّ ذلك مقتضى الجمع بين الأخبار، بحمل مطلقها على مقيّدها و تقديم نصّها على ظاهرها.

و الحقّ هو القول المشهور، لا لصريح الفقه الرضويّ الموافق لفتوى الصدوق و إن لم يخل من وجه، لتطابق الفتاوى على وفقه بعد كون الاختلاف بينهما في اللفظ دون المعنى، بل لأنّ تثليث الأقسام في الجملة مقتضى الجمع بين الروايات.

ففي رواية معاوية بن عمّار الصحيحة على الأصحّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: فإذا جازت أيّامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر- إلى أن قال- و إن كان

الدم لا يثب الكرسف توضّأت و دخلت المسجد و صلّت كلّ صلاة بوضوء. «1» فأوجب الأغسال الثلاثة للثاقب الأعمّ من السائل و غيره، و المتجاوز عن الكرسف و غيره، و لغير الثاقب لم يوجب إلّا الوضوء.

و في صحيحة زرارة في النفساء: فإن انقطع الدم، و إلّا اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلّت، و إن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت ثمّ صلّت

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 240

الغداة بغسل، و الظهر و العصر بغسل، و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد. قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء. «1»

و الجمع بينهما و بين الصحيحة المتقدّمة بتثليث الأقسام، فإنّ إطلاق صدر صحيحة معاوية يقيّد بقوله في صحيحة زرارة «و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد» فإنّ الثاقب أعمّ من المتجاوز، و التجاوز عرفا عبارة عن عبور الدم عن القطنة إلى غيرها، و هو موافق للسيلان، و الجمع العرفيّ بين الفقرتين يقتضي حمل الثقب على الثقب المتجاوز، و لا يبعد أن يكون الثاقب نوعا متجاوزا و سائلا، فلا يكون تقييده تقييدا بعيدا.

و تقيّد الفقرة الثانية من صحيحة زرارة و هي قوله «و إن لم يجز الدم الكرسف.»

بالفقرة الثانية من صحيحة معاوية، و هي قوله «و إن كان الدم لا يثقب الكرسف ..»

فإنّ غير المتجاوز أعمّ من الثاقب و غيره، و غير الثاقب أخصّ منه مطلقا. فإن شئت قلت:

إنّه بعد تقييد الفقرة الثانية من صحيحة زرارة بالفقرة الثانية من صحيحة معاوية.

تصير أخصّ مطلقا من الفقرة الاولى من صحيحة زرارة، و نتيجة التقييدين تثليث الأقسام.

و إن شئت قلت: إنّ الجمع العقلائيّ بين فقرأت الصحيحتين هو تثليث الأقسام و إن كان بين بعض الفقرات عموم من وجه.

و تشهد لما ذكرنا من حمل الثاقب في صحيحة معاوية على الثاقب المتجاوز المنطبق على الكثير موثّقة سماعة، قال: قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلوتين و للفجر غسلا، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة. «2» حيث قابل فيها بين الثقب و عدم التجاوز، فيعلم أنّ مراده بالثقب هو التجاوز، كما أنّه يقيّد قوله «و إن لم يجز الدم الكرسف ..» بالفقرة الثانية من صحيحة معاوية.

و أمّا قوله في الموثّقة «و إن كان صفرة فعليها الوضوء» فمحمول على القليلة

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 241

لنوعيّة كون الصفرة قليلة كما قيل. بل ربما يشهد له قوله في رواية محمّد بن مسلم في باب اجتماع الحيض و الحمل «إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء».

و تشهد لتثليث الأقسام صحيحة عبد الرحمن، قال فيها: «و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل، و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي، فإذا كان سائلا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة، ثمّ تصلّي صلوتين بغسل واحد. «1» فإنّها متعرّضة للمتوسّطة و الكثيرة، فأوجبت الغسل الواحد إن ظهر على الكرسف، و الأغسال الثلاثة إن سال الدم. فهي بضميمة روايات أخر تفيد الأقسام الثلاثة، كموثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام ففيها: ثمّ هي مستحاضة فلتغتسل و تستوثق من

نفسها و تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلّت. «2» و عليها تحمل صحيحة الصحّاف، حيث يظهر منها التثليث، لكن قد يتراءى منها خلاف ما تقدّم في الجملة حيث قال فيها بعد الاستظهار بيوم أو يومين: فلتغتسل، ثمّ تحتشي و تستذفر و تصلّي الظهر و العصر، ثمّ لتنظر، فإن كان الدم في ما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضّأ و لتصلّ عند وقت كلّ صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل، و إن طرحت الكرسف و لم يسل فلتتوضّأ و لتصلّ و لا غسل عليها. قال: و إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقأ فإنّ عليها أن تغتسل في كلّ يوم و ليلة ثلاث مرّات. «3» فإنّها أيضا بعد تقييد قوله «لا يسيل- إلخ-» ببعض الروايات المتقدّمة و حمل قوله «فسال الدم وجب عليها الغسل» على سيلانه بلا مانع بحيث إن وضعت الكرسف ثقبه و لم يسل منه، بقرينة قوله «و إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف- إلخ-» تفيد الأقسام الثلاثة، فإنّ قوله

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 9.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 242

«فإن طرحت الكرسف- إلخ-» صريح في أنّ أحد الأقسام الثلاثة عدم السيلان بعد طرح الكرسف، و هو لا ينطبق إلّا على القليلة؛ ثانيهما سيلانه بعد طرحه، فإنّه بملاحظة مقابلته مع الثالث أي ما إذا أمسكت الكرسف سال من خلفه، لا ينطبق إلّا على المتوسّطة، فإنّ الدم إذا

كان سائلا مع طرح الكرسف و ليس سيلانه بحيث إذا أمسكت الكرسف سال من خلفه لا محالة يكون ثاقبا و نافذا؛ و ثالثها ما أفاد بقوله «إذا أمسكت الكرسف يسيل ..» فلا إشكال في إفادتها الأقسام الثلاثة موافقا للمشهور. فتحصّل أنّ تثليث الأقسام- مضافا إلى كونه مشهورا شهرة كادت أن تكون إجماعا كما مر- هو مقتضى جمع الروايات و حمل بعضها على بعض، و مقتضى ظهور بعض الروايات أيضا.

ثم إنّ الدم في مثل صحيحة الصحّاف لا ينصرف إلى الحمرة مقابل الصفرة لو قلنا بانصرافه في بعض الروايات، فإنّ الصفرة في دم الاستحاضة لعلّها غالبة نوعيّة و لهذا جعلت علامة لها و أمارة عليها، بل الانصراف مطلقا محلّ منع. نعم، إذا ذكرت الصفرة مقابل الدم يكون ذلك قرينة على إرادة الحمرة من الدم المقابل لها، و هذا نظير ما إذا قيل الماء لا ينفعل و إذا كان قليلا ينفعل. حيث يفهم من المقابلة أنّ الماء في الصدر هو الكثير، و هذا لا يوجب الانصراف إذا لم يكن مقابلا له. فحينئذ يستفاد من الصحيحة و غيرها أنّ الدم مطلقا ثلاثيّ الأقسام، و يحمل عليها ما ورد من أنّ في الصفرة الوضوء خاصّة كموثّقة سماعة و روايتي قرب الإسناد و صحيحة يونس بن يعقوب، و ما ورد من أنّ فيها الغسل عند كلّ صلاة، فتحمل الروايات الاولى على القليلة، بل في بعضها إشعار بقلّة الدم، و الثانية على الكثيرة، فتثليث الأقسام مطلقا كما عليه المشهور ممّا لا إشكال فيه.

ثم إنّ عبارات الأصحاب مختلفة في ضابطة الأقسام، فعن جملة منهم التعبير بغير الثاقب في القليلة، و بالثاقب غير السائل في المتوسّطة، و بالسائل في الكثيرة، و عن جملة التعبير

بغير الراشح، و الراشح غير السائل، و السائل؛ و عن بعضهم بغير الظاهر على الكرسف، و الظاهر غير السائل، و السائل؛ و عن جملة من كتب العلّامة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 243

بعدم غمس القطنة، و غمسها من غير سيل، و مع السيل؛ و بعضهم حمل سائر العبارات على ما يوافق عبارات العلّامة؛ و بعضهم عكس الأمر.

و الحقّ أنّه لا وجه لإرجاع عبارات القوم إلى فتوى العلّامة، و لا يمكن إرجاع بعض عباراته مثل ما في القواعد على عبارات القوم، فإنّ قوله فيه «إن ظهر على القطنة و لم يغمسها وجب عليها تجديد الوضوء- إلخ-» ظاهر لو لم يكن نصّا في أنّ الثقب و الظهور على الكرسف لا يخرج الدم عن القلّة ما لم يغمس القطنة.

و كيف كان فالمتّبع هو الأدلّة، و قد وردت فيها عناوين كالثقب و النفوذ و الظهور على القطنة. و الثقب و إن كان أعمّ ظاهرا من النفوذ لكن لا إشكال في كون المراد من العناوين شيئا واحدا هو الثاقب النافذ و الظاهر على القطنة سواء غمسها أو لا، فلو نفذ من القطنة و لم يغمسها كانت الاستحاضة متوسّطة.

و ما قيل انّ الدم بنفسه لا يكون بمقتضى العادة ثاقبا إلّا بعد إحاطته بأطراف القطنة الملاصقة للباطن، فينفذ فيها شيئا فشيئا إلى أن ترتوي القطنة، فيظهر الدم على الجانب الآخر الملاصق للخرقة، فيكون الثقب ملازما للغمس فيه ما لا يخفى، ضرورة أنّ القطنة الموضوعة على المحلّ تكون نقطتها المحاذية لمخرج الدم أسرع انفعالا من سائر أطرافها، و يكون الدم بمقتضى طبعه- خصوصا في المحلّ ممّا يكون فيه حرارة الدم محفوظة- نافذا في وسط القطنة و ثاقبا لقطرها

قبل غمسها و ارتوائها. و توصيف دم الاستحاضة بالبرودة إنّما هو في مقابل الحرقة و الحرارة القويّة في دم الحيض، و إلّا فلا شبهة في عدم كونه كالماء البارد حتّى لا يكون نافذا في مثل القطنة.

و كيف كان فملاك القلّة عدم الثاقب النافذ، و التوسّط الثقب النافذ غير السائل، و الكثرة الثاقب السائل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 244

المطلب الثالث في بيان أحكام الأقسام الثلاثة

اما القسم الأول أي [الاستحاضة] القليلة

فحكمه تغيير القطنة و تجديد الوضوء عند كلّ صلاة. أمّا الأوّل فإجماعا كما عن ظاهر الناصريّات و الغنية و جامع المقاصد، و هو مذهب علمائنا كما عن التذكرة، و لا خلاف فيه عندنا كما عن المنتهى، و هو المشهور كما عن كاشف الالتباس و الكفاية و ظاهر الذكرى، و به قطع أكثر الأصحاب كما عن كشف اللثام، و عن الكفاية التأمّل في الإجماع، و عن كشف اللثام أنّه لم يذكره الصدوقان و لا القاضي. و في الجواهر: لزوم التغيير مشهور نقلا و تحصيلا، و نقل عن مجمع البرهان أنّ لزومه كأنّه إجماعيّ. و العمدة في المقام هي هذه الشهرة المسلّمة مع أنّ الأدلّة بظاهرها أو إطلاقها تدلّ على عدم لزوم التغيير. و هما بمثابة لا يمكن أن يقال إنّ الشهرة لعلّها لتخلّل الاجتهاد، أو لتحكيم إجماع الغنية و نفي خلاف السرائر المحكيّين على إلحاق دم الاستحاضة بالحيض في عدم العفو على هذه الأدلّة، أو تحكيم ما دلّ في الكثيرة و المتوسّطة على لزوم التغيير مع عدم تعقّل الفرق أو عدم القائل به، أو تحكيم الإجماع المركّب- كما عن الرياض- على هذه الأدلّة.

فإنّ تلك الأدلّة ظاهرة الدلالة على عدم لزوم التبديل، ففي صحيحة الحلبيّ عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سئل رسول اللّٰه

صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم عن المرأة تستحاض، فأمرها أن تمكث أيّام حيضها لا تصلّي فيها، ثمّ تغتسل و تستدخل قطنة و تستثفر بثوب، ثمّ تصلّي حتّى يخرج الدم من وراء الثوب. «1» و في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: فإن انقطع الدم، و إلّا اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلّت، فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت. «2» و في صحيحة الصحّاف عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: و إن لم ينقطع الدم عنها إلّا بعد ما تمضي الأيّام الّتي كانت ترى الدم فيها بيوم أو يومين فلتغتسل ثمّ تحتشي و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 2.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 245

تستذفر و تصلّي الظهر و العصر، ثمّ لتنظر فإن كان الدم فيما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضّأ و لتصلّ عند وقت كلّ صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها.

«1» و في موثّقة عبد الرحمن عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفا آخر. «2» و في موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: ثمّ هي مستحاضة فلتغتسل و تستوثق من نفسها و تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم. «3» و في رواية الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام: و إن لم تر طهرا اغتسلت و احتشت، و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتّى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف. «4»

إلى غير ذلك من

الروايات الّتي لا مجال للشبهة فيها و في دلالتها حتّى يتوهّم تخلّل الاجتهاد فيها.

كما أنّه لا وجه لتخيّل تحكيم إجماع الغنية أو التحكيم المذكور بعده على تلك الأدلّة، ضرورة أنّ إجماع الغنية على فرض صحّته لا إطلاق فيه بالنسبة إلى البواطن، بل العفو عنها ممّا لا إشكال فيه، كما أنّ دعوى عدم تعقّل الفرق بين القليلة و غيرها في محلّ المنع بعد اختلاف أحكام الثلاثة، و عدم طريق للعقول إلى الواقع في التعبّديّات، مع أنّ في دلالة الخبرين في موردهما إشكالا.

و كيف كان فلا يمكن رفع اليد عن الشهرة الثابتة و الإجماع المحكيّ لأجل تلك الأدلّة المعرض عنها مع كونها بمنظر منهم، فالأحوط لو لم يكن أقوى لزوم تغيير الكرسف.

و أما الخرقة فمع تلوّثها يجب تبديلها مطلقا إن قلنا بعدم العفو في دم الاستحاضة، و إلّا ففي المقدار المعفوّ عنه. مع إمكان أن يقال: إنّ الشهرة على وجوب

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 7.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 9.

(4) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 246

التبديل في القطنة تدلّ على مانعيّة دم الاستحاضة و لو كان قليلا، و منه يظهر مانعيّته إذا كان في الخرقة، بل مانعيّة فيها أولى، و كذا الحال في ظاهر الفرج، و هو- على ما قالوا- ما يبدو منه عند الجلوس على القدمين، و هو الأحوط.

و أما تجديد الوضوء لكلّ صلاة فهو إجماعيّ في الجملة كما عن الخلاف و جامع المقاصد و ظاهر الناصريّات و الغنية، و عن التذكرة أنّه مذهب علمائنا، و هو المشهور كما عن جملة من الأعلام،

و هو مذهب الخمسة و أتباعهم كما عن المعتبر، خلافا للمحكيّ عن ابن عقيل، فلم يوجب في القليلة غسلا و لا وضوء، و للمحكيّ عن ابن الجنيد، فأوجب فيه غسلا واحدا في كلّ يوم و ليلة. و قد تقدّم نقل ذهاب المحقّق الخراسانيّ أيضا إلى إيجاب الغسل الواحد عليها و الوضوء لكلّ صلاة.

و الأقوى ما عليه المشهور، و يدلّ عليه- مضافا إلى ما تقدّم من عدم نقل خلاف إلّا ممّن تقدّم- صحيحة معاوية عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و فيها: و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت و دخلت المسجد و صلّت كلّ صلاة بوضوء. «1» و هو في مقابل الصدر حيث أوجب الغسل عليها إذا ثقبه كالصريح في عدم وجوب الغسل عليها.

و أوضح منها موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الطامث تقعد بعدد أيّامها، كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين ثمّ هي مستحاضة، فلتغتسل و تستوثق من نفسها و تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلّت. «2»

و لا إشكال في ظهورها في المقصود، و معهما لا مجال للتمسّك بإطلاق بعض الأدلّة أو عدم ذكر الوضوء في آخر، مثل صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السّلام و فيها:

قال: لا، هذه مستحاضة، تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة، و تجمع بين صلوتين بغسل. «3» و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام و فيها: فإن انقطع الدم، و إلّا اغتسلت

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 9.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 247

و احتشت

و استثفرت و صلّت، فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت. «1» و صحيحة الصحّاف حيث أمر فيها بالاحتشاء و صلاة الظهر و العصر، و مع عدم السيلان بالوضوء عند وقت كلّ صلاة، فأوجب الوضوء للصلاتين لا لكلّ صلاة، بمناسبة ذكر الوقت فيها، إلى غير ذلك ممّا يكون الجمع العرفيّ بينها و بين الروايتين بتقييد إطلاقها، لأنّ السكوت في مقام البيان لا يقاوم ما هو ظاهر في وجوب الوضوء لكلّ صلاة.

بل يدلّ على المقصود إطلاق موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و فيها: غسل الاستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ صلوتين و للفجر غسل، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كلّ يوم مرّة و الوضوء لكلّ صلاة. «2» و عدم تجاوز الدم أعمّ من كونه ثاقبا و غيره، فيقيّد إطلاق وجوب الغسل بما دلّ على عدم وجوبه لغير الثاقب، و يبقى إطلاق وجوب الوضوء لكلّ صلاة للثاقب و غيره. و كون الغسل على المستحاضة الوسطى دون الصغرى لا يوجب أن يكون قوله «لم يجز الدم» مختصّا بالوسطى حتّى في الوضوء، فإنّ تقييد الإطلاق بالنسبة إلى حكم بدليل لا يوجب تقييده بالنسبة إلى حكم آخر لم يقم دليل على تقييده.

و أولى من ذلك الاستدلال عليه بمرسلة يونس الطويلة، قال فيها: و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما ذلك عزف عامر أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيّام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة. قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب. فإنّ إطلاقها يقتضي وجوب الوضوء لكلّ صلاة، سال الدم أو لا، كان سيلانه كثيرا مثل المثعب أو لا.

بل لا يبعد التمسّك بموثّقة سماعة

المضمرة، و فيها: و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة و الوضوء لكلّ صلاة، و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 1، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 248

تغتسل. هذا إذا كان دمها عبيطا و إن كان صفرة فعليها الوضوء. «1» إمّا بإطلاق قوله «و إن لم يجز ..» بالتقريب المتقدّم، و إمّا بحمل الصفرة على القليلة و الوضوء على المعهود في الصدر، أي يكون عليها الوضوء المذكور لزومه لكلّ صلاة، و ليس عليها الغسل، بل لا منافاة بين التمسّكين كما يظهر بالتأمّل.

و على تلك الروايات يحمل ما ورد في صحيح الصحّاف من إيجاب الوضوء عند وقت كلّ صلاة، خصوصا مع تعارف التفريق بين الصلوات في تلك الأزمنة بحيث كانت الأوقات الخمسة معروفة بين المسلمين. و أمّا قوله «تحتشي و تصلّي الظهر و العصر ثمّ لتنظر» فلا يقاوم ظهور تلك الأدلّة، خصوصا مع تذييله بقوله «فلتتوضّأ و لتصلّ عند وقت كلّ صلاة» بالتقريب المذكور. و بالجملة مقتضى الجمع بين الأدلّة وجوب الوضوء لكلّ صلاة في القليلة و عدم الغسل.

ثم إنّ مقتضى عموم تلك الأدلّة و إطلاقها عدم الفرق بين الفريضة و النافلة، كانت النافلة من الرواتب أو لا، خصوصا مع تعارف الإتيان بالنوافل في الصدر الأول بل تعارف إتيان صلاة التحيّة و نحوها. فحينئذ لا وجه لدعوى انصراف الأدلّة إلى الفرائض. و أمّا قضيّة حرجيّة ذلك و بناء الشريعة السهلة على التسامح و التساهل فهي غير جارية في النوافل الّتي لا إلزام في إتيانها، فإن أرادت الوصول إلى الثواب الجزيل تأتي بها مع ما

فيها من المشقّة فتنال فضيلة أحمز الأعمال.

بل يمكن الاستدلال على المطلوب بأنّ المتفاهم من الأدلّة حدثيّة دم الاستحاضة في الجملة، فحينئذ نقول: إمّا أن يكون حدثا و لو اقتضاء بأوّل حدوثه دون استمراره، أو يكون بوجوده المستمرّ إلى آخره حدثا بحيث لا تتحقّق الحدثيّة إلّا بعد تمام الاستمرار، أو يكون حدثا بحدوثه و استمراره أي يكون كلّ قطعة و قطرة منه حدثا. لا سبيل إلى الأوّلين، ضرورة مخالفتهما لما دلّ على لزوم الوضوء لكلّ صلاة كما يظهر بأدنى تأمّل، فلا محالة يكون حدثا على النحو الثالث، فحينئذ لا محيص عن القول بأنّ ما دلّ على العفو أو سلب الحدثيّة إنّما هو بالنسبة إلى القطرات

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 249

الّتي تخرج بعد الوضوء أو بينه إلى آخر الصلاة الّتي صلّت به، و لم يثبت العفو عن غيرها، و كذا سلب الحدثيّة.

و بما ذكرنا يدفع ما قيل من عدم ثبوت حدثيّته و منع كون طبيعته حدثا، فتدبّر. هذا مضافا إلى بعد الالتزام بأنّ الدم الخارج بعد الفريضة حدث دون غيره لو لم نقل بأنّه مقطوع الخلاف إلّا أن يلتزم الخصم بأنّ الفريضة حدث! و هو كما ترى.

و أمّا التفصيل بين الرواتب و غيرها فغير وجيه كما لا يخفى.

و اما القسم الثاني أي [الاستحاضة] المتوسّطة فيجب فيه تبديل القطنة

بلا خلاف صريح أجده فيه كما في الجواهر، و عن شرح الإرشاد لفخر الإسلام إجماع المسلمين عليه. و تدلّ عليه الشهرة القطعيّة الكاشفة عن معروفيّة الحكم من لدن زمن الأئمّة عليهم السلام في الاستحاضة القليلة و فهم الحكم عنها عرفا بالأولويّة القطعيّة في المتوسّطة و الكثيرة، ضرورة أنّ العرف و العقلاء إذا سمعوا أنّ من الأحكام

تبديل الكرسف إذا تلوّث بدم الاستحاضة في الجملة و لا تصحّ صلاة المستحاضة القليلة بلا تبديله يفهمون منه أنّ دم الاستحاضة قليله و كثيره مانع عن الصلاة، و يجب على المرأة تبديل الكرسف مطلقا بلا التماس دليل بالنسبة إلى المتوسّطة و الكثيرة.

فالخدشة في دلالة الأخبار على جميع المقصود في غير محلّها، و على فرض الصحّة لا توجب الخدشة في أصل الحكم، كما أنّ الخدشة في الشهرة أو الإجماع في المقام لاحتمال تخلّل الاجتهاد و فهم الأصحاب الحكم من الأخبار الواردة فيها لا توجب الخدشة في الحكم، لما عرفت من أنّ الشهرة في المسألة السابقة من الشهرات الّتي انسدّ فيها باب الاجتهاد مع ورود أخبار دالّة على الخلاف، فهي حجّة فيها، و منها يتّضح الحكم في القسمين الآخرين أيضا.

مع إمكان الاستدلال على لزوم التبديل بموثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، قال فيها: و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي، فإذا كان الدم سائلا-

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 250

إلخ- «1» و لا إشكال في ظهوره في تبديل الكرسف، فإنّ القطنة الّتي ظهر الدم عليها تخرج حين الغسل، فإذا قيل بعد فرض إخراجها «تضع كرسفا آخر» يفهم منه تبديلها، و لا يحتمل وضع كرسف على كرسفها، فحينئذ لا إشكال في ظهوره في مانعيّة الدم الّذي ظهر على الكرسف عن الصلاة، و لا وجه لحمل ذلك على الجري مجرى العادة، لأنّ العناية بوضع كرسف آخر في مقام التعبّد و بيان التكليف دليل على دخله في الحكم، فلا حجّة لرفع اليد عن الظهور باحتمال الجري مجرى

العادة.

و بعد فهم المانعيّة عن الصلاة لا ينقدح في الذهن أنّ المانعيّة منحصرة في صلاة، فاحتمال كون التبديل مختصّا بما بعد الغسل فقط مخالف لفهم العرف من قوله «تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي» إنّ الكرسف الكذائيّ مانع عن طبيعة الصلاة لا عن مصداق منها.

و منه يظهر وجه الاستدلال عليه برواية الجعفيّ، فإنّ قوله «فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف» ظاهر في التبديل لا إعادة الكرسف المتلوّث.

و أمّا قوله في رواية ابن أبي يعفور «فإن ظهر على الكرسف زادت كرسفها» «2» فيحتمل فيه إرادة زيادة كرسف على كرسفها، و يحتمل إرادة وضع كرسف زائد على الكرسف الأوّل حجما على المحلّ، أي تبديل كرسفها بكرسف آخر زائد عليه. و لا ترجيح لأحدهما، فيرفع هذا الإجمال بالروايتين السابقتين، مع أنّ الظهور على الكرسف موجب للغسل بحسب دلالة الروايتين، و حين الغسل لا يمكن إبقاء الكرسف، فحينئذ يمكن ترجيح الاحتمال الثاني. و كيف كان فلا إشكال في المسألة.

كما لا إشكال في لزوم تبديل الخرقة على فرض التلوّث، لاستفادة مانعيّة الدم و لو كان قليلا من الشهرة في المسألة السابقة على ما مرّ. هذا إذا قلنا بالعفو عن دم الاستحاضة، و إلّا فالأمر أوضح.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 251

و كذا يجب عليها الوضوء لكلّ صلاة حتّى صلاة الغداة الّتي اغتسلت قبلها، لعدم الخلاف في غير الغداة كما احتمله في الجواهر، بل قد يدّعى تناول إجماع الناصريّات و الغنية لغيرها، بل احتمل في الجواهر كون المسألة مطلقا غير خلافيّة لحمل غير بعيد لعبارات بعض الأصحاب ممّا احتمل الخلاف منهم.

و تدلّ على

المطلوب موثّقتا سماعة الصريحتان في وجوب الوضوء لكلّ صلاة، و مرسلة يونس حيث قال فيها: و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما ذلك عزف عامر أو ركضة من الشيطان فلتدع الصلاة أيّام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة.

قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب. حيث دلّت على وجوب الوضوء لكلّ صلاة، سال الدم أو لم يسل، كان سيلانه قليلا أو كثيرا.

و رواية ابن أبي يعفور، و فيها: و تنظر، فإن ظهر على الكرسف زادت كرسفها و توضّأت و صلّت. فهي ظاهرة في أنّ الظهور على الكرسف موجب للوضوء، فبضميمة ما دلّت على أنّ الظهور عليه موجب للغسل و إعادة الكرسف دلّت على المدّعى. و بعبارة أخرى: الظاهر من رواية ابن أبي يعفور و رواية الجعفيّ و موثّقة عبد الرحمن أنّ الظهور على الكرسف سبب لأمور ثلاثة: الاغتسال، و التبديل، و الوضوء. فيفهم منها أنّ الغسل لا يجزي عن الوضوء.

و تدلّ على المطلوب أيضا صحيحة الصحّاف، و ليس في مقابلها إلّا توهّم إطلاق بعض الروايات و السكوت عنه في مقام البيان في بعضها. و لا يخفى ما فيهما، أمّا الإطلاق فيجب تقييده، و أما السكوت فعلى فرض كونه في مقام البيان لا يقاوم الأدلّة المصرّحة. مع إمكان أن يقال: إنّ غالب الأدلّة ليس في مقام البيان كصحيحة زرارة في النفساء، لإمكان كونها بصدد بيان مورد لزوم الغسل الواحد و المتعدّد لا في مقام بيان جميع الأحكام، و لهذا لم يذكر فيها الوضوء للقليلة أيضا. و مثلها موثقّة عبد الرحمن، فالمسألة خالية عن الإشكال بحمد اللّٰه.

و كذا يجب عليها الغسل، و هو في الجملة ممّا لا إشكال فيه نصّا و فتوى، و عن الناصريّات

و الخلاف و ظاهر الغنية الإجماع عليه، و إنّما الإشكال و الخلاف في أنّه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 252

هل يجب عليها مضافا إلى غسل للغداة غسلان آخران للظهرين و العشاءين أو لا؟ فعن المشهور عدم وجوب غير ما للغداة عليها، و في الجواهر: ظاهر الجميع بل صريحهم عدم وجوب غيره، و عن ابني عقيل و الجنيد و المحقّق في المعتبر و العلّامة في المنتهى و بعض متأخّري المتأخّرين إدخال هذا القسم في الثالثة، فأوجبوا الأغسال الثلاثة عليها. و ظاهر بعض المحقّقين لزوم الغسل عليها كلّما ظهر الدم على الكرسف، و إذا كان سائلا يتعذّر عليها أو يتعسّر استمساكه بالكرسف لكونه صبيبا لا يرقأ فعليها الأغسال الثلاثة. و لازمة وجوب خمسة أغسال عليها في اليوم و الليلة في بعض الأحيان فتكون أسوأ حالا من الكثيرة! و منشأ الاختلاف اختلاف أنظارهم في الجمع بين شتات الروايات، و قد تقدّم بعض الكلام في استفادة الأقسام الثلاثة من الروايات في أوّل البحث، و محصّله أنّ التحقيق في جمع الروايات هو تثليث الأقسام و عدم وجوب الغسل على الصغرى، و وجوب غسل واحد على الوسطى، و ثلاثة أغسال على الكبرى.

ففي موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: و غسل الاستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف و جاز الدم الكرسف، فعليها الغسل لكلّ صلوتين و للفجر غسل، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كلّ يوم مرّة و الوضوء لكلّ صلاة. «1» و قريب منها موثّقته الأخرى، قال: قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلوتين و للفجر غسلا و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة و الوضوء لكلّ

صلاة، و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل. هذا إذا كان دمها عبيطا، و إن كان صفرة فعليها الوضوء. «2» و المراد بثقب الدم في هذه هو التجاوز بقرينة تقابله بعدم التجاوز، و بقرينة موثّقته السابقة، و بقرينة أنّ الثقب ملازم للتجاوز بحسب الغالب. و لا إشكال في أنّ معنى التجاوز عرفا و لغة غير الثقب و الظهور على الكرسف و النفوذ، بل هو عبارة عن العبور على الكرسف و السراية إلى شي ء آخر،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الجنابة، ب 1، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 253

و هو عبارة أخرى عن السيلان الّذي في الروايات الأخر.

و في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت ثمّ صلّت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد. قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء.

«1» و لا إشكال في أنّ ظاهرها أنّ الدم المتجاوز يوجب الأغسال الثلاثة، و غير المتجاوز لا يوجب إلّا غسلا واحدا. نعم، غير المتجاوز بإطلاقه شامل للثاقب و غيره، لكن يتقيّد بموثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الطامث تقعد بعدد أيّامها كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين، ثمّ هي مستحاضة، فلتغتسل و تستوثق من نفسها و تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلّت «2» و مقتضى الجمع بينها و بين ما تقدّم هو تثليث الأقسام بلا إشكال.

و ممّا ذكرنا ظهر حال صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

المستحاضة

تنظر أيّامها فلا تصلّي فيها و لا يقربها بعلها، فإذا جازت أيّامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر تؤخّر هذه و تعجّل هذه، و للمغرب و العشاء غسلا تؤخّر هذه و تعجّل هذه، و تغتسل للصبح، و تحتشي و تستثفر و تحشي و تضمّ فخذيها في المسجد و سائر جسدها خارجا، و لا يأتيها بعلها أيّام قرئها، و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت و دخلت المسجد و صلّت كل صلاة بوضوء، و هذه يأتيها بعلها إلّا في أيّام حيضها. «3»

فإنّ صدرها إمّا مطلق يجب تقييده بمثل قوله «إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد» أو يكون ظاهرا في الكثيرة بمقتضى قوله «و تحتشي و تستثفر و تحشي و تضمّ فخذيها في المسجد» الوارد للتحفّظ عن السيلان و تلويث أثوابها. قال صاحب الوافي: «تحشي» مضبوط في بعض النسخ المعتمد عليها بالحاء المهملة و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 9

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 254

الشين المعجمة، و فسّر بربط خرقة محشوّة بالقطن يقال لها المحشيّ على عجيزتها للتحفّظ من تعدّي الدم حال القعود. و في الصحاح: المحشيّ العظامة تعظم بها المرأة عجيزتها. و في بعض النسخ «تحتبي» بالتاء المثنّاة من فوق و الباء الموحّدة من الاحتباء، و هو جمع الساقين و الفخذين إلى الظهر بعمامة و نحوها، ليكون ذلك موجبا لزيادة تحفّظها من تعدّي الدم (انتهى).

و على النسختين يكون الاحتشاء و الاستثفار و الربط بالخرقة المحشوّة أو الاحتباء لكثرة التحفّظ، و معلوم أنّ هذه المبالغة إنّما هي في الكثيرة لا

غيرها. نعم بناء عليه يكون عدم الثقب المقابل له مساوقا لغير المتجاوز، فيكون أعمّ من المتوسّطة و القليلة، فيقيّد بما دلّ على عدم الغسل مع عدم النفوذ و الثقب، فتصير النتيجة تثليث الأقسام.

و تدلّ على تثليثها صحيحة الصحّاف أيضا، فإنّ الظاهر منها بعد ردّ الصدر على الذيل و الإجمال فيه على التفصيل في ذيلها أنّ الدم إمّا أنّ يكون غير سائل مطلقا وضع الكرسف أولا، أو سائل مطلقا وضع الكرسف أولا، أو سائل بلا وضعه و غير سائل معه، ففي الأوّل ليس عليها إلّا الوضوء، و في الثاني عليها ثلاثة أغسال، و في الثالث عليها طبيعة الغسل لا أغسال ثلاثة. و معلوم أنّ الدم إذا لم يكن سائلا حتّى مع عدم الكرسف لا يكون إلّا قليلا، و إذا كان سائلا مع الكرسف يكون كثيرا، و المتوسّط بينهما أي السائل بلا مانع لا ينطبق إلّا على المتوسّطة. و ما احتمله فيها الشيخ الأعظم خلاف المتفاهم منه عرفا، فحينئذ لا مخالفة بينها و بين الجمع المتقدّم في سائر الروايات، بل هي شاهدة للجمع المذكور.

بقيت روايات: منها موثّقة عبد الرحمن، و فيها: و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين، و لتغتسل و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي، فإذا كان دما سائلا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة، ثمّ تصلّي صلوتين بغسل واحد. «1»

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 255

و الظاهر المتفاهم منها عرفا بعد ارتكازيّة كون الدم الكثير أسوأ حالا من المتوسّطة أنّ الغسل في مقابل ثلاثة أغسال هو نفس الطبيعة الّتي يسقط الأمر بها بأوّل الوجود، و لو

سلّم كون الظهور الأوّليّ منه هو سببيّة الظهور بجميع وجوداته للغسل فيجب عليها كلّما ظهر على الكرسف، يجب رفع اليد عنه بما صرّح بأنّ الدم الغير المتجاوز لا يكون سببا إلّا لغسل واحد في كلّ يوم. و لا إشكال في أظهريّة ذلك من الموثّقة على فرض تسليم الظهور المتقدّم.

و به يظهر الكلام في رواية إسماعيل بن جابر، قال: و إن هي لم تر طهرا اغتسلت و احتشت، و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتّى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الغسل و أعادت الكرسف. «1» فإنّ الظاهر منها أنّ الغسل الأوّل فيها غسل الحيض، و ظاهرها أنّ غسل الحيض يكفيها و لا يلزم عليها غسل إلّا عند الظهور، فإذا ظهر أعادت الغسل و لا تكتفي بغسل الحيض، و هذا لا يدلّ على لزوم الغسل عند كل ظهور، و لو سلّم ظهورها يرفع اليد عنه بنصّ موثّقتي سماعة، مع أنّها ضعيفة السند بالقاسم بن محمّد الجوهريّ.

و الانصاف أنّ الناظر في مجموع الروايات بعد ردّ ظاهرها على نصّها و مطلقها على مقيّدها و مجملها على مفصّلها لا ينبغي أن يرتاب في تثليث الأقسام على ما هو المشهور بين الأصحاب.

و أما ما يقال من أنّ تقييد الموثّقتين أي قوله «إنّ لم يجز الدم الكرسف» بالثقب الغير المتجاوز تقييد بالفرد النادر، بل ارتكاب التقييد في الموثّقة المضمرة و لو مع قطع النظر عن ذلك متعذّر، لما في صدرها من التنصيص على أنّ المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلوتين و للفجر غسلا، و عدم التجاوز نقيض ما في الصدر، فيكون المراد منه عدم الثقب، و التعبير ب «لم يجز» للجري مجرى الغالب، و ادّعاء العكس لا يجدي،

و إن أمكن أن يكون المراد من قوله «إذا ثقب» إذا جاز، اعتمادا على الغلبة لكنّ التعبير به عنوانا للموضوع و لو بملاحظة الغلبة مانع عن أن يكون

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 256

المقصود من قوله «إن لم يجز» خصوص الثاقب الغير المتجاوز، خصوصا مع ما في ذيلها من تأكيد مضمون الجملة ببيان مورد الحكم حيث قال «هذا إذا كان دما عبيطا» فالإنصاف أنّ الأخذ بظاهر هذه الروايات غير ممكن لمخالفته للنصوص و الفتاوى (انتهى ملخّصا) و فيه ما لا يخفى، أمّا لزوم التقييد بالقدر النادر ففيه أنّ المضمرة تعرّضت للأقسام الثلاثة، فأراد بالثاقب المتجاوز، لملازمة الثقب التجاوز نوعا، و يؤيّده موثّقته الأخرى حيث قابل فيها بين المتجاوز و غير المتجاوز، و صحيحة معاوية حيث عبّر فيها بالثقب، و ذكر بعده أمورا كانت قرينة على كثرة الدم و كونها من الكثيرة، و الظاهر إرادة القليلة من الصفرة، لكونها نوعا قليلة غير نافذة، فيبقى غير المتجاوز المقابل لهما، و هو لا ينطبق إلّا على المتوسّطة. هذا مضافا إلى أنّ الندرة لو سلّمت فإنّما هي مقابلة الثاقب المتجاوز لا مقابلة عدم الثاقب، و مع التعرّض للثاقب المتجاوز بقرينة ما ذكرنا لا يبقى مجال لاحتمال كون التقييد بشيعا. و بما ذكرنا ينحلّ الإشكال الثاني، لما عرفت من لزوم حمل الثاقب على المتجاوز للقرائن المتقدّمة.

فتحصل من جميع ذلك أنّ الجمع بين شتات الروايات لا يمكن إلّا بما ذهب إليه المشهور، و لا يلزم منه شي ء مخالف لارتكاز العقلاء في الجمع بينها.

ثم إنّه بحسب الاحتمال العقليّ يحتمل أن يكون الغسل واجبا نفسيّا، و يحتمل أن يكون واجبا شرطيّا

لصلاة الغداة، فلو صارت متوسّطة بعد صلاة الفجر لم يجب عليها الغسل لسائر الصلوات و إن وجب لصلاة الغداة المستقبلة، و يحتمل أن يكون شرطا للصلوات إذا حصل الدم وقت صلاة الغداة، بمعنى أنّ ظهور الدم في ذلك الوقت حدث أكبر و لو حدث بعد صلاة الغداة، و يحتمل أن يكون واجبا شرطيّا لجميع الصلوات، لكن لا بمعنى وجوب إيجاده قبلها بل بمعنى وجوب إيجاده في اليوم و الليلة مرّة، فيكون شرطا متقدّما للصلاة المتأخّرة، و متأخّرا للصلاة المتقدّمة، و يحتمل أن يكون شرطا متقدّما لجميع الصلوات، بمعنى أنّه إذا حدث الدم قبل صلاة الفجر يجب الغسل قبلها و يكون شرطا لسائر الصلوات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 257

أيضا، فلو تركته بطل جميع صلواتها، و لو حدث بعد صلاة الغداة يجب عليها الغسل لسائر الصلوات، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

لا إشكال في أنّ الظاهر من الأدلّة هو الاحتمال الأخير، فإنّ قوله في صحيحة زرارة «فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت، ثمّ صلّت الغداة بغسل و الظهر و العصر بغسل، و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد» ظاهر في الوجوب الشرطيّ، و أنّ تلك الصلوات الّتي تصلّي المستحاضة الكبرى بالأغسال الثلاثة و تكون الأغسال شرطا لها تصلّيها الوسطى بغسل واحد، و يكون هو شرطا لها. فقوله «صلّت» أي صلّت الصبح و الظهرين و العشاءين، و لا معنى لاختصاصه بالغداة، و لا وجه لاحتمال كون الحدث إذا وجد في وقت الصبح كان أكبر.

و بالجملة لا شبهة في فهم العرف من مقابلة قوله «صلّت بغسل واحد» بقوله «صلّت الغداة بغسل- إلخ-» أنّها تصلّي تلك الصلوات

بغسل واحد، و يكون الغسل الواحد من الصلوات بمنزلة الأغسال الثلاثة منها. و احتمال أن يكون شرطا لمجموعها من حيث المجموع بحيث لو حدث الدم بعد الغداة لم يكن حدثا و لا الغسل شرطا، بعيد جدّا بل مقطوع الخلاف بعد كون كلّ صلاة مستقلّة في الوجوب و الشرائط و الموانع.

و من ذلك يظهر الكلام في موثّقتي سماعة، فإنّ قوله «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلوتين و للفجر غسلا، و إن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة و الوضوء لكلّ صلاة» ظاهر في أنّ الغسل الواحد للوسطى كالأغسال الثلاثة إنّما يكون بملاحظة الصلوات و شرطا فيها. و قوله «لكلّ يوم» في مقابل الأغسال ظاهر في أنّ الغسل الواحد في كلّ يوم مرّة إنّما هو للصلوات اليوميّة لا لنفس اليوم. و لا إشكال في فهم العرف منهما و من صحيحة زرارة الشرط المتقدّمة لكلّ صلاة، لأنّ الشرط المتأخّر مع كونه خلاف ارتكاز العقلاء مخالف للمتفاهم من مثل قوله «صلّت بغسل واحد».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 258

و على أيّ حال لا إشكال في فهم العرف من تلك الروايات اشتراط جميع الصلوات اليوميّة بالغسل، و أمّا مخالفة ذلك لفتاوى الأصحاب كما قيل فلقد أجاب عنها الشيخ الأعظم و أجاد، و لو فرض عدم الوثوق بمراد القوم ممّا أفاد- رحمه اللّٰه- فلا أقلّ من احتماله احتمالا معتدّا به، و معه لا يجوز رفع اليد عن ظواهر الأدلّة.

و اما القسم الثالث أي [الاستحاضة] الكثيرة

فيجب فيه تبديل القطنة و الخرقة و كلّ ما تلوّث بالدم بلا إشكال، لما ذكرنا في المتوسّطة من فهم العرف من ثبوت الحكم للقليلة ثبوته لها، و كذا الحال في الكثيرة. ضرورة أنّ

وجوب تبديل القطنة الّتي تلوّث شي ء منها دليل على مانعيّة هذا الدم عن الصلاة و لو كان قليلا و في الباطن فضلا عمّا كان كثيرا و في الظاهر. و منه يعلم لزوم تبديل الخرقة و كلّ ما تلوّث بالدم، كلّ ذلك لفهم العرف من حكم القليلة مانعيّة هذا الدم مطلقا. هذا، مضافا إلى الأدلّة الدالّة على لزوم تبديل الكرسف إذا ظهر الدم عليه، فإنّ الظاهر منها أنّ ظهوره عليه مانع عن الصلاة، و يصدق في الكثيرة أنّ الدم ظهر على الكرسف. و لو فرض اختصاص الأدلّة بالمتوسّطة فلا إشكال في فهم العرف منها حكم الكثيرة أيضا بإلغاء الخصوصيّة، كما يفهم منها مانعيّته مطلقا، سواء كان في الكرسف أو في غيره.

و اما الوضوء فهل يجب لكلّ صلاة كما عن الخلاف دعوى الإجماع عليه، و عن المختلف دعوى الشهرة، و هو المنقول عن السرائر و النافع و كتب العلّامة و الشهيدين و المحقّق الثاني، و هو مختار الشرائع، و عن المدارك أنّ عليه عامّة المتأخّرين، و عن الكفاية عليه جمهور المتأخّرين، أو لا يجب مطلقا و تكفي الأغسال عنه كما عن ظاهر الصدوقين و عن السيّد في الناصريّات و الشيخ و ابني زهرة و حمزة و الحلبيّ و القاضي و سلّار، أو يجب مع كلّ غسل كما عن المقنعة و الجمل و المعتبر و ابن طاوس و شارح المفاتيح و السيّد في الرياض؟ و عن المعتبر دعوى عدم ذهاب أحد من طائفتنا إلى وجوب الوضوء لكلّ صلاة و نسبة من ذهب إلى ذلك إلى الغلط. و هذا منه غريب بعد ذهاب من عرفت إليه و قد اختاره في الشرائع و محكيّ النافع. و إلى القول الأخير ذهب

شيخنا الأعظم قائلا انّه لا دليل على وجوبه لكلّ صلاة، و قد حقّق في محلّه عدم إجزاء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 259

غسل عن الوضوء إلّا غسل الجنابة.

و وجه عدم وجوبه مطلقا دعوى ورود الأدلّة الكثيرة المطلقة في مقام البيان مع السكوت عن الوضوء، و الأخذ بها أولى من الأخذ بظاهر مثل رواية يونس على فرض تسليم ظهورها، و قد أنكر الشيخ الأعظم ظهورها بدعوى أنّ قوله «فلتدع الصلاة أيّام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة. قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب» ممّا يتوهّم كونه بملاحظة ذيله نصّا في أنّ الوضوء لكلّ صلاة حتّى في الكثيرة لا يدلّ على الوجوب، لأنّ الغسل فيه هو غسل الاستحاضة، و إلّا لزم إهمال ما هو الأهمّ، و يكون الظرف متعلّقا بمجموع الجملتين، فحينئذ لا محيص عن الحمل على الاستحباب، لعدم وجوب الغسل لكلّ صلاة إجماعا.

و لا يخفى ما فيه، فإنّ الظاهر أنّ الغسل الوارد في تلك الرواية كسائر الروايات هو غسل الحيض، و أنت إذا تفحّصت الروايات الواردة في باب المستحاضة لا يبقى لك ريب في أنّ الاغتسال الوارد في المرسلة هو الاغتسال من الحيض، و ترك بيان غسل الحيض ليس بأهون من ترك بيان غسل الاستحاضة. ثمّ إنّ تعلّق الظرف بالجملتين محلّ إشكال، و دعوى الظهور في محلّ المنع، بل المتيقّن- لو لم نقل إنّه الظاهر- تعلّقه بالجملة الأخيرة، و لو سلّم ظهور تعلّقه بهما فقيام الدليل الخارجيّ على عدم وجوب الغسل لكلّ صلاة لا يوجب عدم ظهور ذلك في لزوم الوضوء لكلّ صلاة. هذا كلّه مع أنّه لو سلّم جميع ما أفاد لا يصير مدّعاه ثابتا

إلّا بتقديم ما دلّ على عدم إجزاء غير غسل الجنابة عن الوضوء على الإطلاقات الواردة في مقام البيان، و هو محلّ تأمّل.

و قد اختار بعض أهل التحقيق عدم الوضوء عليها مطلقا، و أجاب عن المرسلة بأنّ المراد من الأمر بالغسل فيها هو غسل الحيض، و المراد من تعميم الحكم إنّما هو في أنّها تصلّي في مقابل أيّام قرئها، لا أنّها تصلّي بعد غسل الحيض بالوضوء مطلقا، و ليس الكلام في هذا المقام لبيان تكليف المستحاضة إلّا في الجملة، فلا ينافيه الإهمال.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 260

و أنت خبير بأنّ ظاهر المرسلة هو رجوع التعميم إلى الوضوء لكلّ صلاة، فإنّ وجوب أصل الصلاة ليس مورد العناية في كلام، بل ما هو مورد البيان و العناية هو الاغتسال و الوضوء لكلّ صلاة، و إنّما يفهم لزوم الصلاة عليها بالتبع، و رجوع التعميم إلى ما هو مورد البيان أولى أو المتعيّن. نعم، لو كان الاستبعاد بالنسبة إلى الوضوء لكلّ صلاة في غير محلّه و إلى أصل الصلاة في محلّه لم يكن بدّ من رفع اليد عن الظهور، لكنّ استبعاد الوضوء في صورة سيلان الدم الّذي هو حدث في محلّه، بل أولى من استبعاد أصل الصلاة، فإنّ الوضوء بحسب الأدلّة و ارتكاز المتشرّعة إنّما هو لرفع الحدث، و بعد كون الحدث سائلا دائما يكون إيجاد الرافع في نظر السائل أمرا غريبا مستبعدا، فسأل عنه و أجاب بأنّها تتوضّأ و إن سال مثل المثعب.

و الانصاف أنّ ظهور المرسلة في وجوب الوضوء لكلّ صلاة ممّا لا ينبغي إنكاره.

نعم، يبقى الكلام في أنّ حمل هذا الظاهر على الاستحباب أولى أو تقييد الإطلاقات الواردة في مقام البيان؟ و

قد يدّعى ورود الأخبار المستفيضة الّتي كادت أن تكون متواترة في مقام بيان تكليف المستحاضة ساكتة عن الوضوء، و الالتزام بإهمال هذه الروايات من هذه الجهة في غاية الإشكال، و رفع اليد عن ظهور المرسلة متعيّن.

أقول: أمّا كون الالتزام بإهمال الروايات بأسرها في غاية الإشكال فحقّ، لكن لا يلزم من ذلك كون جميع الروايات الّتي يدّعي استفاضتها في مقام البيان حتّى نستوحش من ورود الروايات المستفيضة في مقام البيان مع عدم ذكر عن الوضوء لكلّ صلاة، بل الناظر في الروايات و المتأمل فيها لا يرى فيها ما في مقام البيان من هذه الجهة إلّا موثّقة سماعة السالمة عن المناقشة، حيث ذكر فيها الغسل الواحد و الوضوء لكلّ صلاة في المتوسّطة، و الوضوء فقط للصفرة المحمولة على القليلة، و في مقابلهما ذكر الكثيرة و أوجب فيها الغسل لكلّ صلوتين و للفجر، و لو كانت من جهة الوضوء في مقام الإهمال لما ذكره في المتوسّطة. و الإنصاف أنّ إنكار كونها مطلقة في مقام البيان في غير محلّه، و قريب منها موثّقته الأخرى، و أمّا سائر الروايات فلا تخلو عن مناقشة في سندها أو إطلاقها. و رفع اليد عن إطلاق رواية أو روايتين بظهور رواية أخرى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 261

ليس بعزيز، بل مبنى فقه الإسلام على تقييد الإطلاقات و تخصيص العمومات.

و ليعلم أنّ المطلقات على ضربين: أحدهما المطلقات الملقاة على أصحاب الكتب و الأصول، و هي كثيرة و عليها مدار الفقه، و ثانيهما ما يلقى على غيرهم ممّن كان محتاجا في مقام العمل. و لا إشكال في أنّ رفع اليد عن الضرب الثاني بورود أمر أو نهي أو مثلهما غير ممكن

للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة، بخلاف الضرب الأوّل فإنّ إلقاء الإطلاقات و العمومات على أصحاب الكتب و الأصول إلى ما شاء اللّٰه مع بيان مقيّداتها و مخصّصاتها منفصلة ببيان مستقلّ لأغراض و مصالح منها فتح باب الاجتهاد و الدراسة، و فيهما من البركات و تشييد مباني الدين إلى ما شاء اللّٰه. ففيها يكون تقييد المطلق و تخصيص العامّ رائجا هيّنا، عليه بناء فقه الإسلام، و رفع اليد عنه مستلزم لتأسيس فقه جديد كما لا يخفى على المتتبّع، بل لا نستبعد فيها تقييد مطلقات كثيرة بمقيّد واحد، و هاهنا كلام آخر في باب المطلقات الكثيرة نطوي عنه كشحا حذرا من التطويل.

نعم لو كان ذيل مرسلة يونس أي قوله «و تحيّضي في كلّ شهر في علم اللّٰه ستّة أيّام أو سبعة- إلى أن قال- و اغتسلي للفجر غسلا- إلخ-» مطلقا في مقام البيان لكان رفع اليد عنه مشكلا، بل كان حمل الأمر على الاستحباب متعيّنا، لكنّ الشأن في إطلاقه، فإنّ الظاهر من صدر المرسلة إلى ذيلها أنّ عناية أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في نقل كلام رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و أبي جعفر عليه السّلام إنّما هي الاستشهاد بهما للسنن الثلاث، و أنّ ذات الأقراء سنّتها الرجوع إلى أقرائها، و ذات التمييز إلى التمييز، و غيرهما إلى السبع و الثلاث و العشرين، من غير أن يكون نظره إلى بيان تكليف المستحاضة و إنّما ذكر بعض تكاليفها ضمنا و استطرادا، كما أنّ نقل مقالة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في القضايا الثلاث إنّما هو بداعي الاستشهاد للمقصود المتقدّم، فلم يكن أبو عبد اللّٰه عليه السّلام بحسب سوق الرواية في مقام

بيان جميع خصوصيّات قصّتي فاطمة و حمنة إلّا ما له دخل في مقصوده، فذكر الأغسال الثلاثة لا يدلّ على كونه بصدد بيان جميع الخصوصيّات فحينئذ يمكن أنّ حمنة كانت عالمة بتكليف الوضوء للاستحاضة الكثيرة و إنّما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 262

راجعت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لبيان حالها من شدّة الاستحاضة كما يظهر من قصّتها.

و بالجملة لم يظهر من المرسلة كون أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في مقام بيان القصّة بخصوصيّاتها، و لا كون رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في مقام بيان جميع تكاليفها، فإنّها قضيّة شخصيّة يمكن أن يكون رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عالما بحال حمنة و بعلمها بلزوم الوضوء، خصوصا بالنظر إلى كونها أخت زينب بنت جحش زوجته صلّى اللّٰه عليه و آله. فتحصّل من جميع ذلك لزوم الوضوء عليها مع كلّ صلاة. و ينبغي مراعاة الاحتياط بإتيان الوضوء في خلال الإقامة.

و ينبغي التنبيه على أمور
«الأمر الأوّل» يحتمل بحسب التصوّر أن يكون صرف وجود الدم الكثير مطلقا

أو في وقت صلاة موجبا للأغسال الثلاثة و لو فرض حدوثه في أوّل الفجر و انقطاعه أو قبل الزوال كذلك، و في مقابل هذا الاحتمال احتمال كون الموجب لها هو الدم المستمرّ في الأوقات الثلاثة بحيث لو انقطع في وقت العشاء كشف عن عدم لزوم الغسل للصبح و الظهرين، و يحتمل أن يكون كلّ قطعة من الدم المستمرّ إلى الأوقات الثلاثة في وقت كلّ فريضة سببا بحيث تكون القطعة الموجودة في الصبح من الدم المستمرّ إلى العشاء سببا لوجوب الغسل للصبح، و القطعة الموجودة في الظهر منه سببا للغسل للظهرين، و هكذا في العشاءين، و يحتمل أن يكون الدم المستمرّ إلى كلّ وقت سببا لفريضته لا الحادث و

لو في الوقت، و يحتمل أن يكون الدم الحادث في كلّ وقت أو المستمرّ إلى كلّ وقت سببا للغسل لفريضة ذلك الوقت، فإن حدث في الصبح كان سببا للغسل لفريضته، و كذا إن حدث في الزوال أو استمرّ إليه، و كذا في المغرب فلو حدث قبل الزوال و انقطع و لم يحدث في الزوال و لم يستمرّ إليه لم يكن سببا، و كذا قبل الغروب للعشاءين، و يحتمل أن يكون صرف وجوده سببا كلّما وجد لصرف وجود الغسل، فإذا اغتسل ارتفع حكمه، فلو حدث قبل الزوال و انقطع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 263

وجب عليها الغسل للظهرين، و لو اغتسلت ارتفع حكمه و لم يجب للعشاءين إلّا إذا حدث بعد الظهرين أو استمرّ إلى ما بعدهما. و سيأتي الكلام في الحدوث بين الغسل أو بعده و قبل الفريضة و بينها.

ثم إنّ لكلّ من الاحتمالات المتقدّمة وجها، و لبعض منها قائلا يزعم استفادة ما ذهب إليه من أخبار الباب. و ربما يقال: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة هو الوجه الأوّل، بل مال إليه في الجواهر لو لا مخافة مخالفة الإجماع. و قال الشيخ الأعظم: إنّ هذا القول لا يرجع إلى محصّل.

و يمكن أن يستدلّ عليه بصحيحة يونس بن يعقوب، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: امرأة رأت الدم في حيضها حتى تجاوز وقتها، متى ينبغي لها أن تصلّي؟

قال: ينتظر عدّتها الّتي كانت تجلس، ثمّ تستظهر بعشرة أيّام، فإن رأت دما صبيبا فلتغتسل في وقت كلّ صلاة. «1» حيث دلّت بإطلاقها على أن مجرّد رؤية الدم الصبيب موجب للأغسال، فلو رأت دما صبيبا قبل الفجر وجب عليها الاغتسال في وقت الصلوات، بدعوى

أنّ سائر الروايات لا ينافيها، فإنّ كون موردها الدم الجاري في الأوقات لا يوجب تقييدها.

و فيه أنّ ما ذكر على فرض الإطلاق- كما لا يبعد- إنّما هو في غير صحيحة الصحّاف، و أمّا هي فمقيّدة لها، ففيها: و إن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقأ فإنّ عليها أن تغتسل في كلّ يوم و ليلة ثلاث مرّات، و تحتشي و تصلّي و تغتسل للفجر، و تغتسل للظهر و العصر، و تغتسل للمغرب و العشاء الآخرة. قال: و كذلك تفعل المستحاضة، فإنّها إذا فعلت ذلك أذهب اللّٰه بالدم عنها. «2» فالتقييد بعدم السكون و الانقطاع الّذي يراد منه الاستمرار في الأوقات كما يظهر من الرواية إلى آخرها دليل على أنّ موضوع الحكم ليس مجرّد كونه صبيبا، بل الصبيب الّذي لا يرقأ و لا يسكن، كما تشعر أو تدلّ عليه صحيحة محمّد بن

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 11.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 264

مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و فيها: فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فليجمع بين كلّ صلوتين بغسل- إلخ- «1» هذا مع أنّ الالتزام بلوازم هذا الاحتمال مشكل بل ممتنع، لأنّ صرف وجود الدم إذا كان حدثا موجبا للأغسال الثلاثة فلا بدّ إمّا من الالتزام بكون الغسل للصبح مثلا رافعا للحدث و انّ الغسلين الآخرين واجب تعبّديّ لا يرفع حدثا، أو كون نفس الغسل بلا رافعيّته للحدث شرطا للصلاة، و هو بشقّيه فاسد لا أظنّ أن يلتزم به فقيه، و إمّا من الالتزام بكون الحدث ذا مراتب يرفع كلّ مرتبة منه بغسل فتكون مانعيّة

الحدث مختلفة بالنسبة إلى الصلوات، فمرتبة منه مانعة من صلاة الفجر مثلا و ترتفع بغسلها، و مرتبة اخرى لصلاة الظهرين و ترتفع بغسلهما و هكذا، فهو أيضا فاسد مخالف للأدلّة و مذاق الشرع و المتشرّعة.

و أما الاحتمال الثاني و الثالث اللّذان يلزم منهما كون الحدث المتأخّر سببا أو شرطا للسبب بالنسبة إلى الغسل المتقدّم فهما أردأ من الاحتمال الأوّل و مخالفان للمتفاهم العرفيّ من الروايات، و لو سلّم إمكان سببيّة الأمر المتأخّر للمتقدّم أو شرطيّته له فهو تصوير عقليّ لا يذهب إليه إلّا بورود نصّ غير ممكن التأويل، و لا تحمل الأدلّة عليه إلّا بعد ضيق الخناق.

و اما احتمال كون الدم المستمرّ إلى كلّ وقت سببا للغسل لفريضته لا الحادث في الوقت و لا غير المستمرّ إليه، ففيه أنّ لازمة التفكيك بين الصلوات في مانعيّة الدم، و في الأغسال في سببيته لها، بأن يقال: إنّ السبب أو المانع بالنسبة إلى الصلاة الاولى هو الدم الحادث حدوثا أوّليّا، و أمّا بالنسبة إلى سائر الصلوات فهو استمرار الدم لا الحدوث، فإنّ الحدوث الثانويّ أي الحدوث بعد الحدوث ليس سببا و لا مانعا! و اما الالتزام بأنّ السبب هو الدم المستمرّ من وقت إلى وقت آخر أو من قبل الوقت إلى الوقت، و أمّا الحادث في الوقت حتّى بالنسبة إلى الصلاة الأولى أيضا فليس مانعا و لا سببا للغسل، فإذا رأت الكثرة في وقت فريضة الصبح لا يجب

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 265

عليها الغسل لعدم كونه دما مستمرّا إلى وقتها. و هو كما ترى بكلا شقّيه مخالف الأدلّة و مذاق الفقه.

فبقي الاحتمالان الأخيران، و قد

ذهب إلى كلّ عدّة من المحقّقين، و اختار ثاني الاحتمالين الشيخ الأعظم، و نسبه إلى العلّامة و الشهيدين و جامع المقاصد و جماعة أخرى من متأخّري المتأخّرين، و نسب أوّلهما إلى صريح الدروس و ظاهر الذكرى، و إلى المنقول عن الموجز و كشف الالتباس و حاشية الروضة لجمال الدين، و ادّعى ظهور الروايات في ما اختاره.

و قد تمسّك صاحب الجواهر له بإطلاق النصّ و الفتوى، و قال: و ما يقال انّ ظاهر الأخبار الاستمرار قد يمنع إن أراد به الاشتراط، نعم قد يشعر به ما في بعضها لكن لا ظهور فيها بالاشتراط، أي اشتراط وجوب الأغسال بالاستمرار المتقدّم حتّى تصلح لتقييد غيرها، سيّما مفهوم قوله عليه السّلام في خبر الصحّاف «فإن كان الدم في ما بينها و بين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتوضّأ و لتصلّ عند وقت كلّ صلاة (انتهى).

أقول: أمّا إطلاق الأدلّة فعلى فرضه- كما لا يبعد في بعضها- مقيّد بذيل صحيحة الصحّاف الدالّ على أنّ الدم إذا كان صبيبا لا يرقأ يوجب الأغسال، و يفهم من قوله «لا يرقأ» و من ذيلها أنّ المراد هو عدم الانقطاع في الأوقات الثلاثة، و إنّما يرفع اليد عنه بالنسبة إلى الحادث في الأوقات بما تقدّم، فتصير نتيجة ردّ المطلق إلى المقيّد مع الوجه المتقدّم في إلحاق الحادث في كلّ زمان بالمستمرّ إليه هو أوّل الاحتمالين.

و أمّا مفهوم صدر الصحيحة فعلى فرضه مطلق قابل للتقييد، مع أنّ الظاهر عدم إرادة المفهوم منه بعد تعرّض المتكلّم فيها لأقسام الدم و المستحاضة.

و اما استبعاد عدم كون الدم قبل الوقت حدثا و مخالفة هذا الدم لسائر الأحداث الّتي يكون وجودها مطلقا سببا، لعلّه في غير محلّه بعد اقتضاء

الدليل، مع رفع الاستبعاد بعد عدم ترتّب الأثر عفوا أو رفعا للسببيّة عن هذا الدم إذا سال في أثناء الغسل أو بينه و بين الصلاة أو في أثناء الصلاة، فأيّ مانع من العفو أو الرفع بالنسبة إلى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 266

غير أوقات الصلاة. و القياس بسائر الأحداث كما ترى. و بالجملة لا دليل على حدثيّة مطلق هذا الدم لو لم نقل بقيام الدليل على الخلاف كما عرفت.

و من ذلك يظهر النظر في ما قيل انّ العفو في الدم الحاصل بين الغسل و الصلاة إنّما هو بالنسبة إلى تلك الصلاة و الغسل لا للصلوات الأخر، لأنّ ذلك فرع الإطلاق المفقود في المقام، و على فرض الإطلاق في بعض الروايات كما ليس ببعيد يكون مقيّدا بصحيحة الصحّاف و ابن مسلم، هذا.

لكن الأقوى في النظر هو كون نفس الدم الكثير بذاتها موجبة للغسل، و انّ المستفاد من الروايات أنّ دم الاستحاضة المتوسّطة و الكثيرة لا يفترقان إلّا بسببيّة الأوّل لغسل واحد و الثاني للأغسال، و انّ الحكم في المتوسّطة كما هو مرتّب على ظهور الدم على الكرسف كذلك الحكم في الكثيرة مرتّب على التجاوز و السيلان و الالتزام بالفرق بين أقسام الاستحاضة في أصل السببيّة بأنّ الكثيرة لا تكون بنفسها سببا مشكل مخالف لارتكاز المتشرّعة، مع أنّ العكس أولى.

بل الالتزام بأنّ لدلوك الشمس أو ذهاب الحمرة أو تبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر دخلا في حدثيّة الدم و أنّ الدم المتقيّد بتلك العناوين أو في تلك الظروف حدث في خصوص الكثيرة و تفرّد هذا الدم من بين جميع الأحداث بهذه الخصوصيّة مشكل بل مخالف لارتكاز عرف المتشرّعة. مع أنّ

لازم الجمود على مفاد الروايات هو عدم حدثيّة الدم المستمرّ إلى الوقت أو الحادث فيه في الجملة، بل الحدث هو الدم المستمرّ في جميع الوقت أو في زمان الاشتغال بالصلاة، لأنّ سياقها هو فرض ابتلائها بالكثرة في حال اشتغالها بها، و لهذا أمرها بتعجيل العصر و تأخير الظهر، و كذا في العشاءين، و بالاحتشاء و إمساك الكرسف.

و لهذا كلّه لا يبقى وثوق بل ظهور لكون المراد من كونه صبيبا لا يرقأ في صحيحة الصحّاف هو الاستمرار في الأوقات الثلاثة بحيث يكون للوقت دخل و موضوعيّة فيؤخذ بإطلاق بعض الأدلّة كصحيحة يونس بن يعقوب، و بعد رفع اليد عن إطلاقها في سببيّة الدم في الجملة للأغسال الثلاثة بالإجماع المدّعى أو بالوجوه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 267

المتقدّمة يكون موافقا لمختار الأعاظم كالشيخ الأعظم و غيره.

ثمّ إنّ ظاهر الأدلّة هو سببيّة الدم الفعليّ للأغسال لا الأعمّ منه و ما هو بالقوّة فلو رأت الدم السائل و اغتسلت منه بعد انقطاعه و علمت بعوده لا يوجب ذلك غسلا عند حضور وقت الصلاة. هذا على المختار، و كذا على القول بلزوم الاستمرار في الوقت لو رأت مستمرّا إلى ما قبل الوقت و انقطع و علمت بعوده لا يوجب ذلك غسلا عند وقت الصلاة ما لم تر الدم الفعليّ الكثير، و ذلك لتعليق وجوب الغسل على تجاوز الدم و سيلانه و كونه صبيبا ممّا هو ظاهر في ما ذكرنا.

و ما يقال انّ الحكم مترتّب على المرأة الدميّة في صحيحة الحلبيّ و على المستحاضة في صحيحة صفوان و عبد اللّٰه بن سنان و غيرهما، و لا إشكال في صدق المرأة الدميّة و المستحاضة على الّتي انقطع

دمها انقطاع فترة و عود منظور فيه أمّا أوّلا فلأنّ ظاهر تلك الروايات هو ابتلاء المرأة بالدم و سيلانه في أوقات الصلاة، فإنّ الأمر باستدخال قطنة بعد قطنة و الجمع بين الصلاتين ليس تعبّديّا بل لحفظ الدم و تقليل الابتلاء حتّى الإمكان. هذا مع الغضّ عن الإشكال بل الإشكالات الواردة على صحيحة الحلبيّ ممّا تقدّمت الإشارة إلى بعضها. و أمّا ثانيا فلأنّها على فرض الإطلاق فيها تتقيّد بما دلّ على تعليق الحكم بسيلان الدم و تجاوزه. هذا مضافا إلى أنّ تعليق الحكم على عنوانين بينهما تقدّم و تأخّر و سببيّة و مسبّبيّة يوجب الظهور في أنّ يكون الحكم للمتقدّم بحسب العقل بل العرف، و لمّا كان حصول الدم مقدّما على حصول عنوان المستحاضة و قد علّق الحكم عليهما يكون التعليق الثاني عرفا و عقلا فرعا على الأوّل لا مستقلا في السببيّة، فما يكون سببا هو الدم لا عنوان المستحاضة المسبّب منه.

«الأمر الثاني» إذا انقطع دم الاستحاضة

فإمّا أن يكون لبرء أو لفترة أو لا تعلم بأحدهما، و إن كان لفترة فإمّا أن تعلم بسعتها للطهارة و الصلاة أو لأحدهما أو لا تعلم، و على أيّ حال فإمّا أن يكون الانقطاع بعد الصلاة أو في أثنائها أو بينها و بين فعل الطهارة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 268

أو قبله، و على أيّ تقدير قد يلاحظ حال الانقطاع بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة و قد تلاحظ بالنسبة إلى الماضية أو الحاضرة. و نحن نتعرّض لمهمّاتها حتّى يتّضح حال البقيّة.

فنقول: إن انقطع للبرء أو الفترة فالتكليف بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة يتفرّع على المسألة السابقة، فإن قلنا بأنّ نفس طبيعة الدم الفعليّ حدث و سبب للغسل أو الوضوء كما قوّيناه

أخيرا و أنّ خروجه في أثناء الصلاة و الطهارة معفوّ عنه فلا إشكال في لزوم الغسل و الوضوء بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة و لو خرج الدم في أثناء الأعمال لتحقّق السبب و عدم الدليل على العفو، و إن قلنا بأنّ استمرار الدم إلى أوقات الصلوات فعلا أو حدوثه فيها سبب لهما، فلا يجب الغسل و الوضوء لو انقطع قبل تحقّق الوقت و لو كان مستمرّا إلى ما قبل الأوقات، و إن قلنا بأنّ الاستمرار الأعمّ من الفعليّ سبب فلا بدّ من التفصيل بين الانقطاع للبرء و الانقطاع للعود، و يمكن أن يفصّل بين الوضوء و الغسل و يلتزم بعدم وجوب الغسل دون الوضوء تمسّكا في وجوب الوضوء بإطلاق مرسلة يونس، و فيها «و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما هو عزف عامر أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيّام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضّأ لكلّ صلاة، قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب» حيث أمر بالوضوء لكلّ صلاة سال الدم أو لم يسل، و مقتضى إطلاقه وجوب الوضوء بمجرّد تحقّق الدم، و بمقتضى المناسبات المرتكزة في أذهان المتشرّعة و العرف يعلم أنّ دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء، و لو تحقّق السبب لزم المسبّب، و لا يرتفع بانقطاع الدم. و أمّا عدم وجوب الغسل فبما تقدّم من إنكار الإطلاق أو لزوم التقييد على فرضه، فلا يكون دليل على سببيّة الدم للغسل إلّا إذا كان مستمرّا كما تقدّم الكلام فيه، فحينئذ يكون للتفصيل وجه.

و إنكار الشيخ الأعظم الفرق بين الوضوء و الغسل و مطالبة الدليل على التفرقة مبنيّ على ما تقدّم منه من إنكار دلالة مرسلة يونس، و قد مرّ الجواب عنه، فالوجه للتفصيل هو

ما ذكرنا، و إن كان الأوجه وجوب الغسل و الوضوء لما تقدّم من تقوية

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 269

سببيّة صرف وجود الدم لهما.

ثم لا يخفى أنّ في تعبير بعضهم بأنّ انقطاع الدم موجب للوضوء أو الغسل أو غير موجب مسامحة، لما مرّت الإشارة إلى أنّ مبنى الخلاف هو الخلاف في كون السبب ما ذا، فوجوب الغسل و الوضوء على القول به إنّما هو لسببيّة الدم لا لسببيّة الانقطاع، و عدم وجوب الغسل و وجوب الوضوء أيضا للالتزام بسببيّة نفس الطبيعة للوضوء و عدم سببيّتها للغسل إلّا إذا كان مستمرّا، و الأمر سهل.

هذا كله بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة، و أمّا بالنسبة إلى الأعمال الماضية فإن انقطع بعد الصلاة فلا ينبغي الإشكال في عدم لزوم الإعادة و صحّة صلوتها لإطلاق الأدلّة، سواء احتملت الانقطاع حين العمل أو قبله أو كانت قاطعة بعدم الانقطاع أو ظانّة به بل و لو كانت ظانّة بالانقطاع، و دعوى الانصراف عمّا إذا انقطع في الوقت مطلقا أو إذا كانت ظانّة في غير محلّه، خصوصا في غير الظانّة.

نعم لو كانت قاطعة بالانقطاع للبرء أو الفترة الواسعة فالظاهر لزوم الانتظار و عدم جواز البدار، لقصور الأدلّة عن إثبات جواز البدار و عدم إطلاقها من هذه الجهة، بل تكون منصرفة عن الفرض. و أمّا إذا انقطع في الأثناء فالظاهر لزوم الإعادة إذا كان الانقطاع لبرء أو فترة واسعة، و في غير الواسعة تأمّل، أمّا الإعادة فيهما فلما مرّ من استفادة سببيّة مطلق الدم، و لم يثبت العفو في غير ما هو مستمرّ إلى آخر العمل، فيبقى مقتضى السببيّة على حاله، و لا إطلاق على الظاهر للأدلّة بالنسبة إلى هذه

الصورة حتّى يقال لأجله بالعفو و صحّة الأعمال.

هذا بحسب الثبوت و الواقع، و أمّا تكليفها في الظاهر فقد يتشبّث باستصحاب بقاء الفترة إلى زمان يسع العمل بشرائطه إذا كانت شاكّة في كون الانقطاع للبرء أو الفترة مع الشكّ في سعتها، أو كانت عالمة بالثانية و شاكّة في سعتها. و فيه أنّ هذا الاستصحاب مع كونه مثبتا لا أصل له، لعدم كون المستصحب موضوعا لأثر شرعيّ، بل بعد العلم بوجوب الصلاة و اشتراطها بالطهور و كون الدم سببا بذاته و عدم إطلاق في الأدلّة يحكم العقل بلزوم التأخير إلى زمان الفترة الواسعة، و لا تكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 270

الفترة الواسعة موضوعا لحكم شرعيّ. كما أنّ التشبّث باستصحاب الصحّة أو الطهارة و أمثالهما في غير محلّه، بعد ثبوت حدثيّة الدم و عدم الدليل على العفو و اشتراط الصلاة بالطهور، فيكون الاستصحاب محكوما لتلك الأدلّة على فرض الجريان. نعم، لو أنكرنا سببيّة مطلق الدم للغسل كان له مجال، و مع عدمه تكفي أصالة البراءة، لكن ما مرّ هو الأقوى. و ممّا ذكرنا يظهر حال بقيّة الصور، فتدبّر.

«الأمر الثالث» الظاهر جواز تفريق الصلوات و الغسل لكلّ صلاة،

لعدم استفادة كون الجمع بين كلّ صلوتين عزيمة بعد ظهور كون ذلك لمراعاة حال النساء. و قد حكي عن المحقّق الثاني و صاحب المدارك القطع بالجواز، و تبعهما كثير من متأخّري المتأخّرين. و يمكن أن يستدلّ عليه بجملة من الروايات، كصحيحة يونس بن يعقوب، و فيها «و إن رأت دما صبيبا فلتغتسل في وقت كلّ صلاة» لأنّ وقت الصلاة في تلك الأزمنة كان هو الأوقات المعهودة الّتي كان المسلمون يجتمعون فيها لإقامة الصلوات حتّى اشتهرت الأوقات الخمسة و صارت معهودة بحيث ينصرف إليها اللفظ.

بل يمكن استفادة الاستحباب من مثلها بعد كون الظاهر أنّ الأمر بالجمع و تعجيل العصر و العشاء و تأخير الظهر و المغرب لمحض الترخيص و ملاحظة حالهنّ.

و يمكن أن يستدلّ عليه بوجه آخر، و هو أنّها لو فرّقت بين الصلاتين عمدا أو نسيانا فصلّت الظهر بغسل و تركت العصر، فلا يخلو إمّا أن يجب عليها إعادة الظهر و الجمع بينهما بغسل، أو لا يجب عليها العصر أيضا، أو يجب عليها العصر بلا غسل و يجوز لها الاكتفاء بغسلها للظهر، أو يجب عليها الغسل للعصر. لا سبيل إلى شي ء من الاحتمالات إلّا الأخير منها، ضرورة أنّه لا وجه لإعادة الظهر لعدم مغايرة تكليفها في صلاة الظهر لسائر المكلّفين، تأمّل، و بداهة وجوب العصر عليها و عدم سقوطها عنها، و الاكتفاء بالغسل المتقدّم مخالف لظواهر الأدلّة، و لما مرّ من كون الدم بذاته حدثا مع عدم ثبوت العفو مع التفريق، فيبقى الاحتمال الأخير. و لا ريب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 271

في عدم كون الجمع واجبا تعبّديّا نفسيّا غير ملحوظ فيه حال الصلاة و اشتراطها بالطهور، و لا التفريق حراما كذلك. فتلخّص بعد بطلان جميع المحتملات عقلا و شرعا أنّ التفريق جائز و معه يجب الغسل، لأنّ الدم الحاصل بعد الصلاة إلى زمان إتيان الصلاة الأخرى حدث موجب للغسل، فلا بدّ منه.

هذا كلّه مع تفريق الصلوات. و هل يجوز لها بعد صلاة الظهر و المغرب بلا فصل الاغتسال للعصر و العشاء بأن يقال بمثل ما قيل في الفرض المتقدّم من عدم استفادة العزيمة من الأدلّة لورودها في مقام توهّم وجوب الأغسال الخمسة؟ فيه تأمّل و إشكال، لأنّ عدم دلالة الأدلّة على العزيمة

لا يوجب دلالتها على جواز الغسل، و بعد عدم دليل على مشروعيّته فلأحد أن يقول: إنّ مقتضى الأدلّة حدثيّة ذات الدم و ناقضيّته للغسل و الوضوء، خرج منها عفوا أو إسقاطا للسببيّة الدم السائل في حال الاشتغال بالغسل للصلاتين إلى آخر الصلاة الثانية مع عدم الفصل بينهما بمقدار غير متعارف و عدم الفصل بأجنبيّ، و بقي الباقي، فعليه لا دليل على العفو في الدم السائل بين الغسل الثاني أو بعده بل و بين صلاة العصر مع التفريق بالأجنبيّ. و لا يمكن أن يكون الغسل الثاني رافعا لما حصل بينه أو بعده، فلا بدّ حينئذ من غسل آخر لصلاة العصر بعد حصول هذا التفريق بالأجنبيّ بالبيان المتقدّم، فالأحوط لو لم نقل الأقوى هو الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، و إن جاز لها التفريق و الأغسال الخمسة، بل الأولى و الأحوط الجمع و عدم التفريق.

«الأمر الرابع» الظاهر وجوب معاقبة الصلاة للغسل،

و في الجواهر: لم أعرف مخالفا فيه. و في طهارة شيخنا الأعظم: المشهور بين الأصحاب وجوبها، بل قد يظهر نفي الخلاف فيه. و عن كاشف اللثام و العلّامة الطباطبائيّ- رحمه اللّٰه- جواز الفصل، و اختاره الشيخ الأعظم تمسّكا بالإطلاقات الواردة في مقام البيان، و استظهارا لما دلّ على وجوب الغسل عند كلّ صلاة في إضافته إلى الوقت أي زمان حضور وقت كلّ صلاة لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 272

حضور فعلها، و استشهادا بقوله في رواية ابن سنان «ثمّ تغتسل عند المغرب فتصلّي المغرب و العشاء، ثمّ تغتسل عند الصبح فتصلّي الفجر».

و فيه:- مضافا إلى عدم إطلاق يمكن الاتّكال عليه و الوثوق به في المقام، فضلا عن إطلاقات واردة في مقام البيان كما ادّعاها، فإنّ الروايات في

مقام بيان وجوب ثلاثة أغسال في مقابل غسل واحد كصحيحتي زرارة و الصحّاف- أنّ الإطلاقات على فرضها مقيّدة بما دلّ على لزوم إيقاعها عند الصلاة، و الاحتمال الّذي أبداه خلاف الظاهر حتّى في رواية ابن سنان، فإنّ قوله «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر و تصلّي الظهر و العصر» ظاهر بلا تأمّل في كونه عند نفس صلاة الظهر لا وقتها، فحينئذ يكون قوله بعده «ثمّ تغتسل عند المغرب» ظاهرا في صلوته بعد شيوع إطلاق المغرب على صلوته في الروايات، و بعد القطع بعدم كون المراد قبل وقت المغرب، مع أنّ لازم إضافة الظرف إلى الوقت كون وقت إيقاع الغسل قبل وقت الصلاة، لظهور لفظة «عند» في ذلك. و يؤيّد ما ذكرنا الأمر بالجمع بين الصلاتين، و لبعد الالتزام بالتفرقة بين صلاة الظهر و العصر بجواز الفصل بين الغسل و الصلاتين و عدم جواز التفرقة بين صلاة الظهر و العصر.

و الانصاف أنّ الناظر في الروايات لا يكاد يشكّ في أنّ الأمر بالجمع و التقديم و التأخير إنّما هو بملاحظة حال الصلاة و عدم الابتلاء بالدم حتّى الإمكان، و معه لا مجال لاحتمال جواز الفصل. هذا كلّه مع أنّ المختار كما تقدّم هو ناقضيّة الدم و كونه حدثا بذاته موجبا للغسل إلّا ما عفي عنه، و بعد قصور الإطلاقات لا دليل على العفو مع الفصل.

و بهذا يظهر الحال في الوضوء في الأقسام الثلاثة، مع إمكان الاستدلال له بقوله في رواية قرب الإسناد «فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها، يجزيها الوضوء عند كلّ صلاة و تصلّي» و بها يقيّد الإطلاق على فرض وجوده. هذا مضافا إلى أنّ الأمر بالوضوء لكلّ صلاة دليل على أنّ الدم السائل بين

الوضوء و الصلاة أو بعدهما و لو بلا فصل حدث أصغر غير معفوّ عنه، فلا مجال للارتياب في لزوم معاقبة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 273

الصلاة للوضوء.

نعم لا إشكال في أنّ المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل و الوضوء ليست على النحو الدقيق العقليّ بل العرفيّ مع الإتيان بما تحتاج إليه للصلاة عادة كالتستّر و لبس الثوب و ما هو المتعارف بحسب حالها، لا غير المتعارف كشراء الستر. و يجوز لها الأذان و الإقامة للصلاتين، بل و التعقيب بالمقدار المتعارف، و انتظار الجماعة كذلك، و إن كان الأحوط في بعضها خلافه.

و اما الاستدلال لجواز تأخير الصلاة عن الوضوء إمّا مطلقا أو بمقدار غير معتدّ به بقوله في صحيحة معاوية «و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت و دخلت المسجد و صلّت كلّ صلاة بوضوء» ففيه أوّلا أنّ الوضوء لعلّه لدخول المسجد، و يشهد له تصريحه بعده بأنّها صلّت كلّ صلاة بوضوء؛ و ثانيا أنّ قوله «و دخلت المسجد» يمكن أن يكون بيانا لجواز دخولها المسجد، أي يجوز لها الدخول في المسجد، و يجوز لبعلها إتيانها كما في ذيل الصحيحة، فحينئذ لا يكون قوله «دخلت المسجد» لبيان إيقاع الصلاة فيه.

«الأمر الخامس» هل يجب عليها الفحص و الاعتبار لتشخيص كونها من أيّ الثلاثة مطلقا؛

أو لا مطلقا؛ أو يفصّل بين ما إذا كان متعذّرا و غيره؛ أو بين ما إذا كان كثير المئونة و المقدّمات و غيره؟ قد يقال بوجوبه مطلقا، إمّا لأنّه من الموضوعات الّتي لا يمكن معرفتها إلّا بالاختبار، فلو رجعت إلى الأصل لزم منه الوقوع في محذور مخالفة التكليف غالبا، كما لو رجع الشاكّ في الاستطاعة و النصاب و الدين إلى الأصل قبل الفحص.

و فيه مع منع الصغرى- أي لزوم الوقوع في

المخالفة غالبا- أنّه لا محذور فيه بعد إطلاق أدلّة الأصول، و دعوى انصرافها في محلّ المنع.

و إمّا للعلم الإجماليّ بوجوب الوضوء أو الغسل عليها، و فيه أنّ الاستصحاب الموضوعيّ أو الحكميّ الجاري في جميع الموارد أو غالبها يوجب عدم تأثير العلم و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 274

انحلاله، مضافا إلى ما تقدّم من وجوب الوضوء لكلّ صلاة في الأقسام الثلاثة، فيكون من قبيل الأقلّ و الأكثر.

و إمّا لإطلاق بعض الأخبار الدالّة على وجوب الاعتبار كموثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام و فيها «و إن كان فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين و لتغتسل و لتستدخل كرسفا، فإن ظهر على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفا آخر ثمّ تصلّي، فإذا كان دما سائلا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة» «1» بدعوى ظهورها في أنّ استدخال الكرسف لأجل اختبار أنّه هل يظهر على الكرسف أو يسيل من ورائه أو لا.

و فيه منع الظهور في ذلك، بل الظاهر أنّ المراد منها أنّها تغتسل بعد الاستظهار بيوم أو يومين و تستدخل كرسفا و تصلّي بلا غسل و تغيير قطنة حتّى يظهر الدم على الكرسف، فعند ذلك تعيد الغسل و تعيد الكرسف، و هذه نظيرة رواية الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السّلام و فيها «و إن لم تر طهرا اغتسلت و احتشت، و لا تزال تصلّي بذلك الغسل حتّى يظهر الدم على الكرسف، فإذا ظهر أعادت الكرسف» «2» و قريب منها صحيحة الصحّاف و موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام.

و منه يظهر الحال في صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة عن مشيخة ابن محبوب عن أبي جعفر عليه السّلام و فيها

«ثمّ تمسّك قطنة، فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كلّ صلوتين بغسل» فإن الظاهر أنّ المراد منها هو ما في الروايات السابقة، أي:

فلتمسك قطنة فتصلّي، فإن صبغ القطنة دم لا ينقطع و صار كثيرا فلتجمع بين الصلاتين بغسل. و لا أقلّ من الاحتمال المساوي لاحتمال كون الإمساك للاختبار، و يرجّح ما ذكرنا بقرينة سائر الروايات.

و يمكن الاستدلال للاختبار برواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه قال:

المستحاضة إذا مضت أيّام قرئها اغتسلت و احتشت كرسفها، و تنظر فإن ظهر على الكرسف زادت كرسفها و توضّأت و صلّت. «3» بدعوى أنّ قوله «تنظر» ظاهر في

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 10.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 275

وجوب النظر لتشخيص الحال. و فيه منع الظهور في ذلك، بل الظاهر أنّها تمكث و تمهل حتّى يظهر الدم على الكرسف، خصوصا بملاحظة قوله «زادت كرسفها» بل يحتمل أن يكون «تنظر» من باب الإفعال، و على أيّ تقدير تكون هذه الرواية أيضا موافقة لسائر الروايات. و الإنصاف أنّ التمسّك بمثل تلك الروايات لذلك في غير محلّه كما يظهر بالتأمّل فيها.

نعم يمكن أن يقال: إنّ الاختبار لو كان سهلا لا يحتاج إلّا إلى وضع القطنة و إخراجها كان واجبا، لانصراف أدلّة الأصول استصحابا أو غيره عمّا إذا كان العلم بالموضوع لا يحتاج إلى الفحص و التفتيش بل يحتاج إلى مجرّد النظر و الاختبار.

إلّا أن يقال: إنّ عدم وجوب ذلك و جريان الأصل في مثله يستفاد من مضمرة زرارة الدالّة على حجّيّة الاستصحاب، و فيها «قلت: فهل عليّ إن شككت

في أنّه أصابه شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا، و لكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك- إلخ-». و لكن لم يظهر منها أنّ ذلك للاتّكال على الاستصحاب حتّى نقول بجريانه في أمثاله من غير خصوصيّة في الموضوع، فمن المحتمل أنّ في باب النجاسات مساهلات ليست في غيره، كما يظهر من روايات أخر، فالتفصيل بين ما كان التشخيص محتاجا إلى فحص و مقدّمات و بين غيره لا يخلو من وجه.

و من ذلك يظهر أنّ التشخيص إن كان متعذّرا أو متعسّرا تعمل على الأصول الموضوعيّة لو كانت أو الحكميّة. ثمّ لا إشكال في أنّ وجوب الاختبار على فرض ثبوته ليس نفسيّا و لا شرطيّا، فلو لم تختبر و صلّت مع حصول قصد القربة و مطابقة الواقع أو احتاطت بالأخذ بأسوإ الأحوال فلا ريب في صحّة عباداته و عدم كونها عاصية. نعم، تكون في بعض الصور متجرّية. و لو صلّت و خالفت الواقع و قلنا بوجوب الاختبار استحقّت العقوبة لمخالفة الواقع لا لترك الفحص.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 276

«الأمر السادس» يجب على المستحاضة الاستظهار

في منع خروج الدم حتّى الإمكان إذا لم يتضرّر بحبسه، و في الجواهر: لم أجد فيه خلافا، بل لعلّه ممّا يقضي به بعض الإجماعات. و هذا في الجملة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه. و يدلّ عليه- مضافا إلى ذلك، و إلى اشتراط طهارة البدن و اللباس عن الدم و وجوب تقليله على الظاهر، و إلى حدثيّة دم الاستحاضة كما مرّ، و لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن في العفو أو إلغاء السببيّة، و أنّه لو خرج مع التقصير يكون حدثا غير معفوّ عنه، و يجب عليها إعادة الوضوء أو الغسل على

الأحوط لو لم يكن أقوى مع التسامح في الاحتشاء و الاستثفار و نحوهما، أو مع الصلاة لو صلّت بعد الخروج كذلك- الأخبار المتظافرة الآمرة بالاستظهار.

إنّما الكلام في أنّه قبل الوضوء أو الغسل، أو بعدهما، أو قبل الوضوء و بعد الغسل. الأقوى عدم وجوب كونه قبلهما و لا بعدهما، أمّا الوضوء فلإطلاق ما دلّ على التوضّؤ لكلّ صلاة من غير إشعار فيها بتقديم الاستظهار عليه أو تأخيره، و به يرفع اليد عمّا دلّ على حدثيّته، مع إمكان إنكارها في مثل المقام. و أمّا الغسل فلأنّ الأخبار و إن كانت ظاهرة في تقديم الغسل على الاستظهار إمّا لأجل العطف ب «ثمّ» في بعضها، و إمّا بدعوى كون مساقها و المتفاهم ممّا عطف فيها بالواو أيضا هو ما يتعارف عادة من تقديم الغسل على الاحتشاء و هو على الاستثفار. نعم، لا إشكال في عدم فهم شرطيّة ذلك في صحّة الصلاة أو الغسل بحيث لو أمكن لها الغسل مع الاستثفار وقع غسلها و صلوتها باطلين، ضرورة عدم فهم التعبّد من مثلها، بل الظاهر منها أنّ ذلك لأجل العادة و التعارف و عدم تيسّر الاستثفار نوعا ما بين الغسل، فلا ينبغي الإشكال في جواز الاستثفار و الاحتشاء قبل الغسل، بل أولويّة التقديم مع الإمكان. نعم، الظاهر أنّه مع إمكانه لا يجب، و لا يكون التحفّظ بذلك الحدّ من الضيق و إلّا لتعرّض له في تلك الأخبار الكثيرة. و الإنصاف أنّ دعوى القطع بعدم شرطيّة التأخير و عدم وجوبه التعبّديّ و كذا دعوى القطع بعدم لزومه مع الإمكان في محلّهما.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 277

و ممّا ذكرنا من عدم تعبّديّة الاحتشاء و الاستثفار و كونهما لأجل

التحفّظ عن الدم يعلم أنّه لا كيفيّة خاصّة لهما، فلو أمكنها التحفّظ بكيفيّة أخرى مثلها فلا إشكال في كفايتها، فلا داعي إلى تحصيل معنى الاستثفار و الاستذفار و التحشّي و الاحتشاء، كما أنّ الاستذفار إن كان بمعنى التطيّب و الاستجمار بالدخنة و غير ذلك لا يكون واجبا بلا إشكال، بل لا يبعد أن يكون الاستذفار بمعنى الاستثفار، و يكون التفسير بالتدخين من الشيخ الكليني كما احتمله في الوافي.

«الأمر السابع» قال المحقّق: و إذا فعلت [المستحاضة] ذلك كانت بحكم الطاهر.

و قال العلّامة في القواعد:

و مع الأفعال تصير بحكم الطاهر. و في مفتاح الكرامة: إجماعا كما في الغنية و المعتبر و التذكرة و مجمع البرهان و شرح الجعفريّة و كشف الالتباس، و في المنتهى:

أنّه مذهب علمائنا، و في المدارك: لا خلاف فيه بين العلماء (انتهى).

و منطوق هذه القضيّة على إجماله ممّا لا إشكال فيه، لكن يحتمل أن يكون المراد منه أنّها بحكم الطاهر، لا أنّها طاهرة، فلا يجري عليها حكم الطاهر الحقيقيّ، بل التنزيليّ بمقدار دلالة دليل التنزيل، فحينئذ يكون المقصود أنّه لا يترتّب عليها جميع أحكام الطاهر مثل مسّ الكتاب و غيره، لكنّ الظاهر أنّ هذا الاحتمال كاحتمال كون المقصود تبيين ما تقدّم من الأحكام غير وجيه، و لهذا استثنى الشيخ و ابن حمزة دخول الكعبة منه لمرسلة يونس، و قد عدّوا الشيخ مخالفا لهذا الحكم؛ و يحتمل أن يكون المراد أنّها بحكم الطاهر إلى الإتيان بما فعلت لأجله، فيكون إيجاد الغاية الّتي اغتسلت لأجلها نهاية للحكم، بمعنى أنّ العفو لا يكون إلّا إلى تمام العمل الّذي اغتسلت له؛ و يحتمل أن يكون بحكمه إلى خروج الوقت أو إلى دخول وقت خطاب آخر، أو إلى زمان الاشتغال بغسل آخر؛ أو تكون بحكمه في جميع الآثار، فلها

مسّ الكتاب و غيره؛ أو أنّها بحكم الطاهر في ما تضطرّ إلى إتيانه كالطواف الواجب و ركعتيه، لا كمسّ الكتاب و الإتيان بالصلوات المستحبّة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 278

ثم إنّه بعد قيام الدليل على كون الدم حدثا و كون الخروج إنّما هو في بعض الأحيان عفوا أو إسقاطا للسببيّة لا بدّ من قيام الدليل عليهما، و القدر المتيقّن من الإجماع المدّعى أو عدم الخلاف هو أنّها بحكم الطاهر إلى زمان إتيان ما فعلت لأحله، فلو اغتسلت لصلاة الصبح فما لم تأت بها تكون بحكم الطاهر، و أمّا بعد الإتيان بها فلا دليل على العفو و كونها بحكمه و إن قال شيخنا الأعظم و يمكن دعوى الإجماع على كونها كذلك ما دام وقت الصلاة باقيا، فلو ثبت و إلّا فالتحقيق ما عرفت، و مراعاة الاحتياط طريق النجاة.

ثم إنّ الظاهر جواز الإتيان بالوضوء و الغسل للغايات الاضطراريّة كالطواف و صلوته إذا ضاق وقتهما، أو مطلقا بدعوى فهمه من الأدلّة بإلغاء الخصوصيّة بعد كون الأمر بالوضوء و الغسل لتحصيل مرتبة من الطهارة بحسب ارتكاز المتشرّعة و فهم العرف، و أمّا ما لا يجب عليها و لا تضطرّ إليه فلا دليل على العفو و لا يمكن فهمه من الأدلّة. نعم، دلّت رواية إسماعيل بن عبد الخالق على تقديم ركعتين قبل الغداة ثمّ إتيان الغداة بغسل واحد، لكنّها مع ضعف السند لا تثبت إلّا نافلة الفجر، و لها خصوصيّة لمكان أفضليّتها من سائر الرواتب و كون تمام الوظيفة ركعتين، فلا يمكن التعدّي إلى غيرها، إلّا أن يتشبّث بالإجماع المنقول عن الغنية و المعتبر و المنتهى و التذكرة و كشف الالتباس و شرح الجعفريّة على أنّها

إذا فعلت ما تفعله المستحاضة كانت بحكم الطاهر، و هو لا يخلو من تأمّل و إن لم يحل من وجه، و الظاهر تسالمهم على جواز إتيان النوافل.

هذا كله في منطوق القضيّة المتقدّمة، و أمّا مفهومها فلا يبعد أن يكون غير مراد، و لو كان مرادا فليس مفهومها إلّا أنّها مع عدم الإتيان بذلك ليست بحكم الطاهر، و لا يفهم منه إلّا عدم كونها كذلك في الجملة. و أمّا كونها بحكم الحائض فلا، و إن كان يشعر به بعض العبارات بل بعض معاقد الإجماعات، لكنّها ليسا بنحو يمكن الاعتماد عليهما في الخروج عن مقتضى القواعد، بل ظاهر العبارة المحكيّة عن المعتبر يرفع الإجمال عن سائر العبارات و يبيّن المراد من المفهوم حيث قال: إنّ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 279

مذهب علمائنا أجمع إنّ الاستحاضة حدث تبطل الطهارة بوجوده، فمع الإتيان بما ذكر من الوضوء إن كان قليلا و الأغسال إن كان كثيرا يخرج عن حكم الحدث لا محالة و تستبيح كلّ ما تستبيحه الطاهر من الصلاة و الطواف و دخول المساجد و حلّ وطئها و إن لم تفعل كان حدثها باقيا و لم يجز أن تستبيح شيئا ممّا يشترط فيه الطهارة. (انتهى) و عن التذكرة قريب منها، و المستفاد منهما أنّها مع عدم الإتيان تكون محدثة، و هذا هو الّذي دلّت عليه الأدلّة، ضرورة أنّ الأمر بالوضوء و الغسل لصلاتها لكون الدم حدثا، و هما رافعان له حكما.

فتحصل أنّ الظاهر من الأدلّة بل الإجماع هو عدم جواز ما يشترط فيه الطهارة إلّا بالإتيان بالوظائف، و أمّا ما لا يكون مشروطا بها كدخول المسجدين و المكث في سائر المساجد و قراءة العزائم

فلا يستفاد منها تحريمه عليها، و لا قام الإجماع أو الشهرة على التحريم بعد كون المسألة محلّ خلاف قديما و حديثا.

نعم قد وردت في خصوص الوطء روايات لا بدّ من البحث عنها مستقلا فنقول:

قد اختلفت الآراء في جواز وطء المستحاضة، فقيل بالإباحة مطلقا من دون توقّفه على شي ء كما عن البيان و المدارك و الكفاية و التحرير و الموجز و مجمع البرهان؛ و قيل بالكراهة كما عن المعتبر و التذكرة و الدروس و الروض و كشف الالتباس و الذخيرة و جامع المقاصد و شرحي الجعفريّة؛ و قيل بتوقّفه على جميع ما عليها من، الأفعال كما نسب إلى ظاهر المقنعة و الاقتصاد و الجمل و العقود و الكافي و الإصباح و السرائر، بل عن المعتبر و التذكرة و الذكرى نسبته إلى ظاهر الأصحاب؛ و قيل بتوقّفه على الغسل و الوضوء كما عن ظاهر المبسوط؛ و قيل بتوقّفه على الغسل خاصّة كما عن الصدوقين، بل ربما احتمل تنزيل كلمات كثير منهم على هذا القول.

و استدلّ للجواز بعد الأصل و عمومات حلّ الأزواج و خصوص قوله «حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» بإطلاقات روايات:

منها صحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: إذا مكثت المرأة عشرة أيّام ترى الدم ثمّ طهرت فمكثت ثلاثة أيّام طاهرا ثمّ رأت الدم بعد ذلك

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 280

أ تمسك عن الصلاة؟ قال: لا، هذه مستحاضة، تغتسل و تستدخل قطنة بعد قطنة و تجمع بين صلوتين بغسل، و يأتيها زوجها إن أراد. «1» و الظاهر منها أنّ جواز الإتيان حكم فعليّ من أحكام المستحاضة، كما أنّ الجمع بين الصلاتين بغسل و استدخال القطنة أيضا من

أحكامها، و إطلاقها يقتضي الجواز بلا شرط.

و مثلها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر، و تصلّي الظهر و العصر- إلى أن قال- و لا بأس بأن يأتيها بعلها إذا شاء إلّا أيّام حيضها» «2» و الظاهر منها بقرينة الاستثناء أنّ جواز الإتيان من أحكام المستحاضة لا من أحكام الّتي فعلت الأفعال المذكورة، لبطلان الاستثناء لو أريد ذلك، مع أنّ جواز الوطء لا يكون معلّقا على جميع الأغسال الثلاثة بلا إشكال.

و منه يظهر الحال في صحيحة معاوية «و إن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت و دخلت المسجد و صلّت كلّ صلاة بوضوء، و هذه يأتيها بعلها إلّا في أيّام حيضها» «3» فإنّ الاستثناء قرينة على أنّ المشار إليها بهذه هي نفس المستحاضة القليلة لا من توضّأت لكلّ صلاة، و بهذا التقريب يقوى الإطلاق، و احتمال كون الحكم حيثيّا بعيد عن ظاهر الرواية و مساقها.

و قريب منها صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة عن مشيخة ابن محبوب، و موثّقة حفص بن غياث. و يمكن أن يستدلّ له بموثّقة فضيل و زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: المستحاضة تكفّ عن الصلاة أيّام أقرائها- إلى أن قال- و تجمع بين المغرب و العشاء بغسل، فإذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها أن يغشاها. «4»

فإنّ المراد بحلّيّة الصلاة هي المقابلة للحرمة الثابتة في أيّام أقرائها، فيكون المراد أنّ حلّيّة الوطء ملازمة لحلّيّة الصلاة، و لا إشكال في أنّه بعد أيّام

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 4.

(3) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 1.

(4) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 12.

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 281

الأقراء تحلّ لها الصلاة فعلا، و لا ينافي حلّيّتها اشتراط تحقّقها بأمور، فإنّ تلك الأمور ليست من شرائط الحلّيّة بل هي من شرائط تحقّق الصلاة، فالمرأة إذا خرجت من أيّامها صارت الصلاة واجبة عليها بالضرورة من غير توقّف على شي ء، و الصلاة الواجبة لا يمكن أن تكون محرّمة عليها، بل محلّلة و إن كانت مشروطة بالأغسال و الوضوءات و غير ذلك.

و منها يظهر الحال في موثّقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، و فيها: فإذا كان دما سائلا فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة ثمّ تصلّي صلوتين بغسل واحد. و كلّ شي ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها و لتطف بالبيت. «1» فإنّ الظاهر منها أنّ كلّ ما يستحلّ به الصلاة أي نفس الطبيعة يستحلّ به الوطء، و لا إشكال في أنّ الأغسال غير دخيلة في استحلال الصلاة حتّى الاستحلال الفعليّ للطبيعة، كما أنّ الستر و القبلة و غيرهما لا دخل لهما فيه، بل هي شرائط لتحقّقها. و لو أنكر ظهورها في ما ذكر فلا أقلّ من الاحتمال المسقط لاستدلال الخصم.

و في قبال تلك الروايات روايات:

منها رواية إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المستحاضة كيف تصنع؟- إلى أن قال- فإذا كان صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثمّ تصلّي ركعتين قبل الغداة، ثمّ تصلّي الغداة. قلت: يواقعها زوجها؟ قال: إذا طال بها ذلك فلتغتسل و لتتوضّأ ثمّ يواقعها إن أراد. «2» و لعلّها مستند الشيخ في ظاهر المبسوط، لكنّها مع ضعف سندها بالطيالسيّ و وهن متنها من حيث انفرادها في أمور- منها الأمر بصلاة ركعتين قبل الغداة، و منها تعليق جواز الوطء بطول المدّة

ممّا لم يقل به أحد، و منها الأمر بالتوضّؤ- لا يمكن الاتّكال عليها في تقييد المطلقات.

و منها رواية مالك بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عن المستحاضة كيف

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 8.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 15.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 282

يغشاها زوجها؟ قال: تنظر الأيّام الّتي كانت تحيض فيها و حيضتها مستقيمة، فلا يقربها في عدّة تلك الأيّام من ذلك الشهر، و يغشاها في ما سوى ذلك من الأيّام، و لا يغشاها حتّى يأمرها فتغتسل ثمّ يغشاها إن أراد. «1» و هي أيضا مخدوشة السند بمالك، و تصحيح العلّامة و الشهيد حديثا هو في سنده أعمّ من توثيق الرجل، و الروايات الّتي تدلّ على حسنه كلّها تنتهي إليه، و كيف يمكن الوثوق بحال الرجل من قول نفسه و نقله؟ و توصيف الرواية بالصحّة كما وقع من بعض متأخّري المتأخّرين غير وجيه و لو قلنا بوثاقة «الجهنيّ» لأنّ في سندها «الزبيريّ» و هو لا يخلو من كلام و إن كان الأصحّ وثاقته و وثاقة عليّ بن الحسن بن فضّال، فالرواية موثّقة مع الغضّ عن الجهنيّ و ضعيفة مع النظر إليه؛ و مخدوشة الدلالة باحتمال كون الغسل المأمور به هو غسل الحيض.

و ما يقال إنّ حمل الغسل على غسل الحيض بعيد، لأنّ ظاهرها توقّف الوطء مطلقا في غير تلك الأيّام على الغسل غير تام لمنع ظهورها في توقّف كلّ وطء على غسل، بل من المحتمل قريبا أن يكون مفادها أنّ الوطء مطلقا في ما سوى الأيّام متوقّف على صرف وجود الغسل، و هو غسل الحيض الّذي يجب عليها بعد أيّامها.

و تؤيّد هذا الاحتمال روايته الأخرى

بعين هذا السند، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها ثمّ تستظهر بيوم فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها، يأمرها فتغتسل ثمّ يغشاها إن أحبّ. «2» و هي ظاهرة في غسل النفاس، و وجه التأييد أنّ من المحتمل كونهما رواية واحدة سأل عن المستحاضة و النفساء، و حينئذ يكون الجواب في النفساء رافعا لإبهام الجواب عن المستحاضة على فرض إبهامه، تأمّل. و كيف كان فلا يمكن تقييد المطلقات بمثل هذه الرواية.

بقيت موثّقة سماعة، قال: قال: المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف- إلى

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 3، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 283

أن قال- و إن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل. «1» و التمسّك بها إمّا بمفهوم الشرط، و لا مفهوم له في المقام على فرض تسليمه في غيره، لأنّ مفهومه: إن لم يرد زوجها .. و لا إشكال في عدم إثباته المطلوب. و إمّا بمفهوم القيد، بأن يقال: إنّ جواز الإتيان حين الغسل، و في غير حينه لا يجوز. و هو كما ترى، حيث إنّ القيد لا مفهوم له أوّلا، و لا يعلم أنّ المقدّر ما ذا ثانيا، أي: إن أراد أن يأتيها فحين تغتسل يأتيها، أو حين تغتسل لا بأس بأن يأتيها. و الظاهر و إن كان الأوّل لكن لا يدلّ على حرمة الإتيان، لأنّ الأمر بالإتيان حين تغتسل، المستفاد من الجملة الخبريّة يحتمل أن يكون للاستحباب، فيدلّ على نفيه عند انتفاء القيد.

و الانصاف أنّ رفع اليد عن

الإطلاقات المتقدّمة بمثلها غير ممكن، بل لو قلنا بدلالة جميع الروايات على ما يدّعى من اعتبار القيود المأخوذة فيها فكان قوله «كلّ شي ء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها» دالّا على التعليق على جميع الأعمال، و كذا قوله «إذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها أن يغشاها» و رواية إسماعيل دالّة على اعتبار الغسل و الوضوء، و رواية مالك و سماعة دالّتين على الغسل فقط، و رواية الرضويّ على الغسل و تنظيف المحلّ كان الأرجح هو حملها على مراتب الكراهة أو الاستحباب لا التقييد بالأخصّ مضمونا، فإنّ الحمل الأوّل أوفق بنظر العرف و العقلاء، فتدبّر.

«الأمر الثامن» قالوا: إن أخلّت بالأغسال الّتي عليها لم يصحّ صومها.

و في الجواهر: من غير خلاف أجده فيه. و عن جامع المقاصد و الروض: الإجماع عليه، و عن المبسوط: هو الّذي رواه أصحابنا، و عن المدارك و الذخيرة و شرح المفاتيح: هو مذهب الأصحاب.

و الأصل فيه على الظاهر صحيحة عليّ بن مهزيار، قال كتبت إليه: امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أوّل يوم من شهر رمضان، ثمّ استحاضت فصلّت و صامت شهر رمضان كلّه من غير أن تعمل كما تعمله المستحاضة من الغسل لكلّ

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 284

صلوتين، هل يجوز صومها و صلوتها أم لا؟ فكتب: تقضي صومها و لا تقضي صلوتها، لأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك. و في رواية الكليني و الشيخ:

كان يأمر فاطمة و المؤمنات .. و الإشكال فيها بالإضمار في غير محلّه، بعد كون المكاتب مثل ابن مهزيار، كالإشكال باشتمالها على رؤية الصدّيقة الطاهرة ما تراه النساء، مع أنّه مخالف للأخبار. لعدم معلوميّة كونها

الصدّيقة و لعلّها فاطمة بنت أبي حبيش، و على فرض كونها الصدّيقة الطاهرة لعلّه كان يأمرها لتأمر النساء كما في بعض روايات الحيض، مع أنّ رواية الصدوق لا تشتمل على ذلك.

كالإشكال باشتمالها على ما هو خلاف مذهب الأصحاب من عدم قضاء الصلاة، و لهذا ربما يقال: لا ينبغي الارتياب في أنّ ما كتبه الإمام في الجواب إنّما هو لبيان حكم الحائض، كما يدلّ عليه قوله «و لا تقضي الصلاة» و قوله «لأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم كان يأمر- إلخ-» فإنّه كان يأمر بذلك بالنسبة إلى الحيض كما في أخباره. مع أنّه قضيّة فرضيّة لا يبعد عدم تحقّقه في الخارج، و الحمل على القضيّة التقديريّة بعيد. و ما يقال إنّ كون بعض فقرأت الرواية مطروحة لا يخرجها عن الحجيّة في ما عداها، جمود في مثل المورد، إذ لا نقول بحجّيّة الأخبار من باب السببيّة المحضة تعبّدا من حيث السند أو الدلالة حتّى نلتزم بمثل هذه التفكيكات، و إنّما نلتزم بعدم خروج بعض الفقرات من الحجّيّة بخروج بعض آخر إذا تطرّق احتمال خلل في الفقرة المطروحة يخصّها من نحو السقط و التحريف و التقيّة، و أمّا مثل هذه الرواية الّتي يشهد سوقها و تعليلها و مخالفة مدلولها للعامّة باشتراك الفقرتين في الاحتمالات المتطرّقة و عدم اختصاص ثانيتهما باحتمال يعتدّ به فالتفكيك في غاية الإشكال (انتهى).

و فيه أنّ نفي الارتياب عن كون الجواب عن الحيض في مكاتبة لا يكون المسئول عنه إلّا تكليف قضاء المستحاضة و النفساء صومهما و صلوتهما مع عدم الإتيان بالأغسال الّتي عليهما، في غاية الغرابة. و أغرب منه الاستدلال عليه بأنّ هذا تكليف الحائض و أنّ رسول اللّٰه صلّى

اللّٰه عليه و آله بحسب رواية أمر المؤمنات الحائضات بذلك،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 285

فإنّ ما ذكر لا يدلّ على أنّ الإمام عليه السّلام أجاب عن الحيض في جواب السؤال عن الاستحاضة، بل كون الحكم بالنسبة إلى الصلاة خلاف الواقع دليل على وجود خلل في الرواية، و لا يبعد أن يكون الخلل زيادة لفظة «لا» قبل «تقضي صلوتها» و أن يكون الصواب «تقضي صومها و تقضي صلوتها» و لمّا كان المعروف الوارد في روايات كثيرة أنّ الحائض تقضي صومها و لا تقضي صلوتها صار هذا الارتكاز و المعروفيّة سببا للاشتباه، فزاد بعض الرواة أو بعض النسّاخ ذلك. و هذا الخلل الجزئيّ في فقرة من الرواية لا يوجب رفع اليد عن الفقرة الأخرى المفتي بها، و لا ريب أنّ منشأ فتواهم هو هذه الصحيحة.

و أمّا ما استشهد به لمدّعاه من أنّه قضيّة فرضيّة لا يبعد عدم تحقّقها في الخارج، فلم يظهر وجهه، فإنّ النسيان و الجهل بالحكم خصوصا في النساء ليس أمرا حادثا في الأزمنة المتأخّرة و لا أمرا عزيزا. و أمّا ما ذكره أخيرا من أنّ التفكيك بين الفقرتين في مثل تلك الرواية في غاية الإشكال، فلم يتّضح وجهه، مع أنّ زيادة لفظه «لا» فيها خطاء و اشتباها غير بعيد مع الارتكاز المشار إليه آنفا، و ما ذكره دليلا على عدم إمكان التفكيك أوهن من أصل الدعوى.

و الانصاف أنّ رفع اليد عن رواية صحيحة واضحة الدلالة في فقرة منها لأجل خلل في فقرتها الأخرى مع اتّكال الأصحاب عليها قديما و حديثا غير ممكن. و أمّا الاحتمالات الّتي ذكرت في الرواية مما ينبو عنها الطبع السليم فلا ينبغي التعرّض لها؛ فالحكم

على إجماله ممّا لا إشكال فيه نصّا و فتوى.

و إنّما الكلام في أنّ صحّة صومها هل تتوقّف على جميع الأغسال حتّى غسل الليلة المستقبلة، أو تتوقّف على غير غسل الليلة المستقبلة، أو على الأغسال النهاريّة فقط، أو على غسل الليلة الماضية فقط، أو على غسل من الأغسال في الجملة؟ احتمالات و لبعضها وجه و قول. و لا يظهر من النصّ إلّا أنّ تركها للجميع موجب للقضاء، و أمّا أنّ السبب ترك المجموع أو الجميع أو غير ذلك فلا يعلم منه، كما أنّ ما في المتون مثل قوله في الشرائع «و إن أخلّت بالأغسال لم يصحّ صومها» و مثله ما في القواعد لم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 286

يظهر منه أنّ الإخلال بالمجموع أو الجميع يوجب ذلك. و يحتمل أن يكون مرادهم أنّ الإخلال بشي ء منها يوجبه، و إن يبعّده اختيار العلّامة- على ما عن التذكرة و المنتهى- و الشهيد- كما عن البيان و الذكرى- و بعض آخر التوقّف على الأغسال النهاريّة و التردّد في غسل الليلة الماضية بعد الحكم بعدم التوقّف على غسل الليلة المستقبلة.

ثم إنّ ما ذكر بالنسبة إلى الليلة المستقبلة وجيه لعدم انقداح مؤثّرية الأمر المتأخّر في المتقدّم في ذهن العرف من النصّ و معقد الإجماع المدّعى، فالنصّ و الفتوى منصرفان عنه، و لو لا تسلّمهم على توقّفه على النهاريّة و ترديدهم في غسل الليلة الماضية حيث يظهر منهم أنّ القدر المتيقّن هو النهاريّة لكان للإشكال في النهاريّة مجال و للذهاب إلى توقّفه على الغسل للعشاءين وجه. لكنّ الأوجه هو التوقّف على النهاريّة لكونها المتيقّنة ظاهرا، و يمكن أن يوجّه ذلك بأنّ المستفاد من النصّ و الفتوى حدثيّة

الاستحاضة الكبرى و منافاتها للصوم إجمالا، و احتمال التعبّد في غاية البعد و خلاف المتفاهم من النصّ، فحينئذ مع عدم الغسل يكون الخروج اختياريّا بلا عفو، و مع الغسل يكون معفوّا عنه، فلا محيص عن الأغسال النهاريّة لصحّته، كما يمكن الاستدلال لغسل الليلة الماضية بذلك. و كيف كان فلو تركت غسل العشاءين فالأحوط غسل لصلاة الفجر قبله أو للصوم قبله.

ثم إنّ ظاهر النصّ و الفتوى اختصاص الحكم بالكثيرة، و لهذا نقل عن ظاهر كثير من الفقهاء اختصاصه بها، فالمتوسّطة تحتاج إلى دليل. و يمكن التقريب المتقدّم فيها بعد البناء على كونها حدثا أكبر، بدعوى كون الحكم للحدث الأكبر و إن لم يخل عن تأمّل و إشكال.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 1، ص: 286

و الحمد لله تعالى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 287

المقصد الثالث في النفاس

اشارة

و الظاهر أنّه لا ثمرة معتدّا بها في تحصيل معناه اللغويّ أو العرفيّ، لعدم تعليق حكم في النصوص على هذا العنوان بنحو الإطلاق حتّى يكون العرف و اللغة مرجعا لتحصيله. بل الروايات الواردة في هذا الباب ظاهرة في ترتّب الأحكام على دم الولادة لا على نفسها، مضافا إلى بعد كون الولد بنفسه حدثا. بل الظاهر من روايات الباب و ارتكاز المتشرّعة أنّ الدم هو الحدث كما في دم الحيض و الاستحاضة. و بالجملة لو سلّم كون النفاس صادقا على نفس الولادة فلا دليل على كون مطلق النفاس موضوعا لحكم شرعيّ. فكما ذكرنا في باب الحيض أنّ الشارع المقدّس جعل صنفا خاصّا من دم الحيض موضوعا لحكمه و حدّده بحدود لا

يتجاوز عنها و لو علمنا بأنّ الخارج عنها يكون حيضا أيضا، فكذلك نقول في المقام إنّ المستفاد من النصوص و الفتاوى أنّ دم الولادة موضوع للأحكام الشرعيّة، فلو كان عنوان النفاس أعمّ منه فلا محالة يكون حاله حال الحيض أو شبيها به.

كما أنّ الأمر كذلك في جانب الأكثر، فإنّ دم النفاس لو صدق على الأكثر من العشرة أو ثمانية عشر كما هو الظاهر فلا إشكال في أنّ الحكم مترتّب على حدّ خاصّ هو العشرة أو ثمانية عشر على اختلاف فيه. فالزائد عن الحدّ و إن صدق عليه عنوان النفاس و دم الولادة لكنّ الأحكام لا تترتّب إلّا على المحدود بالحدّ الشرعيّ.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 288

و الحاصل أنّه لا دليل على ثبوت حكم لمطلق عنوان النفاس حتّى يلزم الفحص و التحقيق لعنوانه لغة و عرفا. و قوله «و غسل النفاس واجب» لا إطلاق فيه كما لا يخفى. و احتمال إطلاقها من حيث التعرّض في غسل الاستحاضة لخصوصيّات الكثيرة غير معتنى به بعد كونها في جميع الفقرات بصدد بيان أصل الوجوب. هذا مع أنّ تعليق الحكم في جميع الروايات على دم الولادة يوجب رفع اليد عن الإطلاق في رواية واحدة على فرض تسليمه.

و لكنّ الأشبه بنظر العرف أنّ النفاس هو دم الولادة من النفس بمعنى الدم، و لو أطلق على نفس الولادة كما أطلق «المنفوس» في بعض الروايات على المولود فلا يبعد أن يكون بضرب من التأوّل باعتبار خروج الدم معها، و كذا على تنفّس الرحم و لهذا نقل عن المطرزيّ أنّ اشتقاقه من تنفّس الرحم أو خروج النفس بمعنى الولد فليس بذاك.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لو خرج الطفل تامّا

و لم يخرج الدم لم يكن لها نفاس، فما عن الشافعيّ في أحد قوليه و أحمد في إحدى الروايتين من ثبوت الحكم لها ليس بشي ء.

نعم ربما يتوهّم من بعض الروايات أنّ الولادة موضوع الحكم، كموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة يصيبها الطلق أيّاما أو يوما أو يومين فترى الصفرة أو دما، قال: تصلّي ما لم تلد- إلخ- «1» و مثلها موثّقته الأخرى، و الظاهر أنّهما واحدة، وجه التوهّم أنّ المفهوم منها أنّها إذا ولدت لم تصلّ، فتكون الولادة تمام الموضوع لحرمة الصلاة.

و فيه ما لا يخفى فإنّ الظاهر منها أنّ رؤية الصفرة و الدم قبل الولادة لا توجب حرمة الصلاة دون بعدها، فحينئذ تدلّ الموثّقة على ما هو المشهور من أنّ الدم موضوع الحكم لا الولادة. و يشهد له خبر زريق بن الزبير الخلقانيّ عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام انّ رجلا سأله عن امرأة حامل رأت الدم، فقال: تدع الصلاة، قال: فإنّها رأت الدم

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 4، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 289

و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض، قال: تصلّي حتّى يخرج رأس الصبيّ، فإذا خرج رأسه لم يجب عليها الصلاة- إلى أن قال- ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟

قال: إنّ الحامل قذفت بدم الحيض، و هذه قذفت بدم المخاض إلى أن يخرج بعض الولد، فعند ذلك يصير دم النفاس، فيجب أن تدع في النفاس و الحيض، فأمّا ما لم يكن حيضا أو نفاسا فإنّما ذلك من فتق الرحم. «1» حيث علّق الحكم على الدم الخارج مع خروج رأس الطفل، فيظهر منها أنّ الموضوع للحكم

هو الدم لا خروج رأس الولد، كما يتّضح ذلك بالتأمّل فيها. فلا إشكال في المسألة من هذه الجهة. و كيف كان فيتمّ المقصد بذكر مسائل:

المسألة الأولى لو رأت دما قبل الأخذ في الولادة

و ظهور شي ء من الولد لم يكن نفاسا و إن كان بعد الطلق بلا خلاف، كما عن الخلاف و كشف الرموز و التنقيح و جامع المقاصد و شرحي الجعفريّة و غيرها، بل عن المختلف و التذكرة و المدارك و حاشية الإرشاد الإجماع عليه. و تدلّ عليه أيضا موثّقة عمّار بن موسى و رواية رزيق الخلقانيّ المتقدّمتان، فلا إشكال في ذلك.

إنّما الإشكال في أنّه على تقدير جامعيّته لشرائط الحيض من غير تحقّق فصل أقلّ الطهر بينه و بين دم النفاس يحكم بحيضيّته بدعوى عدم اعتبار أقلّ الطهر بينه و بين النفاس المتأخّر، أو لا باعتبار اشتراط ذلك؟ و مورد الكلام ما إذا لم يكن مانع من جعله حيضا إلّا عدم فصل أقلّ الطهر، كأن رأت ثلاثة أيّام في أيّام العادة أو جامعا للصفات أو في زمان إمكانه، و رأت الطهر تسعة أيّام فرأت دم الولادة، فبعد قيام النصّ و الإجماع على كون دم الولادة نفاسا دار الأمر بين حيضيّة الدم السابق و كونه استحاضة بعد البناء على اجتماع الحيض و الحمل كما هو الأقوى، فدعوى وفاق الخلاف المبتنية على عدم اجتماعهما ليست وجيهة في ردّ ما نحن فيه.

و كيف كان فلا بدّ في المقام من بسط الكلام في أمرين: أحدهما في ما يتشبّث به للزوم الفصل بأقلّ الطهر؛ و ثانيهما بعد الفراغ فرضا عن عدم الدليل على الاشتراط

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 17.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 290

في أنّه هل يكفي ذلك في

الحكم بالحيضيّة بواسطة قاعدة الإمكان لو تمّت أو أمارات الحيض، أو لا بدّ فيه من إحراز عدم الاشتراط؟ فنقول:

استدل على الاشتراط بإطلاق مرسلة يونس القصيرة و صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا يكون القرء في أقلّ من عشرة أيّام فما زاد، و أقلّ ما يكون عشرة من حين تطهر إلى أن ترى الدم. «1» و فيهما إشكال: أمّا المرسلة ففيه مضافا إلى الإشكالات المتقدّمة في محلّها عليها أنّ سوقها يشهد بأنّ الطهر الّذي فيه هو الّذي يكون لاختزان الدم لأجل القذف في وقته، فإنّ قوله «أدنى الطهر عشرة أيّام» لا يناسب قوله «و ذلك أنّ المرأة أوّل ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم- إلخ-» إلّا باعتبار أنّ أدنى ما يمكن اختزان الدم فيه بحسب النوع و بحسب الأمزجة المتعارفة هو عشرة أيّام، ففي تلك العشرة يجتمع الدم في الرحم فتقذفه عشرة أيّام في أوائل الأمر و كثرة الدم، و أقلّ منها كلّما كبرت إلى ثلاثة أيّام.

و بالجملة إنّما يكون أدنى الطهر عشرة أيّام لأنّها أقلّ زمان يمكن فيه اختزان الدم للقذف عشرة أيّام أو أقلّ بحسب اختلاف سني العمر، فلا يكون فيه إطلاق لمطلق الطهر سواء كان بين الحيضين أو لا، بل و لا لمطلق الحيضين أيضا إلّا ما يكون الطهر طهر الاختزان و الادّخار.

و منه يظهر أنّه لا إطلاق في قوله في ذيلها «و لا يكون الطهر أقلّ من عشرة أيّام» ضرورة أنّه لا يزيد على ما في الصدر، مع أنّ كون المرسلة صدرا و ذيلا في مقام بيان الحيض يمنع عن استفادة الإطلاق، كما يظهر بالتأمّل فيها.

و اما صحيحة ابن مسلم فلأنّ كون القرء بمعنى مطلق الطهر غير

ثابت و إن ورد في كتب اللغة أنّه من الأضداد فيطلق على الطهر و الحيض، فإنّ الظاهر أنّه لا إطلاق لكلام أهل اللغة حتّى يستفاد منه إطلاقه على مطلق الطهر، بل من المحتمل أن يكون إطلاق القرء على الطهر لأجل اجتماع الدم و اختزانه في تلك الأيّام للقذف في وقته، و أمّا إذا كان الاختزان بسبب آخر ككونه لأجل رزق الولد فلا تدلّ عليه،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 11، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 291

و لا يستفاد حكمه منها.

و بالجملة القدر المتيقّن من القرء هو الطهر الخاصّ لا مطلقا، و لا دليل على إطلاقه على مطلق الطهر، فلا يمكن التشبّث بها لذلك. و يشعر بذلك قوله «لا يكون القرء في أقلّ من عشرة» بتخلّل لفظة «في» و لو كان القرء هو الطهر كان حقّ العبارة أن يقال: لا يكون القرء أقلّ .. بخلاف ما إذا كان بمعنى جمع الدم، فإنّ المناسب هو تخلّلها كما لا يخفى، تأمّل.

و إن قيل: إنّ الأدلّة قد دلّت على أنّ النفاس حيض محتبس، و أنّ النفساء كالحائض، فيتحقّق موضوع ما دلّ على أنّ الطهر بين الحيضتين لا يكون أقلّ من عشرة لو سلّم اختصاصها بذلك. يجاب عنه بمنع الصغرى أوّلا لعدم ما يدلّ على أنه حيض محتبس، نعم في رواية مقرن عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: قال: سأل سلمان- رحمه اللّٰه- عليّا عليه السّلام عن رزق الولد في بطن أمّه، فقال: إنّ اللّٰه تبارك و تعالى حبس عليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن أمّه. «1» و في صحيحة سليمان بن خالد: قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: جعلت فداك، الحبلى ربما طمثت؟ قال:

نعم، و ذلك أنّ الولد في بطن أمّه غذاؤه الدم، فربما كثر ففضل عنه، فإذا فضل دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة. «2»

و هما كما ترى لا تدلّان على أنّ النفاس حيض محتبس، بل الاولى تدلّ على أنّ الحيض محتبس لأجل رزق الولد من غير تعرّض للنفاس و أنّه حيض محتبس، و لم لا يجوز أن يكون النفاس دما غير الحيض موضوعا أو حكما، و أنّ الرحم بابتلائها بالولد و خروجه عنها تقذف دما غيره؟ كما هو الظاهر من مقابلته بدم الحيض في النصّ و الفتوى، و لا أقلّ من كون حكمه غير حكم الحيض. و مجرّد اشتراكهما في بعض الأحكام لا يوجب وحدتهما ذاتا، لو لم نقل بأنّ اختلافهما في بعض الأحكام دليل على اختلافهما في الموضوع، كما أنّ الجنابة أيضا مشتركة معه في كثير من الأحكام. و

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 13.

(2) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 292

أهون منها دلالة الرواية الثانية، فإنّ مفادها فضول دم الحيض عن غذاء الولد و قذفه في زمان الحمل، فلا ربط له بما نحن فيه. كما أنّ ما دلّ على لزوم قعود النساء بمقدار أيّام العادة لا تدلّ على كون دم النفاس عين دم الحيض، لو لم يدلّ على خلافه بأن يقال: إنّه لو كان دم الحيض كان عليها القعود أيّام العادة لا بعد رؤية الدم بمقدارها كما هو مفاد الروايات، تأمّل.

و بمنع الكبرى ثانيا، بدعوى أنّه بعد تسليم كون النفاس حيضا محتبسا لكن لا دليل على أنّ الطهر بين الحيضين مطلقا لا يكون أقلّ من عشرة أيّام، بل المتيقّن من الروايتين بالبيان

المتقدّم أنّ الطهر الّذي يكون منشأ لاختزان الدم و اجتماعه لا يكون أقلّ، و عدم أقلّيّته لأجل كون ذلك المقدار من الزمان صالحا لجمعه و اختزانه، و أمّا إذا كان الاختزان بسبب آخر فلا، فتدبّر.

و اما قضيّة أنّ النفساء كالحائض في جميع الأحكام، فإن استدلّ عليه بصحيحة زرارة «قال: قلت له: النفساء متى تصلّي؟- إلى أن قال- قلت: و الحائض؟ قال:

مثل ذلك سواء، فإن انقطع عنها الدم فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء» «1» ففيه أنّها بصدد بيان كون الحائض كالنفساء في الحكم المذكور فيها لا في جميع الأحكام.

و إن استدلّ عليه بالإجماع أو بعدم الخلاف فنفس هذه المسألة خلافيّة، و قد مرّ حال دعوى الخلاف نفي الخلاف فيها. مضافا إلى احتمال استفادة المجمعين من الأدلّة التسوية، و هي غير تامّة الدلالة عندنا.

و اما الاستدلال على المسألة بإطلاق موثّقة عمّار و رواية رزيق ففيه ما لا يخفى فإنّ في موثّقة عمّار الاولى قد فرّع رؤية الصفرة أو الدم على الطلق فقال: «فرأت صفرة أو دما» و يظهر منه أنّ رؤيتهما من حصول الطلق، بل يمكن أن يقال: إنّ رؤية الدم بعد الطلق أمارة عقلائية على كونها منه لا من شي ء آخر، و لهذا قال في رواية الخلقانيّ بعد قوله «ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟»: «إنّ الحامل قذفت بدم الحيض و هذه قذفت بدم المخاض» مع عدم دليل على كونه منه إلّا رؤيتها بعده،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 293

فالجزم بكونه منه دليل على الأماريّة. و منه يظهر حال موثّقة عمّار الثانية، بل هما رواية واحدة نقلها الشيخان مع اختلاف يسير.

كما أن

الاستدلال بصحيحة عبد اللّٰه بن المغيرة عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام في امرأة نفست فتركت الصلاة ثلاثين يوما ثمّ طهرت ثمّ رأت الدم بعد ذلك، قال:

تدع الصلاة لأنّ أيّامها أيّام الطهر قد جازت مع أيّام النفاس. «1» بدعوى إلغاء الخصوصيّة بين النفاس المتقدّم و المتأخّر أو الإجماع على عدم الفصل أو كون ذلك قرينة على إطلاق مرسلة يونس و صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمتين غير وجيه لأنّ الخصوصيّة بينهما غير ممكنة الإلغاء، للفرق بين المتقدّم و المتأخّر، فإنّ في النفاس المتقدّم يكون مرور الأيّام موجبا لاختزان الدم للقذف المتأخّر، بخلاف المتأخّر، فإنّ الاختزان بسبب الولد، و يكون خروجه بعد رفعه للولد، تأمّل. و لا إجماع على عدم الفصل بعد كون الفرق بينهما مفتى به، و لا قرينيّة لذلك على إطلاق الروايتين بعد ما مرّ من عدم إطلاقهما.

ثمّ إنّ ما مرّ من الأدلّة قاصرة عن إثبات اشتراط الفصل، و أمّا عدم الاشتراط فليس في شي ء منها، فحينئذ يمكن أن يقال: كما لا دليل على الاشتراط لا دليل على نفيه، فتكون الشبهة حكميّة، و لا يمكن التمسّك في رفعها بأدلّة أمارات الحيض و لا إطلاق أدلّة الأحكام، أمّا الاولى فلأنّ سوق أدلّة الأمارات عادة كانت أو صفة إنّما هو في الشبهة الموضوعيّة، و لا تدفع بها الشبهة الحكميّة. و أمّا التمسّك بإطلاق أدلّة الأحكام فهو تمسّك به في الشبهة المصداقيّة للشكّ في كون الدم حيضا. نعم، يمكن أن تدفع الشبهة الحكميّة بأصالة عدم الاشتراط المعلوم قبل جعل الشرع، و لا يلزم فيها الأثر بعد كونه حكما شرعيّا، فحينئذ تندفع الشبهة الحكميّة و تبقى الشبهة الموضوعيّة، فيرجع إلى الأمارات في إثبات الحيضيّة. و أمّا قاعدة الإمكان فقد

مرّ ما فيها.

هذا كله في الدم المتقدّم على الولادة، و أمّا الدم عقيب تمام الولادة فلا إشكال

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 5، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 294

في كونه نفاسا نصّا و فتوى. إنّما الكلام في الدم المقارن لها، فعن المشهور كونه نفاسا، ففي الجواهر: المشهور نقلا و تحصيلا أنّه كذلك، و عن الخلاف أنّ ما يخرج مع الولد عندنا يكون نفاسا، و اختلف أصحاب الشافعيّ. و هو يشعر بعدم الخلاف في المسألة، و لهذا حملت العبارات الموهمة للخلاف كما عن ظاهر السيّد و جمل الشيخ و الغنية و الكافي و الوسيلة و الجامع على ما لا ينافي ذلك.

و تدلّ عليه رواية الخلقانيّ، قال فيها: إنّ الحامل قذفت بدم الحيض و هذه قذفت بدم المخاض إلى أن يخرج بعض الولد، فعند ذلك يصير دم النفاس. و رواية السكونيّ عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع حبل. يعني إذا رأت المرأة الدم و هي حامل لا تدع الصلاة، إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة. «1» و لا إشكال فيها من حيث السند على الأصحّ.

و احتمال كون التفسير من السكونيّ بعيد بل فاسد، فإنّ ما ذكر ليس تفسير العبارة المنقولة عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لأنّ الاستثناء فيه أمر زائد عليها و لا يكون تفسيرها فهو إمّا من اجتهاده، و هو مع غاية بعده مخالف لقوله «يعني» و إمّا من أبي عبد اللّٰه أو أبي جعفر عليهما السلام و هو غير بعيد منهما

لاطّلاعهما على الأحكام و على تفسير ما ورد عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله زائدا على الأفهام العامّة كما ورد منهما نظائره.

و يشهد لما ذكرنا ورود هذه الرواية بعينها مع اختلاف يسير في الألفاظ بدون كلمة «يعني» في الجعفريّات عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ما كان اللّٰه عزّ و جلّ ليجعل حيضها مع حمل، فإذا رأت المرأة الدم و هي حبلى فلا تدع الصلاة، إلّا أن ترى الدم على رأس ولادتها، إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة «2». و هي كما ترى عين تلك الرواية، و الظاهر أنّ قوله «رأس ولادتها» من أغلاط النسخ، و الصحيح: على رأس ولدها، أو وليدتها. و هذه الرواية توجب الوثوق بأنّ التفسير

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 12.

(2) مستدرك الوسائل: أبواب الحيض، ب 25، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 295

في رواية السكونيّ ليس منه، فتصير حجّة معتبرة، مع احتمال اعتبار الجعفريّات في نفسها، و يطول الكلام بذكر سندها و البحث عن رجاله. و أمّا مطروحيّة صدرهما فلا تضرّ بالعمل بذيلهما، خصوصا مع كون الاستثناء الواقع في الذيل زائدا على أصل الحكم و يكون حكما مستقلا.

هذا مع قوّة احتمال صدق النفاس على الدم المقارن للولادة، بل يمكن أن يقال بصدقه على ما حصل قبل الولادة إذا كان من مقدّماتها، لأنّ دم الولادة على فرض كونه نفاسا لغة يصدق على كلّ دم يرتبط بالولادة، سواء كان قبلها و من مقدّماتها أو معها أو بعدها، و إنّما خرجنا عمّا قبل الولادة لقيام الدليل، فلو نوقش في المتقدّم فلا ينبغي المناقشة في المصاحب،

بل لعلّ صدقه عليه أولى منه على المتأخّر، تأمّل.

و كيف كان فيظهر من مجموع ما ذكر أنّ الدم المصاحب نفاس، فيجب التصرّف في موثّقة عمّار، و إن كان الظاهر منها أنّ الغاية لوجوب الصلاة عليها حصول الولادة باعتبار تصدير المضارع بلفظة «لم» الموجب لنقل المعنى إلى المضيّ، لكنّ التصرّف فيها أوهن من رفع اليد عن جميع ما تقدّم كما لا يخفى على المنصف.

ثم إنّ مقتضى الجمود على عبارة اللغويّين و على الروايات في الباب هو عدم الحكم بنفاسيّة الدم الخارج مع المضغة فضلا عن الخارج مع العلقة أو النطفة المستقرّة لعدم صدق الولادة إلّا مع صدق الولد على الخارج، فالولادة و الولد و المولود من المتضايفات الّتي لا يصدق واحد منها على موضوعه إلّا مع صدق غيره على موضوعه.

لكنّه جمود غير وجيه لدى العرف، فإنّ الظاهر أنّ نظر أهل اللغة من كون النفاس دم الولادة ليس إلى ما ذكر بحيث يكون دم النفاس دائرا مدار صدق عنوان الولد حتّى يكون الدم الخارج مع المضغة الّتي تصير متشكّلة بصورة آدميّ بعد يومين غير دم النفاس ثمّ يصير بعد اليومين دمه.

و الظاهر أنّ الروايات المشعرة بكون النفاس دم الولادة أيضا لا يستفاد منها اعتبار صدق الولادة بالمعنى المتقدّم، و لهذا ترى تسالم الفقهاء على نفاسيّة ما خرج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 296

عقيب ما كان منشأ آدميّ، فعن التذكرة و شرح الجعفريّة الإجماع على نفاسيّة الدم إذا ولدت علقة أو مضغة بعد شهادة القوابل بذلك أو العلم به، و علّله في التذكرة بأنّه دم جاء عقيب حمل. و إنكار بعضهم ذلك معلّلا بعدم العلم بكونه مبدأ نشوء آدميّ يدلّ على أنّ الإنكار

لأجل الشكّ في الموضوع، و لهذا حكي عن المنتهى:

لو وضعت شيئا تبيّن فيه خلق الإنسان فرأت الدم فهو نفاس إجماعا. و الظاهر أنّ مراده من تبيّن خلق الإنسان فيه أنّه علم كونه مبدأ خلقه، لا أنّه ظهر فيه خلقه بحصول الصورة الإنسانيّة فيه، بقرينة دعواه الإجماع على العلقة و المضغة، و لأنّه ليس الإنسان بعد تماميّة خلقه موضوعا للبحث و الجدال، فإنكار بعض المتأخّرين نفاسيّة ذلك كأنّه ليس في محلّه. بل الظاهر نفاسيّة ما خرج مع النطفة إذا علم أنّها كانت مستقرّة في الرحم لنشوء آدميّ، لعدم الفرق بينها و بين العلقة بل المضغة في الإبرام و الإنكار.

المسألة الثانية لا حدّ لأقلّ النفاس

إجماعا عن الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهى و التذكرة و الذكرى و كشف الالتباس، و عن جامع المقاصد و شرحي الجعفريّة: لا خلاف فيه بين أحد من الأصحاب، و عن المدارك و شرح المفاتيح: هو مذهب علمائنا و أكثر العامّة.

و يدلّ عليه بعد ذلك خبر رزيق «1» بن الزبير المتقدّم، لإطلاق قوله «فإذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة» الظاهر في أنّها إذا رأت الدم بعد خروج رأسه ..

بمناسبة صدره و ذيله، و إطلاقه يقتضي عدم وجوبها عليها و لو رأت لحظة، و لقوله «و هذه قذفت بدم المخاض إلى أن يخرج بعض الولد، فعند ذلك يصير دم النفاس، فيجب أن تدع في النفاس و الحيض. فإنّ قوله «يصير دم النفاس» ظاهر في أنّ الدم المرئيّ بعد ظهور الولد نفاس، و هو بمنزلة الصغرى لقوله «فيجب أن تدع في النفاس و الحيض» فعلّق الحكم على عنوان النفاس و عيّن الصغرى بقوله «يصير دم

______________________________

(1) بتقديم المهملة على المعجمة، و عن نسخة صحيحة من الكافي بتقديم

المعجمة، و بين أصحاب الرجال في ضبطه خلاف.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 297

النفاس» فيظهر منه أنّ دم النفاس مطلقا موجب لعدم وجوب الصلاة عليها، و هو المطلوب، و ليس في الروايات ما علّق الحكم على دم النفاس إلّا ذلك. و هو و إن كان ضعيف السند لكن لا يبعد أن يكون مستند الأصحاب فيجبر سنده و إن لم يخل عن التأمّل.

و يدلّ عليه إطلاق قويّة السكونيّ، و قد تقدّم الكلام فيها، و إن أمكن المناقشة في إطلاقها.

و اما الاستدلال بموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في المرأة يصيبها الطلق أيّاما أو يوما أو يومين فترى الصفرة أو دما، قال: تصلّي ما لم تلد- إلخ- بدعوى أنّ جعل الغاية للصلاة عدم الولادة يدلّ على أنّ الولادة مع رؤية الدم أو الصفرة مطلقا موضوع لقطع وجوب الصلاة، أو بدعوى أنّ إطلاق المفهوم يقتضي ذلك.

ففيه ما لا يخفى، ضرورة أنّ الظاهر منها أنّه بصدد بيان المغيّى و أنّه تجب عليها الصلاة قبل الولادة و لا يكون في مقام بيان حكم المفهوم حتّى يؤخذ بإطلاقه فتدلّ الرواية على ثبوت الصلاة مطلقا ما لم تلد لا على سقوطها مطلقا لدى الولادة، و لعلّه مشروط بشرط آخر.

كما ان الاستدلال بصحيحة عليّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن الماضي عليه السّلام عن النفساء و كم يجب عليها ترك الصلاة؟ قال: تدع الصلاة ما دامت ترى الدم العبيط إلى ثلاثين يوما- إلخ- «1» بدعوى تعليق الحكم على رؤية الدم العبيط، فإطلاقه يقتضي نفاسيّة الدم و لو لحظة في غير محله ضرورة أنّ السؤال و الجواب إنّما هو عن جانب الأكثر، فهي بصدد بيان حدّه

في ذاك الطرف لا في طرف القلّة، مع وهنها بموافقة العامّة و مخالفة الشهرة.

و منها يظهر الحال في رواية ليث المراديّ مع ضعف سندها، فعمدة المستند الإجماع و رواية الخلقانيّ. و قد يستدلّ عليه بإناطة الأحكام بالمسمّى الصادق على

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 16.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 298

القليل و الكثير، و فيه أنّه ليس في الأخبار على كثرتها ما أنيط فيه حكم بالمسمّى بنحو الإطلاق غير رواية الخلقانيّ المتقدّمة، و قد ذكرنا إهمال قوله «غسل النفساء واجب».

المسألة الثالثة لا إشكال في أنّ للنفاس في جانب الكثرة حدّا،

فما في رواية المراديّ من نفي الحدّ له الظاهر في نفيه في الجانب الأكثر- مع ضعف سندها بأبي جميلة الضعيف الّذي قالوا فيه إنّه كذّاب يضع الحديث؛ و بمجهوليّة أحمد بن عبدوس- مطروح أو مؤوّل، كمرسلة المقنع. و قد وقع الخلاف في حدّ الأكثر، فعن المشهور أنّ أكثره عشرة، و قد حكيت الشهرة عن التذكرة و الذكرى و كشف الالتباس و جامع المقاصد و فوائد الشرائع و شرح الجعفريّة و الروضة، و عن الجعفريّة أنّه الأشهر، و عن المبسوط و كشف اللثام أنّه مذهب الأكثر، و عن موضع من الذكرى أنّه مذهب الأصحاب، و عن كشف الرموز أنّه الأظهر بين الأصحاب، و عن الخلاف و الغنية الإجماع عليه.

و لا يبعد أن لا يكون مراد المشهور أنّ العشرة حدّ قعود النساء في النفاس مطلقا بل مرادهم أنّه لا يتجاوز نفاس عن عشرة أيّام، كما أنّ قولهم في الحيض أنّ أكثره عشرة أيّام هو ذلك، و لا ينافي ذلك وجوب رجوع بعض النفساوات إلى غير العشرة كذات العادة مع تجاوز دمها عنها، فإنّ الرجوع إلى العادة حكم ظاهريّ و لا تكون

أيّام العادة حدّا للنفاس، و لا يبعد أن يكون مرادهم من أنّ الحدّ له عشرة أيّام هو الحدّ للنفاس واقعا، و اتّكلوا في حكم ذات العادة على ما قالوا من أنّ حكم النفساء حكم الحائض مطلقا إلّا ما استثني، و إطلاق كلام بعضهم أنّ النفساء تقعد عشرة أيّام إلّا أن تطهر قبل ذلك لا ينافي رجوع ذات العادة إلى عادتها مع التجاوز، لإمكان كون المراد أنّها تقعد إلى عشرة أيّام استظهارا.

و بالجملة كون الحدّ الواقعيّ عشرة أيّام لا ينافي رجوع ذات العادة مع استمرار دمها و تجاوزه عن العشرة إلى عادتها، فإنّه حكم ظاهريّ لا حدّ واقعيّ، فما عن الشهيد في الذكرى أنّ الأخبار الصحيحة المشهورة تشهد برجوعها إلى عادتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 299

في الحيض و الأصحاب يفتون بالعشرة و بينهما تناف ظاهر، ليس بوجيه. و عن المحقّق في المعتبر اختيار عشرة أيّام مطلقا حتّى في ذات العادة، قال: لا ترجع النفساء مع تجاوز الدم إلى عادتها في النفاس، و لا إلى عادتها في الحيض، و لا إلى عادة نسائها، بل تجعل عشرة نفاسا و ما زاد استحاضة حتّى تستوفي عشرة أيّام، و هي أقلّ الطهر (انتهى) و لا يخفى أنّ قوله ليس مخالفا للقوم في حدّ النفاس، بل مخالف لهم في رجوع ذات العادة إلى عادتها.

و عن جملة من كتب الأصحاب ثمانية عشر مطلقا كالفقيه و الانتصار قائلا: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ أكثر النفاس مع الاستظهار التامّ ثمانية عشر يوما. و الظاهر أنّه ليس اختيار ثمانية عشر يوما، لأنّ أيّام الاستظهار ليس أيّام النفاس بيقين، نعم يظهر منه إمكانه إلى ثمانية عشر يوما. و

عن المراسم و المختلف و ظاهر الهداية، و عن أبي عليّ و الأمالي و جمل السيّد. و حكي تقريبه إلى الصواب عن المنتهى، و استحسانه عن التنقيح، و نفي البعد عنه عن مجمع الفائدة و البرهان.

و عن العلّامة في المختلف التفصيل بين ذات العادة و غيرها و أنّها ترجع إلى عادتها في الحيض إن كانت ذات عادة في الحيض، و إن كانت مبتدئة صبرت ثمانية عشر يوما. و الظاهر أنّ غير مستقرّة العادة حكمها عنده كالمبتدئة كما يظهر بالتأمّل في عبارة المختلف، و صرّح بالتسوية في القواعد، و عن المقداد استحسانه، و نقل ميل بعض متأخّري المتأخّرين إليه. و يظهر ممّا مرّ آنفا أنّ هذا ليس تفصيلا في المسألة، فإنّ رجوع ذات العادة إلى عادتها حكم ظاهريّ، و لا قولا مخالفا للمشهور كما نفينا عند البعد. و عن العمانيّ أنّ أكثره أحد و عشرون يوما، و الظاهر منه أنّه حدّ إمكانه؛ و عن المفيد أنّه أحد عشر يوما. و عن الفقه الرضويّ: النفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيّام حيضة، و هي عشرة أيّام، و تستظهر بثلاثة أيّام ثمّ تغتسل، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة.

و قد روي ثمانية عشر يوما، و روي ثلاث و عشرين «1» يوما، و بأي هذه الأحاديث

______________________________

(1) و عشرون (ظ)

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 300

أخذ من جهة التسليم جاز «1» (انتهى) و أمثال هذه العبارة من فقه الرضا شاهدة على أنّ هذا الكتاب من تصنيف بعض العلماء لا كتاب مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام.

و كيف كان فمنشأ اختلاف الآراء هو اختلاف الأخبار و اختلاف أنظارهم في فهمها و الجمع بين شتاتها؛ لأنّ الأخبار

على طوائف:

منها ما وردت في ذات العادة فأرجعتها إلى عادتها و الاستظهار بعدها بيوم أو يومين أو زائدا، و هي أسدّ الروايات سندا و أوضحها دلالة. كصحيحة زرارة قال: قلت له: النفساء متى تصلّي؟ فقال: تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإذا انقطع الدم و إلّا اغتسلت و احتشت- إلى أن قال- قلت: و الحائض؟ قال: مثل ذلك سواء؛ فإن انقطع عنها الدم و إلّا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء- إلخ- «2».

و هذه الصحيحة و إن لم يستفد منها أنّ النفساء في جميع الأحكام كما مرّ لكن يستفاد منها سوائيّتهما في هذا الحكم المذكور فيها من القعود بقدر أيّام الحيض و الاستظهار ثمّ عمل المستحاضة، و قد تقدّم في الحيض عدم كونه أكثر من عشرة، و إنّما الاستظهار إلى العشرة لأجل احتمال الانقطاع إليها و كون المجموع حيضا و التجاوز عنها و كون الزائد على أيّام العادة استحاضة، و لمّا لم يكن الأمر معلوما أمرت بالاستظهار تغليبا لجانب الحيض. و كيف كان فيتّضح من الصحيحة سوائيّة الحائض و النفساء في الرجوع إلى العادة و الاستظهار و عمل الاستحاضة، و كما أنّ في الحيض يحكم بعدم تجاوزه عن العشرة فكذلك في النفاس، لما ذكر و لما يفهم من شدّة المناسبة بينهما من الصحيحة و غيرها ممّا يأتي.

و كصحيحة أخرى له عن أحدهما عليه السّلام قال: النفساء تكفّ عن الصلاة أيّامها الّتي تمكث فيها، ثمّ تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة. «3» و صحيحة يونس

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: أبواب النفاس، ب 1، ح 1.

(2) الوسائل: أبواب الاستحاضة، ب 1، ح 5.

(3) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص:

301

بن يعقوب، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر ممّا كانت ترى، قال: فلتقعد أيّام قرئها الّتي كانت تجلس، ثمّ تستظهر بعشرة أيّام. «1» و المراد بعشرة أيّام من يوم رأت الدم، أي إلى عشرة من أوّل أيّام القعود بقرينة سائر الروايات و ورود مثلها بعين السند في الحيض أيضا. و الحمل على عشرة من بعد أيّام العادة في الّتي عادتها ثمانية مع فساده في نفسه لا ينطبق على رأي من قال بكون النفاس ثمانية عشر يوما، لأنّ الاستظهار ينافي الجزم بكون الدم نفاسا.

و المراد من القعود أيّام العادة هو بقدر أيّام العادة من حين وضعت في الدورة الاولى بشهادة حسنة مالك بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها، ثمّ تستظهر بيوم، فلا بأس بعد أن يغشاها- إلخ- «2» إلى غير ذلك.

و هذه الطائفة المشتملة على الصحاح ممّا استدلّ به لمذهب المشهور بدعوى استفادة شدّة المناسبة بين النفاس و الحيض بحيث يفهم منها أنّها بعد الاستظهار إلى عشرة أيّام مستحاضة كما قلنا في الحيض، فيستفاد منه أنّ أكثره كأكثر الحيض عشرة أيّام.

و فيه أنّ تلك الروايات كروايات الاستظهار في باب الحيض لا يستفاد منها إلّا الرجوع إلى العادة و الاستظهار ثمّ العمل بما تعمل المستحاضة، من غير تعرّض فيها لحدّ الحيض و النفاس بحسب الواقع. بل المستفاد من تلك الروايات إمكان كون النفاس أكثر من عشرة أيّام، لأنّ إطلاق ما دلّ على الاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام شامل لمن كانت عادتها عشرة أيّام

أو تسعة أو ثمانية، و من كانت عادتها عشرة أيّام يكون حكمها الاستظهار بيوم إلى ثلاثة أيّام، فيثبت به أنّ النفاس ممكن إلى ثلاثة عشر يوما.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 3.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 7، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 302

و كذا إطلاق موثّقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام الحاكمة بالاستظهار بمثل ثلثي أيّامها شاهد على إمكانه إلى سبعة عشر يوما تقريبا، كما أنّ ظاهر صحيحة يونس بن يعقوب الحاكمة بالاستظهار بعشرة أيّام هو إمكانه إلى عشرين يوما. و إنّما خرجنا عن إطلاق أدلّة الاستظهار في الحيض لأجل ورود نصوص مستفيضة مفتى بها بين الأصحاب بأنّ أكثر الحيض عشرة أيّام، و لو لم ترد تلك النصوص فيه لم تدلّ أدلّة الاستظهار على أنّ حدّة عشرة أيّام، بل مقتضى إطلاقها و شمولها للمعتادة عشرة أيّام، إمكان استمرار الحيض إلى ثلاثة عشر يوما، بل مقتضى ظهور رواية يونس بن يعقوب الواردة في الحيض بعين السند في النفاس الحاكمة بالاستظهار بعشرة أيّام، إمكانه إلى عشرين يوما. و إنّما قلنا برفع الاستظهار بعد العشرة من أوّل العادة و عدم الاستظهار في من كانت عادتها عشرة أيّام و عدم الاستظهار بيومين في من كانت عادتها تسعة أيّام و هكذا للأدلّة الدالّة على تحديد أكثر الحيض.

و الانصاف أنّه لو لم يكن في المقام دليل على تحديد النفاس لكانت تلك الأدلّة الواردة في الاستظهار فيه من أقوى الشواهد على عدم تحديده بعشرة أيّام، بل من الأدلّة الدالّة على ثمانية عشر بعد تقييد ما دلّ على الزائد عليها بالإجماع على عدم الزيادة عليها. فلا بدّ من التماس دليل على التحديد حتّى

نرفع اليد عن إطلاق تلك الأدلّة. و من ذلك يعرف أنّ استناد المشهور لإثبات التحديد بالعشرة لا يمكن أن يكون إلى تلك الروايات، و انّ قول المفيد أو الشيخ بمجي ء روايات معتمدة دالّة عليه لا يكون ناظرا إليها. إلّا أن نقول بخطإ المفيد و غيره من الفقهاء، و هو كما ترى.

و منها ما وردت في قضيّة أسماء بنت عميس، كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمّد بن أبي بكر، فأمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم حين أرادت الإحرام من «ذي الحليفة» أن تحتشي بالكرسف و الخرق و تهلّ بالحجّ، فلمّا قدموا مكّة و قد نسكوا المناسك و قد أتى ثمانية عشرة يوما فأمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 303

أن تطوف بالبيت و تصلّي و لم ينقطع عنها الدم، ففعلت ذلك. «1» و صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء كم تقعد؟ فقال: إنّ أسماء بنت عميس أمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أن تغتسل لثمان عشر، و لا بأس أن تستظهر بيوم أو يومين.

«2» و مرسلة الصدوق، قال: إن أسماء بنت عميس نفست بحمّاد بن أبي بكر في حجّة الوداع، فأمرها رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أن تقعد ثمانية عشر يوما. «3»

و هذه الطائفة لا تنافي الطائفة الاولى بل توافقها و تؤيّدها، بل صحيحة محمّد و المرسلة تدلّان على أنّ أكثر النفاس ثمانية عشر يوما، نعم لا بدّ من رفع اليد عن استظهرا يومين في صحيحة ابن مسلم، لعدم الاستظهار

بعد قعودها ثمانية عشر يوما لعدم احتمال النفاس بعدها إجماعا. و أمّا الاستظهار بيوم بعد ظهور الصحيحة بمقتضى تذكير العدد في ثمان عشرة ليلة فلا بأس به إلّا في بعض الصور، فيرفع اليد عنه فيه.

و كذا لا تنافيها مرفوعة إبراهيم بن هاشم، قال: سألت امرأة أبا عبد اللّٰه عليه السّلام فقالت: إنّي كنت أقعد في نفاسي عشرين يوما حتّى أفتوني بثمانية عشر يوما، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: و لم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل: للحديث الّذي روي عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّه قال لأسماء بنت عميس حيث نفست بمحمّد بن أبي بكر، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إنّ أسماء سألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و قد أتى لها ثمانية عشر يوما، و لو سألته قبل ذلك لأمرها أن تغتسل و تفعل ما تفعل المستحاضة. «4» لأنّه عليه السّلام لم ينف كون حدّ النفاس ثمانية عشر يوما بل نفى لزوم قعودها ثمانية عشر يوما مستندا إلى قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و قال: إنّها لو سألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قبل ذلك لأمرها بما أمرها بعد ثمانية عشر، فيمكن أن يكون الحدّ الواقعيّ للنفاس ثمانية عشر يوما لكن

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 6.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 15.

(3) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 21.

(4) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 304

يجب لذات العادة القعود أيّام العادة ثمّ الاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة ثمّ عمل المستحاضة.

و ظاهر

المرفوعة و إن كان عدم جواز القعود ثمانية عشر يوما كما هو ظاهر بعض الروايات الواردة في الاستظهار لكن مقتضى الصناعة رفع اليد عن هذا الظاهر بما دلّ على جواز القعود إلى ثمانية عشر يوما كالروايات الآتية و بعض ما تقدّمت، و حمل المرفوعة على استحباب عمل المستحاضة قبل ثمانية عشر يوما، إلّا إذا كانت أيّامها قريبة من أيّام العادة كاليوم و اليومين و ثلاثة أيّام بل إلى عشرة أيّام فيستحبّ الاستظهار.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في رواية حمران بن أعين المنقولة عن كتاب الأغسال لأحمد بن محمّد بن عيّاش الجوهريّ «1» و قوله فيها «قلت: فما حدّ النفساء؟ قال: تقعد أيّامها» محمول على الحكم، و معناه: فما تكليفها؟ بل المتفاهم من العبارة هو السؤال عنه لا عن حدّ النفاس، و إلّا لقال: فما حدّ النفاس؟ و لهذا أجاب عن تكليفها في الظاهر بالقعود أيّام الطمث و الاستظهار، و هو لا يناسب السؤال عن الحدّ الواقعيّ للنفاس.

كما أنّه بما ذكرنا يظهر حال طائفة أخرى من الروايات كصحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: كم تقعد النفساء حتّى تصلّي، قال: ثمان عشرة، سبع عشرة، ثمّ تغتسل و تحتشي و تصلّي. «2» و صحيحة ابن سنان- بناء على كونه عبد اللّٰه كما هو الظاهر- قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: تقعد النفساء سبع عشرة ليلة، فإن رأت دما صنعت كما تصنع المستحاضة. «3» و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون، قال: و النفساء لا تقعد عن الصلاة أكثر من ثمانية عشر يوما، فإن طهرت قبل ذلك صلّت، و إن لم تطهر حتّى تجاوز ثمانية عشر

يوما

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 11.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3؛ ح 12.

(3) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 305

اغتسلت و صلّت و عملت بما تعمل المستحاضة. «1»

فمقتضى الجمع بينها أنّ لذات العادة القعود إلى ثمانية عشر يوما، أيّام عادتها نفاسا و الزائد استظهارا، فيكون جميع الطوائف شاهدة على إمكان كون النفاس أكثر من عشرة أيّام بل إلى ثمانية عشر يوما، فتكون مؤيّدة للطائفة الأخرى المتعرّضة لحدّ النفاس بحسب الواقع كمرسلة الصدوق و رواية حنان بن سدير، قال:

قلت: لأيّ علّة أعطيت النفساء ثمانية عشر يوما؟ قال: لأنّ أقلّ أيّام الحيض ثلاثة أيّام و أكثرها عشرة أيّام و أوسطها خمسة أيّام، فجعل اللّٰه عزّ و جلّ للنفساء أقلّ الحيض و أوسطه و أكثره. «2»

فتحصل من جميع ذلك أنّ مقتضى الجمع بين جميع الطوائف هو كون حدّ النفاس واقعا ثمانية عشر يوما مطلقا، و ذات العادة إنّما ترجع إلى عادتها بحسب تكليفها الظاهريّ و تستظهر جوازا إلى ثمانية عشر يوما، و إن كان المستحبّ لها أن تعمل عمل المستحاضة بعد الاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة أيّام، و يحمل اختلاف الروايات في الاستظهار على اختلاف مراتب الفضل أو على ما ذكرنا في الحيض.

و يظهر ممّا مرّ أنّ مستند فتوى المشهور و كذا الروايات الّتي ادّعى المفيد أو الشيخ ورودها بعيد غايته أن تكون تلك الروايات الدالّة على خلاف مذهب المشهور ممّا هي بين صريح فيه أو ظاهر. و عثور المفيد- رحمه اللّٰه- على بعض الروايات أو الأصول الّتي لم تصل إلينا ليس كثير البعد، كما لم تصل إلينا مرسلته المنقولة عن السرائر، و هي

أنّ المفيد سئل: كم قدر ما تقعد النفساء عن الصلاة؟ و كم مبلغ أيّام ذلك؟

فقد رأيت في كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما، و في رسالة المقنعة ثمانية عشر يوما و في كتاب الإعلام أحد و عشرين، فعلى أيّها العمل دون صاحبه؟ فأجابه بأن قال:

الواجب على النفساء أن تقعد عشرة أيّام، و إنّما ذكرت في كتبي ما روي من قعودها ثمانية عشر يوما و ما روي في النوادر استظهارا بأحد و عشرين يوما، و عملي في ذلك

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 23.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 22.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 306

على عشرة أيّام لقول الصادق عليه السّلام «لا يكون دم نفاس لزمانه أكثر من زمان الحيض» (انتهى).

فكما لم تصل إلينا تلك المرسلة الصريحة الّتي عمل مثل المفيد على طبقها و ترك الروايات الصحيحة الصريحة في القعود ثمانية عشر؛ أو سبع عشرة، ثمان عشرة، كصحيحتي محمّد بن مسلم و ابن سنان مع كون الروايات بمنظر منه، كذلك يمكن وصول روايات أخر مثل المرسلة. كما لا يمكن أن يقال: إنّ اتّكال المشهور في كون النفاس عشرة أيّام على تلك الروايات الّتي بين صريح في زيادة الحدّ على العشرة و كونه ثمانية عشر يوما و ظاهر فيه. فحينئذ تكون تلك الشهرة المعرضة عن الروايات الصريحة الصحيحة المخالفة للأصول و القواعد- لما عرفت سابقا جريان الأصل الموضوعيّ في التدريجيّات و الحكميّ في مثل المقام- معتمدة معتبرة كاشفة عن مسلّميّة الحكم من زمان الأئمّة عليهم السلام إلى زمان أصحاب الفتوى.

كما أنّ قول المفيد بمجي ء أخبار معتمدة في أنّ أقصى مدّة النفاس مدّة الحيض و هي عشرة أيّام، حجّة معتبرة

اخرى، ضرورة أنّه مع وجود روايات صحيحة صريحة في زيادة الأيّام على العشرة لا يمكن أن يكون مقصوده هو ما احتملوا من روايات الرجوع إلى العادة و الاستظهار، مع أنّ الظاهر من تلك العبارة هو مجي ء الروايات بهذا العنوان و المضمون، و في روايات الرجوع ليست رواية كذلك، بل لو فرض دلالتها بنحو من اللزوم بل و الاجتهاد لم يكن لمثل المفيد أن يقول:

جاء أخبار في أنّ أقصى مدّة النفاس كذا، الظاهر في ورود الرواية بهذا المضمون، فإنّ ذلك نحو تدليس في النقل و الرواية، و أصحابنا- رضوان اللّٰه عليهم- بريئون منه. كما أنّ مرسلته الأخرى المتقدّمة حجّة معتبرة أخرى، فإنّ مثل المفيد لا يقول «لقول الصادق عليه السّلام» بنحو الجزم إلّا مع كون الرواية معتمدة معتبرة. و لا يمكن منه تقديم رواية مرسلة على روايات صحاح إلّا مع كون الحكم قطعيّا و الرواية قطعيّة الصدور و الدلالة و راجحة على سائر الروايات و كون البقيّة معلولة بحيث لا يمكن الاتّكال عليها، فالمسألة خالية عن الإشكال بحمد اللّٰه تعالى و إن كان الاحتياط

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 307

حسنا على كلّ حال.

و بما ذكرنا يظهر النظر في التفصيل الّذي تقدّم نقله عن العلّامة- لو كان تفصيلا في المسألة- و قد بالغ الشيخ الأعظم في تقريبه و تقويته حتّى قال: فالإنصاف أنّ هذا القول لا يقصر في القوّة عن القول المشهور. و محصّل نظره هو الجمع بين الروايات، لاختصاص روايات الاستظهار بذات العادة، و منها يستفاد كون الحدّ عشرة أيّام فتختصّ العشرة بذات العادة، و صرف رواية العلل و العيون إلى غير ذات العادة، و تضعيف مرسلة المفيد أو حملها على

الأفراد الغالبة و هي ذات العادة.

و أنت خبير بما فيه بعد التأمّل في ما تقدّم، لما عرفت من أنّ أخبار الاستظهار لا يستفاد منها كون الحدّ عشرة، بل إلى ثمانية عشر يوما، فمقتضى الجمع بينها و بين سائر الروايات هو كون الحدّ ثمانية عشر، فلا مجال للتفصيل بحسب الروايات مع ورود بعض إشكالات اخرى عليه تركناه مخافة التطويل. و أمّا تضعيف مرسلة المفيد ففي غير محلّه لمّا عرفت آنفا، و حملها على ذات العادة بعيد جدّا، بل المرسلة بحسب نحو مضمونها آبية عنه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الحدّ مطلقا لذات العادة و غيرها عشرة أيّام إلّا أنّ تكليف ذات العادة الرجوع إلى عادتها ثمّ الاستظهار إلى عشرة أيّام ثمّ عمل المستحاضة، و غير ذات العادة تقعد عشرة أيّام و هي أقصى الأيّام.

و امّا الرجوع إلى الصفات أو عادات النساء فلا دليل عليه، لاختصاص أدلّة الصفات كما تقدّم بالدوران بين الحيض و الاستحاضة. و أمّا موثّقة أبي بصير «1» عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام الدالّة على رجوعها إلى أيّام أمّها أو أختها أو خالتها مع عدم معرفة أيّام نفاسها ففيها وجوه من الخلل لا يمكن لأجلها الاتّكال عليها، كالحكم بقعودها بقدر أيّام نفاسها مع أنّ النصّ و الفتوى على خلافه، و كالأمر بالاستظهار بمثل ثلثي أيّامها ممّا لا يجوز إلّا في بعض الأفراد النادرة؛ و كالحكم بتخييرها بين الرجوع إلى أمّها أو أختها أو خالتها الظاهر في التخيير مع اختلافهنّ و هو أيضا غير معتنى به.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 20.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 308

نعم، لو ثبت الإجماع على كون النفساء كالحائض في جميع الأمور و

الأحكام إلّا ما استثني لكان الوجه ما ذكر.

المسألة الرابعة لو كانت حاملا باثنين

فإن ولدتهما معا بحيث عدّت ولادة واحدة عرفا يكون لها نفاس واحد، و سيأتي حال مبدأ حساب العشرة؛ و إن تأخّرت ولادة أحدهما عن الآخر مع رؤية الدم فيهما فلا يخلو أن تكون الولادة الثانية قبل تمام عشرة أيّام من الأولى أو بعد تمامها بلا فصل أو معه، و على أيّ حال إمّا أن يكون الدم مستمرّا إلى الولادة الثانية أو نقت قبلها و رأت بعدها. فهل يكون كلّ من الدمين بعد الولادتين نفاسا مستقلا؛ أو هما نفاس واحد إذا استمرّ الدم و رأت الثاني قبل تجاوز العشرة؛ أو لا يكون الدم بعد الولادة الأولى نفاسا؛ أو لا يكون بعد الثانية نفاسا؟

الأقوى هو الأوّل. و محصّل الكلام فيه أنّه بحسب التصوّر يحتمل أن يكون النفاس هو الدم المسبّب عن الولادة، بحيث يكون سببيّة الولادة للدم دخيلة في الموضوع كما يظهر من صاحب الجواهر ناسبا إلى نصّ غير واحد من الأصحاب، و لازمة لزوم إحراز سببيّتها له في ترتيب الأحكام على النفساء، سواء في التوأمين و غيرهما، فلو سال الدم منها قبل الولادة فخرجت علقة أو مضغة أو خرج طفل في غاية الصغر مع سيلانه بحيث يعلم أو يحتمل عدم استناد الدم إلى خروج الحمل لم يحكم بنفاسيّته و لا يكون المرأة نفساء، و كذا لو خرج الطفل الأوّل في التوأمين و سال الدم و خرج الثاني مع الجزم بعدم سببيّته أو احتمال ذلك لم يحكم بها.

و يحتمل أن يكون الدم الخارج عقيب الولادة نفاسا، كانت الولادة سببا له أولا، لكن لا مطلقا بل الدم الّذي له نحو انتساب و ارتباط بالولادة و إن لم يكن الارتباط بالسببيّة

و المسبّبيّة، و لعلّ مراد القوم بل صاحب الجواهر ذلك و إن لم يناسب ظاهر كلامه، و مع استمرار الدم يكون منتسبا إلى الولادتين، لأنّ اختزانه كان لارتزاقهما، بل يمكن أن يقال: إنّه مع استمراره يكون دم كلّ ولادة بحسب الواقع غير الآخر و إن لم يمكن امتيازهما خارجا، لعدم استهلاك أحد المتماثلين في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 309

الآخر. و لازم هذا الاحتمال كون الدم عقيب كلّ ولادة مع كونه الدم الطبيعيّ نفاسا و موضوعا للحكم، و تكون النفساء هي الّتي ولدت و خرج الدم عقيب ولادتها أو معها، فيكون الدم الخارج عقيب الولادة الثانية قبل تمام العشرة نفاسين مستقلّين فيصدق عليه عنوانان: أحدهما الدم الّذي عقيب الولادة الاولى، و الثاني الدم الّذي عقيب الولادة الثانية، و لكلّ عنوان حكمه مع الانفراد، و مع اجتماعهما تتداخل الأحكام.

و يحتمل أن يكون النفاس هو الحدث الحاصل من الدم المسبّب عن الولادة أو الدم الّذي عقيبها. و لازمة عدم إمكان تكرّر الحدث الحادث برؤية الدم بعد الولادة الأولى للزوم اجتماع المثلين. و هذا ظاهر المحقّق الخراسانيّ، فيكون النفاس الواحد مستمرّا بتعدّد سببية إلى عشرين يوما أو أكثر، و لا يكون للمرأة نفاسان.

و الأقوى هو ثاني الاحتمالات، لمساعدة العرف و اللغة على أنّ الدم عقيب الولادة نفاس و لا يتوقّف أحد في أنّ الدم إذا خرج عقيب الولادة يكون نفاسا و يقال للمرأة نفساء، مع أنّه لو كان عبارة عن الدم المسبّب عنها لم يكن بدّ في ترتيب الأحكام من إحراز الموضوع، و مع الشكّ كان يرجع إلى الأصول، و لم ينقل من فقيه احتمال ذلك أو العمل على الأصول، و ليس ذلك

إلّا لما ذكر، تأمّل. قال السيّد في الناصريّات لا يختلف أهل اللغة في أنّ المرأة إذا ولدت و خرج الدم عقيب الولادة فإنّه يقال:

قد تنفّست، و لا يعتبرون بقاء ولد في بطنها، و يسمّون الولد منفوسا (انتهى). و هو و إن كان في مقام الردّ على من ذهب إلى أنّ النفاس من مولد الثاني لكن ظاهره اتّفاق أهل اللغة على هذا العنوان، أي كون الدم عقيب الولادة نفاسا، و هو حجّة معتبرة، بل نفس قول مثل السيّد البارع في اللغة و الأدب حجّة معتبرة مثبتة للّغة.

و يؤيّده قول شيخ الطائفة عند الاستدلال على أنّه إذا ولدت ولدين و رأت عقيبهما اعتبرت النفاس من الأوّل و آخره يكون من الثاني «دليلنا أنّ كلّ واحد من الدمين يستحقّ الاسم بأنّه نفاس، فينبغي أن يتناوله اللفظ» بل ادّعى عدم الخلاف في أنّ ما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 310

يخرج بعد الولد يكون نفاسا، و الظاهر أنّ المراد من الدم عقيب الولادة ما له نحو انتساب و ارتباط لها لا مطلقا.

بل يمكن الاستيناس أو الاستدلال لاستقلال كلّ من النفاسين ببعض الروايات كحسنة مالك بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها ثمّ تستظهر بيوم، فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها- إلخ- «1» حيث تدلّ على حرمة الغشيان قبل مضيّ مقدار أيّامها من يوم وضعت من غير تفصيل بين الوضع الأوّل و الثاني. و إن أمكن الخدشة فيها تارة بأنّها في مقام بيان حكم آخر، و اخرى بأنّ مفروض السائل كونها في نفاسها

من الدم. و كصحيحة يونس بن يعقوب، قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امرأة ولدت فرأت الدم أكثر ممّا كانت ترى، قال: فلتقعد أيّام قرئها الّذي كانت تجلس، ثمّ تستظهر بعشرة أيّام «2» حيث لم يفصّل بين الاولى و الثانية، فمن ولدت و رأت الدم أكثر ممّا كانت ترى تكون موضوعة للحكم بوجوب القعود، ففي الولادة الثانية إذا رأت الدم أكثر ممّا كانت ترى يصدق أنّها ولدت و رأت الدم .. فيكون الولادة و رؤية الدم تمام الموضوع للحكم، تأمّل. و كرواية الخلقانيّ المتقدّمة، حيث قال فيها: تصلّي حتّى يخرج رأس الصبيّ، فإذا خرج رأسه لم يجب عليها الصلاة. «3» فإنّ الظاهر منها أنّ السبب لوجوب تركها هو خروج رأس الصبيّ مطلقا. نعم، يقيّد ذلك بذيلها الدالّ على لزوم رؤية الدم عند خروج بعض الولد، فيكون الموضوع هو خروج بعض الولد مع رؤية الدم أو رؤيته عند ظهور رأس الولد. فتدلّ على موضوعيّة كلّ دم عند كلّ ولادة لحرمة الصلاة، أو موضوعيّة كلّ ولادة مع رؤية الدم لها، و هذا معنى الاستقلال.

و لو نوقش في دلالة الروايات فلا مجال للمناقشة في الصدق العرفيّ.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 4.

(2) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 3.

(3) الوسائل: أبواب الحيض، ب 30، ح 17.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 311

و اما احتمال كون النفاس عبارة عن حدث معنويّ، فإن كان المراد منه حدث النفاس كحدث الحيض و الجنابة فالضرورة قاضية بمخالفته لنفسه، فإنّ المرأة بعد عشرة أيّام أو ثمانية عشر ليست بنفساء بلا إشكال و إن كانت محدثة بحدث النفاس، فحدثه غير نفسه، كحدث الحيض فإنّه غير الحيض؛ و إن

كان المراد أنّ هنا أمرا معنويّا آخر هو حدث النفاس فلا دليل عليه، بل الأدلّة قاطبة على خلافه. و يظهر ممّا مرّ حال احتمال عدم نفاسيّة الأوّل كما احتمله المحقّق في محكيّ المعتبر بدعوى عدم اجتماع النفاس كالحيض مع الحمل. و فيه منع عدم اجتماع الحيض معه كما تقدّم، و على فرض تسليمه منع كون النفاس كالحيض في ذلك.

بقي شي ء و هو أنّه لو وضعت الولد الواحد قطعة قطعة فهل يكون لكلّ قطعة نفاس مستقلّ مطلقا؛ أو لا يكون للجميع إلّا نفاس؛ أو يفصّل بين كون القطعة معتدّا بها بحيث يكون خروجها بمنزلة ولادة و بين غيره؛ أو يفصّل بين وقوع الفصل بأقلّ الطهر بين خروج القطعة. الاولى و الثانية و عدمه؟ وجوه، و الأقرب في غير الفصل بأقلّ الطهر كونه نفاسا واحدا لكون الولادة واحدة عرفا و لغة و إن خرج المولود قطعة قطعة، و النفاس واحد مع استمرار الدم، بل مع الفصل بالأقلّ من أقلّ الطهر إذا قلنا بأنّه نفاس. بل مع الفصل بأقلّ الطهر يمكن أن يقال أيضا إنّه نفاس واحد و إن فصل بين أجزائه طهر، فإنّ العرف كما يرى الولادة واحدة و المولود واحدا يرى الدم دم الولادة الواحدة و من تتمّة النفاس لا نفاسا مستقلا، و لا مانع من الفصل بين أجزائه بأجنبيّ. و لا ثمرة ظاهرا في خصوص الفرع إن قلنا بأنّ النفاس من خروج الدم و حساب العدد من وضع القطعة الأخيرة، كما يأتي الكلام فيه قريبا.

و كيف كان ففي خروج القطعات هل يكون مبدأ النفاس من بعد المجموع كما احتمله صاحب الجواهر حيث قال: و يحتمل هنا توقّف النفاس على خروج المجموع و إن اكتفينا ببروز

الجزء مع الاتّصال للفرق بينه و بين الانفصال (انتهى) و لم يذكر وجه الفرق، فكأنّه دعوى قصور الدليل عن شمول المنفصل، و فيه ما لا يخفى، ضرورة صدق دم الولادة مع الخروج مقارنا للجزء كما مرّ، بل احتملنا أولويّة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 312

الصدق من الدم بعد الولادة، و لا فرق بنظر العرف في دمها بين كون الرأس منفصلا عن الجسد أو متّصلا به، كما لا ريب في شمول الأدلّة كخبر الخلقانيّ للمنفصل أيضا، و دعوى الانصراف غير مسموعة، فالفرق بينهما غير وجيه. أو يكون مبدأ النفاس و الحساب من أوّل خروج القطعة الأولى لمرسلة المفيد بل لمرسلاته، و لظهور أدلّة الأمر بالقعود مقدار أيّام عادتها في كون المبدإ أوّل ما صدق عليها النفساء، أو يكون مبدأ النفاس خروج الدم مع بروز أوّل الجزء، و مبدأ حساب أيّام القعود و حساب عشرة أيّام من زمان تمام الوضع؟

الأقوى هو الأخير، لأنّ روايات الباب على طوائف: منها ما تدلّ على لزوم ترك الصلاة إذا رأت على رأس الولد دما، كرواية الخلقانيّ و السكونيّ و الجعفريّات المتقدّمات، و هذه الطائفة لم تتعرّض لمقدار القعود و لا لمبدئه. و منها ما تدلّ على أنّ النفاس لا يكون أكثر من عشرة أيّام كمرسلات المفيد و مرسلة الشيخ عن ابن سنان. و منها ما تدلّ على أنّ النفساء تقعد بمقدار أيّام عادتها و تستظهر. و هاتان الطائفتان ظاهرتان و لو بالإطلاق في كون المبدأ هو مبدأ تحقّق النفاس و إن لم تتعرّض لخصوص المبدأ؛ لكن حسنة مالك بن أعين المتقدّمة حاكمة على الروايات و مبيّنة لحدودها؛ قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النفساء يغشاها

زوجها و هي في نفاسها من الدم؟ قال: نعم، إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها، ثمّ تستظهر بيوم، فلا بأس بعد أن يغشاها زوجها. «1» و هي كما ترى لا تنافي الروايات الدالّة على لزوم ترك الصلاة من أوّل بروز الدم، و هو ظاهر، و لا ما دلّت على القعود بمقدار أيّام العادة، لعدم تعرّضها لمبدإ القعود، و إنّما يفهم منها ذلك بالإطلاق و السكوت في مقام البيان، و هو لا يقاوم ما تعرّض لمبدإ الحساب و أنّه منذ يوم وضعت. بل هي حاكمة علي مثل المرسلات، فإنّها تدلّ على عدم زيادة عددها على الحيض، و هي تدلّ على أنّ عدم الزيادة يحسب من أوّل يوم وضعت، فلها حكومة عليها عرفا.

نعم لأحد أن يقول: إنّ مقتضى الأدلّة هو التفصيل بين ذات العادة و غيرها،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب النفاس، ب 3، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 313

و الأخذ في غيرها بإطلاق ما دلّ على عدم الزيادة من حين الرؤية. لكنّه تفصيل لم يلتزم به أحد ظاهرا و لم أر احتماله من أحد، بل الظاهر أنّ حدّ النفاس في جميع النسوة بحسب الواقع واحد و لا يزيد على عشرة أيّام من يوم الوضع.

ثم إنّه حكي عن الروض أنّه يترتّب الثمرة على تعدّد النفاسين ما لو ولدت فرأت الدم و انقطع فولدت الثاني، فرأت قبل مضيّ عشرة أيّام من الولادة الأولى فإنّه على التعدّد لا يحكم بنفاسيّة النقاء المتخلّل، و على الوحدة يحكم بها.

و فيه أنّ هذه الثمرة ليست من ثمرات القول بالتعدّد و الوحدة، لعدم إبطال الولادة الثانية نفاسيّة الاولى فيكون النقاء بين نفاس واحد، فهو محكوم بالنفاسيّة

بناء على ما يأتي من نفاسيّة النقاء المتخلّل بين النفاس الواحد، و كون الدم معنونا بعنوان آخر و هو نفاس آخر لا يوجب إبطال حكم النفاس الواحد. بل هي من ثمرات القول بلزوم الارتباط بنحو السببيّة أو غيرها بين الولادة و الدم الخارج عقيبها و و عدمه، فعلى الثاني يكون الدم الخارج عقيب الثانية نفاسين و باعتبار كونه من تتمّة النفاس الأوّل يكون النقاء المتخلّل بينه نفاسا، و على الأوّل لا يكون ما رأت عقيب الثانية مع النقاء بعد الولادة الأولى خصوصا إذا كان معتدّا به نفاسين، بل هو نفاس واحد مربوط بالولادة الثانية، و قد تقدّم ترجيح ذلك، فحينئذ لا يكون النقاء المتخلّل بحكم النفاس، لكنّ الاحتياط لا ينبغي تركه.

المسألة الخامسة لو لم تر دما أوّلا ثمّ رأت

فإمّا أن يكون بعد عشرة أيّام من يوم الولادة؛ أو بين العشرة قبل مضيّ مقدار عادتها، كما لو كان مقدار عادتها ستّة و رأت في اليوم الرابع؛ أو بعد مضيّ مقدارها، كما لو رأت في الفرض في اليوم السابع أو العاشر؛ و على أيّ تقدير فإمّا أن ينقطع إلى عشرة من يوم الولادة، أو يتجاوز عنها. فيقع الكلام في الفروض تارة في نفاسيّة الدم، و اخرى في قعودها، و ثالثة في حال ذات العادة و غيرها. فنقول: قد يقال بانصراف الأدلّة عن صورة تخلّف الدم عن حال الولادة خصوصا إذا كان الفصل طويلا كتسعة أيّام أو عشرة، فيعمل في الدم على القواعد، فيحكم بنفاسيّته لصدق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 314

كونه نفاسا، و لقاعدة الإمكان مع الشكّ في الصدق. و فيه أنّه مع فرض الانصراف لا دليل على ترتّب الأحكام حتّى مع العلم بكونه نفاسا و كون المرأة نفساء،

لأنّ وجه الانصراف ندرة تخلّف الدم عن الولادة، فيكون هذا الوجه موجودا في جميع أدلّة الباب. و دعوى امتناع تخلّف الأحكام مع كون المرأة نفساء، مدفوعة بأنّ الأحكام يمكن أن تكون مترتّبة على قسم من النفاس و النفساء كما ذكرنا في الحيض، ألا ترى أنّ النفساء صادقة على من ترى الدم إلى الحادي عشر بلا ريب، ضرورة أنّ الدم الجاري إلى الساعة الأخيرة من اليوم العاشر نفاس في غير ذات العادة و بعدها ليس بنفاس حكما، و لا يمكن أن يقال أنّ الدم بحسب التكوين إلى هذه الساعة نفاس دون بعدها أو بحسب العرف و العادة كذلك. فلا محالة يكون التصرّف في الموضوع من الشارع، فجعل دم النفاس في مقدار معيّن أو وقت معيّن موضوع حكمه دون غيره مع كونه نفاسا واقعا. فحينئذ نقول بعد قصور الأدلّة عن إثبات الحكم لمن لم تر دما مع الولادة أو قريبا منها للانصراف حسب الفرض يكون مقتضى الأصول و القواعد عدم محكوميّة المرأة بأحكام النفساء، فلا يجب التنفّس عليها إذا لم تر الدم ثمّ رأت بعد فصل. و أمّا قاعدة الإمكان فلا أصل لها في الحيض كما عرفت فضلا عن الاستحاضة، بل لو قلنا بأنّ دليل القاعدة هو الأصل العقلائيّ كما قيل في باب الحيض و ثبت بها كون الدم نفاسا و المرأة نفساء لا يفيد في المقام مع عدم دليل على ترتّب الأحكام على النفساء مطلقا كما تقدّم.

لكن الإنصاف أنّ دعوى الانصراف في الأدلّة مطلقا سواء في ما دلّت على أنّ النفساء تقعد أيّامها أو قدر عادتها أو ما دلّت على جواز الغشيان إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيّام عدّة حيضها أو ما دلّت على

أنّ دم النفاس لا يكون أكثر من عشرة أيّام، غير وجيهة، فإنّ ندرة الوجود و إن كانت موجبة لعدم انتقال الذهن إلى الفرد النادر لكن لا توجب الانصراف و خروج العنوان المأخوذ في الأدلّة عن كونه تمام الموضوع للحكم، خصوصا في مثل المقام الّذي كان موضوع الحكم النفساء، و تقتضي المناسبة بين الحكم و الموضوع أن يكون الموضوع هو نفس العنوان من غير دخل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 315

للأمور الخارجة فيها، و لا يرى العرف للظرف و الوقت موضوعيّة للأحكام، و هذا نظير قوله «الماء يطهر» حيث يكون بعض مصاديقه نادر الوجود جدّا بحيث ينصرف الذهن عنه، لكنّ المناسبة بين الحكم و الموضوع توجب دفع الانصراف، لأنّ المطهّريّة بنظر العرف لا تكون إلّا لنفس طبيعة الماء من غير دخل لشي ء آخر فيها، بل العرف قد يلغي بعض القيود لأجل بعض المناسبات، و كيف كان فلا مجال لدعوى الانصراف.

و أوهن منها دعوى الانصراف في بعض الأدلّة كحسنة مالك بن أعين دون بعض، ضرورة أنّه لا وجه للتفصيل بعد كون وجه الانصراف ما تقدّم، و لا يكون قوله «و هي في نفاسها من الدم» موجبا للانصراف إلّا للوجه المتقدّم.

ثم إنّه بعد البناء على إنكار الانصراف في الأدلّة لا بدّ من بيان مفادها و وجه الجمع بينها فنقول: مقتضى إطلاق ما دلّت على أنّ النفساء تقعد قدر حيضها و تستظهر يوما أو يومين إلى عشرة أيّام أنّ كلّ ما صدق عليها عنوان النفساء يجب عليها القعود قدر حيضها و الاستظهار بعده، كان الدم متّصلا بالوضع أو منفصلا، قبل مضيّ مقدار العادة من يوم الوضع أو بعده، بل قبل عشرة أيّام أو بعدها،

مع صدق دم الولادة و عنوان النفساء. و لا منافاة بين هذه الطائفة و بين ما دلّت على أنّ دم النفاس لا يكون أكثر من عشرة أيّام كما هو واضح. بقيت رواية مالك بن أعين حيث دلّت على أنّ مقدار أيّام العادة إنّما هو من يوم وضعت، و إطلاقها يقتضي أن يكون حساب الأيّام من يوم الوضع، سواء رأت الدم من حال الوضع أو لا، و مقتضى تحكيمها على سائر الأدلّة أنّ ذات العادة تقعد مع رؤية الدم مقدار أيّام عادتها من زمان الوضع، فيكون ظرف القعود مقدار أيّام العادة من أوّل الوضع لكن مع رؤية الدم، و أمّا مع عدم الرؤية رأسا فلا قعود لها، لما دلّ على أنّ النفاس هو دم الولادة، و لمثل قويّة السكونيّ و رواية الجعفريّات و الخلقانيّ حيث علّق الحكم فيها على الدم المرئيّ على رأس الطفل، فالقعود يتوقّف على رؤية الدم و كون ظرف الرؤية أيّام العادة من يوم الوضع، فالمرأة الّتي لم تر دما أوّل الوضع ليست موضوعة للحكم لفقدان قيد هو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 316

رؤية الدم، و بعد مضيّ مقدار العادة من زمن الوضع أيضا لا تكون موضوعة له، لفقدان قيد آخر هو عدم المضيّ من يوم الوضع بمقدار العادة، و مع رؤيتها في زمان العادة و لو بعضها تكون موضوعة له، لتحقّق جميع قيود الموضوع، فهي امرأة وضعت و رأت الدم قبل مضيّ مقدار عادتها في الحيض منذ يوم وضعت.

فمحصّل مفاد الأدلّة بعد تحكيم بعضها على بعض و ردّ بعضها إلى بعض أنّ المرأة ذات العادة إذا رأت الدم من أوّل الوضع يجب عليها القعود مقدار أيّام عادتها

و تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة إلى عشرة أيّام من يوم الوضع، و لا يجب الاستظهار كما مرّ في الحيض. و إن رأت بعد عدم رؤيتها أوّل الوضع قبل مضيّ مقدار عادتها يجب عليها التنفّس تتمّة مقدار العادة، و تستظهر بعدها إلى العشرة. و إن رأت بعد مضيّ مقدار العادة فلا يجب عليها القعود و التنفّس، فهل لها الاستظهار إلى العشرة أو لا؟ لا يبعد مشروعيّته، لأنّ الظاهر أنّ الاستظهار إنّما هو لطلب ظهور حالها في زمان يمكن تحقّق النفاس فيه، و بعد العادة إلى العشرة يمكن تحقّقه، لأنّ الدم المرئيّ بعد العادة إذا انقطع على العشرة فهو نفاس للصدق العرفيّ، و مع التجاوز عنها لا يكون نفاسا لخروج ما بعد العشرة من يوم الوضع و عدم الدليل على نفاسيّته بعد العادة مع التجاوز، تأمّل.

بل يمكن الاستدلال على عدم كونه نفاسا بأدلّة الاستظهار بعد أيّام العادة، فإنّ أيّام العادة أيّام النفاس ظاهرا بحسب تلك الأدلّة، و أيّام الاستظهار أيّام يمكن أن يكون الدم فيها نفاسا و غير نفاس، فيحتمل بدء أن تكون النفاسيّة مع التجاوز و عدمها مع عدمه، و بالعكس بأن تكون النفاسيّة مع عدم التجاوز و عدمها معه.

و لا ريب في تعيّن الثاني بعد كون الاستظهار هاهنا كالاستظهار في الحيض. و بالجملة لا يكون الاستظهار ملازما للقعود و من توابعه، بل هو حكم مستقلّ شرع لأجل الاستظهار و الاحتياط، قعدت و تنفّست أولا. و أمّا غير ذات العادة الّتي عادتها عشرة أيّام فتجعل ما رأت بين العشرة نفاسا و ما بعدها استحاضة، لأنّ النفاس لا يكون أكثر من عشرة أيّام من حين الوضع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 317

هذا حال من انقطع دمها في العشرة، و أمّا إن تجاوز عنها فإن رأت في بعض أيّام العادة و استمرّ و تجاوز كمن كانت عادتها سبعة فرأت في الخامس مثلا و تجاوز عن العشرة فيحتمل شمول الأدلّة لها، فيجب عليها القعود بقيّة عادتها، و لها الاستظهار بيوم إلى تمام العشرة من يوم الوضع، و بعدها مستحاضة. و يحتمل أن تكون بقيّة أيّام العادة أيّام نفاسها ثمّ هي مستحاضة، و لا يبعد أقربيّة ذلك، لاستفادته من أدلّة الاستظهار، فإنّه لطلب ظهور الحال كما مرّ، و لا يكون ذلك إلّا على احتمال التجاوز و عدم نفاسيّة غير أيّام العادة و عدم التجاوز و نفاسيّة الجميع، فإذا رأت في العادة و تجاوز تكون بقيّة الأيّام أيّام نفاسها و الزائد عليها استحاضة. و إن رأت بعدها كمن كانت عادتها سبعة فرأت في الثامن و تجاوز عن العاشر ففي شمول الروايات لها إشكال بل منع، لعدم أيّام القعود لها حتّى تؤمر به فيها، و ليس لها أيّام الاستظهار، لأنّ الاستظهار إنّما هو في ما إذا رأت الدم في العادة و تجاوز عنها فاحتملت الانقطاع على العشرة فيكون تمام الدم نفاسا، و تجاوزه عنها فتكون أيّام عادتها فقط نفاسا، و مع هذه الشبهة و هذا الاحتمال يتحقّق موضوع الاستظهار و طلب ظهور حالها. و أمّا إذا لم يكن تكليفها الرجوع إلى أيّام عادتها مع التجاوز فلا تكون مشتبهة في حالها موضوعا و لا مشمولة لأدلّة ذات العادة، فالأيّام الّتي بعد العادة إلى العشرة أمّا نفاس مطلقا تجاوز الدم عن العشرة أو لا، أو ليس بنفاس كذلك فلا تكون موضوعة للاستظهار. و الظاهر تسالمهم على أنّ النفساء قبل تمام عشرة أيّام إذا

لم تكن مشمولة لأدلّة العادة موضوعة للأحكام و يجب عليها التنفّس و إن أمكن المناقشة في دلالة الأدلّة. و لا ينبغي ترك الاحتياط إلى العاشر بالجمع بين الوظيفتين بل لا يترك.

المسألة السادسة لو رأت في الأوّل و نقت ثمّ رأت،

فإمّا أن ترى الدم الثاني في بعض أيّام العادة أو لا، و على أيّ حال فإمّا أن يتجاوز الدم عن العشرة أو لا، فإن رأت في أيّام العادة فلا إشكال في كون الحاشيتين نفاسا، و الظاهر شمول أدلّة القعود أيّام العادة و الاستظهار لها، كما أنّ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 318

الظاهر أنّ الدمين نفاس مع الانقطاع على العشرة مطلقا للصدق العرفيّ و موضوعيّة النفساء قبل تجاوز دمها عن عشرة أيّام للحكم. و مع التجاوز لا إشكال ظاهرا في ذات عادة عشرة أيّام، و في غير ذات العادة في كون الحاشيتين نفاسا. و أمّا ذات العادة إذا كانت عادتها أقلّ منها فإن قلنا بشمول أدلّة الرجوع إلى العادة لها لأجل إمكان القعود في أيّام عادتها في الجملة فلا يكون الدم الثاني نفاسا، و إن قلنا بعدم شمولها لها فلا يبعد الحكم بنفاسيّة الطرفين و لو قلنا بكون النقاء في البين في حكم النفاس.

و ما قيل من أنّ كون الدم الثاني نفاسا ممتنع لأنّه يلزم من وجوده عدمه؛ حيث إنّ نفاسيّته سبب لاندراج المرأة في موضوع الأخبار الدالّة على أنّها لا تقعد أزيد من أيّامها و أنّ ما تراه استحاضة مدفوع بأنّ الظاهر من الأدلّة كون الدم من أيّام العادة مستمرّا إلى ما بعد العشرة، و شمولها لما الحق به حكما محلّ إشكال بل منع.

و كيف كان فيقع الكلام في أنّ الطهر المتخلّل بين النفاس الواحد نفاس أولا، الظاهر نفاسيّته،

لإطلاق صحيحة محمّد بن مسلم «لا يكون القرء في أقلّ من عشرة أيّام» و خروج الطهر بين النفاسين من مفادها بالتقريب المتقدّم لا يلزم منه خروج الطهر بين النفاس الواحد، فإنّ القرء في النفاسين لا يكون للاختزان، بل جمع الدم إنّما هو لأجل الولد بخلاف المقام. و بالجملة لا مانع من الأخذ بإطلاق الصحيحة.

نعم يشكل التمسّك بمرسلة يونس بما مرّ، و الظاهر أنّ الحكم متسالم عليه بينهم. و أمّا الاستدلال على المطلوب بصدق النفساء على المرأة في أيّام النقاء، إذ لا يعتبر في مثل هذا المشتقّ تلبّس الذات بالمبدإ على الدوام، فيشمله حينئذ كلّ ما دلّ على أنّ النفساء تكفّ عن الصلاة أيّام قرئها كما أفاد الشيخ الأعظم فغير تامّ، ضرورة أنّه لو سلّم الصدق في الفترات القليلة لم يسلّم في مثل المفروض ممّا كان أيّام النقاء ثمانية مثلا و أيّام التلبّس يوما أو يومين من الحاشيتين بعد فرض كون المبدأ هو الدم. نعم لو فرض أنّ المبدأ هو حال معنويّ محفوظ أو استعداد لقذف الدم كان حاصلا و المشتقّ صادقا، لكنّه ممنوع مخالف للأدلّة كما لا يخفى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 1، ص: 319

المسألة السابعة النفساء كالحائض في جميع الأحكام إلّا ما استثني

و تقدّم بعضها، إجماعا كما عن الغنية و شرح المفاتيح، و هو قول الأصحاب كما عن المسالك و الكفاية، لا نعرف فيه خلافا بين أهل العلم كما عن المعتبر و المنتهى و التذكرة، و هو الحجّة بعد ظهور التسالم بينهم.

و اما الاستدلال عليه بأنّ النفاس هو الحيض المحتبس فقد مرّ عدم الدليل عليه و بعد الإجماع على مشاركتهما في الحكم لا وقع لدعوى الإجماع على أنّه حيض محتبس فإنّه يرجع إلى مشاركتهما حكما، و هو عين الإجماع

المتقدّم. و أمّا وحدة الموضوع تكوينا فالاتّكال على الإجماع لإثباتها مشكل.

و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا و ظاهرا و باطنا قد وقع الفراغ من هذه الوجيزة يوم السبت 22 من شهر ربيع الأوّل من سنة 1376

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

الجزء الثاني

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و صلى اللّٰه على محمد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين.

و بعد فلما انجرّ بحثنا إلى الطهارة الترابية أحببت أن أفرد فيها رسالة لذكر مهمات أحكامها، و لما كان التيمم ماهية ذات اضافة الى المتيمم و الى ما يتيمم به و لها احكام صارت المباحث فيها أربعة:

بحث في ماهيته، و آخر في المتيمم، و ثالث فيما يتيمم به، و رابع في الاحكام، و نحن نذكر المباحث على ترتيب الشرائع لكون بحثنا موافقا له و ان كان الترتيب الطبيعي يقتضي غير ذلك، و قبل الورود في المباحث لا بأس بذكر أمور:

منها انه لا إشكال في مشروعية التيمم كتابا، و سنة و إجماعا، و اما كونه من ضروريات الدين ففيه تأمل، و ان لا يبعد في الجملة كما ان كون منكر الضروري كافرا محل إشكال يأتي الكلام فيه في مباحث النجاسات ان ساعدنا التوفيق إن شاء اللّٰه، و الاشكال فيه ناش من ان إنكار الضروري هل هو بنفسه موجب للكفر، أو إذا لزم منه إنكار اللّٰه أو توحيده أو رسالة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الأظهر هو الثاني، و لا مجال لتفصيل ذلك.

و منها ان التحقيق عدم اتصاف الطهارات الثلث بالوجوب لا نفسيا و لا غيريا و لا بعنوان آخر كالنذر و شبهه.

اما

عدم الوجوب النفسي فلقصور الأدلة عن إثباته، لأن الظاهر من كل ما ورد فيها من الأوامر و غيرها هو الإرشاد إلى الشرطية، لأن الأوامر المتعلقة بالاجزاء و غيرها من متعلقات المركبات لا ظهور لها في المولوية بحسب فهم العرف، فقوله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 3

تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلخ لا يدل الا على ان تلك الماهيات أو أثرها شرط للصلاة و الأوامر المتعلقة بها للإرشاد إلى الشرطية.

لا أقول باستعمال الهيئة في غير ما وضعت له، فان التحقيق ان هيئة الأمر الموضوعة لنفس البعث و الإغراء استعملت في مثل المقام فيما وضعت له، لكن البعث لداعي افادة الشرطية كما ان النهى في مثل المقام كقوله: «لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه» استعمل في الزجر، لكن لإفادة مانعيته للصلاة، بل الظاهر من قول أبى جعفر عليه السّلام في صحيحة زرارة: «الوضوء فريضة» «1» أيضا كونه فريضة في الصلاة و هو لا يفيد إلا الشرطية و الدليل عليه صحيحته عن أبى جعفر عليه السّلام أيضا بالسند المتقدم «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الفرض في الصلاة؟ فقال: الوقت و الطهور و القبلة و التوجه و الركوع و السجود و الدعاء» «2» فعدّ الوقت من فرائض الصلاة في عرض الطهور، و لا إشكال في ان الوقت فرض فيها بالمعنى الذي ذكرنا.

و كيف كان لا إشكال في عدم الوجوب النفسي في الطهارات كما يدل عليه بعض الروايات، كرواية الكاهلي و غيرها، كما ان التحقيق عدم الوجوب الغيري أيضا لما ذكرنا في محله من عدم وجوب المقدمة شرعا، بل عدم إمكان وجوبها، بل لو قلنا بوجوب المقدمة أيضا لا

يلزم منه وجوب تلك العناوين بما هي، لما حقق من وجوب المقدمة الموصلة أي عنوان الموصل بما هو موصل، فلا يسرى الوجوب منه الى ما يتحد معه وجودا فلا تقع الطهارات الثلث الا على وجه واحد هو الاستحباب، و انما جعلت شرطا و مقدمة للصلاة بما هي مستحبات و عبادات، فما هو شرط لها هو الوضوء العبادي و التيمم العبادي، فتكون عباديتها قبل تعلق الأمر الغيري بها على فرض تصوير الأمر الغيري، فلا يمكن أن تكون عباديتها لأجل الأمر الغيري المتعلق بها، لأن الأمر الغيري لا يتعلق الا بما هو شرط للصلاة، فان كان الشرط ذات تلك الافعال بلا اعتبار

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الوضوء، ب 1 ح 2

(2) الوسائل: أبواب الوضوء، ب 1، ح 3

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 4

قيد العبادية و القربة لكان اللازم صحتها و صحة الصلاة مع إتيانها بلا قصد التقرب، كما ان الأمر كذلك في الستر و التطهير من الخبث، و هو كما ترى و ان كان الشرط هي مع قيد العبادية فلازمه كون عباديتها مقدمة على شرطيتها المتقدمة على الأمر الغيري، و كون عباديتها للأمر النفسي المتعلق بالصلاة أسوء حالا منه و التفصيل موكول الى محله.

فتحصل مما ذكر ان التيمم بما هو عبادة جعل شرطا للصلاة فلا بد و ان يكون مستحبا نفسيا مثل الوضوء، مع ان الأصحاب لم يلتزموا باستحبابه النفسي على حذو الوضوء، و يحسم الاشكال بإمكان أن يكون التيمم مستحبا نفسيا في ظرف خاص هو ظرف وجوب الإتيان بما هو مشروط به، أو إرادة ذلك أو يكون مستحبا نفسيا بحسب ذاتها مطلقا لكن عرض له عنوان مانع عن التعبد به في غير

الظرف الكذائي هذا.

لكن التحقيق ان الوضوء أيضا ليس مستحبا نفسيا الا باعتبار حصول الطهارة به، و اما نفس الافعال بما هي فلا تستحب و التيمم مع تلك الغاية أيضا مستحب و سيأتي التفصيل في بعض المباحث الآتية.

و اما عدم وجوبها بسائر العناوين فلان النذر و شبهه إذا تعلق بعنوان لا يوجب الا وجوب الوفاء به و هو لا يوجب سراية الوجوب من عنوان الوفاء به الى عنوان آخر بل لا يعقل ذلك و ان كان متحدا معه في الوجود، فالواجب في النذر هو الوفاء به لا الوضوء المنذور المتحد معه وجودا لا عنوانا.

و منها انه لا إشكال في ان التكليف إذا تعلق بعنوانين متقابلين مثلا كالمسافر و الحاضر و الواجد للماء و الفاقد، و كذا إذا كان التعلق مشروطا كما إذا قيل إذا كنت في السفر كذا، و ان كنت في الحضر كذا، لا يجب على المكلف حفظ العنوان في الغرض الأول، و حفظ الشرط في الثاني، فيجوز تبديل أحد العنوانين بالآخر و رفع الشرط، سواء كان قبل تحقق التكليف و تنجزه أولا لعدم اقتضاء التكليف حفظ موضوعه و لا المشروط حفظ شرطه، فيجوز للحاضر السفر قبل الوقت و بعده. و للواجد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 5

اراقة الماء قبله و بعده.

كما لا ريب في انه إذا توجه التكليف بنحو الإطلاق بالمكلف لا يجوز تعجيز نفسه، لأن القدرة ليست من القيود و العناوين المأخوذة في المكلف، و لا شرطا للتكليف لا شرعا و لا عقلا، لكن العاجز معذور في ترك التكليف المطلق الفعلي، فلو قال يجب على الناس إنقاذ الغرقى لا يكون هذا التكليف المتعلق بالعنوان الكلي مشروطا بحال القدرة

شرطا شرعيا، و الا لكان للمكلف تعجيز نفسه، و لما وجب عليه الاحتياط في الشك في القدرة و ليس للعقل تقييد حكم الشرع، بل هو حاكم بمعذورية العبد عند مخالفة التكليف في صورة عجزه، و عدم معذوريته مع قدرته.

و توهم لزوم تعلق التكليف و البعث على العاجز قد فرغنا من دفاعه في الأصول كما انه لو فرض استفادة وجود اقتضاء التكليف من الأدلة في صورة عروض عنوان على المكلف يوجب تعلق تكليف آخر به يكون حكمه حكم العجز العقلي، كما لو فرض استفادة اقتضاء لزومي للطهارة المائية أو الصلاة معها، حتى في حال عروض فقدان الماء، فلا يجوز إراقته أو تحصيل العجز في هذه الصورة أيضا، هذا كله مما لا اشكال فيه.

انما الإشكال في ان حال الطهارة المائية و الترابية ما ذا؟ و هل التكليف متعلق بالواجد و بالفاقد كتعلقه بالحاضر و المسافر أو يكون التكليف بالطهارة المائية مطلقا و له اقتضاء حتى في صورة فقدان الماء، و الطهارة الترابية مصداق اضطراري سوغه العجز عن المائية مع بقاء الاقتضاء اللزومي، فلا يجوز تحصيل الاضطرار؟

فاللازم صرف الكلام أولا إلى الآية الشريفة ثم الى مقتضى الروايات قال تعالى في المائدة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 6

لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أمر تعالى شأنه بالوضوء أولا، و مع فرض الجنابة بالغسل لظهور قوله «فَاطَّهَّرُوا» بعد قوله «فَاغْسِلُوا» و قبل فرض العجز عن الماء في التطهير بالماء و إطلاقها يقتضي مطلوبيتهما مطلقا، و اقتضائهما كذلك حتى في فرض العجز و الفقدان، و ليس لأحد أن يقول ان عدم ذكر قيد الوجدان لحصوله غالبا و ندرة فقدانه، فان ندرة فقدانه في تلك الا زمان و الأسفار ممنوعة، و لو سلم ندرته لكن العجز المطلق المستفاد من الآية بذكر المرض و إلقاء الخصوصية بالنسبة إلى سائر الأعذار كما يأتي بيانه ليس بنادر، كما ان كونها بصدد بيان كيفية الوضوء لا ينافي الإطلاق من جهة أخرى، فالآية الشريفة بصدد بيان تكليف صنوف المكلفين من الواجد و الفاقد و الجنب و غيره، و قوله تعالى:

«فَلَمْ تَجِدُوا» لا يصلح لتقييد الصدر بحيث صار معنونا بعنوان الواجد، فيكون العنوانان عدلين كالحاضر و المسافر.

أما أولا: فلان العرف يفهم من عنوان الفاقد و عدم الوجدان و نظيرهما من العناوين الاضطرارية ان الحكم المتعلق به انما هو في فرض الاضطرار و العجز عن المطلوب الأصلي، و في مثله لا يكون التكليفان في عرض واحد على عنوانين.

و اما ثانيا: فلان جعل المرضى قرين المسافر، دليل على ان الحكم كما في المرضى اضطراري الجائي كذلك في سائر الأصناف.

و اما ثالثا: فلان التذييل بقوله «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» الظاهر عرفا في كونه مربوطا بالتيمم في حال المرض و السفر، و ان الأمر بالتيمم لأجل التسهيل و رفع الحرج، فإن الأمر بالمرضي بالطهارة المائية، و بالمسافر بتحصيل الماء كيف ما اتفق حرجي، و ما يريد اللّٰه ذلك يدل على ان التيمم سوغ لأجل التسهيل و

رفع الوضوء و الغسل للحرج، و لا يكون ذلك الا مع تحقق الاقتضاء، فيفهم منه ان التكليف الأولي الأصلي هو الطهارة المائية، و له اقتضاء حتى في صورة العجز

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 7

فلا يجوز تحصيل العجز و يجب عليه تحصيل المائية حتى الإمكان مع عدم الوصول الى حد الحرج. و تدل عليه أيضا روايات:

منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد الا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال: هو بمنزلة الضرورة، يتيمم و لا أرى ان يعود الى هذه الأرض التي يوبق دينه» «1» و الظاهر ان المراد من عدم وجدان غير الثلج و الماء الجامد عدم وجدان ما يتوضأ به لا ما يتيمم به اختيارا، كما زعمه صاحب الوسائل فحينئذ تدل على ان التيمم مصداق اضطراري سوّغ في حال الضرورة، و يدل ذيلها على عدم جواز تحصيل الاضطرار اختيارا، و ان الترابية ما وفت بما وفت المائية، و الذهاب الى تلك الأرض لأجل تفويت التكليف الأعلى، من قبيل هلاك الدين و تفويت ما يجب تحصيله.

و منها ما دلت على وجوب شراء الماء على قدر جدته و لو بمائة ألف، و كم بلغ قائلا و ما يشترى بذلك مال كثير «2» فان المتفاهم منها وجوب حفظ الموضوع و يرى العرف جواز إراقته بعد الشراء منافيا لها، خصوصا مع قوله: ما يشترى بذلك مال كثير، و الظاهر ان المراد ليس نفس الماء بل ما يترتب عليه من الخاصية، و لو ترتبت تلك الخاصية بعينها على التراب لا يكون ذلك مالا كثيرا، مع كون وجوده و عدمه على

السواء، و التعليل دليل على ان وجوب الشراء انما هو لتحصيل المصلحة الملزمة لا لكونه واجد الماء، حتى يتوهم عدم المنافاة بين وجوب شرائه و جواز إراقته لتبديل الموضوع، و بالجملة لا شبهة في ان المتفاهم منها لزوم تحصيل الماء، و كون الصلاة مع المائية مطلوبة حتى الإمكان، و انها الفرد الأعلى.

و منها ما دلت على وجوب الطلب «3» و من الغرائب بل الباطل لدى العرف

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 9

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 26.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 1

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 8

وجوب تحصيل الماء بالطلب و جواز إراقته بعد الوجدان، و ان أمكن ان يقال ان الطلب واجب لتحصيل العلم بتحقق الموضوع، فلا ينافي رفع الموضوع اختيارا، لكنه احتمال عقلي لا يساعد عليه العرف، بحسب ما يتفاهم من الروايات.

نعم هنا روايات ظاهرها ينافي ما تقدم كرواية إسحاق بن عمار «قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي أهله فقال: ما أحب أن تفعل ذلك الا أن يكون شبقا أو يخاف على نفسه» «1».

و عن السرائر نقلا من كتاب محمد بن على بن محبوب مثله و زاد: «قلت يطلب بذلك اللذة؟ قال: هو له حلال، قلت: فإنه روى عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله ان أبا ذر سأله عن هذا فقال: ائت أهلك تؤجر» إلخ.

بدعوى أنها بإلقاء الخصوصية عرفا أو بالأولوية تدل على جواز نقض الوضوء أيضا، فتدل على ان الترابية و المائية سواء، و رواية السكوني (الموثقة برواية المفيد مع نحو اشكال فيها و هو احتمال الإرسال) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه

عن أبى ذر رضى اللّٰه عنه، انه أتى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه هلكت، جامعت على غير ماء! قال:

فأمر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بمحمل فاستترنا به و بماء، فاغتسلت انا و هي ثم قال: يا با ذر يكفيك الصعيد عشر سنين» «2».

و الظاهر من ذيلها دفع توحش أبى ذر بأنه هلك و عمل على خلاف التكليف، و المتفاهم منه ان الصعيد لا ينقص عن الماء مطلقا و لا يختص الجواز بالجماع.

و صحيحة حماد بن عثمان» قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل لا يجد الماء أ يتيمم لكل صلاة؟ فقال: لا، هو بمنزلة الماء» «3».

و صحيحة محمد بن حمران و جميل بن دراج عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «قال:

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 27، ح 1

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14 ح 12.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 23، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 9

ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا «1». الى غير ذلك كقوله: ان اللّٰه عز و جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد «2» و ان رب الماء هو رب الصعيد «3» و ان التيمم أحد الطهورين «4» و ان التيمم بالصعيد لمن لا يجد الماء كمن توضأ من غدير ماء، أ ليس اللّٰه يقول «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً». «5»

أقول: مضافا الى ترجيح الروايات الأولى الموافقة للكتاب و فتوى الأصحاب على ما حكى عن الحدائق: ان ما دلت على جواز الجماع مخصوصة بموردها، و لا يتعدى منه و دعوى الأولوية أو إلقاء الخصوصية في غير محلها، مع وجود الخصوصية في الجماع الذي هو من

سنن المرسلين و التضييق فيه ربما يورث الوقوع في الحرام، و لعل أبا ذر رضى اللّٰه عنه تخيل عدم صحة صلوته فقال: «هلكت» و رفع النبي صلّى اللّٰه عليه و آله هذا التوهم بقوله:

«يكفيك» فلا يدل ذلك على مساواة الترابية و المائية، لأن الكفاية و الاجزاء غير المساواة في المصلحة و المطلوبية، و قوله: «هو بمنزلة الماء» ليس بصدد بيان عموم المنزلة حتى بالنسبة إلى المورد جزما، بل الظاهر أنه بمنزلته في عدم وجوب الإعادة أو في الطهورية و الاجزاء، و كذا سائر الروايات ليست بصدد التسوية بينهما من جميع الجهات ضرورة عدم التسوية التي تتوهم من ظاهرها بينهما، و الا لكان التيمم سائغا مع وجدان الماء فلا يستفاد منها الا التسوية في أصل الطهورية و أجزاء الصلاة.

و رواية العياشي «6» مع ضعفها بالإرسال لا تدل الأعلى تسويتهما في تصحيح الصلاة بهما، و لهذا استدل فيها بالاية الشريفة الظاهرة في صحة الصلاة به، مع كونه

______________________________

(1) الوسائل أبواب النميم، ب 23، ح 1

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 3

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 3، ح 2

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 23، ح 5

(5) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 6

(6) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 6

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 10

طهارة اضطرارية، فالأقوى عدم جواز اراقة الماء و تحصيل الاضطرار في غير المورد المنصوص فيه.

نعم يبقى اشكال و هو انه لو كان الأمر كذلك لوجب الاكتفاء على قدر الضرورة و الاضطرار مع عدم إمكان الالتزام به لما سيأتي من جواز البدار و جواز الاستيجار و الاستباحة لسائر الغايات التي لا يضطر المكلف إليها، و صحة الاقتداء بالمتيمم الى

غير ذلك مما لا يمكن الجمع بينها و بين القول بكون الطهارة الترابية اضطرارية، و الغايات معها أنقص مما تحصل بالمائية بنحو يلزم مراعاته، و لعله لذلك التزم المحقق (ره) في محكي معتبره بجواز الإراقة، و هو كما ترى مخالف لظاهر الأدلة كتابا و سنة و فتاوى الأصحاب، كما ان الالتزام بلزوم الاكتفاء بمقدار الضرورة غير ممكن مخالف للأدلّة الآتية خصوصا في بعض الفروع.

و قد التزم بعض أهل التحقيق بأن للطهارة المائية من حيث هي لدى الإتيان بشي ء من غاياتها الواجبة مطلوبية وراء مطلوبيتها مقدمة للواجبات المشروطة بالطهور و وجوب حفظ الماء، و حرمة تحصيل العجز لأجل ذلك، لا لكون الغايات لأجل المائية تصير واجدة لخصوصية واجبة المراعاة.

و هو كما ترى ليس جمعا بين الأدلة و تصحيحا لها، بل هو طرح طائفة منها كظاهر الآية الشريفة الدالة على ان الطهارة بمصداقيها شرط للصلاة، و لازمة كون الصلاة معهما مختلفة المرتبة، كما يتضح بالتأمل في الآية، و لا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر بلا حجة، مع ان هذه المطلوبية النفسية خلاف ارتكاز المتشرعة و جميع الأدلة.

و الذي يمكن ان يقال في رفع الاشكال: أن الصلاة مع المائية أكمل منها مع الترابية بمقدار يجب مراعاته كما هو ظاهر الأدلة المتقدمة، و مع العجز تتحقق مفسدة واقعية مانعة عن عدم تجويز البدار و عدم تجويز سائر الغايات و هكذا، فوجوب حفظ الماء لأجل وجوب تحصيل المصلحة اللزومية، و بعد فقد الماء و عروض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 11

العجز تجويز الإتيان بسائر الغايات و تجويز البدار و غير ذلك لأجل التخلص عن مفسدة واقعية لازمة المراعاة، و هذا الوجه و ان كان

صرف احتمال عقلي لكن يكفى ذلك في لزوم الأخذ بالظواهر و عدم جواز طرحها كما لا يخفى.

و اما الالتزام بحصول جهة مقتضية في ظرف الفقدان توجب تسهيل الأمر على المكلفين فغير دافع للإشكال، لأن الجهة المقتضية ان كانت مصلحة جابرة يجوز للمكلف تحصيل العجز، و الا لا يعقل تفويت المصلحة بلا وجه تأمل.

ثم انه لا فرق في وجوب حفظ الطهور و عدم جواز تحصيل العجز بين قبل حضور زمان التكليف و بعده، و ما يتخيل من الفرق بان التكليف غير متعلق بذي المقدمة قبل حضور الوقت، أو غير فعلى، أو غير منجز، و المقدمة تابعة لذيها، غير مسموع لما قلنا بعدم وجوبها شرعا، بل وجوب الإتيان بها عقلي محض، و على فرض وجوبها حديث تبعيتها لذيها لا أصل له، بل يمكن تعلق الإرادة الغيرية بها قبل تعلق الإرادة بذيها بناء على كون الوقت شرطا و عدم وجوب المشروط قبل شرطه، لأن مبادي تعلق الإرادة الغيرية غير مبادي الإرادة النفسية، و التفصيل موكول الى محله و لعله يأتي من ذي قبل بعض الكلام فيه.

و كيف كان لا بد من ملاحظة حكم العقل، و لا إشكال في ان العقل حاكم بعدم جواز تحصيل العجز عن تكليف يعلم بحضور وقته، و حصول جميع ما يوجب الفعلية و التنجيز فيه، فإنه مع العلم بالغرض المطلق الاستقبالي لا يجوز عقلا تفويته بتعجيز نفسه، بل لا يجوز تفويت المقدمة و لو مع احتمال حصول القدرة عند حضور وقت العمل.

و اولى بذلك ما إذا كان واجدا في الوقت، و ان احتمل الوجدان فيه، فلا يجوز عقلا اراقة الموجود بمجرد احتمال تجدده بعد ذلك، لحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز، و

احتمال التجدد ليس عذرا عند العقلاء ولدي العقل.

و ما قيل من جريان البراءة عن التكليف المتعلق بهذه المقدمة بعد كون الشك في انحصارها و الشك في توقف ذي المقدمة على هذا الماء بالخصوص و الشك في وجوب حفظه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 12

غير وجيه لعدم وجوب المقدمة و عدم كون مخالفتها على فرض وجوبها موجبة لاستحقاق العقاب عليها فلا مجرى للبراءة فيها، و اما ذو المقدمة فواجب مطلق منجز فرضا يجب عقلا الخروج عن عهدته، و مجرد احتمال تجدد القدرة لا يوجب التعذير العقلي لو فرض عدم التجدد، و الشاهد حكم العقل في نظائره، فمن كان مكلفا بضيافة ضيف لمولاه، و كانت موجبات ضيافته و أسبابها حاصلة لديه، و احتمل عدم إمكان حصولها بعد ذلك احتمالا عقلائيا، هل ترى من نفسك معذوريته في تفويت المقدمات؟ و هل له الاعتذار باحتمال تجدد القدرة بل و ظنه به؟

فما اختاره بعض أهل التحقيق من جواز الإراقة حتى في الوقت باحتمال الوجدان بعد ذلك تمسكا بالبراءة غير سديد، و مما ذكر تعلم حرمة إبطال الطهارة و نقض الوضوء مع العلم بعدم تمكنه أو الاحتمال العقلائي المعتد به، سواء في ذلك قبل حضور الوقت و بعده.

ثم اعلم ان المراد بحرمة نقض الوضوء أو وجوب حفظ الطهارة ليس الا عدم المعذورية بالنسبة الى ما يفوت منه لأجل الطهارة المائية من التكليف النفسي، و الا فترك التكليف الغيري على فرضه لا يوجب العقوبة، بل لا يكون حفظ المقدمة واجبا شرعا، و لا تفويتها حراما كذلك كما مر.

إذا عرفت ما ذكر فالمباحث كما تقدم أربعة:

المبحث الأول فيمن يشرع له التيمم،

اشارة

و ان شئت قلت فيما يصح معه التيمم، و هو أشخاص أو أمور

يحويهم المعذور عقلا أو شرعا عن الطهارة المائية أو يحويها العذر كذلك عنها، و المراد من العذر هو ما بحسب الواقع لا الظاهر، كالقاطع بعدم الماء مع وجوده فإنه معذور عن الوضوء عقلا لكن لا يشرع له التيمم واقعا.

و لعل ما ذكرنا اولى مما في القواعد حيث عدّ الشي ء الواحد الجامع للمسوغات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 13

هو العجز عن استعمال الماء فان العجز ان كان عقليا يخرج منه كثير من المسوغات و ان كان أعم من العقلي و الشرعي كما في الجواهر يخرج منه أيضا بعضها كالخوف على مال لا يجب حفظه، أو بعض مراتب النفس ان قلنا بعدم حرمته، و كباب المزاحمة مع الأهم، فإن فيها لا يعجز عقلا و لا شرعا، اما عقلا فواضح و اما شرعا فلعدم الحرمة الشرعية فيها، بل التحقيق عدم سقوط الأمر عن المهم كما ذكرنا في باب التزاحم، فحينئذ يكون التعبير عن الجامع بان المسوغ سقوط وجوب الطهارة المائية غير وجيه أيضا لعدم السقوط في موارد التزاحم، و ان كان المكلف معذورا في تركه كما حقق في محله.

و اما عنوان المعذور عقلا أو شرعا عن المائية فالظاهر جمعه لجميع المسوغات حتى ضيق الوقت، فان في بعضها يكون العذر عقليا و في بعض شرعيا و في بعض شرعيا و عقليا، و لا يهم البحث عنه، و الاولى صرف عنان الكلام الى مفاد الآية الكريمة، ليعلم مقدار سعة دلالتها للأعذار.

فنقول ان قوله «وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ» لا يتفاهم منه عرفا ان للمرض موضوعية و استقلالا في تشريع التيمم، بحيث يكون الحكم دائرا مدار عنوانه، بل الظاهر منه هو المرض الذي يكون عذرا عند العقلاء

من استعمال الماء، و يكون الغسل و الوضوء منافيا له، و مضرا بحال المريض دون ما لا يضره، فضلا عما إذا كان نافعا.

و يمكن ان يقال ان العرف كما يقيد المرض بذلك، كذلك يلغى خصوصية عنوان المريض، و يفهم منه ان الميزان هو العذر عن استعماله و لو لم يكن عذره المرض كالذي يكون كسيرا أو به جرح و قرح، يكون استعماله مضرا بحاله، فالمفهوم من الآية تشريع التيمم للمعذور عن استعمال الماء لمرض و شبهه، و كذا لا يرى العرف خصوصية للسفر و موضوعية له، بل يرى ان ذكره لأجل كون الابتلاء بالفقدان فيه غالبا، خصوصا في الأسفار التي في تلك الأزمنة و الأمكنة.

فما عن أبي حنيفة من ان الفقدان في السفر يوجب التيمم لا في الحضر ليس بشي ء كما لا يرى الخصوصية للمجي ء من الغائط أو لمس النساء، بل يرى ان الميزان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 14

حصول الحدث الأصغر أو الأكبر، كما ان المراد من عدم الوجدان الذي هو قيد لقوله على سفر هو الوجدان بنحو يمكن معه الوضوء، فيشمل عدم الوصلة ككونه في بئر أو محفظة لا يتيسر الوصول اليه، و كذا يشمل ما إذا كان الماء قليلا لا يفى بالاحتياج فلا يكون وجدانه بعنوانه موضوعا للحكم، بل هو عنوان طريقي إلى تيسر استعماله أو كناية عنه، فلو وجد الماء لكن لا يكون تحت سلطته بحيث جاز استعماله شرعا و عقلا لا يعد واجدا.

و قوله «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» بناء على ما تقدم من كونه مربوطا بقوله «إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ» و يكون بيانا لنكتة تشريع التيمم، يدل على انه كلما

كان الوضوء و الغسل حرجيا سواء كان الحرج في نفسهما أو مقدماتهما يتبدلان بالتيمم، فيكون المتفاهم من الآية صدرا و ذيلا بإلغاء الخصوصيات عرفا، و مناسبات الحكم و الموضوع، ان التيمم طهور اضطراري مشروع عند كل عذر شرعي أو عقلي، و لو فرض عدم استفادة بعض الموارد منها، لكن بعد العلم بعدم سقوط الصلاة بحال، و ان لا صلاة الا بطهور، و ان التيمم أحد الطهورين، لا يبقى إشكال في توسعة نطاق شرعه لكل الاعذار هذا مع ان الحكم مستفاد من التدبر في مجموع روايات الباب فراجع.

و كيف كان لا بد من التعرض لبعض أسباب العذر تفصيلا و هو أمور:

[السبب] الأول عدم الماء

اشارة

و لا اشكال نصا و فتوى في كونه من المسوغات من غير فرق عندنا بين السفر و الحضر، كان السفر طويلا أو قصيرا، و ما عن السيد ليس خلافا في هذه المسألة بل في مسألة الاجزاء.

نعم خالف في ذلك أبو حنيفة و أحمد في إحدى الروايتين و زفر على ما حكى عنه فقالوا: ان الحاضر العادم الماء لا يصلى، بل عن زفر لا يصلى قولا واحدا، و لا اعتداد بخلافهم، و يردهم ظاهر الآية كما عرفت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 15

كما لا إشكال في وجوب الطلب و الفحص عن الماء في الجملة، و حكى الإجماع عليه عن الخلاف و الغنية و المنتهى و التذكرة و جامع المقاصد و إرشاد الجعفرية و التنقيح و المدارك و المفاتيح و ظاهر المعتبر، بل عن السرائر دعوى تواتر الاخبار به.

و يدل عليه إطلاق الآية الشريفة لما عرفت من ان الظاهر منها ان التكليف بالصلاة مع المائية غير مقيد بحال الاختيار بل مطلق، و ان

التعليق بعنوان اضطراري هو عدم وجدان الماء ظاهر عرفا في أن الترابية طهارة اضطرارية سوّغها الاضطرار و الإلجاء، مع بقاء المطلوبية المطلقة في المائية على حالها، و معه يجب عقلا الفحص و الطلب في تحصيل المطلوب المطلق الى زمان اليأس، أو حصول عذر آخر، و ليس الشك في العذر عذرا عند العقلاء، نظير الشك في القدرة في الاعذار العقلية، بل الظاهر من الآية ان تعليق التيمم على عدم الوجدان ليس لأجل تحديد موضع المائية فقط، بل لما كان حكم العقل مع فقد الماء هو سقوط الصلاة لعدم القدرة عليها مع المائية أفادت الآية الكريمة مطلوبيتها مع الترابية، و عدم سقوط أمرها بمجرد العجز عن المائية، و ان الترابية مصداق اضطراري يجب عند فقدان الماء، (فح) يحكم العقل بوجوب الطلب الى حدّ الياس، و إحراز العذر بل يمكن استفادة لزوم الطلب من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا فان الظاهر منه عدم الوجدان بعد الفحص و الطلب كما يظهر بالتأمل في صيغ الماضي و المضارع، منه و من مرادفاته في الفارسية.

و لا يلزم ان يكون المتفاهم من جميع الصيغ حتى اسم الفاعل و المفعول كذلك، فلا ينتقض بالواجد و الموجود فإنه قد يدل بعض المشتقات و لو انصرافا على معنى لا يفهم من الأخر، كالماء الجاري حيث يدل على الجريان من مبدأ نابع بخلاف جرى الماء، لصدقه على ما جرى من الكوز، و العمدة في وجوب الطلب هو ما ذكر.

و اما رواية السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على عليه السّلام «قال: يطلب الماء في السفر ان كانت الحزونة فغلوة، و ان كانت سهولة فغلوتين، لا يطلب أكثر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2،

ص: 16

من ذلك» «1» ففيها اشكال لا لضعف سندها، فإن الأرجح وثاقة النوفلي و السكوني، كما يظهر بالفحص و التدبر في رواياتهما، و عمل الأصحاب بها، و عن الشيخ إجماع الشيعة على العمل بروايات السكوني، و قلما يتفق عدم كون النوفلي في طريقها، و عن المحقق في المسائل الغرية انه ذكر حديثا عن السكوني في ان الماء يطهر و أجاب عن الإشكال: بأنه عامي، بأنه و ان كان كذلك فهو من ثقات الرواة و في طريقها النوفلي و لم يستشكل فيه.

و بالجملة لا ضعف في سندها و لو سلم فهي مجبورة بعمل الأصحاب قديما و حديثا بل لدلالتها فان الظاهر منها انها بصدد بيان مقدار الفحص بعد مفروضية أصله، و اما كونه واجبا أو مستحبا فلا تتعرض له، فقوله: يطلب في الحزونة كذا و في السهولة كذا، يراد به ان مقدار الطلب المفروض كذا، و لا يطلب زائدا من ذلك، و ذلك مثل ان يقال يغتسل للجمعة من بين طلوع الفجر الى الزوال، فان الظاهر منه بيان زمان إتيان الغسل لا وجوبه بين الحدين، و كيف كان لا نحتاج في أصل الوجوب الى تلك الرواية بعد حكم العقل و دلالة الآية الكريمة.

و اما رواية على بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت أ يتيمم؟» الى أن قال: «فقال له داود بن كثير الرقي: فأطلب الماء يمينا و شمالا؟ قال: لا تطلب يمينا و لا شمالا و لا في بئر، إن وجدته على الطريق فتوضأ و ان لم تجده فامض» «2» فبعد ضعف سندها بعلى بن سالم المشترك بين المجهول و البطائني الضعيف، و قرب احتمال كونها عين الواقعة التي نقلها داود،

«قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معى ماء، و يقال ان الماء قريب منا أ فأطلب الماء و انا في وقت يمينا و شمالا قال: لا تطلب الماء و لكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل و يأكلك السبع» لبعد سؤاله عنه مرتين، و لشباهة ألفاظهما و ان ترك بعض الخصوصيات في كل منهما.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 2

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 3، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 17

فمحمولة على الخوف من اللص و السبع، و الإطلاق لأجل كون الأسفار في تلك الأزمنة و الأمكنة مظنة الخطر نوعا، و لهذا نهى عن الطلب في رواية داود من غير فصل معللا بما ذكر.

بل في رواية يعقوب بن سالم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل لا يكون معه ماء و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك؟ قال: لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع» «1» فمع فرض وجود الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين قال: لا آمره لأجل تغرير النفس و تعرض اللص و السبع، فيتضح منه ان الطلب واجب لو لا ذلك، و انه عليه السّلام مع الأمن من ذلك يأمره به، لكن لما كانت تلك الحوادث في تلك الاسفار كثيرة نوعا قال ما قال، و كيف كان لا يمكن الاتكال برواية على بن سالم.

فتحصل مما ذكر وجوب الطلب، و لا إشكال في ان حكم العقل بوجوبه بعد دلالة الآية على المطلوبية المطلقة للطهارة المائية هو الفحص الى زمان اليأس أو ضيق الوقت، كما تدل عليه

صحيحة زرارة عن أحدهما عليهما السلام «قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم و ليصل في آخر الوقت، و إذا وجد الماء فلا قضاء عليه و ليتوضأ لما يستقبل» «2» لكن موثقة السكوني حاكمة على حكم العقل، و شارحة لمفاد الآية الكريمة، و مبينة لمقدار الطلب و نافية لوجوب الزيادة.

و اما صحيحة زرارة فكما انها معارضة لرواية السكوني، معارضة لطائفة من الروايات الآتية في محلها الدالة على جواز البدار، و صحة الصلاة في سعة الوقت مع التيمم، كصحيحة زرارة «قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام: فإن أصاب الماء و قد صلى بتيمم و هو في وقت قال: تمت صلوته و لا اعادة عليه» «3» و مثلها غيرها و موافقة لطائفة اخرى

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 3 ح 2.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 9

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 18

الدالة على عدم جواز البدار، سواء في ذلك «فليطلب» كما في رواية الكليني أو «فليمسك» كما في رواية الشيخ بطريق آخر غير الكليني، فإن وجوب الإمساك عن الصلاة إلى ضيق الوقت كما هو مخالف لما دل على جواز البدار، كذلك وجوب الطلب اليه مخالف له، و الجمع العقلائي بينها و بين مخالفاتها هو حملها و حمل سائر ما أمر فيها بالتأخير إلى ضيق الوقت على الاستحباب، فيرتفع التعارض بين جميعها. و منها رواية السكوني الدالة على أن مقدار الطلب غلوة سهم أو سهمين.

و هذا الجمع أقرب بنظر العرف من الجمع الذي صنع بعض المحققين بحمل رواية السكوني على من أراد الصلاة في مكان

مخصوص، كما لو نزل المسافر بعد الظهر منزلا و أراد ان يصلى فيه، و حمل صحيحة زرارة على من ضرب في الأرض فله الضرب في جهة من الجهات و لو في الجهة الموصلة إلى المقصود برجاء تحصيل الماء الى أن يتضيق الوقت فان العود الى المكان الأول ليس واجبا تعبديا، فحيثما طلب الماء في جهة و لو في الجهة المؤدية إلى المقصود بمقدار رمية سهم أو سهمين، فله أن يصلى في المكان الذي انتهى اليه طلبه، لكن يجب عليه الفحص فيما حوله بالنسبة إلى المكان الذي انتهى اليه، فله في هذا المكان كالمكان الأول أن يختار أولا الضرب الى مقصده، و هكذا الى أن يتضيق الوقت، فثمرة العود الى المكان الأول جواز الصلاة و لو مع عدم الضيق بعد الفحص عن سائر الجهات، فتقيد صحيحة زرارة بغير هذه الصورة «انتهى».

لان الجمع المذكور مضافا الى كونه بهذا الوجه الدقيق مخالفا للأنظار العرفية مع ان الميزان في الجمع بين الاخبار هو فهم العرف العام و مقبوليته عندهم، و مضافا الى إباء العرف من تقييد الصحيحة القائلة بأنه فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم، بأنه كلما أراد الصلاة لا يجب الفحص الى ضيق الوقت، بل يكفى مقدار سهم أو سهمين، ان الصحيحة محمولة على الاستحباب على اىّ تقدير. لمعارضتها لروايات جواز البدار الآتية، فلا تعارض رواية السكوني

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 19

ثم انه يجب التنبيه على أمور:
الأول: قد عرفت ان خبر السكوني ليس بصدد إيجاب الطلب بل بصدد بيان مقداره،

فيكون إيجابه بحكم العقل و دلالة الآية كما مر، و قد مر ان حكم العقل بوجوبه لتحصيل المطلوب المطلق انما هو في جميع الوقت، و في كل جهة محتملة الى حد اليأس ففي كل جهة

يحتمل وجود الماء يحكم بالفحص إلى اليأس لو لا دليل على عدم لزومه و قد دلت رواية السكوني على تقدير الفحص بغلوة أو غلوتين لا أزيد، فالرواية في مقام تقدير ما وجب عقلا، فالرواية مع حكم العقل دالة على لزوم الفحص في الجهات الى الحد المذكور فيها و المراد من الجهات الأربع ليس الخطوط المتقابلة، بل كل جهة هي ربع الدائرة، فلا بدّ من الفحص في جميع سطح الأرض في الجهات، فيكون محل المصلى كالمركز الذي تحيط به دائرة قطرها، غلوة أو غلوتين، و يجب الفحص في جميع تلك الدائرة اى السطح المحاط بالخط الموهوم، و هذا هو المراد من النص و الفتوى.

الثاني: الحزونة و السهولة

الواردتان في رواية السكوني يحتمل أن تكونا بمعنى ما غلظ من الأرض و ضده. بان يكون عنوان الأرض مأخوذا في مفهومهما كما يظهر من بعض تعبيرات اللغويين، ففي الصحاح: السهل نقيض الجبل، و الحزن ما غلظ من الأرض.

و عن الأصمعي: الحزن الجبال الغلاظ و يحتمل أن تكونا بمعنى الغلظة و ضدها من غير اعتبار الأرض فيهما، و انما نسبتا إليها، و قيل السهل من الأرض و الحزن منها كما يظهر من بعض تعبيراتهم، ففي الصحاح بعد قوله: و الحزن ما غلظ من الأرض قال: و فيها حزونة، يظهر منه ان الحزونة الغلظة، و يقال في الأرض حزونة اى غلظة.

و في المنجد: حزن يحزن حزونة المكان صار حزنا اى غليظا، و هو كصريح في ان الحزن هو نفس الغلظة، لا ما غلظ من الأرض، و ان قال بعده: الحزن ما غلظ من الأرض، و لا يبعد ان يكون الاحتمال الثاني أرجح فيقال: أرض سهلة و حزنة، و رجل سهل الخلق

كتاب الطهارة (للإمام

الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 20

و نهر سهل اى ذو سهولة، و سهل الموضع، بل و أسهل الدواء بمعنى، و يفهم بالانتساب الى المتعلقات كيفية السهولة، و كذا الحزن فإذا قيل للجبال الغلاظ الحزن كصرد و للشاة السيئة الخلق الحزون، و لقدمة العرب على العجم في أول قدومهم الذي اسحقوا فيه ما اسحقوا من الدور و الضياع الحزانة، يكون بمعنى واحد. بل لا أستبعد أن يكون الحزن مقابل الفرح من هذا الأصل و ان اختلفت الهيئات.

ثم على الاحتمال الأول يكون الميزان في الغلوة و الغلوتين سهولة الأرض و حزونتها ذاتا، سواء كانتا في الخبر خبرا و الكون ناقصا أو فاعلا و هو تاما، لان المفروض مأخوذية عنوان الأرض فيهما، و لا ريب في انهما إذا كانتا صفة الأرض تلاحظ غلظتها و سهولتها الذاتية ككونها جبلا و بسيطا فلا تنافي السهولة الأشجار فيها، فاراضى العراق سهلة مع ما فيها من الأشجار، فلا بد من اسراء الحكم الى غيرها كالأراضي المشجرة من دعوى إلغاء الخصوصية و العهدة على مدعيها.

و اما على الاحتمال الثاني الراجح فان كان الكون ناقصا و قدرت الأرض اسما له بقرينة المقام يكون الأمر كما مرّ و ان كان تاما و يكون المعنى ان تحققت حزونة فكذا من غير انتساب إلى الأرض، يمكن استفادة سائر الموانع كالشجر و الثلج الغليظ منها، و لو لم يمكن استظهار تمامية الكون و الوثوق بترجيح ثاني الاحتمالين فلا محيص عن الاحتياط، لما عرفت من حكم العقل و دلالة الآية، و ان رواية السكوني لتقدير المقدار فمع إجمالها يحتاط في موارد الاحتمال بالأخذ بأكثر الحدين، و كذا في كل مورد مشكوك فيه.

و اما الغلوة بفتح المعجمة: المرة

من غلا. و هي رمية بأبعد المقدور.

قال في الصحاح: غلوت بالسهم غلوا إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، و الغلوة الغاية رمية سهم، و قال: غلا يغلو غلوا اى جاوز فيه الحد و يظهر منه مجيئها بمعنى رمية سهم أيضا.

و في القاموس: غلا فى الأمر غلوا: جاوز حده، و بالسهم غلوا و غلوا رفع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 21

يديه لأقصى الغاية، الى ان قال: فهو رجل غلاء كسماء اى بعيد الغلو بالسهم، و السهم ارتفع في ذهابه و جاوز المدى (أي الغاية).

و في المنجد غلا يغلو غلوا و غلوا السهم و بالسهم: رمى به أقصى الغاية، غالا غلاء و مغالاة السهم و بالسهم: رمى به أقصى الغاية الى أن قال: الغلوة المرة من غلا الغاية و هي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه المغلي، و المغلاة سهم يغلى به أي يرمى به أقصى الغاية.

و الظاهر ان الغليان و الغلو في باب المبالغة و الغلاء في السعر كلها من هذا الباب و هو التجاوز إلى أقصى الغاية.

نعم في مجمع البحرين و في الحديث ذكر الغلوة و هي بالفتح: مقدار رمية سهم، الظاهر منه انها لغة كذلك و قد عرفت ما في اللغة، و لا يبعد ان يكون استعمالها في مطلق رمية بنحو من التوسع، و الا ففي كل مورد استعملت تكون بالمعنى المعروف المتقدم، بل لا يبعد أن تكون الغالية المركبة من عدة من الطيب أيضا بلحاظ المعنى المتقدم هذا حال اللغة.

و اما الفقهاء فقد اختلفت كلماتهم: فمنهم من قدر المقدار برمية سهم كالشيخ في نهايته و عن مبسوطة، و عن المفيد و أبى الصلاح مثله، و في الوسيلة

و الغنية و اشارة السبق كذلك.

و منهم من قدّره بغلوة سهم أو غلوتين كالمراسم، و عن ابن إدريس وحده ما وردت به الروايات و تواتر به النقل في طلبه، إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين، و إذا كانت حزنة فغلوة سهم، و في الشرائع و النافع و القواعد و الإرشاد التعبير بالغلوة و الغلوتين، و عن المعتبر و التقدير بالغلوة و الغلوتين رواية السكوني و هو ضعيف غير ان الجماعة عملوا بها، و منه يظهر عمل الجماعة بها بما لها من التعبير و الظاهر ان التفسير بالرمية و الرميتين اجتهاد منهم، ضرورة انه لا يكون في الباب غير رواية السكوني و مرسلات الحلي، و فيها الغلوة و الغلوتين، فلا يكون دليل على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 22

الرمية و الرميتين، و لهذا ترى ان بعضهم فسرت الغلوة بالرمية.

قال في كشف الغطاء: الغلوة الرمية بالسهم المتوسط في القوس المتوسط من الرامي المتوسط، مع الحالة المتوسطة في الهواء المتوسط، و الوضع المتوسط و الجذب و الدفع المتوسطين.

و في المسالك الغلوة مقدار الرمية من الرامي المعتدل بالالة المعتدلة. و مثلهما ما في بعض كتب من قارب عصرنا، و قد عرفت ان هذا التفسير مخالف للغة بل العرف، فالمعتبر في الرمي هو الى أقصى الغاية و أبعد ما يكون مقدورا، نعم يعتبر في الرامي و الإله و غيرهما المتوسط المتعارف لانه المتفاهم من التحديدات كالشبر و الذراع و هكذا.

لكن الإشكال في المقام هو عدم إمكان تعيين المقدار خارجا لعدم تداول الرمي في هذه الأعصار، و ما هو المعتبر هو الغلوة و الغلوتين من الرامي المتدرب في الفن، كما كان في عصر صدور الرواية، و

معلوم ان الرامي الذي فنه ذلك يرمى بما لا يمكن لغيره (فح) لا محيص عن الاحتياط و الأخذ بالمقدار المحتمل العقلائي، فإن الدليل على الوجوب ليس رواية السكوني حتى يقال بعدم الوجوب الا بمقدار متيقن فينفى الزائد بالأصل، بل يحكم العقل بالوجوب الى ان يحرز المعذّر مضافا الى ان شرع التيمم معلق على عدم الوجدان، فلا بد من إحراز موضوعه لدى الشك.

الثالث [ما المراد من عدم وجدان الماء]

لا شبهة في ان المتفاهم عرفا من الآية الكريمة و لو بسبب مناسبة الحكم و الموضوع و ما هو مرتكز في الذهن، ان المراد بعدم الوجدان هو عدم وجدان ما يمكن أن يستعمل في الوضوء و الغسل، بل هو الظاهر من قوله «فَلَمْ تَجِدُوا» بعد قوله: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا إلخ» «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» فعدم الوجدان أعم من عدم الوجود واقعا، و من الوجود مع عدم العثور و عدم التقصير في الفحص بالمقدار المأثور.

فلا يكون الموضوع في تشريع التيمم عدم الماء فقط، و لا يكون عنوان عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 23

الوجدان معتبرا فيه حتى يقال لازم الأول بطلان التيمم لو كان الماء موجودا واقعا مع عدم العثور عليه و لو بعد الفحص الكامل، و لازم الثاني عدم الصحة حتى مع العلم بعدم الماء حتى مع موافقته للواقع، بل لا بد له من الضرب في الأرض بالمقدار المأثور حتى يصير الفقدان وجدانيا، للفرق بين العلم بالعدم و عدم الوجدان، فان الاحتمالين خلاف المتفاهم العرفي، فإن الطلب المتفاهم من قوله «فَلَمْ تَجِدُوا» لأجل تحقق موضوع تشريع التيمم، و هو عدم الماء الذي يمكن عقلا و شرعا استعماله في الطهارة، فإذا علم بعدم وجوده علم بتحققه،

فلا وجه بعد للطلب كما انه لو طلب الغلوة أو الغلوتين، و لم يجد يتحقق الموضوع و هو عدم الماء الذي يمكن له استعماله خارجا للعجز عن استعمال ما لا يعثر عليه.

فتحصل مما ذكر أن عدم الماء الكذائي موضوع لشرع التيمم، فإذا تفحص قبل الوقت أو في الوقت و علم بعدم الماء يستصحب الى زمان قيام الامارة على وجوده و هو يحرز ما هو موضوع من غير فرق بين قبل الوقت و بعده، بل و لا بين الارتحال من مكان الطلب و العود اليه و بين عدمه، و من غير فرق بين صلاة واحدة و صلوات عديدة، فما عن المحقق في المعتبر و العلامة و الشهيد من عدم الاعتداد بالطلب قبل الوقت بل يجب إعادته الا أن يعلم استمرار العدم الأول، فغير وجيه.

و ان استدل عليه في الجواهر تارة بظاهر ما دلّ على وجوبه من الإجماعات و غيرها و هو لا يتحقق الا بعد الوقت، و اخرى بأن صدق عدم الوجدان يتوقف عليه سيما بعد ظهور الآية الدالة على اشتراطه في إرادة عدم الوجدان عند ارادة التيمم للصلاة، و ثالثة بصحيحة زرارة المتقدمة، و رابعة بأنه لو اكتفى به قبل الوقت لصح الاكتفاء به مرة واحدة للأيام المتعددة و هو معلوم البطلان، و خامسة بأن المنساق الى الذهن من الأدلة إرادة الطلب عند الحاجة الى الماء، ثم استشكل في الاستصحاب بأنه لا يعارض ما ذكرنا من ظهور الأدلة في شرطية الطلب أن يكون بعد الوقت «انتهى ملخصا» و فيه ما لا يخفى فان الوجوب لا يكون شرعيا بل يكون عقليا محضا، لأجل حفظ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 24

المطلوب المطلق

و لا دليل غيره على الوجوب، فضلا عن استفادة الوجوب الشرعي منه، لعدم ثبوت غير ما هو حكم العقل من الإجماعات، لعدم كشفها عن دليل آخر مع وجود حكم العقل، و احتمال استفادتهم الوجوب من الأدلة اللفظية أيضا.

و اما صحيحة زرارة فقد عرفت لزوم حملها على الاستحباب، و عرفت حال رواية السكوني من عدم دلالتها على الوجوب.

و اما الآية فلا يدل ذيلها اى قوله «فَلَمْ تَجِدُوا» على وجوب الطلب، بل يدل على شرطية عدم الوجدان لشرع التيمم، نعم هو ظاهر في عدم الوجدان في الوقت و قد عرفت ان الموضوع عدم الماء في الوقت و هو يحرز بالاستصحاب، و بكون الأصل حاكما على الآية، و محققا لموضوع وجوب التيمم و مشروعيته، فلا دليل على وجوب الطلب بنحو يقدم على الاستصحاب و هو حاكم أو وارد على حكم العقل.

و اما النقض بلزوم الاكتفاء بالطلب مرة لصلوات عديدة، و دعوى معلومية بطلانه فلا يتضح وجهها بعد جريان الاستصحاب و إحراز موضوع التيمم، فالأقوى بحسب القواعد كفاية الطلب الواحد مطلقا سواء كان قبل الوقت أو بعده، و سواء كان تجدد الماء محتملا أو مظنونا نعم مع قيام الامارة المعتبرة أو الوثوق بالتجدد يجب الطلب و ينبغي الاحتياط مطلقا.

و مما ذكرنا يظهر حال وجوب الطلب فإنه عقلي محض غير مرتبط بالتيمم، بل هو لأجل إحراز العذر عن ترك المطلوب المطلق أي الصلاة مع المائية، و ليس في المقام دليل لفظي يدل على الوجوب حتى يبحث عن كونه نفسيا أو شرطيا أو غيريا كما عرفت، و لو سلم دلالة مثل رواية السكوني على وجوبه أو عدم حمل صحيحة زرارة على الاستحباب فلا شبهة في عدم دلالتهما على الوجوب النفسي، لظهور

الأوامر في مثل المقام على الإرشاد، اما الى الشرطية أو الى حكم العقل، فاحتمال النفسية في غاية الضعف.

و احتمال الوجوب الشرطي أيضا ضعيف لان الظاهر من قوله في الصحيحة: «إذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 25

لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم و ليصل إلخ» ان وجوب الطلب انما هو لتحصيل الماء لا لتحقق موضوع التيمم، و ان التيمم مشروع عند خوف فوت الوقت و شرطه ذلك لا الطلب، و قوله في رواية السكوني «يطلب الماء في السفر» ظاهر في ان الطلب واجب لتحصيل الماء لا لشرطيته للتيمم، و قد مرّ تحقيق مدلول الآية.

فتحصل من جميع ذلك ان الروايات بناء على تسليم دلالتها على الوجوب إرشاد إلى حكم العقل، أو تحديد لما يحكم به كما مر في رواية السكوني.

الرابع: إذا أخل بالطلب و تيمم و صلى مع سعة الوقت

ففي الجواهر بطلانه قطعا و إجماعا منقولا ان لم يكن محصلا، لما دل على اشتراط صحته به، و لا فرق بين ان يصادف عدم الماء بعد الطلب و عدمه.

أقول: اما دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة الفرعية الاجتهادية المتراكمة فيها الأدلة العقلية و النقلية فغير وجيهة، و اما أدلة الاشتراط المدعاة فقد تقدم عدم دلالتها على اشتراط الطلب، بل الظاهر من الأدلة ان عدم الماء الذي يمكن استعماله في الوضوء و الغسل اما لفقده أو لعدم وجدانه موجب لانقلاب المائية بالترابية من غير دخالة للطلب موضوعا، و لا لعنوان عدم الوجدان، اى هذا الأمر الانتزاعي فيه، و لهذا لو علم بعدم الماء لا يجب عليه الطلب و ان لم يصدق عدم الوجدان عليه، لانه عنوان منتزع من عدم العثور عليه بالقوى الجزئية كالبصر،

و مع فرض عدم وجوب الطلب مع العلم بعدم الماء لا محيص عن القول بان عدم الماء واقعا موضوع للانقلاب و إلا لزم موضوعية العلم و لو بنحو جزء الموضوع و هو كما ترى خلاف ارتكاز العقلاء و المتفاهم من الأدلة فيكون عدم الماء واقعا تمام الموضوع للانقلاب، و ان جهل المكلف فلزوم الطلب عقلا أو شرعا لإحراز الواقعة لا لتحقق الموضوع، فلو كان الماء غير موجود في محل الطلب أو كان بوجه لا يهتدى إليه لو طلبه صحّ تيممه و صلوته، اما إذا كان بحيث لم يوجد الى آخر الوقت فظاهر بما مر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 26

و اما إذا حدث بعد الصلاة فلا طلاق الآية فإن الظاهر من صدرها انه إذا قام المكلف إلى الصلاة يجب عليه الوضوء أو الغسل و لو في سعة الوقت، و مقتضى عطف المرضى و المسافر الفاقد عليه جواز التيمم في السعة، و بعد ما علم ان المراد بعدم الوجدان عدم الاهتداء الى ما يمكن استعماله تمت الدلالة على صحة التيمم و الصلاة، لتحقق الموضوع، و ظهور الآية في الاجزاء.

و يمكن الاستدلال على المطلوب بما دل على عدم وجوب الإعادة لو وجد بعد الصلاة مع بقاء الوقت، كصحيحة زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: فإن أصاب الماء و قد صلى بتيمم و هو في وقت؟ قال: تمت صلوته و لا اعادة عليه» «1» و مثلها غيرها و هي و ان كانت في مقام بيان حكم آخر لكن يستفاد منها ان من كان تكليفه التيمم فصلى بتيمم لا اعادة عليه و ان وجد الماء في الوقت و لو أخل بالطلب حتى ضاق الوقت

تيمم و صلى و لا قضاء عليه، و عن المدارك انه المشهور، و عن الروض نسبته الى فتوى الأصحاب و في الجواهر انه الأظهر الأشهر.

و يمكن استفادته من الآية بمناسبات مغروسة في الأذهان بأن يقال: ان المراد من عدم وجدان الماء عدم وجدان ما يمكن استعماله مع حفظ الوقت، و الا فلو لم تلاحظ مصلحة الوقت أو كانت مصلحة المائية مقدمة على مصلحته لم يشرع التيمم مع عدم الوجدان، ضرورة أن عدمه لم يستمر الى آخر العمر، فإيجاب التيمم مع الفقد لأجل عدم فوت الصلاة و حفظ مصلحة الوقت، فالمراد بعدم الوجدان عدم وجدان ما يغتسل و يتوضأ به في الوقت، و مع الضيق يكون فاقدا للماء الكذائي و ان كان واجدا للطبيعة، و الظاهر من تعليق الحكم عليه انه تمام الموضوع للتبديل من غير دخالة شي ء آخر.

و دعوى الانصراف الى ما لا يكون سببه المكلف عصيانا، في غير محلها لان الظاهر منها ان الترابية مع فقد الماء طهور قائمة مقام المائية من غير دخالة لأسباب الفقد فيه بل المناسبات المغروسة في الذهن توجب إلغاء بعض القيود لو كان في الكلام و معه لا

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14. ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 27

معنى لدعوى الانصراف. و تدل عليه أيضا صحيحة زرارة المتقدمة عن أحدهما عليهما السلام «قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم و ليصلّ» إلخ «1» فإن وجوب الطلب ما دام في الوقت على فرضه لأجل تحصيل الماء لا لاشتراط التيمم به، و قوله: «فإذا خاف» إلخ ظاهر في ان خوف الفوت سبب و موضوع

تام لوجوب التيمم من اى سبب حصل، فلو أراق الماء أو قصر في الطلب أو ترك الوضوء بالماء الموجود حتى خاف الفوت يجب عليه التيمم و تتم صلوته و لا قضاء عليه لظاهر الصحيحة، بل يستفاد ذلك من مجموع الأدلة، فإنه يعلم منها ان للوقت منزلة لدى الشارع ليس لغيره و ان الصلاة لا تترك بحال.

و ما قيل ان التيمم في هذه الحال يمكن أن يكون مبغوضا فضلا عن أن يقع عبادة فاسد، فان المبغوض هو ترك الصلاة مع المائية لا إتيانها مع الترابية و لا الطهارة الترابية لعدم وجه لمبغوضيتهما.

و مما ذكرنا يتضح عدم وجوب الاحتياط بدعوى تردد المكلف به المعلوم بالإجمال لما عرفت من التكليف بالترابية و اجزائها.

الخامس: قد مرّ ان الموضوع لانقلاب التكليف بالترابية

هو عدم الاهتداء الى ما يمكنه الاستعمال، و ان شئت قلت: كون الواقعة بحيث لا يهتدى المكلف بماء يمكنه استعماله عقلا و شرعا، أو قلت: عدم الوجدان الأعم من عدم الوجود للماء الكذائي (فح) نقول: لو تفحص عن الماء بما قرره الشارع و لم يقصر فيه صح تيممه و صلوته، و لو كان الماء موجودا بحسب الواقع لتحقق موضوع الانقلاب، و اما لو قطع بعدم الماء أو عدم الاهتداء اليه أو قامت البينة على عدمه، أو عدم الاهتداء به بطلا لعدم تحقق الموضوع لعدم كون الواقعة بحيث لا يهتدى بالماء فهو واجد للماء، و ان كان قاطعا بعدمه و غير معذور واقعا، و ان كان معذورا ظاهرا و غير معاقب على ترك الصلاة مع المائية، فيجب عليه الإعادة و كذا يجب الإعادة على الناسي لماء في رحله، سواء طلب في خارجه غلوة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 2، ص: 28

أو غلوتين أولا، لأنه واجد و ان كان غافلا عنه و عدم الوجدان في خارج الرحل مع كونه واجدا فيه لا يوجب الانتقال.

و يدل عليه موثقة أبي بصير أو صحيحته «قال: سألته عن رجل كان في سفر و كان معه ماء فنسيه فتيمم و صلى ثم ذكر أن معه ماء قبل ان يخرج الوقت؟ قال: عليه أن يتوضأ و يعيد الصلاة» «1» و مقتضى إطلاقها لزوم الإعادة، و لو طلب خارج رحله، و المفروض فيها عدم الطلب في رحله.

السادس: الظاهر من الآية الكريمة كما مر عدم وجدان ما يمكن معه الوضوء

أو الغسل فعدم الماء بمقدار الكفاية كعدمه المطلق، لعدم تبعض الطهارة و عدم تلفيقها من الماء و التراب، فما يقال من استعمال ما وجد في بعض الأعضاء و التيمم غير وجيه مخالف لظاهر الآية، و لما ورد من وجوب التيمم على الجنب مع وجدان الماء بقدر الوضوء كصحيحة الحلبي «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يجنب و معه قدر ما يكفيه من الماء لوضوء الصلاة أ يتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال: بل يتيمم ألا ترى انه انما جعل عليه نصف الوضوء» «2» و مثلها رواية الحسين بن أبي العلاء «3» الا ان في آخرها بدل «نصف الوضوء» «نصف الطهور» و صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في رجل أجنب في سفر و معه قدر ما يتوضأ به؟ قال: يتيمم و لا يتوضأ» «4» و من هنا يظهر ان التمسك بمثل قاعدة الميسور في غسل ما يمكن أن يغتسل ليس في محله بعد تسليم جريانها في مثل المقام.

السابع: لو تمكن من مزج الماء الذي لا يكفيه

بما لا يسلبه الاسم فتحصل به الكفاية فهل يجب ذلك كما عن جماعة من المتأخرين منهم العلامة أولا كما عن الشيخ و أتباعه؟

مقتضى ما مرّ مرارا من ان التيمم مصداق اضطراري لدى العجز عن المصداق الاختياري

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 5

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 24، ح 1.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 24، ح 3

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 24، ح 4

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 29

و ان التكليف بالصلاة مع المائية مطلق يحكم العقل بلزوم تحصيله و لو بحفر بئر أو اذابة ثلج ما لم يكن حرجيا، أو غير ذلك من أنحاء التوصل اليه

لزوم مثل هذا العلاج لتحصيل المطلوب المطلق، و المتفاهم من الأدلة تعليق التيمم على العجز عن الماء، و ليس المراد من عدم الوجدان هو ما يقتضي الجمود عليه، و لهذا يجب الوضوء و الغسل مع وجود ثلج أو ماء جامد مع إمكان اذابتهما أو دلكهما على الجسد بنحو يحصل مسماهما بواسطة الإذابة بحرارته، ففي رواية محمد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يجنب في السفر لا يجد الا الثلج؟ قال: يغتسل بالثلج أو ماء النهر» «1» (يعنى هما سواء) و في رواية معاوية بن شريح «قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام فقال: يصيبنا الدمق و الثلج و نريد أن نتوضأ و لا نجد الا ماء جامدا فكيف أ توضأ أدلك به جلدي؟

قال: نعم» «2» فيظهر منهما و من غيرهما ان الجمود على عدم الوجدان غير وجيه، و يؤيد ذلك رواية الحسين بن أبي طلحة «قال: سألت عبدا صالحا عن قول اللّٰه عز و جل- أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً- ما حدّ ذلك؟ قال: فان لم تجدوا بشراء و غير شراء» «3».

فلو كان عنده المادتان اللتان يتركب منهما الماء حسب التجربيات الحديثة و يمكنه مزجهما حتى يحصل الماء يجب عليه، و لا أظن التزامهم بعدم الوجوب و الانتقال الى التيمم.

و ما يقال من عدم اعتناء العرف و العقلاء بهذا النحو من القدرة الحاصلة بالمعالجات غير المتعارفة، و قياسه بخلط الحنطة بالتراب غير وجيه، و القياس مع الفارق، فان المدعى اما ان العرف لا يستفيد من الآية المطلوبية المطلقة للمائية و هو كما ترى، بل

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 10، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم،

ب 10، ح 2

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 26، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 30

لا يلتزم به القائل، أو ان عدم الوجدان صادق، و لا يجب على المكلف إيجاد الماء و انسلاك نفسه في الواجد، و هو أيضا غير وجيه و لا أظن التزامه به، و ترده الروايات المتقدمة، أو ان العقلاء يرون نفوسهم عاجزة و لا يكون العلاج المذكور تحصيلا للقدرة أو لا يكون تحصيلها كذلك واجبا، و ان التكليف بمثله قبيح، فهو أيضا بجميع تقاديره ممنوع لعدم العجز بحسب الواقع مع إمكان المزج، و عدم وجوبه اما ناش من عدم التكليف المطلق أو من حصول شرط التيمم و هما ممنوعان، و اما غفلتهم عن إمكان تحصيل الماء بمثل ذلك فلا يضر بالمطلوب و ليس ذلك الا كغفلتهم عن وجود الماء، و قد عرفت بطلان التيمم معه، و كيف كان الأقوى وجوب العلاج بأيّ نحو يمكنه بلا حرج و مشقة

السبب الثاني عدم الوصلة إلى الماء،

و هو قد يكون للتعذر العقلي أو العادي كما لو كان في بئر لا يمكنه إخراجه، و الوصول اليه بوجه، أو كان في محل لا يمكنه الوصول اليه لكبر و نحوه، و منه عدم الثمن لشرائه، و هذا مما لا إشكال في التبديل به، لما عرفت من استفادته من الآية بالبيان المتقدم، و قد يكون الوصول اليه حرجيا كما كان في بئر يمكنه الوصول اليه مع الحرج و العسر، و يدل على التبديل فيه أدلة نفى الحرج.

و قد يقال: ان الظاهر من نفى الحرج في الدين ان أحكام الدين سهلة غير حرجية فإذا لزم من الوضوء أو الغسل أو نحوهما حرج يرفع بدليله، و اما إذا كان

الحرج في المقدمات فلا، لان المقدمات ليست من الدين و وجوبها عقلي لا شرعي، فما هو من الدين كالوضوء في المقام ليس حرجيا، و ما فيه الحرج ليس مجعولا و لا من الدين، و فيه ان المتفاهم من آية نفى الحرج بمناسبة كونه تعالى في مقام الامتنان انه تعالى لم يجعل تكليفا ينشأ من قبله الحرج، كان في نفس المتكلف به أو مقدماته أو نتائجه.

و يؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه استشهاد أبى عبد اللّٰه عليه السّلام في رواية عبد الأعلى الصحيحة على الأصح بالاية الكريمة «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه عز و جل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 31

قال اللّٰه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه» «1» فان الحرج ليس في مسح الإصبع برطوبة اليد بل في مقدماته من نزع الخرقة و رفع المرارة.

هذا مضافا الى إمكان استفادته من ذيل آية التيمم قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ .. فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً الى ان قال مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فان الظاهر ارتباط هذه الجملة بالمريض و المسافر و لا وجه لاختصاصها بالأول، فتكون حرجية الوضوء بالنسبة إلى المسافر الفاقد في مقدمات تحصيل الماء كالتخلف عن الرفقة و غيره، فيستفاد منها أعمية الحرج عن كونه في الطبيعة المأمور بها.

و اما روايات الركية كصحيحة الحلبي «أنه سال أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يمرّ بالركية و ليس معه دلو؟ قال: ليس عليه أن يدخل الركية لأن رب الماء هو رب

الأرض فليتيمم» «2» و مثلها صحيحة الحسين بن أبى العلاء على الأصح «3» و صحيحة عبد اللّٰه ابن أبى يعفور عنه «قال: إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجدد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد فان رب الماء هو رب الصعيد و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم مائهم» «4» ففي دلالتها على المطلوب إشكال.

أما الاوليتان فلاحتمال أن يكون ذلك لخوف السقوط و العطب أو للحرج أو لا فساد الماء على القوم لأجل سقوط الوحل و التراب من جدار البئر، و ان كان الأخير غير مناسب لقوله: «ليس عليه ان يدخل» بل المناسب له «ليس له أن يدخل» و كيف كان دلالتهما على التبديل في الجملة ظاهرة، لكن كونه للحرج غير ظاهر، الا ان يقال بشمول إطلاقهما له، أو يقال: ان خوف الضرر موجب لحرجية التكليف.

و اما صحيحة ابن أبى يعفور الواردة في الجنب فليست مربوطة بالحرج بل النهي

______________________________

(1) الوسائل: أبواب الوضوء، ب 39، ح 5

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 3 ح 1.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 3، ح 4

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 32

عن الدخول انما هو لا فساد الماء المعدّ لشرب القوافل و المارّة، و تلك الآبار في الطرق انما حفرت لاستقاء المارّة للشرب و سائر الحاجات، و لا يجوز إفسادها و الدخول فيها لعدم كونها كالمياه المباحة، و لا يجوز التصرف فيها بغير ما جعلت له و كيف كان لا ربط لها بالحرج الذي يكون الكلام فيه، و من الحرج الشراء الموجب للشدة و الضيق في المعيشة، أو للوهن في وجاهته و اعتباره

من غير فرق بين ان يكون أزيد من ثمن المثل أولا، و لا في حصول الحرج في الحال أو في الاستقبال مما يعدّ بنظر العرف حرجا، و ما دل على وجوب شرائه بمائة درهم بل بما بلغ لو سلم إطلاقه بالنسبة إلى مورد الحرج و الغض عن ان قوله في صحيحة صفوان و هو واجد لها ظاهر في انه ميسور له كما هو ظاهر ذيل خبر الحسين بن طلحة، و هو قوله «على قدر جدته» فمحكوم لدليل نفى الحرج كما هو واضح.

و من الحرج الخوف من السبع و اللص و لو كان على أخذ ماله لا على نفسه، لأن لأخذ اللص ماله و التسلط عليه مهانة و ذلة و وهنا تأبى عنها النفوس غالبا و يكون تحملها حرجيا.

و منه الخوف على العرض، فان الوقوع في معرض هتك الاعراض من أوضح موارد الحرج، و تدل على جواز التيمم عند خوف السبع و اللص مضافا الى دليل نفى الحرج رواية داود بن كثير الرقي و لا يبعد صحتها لعدم بعد وثاقة داود «قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معى ماء و يقال ان الماء قريب منا أ فأطلب الماء و أنا في وقت يمينا و شمالا؟ قال: لا تطلب الماء و لكن تيمم فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل و يأكلك السبع» «1» و رواية يعقوب بن سالم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن رجل لا يكون معه ماء و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك قال: لا آمره أن يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع» «2» و هما مختصتان بالخوف على نفسه، و

لعل اللصوص في تلك الأزمنة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 1

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 33

و الأمكنة كانوا كثيرين، و التخلف عن الرفقة كان تغريرا بالنفس نوعا لعدم إبائهم عن اراقة الدماء، و لهذا أجاب الإمام عليه السّلام بما أجاب، مع إطلاق السؤال بل لا يبعد ان يكون السؤال قرينة على الخوف، و الا فمع الأمن و وجود الماء لا يحتمل سقوط الوضوء.

و قد يكون في الوصول الى الماء ضرر مالي من غير حصول عنوان آخر كالحرج فقد استدل على سقوط المائية به بدليل «لا ضرر و لا ضرار»، و بالإجماع المحكي عن الغنية و المعتبر و المنتهى و التذكرة و كشف اللثام و المدارك، و بروايتي داود و يعقوب المتقدمتين، و باستقراء أخبار التيمم في سقوط المائية بأقل من ذلك.

و فيه ما ذكرناه في رسالة مستقلة من ان دليل الضرر ليس بصدد رفع الأحكام الضرورية كما أفادوا، بل حكم سياسى سلطاني صدر من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بما هو سلطان على الناس فراجع، و الإجماع المحكي مع كونه موهونا لأجل احتمال استنادهم إلى الأدلة مثل دليلي الضرر و الحرج و غيرهما من الاخبار، لا يبعد أن يكون معقده هو الخوف عن اللص في ماله و قد مرّ أنه حرجي مرفوع بدليله.

ففي الغنية ادعى الإجماع على الجواز عند حصول خوف لعدو من غير ذكر المال و في المنتهى ادعى عدم وجدان الخلاف في الخوف على المال من لص أو عدو أو حربي، و عن المعتبر و كشف اللثام مثله، و في المدارك هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب

على ما نقله جماعة بل قال في المنتهى: انه لا يعرف فيه خلافا بين أهل العلم «انتهى» و القيد الأخير ليس في النسخة الموجودة عندي.

و كيف كان هذه العبارات كما ترى ظاهرة في دعوى الإجماع في مورد الخوف من اللص و مثله، و هو حرجيّ كما مرّ، و الروايتان موردهما الخوف من اللص و السبع أيضا بل ظاهرهما الخوف على النفس.

و التمسك بالاستقراء في غير محله بعد ورود وجوب شراء ماء الوضوء بالغا ما بلغ، بل يمكن استفادة وجوب صرف المال لتحصيل الماء للطهارة من صحيحة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 34

صفوان في غير مورد المنصوص فيه، «قال: سأل أبا الحسن عليه السّلام عن رجل احتاج الى الوضوء للصلاة و هو لا يقدر على الماء فوجد بقدر ما يتوضأ به بمائة درهم أو بألف درهم و هو واجد لها أ يشتري و يتوضأ أو يتيمم؟ قال: لا بل يشترى، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضأت، و ما يشترى بذلك مال كثير» «1» حيث قال: ان ماء الوضوء مال كثير و هو بمنزلة التعليل. فيستفاد منه ان صرف المال لتحصيل المال الكثير عقلائي، فإذا كان تحصيل ذلك المال الكثير لازما يجب صرف المال لأجله و لو بغير شرائه كشراء الآلات و حفر البئر و إعطاء المال للإذن على الدخول في ملكه، و العبور عنه للوصول اليه، و استيجار الغير لتحصيله، بل و لو خاف من ضياع ماله في سبيل تحصيله ما لم يكن حرجيا، بل و شق الثوب النفيس إذا لم يكن فيه محذور شرعي على تأمل في الأخير، لأجل احتمال انصراف الدليل من مثله، و صدق عدم الوجدان و

عدم القدرة عرفا على تحصيله.

السبب الثالث كون الاستعمال حرجيا و لو لم يخف الضرر

كالبرد الشديد الذي يكون التوضي و الاغتسال معه ذا مشقة، و يعد التكليف معه حرجيا، أو كان في استعمال الماء ضرر موجب للهلاك أو عيب أو حدوث مرض أو شدته أو طول مدته أو صعوبة علاجه، أو عدم برئه، أو خاف على نفسه مما ذكر و أمثاله من الأمراض المعتد بها حتى مثل الشين الذي يعلو البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة مما يعتنى به العقلاء، و لا عبرة باليسير الغير المعتنى به مما لا يعد ضررا و لا حرجا و لا مرضا.

و تدل على ذلك كله الآية الكريمة وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ الى قوله تعالى مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فان عنوان المرض و ان كان صادقا على مطلقه حتى ما لا يكون استعمال الماء منافيا له أو مضرا به، لكن المناسبة بين الحكم و الموضوع، و ذكر المرض عقيب وجوب المائية توجب الانصراف الى ما تكون المائية منافيا لمرضه و مضرا به. كما يستفاد منه التبديل إذا اضرته المائية و لو لم يندرج تحت عنوان المرض

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 26، ح 1

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 35

كما لو كان به قرح أو جرح، فإنهما لا يعدان مرضا عرفا، فإنه عبارة عن اختلال مزاجىّ كالحمى و السل و غيرهما، كما ان الظاهر ان الرمد و بعض الأوجاع أيضا لا يعد مرضا عرفا.

و كيف كان يستفاد حكم جميع ما ذكر من ذكر المرض ذيل الوضوء و الغسل بمناسبة الحكم و الموضوع، هذا مع قطع النظر عن قوله «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ» إلخ و الا يكون الحكم أوضح فتدل الآية صدرا

و ذيلا على التبديل في مطلق ما ينافيه المائية، و مطلق الحرج و لو كان مأمونا من المرض، بل يكون في نفس الوضوء لأجل البرد حرج، و تدل عليه آية عدم جعل الحرج في الدين أيضا.

نعم تنصرف الأدلة عن اليسير الغير المعتنى به كما أشرنا اليه، و لعل مراد المحقق (ره) و غيره من المرض الشديد هو مقابل اليسير المذكور، و لا أظن أن يكون مرادهم اعتبار الشدة احترازا عن أول مراتب الحمى مثلا و لو كان الغسل معه مضرا به.

ثم انه يستفاد من ذيل الآية رفع المائية مع خوف المذكورات فان التكليف بها مع الخوف ضيق و حرج و تشديد على المكلف، فيعد التكليف مع خوف الهلاك أو حدوث العيوب و الأمراض تضييعا و تحريجا عليه، و مخالفا لقوله «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ» إلخ.

و تدل على ما ذكر مضافا الى الآية و الإجماع المتكرر في ألسنتهم روايات مستفيضة لو لم تكن متواترة ففي صحيحة محمد بن سكين عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قيل له ان فلانا أصابته جنابة و هو مجدور فغسلوه فمات؟ قال: قتلوه ألا سألوا ألا يمموه؟ ان شفاء العيّ السؤال» «1» و في صحيحة محمد بن مسلم: «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يكون به القرح و الجراحة يجنب؟ قال: لا بأس بان لا يغتسل يتيمم» «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 5، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 36

و في صحيحة ابن أبى نصر عن الرضا عليه السّلام «في الرجل تصيبه الجنابة و به قروح أو جروح أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا

يغتسل و يتيمم» «1» و نحوها صحيحة داود بن السرحان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «2» الى غير ذلك.

و لا فرق فيما ذكر بين الحدث الأصغر و الأكبر، و لا بين حدوثه اختيارا أولا، لكن وردت روايات منافية لذلك كصحيحة سليمان بن خالد و أبى بصير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «انه سئل عن رجل كان في أرض باردة تتخوف ان هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال: يغتسل و ان أصابه ما أصابه، قال: و ذكر انه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة و هو في مكان بارد و كانت ليلة شديدة الريح باردة فدعوت الغلمة فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقالوا: انا نخاف عليك؟ فقلت: ليس بدّ فحملوني و وضعوني على خشبات ثم صبوا علىّ الماء فغسلوني» «3» و صحيحة محمد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة و لا يجد الماء و عسى ان يكون الماء جامدا؟ فقال: يغتسل على ما كان، حدثه رجل انه فعل ذلك فمرض شهرا من البرد؟ فقال: اغتسل على ما كان فإنه لا بد من الغسل، و ذكر أبو عبد اللّٰه عليه السّلام انه اضطر اليه و هو مريض فأتوه به مسخنا فاغتسل و قال: لا بد من الغسل» «4».

و قد يجمع بينهما و بين ما تقدم بحملهما على الجنابة الاختيارية، و حمل ما سبق على الاحتلام بشهادة مرفوعة على بن أحمد عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة، قال: ان كان أجنب هو فليغتسل و ان كان احتلم فليتيمم» «5» و مرفوعة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 5،

ح 7

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 8.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 17 ح 3

(4) الوسائل: أبواب التيمم، ب 17، ح 4

(5) الوسائل أبواب التيمم، ب 17، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 37

إبراهيم بن هاشم «قال؟ ان أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه و ان احتلم فليتيمم» «1» بل عن الخلاف دعوى إجماع الفرقة على وجوب الغسل على من أجنب اختيارا، و عن المفيد و الصدوق اختياره.

و فيه ان مرفوعة ابن هاشم لا يعلم كونها رواية بل لا يبعد أن يكون ذلك فتواه جمعا بين الروايات، و مرفوعة على بن احمد مع رفعها و جهالة ابن احمد و مخالفتها للروايات الكثيرة في المجدور مع كونها آبية عن التقييد، لا تصلح للشهادة على الجمع، مع ان مثل هذا الجمع غير عقلائي و لا مقبول، و ان المذكور في صحيحة ابن مسلم «أصابته الجنابة» و لا يبعد ظهوره في غير الاختيارية و كذا الحال في صحيحتي البزنطي و ابن السرحان.

و ذكر أبى عبد اللّٰه عليه السّلام لإصابته الجنابة مع كونه منزها عن الاحتلام لا يصير شاهدا على كون السؤال عن حصولها باختياره، و التعبير عن جنابة نفسه بالإصابة التي يجب صرفها إلى الاختيارية لا يوجب ظهورها في نفسها في الاختيارية، بل لعله يوجب وهنا في الرواية.

و كيف كان هذا الجمع ضعيف غير مقبول، و أضعف منه الاتكال بدعوى إجماع الخلاف مع كون خلافه مظنة الإجماع، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه، قال:

لو أجنب مختارا و خشي البرد تيمم عندنا. و في الجواهر المشهور بين الأصحاب نقلا و تحصيلا عدم الفرق بين متعمد الجنابة و غيره.

هذا كله مع منافاة

ما ذكر للكتاب و السنة و إباء أدلة نفى الحرج من التقييد و مخالفته لسهولة الملة و سماحتها، و مخالفة بعض مراتبه للعقل كخوف تلف النفس، و لهذا خصه بعضهم بما إذا لم يخف منه زاعما لكونه جمعا بين الاخبار، و بين مثل صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «في الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ فقال: يتيمم و يصلى فإذا أمن البرد اغتسل

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 17، ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 38

و أعاد» «1».

و يتلو الجمع المتقدم في الضعف لو لم يكن أضعف منه حمل الصحيحتين على الاستحباب، بدعوى ان الغالب ان الخوف على النفس بمرض شديد أو تلف من البرد عند صحة المزاج كما هو منصرف السؤال، انما ينشأ عن احتمال موهوم في الغاية لا يجب رعايته، و المظنون الغالب في مثل الفرض الأمن من الضرر لو فرض التحمى و التحفظ بل ربما يكون الخوف من التلف و المرض من تسويلات النفس تنشأ من مشقة الفعل كما تشهد به صحيحة سليمان، حيث فرض اصابة العنت و هو المشقة فقول الامام «يغتسل و ان اصابه ما أصابه» يعنى من العنت. و اما الخوف من التلف أو المرض الواجب التحرز فلا يكون غالبا الا على الاحتمال الموهوم، و لا مانع من حمل الصحيحتين على مثل الفرض و حملهما على الاستحباب، و لا يعارضهما عمومات نفى الحرج و الصحاح المتقدمة إذ لا يفهم من العمومات إلا الرخصة، و لا من النهي في الصحاح الوارد في مقام توهم الوجوب الا جواز الترك «انتهى».

و ذلك لان دعوى موهومية

الاحتمال في المقام في غاية الضعف، و كيف يكون الاحتمال موهوما في مورد الصحيحتين مع ذكر الامام عليه السّلام في صحيحة سليمان الأمر باغتساله في ليلة باردة شديدة الريح مع الوجع الشديد، بحيث لم يتمكن من الحركة و لا من الاغتسال بنفسه فحملوه و غسلوه، و لم يقل في جواب الغلمة حيث قالوا: «انا نخاف عليك»: لا خوف علىّ، بل قال: ليس بدّ اى و لو مع الخوف، و مع حديث الرجل في صحيحة ابن مسلم «انه فعل ذلك فمرض شهرا من البرد؟ فقال عليه السّلام: اغتسل على ما كان فإنه لا بد من الغسل» مما هو كالصريح في لابدية الغسل و لو مع الخوف من المرض كائنا ما كان، بل و لو مع العلم بحدوثه، بل مع المرض الفعلي كما حكى عن غسله في مرضه.

و يتلوه في الضعف دعواه انصراف السؤال إلى صحيح المزاج و سليمة، فإنه

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 16، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 39

في نفسه و ان لا يبعد انصرافه اليه لكن الجواب و حكاية أبي عبد اللّٰه عليه السّلام مرضه و وجعه الشديد صريح في لابدية الغسل، و لو كان مريضا و سقيما، و في معرض الازدياد بل التلف و قوله في صحيحة سليمان «نتخوف ان هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل» الذي استشهد به لمرامه من ان العنت عبارة عن المشقة و قوله عليه السّلام «يغتسل و ان اصابه ما أصابه» أي من العنت و المشقة غير صالح للاستشهاد، لان العنت كما جاء بمعنى المشقة جاء بمعنى الهلاك و الفساد، و ظاهر قوله «نتخوف ان يصيبه عنت» اصابة فساد أو

هلاك و الا فأصل المشقة في الأرض الباردة معلومة، و لا يقال معها نتخوف أن يصيبه، و لو سلم لكن لحن قوله: «و ان اصابه ما أصابه» لا يلائم الحمل على المشقة فقط، و لو سلم لكن حكاية أبى عبد اللّٰه عليه السّلام اغتساله مع الوجع الشديد و الليلة الباردة و الريح الشديد، و قول الغلمة و غير ذلك مخالف لما ذكر و لو سلم ذلك في صحيحة سليمان لا يأتي احتماله في صحيحة ابن مسلم.

و أضعف من جميع ذلك حملهما على الاستحباب مع إبائهما عنه و كيف يحمل عليه قوله «يغتسل و ان اصابه ما أصابه» و قوله عليه السّلام في جواب الغلمة من الخوف على نفسه «ليس بدّ» و قوله: «يغتسل على ما كان» و قوله بعد قول الرجل: فمرض شهرا من البرد:

«اغتسل على ما كان» و قوله بعد حكاية غسله في حال المرض: «لا بد من الغسل» و لعمري ان طرح الرواية أولى من هذا النحو من الجمع!.

و كيف كان لا محيص عن طرحهما و ردّ علمهما إلى أهله بعد وهنهما بظهورهما في اصابة الجنابة عليه عليه السّلام من غير اختيار، و هو منزه عنها، و بغاية بعد الاختيارية منها في هذه الحال و في هذه الأرض الباردة المخوفة على النفس، و لمخالفتهما للعقل و الكتاب و السنة، و باعراض المشهور عنهما على ما حكى، و موافقتهما للمحكي عن أصحاب الرأي و أحمد في إحدى الروايتين.

ثم قد مرّ انه لا فرق في خوف المرض و غيره بين الشديد و الضعيف، إلا إذا كان يسيرا غير معتنى به، و اما الشين الذي ادعى عدم وجدان الخلاف في جواز التيمم معه،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني،

ط - القديمة)، ج 2، ص: 40

و عن المعتبر و المنتهى و المدارك و الكفاية جوازه عند علمائنا، و هو ظاهر في الإجماع بل عن جامع المقاصد دعواه صريحا، فان كان المراد منه بعض الأمراض الجلدية من قبيل الجرب و السوداء فلا إشكال في صحة التيمم معه، لإطلاق الآية، بل يستفاد حكمه من أدلة القرح و الجرح، اما بدعوى اندراجه فيها أو بدعوى إلغاء الخصوصية عرفا مضافا الى أدلة نفى الحرج، و ان كان المراد منه هو الخشونة التي تعلو البشرة، و قد تنتهي إلى انشقاق الجلد فمع خوف الانشقاق المعتد به ينسلك في الأدلة و لو بإلغاء الخصوصية، و مع عدمه فلا دليل عليه الا أدلة نفى الحرج، فلا بد من كونه بحد يصدق معه الحرج و المشقة، و صار التوضي مع خوفه مندرجا في التضييق و التحريج.

ثم اعلم ان ظاهر بعضهم في المقام الذي هو من جزئيات الحرج تقييده بما لا يحتمل عادة، و الظاهر منه ان الحرج عبارة عن المشقة التي لا تتحمل عادة.

و يؤيده قول بعض أهل اللغة على ما قيل ان الحرج أضيق الضيق، و في المجمع:

مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ اى من ضيق بأن يكلفكم ما لا طاقة لكم به و ما تعجزون عنه: يقال: حرج يحرج من باب علم اى ضاق.

و في كلام الشيخ على بن إبراهيم الحرج الذي لا مدخل له و الضيق ما يكون له مدخل «انتهى».

و في الصحاح مكان حرج و حرج اى ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، و نقل ذلك عن ابن عباس أيضا هذا.

لكن الظاهر من كثير من كتب اللغة تفسيره بالضيق من غير تقييد بما لا يتحمل أو

غيره.

ففي الصحاح و القاموس التحريج التضييق، و تقدم عن المجمع حرج من باب علم اى ضاق.

و في المنجد حرج الشي ء ضاق. حرجه ضيقه.

و عن النهاية الحرج في الأصل الضيق.

و حكى في مجمع البيان تفسيره بالضيق و العنت عن جميع المفسرين، بل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 41

فسره به في صحيحة زرارة المتقدمة عن المشايخ الثلاثة، قال لأبي جعفر عليه السّلام «أ و لا تخبرني من أين علمت و قلت ان المسح ببعض الرأس؟» و الحديث طويل متعرض لتفسير الآية و النكات التي فيها و قال في آخره: «ثم قال مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق» «1» و عن قرب الاسناد عن الصادق عن أبيه عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «قال: أعطى اللّٰه أمتي و فضلهم به على سائر الأمم» الى أن قال: «و ان اللّٰه تعالى أعطى أمتي ذلك حيث يقول وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول من ضيق» «2» و في موثقة أبي بصير في أبواب المياه «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: انا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر» الى ان قال «اخرج الماء بيدك ثم توضأ، فإن الدين ليس بمضيق فان اللّٰه يقول مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «3» و يظهر أيضا من بعض موارد تمسكهم بدليل نفى الحرج أوسعية الأمر مما قيل، كرواية عبد الأعلى، فإن رفع المرارة ليس مما لا يتحمل عادة بل له مشقة و كلفة.

و في الرواية المحكية عن حمزة الطيار عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام و الحديث طويل قال فيه: «و كذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد

أحدا في ضيق» «4» و عن قرب الاسناد: «عن الصادق عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: لا غلظ على مسلم في شي ء» مضافا الى أن لسان الآيات الشريفة الواردة في مقام الامتنان لسان عدم جعل مطلق الضيق كقوله يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و قوله لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا».

السبب الرابع الخوف من العطش في استعمال الماء

على نفسه أو أولاده و عائلته أو صديقه، بل

______________________________

(1) الوسائل أبواب الوضوء، ب 23، ح 1.

(2) قرب الاسناد ص 41.

(3) الوسائل أبواب الماء المطلق ب 9، ح 16.

(4) رواه الكليني في الكافي في باب حجج اللّٰه من كتاب التوحيد.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 42

كل ما يتعلق به من الإنسان و الحيوان من تلف أو حدوث مرض أو علة أو عروض حرج أو مشقة من فقد الماء لأدلة نفى الحرج، ضرورة انه كما يكون التكليف بالوضوء مع خوف ما ذكر على نفسه تحريجا و تضييقا، كذلك إذا خاف على أطفاله و عياله أو صديقه بل غلمته بل حيوانه الذي يحتاج إليه في سفره بل مطلقا، إذا كان في حفظه غرض عقلائي، سواء أخذ للذبح لكن لا يكون في السفر محل ذبحه و يشق عليه حمله أو لم يؤخذ لذلك نعم لو أخذ له و لا يتعلق الغرض ببقائه و لا يكون في ذبحه أو حمله حرج، فلا يستفاد حكمه من دليل نفى الحرج و ان لا يبعد استفادته من سائر الأدلة كموثقة سماعة «قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته؟ قال: يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء فان اللّٰه عز و

جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد» «1» لصدق خوف القلة على من كان في سفر مع عائلته و كل ما يتعلق به و يرتبط اليه إنسانا أو حيوانا، ذميا أو مسلما، بل لعله يشمل الخوف على الحربي المتعلق به و ان كان الأقرب انصرافه عن مثل الحربي الذي يجب على الناس قتله بأية وسيلة ممكنة، نعم لو لم يكن مهدور الدم لكن يكون مرتكبا لما يكون حده القتل كالقاتل و الزاني المحصن ممن يكون قتله بيد شخص خاص أو بنحو خاص، فالظاهر شمول الرواية له.

بل لا يبعد شمولها للخوف على غير ما يتعلق به آدميا كان أو غيره مما له كبد حرى، ضرورة انه مع رؤية الإنسان إنسانا أو حيوانا يتلظى عطشا بمحضر منه يكون التكليف بالوضوء عليه تحريجا و تضييقا، لان النفوس الشريفة بل الغير القاسية و الشقية تأبى عن ذلك (فح) مع خوف حصول ذلك يصدق خوف القلة بل تشمله أدلة نفى الحرج، و لا يبعد استفادته من صحيحة ابن سنان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «انه قال في رجل أصابته جنابة في السفر و ليس معه الإماء قليل و يخاف ان هو اغتسل أن يعطش؟ قال: ان خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة و ليتيمم بالصعيد فان الصعيد أحب الىّ» «2» فإن

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 3

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 1

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 43

تغيير الجواب عما هو متعارف و تنكير العطش مما يشعر أو يدل على توسعة الموضوع عن عطاش نفسه، و الا كان حق الجواب اما ان يقول: فليتيمم، أو يقول ان خاف ان يعطش أو خاف

العطش، فتبديل الجواب بما هو غير متعارف لا بد فيه من نكتة و هي افادة توسعة الحكم لخوف عطش على نفسه أو غيره آدمي أو غيره.

ثم ان الظاهر من خوف العطش و القلة أن يكونا مخوفين و لا يطلق عرفا ذلك الا على ما يكون في احتمالهما خطر هلاك أو مرض أو مشقة، و اما إذا احتمل العطش المتعارف فلا يقال يخاف من العطش أو القلة، فليس المراد احتمال حصول أول مراتب العطش، و منه يظهر ان احتمال قلة الماء لمثل الطبخ و القهوة و القليان خارج من مصب الرواية لأن القلة لا تكون مخوفة معه عادة ضرورة ان احتمال القلة لكل حاجة لا يوجب الخوف، و لا يطلق عليه- فخوف القلة ينحصر عرفا بما يكون معرضا لخطر أو حرج أو مشقة.

السبب الخامس ما إذا استلزم من استعمال الماء في الوضوء أو الغسل محذور شرعي

من ترك واجب، كما لو لزم من الاشتغال بأحدهما و الصلاة ترك إنقاذ غريق دون التيمم أو تأخير أداء الدين المطالب به و نحوهما، أو فعل محرم كاستعمال ماء مغصوب، أو العبور من طريق مغصوب أو استعمال آنية الذهب و الفضة و نحوها، أو ترك شرط معتبر في الصلاة كما لو لزم منه نجاسة مسجد الجبهة مع الانحصار و عدم إمكان التحرز أو حصول مانع كما لو لزم منه نجاسة الساتر، و منه ما لو كان الماء بقدر تطهير الثوب النجس أو الوضوء، لا ريب في صحة التيمم بل لزومه في بعض تلك الموارد، فهل يكون في جميع الأعذار الشرعية كذلك أو يكون من باب الأهم و المهم؟ و لا بد من ملاحظة قاعدة باب التزاحم.

قد يقال باستفادة كون كل عذر شرعي أو عقلي موجبا للتيمم من الآية الكريمة بدعوى ان الظاهر من

ذكر عدم الوجدان عقيب الأمر بالوضوء و الغسل عدم وجدان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 44

ما يستعمل في الطهور بلا محذور مطلقا، الا ترى انه لو وجد بأقل من الوضوء أو كان الماء للغير لا ينقدح في الذهن صدق وجدانه و عدم صحة التيمم معه، فيظهر منه ان الموضوع هو الوجدان من غير محذور.

و فيه انه لا ريب في ان الظاهر من الآية و لو بمناسبة الحكم و الموضوع هو وجدان ما يمكن استعماله في الطهارة كما مرّ ففي صورة كون الماء غير واف يتيمم كما انه لو كان الماء للغير يصدق عدم الوجدان عرفا، فإنه غير واجد لمال الغير، كما انه يستفاد حكم عدم إمكان التوصل به من الآية كما مر، لكن إلحاق كل محذور شرعي به غير ظاهر، فان الوجدان صادق بلا شبهة مع وجوده في آنية الذهب و الفضة أو كان في التوصل اليه و في طريقه محذور شرعي، فعدم الوجدان و ان عمّ ما تقدم لكنه لا يعم لمثل المحذور الشرعي، و ليس في الآية الكريمة صدرا و ذيلا ما يدل على ذلك، و لو بالارتكاز العرفي و المناسبات.

و بالجملة ان عدم الوجدان هو العرفي منه كما في جميع الموضوعات المتعلقة للأحكام و هو صادق مع ما تقدم دون مطلق المحذور الشرعي، و قياس سائر المحاذير بمثل التصرف في مال الغير اى غصب مائه في غير محله، لصدق عدم الوجدان عرفا مع كونه للغير، لا لأجل حكم الشارع بالحرمة بل لحكم العقلاء بأن الإنسان لم يكن واجدا لمال غيره، و اما إذا كان الماء له و الانية من الذهب أو من مال الغير فلا شبهة في

صدق الوجدان، و عدم إشعار في الآية على الإلحاق.

نعم يمكن ان يستدل على المطلوب ببعض الروايات:

منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد الا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال: هو بمنزلة الضرورة يتيمم» «1» حيث يظهر منها ان الضرورة أو ما هو بمنزلتها موضوع لصحة التيمم، و موردها و ان كان من الضرورات التكوينية لكن لا تقيد ما هو بمنزلة التعليل أو الكبرى بالمورد،

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 8، ح 9

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 45

و لا ريب في ان التخلص عن ارتكاب المحرم أو ترك الواجب أو شرطه أو إتيان مانعة من الضرورات عرفا و عقلا، و لا يمكن ان يقال ان المحذور الشرعي ليس محذورا في نظر العرف مع كونه متعبدا بحكم هذا الشرع، فأيّ ضرورة أعظم من التخلص عن مخالفة المولى؟.

و دعوى عدم الإطلاق في الرواية، غير وجيهة فإنه لو كان موضوع التبديل عنوانا آخر لكان قوله: «هو بمنزلة الضرورة» في غير محله خصوصا مع كونه بمنزلة التعليل فالظاهر ان كل ضرورة موجب للانتقال.

و منها صحيحة أبي بصير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت في حال لا تقدر على الطين فتيمم به فان اللّٰه أولى بالعذر» «1» حيث يظهر منها ان موضوع التبديل هو العذر من التيمم بالتراب، و هي و ان كانت في مورد آخر لكن يمكن الاستشهاد بها للمورد. تأمل.

و منها صحيحة عبد اللّٰه بن يعفور عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلوا و لا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد،

فان رب الماء هو رب الصعيد و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم مائهم» «2» بدعوى ان الظاهر من قوله: «لا تفسد على القوم مائهم» ان فساد الماء عليهم محذور يوجب الانتقال و المحذور، أما الحرمة الشرعية فيفهم انه مع وقوع الحرام لا يجوز التوضي و الغسل، و اما الغضاضة العرفية مع عدم محذور شرعي فيدل على التبديل مع المحذور الشرعي قطعا لدلالتها على صحة التيمم بأدنى شي ء و لو بمثل تنفر الطباع عن الورود في الماء.

و منها دعوى ان المتفاهم من مجموع الروايات كقوله: «انه أحد الطهورين و ان ربهما واحد و يكفى عشر سنين» و ما دل على عدم لزوم الفحص عن الماء أكثر من غلوة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 8، ح 7

(2) الوسائل: أبواب التيمم، ب 3، ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 46

و غلوتين مع احتمال وجوده بل الظن به و اخبار الركية، و ما دل على جواز إجناب النفس مع عدم الماء، و ما دل على جواز إتمام الصلاة مع التيمم لو وجد الماء بعد الدخول في الركوع، بل بعد الدخول في الصلاة على الأقرب، و ما دل على جواز البدار و جواز التيمم مع خوف العطش و لو على الذمي و الحيوان، ان الأمر في التبديل سهل يوجبه أدنى عذر.

و الانصاف ان الخدشة لو أمكنت في كل واحد مما ذكر لكن من مجموع ما ذكر تطمئن النفس بان المحذور الشرعي مطلقا يوجب التبديل، و اما لو أغمض عن ذلك و رجعنا الى باب المزاحمة فمع إحراز الأهمية في طرف يؤخذ بالأهم، و كذا مع احتمالها بناء على التعيين في دوران

الأمر بين التعيين و التخيير و مع التساوي بينهما يتخير.

و قد يقال: ان الوضوء لما كان له البدل يتأخر في الدوران عما لا يكون له البدل لكن ان أريد به دعوى إحراز الأهمية فيما ليس له البدل بذلك فهي كما ترى، و ان أريد ان الأخذ بالبدل جمع بين الغرضين في مرتبة و العقل حاكم بلزومه، ففيه ان المفروض ان احتمال الأهمية في الغرض الأقصى مساو لاحتمالها فيما ليس له البدل، فليس الأخذ به جمعا بين الغرضين.

نعم في خصوص دوران الأمر بين الوضوء و الغسل، و رفع النجاسة عن البدن و الثوب ادعى الإجماع على تقديم التطهير عن الخبث، كما عن المعتبر و التذكرة و تشهد له رواية أبى عبيدة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن المرأة الحائض ترى الطهر و هي في السفر و ليس معها ماء يكفيها لغسلها و قد حضرت الصلاة؟ قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم و تصلى» «1» فأمر بغسل البدن دون الوضوء و قد مر وجوب الوضوء مع كل غسل إلا الجنابة.

و يؤيده الأدلة الواردة في تتميم الصلاة مع التيمم إذا دخل فيها أو ركع، فأصاب الماء قائلا ان التيمم أحد الطهورين، و ما ورد في عروض النجاسة في الأثناء من وجوب

______________________________

(1) الوسائل أبواب الحيض، ب 21، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 47

غسلها أو انتزاع الثوب، و مع عدم الإمكان تبطل الصلاة فيستشعر من الطائفتين كون إزالة النجاسة أهم في نظر الشارع.

السبب السادس ضيق الوقت،

اشارة

فقد يلزم من الطهارة المائية فوت جميع الوقت و قد يلزم فوت بعضه و على الثاني قد تدرك ركعة من الوقت و

قد لا تدرك، و على اىّ تقدير قد يدرك مع التيمم جميع الوقت و قد يدرك بعضه بمقدار ركعة أو أقل أو أكثر لكن يكون الإدراك معه أكثر من الإدراك مع المائية.

و كيف كان فعن المعتبر و جامع المقاصد و كشف اللثام و المدارك عدم مشروعية التيمم لضيق الوقت لاشتراط الصلاة بالطهارة المائية، و عدم ثبوت مسوغية ضيق الوقت للتيمم لتعليقه بعدم الوجدان، و المكلف واجد للماء متمكن من استعماله، غاية الأمر أن الوقت لا يتسع له.

و عن المنتهى و التذكرة و المختلف و الروضة و غيرها مشروعيته، بل عن الرياض انه الأشهر و اختاره صاحب الجواهر (ره) و غيره ممن تأخر عنه من المحققين و هو الأقوى للاية الكريمة، فإن الظاهر منها بعد تعلق الطلب المطلق في صدرها على الوضوء و الغسل و تعليق الترابية على بعض العناوين العجزية اى المرض و الفقدان، ان التنزل الى المصداق الاضطراري و رفع اليد عن المطلوب المطلق انما هو لإلجاء المكلف بإتيان الصلاة في الوقت، فيكون حفظ مصلحة الوقت موجبا لإلجاء المكلف بإتيان الصلاة فيه كائنة ما كانت، و هذا الإلجاء و الاضطرار صار سببا لعجز المكلف عن المائية و تشريع الترابية له، فلو لا حفظ الوقت لم يكن مضطرا و لا معنى لقبول الفرد الاضطراري، و ترك المصلحة المطلقة، (فح) يستفيد العرف و العقلاء من الآية بلا اشكال ان مصلحة الترابية المتروكة لحفظ الوقت لا تدفع مصلحة الوقت، و لا تصير سببا لترك الصلاة في وقتها المضروب لها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 48

و بالجملة إذا صارت أهمية الوقت موجبة لرفع اليد عن مصلحة المائية كيف يمكن مصادمة المائية مع مصلحته، و

لا مجال لتوهم ان فقدان الماء صار موجبا لحدوث مصلحة في الصلاة مع الترابية، لأن ذلك خلاف ظاهر الأدلة آية و رواية، فإن الظاهر منها ان الترابية مرتبة ناقصة كما عبر عنها في الروايات بنصف الطهور ففي رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «الا ترى انه انما جعل عليه نصف الطهور» «1» و مثلها رواية الحسين بن أبي العلاء و ان احتمل ان يكون المراد بهما نصف الوضوء كما في صحيحة الحلبي، فيكون المقصود المسح على بعض الوجه و اليد، لكن لا ينافي ذلك فهم قصور الترابية عن المائية بل قد عرفت سابقا دلالة الآية عليه.

و بالجملة لا قصور في دلالة الأدلة على ان الوجدان المنافي لدرك الوقت يعد عدم الوجدان، و عدم مزاحمة المائية للوقت، هذا مضافا الى ان الفحص عن موارد الاعذار و ان الشارع لم يرفع اليد عن الصلاة في وقتها لأجل عذر من الاعذار و يكون التخلف عنه في غاية القلة يوجب الاطمئنان بل العلم بان للوقت أهمية لا يزاحمها شي ء من الاعذار، بل يشعر بذلك تسمية ترك الإتيان في الوقت بالفوت دون فقدان غيره من الاجزاء و الشرائط فالآتي بها بعد الوقت جامعة لسائر ما يعتبر فيها فاتت منه، و الآتي بها فيه مع فقد جل الاجزاء و الشرائط لم تفت منه، بل الناظر فيما وردت في تارك الصلاة و ان من تركها متعمدا فهو كافر أو برئت منه ذمة الإسلام، و ان تركها أعظم من سائر الكبائر، يرى ان المراد من تركها عدم إتيانها في وقتها الى غير ذلك مما يستنبط منها ان الصلاة لا تترك بحال.

و تدل على المقصود أيضا صحيحة زرارة عن أحدهما

«قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم و ليصل في آخر الوقت» «2»

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 4

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 4، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 49

فان الظاهر منها ان وجوب الطلب أو استحبابه لأجل التوصل الى المطلوب الأعلى، لا لأجل دخالته في موضوع الصلاة مع التيمم. و ان الأمر بالتيمم مخافة فوت الوقت انما هو لتقديم الشارع حفظ الوقت على الطهارة المائية، و الا فلا وجه لرفع اليد عن المطلوب المطلق فلو علم المكلف بوجود الماء بعد الوقت ليس له تركها فيه و إتيانها مع المائية في خارجه، كل ذلك لأجل رعاية الوقت و أهميته و مع ذلك كيف يحتمل أن يكون وجدان الماء المفوّت للوقت موجبا لترك الصلاة فيه مع المائية و الترابية.

فمما ذكرنا يعلم أن عدم الوجدان ليس قيدا للموضوع، بل مخافة الفوت تمام الموضوع لوجوب التيمم و عدم ترك الصلاة في الوقت.

و توهم ان التيمم انما هو لمن سبق ذكره في الرواية، و هو من لم يجد ماء فكأنه قال:

إذا كان الفاقد خائفا فوت الوقت فليتيمم، في غير محله لما أشرنا إليه من ان الأمر بالتيمم عند خوف الفوت انما هو لرعاية الوقت، و كونه أهم من المائية، و معه كيف يمكن مزاحمتها للوقت و إيجابها ترك الصلاة فيه مطلقا، و لعمري ان الحكم بعد التأمل فيما ذكرنا واضح.

هذا كله مع إدراك جميع الوقت مع الترابية و عدم إدراك شي ء منه مع المائية.

و اما إذا أدرك مع المائية ركعة من الوقت و مع الترابية جميعه، فقد يقال بتقديم المائية بدليل من

أدرك.

و تفصيل الحال انه بعد البناء على دلالة صحيحة زرارة المتقدمة على ان خوف فوت الوقت تمام الموضوع لصحة التيمم، يقع الكلام في ان المراد من قوله: «إذا خاف ان يفوته الوقت» هو خوف فوت جميع الوقت بحيث لو علم إدراك بعضه وجب أو استحب الطلب لإدراك المائية، فتكون غاية الطلب و لزوم التيمم خوف فوت تمام الوقت، و عليه إذا كان الماء موجودا و لم يخف فوت الوقت لزم الوضوء من غير احتياج الى دليل من أدرك، بل يكون مفادها أعم من دليل من أدرك أو ان المراد منه خوف فوت الوقت المضروب للصلاة، اى خوف أن يفوته ما هو ظرف لطبيعة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 50

الصلاة فمع خوف وقوع جزء منها خارج الوقت فقد خاف أن يفوته الوقت الذي هو ظرفها، فان ظرفها هو مقدار من الوقت يسع جميع الصلاة، و مع ذهاب جزء منه لا يكون الوقت وقتا لها و ان كان جزء من النهار (فح) تدل الرواية على انه مع خوف فوت الوقت و لو بجزء منه لا بد من التيمم.

و يمكن ان يقال: ان دليل من أدرك حاكم على الصحيحة و موسع لموضوعها فإنه يدل على ان إدراك ركعة من الوقت إدراك للوقت، و مع تنزيل الوقت الخارج منزلة الوقت أو تنزيل إدراك ركعة منه منزلة إدراك جميعه، أو تنزيل إدراك ركعة من الصلاة في الوقت منزلة إدراك الصلاة فيه يتم المطلوب، و يرفع خوف فوت الوقت، لكنه غير وجيه.

أما أولا: فلان ما روى عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» «1» و عن الوصي عليه

السّلام: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» «2» و عنه عليه السّلام «من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة» «3» و في لفظ آخر «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت» على ما في المنتهى و المدارك، روايات ضعاف بعضها بالإرسال و بعضها بضعف السند، و دعوى الجبر بالاشتهار بين الأصحاب مشكلة لعدم ثبوت كون اتكالهم في صحة الصلاة مع إدراك ركعة من الوقت بتلك الروايات، لورود موثقة عمار بن موسى عن أبى عبد اللّٰه (ع): «قال فان صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم فقد جازت صلوته» «4» و احتمال اتكالهم بها مع إلغاء الخصوصية الا أن يقال: ليس بناء أصحابنا خصوصا قدمائهم على التعدي من مثل الموثقة الواردة في الغداة إلى غيرها، فلا محالة يكون مستندهم تلك الروايات.

______________________________

(1) الوسائل أبواب المواقيت، ب 30، ح 4.

(2) الوسائل أبواب المواقيت، ب 30، ح 5.

(3) الوسائل أبواب المواقيت، ب 30، ح 2.

(4) الوسائل أبواب المواقيت، ب 30، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 51

و عن المدارك بعد ان نقل الروايات قال، و هذه الاخبار و ان ضعف سندها الا ان عمل الطائفة عليها، و لا معارض لها فتعين العمل بها، و الانصاف ان المناقشة فيها من هذه الجهة غير وجيهة.

و اما ثانيا: فلان قوله في النبوي: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» و كذا ما في العلوي يحتمل في بادى الأمر أحد معان: اما توسعة الوقت حقيقة لمن أدرك الركعة فيكون خارج الوقت وقتا اضطراريا، و اما تنزيل الصلاة الناقصة بحسب الوقت منزلة التامة، و اما

تنزيل مقدار ركعة من الوقت منزلة تمام الوقت، و اما تنزيل خارج الوقت منزلة الوقت.

و انما يتم المطلوب و توجه الحكومة أو الورود لو كان المراد منها المعنى الأول، فإنه مع توسعة الوقت حقيقة يرفع خوف الفوت وجدانا، فيصير دليله حاكما على الصحيحة و نتيجتها الورود، و منفيا لموضوعها تكوينا، الا ان يقال: ان الموضوع في الصحيحة خوف فوت الاختياري من الوقت، اى الوقت المضروب بحسب الأدلة الأولية المحددة للأوقات.

لكن مع ذلك الا وجه ان التوسعة الحقيقية توجب رفع خوف فوت طبيعة الوقت المأخوذة في الصحيحة، و ليس موضوعها متقيدا بالاختياري، و ان كان المنصرف مع عدم الدليل هو الوقت المضروب بحسب الأدلة الأولية لكن بالنظر الى من أدرك و تحكيمه على الأدلة يكون مقتضاه ما ذكر، و لا ينافي ذلك عدم جواز تأخير الصلاة إلى الوقت الادراكى الاضطراري كما لا يخفى.

و كيف كان لو تمت الحكومة انما هي في هذا الفرض، و اما في سائر الفروض فلا يرفع الخوف الوجداني المأخوذ في الموضوع، أما على فرض تنزيل الصلاة الناقصة منزلة التامة فواضح، و أما على فرض تنزيل الوقت سواء كان متوجها الى الوقت الناقص أو الى خارج الوقت، فلان دليل التنزيل لا يوجب رفع خوف فوت الوقت فان وقتها حسب الفرض هو ما قرره الشارع من دلوك الشمس الى غروبها، فمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 52

احتمال ضيقه بمقدار لا يسع أربع ركعات لا محالة يخاف فوت الوقت المقرر، و التنزيل لا يرفع هذا الخوف، كما ان استصحاب بقاء الوقت لا يرفعه، فلا يجوز الاتكال على الاستصحاب و إتيان الطهارة المائية، لعدم زوال الخوف الوجداني به، مع انه اولى

بذلك من دليل من أدرك، لأن المستصحب هو الوقت المضروب فيكون الاستصحاب حاكما ببقاء الوقت، لكن مع ذلك لا يرفع به موضوع دليل التيمم، فدليل تنزيل الوقت لا يرفع خوف فوته لا وجدانا و هو ظاهر، و لا تعبدا لعدم توجه التنزيل اليه و تنزيل الوقت الخارج منزلة الداخل أو الوقت الناقص منزلة التام غير تنزيل خوف الفوت منزلة عدمه.

هذا كله مع ان ما هو المشهور الذي يمكن دعوى جبره هو النبوي الظاهر في تنزيل الصلاة الناقصة منزلة التامة من غير تعرض لتنزيل الوقت فضلا عن تنزيل خوف فوته منزلة العدم.

ثم ان ظاهر قوله: «من أدرك» هو التنزيل فيما إذا فات الوقت و لم يبق إلا ركعة و هو لا يوجب جواز تفويته اختيارا، فح يقم التزاحم بين الوقت و الطهور، فلا بد من إثبات أهمية الوقت حتى في هذه الصورة حتى يحكم بوجوب التيمم و هو مشكل بعد ورود مثل من أدرك، و الذي يسهل الخطب عدم المجال للتزاحم بعد ما قدمناه.

ثم انه يظهر الكلام مما تقدم فيما إذا لم يدرك مع المائية ركعة و أدرك جميع الوقت مع الترابية، و اما إذا أدرك ركعة مع الترابية ففي شمول من أدرك له نوع خفاء لاحتمال ان يكون المراد إدراك ركعة حسب وظيفته مع قطع النظر عن الوقت، و ان كان الأقرب صحة الترابية و لزومها بعد عدم ترك الصلاة بحال، و ان التراب أحد الطهورين، و ان الصلاة معه صلاة، و الظاهر ان هذا التنزيل بملاحظة أهمية الوقت و عدم ترك الصلاة حتى الإمكان، فلا يبعد التمسك بإطلاق من أدرك، فإنه مع إدراك ركعة مع الترابية يصدق إدراك ركعة من الصلاة، و ان شئت

قلت: ان دليل تنزيل الترابية منزلة المائية حاكم على دليل من أدرك و محقق لموضوعه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 53

و ان أدرك مع المائية ركعة و مع الترابية أزيد منها ففي تقديم الترابية بدعوى أهمية الوقت و عدم سقوط الميسور بالمعسور، أو تقديم المائية لعدم شمول أدلة الوقت مطلقا للمقام ضرورة فوت الصلاة مع فوت بعض الوقت بحسبها فيبقى دليل من أدرك و ظاهره أن إدراك ركعة إدراك للصلاة تامة كما صرح به في العلوي من طريقنا فلا فرق بحسبه بين إدراك ركعة أو أزيد، فحينئذ لا وجه لرفع اليد عن الطهارة المائية وجهان، أقربهما الثاني، لكن الالتزام ببعض لوازمه في غاية الإشكال كتجويز تأخير الصلاة مع إدراك ثلث ركعات منها مثلا الى بقاء الوقت بمقدار إدراك ركعة.

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول- هل الخوف المأخوذ في الأدلة هو مطلق الخوف

أو ما يكون حاصلا من منشأ مخوف عرفا، فان الخوف الوجداني قد يحصل من منشأ مخوف كالخوف الحاصل من مفازة تكون في معرض السباع و اللصوص، و لو باحتمال عقلائي أو من قلة الماء في مفازة قفر، و كخوف فوت الوقت الحاصل من ضيقه و هكذا، و قد يحصل من اعتقاد باطل كما لو اعتقد كونه في مفازة كذائية مع كونه في محل أمن كثير الماء، أو اعتقد ضيق الوقت مع كونه في سعته و هكذا.

مقتضى الأدلة هو الثاني، اما غير دليل الحرج فلان ما في الباب من الاخبار ظاهرة فيه أو منصرفة إليه ففي صحيحة داود الرقي بناء على وثاقته كما لا يبعد «قال: قلت:

لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام أكون في السفر فتحضر الصلاة و ليس معى ماء و يقال ان الماء قريب منا أ فأطلب الماء و أنا في وقت

يمينا و شمالا؟ قال: لا تطلب الماء و لكن تيمم فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل و يأكلك السبع» «1» و في رواية يعقوب عنه عليه السّلام بعد فرض كون الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين «قال: لا آمره ان يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع» «2» و الظاهر منهما ان في المحل المخوف الذي يكون معرضا للخطر و

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 2، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 54

يخاف منه على النفس يتيمم، و اما محل الأمن الذي لا يكون معرضا لذلك لكن حصل الخوف لخطإ في الاعتقاد فغير مشمول لهما، خصوصا ان المارة في تلك الأزمنة و الأمكنة كانوا يمرون على مفاوز مخوفة على النفوس غالبا.

و في صحيحتي ابن أبى نصر و ابن السرحان عن الرضا و أبى عبد اللّٰه عليهما السّلام «في الرجل تصيبه الجنابة و به جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال:

لا يغتسل و يتيمم» «1».

و الظاهر منهما الخوف من البرد المحقق لا من تخيله فكأنه قال: إذا كان الهواء باردا فخاف على نفسه، و لا ريب في عدم شمولهما لمن خاف على نفسه من تخيل البرد مع كون الهواء حارا، و في رواية زرارة عن أحدهما (ع) «قال: قلت: رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد، قلت: فإنه راكب لا يمكنه النزول من خوف و ليس هو على وضوء؟ قال: ان خاف على نفسه من سبع أو غيره و خاف فوات الوقت فليتيمم، يضرب بيده على اللبد أو البرذعة و يتيمم

و يصلى» «2» و هي أيضا ظاهرة فيما ذكرناه خصوصا إذا كانت الأجمة بمعنى محل الأسد كما في المنجد و على أى تقدير لا تشمل الخوف من اعتقاد باطل، و كذا الكلام في روايات خوف العطش فإنها أيضا ظاهرة في ان المحل كان بحيث يخاف فيه من قلة الماء أو من العطش.

و كذا في صحيحة زرارة عن أحدهما (ع) «قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم و ليصل في آخر الوقت» «3» إلخ لأن الظاهر منها الخوف الحاصل من ضيق الوقت كما هو واضح.

و اما دليل نفى الحرج فقد يمكن ان يقال بصدقه فيما إذا خاف على نفسه، من

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 7.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 5.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 55

أىّ منشأ كان، فيكون التكليف بالوضوء حرجيا على المكلف المعتقد و لو خطأ معرضية المحل للخطر، لكنه أيضا مشكل لان الظاهر الاولى من دليل نفى الحرج عدم جعل الحرج في الدين أي الأحكام المجعولة فيه، و غاية ما يمكن الاستفادة منه بالتقريب المتقدم في ذيل آية التيمم ان ما يلزم منه الحرج و المشقة سواء كان في مقدماته كتحصيل الماء للوضوء، أو ما يترتب عليه كأن لزم من التكليف به عطاش في المستقبل فهو أيضا غير مجعول، و اما الحرج الحاصل من تخيل باطل أو تخيل الحرج كما لو تخيل المرض مع عدمه أو البرد في مكان حارّ فليس مشمولا للأدلّة، لعدم الحرج في الدين و لا من قبله واقعا، و لا يمكن إلغاء الخصوصية

بالنسبة الى ما يلزم من اعتقاد باطل.

و من هنا يمكن دعوى الفرق بين ما إذا شك في ضيق الوقت وسعته و بين ما إذا علم ضيقه و شك في كفايته لتحصيل المائية بالبناء على بقاء الوقت في الأول للاستصحاب دون الثاني، لا لما قيل من صدق خوف الفوت في الثاني دون الأول، ضرورة تحقق خوفه في الصورتين، لان احتمال الضيق موجب له وجدانا، بل لان الموضوع في الدليل هو الخوف الناشئ من ضيق، و في الصورة الاولى يكون الخوف من احتماله لا من نفسه فيجري الاستصحاب بلا دليل حاكم عليه، بخلاف الثانية للدليل الحاكم الا أن يقال: ان المتفاهم من صحيحة زرارة ان الأمر بالتيمم عند خوف الفوت انما هو لترجيح إدراك الوقت على الإدراك مع المائية فأهمية الوقت أوجبت الأمر بالتيمم مع خوف فوته، و هو حاصل في الصورة الأولى أيضا، فالشارع أسقط الاستصحاب في المقام لأجل أهمية الوقت، و اعتنى بخوف فوته لذلك، فمع الدوران بين احتمال فوت الوقت و فوت الطهارة المائية يلاحظ حال الأهم، فيحكم العقل بالتيمم و أسقط الشارع الأصل لذلك، فلا فرق حينئذ بين الفرعين في لزوم التيمم.

الثاني: هل الخوف المأخوذ في موضوع الأدلة على نسق واحد

بمعنى ان الموضوع لتشريع التيمم في جميع الموارد هو الخوف، أو الموضوع في جميعها هو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 56

الواقع الذي خاف منه، فإذا تيمم من خوف العطش و لو في محل مخوف ثم تبين عدم حصول العطش على فرض استعمال الماء بطل على الثاني دون الأول، و كذا في سائر موارد الخوف أو يفصل بين المقامات؟ التحقيق هو التفصيل، فان الظاهر من الأدلة غير دليل ضيق الوقت ان صرف معرضيته للخطر الموجبة للخوف موضوع

لتشريع التيمم و رفع الوضوء، فقوله في صحيحة ابن سنان: «ان خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة و ليتيمم بالصعيد، فان الصعيد أحب الىّ» «1» ظاهر في ان مجرد خوف العطش يوجب محبوبية الصعيد، و قوله في موثقة سماعة بعد فرض خوف قلة الماء: «يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء فان اللّٰه عز و جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد» «2» و قوله في رواية ابن أبى- يعفور بعد فرض انحصار الماء بمقدار شربه: «يتيمم أفضل الا ترى انه انما جعل عليه نصف الطهور» «3» ظاهران في مشروعية التيمم و انه أحد الطهورين، و ان عليه نصف الطهور في هذا الحال و كذا الحال في سائر الموارد.

و بالجملة الظاهر من تلك الموارد ان الشارع لاحظ حال المكلف لئلا يقع في معرض الخطر، و هذه المعرضية أوجبت رفع الوضوء و تشريع التيمم، بل الظاهر ان في تلك الموارد انما رفع الوضوء لنكتة رفع الحرج عن المكلف و لا شبهة في ان الإلزام بالإقدام على ما هو معرض الخطر حرج عليه، ففي تلك الموارد إذا تيمم و صلى صحت صلوته و لا اعادة عليه، و لو انكشف عدم اللص و عدم إضرار الماء و هكذا.

و اما صورة خوف فوت الوقت فالظاهر انه ليس على مساق سائر الموارد، بل الشارع لاحظ فيه حفظ التكليف الأهم لدى الدوران بينه و بين المهم، فأمر بالتيمم لا لأجل صيرورة خوف الفوت موجبا لإسقاط المائية و محبوبية الترابية، بل لأجل الاعتناء باحتمال فوت الأهم في قبال المهم، بل يمكن ان يقال بعدم تشريع التيمم

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 3.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب

25، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 57

في هذا الحال فقوله: «إذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم» إرشاد إلى أهمية الوقت، و انه مع الدوران بين احتمال فوت الوقت و فوت الطهارة المائية توجب أهمية الوقت تقديمه من غير تشريع للتيمم في هذا الحال، و معه لا وجه للاجزاء، فلو صلى ثم تبين سعة الوقت لإعادتها مع المائية تجب الإعادة، و كذا لو تبين صلوح الوقت للمائية و لو فات بواسطة الصلاة مع الترابية يجب عليه القضاء.

كل ذلك لما تقدم من عدم استفادة التشريع من الرواية بل لا معنى للتشريع بعد حكومة العقل بتقديم الأهم، و تقديم احتمال فوت الأهم على احتمال فوت المهم بل يكفي في عدم الاجزاء احتمال ما ذكرناه، لان الاجزاء متقوم بالتشريع و مع عدم إحرازه يحكم بالإعادة و القضاء، و ان كان في الحكم بالقضاء اشكال يحتاج الى بسط في المقال و تأمل في المسألة.

الثالث- قد اشتهر بينهم حتى صار كالأصول المسلمة أن أدلة الحرج

لمكان ورودها في مقام الامتنان و بيان توسعة الدين لا تدل الا على نفى الوجوب، و لا يستفاد منها عدم الجواز فالتيمم فيما نحن فيه إذا ثبت تشريعه بدليل نفى الحرج رخصة لا عزيمة، فلو تحمل المكلف المشقة الرافعة للتكليف و توضأ و اغتسل لم يرتكب محذورا و صحت طهارته، و لا توجب حكومة أدلة الحرج على الأدلة الأولية، و تخصيصها بغير مورد الحرج بطلان العبادة، و لو قلنا بعدم بقاء الجواز، لأن غاية ذلك عدم بقاء الحكم الشرعي على جواز المائية، لكي لا يقتضي ذلك رفع مقتضى الطلب و محبوبية الفعل، و هو يكفي في صحة العبادة كما قرر في مبحث الضد.

فهاهنا مقامان من البحث: أحدهما: أن المستفاد من

الأدلة هل هو السقوط على نحو العزيمة أو الرخصة؟ و ثانيهما: انه لو خالف و اتى بما فيه الحرج بطلت عبادته أولا؟ و لا ملازمة بينهما كما سيأتي في الأمر الرابع البحث عنه و عن المقام الثاني.

اما المقام الأول: فغاية ما يدعى عدم دلالة قوله «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» على كون الرفع على وجه العزيمة. و اما الدلالة على كونه على وجه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 58

الرخصة فلا، فلو دل دليل على كونه على وجه العزيمة لا يعارضه ذلك و يمكن استفادة العزيمة من قوله تعالى وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فان اللّٰه تعالى إذا أراد بنا اليسر في أحكامه لا يجوز علينا مخالفة إرادته بإيقاع العسر على أنفسنا. فكما انه لو أراد منا شيئا لا يجوز لنا التخلف عن إرادته تعالى، كذلك لو أراد في حقنا شيئا لا يجوز التخلف عنها خصوصا مع وقوعه في ذيل قوله «مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ» حيث يكون الصوم على المسافر بل المريض الذي يضر به الصوم حراما، و يكون السقوط عنهما على سبيل العزيمة، فدلت الآية على ان إرادته تعالى اليسر في سائر الموارد التي تشملها بالإطلاق كارادته في صيام المسافر و المريض، و التفكيك بينهما غير جائز إلا مع قيام دليل في مورد فان قوله «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ» كالتعليل لرفع الصوم من المسافر و المريض، و لا يصح التعليل بشي ء ظاهر في عدم الإلزام على أمر إلزامي، فلا يمكن ان يقال إلزامية الإرادة فيهما تفهم من الخارج.

فان قلت: يستفاد عدم

الجواز في المريض و المسافر من قوله «فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ» فأوجب تعالى بمجرد السفر و المرض عدة من غير أيام شهر رمضان.

قلت: مضافا الى ان مجرد جعل عدة أخر لا يدل على حرمة صوم شهر رمضان انه لو دل عليه يوجب تأكد المطلوب، بأن إرادة اليسر إلزامية و انها في سائر الموارد كارادته في الموردين.

و تدل على العزيمة أيضا رواية يحيى بن أبى العلاء عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثم قال: ان رجلا اتى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا فقال: يا رسول اللّٰه انه علىّ يسير؟ فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ان اللّٰه تصدق على مرضى أمتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان أ يحب أحدكم لو تصدق بصدقة أن ترد عليه صدقته؟» «1» لان استشهاد

______________________________

(1) الوسائل أبواب من يصح منه الصوم، ب 1 ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 59

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فيها لقوله: «الصائم في السفر» إلخ بقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله دليل على ان رد صدقته تعالى غير جائز، و الا لما صح الاستشهاد للقول بالحرمة بأمر لا يكون محرما، مع ان رد الصدقة مبغوض و ثقيل على النفوس الشريفة فيكون قوله: «أ يحب أحدكم» إلخ تقريبا لمبغوضيته عند اللّٰه بما هو مبغوض عندهم، و ليس المراد من قوله: «أ يحب أحدكم» رفع محبوبيته الأعم من المبغوضية، بل الظاهر من مثله حصول المبغوضية كقوله تعالى أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فتدل

الرواية على ان رد صدقته تعالى و هديته مبغوض محرم، و لا شبهة في ان الرفع بدليل نفى الحرج صدقة من اللّٰه تعالى و تفضل على الأمة و هدية منه تعالى لهم كما هو مقتضى الامتنان و يدل عليه بعض الروايات.

و في موثقة السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السّلام «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ان اللّٰه عز و جل اهدى الىّ و الى أمتي هدية لا يهديها الى أحد من الأمم كرامة من اللّٰه لنا، فقالوا:

ما ذاك يا رسول اللّٰه؟ قال: الإفطار في السفر و التقصير في الصلاة فمن لم يفعل فقد ردّ على اللّٰه عز و جل هديته» «1» تدل على ان وجه حرمة الصوم في السفر و إتمام الصلاة هو كونه ردّ هدية اللّٰه تعالى.

و يؤيد المطلوب ما عن تفسير العياشي عن عمرو بن مروان الخزاز «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: رفعت عن أمتي أربع خصال ما اضطروا اليه و ما نسوا و ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب اللّٰه قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، و قول اللّٰه إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» «2» حيث ذكر الآية المربوطة بالتقية في سياق حديث الرفع، مع ان التقية واجبة ليس للمكلف تركها كما قررناه في رسالة مفردة في التقية، فتشعر الرواية بأن الرفع عن الأمة في موارده

______________________________

(1) الوسائل أبواب صلاة المسافر: ب 22، ح 11.

(2) الوسائل

أبواب الأمر و النهى: ب 25، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 60

على نحو العزيمة، كما تشعر به ما عن الطبرسي في الاحتجاج عن الكاظم عليه السّلام و الرواية طويلة جدا و فيها عدّ عدة موارد رفعت الآصار عن الأمة بدعاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و هو قوله: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.

منها: رفع قرض أذى النجاسة من أجسادهم و جعل الماء طهورا للأمة.

و منها رفع الصلوات المفروضة على سائر الأمم في ظلم الليل و انصاف النهار و جعلها في أطراف الليل و النهار و في أوقات نشاطهم.

و منها رفع خمسين صلاة و جعل الخمس في أوقات خمسة فيستشعر ان ما رفع عن الأمة من التكاليف مثل تلك الموارد ليس لهم التكلف بإتيانها.

فتحصل من جميع ذلك ان ثبوت الترابية و سقوط المائية انما هو على وجه العزيمة و ليس للعبد اختيار المائية، اما لأجل إرادة اللّٰه التوسيع على العباد، و اما لأجل انطباق عنوان رد الهدية على الإتيان بها، و اما لأجل حرمة الرد لا حرمة المائية لكن لأجل اتحادهما في الخارج يتعين عليه الترابية، و سيأتي في الأمر الآتي الفارق بين الاحتمالات و ما هو الأظهر بينها.

ثم من المحتمل ان يكون رفع الحرج عن العباد و ارادة التوسيع عليهم لا لصرف الامتنان عليهم حتى يقال: انه لا يقتضي الإلزام أو لا يناسبه، بل لانه تعالى لا يرضى بوقوع عباده في المشقة و الحرج كالأب الشفيق الذي لا يرضى بوقوع ابنه المحبوب في الحرج و لو باختياره فيمنعه إشفاقا عليه.

و يحتمل ان يكون رفع الحرج في عباداته و من قبله

لعدم رضائه بوقوع العبيد في المشقة من ناحيتها، لكونه مظنة لانزجارهم عنها فينتهي الى ادبار نفوسهم عن عبادة اللّٰه و دينه و هو أمر مرغوب عنه.

ففي رواية عمرو بن جميع «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: يا على ان هذا الدين متين فأوغل فيه بالرفق و لا تبغض الى نفسك عبادة ربك ان المنبت يعنى المفرط لا ظهرا أبقى و لا أرضا قطع» «1».

______________________________

(1) الوسائل أبواب مقدمة العبادات، ب 26، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 61

و عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام بسند صحيح «قال: لا تكرهوا على أنفسكم العبادة» «1» و لا يبعد عدم جواز ذلك إذا كانت مخافة الوقوع في الانزجار من دين اللّٰه و العياذ باللّه.

و اما ما ورد من بعض الأئمة المعصومين عليهم السلام من إيقاع المشقة على نفوسهم الشريفة فلأنهم مأمونون من خطوات الشيطان و خطراته و اما سائر الناس فانى لهم بالعلم أو الاطمئنان من الأمن من كيده و وسوسته، بل لنفوسهم الشريفة مقامات من الحب الى عبادة اللّٰه و الاشتياق الى لقاء اللّٰه ربما لا يكون ما هو مشاق على سائر النفوس مشقة عليهم بل لهم لذات في عباداتهم و رياضاتهم كما هو معلوم رزقنا اللّٰه تعالى الاقتداء بهم، و قد خرج الكلام من طرز البحث الفقهي الى واد يتحير فيه العقول، مع ان ما ورد من تحمل المشاق منهم انما هو في المستحبات دون الواجبات، و ما ورد في غسل أبى عبد اللّٰه عليه السّلام في ليلة باردة قد مر الكلام فيه، و في المستحبات كلام آخر، و لا يبعد عدم شمول أدلة الحرج لها لعدم حرجية الأمر

الاستحبابي. تأمل، هذا كله في مورد الحرج.

و اما سائر الموارد فالميزان في كون التيمم متعينا و سقوط المائية على وجه العزيمة هو لزوم محذور شرعي من الوضوء و الغسل، و لو لم يلزم منه حرمتهما كما لو كان في التوصل الى الماء خوف التلف كما إذا خاف من السبع أو السقوط في البئر فتلف أو خاف من استعمال الماء العطش المهلك أو خاف الهلاكة من البرد أو المرض أو غير ذلك أو لزم منه ارتكاب محرم كالوضوء من آنية الذهب أو الفضة، أو المرور من طريق مغصوب أو ترك واجب كإنقاذ نفس محترمة أو لزم منه فوت الوقت الى غير ذلك، و لا اشكال فيما إذا أحرز المحذور الشرعي.

نعم في بعض موارد الضرر على النفس كلزوم طول المرض أو حدوث مرض غير مهلك أو الضرر على الجرح و القرح أو لزوم طول زمان البرء، أو لزوم ضرر غير مهلك على النفس في طي الطريق الى الماء، أو خوفه من الموارد التي قد يتردد في قيام الدليل على الحرمة، هل يمكن استفادة تعين التيمم و كون سقوط المائية عزيمة من أدلة الباب أولا؟ لا يبعد ذلك من مجموع الروايات، فإن طائفة منها وردت فيما كان الغسل ضرريا

______________________________

(1) الوسائل أبواب مقدمة العبادات، ب 26، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 62

كصحيحة محمد بن سكين عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قيل له ان فلانا أصابته جنابة و هو مجدور فغسلوه فمات؟ فقال: قتلوه ألا سألوا، ألا يمموه؟ ان شفاء العي السؤال» «1» و قريب منها مرسلة ابن أبى عمير و رواية الجعفري عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: ان

النبي صلّى اللّٰه عليه و آله ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: قتلوه قتلهم اللّٰه انما كان دواء العي السؤال» «2».

و إطلاق هذه الروايات يقتضي شمولها لما إذا خاف على نفسه التلف أولا، بل لا يبعد خروج خوف التلف منها فإن أحدا من العقلاء لا يرتكب الاغتسال أو الأمر به عند خوف تلف النفس فيكون خوفه مفروض العدم، فتدل الروايات باشتمالها على اللوم الشديد و الدعاء على الأمر بالغسل و أنه إذا سألوا لكان الجواب تعين التيمم على كون السقوط عزيمة لا رخصة و الا لما توجه التقصير عليهم بعد كونه رخصة و الغسل جائزا.

و قوله: «قتلوه» لا يدل على انهم تعمدوا في قتله أو كان في معرض الموت، بل تصح النسبة بوجه لأجل انتهاء أمر الأمر إلى فوته و لو لم يكن المفروض خوف الموت بل الظاهر منها ان التعبير و اللوم على الأمر بما هو خلاف حكم الشرع أو العمل على خلاف التكليف من غير دخالة للانتهاء الى الموت في ذلك.

و بالجملة بعد إطلاق الروايات لصورة عدم الخوف على الهلاك يستفاد منها تعين التيمم في مطلق الخوف على النفس، من غير فرق بين الجدري و الجرح و غيرهما كما لا يخفى.

و مثلها في الدلالة أو أدل منها صحيحة ابن أبى نصر عن الرضا عليه السّلام «في الرجل تصيبه الجنابة و به قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا يغتسل و يتيمم» «3» و مثلها صحيحة داود بن السرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «4»

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 1.

(2)

الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 6.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 7.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 63

و الخوف على النفس من البرد اما ظاهر في خوف التلف أو أعم منه فشموله له هو القدر المتيقن، فحينئذ لا يمكن حمل النهى عن الاغتسال و الأمر بالتيمم على رفع الوجوب و الترخيص، بدعوى ان النهى في مقام توهم الوجوب و الأمر في مقام توهم الحظر، ضرورة انه مع الخوف على النفس من الهلاك لا يمكن الترخيص، و تجويز الإلقاء في الهلكة فلا أقل من كون المقام في نظر السائل من قبيل الدوران بين المحذورين لأجل خوف الضرر و التلف، فلا يرفع اليد معه عن ظاهر النهى و الأمر فحينئذ يقتضي ذكر القروح و الجروح مع خوف النفس ان يكون الأمر بالتيمم و النهى عن الغسل في جميعها على نسق واحد و هو العزيمة.

و اما صحيحة محمد بن مسلم «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يكون به القرح و الجراحة يجنب؟ قال: لا بأس بان لا يغتسل يتيمم» «1» و قريب منها روايته الأخرى- و الظاهر وحدتهما- لا تقاوم الروايات المتقدمة، فإن غاية ما في نفى البأس الاشعار بالترخيص لا الدلالة عليه، فنفى البأس انما هو لرفع توهم عدم جواز ترك الغسل، فهو نص في جواز ترك الغسل و اما لزوم التيمم و كونه على وجه العزيمة أو كونه على وجه الرخصة فلا تعرض فيها له لو لم نقل بظهورها في العزيمة أخذا بقوله «يتيمم» فلا يجوز رفع اليد عن ظاهر الأدلة به، مع ان كثيرا ما يعبر بمثله في مورد لزوم

فعله كما في روايات التيمم بالطين إذا لم يجد غيره، كقول أبى جعفر عليه السّلام:

«إذا كنت في حال لا تجد الا الطين فلا بأس ان يتيمم به» «2» مع لزومه عند عدم وجدان غيره.

ثم ان هذه الطائفة و ان وردت في الغسل لكن يستفاد منها حكم الوضوء بلا ريب، فإن الأمر بالتيمم انما هو لخوف الضرر الأعم من الهلاك، فإذا خاف على نفسه في الوضوء كخوفه في الغسل بتعين التيمم، و يستفيد العرف من الروايات حكمه و لعل ذكر الغسل لأجل كون الخوف غالبا فيه.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 5.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 64

و هنا طائفة أخرى من الروايات و هي ما وردت في مورد خوف العطش كموثقة سماعة «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته؟ قال: يتيمم بالصعيد و يستبقي الماء فان اللّٰه عز و جل جعلهما طهورا الماء و الصعيد» «1» و ما عن الحلبي «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الجنب يكون معه الماء القليل فان هو اغتسل به خاف العطش أ يغتسل به أو يتيمم؟ فقال: بل يتيمم و كذلك إذا أراد الوضوء» «2» و خوف القلة و العطش أعم من خوف الهلاك على نفس محترمة و غيره، و لا يكون الخوف من الهلاك في تلك الاسفار و تلك الأمكنة في تلك الأعصار بعيدا قليلا، (فح) تدل الروايتان على تعين التيمم و وجوب استبقاء الماء.

و اما صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: ان خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة و

ليتيمم بالصعيد فان الصعيد أحب الىّ» «3» و رواية ابن أبى يعفور عنه عليه السّلام فيما إذا كان الماء بقدر شربه «قال: يتيمم أفضل الا ترى انما جعل عليه نصف الطهور» «4» فلا يراد بأفعل التفضيل إثبات الجواز و المحبوبية لإهراق الماء، فإنه مضافا الى ان خوف العطش أعم من خوف التلف و في فرضه لا يمكن تجويز الإهراق، بل في فرض حصول الحرج أيضا لا يكون الإيقاع في الحرج بإهراقه محبوبا كما عرفت ان قوله عليه السّلام «لا يهريق منه قطرة» لا يناسب إثبات الفضل لإهراق جميعه بالاغتسال، كما ان قوله في الثانية: «الا ترى انما جعل عليه نصف الطهور» المراد منه التيمم الظاهر في حصر جعل التيمم عليه لا يناسب كونه أفضل فردي التخيير، ثم انه لا يبعد استفادة حرمة إيقاع الضرر على النفس من مجموع الروايات في موارد متفرقة كأبواب الصوم الضرري و الوضوء و الغسل و التيمم و غيرها.

الرابع هل يصح الوضوء أو الغسل في موارد تعين عليه التيمم؟
اشارة

لا بد من البحث أولا

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 3.

(2) الوسائل أبواب التيمم. ب 25، ح 2.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 25، ح 1.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 65

على مقتضى القواعد ثم النظر في مقتضى الأدلة الخاصة.

فنقول: لا إشكال في صحتهما إذا كان التعين لأجل توقفهما على مقدمة محرمة كطيّ طريق مغصوب أو مخوف، فلو عصى و أتى الماء تجب عليه المائية و صحت، و اما إذا كان المحرم من العناوين المتحدة مع فعلهما.

فقد يقال: بالبطلان بدعوى ان الفعل الخارجي الذي تعلق به النهى و صح العقاب عليه لا يعقل أن يقع عبادة لتوقفها على الأمر الممتنع

تعلقه بالمنهي عنه لتعذر الامتثال، و لكون النهي ناشيا عن قبح الفعل بلحاظ مفسدته الملزمة القاهرة المقبحة له، فيقبح الأمر بإيجاده.

و فيه أن هذه الدعوى تنحل الى دعويين: إحديهما امتناع تعلق الأمر و النهى بالفعل الخارجي اما لأجل الامتناع الذاتي للتضاد بينهما أو العرضي لأجل تعذر الامتثال «و فيها» انه قد فرغنا من جواز اجتماع الأمر و النهى، و قلنا بأن الأوامر و النواهي متعلقة بالطبائع لا المصاديق الخارجية، بل و لا الوجودات العنوانية، فموضوع تعلق كل غير الآخر في وعاء تعلقهما، و ظرف اتحاد المتعلقين هو الخارج، و لا يمكن ان يكون ظرف تعلقهما للزوم طلب الحاصل و الزجر عنه و هو محال فقوله: الفعل الخارجي الذي تعلق به النهي، ان كان المراد ظاهره فهو كما ترى، فان الفعل لا يصير خارجيا الا بتحققه و وجوده، و بعده لا يمكن تعلق الأمر و النهى عليه، و ان كان المراد الوجود العنواني كما لا يبعد فمع كونه خلاف التحقيق لا يلزم منه الامتناع، لان الوجود العنواني للمنهى عنه لا يتحد مع الوجود العنواني للمأمور به، و انما اتحدا في المصداق الخارجي.

و الحاصل ان هاهنا أمورا: الأول، ماهية الوضوء و الغسل و طبيعتهما، و ماهية الغصب و التصرف في مال الغير، الثاني: الوجود العنواني للقبيلتين و الثالث: الإيجاد العنواني لهما و الرابع: الوجود الخارجي العيني أو الإيجاد الخارجي.

لا إشكال في عدم لزوم الامتناع للتضاد إذا تعلق الأمر و النهى بالماهيات و الطبائع كما هو الحق المحقق في محله، مع ذب ما يتخيل من الاشكال فيه لاختلافهما ذاتا، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 66

كذا لو تعلقا بالوجود العنواني أو الإيجاد كذلك

لأنهما مفهوم الوجود و الإيجاد المضاف الحاكي عن المعنون، و المفهومان مختلفان متغايران في وعاء المفهومية لا اتحاد بينهما، هذا مضافا الى ان تعلقهما بهما خلاف التحقيق. فلا يبقى الا الوجود و الإيجاد أي الخارجيين المتحدين، و المتحد معهما كل العناوين الصادقة عليهما، و لا ريب في امتناع تعلقهما بهما.

لا يقال: ان الوجودات العنوانية بل نفس الطبائع إنما تصير متعلقة للأمر و النهى حال كونها مرآة للخارج لعدم تعقل تعلقهما بالوجود الذهني بما هو كذلك، و لا بالماهية من حيث هي، فإنها ليست إلا هي فمع المرآتية لا يمكن اجتماعهما للتضاد أو لرؤيته.

فإنه يقال: مضافا الى امتناع تعلقهما بالعناوين المرآتية ان أريد تعلقهما بالمرئى دون المرآة لعين ما ذكر آنفا، ان كان للمرئى وجود و حقيقة، و الا فلا محالة يتعلق بعنوان لا وعاء له الا الذهن و في هذا الوعاء لا يتحدان واقعا و لا في نظر المولى حتى يلزم منه محذور ان العناوين المرآتية لا يمكن ان تحكي إلا عن نفس الطبائع بوجودها الخارجي، لا عن مقارناتها و متحداتها، فعنوان الصلاة لا يمكن الحكاية عن الغصب أو الصلاة في الدار المغصوبة لعدم التناسب الحقيقي و لا الجعلي بينهما، و لا يمكنه ان يكون المرئي مغايرا ذاتا لمرآته و المحكي لحاكيه.

و التحقيق ان متعلقهما هو نفس الطبائع و الماهيات من حيث هي، و الهيئة دالة وضعا أو عقلا على الإيجاد لتحصيل المكلف الوجود الخارجي و التفصيل موكول الى محله، و مما ذكرنا يظهر بطلان دعوى الامتناع عرضا لتعذر الامتثال، ضرورة إمكانه بعد كون الطبائع مأمورا بها و منهيا عنها و سيأتي ما في توهم تعذره عن قريب.

و الدعوى الثانية أنه يقبح الأمر بإيجاد ما

هو القبيح فإن النهي ناش عن قبح الفعل بلحاظ مفسدته فالفعل قبيح، و لا يمكن أن يتعلق الأمر بما هو قبيح.

و فيها ان الأمر متعلق بطبيعة المأمور به و هي حسن، و لا يتعلق بالغصب و لا بالوجود الخارجي المتحد معه حتى يكون قبيحا، و لا يمكن أن يتعدى كل من الأمر و النهى عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 67

متعلقهما الى مقارناته و متحداته، فالأمر بالوضوء ليس إلا أمرا بهذه الطبيعة و هي ليست بمنهي عنها. و لا مشتملة على مفسدة حتى يكون التعلق بها قبيحا و الظاهر ان الدعويين نشأتا من مبدأ واحد هو الخلط بين متعلقات الأوامر و النواهي، و قد تقرر الدعوى بأن إيجاد الفرد الخارجي يعرضه صفة الحسن أو القبح باعتبار جهته القاهرة، فلا يكون ما يوجده المكلف من حيث صدوره منه الا حسنا أو قبيحا على سبيل منع الجمع، لامتناع توارد الوصفين المتضادين على الفعل الخاص الصادر من المكلف من حيث صدوره منه الذي لا يتصف بشي ء من الوصفين الا من هذه الحيثية، فالفرد الخارجي من الصلاة الذي يتحقق به الغصب المحرم على الإطلاق يمتنع أن يطلبه الشارع، فإن الأمر بشي ء في الجملة ينافي النهي عنه على الإطلاق.

و فيها ان هذه الدعوى أيضا تنحل الى دعويين، إحديهما: و هي التي ذكرها أخيرا ترجع الى امتناع تعلق الطلب بشي ء في الجملة مع تعلق النهى عنه مطلقا، و قد مر مورد الخلط فيها و قلنا: ان الأمر لا يمكن ان يتعلق بغير عنوان متعلقه و هو الصلاة في المثال، كما ان النهى أيضا لا يمكن ان يتعلق بغير عنوان الغصب، فلا يتحد المتعلقان في وعاء التعلق

و الخارج ليس وعائه.

و ثانيتهما: ان الفعل الخارجي لا يمكن ان يكون حسنا و قبيحا، لأنهما وصفان متضادان لا يمكن تواردهما على الفعل الخاص الصادر من المكلف، و فيها ان الحسن و القبح ليسا من الاعراض و الكيفيات الخارجية الحالة في الموضوع كالسواد و البياض حتى لا يكفى اختلاف الجهة في رفع التضاد بينهما، فقبح الظلم لا يكون له صورة خارجية حالة في الجسم، بل هو أمر عقلي منتزع من التصرف عدوانا في مال الغير، أو من قتل نفس محترمة عدوانا مثلا، و كذا حسن العدل ليس من الاعراض الخارجية بل من الانتزاعيات فيمكن ان يكون شي ء خارجي ذا عناوين حسنة و قبيحة، فالفعل الخاص الخارجي ليس قبحه لأجل كونه من مقولة خاصة، أو كونه صادرا من فاعل كذا أو في وقت كذا أو حال في محل كذا مع ان كلها عناوين متحدة معه بل انما هو لأجل كونه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 68

ظلما و عدوانا، فإذا لم يسر قبحه إلى سائر الجهات و بقيت هي على ما هي عليها بلا اقتضاء الحسن و القبح، يعلم ان القبح لا يسرى من عنوانه و حيثيته إلى حيثية أخرى و عنوان آخر و كذا الحسن.

فلا مانع من أن يكون عنوان الحسن و القبح صادقين على موجود خارجي، فيكون حسنا بوجه و قبيحا بوجه، و الجهات في العقليات تقييدية فتكون الحيثيات بما هي موضوعة للحسن و القبح، فالصلاة في الدار المغصوبة حسنة بما هي صلاة ليست الا، و الغصب في حال الصلاة قبيح ليس الا، من غير سراية ما لكل عنوان و حيثية إلى عنوان آخر و حيثية أخرى.

و مما ذكرنا يظهر

النظر فيما يقال بوقوع الكسر و الانكسار في الجهات المقتضية و بعد قاهرية جهة يتمحض الفعل في الجهة القاهرة، فإذا كانت مقبحة يتمحض في القبح فقط، فالفعل الخاص الصادر من المكلف لا يكون الا حسنا أو قبيحا على سبيل منع الجمع و ذلك لما عرفت من ان الفعل الخارجي مجمع لعناوين و له جهات فإذا فرض في إحدى عناوينه جهة مقبحة و في الأخرى جهة محسنة و فرض غلبة المقبحة على المحسنة، لا توجب خروج الجهة المحسنة عن كونها جهة محسنة، لان معنى قاهرية احدى الجهتين ليس سراية القبح منها إلى الجهة التي هي حسنة، بل لا يكون الا كتقديم الأهم على المهم، و الفارق الذي بينهما ليس فارقا من الجهة المنظورة عقلا، لأن شأن العقل تحليل الجهات و تكثير الحيثيات و عدم الإهمال فيها.

و بالجملة: لا يعقل أن تكون نتيجة الكسر و الانكسار إعدام الجهة المقهورة، فما فيه الجهتان يكون كل منهما ممحضا فيما هو شأنه فالوضوء من الماء المغصوب و الصلاة في الدار المغصوبة مع قاهرية حيثية الغصب على حيثيتهما، لا يمكن ان يخرجا من الجهة المحسنة التي فيهما بعنوانهما و حيثيتهما الذاتية، و ان حكم العقل بلزوم تركهما و الأخذ بما هو ذو جهة قاهرة.

و نحن الان بصدد بيان مقتضى حكم العقل لا الترجيحات التي وقعت من الشارع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 69

في مقام التشريع، بل الكلام بعد التشريع على العناوين و اتفاق اتحادها في الخارج فلا يرد علينا الإشكال بأن الشارع إذا رجح احدى الجهتين على الأخرى في مقام التشريع ليس للمكلف الأخذ بالجهة المرجوحة، فليس النظر بقاهرية بعض الجهات على بعضها في مقام تشريع

الاحكام، بل في القاهرية التي يدركها العقل بعد التشريع في إحدى التكليفين، و التحقيق فيها ما عرفت.

و بالتأمل فيما ذكرنا ينحل سائر الشبهات كامتناع كون شي ء واحد شخصي مقربا و مبعدا و ذا مصلحة و مفسدة الى غير ذلك، كما انه مما ذكرنا ظهر وجه الصحة في المسألة الأخرى، و هي ما إذا توقف فعل الوضوء أو الغسل على مقدمة مقارنة محرمة بل الأمر هاهنا أوضح، فان ذات الوضوء و الغسل لا تتحدان مع المحرم حتى يأتي فيه بعض ما تقدم مع جوابه.

نعم قد يقال هاهنا: بان الأمر بما يتوقف على القبيح قبيح، كالأمر بالقبيح بل هو هو، فان الأمر بالشي ء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه، و لا أقل من أنه يقتضي جوازه و المفروض حرمة المقدمة فيمتنع أن يكون ما يتوقف عليه واجبا، و فيه: انه ان أريد بالامتناع ما يلزم من اجتماع الأمر و النهى، فمع الغض عن عدم وجوب المقدمة انه قد ذكرنا في محله ان ما هو الواجب على فرضه هو المقدمة الموصلة بما هي كذلك أي حيثية ما يتوصل به الى ذي المقدمة فيكون الوجوب متعلقا على هذا العنوان لا ذات المقدمة و لا عنوان ما يتوقف عليه ذو المقدمة و قد دفعنا الإشكالات التي أوردوها على صاحب الفصول (ره) و نقحنا مقصده بما لا مزيد عليه فراجع.

(فح) نقول: ان ما يتعلق به الأمر الغيري ليس هو عنوان الاغتراف، و لا الاغتراف الذي هو موصل بل عنوان الموصل بما هو كذلك، و هو متحد الوجود مع الاغتراف الخارجي المتحد مع كونه من الآنية المغصوبة أو آنية الذهب و الفضة، و ما هو المحرم هو عنوان التصرف في مال الغير بلا

اذنه و استعمال الآنيتين المتحن في الخارج، فيندفع الاشكال بما دفعناه في المسألة الاولى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 70

و بما ذكرنا يظهر دفع توهم قبح تعلق الأمر على ما يتوقف على مقدمة محرمة، لمنع القبح على فرض، و منع التعلق على آخر يتضح بالتأمل فيما مر فلا نعيده، و اما سائر الإشكالات المتقدمة فلا يتأتى فيها.

و قد يقال: بعدم إمكان تصحيح الوضوء المتوقف على الاغتراف من الآنية المغصوبة لاشتراط تحققه في الخارج بقصد حصول عنوانه، بداعي التقرب فيكون القصد المحصل لعنوانه من مقومات ماهية المأمور به، فيشترط فيه عدم كونه مبغوضا للشارع، فغسل الوجه انما يقع جزء من الوضوء إذا كان الآتي به بانيا على إتمامه وضوءا و هذا البناء ممن يرتكب المقدمة المحرمة قبيح يجب هدمه، و العزم على ترك الوضوء بترك الغصب فلا يجوز ان يكون هذا العزم من مقومات العبادة، بل العزم على ذي المقدمة عزم على إيجاد مقدمته إجمالا، ولدي التحليل لا انه موقوف عليه.

و فيه: ان ما هو القبيح العزم على الغصب لا العزم على إتمام الوضوء، و حكم العقل بلزوم ترجيح جانب الغصب و هدم العزم ليس لأجل كون الوضوء أو عزمه قبيحا أو حراما، بل لأجل ترجيح الأهم، فما هو من مقومات ماهية الوضوء هو العزم على الوضوء، متقربا به الى اللّٰه لا العزم على المعصية و التصرف في الانية المغصوبة و ما هو قبيح يجب هدمه هو هذا العزم لا الأول، فلو فرض تحليل العزم الى العزم على التصرف عدوانا، و العزم على الوضوء يكون الأول قبيحا دون الثاني، و لزوم هدم الثاني عقلا ليس لقبحه، و عدم إمكان وقوعه مقوما لماهية

العبادة، بل لاتحاده مع الأول و حكم العقل بالترجيح.

هذا مع ان ما ذكره أخيرا من ان العزم على ذي المقدمة عزم على مقدمته إجمالا ولدي التحليل لا يمكن مساعدته، ضرورة ان العزم و الإرادة و غيرهما من الأوصاف ذات الإضافة انما يكون تشخصها بمتعلقاتها، و مع كثرة المتعلقات لا يمكن وحدتها فالعزم المتعلق على الكون على السطح لا يمكن أن يصير متشخصا الا بالوجود العنواني، لذلك العنوان لا العنوان الأخر، و لا يمكن أن يكون الوجودان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 71

مشخصا لإرادة واحدة.

مضافا الى ان مبادي ارادة ذي المقدمة غير مبادي ارادة مقدمته، فارادة ذي المقدمة موقوفة على تصوره و التصديق بفائدته إلى آخر المبادي، و ارادة المقدمة موقوفة على تصورها و تصور توقف ذي المقدمة عليها و كونها موصلة اليه، و التصديق به الى آخرها فلا معنى لانحلال ارادة ذي المقدمة إلى إرادتها و هو معلوم جدا، فإذا اختلفت الارادتان لا يبقى مجال للقول بقبح العزم على إتمام الوضوء، و لو فرض لزوم ارادة اخرى بمقدماتها على حصول المعصية.

و بما ذكرنا ظهر فساد ما ربما يقال: لا يعقل الأمر بالوضوء مع المقدمة المحرمة المنحصرة، للزوم الأمر بما يلازم الحرام و هو قبيح، بل محال مع بقاء النهى على فعليته كما هو المفروض، لما عرفت من تعلق الأمر و النهى على العناوين، و عدم سراية حكم كل على الأخر و ان اتحدا في الخارج، و لا يكون الحاكم ناظرا في مقام جعل الحكم الى حال الخارج و حال مقارنات الموضوع في ظرفه، و كيفية الامتثال، و ترجيح الراجح على المرجوح، بل الحاكم فيها هو العقل، بل لو ورد حكم

في هذا المقام من الشارع لا يكون إلا إرشادا بحكم العقل أو إرشادا، بأهمية أحد التكليفين.

نعم إذا كان بين العنوانين تلازم لا يمكن جعل الحكمين المتضادين عليهما لامتناع الامتثال و لكنه خارج عن محط البحث.

ثم انه قد يقال في تصوير الأمر بالوضوء في المقدمة المقارنة بالترتب لا بان يكون العصيان الخارجي شرطا فيه، لأنه متأخر عن الشروع في الفعل، و يمتنع تقدم المعلول على علته، و لا بأن يكون العزم على المعصية شرطا للوجوب، فان العزم عليها لا يبيحها و لا يخرج فعلها من كونه مقدمة لإيجاد ذي المقدمة حتى يتنجز التكليف به على تقدير حصول العزم، بل يجب عليه نقض العزم و ترك المحرم لا إيجاد ما يقتضيه بل عنوان كونه عاصيا في الواقع شرط، بمعنى ان الطلب الشرعي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 72

تعلق بمن يعصى في فعل المقدمة، و يقدر على إيجاد المأمور به، فعزمه على المعصية طريق لإحراز كونه من مصاديق هذا العنوان من دون أن يجب عليه تحصيله.

و فيه: ان كشفه عن تحقق عنوان كونه ممن يعصى من عزمه المعصية لا يوجب سقوط النهى المتعلق بالمقدمة، و مع تحقق النهي الفعلي لا يمكن الأمر بها بناء على هذا النبي فكما ان العزم على المعصية لا يبيحها و يجب عليه نقضه و ترك المعصية، كذلك العزم الكاشف عن المعصية، و كذا صدق عنوان كونه ممن يعصى لا يوجبان إباحتها و سقوط النهى، بل يجب عليه نقض العزم و هدم العنوان.

و بالجملة إذا كان القبيح أو الممتنع تعلق الأمر بالوضوء اللازم منه تعلق الأمر بمقدماته المحرمة أو تجويزها، لا يمكن التخلص عنهما في المقدمات المقارنة بالترتب، سواء

جعل الشرط المعصية أو عزمها أو عنوان من يعصى، لكن التحقيق، ما عرفت من دون لزوم تكلف.

و مما ذكرنا يظهر الحال في مسألة اخرى و هي ما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا أهم لا لأجل الترتب المعروف الذي فرغنا عن إبطاله في الأصول، بل لأجل عدم امتناع تعلق الأمرين على عنوانين متزاحمين في الوجود، سواء كانا من قبيل الأهم و المهم أولا، لأن الأوامر متعلقة على نفس الطبائع من غير سراية إلى الخصوصيات الفردية، و ان الإطلاق بعد تمامية مقدماته ليس كالعموم في تعلق حكمه على الافراد، بل مقتضاه بعدها كون نفس الطبيعة تمام الموضوع بلا دخالة شي ء آخر من الخصوصيات الفردية و الحالات الطارية. و ان الأدلة غير ناظرة الى حال التزاحمات و لا حال علاجها، فإطلاق دليل المتزاحمين شامل لحال التزاحم من غير ان يكون ناظرا الى التزاحم و علاجه و ان الاحكام القانونية تعم العاجز و القادر و العالم و الجاهل من غير تقييد لحال دون حال، و ان الأمر بكل من المتزاحمين أمر بالمقدور و الجمع غير مقدور، و هو ليس بمأمور به ففي المتزاحمين أمر ان كل تعلق بمقدور لا أمر واحد بالجمع الذي هو غير مقدور.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 73

فتحصل من تلك المقدمات التي فصلناها في محله ان لدليل المتزاحمين إطلاقا يشمل حال التزاحم من غير تقييد، و انما يحكم العقل بلزوم الأخذ بالأهم و ترك المهم مع كونه مأمورا به، فيكون المكلف بحكم العقل معذورا في ترك التكليف الفعلي بالاشتغال بالأهم و مع ترك الأهم و الإتيان بالمهم أتى بالمأمور به و يثاب عليه، و لم يكن معذورا في ترك الأهم فيستحق

العقوبة على تركه، و مع تركهما يستحق العقوبة عليهما لتركه كلا من التكليفين المقدورين بلا عذر و التفصيل يطلب من محله.

ثم ان الصحة لا تتوقف على تصوير الأمر بل تصح العبادة مع عدمه، بل لا يبعد القول بها مع الالتزام بكون الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده لعدم اقتضاء النهي الغيري الفساد، و كيف كان لا إشكال في صحة الوضوء مع الابتلاء بالمزاحم.

هذا كله حال تلك المسائل من ناحية حكم العقل و اما حالها بالنظر الى الأدلة النقلية فلا بد لبيانها من إفراز بعض المسائل التي وردت فيها النصوص:

المسألة الاولى: الأقرب بطلان الوضوء و الغسل

في الموارد التي سقطا بدليل العسر و الحرج، و الدليل عليه التعليل المستفاد من الآية الكريمة الواردة في الصوم قال تعالى شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَ الْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و المحتمل بحسب التصور أن يكون مفادها حرمة صوم المريض و المسافر لجهة ارادة اليسر أو لجهة عدم إرادة العسر و أن يكون إبقاء اليسر و عدم هدمه واجبا، لا عنوان الصوم العسير حراما و ان يكون إيقاع العسر على النفس حراما بعنوانه، فعلى الاحتمالين الأخيرين لا يلزم بطلان الصوم لما مر من عدم بطلان العبادة المتحدة مع عنوان محرم، و كذا إذا كانت العبادة ضد الواجب، و على الاحتمال الأول يقع باطلا لتعلق الحرمة بنفس العبادة، و هنا بعض احتمالات أخر منفي بما يأتي.

و الأقرب من بينها هو الاحتمال الأول، اما لمفهوم قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 74

الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ بناء على كون مفهومه و من لم يشهد فلا يصمه، و أصل المفهوم و كذا كونه كذلك و ان كان محل مناقشة في الأصول، لكن لا يبعد مساعدة العرف عليهما، فيما إذا كان الجزاء من قبيل الهيئة لا المعنى الاسمي للفرق عرفا بين أخذ المفهوم من قوله: فمن شهد منكم الشهر فيجب عليه الصيام حيث ان المفهوم لا يجب عليه، و بين ما في الآية فلا يبعد أن يكون مفهومه فلا تصمه.

و تؤيده بل تدل عليه في المورد رواية عبيد بن زرارة التي لا يبعد أن تكون حسنة برواية الصدوق «قال قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ قال: ما أبينها من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه» «1» و في مجمع البيان فيه وجهان أحدهما: فمن شهد منكم المصر و حضر و لم يغب في الشهر، و الالف و اللام في الشهر للعهد، و المراد به شهر رمضان فليصم جميعه و هذا معنى ما رواه زرارة عن أبى جعفر انه قال: لما سئل عن هذه الآية ما أبينها لمن عقلها قال من شهد شهر رمضان فليصمه و من سافر فيه فليفطر».

و اما لإطلاق قوله «فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ» حيث دلت على ان نفس المرض و السفر توجب عدة من أيام أخر من غير دخالة شي ء آخر من إفطار أو غيره فيه، فإذا كان المكلف مريضا أو مسافرا في الشهر تأتي على عهدته عدة أيام أخر بدل شهر رمضان، و لا شبهة في ان هذه العدة قضاء شهر رمضان لما يستفاد من الآية ان الواجب الأصلي هو صيام الشهر،

و مع طرو العنوانين يتبدل بعدة من غيره، فإذا وجب القضاء بمجرد طروهما لا بد و ان يقع الصوم معهما باطلا، و الا فيلزم اما إيجاب البدل و لو على فرض إيجاد المبدل منه و صحته أو تقدير في الآية، و تقييد بلا دليل و حجة بأن يكون المعنى و من كان مريضا أو على سفر و أفطر.

و تؤيده رواية الزهري عن على بن الحسين عليهما السلام في حديث «قال: و اما صوم السفر و المرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال قوم: يصوم و قال آخرون:

لا يصوم و قال قوم: ان شاء صام و ان شاء أفطر و أما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن

______________________________

(1) الوسائل أبواب من يصح منه الصوم، ب 1، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 75

صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فان اللّٰه عز و جل يقول «فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ» فهذا تفسير الصيام» «1» فحكم بوجوب القضاء عليهما و ان صاما مستدلا بالاية و مستظهرا منها من دون اعمال تعبد، و قد عرفت ان ذلك مقتضى إطلاقها.

فتحصل مما ذكرنا ان المستفاد من الآية ان صوم المريض و المسافر بعنوانهما محرم باطل و يظهر منها تعليله بإرادة اليسر و عدم ارادة العسر على الأمة، فيجب التعميم بمقتضى العلة المنصوصة.

ثم يقع الكلام في ان القضايا المعللة المعممة هل تكون ظاهرة في ان الحكم لحيثية العلة كما يقال في الأحكام العقلية ان الحيثيات التعليلية عناوين للموضوعات.

فيكون حكم العرف كحكم العقل أو أن الظاهر كون عنوان الموضوع ما أخذ في ظاهر القضية المعللة، و

ما أخذ علة واسطة في ثبوت الحكم لموضوعه، فقوله: «الخمر حرام لانه مسكر» ظاهر عرفا في ان موضوع الحرمة هو الخمر و كونه مسكرا واسطة لتعلقها عليه؟ الأقرب هو الثاني، فإن الأول حكم عقلي دقيق برهاني لا عرفي عقلائي إذ لا إشكال في ان العرف يرى في تلك القضايا أمورا ثلاثة: الموضوع و الحكم و واسطة ثبوته له.

فتحصل مما ذكر أن المتفاهم من الآية ان صوم المريض و المسافر حرام بعنوانه لأجل إرادة اليسر، و الظاهر بحسب فهم العرف ان القضايا المفهومة من تعميم التعليل كالقضية الأصلية المعللة لها موضوع و حكم و وسط، فقضية تعميم التعليل في قوله «الخمر حرام لانه مسكر» ان الفقاع و النبيذ كذلك بعنوانهما لكونهما مسكرا، فان الحكم في الفرع تابع لأصله، فاحتمال كون الحكم في الفرع لحيثية الإسكار و كون الشي ء مسكرا بما هو كذلك ضعيف مخالف لفهم العرف و العقلاء، فظهر مما مر ان مقتضى تعميم العلة بنحو ما مر ان ما يلزم منه الحرج و العسر بعنوانه حرام، فالوضوء

______________________________

(1) الوسائل أبواب من يصح منه الصوم، ب 1، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 76

الحرجي و الغسل العسير بعنوانهما حرام فيقعان باطلا.

هذا مضافا الى أن قوله في آية التيمم «وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ» الى قوله:

«فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» كقوله في آية الصوم «وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ» فكما ان مجرد السفر صار سببا لعدة أخرى من غير دخالة شي ء آخر كما مر كذلك الظاهر ان المرض بنفسه سبب لإيجاب التيمم، و كذا في سائر الأعذار أن عممناها بالنسبة إليها.

بل يمكن الاستشهاد على المقصود بتمسك

الأئمة عليهم السلام بآية الصوم للحرمة تارة بمفهوم قوله «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» كما في رواية الزهري و اخرى بقوله:

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ كما في روايتي زرارة و ابنه مع كونها في مقام الامتنان و سياقها كسياق آية التيمم، فلو كان الأمر في الرفع امتنانا كما ذكره المتأخرون من عدم الدلالة على العزيمة و لا البطلان على فرض التخلف، لما كان وجه لتمسكهم عليهم السلام بها في مقابل من ذهب الى الرخصة فيستشعر منه ان جعل التيمم بدل الوضوء عزيمة كجعل عدة من أيام أخر بدل صوم المسافر، هذا كله في مفاد الآية الكريمة.

و يأتي الكلام المتقدم في مثل رواية يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، و سند الشيخ الصدوق اليه كالصحيح، لكن لم يرد في يحيى توثيق، و احتمل بعضهم ان يكون متحدا مع يحيى بن العلاء الثقة و هو غير ثابت «قال: الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثم قال: ان رجلا اتى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول اللّٰه انه على يسير؟ فقال رسول اللّٰه:

ان اللّٰه تصدق على مرضى أمتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان أ يحب أحدكم لو تصدق بصدقة ان ترد عليه صدقته» «1» فيأتي فيها الاحتمالات المتقدمة الا ان العنوان هاهنا رد الصدقة، و أقرب الاحتمالات هاهنا أيضا حرمة عنوان الصوم بعلية كونه رد الصدقة، و يأتي فيها الكلام في التعميم الذي ذكرنا في الآية.

نعم هنا كلام آخر: و هو ان ظاهر الآية ان العلة لحرمة الصوم ارادة اللّٰه اليسر

______________________________

(1) الوسائل: أبواب من يصح

منه الصوم، ب 1، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 77

على العباد، و ظاهر الرواية و بعض روايات أخر ان العلة كونه رد الصدقة و الظاهر عدم التنافي بينهما و لا مجال لتفصيله.

ثم اعلم ان هاهنا نكتة أخرى في باب التكاليف الحرجية و هي انه لو سلم عدم دلالة ما دل على نفى الحرج على بطلان متعلقات التكاليف النفسية الحرجية، اما بدعوى بقاء الجواز بل الرجحان مع رفع الإلزام لأجل أن الواجب عبارة عن الأمر بالشي ء مع عدم الرخصة بالترك، و دليل نفى الحرج يرفع عدم الرخصة، و بقي الأمر مع الرخصة فيه و هو الاستحباب أو لكفاية ما يقتضي الطلب و محبوبية الفعل لصحته، لكن إذا كان شرط المأمور به أو جزئه حرجيا لا يسلم ذلك لان مقتضى نفى الحرج نفى الشرطية و الجزئية فيكون المأمور به هو الفاقد لهما سواء قلنا بإمكان تعلق الرفع و الجعل بهما استقلالا كما هو التحقيق، أو قلنا بامتناعه و لزوم رفع الأمر عن المقيد، و المركب الواجد و تعلق أمر آخر على فاقدهما.

و على اى تقدير يكون المأمور به فعلا هو الطبيعة الفاقدة و لو بدل الشرط أو الجزء بالآخر يكون المأمور به فعلا هو الطبيعة المتقيدة بالبدل أو المشتملة عليه لا المبدل منه فيكون الإتيان به مع الجزء الساقط زيادة في المأمور به الفعلي، و الاكتفاء به مع فرض التبديل غير مجز عن الواقع، و هو المأمور به الفعلي، و مجرد اقتضاء الجزئية أو الشرطية لا يوجب عدم الزيادة، و جواز ترك الشرط الفعلي و الجزء كذلك، و الاكتفاء بما فيه الاقتضاء فالصلاة المشروطة بالتيمم أو بالطهارة الحاصلة منه هي المأمور

بها فعلا، و لم تكن مشروطة بالوضوء و الغسل و الآتي بها معهما آت بغير شرطها و كذا في تبديل الجزء.

و دعوى حصول الطهارة التي من الترابية من الغسل و الوضوء مع شي ء زائد لأنها مرتبة كاملة من الطهارة، غير متضحة الدليل، و مجرد كون المائية أكمل من الترابية في تحصيل الغرض لا يوجب وحدتهما واقعا، و اختلافهما بالشدة و الضعف لإمكان أن تكونا صنفين أحدهما أفضل من الأخر، فلا يحصل من أحدهما ما يحصل من الأخر، مع ان في أصل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 78

دعوى كون الشرط امرا معنويا حاصلا منهما كلاما، لقوة احتمال أن يكون الطهور عبارة عن الوضوء و الغسل و التيمم، لا أمرا حاصلا منها، و لا تبعد أقربية ذلك بظواهر الأدلة و كلمات الأصحاب، و مثل قوله التراب أحد الطهورين و يكفيك عشر سنين، لا يدل على انه أمر معنوي و لا على وحدتهما ذاتا و اختلافهما رتبة، كما ان قوله: الوضوء نور أو نور و طهور لا يدل على كون الطهور امرا معنويا لو لم نقل بدلالته على الخلاف بل الظاهر من آية الوضوء ان نفس تلك الافعال أو العناوين شرط للصلاة، و ليس المراد بقوله «فَاطَّهَّرُوا» الا الغسل بحسب وحدة السياق و فهم العرف خصوصا مع قوله «حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا» في الآية الأخرى لا تحصيل طهارة معنوية.

فتحصل مما ذكرنا ان مقتضى دليل نفى الحرج رفع شرطية الطهارة المائية، و مقتضى جعل التيمم بدلا اشتراط الصلاة به فعلا، و قضيتهما بطلان الصلاة مع الاكتفاء بالمائية.

و لو قلنا بأن مقتضى دليل نفى الحرج رفع سببيته الوضوء و الغسل للطهارة، و مقتضى جعل البدل جعل السببية

له، لكان البطلان أوضح مع الذهاب الى ان الشرط هو الأمر الحاصل بها.

المسألة الثانية- ما تقدم حال أدلة نفى الحرج و أما سائر الأدلة

الدالة على عدم الوضوء أو الغسل كما وردت في القرح و الجرح و الخوف على النفس مثل صحيحتي البزنطي و ابن السرحان و غيرهما، و ما وردت في مورد خوف العطش مثل صحيحة ابن سنان و موثقة سماعة و غيرهما، و ما وردت في الركية و فرض إفساد الماء مثل صحيحة عبد اللّٰه ابن يعفور، و ما وردت في مورد خوف فوت الوقت مثل صحيحة زرارة، بناء على ما قدمناه من الاستفادة منها، فالظاهر عدم استفادة بطلان المائية منها.

اما ما لا يتعلق النهى فيها على الغسل بل تعلق بعنوان خارج كافساد الماء أو عدم إهراقه فظاهر لان الظاهر منها ان الأمر بالتيمم لأجل ترجيح أحد المتزاحمين أي حرمة إفساد الماء، و وجوب حفظ النفس على الطهارة المائية فالأمر بالشرط الناقص ليس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 79

لأجل تبديل الكامل به، و إسقاط شرطيته كما قلنا في نفى الحرج بل للمزاحمة الواقعة بين الأهم و المهم، فيأتي فيه ما مر في باب المتزاحمين.

و اما ما تعلق النهي في ظاهر الدليل على الغسل فهو أيضا كذلك، لان المتفاهم من مجموعها ان النهى عنه ليس لمبغوضية فيه بل للإرشاد إلى الأخذ بأهم التكليفين فسبيل قوله في فرض القروح و الجروح و المخافة على النفس: «لا يغتسل و يتيمم» سبيل قوله:

«لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم مائهم» و قوله: «ان خاف عطشا فلا يهريق منه قطرة و ليتيمم بالصعيد» حيث لا يفهم منها مبغوضية الغسل و الوضوء بعنوانهما، بل الظاهر ان المبغوض هلاك النفس أو الواجب حفظها فلا

يدل على البطلان و قد مر ان مقتضى القاعدة أيضا الصحة.

نعم ما ذكرنا من الصحة بمقتضى القاعدة أو بحسب سائر الأدلة انما هو حيثى، فإذا انطبق على مورد عنوان آخر يقتضي البطلان نحكم به، كما إذا انطبق عنوان الحرج على مورد الضرر أو الخوف على النفس لما عرفت ان مقتضى أدلة نفى الحرج البطلان فيفصل في الحكم به بين ما إذا انطبق على مورد عنوان الحرج و بين ما إذا انطبق عليه عنوان محرم كالغسل في آنية الذهب و الفضة و الوضوء ارتماسا فيها، فيحكم بالبطلان في الأول دون الثاني، و أوضح منه في الصحة ما إذا زاحم مع تكليف أهم كالوضوء في ضيق الوقت المزاحم لفعل الصلاة، فإنه صحيح من غير فرق بين ان يكون قصده امتثال الأمر المتعلق به من ناحية هذه الصلاة على وجه التقييد و غيره لما ذكرنا من ان ملاك عبادية الطهارات ليس الأمر الغيري من ناحية الأمر بالصلاة لعدم وجوب المقدمة إلا عقلا، و لان الطهارات بما هي عبادة جعلت شرطا، فعباديتها مقدمة على تعلق الأمر الغيري على فرضه، و لا منافاة بين الأمر الاستحبابي الذاتي و الأمر الغيري لاختلاف العنوان.

(فح) لو جهل المكلف و قصد الأمر الغيري أو قصد التقرب به يقع قصده لغوا، و عبادته صحيحة لعدم اعتبار شي ء فيها الا الرجحان الذاتي و قصد كونه للّٰه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 80

نعم لو كان من قصده عدم التعبد إلا بالأمر الغيري يقع باطلا و لو في سعة الوقت لعدم وجوده، و عدم كونه مقربا على فرضه، الا ان يقال انه نحو انقياد للمولى و هو كاف في الصحة (فح) لا يفترق بين

السعة و الضيق.

الخامس لو قلنا في الموارد التي تعين عليه التيمم بالحرمة و البطلان،

فأتى بالمائية لعذر من غفلة أو جهل بالموضوع أو بالحكم قصورا و نحوها ففي صحتها مطلقا، أو التفصيل بين الموارد وجهان أقواهما التفصيل بين الموارد التي استفدنا من الأدلة تقييد المكلف به بغير المائية، و إسقاط شرطيتها كما قلنا في مورد الحرج فنحكم فيها بالبطلان لفقد ما هو شرط واقعا، و لا تأثير في العمد و غيره و العذر و غيره، و بين الموارد التي قيل ببطلانها لأجل أن المبعد القبيح لا يمكن ان يقع عبادة و صحيحا، و لو قلنا بجواز الاجتماع، لانه مع العذر لا يقع قبيحا و مبعدا، فلا مانع من مقربيته.

فالوضوء و الغسل صحيحان لرجحانهما الذاتي بل فعلية الأمر بهما، و عدم مانع آخر من صحتهما، فالوضوء في آنية الذهب و بالماء المغصوب صحيح.

هذا إذا قلنا بجواز الاجتماع و اما مع القول بامتناعه و ترجيح جانب النهي، فالصحة تتوقف على وجود الملاك في المتعلق و إمكان مقربية الملاك المكسور، و قد ذكرنا في محله ان إمكان تحقق الملاكين للشي ء الواحد يهدم أساس الامتناع إذا كان ملاكه لزوم التكليف المحال لا التكليف بالمحال، فان وجود الحيثيتين لحمل الملاكين إذا كان رافعا للتضاد بينهما يكون رافعا للتضاد بين الحكمين قطعا، فالقائل بالامتناع لا بدّ و أن يقول بأن الحيثية التي تعلق بها الأمر عين ما تعلق به النهى حتى يتحقق التضاد الموجب للامتناع، و مع وحدة الحيثية لا يمكن تحقق الملاكين، و مع ترجيح جانب النهى يستكشف عدم ملاك الأمر في المتعلق فيقع باطلا حتى مع الجهل و سائر الأعذار.

نعم إذا كان ملاك الامتناع التكليف بالمحال أو أغمضنا عن الاشكال و التزمنا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2،

ص: 81

بوجود الملاك فالظاهر وقوعه صحيحا حتى مع العلم لوجود الملاك، و عدم تقوم العبادة بالأمر بل يكون حاله حال المتزاحمين.

و ما قيل: ان في باب التزاحم انما يتزاحم الحكمان في مقام الامتثال عقلا بعد إنشائهما من قبل المولى، و اما في باب الاجتماع تتزاحم المقتضيات لدى المولى فلا تأثير لعلم المكلف و جهله في وقوعه باطلا.

غير وجيه: لان تقييد المولى أحد التكليفين بحال قد يكون لفقدان الملاك في غير هذا الحال، و قد يكون لترجيح أحد الملاكين على الأخر، فإن كان من قبيل الثاني يكون حكمه كحكم العقل في ترجيح الأهم على المهم، و في مثله لا مانع من الصحة لو قلنا بكفاية الملاك، و الملاك المرجوح صالح للمقربية و التقييد في مقام ترجيح الملاكات كالتقييد في مقام التزاحم لو قلنا بان الشارع ناظر اليه أو ان العقل يقيد؟؟؟ الأدلة.

و ما قيل: ان الملاك المكسور غير صالح للمقربية ان كان المراد من المكسورية رفع الملاك أو نقصانه عما هو عليه بواسطة التزاحم فهو ممنوع، لان حامل الملاكات الحيثيات، و لا يسرى حكم حيثية إلى حيثية أخرى. و ان كان المراد مرجوحيته فهي لا توجب البطلان بعد فرض كفاية الملاك و لو لم يكن مأمورا به، و التقييد بغير حال الاجتماع لا يستتبع نهيا فرضا، فالفعل و ان لم يكن مأمورا به لكن مشتمل على الملاك التام كاشتماله في غير مورد الاجتماع فيقع صحيحا.

المبحث الثاني فيما يتيمم به

اشارة

و يتم ذلك في ضمن أمور

الأول: لا إشكال في اشتراط كونه أرضا

فلا يجوز بما هو خارج عن مسماها، و هو مذهب علمائنا كما عن المنتهى و عليه الإجماع كما عن كشف اللثام و لا نزاع فيه عندنا كما عن مجمع البرهان. و ادعى عليه الإجماع في الخلاف و عن السرائر ان الإجماع منعقد على ان التيمم لا يكون إلا بالأرض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 82

أو ما يطلق عليه اسمها، و في الخلاف قال أبو حنيفة: كل ما كان من جنس الأرض أو متصلا بها من الثلج (و الشجر خ ل) و الصخر يجوز التيمم به، و به قال مالك «انتهى».

و في مفتاح الكرامة نسبة الجواز بالثلج الى أبي حنيفة و بالنبات الى مالك، لكن في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الحنفية قالوا: ان الصعيد الطهور هو كل ما كان من جنس الأرض فيجوز التيمم على التراب و الرمل و الحصى و الحجر و لو أملس، و السبخ المنعقد من الأرض، اما الماء المنعقد و هو الثلج فلا يجوز التيمم عليه، لانه ليس من أجزاء الأرض كما لا يجوز التيمم على الأشجار و الزجاج و المعادن «إلخ» و احتمال ان يكون مراده من الحنفية أصحاب أبي حنيفة و تابعيه لا نفسه بعيد، بل عن ابن رشد عدم تجويز أبي حنيفة التيمم بالثلج.

و كيف كان فلا إشكال في عدم جوازه بغير الأرض و ما خرج عن مسماها، بل و لا خلاف ظاهرا في حال الاختيار و سيأتي حال التيمم بالثلج عند الاضطرار.

ثم انه اختلفت كلمات أصحابنا بعد اشتراط كونه أرضا على أقوال: فقيل: انه التراب الخالص حكى ذلك عن السيد في شرح الرسالة و الكاتب

و التقى بل عن ظاهر الناصريات و الغنية الإجماع عليه، و قيل: انه كل ما يقع عليه اسم الأرض و هو المشهور تحصيلا كما في الجواهر و عن الكفاية و الحدائق، و عن الخلاف و مجمع البيان و ظاهر التذكرة الإجماع على الجواز بالحجر، و عن مجمع البرهان و المفاتيح و كشف اللثام هو مذهب الأكثر و عن مجمع البرهان: ينبغي ان يكون لا نزاع فيه و هو المشهور كما عن الكفاية، و عن جمع التفصيل بين حال الاختيار و الاضطرار و منشأ اختلافهم اختلاف اجتهادهم في الاستنباط عن الكتاب و السنة، و لا شبهة ان الشهرة و الإجماع في مثل هذه المسألة الاجتهادية المتراكمة فيها الأدلة و الآراء في دلالة الكتاب ليست حجة مستقلة فالأولى صرف الكلام الى ظواهر الأدلة.

اما الكتاب: فقد نزلت فيه آيتان كريمتان إحديهما في سورة النساء و هي قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و ثانيتهما في المائدة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 83

بعينها مع زيادة لفظة «مِنْهُ» بعد «وَ أَيْدِيَكُمْ».

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 2، ص: 83

و قد اختلفت كلمة أهل اللغة و العربية في معنى الصعيد فعن العين و المحيط و الأساس و المفردات للراغب و جمع آخر انه وجه الأرض، بل عن الزجاج انه لا يعلم اختلافا بين أهل اللغة، و عن المعتبر حكايته عن فضلاء أهل اللغة و عن البحار ان

الصعيد يتناول الحجر كما صرح به أئمة اللغة و التفسير و عن الوسيلة قد فسر كثير من علماء اللغة الصعيد بوجه الأرض، و ادعى بعضهم الإجماع عليه، و استدل بعضهم بكونه وجه الأرض بقوله تعالى فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً و قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، «يحشر الناس يوم القيمة حفاة عراة على صعيد واحد» «1» أي أرض واحد لعدم تناسب التراب.

و عن جمع من أهل اللغة انه التراب كالصحاح و الأصمعي و أبي عبيدة بل عن ظاهر القاموس و بنى الأعرابي و عباس و الفارس، بل عن السيد حكايته من أهل اللغة، و يظهر من بعضهم الاشتراك اللفظي بين التراب الخالص و مطلق وجه الأرض، بل و الطريق لا نبات فيه.

قال في مجمع البحرين: و الصعيد التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ و لا رمل، نقلا عن الجمهرة، و الصعيد أيضا وجه الأرض ترابا كان أو غيره و هو قول الزجاج، حتى قال: لا اعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، فيشمل الحجر و المدر و نحوهما، و الصعيد أيضا الطريق لا نبات فيها.

قال الأزهري: و مذهب أكثر العلماء ان الصعيد في قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً انه التراب الطاهر الذي على وجه الأرض، أو خرج من باطنها انتهى ما في المجمع، بل في المنجد: الصعيد التراب، القبر، الطريق، ما ارتفع من الأرض.

و ما قيل: ان الاشتراك اللفظي كذلك اى بين مطلق وجه الأرض و التراب بعيد بل إذا دار الأمر بين اللفظي و المعنوي يقدم الثاني، ناش من تخيل ان وقوع الاشتراك اللفظي في الألسن من واضع واحدا و طائفة واحدة، لكن الظاهر ان الاشتراك

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 3 ب 5، ح

4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 84

حاصل من ضم الطوائف بعضها ببعض، و اختلاط اللغات كاختلاط لغة العرب بالعجم، لأجل سلطة الاعراب و اختلاطهم مع غيرهم، فربما نسي بعض اللغات من إحدى الطائفتين، و قامت اللغة الأخرى مقامه، و ربما بقيت اللغتان فبقي لمعنى واحد لفظان أو أكثر من اختلاط الطوائف، فيظن من ذلك الاشتراك اللفظي البعيد أو المرجوح.

و كيف كان لا يمكن لنا الاتكال في معنى الصعيد على قول أهل اللغة مع هذا الاختلاف الفاحش بينهم، فإن حجية قولهم أما لحجية قول أهل الخبرة فمع اختلافهم و تعارض أقوالهم تسقط عنها، أو للاطمئنان و الوثوق منه فلا يحصل معه، و دعوى الزجاج عدم الاختلاف بين أهل اللغة يردّها قول من عرفت من كونه التراب الخالص أو الاشتراك بينه و بين غيره.

كما ان الاستدلال على كونه مطلق وجه الأرض بقول اللّٰه تعالى صَعِيداً زَلَقاً و قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله في النبوي المتقدم، في غير محله، لعدم جريان أصالة الحقيقة مع معلومية المراد و الشك في الوضع، و انما هي حجة في تشخيص المراد بعد العلم بالوضع.

و كذا دعوى الانصراف الى التراب الخالص لكونه الفرد الغالب الشائع في غير محلها، لمنع تحقق الشيوع الموجب له كما ان الأرض لا تنصرف اليه.

و قد يستدل لتشخيص المراد من الصعيد في الآية التي في المائدة بلفظة «منه» بدعوى ان المتبادر منها هو المسح ببعض الصعيد، لظهور رجوع الضمير اليه و عدم إمكان المسح بجميعه، فلا بد من المسح ببعضه، و لا يمكن ذلك إلا بإرادة التراب منه لحصول العلوق به دون الحجر و مثله، سواء كان الاستعمال على وجه الحقيقة أو المجاز،

و المقصود في المقام إثبات المطلوب لا إثبات المعنى الحقيقي.

و فيه ان المحتمل بدوا فيها كون الضمير راجعا الى الصعيد و كون «من» ابتدائية و عليه يكون معنى الآية. «تيمموا و اقصدوا صعيدا فإذا انتهيتم اليه فارجعوا منه الى مسح الوجوه و الأيدي» فيكون الصعيد منتهى المقصود أولا، فإذا انتهى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 85

المكلف اليه صار مبدأ الرجوع الى عمل المسح، فاستفيد منها عدم جواز مسح الوجه و اليد على الأرض، و عدم جواز التمرغ و التمعك كما فعل عمار رضى اللّٰه عنه، فكأن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حين قال: «هكذا يصنع الحمار و انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أراد تفهيم ان المستفاد من الآية خلاف ما فعله، بل يستفاد منها كون اليد آلة المسح.

و طريق الاستفادة انه إذا أمر بالمسح بعد الانتهاء الى المقصد و هو الصعيد و الرجوع منه الى تمسح الوجه و الأيدي، يعلم ان المسح باليد فإنها الإله المتعارفة للعمل، و بهذا يعلم ان المسح بباطن الكف لكونه الإله المتعارفة، و بعد كون باطنها آلته يعلم ان الممسوح غيره تأمل.

نعم لا يستفاد منها ان الممسوح ظاهرها، و لعل هذا الوجه بالتقريب المتقدم أقوى الوجوه و أنسبها.

و يحتمل ان تكون «من» تبعيضية مع رجوع الضمير الى الصعيد، كما يدعى المدعى فيكون المعنى: و امسحوا بوجوهكم و أيديكم بعض الصعيد (فح) لا يتضح من الآية ان آلة المسح اليد لإمكان أن تكون الإله نفس بعضه بان يرفع حجرا أو مدرا و يمسح به أو يضع وجهه على الصعيد و يمسحه به لصدق مسح وجهه ببعض الصعيد، بل لما كان

بعض الصعيد هو الصعيد لصدق الجنس على الكثير و القليل بنحو واحد، فكأنه قال: أمسحوا بوجوهكم و أيديكم الصعيد، فيكون الصعيد آلة المسح أو الممسوح و الماسح الوجه فيكون مناسبا لما صنع عمار، لكنه تخيل ان ما هو بدل الوضوء عبارة عن وضع الوجه و الأيدي على الأرض، و ما هو بدل الغسل بالمناسبة المرتكزة في ذهنه عبارة عن مسح جميع البدن بالتراب كما يغسل بالماء.

و هذا الاحتمال مع بعده لان لازمة اعتبار زائد في الصعيد حتى يخرجه عن المعنى الجنسي الشامل للقليل و الكثير بنحو واحد، و هو لحاظه مجموعا ذا أبعاض و هو خلاف الظاهر، و لأن الأصل في «من» الابتدائية على ما قالوا، و الاستعمال في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 86

غيرها بضرب من التأويل، و لان ذكر المسح ببعضه غير محتاج اليه بعد عدم إمكانه بجميع ما يصدق عليه الصعيد، بل غير محتاج اليه مع الإمكان أيضا، لأن طبيعة المسح توجد بأول مصداقه عرفا، و الفرض ان الصعيد اسم جنس صادق على الكل و بعضه، لا يثبت مدعاهم، و هو كون المراد من الصعيد هو التراب.

أما أولا فلما عرفت من عدم دليل في ظاهر الآية بان الماسح الكف، بل يمكن ان يكون نفس الصعيد برفع بعضه الى الوجه، و هو يشعر بخلاف مطلوبهم، و ان يكون المراد مسح الوجه على الأرض نظير ما صنع عمار، و المنظور الان هو النظر الى نفس الآية لا الأدلة الخارجية و المرتكزات الحاصلة من معهودية كيفية التيمم، و الا يكون مطلوبهم واضح البطلان كما يأتي التنبيه عليه.

و اما ثانيا فلان وجه الأرض لا ينحصر بالتراب و الحجر حتى يثبت مطلوبهم،

بل كثير من الأراضي يكون لها علوق مع عدم كونها ترابا كالجص و النورة و الرمل بل و الحجر المسحوق و غيرها.

و يحتمل ان تكون «من» للتأكيد كقوله تعالى مٰا جَعَلَ اللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ و قوله وَ تَرَى الْمَلٰائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ فيكون المعنى فامسحوا بوجوهكم و أيديكم الصعيد، و هذا الاحتمال ان لم يكن أقرب من الاحتمال المتقدم لعدم لزوم التصرف في الصعيد بما مر من لزومه على ذاك الاحتمال، فلا أقل من مساواته معه، و يأتي فيه ما مر آنفا في فرض ذاك الاحتمال.

و ما قيل ان مجي ء الحرف للتأكيد خلاف الظاهر، و الأصل ان تستعمل في معنى من المعاني، غير مسلم إذا كان سائر المعاني خلاف ما وضع له كما يظهر منهم هاهنا، من ان الأصل فيها الابتدائية، بل عن السيد ان كلمة «من» ابتدائية و ان جميع النحويين من البصريين منعوا ورود من لغير الابتداء.

نعم لو ثبت اشتراكها بين المعاني المذكورة لها يكون المجي ء للتأكيد خلاف الأصل لكنه غير معلوم، و يحتمل ان يكون بدلية مع رجوع الضمير الى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 87

الماء، و هذا الاحتمال أيضا لا يقصر من احتمال كونها تبعيضية، و يحتمل ان تكون ابتدائية و الضمير راجعا الى التيمم، و ان تكون سببية و الضمير راجعا الى الحدث المستفاد من سوق الآية، أو يكون مساقها مساق قوله: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه الى غير ذلك من الاحتمالات التي بعضها أقرب من التبعيضية أو مساو لها.

و قد يستدل لتعيين المراد من الآية بصحيحة زرارة انه قال لأبي جعفر عليه السّلام:

«الا تخبرني من اين علمت

و قلت ان المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين» الى ان قال: «فلما وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لانه قال: بوجوهكم ثم وصل بها و أيديكم ثم قال: منه اى من ذلك التيمم لانه علم ان ذلك اجمع لم يجر على الوجه لانه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف و لا يعلق ببعضها» «1» بدعوى ان المراد من التيمم ما يتيمم به لبعد الرجوع الى ذات التيمم المستفاد من قوله: فتيمموا صعيدا» فيناسب التعليل مع تبعيضية «من» فكأنه قال: التيمم من بعض الصعيد لعدم اجراء جميعه على الوجه لعلوقه ببعض اليد لإتمامها، (فح) يتم المطلوب و هو كون الصعيد التراب.

و يرد عليه ما يرد على الاستدلال بالاية بعد تسليم تمامية جميع المقدمات، و هو عدم اختصاص العلوق بالتراب، فهذه الصحيحة و الآية الكريمة بعد تسليم ما ذكر تدلان على لزوم كون التيمم بما يصلح أن يعلق منه في الجملة على اليد بضربها عليه كالرمل و الجص و النورة و الحجر المسحوق، بل تدلان (ح) على لزوم كون المسح بما يصدق عليه الصعيد في الجملة، اى و لو لم يلزم الاستيعاب، فلا يجوز النفض اللازم منه عدم بقاء ما يصدق عليه الصعيد و التراب، ضرورة ان الغالب أن يكون الباقي بعد النفض أثر الأرض و التراب لا نفسهما و جنسهما، للفرق بين الأثر الباقي بعد النفض و بين التراب كالفرق بين النداوة و الماء و سيأتي الكلام فيه.

هذا مع ممنوعية كون المراد من التيمم ما يتيمم به لوضوح كون عناية أبي جعفر

______________________________

(1) الوسائل أبواب الوضوء، ب 23، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 88

عليه السّلام

برجوع الضمير الى التيمم، و عدم رجوعه الى الصعيد فلو أراد الرجوع الى ما يتيمم به، لكان اللازم أن يقول من ذلك الصعيد مع ذكره في الآية لئلا يصير الكلام المعجز كاللغز، لان عدم رجوعه الى الصعيد المذكور في الكلام و الرجوع الى التيمم الغير المذكور و ارادة ما يتيمم به من التيمم، ثم ارادة الصعيد مما يتيمم به أشبه بالاحجية من الكلام المتعارف فلا محيص عن إرجاعه إلى نفس التيمم بناء على هذا التفسير، فلا محالة يكون ذلك لنكتة و لعلها إفادة ان المسح بالوجه و الأيدي لا بدّ و ان يكون من ذلك التيمم الذي كناية عن ضرب الأرض فكأنه لإفادة لزوم حفظ العلاقة العرفية و عدم التأخير أو الاشتغال بأمر رافع للربط بين المسح و الضرب على الأرض، فإن ضرب كفيه على الأرض و غسلهما مثلا، فمسح بهما وجهه لم يكن مسحه من ذلك التيمم، و كذلك لو فصل بين الضرب و المسح بما يقطع العلاقة العرفية.

و اما التعليل في الصحيحة فالظاهر أن يكون لعدم رجوع الضمير الى الصعيد حتى يتوهم منه لزوم المسح به مع عدم إمكانه، فكأنه قال: انما قلنا من ذلك التيمم لا من الصعيد لعدم إمكان المسح منه لعدم إجرائه على الوجه لانه يعلق منه ببعض الكف و لا يعلق ببعض.

و ما ذكرنا في توجيه الرواية و ان لا يخلو من بعد و ارتكاب خلاف ظاهر لكنه أهون من القول بأن المراد من التيمم ما يتيمم به، فان النفس لا ترضى بانتسابه الى متعارف الناس فضلا عن أفضلهم علما و فصاحة، فضلا عن الانتساب إلى الوحي المعجز، فلا بد من إبقاء التيمم بظاهره، و توجيه التعليل و مع

العجز فرد علمه إلى اهله.

و فيها احتمالات أخر يطول بنا البحث في الخوض فيها، لكن في الذهن شبهة و هي انه مع إبقاء ظاهر الآية بحاله و رجوع الضمير الى الصعيد، و ارادة الابتدائية من كلمة «من» يتضح ما يراد بالرواية بالتوجيه الذي ذكرناه، فلا تتوقف افادة ما ذكر برجوع الضمير الى التيمم، فلو كان المراد امسح من الصعيد اى مبتدئا منه الى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 89

تمسح الوجه يفهم منه عرفا ما يفهم من رجوعه الى التيمم، فلا بد من نكتة أخرى فيه غير ما تقدم، فلعلها لإفادة كون المسح على الوجه و الأيدي جميعا من ذلك التيمم، اى عدم لزوم تجديد الضرب أو عدم جوازه.

و لعل التعليل على هذا الاحتمال أقرب بأن يقال: ان المراد منه إفادة ان الضرب الثاني لا يحصل به الا ما يحصل بالضرب الأول، و لا يعلق الصعيد على جميع اليد حتى يجرى على الوجه، بل يعلق على بعضه فلا يلزم العلوق بل ما لزم هو كون المسح من ذلك التيمم، و هو حاصل بالضرب الأول.

و بالجملة ليس اللازم في المسح ان يكون بأجزاء الأرض لأنه غير ممكن في التيمم لان الاجزاء لا تعلق بجميع اليد حتى تجري على الوجه، بل اللازم ان يكون من التيمم و هو حاصل بالضرب الأول من دون تكرار.

و لعل هذا مراد الشهيد في محكي الذكرى في ذيل الرواية بقوله: و هذا الصحيح فيه إشارة الى عدم اعتبار العلوق و هو كذلك، لان فيها إشارة الى ان المعتبر هو العلاقة لا العلوق.

ثم ان الأقوى ما عليه المشهور من كون ما يتيمم به مطلق وجه الأرض لا التراب خاصة

لطوائف من الروايات فيها الصحيح و الموثق، ربما يستفاد منها ان المراد بالصعيد في الآية مطلق وجه الأرض.

منها النبوي المعروف: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» «1» و هي رواية مشهورة مستفيضة نقلا لو لم نقل بتواترها و لهذا نسبها الشيخ الصدوق (ره) إلى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله على سبيل الجزم، و لا يمكن ذلك من مثله رحمه اللّٰه الا مع علمه بصدورها و قد ذكرنا ان جواز الاتكال بمثل هذا الإرسال بنفسه من مثله لا يخلو من قوة فضلا عن مثل المقام مع استفاضة النقل. فقد رواها الشيخ الكليني في الكافي، و البرقي في المحاسن و الصدوق في الخصال بسندين و في الأمالي و ابن الشيخ الطوسي في مجالسه و الطبرسي في بشارة المصطفى

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 7 ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 90

و الديلمي في إرشاد القلوب، و الشيخ حسن بن سليمان الحلي في ما رواه من كتاب المعراج و المسعودي في إثبات الوصية، و الراوندي في لب اللباب، و القاضي في دعائم الإسلام.

و من هنا قد ينقدح في الذهن وقوع اشتباه فيما روى الصدق (ره) بسند في غاية الضعف عن جابر بن عبد اللّٰه «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: قال اللّٰه عز و جل: جعلت لك و لأمتك الأرض كلها مسجدا و ترابها طهورا» «1» و كذا في مرسلة غوالي اللئالي و اماما في مجالس ابن الشيخ في حديث «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا أينما كنت أتيمم من تربتها و أصلي عليها» «2» فلا يخالف الروايات لان عمله صلّى اللّٰه عليه و آله يمكن أن يكون لأجل

أفضلية التراب لا لتعينه، فلا ينافي صدرها و لا يصلح لتقييد إطلاقه فضلا عن سائر المطلقات.

ثم ان احتمال كون المراد من طهورية الأرض طهوريتها من الخبث، فإنها طهور منه في الجملة في غاية الضعف، بل الاختصاص مقطوع البطلان بعد معروفية التيمم، و كونه أحد الطهورين، و نزول الوحي به في آيتين مضافا الى التصريح بالتيمم في بعض الروايات فلا شبهة في إرادة خصوص التيمم منه أو الأعم، (فح) يمكن الاستشهاد به لكون المراد من الصعيد في الآية هو مطلق الأرض فإنه ناظر الى الآيتين الكريمتين، حيث جعل اللّٰه تعالى فيهما الصعيد طهورا فيكون بمنزلة المفسر للاية.

و منها ما وردت في قضية عمار بن ياسر رضى اللّٰه عنه ففي موثقة زرارة عن أبى- جعفر عليه السّلام «قال اتى عمار بن ياسر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه إنى أجنبت الليل فلم يكن معى ماء، قال: كيف صنعت؟ قال: طرحت ثيابي فتمعكت فيه، فقال:

هكذا يصنع الحمار انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فضرب بيديه على الأرض ثم ضرب إحديهما على الأخرى ثم مسح بجبينيه» إلخ «3».

و في صحيحة زرارة «قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ذات

______________________________

(1) المستدرك أبواب التيمم، ب 5، ح 3.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 7، ح 2.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 91

يوم لعمار في سفر له: يا عمار بلغنا أنك أجنبت فكيف صنعت؟ قال: تمرغت يا رسول اللّٰه في التراب، قال: فقال: كذلك يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما

على الصعيد ثم مسح بجبينيه» إلخ «1» الى غير ذلك و قد يتوهم دلالة الصحيحة على مخالفة الصعيد للأرض حيث قال فيها أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد، فلو كان الصعيد هو الأرض لقال فوضعهما عليها.

و فيه انه من المحتمل ان يكون ذلك لأجل إفادة أن الصعيد هو الأرض، و هذه الطائفة مضافا الى دلالتها على المذهب المشهور يمكن الاستشهاد بها على كون الصعيد في الآية هو الأرض لا التراب خاصة، فإنه لا شبهة في ان قضية عمار قضية واحدة حكاها الأئمة عليهم السلام بتعبيرات مختلفة نقلا بالمعنى، ففي رواية «فوضع يده على المسح» و في أخرى «فضرب بيديه على الأرض» و في ثالثة «أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد» فيظهر منها كون الأرض و الصعيد واحدا ليصح النقل بالمعنى.

اللهم الا ان يقال ان النقل بالأعم و الأخص غير مضر بعد ان لا تكون العناية بنقل ما يتيمم به بل بأصل القضية و لهذا قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فوضع يده على المسح.

لكن يظهر من أبى جعفر عليه السّلام في نقل القضية عناية بذكر ما يتيمم به، فراجع ما روعي عنه في القضية (فح) يتم المطلوب، و هو كون المراد بالصعيد في الآية هو الأرض لا التراب.

ثم انه يظهر من قوله: «أ فلا صنعت كذا ثم أهوى بيديه» إلخ و قوله: «هكذا يصنع الحمار انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» إلخ ان ما صنع عمار خلاف المتفاهم من الآية الشريفة، فيحتمل ان يكون مراده إفادة أن الآية تدل على ان المسح من الصعيد لا مسح الجسد على الأرض، فتدل على ظهور «من» في الابتدائية، و الا فمع التبعيضية كان

الظاهر جواز مسح الأعضاء بالأرض.

الا ان يقال: ان اعتراض رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عليه لتمرغه على الأرض في بدل

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 92

الغسل بتوهم ان المناسب فيه ذلك فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ان الآية تدل على ان للتيمم كيفية واحدة بدلا عن الوضوء و الغسل، فلم تمرغت مع دلالتها على المسح ببعض الوجه و الأيدي كما تشهد به رواية دعائم الإسلام عن على عليه السّلام و فيها «فقال له: يا عمار تمعكت تمعك الحمار قد كان يجزيك من ذلك ان تمسح بيديك وجهك و كفيك، كما قال اللّٰه عز و جل» لكن الظاهر حتى من رواية الدعائم انه ارجع عمارا الى ظاهر الآية، و انها دالة على ان آلة المسح هي اليدان، فان قوله فيها «يجز بك من ذلك ان تمسح الى ان قال كما قال اللّٰه» يدل على استفادة ذلك منها، و كذا قوله في صحيحة زرارة «أ فلا صنعت كذا ثم أهوى بيديه إلى الأرض» إلخ يدل على دلالة الآية على كيفية التيمم، و لا بعد في استفادته منها كما أشرنا إلى شمة من طريقها و لعله يأتي تتمة لذلك.

و منها عدة روايات أخر كصحيحة الحلبي «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول:

«إذا لم يجد الرجل طهورا فليمسح من الأرض و ليصل و إذا وجد ماء فليغتسل و قد أجزأته صلوته التي صلى» «1» لكن احتمال كونها بصدد بيان أجزاء الصلاة التي صلى مع التيمم، لا في مقام بيان ما يتيمم به كاحتمال كونها بصدد بيان انه مع عدم وجدان الماء

يصح التيمم و لو في سعة الوقت، و لا يجب الصبر الى آخره و إهمال بيان ما يتيمم به غير بعيد.

و نظيرها صحيحة ابن سنان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام، و كصحيحة المرادي «عن أبي عبد الهّٰ عليه السّلام في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك» «2» و رواية زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «في التيمم تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك» «3» و احتمال كونهما بصدد بيان كيفية التيمم اى المسحتين لا ما يتيمم به ضعيف.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 4.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 12 ح 2.

(3) الوسائل أبواب التيمم ب 11، ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 93

بل لو سلم يكون الضرب على الأرض من كيفياته، و داخل في ماهيته و مقوماته و كيف كان لا إشكال في ظهور مثل تلك الروايات في ان ما يتيمم به الأرض، بل لا تبعد استفادة كون المراد من الصعيد هو الأرض من مثلها، فان الظاهر ان كلها واردة لبيان مفاد الآية لا بيان تشريع آخر زائدا على مضمونها وصل إليهم من غير طريقها، بل يمكن رفع الإجمال عن كلمة «من» على فرض إجمالها، و ترددها بين الابتدائية و غيرها، و عن ذيل صحيحة زرارة المتقدمة و تعليلها، فإنه مع النفض لا يبقى من أجزاء الأرض على الكف، و ما بقي من الأثر الضعيف لا تصدق عليه الأرض، فمع كونها تبعيضية لزم المسح باجزاء الصعيد، فيقع التنافي بين الآية و الروايات فمع نصوصية تلك الروايات في مضمونها يرفع الإجمال المتوهم عن الآية و

الصحيحة و تعليلها.

و توهم ان لزوم النفض أو رجحانه دليل على وجوب كون التيمم بالتراب لا مطلق الأرض مدفوع بما مرّ من انه لا يدل على مدعاهم، بل لو سلم يدل على لزوم كون الأرض صالحا للعلوق مع انه وارد مورد الغالب، فإن الأراضي غالبا ذات أجزاء تعلق باليد حتى مثل أراضي الحجاز التي لا تكون ترابا أو ترابا خالصا، فلا تصلح مثلها لرفع اليد عن عنوان الأرض الظاهر في تمام الموضوعية.

و يمكن الاستدلال على المطلوب برواية زرارة عن أحدهما «قال: قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد» إلخ «1» فإن الظاهر منها ان الطين صعيد مع انه ليس بتراب لكن في مرسلة على بن مطر «قال: سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل لا يصيب الماء و لا التراب أ يتيمم بالطين؟

قال: نعم صعيد طيب و ماء طهور» «2» و هي ظاهرة في ان أصل الطين صعيد بقرينة ماء طهور، فتكون ظاهرة في ان الطين ليس بصعيد، و لكن فيها احتمال آخر و هو ان السؤال عن الأراضي الممطورة التي صارت طينة و فيها الطين، و الاجزاء

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 8، ح 5.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 8، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 94

المائية القليلة التي لا تضرّ بصدق عدم وجدان الماء، و لا بصدق كون الأرض طينة، فيكون المراد بقوله: «صعيد طيب» هو الطين، و بقوله: «ماء طهور» هو الاجزاء المائية كما تشاهد في الأراضي الممطورة، و الطرق المطينة، فتكون الرواية شاهدة على المشهور.

و هنا احتمال ثالث و هو ان المراد بقوله صعيد طيب و ماء طهور

ان ما يتطهر به اما صعيد طيب، و اما ماء طهور و الطين هو الصعيد الطيب فيجوز التيمم به، و مع هذه الاحتمالات لا يمكن رفع اليد عن ظاهر قوله في رواية زرارة فإنه الصعيد، هذا مع ان إطلاق الصعيد على التراب لا يدل على عدم صدقه على غيره، غاية الأمر إشعاره أو دلالته على ان الطين ليس بصعيد.

و مع ذلك يكون رواية زرارة أظهر في دلالتها على كون الطين صعيدا من دلالة هذه الرواية على نفيه.

و يمكن الاستشهاد على المطلوب بان أراضي الحجاز و ما حولها غالبا و غالب الأراضي الجبلية لا يوجد فيها التراب الخالص، بل ليس فيها الا الرمل و الأحجار الصغار فلو كان المراد من الصعيد في الآية التراب الخالص لكان التيمم حرجيا على سكان محل نزول الوحي، و هو ينافي شرع التيمم و النبوي المشهور: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» الذي هو في مقام بيان الامتنان بل لو كان ذلك لشاع و صار موردا للسؤال و الجواب كثيرا.

ثم انه قد يستدل لمذهب الخصم بعد إجماع السيد و الغنية بروايات:

منها صحيحة محمد بن حمران و جميل بن دراج «أنهما سألا أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امام قوم أصابته جنابة في السفر و ليس معه من الماء ما يكفيه للغسل أ يتوضأ بعضهم و يصلى بهم؟ فقال: لا و لكن يتيمم الجنب و يصلى بهم فان اللّٰه عز و جل جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» بدعوى انه في مقام بيان امتنان اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 24- ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 95

على العباد، فلو كان مطلق الأرض طهورا كان

المناسب أن يذكرها فإنه أدخل في الامتنان مع إمكان ان يقال انها ناظرة إلى تفسير الآية.

و فيه ان الرواية بصدد بيان صحة تيمم المجنب و إمامته مع وجود المتوضي، و انما ذكر جعل اللّٰه تعالى التراب طهورا استدلالا على المقصود من غير نظر الى امتنان اللّٰه على العباد، و لا الى تفسير الآية فلا تدل على المطلوب الا بمفهوم اللقب.

هذا مع انه لو كان في مقام الامتنان لكان المناسب ذكر الأرض على اى حال لأنها طهور في الجملة.

و عن روض الجنان و الروضة لا قائل بالمنع مطلقا و الحق ما مر، و لهذا ترى ان الروايات التي بصدد بيان الامتنان ذكرت فيها الأرض و هي ما مر من الحديث المستفيض عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا».

و استدل أيضا بصحيحة رفاعة عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا كان الأرض مبتلة ليس فيها تراب و لا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه» إلخ «1» و نظيرها صحيحة عبد اللّٰه بن المغيرة، بدعوى ان فرض عدم التراب خاصة دليل على عدم جواز التيمم حال الاختيار بوجه الأرض و الإمكان عليه فرض عدم الحجر أيضا.

و فيه انه من القريب ان يكون فرض عدم التراب في الأرض التي لها بلة لم تصل الى حد الطين، لأجل أن البلة لم تنفذ الى باطن التراب، فمع وجود التراب في الأرض المبتلة بالمطر القليل مثلا يكون التيمم بالأرض اليابس ممكنا برفع ظاهر التراب، و التيمم باليابس من الأرض الذي لم تنفذ اليه البلة فالصحيحة سيقت لبيان مراتب التيمم بأنه إن أمكن بالأرض اليابسة فهو، و الا بأجف موضع منها فالاجف الى أن

لا يجد الا الطين فيتيمم به كما هو المفروض في ذيلها، فلم تكن بصدد بيان تقدم التراب على سائر وجه الأرض بل بصدد بيان تقدم اليابس على غيره، و الاجف على غيره فهي غير مربوطة بالمقام.

______________________________

(1) الوسائل: أبواب التيمم، ب 9، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 96

و بالجملة فرض عدم التراب لفرض عدم وجود الأرض اليابسة لا لموضوعية التراب مقابل وجه الأرض (فح) إن أمكن الالتزام بمضمونهما فلا محيص عن اعتبار المراتب فيما يتيمم به ترابا كان أو غيره، فالتراب اليابس و الأرض اليابسة مقدم على غيرهما و الاجف مقدم على غيره، و مع عدم إمكانه كما هو الحق لا بد من حملهما على مراتب الفضل.

و ربما يأتي الكلام فيها، فتحصل من جميع ما ذكرنا ان مقتضى الأدلة صحة التيمم اختيارا بمطلق وجه الأرض، و انه المراد من الصعيد في الآية.

بقي الكلام فيما نسب الى ناصريات السيد من دعوى كون الصعيد هو التراب بل دعواه الإجماع عليه و كذا في إجماع الغنية و لا بأس بذكر عبارتهما حتى يتضح حال النسبة.

قال في الناصريات بعد كلام من الناصر: و الذي يذهب إليه أصحابنا ان التيمم لا يكون الا بالتراب أو ما جرى مجرى التراب مما لم يتغير تغييرا يسلبه إطلاق اسم الأرض عليه، و يجوز التيمم بغبار الثوب و ما أشبهه إذا كان ذلك الغبار من التراب أو ما يجرى مجراه، ثم حكى أقوال العامة و تجويز أبي حنيفة التيمم بالزرنيخ و الكحل، و النورة و مالك بالشجر و ما يجرى مجراه، ثم قال: دليلنا على صحة مذهبنا الإجماع المتقدم ذكره، و يزيد عليه قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً و

الصعيد هو التراب، و حكى ابن دريد في كتاب الجمهرة عن أبى عبيدة معمر ابن المثنى ان الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ، و قول أبي عبيدة حجة في اللغة، و الصعيد لا يخلو ان يراد به التراب أو نفس الأرض، و قد حكى انه يطلق عليها أو يراد ما تصاعد على الأرض، فإن كان الأول فقد تم ما أردناه و ان كان الثاني لم يدخل فيه ما ذهب إليه أبو حنيفة، لأن الكحل و الزرنيخ لا يسمى أرضا بالإطلاق كما لا يسمى سائر المعادن من الذهب و الفضة و الحديد بأنه أرض، و ان كان الصعيد ما تصاعد على الأرض لم يخل من ان يكون ما تصاعد عليها هو منها و تسمى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 97

باسمها أولا يكون كذلك فان كان الأول فقد دخل فيما ذكرناه، و ان كان الثاني فهو باطل لانه لو تصاعد على الأرض شي ء من التمر و المعادن أو مما هو خارج عن جوهر الأرض فإنه لا يسمى صعيدا بالإجماع، و أيضا ما روى عنه من قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا و ترابها طهورا» و أيضا فقد علمنا انه إذا تيمم بما ذكرناه استباح الصلاة بالإجماع، و إذا تيمم بما ذكره المخالف لم يستبحها بإجماع و علم، فيجب ان يكون الاحتياط و الاستظهار فيما ذكرناه، و لك أيضا ان تقول انه على يقين من الحدث، فلا يجوز ان تستبيح الصلاة إلا بيقين و لا يقين الا بما ذكرناه دون ما ذكره المخالف «انتهى بطوله».

و أنت خبير بأن صدر العبارة صريح في ذهاب أصحابنا إلى صحة التيمم بالتراب و غيره مما يطلق

عليه اسم الأرض و لم يتغير تغيرا مخرجا عن إطلاق اسمها عليه رملا كان أو جصا أو حجرا و قوله: «مما لم يتغير» إلخ بيان لما يجرى مجرى التراب و موضح لمقصوده، فاحتمال كون مراده مما يجرى مجراه هو المسحوق من غير التراب، ضعيف، مع انه مثبت للمدعي في الجملة.

ثم انه ادعى الإجماع على ما ذكره من جواز الأرض بمطلق ما لا يخرج عن مسمى الأرض، أو على عدم الجواز بما يخرج عنه في مقابل أبي حنيفة و أشباهه ممن أجاز التيمم بالزرنيخ و الكحل أو الشجر و شبهه، فللسيد كما يظهر من صدر عبارته و ذيلها دعويان: إحديهما صحة التيمم بمطلق وجه الأرض و ثانيتهما عدم جوازه بما يخرج عن مسماها، فقد استدل على الاولى بالإجماع في أول العبارة و أثنائها و آخرها، و بقاعدة الشغل و الاستصحاب، و على الثانية بالاية الكريمة و الحديث النبوي، و ذكر محتملات الآية ردا لأبي حنيفة و أضرابه، لا لإثبات الدعوى الاولى، و ان كان في بعض فقرأتها إشعار بأن التراب ما يتيمم به، فلا ريب في لزوم رده الى ما هو صريح بصحته بمطلق الأرض و لا اغتشاش في عبارته كما ترى، و هو رحمه اللّٰه موافق للمشهور من صحة التيمم بالأرض.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 98

و توهم مخالفته له ناش من زعم انه استدل بالاية و الرواية لمذهبه فاستكشف منه مذهبه مع ان التدبر في عبارته موجب للاطمئنان بأن استدلاله بهما في مقابل الخصم، و لدعواه الثانية لا لمذهبه.

و قال في الغنية: و اما التراب فالذي يفعل به التيمم و لا يجوز الا بتراب طاهر و لا يجوز بالكحل و

لا بالزرنيخ و لا بغيرهما من المعادن، و لا بتراب خالطه شي ء من ذلك بالإجماع و قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً و الصعيد هو التراب الذي لا يخالطه غيره.

و الظاهر ان دعواه الإجماع راجعة الى عدم الجواز بالكحل و الزرنيخ و غيرهما من المعادن و التراب المخلوط بشي ء منها لا إلى الجملة الاولى، و كيف يدعى الإجماع على عدم الجواز الا بالتراب مع ان السيد (ره) ادعاه على جوازه بما يجرى مجرى التراب أي الأرض، و هو مختار الشيخ بل لعله ادعى الإجماع عليه.

و ربما يشهد لذلك قوله: و لا بتراب خالطه شي ء من ذلك اى الكحل و ما بعده و الا كان عليه ان يقول: و لا بتراب خالطه شي ء من غيره، و كيف كان لم يظهر منه دعوى الإجماع على عدم الصحة إلا بتراب خالص، و لو سلم فهي موهونة بذهاب المشهور على خلافها.

و ربما يتمسك لذلك بقاعدة الشغل و هو انما يصح لو كان المأمور به أو الشرط هو الطهور المعنوي الذي تكون تلك الافعال محصلاته، و هو غير ثابت بل ظاهر الأدلة ان الشرط للصلاة هو الوضوء و الغسل و التيمم، و قوله: «لا صلاة الا بطهور» لا يدل على انه غير تلك العناوين نعم في بعض الروايات اشعار بما ذكر لم يصل الى حد الدلالة و لا يقاوم سائر الأدلة، هذا مع انه لو سلم فلا مجال للأصل في مقابل ما عرفت.

الأمر الثاني: لا يصح التيمم بما خرج عن مسمى الأرض

كالمعادن الخارجة عن مسماها مثل الزرنيخ و الملح و الكحل و الأحجار الكريمة و الذهب و الفضة، و كالنبات و الشجر بلا اشكال و لا خلاف. إلا المحكي عن ابن أبى عقيل من تجويزه بالأرض و بكل ما

كان من جنسها كالكحل و الزرنيخ لانه يخرج من الأرض، و الظاهر من قوله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 99

من جنسها ما لا يخرج عن مسماها فيوافق المشهور، و ان كان تمثيله بما ذكر و تعليله ربما ينافيان ذلك، و لعل مراده من الخروج من الأرض بنحو خاص منه بما لا ينافي كونه من جنسها فيكون موافقا للحكم الكلي للقوم، و تمثيله بما ذكر من تعيين المصداق لا الاختلاف في الفتوى و ان لا يخلو من بعد.

و كيف كان يدل على المطلوب الإجماعات المنقولة و الشهرة المحققة و ظواهر الأدلة الدالة على أن ما يتيمم به هو الأرض و الصعيد و ما خرج عن مسماها، و لا يكون صعيدا و أرضا لا يصح التيمم به.

و لا يخفى ان الميزان في عدم الجواز هو ما ذكرنا، و اما عنوان المعدن فليس في شي ء من الأدلة موضوعا للحكم بل يظهر من الإجماعات المنقولة ان المناط هو الخروج عن مسماها من غير دخالة لعنوان المعدن.

ففي المنتهى لا يجوز التيمم بما ليس بأرض على الإطلاق كالمعادن و النبات المنسحق و الأشجار الى ان قال: و هو مذهب علمائنا، ثم قال في الفرع الثاني من التفريعات و منع ابن إدريس من التيمم بالنورة و هو الأقرب، لأنها معدن فخرجت عن اسم الأرض، و عليه يحمل إجماع الخلاف و الغنية لأنهما مثلا بالكحل و الزرنيخ و بغيرهما من المعادن، و الظاهر من كلامهما ان مرادهما من المعادن من قبيل الكحل و الزرنيخ الخارجين عن مسمى الأرض، لا ان عنوان المعدن بما هو دخيل في الحكم حتى نحتاج الى تشخيص مفهومه و مصاديقه، فيجوز التيمم بما لم

يخرج عن مسماها و لو صدق عليه عنوان المعدن كالتراب الأحمر و حجر الرحى و المرمر و طين الرأس و الأرمني و غيرها من المعادن الصادق عليها الأرض.

و قد يستدل على جوازه بمطلق ما خرج من الأرض و كان أصله منها و ان تبدل بحقيقة أخرى، برواية السكوني «عن جعفر عن أبيه عن على عليهم السلام انه سئل عن التيمم بالجص؟ فقال: نعم، فقيل: بالنورة؟ فقال: نعم، فقيل: بالرماد؟ فقال: لا انه ليس يخرج من الأرض إنما يخرج من الشجر» «1» و في رواية الراوندي «قيل: هل يتيمم

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 8، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 100

بالرماد؟ قال: لا لان الرماد لم يخرج من الأرض» «1» و في رواية الجعفريات: «و لا يجوز بالرماد لانه لم يخرج من الأرض» «2» دلت تلك الروايات على ان العلة في عدم جواز التيمم برماد الشجر عدم خروجه من الأرض فلو خرج منها لم يكن مانع منه.

و أورد عليه بأنه لا يدل التعليل الا على المنع من كل ما لم يخرج من الأرض، و اما الجواز بكل ما خرج منها فلا، و الا لفهم منه جوازه بالنباتات.

و فيه بعد بطلان النقض بالنباتات فإنها نابتة من الأرض عرفا لا متبدلة منها و منقلبة عنها و المراد من الخروج منها في الرواية كخروج الرماد من الشجر لا كخروج النبات من الأرض و هو واضح، ان ذلك وارد لو أريد الاستدلال بمفهوم التعليل، بدعوى دلالته على الحصر و الانتفاء عند الانتفاء، ضرورة ان مقتضى إطلاق التعليل و ان كان تمام الموضوعية و العلية التامة، لكن لا يقتضي ذلك انحصار العلة، فيمكن أن يقوم

شي ء آخر مقامها في نفى الجواز، و اما لو أريد الاستدلال بأنه إذا كان عدم الخروج من الأرض المراد به بحسب ظاهر الروايات عدم الانقلاب منها علة لعدم جواز التيمم بالرماد، لا- يمكن أن يكون التبدل و الخروج من الأرض أيضا علة لعدم الجواز، فالاستدلال على عدم جوازه بالمعادن بأنها خارجة عن مسمى الأرض ينافي مفاد الروايات، و بعبارة اخرى:

ان التعليل و ان لم يدل على الانحصار و يمكن قيام علة أخرى مقامها، لكن لا يمكن قيام نقيض العلة مقامها في العلية لشي ء واحد فتدل الروايات على جوازه بكل ما خرج من الأرض و لا يكون الخروج منها مانعا عنه.

ان قلت: هذا إذا أريد بقوله: «لم يخرج من الأرض» انه لم ينقلب منها، و اما لو أريد منه انه لم تكن مادته من الأرض فلا ينافي قول الفقهاء، بتقريب ان عدم الجواز معلول لعلتين: إحديهما عدم كون مادة الشي ء من الأرض كما دلت الروايات و الثانية عدم كون صورته من الأرض أي الخروج من مسماها كما ذكره الفقهاء.

قلت: لا يمكن جعل الشيئين علة فعلية لشي ء إلا إذا أمكن افتراقهما في

______________________________

(1) المستدرك أبواب التيمم، ب 6، ح 2.

(2) المستدرك أبواب التيمم، ب 6، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 101

الجملة، فإذا كان تبدل صورة الأرض و عدم الخروج عن مادتها علتين لعدم الجواز، لا بد من الالتزام بأنه إذا لم يخرج الشي ء من الأرض لا يجوز التيمم به، و لو صدق عليه مسماها و هو كما ترى ضرورة صحة التيمم بالتراب كتابا و سنة و إجماعا و لو كان أصله غير الأرض.

و لو قيل ان الخروج من غير الأرض أو

عدم الخروج منها علة في صورة خروج صورته منها، يقال: ان تبديل الصورة الأرضية بغيرها علة حسب الفرض، فعلية عدم الخروج من مادة الأرض غير معقول، و جعلها لغوا لو كانت مجعولة مضافا الى ان التعليل في الروايات بعدم الخروج من الأرض مع ان الرماد خارج عن مسماها و لا تصدق الأرض عليه، يدل على ان ما هو العلة هو عدم الخروج من الأرض لا عدم صدق الأرض عليه، و الا لكان الاولى بل المتعين التعليل به، بان يقال انه ليس من الأرض فترك التعليل ما بالصفة النفسية، و التعليل بأصله و مادته دليل على عدم علية الخروج عن مسماها له.

فلو كانت الروايات حجة معتبرة لكان اللازم الالتزام بعدم مانعية تبدل صورة الأرض، بل الاعتبار بالأصل و المادة لا بالصورة لا مكان أن يقال بحكومة تلك الروايات على الآية الكريمة، و الروايات الدالة على لزوم التيمم بالأرض، تأمل لكنها روايات ضعيفة سندا شاذة معرض عنها غير معول عليها.

الثالث لا يصح التيمم بالرماد

بلا اشكال و لا خلاف ظاهرا، لعدم كونه أرضا و تؤيده الروايات المتقدمة و كذا لا يجوز بالرماد الحاصل من الحجر و الأرض لعدم صدق الأرض عليه، و لا أقل من الشك فيه، و عدم حجية الروايات الدالة على الجواز و عدم جريان الاستصحاب فيه لا موضوعا و لا حكما، لعدم وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها فان الرماد حقيقة غير حقيقة التراب و الحجر عرفا، و ليس تبدلهما به تبدل صفة مع بقاء الذات، بل تبدل حقيقة بالأخرى عرفا و عقلا، فما هو حاصل بعد الاحتراق لا يكون بعينه ما هو قبله.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 102

و لو قيل ان الرماد

كان حجرا فصار رمادا، يراد به انه كان حجرا قبل تبدله و قد تبدل بشي ء آخر أو يراد محفوظية المادة و الهيولى لا بقاء الحقيقة و التغير في الصفة نعم لو فرض في مورد عدم التبدل في الذات كالخزف و الأجر و نحوهما فلا اشكال فيه، و مع الشك فلا مانع من اجراء الاستصحاب الحكمي دون الموضوعي.

اما الأول فلان قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» ظاهر في المقام في أنها مطهر و لا يراد منه أنها طاهرة و لا مبالغة في الطهارة كما احتمل في قوله: «خلق اللّٰه الماء طهورا» فالأجر و الخزف قبل طبخهما كانا طهورا بحكم الشارع، فشك في ذلك بعد طبخهما فيستصحب و لا يكون من الاستصحاب التعليقي، بل هو كاستصحاب كرية الماء و طهارته حيث كان الحكم الشرعي حصول الطهارة بالتيمم بهما، و لو كان المراد من قوله: «جعلت لي الأرض طهورا» انه ان يتيمم بها تحصل الطهارة، و بعبارة أخرى يكون مفاده حكما تعليقيا فلا مانع من استصحابه أيضا، لأنه في التعليقات الشرعية جار على ما هو المحقق في محله.

و اما عدم الجريان في الموضوعي فلان ذلك من قبيل الشبهات المفهومية، كتردد مفهوم اليوم بين كونه موضوعا لامتداده الى ذهاب الحمرة المشرقية أو الى سقوط الشمس، فان من المعلوم ان الخزف ليس بتراب، و معلوم انه خزف لكن يشك في صدق مفهوم الأرض عليه من جهة الشك في ان مفهومها شامل لما طبخ أولا و في مثله لا يجرى الاستصحاب لان مصب أدلتها هو الشك في بقاء الشي ء بعد العلم به، و كذا لا يجرى الاستصحاب في الشبهات الحكمية التي من قبيلها، كما لو

شك في ان الكر شرعا عبارة عن ثلاثة أشبار و نصف طولا و عرضا و عمقا، أو ثلاثة أشبار، فإذا كان الماء بالمقدار المتيقن من الكر، ثم وصل الى ثلاثة أشبار لا يجرى استصحاب بقاء الكر، لان الموضوع معلوم اى يعلم انه ليس بالحد الأول، و يعلم انه بالحد الثاني، فليس الشك في بقاء ما علم، بل في تطبيق العنوان عليه شرعا، و في ان الشارع جعل الكر اى الحدين و في مثله لا يجري الأصل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 103

الرابع يجوز التيمم بالجص و النورة قبل احتراقهما

كما عن المشهور، لصدق عنوان الأرض عليهما و لا مضايقة في صدق المعدن عليهما، لما عرفت من عدم دليل على اعتبار عدم المعدنية، بل المناط عدم الخروج عن مسمى الأرض، فالمانع ان يدعى الخروج عن مسماها فهو محجوج بالعرف و اللغة، و ان يدعى معدنيتهما فهو محجوج بان المعدنية غير مضرة، و اما التفصيل بين حال الاختيار و الاضطرار فلا وجه له لأنهما لو خرجا عن صدق الأرض فلا يصح التيمم بهما مطلقا و الا فيصح كذلك، و لا دليل على التفصيل فيهما كما في مثل الطين و الغبار.

نعم قد ذكرنا سابقا ان صحيحة رفاعة تشعر بالتفصيل بين التراب و غير، لكن قد عرفت ان الأظهر كونها في مقام بيان الترتيب بين اليابس و الجاف و الاجف، و كذا يجوز التيمم بهما بعد احتراقهما لصدق عنوان الأرض و عدم الخروج عن مسماها بمجرد الطبخ، و مع الشك يرجع الى الاستصحاب الحكمي لا الموضوعي كما مر.

الخامس يشترط في ما يتيمم به ان يكون مباحا

فلا يجوز التيمم بالمغصوب إجماعا كما عن التذكرة، و عقلا ان كان الضرب على الأرض داخلا في حقيقته كما هو الظاهر، لعدم تعدد العنوان و الجهة معه، و ان أمكن أن يقال ان بين عنواني الضرب على الأرض و التصرف في مال الغير عدوانا عموما من وجه، فهما عنوانان متصادقان على موجود واحد فما هو الحرام التصرف عدوانا، و ما هو جزء التيمم هو الضرب على الأرض و هو عنوان آخر غيره، و لهذا يفترقان بالضرب على الأرض المباحة، و بالتصرف بغير الضرب في الأرض المغصوبة تأمل.

و كيف كان لو فرض صحته فبمقتضى القاعدة لكن الالتزام بها في غاية الإشكال بل غير ممكن لتسلمه بين الأصحاب، و للإجماع المدعى و

ان أمكن المناقشة في مثل هذا الإجماع الذي للعقل فيه مدخل، و يمكن اتكال المجمعين على حكمه اما بعدم جواز الاجتماع و ترجيح جانب النهي، أو دعوى ان المبعد لا يمكن أن يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 104

مقربا و لو مع جوازه أو جهات أخر مرّ بيانها و الجواب عنها، لكن مع ذلك لا محيص عما ذهب إليه الجماعة، الا ان ذلك فيما إذا كانت الأرض مغصوبة، و اما مع مباحيتها و مغصوبية الانية، أو المكان أو غيرهما فلا يبعد القول بالصحة على طبق القاعدة لبعد كون المسألة بالنسبة إلى تلك الفروع اجماعية و الاحتياط سبيل النجاة.

السادس يشترط في الأرض الطهارة،

فلا يصح التيمم بالتراب النجس إجماعا كما عن الغنية و التذكرة و جامع المقاصد و شرح الجعفرية، و عن المنتهى نفى الخلاف عنه و عن المدارك نسبته إلى الأصحاب و هو حجة.

و يدل عليه قوله تعالى صَعِيداً طَيِّباً بناء على كونه بمعنى الطاهر كما عن ابن عباس، بل عن جامع المقاصد نسبته الى المفسرين، و لا يبعد دعوى ظهوره فيه عرفا بعد عدم كون المراد منه المستلذ الذي قيل انه معناه الحقيقي بمناسبة الحكم و الموضوع، و بكونه على الظاهر مساوقا للنظيف عرفا، الذي جعل مقابل القذر في بعض الروايات، أو يكون المراد منه مطلق النظيف خرج منه غير النجس إجماعا و بقي ما هو المقابل للقذر.

و احتمال كونه مقابل الخبيث كما في قوله «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لٰا يَخْرُجُ إِلّٰا نَكِداً» فيكون المراد منه الأرض النابتة يبعده ما مر من كون الصعيد هو مطلق وجه الأرض بالشواهد المتقدمة، فلا يبعد دعوى أقربية ما ذكرناه أولا

و لو بضميمة فهم المفسرين و الفقهاء، مع ان الخبيث ليس لغة بمعنى الأرض الغير النابتة، بل بمعنى الردى و ما يساوقه و النجس أيضا خبيث و المناسبات المغروسة في الأذهان توجب تعين الطيب المقابل للخبيث في الطاهر المقابل له، و قد اشتهر النجاسات بالاخباث و الطهارة من الخبث في مقابل الطهارة من الحدث.

و يؤيد المطلوب بعض الروايات كمرسلة على بن مطر عن بعض أصحابنا «قال:

سألت الرضا عليه السّلام عن الرجل لا يصيب الماء و لا التراب أ يتيمم بالطين؟ قال: نعم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 105

صعيد طيب و ماء طهور» «1» بناء على ان المراد ان الطين صعيد طيب و ماء طهور.

فان الظاهر منها ان السؤال من حيث صحة التيمم لا صيرورة بدنه نجسا للصلاة و الجواب عن هذه الجهة، فالرواية دالة على صحته به لكونه كذلك و لو لا اعتبار الطهور في المتيمم به لا يكون وجه لتقييده بالطهور بل في نفس ذكر الطيب و الطهور اشعار بذلك و ما عن الفقه الرضوي: «الصعيد الموضع المرتفع عن الأرض و الطيب الذي ينحدر عنه الماء» و عن معاني الأخبار تفسير الطيب بما ذكر، و الاخبار الواردة في ان الأرض طهور اى طاهرة مطهرة أو مطهرة مع قضاء الارتكاز بان المطهر لا بد و أن يكون طاهرا، و الانصاف أن مجموع ما ذكر يوجب الاطمئنان و ان أمكن الخدشة في غالبها، فلا ينبغي الإشكال في الحكم.

السابع لو مزج ما يصح التيمم به بغيره،

فان خرج عن صدق الأرض باستهلاكه فيما لا يصح أو بالامتزاج على وجه لا يصدق عليه الأرض و ان لم يصدق عليه ما اختلط به أيضا فلا يصح التيمم به بلا اشكال و

لا خلاف ظاهرا و هو واضح، و ان لم يخرج عن مسماها باستهلاك غير الأرض فيها، كما إذا امتزج كف من الرماد بامنان من التراب جاز بلا اشكال، للصدق حقيقة عند العرف من غير مسامحة، و يلحق به بعض الأجزاء الضعيفة التي لا يستهلك عرفا مثل الشعرة، و بعض ذرات التبن و الحشيش مما لا ينفك عن الأرض نوعا للانصراف و عدم فهم العرف من الصعيد و الأرض الا تلك الأراضي المتعارفة لا لصدق الأرض على المجموع من التراب و غيره عرفا ضرورة ان الحبة الصغيرة كحبة الجاورس و الخشخاش و الاجزاء الصغيرة من التبن و غيره إذا كانت على وجه الأرض لا يطلق على المجموع الأرض أو التراب الا بنحو من المسامحة حتى في نظر العرف.

و قد مر ان تشخيص موضوعات الاحكام مفهوما و مصداقا و ان كان بنظر العرف لكن المعتبر لو لا القرائن هو الدقة العرفية لا مسامحتها، من غير فرق بين التحديدات

______________________________

(1) الوسائل: أبواب التيمم، ب 9، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 106

و غيرها فإذا وجب التيمم على الأرض و لم تكن قرينة توجب الاكتفاء بالفرد المسامحي المجازي، لزم أن تكون الأرض خالصة عرفا، و يصدق عليها عنوانها من غير مسامحة تحكيما لأصالة الحقيقة.

و دعوى ان الاجزاء الصغار ليست ملحوظة لدى العرف بحيالها لكون المجموع مصداقا للصعيد في الفرض، و لا يعتبر أن يكون كل جزء جزء يفرض منه مما يقع عليه الاسم.

غير وجيهة ضرورة ان كل جزء إذا لم يكن أرضا عرفا لا يمكن أن يكون المجموع أرضا إلا بالمسامحة و التأول، و النقض بمورد الاستهلاك كالفرض الأول ليس على ما ينبغي، لأن

فرض الاستهلاك العرفي ينافي البقاء العرفي، و ان كان المستهلك باقيا بالبرهان و العقل البرهاني، أو ترى الاجزاء بآلات مكبرة لكن العرف لا يرى المستهلك موجودا و لو بالدقة كاستهلاك الماء في اللبن، و المراد بالاستهلاك في الفرض الأول ذلك، فلو رؤيت الاجزاء و ميزت يكون من قبيل الثاني، و بالجملة ان مصداق المفاهيم قد يكون عقليا برهانيا أو مشخصا بآلات غير عادية كالمكبرات و قد يكون عرفيا حقيقيا من غير مسامحة، و قد يكون عرفيا مسامحيا و الميزان هو تشخيص العرف بالنظر الدقيق العرفي، و لا ريب في ان الأرض إذا خالطها أجزاء صغار غير ارضية تدرك بالبصر لا يصدق على مجموعها الأرض حقيقة بل الإطلاق بنحو من المسامحة و تنزيل الموجود الصغير منزلة المعدوم.

و لهذا ترى ان العرف يفرق بين الموضوعات فيسامح في خليط التبن بما لا يسامح في خليط الحنطة و يسامح في خليطها بما لا يسامح في خليط الزعفران و الذهب و ذلك دليل على التسامح و غض البصر عن بعض الأمور، لا لان صدق التبن على الخليط حقيقي بخلاف الزعفران، لكن قد تقدم وجود قرائن في بعض المقامات على ان الموضوع للحكم الشرعي هو الموضوع الذي يتسامح فيه العرف مثلا إذا أوجب الشارع في زكاة الفطر صاعا من الحنطة أو الشعير لا ينقدح في ذهن العرف من وجوب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 107

صاع من الحنطة و الشعير في زكاة الفطر الا ما هو المتعارف منهما في سوق البلد، لا الخالص الغير المتعارف، فالتعارف يوجب الانصراف الى ما بين أيديهم من الافراد و تقع معاملاتهم عليه، كما ان بيع كر من الحنطة منصرف الى المصاديق

المتعارفة في سوق البلد، فلو كانت الافراد المتداولة مخلوطة بمقدار من غير الجنس لا يجب الأداء إلا ما هو المتعارف، لا لأجل صدق كر من الحنطة حقيقة و من غير تسامح على الناقص مع المتمم من غير جنسها، بل لأجل الانصراف الى المتعارف و عدم اعتناء العرف بمثل هذا الخليط، و ان لم يتسامح في الأجناس الغالية العزيزة.

و في المقام أيضا ينصرف الأمر بالتيمم على الصعيد و التراب الى ما هو المتعارف الذي لا ينفك عن الخليط بما ذكرناه و ان لم يصدق عليه التراب أو الصعيد عليه من غير تسامح، و لهذا لو كان الخليط غير متعارف مقدارا أو جنسا كوقوع ذرات من الذهب على الأرض لا يصح التيمم به لعدم تعارف مثل هذا الاختلاط بالأجنبي.

و هذا هو السر في الافتراق بين الاختلاط بغير الأرض مما هو متعارف و بين الاختلاط بغير المتعارف كالاختلاط بشي ء من النجس، أو الاختلاط الاختياري بشي ء غير الأرض لعدم المناط المتقدم، و كذا الحال في أشباه المقام كاختلاط مقدار من التراب اختيارا في الحنطة لتميم الصاع، فان هذا النحو من الاختلاط غير متعارف لا ينصرف اليه الدليل بخلاف الاختلاط الطبيعي الغير المنفك، و لهذا يفترق بين إعطاء صاع من الحنطة في زكاة الفطر، و صاع من التمر لاختلاف تعارف الخلط فيهما، فلو كان التمر مخلوطا بمثل خلط الحنطة أي الخلط بالتراب و الرمل لا يكتفى به في الزكاة، لأجل عدم التعارف، بخلاف اختلاطه بما هو المتعارف كالأخشاب الصغار من ساقاته و جذوعه.

فتحصل من ذلك جواز التيمم بالتراب و الأرض المتعارف مما هو مخلوط بصغار التبن و الحشيش و غيرهما مما لا ينفك منها غالبا، بخلاف الاختلاط بالأجنبي و ما

هو غير متعارف خلطا و مخلوطا و ان كان صغيرا و مما ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل التحقيق ممن قارب عصرنا فراجع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 108

و ليعلم ان ما ذكرنا في المقام مبنىّ على لزوم استيعاب جميع الكف الأرض، لكن فيه كلام سيأتي التعرض له في محله.

الثامن: يجوز التيمم بغبار الثوب و لبد السرج و عرف الدابة

اشارة

عند فقد الأرض أو تعذر الاستعمال بلا اشكال نصا و فتوى، و عن المعتبر هو مذهب علمائنا و أكثر العامة و تدل عليه صحيحة زرارة «قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام أ رأيت المواقف ان لم يكن على وضوء كيف يصنع و لا يقدر على النزول؟ قال: يتيمم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته فان فيها غبارا و يصلى» «1».

و موثقته عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: ان كان أصابه الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره أو من شي ء معه «2» و ان كان في حال لا يجد الا الطين فلا بأس ان يتيمم منه» «3» و صحيحة رفاعة عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كان الأرض مبتلة ليس فيها تراب و لا ماء فانظر أجف موضع تجده فليتيمم منه، قال: ذلك توسيع من اللّٰه عز و جل، قال: فان كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فيتيمم من غباره أو شي ء مغبر، و ان كان في حال لا يجد الا الطين فلا بأس أن يتيمم منه» «4».

و صحيحة أبي بصير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: إذا كنت في حال لا تقدر الا على الطين فتيمم به فان اللّٰه أولى بالعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضه و تتيمم به»

«5».

(و ينبغي التنبيه على أمور)
منها: انه يظهر من تعليل صحيحة زرارة

و إطلاق قوله

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9- ح 1.

(2) لا يبعد ان يكون «معه» مصحف مغبر و لقربهما في الكتب اشتبه الأمر على النساخ و يؤيده صحيحة رفاعة الآتية (منه عفى عنه)

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 9 ح 2.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 4.

(5) الوسائل أبواب التيمم ب 9 ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 109

أو شي ء معه في موثقته عدم اختصاص الحكم بالأمثلة المذكورة في النصوص بل لولاهما أيضا لا يفهم منها الا التمثيل و اختصاص تلك الأمثلة بالذكر، لأجل كون المحارب المفروض في الصحيحة الاولى، و المسافر الذي يكون ظاهرا مفروض سائر الروايات لا يكون معهم شي ء مغبر نوعا الا ما ذكر فيها، فلا يستفاد منها التمثيل، و تلغى الخصوصية عرفا بلا اشكال، كما ان الظاهر من النص و الفتوى عدم الترتيب بين المذكورات، فتقديم الثوب على اللبد أو العكس مما لا وجه له.

و منها هل جواز التيمم بالغبار مشروط بفقد التراب أو مطلق الأرض

كما نسبه في محكي التذكرة إلى علمائنا، و عن الكفاية انه ظاهر أكثر الأصحاب، و عن كشف اللثام كذلك تارة و اخرى نسبته إلى الأصحاب. أو لا فيصح التيمم به اختيارا كما عن السيد حيث قال: يجوز التيمم بالتراب و غبار الثوب، و عن المنتهى و إرشاد الجعفرية تقويته لكن لا يستفاد من عبارتهما المنقولة ذلك بل يمكن أن يكون مرادهما جمع الغبار بمقدار يصدق عليه اسم التراب، و هي هذه: ان الغبار تراب فإذا نفض أحد هذه الأشياء عاد إلى أصله فصار ترابا مطلقا، بل يمكن ان يكون مراد السيد من قوله المتقدم هو الجواز في الجملة و لم يكن بصدد بيان نفى الترتيب و عرضية الجواز، و كيف

كان فالمتبع هو الأدلة المتقدمة الخاصة.

و اما مقتضى الآية الكريمة و الروايات الدالة على ان التيمم بالأرض و التراب عدم صحته بالغبار مطلقا، و لو في حال الاضطرار، لعدم صدقهما عرفا على الشي ء المغبر أو الغبار الذي يعلو السرج و اللبد، بل هو أثر التراب لدى العرف كالرطوبة بالنسبة إلى الماء، فلا بد من النظر في تلك الروايات.

فنقول: اما صحيحة زرارة فلا حد ان يقول ان مقتضى عموم تعليلها جواز التيمم بما فيها الغبار مطلقا، و فرض الراوي عدم القدرة على النزول لا يوجب تنزيل التعليل عليه فان المورد لا يقيد و لا يخصص إطلاق التعليل أو عمومه فكما نتعدى بعموم التعليل أو إطلاقه الى كل ما فيه الغبار، و نتعدى الى كل عذر مع ان المورد عدم القدرة على النزول

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 110

يمكن أن نتعدى بعمومه عن مورد التعذر الى غيره بعد كون فرض التعذر في كلام الراوي فهو بمنزلة أن يقول: إذا لم يكن عنده تراب كيف يصنع؟ فأجاب بأنه يتيمم بالحجر فإنه أرض، حيث لا يبعد استفادة ان الأرض كالتراب في صحة التيمم من غير ترتب بينهما.

نعم لو كان تقديره في كلام الامام، كان ظاهرا في التأخر كما في قوله: «إذا كنت لا تجد الا الطين فلا بأس أن تتميم به».

و احتمال التعدي و لو على هذا الفرض فلو قال إذا لم تجد التراب فتيمم بالحجر فإنه أرض نحكم بجواز التيمم بالأرض اختيارا.

ضعيف للفرق بين قوله: «لا تشرب الخمر لانه مسكر» و بين قوله: «إذا لم تجد التراب» إلخ فإن الظاهر من فرض عدم التراب انه مع وجوده لا يجوز التيمم بغيره، نعم لازم

التعليل التعدي من الحجر الى غيره، لا من فرض العجز عن التراب الى غيره، و هذا بخلاف ما يكون الفرض في السؤال و في كلام الراوي لا مكان القول بالتعدي و ان تمام الموضوع للجواز هو مورد العلة، تأمل.

هذا مع تسليم ان المفروض في الصحيحة عدم القدرة على التيمم بالأرض لكنه ممنوع، بل المفروض فيها بحسب الظاهر المتفاهم عرفا عدم التمكن من النزول للوضوء، فان قوله: «ان لم يكن على وضوء كيف يصنع و لا يقدر على النزول» ظاهر في انه لا يقدر على النزول للوضوء بقرينة ذكره.

و اما فرض عدم التمكن من النزول للتيمم أمر آخر لا بد من فرض فقدان الماء معه، و لم يفرضه مع ان فقدانه نادر، و عدم القدرة على النزول لصرف ضرب الكف على الأرض نادر أيضا، بخلاف عدم القدرة للوضوء لاحتياجه الى زمان معتد به.

فتحصل من ذلك ان المفروض فيها العذر عن الوضوء فكأنه قال: إذا تعذر النزول للوضوء يتيمم بلبد سرجه، لان فيه غبارا فيدل على انه عند فقدان الماء يجوز التيمم بالغبار، و مجرد كون المورد من الذي لا يتمكن من التيمم على الأرض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 111

لو فرض فقدان الماء على فرض تسليمه لا يوجب تقييد الإطلاق، و رفع اليد عن التعليل بعد عدم فرض فقدان الماء.

و اما قوله في موثقة زرارة: «ان كان اصابه الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره» و ان كان ظاهرا بدوا في الترتيب لكن يحتمل أن يكون المقصود التنبه بفرد مغفول عنه، فيكون المراد إفادة صحة التيمم بالغبار لئلا يتوهم انه مع اصابة الثلج فاقد للمتيمم به لا لإفادة الترتيب.

و يؤيده بل

يدل عليه انه لو كان بصدد افادة الترتيب كان عليه ان يقول ان لم يجد التراب فإنه مع اصابة الثلج يمكن له تحصيل التراب و الأرض اليابس نوعا من غير حرج رافع للتكليف، خصوصا في المناطق الباردة التي تكون الأرض تحت الثلج يابسة لمنع البرودة من ذوبان الثلج، و صيرورتها مبتلة فضلا عن صيرورتها و حلة، مع ان التيمم بالأرض الندية جائز يدعى عليه اتفاق الأصحاب، و لا يصير تحت الثلج طينا أو وحلا إلا في أوقات خاصة فتجويز التيمم بالمذكورات مع اصابة الثلج مطلقا دليل على كونه بها مصداقا اختياريا، و كون اصابة الثلج كناية عن عدم وجدان التراب و الأرض خلاف الظاهر مع وجدانهما نوعا، فلا يبعد أن يكون التعليق باصابته للتنبيه على انه لا يلزم مع إصابته أن يتكلف برفعه من الأرض و يتيمم بما تحته، بل يجوز التيمم بغبار الثوب و نحوه، فان المكلف المأمور بالتيمم إذا أصابه الثلج يرى نفسه مكلفا و ملزما بتحصيل التراب و الأرض برفع الثلج، و سائر الموانع و التيمم بها، فيمكن ان يراد بذلك دفع توهم لزومه لا افادة الترتيب.

و يؤيد ما ذكرناه من احتمال كون التعليق للإرشاد بمصداق آخر اختياري مغفول عنه صحيحة رفاعة حيث أردف فيها قوله: «و ان كان في ثلج» لقوله: «إذا كان الأرض مبتلة ليس فيها تراب و لا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه» فإنه لا يراد منه الترتيب بين أجف موضع من الأرض و بين التراب، كما عليه الفقهاء فيكون المراد دفع توهم عدم جواز التيمم بالأرض المبتلة، و الإرشاد إلى مصداق آخر مما يصح التيمم به اختيارا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص:

112

فيمكن الاستيناس به للفرض الثاني.

و يمكن الاستدلال عليه برواية ابن المغيرة «قال: ان كانت لأرض مبتلة ليس فيها تراب و لا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم من غباره أو شي ء مغبر، و ان كان في حال لا يجد الا الطين فلا بأس ان يتيمم به» «1» فان الظاهر من عطف شي ء مغبر (بأو) انه مع فقد التراب و الماء في عرض الموضع الاجف، فمع البناء على ان الأرض الندية في عرض التراب و يجوز التيمم بها اختيارا يتم المطلوب، الا ان المظنون حصول تقطيع في تلك الرواية و ان أصلها هي صحيحة رفاعة المنقولة بتوسط ابن المغيرة، مع انها مقطوعة غير منسوبة إلى المعصوم و لعله فتواه.

و الانصاف انه لو لا مخافة مخالفة الأصحاب، و عدم ثبوت مخالف في المسألة حتى السيد كما عرفت لكان الجواز اختيارا غير بعيد، لكن بعد تسليم المسألة بينهم و بعد ظهور الآية الكريمة في تعين التيمم بالصعيد، و بعد ظهور الأخبار الكثيرة التي جملة منها ظاهرة في حصر المتيمم به بالأرض، يمكن دعوى ان التجويز بالغبار من جهة أنه ميسور الأرض لكونه أثرها، و لهذا ترى ان ما دلت على تجويزه به انما هي في موارد خاصة كالمواقف الغير القادر على النزول، و المصاب بالثلج و الخائف من سبع و غيره، و ليس في الروايات العامة إلا التيمم بالأرض و الصعيد و التراب، فلو كان في حال الاختيار جائزا لكان في تلك الروايات الكثيرة خصوصا ما وردت في مقام الامتنان ذكر منه، فيحصل الاطمئنان بما عليه المشهور.

مع إمكان ان يقال ان ما أنكرنا من دلالة الروايات على الترتيب مناقشات عقلية بعيدة عن الأذهان العرفية، و العرف يفهم

منها مع خلو نفسه عن المناقشات العقلية الترتيب، و يشهد به فهم الفقهاء و أرباب اللسان.

و بالجملة الظاهر من الروايات عرفا بعد تعليق الجواز على أمور عذرية، ان التيمم به متأخر عن التيمم بالصعيد الذي هو التكليف الاولى كتابا و سنة، و لا ينقدح

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 113

في الذهن كونها في مقام بيان توسعة المصداق الاختياري، فالقول المشهور كونه أحوط هو الأقوى.

و منها: انه لا إشكال في اعتبار كون الغبار محسوسا على ذي الغبار

بحيث يرى ظاهره مغبرا، و لا يكفى ضرب اليد على ما يكون الغبار كامنا فيه، و ان آثار الغبار منه بالضرب عليه لعدم صدق التيمم بالغبار كما أمر به في موثقة زرارة و صحيحة رفاعة، و مقتضى ظاهر صحيحة أبي بصير قال فيها: «إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر ان تنفضه و تتميم به» فان الظاهر ان النفض لان يظهر غباره على ظاهره، لعدم وجود ثوب أو لبد يمكن ان ينفض منه مقدار من الغبار يصح التيمم به اختيارا، فحمل الاشتراط عليه مرجعه الى اشتراط لغو غير محقق المصداق فلا يفهم من قوله ذلك الا النفض لظهور الغبار و لو لأجل ندرة المصداق الاختياري أو فقدانه.

و دعوى صدق التيمم على الغبار إذا ضرب يده على ذي غبار كامن فأثار منه في غير محلها. ضرورة ان الظاهر من الأمر بالتيمم على الغبار أن يضرب يده عليه، و مع عدم كون ظاهره مغبرا لا يقع الضرب عليه، بل وقع على الثوب و بعده ظهر الغبار، نظير ما فرض ان يضرب على غير الأرض فصار بالضرب أرضا، فصيرورة الشي ء بعد الضرب مما يصح التيمم به لا يوجب صدق التيمم

به و هو ظاهر، و عليها يحمل التعليل في صحيحة زرارة ان لم يكن بنفسه ظاهرا في كون ظاهرها مغبرا، كما انه عليها يحمل إطلاق رواية زرارة الضعيفة بأحمد بن هلال مع ان ارتكازية كون الغبار ميسور الصعيد لا يبعد ان تمنع من إطلاقها، مضافا الى ان إطلاقها بمقتضى الجواز و لو لم يكن في اللبد غبار كامن و هو كما ترى.

و كيف كان لا إشكال في المسألة و لا تحتاج الى طول البحث، كما لا إشكال في لزوم كون الغبار مما يصح التيمم به، فلا يصح بغبار الدقيق و الأشنان لانصراف الأدلة و ارتكازية كون الغبار ميسور الأرض و أثرها فلا ينبغي الخلاف و الاشكال فيه، و مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق بين مراتب ذي الغبار، و أكثريته لا توجب التعيين بعد اشتراك

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 114

الكل في عدم صدق الأرض عليه و صدق الغبار، و الاحتياط حسن على كل حال.

التاسع لا اشكال نصا و فتوى في جواز التيمم بالطين إجمالا،

اشارة

و انما الإشكال في أمرين:

(أحدهما) في ان مقتضى الأدلة العامة و الخاصة هل هو جواز التيمم به اختيارا أو هو مترتب على مطلق وجه الأرض و مصداق اضطراري للمتيمم به، (و ثانيهما) ان مقتضاها هل هو تقدمه على الغبار أو تأخره و لنبحث عنهما مع قطع النظر عن فتاوى الأصحاب.

فنقول: مقتضى ظاهر الكتاب و النصوص الآمرة بالتيمم بالصعيد و الأرض جواز التيمم بما يصدق عليه عنوانهما، و لا ريب في ان الطين إذا كان غليظا غير رقيق يصدق عليه الأرض و ان لم يصدق عليه التراب، فالطين المتماسك الذي غلبت أجزاء أرضيته على مائيته أرض و صعيد بناء على ما تقدم من كونه مطلق الأرض و

مجرد خروجه عن صدق التراب لا يوجب خروجه عن الأرض، فاللبنة قبل جفافها و بعده أرض و ليست بتراب حتى بعد الجفاف كما ان الأواني المصنوعة من الطين قبل جفافها و بعده ارض و ليست بتراب.

نعم قد يكون رقيقا بحيث يخرج عن صدق الأرض عليه أو يشك فيه كالوحل فان في بعض مراتبه لا يصدق عليه الأرض و يشك فيه في بعضها، و لعل الطين أعم من الوحل.

و يشهد لما ذكرنا من صدق الأرض على الطين موثقة عمار عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن حد الطين الذي لا يسجد عليه ما هو؟ فقال: إذا غرقت الجبهة و لم تثبت على الأرض» «1» فإن الظاهر منها جواز السجدة على الطين الغليظ المتماسك بحيث تستقر الجبهة عليه، و لا شبهة في ان جوازها لأجل كونه أرضا، بل لا يبعد دعوى استفادة كون ما تغرق الجبهة فيه أرضا منها، لجعل المانع منها عدم الاستقرار لا عدم الأرضية و كيف كان لا شبهة في دلالتها على أرضية الطين الذي تستقر عليه الجبهة لتماسكها.

______________________________

(1) الوسائل أبواب مكان المصلى، ب 9، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 115

و تدل عليه رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام «قال: قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء و فيها طين. ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد» «1» نعم ربما يشعر قوله في مرسلة على بن مطر «صعيد طيب و ماء طهور» «2» في خلاف ذلك لكن الظاهر منها أيضا جواز التيمم به لكونه صعيدا، و اما قوله: «و ماء طهور» فلا بد من رفع اليد عن ظاهره لعدم صدق الماء عليه بالبداهة، فلعل المراد انه صعيد

طيب فيه ماء طهور لا يمنع عن التيمم به. تأمل.

و كيف كان بناء على صدق الأرض على الطين ببعض مراتبه يجوز التيمم به اختيارا و لو كان بحيث تتلطخ اليد بالضرب عليه لظاهر الكتاب و السنة، فلا بد من قيام دليل على عدم الجواز يقيد إطلاقهما، و هذا بخلاف الغبار و الوحل الذي لا يصدق عليه الأرض فلا بد فيهما من قيام الدليل على صحته و يظهر مما ذكر تقدم التيمم بالطين على التيمم بالغبار بمقتضى الكتاب و السنة، للصدق في الأول دون الثاني.

هذا حال الأدلة العامة و اما الأدلة الخاصة فقد استدل على تأخر الطين عن الغبار فضلا عن الأرض بروايات كموثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: ان كان اصابه الثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره أو من شي ء معه، و ان كان في حال لا يجد الا الطين فلا بأس ان يتيمم منه» «3» و قريب منها صحيحة رفاعة و اما ما جعلها في الوسائل رواية أخرى عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام و هي الرواية الثالثة من الباب، فالظاهر انها قطعة من الرواية المتقدمة لا رواية مستقلة.

و وجه الاستدلال بهذه الروايات قوله: «و ان كان في حال» إلخ حيث علق فيها جواز التيمم بالطين على عدم شي ء يتيمم به و لو مثل اللبد و الثوب، و مقتضاه تأخر رتبته عنه.

و فيه ان الظاهر من قوله: «ان كان أصابه الثلج» بعد عدم جواز الأخذ بإطلاقه كما

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 5.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 6.

(3) الوسائل أبواب التيمم ب 9، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 116

مر في

المسألة السابقة، هو كونه بحيث يتعذر أو يتعسر التيمم معه بالأرض، أي لا يمكن رفع الثلج و التيمم بها، فيكون عدم إمكان التيمم بالأرض و لو كانت طينا مفروضا في الروايات، فكأنه قال: مع عدم المصداق الاختياري يتيمم بالاضطرارى و هو الغبار الذي مرّ أنه ليس بأرض (فح) لا يجوز حمل قوله: «و ان كان في حال لا يجد الا الطين» إلخ على تعليق التيمم به على عدم الغبار، بل هو محمول على فقدان الأرض غير الطين، بل بعد صدق الأرض على الطين عرفا لا ينقدح في الذهن تأخره عن الغبار الذي هو فرد اضطراري و ليس بأرض فيوجب ذلك ظهورا فيما ذكرنا لو نوقش في ظهوره ذاتا في ذلك، مع ان المناقشة في غير محلها ظاهرا.

نعم لو كان قوله: «ان كان اصابه الثلج» كناية عن فقدان الأرض غير الطين، لكان لما ذكر وجه لكن لو كان المراد ذلك لكان ذكر المطر أولى، فذكر الثلج خصوصا في تلك الافاق التي لا ينزل فيها الثلج و ترك المطر الذي هو أولى بالذكر لكثرة الابتلاء به و اسرعيته في تطيين الأرض دليل على ان له دخالة في الحكم و للإمام عليه السّلام عناية في ذكره، و ليس فيه ما يوجب الخصوصية الا حيلولته عن الوصول الى وجه الأرض، فكأنه قال: إذا لم يمكن التيمم بالأرض لاصابة الثلج و حيلولته يتيمم بالغبار، و ان امكنه لكن لا يجد الا الطين فلا بأس بالتيمم به، فتدل على تقدم الطين على الغبار.

و اما تقدم الأرض الجاف على الطين فمبنى على ان مفهوم «لا بأس» البأس بمعنى الممنوعية و اما إذا كان المراد التنزيه خصوصا في مثل التيمم بالطين مما يوجب

تلطخ اليد و الوجه، و ربما ينافي النظافة المطلوبة فلا، و مع احتماله و عدم ظهوره في الأول لا يمكن رفع اليد عن إطلاق الأدلة بها.

و تدل على تقدم الطين على الغبار و عرضيته مع الأرض رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام «قال: قلت رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد، قلت فإنه راكب لا يمكنه النزول من خوف و ليس هو على وضوء؟ قال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 117

إذا خاف على نفسه من سبع أو غيره و خاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللبد و البرذعة و يتيمم و يصلى» «1» فقوله: فإنه الصعيد إشارة إلى جواز التيمم به اختيارا لكونه الصعيد الذي أمر اللّٰه تعالى بالتيمم منه، و لا ريب في ان قوله: «فإنه راكب» ظاهر في ان الداخل على الأجمة الكذائية راكب و يخاف على نفسه أن ينزل لكونها مأوى الأسد، و الحمل على سؤال مستأنف، خلاف الظاهر جدا (فح) تدل على تقدم الطين على الغبار.

و يدل عليه أيضا إطلاق مرسلة على بن مطر عن بعض أصحابنا «قال: سالت الرضا عليه السّلام عن الرجل لا يصيب الماء و لا التراب أ يتيمم بالطين؟ قال: نعم صعيد طيب و ماء طهور» «2» و الظاهر من قوله: «صعيد» إلخ أنه فرد اختياري لا منع من التيمم به و الماء الذي فيه لا مانع منه.

اما صحيحة أبي بصير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال إذا كنت في حال لا تقدر الا على الطين فتيمم به فان اللّٰه أولى بالعذر، إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن

تنفضه و تتيمم به» «3» فمع قطع النظر عن سائر الروايات ظاهرة في ان الطين فرد اضطراري عذري متأخر عن الإفراد الاختيارية، و عن غبار الثوب أو اللبد الذي هو فرد اضطراري أيضا لكن لا يبعد أن يكون التصرف فيها بحمل القدرة على النفض على ما إذا حصل به مقدار من التراب يمكن إيجاد الفرد الاختياري معه، خصوصا مع قوله: «إذا لم يكن معك» إلخ عقيب قوله: «فان اللّٰه اولى بالعذر» فان ظاهره ان الطين مصداق عذري دون التيمم بما نفض فإنه مصداق غير عذري، أهون من التصرف في سائر الأدلة كقوله:

«فإنه صعيد» خصوصا مع بعد تقديم ما ليس بصعيد على الصعيد نعم ظاهرها ان التراب مقدم على الطين.

هذا كله إذا أريد بالطين في جميع الروايات معنى واحد، لكن يمكن الجمع

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9، ح 5.

(2) مرت بعينها في صفحة 115.

(3) مرت بعينها في صفحة 108

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 118

بينها بوجه آخر و هو حمل ما دل على جوازه اختيارا على الطين الذي يصدق عليه انه صعيد بقرينة قوله في رواية زرارة: «أنه صعيد» و حمل صحيحة أبي بصير على الوحل الذي يكون مصداقا عذريا بقرينة قوله: «ان اللّٰه اولى بالعذر» لعدم تناسبه مع الطين الصادق عليه الصعيد خصوصا مع جعله في الصحيحة متأخرا عن الغبار الذي لا تصدق عليه الأرض بلا اشكال.

و ان شئت قلت: ان إطلاق صدرها و ان يقتضي كون المراد بالطين أعم من الوحل و يمكن جعل قوله: «ان اللّٰه أولى بالعذر» دليلا على ان مطلق الطين فرد اضطراري لكن كون التعليل بأمر ارتكازي، و هو انه مع عدم إمكان الصعيد و

العذر منه يتيمم بالطين يمنع عن إطلاقه فيفهم منه ان المراد به ما لا يصدق عليه الأرض أي الوحل، خصوصا مع بعد تأخر الأرض عن الغبار، فيكون مقتضى الصحيحة تأخر الوحل عن الغبار، و هي تصير قرينة على سائر الروايات كموثقة زرارة و صحيحة رفاعة و لو مع قطع النظر عن رواية زرارة و مرسلة ابن مطر.

فتحصل مما ذكر ان مقتضى الجمع المذكور جواز التيمم بالطين الصادق عليه الأرض اختيارا، و عند الاضطرار يقدم الغبار على الوحل الذي هو خارج عن مسمى الأرض حفظا لظهور صحيحة أبي بصير، و لعل تعبيرات الفقهاء في المتون بالوحل للجمع المذكور، مع تطابق النصوص جميعا بذكر الطين و كان المناسب تبعيتهم لها في التعبير كما هو بناؤهم في سائر الموارد غالبا خصوصا قدماء أصحابنا فرفع اليد عما في النصوص بعنوان مغاير في الجملة للطين، لا بد له من نكتة لا يبعد أن تكون ما ذكرناه من الجمع.

قال الشيخ في النهاية: فإن كان في أرض وحلة لا تراب فيها و لا صخر، و كانت معه دابة فلينفض عرفها أو لبد سرجها و تيمم بغبرته فان لم يكن معه دابة، و كان معه ثوب تيمم منه، فان لم يكن معه شي ء من ذلك وضع يديه جميعا على الوحل و يمسح إحديهما بالأخرى و ينفضهما حتى يزول عنهما الوحل ثم يتيمم، و لا يجوز التيمم بما لا يقع عليه اسم الأرض بالإطلاق سوى ما ذكرناه «انتهى».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 119

و هي كما ترى تدل على ان الوحل بما لا يصدق عليه عنوان الأرض لا يجوز التيمم به، فدلت على ان اختصاصه بالذكر لأجل عدم صدقها عليه،

فذكر الوحل الذي هو الطين الرقيق، و ترك ما في النصوص و تعليله ذلك دليل على عناية به و لعلها ما ذكرناه، و الا فلا وجه لرفع اليد عن النصوص بما يخالفها، و قد عبر بالوحل في المراسم و الوسيلة و الشرائع و النافع و القواعد و التذكرة و المنتهى قائلا و لو لم يجد الا الوحل يتيمم به و هو مذهب علمائنا، و ان عبر بالطين أيضا في خلال المسائل لكن الظاهر من تلك العبارة ان التيمم بالوحل مذهب علمائنا، و كذا عبر به في الإرشاد و الروض و عن الدروس و في مفتاح الكرامة في ذيل قول الماتن و لا بالوحل، قال: اى لا يجوز التيمم بالوحل اختيارا كما صرح به المصنف و غيره، و في مجمع البرهان عدم ظهور الخلاف فيه الى آخر ما قال، حيث يظهر منه ان معقد عدم ظهور الخلاف عنوان الوحل.

و لا اعتماد بتفسير المتأخرين المتون المشتملة على الوحل بالطين، فان الظاهر ان التفسير حسب اجتهادهم و على ما وجدوا النصوص كذلك. قال في مفتاح الكرامة: و الوحل هو الطين الرقيق كما نص عليه جماعة من الأصحاب، و هذا أيضا دليل على عناية منهم بذكر الوحل مقابل الطين.

و كيف كان لا ريب في ان تطابقهم على التعبير به ليس من باب الاتفاق بلا عناية منهم بمعنى الوحل، مع ما عرفت من حكاية تفسير جماعة منهم بالطين الرقيق، و لا يمكن حمل كلامهم على ان المراد به الطين مع ما عرفت، و مع تفسير أئمة اللغة الوحل بالطين الرقيق.

ففي الصحاح: الوحل الطين الرقيق. و في القاموس: الوحل- و يحرك- الطين الرقيق ترتطم فيه الدواب، فما في مفتاح الكرامة حكاية

عنه تفسيره بالطين مخالف لما فيه، و فسره في المنجد و المجمع بالطين الرقيق، و قد ذكر الفقهاء الموتحل و الغريق في باب صلاة الخوف قرينين، و المراد به من غرق في الوحل و هو الطين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 120

الرقيق الذي يغرق الإنسان فيه.

و مع ما عرفت لا يمكن دعوى الشهرة أو الإجماع على تأخر الطين الغليظ المتماسك الذي يصدق عليه الأرض عن الصعيد، فضلا عن تأخره عن الغبار، و لا أقل من الشك فيه و معه لا يمكن رفع اليد عن إطلاق الكتاب و السنة، و مقتضى الجمع بين الأدلة و ان عبر بعضهم بالطين كالشيخ في الخلاف، بل و لو نوقش في ظهور الأدلة فيما ذكرناه و في اقتضاء الجمع المذكور، فلا أقل من أن ما ذكرناه احتمال مساو لما ذكروه، و دعوى الظهور فيما قالوا ممنوعة، فلا يجوز رفع اليد عن إطلاق الآية و الروايات الصحاح، الا أن يمنع صدق الأرض على الطين بجميع مصاديقه، أو يدعى انصراف الأدلة إلى غيره و هما ممنوعان مردودان الى المدعى.

ثم ان مقتضى إطلاق الأدلة انه ليس للتيمم بالوحل كيفية خاصة بل كيفيته هي المعهودة المتداولة في التيمم بالأرض، نعم لا مانع من فرك الطين من اليد بل لا يبعد استحبابه ان قلنا باستحباب النفض بدعوى استفادته من أدلة النفض، و لعله مراد الشيخ المفيد (ره) كما انه ظاهر شيخ الطائفة في عبارته المتقدمة حيث قال: وضع يديه جميعا على الوحل و يمسح إحديهما بالأخرى و ينفضهما حتى يزول عنهما الوحل ثم يتيمم.

فما نسب اليه من مخالفته للأصحاب ليس على ما ينبغي، بل لا يبعد أن يكون ذلك أيضا

مراد صاحب الوسيلة، قال: فان لم يكن معه شي ء من ذلك و وجد وحلا يتيمم منه و ضرب بيديه عليه، و قد أطلق الشيوخ رحمهم اللّٰه ذلك على الإطلاق، و الذي تحقق لي منه انه يلزمه أن يضرب يديه على الوحل قليلا و يتركه عليها حتى ييبس ثم ينفض عن اليد و يتيمم به «انتهى».

فان الظاهر من تعليق جواز التيمم بالوحل على عدم وجود شي ء مما يتيمم به ان التيمم به بهذه الكيفية متأخر عن سائر المراتب، و لو كان مراده الحيلة إلى تحصيل التراب و التيمم به لم يكن وجه لذلك التعليق، فان التيمم بالتراب جائز كان أصله الوحل أولا، مع ان الظاهر منه ان كلامه في مقابل إطلاق الأصحاب في كيفية

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 121

التيمم لبيان لزوم النفض، و الظاهر رجوع الضمير في قوله: «و يتيمم به» الى الوحل لا الى المنفوض تأمل.

و كيف كان فالمتبع هو إطلاق الأدلة، ثم ان في لزوم تلك الحيلة أو مثلها لتحصيل التراب كلاما ربما يأتي في ذيل مسألة جواز التيمم في سعة الوقت.

تتميم

الظاهر انحصار ما يتيمم به و لو اضطرارا بما ذكر، و مع فقده يكون فاقد الطهورين و حكى عن ظاهر السيد و ابن جنيد و سلار التيمم بالثلج و استدل عليه بصحيحة محمد بن مسلم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن رجل أجنب في سفر و لم يجد الا الثلج أو ماء جامدا؟ قال: هو بمنزلة الضرورة يتيمم و لا أرى أن يعود الى هذه الأرض التي توبق دينه» «1» بدعوى ان الظاهر منها عدم وجدان شي ء مما يتيمم به اختيارا و اضطرارا،

فيكون الظاهر من قوله «يتيمم» انه يتيمم بالثلج و يشهد له قوله: «و لا أرى أن يعود» إلخ فإن التراب أحد الطهورين و معه لا يوبق دينه.

و فيه: ان الظاهر من قوله «و لم يجد الا الثلج أو ماء جامدا» هو عدم وجدان الماء لا عدم وجدان الأرض و لا الطين و لا الغبار، و قوله: يتيمم في مقام الجواب أي إذا لم يجد ماء و كان الماء جامدا يتيمم. و عدم ذكر ما يتيمم به لأجل وضوحه بنص الكتاب و السنة و لو كان المراد التيمم بالثلج كان عليه التصريح مع كونه مخالفا لما ذكر، و قد مر دلالة ذيلها على عدم جواز تحصيل الاضطرار عمدا و التيمم بالتراب و قوله: «لا أرى أن يعود»، إلخ أي لا يعود إلى أرض لا يجد فيها ماء للطهارة، و مجرد كون التراب أحد الطهورين لا يوجب جواز تحصيل الاضطرار كما مر في أوائل هذه الوجيزة.

و اما التمسك بقاعدة الاحتياط و الشغل و قوله: «الصلاة لا تترك بحال» فهو كما ترى مع حكومة «لا صلاة الا بطهور» على مثل «الصلاة لا تترك بحال»، لو سلم وروده

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 9 ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 122

مع انه لا يوجب طهورية ما ليس بطهور، بل مقتضاه عدم سقوط الصلاة مع فقد الطهور لا جعل ما ليس بطهور طهورا، و سيأتي تتمة لذلك في محله إن شاء اللّٰه.

و عن المفيد في المقنعة: و ان كان قد غطاها الثلج و لا سبيل الى التراب فليكسره و ليتوضأ به مثل الدهن «انتهى» و فيه: انه ان كان مراده بالتوضي مثل الدهن هو مسح

الأعضاء بدل الغسل بدعوى انه ميسوره فإنه عبارة عن إيصال الماء و إجرائه عليه، و مع عدم إمكان ذلك لا يسقط ميسوره، و هو إيصال رطوبة الماء و بلته الى العضو و مسحه به كما تشهد به رواية عبد الأعلى، «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه عز و جل، قال اللّٰه تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه «1» فإذا كان المسح على المرارة ميسور المسح على البشرة لانحلال المسح عليها إلى الإمرار و مماسة الماسح للممسوح، فإذا رفعت المماسة للحرج بقي الإمرار على الملاصق بالعضو، لارتكازية قاعدة الميسور يكون المقام كذلك جزما.

فيرد عليه بعد الغض عن سند القاعدة و عدم ثبوت جبره و عدم ثبوت كونها عقلائية يتكل بها العقلاء في أمورهم، ان عنوان المسح مقابل بل مباين للغسل، و لا يكون ميسوره عرفا، و لا يعتنى العرف بهذه التحليلات العقلية، مع ان الغسل بالماء لا ينحل الى وصول الرطوبة التي ليست بماء، بل أثره عرفا و مغاير له ذاتا، فلا مجال للتمسك بالقاعدة في مثله.

و اما رواية عبد الأعلى و ان كانت موهمة لذلك لكن التأمل فيها يدفع التوهم فان المفروض فيها حكمان: أحدهما عدم لزوم المسح على البشرة، و الثاني لزوم المسح على المرارة و ما يعرف من كتاب اللّٰه، اى آية عدم جعل الحرج التي تمسك بها أبو عبد اللّٰه عليه السّلام هو الحكم الأول، ضرورة ان المستفاد منها ليس الا عدم جعل التكاليف الحرجية، و اما جعل البدل و بقاء الوضوء المركب من المسح و الغسل بعد تعذر

بعض اجزائه، فلا يكاد ان يستفاد و يعرف منها، مضافا الى وضوح عدم كون المسح على المرارة ميسور

______________________________

(1) الوسائل أبواب الوضوء ب 39، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 123

المسح على البشرة، فلو صح التقريب و التحليل المتقدم لصح ان يقال ان المسح على البشرة منحل إلى أصل المسح، و كونه باليد و كونه على البشرة، و كونه بأثر الماء المنحل الى مطلق المائع و الخصوصية، فإذا تعذر الجميع يجب المسح و لو بأثر مائع غير الماء على غير البشرة و بغير آلية اليد و هو كما ترى.

و بالجملة ان المسح على الخرقة ليس ميسور المسح على الرجل، و لو كانت الخرقة متصلة و ملصقة بها، و الظاهر ان استناده على الآية انما هو للحكم الأول أي عدم لزوم المسح على البشرة، و قوله امسح عليه خصوصا عقيب التمسك بها حكم تعبدي آخر لا يمكن معرفته منها.

فتحصل مما ذكر ان التمسك بالقاعدة لتبديل الغسل بالماء بالمسح بالثلج في غير محله، و قد يتوهم دلالة طائفة من الروايات على جواز الاغتسال و التوضي مسحا بدل الغسل كصحيحة على بن جعفر و رواية معاوية بن شريح و سيأتي حالها عن قريب.

و ان كان مراده من التوضي بمثل الدهن الاكتفاء بأقل مراتب الغسل كما هو مقتضى الروايات في الوضوء، فيرد عليه انه مع إمكان الوضوء به بلا حرج كما هو كذلك في الوضوء نوعا، فلا وجه لتأخره عن التراب و مع حرجيته لا يجب و يكون فاقد الطهورين.

و قد يوجه قوله بان التيمم في موارد الحرج لما كان رخصة لا عزيمة يجوز تحمل المشقة بالوضوء و الغسل مع حرجيتهما، و يجوز تركهما

و التيمم، و جعل ما ذكر وجه الجمع بين طائفة من الروايات، كروايتي محمد بن مسلم و معاوية بن شريح و صحيحتي على بن جعفر، و بين صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة بحمل ما عدي الأخيرة على جواز الوضوء و الغسل مع حرجيتهما و الأخيرة على جواز التيمم و عدم تعينه، و قد تقدم كون ما يرفع بدليل الحرج عزيمة لا رخصة بما لا مزيد عليه.

و الاولى في المقام نقل الروايات حتى يتضح حال التوهم المتقدم اى تبديل الغسل بالمسح، و الدعوى المتقدمة في توجيه كلام الشيخ المفيد رحمه اللّٰه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 124

فعن محمد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يجنب في السفر لا يجد الا الثلج قال يغتسل بالثلج أو ماء النهر» «1» و عن معاوية بن شريح «قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و انا عنده فقال يصيبنا الدمق و الثلج و نريد أن نتوضأ و لا نجد إلا ماء جامدا فكيف أتوضأ ادلك به جلدي؟ قال: نعم» «2» و في صحيح على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء و هو يصيب ثلجا و صعيدا أيهما أفضل أ يتيمم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال: الثلج إذا بل رأسه و جسده أفضل فان لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمم» «3» و قريب منها روايته الأخرى.

و قد يتوهم منها خصوصا من رواية معاوية وجوب المسح بالثلج في صورة فقدان الماء و عدم إمكان الغسل، و فيه ما لا يخفى، اما قوله في رواية

ابن مسلم «يغتسل بالثلج أو ماء النهر» فهو ظاهر في ان الاغتسال بهما سواء، و هو خلاف المطلوب مضافا الى ان مسح الثلج بالبشرة غير الاغتسال به بالبداهة، و الظاهر ان مراده من الاغتسال به هو دلكه على الجسد بنحو يحصل به أقل مراتب الغسل، و قد تقدم في باب الوضوء و الغسل ان المعتبر في ماهيتهما ليس إلا أقل مراتب الجريان و لو بإعانة اليد، و ليس الغسل فيهما كالغسل عن القذرات كما هو المصرح به في الروايات، و بالجملة ان المتفاهم من هذه الرواية اعتبار تحقق عنوان الغسل، و هو موقوف على اجراء ماء الثلج على البشرة في الجملة و لو بالدلك و اعانة حرارة البدن.

و اما رواية ابن شريح فليست في مقام بيان كفاية المسح عن الغسل بل بعد فرض ارادة الوضوء المعهود بين المسلمين المصرح به في الكتاب و السنة، و هو الغسلتان و المسحتان، سئل عن نحو تحصيله بنحو ذلك الماء الجامد على العضو، فالسؤال عما

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 10، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 10، ح 2.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 10، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 125

يتوضأ به لا عن تبديل الوضوء بغيره كما لا يخفى على المتأمل، و لعل احتمال اعتبار كون ما يتوضأ به قبل الغسل به ماء مطلقا، أو احتمال لزوم اجراء الماء على العضو كاجرائه في باب غسل القذارات صار منشئا لسئواله.

و اما صحيحة على بن جعفر فلو لا ذيلها لكانت ظاهرة فيما يتوهم على تأمل فيه ناش من ان ارتكازية اعتبار الغسل في ماهية الاغتسال تمنع عن ظهور قوله: «إذا بل رأسه و جسده»

في الرطوبة التي لا يحصل منها أقل مراتب الغسل، لكن صراحة قوله: «فان لم يقدر ان يغتسل به فليتيمم» رافعة للتوهم و الإجمال على فرضه، بل هو حاكم على الظهور البدوي للصدر لو سلم ذلك هذا حال التوهم المتقدم.

و اما الدعوى المتقدمة فصحتها مبنية على أن يكون الموضوع في تلك الروايات فرض حرجية الوضوء و الغسل، فيقال ان تجويزهما مع فرضها دليل على كون السقوط رخصة لا عزيمة، فيحمل الأمر بالتيمم في صحيحة ابن مسلم عليه فيكون ذلك طريق جمع بين الروايات.

و فيه: منع كونها في مقام بيان حال حرجيتهما بل هي في مقام بيان حكم آخر بخلاف صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة، أما رواية ابن مسلم و ان كان ظاهر صدرها السؤال عن تكليفه عند عدم وجدان غير الثلج فيكون مطابقا لصحيحته في ذلك، لكن الظاهر من الجواب بيان كون الاغتسال بالثلج و بماء النهر سواء، فهو في مقام بيان صحة الاغتسال به كالاغتسال بماء النهر. و اما لزومه أو جوازه فلا يفهم منه لعدم كونه من هذه الجهة في مقام البيان، فهو كقوله ابتداء: ان الوضوء بالثلج كالوضوء بماء النهر، لا يدل الا على التسوية بينهما، و اما مع حرجيته فيجوز أو يجب، فلا يستفاد من مثله.

مع انه على فرض تسليم شموله لحال الحرج يكون إطلاقا يجب تقييده بأدلة الحرج الحاكمة على المطلقات و دعوى كون المفروض حرجية الاغتسال ممنوعة و اما رواية ابن شريح ففي مقام بيان جواز الوضوء بذلك الثلج على العضو، و لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 126

اشعار فيها على فرض الحرج كما لا يخفى مع ان الوضوء بالثلج ليس حرجيا نوعا، و كيف

كان لا يمكن الاتكال عليها للمدعى.

كما ان صحيحة على بن جعفر أيضا تكون في مقام بيان حكم آخر، و هو أفضلية التيمم أو المسح بالثلج فلا يكون المفروض فيها حرجية، و الاستدلال بقوله أفضل الظاهر في كون التيمم أيضا جائزا و لو كان مفضولا، و ان لا يخلو من وجه، لكن مع قرب احتمال ان ذكره لأجل وجوده في السؤال لا لأجل عناية بصحة التيمم في الفرض، و لهذا قال في ذيلها: فان لم يقدر أن يغتسل به فليتيمم الظاهر في ان التيمم انما هو مشروع مع عدم القدرة، كما هو المرتكز في الأذهان و المستفاد من الكتاب و السنة كما تقدم لا يفهم منه ما يدعى، و ليس الأفضل في هذه الرواية إلا كقوله في صحيحة ابن سنان الواردة في خوف العطش: «فان الصعيد أحب الىّ» و كقوله في رواية ابن أبي يعفور مع فرض كون الماء بقدر شربه «يتيمم أفضل».

و الانصاف انه لا يمكن رفع اليد عما تقدم من ضروب الاستدلال كتابا و رواية على كون السقوط في مورد الحرج عزيمة بمثل هذا الاشعار الضعيف، و بما ذكرنا يرفع التضاد و المعارضة المتوهمان بين تلك الروايات و بين صحيحة محمد بن مسلم الظاهرة في ان موردها حرجية الغسل بوجوه فتدبر.

المبحث الثالث في كيفية التيمم

اشارة

و ان كان الترتيب يقتضي أن يذكر أو لا ماله دخل في ماهية التيمم من الاجزاء المقومة لها، ثم ذكرت شروطها و ما هي خارجة عن حقيقتها، لكن وقع خلاف الترتيب تبعا لبعض المتون و الأمر سهل، و كيف كان يعتبر في التيمم أمور:

الأول النية

و قد فرغنا من المباحث المتعلقة بها في مبحث الوضوء و نتعرض في المقام لبعض المباحث المتعلقة بخصوص التيمم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 127

منها ان مقتضى ما حقق في محله من أصالة التوصلية في الأوامر، أما للإطلاق اللفظي لجواز أخذ جميع القيود حتى ما تأتي من قبل الأوامر في متعلقاتها كما هو التحقيق، و اما للإطلاق المقامى بعد كون بيان جميع القيود الدخيلة في المتعلقات المؤثرة في حصول الغرض من وظائف المولى، و إمكان بيانها بدليل منفصل عدم وجوب شي ء في التيمم سوى الضرب و المسحات المأخوذة في الأدلة كتابا و سنة، و لا إشكال في إطلاق طائفة من الروايات.

كموثقة زرارة عن أبى جعفر في التيمم «قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك» «1» و قريب منها صحيحة المرادي «2» و كبعض ما وردت في قضية عمار بن ياسر و غيرها، بل الظاهر إطلاق الآية الكريمة أيضا كما يشهد به بعض ما ورد من تمسك المعصوم بالخصوصيات المأخوذة فيها مما لا مجال له الا للإطلاق، لكن يجب الخروج عن مقتضى الإطلاقات بقيام الإجماع بل الضرورة على عبادية التيمم و لزوم النية و الإخلاص فيه.

و قد مر في بعض المباحث السالفة و في بحث الأصول ان مناط عبادية الطهارات الثلاث ليس الأوامر الغيرية من غاياتها، و لو قلنا بوجوب المقدمة مع بطلانه

أيضا، و ان عباديتها في رتبة سابقة على تعلقها على الفرض.

و كيف كان لا شبهة في اعتبار النية في التيمم و قد تظافرت دعوى الإجماع عليه كما عن الغنية و نهاية الإحكام و الذكرى و إرشاد الجعفرية و المدارك و كشف اللثام بل عن المعتبر و التذكرة و جامع المقاصد و روض الجنان إجماع علماء الإسلام عليه.

و عن المنتهى لا نعرف فيه خلافا، و به قال أهل العلم سوى ما حكى عن الأوزاعي و الحسن بن صالح بن حي بل لزوم النية و قصد القربة و الإخلاص فيه و في أخويه ضروري في الفقه، و لزوم الإخلاص في العبادة مستفاد من السنة المستفيضة.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 7.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 128

و اما اعتبار قصد الوجه و التنجيز في النية و غيرهما كقصد البدلية فلا دليل عليه بل مقتضى الإطلاق عدمه، و لو قلنا بان التيمم بدل عن الوضوء و الغسل، فان عنوان البدلية بناء عليه ثابت لنفسه من غير دخالة للقصد فيه بل في إمكان ذلك تأمل و اشكال مع انه لا دليل على كونه بدلا منهما، خصوصا ان أريد بالبدلية كون التيمم بدل الطهور فإنه مخالف للأدلّة و مجرد كونه أمرا ثابتا في حال الاضطرار و مصداقا اضطراريا لا يستلزم البدلية فإنها أمر زائد عليه، فان أريد بالبدلية كونه مصداقا اضطراريا و لهذا يقال انه بدل اضطراري. فهذا أمر لا معنى للنزاع فيه و لا مشاحة في الاصطلاح، و ان كان المراد بها أمرا زائدا على ذلك و عنوانا ملازما للمصداق الاضطراري فهو ممنوع، فان المصداق الاضطراري يمكن

ان يكون مستقلا في التأثير في ظرفه لا نائبا عن غيره و بدلا عنه فلا ملازمة بينهما عقلا و لا عرفا.

و دعوى استفادة ذلك من بعض الاخبار كصحيحة حماد بن عثمان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل لا يجد الماء أ يتيمم لكل صلاة؟ فقال: لا هو بمنزلة الماء» «1» و صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: قلت له: كيف التيمم؟ فقال: هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة» «2» و موثقة عمار عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

سألته عن التيمم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم» «3».

مدفوعة لأن كونه بمنزلة الماء في جواز إتيان الصلوات الكثيرة به لا يلازم كونه بدلا منه، فان وحدة منزلة شيئين في حصول أمر لو لم نقل بكونها دليلا على استقلال كل في حصوله، لا يكون دليلا على نيابة أحدهما عن الأخر أو بدليته.

و بالجملة لا يستفاد منه الا كون التيمم مثل الوضوء في الحكم المذكور أو مطلقا نظير قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» فان كون أمير المؤمنين بمنزلة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 20، ح 2.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 4.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 129

هارون عليهما السلام لا يستلزم نيابته عن هارون و أصالة هارون في نيابته عن موسى و عدم أصالة المولى عليه السّلام في نيابته عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله.

و اما الرواية الثانية فلا اشعار فيها للمدعي فإن كون التيمم للوضوء لا معنى له بحسب ظاهره، و الظاهر ان ذكر الوضوء و غسل الجنابة

لمجرد المعرفية عن التيمم الذي هو للحدث الأصغر و الأكبر فلا يستفاد منه البدلية بوجه.

و كذا لا تستفاد من الثالثة لأن قوله من الوضوء لو لا تعقبه بقوله و الجنابة و عن الحيض لا يبعد ظهوره في البدلية، و ان كان وقوعه في لفظ الراوي لا يفيد شيئا، و ليس قول الامام تقريرا لذلك، لكن مع تعقبه به يدفع ذلك و الانصاف ان تلك الروايات لا تكون في مقام افادة بدلية التيمم و أصالة الوضوء و الغسل، بل هي بصدد مجرد المعرفية نظير قوله في صحيحة محمد بن مسلم بعد بيان التيمم «ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل» إلخ بل الظاهر من مثل قوله: «التراب أحد الطهورين» و قوله: «ان اللّٰه جعلهما طهورا: الماء و الصعيد» عدم البدلية ثم انه لا يبعد أن يكون القائل بكون التيمم مبيحا لا رافعا هو القائل ببدليته بان يقول ان المعتبر في الصلاة هو الطهور، و هو لا يحصل الا بالوضوء و الغسل، و اما التيمم فبدل عن الطهور لا موجب له و رافع للحدث و الا فلو قيل بحصول الطهور منهما لا معنى للبدلية، و سيأتي في المسألة الآتية ما هو التحقيق.

ثم ان ما ذكرنا هاهنا من إنكار البدلية بالمعنى المتقدم لا ينافي ما سيأتي منا كرارا من التمسك بإطلاق البدلية و عموم المنزلة كما يظهر بالتأمل و منها صرح غير واحد بل ادعى الإجماع جماعة بأن التيمم ليس برافع للحدث بل هو مبيح فلا يجوز فيه نية الرفع، و قد استدل عليه بعد الإجماع ببعض وجوه عقلية سيأتي الكلام فيها و في حال الإجماع المدعى.

و ليعلم انه لا ريب في ان المستفاد من الاخبار

استفادة قطعية بأن التيمم طهور كما ان الوضوء و الغسل كذلك، كقوله: انه أحد الطهورين، و ان رب الماء هو رب الصعيد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 130

و ان اللّٰه جعلهما طهورا الماء و الصعيد و انه بمنزلة الماء، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا و ان المتيمم فعل أحد الطهورين، و ان التيمم بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضأ من غدير ماء، و ان الصعيد طهور المسلم ان لم يجد الماء عشر سنين، و ان التراب طهور المسلم و لو الى عشر سنين الى غير ذلك.

مع ظهور الآية الكريمة فيه صدرا و ذيلا فان الظاهر عرفا من جعل التيمم في مقام الضرورة شرطا للصلاة انه في حالها يفيد فائدة الوضوء و الغسل و لو بمرتبة نازلة منها، لا كونه أجنبيا منهما و من أثرهما، كما هو الظاهر في أمثال المقام، فلو قال الطبيب اشرب الدواء الكذائي و لو لم تجده اشرب كذا، يفهم انه يفيد فائدة الأول و لو بمرتبة ناقصة منه، و هذا واضح و لو مع الغض عن قوله تعالى:

وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فإنه كالنص في ذلك و دعوى كونه مربوطا بالصدر اى الوضوء و الغسل كما ترى.

نعم في مقابل ما عرفت بعض روايات ربما يدعى دلالتها على عدم طهوريته كصحيحة الحلبي «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا لم يجد الرجل طهورا و كان جنبا فليمسح من الأرض و ليصل فإذا وجد ماء فليغتسل و قد أجزأته صلوته التي صلى» «1» و مثلها صحيحة ابن سنان «2» فان التيمم لو كان طهورا لم يقل لم يجد طهورا مع إشعار الاجزاء به أيضا.

و

فيه- بعد كونه من قبيل مفهوم القيد الذي لا نقول بحجيته، و لما لم يكن التيمم طهورا مطلقا كالماء كان الكلام مصونا عن لغوية ذكره- أن مثله لا يقاوم الأدلة الناصة على طهوريته، و دعوى اشعار ذيلها بذلك كما ترى، بل يمكن دعوى الإشعار أو الدلالة بتحقق الشرط الذي هو الطهور.

و منه يظهر الحال في موثقة يعقوب بن سالم حيث قال فيها «قد مضت صلوته

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 4.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14 ح 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 131

و ليتطهر «1» و كذيل صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «و متى أصبت الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا و الوضوء ان لم تكن جنبا» «2» و فيه عدم ظهوره في ان إطلاق الجنب عليه انما هو في حال التيمم فإنه كان جنبا قبل التيمم، فصح إطلاقه عليه بلحاظه، و لا ظهور له في اتصال زمان وجدان الماء لصفة الجنابة نعم ظاهره كونه قبل وجدانه جنبا فلا يصح الحمل على الجنابة الحاصلة بعد وجدانه.

و كموثقة ابن بكير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت: رجل أم قوما و هو جنب و قد تيمم و هم على طهور؟ فقال لا بأس» «3» بدعوى إطلاق الجنب عليه حتى مع تيممه، فان الظاهر منها انه أمهم مع كونه جنبا، و أيضا جعله مقابل القوم و هم على طهور، و فيه: أن قوله «و هو جنب و قد تيمم» ليس معناه انه جنب حتى مع التيمم، بل المراد انه جنب فتيمم، فأم قوما مع التيمم فلم يظهر منه انه جنب حتى حال التيمم و الصلاة.

و الانصاف ان

السائل انما هو بصدد استفهام جواز اقتداء المتوضي بالمتيمم من دون نظر الى بقاء جنابته حال التيمم أولا، و إجابة عن ذلك من غير نظر الى غيره، و قوله: «و هم على طهور» قد مر جوابه.

هذا مع ان إطلاق ابن بكير و جعله مقابلا لما ذكر ليس بحجة و الامام عليه السّلام ليس الا بصدد بيان حكم الاقتداء فلم يظهر منه تقريره لما فهمه، مضافا الى عدم مقاومة أمثال تلك الاشعارات التي لم تصل الى حد الدلالة لما تقدم.

و قد ورد في هذا الموضوع حسنة جميل بن دراج أو صحيحته تكشف المراد من مثل موثقة ابن بكير «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام امام قوم أصابته جنابة في السفر و ليس

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 14.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 4.

(3) الوسائل أبواب صلاة الجماعة، ب 17، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 132

معه من الماء ما يكفيه للغسل أ يتوضأ بعضهم و يصلى بهم؟ قال: لا و لكن يتيمم الجنب و يصلى بهم فان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» فنفى البأس في موثقة ابن بكير انما هو لأجل كون التراب طهورا كالماء فلا إشكال في المسألة من هذه الجهة.

إنما الإشكال من جهتين أخريين (الأولى) هي الاشكال العقلي المعروف و هو ان التيمم إذا كان رافعا و مفيدا للطهارة لا يمكن ان ينتقض بوجدان الماء الذي ليس بحدث إجماعا، مع ان وجدانه لو كان حدثا لزم المساواة في الموارد. لانه اما حدث أصغر يوجب الوضوء أو أكبر يوجب الغسل، مع انه بانتقاض التيمم ترجع الحالة الأولى جنابة أو حيضا أو

حدثا آخر و هو دليل على عدم كونه رافعا.

و يمكن دفع الإشكالين بأن الظاهر من الاخبار في الأبواب المتفرقة ان الحدث مانع عن الصلاة سواء في ذلك الحدث الأصغر و الأكبر، و إيجاب الوضوء و الغسل لتطهير الحدثين، و منزلتهما كمنزلة الماء في تطهير القذارات الصورية، و عود المحل الى حالته الأصلية.

و هذا في الحدث الأكبر واضح، ضرورة ان المكلف الذي لم يحصل له أسباب الجنابة و غيرها من سائر الأحداث الكبيرة تصح صلوته، فلو كان شرط الصلاة أمرا وجوديا و كمالا نفسانيا يحصل بالغسل لكان اللازم على المكلف الغسل و لو مع عدم حصول الأسباب.

و القول بكونه واجدا له قبل حصولها و هي صارت موجبة لزواله و الغسل موجب لعوده كما ترى، و المتدبر في الروايات خصوصا ما تعرضت لعلل الغسل و الوضوء لا يكاد يشك في ان الجنابة حالة قذارة تحصل بأسبابها، و الغسل تطهير من الجنابة و تلك القذارة و كذا الحال في الوضوء، بل إطلاق الطهور على الغسل و الوضوء و كذا على الماء ليس إلا كإطلاقه على الماء بالنسبة إلى رافعيته للقذارات الصورية. لأن معنى التطهير التنظيف المساوق لإزالة القذارة، و الأشياء غير الأعيان النجسة نظيفة بحسب ذاتها، و

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 24، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 133

انما عرضت لها القذارة، بملاقاتها القذارات و الماء طهور لها و موجب لعودها إلى الحالة الأصلية و حال الوضوء و الغسل الطهورين من الاحداث، و القذارات المعنوية حال الماء الطهور من القذارات الصورية.

و يظهر ذلك بالتأمل في الآية الكريمة حيث قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا اى من الجنابة. و كذا يظهر من

قوله إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا إلخ المفسر بأنه إذا قمتم من النوم فيظهر منه ان الوضوء لرفع حدث النوم، و كذا يظهر ذلك من صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: لا صلاة الا بطهور و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و اما البول فإنه لا بد من غسله» «1».

حيث ان إطلاقها يقتضي نفى الصلاة إلا بطهور من الاحداث و الأخباث، و ذيلها ظاهر في ان الاستنجاء بالأحجار، و غسل البول لإزالة القذر، و مقتضى وحدة السياق و الحكم أن يكون الطهور من الاحداث كذلك، فليست الصلاة مشروطة بالطهارة أي الأمر المعنوي الحاصل بالوضوء و الغسل، نعم الطهارات الثلاث عبادات مقربات الى اللّٰه تعالى، و بهذه الحيثية يطلق على الوضوء انه نور و الوضوء على الوضوء نور على نور، لكن لم يتضح كونها بتلك الحيثية شرطا للصلاة، بل الظاهر انها مع عباديتها رافعة للقذارات المعنوية التي هي مانعة عنها، و بالجملة الأقرب بالنظر الى مجموع الأدلة هو مانعية الاحداث و الأرجاس عن الصلاة و الطهور رافع لها. و المسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل و تنقيح.

إذا عرفت ذلك نقول: يمكن ان يقال: ان الاحداث الحادثة بأسبابها إنما تعرض على المكلف و تصير كالحالة الأصلية الثانوية له و التيمم انما يرفع الحدث ما دام متحققا فإذا انتقض بوجدان الماء و غيره ترجع الحالة الأصلية الثانوية و هو بوجه نظير النظافة التي للأشياء فإنها نظيفة لو لا عروض القذارة عليها، و مع رفع القذارة عنها ترجع الى حالتها الأصلية

______________________________

(1) الوسائل أبواب أحكام الخلوة، ب 9، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2،

ص: 134

من غير تأثير سبب، فيمكن ان تكون الجنابة العارضة كالحالة الأصلية و ان كانت حالة اصلية اضافية و التيمم رافعا لها ما دام باقيا، و بوجدان الماء انتقض التيمم و ترجع الحالة الأصلية من غير لزوم تأثير سبب، فالماء ليس بحدث بل ناقض للتيمم الرافع للحدث و المانع عن فعليته حالة الجنابة.

و ان شئت قلت: ان أسباب الاحداث توجب مع الاحداث اقتضاء في الذات لا بقائها و الوضوء و الغسل رافعان لها و للاقتضاء و التيمم رافع لها لا للاقتضاء، و وجدان الماء ناقض للتيمم، و رافع لمانع تأثير المقتضى فيرجع الحدث بالاقتضاء الحاصل بالأسباب. تأمل.

و على اى تقدير يندفع كلا الإشكالين العقليين مع حفظ ظهور الأدلة في ناقضية الماء التيمم و كونه طهورا، و من غير مخالفة للإجماع المدعى على عدم كون الماء حدثا.

و ما ذكرنا في دفعهما أولى و أقرب الى ظهور الأدلة مما ذكره بعض المحققين:

من «ان الطهارة ان كانت امرا وجوديا كما هو الأظهر نلتزم بحصولها لموضوع خاص هو العاجز، و مع رفع العجز انتفى الطهور بانتفاء موضوعه لا لوجود المزيل، و ان كانت القذارة أمرا وجوديا فلا استحالة في ان يكون التيمم مزيلا لتلك القذارة على وجه يعد نظافة مع الضرورة، نظير مسح اليد بالحائط لدى الضرورة، بل من الجائز أن يكون رافعا لها بالمرة، و لكن يكون أسبابها المؤثرة لحدوثها مقتضيات لتجددها عند تجدد القدرة من استعمال الماء انتهى ملخصا».

و فيه مضافا الى ان ما اختاره من كون الطهارة أمرا وجوديا معتبرة في العبادات خلاف التحقيق كما أشرنا اليه، و ليس المقام جديرا بتحقيقه مستقصى: أن القول بان الطهور ينتفى بانتفاء موضوعه، لا بوجود المزيل مخالف للنصوص

المصرحة بناقضية الماء له كصحيحة زرارة و غيرها، و لكلمات الفقهاء فإنهم جعلوا التمكن من استعمال الماء ناقضا له بل عن جمع حكاية إجماع أهل العلم سوى شاذ من العامة عليه، و معلوم ان ناقضية الماء غير تبدل الموضوع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 135

و يرد على فرضه الثاني أي كون القذارة أمرا وجوديا و التيمم يعد نظافة لدى الضرورة و هو عبارة أخرى عن حصول نظافة ناقصة غير كافية لدى الاختيار، ان هذا أيضا مخالف لما تقدم من الاخبار و كلمات الأصحاب، فإنه لو صار عاجزا فتيمم و وجد الماء مع القدرة على استعماله و لم يتطهر و فقد الماء لا يجب على ما ذكره تجديد التيمم لحصول النظافة الناقصة و عدم تجدد رافع لها، و اما ما ذكره أخيرا فيمكن إرجاعه الى ما ذكرناه أخيرا و ان كان خلاف ظاهره، فان الظاهر منه ان تلك الأسباب الموجبة للاحداث مقتضية للحدث عند وجدان الماء. مع انه مستحيل لو كان الاقتضاء على طبق التكوين مضافا الى انه التزام بحدوث حدث جديد و لو بالسبب الأول، و كيف كان لا يمكن رفع اليد عن ظاهر الكتاب و السنة القطعية بتلك الوجوه العقلية القابلة للدفع.

الجهة الثانية: دعوى الإجماع على عدم كون التيمم رافعا، و قد تكررت الدعوى في كتب القوم كالشيخ و المحقق و العلامة و الشهيد و المحقق الثاني و غيرهم، لكن معروفية الاستدلال بالدليل العقلي المتقدم بينهم من لدن عصر الشيخ تمنع عن كشف دليل شرعي تعبدي لقرب احتمال كون المستند هو الوجه العقلي لا غير كما ربما يظهر من الشيخ في الخلاف عدم الإجماع منا في هذه المسألة فإنه ادعى

عدم الخلاف في ان المتيمم إذا وجد الماء وجب عليه الغسل، و مع كون التيمم رافعا لم يكن واجبا فيظهر منه ان مستنده في هذا الحكم هو عدم الخلاف في تلك المسألة و الوجه العقلي.

قال: التيمم لا يرفع الحدث و انما يستباح به الدخول في الصلاة و به قال كافة الفقهاء الا داود و بعض أصحاب مالك، فإنهم قالوا يرفع الحدث، دليلنا: انه لا خلاف في ان الجنب إذا تيمم و صلى ثم وجد الماء وجب عليه الغسل، فلو كان الحدث قد زال بالتيمم لما وجب عليه الغسل لأن رؤية الماء لا توجب الغسل إلخ.

و مراده بكافة الفقهاء هو فقهاء العامة كما يظهر من تعبيراته عنهم و عنا في الخلاف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 136

و لذا استثنى منهم داود و بعض أصحاب مالك، و لم يستثن السيد منا المصرح بأنه رافع فعن الذكرى قال المرتضى في شرح الرسالة: ان الجنب إذا تيمم ثم أحدث أصغر و وجد ما يكفيه للوضوء توضأ به، لان حدثه الأول قد ارتفع و جاء ما يوجب الصغرى «انتهى» بل لا يبعد ظهوره من مقنع الصدوق أيضا.

و كيف كان فالشيخ لم يدع الإجماع في هذه المسألة و لهذا لم يدعه بعد قوله دليلنا كذا، بل جعل الدليل عدم الخلاف في مسألة اخرى جعلها مبنى المسألة و تمسك بالوجه العقلي المتقدم و لا يبعد ظهوره من منتهى العلامة أيضا، نعم ظاهر التذكرة ادعائه زائدا عن الدليل العقلي، و على اى تقدير لا يمكن الاتكال بالإجماع مع قوة احتمال ان يكون مرادهم ان التيمم لا يرفع الحدث كرفع الماء بحيث لا يحتاج الى الغسل عند وجدانه و

هو مسلم.

الثاني تعتبر في التيمم المباشرة حال الاختيار

فلو يممه غيره مع قدرته لم يصح بلا اشكال، و عن المنتهى لا خلاف عندنا في انه لا بد من المباشرة بنفسه و نفى عنه الريب في محكي المدارك و هو كذلك لظهور الأدلة فيها، فان المتبادر من هيئة الأمر هو بعث المأمور لإيجاد المأمور به، و الظاهر ان ذلك من دلالة اللفظ لا حكم العقل كالالزام الذي قلنا انه خارج عن مفاد الهيئة، و ان كان صرف البعث حجة عقلائية على لزوم الخروج عن عهدة التكليف ما لم يرد من قبل المولى ترخيص في الترك، لكن المباشرة مفهومة من ظاهر الهيئة لكن لا بمعنى دخول مفهوم اسمي في مفاد الهيئة، بل بمعنى وضعها لنفس الإغراء المتوجه الى الغير بوجه يكون المبعوث خارجا عنه كخروج القيد، و دخول التقيد بوجه، فتدل دلالة لفظية على الإغراء المتوجه الى الغير بحيث لا يكون جزء مفادها.

و لا إشكال في ان الصدور الحقيقي بلا تأول هو المباشري دون التسبيبى و النيابي المحتاجين الى نحو تأول و ادعاء، و كيف كان لا شبهة في ظهور الأوامر وضعا أو انصرافا أو عقلا مع قطع النظر عن القرائن في لزوم المباشرة، و مقتضاه سقوط الأمر عند

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 137

تعذره لعدم دليل على تعدد المطلوب في نفس الأدلة الأولية، و لا يستفاد ذلك من الهيئة المتوجهة إلى المخاطب الباعثة إياه نحو المأمور به.

نعم لا إشكال في المقام في لزوم إيجاده تسبيبا، و جعل غيره آلة لإيجاده بلا خلاف كما في الجواهر، و عن المدارك تجب الاستنابة في الأفعال دون النية عند علمائنا فيظهر منه تسلم الحكم عندهم، مضافا الى صحيحة محمد بن سكين

في المجدور الذي غسلوه فمات ففي ذيلها «الا يمموه ان شفاء العي السؤال» «1».

و اما مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: يؤمم المجدور و الكسير إذا أصابتهما جنابة» «2» فمع كونها في نسخة الوسائل بدل (يؤمم) يتيمم، يمكن ان يكون مبنيا للفاعل فان يمم و تيمم بمعنى واحد فلا تدل على المطلوب، نعم لا يبعد ظهور مرسلة الفقيه في البناء للمفعول على تأمل «قال: و قال الصادق عليه السّلام: المبطون و الكسير يؤممان و لا يغسلان» «3» و ان كان المظنون فيهما البناء للمفعول لكنه ظن خارجي غير حجة.

و كيف كان لا إشكال في أصل الحكم كما لا إشكال في ان المباشر يباشر صورة العمل مقتصرا على مقدار يعجز عنه المكلف و يباشر النية نفس المكلف كما ادعى المدارك، كما ان المعتبر ضرب يدي العاجز مع الإمكان فإن ضربهما دخيل في ماهية التيمم جزءا أو شرطا، و ليس حاله حال الاغتراف للوضوء أو الغسل، و مع عدم إمكان ضرب يديه ينوب عنه الصحيح بان يضرب يده على الأرض فيمسح بها وجه العليل و يديه، و عن الكاتب يضرب الصحيح بيديه ثم يضرب بها يدي العليل، و فيه ما لا يخفى فإنه مع دوران الأمر بين سقوط ما يتيمم به و سقوط آلية اليد لا شبهة في سقوط الثاني، و ضرب اليد على اليد المضروبة على الأرض ليس ضربا عليها، الا ترى انه لو دار الأمر بين سقوط آلية اليد و التيمم بالحديد مثلا اختيارا لا يحتمل تقديم الثاني،

______________________________

(1) الوسائل: أبواب التيمم، ب 5، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 10.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 5، ح 12.

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 138

و ضرب اليد على اليد كضربها على الحديد، و مما ذكرنا يظهر صحة قول الشهيد انه لم نقف على مأخذ قول الكاتب و النظر فيما عن كشف اللثام من دعوى ظهور المأخذ.

الثالث يعتبر الترتيب بين أجزاء التيمم

بتقديم الضرب على الأرض على مسح الجبهة و هو على مسح الكف اليمنى و هو على اليسرى، فلو نكس استأنف بما حصل معه الترتيب و هو إجماعي كما عن الغنية و المنتهى و إرشاد الجعفرية و المدارك و المفاتيح و ظاهر التذكرة و الذكرى، و عن المرتضى ان كل من أوجب الترتيب في الوضوء أوجبه فيه، فمن فرق بينهما خرق الإجماع، و عن جامع المقاصد يجب تقديم اليمنى على اليسرى إجماعا، و عن الذكرى نسبته إلى الأصحاب، لكن ترك جمع منهم ذكر الترتيب بين الكفين كالشرائع و عن المراسم و السرائر و المقنع و جمل العلم و العمل، و عن بعضهم ترك ذكر الترتيب مطلقا أو ما في بدل الوضوء، فالاستناد إلى الإجماع مع ذلك لا يخلو من توقف.

لكن يمكن الاستدلال عليه بالسيرة العملية في مثل تلك المسألة التي تعم بها البلوى و تحتاج إليها طائفة من المكلفين في صلواتهم، فلا يبعد الجزم بأنه كان كذلك من لدن زمن الشارع، و كان الخلف أخذ من السلف كذلك الى عصر المعصوم عليه السّلام، بل لا يبعد جواز الاتكال على الشهرة المحققة في هذه المسألة التي يقتضي إطلاق الكتاب و السنة فيها عدم الترتيب بين الكفين كما يأتي الكلام فيه، و كيف كان لا ريب في تقدم الضرب على الأرض على سائر الأجزاء كتابا و سنة بل هو كالضروري، كما لا إشكال في دلالة النصوص على تقدم

المسح على الجبين على مسح الكفين، كموثقة زرارة الآتية و غيرها و بمثلها يقيد إطلاق الكتاب و السنة كبعض الروايات الآتية.

إنما الإشكال في استفادة الترتيب بين الكفين من الأدلة فقد استدل له بموثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: أتى عمار بن ياسر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه انى أجنبت الليل فلم يكن معى ماء. قال: كيف صنعت؟ قال: طرحت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 139

طرحت ثيابي و قمت على الصعيد فتمعكت فيه، فقال: هكذا يصنع الحمار انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فضرب بيديه على الأرض ثم ضرب إحديهما على الأخرى ثم مسح بجبينيه ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى فمسح اليسرى على اليمنى و اليمنى على اليسرى» «1» و تقريبه ان حكاية أبي جعفر عليه السّلام قضية عمار انما هو لبيان الحكم الشرعي لا لبيان أمر تاريخي فلا تكون مثل الفعل في عدم افادة تقديم بعض الافعال على بعض وجوبه بعد عدم إمكان الجمع بين الفعلين، فلا بد من الأخذ بخصوصيات النقل الذي هو لإفادة الحكم.

فنقول: ان قوله: «فمسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى» يكفي في مقام بيان الحكم لو كان الترتيب بينهما غير مراد، فيبقى قوله: «فمسح اليسرى على اليمنى» إلخ بلا نكتة، و حمله على بيان واقع القضية بلا نظر الى إفادة الحكم بعيد، و لا نكتة فيه الا بيان تقديم مسح اليمنى على اليسرى و هو المطلوب.

و فيه انه لو كان مراده من ذلك بيان لزوم تقديم اليمنى لكان عليه عطف اليمنى بثم أو الفاء كما ترى عنايته عليه السّلام بتخلل ثم

في الجمل السابقة فذكرها فيها و ترك ما يفيد الترتيب في الجملة الأخيرة، دليل على اعتبار الترتيب في غير اليسرى و عدم اعتباره فيها. بل يمكن ان يدعى ان دلالة هذه الموثقة على عدم اعتباره أوضح من الإطلاقات لأن عنايته بذكر خصوصيات ما فعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لتعليم عمار و العطف بثم و الفاء في الجبهة و الكفين و تركهما في عطف اليمنى على اليسرى كادت أن تجعلها صريحة في عدم اعتباره في الكفين.

نعم عن العياشي عن زرارة «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن التيمم؟ فقال: ان عمار» ثم ساقها باختلاف يسير مع الموثقة و قال في ذيلها «ثم ذلك احدى يديه بالأخرى على ظهر الكف بدء باليمنى» و دلالتها واضحة خصوصا مع سؤاله عن كيفيته و نقل القضية

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 140

لتعليم الكيفية، و عنايته بحكاية بدية رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله باليمنى، فلا اشكال فيها الا من جهة الإرسال و عدم الجبر، فان مجرد مطابقة الفتاوى لها لا توجبه الا ان يعلم استنادهم عليها و بهذا يظهر النظر في الاستدلال بما في فقه الرضا و دعوى جبره بل الظاهر عدم فتوى جامع الكتاب بما أرسله، بل و لا غيره من الفقهاء، لان فيه المسح على ظهر الأصابع من أصولها فراجعه، و الأولى للقائل بالجبر بمجرد المطابقة التمسك برواية العياشي الموافقة لفتاوى الفقهاء لا مرسلة فقه الرضا المخالفة لها التي هي مرسلة في مرسلة لم يعمل بها مرسلها فضلا عن غيره.

و اما التمسك بذيل صحيحة جميل: «فان اللّٰه عز و جل جعل التراب

طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» بدعوى ان مقتضى إطلاق التشبيه انه مثل الماء حتى في كيفيته الا ما خرج بدليل و ذيل صحيحة حماد «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل لا يجد الماء أ يتيمم لكل صلاة؟ فقال: لا، هو بمنزلة الماء» «2» بدعوى استفادة عموم المنزلة منها حتى في كيفيته.

ففي غير محله ضرورة انهما في مقام بيان حكم آخر و لا إطلاق فيهما من الجهة المبحوث عنها كما لا يخفى.

و الذي يمكن ان يقال زائدا على ما تقدم من السيرة العملية و ارتكاز المتشرعة و حجية الشهرة في مثل المسألة التي دلت الأدلة إطلاقا على خلافها: ان المستفاد من الآية الكريمة مشفوعا بالارتكاز العقلائي أن فاقد الماء يتيمم و يقصد الصعيد لتحصيل الطهور الذي كان يحصل بالماء، و انه يجب ان يفعل معه ما يفعل مع الماء عند فقده، فلو لم تتعرض الآية لكيفيته و اختتمت الى قوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» يستفيد منها العقلاء انه انه عند عدم وجدان الماء يقوم الصعيد مقامه فيما يحتاج المكلف اليه، فيفهم منه ما فهمه عمار من التمعك على الصعيد للغسل، و مسح أعضاء الوضوء بالكيفية التي فيه للحدث الأصغر.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 24، ح 2.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 23، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 141

و بالجملة المتفاهم منه وضع التراب موضع الماء من غير تغيير و تبديل في الكيفية، فبقي المتقدم و المتأخر في الغسل على حالهما من غير تصرف و تغيير الا فيما يتطهر به، نظير أن يأمر المولى بضيافة العلماء مقدما على الاشراف، و هم مقدما على التجار و عين محلا خالصا لها

و شرائط و قيودا، و قال أضفهم بالغذاء الفلاني و مع فقده بالفلانى، فإنه لا ريب في ان العرف لا يأخذ بإطلاق قوله و مع فقده كذا، و يرفع اليد عن الشرائط و القيود، بل يحكم بان التبديل انما وقع في الغذاء لا في سائر الكيفيات فلا بد من مراعاتها. و مقتضى هذا الارتكاز ان كل ما يعتبر في الوضوء و الغسل معتبر في التيمم الذي هو بدله، و القائل بالبدلية ان كان مراده ذلك فلا كلام، و ان كان مراده عدم حصول الطهور بل يحصل بدله فقد مر ما فيه.

و بالجملة لا شبهة في ان مقتضى ارتكاز العقلاء و الرجوع الى الأشباه و النظائر ان التبديل انما هو فيما يتطهر به لا في كيفية التطهير و العمل، فحينئذ نقول:

ان قوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ» يدل على سقوط المسح على الرجل و الرأس، و عدم كونه الى المرفق و لا على جميع الوجه، لمكان الباء على ما أفاد أبو جعفر عليه السّلام، و اما سائر ما يعتبر فيه من الشرائط و الموانع فبقيت على حالها كالبدئة بالوجه و باليمنى المعتبرة في الوضوء، و طهارة المحال و غيرها من الشرائط، فلا بد من مراعاة ما يعتبر فيهما فيه أيضا، و لو لا دليل لقلنا بعدم اعتبار الموالاة في بدل الغسل، لكن سيأتي بيان استفادته من الأدلة حتى من الآية الكريمة.

و يؤيد ما ذكرناه قوله في صحيحة زرارة في تفسير الآية عن أبى جعفر عليه السّلام «ثم قال فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ، فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد أثبت بعض الغسل مسحا» «1» فإنه مشعر أو ظاهر في

إثبات المسح ببعض المحال و إسقاط الغسل فقط من غير تصرف في سائر الشرائط و القيود كما

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 13 ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 142

يشعر به ما في الرضوي «قال: و نروى ان جبرئيل نزل الى سيدنا محمد صلّى اللّٰه عليه و آله في الوضوء» الى ان قال: «ثم في التيمم بإسقاط المسح و جعل مكان موضع الغسل مسحا» «1» و كيف كان لا ينبغي الإشكال في أصل الحكم و ان فرض إمكان المناقشة في بعض ما ذكر، و مما ذكرنا من التقريب المتقدم يظهر الدليل على اعتبار كل ما يعتبر في الوضوء و الغسل جميعا كطهارة المحال و المباشرة و غيرهما مما يعتبر فيهما.

الرابع [التفصيل بين التيمم]

مقتضى التقريب المتقدم في بيان الترتيب التفصيل بين التيمم الذي للحدث الأصغر و ما للأكبر في الموالاة كما حكى عن الشهيد (ره) في الدروس، و كذا التفصيل بين الشرائط التي اعتبرت في أحدهما دون الأخر كالمسح من الأعلى، فيقال باعتباره في بدل الوضوء دون بدل الغسل، لكن مقتضى بعض الروايات مساواتهما.

كموثقة عمار عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن التيمم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم» «2» و موثقة أبي بصير «قال: سألته عن تيمم الحائض و الجنب سواء إذا لم يجد إماء؟ قال: نعم» «3» بناء على ان المراد بتيمم الحائض إذا لم تجد ماء ما تحتاج اليه من بدل الغسل و الوضوء.

و حملهما على صرف الكيفية دون سائر ما يعتبر فيهما، فاسد بعد اقتضاء الإطلاق سوائيتهما مطلقا (فح) لا يمكن التمسك بالاية للتفصيل، و لا لاعتبار الموالاة مطلقا و لا لعدمه

كذلك و كذا في سائر الشرائط التي اعتبرت في أحدهما دون الأخر فالقول بالتفصيل غير وجيه.

و الأقوى اعتباره مطلقا، و الدليل عليه مضافا الى الإجماعات المحكية عن الغنية و جامع المقاصد و الروض و مجمع البرهان و ظاهر المنتهى و الذكرى و المدارك و الى ما أشرنا إليه في الترتيب من السيرة المستمرة الكاشفة عن كونه كذلك من

______________________________

(1) المستدرك: أبواب التيمم، ب 9، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 12- ح 6- 7.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 12- ح 6- 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 143

زمن الشارع المقدس و ان كان للإشكال في ذلك مجال، لاحتمال كونها لاقتضاء العادة و عدم الداعي إلى التفريق لا الاعتبار، و ان أمكن ان يقال ان في ارتكاز المتشرعة اعتباره- الآية الكريمة قال تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ بناء على كون الفاء للترتيب باتصال كما هو المعروف، فيفيد قوله:

«فَامْسَحُوا» الترتيب باتصال عرفي بين المسح على الوجه و الأيدي، و بين وضع اليدين أو ضربهما على الأرض الذي هو المراد من قوله: «تيمموا» لان قصد الأرض ليس بنفسه موضوعا للحكم بلا اشكال، بل أخذ العنوان الطريقي الذي ليس مقصودا بالذات فيه لعله دليل على ان المراد منه المرئي و المقصود، خصوصا مع قيام القرينة عليه، فان قوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً» عقيب «فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً» ظاهر عرفا في ان المراد التوصل الى الصعيد للتمسح به الى الوجه، و المقصود هو الوضع أو الضرب على الأرض و لو بدليل خارجي، فكأنه قال: اضرب يديك على الأرض فتمسح بلا فصل بوجهك و يديك، فلو دلت الفاء على الترتيب باتصال تمت الدلالة بلا احتياج الى دعوى

عدم القول بالفصل، كما صنع المحقق الثاني على ما حكى عنه، لكن في دلالتها عليه تأمل، نعم لا إشكال في دلالتها على الترتب و التعقب و هي غير كافية.

فالأولى الاستدلال على المطلوب بلفظة «منه» فان «من» على ما تقدم ابتدائية لا تبعيضية، فالمعنى: فامسحوا بوجوهكم و أيديكم مبتدأ من الصعيد، و منتهيا الى الوجوه و الأيدي، و التمسح من الصعيد بهذا المعنى لا يصدق عرفا الا مع حفظ العلاقة بين الضرب على الأرض و المسح منها على الوجه و اليدين.

الا ترى انه لو قيل لمريض: تمسح من الضرائح المقدسة تبركا، لا ينقدح في ذهن العقلاء منه الا مع حفظ العلقة بين المسح عليها و المسح على موضوع العلة، فلو مسحها بيده ثم انصرف و ذهب الى حوائجه، ثم مسح يده على الموضع بعد سلب العلاقة العرفية، لم يعمل بقوله تمسح منها، لانه لا يكون إلا بعلاقة خاصة مقطوعة بالفصل المعتد به، كما ربما تقطع بغيره كما لو ضرب يده على الأرض فغسلها، فان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 144

الظاهر سلب العلاقة و عدم صدق التمسح منها، لا لاعتبار العلوق بل لاعتبار العلاقة الخاصة العرفية.

نعم لو قلنا بان المراد من قوله فامسحوا منه فامسحوا ببعضه أو أراد به العلوق و الأثر من الأرض لما تم الاستدلال لصدقه مع بقاء أجزاء الأرض على اليد أو أثرها عليها، لكنه خلاف التحقيق كما مر و سيأتي بعض الكلام فيه، و مما ذكرنا يظهر صحة التمسك للمطلوب ببعض الاخبار، كصحيح الحلبي «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا لم يجد الرجل طهورا و كان جنبا فليمسح من الأرض» «1» و نظيرها صحيح ابن

سنان «2» لعدم صدق المسح منها لو قطعت العلاقة، بعد ظهور «من» في الابتدائية كما تقدم حكايته عن أئمة الأدب.

و لو قيل: لا تدل الابتدائية الا على لزوم كون ضرب اليد مبتدأ من الأرض و منتهيا الى الوجه، و اما اعتبار العلقة فلا، ألا ترى ان المسافر إذا سافر من بلده الى مكة المعظمة مع اشتغاله بين الطريق بأمور كثيرة بل مع تعطله عن السير في بعض البلاد التي بين الطريق، يقال سافر من بلده لي مكة من غير لزوم العلاقة.

يقال: مع ان القياس لعله مع الفارق كما يظهر من التأمل في مثل تمسح من التربة أو من الضرائح المقدسة و الأشباه و النظائر، ان ما ذكر من النقض حاله حال المقام، لانه لو فرض التعطل عنه بين الطريق بمقدار انقطعت العلقة بين قطعات سفره عرفا يخرج من صدق منه و اليه، لكن في مورد النقض و نظائره تعارف لكيفية طي الطريق و الإقامة في بعض البلاد للزيارة أو لسائر الحوائج، لا يوجب التلبس بها لأجله سلب العلقة.

فلو فرض خروجه عن التعارف كما لو سافر من بلده الى الحج فأقام في النجف الأشرف مدة لتحصيل العلم أو غيره بحيث سلبت العلاقة بين قطعات أسفاره، لخرج عن الصدق أيضا، فالعلاقة معتبرة و المقامات متفاوتة، و في المقام تنقطع

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 4- 7

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 4- 7

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 145

العلاقة بفصل معتد به، و بهذا ظهر الميزان في الموالاة فإنها عبارة عن بقاء تلك العلاقة العرفية و هي محفوظة مع عدم الفصل المعتد به عرفا بين الضرب و بين المسحات، و

اما التقدير بمقدار الجفاف في الوضوء أو بمقدار سلب الاسم فلا دليل عليه، نعم مع سلب الاسم عرفا لا تبقى العلاقة المذكورة، و ظهر أيضا لزوم الموالاة سواء قلنا بان الضرب على الأرض شرط أو جزء أو لا ذا و لا ذاك، بل هو مثل الاغتراف، فان التمسح من الأرض معتبر بلا اشكال و هو لا يصدق الا مع حفظ العلاقة، و عدم الفصل بين الضرب و المسح، و اما الاغتراف من الماء فلا يعتبر فيه شي ء، لأن الوضوء غسل الوجه بالماء، و هو يحصل و لو بقي الماء في كفه أربعين سنة، كما لو قلنا ان المعتبر في التيمم المسح ببعض الأرض أو بأثرها و الضرب مقدمة لذلك، لما كان يلزم حفظ العلاقة بل المعتبر صدق المسح ببعضها أو أثرها و هو صادق و لو بقيا ما بقيا.

فتأمل في أطراف ما ذكرنا و الموارد التي نظيره في العرف، و تدبر في الارتكازات العرفية حتى يتضح لك الحال و لا تحتاج الى التكلف بما ارتكبه بعض المحققين في إقامة الدليل عليه، مع ما ترى من تردده في صحة مقالته فيقدم رجلا و يؤخر أخرى.

الخامس هل يعتبر في التيمم ضرب اليدين على الأرض

اشارة

أو يعتبر وضعهما بناء على مباينته للضرب، أو يكفي مطلق التمسح عليها وضعا أو ضربا، أو لا يعتبر شي ء من ذلك، بل المعتبر وصول اثر الصعيد على الوجه و الكفين، فيكفي تعريضهما على الهواء المغبر ليصل إليهما، أو يعتبر المسح باليدين لكن لا يعتبر وضعهما أو ضربهما على الأرض، بل يكفى تأثرهما منها و لو بوضعها عليهما، أو استقبالهما للعواصف حتى تتاثرا كما حكى عن العلامة، لكن عن بعض تكذيبه و نسبة الحكاية إلى الغفلة، أو يعتبر الضرب أو الوضع على

الأرض لكن لا يعتبر ماسح خاص، بل يجزى بكل آلة يدا كانت أو غيرها و لو لا مخالفة الأصحاب و السيرة المستمرة المتقدمة لكان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 146

للاحتمال الأخير وجه معتد به.

توضيحه: ان الظاهر من الآية الكريمة، انه مع عدم وجدان الماء يقوم التراب مقامه، لكن مع تبديل الغسل ببعض المسح فقوله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» اى اقصدوا و نحوا نحوه لتمسح الوجوه و الأيدي منه، فلا ينقدح في ذهن العرف منه، الا ان التمسح من الصعيد على الوجه و الأيدي تمام الموضوع و تمام حقيقة التيمم، و ان قصد الصعيد و الذهاب اليه انما هو لأجل التوصل الى هذا المقصود.

الا ترى انه لو قال: اذهب الى الماء و خذ غرفة منه فاغسل وجهك به، لا ينقدح في الذهن دخالة الذهاب و الاغتراف فيه، و يرى العرف و العقلاء ان ذكر الغرفة كذكر التراب لمحض التوصل الى غسل الوجه و المقام أولى به منه، لأن الأمر بالتيمم من الصعيد عقيب الأمر بغسل الوجه و الأيدي في الوضوء الذي يطلب فيه صرف غسلهما من غير دخالة للآلة يجعل الذيل ظاهرا، بل كالنص في ان منزلة التراب منزلة الماء، و ان المقصود حصول المسح من الصعيد، محل الغسل بأية آلة حصل، و عدم ذكر الإله مع كونها في مقام البيان يؤكد ما ذكرناه.

و تشهد به صحيحة زرارة المفسرة لها قال فيها: «فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا لانه قال بوجوهكم ثم وصل بها و أيديكم» فإنها ظاهرة في ان التصرف انما هو في إثبات المسح موضع الغسل، فكما ان الغسل لا يعتبر فيه آلة خاصة

كذلك ما أثبت محله.

فتحصل من ذلك ان الظاهر من الآية ان اللازم فيه هو التمسح من الصعيد على الوجه و الأيدي، و هو لا يحصل الا مع التوصل و التمسح على الصعيد و منه إليهما، و هو صادق بأية آلة كالغسل بالماء، فإذا علم ذلك لا بد من رفع اليد عنه من دليل صالح، و الأدلة الواردة في التيممات البيانية و غيرها تشكل صلاحيتها لذلك، فان وزانها وزان ما وردت في الوضوءات البيانية مما اشتملت على الأخذ بالغرفة و باليمين، حيث لا يفهم منها الا صرف الألية من غير دخالة في تحصيل الغسل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 147

و بهذا يظهر الخدشة في دلالة مثل قوله: «تضرب بكفيك الأرض» فإنه مع كون اليد آلة للمسح لا يفهم العرف منها الخصوصية، كقوله: «يجزيك من الوضوء ثلث غرفات واحدة للوجه و اثنتان للذراعين» فكما لا يفهم منه اعتبار الاغتراف، و لا ينقدح في الذهن الا صرف آليتها، و لا يصلح لتقييد إطلاق الآية، كذلك حال الضرب بالكفين و ليست المدعى إلغاء الخصوصية حتى يقال لا طريق للعرف إليه في مثل هذا الحكم التعبدي، بل المدعى عدم إمكان رفع اليد عن ظهور الآية بمثله، مع عدم الانقداح في الذهن من ضرب اليد و الكف إلا الألية، فلا يحرز من مثله القيدية حتى يقيد به الإطلاق كما لا تحرز من الوضوءات البيانية.

و لعمري ان هذا الوجه وجيه لو لا الجهات الخارجية من مفروغية الحكم لدى الأصحاب و معهودية التيمم بين المتشرعة بحيث ما ذكرناه يعد كالشبهة في مقابل البديهة، و لهذا ترى انه مع كمال المناسبة بين البابين لم يتفوه أحد بذلك و هو كاف

في بطلانه.

و اما بعض الاحتمالات المتقدمة كالمنسوب إلى العلامة و ما قبله فهو مخالف لظاهر الآية و جميع الأدلة فلا داعي للتعرض له، بقي الكلام في ان المعتبر هو ضرب اليدين أو وضعهما بناء على مباينتهما أو لا يعتبر شي ء منهما بل المعتبر هو شي ء أعم أي مطلق المماسة و لو مسحا؟ مقتضى إطلاق الآية عدم اعتبار شي ء إلا كون المسح من الأرض أي مبتدئا منها، و قد قيدت بالإجماع بل الضرورة بلزوم كون الإله اليد، و بقي إطلاقها بالنسبة إلى الوضع و الضرب بحاله، بل بمناسبة كون الصعيد قائما مقام الماء عند فقده و الارتكاز المتقدم ذكره يتقوى إطلاقها، و يشكل رفع اليد عنه بمثل قوله: «تضرب بكفيك الأرض» في مقام بيان كيفية التيمم، و لو مع الغض عن الروايات المشتملة على الوضع لعدم فهم القيدية منه، بل لا ينقدح في ذهن العرف الا ان الضرب للتوصل الى التمسح من الأرض خصوصا من مثل قوله في صحيحة الكندي «التيمم ضربة للوجه و ضربة للكفين» «1» الظاهر

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 3

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 148

في ان الضرب لصرف التمسح للوجه و لا موضوعية له، و بالجملة لا يحرز من مثله القيدية و لو مع قطع النظر عن سائر الروايات.

ثم ان الروايات التي في الباب منها ما هي مشتملة على حكاية عمار بن ياسر كصحيحة زرارة «قال قال أبو جعفر عليه السّلام: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ذات يوم لعمار» الى أن قال «فقال: كذلك يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد» إلخ «1».

و الظاهر منها

ظهورا كاد أن يكون كالنص ان قوله: «ثم أهوى» من تتمة كلام أبى جعفر عليه السّلام اى أهوى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و الحاكي له أبو جعفر عليه السّلام، فلا يأتي فيه احتمال الاشتباه الا من الرواة في نقل القول و هو مدفوع بالأصل، و ظاهرها كفاية الوضع و لو لم يشتمل على خصوصية زائدة و هي الدفع و اللطم، إذ لو كانت دخيلة في ذلك لما أهملها أبو جعفر عليه السّلام في مقام بيان الحكاية لتعليم الحكم، نعم في موثقة زرارة عنه بعد حكاية القضية «فقال هكذا يصنع الحمار، و انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فضرب بيديه على الأرض» «2» إلخ و ظاهرها أيضا ان قوله: «فضرب» من كلام أبي جعفر عليه السّلام حكاية عن فعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و ان احتمال ان كان العمل من أبي جعفر عليه السّلام فيها غير بعيد، و لا يبعد ان يكون وجه اختلاف الحكاية على فرض كونها منه عليه السّلام أو العمل و الحكاية على فرض آخر، ان واقع فعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله هو الضرب، لكن لما كان العنوان المفيد للأمر الزائد عن حقيقة الوضع غير دخيل في صحة التيمم و كان متقوما بمطلق الوضع كيف كان، ذكره أبو جعفر عليه السّلام لإفادة عدم دخالة شي ء غيره.

و لما كان الضرب وضعا أيضا مع قيد، لا يكون النقل خلاف الواقع، كما لو كان مجي ء إنسان موضوعا لحكم فجاء زيد مثلا، فيصح ان يقال: جاء زيد و ان يقال:

جاء إنسان، و بالجملة حكى أبو جعفر عليه السّلام تارة واقع القضية مع بعض الخصوصيات

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم،

ب 11، ح 8- 9.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 8- 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 149

غير الدخيلة في صحة التيمم و كيفيته كقوله عليه السّلام: «أهوى بيديه إلى الأرض» و كقوله «ضرب بيديه» و اخرى ما هو دخيل في الحكم كقوله: «وضع يديه» افادة لعدم دخالة الخصوصية الزائدة و ليس هذا من قبيل المطلق و المقيد، بل هو حكاية قضية شخصية لا بد في ترك القيد الزائد الذي اشتملت عليه من نكتة. و المحتمل ان تكون ما ذكرناها و منها: ما اشتملت على بيان كيفية التيمم عملا، كرواية الخزاز الصحيحة على الأصح «عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن التيمم؟ فقال: ان عمارا» الى أن قال:

«فقلت له: كيف التيمم؟ فوضع يده على المسح» «1» و صحيحة داود بن النعمان: «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن التيمم؟ فقال:

ان عمارا» الى أن قال: «فقلنا له: فكيف التيمم؟ فوضع يده على الأرض» إلخ «2».

و صحيحة زرارة «قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: و ذكر التيمم و ما صنع عمار فوضع أبو جعفر عليه السّلام كفيه على الأرض» إلخ «3» و موثقة سماعة أو صحيحته «قال: سألته كيف التيمم؟ فوضع يده على الأرض» إلخ «4» و احتمال الاشتباه من الرواة في حكاية الفعل لا يعتنى به، سيما مع تعددهم و تكرر الرواية و كونهم من قبيل زرارة و الخزاز و سماعة، فدار الأمر بين تقييد الإطلاقات كتابا و أخبارا و رفع اليد عن صحيحة زرارة المتقدمة الحاكية لفعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بلفظ أبى جعفر عليه السّلام إذ عمل الإطلاق و التقييد غير وجيه بعد

الحكاية عن الفعل الشخصي تاركا لما هو دخيل في الحكم فرضا، و ان فهم من حكايته حكم كلى، و بين رفع اليد عن قيدية الضرب الوارد في الاخبار الكثيرة، و الأهون في المقام مع الخصوصيات المتقدمة هو الثاني، سيما مع كون المطلق و المقيد مثبتين، و الحمل في مثله متوقف على إحراز وحدة المطلوب و هو مع ما تقدم مشكل.

مضافا الى ان المقام ليس من قبيل المطلق و المقيد، فان المتفاهم العرفي من

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 2، 4، 5.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 2، 4، 5.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 2، 4، 5.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 13، ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 150

قوله: «وضع يده على الأرض» في مقام تعليم التيمم، و بيان كيفيته انه كان وضعها بلا دفع و اعتماد، و الا كان على الرواة عدم إهماله، و الحمل على الغفلة قد مرّ ما فيه، فيظهر ان مقتضى هذه الروايات ان عمل المعصوم في مقام التعليم كان وضعا لا ضربا، و معه كيف يمكن عمل المطلق و المقيد.

فلا محيص عن الالتزام اما برفع اليد عن الروايات الصحيحة التي هي في مقام البيان و هو كما ترى. و اما البناء على ان للتيمم كيفيتين إحديهما وضع اليد، و ثانيتهما ضربها، و اما البناء على ان المعتبر فيه ليس الا لمس الأرض وضعا أو ضربا بل أو مسحا أخذا بإطلاق الآية و جمعا بين الروايات، و هو أهون لكونه جمعا عقلائيا بين جميع الروايات.

نعم لا يبعد الالتزام برجحان الضرب أخذا بظواهر ما دلت على الضرب و اشتملت على الأمر به.

هذا كله

إذا قلنا بعدم مباينة الضرب و الوضع، و اما لو قلنا بمباينتهما فيقع التعارض بين صحيحة زرارة و موثقته الحاكيتين عن أبى جعفر عليه السّلام نقل فعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، حيث عبر في الأولى بالوضع و في الثانية بالضرب، و هو لا يوجب رفع اليد عن سائر الروايات الحاكية لفعل أبى عبد اللّٰه و أبى جعفر عليهما السّلام في مقام تعليم التيمم بعد السؤال عن كيفيته، فالأخذ بجميع الروايات و الالتزام بان للتيمم كيفيتين، و حمل ما اشتملت على الأمر بالضرب على الرجحان أولى و أهون من طرح الطائفة المقابلة مع صحة سندها، بل هو من قبيل حمل الظاهر على النص لان اخبار الضرب ظاهر في تعينه، و اخبار الوضع نص في الاجتزاء به مع موافقتها لإطلاق الكتاب.

و اما الشهرة المنقولة في المقام فليست من الشهرات المعتد بها، لان المسألة اجتهادية تراكمت فيها الأدلة، هذا مع ذهاب جملة من الأساطين إلى الاجتزاء بالوضع صريحا أو ظاهرا، كالشيخ في محكي المبسوط و النهاية، و المحقق في الشرائع، و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 151

الشهيد في محكي الذكرى، و عن جامع المقاصد و حاشية الإرشاد، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بعد اشتمال أكثر الروايات على الضرب و نقل الشهرة، و احتمال كون مراد بعض من عبر بالوضع الضرب منه. و تعارف الضرب بين المتشرعة و اللّٰه العالم.

تنبيه ظاهر الكتاب و السنة ان الضرب أو الوضع شرط لحصول المسح

من الأرض لا جزء للتيمم، فان قوله تعالى «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» متفرعا عليه قوله «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ» ظاهر في ان قصد الصعيد ضربا أو وضعا لأجل المسح و التوصل اليه، و لو لا الإجماع و التسلم بينهم لقلنا بعدم

مدخلية الإله الخاصة أيضا، لكن بعد القول باعتبارها لا ريب ان الظاهر منها ان الضرب لأجل المسح بالوجوه و الأيدي، كما هو الظاهر أيضا من مثل قوله: «التيمم ضربة للوجه و ضربة للكفين» و قوله: «مرتين مرتين للوجه و اليدين» و هذا ينافي الجزئية، و لا دليل على اعتبار الجزئية زائدا على اعتبار الشرطية، بأن يكون جزءا بالنسبة إلى المجموع و شرطا لسائر الاجزاء و قوله: «تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك» لا يدل على الجزئية لو لم نقل بدلالتها على الشرطية خصوصا مع كون جميع الروايات كالتفسير للاية الكريمة.

فتوهم كون التيممات البيانية و كذا أشباه الرواية المتقدمة في مقام بيان ماهية التيمم و الاجزاء المقومة لها غير وجيه جدا، لان الظاهر انهم عليهم السلام بصدد بيان كيفية التيمم الصحيح من غير نظر الى ما يعتبر فيه شرطا أو جزءا، لو لم نقل بظهور بعضها كالرواية المتقدمة في الشرطية، فالأظهر هو الشرطية، و اما الثمرة بين القولين فغير ظاهرة، نعم لو قلنا بان دليل اعتبار الموالاة فيه هو ظهور الأوامر المتعلقة بالمركبات في إتيان اجزائها متوالية و مرتبطة كما استدلوا به له، يكون اعتبار الموالاة بين الضرب و المسح على الجزئية، و عدم اعتباره على الشرطية ثمرة بينهما، لأن غاية ما يمكن دعواه هو ظهورها في الموالاة بين الاجزاء لا بين الشرائط و الاجزاء أيضا كما لا يخفى، لكن قد عرفت ان وجه اعتباره غير ذلك، و مع ما ذكرناه لا تكون هذه ثمرة فراجع.

و يمكن ان يقال: انه على الشرطية لا دليل على لزوم قصد التقرب و التعبد به،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 152

بخلافه

على الجزئية لأن المتيقن من الإجماع على عبادية التيمم عبادية ماهيته، لا الأعم منها و من شرائطه، الا ان يقال مقتضى ارتكاز المتشرعة عبادية الضرب أيضا، و قد يقال في بيان الثمرة أمر ان آخر ان و هو غير سديد.

السادس لا اشكال نصا و فتوى في اعتبار كون الضرب بكلتا يديه

فلو ضرب بإحديهما بطل بل يمكن استفادته من الكتاب العزيز فضلا عن الاخبار الناصة به، و اما اعتبار الدفعة فغير ظاهر، بل مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبارها، اما إطلاق الكتاب فظاهر، و اما إلا أخبار فلان الظاهر من قوله: «تضرب بكفيك» ليس الا اعتبار الضرب بهما، و انه تمام الموضوع للحكم، و اما الدفعة فأمر آخر غير ضربهما لا بد في اعتباره من بيان و تقييد مفقود في المقام، فمقتضى إطلاق مثله هو عدم الاعتبار.

و توهم دلالة الأدلة عليه انصرافا أو اشعارا كل واحد من الاخبار و بعد ضم بعضها الى بعض يستفاد الحكم غير سديد، نعم لا يبعد أن يكون العمل الخارجي المتعارف بين الناس موجبا لتوهم الانصراف، لكنه غير الانصراف في نفس الأدلة، (و الانصاف) ان رفع اليد عن ظاهر الأدلة و مقتضى إطلاقها مشكل، و ان كان ترك الاحتياط و البناء على عدم الاعتبار بعد كون العمل عليه مشكلا آخر.

ثم انه لا ريب في ان الظاهر من الأدلة و لو انصرافا ان المعتبر ضرب باطن الكفين خصوصا بعد ارتكازية مخالفة الماسح و الممسوح، بل يمكن ان يستدل عليه بعدها بمثل موثقة زرارة «1» «ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى» و قوله في رواية داود «2» «فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما فمسح وجهه و يديه فوق الكف» بعد كونه في مقام بيان كيفية التيمم و لا يمكن إلغاء الخصوصية بعد

ما عرفت من اعتبار الأدلة الخاصة فيه، بل اللازم مراعاة جميع ما يتفاهم من التيممات البيانية و غيرها المحتملة لدخالتها بعد كونها في مقام بيان كيفية التيمم و ما يعتبر فيه، كما لا ريب في جواز التيمم بالتراب و نحوه، و ان لم يكن متصلا بالأرض.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 9.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 153

و يدل عليه مضافا الى السيرة القطعية و قوله: «التراب أحد الطهورين» و ما دل على جواز التيمم بالجص و النورة الصادق كل منهما على المنفصل من الأرض، ان الظاهر عرفا من قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً الى قوله «مِنْهُ» ان ما هو دخيل فيه هو محل الضرب و وقوع اليد، و اما سائر أجزاء الأرض التي لا تقع اليد عليها لإدخاله لها في المسح، و لو نوقش فيه فلا إشكال في أصل الحكم بعد كون التراب أحد الطهورين و قطعية عدم الفصل بينه و بين الحجر و غيره.

ثم ان المعتبر فيه ضرب مجموع باطن الكفين لكون الكف اسما له ظاهرا و بعضه جزء له لا كف على الإطلاق، نعم لو كانت ناقصة يكفى الضرب بها و لا يسقط التيمم بلا إشكال لقاعدة الميسور، و ضرورية عدم سقوط الصلاة بل لا يبعد فهمه من نفس الخطابات المتوجهة إلى المكلفين، كما ذكرناه في الوضوء، و قلنا ان قوله تعالى:

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ ليس مخصوصا بمن كان وجهه و يده سليما فمن قطعت يده من الأصابع و سمع قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ يرى لزوم غسل يده الناقصة إلى المرفق و لا ينقدح في

ذهنه توجه الخطاب الى السالمين.

نعم لو كان القطع من المرفق يكون خارجا منه و في المقام أيضا يرى العرف دخول مقطوع الإصبع تحت الخطاب، و لو قلنا بكون الكف اسما للمجموع، و ذلك لمناسبات مغروسة في الأذهان كما هو كذلك في الخطابات العرفية، بل لا يبعد أن يقال ان الكف كاليد و الرجل صادقة على الكل و البعض لكن ينصرف مثل قوله: «اضرب كفيك» الى ضرب جميعهما و هو يتم مع سلامة الكف، و مع نقصها يصدق انه ضرب كفيه على الأرض حقيقة، فلا إشكال في عدم سقوط التيمم و الصلاة مع نقصان الكف.

و اما لو قطعت كفاه من الزند فقد يقال بلزوم مسح الوجه بالذراعين، و مسح ظاهر كل بباطن الأخرى، و هو بالنسبة إلى مسح الوجه غير بعيد، و ان لا يخلو من شبهة لكن بالنسبة إلى ظاهر كل بباطن الأخرى، و قيامهما مقام الكف بعيد، لعدم شمول

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 154

الخطابات له و هو واضح، و عدم كون مسح الذراعين ميسور مسح الكفين و لو حاول أحد شمول قاعدة الميسور لمثل ذلك لصح له أن يلتزم بلزوم مسح الرجل أو سائر الجسد بدل اليد، إذا قطعت يداه من الأصل، لأن المسح بظاهر الكف ينحل الى المسح، و كونه بظاهر الكف و كونه بالكف و كونه بالجسد، فمع تعسر كل مرتبة يجب قيام الأخرى مقامها و هو كما ترى.

و بالجملة ليست الذراعان مع الكف الا كاجنبى في باب التيمم، و ليس المسح عليهما ميسور مسح الكفين، و الانحلال العقلي غير معول عليه في مثل المقام، بل لزوم مسح الجبهة فقط ممن لم يكن له يد لكونه

ميسور التيمم أيضا لا يخلو من اشكال و الاحتياط لازم على اى حال في مثل الصلاة التي لا تترك بحال مع بعد عدم تكليف مثله بالصلاة التي هي عماد الدين الى آخر عمره، بل ليس المدعى للقطع بعدم ترك مثله سدى بمجازف.

ثم لو تعذر الضرب بباطن الكفين هل يقوم ظاهرهما مقامه بدعوى انه ميسوره و أقرب من غيره أو يقوم باطن الذراعين مقامه فيضرب بباطنهما و يمسح بهما الوجه و ظاهر الكفين أو يتخير بينهما أو يجب الجمع للعلم الإجمالي بحصول التيمم الواجب بإحدى الكيفيتين؟ وجوه. لا يبعد ترجيح الثاني، لأن أصل اعتبار كون الماسح هو اليد و الكفين غير مستفاد من الأدلة اللفظية كما مر، و انما قلنا باعتباره للسيرة و الإجماع و المتيقن منهما اعتباره حال عدم التعذر و في صورة الاختيار، و اما مع التعذر فالأصل و ان اقتضى عدم اعتبار احدى الخصوصيتين لكن المتفاهم من الأدلة كما مرت الإشارة إليه مخالفة الماسح للمم سوح، و ان آلة المسح موصلة لأثر الأرض و لو أثرا اعتباريا الى ما لم يلمس الأرض. و مع القول بالانتقال الى الظاهر لا بد من رفع اليد عن هذا الظاهر.

و بعبارة أخرى يعتبر في التيمم حال الاختيار كون المسح بباطن الكف و مغايرة الإله للممسوح، و في حال التعذر يرفع اليد عن الباطن و تحفظ المغايرة مع حفظ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 155

آلية اليد فيرجح الذراع على الظاهر، لكن ما ذكرناه لا يساعد كلمات القوم ممن تعرض للمسألة و الاحتياط بالجمع لا ينبغي تركه.

ثم انه مع نجاسة الباطن اما أن تكون سارية إلى الأرض لو تيمم أو الى الممسوح دون الأرض، كما

لو جرح العضو بعد الضرب أو لم تكن سارية مطلقا، فعلى الأول قد يقال ان ظاهر الأدلة اعتبار طهارة الصعيد عند ضرب اليد عليه، فإذا صار قذرا بالضرب لا يضر بالتيمم.

و فيه ان ظاهر الآية مع قطع النظر عن صحيحة زرارة اعتبار طهارته عند رفع اليد منه أيضا لمكان «مِنْهُ» فان الظاهر رجوع الضمير الى الصعيد الطيب، فمع ابتدائية «من» كما هي الأرجح يكون المعنى فامسحوا مبتدأ من الصعيد الطيب.

نعم بناء على رجوع الضمير الى التيمم، كما في صحيحة زرارة المفسرة للاية يشكل استفادة ما ذكر منها كما تقدم بعض الكلام فيها، الا ان يقال ان المراد من قوله: «ذلك التيمم» ذلك الضرب الواقع على الصعيد الطيب و مع قذارته بالضرب يخرج من ذلك العنوان، تأمل.

و يمكن استفادة اعتبار طهارة الأرض التي يمسح منها المحال، و كذا اعتبار طهارة المحال الممسوحة إذا فرض سراية نجاسة الكف إليها من الآية الكريمة، و صحيحة زرارة المتقدمة بالتقريب المتقدم مستمدا بارتكاز العرف في اعتبار كل ما يعتبر في الوضوء و الغسل جميعا في التيمم فراجع، و اما مع عدم سرايتها بأن يكون المحل جافا فالظاهر عدم الانتقال الى الظاهر، بل ينتقل الى الذراعين كما مر الكلام فيه.

و اما دعوى ان حفظ الذات أولى من حفظ الوصف، فمع الانتقال الى غير باطن الكف ترك الأصل و الذات حفظا للوصف بخلاف المسح مع الباطن النجس (ففيها) ان أمثال هذه الأمور الاعتبارية و الترجيحات الظنية غير معول عليها في الأحكام التعبدية البعيدة عن العقول، مع ما عرفت من ان اعتبار باطن الكف بل مطلق آلية اليد غير مستفاد من الأدلة لو لا الإجماع و السيرة المفقودان في مثل المقام، و الاحتياط

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 156

في جميع صور الدوران لا ينبغي ان يترك، و ان كانت البراءة في كثير من الموارد محكمة بناء على جريانها في الطهارات الثلث كما هو الأقوى.

السابع هل يعتبر في التيمم العلوق مما ضرب عليه؟

و الكلام فيه يقع في موارد:

منها في اعتبار العلوق بمعنى لزوم مسح المواضع بالتراب و نحوه، و لا اشكال و لا كلام عندنا في عدم اعتباره، و هو الذي ادعى الإجماع عليه، فعن المنتهى لا يجب استعمال التراب عند علمائنا و حكى الإجماع عن غيره أيضا.

و الظاهر ان خلاف بعض المتأخرين ليس في ذلك كما يظهر من استدلالاتهم خصوصا جوابهم عن الروايات الدالة على النفض من عدم المنافاة بينه و بين لزوم العلوق لبقاء الأجزاء الصغيرة الغبارية بعد النفض، فيظهر منهم ان مرادهم بلزوم العلوق لزوم بقاء اثر التراب الذي لا يسمى ترابا.

و كيف كان يدل على عدم اعتباره بعد الإجماع الأدلة الدالة على استحباب النفض أو جوازه ضرورة أنه بعده لا يبقى من نفس الصعيد و الأرض على اليد شي ء و ما بقي عليها أحيانا هو أثرهما الذي لا يسمى ترابا عرفا و لا أرضا، و الآية الكريمة بعد البناء على كون «من» ابتدائية بشهادة صحيحة زرارة التي دلت على رجوع الضمير المجرور الى التيمم لا الصعيد، و كذا الأخبار المتقدمة، ضرورة انه لو كان الجار للتبعيض و المجرور راجعا الى الصعيد لزم منه وجوب حمل الصعيد الى الوجه و الكفين، مع انه بعد النفض لا يبقى بعض الأرض على اليد للوجه فضلا عن الكفين، فإذا لم تكن تبعيضية فلا محالة تكون ابتدائية لضعف الاحتمالات الأخر، فتدل على ان المعتبر في التيمم ان يكون المسح مبتدئا من الأرض

لا بالأرض، فتدل على عدم اعتبار العلوق بالمعنى المتقدم و لا بغيره كما يأتي، فلا ينبغي الإشكال في عدم اعتباره بهذا المعنى.

و منها اعتباره بمعنى لزوم ان يعلق على اليد من أجزاء الأرض و لو سقطت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 157

بالنفض بل و لو لم يبق أثرها، و لا ينبغي الإشكال في عدم اعتباره أيضا، بل هو أضعف من سابقه لا مكان التمسك له بالاية، و الصحيحة المتقدمة بتوهم تبعيضية «من» و بارتكازية بدلية التراب للماء، و ان ظهر ضعفهما مما تقدم حتى الثاني، فإن الارتكاز لا يقاوم الأدلة كتابا و سنة، و أما توهم اعتبار العلوق و كونه واجبا مستقلا لا للتمسح به على الأعضاء فهو خلاف الآية و الروايات جميعا، فان الظاهر منها عدم استقلاليته، بل لو كان معتبرا فلأجل المسح على الأعضاء، و الروايات المشتملة على النفض يظهر منها بمساعدة الارتكاز العرفي، ان النفض لعدم الاحتياج الى ما يعلق من الصعيد على اليد لمسحها و لا اشعار فيها على لزوم العلوق استقلالا من غير لزوم المسح به.

و لهذا ترى ان الروايات المشتملة على الوضع خالية عن ذكر النفض، بخلاف ما تشتمل على الضرب فإنها مشتملة عليه الا نادرا، و الظاهر ان الوجه فيه هو تحقق العلوق بالضرب دون الوضع خصوصا في أراضي الحجاز الغالب عليها الرمل و الأحجار الصغار التي تلصق باليد مع الضرب دون الوضع بلا اعتماد و لا قوة و لا مكث، و بالجملة عدم اعتبار العلوق بهذا المعنى أيضا واضح، و العمدة البحث عن النحو الثالث من العلوق و هو أثر التراب و الأرض و لا يبعد أن يكون ذلك موردا للكلام. و

مختارا لبعض المتأخرين كما مرت الإشارة اليه، و هو أيضا لا يقصر في الضعف عما تقدم فان «من» في الآية الكريمة ان كانت تبعيضية، تنطبق على العلوق بالمعنى الأول، و ان كانت ابتدائية لا تنطبق على العلوق بهذا المعنى أيضا، بل بعد البناء على الابتدائية تدل الآية بإطلاقها على عدم اعتبار العلوق للدلالة على ان تمام الموضوع لتحقق التيمم كون التمسح مبتدأ من الصعيد من غير دخالة شي ء آخر فيه.

و دعوى ان المسح منه على الوجه و الكف و لو بمناسبة الحكم و الموضوع منصرف الى انتقال أثر من الأرض على الأعضاء، (مدفوعة) بان ما هو المرتكز من قيام الصعيد مقام الماء هو قيام نفسه مقامه كما فعل عمار لا قيام أثره، و بعد قيام الدليل على عدم لزوم ذلك، لا مجال لدعوى قيام الأثر، فلا يجوز رفع اليد عن الإطلاق و لا دعوى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 158

الانصراف لأجل الارتكاز.

كما ان دعوى الانصراف أو عدم الإطلاق لأجل غلبة الأراضي في انتقال أثرها على اليد و بقائه بعد النفض، (مدفوعة) بمنع الغلبة الموجبة لعدم الإطلاق فضلا عن الانصراف، سيما في أراضي نزول الوحي و صدور الروايات، و خصوصا مع كون الصعيد مطلق وجه الأرض و بالأخص مع قرب أراضي الحرمين الشريفين من البحر الموجب لنزول الأمطار الغريزة في غالب الفصول فيها مع كيفية أرضهما الخالية عن التراب الموجب لعدم كونها مغبرة و عدم بقاء أثرها بعد النفض غالبا، و معه كيف تسوغ دعوى الغلبة و الانصراف، و كيف يمكن السكوت عنه مع فرض اعتباره، مضافا الى انه لو فرض بقاء أثر ضعيف بعد النفض فلا ريب في انه مع

إمرار اليدين على الوجه يرتفع و ينتقل اليه، فلا يبقى للكفين اثر منها فلا بد للقائل بلزوم العلوق، اما ان يلتزم بلزومه للوجه فقط، أو لزوم المسح ببعض اليد على الوجه بوجه بقي الأثر للكفين، أو لزوم ضرب آخر بعد مسح الوجه، و لا أظن التزامه بالأولين و يأتي الكلام في ضعف الثالث.

الثامن في تحديد الماسح و الممسوح و كيفية المسح،

اما الماسح
اشارة

فيقع البحث فيه من جهات.

[الجهة] الأولى [مسح الجبهة باليدين]

بعد وضوح لزوم كون المسح بما يضرب على الأرض نصا و فتوى هل يعتبر أن يقع مسح الجبهة باليدين كما عن التذكرة انه الأظهر من عبارات الأصحاب، و عن المدارك ان أكثر الأصحاب على كون المسح بباطن الكفين معا، و عن المختلف و الذكرى و كشف اللثام انه المشهور، أو يجتزى بيد واحدة كما عن التذكرة احتماله، و عن المولى الأردبيلي و المحقق الخوانساري اختياره؟ لا يبعد ترجيح ذلك لإطلاق الآية الكريمة و عدم صلوح الأدلة لتقييدها.

و دعوى كونها من المتشابهات التي يجب الرجوع فيها الى تفسير أهل البيت عليهم السلام كدعوى عدم إطلاقها لكونها في مقام أصل التشريع ضعيفة، ضرورة عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 159

إجمال و تشابه فيها، فان الظاهر من قوله: «تيمموا صعيدا» الواقع في ذيل بيان الوضوء و الغسل و انهما بالماء و بقرينة فامسحوا منه هو التلمس بالأرض بالالة المتداولة التي هي باطن الكفين، لعدم إمكان المسح على اليدين بكف واحد فيستفاد منها لزوم مسح بعض الوجه و اليدين من الأرض بالالة.

نعم لو لا الجهات الخارجية لقلنا بعدم لزوم كون اليد آلة كما تقدم فإطلاق الآية محكم ما لم يرد دليل على التقييد، و التقييدات الواردة عليها ليست بحد الاستهجان حتى نلتزم بإهمالها أو بقيام قرائن حالية لم تصل إلينا، و الذي يشهد على عدم إجمال أو إهمال فيها إرجاع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عمارا إليها لرفع خطائه بقوله: «هكذا يصنع الحمار انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» و في رواية إنما قال اللّٰه فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و في أخرى «أ فلا

صنعت كذا ثم تيمم» «1» و تمسك أبي جعفر بها و بخصوصياتها لتعليم زرارة، فلا إشكال في إطلاقها و عدم تشابهها.

نعم الروايات الحاكية لفعلهم لا يكون فيها إطلاق معتد به من هذه الجهة، و اما عدم صلوح شي ء لتقييدها فلان أظهر ما في الباب في ذلك مما يمكن الركون عليه سندا موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في التيمم «قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك» «2» و صحيحة المرادي عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام في التيمم: «قال تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك» «3» بدعوى ظهورهما بل صراحتهما في كون مسح الوجه باليدين.

لكن يمكن إنكار ظهورهما فضلا عن صراحتهما بان يقال: ان محتملات قوله «و تمسح بهما وجهك و يديك» كثيرة بدوا.

(أحدها) ان يكون المراد تمسح بهذه و هذه وجهك و يدك اليمنى و اليسرى جمودا

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 7.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 7.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 160

على ظاهر علامة التثنية من تكرير مدخولها. و ظاهر الضمير الراجع إلى طبيعة اليدين من غير اعتبار الاجتماع في المدخول و المرجع، فإنه يحتاج إلى مئونة زائدة، و لازم هذا الاحتمال لزوم مسح كل يد جميع الجبهة أو هي مع الجبينين، و كذا مسح كل من اليدين الماسحين كل واحد من الممسوحين و هو غير ممكن في الثاني، و لم يلتزموا به في الأول فهذا الاحتمال مدفوع لذلك.

(ثانيها) ان يكون المراد تمسح بمجموعهما وجهك و كل واحد من يديك، و لازمة لزوم مسح

كل من اليدين بمجموعهما و هو أيضا مدفوع لامتناعه.

(ثالثها) ان يكون المراد تمسح بمجموعهما وجهك و مجموع اليدين، و لازم ذلك ما هو المشهور.

(رابعها) تمسح بمجموعهما مجموع الوجه و اليدين اى بمجموع هذين مجموع الثلاثة، و لازم ذلك جواز مسح الوجه بيد واحدة كما اختاره المحققان المتقدمان، و لا ترجيح لأحد الأخيرين لو لم نقل بترجيح ثانيهما لأجل ارتكاز العرف بان المسح لإيصال أثر الأرض و لو أثرها الاعتباري إلى الوجه من غير دخالة مجموع اليدين في ذلك، و ضرب اليدين انما هو لتحصيل المسحات الثلاث لا لمسح الوجه بهما.

و بالجملة مع محفوفية الكلام بالقرينة العقلية و رفع اليد عن الظاهر الاولى لا يبقى ظهور في الاحتمال الثالث.

و دعوى ان الظاهر منها هو المسح بهما مطلقا، و قيام القرينة العقلية موجب لرفع اليد عنه بالنسبة إلى اليدين دون الوجه (مدفوعة) بأن الظاهر منها هو المسح بكل واحد منهما جميع الممسوح، و هو مخالف لإطلاق الكتاب و الفتوى و العقل، و مع رفع اليد عنه و دوران الأمر بين أحد الأخيرين فالترجيح مع ثانيهما، فيوافق إطلاق الآية و مع تساويهما أو الترجيح الظني لاولهما لا يترك الإطلاق حتى على الثاني، لعدم ظهور معتد به، و عدم كون الظن مستندا الى اللفظ و ظهوره حتى يكون حجة.

نعم ظاهر رواية الكاهلي «قال: سألته عن التيمم؟ فضرب على البساط فمسح بهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 161

وجهه ثم مسح كفيه إحديهما على ظهر الأخرى» «1» هو مسح الوجه باليدين لكنها مع ضعفها سندا و إضمارها لا تصلح لتقييد الكتاب، و لا يعلم استناد المشهور إليها، و مجرد مطابقة فتواهم لرواية لا يجبر ضعفها، و

كون الناقل منه صفوان بن يحيى و صحة السند اليه غير مفيد، لعدم ثبوت انه لا يروى إلا عن ثقة و ان قال به الشيخ في محكي العدة، و الإجماع على تصحيح ما يصح عنه على فرض ثبوته لم يتضح إثبات ما راموا منه و التفصيل موكول الى محله.

و اما صحيحة محمد بن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عن التيمم؟ فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بهما وجهه ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها و واحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الأرض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه، ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل و في الوضوء الوجه و اليدين الى المرفقين» إلخ «2».

فلا يتكل عليها لتقييد الكتاب بعد اشتمالها على عدة أحكام مخالفة للمذهب، و التفكيك في الحجية في مثلها غير جائز، بعد عدم الدليل على حجية خبر الثقة الأبناء العقلاء الممضى، و لا ريب في عدم ثبوت بنائهم على العمل بما اشتملت على عدة أحكام مخالفة للواقع لو لم نقل بثبوت عدمه.

نعم هنا روايات لا يبعد دعوى ظهورها في المطلوب كصحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام حكاية لقضية عمار بن ياسر، و فيها: «ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينيه بأصابعه و كفيه إحديهما بالأخرى ثم لم يعد ذلك» «3» فان الظاهر من مسح جبينيه بأصابعه المسح بجميعها سيما بعد قوله «فوضعهما على الصعيد»

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 1.

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 12، ح 5.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 162

و موثقته عن

أبى جعفر عليه السّلام قال في ذيل حكاية قضية عمار: «فضرب بيديه على الأرض ثم ضرب إحديهما على الأخرى ثم مسح بجبينيه ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى» «1».

فإن الظاهر منها ان المسح وقع بعين ما ضرب على الأرض للمسح لا بإحدى يديه ضرورة انه لو ضرب بيدين و مسح بإحديهما على جبينيه لقال في مقام الحكاية فمسح بواحدة منهما لكون الضرب بهما و المسح بإحديهما مخالفا للمتعارف، و معه كان عليه حكايته، و مع عدم الذكر ينصرف الى المتعارف و هو المسح بما ضرب، الا ترى عدم احتمال كون المسح بغير اليدين مع عدم حكاية كونه بهما، و ليس ذلك الا للانصراف و الظهور في كونه بما وقع على الأرض.

و هذا نظير ان يقال أخذ الماء بغرفتيه، فغسل وجهه حيث يكون ظاهرا في صب ما في الغرفتين على وجهه و غسله بهما، و من هنا يمكن الاستدلال عليه ببعض روايات أخر، لكن يمكن المناقشة في صلوح مثل تلك الروايات لتقييد الآية الكريمة، فإن مجرد ظهورها في كون المسح باليدين و لو في مقام بيان الحكم و التعليم لا يكفي في التقييد إلا إذا دلت على التعيين و العمل الخارجي الذي لا يمكن أن يقع الا على وجه واحد و كيفية واحدة لا يكون ظاهرا فيه، و دالا على ان للتيمم كيفية واحدة، و ان تمام حقيقته كذلك، و معه لا يمكن تقييد المطلق الموافق له به.

و بعبارة اخرى ان المطلق و المقيد المثبتين غير متنافيين، إلا إذا أحرزت وحدة المطلوب و الكيفية و هي غير محرزة في المقام. و لعله الى ما ذكرنا يرجع ما عن المحقق الخوانسارى (ره) حيث قال: كما

يجوز حمل المطلق على المقيد يجوز القول بكفاية المطلق و حمل المقيد على انه أحد أفراد الواجب «انتهى».

الا ان يقال ان الظاهر من صحيحة داود بن النعمان «2» هو السؤال عن

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح- 3.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 163

كيفية التيمم فعمل أبى عبد اللّٰه عليه السّلام في مقام جواب سؤاله عن الكيفية ظاهر في ان ما فعل هو الكيفية الفريدة، و تمام ماهية التيمم. فلو كان المسح بيد واحدة مجزيا لفعله في مقام بيان نفس الماهية لعدم دخالة ضم الأخرى في تحققها، و الظاهر منها مسح الوجه باليدين بالتقريب المتقدم، بل لا يبعد أظهريتها في ذلك مما تقدم لقوله:

«ثم رفعهما فمسح وجهه و يديه» و لا يخفى انه فرق بين هذه الصحيحة التي ندعي ظهورها في كون المسح بيدين و بين صحيحة المرادي، و رواية زرارة المتقدمة حيث منعنا ظهورهما فيه كما مر، لان الظهور المدعى في هذه الصحيحة لأجل حكاية الفعل كما تقدم وجهه فتدبر، بل الظاهر منها و من صحيحة الخزاز ان ما صنع أبو عبد اللّٰه عليه السّلام موافق لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في مقام تعليم عمار، و بعد ضم ذلك الى رواية الكاهلي التي شهد شيخ الطائفة (ره) بوثاقته لرواية صفوان عنه، و قيام الإجماع المنقول على تصحيح ما يصح عنه، و هما و ان كانا موردين للمناقشة كما مر، لكن يوجبان ظنا معتدا به، فإذا ضم ذلك الى مرسلة العياشي عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «1» و فيها «ثم مسح يديه بجبينيه» و الى رواية فقه الرضا

«2» و الى صحيحة زرارة و موثقته «3» الحاكيتين لفعل رسول اللّٰه الظاهرتين في مسحه باليدين يتم المطلوب، و هو تعينه في كيفية واحدة.

و الانصاف أن الراجع الى الروايات يطمئن بان له كيفية واحدة، هي ما قال به المشهور، بل قيام السيرة القطعية المتصلة إلى زمان الأئمة من أقوى الشواهد على كونه بهذه الكيفية المعهودة، فيتقيد بها الآية الشريفة فلا ينبغي التأمل فيه.

الجهة الثانية [المسح باليدين دفعة]

مقتضى إطلاق الآية و بعض الروايات كصحيحة المرادي و رواية زرارة المتقدمتين عدم اعتبار المسح بهما دفعة فيجوز تدريجا، و اشعار الروايات الحاكية

______________________________

(1) مرت في صفحة 139.

(2) مرت في صفحة 142.

(3) مرتا في صفحة 161 و 162.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 164

لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و أبي جعفر و أبى عبد اللّٰه عليهما السّلام أو دلالتها على ان عملهم كان بنحو الدفعة، لا يظهر منها التعيين للفرق الظاهر بين الإتيان باليدين الظاهر في الدخالة و بين الإتيان دفعة، لانه لو كان مجزيا باليد الواحدة لكان ضم اليد الأخرى إليها بلا وجه، لعدم تعارف ضم ما ليس بدخيل الى ما هو الدخيل بخلاف الدفعة، فإنها متعارفة بعد لزوم كون المسح باليدين، و التعارف يوجب عدم الظهور في التعيين كما ان السيرة على الدفعة لا تكشف الا صحته كذلك، و اما بطلان غيره فلا كما لا يخفى و هذا بخلاف السيرة على المسح باليدين فإنها كاشفة عن دخالة اليد، و ذلك لما مر من عدم تعارف ضم ما ليس بدخيل فلا تغفل لكن الاحتياط لا ينبغي تركه.

الجهة الثالثة الظاهر عدم اعتبار كون المسح بجميع الكف

لإطلاق الآية، و ظهور الأدلة في ان ضرب اليد على الأرض انما هو لإيصال أثرها و لو اعتبارا الى الممسوح و ليس للكفين إلا سمة الألية للمسح منها، فإذا حصل ببعض الكف سقط التكليف و بعبارة اخرى ان المسح منها الذي هو الواجب الأصيل يحصل بتحقق صرف الوجود من المسح، و يتحقق ذلك بأول مرتبة الإمرار، و الزائد يحتاج الى دليل، و لا دليل عليه الا توهم ظهور الأدلة في وجوب الضرب بجميع الكف، و لما كان ذلك للمسح لا

بد من كونه بجميعها.

و فيه ان تقليب ذلك الدليل أولى بحسب ارتكاز العرف بان يقال: ان الضرب لما كان للمسح و هو يحصل ببعض الكف، فهو دليل على عدم لزوم الضرب بجميعها، و الأولوية لأجل ان المطلوب الأصلي هو المنظور فيه، و التبعي منظور لأجله، و بعد اقتضاء الدليل كون الضرب للمسح الحاصل بأول وجود الإمرار لا ينقدح في ذهن العرف توسعة ذي الإله بل ينقدح فيه تضييق الإله.

هذا مع ان ظاهر الأدلة انصرافا هو المسح بوضع طول الماسح على عرض الممسوح في الكف، و هو أزيد منه بمقدار معتد به، بحيث يرى العرف زيادته عليه، و كذا يزيد عرض اليدين عن الجبهة و الجبينين، و مع لزوم الاستيعاب كان اللازم التنبيه عليه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 165

و عدمه دليل على عدم لزومه، هذا مع الغض عن صحيحة زرارة و الا فهي صريحة في جوازه، فالأقوى عدم لزوم الاستيعاب و ان كان الأحوط خلافه.

و من بعض ما ذكرناه يعلم كفاية مسح مجموع الممسوح بمجموع الماسح توزيعا، فلا يجب المسح بكل من اليدين على تمام الممسوح.

و اما الممسوح
اشارة

فيقع البحث فيه من جهات:

الاولى في تحديد الوجه
اشارة

و الكلام يقع فيه في مقامين:

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 2، ص: 165

(الأول) [مسح بعض الوجه]

في مقتضى الأدلة مع قطع النظر عن فتوى الأصحاب فنقول: ان مقتضى إطلاق الآية جواز مسح بعض الوجه اىّ بعض كان، بعد كون الباء تبعيضية، اما لقول السيد المرتضى ان الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل الى المفعول لا بد له من فائدة، و الا كان عبثا و لا فائدة بعد ارتفاع التعدية به الا التبعيض، و هو من أهل الخبرة في صناعة الأدب تأمل، و اما لصحيحة زرارة المفسرة للاية عن أبى جعفر عليه السّلام «1» و استدل عليه السلام لتبعيض المسح في الوضوء و التيمم بالباء و اما الروايات فعلى طوائف: منها و هي الأكثر ما اشتملت على عنوان الوجه، و منها على الجبينين، و منها على الجبين مفردة، و في نسخة اخرى أو رواية أخرى بدل الجبين الجبهة، و بعضها و هي رواية زرارة عن تفسير العياشي على المسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، و في رواية فقه الرضا ذكر موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف، و روى فيه مسح الوجه من فوق الحاجبين و بقي ما بقي.

و يمكن الجمع بينها بالأخذ بإطلاق الآية و حمل الروايات على اختلافها على التخيير بين أعضاء الوجه، بدعوى عدم استفادة التعيين منها بعد ذلك الاختلاف، و حمل اخبار الوجه على الفضل في الاستيعاب، و فيه ما يخفى لان الالتزام بجواز مسح العارض أو الذقن بعد كونه مخالفا لجميع الروايات في غاية الإشكال، بل غير ممكن و ان

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم،

ب 13، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 166

يظهر من محكي المعتبر التخيير بين استيعاب الوجه و مسح بعضه بشرط عدم الاقتصار على أقل من الجبهة، و ظاهره جواز المسح على العارض مثلا إذا لم يقتصر على أقل منها مساحة.

و هو أسوأ من الجمع المتقدم لالتزامه بالتخيير بين الأقل و الأكثر، و هو لو لم يكن ممتنعا فلا أقل من عدم كونه من الجمع المقبول، مضافا الى ان روايات الجبين و الجبهة لو كانت صالحة لتقييد الآية فلا بد من التخيير بينهما و بين الوجه، أو تعين المسح بهما، و الا فلا وجه لعدم جواز الاقتصار على أقل من الجبهة.

و قد يقال بالجمع بين روايات الوجه و الجبينين بحمل الاولى على ارادة المسح في الجملة حملا للمطلق على المقيد، و هو من أهون التصرفات (و فيه) انه بعد تسليم دلالة روايات الوجه على كثرتها على لزوم الاستيعاب يقع التعارض بينها، و بين ما دل على المسح على الجبينين بالتباين.

و الانصاف انه لو سلم دلالة الروايات المتجاوزة عن العشرة و فيها الصحاح و الموثق على لزوم الاستيعاب و كونها في مقام بيان كيفية التيمم لا يتأتى الجمع بينها بما ذكر بل يقع التعارض بينها و بين غيرها، بعد عدم كونها من قبيل المطلق و المقيد. لان نسبة الكل و الجزء ليست من قبيلهما، لكن الشأن في ثبوت دعوى دلالتها عليه فان الناظر بعين التدبر يرى عدم سلامة الا النادرة منها من المناقشة أما سندا أو دلالة أو جهة فها هي الروايات:

اما ما دلت على ان التيمم ضربة للوجه و ضربة لليدين كصحيحة إسماعيل الكندي عن الرضا عليه السّلام «قال: التيمم ضربة

للوجه و ضربة للكفين» «1» و صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما «قال: سألته عن التيمم؟ فقال: مرتين مرتين للوجه و اليدين» «2» و صحيحة زرارة «3» عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قلت له: كيف التيمم؟ فقال: هو ضرب

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 3- 1- 4.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 3- 1- 4.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 12، ح 3- 1- 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 167

واحد للوضوء و الغسل من الجنابة تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما نفضة للوجه و مرة لليدين» فهي في مقام حكم آخر لا يمكن استفادة لزوم الاستيعاب منها كما لا يستفاد لزوم مسح تمام اليد منها، فهي لا تعارض اخبار المسح على الكف، و لا ما دلت على مسح الجبينين كما لا يخفى.

و الظاهر ان صحيحة المرادي من هذا القبيل و اما صحيحة محمد بن مسلم و موثقة سماعة «1» المشتملتان على مسح الذراعين الى المرفق فهما محمولتان على التقية، و استقر المذهب على عدم العمل بهما، و يمكن أن تكون صحيحة المرادي «2» أيضا كذلك و اما موثقة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و يديك» «3».

فمن القريب أن تكون بصدد بيان عدم لزوم نقل التراب الى الوجه، حيث قد يدعي دلالة الآية على لزومه، و يظهر من فتوى الشافعي ان ذلك كان في تلك الأعصار مورد البحث و النظر. فلا تكون ناظرة إلى مقدار مسح الوجه و اليدين، و لذا ذكر فيها اليدان لا الكفان، و لو كانت بصدد بيان كيفية التيمم لم تهمل وظيفة اليد، فالأقرب

ما ذكرنا من كونها بصدد بيان لزوم كون المسح باليد المضروبة على الأرض لا بأجزاء التراب، و لهذا قال فيها: «و تنفضهما و تمسح بهما».

و اما روايتا داود بن النعمان و الخزاز «4» فيحتمل فيهما كون قوله:

«قليلا» قيدا للوجه أيضا، فيكون المراد مسح الوجه قليلا، و فوق الكف قليلا، مع احتمال أن يكون المنظور ضرب اليد على الأرض في مقابل عمل عمار تأمل،

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 13 ح 3 و 12 ح 2 و 5.

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 13 ح 3 و 12 ح 2 و 5.

(3) الوسائل أبواب التيمم ب 11 ح 7- 4- 2.

(4) الوسائل أبواب التيمم ب 11 ح 7- 4- 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 168

و كيف كان مع اشتمالهما لما تصلح للقرينية لا يمكن إثبات الاستيعاب بهما.

و اما رواية الكاهلي «1» فضعيفة و لو قيل بحسنها لكن لا تكون صالحة لمعارضة الصحاح لا سندا و لا دلالة، فبقيت صحيحة واحدة هي صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول و ذكر التيمم و ما صنع عمار فوضع أبو جعفر كفيه على الأرض ثم مسح وجهه و كفيه و لم يمسح الذراعين بشي ء» «2» و هي مع عدم بيان تفصيل القضية فيها حتى يعلم كون أبى جعفر عليه السّلام في مقام بيان أية جهة من جهات التيمم و كون المذكور فيها عمله و يصح لمن يرى مسح يده على جبهته أو جبينه أن يقول مسح يده على وجهه من غير تسامح و تجوز، لا تقاوم الكتاب، إذ لو كان المراد لزوم مسح يده على وجهه من غير تسامح

و تجوز، لا تقاوم الكتاب، إذ لو كان المراد لزوم مسح جميع الوجه تخالفه بالتباين بعد كون الباء للتبعيض، و لا تقاوم الروايات الحاكية لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله الناصة على مسحه بجبينيه، فتكون قرينة على ان ليس المراد بالوجه جميعه لا لتقييد الإطلاق كما قيل، بل لان الوجه يطلق على البعض و التمام بلا مسامحة.

و لا يبعد دعوى الفرق بين «اغسل وجهك» و بين «امسح بيدك وجهك» بأنه يفهم الاستيعاب من الأول دون الثاني فتأمل، و كيف كان لا شبهة في عدم وجوب الاستيعاب في الوجه حتى مع الغض عن فتاوى الأصحاب و مخالفته للكتاب و موافقته للعامة، هذا حال الأخبار المشتملة على الوجه.

و اما سائر الأخبار فالمعتمد منها و هي صحيحة زرارة و موثقته الحاكيتان لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله تعليما لعمار عن أبى جعفر عليه السّلام «3» كالصريح في كفاية مسح الجبينين من دون لزوم مسح الجبهة، فإن قوله عليه السّلام: «ثم مسح (اى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله) جبينيه بأصابعه» أو «ثم مسح بجبينيه» في مقام بيان الحكم و ماهية التيمم ظاهر بل كنص في ان تمام

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 11- ح 1

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11 ح 5- 8

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 11 ح 5- 8

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 169

الدخيل فيه مسحهما فقط و ليس مسح غيرهما كالجبهة و غيرها دخيلا في ماهيته، و ليس هذا كنقل أحد من الرواة حتى يقال انه ترك ذكر الجبهة بتوهم ملازمة مسحها لمسحهما مع عدم الملازمة واقعا، أو احتمل فيه الخطأ في فهم كيفية العمل،

و كيف كان لو كان اللازم مسح الجبهة لمسحها رسول اللّٰه، و نقل أبو جعفر عليه السّلام، و تدل عليه أيضا رواية أبي المقدام أو حسنته لرواية صفوان عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «أنه وصف التيمم فضرب بيديه على الأرض ثم رفعهما فنفضهما ثم مسح على جبينيه و كفيه مرة واحدة» «1».

و ذكر الجبينين مثناة و ترك الجبهة دليل على عدم مسحه جبهته، و الظاهر ان موثقة زرارة المختلفة في النقل المرددة بين جبينه و جبهته كانت في الأصل جبينه أو جبينيه و اشتبهت في النسخ لغاية شباهتهما في الخط العربي سيما في الخطوط القديمة، و انما رجحنا الجبين على الجبهة لشهادة سائر الروايات المتفقة على الجبينين، بل المظنون وقوع تصحيف في عبارة الحسن بن عيسى العماني حيث ادعى تواتر الأخبار، بأنه حين علم عمارا مسح بهما جبهته و كفيه، و كان الأصل جبينيه، فاشتبهت و صحفت بجبهته لشدة المشابهة في الخط، و الا فكيف يدعى تواتر ما ليس بموجود الا نادرا، و ترك ذكر الجبينين مع ورود روايات كثيرة فيهما.

و اما قول المحقق في النافع: و هل يجب استيعاب الوجه و الذراعين بالمسح فيه روايتان أشهرهما اختصاص المسح بالجبهة، فليس المراد منه أكثرية الرواية كما توهم بل أشهريتها بحسب الفتوى و هو مبنى على حمل عبارات من تقدم عليه على اختصاص المسح بالجبهة و سيأتي الكلام فيها، و الا فروايات الوجه و الجبينين أكثر بلا اشكال، و لم تصل الى المحقق روايات أخر غير ما بأيدينا أكثر من روايات الجبينين جزما، و كيف كان فمراده أشهرية الفتوى و الشهرة الفتوائية هي الميزان في قبول رواية أوردها لا الأكثرية كما هو المقرر في

محله.

نعم هنا بعض روايات ضعاف تدل على وجوب مسح الجبهة كالفقه الرضوي الذي

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11 ح 6

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 170

لم يثبت كونه رواية، بل الظاهر من عباراته انه مصنف فقيه أفتى بمضمون الاخبار، و فيه «ثم تمسح بهما وجهك موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف» ثم قال: «و اروى» الى ان قال: «ثم تمسح بأطراف أصابعك وجهك من فوق حاجبيك و بقي ما بقي» «1» و لعل المراد من هذه الرواية الأخيرة مسح جميع ما فوق الحاجبين و إبقاء بقية الوجه، و لا يبعد رجوع مرسلة العياشي الى ذلك «قال: و عن زرارة عن أبى جعفر بعد ذكر قضية عمار ثم وضع يديه جميعا على الصعيد، ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه» «2» و هي موافقة لفتوى الصدوق في المقنع مع احتمال كون المراد مسح الجبهة إلى طرف الأنف المحاذي لأسفل الحاجبين و كيف كان فمقتضى الجمود على الروايات الصالحة للاعتماد كفاية مسح الجبينين و عدم الاجتزاء بمسح الجبهة خاصة، لأن ما دلت على الاجتزاء بها غير صالحة للحجية، الا ان ثبت استناد المشهور بها و هو غير معلوم، هذا كله حال الروايات.

و اما المقام الثاني [مسح الجبينين و الجبهة]

و هو حال فتاوى الأصحاب فالظاهر من فتاوى قدمائهم إلى زمان المحقق فيما رأيت إلا نادرا هو التحديد بمسح الجبينين و الجبهة عرضا، و من قصاص الشعر الى طرف الأنف طولا، لان الغالب منها التعبير بمسح الوجه باليدين من قصاص شعر رأسه الى طرف أنفه، و ليس في عباراتهم لفظة الجبهة، و الظاهر من مسح الوجه بهما اى باليدين مضمومتين كما هو المتبادر المتعارف تحديد العرض، و

من قصاص الشعر الى طرف الأنف تحديد الطول في مقابل العامة القائلين بالاستيعاب، أو مسح أكثر الوجه، و به يرجع قول السيد في الانتصار و الناصريات، قال في الأول: و مما انفردت به الإمامية القول بان مسح الوجه

______________________________

(1) مرت في صفحة 142

(2) مرت في صفحة 139

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 171

بالتراب في التيمم انما هو الى طرف الأنف من غير استيعاب له، فإن باقي الفقهاء يوجبون الاستيعاب، و قال في الثاني بعد قول الناصر: و تعميم الوجه و اليدين واجب، بهذه العبارة: هذا غير صحيح، و قد بينا في المسألة التي قبل هذه الى أن قال: و قد أجمع أصحابنا على ان التيمم في الوجه انما هو من قصاص الشعر الى طرف الأنف «انتهى» و الظاهر من مسح الوجه الى طرف الأنف هو مسح جميع القطعة التي وقعت من الوجه فوق طرف الأنف، لا ما هو بحذاء طرفه فإنه أقل من عرض إصبع واحد، و لا ينطبق الا على أقل قليل من الجبهة، فاحتماله في عبارته و سائر عبارات القوم مقطوع الفساد بل الإجماع و الضرورة على خلافه، و إليها من هذه الجهة ترجع ظاهرا عبارة المقنع: فامسح بهما بين عينيك إلى أسفل الحاجبين، لاحتمال كون المراد التحديد عرضا باليدين و طولا إلى أسفل الحاجبين، سيما مع ذكر الحاجبين لا طرف الأنف.

و الظاهر رجوع قول الصدوق في الأمالي إليه، قال فيما وصف دين الإمامية:

فإن أراد الرجل أن يتيمم ضرب بيديه على الأرض مرة واحدة ثم ينفضهما فيمسح بهما وجهه الى أن قال: و قد روى ان يمسح الرجل جبينه و حاجبيه و يمسح على ظهر كفيه و عليه مضى

مشايخنا.

و قال في الفقيه: و مسح بهما جبينيه و حاجبيه، و الظاهر بقرينة إفراد الجبين في الأمالي و ضم الحاجبين الظاهر منه مسح تمامهما الملازم لمسح الجبهة ان مراده مسح الجبهة و الجبين، و يشهد له ان مسح الجبين فقط مخالف لكلمات الأصحاب هذا حال كلمات أصحابنا من زمن الصدوق الى عصر المحقق مما عثرت عليه من كتبهم كالامالى و الفقيه و المقنع و الهداية و الانتصار و الناصريات و النهاية و الخلاف و الوسيلة و المراسم و الغنية، و اشارة السبق، و عن أبى الصلاح و ابن إدريس كذلك.

و اما من عصر المحقق فقد تغيرت العبارات فقال في النافع: و هل يجب استيعاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 172

الوجه و الذراعين بالمسح؟ فيه روايتان أشهرهما اختصاص المسح بالجبهة و ظاهر الكفين، و الظاهر ان مراده أشهرهما فتوى كما تقدم، و هو مبنى على ان مراد قدماء أصحابنا من العبارات المتقدمة هو مسح الجبهة بقرينة قولهم من قصاص الشعر الى طرف الأنف، لكن قد مر ان ذلك لتحديد الطول، فكما حددوا الوجه في الوضوء من قصاص الشعر الى مجاور شعر الذقن طولا، و بما اشتمل عليه الإبهام و الوسطى عرضا حدوده في المقام عرضا بقولهم مسح بهما الظاهر في تمام باطنهما متصلين و طولا بما ذكر في مقابل الاستيعاب.

و قد نسب في محكي المعتبر مسح الجبهة إلى مذهب الثلاثة و أتباعهم، فإن كان مراده اختصاصه بالجبهة كما صرح في النافع ففيه ما مر، و ان كان مراده لزوم مسحها أيضا مضافا الى الجبينين فهو حق، و ظاهر الشرائع اختصاصه بها كظاهر العلامة في القواعد و الإرشاد و هو ظاهر التذكرة

أيضا، و ان عبر فيها بمسح الوجه لتمسكه بقول الصادق عليه السّلام في رواية زرارة «قال: و لأن زرارة سأل الصادق عليه السّلام عن التيمم فضرب بيديه الأرض ثم رفعهما فنفضهما و مسح بهما جبهته و كفيه مرة واحدة» «1» و هي بعينها موثقة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام لكنه نسبها الى الصادق عليه السّلام، و لعلها رواية أخرى عثر عليها و ان كان بعيدا.

و قال في المنتهى: أكثر علمائنا على ان حد الوجه هنا من قصاص الشعر الى طرف الأنف اختاره الشيخ في كتبه و المفيد و المرتضى في انتصاره، و ابن إدريس و أبو الصلاح، ثم حكى قول على بن بابويه و غيره، و تمسك لمختاره بروايات الجبهة و الجبينين في مقابل القائل بالاستيعاب.

و الانصاف إمكان إرجاع كلامه فيهما الى ما ذكرناه و استظهرناه من كلام القوم، و عن الشهيد في الذكرى ان مسح الجبهة من القصاص الى طرف الأنف متفق عليه بين الأصحاب، و لعل مراده وجوب مسحها لا الاختصاص بها، و صرح ثاني الشهيدين في الروض بالاختصاص، و قال: هذا القدر متفق عليه بين الأصحاب الى

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 11 ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 173

أن قال: و زاد بعضهم مسح الجبينين و هما المحيطان بالجبهة، يتصلان بالصدغين لوجوده في بعض الاخبار.

و في مقابله الأردبيلي حيث قال: ان المشهور ان مسح الجبينين واجب و كاف.

و هو مصيب في وجوبه لا في كفايته، كما ان الشهيد مصيب في ان وجوب مسح الجبهة متفق عليه بين الأصحاب على تأمل، لما نقل عن المحقق من التخيير بين الوجه و بعضه بمقدار مساحة الجبهة، و غير

مصيب في انتساب الجبينين الى بعضهم.

و كيف كان فالأقوى وجوب مسح الجبينين و الجبهة وفاقا للمشهور بين المتقدمين كما عرفت، بل و المتأخرين فإنه المحكي عن جامع المقاصد و مجمع البرهان و المدارك و شرح المفاتيح و منظومة الطباطبائي و فوائد الشرائع و حاشية الإرشاد و شرح الجعفرية و حاشية الميسي و الروضة و المسالك و رسالة صاحب المعالم، و عن مجمع البرهان انه المشهور و عن شرح المفاتيح لعله لا نزاع فيه بين الفقهاء، و اما ما عن الأمالي من كونه من دين الإمامية، و مضى عليه مشايخنا فالظاهر ان ما نسب الى دين الإمامية غير ذلك نعم ظاهر قوله: و مضى عليه مشايخنا هو الرجوع الى ما ذكر كما مر، فراجع عبارته فإن النسخة التي عندي مغلوطة ظاهرا.

و بعد ما عرفت من الشهرة المحققة و السيرة القطعية لا بدّ من تأويل الروايات على ما تنطبق على القول المشهور أو ردّ علمها إلى أهله، و انطباقها عليه ليس ببعيد بدعوى ان مسح جبينيه بتمام أصابعه يلازم عادة مسح الجبهة، و كذا المسح باليدين عليهما كما هو ظاهر موثقة زرارة و رواية أبي المقدام.

و اولى منهما موثقة زرارة الأخرى برواية الكافي حيث قال فيها: «ثم مسح بها جبينه مفردة» و إطلاق الجبين على تمام القطعة التي فوق الحاجبين غير بعيد، بل شائع في مثل قولهم بكد اليمين و عرق الجبين، لكن يظهر من المجلسي في مرآته انه بلفظ التثنية لا المفرد، و في الوافي عن الكافي جبهته بدل جبينه، فيظهر من ذلك ان نسخ الكافي أيضا مختلفة، و معه لا يبعد ترجيح النسخة المشتملة على الجبهة على تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2،

ص: 174

و قد يجمع بين الروايات الحاكية لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و بين الروايات الظاهرة في مسح الجبهة كالموثقة على احدى النسختين و الرضوي حيث قال فيه: «ثم تمسح بهما وجهك موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف» «1» و مرسلة العياشي عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام قال بعد حكاية قضية عمار «ثم وضع يديه جميعا على الصعيد ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه» «2» بناء على ظهوره في الجبهة كما لا يبعد برفع اليد عن ظاهر كل من الطائفتين بصريح الأخرى، فإن الطائفة الثانية نص في اعتبار الجبهة، و ظاهر في عدم اعتبار غيرها من باب السكوت في معرض البيان، و الطائفة الأولى عكسها فيأول الظاهر بالنص فيحكم باعتبارهما، و هو كما ترى ضرورة ان واحدة من الطائفتين ليست نصا في الاعتبار معينا بل ظاهرة في التعيين.

و الأقرب في الجمع بينهما مع قطع النظر عن فتاوى الأصحاب هو الاجتزاء بكل من الجبهة و الجبينين، فيرفع اليد عن ظهورهما فيه، بل لو لا مخالفة الأصحاب لقلنا بعدم كون ذلك الجمع مخالفا للظاهر المعتد به، لان العمل ليس له ظهور في التعيين، و الروايات كلها إلا الرضوي حكاية أعمال بل ظهور الاعمال في الاجتزاء قوى يعارض ما لو دل دليل على اعتبار شي ء آخر، لكن لا مناص عن رفع اليد عن هذا الظهور بعد الإجماع على لزوم مسح الجبهة و ظهور كلمات الأصحاب كما عرفت في مسح الجبهة و الجبينين.

الجهة الثانية [المسح الى طرف الأنف الأعلى]

ان ظاهر تحديد الأصحاب إلى طرف الأنف هو الظرف الأعلى منه كما صرح به في المنتهى، و قال: انه المراد في عبارات المفيد و الشيخ و

السيد و ابن حمزة و أبي الصلاح و هو ظاهر من قال بمسح الجبينين و الحاجبين كالصدوق في الفقيه.

و قال في الأمالي: و قد روى ان يمسح الرجل جبينه و حاجبيه و عليه مضى

______________________________

(1) مرت في صفحة 142

(2) مرت في صفحة 139

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 175

مشايخنا، بل في الجواهر صرح به بنو حمزة و إدريس و سعيد و العلامة و الشهيدان و غيرهم، لا الأسفل بل في السرائر و غيرها الإزراء على من ظن ذلك من المتفقهة «انتهى».

لكن لم يصرح ابن حمزة به و لعله رئي في غير وسيلته، كما ان ما نقل عن الأمالي من المسح الى طرف الأنف الأعلى و الى الأسفل أولى، و كذا ما نقل في مفتاح الكرامة عن الأمالي المسح من القصاص الى طرف الأنف الأسفل ليس شي ء منهما موجودا في النسخة الموجودة عندي.

و كيف كان مقتضى الأدلة و كلمات الأصحاب عدم لزومه إلى الأسفل.

و اما مسح الحاجبين فمقتضى تحديدهم الى طرف دخولهما في المحدود بعد الاستظهار المتقدم من كون المراد من قولهم: «يمسح بهما من قصاص الشعر إلى الأنف» تحديد الطول و العرض، ضرورة أن طرف الأنف الأعلى أسفل من الحاجبين، فيكون الحاجبان فوق الحدود داخلين في المحدود الممسوح.

و يشهد له قول الصدوق في الأمالي بعد نقل رواية مسح الجبين و الحاجبين: و عليه مضى مشايخنا، و قد أفتى به في الفقيه و الهداية أيضا، و يشهد له أيضا إرساله العلامة إرسال المسلمات، قال في المنتهى: لا يجب ما تحت شعر الحاجبين بل ظاهره كالماء، فيظهر النظر في محكي الكفاية من دعوى الشهرة على عدم وجوب مسح الحاجبين.

نعم ظاهر الأدلة الحاكية لتيمم

رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و أبى جعفر و أبى عبد اللّٰه عليهما السّلام عدم وجوب مسحهما و في بعض روايات ضعيفة وجوبه كمرسلة العياشي على احتمال، و مرسلة الصدوق في الأمالي، فيكون حال الحاجبين حال الجبهة في كون لزوم مسحهما مشهورا، و ظاهر الأدلة المعتبرة على خلافه مع فرق بينهما، و هو ان لزوم مسح الجبهة صريحهم و مسح الحاجبين ظاهرهم.

و كيف كان فلا يبعد ترجيح وجوبه كما نفى عنه البأس في محكي الذكرى و اختاره جامع المقاصد، بل يمكن أن يقال ان مسح الجبينين و الجبهة ملازم لمسحهما خصوصا إذا كانت الجبهة محدودة بطرف الأنف الأعلى و الجبينان طرفاها، كما يظهر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 176

من اللغة، فتنطبق الاخبار على القول المشهور.

الجهة الثالثة المشهور بين الأصحاب وجوب مسح الكفين من الزند

و هو المفصل بين الساعد و الكف إلى أطراف الأصابع. بل عليه نقل الإجماع و الشهرة و المعروفية بين الأصحاب متكرر، و عليه جملة من العامة كما لك و احمد و الشافعي قديما على ما نقل و عن على بن بابويه وجوب استيعاب المسح الى المرفقين و هو المحكي عن أبي حنيفة و الشافعي ثانيا، و عن ابن إدريس عن بعض أصحابنا ان المسح من أصول الأصابع إلى رءوسها، و روى عن مالك أيضا ان التيمم على الكف و نصف الذراع و احتجاجه عليه من المضحكات، و عن الزهري يمسح يديه الى المنكب.

و تدل على المشهور صحيحة زرارة و موثقته الحاكيتان لفعل رسول اللّٰه و صريح صحيحة زرارة الحاكية عن فعل أبى جعفر عليه السّلام «قال: فوضع أبو جعفر عليه السّلام كفيه على الأرض ثم مسح وجهه و كفيه، و لم يمسح الذراعين

بشي ء» «1» و ظاهر غيرها مما اشتملت على الكف، بل ظاهر صحيحتي داود بن النعمان و الخزاز «2» حيث قال في الأولى: «فمسح وجهه و يديه فوق الكف قليلا» و قريب منها الثانية، لأن الظاهر من فوق الكف قليلا، و لو بجهات خارجية، هو حد المفصل أو فوقه قليلا، الذي يتعارف المسح منه لتحصيل مسح ظهر الكف احتياطا.

و احتمال كون المراد منه ظهر الكف لإفادة عدم لزوم مسح تمام الظهر ضعيف و مع احتمال كون المسح فوق الكف قليلا لأجل الاحتياط و اليقين بحصول مسح الكف لا يمكن الاستدلال بها للزوم مسح الفوق تعبدا لدخالته في ماهية التيمم، و اما روايات ليث المرادي و محمد بن مسلم و سماعة «3» المشتملات على مسح الذراعين أو هما مع المرفق فمحمولة على التقية، كما تظهر آثارها من ثانيها، و لو لا قوة احتمالها لكان

______________________________

(1) مرت في صفحة 161 و 162.

(2) راجع صفحة 149

(3) مرت في صفحة 149 و 159

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 177

الحمل على الاستحباب غير بعيد، بل متعينا حملا للظاهر على النص، كما ان مرسلة فقه الرضا كمرسلة حماد بن عيسى الظاهرتين في اجتزاء المسح على الأصابع غير صالحتين للاحتجاج، فضلا عن المقاومة لما تقدم مع إمكان أن يقال ان المراد بموضع القطع ما هو المعروف عند العامة، فأراد أبو عبد اللّٰه عليه السّلام تعليم السائل طريق الاحتجاج معهم، و رواية فقه الرضا مجمل المراد، و لا داعي لبيان محتملاتها بعد عدم حجيتها.

و اما كيفية المسح فمقتضى إطلاق الآية و بعض الروايات و مقتضى سكوت أبي جعفر عليه السّلام عن الخصوصية الواقعية التي وقع بها تيمم رسول اللّٰه صلّى

اللّٰه عليه و آله في مقام تعليم عمار هو عدم دخالة كيفية خاصة في المسح، بل التيمم متقوم بمسح الوجه و الكفين باليدين بأية كيفية وقع من الأعلى أو إليه، وقع طول الباطن على عرض الظاهر أو طوله على طوله، بل و لو وضع جميع الباطن على جميع الظاهر، فجرّ الماسح في الجملة حتى وقع مسح جميع الظاهر به، و كذا لا خصوصية بمقتضاها في مسح الوجه.

اما إطلاق الآية فلما مرّ مرارا انها في مقام البيان و لا إجمال فيها، و لذا تمسك النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الامام بها و بخصوصياتها المأخوذة فيها لإثبات الحكم، فالقول بكونها مجملة نشأ من قلة التأمل فيها، و الا فغالب احكام التيمم مستفاد منها.

و اما إطلاق بعض الاخبار كموثقة زرارة و رواية المرادي و ان لا يخلو من المناقشة كما مرّ، لكن لا يبعد إطلاقهما، و اما سكوت أبى جعفر عليه السّلام فهو أقوى دليل على عدم الاعتبار، فان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قد كان في مقام بيان ماهية التيمم لعمار، بلا ارتياب و لا اشكال، و كان أبو جعفر عليه السّلام في مقام نقل القضية لإفادة الحكم بلا اشكال، و ان كان في تكرار القضية منه و من أبى عبد اللّٰه عليه السّلام فائدة أخرى أو فوائد أخر، كافحام المخالفين و التنبيه على جهل الثاني بالأحكام و بالقرآن الذي بين أيديهم أو تجاهله و مخالفته للّٰه و رسوله، و قد حكى عن كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين، و العجب بجهله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 178

و جهل الأمة انه كتب الى جميع عماله ان

الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلى و ليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد الماء، و ان لم يجده حتى يلقى اللّٰه، ثم قبل الناس ذلك منه و رضوا به و قد علم و علم الناس ان رسول اللّٰه قد أمر عمارا و أمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة و يصليا، و شهدا به عنده و غيرهما، فلم يقبل ذلك و لم يرفع به رأسا، و كيف كان لو كان للمسح خصوصية من قبيل كونه من الأعلى أو وقوع طول باطن الكف على عرض الظاهر أو غيرهما لما أهملها أبو جعفر عليه السّلام في مقام نقل القضية لإفادة ماهية التيمم.

و اما التشبث بدليل التنزيل لإثبات كونه من الأعلى كما في الوضوء فقد مرّ ما فيه، و قلنا ان الآية الكريمة مع الارتكاز العرفي و ان يظهر منها اعتبار ما يعتبر في الغسل و الوضوء معا في التيمم أيضا كالترتيب و طهارة البدن من الأحكام المشتركة، لكن لا يمكن إثبات الشرائط المختصة بكل واحد منهما للتيمم بعد كونه بدلا منهما في الآية الشريفة بنحو واحد.

و اما التشبث بالشهرة فهو ناش من توهم ظهور كلمات الأصحاب في وجوب المسح من الأعلى حيث قالوا يمسح من قصاص الشعر الى طرف الأنف، و لا يخفى على الناظر في كلماتهم ان ذلك لتحديد الممسوح لا لبيان كيفية المسح، و لذا لم يتعرضوا بالنسبة إلى الكف، فيمكن أن يقال: ان خلو كلماتهم عن الكيفية دليل على عدم اعتبار كيفية خاصة فيه، نعم ان السيرة القطعية على هذه الكيفية المعهودة ربما توجب الوثوق بدخالتها لو لم نقل بأنها إنما دلت على صحته بهذه الكيفية لانحصاره بها.

فالأحوط عدم التعدي

عن الكيفية المعهودة لما ذكر، و لدلالة ما روى في الرضوي عليه بالنسبة إلى الكفين مع دعوى عدم الفصل بينهما، و اشعار مرسلة العياشي عن أبى جعفر عليه السّلام به «قال: ثم مسح من بين عينيه إلى أسفل الحاجبين» و احتمال انصراف مسح الوجه الى المسح من الأعلى.

التاسع اختلفوا في عدد الضربات في التيمم

اشارة

فعن المشهور التفصيل بين ما للوضوء و بين ما للغسل بضربة واحدة في الأول و ضربتين في الثاني، و عن جمع من

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 179

المتقدمين و المتأخرين الضربة الواحدة فيهما، و عن جمع آخر منهما الضربتان فيهما، و ربما نقل عن بعض بل قوم من أصحابنا كما حكى عن المعتبر ثلث ضربات.

فالأولى أولا بيان مقتضى الأدلة و الجمع بينها، ثم النظر الى كلمات القوم، فنقول: مقتضى إطلاق الآية الكريمة الاجتزاء بالضربة الواحدة فيهما، سيما بعد ذكر التيمم عقيب الحدثين.

و اما الروايات فهي على طوائف منها و هي عمدتها ما هي ظاهرة في الاجتزاء بواحدة و فيها الروايات الحاكية لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله تعليما لعمار، حكاه أبو جعفر و لا ريب في ان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان في مقام تعليمه و بيان ماهية التيمم كما يظهر من قوله: «أ فلا صنعت كذا ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح» إلخ.

فهل يمكن أن يقال انه صلّى اللّٰه عليه و آله بعد قوله: «أ فلا صنعت كذا» و إتيانه بالتيمم الذي هو بدل الغسل الذي ابتلى به عمار أهمل في مقام البيان و التعليم ما كان معتبرا في ماهية التيمم، أو يقال ان أبا جعفر عليه السّلام أهمل ما فعله رسول

اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و كان دخيلا في ماهية التيمم، أو يقال ان أبا جعفر عليه السّلام أهمل ما فعله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و كان دخيلا في ماهيته. أو ان زرارة أو الرواة بعده أهملوا ما وصل إليهم، و لو فتح على الروايات باب هذه الاحتمالات لاختل الفقه، و انسدّ باب الاحتجاج على العقلاء، و أضعف شي ء في المقام احتمال كونه في مقام بيان كيفية قسم من التيمم، و هو الذي بدل الوضوء و هل هذا الا الإغراء بالجهل و الإيقاع في خلاف الواقع.

و مثلها قوله في موثقة زرارة «1» «هكذا يصنع الحمار انما قال اللّٰه عز و جل فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فضرب بيديه الأرض» إلخ فإن تمسكه بالاية الكريمة و إتيانه بالتيمم بضربة واحدة مما جعل الكلام كالنص في عدم الاحتياج الى الضربتين في بدل الغسل الذي هو مورد الكلام و المتيقن في مقام التعليم، و مثلهما صحيحتا الخزاز و داود بن النعمان «2» حيث سألا أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن التيمم، فذكر قضية عمار «فقالا له كيف

______________________________

(1) مرت في صفحة 148

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 180

التيمم؟ فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما فمسح وجهه و يديه فوق الكف قليلا» و اللفظ من الثانية، فإن الاكتفاء بالمرة بعد حكاية قصة عمار و سؤالهما عن الكيفية كالنص في كفايتها عن بدل الغسل.

و يدل عليه إطلاق موثقة زرارة و أبى المقدام «1» و غيرهما من غير احتياج الى دعوى كون قوله مرة واحدة في ذيلهما قيدا للضرب لا للمسح أو قيدا لهما، بدعوى ان الضرب كان مورد البحث،

و الخلاف عند العامة و الخاصة لا المسح فكون القيد للثاني كاللغو، و كيف كان لا شبهة في قوة ظهور تلك الروايات في الاجتزاء بالمرة مطلقا، و في بدل غسل الجنابة بالخصوص.

و منها طائفة أخرى مشتملة على مرتين كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما «قال سألته عن التيمم فقال مرتين مرتين للوجه و اليدين» «2» و محتملاتها كثيرة ككون المرتين قيدا للقول، أو لأمر مقدر كاضرب أو أحدهما قيدا للقول و الأخر للأمر، ثم على فرض كونهما من متعلقات الضرب يمكن أن يكون الثاني تأكيدا للأول، و يمكن ان يكون تأسيسا لبيان ان اللازم في التيمم أربع ضربات ضربتان للوجه و ضربتان لليدين.

و الأظهر هو الاحتمال الأخير، فكأنه قال: ضربتان للوجه و ضربتان لليدين و لا أقل من كون هذا الاحتمال في عرض احتمال التأكيد، مع انه ليس المورد من موارد التأكيد فهذه الصحيحة بما لها من الظهور خلاف فتوى الكل، أو هي مجملة في نفسها لا بد من رفع إجمالها بسائر الروايات.

و كرواية ليث المرادي عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «في التيمم تضرب بكفيك الأرض مرتين ثم تنفضهما و تمسح بهما وجهك و ذراعيك «3» و الظاهر منها ان ضرب المرتين قبل المسح و بها يرفع الإجمال من هذه الحيثية عن الصحيحة المتقدمة، إذ لا يتضح منها

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 11، ح 1.

(3) مرت في صفحة 127.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 181

ان المرتين قبل المسح أو مرة قبل مسح الوجه و مرة قبل مسح الكفين، كما يرفع الإجمال بها عن صحيحة الكندي عن الرضا عليه السّلام «قال: التيمم ضربة للوجه و

ضربة للكفين» «1» لعدم ظهورها في الافتراق و ان كانت مشعرة به لكن ظهور رواية المرادي محكم و مقدم عليه، فهذه الروايات الثلث كما رأيت لا تدل على ما نسب الى المشهور، فان ظاهرها بعد ردّ بعضها الى بعض ضرب اليدين مرتين قبلا ثم مسح الأعضاء بهما، و فتوى القوم خلاف ذلك ظاهرا في بعض عباراتهم و نصا في الأخر فأوجبوا التفريق.

و اما صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «2» التي هي العمدة في مستند القول بالتفصيل و جعلت شاهدة للجمع بين الطائفتين، فليست شاهدة له حتى بعد تسليم دلالة هذه الروايات على ما راموا من الضربتين، «قال: قلت له: كيف التيمم؟ فقال: هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما نفضة للوجه و مرة لليدين، و متى أصبت الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا و الوضوء ان لم تكن جنبا» لان الظاهر منها ان لتيمم الوضوء و الغسل كيفية واحدة و هي الضرب باليدين مرتين أولا ثم نفضهما نفضة، و المرتان تكونان للوجه ثم يجب مرة أخرى لليدين فتكون الضربات ثلاثة.

و لو أغمضنا عن هذا الظاهر المتفاهم عرفا و قلنا بان الواو في قوله: «و الغسل» للاستيناف و هو مبتدأ و تضرب خبره، فلا يمكن الإغماض عن ظهورها في ان الضربات ثلث كما مر، و هو مما لم يقل به أحد منهم، فلا يمكن الاستشهاد بها للجمع بين الروايات بجميع النسخ المختلفة الحاكية لها، لان كلها مشتركة في قوله: «تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما» الذي هو ظاهر في كونهما قبل مسح الوجه، و ان كانت مختلفة من جهات أخر في كتب الاستدلال، كالخلاف و التذكرة و المنتهى و

المدارك و محكي المعتبر لكن لا اعتماد في نقل الروايات على الكتب الاستدلالية غير المعدة لنقلها

______________________________

(1) مرت في صفحة 147.

(2) مرت في صفحة 149.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 182

بألفاظها، كما يظهر بالمراجعة إليها خصوصا بعض كتب المتأخرين.

هذا مع ان الجمع بين الطائفتين المتقدمتين بحمل الاولى على تيمم بدل الوضوء مع كونها غالبا في مورد الجنابة، و الثانية على بدل الغسل مع كونها في مقام بيان أصل الماهية ليس جمعا مقبولا عقلائيا كما لا يخفى، (فح) لو سلمت دلالة الرواية المتقدمة و دلالة صحيحة محمد بن مسلم الظاهر منها آثار التقية، مع وضوح عدم دلالتها على التفصيل بما قالوا بل ظاهرها المرتان مطلقا، و التفصيل في المسح من المرفقين و إليهما. و سلم ورود مرسلات أخر من جملة من الأعاظم، كالمحكي عن المعتبر، قال روى في بعض الاخبار التفصيل من ذلك رواية حريز عن زرارة، و في الغنية و قد روى أصحابنا ان الجنب يضرب ضربتين، و عن السيد: و قد روى ان تيممه ان كان من جنابة و ما أشبهها ثنى ما ذكرناه من الضربة، و عن الصيمري نسبة التفصيل الى الروايات.

لا يمكن الجمع بينها بما ذكر، بل لا بد من حملها على الاستحباب أو التقية مع عدم ثبوت كون تلك المرسلات غير الروايات التي في الباب، و ان يستشعر من عبارة السيد كون مرسلته غيرها. تأمل.

و كيف كان لا يمكن الاتكال عليها و انجبارها بالشهرة مع عدم ثبوت أصلها فضلا عن ثبوت الاتكال بها ممنوع، فلم يبق في المقام الا روايات المرة، و رواية الساباطي الدالة على التسوية بين التيمم من الوضوء و الجنابة و من الحيض، و

ليس في مقابلها ما دل على القول المنسوب الى المشهور، و قد أول صاحب الجواهر رواية التسوية بما لا يخلو من الغرابة.

و اما الشهرة في المسألة فليست بتلك المثابة التي ذكرها في الجواهر، و لأجلها فتح باب المناقشات على الروايات و كلمات الأصحاب، فأولها بما لا أظن ارتضاء نفسه الشريفة به لو لا اتكاله على الشهرة، حتى نسب الخلاف إلى الأردبيلي و الكاشاني مع ان ظاهر الصدوق في المقنع و الهداية و السيد في الانتصار و ابن زهرة في الغنية و المحكي عن ابن الجنيد و ابن أبي عقيل و المفيد في المسائل الغرية، و عن المعتبر و الذكرى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 183

و غيرهم اختيار الضربة في الجميع، بل حكى اشتهاره بين العامة عن على عليه السّلام و ابن عباس و عمار، و عن المعتبر عن قوم من أصحابنا اختيار ثلث ضربات.

و حكى عن المفيد في الأركان و عن التقى عن جماعة من القدماء في الكل ضربتان، و نسب ذلك الى الصدوق أيضا و هو موافق للنسخة التي عندنا من أماليه.

قال: فإذا أراد الرجل ان يتيمم ضرب بيديه على الأرض مرة واحدة ثم ينفضهما فيمسح بهما وجهه ثم يضرب بيساره الأرض فيمسح بها يده اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع ثم يضرب بيمينه الأرض فيمسح بها يده اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع و قد روى ان يمسح الرجل جبينيه و حاجبيه و يمسح على ظهر كفيه و عليه مضى مشايخنا انتهى.

و هذه النسخة و ان كانت مغلوطة لكن لم يفصل فيها بين التيمم بدل الوضوء و الغسل، فهي شاهدة على ان التفصيل لم يكن مشهورا في تلك

الأعصار بل مضى المشايخ على خلافه و يشهد له ان شيخ الطائفة في الخلاف لم يتمسك لمذهبه بالإجماع، مع ان دابة فيه ذلك و انما تمسك بصحيحة زرارة المتقدمة، فيعلم من ذلك ان اختياره له كان بتخلل اجتهاد لا لأمر آخر نحن بعيد منه.

و الانصاف أن الاتكال على الشهرة في مثل هذه المسألة التي تراكمت فيها الأدلة و أقوال أساطين الفقه، و رفع اليد لأجلها عن الأدلة كتابا و سنة مما لا مجال له.

ثم انه لا إشكال في اتحاد كيفية التيمم بدل الأغسال واجبة كانت أو مستحبة قولا واحدا كما في الجواهر. و يدل عليه كثير من الروايات حيث يظهر منها السؤال عن كيفية ماهية التيمم، كرواية الكاهلي و موثقة زرارة بل و صحيحتي الخزاز و ابن النعمان و غيرها «1» مضافا الى موثقة عمار الساباطي عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن التيمم من الوضوء و الجنابة و من الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم» «2» و موثقة أبي بصير في حديث «قال: سألته عن تيمم الحائض و الجنب سواء إذا لم يجدا؟ قال:

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 11.

(2) مرت في صفحة 128.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 184

نعم» «1» و معلومية عدم الفصل بل يمكن الاستيناس له بالتساوي في المبدل منه فلا اشكال فيه.

تتميم هل يكون التيمم كالغسل في الاجتزاء به

فيما إذا كان بدلا من غسل الجنابة عن الوضوء و الاجتزاء بتميم واحد عن الأغسال الكثيرة إذا كان فيها غسل جنابة و نوى الجميع أو مطلقا كان فيها جنابة أولا، نوى الجميع أو بعضها؟

و بالجملة هل يقوم التيمم مقام الغسل في جميع ما للغسل أولا مطلقا، أو يفصل بين ما هو بدل غسل الجنابة،

فيقوم مقامه في الاجتزاء عن الوضوء أو التيمم له دون غيره، فلا يكتفى بتيمم واحد عن الأغسال المتعددة أو يجتزى به حتى فيما لا يجتزى بالغسل الواحد، كما لو كان على المرأة غسل الحيض و قلنا بوجوب الوضوء عليها مع الغسل فيجزى تيمم واحد عن غسلها و وضوئها؟

وجوه أقواها كونه بمنزلة المبدل منه في جميع ماله، فيكتفى بتيمم واحد بدل غسل الجنابة عن الوضوء، و يتداخل كما تتداخل الأغسال، و لا يتداخل فيما لا تتداخل و لا يجتزى به فيما لا يجتزى بالغسل، فيجب تيممان على الحائض بدل الغسل و الوضوء.

اما الاجتزاء عن الوضوء في بدل غسل الجنابة فمما لا ينبغي الإشكال فيه، بل في الجواهر دعوى عدم وجدان الخلاف فيه، لكن لا للاية الكريمة بنفسها، فإنها مع قطع النظر عن الروايات لا تدل على الاجتزاء فان الظاهر من صدرها لزوم الوضوء للصلاة شرطا، و لزوم الغسل من الجنابة كذلك، فلا يستفاد منها غير ذلك، فلا تدل على اجتزاء أحدهما عن الأخر لو لم نقل ان الظاهر منها لزومهما عند تحقق سببهما.

و اما ذيلها فيتفرع على الصدر فلا يستفاد منه زائدا عليه، مع ان الظاهر من عطف «لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ» بلفظ «أو» ان كل واحد من الحدث الأصغر و الأكبر سبب للتيمم و إطلاق السببية يقتضي تكرر المسبب و يكون مقدما على إطلاق المسبب كما حررناه في

______________________________

(1) مرت في صفحة 142.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 185

محله، و كيف كان لا يمكن استفادة الاجتزاء منها بنفسها، بل يستفاد بضم ما دل على على اجتزاء غسل الجنابة عن الوضوء، لان الظاهر منها ان التيمم عند فقدان الماء بمنزلة الوضوء و للمجنب بمنزلة

الغسل، فإذا علم ان الغسل كاف عن الوضوء قام التيمم مقامه في ذلك.

بل لنا دعوى استفادة عموم التنزيل بالنسبة إلى سائر الأغسال أيضا، اما بدعوى كون قوله «لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ» كناية عن مطلق الحدث الأكبر، كما ان قوله «أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ» كناية عن مطلق الأصغر و قوله «وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ» كناية عن مطلق المعذور مع المناسبات المغروسة في ذهن العرف، و معلومية عدم ترك الصلاة بحال، و عدم سقوط شرطية الطهارة لها، أو بدعوى استفادة ذلك من قوله تعالى في ذيل بيان التيمم «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» الظاهر منه ان التيمم طهور لدى فقدان الماء أو العذر في استعماله، فكأنه قال: التيمم أحد الطهورين.

فيستفاد منه و من قبله مع الارتكازات العقلائية ان كل ما للوضوء و الغسل عند الاحتياج إليهما للتيمم مع تعذرهما، فإذا اجتزى بغسل واحد عن الأغسال المتعددة و ان كان أحدها للجنابة اجتزى عن الوضوء أيضا يجتزى بالتيمم الذي هو بمنزلته، و هو الطهور في هذه الحالة و بالجملة حال البدل حال المبدل منه مطلقا و في جميع ماله من الآثار.

و يمكن استفادته عن الاخبار أيضا كصحيحة ابن حمران و جميل بن دراج بطريق جميل «أنهما سألا أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن امام قوم أصابته جنابة في السفر و ليس معه من الماء ما يكفيه للغسل أ يتوضأ بعضهم و يصلى بهم؟ فقال: لا و لكن يتيمم الجنب و يصلى بهم فان اللّٰه عز و جل جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» فان الظاهر منها الاكتفاء بالتيمم للصلاة مع فرض وجدان الماء بقدر الوضوء، و مقتضى

تعليله عموم

______________________________

(1) مرت في صفحة 95.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 186

الحكم و المنزلة.

و اما ما قد يقال بالاجتزاء بتيمم واحد عن غسل الحيض و الوضوء، و ان لم نقل في المبدل منه فمبنىّ على كون التيمم للوضوء و الغسل بكيفية واحدة، و عدم قيد يوجب تباينهما و عدم إمكان اجتماعهما في المصداق الواحد، و استفادة جميع التيممات من الآية الكريمة بالتقريب المتقدم، و تقديم إطلاق الجزاء على إطلاق الشرط في الآية، لكن جميع المقدمات مسلمة إلا الأخيرة لما تقرر من تقديم إطلاق الشرط على الجزاء، مضافا الى بعد زيادة البدل عن المبدل منه و لأجله لا يستفاد ذلك في المقام و لو سلم في سائر المقامات فالأقوى هو تساويهما في الآثار مطلقا.

المبحث الرابع في احكامه و هي أمور

الأول لا خلاف ظاهرا بينهم في عدم صحة التيمم قبل الوقت

لصاحبته و عليه نقل الإجماع مستفيضا، لانه منقول عن ثلاثة عشر موضعا أو أكثر من زمن المحقق و من بعده و لو أضيف إليه فحوى الإجماعات المنقولة على عدم صحته في سعة الوقت يكاد يتجاوز العشرين، و هو الحجة لعدم إمكان ان يقال كل ذلك لأمر عقلي، سيما إذا ثبت ان الوضوء التأهبي المفتي به من قبيل التخصيص عندهم من عدم جواز الوضوء قبل الوقت لأن التأهب للفرض و التهيؤ له عبارة أخرى عن كونه له، و معه لا يكون منعهم لعدم المعقولية، لكن إثبات الخروج التخصيصى مشكل بل غير ممكن، لاحتمال أن يكون تخصصا لأجل الاتكال على الروايات الدالة على أفضلية إيقاع الصلوات في أول أوقاتها فاستكشف منها محبوبية تحصيل الطهور قبل الأوقات، و لو لأجل الكون على الطهارة.

و يمكن ان يقال: ان نفس التهيؤ للصلاة غاية أخرى غير الغيرية، و كيف كان ففي الإجماعات كفاية

بعد فساد توهم كون الاتكال على الأمر العقلي الغير التام، و تخطئة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 187

الكل في مثل هذا الأمر العقلي الذي ربما يطابق الوجدان خطأ فاحش، سيما مع ورود نظيره في الشرع كمقدمات الحج و ظهور الكتاب و السنة إلا بعض الروايات في كون الصلاة بالنسبة إلى الأوقات من قبيل الواجب المعلق لا المشروط كما سيأتي. مضافا الى عدم اتكال كثير من قدماء أصحابنا على مثل تلك العقليات التي كثرت و شاعت لدى متأخري المتأخرين كما لا يخفى.

و من هنا يمكن كشف كون الحكم معهودا من الصدر الأول، و اما لو أغمضنا عن ذلك فالاتكال على الدليل العقلي المتوهم في المقام غير ممكن بأن يقال:

ان الصلاة من قبيل الواجب المشروط بالأوقات فقبل مجي ء أوقاتها لا يكون التكليف بها فعليا، و مع عدم وجوب ذي المقدمة لا يمكن وجوب مقدمته لعدم إمكان تحقق المعلول قبل علته، و معه لا يمكن صحته لأجل الإتيان به بداعي الأمر المقدمي الموهوم.

و فيه: بعد تسليم كون الصلاة من الواجب المشروط و تسليم وجوب المقدمة شرعا و تسليم صلوح الأمر الغيري للعبادية، ان التحقيق إمكان وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها لما حققناه في محله.

و مجملة ان الملازمة على فرض تسليمها ليست بين وجوب المقدمة و وجوب ذيها، و لا بين ارادتها و إرادته بمعنى نشو وجوب عن وجوب أو إرادة عن ارادة، لان البعث إلى ذي المقدمة لو كان علة تامة لبعث آخر متعلق بمقدمته بحيث يكون البعث إليها لازم البعث اليه و معلوله، لزم منه مقهورية الآمر الباعث لذي المقدمة للبعث الى مقدمته بلا حصول مقدماته، و ما يتوقف عليه من التصور

و التصديق بالفائدة و غيرهما و هو ضروري الفساد، كما ان معلولية ارادة المقدمة لا إرادة ذي المقدمة بذلك المعنى ضروري البطلان، ضرورة ان كل ارادة تحتاج في تحققها الى مباد تصورية و تصديقية لا يعقل تحققها بدونها.

نعم ما يمكن ان يقال في باب وجوب المقدمة إن ارادتها تحصل من مباد خاصة بها هي تصورها، و تصور توقف ذي المقدمة عليها و التصديق به، و إدراك لزوم حصولها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 188

بيد العبد و معها تتحقق ارادتها و البعث إليها، و هذه المقدمات كما هي حاصلة في مقدمات الواجب المطلق و المشروط بعد تحقق شرطه، حاصلة للمشروط قبل تحقق شرطه، فان المولى الأمر بشي ء مشروطا بوقت مثلا، إذا تصور مقدمته الوجودية قبل مجي ء شرطه و تصور توقفه عليها و صدق ذلك، و رأى ان مطلوبه في موطنه متوقف عليه، و ان لم يكن بالفعل مطلوبا له، و لا يمكن التوصل به الا بإيجادها فمع انحصارها تتعلق لا محالة إرادته بإيجادها للتوصل بها الى ما يصير واجبا و مطلوبا مطلقا في موطنه، لحصول مبادي الإرادة و عدم إمكان تفكيك مباديها عنها، و تبعية وجوب المقدمة عن وجوب ذي المقدمة ليست الا بهذا المعنى المحقق في الواجبات المشروطة قبل مجي ء شرطها أيضا، و مع عدم الانحصار يحكم العقل بالتخيير.

نعم لو كانت الملازمة بين الإرادة الفعلية أو الوجوب الفعلي المتعلق بذي المقدمة مع وجوب مقدمته لكان وجوبها قبل وجوبه ممتنعا لكن المبنى فاسد، بل وجوبها على فرض تسليم الملازمة تابع لوجوب ذيها بالوجه الذي عرفت، و قد عرفت عدم الفرق بين فعلية وجوب ذي المقدمة أو ما سيصير فعليا من غير

لزوم الالتزام بالوجوب التعليقي أو التفصيل بين المقدمات المفوتة و غيرها.

فتحصل مما ذكرناه ان الطهارات الثلث قبل حضور أوقات الصلاة واجبة بناء على القول بوجوب المقدمة، و لو قلنا بان الوقت شرط الوجوب و ان عباديتها تتوقف على الأمر الغيري المقدمي، مع ان كون الصلاة من قبيل الواجب المشروط بحضور أوقاتها محل منع لظهور الكتاب الكريم، و أكثر الاخبار في الوجوب التعليقي كقوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ و قوله تعالى إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً المفسر بكونها موجوبا و ثابتا و مفروضا في الروايات و قوله تعالى أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ المفسر بصلاة الغداة و المغرب و العشاء.

و كقول أبى جعفر عليه السّلام في صحيحة زرارة: «إنما فرض اللّٰه عز و جل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا و ثلثين صلاة» فيكون الوجوب فعليا و الواجب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 189

استقباليا، و قد ذكرنا في محله إمكان المشروط بما ذكره المشهور و كذا المعلق.

و اما ما ذكره بعض المحققين من لزوم تعلق الخطابات قبل حضور زمان الفعل لعدم تعقل الأمر بإيجاد شي ء في زمان صدور الطلب و بذلك دفع الاشكال عن وجوب المقدمة قبل حضور وقت الواجب، و صح حرمة اراقة الماء قبل الوقت إذا علم بعدم إمكان تحصيله بعد الى غير ذلك.

ففيه: أنه ان كان المراد بعدم تعقل وحدة زمان الخطاب و إيجاد الفعل لزوم تقدم إنشاء الخطاب عن زمان العمل كما هو ظاهره، فهو غير ملازم للوجوب المعلق، فيمكن ان يصدر الخطاب المشروط بزمان العمل قبل مجي ء الوقت، و لا يكون الوجوب فعليا الا عند مجي ء

وقته و معه لا يدفع الإشكال في المقام و لا في سائر المقامات.

و ان كان المراد ان اتحاد زمان فعلية التكليف و العمل محال، فلا يمكن ان يكون الزوال شرطا للوجوب و ظرفا لأول جزء من الصلاة فهو ممنوع، لان ما هو المسلم لزوم تقدم باعثية الأمر على انبعاث المكلف، لكن لا يلزم منه أن يكون بينهما تقدم و تأخر وجودي، ضرورة ان المكلف إذا علم بخطاب أقم الصلاة إذا زالت الشمس مثلا ينبعث منه في أول الزوال، و ان شئت قلت ان التقدم رتبيّ لا خارجي، فلا يلزم ان يكون الخطاب فعليا قبل مجي ء وقت العمل.

و العجب منه ان في ذيل كلامه اعترف بان الوقت من الشرائط الوجوبية للواجبات الموقتة، و مع ذلك التزم بالوجوب التعليقي، فكأنه التزم بالوجوب المعلق و المشروط معا في الصلاة و هو كما ترى.

ثم ان في أصل وجوب المقدمة و صلاحية الأمر المقدمي للمقربية و كون عبادية الطهارات الثلث من قبل الأمر المقدمي و لو فرض صلوحه للتقرب، اشكالا و منعا ينافي التفصيل فيها لوضع هذا المختصر.

و بما ذكرناه من عدم الفرق بين قبل الوقت و بعده على فرض وجوب المقدمة، و بما حققناه في محله من عدم تعقل وجوب المقدمة رأسا يجب التصرف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 190

بوجه في مثل صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال: إذا دخل الوقت وجب الصلاة و لا صلاة الا بطهور» «1» حيث يظهر منها وجوب الطهور عند دخول الوقت و مفهومها عدمه بعدمه، فان وجوب الطهور انما هو بملاك المقدمية لا غير، و قد حقق عدم تعقله و على فرض تعقله عدم تعقل الفرق

بين الوقت و قبله، و لذلك لا بد من رفع اليد عن مفهومها و التصرف في منطوقها بوجه، مضافا الى مخالفتها لظاهر الكتاب و صحيحة زرارة المتقدمة الدالتين على كون الصلاة واجبا معلقا.

ثم ان ما مر من الكلام انما هو مع المماشاة للقوم و الا فالتحقيق ان الطهارات الثلث بما هي عبادات جعلت مقدمة و شرطا للصلاة أو مقدمة لمقدمتها، ان قلنا بان الطهور شرط و هو محصل منها، فالارادة المتعلقة بالصلاة على فرض وجوب المقدمة موجبة بنحو ما مر لإرادة متعلقة بتلك العبادات بما هي عبادات، و صالحات للتقرب قبل تعلق الإرادة بها من قبل ذي المقدمة، و الا يلزم ان يكون سبيلها سبيل الطهارة الخبثية التي هي واجبة توصلا مع انه خلاف الضرورة، فالأمر المقدمي على فرضه لا يمكن ان يكون ملاك عباديتها بعد كونها مقدمة على تعلقه.

و توهم سقوط أوامرها النفسية الاستحبابية عند تعلق الأمر الوجوبي المقدمي قد فرغنا عن تضعيفه في محله.

ثم ان الأمر المقدمي على فرضه انما يدعو الى الغسل و أخويه لأجل ترتب الطهارة عليها أو كونها طهارات كما يظهر من الكتاب و السنة، و ان كان للتأمل في كون الطهارة بنفسها شرطا أو لأجل رفع القذارة الحاصلة بالاحداث التي هي الموانع مجال، و كيف كان لا يدعو الأمر المقدمي إلا إليها لأجل ترتب الطهارة عليها، فتكون الصلاة غاية ثانوية للطهارات و الغاية الأولى حصول الطهور، لا بمعنى ان حصول الطهور يتوقف على قصده فإنه محل اشكال بل منع عقلا ان رجع الى تقييد في العمل، بل المراد ان الطهور

______________________________

(1) مرت في صفحة 144.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 191

لما كان شرط الصلاة مثلا

و هو يحصل بتلك الاعمال إذا وجدت للّٰه تعالى. فلا محالة يتعلق الأمر المقدمي بتحصيله و إتيان الافعال للّٰه تعالى لتحصيله، فتقع دائما تلك الأعمال لأجل غاية هي الطهور و يدعو الأمر المقدمي اليه، (فح) يقع الإشكال في الإجماع المدعى على عدم صحة التيمم قبل الوقت مع دعوى إرسال الأصحاب صحة التيمم قبل الوقت لغاية أخرى حتى الكون على الطهارة إرسال المسلمات، مع ما عرفت ان الأمر المقدمي لا يدعو الا إليها لتحصيل الطهور، فلا تقع تلك الأفعال الا على وجه واحد هو الإتيان للّٰه تعالى لما يترتب عليها الطهور، فعليه لو كان الإجماع قائما على بطلان التيمم إذا أتى به لمحض الأمر الغيري و للصلاة مع تجريده عن كافة الغايات حتى الكون على الطهارة فهو صحيح لو رجع الى عدم قصد العبادية، لكن لازمة بطلانه و لو وقع في الوقت أو في ضيقه، كما انه لو قلنا بصحته و طهوريته إذا وقع بقصد التقرب و لو جرد عن قصد كونه طهورا لغفلة أو جهل لكان صحيحا، و لو قبل الوقت لان ترتب أثر الشي ء عليه لا يتوقف على قصده.

و لو قيل بقيام الإجماع على بطلانه للصلاة و لو كانت غاية الغاية، و تكون الغاية الأولى الطهور، فهو مناف لما ادعى من تسالمهم على صحته إذا قصد غاية أخرى الا أن يرجع مرادهم الى البطلان، إذا كانت الصلاة غاية الغاية و هو بعيد، و المسألة مشكلة و الاحتياط سبيل النجاة.

الثاني: لا اشكال و لا كلام في صحة التيمم في ضيق الوقت،

و اما في سعته فعن المشهور عدم الجواز مطلقا، و لازم مقابلته للتفصيل الآتي هو عدم الجواز حتى مع العلم باستمرار العجز، و ان كان شمول إطلاق معاقد الإجماعات و الشهرات المحكية لذلك محل تأمل،

و كيف كان قد نسب هذا القول تارة إلى الأكثر كما عن المنتهى و التذكرة، و الذكرى، و كشف الالتباس، و جامع المقاصد، و كشف اللثام، و اخرى إلى الأشهر كما عن الدروس، و ثالثة إلى المشهور كما عن المختلف و المسالك.

و جملة أخرى من الكتب، و رابعة إلى الإجماع كما في الانتصار. و عن الناصريات. و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 192

عن ظاهر الغنية. و شرح جمل السيد للقاضي، و احكام الراوندي.

و عن جماعة الجواز مطلقا كالعلامة في المنتهى و التحرير و الإرشاد و الشهيد في البيان و الأردبيلي، و الخراساني: و الكاشاني. و عن الذكرى حكايته عن الصدوق و ظاهر الجعفي، و البزنطي، و في مفتاح الكرامة الحاكي عن الصدوق جماعة من الأصحاب منهم العلامة في جملة من كتبه و المحقق في المعتبر و عن حاشية الإرشاد و المدارك انه قوى متين، و عن المهذب البارع انه مشهور كالقول الأول، و حكى أطباق جمهور العامة عليه.

و عن جماعة الجواز مع العلم باستمرار العجز و عدمه مع عدمه، و هو المحكي عن المعتبر و التذكرة و الفخرية و اللمعة. و جملة أخرى، و عن جامع المقاصد ان عليه أكثر المتأخرين، و عن الروضة انه الأشهر بين المتأخرين، و ربما يفصل بين العلم برفع العجز و عدمه كما اختاره جماعة من متأخري المتأخرين، و هو محتمل قول من قال بالجواز مطلقا بدعوى انصرافه عن هذه الصورة، و كيف كان فالمتبع هو الأدلة اللفظية إذ تحصيل الإجماع أو الشهرة المعتبرة في مثل تلك المسألة التي تراكمت فيها الآراء و الأدلة مشكل.

ثم ان لازم ما ذكرناه في الأمر الأول هو جواز التيمم

في سعة الوقت و صحته لكن لما وردت أدلة كثيرة في هذه المسألة لا بد من استيناف الكلام فيها و النظر في الأدلة و مقتضاها.

فنقول: يمكن الاستدلال للجواز مطلقا بإطلاق الآية الكريمة، و قد استشكل على الاستدلال بها علم الهدى في الانتصار بما ملخصه: ان المراد من قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ إذا أردتم القيام بلا خلاف ثم اتبع ذلك بحكم العادم للماء، فمن تعلق بالاية لجواز التيمم في أول الوقت لا بد ان يدل على جواز إرادته القيام للصلاة، فانا نخالف ذلك و نقول ليس لمن عدم الماء أن يريدها أول الوقت، و ارادة الصلاة شرط في الجملتين و الا لزم وجوب التيمم على المريض و المسافر إذا حدثا و ان لم يريدا الصلاة و هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 193

لا يقول به أحد «انتهى» أقول: ظاهر الآية الشريفة ان ارادة القيام للصلاة على فرض شرطيتها للوضوء و الغسل و التيمم على نسق واحد، و ان في كل مورد أراد القيام للصلاة فيجب عليه الطهارة المائية، و مع فقدان الماء تقوم الترابية مقامها من غير تفكيك بين الموارد.

و لازمة انه إذا أراد القيام للصلاة في أول الوقت يجب عليه الوضوء أو الغسل و مع فقدان الماء يجب عليه التيمم، و التفكيك بينهما خلاف المتفاهم العرفي، مع ان قوله «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ» ليس مسوقا لإفادة شرطية القيام إلى الصلاة للوضوء أو التيمم أو وجوبهما، بل مسوق لإفادة شرطية الطهور للصلاة، كما هو المتفاهم عرفا في مثل تلك التراكيب، سيما في مثل العناوين الألية و الطريقية المأخوذة في تلو الشرط، فلا يفهم من مثل «إذا أردت الصلاة أو

إذا قمت إلى الصلاة استر عورتك أو توجه إلى القبلة» إلا أنهما دخيلان في تحققها، لا ان القيام و الإرادة شرط لوجوبهما.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في إطلاق الآية الكريمة، و انه مع عدم وجدان الماء مطلقا يقوم التيمم مقام الوضوء و الغسل و التقييد بعدم وجدانه الى آخر الوقت يحتاج الى دليل.

و مما يوجب تحكيم إطلاقها قوله تعالى في ذيل حكم التيمم «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» حيث يدل على ان تشريع التيمم لدفع الحرج عن المريض و غيره و معه كيف يمكن تحميل لزوم الصبر على المريض و الفاقد الى نصف الليل أو آخره، و هل هذا الا تحريج و تضييق فوق تحميل الوضوء، و معه كيف يمن عليه بعدم جعل الحرج و إرادته.

و الانصاف ان إطلاق الآية في غاية القوة خصوصا مع ضم ذيلها اليه، و هو يقتضي عدم الفرق بين العلم بزوال العذر و عدمه، و دعوى الانصراف عن صورة العلم غير مسموعة، هذا حال الآية و أما الروايات فما دلت على صحته في السعة على طوائف:

منها ما دلت بإطلاقها عليها مع التصريح بعدم لزوم الإعادة كصحيحة الحلبي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 194

«أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل إذا أجنب و لم يجد الماء؟ قال: يتيمم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل و لا يعيد» «1» و صحيحته الأخرى «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: إذا لم يجد الرجل طهورا و كان جنبا فليتمسح من الأرض و ليصل فإذا وجد ماء فليغتسل و قد أجزأته صلوته التي صلى» «2» و مثلها صحيحة ابن سنان «3» و قريب منها غيرها.

و

منها ما دلت على صحته مع التصريح بسعة الوقت و عدم لزوم الإعادة، كموثقة أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل تيمم و صلى ثم بلغ الماء قبل أن يخرج الوقت؟ فقال: ليس عليه إعادة الصلاة» «4» و صحيحة يعقوب بن سالم أو موثقته عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في رجل تيمم و صلى ثم أصاب الماء و هو في وقت؟ قال: قد مضت صلوته و ليتطهر» «5» و رواية على بن سالم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: أتيمم و أصلي ثم أجد الماء و قد بقي علىّ وقت؟ فقال:

لا تعد الصلاة فإن رب الماء هو رب الصعيد» «6» و صحيحة زرارة «قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام فإن أصاب الماء و قد صلى بتيمم و هو في وقت؟ قال: تمت صلوته و لا اعادة عليه» «7» و جعل قوله: هو في وقت متعلقا بصلى في غاية البعد خصوصا مع تعقبه بلا اعادة عليه الى غير ذلك كرواية معاوية بن ميسرة، «8» و مرسلة حسين العامري عمن سأله، «9» و العياشي عن أبي أيوب عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «10» بل رواية داود الرقي التي لا يبعد أن تكون صحيحة، بل لا يبعد أن تكون صحيحة ابن مسلم و العيص «11» ظاهرتين في بقاء الوقت و منها ما دلت على صحته مع الأمر بالإعادة مع رفع العذر في الوقت كصحيحة

______________________________

(1) مرت في صفحة 144

(2) مرت في صفحة 144

(3) مرت في صفحة 144

(4) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 11- 14- 17- 9- 13

(5) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 11- 14- 17- 9- 13

(6)

الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 11- 14- 17- 9- 13

(7) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 11- 14- 17- 9- 13

(8) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 11- 14- 17- 9- 13

(9) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 2- 6.

(10) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 2- 6.

(11) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 15- 16.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 195

عبد اللّٰه بن سنان «انه سال أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة و يخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ فقال: يتيمم و يصلى فإذا أمن من البرد اغتسل و أعاد الصلاة» «1» و نظيرها مرسلة جعفر بن بشير عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «2» و صحيحة يعقوب بن يقطين «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل تيمم فصلى فأصاب بعد صلوته ماء أ يتوضأ و يعيد الصلاة أم تجوز صلوته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضأ و أعاد فان مضى الوقت فلا اعادة عليه» «3» و موثقة منصور بن حازم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «في رجل تيمم فصلى ثم أصاب الماء؟ فقال: اما أنا فكنت فاعلا انى كنت أتوضأ و أعيد» «4» و لا يخفى تعين حمل الإعادة في الوقت على الاستحباب بقرينة نصوصية الطائفة المتقدمة في عدم وجوب الإعادة بل الرواية الأخيرة مشعرة أو ظاهرة في الاستحباب، (فح) تكون جميع تلك الطوائف من أدلة صحة التيمم في سعة الوقت كما ان أوجه المحامل في الروايات التي استدلت بها على عدم صحته في السعة الحمل عليه لو سلمت دلالتها على مقصودهم لكن يمكن الخدشة فيها.

اما صحيحة

محمد بن مسلم عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سمعته يقول: إذا لم تجد ماء و أردت التيمم فأخر التيمم الى آخر الوقت فان فاتك الماء لم تفتك الأرض» «5» فلا مكان ان يقال فيها ان قوله: فان فاتك إلخ الذي هو بمنزلة العلة لقوله أخر التيمم ظاهر في ان التيمم في سعة الوقت مع عدم وجدان الماء محصل للطهور المحتاج اليه، لكن الأمر بالتأخير لاحتمال وجدان الماء الذي هو المصداق الأرجح، و بعبارة اخرى ان التراب إذا كان في سعة الوقت غير محصل للطهارة و يكون كالخشب في ذلك، و انما تختص طهوريته بآخر الوقت لا يناسب أن يقال: فان فاتك الماء لم تفتك الأرض، فإن هذا الكلام انما يقال فيما إذا كان المصداق المرجوح ميسورا في جميع الوقت

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2- 6- 8- 10.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2- 6- 8- 10.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2- 6- 8- 10.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 2- 6- 8- 10.

(5) الوسائل أبواب التيمم، ب 22، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 196

المضروب و مصداق الراجح محتمل الوجود.

و اما إذا كان المصداق المرجوح غير ميسور و غير صحيح الا آخر الوقت لا يقال بتلك العبارة الا ترى انه إذا قيل لأحد أخر الغذاء فإنه إذا فاتك اللحم لم تفتك الخبز كان ظاهرا في ان الخبز مصداق المطلوب مطلقا، لكن الأرجح تأخير الأكل لانتظار حصول المطلوب الأرجح، و لا يقال ذلك فيما إذا لم يكن الخبز صالحا للطعام إلا في آخر الوقت و المرجع في مثله العرف.

و به يجاب عن

موثقتي عمار، و ما ذكرناه و ان ثقل على بعض الاسماع لكن بالمراجعة إلى أشباهه في المخاطبات يرفع الاستبعاد فتأمل، و اما صحيحة زرارة عن أحدهما «قال إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم و ليصل في آخر الوقت» «1» فالظاهر منها وجوب الطلب الى آخر الوقت، و هو مع مخالفته لتحديده بغلوة سهم أو سهمين مخالف لفتوى الأصحاب، فلا بد من حملها على الاستحباب أو تأويلها بأن يقال ان المراد منه انه يجب الطلب إذا كان في الوقت، و كان واسعا له من غير تعرض لمقدار الطلب و مع عدم سعته له يتيمم، (فح) تدل على جواز التيمم في سعته، لان قوله «فليطلب إذا كان في سعة» ظاهر في انه يتيمم بعد الطلب في سعته خصوصا مع مقابلته لخوف الفوت فكأنه قال: مع خوف الفوت يتيمم بلا طلب و مع سعته بعد الطلب، نعم بناء على رواية فليمسك تدل على المطلوب في الجملة.

ثم انه بناء على الغض عما ذكرنا في الروايات المانعة فلا شبهة في ان محطها هو فيما إذا احتمل العثور على الماء، اما فيما علل بقوله انه ان فات الماء لم تفتك الأرض فظاهر و اما صحيحة زرارة بناء على رواية فليمسك فلان العرف لا يفهم من لزوم الإمساك و التأخير إلى آخر الوقت، موضوعيته بعد كون الصلاة مع الوضوء و الغسل فرد المطلوب الأعلى، و بعد العلم بان المنظور الأصلي في تلك الروايات هو الصلاة مع الطهور أما

______________________________

(1) الوسائل: أبواب التيمم، ب 22، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 197

بالماء أو بالتيمم، فمعه لا يشك العرف

في ان الأمر بالإمساك إلى آخر الوقت و التيمم عند خوف فوت الوقت ليس الا لاحتمال حصول المطلوب الأعلى، لا لمطلوبية الإمساك نفسا أو اشتراط التيمم بضيق الوقت.

و منه يعلم ان الروايات المشتملة على التعليل المتقدم لو لم تكن مذيلة به يفهم منها ان الأمر بالتأخير انما هو لأجل احتمال الوصول الى المطلوب الأعلى، و هو الصلاة مع المائية و هذا واضح لدى التأمل، (فح) قد يقال في مقام الجمع بين هذه الطائفة و الروايات المتقدمة بتقييدها بهذه الطائفة، فتحمل تلك الروايات و الآية الكريمة على مورد العلم بفقدان الماء، فيفصل بين رجاء رفع العذر و عدمه كما تقدم نقل اشتهاره بين المتأخرين من أصحابنا.

لكن الإنصاف ان هذا النحو من الجمع و التقييد في غاية الوهن لعدم إمكان حمل الآية و الروايات التي ربما بلغت عشرين كلها في مقام البيان و تعيين الوظيفة من غير إشارة الى هذا القيد النادر التحقق على هذا المورد، سيما ما اشتملت على التعليل بان رب الماء هو رب التراب، كصحيحة ابن مسلم «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد و صلّى ثم وجد الماء؟ قال: لا يعيد ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين» «1» و قريب منها رواية معاوية بن ميسرة و على بن سالم «2» و بالجملة تقييد الآية و الروايات المستفيضة بل المتواترة بهذا القيد من أبعد المحامل، و توهم ان محيط ورودها لما كان قليل الماء سيما في المسافرات البعيدة في البوادي التي قلت فيها المياه و المعمورة فلا مانع من الحمل على صورة العلم بالعدم لعدم ندرة الفرض، فاسد، بعد كون جزيرة العرب محاطة بالبحار، و في

معرض الأمطار الكثيرة الغريزة المعهودة فيها في كثير من الأوقات، فكيف يمكن دعوى شيوع العلم بذلك أو عدم ندرته بحيث لا يستهجن ورود المطلقات الكثيرة فيه في مقام البيان.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 15- 13- 17.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 14، ح 15- 13- 17.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 198

هذا مع ان السائلين لم يكونوا من أهل الجزيرة غالبا كزرارة و محمد بن مسلم و ليث المرادي و منصور بن حازم الكوفيين و الحلبي و يعقوب بن يقطين البغدادي و غيرهم، فالحمل المذكور غير وجيه بخلاف حمل الأخبار المانعة على الاستحباب حملا للظاهر على النص على فرض تسليم الظهور اللغوي في الوجوب، مع انه محل كلام كما قرر في محله فلا إشكال في هذا الحمل سيما مع وجود شواهد في نفسها عليه، ففي رواية محمد بن حمران عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: رجل تيمم ثم دخل في الصلاة و قد كان طلب الماء فلم يقدر عليه ثم يؤتى بالماء حين تدخل في الصلاة قال: يمضى في الصلاة، و اعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في آخر الوقت» «1» فان قوله و اعلم انه إلخ بعد الأمر بالإمضاء في الصلاة من غير استفصال كالنص في عدم الإلزام، فالتفصيل بين العلم باستمرار العذر و عدمه ضعيف كما ان الأقرب بحسب إطلاق الأدلة عدم الفرق بين العلم بزوال العذر و عدمه، و دعوى الانصراف إلى صورة عدم العلم برفعه في غير محلها.

نعم الانصاف انصراف الأدلة عن بعض الموارد بلا اشكال كما لو منعه الزحام عن الوصول الى الماء الا بعد ساعة أو كانت نوبته في

الاغتراف من الشريعة بعد اغتراف من سبقها و تقدم عليه و أمثال ذلك، بل لا يبعد أن يكون الأمر بالإعادة في موثقة سماعة «عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام عن أبيه عن على انه سئل عن الرجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة و يوم عرفة فأحدث أو ذكر انه على غير وضوء و لا يستطيع الخروج من كثرة الزحام قال يتيمم و يصلى معهم و يعيد إذا هو انصرف» «2» و قريب منها موثقة السكوني «3» لأجل العلم برفع العذر بعد انصراف الجماعة فيجب عليه الإعادة، و تدل على التفصيل المتقدم و الأمر بالصلاة معهم، لكون التخلف عن جماعتهم خلاف التقية، و الاعتذار بعدم الوضوء لعله كان غير مقبول عندهم، و الأمر بالتيمم و ان

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 21 ح 3.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 15 ح 2- 1.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 15 ح 2- 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 199

كان ظاهرا في صحة صلوته في هذا الحال، و لهذا حملوا الإعادة على الاستحباب لكن حمل الأمر بالتيمم و الصلاة معهم عليه أولى من حمل الإعادة عليه بعد انصراف الأدلة عن مثل هذا العذر الذي يرفع بعد ساعة، و لهذا لو كان الزحام لأمر آخر يمنعه عن الوضوء مقدار ساعة لا يمكن الالتزام بصحة التيمم و الصلاة، و كذا لو منعه مانع منه مقدار ساعة.

نعم لو قلنا بوجوب الجمعة تعيينا فالظاهر صحته و صحة صلوته لخروج وقتها كما لو منعه زحام أو غيره عند ضيق الوقت صح تيممه و صلوته، لكن الروايتين ظاهرتان في جمعة الناس، و مع إقامتهم لا تجب علينا تعيينا بل في وجوبها

تعيينا حتى في زمان الحضور و بسط يد الوالي بالحق أيضا كلام، و ان أرسلوه ظاهرا إرسال المسلمات فالأقرب التفصيل بين العلم برفع العذر و عدمه و كونه في بعض الفروض النادرة موجبا للحرج غير مضر بعد رفعه بدليله.

ثم انه حكى عن صريح جماعة و ظاهر آخرين ان محل الخلاف في المسألة في غير المتيمم و اما من كان متيمما في أول الوقت لصلاة ضاق وقتها. أو لغاية أخرى صحت صلوته في أول وقتها لوجود المقتضى و رفع المانع، و يظهر مما ذكر ان المانع من تعجيل الصلاة هو فقدان الطهور و شرطية ضيق الوقت لصحة التيمم، و اما مع حصول الطهور بوجه آخر فلا يبقى مانع، فح لا ثمرة للنزاع كما لا يخفى.

و هذا النحو من البحث و ان أمكن احتماله في كلمات الفقهاء على بعد في خصوص الفرع بالنظر الى إطلاق كلماتهم ظاهرا بل الظاهر من السيد في الناصريات انه لا يجوز الصلاة بالتيمم إلا في آخر الوقت كما لا يجوز التيمم أيضا إلا في آخره، لكن غير ممكن في الروايات. اما أو لا فلان الظاهر من روايات المضايقة هو الأمر بتأخير التيمم التحصيل الفرد الأكمل الاختياري من الصلاة، لا لأجل عدم حصول الطهور، بل لو فرض اشتراط حصوله بتحقق الضيق أيضا يكون لأجل الصلاة لا للطهور و العرف الملتفت بان المنظور الأصلي هو الصلاة و الطهارات شرائط لها لا مطلوبات نفسية إلزامية، لا يفهم من الأمر الأمر بالتأخير

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 200

إلا للتحفظ على الصلاة المطلوبة ذاتا مع الطهارة المائية، و لا ينقدح في ذهنه اشتراط الطهور بالوقت، بل لو صرح بالاشتراط لا ينقدح في

ذهنه إلا مراعاة حال الصلاة مع المائية، (فح) لو أخذنا بتلك الروايات الواردة في المضايقة، و أغمضنا عما تقدم لا محيص عن القول بلزوم تأخير الصلاة إلى آخر الوقت رجاء لتحصيل الطهارة المائية.

هذا مضافا الى ان الظاهر من قوله في صحيحة زرارة «فليتيمم و ليصل في آخر الوقت» «1» و قوله في موثقة ابن بكير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل أجنب فلم يجد ماء يتيمم و يصلى؟ قال: لا حتى آخر الوقت» «2» ان الصلاة يجب ان تكون في آخر الوقت أيضا. تأمل، مع ان قوله في تلك الروايات «ان فاته الماء لم تفته الأرض» ظاهر في فوت المصلحة الصلاتية لا المصلحة النفسية للطهارة كما لا يخفى على المتأمل.

و اما ثانيا فلانه لو كان تحصيل الطهور بوجه آخر و غاية أخرى رافعا للمانع، و لم يكن للأمر بتأخير الصلاة و التيمم الى آخر الوقت موجب الا فقد الطهور الممكن الحصول بغاية أخرى، لما أمروا بتأخيرها مع الاهتمام العظيم بالتحفظ للصلاة في أوائل أوقاتها بما كاد أن يلحقه بالواجبات، فكان على الأئمة عليهم السلام لتنبيه على ذلك حفظا لاهمية أول الوقت لا الأمر بالتأخير بقول مطلق.

فيظهر من ذاك و ذا ان المهم في نظر الشارع مراعاة إيجاد الصلاة مع المائية و ليس الأمر بالتأخير لعدم حصول الطهور، فالأقوى بناء على القول بوجوب التأخير وجوبه مطلقا و لو كان الطهور محققا في أول الوقت.

نعم لا شبهة في عدم وجوب تجديد التيمم في آخر الوقت إذا وجد صحيحا في أوله أو قبله في ضيق الوقت مثلا كما صرحت به الروايات خلافا لبعض العامة.

ثم انه قد يقال ان المراد بآخر الوقت الذي يجب أو ينبغي

مراعاته هو آخره عرفا بحيث يقال انه اتى بها في آخره، فيصدق ذلك إذا اتى بها مع الآداب المتعارفة،

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 22 ح 2- 3.

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 22 ح 2- 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 201

بل و اختيار الفرد الطويل مع التخيير بينه و بين القصير، بل و إتيان بعض المقدمات المتعارفة، و مستندهم فيه هو الاخبار الحاكمة بتأخير التيمم الى آخر الوقت المحمولة على الأخر العرفي، كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام.

و يمكن ان يقال: ان الاخبار الواردة في لزوم التأخير فرضا لا يفهم منها الا الإرشاد بما حكم به العقل، و هو مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة يحكم بوجوب الصلاة بالفرد الاختياري من دلوك الشمس الى آخر الوقت، و مع التعذر عنه جزما لا احتمالا يجتزى بالاضطرارى، فيحكم فيما إذا كان للصلاة فرد طويل و قصير مع الاحتمال المعتد به برفع العذر الانتظار لا الإتيان بالطويل، كما انه يحكم بالاكتفاء بالواجبات و ترك الآداب حفظا للغرض الأعلى و الفرد الاختياري، و الظاهر ان الاخبار وردت للإرشاد لا للتوسعة عما يدركه العقل.

ثم ان ظاهر الاخبار ان اللازم هو التأخير إلى آخر الوقت، و هو الموضوع للحكم و الأمر بالتيمم و الصلاة مع خوف الفوت انما هو لترجيح الوقت على الطهارة المائية عند احتمال فوته لا لموضوعية في خوف الفوت، و معه لو انكشف سعة الوقت بقدر تحصيل المائية تجب عليه الإعادة، بل لا يبعد وجوبها لو وسع للترابية أيضا لعدم تحقق الشرط لو قلنا بان الضيق لها أو لصحة الصلاة أيضا، لكن الذي يسهل الخطب ان القول بالمضايقة ضعيف لكن

لا ينبغي ترك الاحتياط.

و لا يخفى ان القائل بالمضايقة لا يكون عاملا بالأخبار الدالة على عدم لزوم الإعادة و لو مع بقاء الوقت، اما بحملها على التقية لمطابقتها لجمهور الناس أو لغير ذلك، و معه لا وجه لرد قوله في هذه المسألة تشبثا بتلك الروايات، فقول بعض أهل التحقيق ردا على الشيخ القائل بالإعادة بأنه ضعيف محجوج بالأخبار المصرحة بعدم الإعادة كأنه وقع في غير محله.

الثالث من صلى بتيمم صحيح

لا يجب عليه الإعادة و لا القضاء، لاقتضاء الأمر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 202

الاجزاء و محل الكلام ما إذا قلنا بصحة صلوته مع التيمم، اما لأجل القول بالمواسعة أو للبناء على صحة صلوته مع التيمم لغاية أخرى، أو مع بقائه من الوقت السابق، و بعبارة أخرى بعد الفراغ عن المسألة السابقة ففي كل مورد صححنا تيممه و صلوته فصلى بتيمم لا يجب عليه الإعادة فضلا عن القضاء سواء قلنا بان الشرط قابل للجعل المستقل و لا يحتاج الى انتزاعه من الأمر بالمركب مقيدا به أولا.

اما على الأول فواضح، لان الظاهر من الآية الكريمة أنها بصدد جعل شرطية الطهور للصلاة المأمور بها مع الوضوء و الغسل، و مع فقدان الماء مع التيمم فتكون الصلاة طبيعة واحدة ذات أمر واحد، و لها مصاديق اختيارية و اضطرارية. فمع طرو الاضطرار يكون المكلف مخيرا مع سعة الوقت بين إتيان الصلاة المأمور بها بفردها الاضطراري، أو الصبر و الإتيان بالفرد الاختياري، و ليس المصداق الاختياري و الاضطراري مأمورا به بل لا يكون إلا أمر واحد متعلق بنفس الطبيعة، و لا يعقل بقائه مع الإتيان بمتعلقه سواء أتى بالفرد الاختياري منها أو الاضطراري. و مع فرض إمكان تعلق الجعل

المستقل بالشرطية و المانعية لا يجوز رفع اليد عن ظاهر الآية الدالة على جعل شرطية الوضوء و الغسل و لدى العذر التيمم.

و اما على الثاني فلا محيص عن أمرين يتعلق أحدهما بالواجد و الأخر بالفاقد لكن الضرورة قائمة بان الصلاة مطلوبة واحدة، و تعدد الأمر فرضا انما هو لضيق الخناق و امتناع افادة الشرطية إلا به، و في مثله لا يكون المتعدد كاشفا عن كونها مع المائية مطلوبة و مع الترابية مطلوبة اخرى مستقلة.

و هذا نظير ما إذا قلنا بامتناع أخذ ما يجي ء من قبل الأمر كقصده في متعلقه و التزمنا بأمرين فإن الأمر الثاني لا يكون لتحديد المطلوب الأول و لا استقلال له، فلا يكون تعدد الأمر في المقام إلا لإفادة الشرطية في الحالين و لتحديد المطلوب الأول فلا شبهة في استفادة الاجزاء من الآية، لان الظاهر منها ان المكلف إذا قام إلى الصلاة المأمور بها يجب عليه أن يأتي بها مع المائية، و مع العذر مع الترابية و مع الإتيان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 203

بالاضطرارى يكون آتيا بطبيعة المأمور بها.

و مقتضى إطلاقها و إلغاء الخصوصية عرفا كما مرّ عدم الفرق بين السفر و الحضر و لا بين أسباب حصول الجنابة و لا غيرها، فما عن القديمين من إيجاب الإعادة كما عن السيد الفرق بين الحاضر و المسافر فأوجبها في الأول ضعيف.

و الظاهر ان مراد السيد وجوب القضاء لا الإعادة لأن مذهبه على ما في الانتصار و الناصريات عدم صحة التيمم و الصلاة إلا في آخر الوقت، و لهذا أورد على الناصر حيث قال: فان وجد الماء بعد ما فرغ من صلوته و هو في بقية من وقتها

وجب عليه إعادتها بقوله: ان هذا الفرع لا يشبه أصل من ذهب الى أن الصلاة بالتيمم لا يجوز إلا في آخر الوقت، و انما يجوز ان يفرع هذا الفرع من يجوز الصلاة في سعة الوقت، أو قبل تضييق الوقت، و قد بينا ان ذلك لا يجوز، فلا معنى لهذا الفرع على مذهبنا و مذهب من وافقنا في ان الصلاة لا تجوز إلا في آخر الوقت «انتهى» و لعل وجه ذهابه الى التفصيل انه لم يعمل على اخبار المواسعة و ظن ان الآية الشريفة تختص بالمسافر الفاقد، و اخبار المضايقة لم تتعرض الا للزوم التأخير إلى آخر الوقت إلا صحيحة زرارة المختصة بالمسافر، و فيها عدم لزوم القضاء عليه بعد الوجدان خارج الوقت.

و فيه ان الآية و ان علقت على المريض و المسافر لكن العرف بالمناسبات المرتكزة في ذهنه يلقى الخصوصية كما مرّ مرارا كما يلقيها عن الصحيحة أيضا هذا مضافا الى ما تقدم من دلالة طوائف من الروايات على المقصود، و لا وجه لرفع اليد عنها بعد كون المسألة خلافية من لدن زمن قديم، و لم يثبت إعراض الأصحاب عنها لو لم نقل بثبوت عدمه، و تخلل الاجتهاد في البين.

ثم ان مقتضى إطلاق الآية و الرواية عدم الفرق في الاجزاء بين تعمد الجنابة و الخشية عن استعمال الماء و غيره، فما حكى عن كتب الشيخ و المهذب و الإصباح و روض الجنان من لزوم الإعادة على المتعمد، و عن المدارك ان فيه قوة غير متضح المدرك، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «انه سال أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل تصيبه الجنابة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 204

في الليلة

الباردة فيخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ فقال: يتيمم و يصلى فإذا أمن البرد اغتسل و أعاد» «1» و مثلها مرسلة جعفر بن بشير «2» غير ظاهرة في المتعمد لو لم نقل بظهورها في غيره، مع ان ظاهرها صحة الصلاة مع التيمم في هذه الحال، و معها يكون مقتضى القاعدة الاجزاء، فتكون قرينة على حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب لبعد كون الصلاة صحيحة و وجوب الإعادة تعبدا، و لو لم يسلم ذلك فلا بد من حملها على الاستحباب جمعا بينها و بين ما تقدم من الأدلة المتظافرة على عدم وجوب الإعادة و التفصيل بين فاقد الماء و المقام في غير محله، مع ان العرف يفهم من تلك الأدلة ان تمام المناط هو صحة صلوته مع التيمم و اقتضاء الأمر الإجزاء، مضافا الى صحيحتي داود بن السرحان عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام و البزنطي عن الرضا عليه السّلام «في الرجل يصيبه الجنابة و به جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا يغتسل و يتيمم» «3» فإنه يفهم منهما جزما صحة الصلاة مع التيمم و عدم لزوم الإعادة لقاعدة الاجزاء.

فحمل الأمر بالإعادة على الاستحباب أولى من التصرف فيهما خصوصا مع جعل الخائف قرينا مع المجروح و المقروح مما لم ينقل من أحد وجوب الإعادة عليهما بعد الالتئام.

و مما ذكرنا يظهر انه لا مجال للتفصيل بين وجود الماء و خوف النفس عن استعماله و بين فقدان الماء بلزوم الإعادة بعد الصلاة مع التيمم في الأول، بدعوى ان ذلك مقتضى الروايات لاختصاص ما دلت على عدم الإعادة بفاقد الماء، و ما دلت على الإعادة أي صحيحة ابن سنان و مرسلة جعفر بن بشير بالواجد

الخائف.

و ذلك لما عرفت من ان الأمر بالتيمم و الصلاة في الروايتين دال على أن ما يأتي به في هذه الحال مع التيمم هي الصلاة التي كانت على المسلمين كتابا موقوتا لا صلاة اخرى وجبت على خصوص الخائف تعبدا و بقيت الصلاة المكتوبة على عامة المسلمين

______________________________

(1) مرت في صفحة 195.

(2) مرت في صفحة 195.

(3) الوسائل أبواب التيمم ب 5، ح 7- 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 205

بحالها يجب عليه إتيانها بعد رفع الخوف، و معه لا شبهة في سقوط الأمر عقلا لحصول المأمور به بمصداقه الاضطراري. الا ان يدعى ان خصوص الخائف مكلف من بين المسلمين بصلاتين إحديهما مع المائية و الأخرى مع الترابية، و الإتيان بالأولى موجب لسقوط التكليف عن الثانية دون العكس، و تكون الصلاتان في حق خصوص الخائف من الفرائض اليومية و هو كما ترى.

أو يلتزم بكون المكتوبة عليه كسائر المسلمين صلاة واحدة و هي ساقطة بإتيان الفرد الاضطراري، لكن يجب تعبدا إعادتها كاستحباب إعادة الصلاة جماعة بعد الإتيان بها فرادى، و هو أيضا بمكان من البعد لا يمكن الالتزام به و بعد بطلان الاحتمالات عقلا و عرفا لا محيص عن حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب، و لو لم يكن غير الروايتين شي ء، في الباب.

مع ان الروايات الدالة على عدم لزوم الإعادة على الفاقد تدل عرفا على ان عدمها انما هو لأجل كون الصلاة مع التيمم مصداقا للمأمور به من غير دخالة للسبب فيه، و انما السبب دخيل في حصول موضوع التيمم لا في كون الصلاة معه مصداقا للمأمور به.

و ان شئت قلت: ان العرف يفهم مع إلغاء الخصوصية ان تمام العلة لعدم لزوم الإعادة انما

هو قيام التيمم مقام المائية و تحقق الطبيعة المأمور بها بإتيانها معه من غير دخالة أسباب العذر و الانتقال في ذلك.

هذا مع قطع النظر عن التعليلات الواردة فيها، و اما مع النظر إليها كقوله في صحيحة محمد بن مسلم «1» بعد الحكم بعدم الإعادة بعد وجدان الماء «ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين» فالأمر أوضح، لأن الظاهر منه ان تمام العلة لعدم الإعادة هو فعل أحد الطهورين من غير دخالة شي ء آخر فيه، فح مع الأمر بالإتيان

______________________________

(1) مرت في صفحة 194 تحت رقم (11)

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 206

بالصلاة مع التيمم عند الخوف على النفس لا مجال للتشكيك في حصول الطهور به و فعل أحد الطهورين، فيندرج تحت العلة المنصوصة، و لا شبهة في ان التصرف في الأمر بالإعادة بحمله على الاستحباب أهون من رفع اليد من كل واحد مما تقدم فضلا عن مجموعه، فلا إشكال في الحكم بحمد اللّٰه تعالى.

ثم ان مقتضى ما ذكرناه و ان كان البناء على استحباب الإعادة فيمن منعه الزحام عن الوضوء كما ذهب اليه جمع، بل لعله المعروف بينهم خلافا للمحكي عن النهاية، و المبسوط، و المقنع، و الوسيلة، و المهذب. و كشف اللثام فأوجبوا الإعادة بعد التيمم و الصلاة معهم، و مستندهم موثقة سماعة «عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام عن أبيه عن على عليه السّلام انه سئل عن الرجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة و يوم عرفة فأحدث أو ذكر انه على غير وضوء و لا يستطيع الخروج من كثرة الزحام قال: يتيمم و يصلى معهم و يعيد إذا هو انصرف» «1» و نظيرها موثقة السكوني «2»

لكن الالتزام بالانتقال الى التيمم مع العلم بزوال العذر بعد ساعة مثلا بعيد، و لو بنينا على الأخذ بظاهر الروايتين لكان الواجب على من منعه الزحام أو غيره عن الوصول الى الماء مطلقا الصلاة متيمما و الإعادة لعدم الخصوصية في زحام عرفة جزما.

و دعوى اختصاص الجواب بزحام الجمعة فيكون لها خصوصية في غير محلها لان الظاهر منها ان الزحام في يوم الجمعة منعه عن الوضوء لصلاتها و يوم عرفة منعه عن الوضوء لفريضة الظهر أو العصر، بل الظاهر منهما ان الجمعة للناس، و معه لا تجب علينا تعيينا بلا اشكال بل المكلف مخير بين الصلاة معهم جمعة و الفرادى ظهرا، و معه كيف تجب عليه الصلاة و الإعادة معا.

و لهذا قلنا ان الظاهر من الروايتين لزوم الصلاة معهم تقية و لعل الأمر بالتيمم لأجل ان الدخول في الصلاة صورة أيضا يجب أو يستحب ان يكون مع الوضوء أو

______________________________

(1) مرت في صفحة 198.

(2) مرت في صفحة 198.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 207

التيمم كما لعله تشهد به رواية مسعدة بن صدقة التي لا يبعد كونها موثقة «أن قائلا قال لجعفر بن محمد عليهما السّلام: جعلت فداك إني أمر بقوم ناصبية و قد أقيمت لهم الصلاة و أنا على غير وضوء، فان لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا ان يقولوا أ فأصلى معهم ثم أتوضأ إذا انصرفت و أصلي؟ فقال جعفر بن محمد: سبحان اللّٰه أ فما يخاف ان يصلى من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفا» تأمل «1».

و كيف كان فالأقرب حملها على ان الصلاة معهم وجبت تقية، و يستحب أو يجب التيمم لها لكن لا تقع عن الفريضة

و تجب عليها الإعادة و عدم وقوعها فريضة ليس لكون الصلاة معهم لما قلنا في محله انها معهم مجزية، بل لعدم صحة التيمم مع العلم بوجود الماء و رفع المانع في الوقت خصوصا في مثل المفروض في الرواية.

ثم انه حكى عن النهاية و المبسوط ان من كان على ثوبه نجاسة غير معفوة و تعذر عليه إزالتها يتيمم و يصلّى ثم يعيد، و مستنده موثقة عمار الساباطي عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «انه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب و لا تحل الصلاة فيه و ليس يجد ما يغسله كيف يصنع؟ قال: يتيمم و يصلى فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة». «2»

و لا يخفى ان هذه الموثقة غير مربوطة بالمقام سؤالا و جوابا، لوضوح ان سؤاله انما هو عن وحدة الثوب و عدم إمكان تطهيره فأجاب بالتيمم و الصلاة أي مع الثوب النجس ظاهرا، ثم إذا أصاب الماء أعادها بعد غسله، فالجواب عن هذه الحيثية، و لهذا تعرض لغسله و إعادتها لا للوضوء و الإعادة، و انما ذكر التيمم تطفلا لفرض فقدان الماء.

فهذه المسألة ليست من مستثنيات المسألة المتقدمة بل هي مسألة أخرى برأسها تأتي إن شاء اللّٰه في أبواب النجاسات، و قد كثرت الروايات فيمن كان ثوبه نجسا و اختلفت

______________________________

(1) الوسائل أبواب الوضوء، ب، 2، ح 1.

(2) الوسائل أبواب الوضوء، ب 30، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 208

في وجوب الصلاة معه أو عريانا و المقام ليس مورد تنقيحها.

الرابع [حكم فاقد الطهورين]

المشهور كما عن كشف الالتباس و الرياض ان فاقد الطهورين تسقط عنه الصلاة، و عن روض الجنان و المدارك انه مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا، و

عن جامع المقاصد انه ظاهر مذهب أصحابنا، لكن في الشرائع قيل يصلى و يعيد و عن التذكرة و غيرها ان بعض الأصحاب قال: يصلى و يعيد، و عن جد المرتضى وجوب الأداء لا الفضاء، و لا بأس بالإشارة إلى مقتضى القاعدة في مثل المقام، فنقول: لو علم بجزئية شي ء للمركب أو شرطيته في الجملة و شك في انه كذلك مطلقا أو مخصوص بحال التمكن فلا يخلو اما ان يكون لدليل المركب إطلاق دون دليل اعتبارهما أو العكس، أو لكل منهما إطلاق أو إهمال، فإن كان لدليل المركب إطلاق فقط يجب إتيانه مع العجز عن الجزء أو الشرط. أو لدليل اعتبارهما فقط فيسقط معه، و يلحق بإطلاق دليله فقط تقدم دليله على دليل اعتبارهما بحكومة أو غيرها لو كان لهما إطلاق و بإطلاق دليليهما تقدمهما على دليله كذلك، و مع إهمالهما أو إطلاقهما من غير ترجيح يرجع الى مقتضى الأصل العقلي أو النقلي، مع قطع النظر عن أدلة العلاج لو قلنا بشمولها لمثل المقام، و الأصل العقلي يقتضي البراءة مطلقا كما هو المقرر في محله.

و قد يتمسك بالاستصحاب في بعض الموارد بوجوه من التقرير و قد فرغنا عن تضعيفه و بقاعدة الميسور و هي ضعيفة المستند غير مجبورة، إذا عرفت ذلك فنقول:

ان مقتضى إطلاق آية الوضوء ان الصلاة مشروطة بالطهور مطلقا و لو مع العجز عنه.

و (توهم) قصور الأمر عن إثبات الشرطية حال العجز لعدم إمكان توجه الخطاب الى العاجز، (فاسد) لا لما قيل ان مثل تلك الأوامر إرشادية لا يعتبر فيها القدرة على متعلقاتها لان مفادها ليس إلا الإرشاد إلى دخل متعلقاتها في متعلق الخطاب النفسي ففي الحقيقة ان تلك الخطابات بمنزلة الاخبار لا بعث

فيها، و لا تحريك الى المتعلقات حتى تقتضي القدرة عليها، فلا فرق بين الشرطية المستفادة من مثل لا صلاة الا بطهور أو المستفاد من الأمر الإرشادي، و ذلك لما قررناه في محله من ان مطلق الأوامر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 209

نفسية كانت أو غيرية أو إرشادية إنما تستعمل في معناها، و هو نفس البعث و الإغراء فإن الهيئة موضوعة لذلك من غير أن يكون الوجوب أو غيره مفادها، لكن البعث إذا توجه إلى طبيعة من غير دلالة على انه لأجل مطلوب آخر ينتزع منه النفسية، و إذا تعلق بشي ء مع الدلالة على انه للآخر ينتزع منه الغيرية أو الإرشاد إلى الشرطية أو الجزئية حسب اختلاف المقامات.

فقوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلخ لا ينسلخ عن البعث الى غسل الوجوه و الأيدي بحيث تكون الهيئة مستعملة في الاخبار باشتراط الصلاة بالوضوء، ضرورة ان هذا الاستعمال مع كونه غلطا لا مجازا مخالف لفهم العرف و العقلاء، بل الهيئة مستعملة في معناها و هو البعث و الإغراء، لكن لما كانت مسبوقة بقوله «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ» تكون دالة على ان البعث إليه لأجل اشتراط الصلاة به، ففهم الشرطية أو انتزاعها انما هو من البعث و الإغراء مع خصوصية المورد و تصور ما ذكر يكفي مئونة عن تصديقه في مثل المقامات التي يكون الاتكال فيها الى العرف و الذوق السليم.

بل لما حققناه في مظانه ان الأوامر الكلية لقانونية غير مشروطة عقلا على صحة توجهها الى فرد فرد من المكلفين، و ليست الخطابات الكلية منحلة كل الى خطابات متوجهة إلى آحادهم، فيكون كل خطاب منحل منظورا فيه شرائط توجه الخطاب، و الا

لزم منه مفاسد كعدم تكليف العصاة و الكفار، و الجاهل بالحكم أو الموضوع، بل و اختصاص الوضعيات بمن يختص به التكاليف الى غير ذلك مما يطول ذكره، و الخلط بين شرائط الخطاب الجزئي الشخصي و الخطاب العام القانوني منشأ لكثير من الاشتباهات و الاختلاطات و التفصيل موكول الى محله.

و بالجملة ان إطلاق الآية يقتضي اشتراطها بالطهور مطلقا، و مقتضاه سقوط الصلاة مع تعذر الشرط، نعم لو كان الاتكال على صرف ظاهر الآية و إطلاقها لكان لتوهم إطلاق أدلة الصلاة سيما مثل قوله: «الصلاة لا تترك بحال» مجال، بل كان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 210

ذلك حاكما على ظاهر الآية لتعرضه لمقام الإتيان، و هو من أقسام الحكومة، لكن مضافا الى عدم إطلاق متعد به في أدلة تشريع الصلاة و عدم ثبوت قوله: «الصلاة لا تترك بحال» من طريقنا بحيث يمكن الاتكال عليه و على إطلاقه و حكومته على الآية.

و مقتضى الاستقراء و ان كان ان للوقت في نظر الشارع أهمية فوق غالب الاجزاء و الشرائط، فربما يحصل الظن منه بأن الصلاة لا تترك بحال، لكن ذلك ليس بمثابة يمكن الركون على كليته و إطلاقه، و ما ورد في بعض الروايات في باب النفاس كصحيحة زرارة و فيها «و لا تدع الصلاة على حال فإن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال الصلاة عماد دينكم» غير مربوط بمثل المقام، و ليس قوله: «فإن الصلاة عماد دينكم» علة يمكن معها كشف صحتها لدى الشك في شرطية شي ء لها أو جزئيته.

ان قوله في صحيحة زرارة: «لا صلاة الا بطهور» حاكم على مثل قوله:

«الصلاة لا تترك بحال» على فرض ثبوته، لأن الصحيحة رافعة لموضوعها

و هو حاكم على عدم جواز الترك على فرض الموضوع بل من أوضح موارد الحكومة كقوله: «لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسهو» مثلا بالنسبة إلى أدلة الشكوك و كذا يكون قوله: «لا صلاة الا بطهور» حاكما على قاعدة الميسوران كان المراد من قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» أن الطبيعة الميسورة لا تسقط لعين ما ذكر.

و اما ان كان المراد ان ميسور الطبيعة لا يسقط، فلا يبعد أن تكون القاعدة حاكمة عليه، لعدم لزوم صدق الطبيعة على ميسورها، فيمكن ان يكون شي ء ميسور شي ء عرفا لا نفسه بل لا منافاة (ح) بين الصحيحة و القاعدة، لأن مفاد الاولى ان فاقد الطهور ليس بصلاة، و مفاد الثانية ان ميسور الصلاة و لو لم تكن صلاة لا يسقط، لكن مضافا الى عدم ظهور القاعدة في الاحتمال الثاني لو لم نقل بظهورها في الأول لا أصل لتلك القاعدة لضعف سندها، و عدم ثبوت الجبر خصوصا في مثل تلك المسألة التي هي مظنة الإجماع على عدم وجوب الأداء و ان يمكن الإشكال في صحيحة زرارة بوجه آخر و هو أنها منقولة في الباب الأول من أبواب الوضوء من الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 211

ابن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «قال لا صلاة الا بطهور» و رواها في الوافي عن الفقيه مرسلا و عن التهذيب بالسند المتقدم، و روى الحرفي الباب الرابع من أبواب الوضوء بالسند المتقدم عن أبى جعفر عليه السّلام «قال إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة و لا صلاة الا بطهور» و رواها في

الفقيه مرسلا و روى في الباب التاسع من أحكام الخلوة بالسند المتقدم عن أبى جعفر عليه السّلام أيضا «قال: لا صلاة الا بطهور و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه و اما البول فإنه لا بد من غسله» فيحتمل أن تكون الرواية واحدة هي هكذا: إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة و لا صلاة الا بطهور و يجزيك عن الاستنجاء إلخ فيكون الذيل قرينة على ان المراد من الطهور هو الطهور عن الخبث، و قد جزأها المحدثون و النقلة على الأبواب.

و يمكن دعوى الإطلاق في صدرها للطهورين، و ان كان الذيل يناسب ما ذكر و يحتمل كونها روايتين أو ثلاثا كما هو الظاهر من محكي التهذيب و الفقيه و مع ذلك اختصاص الطهور بالوضوء و أخويه بعيد و لو بلحاظ ذيل الصحيحة.

(فح) مقتضى إطلاقها تحكيمها على أدلة اشتراط الطهارة عن الخبث مع انه مخالف للنص و الفتوى، فيشكل الأمر من جهة ان ورود التقييد على مثل قوله لا صلاة الا بطهور مشكل لاستهجانه عرفا، فلا بد في رفعه من الالتزام بأنها مخصوصة بموارد بطلان الصلاة مع الخبثية، و معه يشكل التشبث بها و تحكيمها على مثل قوله «الصلاة لا تترك بحال» لكن ذلك لا يوجب التوقف في أصل المسألة، لإطلاق أدلة الشرط كالاية الكريمة، و عدم إطلاق في أدلة تشريع الصلاة كتابا و سنة، فالأقوى عدم وجوب الأداء.

و اما وجوب الذكر عليه مقدار الصلاة و الاكتفاء به عن الأداء و القضاء كما حكى عن رسالة المفيد الى ولده، و عن أبى العباس و صلاة الموجز و الصيمري في طهارة كشف الالتباس، فلم نعثر على مستنده بل و لا مستند

استحبابه بالخصوص، فهل يجب عليه القضاء عند ارتفاع العذر بعد الوقت قيل: نعم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 212

و في الجواهر انه الأشهر بين المتقدمين و المتأخرين، و عن كشف الالتباس انه المشهور لعموم ما دل عليه كقوله: «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» و قوله في النبوي المشهور كما في الرياض: «من فاتته فريضة فليقضها إذا ذكرها فذلك وقتها» و حكاه في المنتهى مع سقوط قوله: «فذلك وقتها».

و الاخبار المستفيضة من طريق الخاصة في الأبواب المتفرقة كصحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام: «انه قال أربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة: صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أديتها» إلخ «1»، و صحيحة الحلبي «قال: سأل أبو عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل فاتته صلاة النهار متى يقضيها؟ قال: متى شاء» «2» و مثلهما غيرهما، و صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام: «و متى ما ذكرت صلاة فاتتك صليتها» «3» و صحيحته الأخرى عنه «سئل عن رجل صلى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلها أو نام عنها؟ قال: يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها» «4» الى غير ذلك.

و دعوى تبعية الأداء للقضاء غير مسموعة، مع إمكان ان يقال: ان الأداء فريضة إما بدعوى صيرورة الفريضة اسما لتلك الصلوات لا وصفا لها كما احتمله الشهيد، و اما بدعوى أنها فريضة فعلا، و ان كان المكلف معذورا في تركها كما ذكرناه في محله. كدعوى عدم صدق الفوت ضرورة صدقه عرفا مع فوات المصلحة فضلا عما قلنا من فعلية الفريضة، لكن الأشبه مع ذلك عدم وجوبه وفاقا للمحقق و العلامة و الكركي و غيرهم، للأصل بعد عدم إطلاق أو عموم يمكن الركون

عليه، سيما في مثل الفرض الذي هو نادر الوجود بحيث يلحق بالعدم.

اما النبويان فمع عدم جبر سندهما بعد عدم ثبوت اتكال الأصحاب عليهما في

______________________________

(1) الوسائل أبواب قضاء الصلوات، ب 2، ح 1.

(2) الوسائل أبواب المواقيت، ب 39، ح 7.

(3) الوسائل أبواب المواقيت، ب 63 ح 1.

(4) الوسائل أبواب قضاء الصلوات، ب 1، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 213

أبواب القضاء مع وجود روايات كثيرة من طرقنا يحتمل اتكالهم عليها، انهما في مقام بيان حكم آخر، اما الأول منهما ففي مقام بيان كيفية القضاء ان قصرا فقصرا و ان تماما فتماما، كما ان الأمر كذلك في طائفة من رواياتنا: مثل صحيحة زرارة «قال قلت: له رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر؟ قال: يقضى ما فاته كما فاته ان كانت صلاة السفر أداها في الحضر مثلها و ان كانت صلاة الحضر فليقض في السفر صلاة الحضر كما فاتته» «1» فهي كالتفسير للنبوي المتقدم الأول و تكون في مقام بيان حكم آخر فلا إطلاق لها و لا للنبوي المفسر بها.

و اما النبوي الثاني فمضافا الى احتمال اختصاصه بالناسي كما يشعر به قوله:

«إذا ذكرها» ففي مقام بيان جواز إتيان القضاء بلا كراهية في أيّ وقت من الأوقات فهو كطائفة أخرى من رواياتنا كالصحاح المتقدمة، و مما ذكرنا يظهر الكلام في الروايات التي هي من طرقنا فإنها جميعا في مقام بيان أحكام أخر لا إطلاق في واحد منها كما يظهر بالنظر إليها.

و دعوى انه يفهم منها و لو بملاحظة المجموع ان وجوب قضاء الفرائض على من لم يأت بها في وقتها كان من الأمور المعهودة لديهم، غير مفيدة، لان معهوديته في

الجملة ضرورية، و لزومه في الجملة منصوصة، لكن لا يثبت بها الحكم في الموارد المشكوك فيها، و ان رجعت الدعوى إلى معهودية القضاء مطلقا حتى في مثل المقام فهي فاسدة جدا.

و بالجملة لا يثبت بتلك الروايات إلا المعهودية في الجملة، و هي غير مفيدة و ما هي مفيدة غير ثابتة بها خصوصا في مثل فاقد الطهورين الذي تنصرف عنه الأذهان لغاية ندرته، بل هو من الفروع التي أبداها الفقهاء و لم يكن معهودا، بل يمكن التشبث لسقوط القضاء بالتعليل الوارد في المغمى عليه بأنه كلما غلب اللّٰه عليه فاللّه أولى بالعذر، الا ان يقال ان الأخذ بهذا العموم مشكل لورود تخصيصات كثيرة عليه.

______________________________

(1) الوسائل أبواب قضاء الصلوات ب 6، ح 1

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 214

و الانصاف ان القواعد و ان تقتضي سقوطه الا ان الاحتياط لا ينبغي ان يترك لكن ينبغي الاحتياط بترك الصلاة مع فقدان الطهورين، لاحتمال الحرمة النفسية في الدخول فيها جنبا، بل و من غير وضوء لقوله تعالى لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا بناء على ان المراد من الصلاة نفسها لا محالها كما هو الأظهر في الآية، و لا ينافيه قوله «إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ» لأنه اشارة ظاهرا الى المسافر الفاقد الذي يأتي حكمه في ذيلها، و لا يكون ذلك تكرارا بشيعا حتى يكون قرينة على ارادة محالها. بل هو من قبيل الإجمال و التفصيل و هو من فنون البلاغة.

و الظاهر من التعبير «ب لٰا تَقْرَبُوا» هو الحرمة الذاتية. و ليس سبيلها سبيل النواهي في المركبات التي تكون ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية، للفرق

بين قوله لا تصل جنبا و لا تصل في وبر ما لا يؤكل و بين قوله: لا تقربوا الصلاة جنبا فان سبيله سبيل قوله «لٰا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ» و «لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ» و «لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ» مما هي ظاهرة في مبغوضية الارتكاب و أهمية الموضوع.

و لرواية مسعدة بن صدقة الموثقة على الأصح و فيها «فقال جعفر بن محمد سبحان اللّٰه أ فما يخاف أن يصلى من غير وضوء ان تأخذه الأرض خسفا» «1» و صحيحة صفوان الجمال عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: اقعد رجل من الأحبار في قبره فقيل له: انا جالدوك مائة جلدة من عذاب اللّٰه» الى أن قال: «فقال: لم تجلدونيها؟ قالوا: نجد لك انك صليت يوما بغير وضوء» «2» فان الظاهر منها ان الجلدة لم تكن لترك الصلاة بل لإتيانها بغير وضوء، و ليست الحرمة النفسية ببعيدة بعد وقوع نظيرها في العبادات كصلاة الحائض.

نعم وردت رواية صحيحة من زرارة يظهر منها ان المراد من قوله تعالى:

______________________________

(1) مرت في صفحة 207.

(2) الوسائل أبواب الوضوء، ب 2 ح 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 215

وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ هو المساجد و كيف كان فالاحتياط في ترك الاحتياط بإتيانها جنبا و من غير طهور.

الخامس: إذا وجد المتيمم الماء قبل دخوله في الصلاة

انتقض تيممه بلا اشكال نصا و فتوى، و المراد من الوجدان هو التمكن من استعماله عقلا و شرعا كما هو المحكي عن ظاهر معقد إجماع التذكرة أو صريحه، و صريح معقد إجماع المعتبر و الذكرى بل هو المتفاهم من جميع روايات الباب كما قلنا في الآية الشريفة، ان المراد من عدم الوجدان هو عدم وجدان ما يغتسل أو يتوضأ به، و الإصابة و

الوجدان في تلك الروايات و ان لم تكن مقرونة بما في رواية العياشي و كان يقدر عليه و نحوه، كانت ظاهرة في الإصابة و الوجدان على نحو يتمكن من رفع احتياجه به، و كون الإصابة مطلقا موجبة للتعبد بانتفاض التيمم، حتى يقال بالانتفاض مع اصابة ماء قليل لا يكفى للوضوء أو الغسل أو كان مغصوبا مع كفايته بعيد جدا، بل مقطوع الفساد فضلا عن مقارنة الروايات بما يجعلها كالصريح في المقصود، كقوله في صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام «و يصلى بتيمم واحد صلاة الليل و النهار؟ قال: نعم ما لم يحدث أو يصب ماء، قلت: فإن أصاب الماء و رجا أن يقدر على ماء آخر و ظن انه يقدر عليه كلما أراد فعسر ذلك عليه؟ قال: ينقض ذلك تيممه و عليه أن يعيد التيمم» «1» إلخ حيث يظهر من قوله: «قلت فإن أصاب» إلخ انه فهم من اصابة الماء في قول أبى جعفر هو اصابة ما يقدر على استعماله كما هو واضح بأدنى تأمل.

و كمرسلة العامري «2» قال فيها: «فان تيممه الأول انتقض حين مرّ بالماء و لم يغتسل» يظهر منها ان الانتقاض انما هو بالمرور بماء يتمكن من الاغتسال به و لم يغتسل.

و أظهر منهما قوله في رواية العياشي إذا رأى الماء و كان يقدر عليه انتقض تيممه» «3» فلو وجد الماء في ضيق الوقت الذي هو مأمور بحسب ما استظهرناه من الروايات بالتيمم

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 1- 2- 6.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 1- 2- 6.

(3) الوسائل أبواب التيمم، ب 19، ح 1- 2- 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 216

لم

ينتقض تيممه فلو فقد حين الصلاة أو بعدها بلا مهلة لم يجب عليه تجديده.

ثم ان الاخبار و ان وردت في وجدان الماء لكن يظهر منها بإلغاء الخصوصية حال رفع سائر الأعذار كما هو ظاهر. و لا فرق في وجدان الماء و رفع العذر بين قبل دخول الوقت و بعده، سواء قلنا بجواز الوضوء و الغسل للصلاة قبل الوقت كما هو الأقوى أولا، لإطلاق الروايات و حصول القدرة و لو لغاية أخرى، و قد مرّ حكم من وجد بعد الفراغ منها.

و ان وجد في الأثناء ففيه أقوال خمسة أو ستة، لكن العمدة منها القولان (أحدهما) انه يقطع ما لم يركع و هو المحكي عن مقنع الصدوق أو فقيهه، و مصباح السيد و جمله و شرح الرسالة و الجعفي و الحسن بن عيسى، و عن النهاية و مجمع البرهان و المفاتيح و شرحه و رسالة صاحب المعالم و شرحها، و قد بالغ في تشييده المحقق صاحب الجواهر بما لا مزيد عليه.

ثانيهما انه يمضى بعد التلبس بتكبيرة الإحرام و هو المحكي عن رسالتي على ابن بابويه و السيد و المقنعة و الخلاف و المبسوط و الغنية و السرائر و كتب المحقق و العلامة و غيرهم، و هو المشهور كما عن جامع المقاصد و المسالك و روض الجنان و مجمع البرهان، بل عن السرائر الإجماع عليه في بحث الحيض و الاستحاضة.

لا للأصل أو الأصول أو أدلة التنزيل و البدلية و كفاية عشر سنين و النهى عن إبطال العمل كتابا و سنة و عن الانصراف حتى يسمع الصوت و يجد الريح الى غير ذلك مما يطول ذكرها، لقطع ذلك كله بإطلاق أدلة بطلانه بوجدان الماء و اصابته مما قد مر

بعضها و دعوى الانصراف الى ما لم يشرع في المقصود في غير محلها كدعوى عدم إطلاقها لكون القدر المتيقن بعد ما حرر في مقامه من عدم إضراره بالإطلاق سيما أمثال ذلك مما يقطع بعدم الإضرار به.

و لا للشهرة و الإجماع المنقولين لعدم حجيتهما في مثل هذه المسألة التي نقطع بكون المدرك هو النصوص الموجودة، بل عدم ثبوتهما خصوصا الثانية بعد خماسيتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 217

قولا أو سداسيتها و ذهاب من تقدم و غيرهم الى التفصيل.

بل لعدم دليل صالح للركون اليه للقول بالتفصيل أما صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام و فيها «قلت: ان أصاب الماء و قد دخل في الصلاة قال: فلينصرف فليتوضأ ما لم يركع و ان كان قد ركع فليمض في صلوته فان التيمم أحد الطهورين» «1» فلان حمل الأمر بالانصراف و التوضي قبل الركوع على الوجوب و الإرشاد العقلي على بطلان التيمم قبل الركوع، كحمل الأمر بالمضي على الإرشاد على الصحة بعد الركوع كما هو الشأن في مثل تلك الأوامر، غير مناسب، مع التعليل بان التراب أحد الطهورين فإن العلة المشتركة بين قبل الدخول في الركوع و بعده لا يناسب التفصيل بل قاطع له، هذا نظير ان يقال اشرب الخمر و لا تشرب النبيذ فإنه مسكر مع كون المسكرية مشتركة بينهما، ففي المقام لو كانت العلة للمضى كون التراب أحد الطهورين فقط كما هو الظاهر لم يكن للتفصيل وجه، و لو كان التفصيل إلزاميا حتى يستفاد منه ما تقدم كان عليه ان يعلل بأن حرمة الركوع مثلا مانعة عن نقض الطهور، فلا بد من حمل الأمر بالانصراف و التوضي على الاستحباب، و الأخذ بعموم

التعليل لصحة الصلاة مطلقا أو رفع اليد عن التعليل بلا جهة موجبة و الأول متعين، فتكون الصحيحة من أدلة القول المنصور، و لعله لذلك لم يجعلها المحقق في المعتبر دليلا على القول بالتفصيل مع كونها بمنظر منه، فقال فان احتج الشيخ بالروايات الدالة على الرجوع ما لم يركع فالجواب عنه ان أصلها عبد اللّٰه بن عاصم، فهي في التحقيق رواية واحدة و يعارضها روايتنا و هي أرجح من وجوه:

أحدها- ان محمد بن حمران أشهر في العدالة، و العلم، من عبد اللّٰه بن عاصم و الأعدل مقدم «انتهى» و نسبة المحقق إلى الغفلة عن صحيحة زرارة كأنها غفلة.

و اما رواية عبد اللّٰه بن عاصم فهي منقولة من طريق الكليني اليه، و في طريقه المعلى بن محمد الذي قال النجاشي فيه انه مضطرب الحديث و المذهب و كتبه قريبة و ذكره العلامة في القسم الثاني من محكي الخلاصة، و وصفه باضطراب الحديث و

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 21، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 218

المذهب و عن ابن الغضائري يعرف حديثه و ينكر و يروى عن الضعفاء، و يجوز ان يخرج شاهدا و عن الوجيزة انه ضعيف.

نعم قد يقال انه شيخ اجازة و هو يغنيه عن التوثيق، و لأجله صحح حديثه بعضهم و فيه ان كونه شيخ اجازة غير ثابت. و غناء كل شيخ اجازة عن التوثيق أيضا غير ثابت و من طريق الشيخ إليه تارة بسند فيه الحسن بن الحسين اللؤلوئى و قد ضعفه الصدوق و استثناء شيخه ابن الوليد من روايات محمد بن احمد بن يحيى، و نقل النجاشي استثناء ابن الوليد ثم قال: قال أبو العباس بن نوح:

قد أصاب شيخنا أبو جعفر محمد بن الحسن ابن الوليد في ذلك كله، و تبعه أبو جعفر بن بابويه على ذلك إلا في محمد بن عيسى بن عبيد، فلا أدرى ما رأيه فيه لانه كان على ظاهر العدالة و الثقة.

(أقول) يظهر من استثناء أبى العباس ان استثناء ابن الوليد انما هو لضعف في الرجال نفسهم، نعم وثقه النجاشي لكن سكت عند نقل عبارة ابن نوح و لعله لرضاه بما ذكره، و كيف كان يشكل الاتكال على توثيقه بعد تضعيف الصدوق و شيخه ظاهرا و ابن نوح، و احتمال كون تضعيف الصدوق للاتباع عن ابن الوليد، و ان كان قريبا لكن يؤيد ذلك بل يدل على ان ابن الوليد انما ضعف الرجال نفسهم، و هو مع تقدم عصره عن النجاشي و قول الصدوق فيه ما قال، لا يقصر عن قول النجاشي لو لم يقدم عليه و اخرى بسند فيه القاسم بن محمد الجوهري و هو واقفي غير موثق.

و اما عبد اللّٰه بن عاصم فهو مهمل في كتب الرجال كما عن الوجيزة، ان عبد اللّٰه ابن عاصم غير مذكور في كتب الرجال لكن يظهر مما سننقل من كلام المحقق توثيقه «انتهى» و العبارة المشار إليها هي ما في المعتبر في مسألتنا هذه، قال و هي (أي رواية محمد بن حمران) أرجح من وجوه:

أحدها ان محمد بن حمران أشهر في العدالة و العلم من عبد اللّٰه بن عاصم و الأعدل مقدم «انتهى» لكن المحقق لم يوثقه بنفسه و لم يعدله بل يظهر منه أشهرية عدالته من ابن حمران

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 219

و هي شهرة منقولة بعدالته على اشكال لا وثاقته و

حجية مثلها مع إهمال الرجل في كتب الرجال المعدة لذلك محل اشكال بل منع، سيما مع كون الوثاقة غير العلم و العدالة.

و الانصاف أن الركون على مثل هذه الرواية مع ما عرفت مع الغض عن سائر الروايات مشكل بل غير جائز، نعم مع الغض عن سندها لا إشكال في دلالتها على مذهب المفصل، لكن بإزائها مضافا الى صحيحة زرارة المتقدمة بالتقريب المتقدم صحيحة أخرى عنه و عن محمد بن مسلم «قال: قلت في رجل لم يصب الماء و حضرت الصلاة فتيمم و صلى ركعتين ثم أصاب الماء أ ينقض الركعتين أو يقطعهما و يتوضأ ثم يصلى؟ قال: لا و لكنه يمضي في صلوته و لا ينقضهما لمكان انه دخلها و هو على طهر بتيمم» «1» تدل على ان تمام العلة لعدم النقض و المضي دخوله فيها و هو على طهر بتيمم و حمل الدخول فيها على الدخول في الركوع و تقييد التعليل بالدخول فيه طرحها في الحقيقة لا الجمع بينها و بين رواية عبد اللّٰه على فرض تسليم سندها، فان معنى دخلها اى شرع فيها و لا يكون صادقا على الدخول في الركوع، و مطلقا قابلا للتقييد لوضوح الفرق بين هذا التعبير و بين أن يقال انه داخل في الصلاة، فإن الأول لا يصدق الا على أول الجزء و حال الشروع بخلاف الثاني.

و رواية محمد بن حمران عن أبى عبد اللّٰه عليه السّلام «2» التي لا يبعد ان تكون صحيحة لقرب احتمال ان يكون محمد بن سماعة الواقع في سندها هو الحضرمي الثقة لقيام شواهد عليه كما يظهر من ترجمته و ترجمة ابنه جعفر بن محمد بن سماعة، و قرب احتمال أن يكون محمد بن

حمران هو النهدي الثقة بقرينة رواية محمد بن سماعة عنه و لو كان ابن أعين يكون ممدوحا لكونه من مشايخ ابن أبي عمير، لحديث في المجلس الثاني من مجالس الصدوق ان محمد بن أبى عمير قال: حدثني جماعة من

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 21، ح 4.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 21- ح 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 220

مشايخنا. و عدّ منهم محمد بن حمران تأمل، و يشهد بكونه النهدي قول المحقق انه أشهر في العلم و العدالة من عبد اللّٰه بن عاصم و من كان كذلك هو النهدي.

«قال: قلت له: رجل تيمم ثم دخل في الصلاة و قد كان طلب الماء فلم يقدر عليه ثم يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة قال يمضى في الصلاة، و اعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في آخر الوقت» و هي كالنص في ان الإتيان بالماء في أول الشروع في الصلاة لقوله «حين يدخل» فان حين الدخول أول وقته، فإذا أضيف إلى فعل المضارع صار كالنص فيه، و إذا أضيف الى ذلك إعادته بعد قوله «ثم دخل في الصلاة» مع عدم الاحتياج الى التكرار ان كان المراد مطلق الدخول، يؤكد ذلك لان الظاهر انه لإفادة زائدة و هي بيان ان الإتيان به انما هو في أول الشروع فيها.

و حملها على بعد الدخول في الركوع طرح لها جزما لا جمع بينها و بين رواية عبد اللّٰه، و لهذا قال المحقق في مقام ترجيحها على رواية عبد اللّٰه ان مع العمل برواية محمد يمكن العمل برواية عبد اللّٰه بالتنزيل على الاستحباب، و لو عمل بروايته لم يكن لرواية محمد محمل «انتهى»، مع ان

حمل المطلق على المقيد من أوضح المحامل عندهم.

و الانصاف ان الجمع بين الروايات بحمل الأمر بالمضي قبل الركوع على الاستحباب متعين لا غبار فيه و لم نترقب من المحقق صاحب الجواهر ارتكاب ما ارتكبه في هذه المسألة الواضحة المأخذ بما لا ينقضي العجب منه من التمسك بما لا ينبغي التمسك به، و حمل الروايات بما لا ينبغي الحمل عليه مما يطول الكلام لو تعرضنا لموارد النظر في كلامه، و أعجب منه انه خالف المشهور مع تصديقه بتحصيل الشهرة مع ان بناءه على اتباعها و ارتكاب التأويل في الأدلة المخالفة لها كيف كانت، و في المقام خالفها و ارتكب التأويلات الغريبة في أدلتها الظاهرة الدلالة على المذهب المشهور فراجع ثم انه حكى عن التذكرة استحباب الاستيناف مطلقا و لعله لرواية الصيقل «قال قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام رجل تيمم ثم قام يصلى فمرّ به نهر و قد صلى ركعة قال فليغتسل و

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 221

ليستقبل الصلاة، قلت: انه قد صلى صلوته كلها قال لا يعيد» «1» بل يمكن ان يقال باستحباب الإعادة مطلقا حتى بعد الصلاة لصحيحة عبد اللّٰه بن سنان «2» المتقدمة الآمرة بالإعادة بعد الصلاة إذا أمن البرد، و يحتمل أن تكون للاستحباب مراتب بحسب حالات قبل الركوع و بعده و بعد الصلاة.

و ربما يقال بالتنافي بين رواية الصيقل و ما دلت على وجوب المضي خصوصا ما فصلت بين قبل الركوع و بعده، و دعوى قصور الاخبار عن افادة وجوب المضي لكون الأوامر فيها في مقام توهم الحظر غير مسموعة بعد مغروسية حرمة قطع الصلاة، و كون النقض منافيا لاحترامها في أذهان المتشرعة.

و فيه ان

الأوامر الواردة في ذلك المضمار لا يستفاد منها الا الإرشاد إلى صحة العمل، و لهذا لا يجوز التمسك بمثلها على حرمة القطع كما ترى معروفية عدم الدليل على حرمته إلا الإجماع، مع ان أمثال هذه الروايات كثيرة، و ليس ذلك الا لعدم دلالتها على وجوب المضي.

فمع ارشاديتها إلى صحة العمل و عدم انتقاض التيمم لا مانع من الجمع بينها و بين الأمر بالإعادة بحمله على الاستحباب، و دعوى مغروسية حرمة القطع في أذهان المتشرعة في زمان صدور الروايات بل مطلقا، غير ثابتة خصوصا في مثل المقام الذي يمكن أن يقال فيه بارتكازية وجوب الاستيناف لكون التيمم طهارة اضطرارية، و لو لا ضعف الرواية و عدم إمكان التشبث بالتسامح في أدلة السنن في مثل المقام الذي هو مظنة الإجماع على حرمة القطع لكان القول بالاستحباب غير بعيد، الا أن ينكر الإجماع بدعوى ان القدر المتيقن منه في غير مثل المورد لكن الأحوط عدم القطع.

و اما توهم التنافي بين استحباب الانصراف قبل الركوع و بقاء التيمم مع عدم العذر و وجدان الماء ففي غاية السقوط بعد وجود الأدلة الصحيحة المعمول عليها.

ثم انه هل يختص الحكم بصحة الصلاة مع الدخول فيها بتيمم بالفرائض اليومية أو

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 21، ح 6.

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 14، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 222

يعم مطلق الفرائض أو يعم النوافل أيضا أو يعم مطلق المركبات المشروطة بالطهارة، قد يقال بالأول لاختصاص الأدلة بها و انصرافها إليها، و في غيرها يرجع الى أدلة نقض التيمم بوجدان الماء و في مقابله احتمال التعميم الى مطلق المركبات، بدعوى اقتضاء التعليل الوارد في صحيحة زرارة و محمد

بن مسلم ذلك «1» فإنه يظهر من قوله «لمكان انه دخلها و هو على طهر بتيمم» ان تمام العلة لعدم النقض و المضي هو وجدان الطهور حال الدخول في العمل من غير دخالة لكونه صلاة فريضة، بل و لا لكونه صلاة فكما يعمم العرف من قوله: لا تشرب الخمر لانه مسكر الحكم الى كل مسكر و لو لم يكن خمرا، و لا يعتنى بالمورد و لا بالضمير الراجع اليه كذلك في المقام، يستفاد من التعليل ان الدخول بتيمم في كل عمل مشروط بالطهارة يقتضي عدم النقض، و صحة العمل و بقاء الطهور من غير اعتناء الى الضمير الراجع الى الفريضة أو إلى الصلاة، فإنه لو كان لها دخالة فيه لما علل بالدخول و هو على طهر بتيمم بل كان المناسب التعليل بحرمة القطع و نظائرها.

و بالجملة هذه الجملة المعللة كاشباهها تدل على عموم الحكم و يلغى المورد و خصوصية الضمير الراجع اليه، و مما ذكرنا يظهر التقريب في تعليل الصحيحة الأخرى لزرارة «2» و هو قوله: «فان التيمم أحد الطهورين» فان مقتضاه و ان كان الصحة لو تيمم صحيحا و لو كان قبل الدخول لكن يرفع اليد عنه بالنسبة الى قبل الدخول بالروايات الدالة على نقضه إذا وجد الماء، فان الظاهر أو المتيقن منها هو النقض قبل الدخول في الصلاة و لو كان فيها إطلاق يرفع اليد عنه بالروايات المتقدمة، و معه لا يمكن تعميم العلة حتى بالنسبة الى قبل الدخول للزم طرح تلك الروايات، فيبقى العموم في غير موردها و يعمم الى غير الصلاة بالتقريب المتقدم، فنتعدى الى الطواف و غيره من غير احتياج الى التمسك بالنبوي: «الطواف بالبيت صلاة» «3» حتى يستشكل في

سنده و دلالته أيضا بدعوى عدم التنزيل من هذه الجهات.

لكن مع ذلك لا يخلو التعميم بهذه السعة من اشكال لاحتمال عدم مساعدة العرف

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 21، ح 4.

(2) الوسائل أبواب التيمم ب 23 ح 5.

(3) المستدرك أبواب الطواف، ب 38، ح 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 223

للتعميم الى غير الصلاة، و ان كان الى مطلق الصلاة فريضة أو نافلة قريبا، بل دعوى انصراف جميع الروايات إلى الفرائض أو اليومية منها ممنوعة، ضرورة أن النوافل سيما الرواتب منها كانت معمولة في تلك الأعصار و لم تكن كاعصارنا مهجورة ينصرف عنها الأذهان، فمقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق بين الفريضة و النافلة.

و لو وجد الماء في أثناء الصلاة بمقدار يمكن معه الوضوء أو الغسل و فقد في الأثناء أو بعدها بلا مهلة فالأقرب بقاء الطهارة، و عدم الاحتياج إلى الإعادة، لعدم شمول الروايات الحاكمة بنقض الطهارة بوجدان الماء أو بالقدرة عليه لذلك، فان المراد منهما ليس مطلق الوجدان و القدرة عليه و لذا لو وجد و كان مغصوبا لا ينتقض به بلا ريب بل المراد ما يمكن رفع الاحتياج به شرعا و عقلا فينسلك المورد فيما دلت على جواز إتيان الصلوات المتعددة بتيمم واحد، و لو نوقش فيه يكفي الأصل بعد حصول الطهور و الشك في النقض بعد قصور أدلته.

السادس قالوا المتيمم يستبيح له ما يستبيحه المتطهر بالماء

اشارة

و الكلام فيه يقع في مقامين:

(أحدهما) انه لو تيمم لغاية جاز لأجلها التيمم

يباح له جميع ما يباح للمتطهر، فلو تيمم لصلاة فريضة جاز له فعل النافلة و مس الكتاب و الاجتياز عن المسجدين و اللبث في غيرهما و قراءة العزائم الى غير ذلك، و خالف في ذلك فخر المحققين.

و التحقيق ان الخلاف في هذه المسألة إنما يأتي بناء على كون التيمم مبيحا أو بناء على اعتبارية الطهور على فرض كونه رافعا، لا مكان أن يقال على الفرض الأول انه مبيح بالنسبة إلى غاية دون غاية أخرى، و على الثاني انه اعتبرت الطهورية كذلك بالنسبة إلى غاية دون اخرى.

و اما على القول بالرفع و كونه طهورا و كون الطهور امرا واقعيا كشف عنه الشارع ككون الحدث قذارة معنوية كشف عنها، فلا مجال للنزاع لعدم تعقل كون العاجز المتيمم طاهرا من الجنابة أو الحدث الأصغر بالنسبة إلى عمل و جنبا و محدثا بالأصغر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 224

بالنسبة إلى آخر، فهذا النزاع انما يتمشى بعد الفراغ عن مبيحية التيمم و لما فرغنا عن كونه طهورا و رافعا كما مرّ فلا يبقى وجه لذلك لضعف احتمال اعتبارية الطهور.

ثم انه على فرض المبيحية أيضا الأقوى ما عليه المشهور لأدلة البدلية و المنزلة، و لو نوقش في إطلاق بعضها فلا مجال للتشكيك بالنسبة إلى جميعها كذيل الآية الكريمة فإنها و ان وردت في الصلاة لكن يظهر منها بأتم ظهور انه طهور، و لأجل طهوريته أمر الشارع به للصلاة، فمع حصول الطهور يجوز معه الإتيان بكل ما يشترط فيه الطهور و يحتاج اليه.

و القائل بعدم حصول الطهور كما هو المفروض، لا محالة يقول في الآية انه بمنزلته، فيفهم منه عموم المنزلة،

لأن الذيل بمنزلة التعليل، و كأنه قال على هذا المسلك: لما كان التيمم بمنزلة الطهور تيمموا.

و كالروايات المتواترة لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله في المستفيضة «1» «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» و قوله عليه السّلام: «هو بمنزلة الماء» و قوله عليه السّلام «ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله «يكفيك عشر سنين» و قوله عليه السّلام: «ان رب الماء و رب الأرض واحد» و «انه أحد الطهورين» و «ان التيمم غسل المضطر و وضوئه» و «انه الوضوء التام الكامل في وقت الضرورة» الى غير ذلك مما يعلم منها ان التيمم بمنزلة الوضوء و الغسل في جميع ما لهما من الخواص و الآثار.

(المقام الثاني) انه هل يجوز التيمم لكل غاية

أو مخصوص بغايات خاصة؟ يظهر من بعضهم عدم وجوبه الا للصلاة أولها و للخروج من المسجدين أو مع زيادة الطواف.

و عن الفخر ان والده لا يجوز التيمم من الأكبر للطواف و مس كتابة القرآن و عنه أيضا عدم مشروعية التيمم لصوم الجنب و الحائض و المستحاضة، و يظهر من المحقق الأنصاري نوع تردد فيه، قال في صومه: لو لم يتمكن المكلف من الغسل فهل يجب عليه التيمم؟ فيه قولان من عموم المنزلة في صحيحة حماد هو بمنزلة الماء

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 23- 24.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 225

و في الروايات هو أحد الطهورين. و هو مذهب المحقق و الشهيد الثانيين خلافا للمحكي عن المنتهى و لعله من ان المانع هو حدث الجنابة و التيمم لا يرفعه، و هو طهور بمنزلة الماء في كل ما يجب فيه الغسل، لا ما توقف على رفع الجنابة، فالتيمم يجب

في كل موضع يجب فيه الغسل، لا فيما يشترط بعدم الجنابة و يشعر به قوله في صحيحة ابن مسلم «فان انتظر ماء يسخن أو يستقى فطلع الفجر فلا شي ء عليه» «1» حيث انه لم يأمر بالتيمم الى أن قال: فالأحوط التيمم «انتهى».

و فيه (أولا) ما تقدم من ان التيمم رافع للجنابة في الموضوع الخاص، كما هو مقتضى الأدلة و قد دفعنا الاشكال العقلي فيما مر، (و ثانيا) لو فرض عدم رفعها فلا إشكال في ان مقتضى الأدلة رفع مانعيتها، فهو لو لم يكن طهورا بمنزلته و يقوم مقامه في كل ماله من الآثار بمقتضى عموم المنزلة، و ان شئت قلت: ان دليل عموم المنزلة حاكم على ما دل على ان الجنابة مانعة أو رفعها شرط.

و اما صحيحة محمد بن مسلم فهي عن أحدهما في حديث «انه سأله عن الرجل تصيبه الجنابة في رمضان ثم ينام قال: ان استيقظ قبل أن يطلع الفجر فان انتظر ماء يسخن أو يستقى فطلع الفجر فلا يقضى صومه» فالظاهر انها بصدد بيان حكم آخر و هو حكم طلوع الفجر حال انتظار تسخين الماء أو استقائه لا لتكليفه عند ضيق الوقت فالسؤال انما هو عن طلوع الفجر فجأة، و هو غير مربوط بالمقام، كرواية إسماعيل ابن عيسى عن الرضا عليه السّلام و فيها «قلت: رجل أصابته جنابة في آخر الليل فقام ليغتسل و لم يصب ماء فذهب يطلبه أو بعث من يأتيه بالماء فعسر عليه حتى أصبح كيف يصنع قال: يغتسل إذا جاء ثم يصلى» «2» فإنها أيضا في مقام بيان حكم آخر لا يمكن الاستشهاد عليها بسكوته في مقام البيان، لصحة الصوم مع ترك التيمم عمدا كما لا يخفى.

ثم ان

مقتضى إطلاق المنزلة و عمومها قيام التيمم مقام الوضوءات المستحبة حتى وضوء الحائض للذكر و الأغسال المستحبة حتى غسل الجمعة، و الاستشكال في الأول

______________________________

(1) الوسائل أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 14، ح 1- 20.

(2) الوسائل أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 14، ح 1- 20.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 226

بأنه غير رافع و في الثاني بذلك أيضا، بدعوى انصراف الأدلة إلى الرافع سيما بملاحظة ان الحكمة في شرع بعضها التنظيف مع سكوت روايات غسل الجمعة عن ذكر التيمم خصوصا الروايات المتعرضة لعدم التمكن من الغسل يوم الجمعة مع تعرضها لتقديمه و قضائه يوم السبت لعله في غير محله.

اما دعوى الانصراف فغير وجيهة خصوصا مع حصول نحو طهارة لمطلق الوضوء بل الغسل كما ورد في رواية أصبغ «كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا أراد ان يوبخ الرجل يقول و اللّٰه لأنت أعجز من تارك الغسل يوم الجمعة فإنه لا يزال في طهر إلى الجمعة الأخرى» «1» و في روايات استحباب الغسل لدخول مكة «2» ما يشعر بذلك، بل الظاهر ان كلا من الغسل و الوضوء ماهية واحدة موجبة لنحو طهارة، و ان كانت للطهارة مراتب و كيف كان لا تتجه دعوى الانصراف.

و اما التأييد للانصراف بأن الحكمة في شرع بعضها التنظيف، ففيه ان الظاهر من الروايات المشتملة على العلل ان الوضوء و غسل الجنابة و غسل الميت و غسل مسه للتنظيف و معه لا يسوغ دعوى الانصراف.

و اما عدم التعرض له في الروايات الواردة في من لا يتمكن من الغسل، ففيه ان تلك الروايات واردة فيمن نسي الغسل يوم الجمعة و فوته، و لم أر فيها عاجلا فرض فقدان

الماء الا في رواية واحدة، و لا يمكن رفع اليد عن إطلاق أدلة البدلية بمجرد عدم التعرض في رواية واحدة، و اما روايات التقديم فلا تشعر على المقصود، لانه مع شرعيته لا تبقى للبدلية مجال تأمل، و كيف كان فالأقوى ما ذكرناه و الأحوط الإتيان به رجاء.

السابع إذا اجتمع ميت و جنب و محدث بالأصغر،

و معهم من الماء ما يكفي أحدهم، فإن كان ملكا لأحدهم اختص به، و يحرم على غيره التصرف فيه من غير رضاه، فان كان المالك هو الميت تعين صرفه فيه لأنه أولى بماء غسله من غيره حتى وارثه.

______________________________

(1) الوسائل أبواب الأغسال المسنونة ب 7، ح 2.

(2) الوسائل أبواب مقدمات الطواف، ب 6، ح 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 227

و ان كان لغيره فلا يبعد القول بجواز إيثاره على نفسه، لا لما قيل من عدم الدليل على وجوب حفظه حتى مع العلم بعدم الإصابة في مثل المورد، لان المتيقن من الأدلة اللبية انما هو حرمة تفويت التكليف بإراقة الماء و نحوه، مما يعد فرارا من التكليف، و اما حرمة صرفه في مقاصده العقلائية التي من أهمها احترام موتاهم بتغسيلها فلا.

و ذلك لما عرفت في محله من دلالة الآية و غيرها على عدم جواز تعذير العبد نفسه، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين المقامات، و دعوى استفادة الحكم من الأدلة المتفرقة في تجويز التيمم بخوف العطش و لو على الدواب، و في مورد الدخول في الركية و غيرهما من الموارد في غير محلها، كما ان دعوى جواز صرف الماء في مطلق المقاصد العقلائية في غير محلها، بل لان العقل الحاكم في مقام الإطاعة و كيفيتها لا يرى ذلك مخالفة لأمر المولى.

توضيحه ان المولى إذا أمر

عبيده بشي ء كتنظيف بدنهم حين الورود على محضره بحيث يكون في تنظيف كل واحد منهم غرض إلزامي و لم يوجد ماء كاف لجميعهم، و لم يكن حصول أغراض المولى لقصور الماء، و لم يكن في نظره فرق بين فعل النظافة منه و من غيره، و تركها كذلك لا يعد العقل من آثر غيره على نفسه بإعطائه مائه لا طاعة أمر المولى مخالفا لأمره، بعد كون المولى واحدا و العبيد كلهم موظفين باطاعته و بالجملة بعد كون العبيد من مولى واحد و عملهم لتحصيل غرضه لا يفرق العقل في مقام المزاحمة و عدم إمكان الجمع بين السقوط منه و من غيره، بل لو آثر غيره على نفسه لوصوله إلى المثوبة يكون مأجورا للإيثار.

و أوضح منه ما إذا كان الماء مباحا، فإن التخلية بينه و بين غيره و إيثاره على نفسه حسن عقلا، و ليس مخالفا لأمره بعد أن لا يكون غرضه الإهمال في أمره، و التواني في اطاعته.

و ان شئت قلت: ان حال العبيد بالنسبة إلى إطاعة المولى الواحد في المزاحمة كعبد واحد بالنسبة إلى تكاليف متعددة متساوية في مقام المزاحمة، فكما يحكم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 228

العقل بعدم الترجيح في الثاني يحكم بعدمه في الأول.

و ما ذكرناه و ان أمكن أن يكون بعيدا من الأذهان ابتداء لكن بالنظر و التأمل في الموالي العرفية و العبيد المأمورين بتحصيل أغراضهم يرفع الاستبعاد، و لا يبعد ان تكون الروايات الواردة في الباب و ترجيح الجنب في مقام الدوران بين رفع الجنابة و رفع الحدث الأصغر و غسل الميت، و ترجيح رفع الحدث الأصغر من جماعة و رفع الجنابة من واحد لأجل ما

ذكرناه من اعتبار المكلفين، كأنهم شخص واحد مأمور بتحصيل غرض المولى، و الا فلا وجه للترجيح في التكاليف المتعددة و الأشخاص المختلفة لعدم التعارض بينها الا باعتبار ما ذكر. تأمل.

ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران «انه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب و الثاني ميت و الثالث على غير وضوء و حضرت الصلاة و معهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم من يأخذ الماء و كيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب و يدفن الميت بتيمم، و يتيمم الذي هو على غير وضوء لان غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة و التيمم للآخر جائز» «1» و قريب منها رواية الحسن بن النظر الأرمني «2» الا ان فيها فرض ميت و جنب و رواية الحسن التفليسي «3» و في ذيلها إذا اجتمعت سنة و فريضة بدء بالفرض، و في موثقة أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن قوم كانوا في سفر فأصاب بعضهم جنابة و ليس معهم من الماء الا ما يكفى الجنب لغسله، يتوضأون هم هو أفضل أو يعطون الجنب فيغتسل و هم لا يتوضأون؟ فقال: يتوضأون هم و يتيمم الجنب» «4» و الظاهر ان وقوع المزاحمة و الترجيح بما ذكر انما هو لكون المولى واحدا و العبيد كأنهم واحد كما أشرنا إليه. تأمل.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 18، ح 1- 4- 3- 2.

(2) الوسائل أبواب التيمم، ب 18، ح 1- 4- 3- 2.

(3) لوسائل أبواب التيمم، ب 18، ح 1- 4- 3- 2.

(4) الوسائل أبواب التيمم، ب 18، ح 1- 4- 3- 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص:

229

ثم ان مقتضى ترك الاستفصال في الروايات عدم الفرق بين كون الماء مشتركا بينهم أو مختصا بأحدهم، كما ان الظاهر من التعليل هو كون الترجيح استحبابيا لا إلزاميا كما يظهر من المحقق الإجماع عليه على تأمل، لكن العمل على الروايات إذا كان الميت مالكا مشكل، نعم لا يبعد جواز العمل إذا كان شريكا لعدم لزوم إعطاء الشريك مائه لتغسيله و معه يكون مائه، مثل ما يفسد ليومه يجوز التصرف فيه و تقويمه أو يرجع الى ورثته و يجوز لهم التبرع به لغسل الجنب، و اما حمل الروايات على كون الماء مباحا أصليا فغير ممكن، و لا بأس بالعمل بموثقة أبي بصير بعد كون الترجيح استحبابيا، و اما مرسلة محمد بن على «1» فمع ضعفها و مخالفتها للمعتبرة و فتاوى الأصحاب لا يعول عليها.

الثامن إذا تيمم الجنب

بدلا من الغسل ثم أحدث بالأصغر فعن المشهور انه أعاد بدلا من الغسل و لا يتوضأ لو وجد ماء بقدر الوضوء، و عن السيد في شرح الرسالة ان المجنب إذا تيمم ثم أحدث حدثا أصغر و وجد ما يكفيه للوضوء توضأ لأن حدثه الأول قد ارتفع و جاء ما يوجب الصغرى و قد وجد من الماء ما يكفيه لها فيجب عليه استعماله «انتهى» و أجابوا عنه بقيام الإجماع على ان التيمم ليس برافع بل هو مبيح و الجنابة باقية، و زالت الإباحة بالحدث الأصغر فيجب عليه الغسل و مع فقد الماء التيمم بدله، و يظهر من الاستدلال و جوابه ان المسألة مبتنية على المسألة المتقدمة. و مع القول بالرافعية لا مجال للقول المشهور، و مع القول بالاستباحة لا مجال لقول السيد، و لكن الأمر ليس كذلك لا مكان القول بالرافعية إلى

غاية حصول الحدث، و إمكان القول بأنه مبيح لا ترفع إباحته من حيث الجنابة بحدوث الأصغر، فلا بد من النظر في الأدلة على كلا القولين.

فنقول: ان مقتضى إطلاق أدلة التنزيل و البدلية كتابا و سنة قيام التيمم مقام الغسل و الوضوء في جميع ما لهما من الآثار سواء قلنا بطهوريته أولا.

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم، ب 18، ح 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 230

اما على الأول فواضح، لان الطهور من الجنابة لا ينتقض إلا بجنابة جديدة، نعم لو قام دليل خاص على انتقاضة بالحدث الأصغر لالتزمنا بكونه طهورا إلى غاية، و الا فمقتضى إطلاق الأدلة طهوريته مطلقا و انما قلنا بكونه طهورا للعاجز لقيام الدليل على الاغتسال بعد رفع العجز كما تقدم.

و اما على الاستباحة فلان غاية ما نرفع اليد عن إطلاق الأدلة و تنزيل التراب منزلة الماء بناء على قيام دليل عقلي أو غيره على عدم الرفع، هو عدم قيامه مقامه في الرافعية فيكون الدليل الخارجي قرينة على ان المراد بقوله هو أحد الطهورين هو أحد الطهورين تنزيلا، اى بمنزلة الطهور، فيكون مقتضى الإطلاق أنه طهور تعبدي تنزيلي في جميع الآثار، فنزل الشارع المقدس الجنابة منزلة العدم و التيمم منزلة الطهور و الغسل، فكما ان الغسل و الطهور من الجنابة لا ينتقض بالأصغر، كذلك ما هو بمنزلته بل هو هو في عالم التنزيل، فلا بد من قيام دليل على ذلك حتى ترفع اليد عن الأدلة.

و اما إنكار إطلاقها بدعوى ان أدلة التنزيل ناظرة إلى التنزيل في أصل التحقق لا في الناقض، فيمكن أن يكون البول مثلا ناقضا و لا إطلاق لها لرفع هذا الشك، ففيه انه ان كان المراد ان

مفادها حصول الطهور أو ما هو بمنزلته مطلقا للفاقد، و يكون البول موجبا لحدوث جنابة جديدة فهو مخالف للضرورة و الأدلة، فلا بد من الالتزام بحصول الطهارة لموضوع خاص، مثل من لم يحدث أو الى أمد خاص أي إلى حين الحدث فيرجع الى التقييد في موضوع الأدلة الدالة على انه طهور كما لا يخفى.

و قد يقال: لا يبعد الالتزام بمقالة المشهور حتى مع القول بطهورية التيمم، بدعوى ان الطهور الذي هو شرط في الصلاة صفة وجودية، و الحدث أيضا قذارة معنوية، فنلتزم بعدم المضادة بين الوصفين ذاتا، بل التنافي بين أثريهما، كما ان المسلوس طاهر و محدث حقيقة، و غسل الجنابة رافع لحدث الجنابة و مفيد للطهارة التي هي شرط الصلاة، و اما التيمم فإنما يقوم مقام الغسل و الوضوء في الطهورية المسوغة لاستباحة الغايات، اى المجامعة مع المانع لا بصفة المانعية، و اما كونه بمنزلتهما في إزالة ذات المانع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 231

فالأدلة قاصرة عن إثباته، اما ما دل على انه طهور فواضح و اما ما دل على ان التراب بمنزلة الماء، فهو و ان اقتضى عموم المنزلة، لكن العلم ببقاء الأثر في الجملة المقتضي لوجوب الغسل لدى القدرة موجب لصرف الذهن عن ارادة التشبيه في إزالة الذات انتهى ملخصا ثم تأمل و تردد و أمر بالاحتياط.

و لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى ان التضاد بين الصفتين ارتكازي بين المتشرعة، و ان القطرات غير الاختيارية في المسلوس و المبطون ليست سببا للحدث بمقتضى الجمع بين الأدلة كما حقق في محله، و ان الحدث مانع للصلاة لا الطهارة شرط على الأقرب، و انما أمر بالطهارة لإزالة الجنابة

و سائر الاحداث، و ان يوهم شرطيتها بعض الأدلة كقوله: «لا صلاة الا بطهور» لكن مع تذيله بقوله: «و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار» «1» يدفع التوهم كما أشرنا إليه، كما ان قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» ظاهر في ان الأمر بالاغتسال لإزالة الجنابة: ان إنكار دلالة الأدلة على ازالة ذات المانع في غير محله.

اما الآية الكريمة فمع تصديرها بقوله «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» الذي هو كالنص في ان الغسل مزيل للجنابة و رافع له، و ليس ذلك الا للتضاد بين الوصفين، تكون ظاهرة جدا في ان التيمم أيضا رافع عند فقدان الماء، لما تقدم مرارا من استفادة عموم التنزيل منها، و لو لم تكن مذيلة بقوله «وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» و معه لا يبقى مجال تشكيك فيه.

نعم لو كان الدليل العقلي المعروف بينهم تاما، لما كان بدّ من توجيهها و توجيه سائر الأدلة التي هي كالنص في الطهورية، و لعل اعراض القوم عن هذا الظاهر و التزامهم بالاستباحة لأجل المانع العقلي، كما هو المعول عليه من زمن شيخ الطائفة رضى اللّٰه عنه، و بعد ما تقدم من تصوير الرافعية من غير لزوم اشكال عقلي لا يبقى مجال لرد الأدلة.

و العجب من دعوى وضوح عدم دلالة مثل قوله: «التيمم أحد الطهورين» «و ان اللّٰه

______________________________

(1) مرت في صفحة 133.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 232

جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» على كونه مزيلا لذات الجنابة، مع ان صرف مثل تلك الاخبار عن الدلالة على إزالة قذارة الجنابة كما هو شأن الماء الى كونه في حكمها كالطرح للأدلّة بلا موجب، و دلالة هذه الطائفة أوضح بمراتب من

دلالة قوله:

«هو بمنزلة الماء» «2» كما لا يخفى بأدنى تأمل، فالأدلة دالة على المقصود. و لو قلنا بمقالة المشهور في مسألة الاستباحة و الرفع.

نعم هنا بعض الروايات استدل بها للقول المشهور مما لا داعي لنقلها و الجواب عنها بعد وضوح عدم دلالتها.

ثم لو فرض قصور أدلة التنزيل عن إثبات الحكم فقد يقال بان مقتضى القاعدة الاحتياط، لكون الشك في المكلف به فيجب بعد الحدث الجمع بين التيمم بدلا من الغسل و بين الوضوء أو التيمم بدله.

و فيه ان المرجع بعد الشك الى استصحاب بقاء الطهور الحقيقي أو التنزيلي، و معه ينقح موضوع الأدلة الاجتهادية المستفاد منها بعد الجمع و التخصيص، ان الطاهر من الجنابة إذا أحدث بالصغرى يجب عليه الوضوء.

و لا يعارضه استصحاب عدم مشروعية الوضوء قبل التيمم، لان الشك في المشروعية و عدمها ناش عن بقاء الطهارة و عدمه، و استصحاب بقائها المنقح لموضوع الأدلة الاجتهادية حاكم عليه.

هذا فيما إذا قلنا بحصول الطهارة حقيقة واضح، و كذا إذا قلنا بالاستباحة لأن القائل بها لا يمكنه رفع اليد عن ظاهر الأدلة المتواترة إلا بما دل دليل عقلي أو نقلي على خلافه فمع قيامه على عدم حصول الطهارة واقعا تحمل الأدلة على حصول التنزيلية منها، فيكون معنى قوله: «التراب أحد الطهورين» انه أحدهما حكما، لكن بلسان تحقق الموضوع و هو من أوضح موارد الحكومة، فكما ان قوله: «التراب طهور» حاكم على مثل «لا صلاة الا بطهور» و لو قلنا بان الطهور تنزيلي، كذلك استصحابه ينقح موضوع الأدلة

______________________________

(1) الوسائل أبواب التيمم ب 23- 24.

(2) مرت في صفحة 128.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 233

الاجتهادية الحاكمة على ان الحدث الأصغر لغير الجنب موجب

للوضوء، فلا إشكال في المسألة سواء قلنا بالرافعية كما هو الأقوى أو بالاستباحة.

التاسع [انتقاض التيمم]

اشارة

لا اشكال نصا و فتوى في انتقاض التيمم مع التمكن من استعمال الماء و عدم العذر منه شرعا و عقلا، و مع فقده بعد ذلك افتقر الى تجديده، كما لا إشكال في عدم انتفاضة بخروج الوقت و لا بإتيان الصلاة. فما عن الشافعي من اختصاص أثر التيمم بصلاة واحدة ضعيف، كما لا يعول على رواية السكوني المخالفة للروايات و فتوى الأصحاب

و انما الكلام في بعض الفروع.

منها: لو تيممت الحائض أو المستحاضة تيممين بدلا من الغسل و الوضوء، فوجدت ماء يكفى لواحد منهما لا كليهما، فلا يخلو اما ان تعلم بأهمية أحدهما المعين المعلوم كالغسل أهمية إلزامية أو تحتمل ذلك أو تعلم بأهمية أحدهما المعين واقعا و لا تعرفه أو تحتمل ذلك أو تعلم بتساويهما.

فعلى الأول ينتقض ما هو بدل الأهم لحصول التمكن من استعمال الماء له، و لا ينتقض بدل المهم للعذر عن استعماله له.

و على الثاني ينتقض محتمل الأهمية بناء على انتقاضهما مع التساوي كما يأتي للعلم التفصيلي بانتقاضه، اما لكونه أهم فيختص بالانتقاض أو لتساويهما فينتقضان و الأخر محتمل الانتقاض فيستصحب بقائه.

و على الثالث و الرابع يحصل العلم بانتقاض أحدهما و بقاء أحدهما، فيجب عليها التيممان لو قلنا باختلاف كيفيتهما، و تكتفي بواحد بقصد ما في الذمة لو قلنا باتحادهما كيفية كما هو الأقوى، و كذا مع احتمال الأهمية في كل واحد منهما، و مع إحراز تساويهما ينتقض التيممان لكونها قادرة على كل واحد من الغسل و الوضوء، و ان لم تكن قادرة على الجمع، و القدرة عليه ليست موضوعة للحكم، بل القدرة على كل واحد موجبة لانتقاضه، و هي حاصلة و هذا بوجه نظير باب المتزاحمين حيث قلنا بأنه لو ترك المكلف إنقاذ الغريقين يستحق

العقوبة على ترك كل منهما للقدرة على إنقاذه، و ان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 234

لم يقدر على الجمع و هو ليس بمأمور به.

ثم انه قد يقال مع إحراز أهمية الغسل لو توضأت صح وضوئها لقاعدة الترتب و مقتضاها انتقاض ما هو بدل من الوضوء أيضا على تقدير ترك الغسل، و لو أتلفت الماء انتقض التيممان.

و فيه مضافا الى ما حررنا في محله من بطلان الترتب ان انتقاض التيمم في المقام نصا و فتوى متوقف على القدرة الفعلية على استعمال الماء للوضوء و عدم محذور فيه، و هي لم تحصل الا باستعمال مقدار من الماء للوضوء أو غيره أو إتلاف مقدار منه، بحيث خرجت البقية عن إمكان الاغتسال بها، فح لو استعملت الماء لغير الوضوء أو أتلفته ثم توضأت بالبقية صح وضوئها، لكن هذا الفرض خارج عن محط الكلام.

و اما لو استعملت في الوضوء فما لم يخرج الماء عن إمكان الاغتسال به لم ينتقض تيممها، لكونها غير قادرة على استعماله في الوضوء لبقاء العذر. و لزوم تقديم الأهم، و إذا تعذر بالاستعمال كما لو تعذر بعد غسل وجهها للوضوء انتقض تيممها، فلا يمكن أن يقع ذلك الوضوء صحيحا لحصول الانتقاض بعد غسل الوجه و صيرورتها محدثة بين الوضوء نظير حدوث الحدث بينه.

و بالجملة انتقاض التيمم حصل بالوضوء و في أثنائه فلا يقع صحيحا، و ذلك من غير فرق بين القول برافعية التيمم حقيقة أو حكما كما لا يخفى وجهه بالتأمل.

ثم ان إتلاف الماء لا يوجب انتقاض التيمم بدل الوضوء الا أن يكون تدريجيا بحيث تقدر على الوضوء بعد سلب قدرتها عن الغسل، و اما لو أتلفته دفعة فلا موجب لانتقاض

بدل الأصغر بعد فرض أهمية الأكبر، لأنها قبل التلف لم تكن قادرة على استعماله في الوضوء، و بالتلف تسلب القدرة عنهما دفعة، فلا وجه لانتقاض ما هو بدل الأصغر فإطلاق القول بانتقاضهما بالإتلاف محل اشكال و منع.

و قد يقال في فرض عدم الأهمية انهما ينتقضان ان تركت استعماله فيهما الى أن يمضي زمان تتمكن فيه من فعل كل من الطهارتين لقدرتها على كل منهما على تقدير ترك

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 2، ص: 235

الأخر، و قد تحقق التقدير في الفرض و اما على تقدير استعماله في أحدهما فالظاهر عدم انتقاض ما هو بدل من الأخر لعدم قدرتها على الإتيان بمبدله على تقدير صرف الماء فيما استعملت بمقتضى تكليفها.

و فيه ان مضى الزمان بمقدار العمل لإدخاله له في قدرتها، بل هي حاصلة في أول زمان وجدان الماء الجائز الاستعمال شرعا و عقلا، فإن القدرة على كل منهما ليست معلقة على ترك الآخر، بل فعله رافع للقدرة لأجل المزاحمة عقلا بينهما، فالقدرة قبل الاشتغال بالعملين حاصلة بالنسبة الى كل من العملين، و بالاشتغال بأحدهما ترفع عن الآخر ما دام الاشتغال أو مع نقصان الماء بالاستعمال.

و منه يظهر النظر في كلامه الأخير أي عدم الانتقاض على تقدير الاستعمال في صاحبه، لأن القدرة كانت حاصلة لكل منهما قبل الاشتغال بالآخر، و لا يشترط في الانتقاض الا ذلك، فالأقوى انتقاضهما بمجرد الوجدان و القدرة على الاستعمال قبل الاشتغال بأحدهما و لا تأثير للاشتغال به في عدم الانتقاض.

و العجب ان القائل بالتفصيل في هذا الفرع لم يفصل في الفرع الأخر، فقال لو وجد جماعة ماء يباح لهم التصرف فيه، فان تمكن كل منهم من التصرف فيه على

وجه سائغ من غير ان يزاحمه غيره انتقض تيمم الجميع و الا انتقض تيمم المتمكن خاصة «انتهى».

و كان عليه التفصيل المتقدم من مضى زمان بمقدار العمل مع تركهم الاستعمال و مع استعمال أحدهم حين الوجدان يلتزم بعدم الانتقاض، الا ان يقال ان مراده ذلك و لم يصرح به لإيكاله على الوضوح بعد بيان الفرع المتقدم فيرد عليه ما تقدم.

و الحمد لله أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا و قد وقع الفراغ من هذه الوجيزة في 11 شهر شعبان المعظم سنة 1376

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

الجزء الثالث

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه رب العالمين و صلى اللّٰه على محمد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين.

القول في النجاسات و فيه مقدمة و فصلان

أما المقدمة

اشارة

ففيها جهات من البحث:

الأولى: الظاهر ان النجاسة و القذارة العرفية أمر وجودي

مقابل النظافة و النقاوة، فان الأعيان الخارجية على قسمين: أحدهما ما هو قذر و رجس و هو ما يستكرهه العقلاء و يستقذرونه و يتنفرون عنه، كالبول و الغائط و المني و النخامة و أمثالها مما تجتنب منها العقلاء لتنفرهم عنها و عن التماس معها، و منها ما ليس كذلك كسائر الأعيان.

و الثانية نظيفة نقية لا بمعنى أن النظافة أمر وجودي قائم بذاتها وراء أوصافها و أعراضها الذاتية، فالحجر و المدر و الجص و أمثالها بذاتها نظيفة ليست بقاذورة يستكرهها الناس، و انما تصير بملاقاتها مع بعض الأعيان القذرة و تلطخها بها نجسة قذرة بالعرض، و يستقذرها الناس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 4

لتلك المماسة و ذلك التلطخ، فالأشياء كلها ما عدي الأعيان القذرة نظيفة أي نقية عن القذارة.

فالنظافة هي كون الشي ء نقيا عن الأقذار، فإذا صارت الأشياء بملاقاتها قذرة فغسلت بالماء ترجع الى حالتها الأصلية، أي النقاوة عنها من غير أن يحصل لها أمر وجودي قائم بها خارجا أو اعتبارا.

و ما ذكر موافق للاعتبار و العرف و هو ظاهر، و كذا موافق للغة ففي الصحاح: «النظافة: النقاوة، و نظفته أنا تنظيفا أي نقيته» و في القاموس: «النظافة: النقاوة، و هو نظيف السراويل و عفيف الفرج» انتهى و الظاهر أن نظيف السراويل كناية عن عدم التلطخ بدنس الزنا و مثله، و في المجمع: «النظافة النقاوة، و نظف الشي ء ينظف- بالضم- نظافة: نقى من الوسخ و الدنس» و في المنجد: «نظف الشي ء كان نقيا من الوسخ و الدنس يقال: فلان نظيف السراويل أي عفيف، و نظيف الأخلاق أي مهذب، و تنظف الرجل اي تنزه عن المساوي» هذا حال

القذارات العرفية و يأتي الكلام في حال اعتبار الشارع و حكمه.

الثانية [هل النجاسة من الأحكام الوضعية]

يحتمل في بادئ النظر أن تكون النجاسة من الأحكام الوضعية الشرعية للأعيان النجسة عند الشارع حتى فيما هو قذر عند العرف كالبول و الغائط فتكون النجاسة قذارة اعتبارية غير ما لدى العرف بحسب الحقيقة موضوعة لأحكام شرعية.

و يحتمل أن تكون أمرا انتزاعيا من الأحكام الشرعية كوجوب الغسل و بطلان الصلاة معها و هكذا، و يحتمل أن تكون امرا واقعيا غير ما يعرفها الناس كشف عنها الشارع المقدس و رتب عليها أحكاما.

و يحتمل أن تكون الأعيان النجسة مختلفة بحسب الجعل، بمعنى أن ما هو قذر عرفا كالبول و الغائط و المني لم يجعل الشارع لها القذارة بل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 5

رتب عليها أحكاما، و ما ليس كذلك كالكافر و الخمر و الكلب ألحقها بها موضوعا أي جعل و اعتبر لها النجاسة و القذارة، فيكون للقذارة مصداقان:

حقيقي و هو الذي يستقذره العرف، و اعتباري جعلي كالأمثلة المتقدمة و غيرها من النجاسات الشرعية التي لا يستقذرها الناس لو خليت طباعهم و أنفسها أو ألحقها بها حكما أي رتب عليها أحكام النجاسة من غير جعل نجاسة لها.

و الظاهر بحسب الاعتبار بل الأدلة هو احتمال ما قبل الأخير، لأن الظاهر انه لم يكن للشارع اصطلاح خاص في القذر و النجس، فما هو قذر و نجس عند العقلاء و العرف لا معنى لجعل القذارة لها، لأن الجعل التكويني محال، و اعتبار آخر نظير التكوين لغو، و ليست للنجاسة و القذارة حقيقة واقعية لم يصل إليها العرف و العقلاء كما هو واضح، نعم لما كان العرف يستقذر أشياء لم يكن لها أحكام النجاسات الإلزامية

و ان استحب التنزه عنها و التنظيف منها كالنخامة و المذي و الوذي، يكشف ذلك عن استثناء الشارع إياها موضوعا أو حكما.

و أما النجاسات الشرعية التي ليست لدى العرف قذرة نجسة كالخمر و الكافر فالظاهر إلحاقها بها موضوعا، كما هو المرتكز عند المتشرعة فإنها قذرة عندهم كسائر الأعيان النجسة.

و لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» فان الظاهر منه تفريع عدم قربهم المسجد على نجاستهم، بل و قوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «2» فإن الرجس القذر، و ظاهره أنه تعالى جعلهم رجسا، و قوله تعالى:

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية: 28.

(2) سورة الانعام: 6- الآية: 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 6

«قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ- الى قوله- أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1».

و لحسنة خيران الخادم قال: «كتبت الى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم فيه: فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فكتب: لا تصل فيه فإنه رجس» «2» فان التعليل دليل على ان عدم صحة الصلاة فيه لأجل كون الخمر رجسا فلا تكون نجاستها منتزعة من الأحكام و لما لم يكن الخمر رجسا عرفا و لدى العقلاء لا محالة تكون نجاستها مجعولة شرعا.

و صحيحة أبي العباس و فيها «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب فقال: رجس نجس لا يتوضأ بفضله» «3» و التقريب فيها كسابقتها، و قريب منها صحيحته الأخرى «4» و حسنة معاوية بن

______________________________

(1) سورة الانعام: 6- الآية:- 145.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث

4.

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) في الوسائل بطريق صحيح عن الفضل أبي العباس قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسه جافا فاصبب عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟

قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أمر بقتلها (بغسلها)» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 1- هذه صحيحة أخرى للفضل في باب نجاسة الكلب، إلا انه لا يحسن الاستشهاد بها لما بصدده الأستاذ دام ظله، نعم أورد في الوسائل صدر الصحيحة المتقدمة في الباب 11 من أبواب النجاسات- الحديث 1- و ذيلها في الباب 12 و 70- من هذه الأبواب- الحديث 2- 1- و أوردها بتمامها في الباب 1- من أبواب الأسئار الحديث 4- و لعل هذا التقطيع صار منشأ لتوهم تعدد الحديث فراجع و تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 7

شريح «1».

فتحصل مما ذكر أن النجاسات على نوعين: أحدهما ما يستقذره الناس و قد رتب الشارع عليه أحكاما، و ثانيهما ما جعله الشارع قذرا و ألحقه بها موضوعا بحسب الاعتبار و الجعل، فصار قذرا في عالم الجعل و وعاء الاعتبار و رتب عليه أحكام القذر.

الثالثة [جعل النجاسة للموضوعات]

الظاهر أن جعل القذارة للموضوعات التي ليست قذرة عند الناس ليس بملاك واحد، كما أن الظاهر عدم قذارة واقعية لها لم يطلع عليها الناس و كشف عنها الشارع، ضرورة أن القذارة ليست من الحقائق المعنوية الغائبة عن أبصار الناس و مداركهم.

بل الظاهر أن جعل القذارة لمثل الخمر لأجل أهمية المفسدة التي في شربها فجعله نجسا لأن يجتنب الناس عنها غاية الاجتناب، كما أن الظاهر ان جعل النجاسة للكفار لمصلحة

سياسية هي تجنب المسلمين عن معاشرتهم و مؤاكلتهم لا لقذارة فيهم تؤثر في رفعها كلمة الشهادتين.

و لعل في مباشرة الكلب و الخنزير مضرات أراد الشارع تجنبهم

______________________________

(1) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام (في حديث): «انه سئل عن سؤر الكلب يشرب منه أو يتوضأ، قال: لا، قلت: أ ليس هو سبع؟ قال: لا و اللّٰه، انه نجس، لا و اللّٰه انه نجس» و في رواية عن أبي سهل القرشي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن لحم الكلب. فقال: هو مسخ، قلت: أ هو حرام؟ قال: هو نجس:

أعيده (ها) عليه ثلاث مرات، كل ذلك يقول: هو نجس» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 6- 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 8

عنهما تحفظا عنها الى غير ذلك، و لا أظن إمكان الالتزام بأن القذارة عند الشارع ماهية مجهولة الكنه يصير المرتد بمجرد الردة قذرا واقعا، و صارت الردة سببا لاتصافه تكوينا بصفة وجودية تكوينية غائبة عن أبصارنا، و مجرد الإقرار بالشهادتين صار سببا لرفعها تكوينا.

الفصل الأول في تعيين الأعيان النجسة

اشارة

و هي عشرة أنواع على ما في جملة من الكتب أو أكثر كما يأتي حال الخلاف في بعض:

الأول و الثاني: البول و الغائط
اشارة

من كل حيوان غير مأكول ذي نفس سائلة فما لا يصدق عليه عنوانهما ليس بنجس كالحب الخارج من الحيوان إذا لم يصدق عليه العذرة و لو فرض الخروج عن صدق عنوانه الذاتي أيضا فضلا عما إذا صدق عليه و ان زالت صلابته و قوة نبته، فما عن المنتهى من الحكم بنجاسته إذا زالت صلابته غير وجيه، و قد حكي الإجماع على نجاستهما مع القيدين عن الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهى و التذكرة و كشف الالتباس و المدارك و الدلائل و الذخيرة، و عن الناصريات و الروض و المدارك و الذخيرة نقل الإجماع على عدم الفرق بين الأرواث و الأبوال و لعله هو العمدة في الأرواث لعدم إطلاق أو عموم معتد به يمكن الركون إليه، و ان لا يبعد في بعضها كما سيتضح الكلام فيه.

و أما الأبوال فلا إشكال في دلالة كثير من الأخبار عموما أو إطلاقا على نجاستها فلا موجب لنقلها، و الاولى سرد الروايات الواردة في الأرواث:

فمنها ما عن المختلف نقلا عن كتاب عمار بن موسى عن الصادق عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 9

قال: «خرء الخطاف لا بأس به، هو مما يؤكل لحمه لكن كره أكله لأنه استجار بك و آوى الى منزلك، و كل طير يستجير بك فأجره» «1».

بدعوى أن قوله: «هو مما يؤكل» تعليل لعدم البأس، و برفع العلة يرفع عدم البأس، و أن المراد بعدم البأس صحة الصلاة معه و جواز شرب ملاقيه و غير ذلك و لو بملاحظة معهوديته من البأس و اللابأس

في خرء الحيوان و بوله، و بقرينة الروايات الواردة في أبوال ما لا يؤكل لحمه.

و فيها بعد الغض عن أن الرواية بعينها نقلت في باب المطاعم عن الشيخ بإسناده عن عمار، و فيها: «الخطاف لا بأس به» من غير كلمة «خرء» و احتمال كونها رواية أخرى نقلها العلامة و أهملها الشيخ في غاية البعد، بل مقطوع الفساد، نعم يحتمل اختلاف النسخ فدار الأمر بين الزيادة و النقيصة، فإن قلنا بتقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لدى العقلاء خصوصا في المقام مما يظن لأجل بعض المناسبات وجود لفظ الخرء صح الاستدلال بها. لكن إثبات بنائهم على ذلك مشكل، بل إثبات بنائهم على العمل بمثل الرواية أيضا مشكل، و قد حرر في محله أنه لا دليل على حجية خبر الثقة إلا بناءهم المشفوع بإمضاء الشارع.

أن غاية ما يستفاد من إطلاق التعليل أن أكل اللحم تمام العلة و تمام الموضوع لعدم البأس، و أما انحصارها به فغير ظاهر، و لا يكون مقتضى الإطلاق، فيمكن قيام علة أخرى مقامها عند عدمها، و بعبارة أخرى أن الإطلاق يقتضي عدم دخالة شي ء غير المأكولية في نفي البأس فتكون تمام العلة له لا جزءها، و هو غير الانحصار، و ما يفيد هو انحصارها

______________________________

(1) الوسائل- الباب 9- من أبواب النجاسات- الحديث 20.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 10

بها حتى يقتضي رفعها ثبوت نقيض الحكم أو ضده.

و دعوى أن العرف مع خلو ذهنه عن هذه المناقشة يفهم من الرواية أن في خرء غير المأكول بأسا غير مسلمة. مضافا الى أن البأس أعم و المعهودية غير معلومة و قرينية أخبار الأبوال غير ظاهرة، مع كون البول أشد في

بعض الموارد كلزوم تعدد غسله و عدم الاكتفاء بالأحجار فيه.

و منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل ما يؤكل فلا بأس بما يخرج منه» «1» بدعوى أن تعليق الحكم على ما يؤكل يفيد العلية، و الكلام فيها كسابقتها، مضافا إلى أنه لو سلم دلالتها فلا تدل على الكلية في مفهومها، فغاية ما يثبت بها أن هذه الكلية غير ثابتة لما لا يؤكل، بل لو سلم كون ما يخرج منه عبارة عن ما يخرج من طرفيه من البول و الخرء، فلا يثبت في المفهوم البأس فيهما، فيمكن أن يكون في أحدهما بأس.

و منها رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يطأ في العذرة أو البول أ يعيد الوضوء؟ قال: لا، و لكن يغسل ما أصابه» «2» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:

«سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» «3».

و رواية علي بن محمد في حديث قال: «سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من

______________________________

(1) في الوسائل «كل ما أكل لحمه» راجع الباب 9- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

(2) الوسائل- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 15.

(3) الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق- الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 11

أثره شي ء فاغسله، و إلا فلا بأس» «1».

و صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام

عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: ان كان لم يعلم فلا يعيد» «2».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: «كنت مع أبي جعفر عليه السلام إذ مرّ على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال أ ليس هي يابسة؟ فقلت:

بلى، قال: لا بأس، ان الأرض يطهر بعضها بعضا» «3» الى غير ذلك كبعض ما ورد في ماء البئر «4» و أبواب المطاعم «5».

و يظهر منها أن نجاسة العذرة بعنوانها كانت معهودة و ان أمكنت

______________________________

(1) الوسائل- الباب 37- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب 40- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب 32- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) كموثقة عمار قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن البئر يقع فيها زبيل عذرة يابسة أو رطبة، فقال: لا بأس إذا كان فيها ماء كثير» و كصحيحة إسماعيل بن بزيع قال: «كتبت الى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟

فوقع عليه السلام بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها» و قريب منها غيرها المروية في الوسائل- الباب 14 و 20- من أبواب الماء المطلق.

(5) راجع الوسائل- الباب 27- 28- 29- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 12

المناقشة في دلالة بعضها و إطلاق بعض، لكن يتوقف إثبات عموم الحكم على كون العذرة خرء مطلق الحيوان إنسانا و غيره، طائرا

و غيره، كما هو الظاهر من كلمات كثير من اللغويين، ففي القاموس «العذرة:

الغائط و أردأ ما يخرج من الطعام» و نحوه في المعيار و المنجد، و في الصحاح «الخرء بالضم: العذرة، و الجمع الخروء، و قال يهجو: كأن خروء الطير فوق رءوسهم» و في المجمع: «العذرة وزان كلمة الخرء» و في القاموس: «الخرء بالضم العذرة» و قريب منه ما في المنجد و المعيار و عن الصراح: «عذره پليدى مردم و ستور و جز آن» و نحوه عن منتهى الارب.

و يظهر من الفقهاء في المكاسب المحرمة إطلاق العذرة على مطلق مدفوع الحيوان، و حملوا رواية «لا بأس ببيع العذرة» على عذرة ما يؤكل لحمه، و استندوا في حرمة عذرة غير المأكول على الإجماع المدعى على حرمة بيع العذرة، و بالجملة يظهر منهم إطلاق العذرة على مدفوع مطلق الحيوان.

و تدل على عدم الاختصاص بعذرة الإنسان مضافا الى صحيحة عبد الرحمن المتقدمة رواية سماعة قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر فقال: اني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها، و قال: لا بأس ببيع العذرة» «1» حيث تدل ان العذرة:

منها ما يجوز بيعها و منها ما لا يجوز، و قد حملوا الجزء الثاني منها على عذرة الحيوان المحلل اللحم.

و تؤيده صحيحة ابن بزيع في أحكام البئر قال: «كتبت الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب 40- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 13

رجل- الى ان قال-: أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها» «1» بناء على كون البعرة مثالا للعذرة، لكن في رواية أخرى بدل «من عذرة» «من غيره» و دعوى

انصراف العذرة الى ما هي محل الابتلاء كعذرة الإنسان و السنور و الكلب دون السباع و نحوها غير وجيهة، لفهم العرف أن حكم النجاسة ثابت لذات العذرة من غير دخالة للإضافة إلى صاحبها، و لعدم الانصراف عن عذرة بعض الطيور و بعض الحيوانات كالقردة و الخنازير مما يبتلى بها و لو قليلا، و عدم الفصل جزما بينها و بين غيرها، مع أن إطلاق الخرء على رجيع الطيور و الفأرات و الكلاب شائع ظاهرا، و هو مساوق للعذرة كما مر من كتب اللغة المتقدمة.

لكن مع ذلك إثبات كون العذرة الواردة في الروايات شاملة لفضلة جميع الحيوانات مشكل، أما أولا فلاختلاف اللغويين في ذلك فعن جمع منهم الاختصاص بفضلة الآدمي، كالهروى و الغريبين و مهذب الأسماء و تهذيب اللغة و دائرة المعارف للفريد، بل الظاهر من محكي ابن الأثير.

و أما ثانيا فلقرب احتمال انصرافها الى فضلة الآدمي لو فرض كونها أعم. و أما ثالثا فلعدم الإطلاق في الروايات الواردة لإثبات الحكم كما ستأتي الإشارة اليه.

و كيف كان لا إشكال في نجاسة البول و الغائط من الحيوان الغير المأكول الذي له نفس سائلة إلا ما استثنى كما يأتي لما مر حكاية الإجماع عليها بل في بعضها واضحة.

______________________________

(1) الوسائل- الباب 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 21.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 14

و ينبغي التنبيه على أمور:

منها قالوا: لا فرق بين غير المأكول الأصلي و العرضي كالجلال و الموطوء، و عن الغنية الإجماع على نجاسة خرء مطلق الجلال و بوله، و عن المختلف و التنقيح و المدارك و الذخيرة الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال، و عن ظاهر الذخيرة و الدلائل الإجماع على نجاسة الجلال و الموطوء و

كل ما لا يؤكل لحمه، و عن التذكرة و المفاتيح نفي الخلاف في إلحاق الجلال من كل حيوان و الموطوء بغير المأكول في نجاسة البول و العذرة و هو العمدة.

و لولاه لكان للخدشة في الحكم مجال، لأن الظاهر مما يؤكل و ما لا يؤكل المأخوذين في الأدلة هو الأنواع كالبقر و الغنم و الإبل و الكلب و السنور و الفأر لا أشخاص الأنواع، فكأنه قال: اغسل ثوبك من أبوال كل نوع لا يؤكل لحمه كما يظهر من الأمثلة التي في بعض الروايات.

ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يصيبه بعض أبوال البهائم. أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار و الفرس و البغل، و أما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1» و عنه (ع) مثله الا أنه قال: «و ينضح بول البعير و الشاة، و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «2» الى غير ذلك مما هي ظاهرة في أن الحكم في الطرفين معلق على الأنواع.

و لا ريب في ان الظاهر من ذلك التعليق أن النوع مما أكل أولا،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 15

و لا تنافي مأكوليته مع عروض العدم بالجلل و غيره لبعض الافراد، نعم لو كان موضوعه أفراد الأنواع كان الجلال مصداقه، لكنه خلاف ظواهر الأدلة.

و أما الاستشهاد للمطلوب بما ورد من غسل عرق الجلال ففي غير محله و لو قلنا بنجاسته، لحرمة القياس، و دعوى الأولوية غير مسموعة بعد احتمال كون نجاسة عرقه

لكونه فضل العذرة بخلاف بوله، مع أن الأقوى عدم نجاسة عرق ما عدم الإبل الجلال كما يأتي.

نعم لو أغمض عما ذكرنا، فلا مجال للقول بتعارض ما دل على نجاسة بول غير المأكول و روثه مع ما دل على طهارتهما من الغنم و البقر تعارض العموم من وجه، فيرجع إلى أصالة الطهارة و استصحابها، لتقدم الاولى على الثانية بنحو من الحكومة، لأن المأكولية و غيرها من الأوصاف الانتزاعية الزائدة على الذات، و الدليل الدال على الحكم المعلق عليها مقدم عرفا على الدال على الحكم المعلق على عناوين الذات.

و كيف كان لا مجال للتشكيك في الحكم بعد ما عرفت من تسلمه بين الأصحاب و ان احتمل أن يكون مستندهم فيه هو الأدلة اللفظية، بدعوى عمومها للمحرم بالعرض كما صرح به بعضهم، و بعد وصول شي ء آخر إليهم غير ما وصل إلينا، لكن مع ذلك الأقوى ما عليه الأصحاب و لفهم العلية من الأدلة و الدوران مدارها ببركة فهمهم منها. و إمكان دعوى إطلاق أدلة نجاسة البول و العذرة، و المتيقن من الخروج هو ما للمأكول فعلا، و المتأيد في روثة بأنه من فضل العذرة، و هو أردأ منها.

و منها: اختلفوا في رجيع الطير،

فعن الصدوق في الفقيه: «لا بأس بخرء ما طار و بوله» و إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين المأكول و غيره،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 16

و حكي القول بطهارته عن ابن أبي عقيل و الجعفي، و تبعهم جمع من متأخري المتأخرين، و عن الشيخ في المبسوط القول بها فيما عدي الخشاف. فقال: «بول الطيور و ذرقها كله طاهر الا الخشاف».

و عن المشهور القول بنجاسة خرء ما لا يؤكل و بوله، بل في الجواهر «شهرة عظيمة

تقرب الإجماع ان قلنا بشمول لفظ الغائط و العذرة و الروث في عبارات الأصحاب لما نحن فيه، كما قطع به العلامة الطباطبائي في مصابيحه بالنسبة إلى خصوص عباراتهم» انتهى. و هو ليس ببعيد، لما عرفت من تصريح اللغويين من مساوقة العذرة للخرء و شيوع إطلاق الخرء على رجيع الطير في الاخبار و غيرها.

و عن الحلي في باب البئر: «قد اتفقنا على نجاسة ذرق غير المأكول من سائر الطيور، و قد رويت رواية شاذة لا يعول عليها أن ذرق الطائر طاهر سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكوله، و المعمول عند محققي أصحابنا و المحصلين منهم خلاف هذه الرواية لأنه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها» انتهى.

و في التذكرة: «البول و الغائط من كل حيوان ذي نفس سائلة غير مأكول اللحم نجسان بإجماع العلماء كافة، و للنصوص الواردة عن الأئمة عليهم السلام بغسل البول و الغائط عن المحل الذي أصاباه، و هي أكثر من أن تحصى، و قول الشيخ في المبسوط بطهارة ذرق ما يؤكل لحمه من الطيور لرواية أبي بصير ضعيف، لأن أحدا لم يعمل بها» انتهى.

و هو ظاهر في أن الروايات المشتملة على البول و العذرة و الخرء بإطلاقها شاملة للطيور و غيرها من أصناف الحيوان، و كذا كلمات الفقهاء المشتملة عليها و على الغائط و نحوه، و يظهر ذلك من الحلي أيضا.

و عن الغنية: «و النجاسات هي بول ما لا يؤكل و خرؤه بلا خلاف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 17

و ما يؤكل لحمه إذا كان جلالا بدليل الإجماع» و شمول الخرء لرجيع الطير مما لا سبيل إلى إنكاره، و عن الخلاف دعوى إجماع الفرقة و أخبارهم على

نجاسة بول و ذرق ما لا يؤكل طيرا أو غيره، و عن الجامعة شرح الألفية دعوى إجماع الكل على نجاستهما من الطير الغير المأكول و غير الطير.

فعليه يشكل العمل بصحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل شي ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه» «1» و عن البحار:

وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «خرء كل شي ء يطير و بوله لا بأس به» «2» لعدم ثبوت عمل الصدوق بها و ان كان ظاهر فقيهه، سيما مع ما عن مقنعته قال: «و ان أصاب ثوبك بول الخشاشيف فاغسل ثوبك» «3» و روي «أنه لا بأس بخرء ما طار و بوله و لا تصل في ثوب أصابه ذرق الدجاج» «4» انتهى. فان الظاهر منه عدم عمله بما روي، و لم يحضرني عبارة الجعفي و ابن أبي عقيل، و لا يعتمد بما في المبسوط مع دعوى الإجماع في الخلاف على خلافه، و مع فتواه في النهاية التي هي معدة لذلك على نجاسة ذرق غير المأكول من الطيور، كما أنه لا اعتماد على فتوى متأخري المتأخرين مع إعراض الأصحاب عن الصحيحة بشهادة الحلي و العلامة مع صحة سندها و وضوح دلالتها، و لا شبهة في أن المشهور بين قدماء أصحابنا هو النجاسة، و لهذا لم ينقل الخلاف الا ممن ذكر، فتكون الفتوى بالطهارة شاذة.

و لو أغمض عن ذلك و محضنا النظر الى الروايات فيمكن أن يقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات الحديث 2.

(3) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(4) المستدرك- الباب- 6- من أبواب

النجاسات الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 18

إن بين صحيحة أبي بصير و صحيحة ابن سنان تعارض العموم من وجه بدوا، فإن الأولى بعمومها شاملة لغير المأكول و الثانية بإطلاقها شاملة له.

نعم هنا رواية أخرى عن ابن سنان رواها الكليني في أبواب لباس المصلي عن علي بن محمد عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه» «1» فهي أيضا شاملة له بالعموم، لكن فيها إرسال لأن علي بن محمد من مشايخ الكليني و لم يدرك ابن سنان، فإنه من أصحاب أبي عبد اللّٰه (ع) و لم يثبت إدراكه لأبي الحسن موسى عليه السلام كما يشهد به التتبع و شهد به النجاشي، و ان عده الشيخ من أصحابه عليه السلام، و لا إشكال في عدم إدراك على بن محمد و من في طبقته له و لمن في طبقته، بل في طبقة متأخرة منه أيضا، كابن أبي عمير و جميل و من في طبقتهما.

و على أي تقدير بينهما جمع عرفي في مورد الاجتماع، لأن الأمر بالغسل من بول ما لا يؤكل من الطير حجة على الإلزام و الوجوب ما لم يرد الترخيص، و نفي البأس ترخيص، و لو سلم ظهوره في الوجوب لغة يجمع بينهما بحمل الظاهر على النص، و صحيحة أبي بصير نص في عدم الوجوب.

و توهم عدم إمكان التفكيك في مفاد الهيئة مدفوع، أما على ما ذكرناه في محله بأنها لا تدل إلا على البعث و الإغراء من غير دلالة على الوجوب أو الاستحباب وضعا فظاهر، لعدم لزوم التفكيك في مفادها الذي هو البعث و الإغراء و

ان انقطعت الحجة على الإلزام بالنسبة إلى مورد الترخيص دون غيره و أما على ما قالوا فللكشف عن استعمالها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 19

في مطلق الرجحان.

و كيف كان لا تعارض بينهما بعد الجمع العقلائي مضافا الى ما قيل من تقدم أصالة العموم على أصالة الإطلاق فيقدم صحيحة أبي بصير بعمومها على إطلاق صحيحة ابن سنان، و روايته الأخرى و ان كانت عامة، لكن قد عرفت أنه لا ركون إليها و ان كان في تقديم أصالة الإطلاق إشكال و كلام، مع إمكان أن يقال: إن صحيحة ابن سنان غير ظاهرة في الوجوب و لا حجة عليه، لقرب احتمال ان يكون المراد مما لا يؤكل لحمه ما لا يعد للأكل و لا يكون أكله متعارفا، لا ما يحرم أكله شرعا، بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك لأن ما يؤكل و ما لا يؤكل ظاهر ان فيما يأكله الناس و ما لا يأكله، و الحمل على ما يحرم أو يحل يحتاج الى تقدير و تأويل.

و تشهد لما ذكر صحيحة عبد الرحمن أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يصيبه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا؟

قال: يغسل بول الفرس و الحمار و البغل فأما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1» حيث قابل فيها بين الفرس و أخويه و بين ما يؤكل لحمه.

و رواية العياشي عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال:

«سألته عن أبوال الخيل و البغال و الحمير قال فكرهها فقلت: أ ليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أ ليس قد بين اللّٰه لكم: و الانعام

خلقها لكم فيها دف ء و منافع و منها تأكلون، و قال في الخيل: و الخيل و البغال و الحمير؟ و ليس لحومها بحرام و لكن الناس عافوها» «2».

______________________________

(1) مرت في صفحة 10.

(2) المستدرك- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 20

مضافا الى الروايات الكثيرة الآمرة بالغسل عن أبوال البهائم الثلاث «1» فيضعف ظهور قوله عليه السلام: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» في الوجوب حتى يستفاد منه النجاسة، بعد معلومية عدم نجاسة بول تلك البهائم من الصدر الأول خصوصا في زمان الصادقين عليهما السلام. حيث كانت طهارته ضرورية مع كثرة ابتلاء الأعراب بها، و كثرة حشرهم مع تلك الدواب في الحروب و غيرها من زمن رسول اللّٰه (ص) الى عصر الصادقين عليهما السلام.

و بالجملة ان قلنا بظهور صحيحة ابن سنان فيما لا يعد للأكل و لا يأكله الناس فعلا لا يبقى ظهور الأمر بالغسل في الوجوب.

ثم لو أغمض عن ذلك و قلنا بتعارض الروايتين و قلنا بعدم شمول أدلة العلاج للعامين من وجه كما هو الأقرب فالقاعدة تقتضي سقوطهما و الرجوع الى أصالة الطهارة، إلا أن يقال بإطلاق الروايات الواردة في البول، كصحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن البول يصيب الثوب؟ قال: اغسله مرتين» «2» و نحوها غيرها «3».

و إطلاق ما وردت في العذرة تقدم جملة منها و ان كان في إطلاقها

______________________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 1- يمكن أن يقال: انه ليس في مقام بيان أصل النجاسة للبول، بل بصدد بيان كيفية التطهير من حيث التعدد بعد

المفروغية عن نجاسته و لا يصح التمسك بإطلاق كلمة البول الواقعة في كلام السائل كما لا يخفى، و عليه ففي إطلاقها نظر.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات الحديث 2 و 3 و 4 و 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 21

لبول الطير كلام، و قد يقال بعدم البول للطيور غير الخفاش، كما يظهر من رواية المفضل «1» اختلافه مع سائر الطهور في أمور: منها أنه يبول دونها، و يحتمل أن يكون بول الطيور مخلوطا برجيعها لوحدة مخرجهما، و تشهد لوجود البول للطيور صحيحة أبي بصير المتقدمة، لبعد إلغاء الكلية في بول الطير، لمكان الخفاش فقط.

و الانصاف انه لو لا إعراض الأصحاب عن صحيحة أبي بصير، لكان القول بالطهارة متجها، لما مر من الوجوه، و العمدة منها الجمع العقلائي بينها و بين غيرها، لكن لا مجال للوسوسة بعد ما عرفت، بل و لو لا الخدشة المتقدمة في رواية المختلف عن كتاب عمار بن موسى لكانت الرواية من أقوى الشواهد على أن علة عدم البأس في خرء الخطاف مأكولية اللحم لا الطيران، و إلا كان التعليل به أولى بل متعينا، فيظهر منها أن الطيور أيضا على قسمين.

و مما ذكرنا يظهر حال بول الخفاش، بل القول بالنجاسة فيه أظهر لا لرواية داود قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه فلا أجده فقال: اغسل ثوبك» «2» لضعفها سندا و عدم مقاومتها لموثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام

______________________________

(1) في الخبر المشتهر بتوحيد المفضل: «تأمل يا مفضل جسم الطائر و خلقته فإنه حين قدر ان يكون طائرا في الجو خفف جسمه و أدمج خلقه فاقتصر

به من القوائم الأربع على اثنتين، و من الأصابع الخمس على اربع و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما» راجع البحار- ج 3- ص 103- من الطبعة الحديثة.

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 22

قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «1» لا سندا و لا دلالة، أما الأول فواضح لعدم من يتأمل فيه في سندها إلا غياث و هو موثق أو ثقة، بخلاف الأولى فان في سندها موسى بن عمر و يحيى ابن عمر و لم يرد فيهما توثيق.

و أما دلالة فلتقدمها عليها تقدم النص على الظاهر مع تأيدها بما عن نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام «أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخشاشيف و دماء البراغيث فقال: لا بأس به» «2» بل لما تقدم من عدم العامل بمثل هذه الرواية. و الشيخ الذي أفتى في المبسوط بطهارة بول الطيور و ذرقها استثنى الخفاش و حمل هذه الرواية على التقية مع أنها أخص مطلقا من أدلة نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، فهي إذا شاذة لا يعبأ بها.

و أما خرء الدجاجة فلا ينبغي الإشكال في طهارته، بل مع شدة ابتلاء الناس به لو كان نجسا لصار من الضروري، مع إمكان دعوى ضرورية طهارته، مضافا الى العمومات و خصوص رواية وهب «3».

و أما رواية فارس قال: «كتب اليه: رجل يسأله عن ذرق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه

عن على عليهم السلام انه قال: «لا بأس بخرء الدجاج و الحمام يصيب الثوب» راجع الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 23

الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا» «1» فمر دودة الى راويها «2» الذي هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني الكذاب اللعين المختلط الحديث و شاذة، المقتول بيد أصحاب أبي محمد العسكري عليه السلام و بأمر أبي الحسن عليه السلام كما هو المروي.

فما عن المفيد و الشيخ من القول بنجاسته غير وجيه، بل عن ظاهر الثاني في التهذيب و الاستبصار موافقة الأصحاب، و من بعض ما تقدم يظهر وضوح طهارة أبوال الخيل و البغال و الحمير و أرواثها، فإنها مع هذا الابتلاء الكثير المشاهد خصوصا في بلاد الأعراب في حروبهم و غيرها لو كانت نجسة لصارت ضرورية واضحة لدى المسلمين لا يشك فيها أحد منهم، مع أن الطهارة في جميع الأعصار كالضروري لا يحوم حولها التشكيك.

فالقول بالنجاسة اغترارا بالروايات الآمرة بالغسل عن أبوالها في غاية السقوط و لو فرض عدم الروايات النافية للبأس عنها، و في مثل المقام يقال: كلما ازدادت الروايات صحة و كثرة ازدادت و هنا و ضعفا مع أن الجمع بينها عقلائي و التصرف فيها من أوهن التصرفات.

ففي حسنة معلى بن الخنيس و عبد اللّٰه بن أبي يعفور أو صحيحتهما قال: «كنا في جنازة و قدامنا حمار فبال، فجائت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا و ثيابنا، فدخلنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام فأخبرناه فقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) و كذلك رواية وهب بن وهب المتقدمة لما عن النجاشي و ابن الغضائري في شأنه من انه

كذاب، و كذلك عن الكشي من أنه أكذب البرية فلا فرق بين ما رواه فارس بن حاتم أو وهب بن وهب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 24

ليس عليكم بأس» «1».

و ليس في سندها من يتأمل فيه إلا الحكم بن مسكين، و هو مع كونه كثير الرواية و مقبولها و رواية مثل ابن أبي عمير و ابن محبوب و ابن أبي الخطاب و الحسن بن على بن فضال عنه، و كونه كثير الكتب يندرج في الحسان، بل عن الوحيد في حاشية المدارك عن المحقق الحكم بصحة رواياته، و معه لا مجال للتوقف فيها. و هي نص في المطلوب، فيحمل عليها ما هو ظاهر في وجوب الغسل لو سلم ذلك.

و عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه، أ يصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جف فلا بأس» «2» قال في الوسائل: و رواه على ابن جعفر في كتابه مثله فهي صحيحة بالطريق الثاني.

و صحيحته الأخرى عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على أبوالها و أرواثها كيف يصنع؟ قال: إن علق به شي ء فليغسله، و إن كان جافا فلا بأس» «3» و الظاهر من فرض وقوعه في الأبوال وصولها اليه و تأثره منها، فحينئذ يراد بقوله: «إن كان جافا» صيرورته جافا بعد وصول البول اليه، لا إبداع الشك في الوصول أو فرض عدمه، فإنهما خلاف الظاهر منها، تأمل.

و رواية النخاس قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني أعالج الدواب، فربما خرجت بالليل و قد بالت و راثت، فيضرب إحداها برجله أو يده،

فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه، فقال: ليس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 15.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 19.

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 22.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 25

عليك شي ء» «1».

و الظاهر أن المراد بالدابة عند الإطلاق الخيل و أخواه كما تشهد به رواية زرارة الآتية، نعم يحتمل في رواية النخاس عدم العلم بوصول البول إلى ثيابه، لكن بعد فرض أنها بالت و راثت مع كون بولها و روثها في مكان واحد، فلا محالة لو كانت الأبوال نجسة صارت الأرواث بملاقاتها نجسة، سيما مع فرض دواب كثيرة في مكان واحد، فنفي البأس عن الروث دليل على عدم البأس في أبوالها أيضا، و منه يظهر إمكان الاستيناس أو الاستدلال للمقصود ببعض ما دلت على نفي البأس في الأرواث.

و في رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام «في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه، فقلت: أ ليس لحومها حلالا؟ فقال: بلى، و لكن ليس مما جعله اللّٰه للأكل» «2» بدعوى ظهور «كرهه» في الكراهة و إن لا تخلو من اشكال.

و في موثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «ان الصلاة في وبر كل شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كل شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل اللّٰه أكله، ثم قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فاحفظ ذلك يا زرارة فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و روثه و

ألبانه و كل شي ء منه جائز» «3» إلخ الى غير ذلك مما هو نص في الطهارة و عدم البأس، و الجمع بينها و بين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 26

ما أمر فيها بالغسل عقلائي بحمل الثانية على رجحان التنزه عنها.

و لقد أطنب صاحب الحدائق في المقام، و أتى بغرائب و أطال اللسان على محققي أصحابنا بزعم تنبهه على أمور غفل عنها المحصلون، و لو لا مخافة تضييع الوقت لسردت إيراداته مع ما يرد عليها، لكن الأولى الغض عنها بعد وضوح المسألة.

و أما بول الرضيع فلم ينقل الخلاف في نجاسته إلا عن ابن الجنيد فإنه قال: «بول البالغ و غير البالغ من الناس نجس إلا أن يكون غير البالغ صبيا ذكرا، فان بوله و لبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس» و الظاهر منه نجاسة لبنه إذا أكل اللحم و هو غريب، كما أن التقييد بأكل اللحم أيضا غريب، لكن عن المدارك حكاية «الطعام» بدل «اللحم» عنه.

و الأقوى ما عليه الأصحاب لا لروايات غسل بول ما لا يؤكل، فإنها منصرفة عن الإنسان، بل للإجماع المحكي عن السيد، بل دخوله في معقد إجماع غيره، و للروايات الخاصة الآمرة بالغسل تارة كموثقة سماعة «1» و بالصب و العصر أخرى كصحيحة الحسين بن أبي العلاء «2» بناء على وثاقته، و بالصب ثالثة مفصلا بين من كان قد أكل و غيره مع

______________________________

(1) عن سماعة قال: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب، فقال: اغسله، قلت: فان لم أجد مكانه، قال:

أغسل الثوب كلّه» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(2) عن الحسين بن أبي العلاء (في حديث) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الصبي يبول على الثوب، قال: تصبّ عليه الماء قليلا ثم تعصره» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 27

الحكم بأن الغلام و الجارية شرع سواء «1».

و لا منافاة بين ما دلت على الغسل و ما دلت على الصب إما بحمل الغسل على الصب بأن يقال: إنه نحو من الغسل، و ما دلت عليه حاكمة على ما دلت على الغسل، و بيان لكيفيته، أو يقال: إن ما دلت على الصب مطلقا محمولة على غير من أكل، و ما دلت على الغسل محمولة على من أكل. بشهادة صحيحة الحلبي المفصلة بينهما لو قلنا بأن الغسل مباين له.

و أما توهم أن ما دلت على الصب لا تدل على النجاسة لبعد أن يكون الصب مطهرها مع بقاء الغسالة فيه بعد البناء على عدم وجوب العصر كما يأتي في محله.

فمدفوع بأن غاية ما لزم من عدم لزوم انفصال غسالته أنها طاهرة فلا يلزم انفصالها، و هي غير مستبعدة بعد وقوع نظيرها في باب الاستنجاء فان لازم طهارة مائه انه يجوز صب الماء على الحشفة في السراويل، بل وضعها على ثوب وصب الماء عليها، نعم لو قلنا بلزوم انفصال غسالتها يكون ذلك نحو افتراق بينهما مع اشتراكهما في عدم نجاسة غسالتها.

فالقائل بالطهارة إن أراد عدم لزوم غسل بول الصبي و كذا الصب عليه، فمحجوج بالروايات المعتبرة الدالة على لزوم الصب و الغسل، و لا يمكن رفع اليد عنها بمجرد الاستبعاد مع تعبدية الحكم.

و

إن أراد أنه مع لزومه لا يكون البول نجسا فهو أبعد مما استبعده

______________________________

(1) و هي صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصبّ عليه الماء، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا، و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء» راجع الوسائل الباب- 3- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 28

ضرورة أن الأمر بالصب ليس إلا لنحو تغسيل له، لا حكم تعبدي غير مربوط بباب التطهير و التغسيل.

و أما ما ورد في قضية الحسنين عليهما السلام في رواية الراوندي و الجعفريات عن على عليه السّلام «1» من عدم غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ثوبه من بولهما قبل أن يطعما فلا تنافي الروايات، لأن الغسل منصرف أو حقيقة فيما يتعارف من انفصال الغسالة، و هو غير لازم فلم يفعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و لا ينافي لزوم الصب كما تشهد به رواية الصدوق في معاني الأخبار «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتي بالحسن بن علي عليه السّلام فوضع في حجره فبال، فقال: لا تزرموا ابني، ثم دعا بماء فصب عليه» «2» بل لا يبعد أن تكون القضية واحدة بل ورد في مولانا الحسين عليه السلام شبه القضية فقال: «مهلا يا أم الفضل فهذا ثوبي يغسل و قد أوجعت ابني» «3» و في رواية فقال: «مهلا يا أم الفضل إن هذه الإراقة الماء يطهرها، فأي شي ء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين عليه السلام» «4» مضافا إلى أن الروايات الواردة في القضيتين ضعاف لا ركون إليها لإثبات حكم.

______________________________

(1) عن السيد فضل اللّٰه الراوندي في

نوادره بإسناده عن موسى ابن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: «قال علي عليه السلام:

بال الحسن و الحسين عليهما السلام على ثوب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قبل أن يطعما فلم يغسل بولهما من ثوبه» و مثلها ما عن الجعفريات راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 4- 2

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(4) المستدرك- الباب- 4- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 29

و أما رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام قال: لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن يطعم لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين» «1» فمع اشتمالها على ما يخالف الإجماع و الاعتبار و معارضتها لصحيحة الحلبي «2» المصرحة بالتسوية و إمكان كون التصريح بها لدفع مثل ما صدر تقية و إمكان أن يقال: إنه لا يغسل من بوله و إن صب عليه، فيكون طريق جمع بينها و بين روايات الصب، لا تصلح لإثبات حكم مخالف للإجماع و الأدلة العامة و الخاصة.

و منها: لا ينبغي الإشكال في طهارة رجيع ما لا نفس له

إذا كان من غير ذوات اللحوم كالذباب و الخنفساء و نحوهما، و ان حكي عن المعتبر التردد فيه لانصراف أدلة ما لا يؤكل لحمه عنها بلا إشكال، و توهم أعمية ما لا يؤكل من السالبة بسلب الموضوع في غاية السقوط.

و أما ما لا نفس له من ذوات اللحوم ففي طهارة بولها و رجيعها و نجاستهما

و التفصيل بين البول و الرجيع بنجاسة الأول دون الثاني وجوه: و الظاهر عدم إجماع في المسألة يمكن الاتكال عليه في إثبات شي ء مما ذكر، و إن قال صاحب الحدائق «الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في طهارة رجيع ما لا نفس له كالذباب و نحوه»، و يشعر قول العلامة في التذكرة على عدم الخلاف بيننا، حيث نسب الخلاف إلى الشافعي قال «رجيع ما لا نفس له سائلة كالذباب و الخنافس طاهر لأن دمه طاهر، و كذا ميتته و روث السمك، و للشافعي في الجميع قولان» انتهى لكن مع احتمال أن يكون دعوى عدم الخلاف في مثل الذباب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 30

مما لا لحم له، و هو مسلم أن ذلك غير مجد، مع ما نرى من إطلاق كلام كثير من الأصحاب كصاحب الوسيلة و النهاية و المراسم و الغنية و اشارة السبق، و لا يبعد الاستظهار من الناصريات و محكي المقنعة و الخلاف و الجمل و النافع و الدروس، مع تقييد بعضهم في الميتة و الدم بما لا نفس له مما يؤكد الإطلاق، و الإطلاق معقد لا خلاف الغنية و محكي الخلاف.

و الانصاف أن المسألة اجتهادية لا إجماعية و منشأ الخلاف يمكن أن يكون اختلافهم في فهم الإطلاق من الروايات الدالة على نجاسة العذرة التي مرت جملة منها، و كذا اختلافهم في صدقها على غير ما للإنسان بحيث تشمل رجيع ما لا نفس له، و كذا في البول من الخلاف في الإطلاق، و المسألة محل تردد من هذه الجهة لعدم الوثوق بإطلاق

معتد به في الأدلة، و احتمال اختصاص العذرة بالآدمي كما قال جمع، أو بالأعم منه و من السباع كالسنور و الكلب لا مثل رجيع الطير و ما لا نفس له، أو منصرفة إليه.

بل يمكن أن يقال: إنه ليس في الروايات ما أطلق الحكم على العذرة، لأن أوضحها دلالة و إطلاقا رواية على بن محمد قال: «سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من أثره شي ء فاغسله» «1» و عبد الرحمن «عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «2» و علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تدخل في ألما يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء

______________________________

(1) مرت في الصفحة 10.

(2) مرت في الصفحة 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 31

كثيرا قدر كر من ماء» «1» الى غير ذلك مما هي نظيرها أو أخفى منها.

و هي مع كونها في مقام بيان حكم آخر لا نجاسة العذرة ان موردها عذرة الإنسان و شبهها مما هي محل الابتلاء التي تطؤها المذكورات أو يكون في ثوب الإنسان و إلغاء الخصوصية عرفا من موردها حتى تشمل مما لا نفس له غير ممكن بعد قرب احتمال الخصوصية، سيما مع طهارة ميتتها و دمها.

و منه يظهر الكلام في صحيحة ابن سنان قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «2» لعدم الوثوق بإطلاقها لما لا نفس له، و

ميتتها و دمها طاهرة، و عدم إمكان إلغاء الخصوصية عرفا بعد ذلك، و الشك في خروج البول منها بحيث يصيب الثوب.

و أما روايته الأخرى فمرسلة لا يمكن إثبات الحكم بعمومها اللغوي و المسألة محل إشكال و ان كانت الطهارة أشبه، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط خصوصا في البول.

تنبيه [بول الحيوان المشكوك كونه من ذي النفس]

يظهر من صاحب الجواهر (ره) نوع ترديد في الشبهات الموضوعية، كفضلة لم يعلم أنها من ذي النفس، قال: «بقي شي ء بناء على اعتبار هذا القيد (أي كونه من ذي النفس) و هو أن مجهول الحال من الحيوان الذي لم يدر أنه من ذي النفس أو لا يحكم بطهارة فضلته حتى يعلم أنه من ذي النفس، للأصل و استصحاب طهارة الملاقي و نحوه، أو يتوقف الحكم بالطهارة على اختياره بالذبح و نحوه، لتوقف امتثال الأمر بالاجتناب عليه، و لأنه كسائر الموضوعات التي علق الشارع

______________________________

(1) مرت في الصفحة 10.

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 32

عليها أحكاما كالصلاة للوقت و القبلة و نحوهما، أو يفرق بين الحكم بطهارته و بين عدم تنجيسه للغير، فلا يحكم بالأول إلا بعد الاختبار بخلاف الثاني للاستصحاب فيه من غير معارض، و لأنه حينئذ كما لو أصابه رطوبة مترددة بين البول و الماء، وجوه لم أعثر على تنقيح منها في كلمات الأصحاب» انتهى.

و فيه انه لا شبهة في جريان الأصول الشرعية في الشبهات الموضوعية بل الحكمية بعد الفحص، بل الأقوى جريان الأصول العقلية أيضا بالنسبة إلى أكل ملاقيه و شربه و سائر التكاليف الاستقلالية، بل و التكاليف الغيرية و الإرشادية لو قلنا بمانعية النجاسة، نعم لو قلنا بشرطية الطهارة أو عدم النجاسة

يشكل الأصل العقلي، لكن يجري الشرعي، لأن أصالة الطهارة حاكمة على أدلة الاشتراط و منقحة لموضوعها كما حررنا في محله.

نعم قد يتوقف في جريانها في الموارد التي ترفع الشبهة بأدنى شي ء كالنظر بدعوى انصراف أدلة الأصول عن المشكوك فيه الذي يزول الشك عنه بأدنى اختبار، لكن الأقوى خلاف ذلك سيما في باب النجاسات لصحيحة زرارة فيها «قلت: فهل عليّ إن شككت في أنه أصاب شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا و لكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك» «1» بل لا يبعد ظهورها في أن عدم لزوم الفحص انما هو للاتكال على الاستصحاب، و أنه لا ينبغي نقض اليقين بالشك لا لخصوصية النجاسة، كما أن الأقرب عدم انصراف الأدلة عن مثلها.

و ما يقال: إن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصوله إلى أزيد من النظر، فان في مثله يجب النظر، و لا يجوز الاقتحام في الشبهات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 33

مطلقا إلا بعد النظر في المقدمات لعدم صدق الفحص على مجرد النظر.

ففيه أن ذلك يتم لو كان الاتكال على الإجماع على عدم وجوب الفحص، و أما لو كان المعول عليه إطلاق أدلة الأصول فصدق الفحص و عدمه أجنبي عنه، إلا أن يدعى الانصراف و هو غير مسلم، و التفصيل موكول الى محله.

الثالث المني:

و هو نجس من الآدمي بلا إشكال و نقل خلاف، بل في الانتصار إجماع الشيعة الإمامية على النجاسة، و كذا عن الخلاف و المسائل الطبرية و الغنية و المنتهى و كشف الحق الإجماع على

نجاسته من كل حيوان ذي نفس، و عن النهاية و التذكرة و كشف الحق أنها مذهب علمائنا.

و استدل عليها السيد في الناصريات مضافا إلى الإجماع بقوله تعالى:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ «1» قال: «روي في التفسير أنه تعالى أراد بذلك أثر الاحتلام، فدلت الآية على نجاسة المني من وجهين: أحدهما قوله تعالى «وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ» و الرجز و النجس بمعنى واحد- الى أن قال-: و الثاني من دلالة الآية أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير، و التطهير لا يطلق في الشرع إلا لإزالة النجاسة، أو غسل الأعضاء الأربعة» انتهى.

و فيه أن الظاهر من عطف قوله «يُذْهِبَ عَنْكُمْ» على قوله:

«لِيُطَهِّرَكُمْ» بالواو الظاهر في المغايرة أن التطهير بالماء غير إذهاب رجز الشيطان، فالمراد بالتطهير إما التطهير من الخبث و بإذهاب الرجز رفع الجنابة، أو المراد منه أعم من رفع الخبث و حدث الجنابة، فيكون المراد من إذهاب الرجز إذهاب وسوسة الشيطان كما عن ابن عباس،

______________________________

(1) سورة الأنفال: 8- الآية: 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 34

و ذلك أنه حكى أن الكفار في وقعة بدر قد سبقوا المسلمين إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل فأصبحوا محدثين و مجنبين و أصابهم الظمأ و وسوس إليهم الشيطان، فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء و أنتم تصلون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل، فمطرهم اللّٰه حتى اغتسلوا به من الجنابة، و تطهروا به من الحدث، و تلبدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوهم، و هذا هو المراد من ذهاب رجز الشيطان كما عن ابن عباس، و عليه لا يتم ما ذكره السيد من

الوجهين.

نعم تدل على النجاسة مضافا إلى الإجماع المحكي المستفيض طوائف من الأخبار: منها ما أمر فيها بغسله «1» و احتمال كونه مانعا من الصلاة من غير كونه نجسا مقطوع الفساد، خصوصا بعد إردافه فيها بالدم و البول.

و منها ما أمر فيها بإعادة الصلاة التي صلى فيه «2» و منها ما أمر بالصلاة عريانا مع كون الثوب منحصرا بما فيه الجنابة «3» و منها ما دل

______________________________

(1) كموثقة سماعة قال: «سألته عن المني يصيب الثوب، قال:

اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» و قريب منها روايات أخر المروية في الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 1- 3- 4- 5- 6.

(2) كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ذكر المني و شدّده و جعله أشد من البول ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة» الحديث. راجع الوسائل- الباب 16 من أبواب النجاسات الحديث 2.

(3) كرواية سماعة قال: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و ليس عليه إلا ثوب واحد و أجنب فيه و ليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يتيمم و يصلي عريانا قاعدا و يومئ إيماء» و قريب منها روايته الأخرى راجع الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 1- 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 35

على جواز الصلاة فيه حال الاضطرار «1» و منها ما صرح فيه بالنجاسة، كقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام على ما في مرسلة شعيب بن أنس لأبي حنيفة: «أيهما أرجس؟ البول أو الجنابة» إلخ «2».

و رواية العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام «و إنما أمروا

بالغسل من الجنابة و لم يؤمروا بالغسل من الخلاء و هو أنجس من الجنابة» «3» إلى غير ذلك، فلا إشكال فيها نصا و فتوى.

نعم هنا روايات ربما يتوهم ظهورها في الطهارة، منها صحيحة أبي أسامة زيد الشحام قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: تصيبني السماء و عليّ ثوب فتبله و أنا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أ فأصلي فيه؟ قال: نعم» «4».

و موثقة ابن بكير عنه عليه السلام قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل عليّ؟

قال: لا بأس» «5» بدعوى أن الظاهر منهما أن ملاقي المني طاهر

______________________________

(1) كرواية محمد الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره، قال:

يصلي فيه إذا اضطرّ إليه» راجع الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 5

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 4

(4) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(5) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 36

و لازمة طهارته.

و فيه أن الظاهر منهما أن السؤال انما هو عن أمر بعد مفروغية نجاسة المني، و ليس السائل بصدد السؤال عن نجاسته، بل بصدد أنه بمجرد كون البدن نجسا من المنى و صار الثوب مبتلا بالمطر يحكم بنجاسة الثوب إذا أصاب بعض ما أصاب الجسد من المني أولا؟ فأجاب بعدم البأس، لأن مجرد ذلك لا يوجب العلم بالسراية و وصول أثر المني الى الثوب، لاحتمال كون ما أصابه غير مورد البلة أو كون البلة

بمقدار لا يوجب السراية، و بالجملة لا يحكم بالنجاسة إلا مع العلم بإصابة الثوب بما أصابه المني مع العلم بالسراية، و مع الشك في جهة من الجهات محكوم بالطهارة.

و الشاهد على أن سؤاله عن الشبهة الموضوعية أنه فرض في الروايتين مصداقين من الشبهة الموضوعية: أحدهما فرض كون المني في جسده و ثوبه مبتلا فسأل عن حال الثوب و الصلاة فيه، و الثاني فرض كون الجنابة في ثوبه و أصابه السماء حتى يبتل عليه فسأل عن حال جسده.

فهاتان الروايتان من أدلة نجاسته لا طهارته، لأن الظاهر منهما مفروغيتها، و السؤال عن الشبهة الموضوعية، و السؤال عنها غير عزيز يظهر بالتتبع.

و منها رواية علي بن أبي حمزة قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأسا، و قال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطب أبو عبد اللّٰه عليه السلام في وجه الرجل، فقال: ان أبيتم فشي ء من ماء ينضحه به» «1» بدعوى ظهورها في طهارة ملاقيه و لازمها طهارته.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 37

و فيه أن فيها احتمالين: أحدهما أن مراد السائل رفع الشبهة عن عرق الجنب كما وردت فيه روايات يظهر منها أن عرقه كان مورد الشبهة في تلك الأزمنة، فيكون قوله: «أجنب في ثوبه» يعني به أجنب و عليه ثوب فيعرق فيه، لا أن الجنابة وقعت في الثوب.

و ثانيهما أن السؤال عن الشبهة الموضوعية كما تقدم في الروايتين المتقدمتين، و الشاهد عليه قوله: «أنه يعرق حتى لو شاء» إلخ، فكأنه قال: مع كون العرق كذلك

كيف يحتمل عدم الملاقاة، و يؤيده أمره بالنضح الذي ورد الأمر في غير مورد من الشبهات الموضوعية، فتكون الرواية من أدلة نجاسته لا طهارته.

و منها صحيحة زرارة قال: «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه، أ يتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به، إلّا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس به» «1».

و الظاهر منها التفصيل بين الرطب و الجاف كما نسب ذلك إلى أبي حنيفة، قال السيد في الناصريات: إن أبا حنيفة و أصحابه و إن وافقوا في نجاسته فإنهم يوجبون غسله رطبا و يجزى عندهم فركه يابسا، و الظاهر منهم أن ملاقي النطفة ليس بنجس، و لهذا اكتفوا بالفرك، و الظاهر أنها صدرت تقية موافقة لمذهبهم فإنها نفت البأس عن النطفة اليابسة، لأن التجفيف مع يبسها لا يوجب إلا الملاقاة معها، و أما التجفيف مع الرطبة فيوجب انتقال أجزائها إلى الجسد، و الشيخ البهائي حملها على ما لا يخلو من تعسف و إشكال.

و يمكن أن يقال: إنه مع اليبوسة لا يحصل العلم بسراية النجاسة إلى البدن لاحتمال سبق موضع الطاهر بالبدن و تجفيفه، و معه لا تسرى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 38

النجاسة، و أما مع الرطوبة و وجود المني الرطب فيه فلا محالة تسرى إليه، تأمل. و كيف كان فالعمل على المذهب، و الرواية مأولة أو مطروحة.

و أما المني من الحيوان غير الآدمي من ذي النفس فلا إشكال في نجاسته، و نقل الإجماع عليها متكرر بحيث لا يبقى مجال للتشكيك فيها.

و إنما الكلام في إطلاق الأدلة، فإنه يظهر من المعتبر و المنتهى التمسك بإطلاقها، و

أنكره صاحب المدارك، و شدد النكير عليه صاحب الحدائق، و تبعهما غيرهما، و قد علله في الجواهر بتبادر الإنسان من الأدلة، قال «و لعله لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب و نحوه مما يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان» انتهى.

أقول: إن كانت دعوى التبادر و الانصراف توهم ندرة الوجود فلا نسلمها في المحيط الذي وردت الروايات فيه، ضرورة أنه محل تربية الحيوانات و استنتاجها و استفحالها، و لا يخفى على من رأى كيفية استفحال البهائم شدة الابتلاء بمنيها و كثرته و أن إصابة منيها خصوصا البهائم الثلاثة بالثوب و غيره مما يحتاج إليه الإنسان و يبتلى به كثيرة لا يمكن معها دعوى الانصراف، و العرب سيما سكان الجزيرة كان مهم شغلهم تربية الحيوانات التي تحتاج إلى الاستفحال الذي يكثر معه إصابة المني بألبستهم و أيديهم و سائر متاعهم.

و الانصاف أن دعوى الانصراف و التبادر إنما صدرت ممن لا يبتلى به، و نشأ في بيت أو محيط كان الابتلاء به نادرا أو مفقودا رأسا، فقاس به سائر الأمكنة و الأشخاص، و إلا فأي قصور بعد التنبه بما ذكرناه في إطلاق رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن المني يصيب الثوب قال: إن عرفت مكانه فاغسله، و إن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 39

خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله» «1» و موثقة سماعة قال:

«سألته عن المني يصيب الثوب، قال: اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» «2».

و صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني و شدده و جعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني

قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك و كذا البول» «3» إلى غير ذلك.

بل لا يبعد أن يقال: إن العرف يرى أن الحكم لماهية المني من غير دخالة للإضافات فيه، بل يمكن أن يقال: إن المراد من تشديد المنى و جعله عليه السلام أشد من البول هو كونه نجسا مطلقا، و أما البول فطاهر من مأكول اللحم، فكان أمره أهون في الشريعة من المني، لكون هذا طاهرا في الجملة، و ذاك نجس مطلقا، أي حتى من المأكول ذي النفس، و أما احتمال كونه أشد لاحتياج إزالته إلى الدلك و الفرك دون البول فبعيد، لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى الذكر و النقل، مع أن الظاهر من قوله: «شدده و جعله أشد» أن ذلك أمر لا يعرفه الناس، و يعرفه الامام عليه السلام، و أما احتمال كون الأشد بمعنى أنجس فيرده تصريح أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رواية شعيب و أبي الحسن الرضا عليه السلام في رواية العلل «4» بأنجسية البول. بل يدل على أنجسيته ما دل على لزوم غسله مرتين دون المني.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) مرتا في صفحة 35.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 40

و احتمال كون الأشدية باعتبار وجوب غسل الجنابة منه دون البول بعيد أيضا، لأن الظاهر منها أن الحكم لطبيعة المني لا لخروجه من المجرى، فبقي الاحتمال الأول، و ما ذكر و إن لم يثبت جزما

و لا يوجب ظهورا لكن يقرب دعوى الإطلاق فيها.

و الانصاف أن دعواه في تلك الروايات لا تقصر عن دعواه في كثير من الموارد التي التزموا به، نعم لا إشكال في اختصاص ما اشتملت على الجنابة أو الاحتلام بالآدمي، لكن لا يوجب ذلك طرح الإطلاق في غيرها. و أما موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «1» فالظاهر انصرافها إلى البول و الروث مما كثرت الروايات في التعرض لهما و لحكمهما، و لهذا لا ينقدح في الذهن منها عدم البأس بدمه.

نعم لو قلنا بإطلاقها و شمولها للمني لا يعارضها تلك المطلقات لتقدمها عليها بنحو حكومة، و لو نوقش فيها فالأهون الجمع بينهما بحملها على الاستحباب بقرينة نفي البأس النص في عدم النجاسة.

و أما موثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال:

«إن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و شعره و بوله و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» «2» فمحمولة على ما كانت التذكية دخيلة فيه بمناسبة الشرطية، لا مثل الدم و المني، نعم في مثل البول و الروث ظاهرها طهارتهما، و على أي تقدير لا إشكال في الحكم بعد الإجماع و ما تقدم من الأخبار.

و أما غير ذي النفس من الحيوان فلا يبعد انصراف الأدلة عنها،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 41

كما لا يبعد انصرافها عن بعض أقسام ذي النفس أيضا، لكن يتم فيه بالإجماع، و في غيره يكون

مقتضى الأصل طهارته بعد الانصراف أو عدم إحراز الإطلاق، بل لا وثوق بإطلاق معاقد الإجماعات يشمل غير ذي النفس، بل و بعض أفراد ذي النفس، فان المحتمل من عبارة السيد أن دعواه الإجماع بالنسبة إلى مني الإنسان، و لهذا استدل عليها بعد الإجماع بقوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً إلخ، و هو مخصوص بمنيه.

و الظاهر من إجماع الخلاف هو مقابل أبي حنيفة المدعي بأنه يغسل رطبا و يفرك يابسا، بقرينة قوله بعد دعواه: «و دليل الاحتياط لأن من أزال ذلك بالغسل صحت صلاته بلا خلاف، و إذا فرّكه و أزاله بغير الماء فيه خلاف» ثم استدل بالآية المتقدمة.

و في الغنية: و المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل رطبا كان أو يابسا بدليل الإجماع المذكور، و قوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ إلخ، ثم استدل بها كما استدل السيد، و لم يظهر منها دعوى الإجماع حتى بالنسبة إلى ما لا نفس له مما يشك في وجود المني له، لكن الإنصاف أن إنكار شمول إجماع الخلاف المصرح بأن المني كله نجس من الإنسان و غير الإنسان و الرجل و المرأة لغير ذي النفس مكابرة. مع أنه استدل بالآية أيضا كما استدل بها السيد.

و من هنا يمكن دعوى شمول معقد إجماع السيد و ابن زهرة لمطلق الحيوان ذي النفس و غيره، و إنما استدلوا بالآية في مقابل بعض العامة القائل بالطهارة مطلقا، فاستدلالهم بها لنفي السلب الكلي لا لإثبات جميع المدعى، و إنما دليلهم على جميعه الإجماع و الروايات الواردة من الطريقين.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 42

و قد حكي الإجماع بقول مطلق زائدا على ما ذكرناه عن المسائل الطبرية و المنتهى

و كشف الحق و السرائر، و إن قال صاحب مفتاح الكرامة بأنه لم أجده في السرائر، و إنما نص على نجاسة المني بقول مطلق من غير نقل إجماع، و عن شرح الفاضل أن ظاهر الأكثر على نجاسة مني غير ذي النفس، و عن نهاية الإحكام و الذكرى و الدروس و الروض و الروضة أنه لا فرق بين الآدمي و غيره و الحيوان البري و البحري كالتمساح، مع أنه من غير ذي النفس ظاهرا، و هو الظاهر ممن لم يقيده بغير ذي النفس كالوسيلة و المراسم و اشارة السبق، بل لم يحك عن أحد قبل المحقق التفصيل بين ذي النفس و غيره، و لا تقييد المني بذي النفس مع تقييدهم الميتة به، و هو مما يؤكد الإطلاق، فحينئذ كيف يسوغ دعوى الشهرة جزما بل تقريب الإجماع من السيد في محكي الرياض، و دعوى الإجماع من صاحب مجمع البرهان و صاحب الجواهر، و استظهار عدم الخلاف من الشيخ الأعظم.

فالمسألة مشكلة من أجل إمكان دعوى إطلاق الأدلة و معاقد الإجماعات المتقدمة، بل عموم معقد إجماع الخلاف، و من إمكان دعوى الانصراف بالنسبة إلى غير ذي النفس، خصوصا مع عدم العلم بكونه ذا مني، بل و من بعض أنواع ذي النفس، و الاحتياط لا يترك مطلقا، و ان كان التفصيل أشبه بالقواعد بعد قوة دعوى الانصراف عن غير ذي النفس، و الجزم بعدم التفصيل بين أقسام ذي النفس بعد شمول المطلقات لبعضها كما تقدم. و اللّٰه العالم.

الرابع الميتة:

اشارة

و هي إما من ذي النفس أو غيره، و الأولى إما من آدمي أو غيره، فقد استفيض نقل الإجماع على نجاسة ميتة ذي النفس، و عن المعالم قد تكرر في كلام الأصحاب

ادعاء الإجماع على هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 43

الحكم، و هو الحجة، إذ النصوص لا تنهض بإثباته، ثم ذكر بعض الروايات و ناقش في سنده و دلالته في إفادة الحكم بكماله.

و عن المدارك المناقشة في أصل الحكم لفقدان نص على نجاستها، و ناقش في دلالة ما أمر فيها بالغسل و نهي عن الأكل على النجاسة، ثم ذكر رواية الفقيه النافية للبأس عن جعل الماء و مثله في جلود الميتة «1» مع تصريح الصدوق (ره) في أوله بأن ما أوردته فيه هو ما أفتى و أحكم بصحته و أعتقد أنه حجة بيني و بين ربي، ثم قال: و المسألة قوية الإشكال.

أقول: أما نجاستها من ذي النفس غير الآدمي فلا ينبغي الإشكال فيها، لا لدعوى الإجماع المتكرر فقط، بل لدلالة طوائف من الروايات عليها، و قلما توجد كثرة الأخبار في نجاسة شي ء بمثلها، و نحن نذكر قليلا من كثير.

فمنها صحيحة حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء و أشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «2».

و رواية أبي خالد القماط «أنه سمع أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة، فقال أبو عبد اللّٰه

______________________________

(1) عن محمد بن علي بن الحسين قال: «سئل الصادق عليه السلام عن جلود الميتة يجعل فيها اللّبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصل فيها»

راجع الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 44

عليه السلام: إن كان الماء قد تغير ريحه و طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه، و إن لم يتغير ريحه و طعمه فاشرب و توضأ» «1» و موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يمر بالماء و فيه دابة ميتة قد أنتنت، قال: إن كان النتن الغالب على الماء. فلا تتوضأ و لا تشرب» «2».

و موثقة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «3» و نحوها مرسلة الصدوق «4».

و لا إشكال في ظهور هذه الطائفة عرفا في تنجس الماء بغلبة الريح أو تغير الطعم، و يستكشف عن ذلك- مضافا إلى ذلك و مضافا إلى أن الظاهر من بعضها مفروغية نجاستها كما يظهر بالتأمل فيه- رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة، قال: إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضأ فصبها، و إذا كان غير منفسخ فاشرب منه و توضأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، و كذلك الجرة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء، قال: و قال أبو جعفر عليه السلام: إذا كان الماء أكثر من رواية لا ينجسه شي ء، تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه، إلا أن يجي ء ريح فغلب على ريح الماء»

«5».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 4

(2) الظاهر انه موثقة سماعة- راجع الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 11.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 13.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 8 و 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 45

فان ذيلها مفسر لصدرها و مبين للنهي عن الشرب و الوضوء بأنه لأجل النجاسة لا لأمر تعبدي غيرها. و في صحيحة زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية» إلى آخر الحديث المتقدم «1» فتفسر الرواية و الصحيحة سائر ما تقدم، و تبيّنان أن النهى فيها لنجاسة الماء بملاقاة الميتة إذا كان دون الكر، و بالتغير إذا كان كرا، بل يمكن الاستشهاد عليها بمثل صحيحة ابن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» «2» إلخ.

فإذا ضمت تلك الروايات إلى ما تقدم من الروايات الناهية عن شرب ملاقي الجيفة و الميتة و الوضوء منه تنتج نجاستها مطلقا.

و توهم كون تلك الروايات بل سائر ما في الباب في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق فيها فاسد، فان الظاهر منها أن الحكم لنفس الجيفة، و إن غلبة ريحها مطلقا موجبة لعدم جواز الشرب و الوضوء كما أن عدم الاستفصال في صحيحة شهاب الآتية دليل عموم الحكم، و الانصاف أن توهم عدم الإطلاق فيها وسوسة مخالفة لفهم العرف، تأمل.

و نظيرها في وضوح الدلالة صحيحة شهاب بن عبد ربه قال: «أتيت أبا عبد اللّٰه عليه السلام أسأله فابتدأني، فقال: إن شئت فاسأل يا شهاب، و إن شئت أخبرناك بما جئت له، قلت: أخبرني، قال:

جئت تسألني عن الغدير يكون

في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قلت:

نعم، قال: توضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب الماء الريح فينتن و جئت تسأل عن الماء الراكد، فما لم يكن فيه تغيير و ريح غالبة،- قلت فما التغيير؟ قال: الصفرة-، فتوضأ منه، و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» «3» فهي مع إطلاقها كالصريحة في المطلوب من أن الماء

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 46

ينجس بالتغيير.

و قريب منها في الدلالة رواية زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بئر قطرت فيه قطرة دم أم خمر، قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد، تنزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «1» فان إردافها بسائر النجاسات دليل على نجاستها، و حمل نزح العشرين على الاستحباب لعدم انفعال البئر لا يوجب قصورها عن الدلالة مع موافقة ذيلها لسائر الروايات، كصحيحة ابن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء الا أن يتغير ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأن له مادة» «2» لأن المراد بالفساد هو النجاسة كما هو واضح.

بل الروايات في النزح من الميتة كلها ظاهرة في مفروغية نجاستها كما يظهر بالنظر إليها، و تدل عليها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «3»

فإنها ظاهرة في تنجسها، سيما مع إردافها بما ذكر.

و رواية تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث قال:

«و أما وجوه الحرام من البيع و الشراء- إلى أن قال-: و البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس، هذا كله حرام محرم» إلخ «4»، فإن الظاهر منها أنه في مقام عد النجاسات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 47

فذكر عدة منها و عطف عليها سائرها كما هو واضح.

و ما عن الجعفريات بسنده عن علي عليه السلام قال «في الزيت و السمن إذا وقع فيه شي ء له دم فمات فيه: استسرجوه، فمن مسه فليغسل يده، و إذا مس الثوب أو مسح يده في الثوب أو أصابه منه شي ء فليغسل الموضع الذي أصاب من الثوب أو مسح يده في الثوب يغسل ذلك خاصة» «1».

و عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام «انه رخص في الإدام و الطعام يموت فيه خشاش الأرض و الذباب و ما لا دم له، و قال:

لا ينجس ذلك شيئا و لا يحرمه، فان مات فيه ما له دم و كان مائعا فسد، و ان كان جامدا فسد منه ما حوله و أكلت البقية» «2» إلى غير ذلك مما يطول الكلام بسردها. نعم لا ننكر عدم إطلاق كثير منها مما يكون بصدد بيان أحكام أخر.

بل يمكن الاستدلال على المطلوب بموثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه

عليه السلام و فيها: «فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» إلخ «3».

بناء على أن المراد بقوله: «ذكاه» طهره، كما لعله المناسب لنسبة التذكية إلى الذبح، و بعد إرادة الذكاة بمعنى الذبح، و الذكاة بالذال و إن كان بمعنى الذبح في اللغة و لم أر في اللغة من عد الطهارة من معانيه إلا في مجمع البحرين، حيث قال «و في الحديث» كل يابس

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) المستدرك- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) مرت في صفحة 25.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 48

ذكي» «1» أي طاهر، و منه ذكاة الأرض يبسها: أي طهارتها من النجاسة، و منه أذك بالأدب قلبك: أي طهره و نظفه» انتهى، لكنه ذكر في «زكى» بالزاء زكاة الأرض يبسها، و يمكن الاستشهاد لاستعمال «ذكى» بالذال في الطهارة بروايات، كقوله عليه السلام:

«الحوت ذكي حيه و ميته» «2» قال الشيخ الحر: الذكي هنا بمعنى الطاهر، و قوله عليه السلام «الجراد ذكي كله و الحيتان ذكي كله و أما ما هلك في البحر فلا تأكل» «3» بل قوله عليه السلام «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «4» و قوله عليه السلام: «خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الانفحة و البيض» إلخ «5» و قوله عليه السلام: «اللبن و اللباء- الى أن قال-: و كل شي ء يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي و ان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «6» الى غير ذلك.

و ان كان للمناقشة فيها أو في جلها

مجال، بل الظاهر أن الذكاة في مقابل الميتة في الروايات لا بمعنى الطاهرة و لا الذبح مطلقا كيف ما كان كما لعله يأتي التنبيه عليه.

و يمكن الاستدلال للمطلوب بقوله تعالى إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «7» بدعوى أن الظاهر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبائح- الحديث 5 من كتاب الصيد و الذبائح.

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبائح- الحديث 7 من كتاب الصيد و الذبائح.

(4) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الذبائح- الحديث 12.

(5) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 2.

(6) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 3.

(7) سورة الانعام: 9- الآية 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 49

رجوع الضمير الى جميع المذكورات، فان قوله عليه السلام: «فإنه رجس» تعليل لاستثنائها من الحلية، فلا يناسب أن يجعل تعليلا للأخير فقط و إهمال التعليل في غيره. و ان كان للتأمل فيه مجال، كالتأمل في كون الرجس بمعنى النجس و إن لا يبعد ذلك، و فيما ذكرنا من الأخبار كفاية.

نعم في الاستدلال للمطلوب بمثل موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخنفساء- إلى أن قال-: كل ما ليس له دم فلا بأس» «1» و صحيحة ابن مسكان عنه عليه السلام قال: «كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس» «2» محل إشكال، لأن الكلية في طرف نفي البأس عما ليس له دم لا تثبت الكلية في الطرف المقابل، نعم لا إشكال في الإثبات جزئية و في الجملة، و الظاهر من

البأس النجاسة و لو بقرائن و لو من سائر الروايات.

و كذا يشكل الاستدلال بمثل موثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «3» لإعطائها الكلية في المستثنى منه دون المستثنى، و ان قال الشيخ الأعظم: أنها بصدد تنويع الميتة على قسمين مختلفين في الحكم لا مجرد ضابطة كلية في طرف المنطوق فقط. و هذه الدعوى خالية عن الشاهد و عهدتها عليه.

تنبيهان:
الأول [جلد الميتة]

قال الصدوق في المقنع: «و لا بأس ان تتوضأ من الماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 50

إذا كان في زق من جلدة ميتة، و لا بأس بأن تشربه» انتهى.

و قال في الفقيه: «و سئل الصادق عليه السلام: عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصل فيه» «1». فصار هذا مع ضمانه قبل إيراد الحديث بقليل صحة ما في الكتاب و حجيته بينه و بين ربه منشأ لنسبة الخلاف في نجاسة الميتة اليه.

و ربما يجاب عنه بأنه لم يف بهذا العهد، كما يظهر بالتتبع في الفقيه، و لعله كذلك، لكن من البعيد حصول البداء له في أول كتابه.

لكن لا يظهر من فتواه في المقنع و لا روايته في الفقيه مخالفته في مسألة نجاسة الميتة أو نجاسة جلدها. و استثناؤه ذلك زائدا على سائر المستثنيات

كالوبر و غيره، بل يحتمل ذهابه إلى عدم سراية النجاسة مطلقا أو في خصوص الجلد أو الميتة إلى ملاقيها، و هو أيضا في غاية البعد، نعم لا يبعد ذهابه إلى طهارة جلدها بالدباغ، كما حكي عن ابن الجنيد من القدماء و عن الكاشاني.

و كيف كان فان كان مراده المخالفة في مسألتنا فقد مر ما يدل على خلافه، و إن كانت في سراية النجاسة أو نجاسة الميتة أو جلدها فهي ضعيفة مخالفة للروايات الكثيرة بل المتواترة الدالة على غسل الملاقي و انفعال الماء القليل و سائر المائعات، و ان كان مراده طهارة الجلود بالدباغ فهو مخالف للإجماع المتكرر في كلام القوم، كالناصريات و الخلاف و الغنية و محكي الانتصار و كشف الحق، و عن المنتهى و المختلف و الدلائل اتفق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 51

علماؤنا إلا ابن الجنيد على عدمها به، و قريب منه عن البيان و الدروس بل عن شرح المفاتيح للأستاذ هذا من ضروريات المذهب كحرمة القياس، إلى غير ذلك مما يعلم منه أنه من مسلمات المذهب، و هو حجة قاطعة و لولاها لكان للمناقشة في دلالة الأخبار مجال.

بل لا يبعد القول بطهارتها بالدباغ بمقتضى الجمع بينها، فإن طائفة منها ظاهرة في حرمة الانتفاع بها مطلقا الظاهرة في نجاستها و عدم طهارتها بالدباغ، كرواية علي بن أبي المغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي ء، فقال: لا، قلت بلغنا ان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله مرّ بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها

قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أن (اي خ ل) تذكى» «1».

و حسنة أبي مريم بطريق الصدوق و موثقته بطريق الشيخ قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: السخلة التي مر بها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و هي ميتة فقال: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(2) راجع الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 5- و الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 52

و رواية الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه السلام «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب» «1» و موثقة سماعة قال: «سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها فقال: إذا رميت و سميت فانتفع بجلده، و أما الميتة فلا» «2» الى غير ذلك، كرواية قاسم الصيقل قال: «كتبت إلى الرضا عليه السلام: اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلي فيها، فكتب إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: كنت كتبت إلى أبيك بكذا و كذا فصعب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية، فكتب إليّ: كل أعمال البر بالصبر يرحمك

اللّٰه، فان كنت ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس» «3».

و طائفة منها دالة على عدم تذكيتها بالدباغ و عدم جواز الصلاة فيها و لو دبغت، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن جلد الميتة يلبس في الصلاة إذا دبغ قال: لا و إن دبغ سبعين مرة» «4» و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث عن علي بن الحسين عليهما السلام «كان يبعث إلى العراق، فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و القى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال: ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة و يزعمون أن دباغه ذكاته» «5».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 49- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 49- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 53

و رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني ادخل سوق المسلمين، أعني: هذا الخلق الذين يدعون الإسلام، فأشترى منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على انها ذكية؟ فقال:

لا، و لكن لا بأس ان تبيعها و تقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية، قلت: و ما أفسد ذلك قال: استحلال أهل العراق للميتة و زعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته، ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما

السلام قال: «سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها، أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: لا، و ان لبسها فلا يصلي فيها» «2» و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام «انه كتب إلى المأمون: و لا يصلي في جلود الميتة» «3» و رواية فقه الرضا عليه السلام «و لا تصل في جلد الميتة على كل حال» «4».

و طائفة منها نص في طهارتها، بل شاهدة للجمع بين الروايات كحسنة الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضأ؟ قال: نعم، و قال:

يدبغ فينتفع به و لا يصلى فيه» «5» و موثقة سماعة قال: «سألته عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث- 6

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6

(3) الوسائل- الباب- 6- من أبواب لباس المصلي- الحديث 3.

(4) المستدرك- الباب- 1- من أبواب لباس المصلي- الحديث 5.

(5) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 54

جلد الميتة المملوح و هو الكيمخت فرخص فيه، و قال: إن لم تمسه فهو أفضل» «1». و رواية الفقيه المتقدمة.

و رواية دعائم الإسلام انه قال: «سمعت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب، فلما كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال:

ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها، قال: قلت: يا رسول اللّٰه فأين قولك بالأمس؟ قال: ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق» «2» و عن فقه الرضا «و ان

كان الصوف و الوبر و الشعر و الريش من الميتة و غير الميتة بعد ان يكون مما أحل اللّٰه اكله فلا بأس به، و كذلك الجلد فان دباغه طهارته» «3» نعم عنه أيضا «ان ذكاة الحيوان ذبحه، و ذكاة الجلود الميتة دباغه» الى غير ذلك.

و أنت خبير بأن الجمع العرفي بين الروايات ممكن إما بحمل الروايات الناهية عن الانتفاع بها مطلقا على الكراهة في مورد الاجتماع بقرينة ما هو نص في طهارته، و لقوله: «فرخص فيه، و قال: إن لم تمسه فهو أفضل» فيلتزم بأن جلدها يطهر بالدباغ، لكن لا يصير ذكية فإنها عبارة عن صيرورته بحيث يستحل معها جميع الآثار كالصلاة فيها و البيع و الشراء و غيرها.

و الظاهر من الروايات أن الذي كذبوا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله هو أن دباغه ذكاته، و هو الذي أنكره الأئمة عليهم السلام على العامة، و أما الطهارة فليست التذكية، بل بعض آثارها، و ليست في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8

(2) المستدرك- الباب- 25- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2

(3) المستدرك- الباب- 24- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 55

الأخبار ما تدل على نجاسته بعد الدباغ إلا إطلاق النواهي القابل للجمع المذكور بالشواهد التي فيها، نعم في رواية دعائم الإسلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «الميتة نجس و إن دبغت» «1» لكنها- مع ضعفها و إرسالها و مخالفتها لروايته الأخرى المتقدمة- يمكن حملها على القذارة العرفية لكونها من الميتة التي يستقذرها العرف.

و الانصاف أن هذا الجمع عقلائي، بل لو لا تصريح الأصحاب و العلم من الخارج بأن الطهارة

بعد الدبغ كانت محل الخلاف بين الفريقين لقلنا بحسب الأخبار أن النزاع بينهم في عصر الأئمة عليهم السلام كان في أن دباغه ذكاته لا دباغه طهارته، و قد مر أن الحمل على الكراهة في بعض مدلول النهى لا يلزم منه محذور.

أو حمل المطلقات على المقيد، فيحكم بعدم الانتفاع بها إلا بمثل جعله ظرفا للماء و غيره، أو حمل النهي عن الانتفاع بالميتة على الانتفاع قبل الدباغ بقرينة ما نص على أن الجلد يدبغ فينتفع به، لكن لا يصلى فيه و لا يصير مذكى به.

هذا كله مع قطع النظر عن فتاوى الأصحاب، و إلا فلا ينبغي الترديد في عدم طهارته بالدباغ، كما أن الظاهر أن محط البحث بينهم هو الطهارة و النجاسة، فإن أبا حنيفة رأى طهارة جميع الجلود بالدباغ إلا جلد الخنزير، و قال داود: يطهر الجميع، و قال الشافعي كل حيوان طاهر حال حياته فجلده إذا مات يطهر بالدباغ، و قال: يطهر الظاهر منه دون الباطن.

فلا إشكال في المسألة بل لم تثبت مخالفة الصدوق للطائفة، أما

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 37- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 56

روايته في الفقيه مع الضمان المذكور فللجزم بأن مراده منه ليس الإفتاء بكل ما نقل فيه، ضرورة أنه نقل فيه المطلق و المقيد و العام و الخاص و المتعارضين، و لا يعقل الفتوى بعموم العام و إطلاق المطلق و بما يقابلهما و لا بالمتعارضين، فالمراد منه حجية الروايات في ذاتها و الفتوى بمضمونها بعد الجمح أو الترجيح.

بل يظهر من أول مقنعته أيضا أن ما فيه روايات محذوفة الإسناد، فلم يعلم من عبارته المتقدمة فيه فتواه به، بل من البعيد

جدا فتوى مثل الصدوق بما يخالف جميع الأصحاب، نعم لا يبعد ذلك من ابن الجنيد كما يظهر من فتاواه.

الثاني [نجاسة الحيوانات البحرية]

قال الشيخ في الخلاف: «إذا مات في الماء القليل ضفدع أو غيره مما لا يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء، و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي: إذا قلنا إنه لا يؤكل لحمه فإنه ينجسه، دليلنا أن الماء على أصل الطهارة و الحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل، و روي عنهم عليهم السلام قالوا: إذا مات في الماء ما فيه حياته لا ينجسه، و هو يتناول هذا الموضع أيضا».

ورد الأصل بإطلاق الأدلة و الرواية بعدم العثور عليها، و عن المحقق أنه رد الشيخ بأنه لا حجة لهم في قوله عليه السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «1» لأن التحليل مختص بالسموك.

أقول: أما قطع الأصل فموقوف على إطلاق الأدلة، و القائل بالعموم و الإطلاق هاهنا أنكر إطلاق أدلة نجاسة المني، كصاحب الجواهر و الشيخ الأعظم و صاحب مصباح الفقيه، مع أن المانع المدعى في المني و هو ندرة اصابته الثوب موجود في المقام، لأن الروايات المتقدمة الدالة على نجاسة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الماء المطلق- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 57

الميتة على طوائف، كلها منصرفة عن الحيوان البحري لو كانت ندرة الابتلاء موجبة له، كما قالوا في المني.

أما أخبار البئر فواضح انصرافها، لعدم وقوع الحيوان البحري فيه مطلقا، و لو فرض وقوعه فهو من أشذ الشواذ، و كذا أخبار الجيفة و وقوعها في الغدير و الماء النقيع «1» فان الجيفة الواقعة في المياه و الغدران هي الجيف المتداولة الموجودة في البر، كالكلب و الحمار

أو بعض السباع البرية دون الحيوانات البحرية.

و كذا ما دل على وقوع بعض الحيوانات في الإدام أو السمن أو الزيت و أمثالها «2» و ما دل على نجاسة إناء اليهود لأكلهم الميتة، فإن الميتة المأكولة ليست مثل الفرس البحري و كلبه، و الروايات التي استثنى فيها من الميتة بعض الأعضاء، كالشعر و الانفحة و اللبن و اللباء «3» موردها الحيوانات البرية بلا إشكال.

و أما رواية تحف العقول المتقدمة فمع ضعفها سندا تكون في مقام بيان حكم آخر يشكل استفادة الإطلاق منها، و قد مرت المناقشة في رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام «أن اللّٰه حرم الميتة من كل شي ء».

نعم يمكن التمسك بإطلاق الآية الكريمة المتقدمة لو قلنا برجوع الضمير إلى جميع المذكورات، لكنه محل إشكال و الترجيح الظني بما

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق و الباب- 43- من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) راجع الوسائل- الباب- 35- أبواب النجاسات.

(3) راجع الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 58

تقدم غير مفيد و بموثقة ابن بكير «1» لو استظهرنا منها أن المراد بالتذكية التطهير كما مر، لكنه محل إشكال بل منع بعد عدم ثبوت كونها بمعناه لغة، و الاستعمال فيه في بعض الموارد لو سلم لا يوجب ثبوت الحقيقة و لقوة احتمال أن يكون المراد بالتذكية الواردة في الروايات هي معنى مقابل للميتة، فمعنى ذكاه الذبح أنه جعله مذكى، و المراجع الى الروايات في الأبواب المتفرقة لعله يطمئن بكون المذكى فيها مقابلها لا مطلق ما ذبح فراجع، فيبقى الأصل سليما بناء على مبناهم من أن ندرة الوجود موجبة للانصراف، بل المقام أولى بدعواه، لما عرفت

أن إصابة الثوب بمني الحيوانات ليست نادرة.

لكن كما قد عرفت بطلان دعوى الانصراف في المني فكذلك تبطل و لو كان ندرة الابتلاء فيه مسلما، ضرورة أن مثل قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم: «لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «2» ظاهر في أن الحكم لنفس الميتة و ماهيتها من غير دخالة خصوصياتها فيه.

و كذا قوله عليه السلام في رواية زرارة: «الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد» «3» و كذا غيرها ظاهر في ذلك، فإنكار الإطلاق في مثل المقام خلاف فهم العرف، بل ربما يوجب اختلالا في الفقه، فلا إشكال في سقوط الأصل.

و أما الرواية التي أشار إليها الشيخ فالظاهر أنها غير ما ذكرها

______________________________

(1) مرت في الصفحة 25.

(2) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 6.

(3) مرت في الصفحة 46.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 59

المحقق و أجاب عنها، لأن الحل ظاهر في حلية اللحم، و لهذا تختص ببعض السموك.

و قد يقال: إن نظر الشيخ إلى صحيحة ابن الحجاج قال: «سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام رجل و أنا عنده عن جلود الخز، فقال: ليس به بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي، و انما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال: ليس به بأس» «1» بدعوى أن ظاهر التعليل نفى البأس من كل ما لا يعيش إلا في الماء، فكأنه فهم من ذلك طهارة ميتته، لعدم معهودية ذبحه و عدم إشعار في الرواية باشتراطه.

و فيه أن الشبهة في

الخز انما هي من قبل عدم تذكيته و إخراجه من الماء و أخذ الجلد بلا ذبح، و نفي البأس لأجل أن أخذه من الماء ذكاته، و تشهد لذلك رواية ابن أبي يعفور قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام إذ دخل عليه رجل من الخزازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل جعلت فداك إنه ميت، و هو علاجي و أنا أعرفه، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: أنا أعرف به منك، فقال له الرجل: إنه علاجي و ليس أحد أعرف به مني، فتبسم أبو عبد اللّٰه عليه السلام ثم قال: أ تقول إنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: فإنك تقول: إنه دابة تمشي على أربع و ليس هو في حد الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء، فقال له الرجل:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 60

أي و اللّٰه هكذا أقول، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: فان اللّٰه تعالى أحله و جعل ذكاته موته، كما أحل الحيتان و جعل ذكاتها موتها» «1».

و هي كما ترى ظاهرة في أن الشبهة فيه إنما هي في كونه ميتة لعدم تعارف ذبحه، و ليس مثل الحيتان يكون خروجها من الماء ذكاتها، فأجاب بأنه مثلها في ذلك، و لا يبعد أن تكون رواية ابن الحجاج أيضا حكاية عن هذه القضية التي حكاها ابن أبي يعفور، فترك ابن الحجاج ما لا دخالة له

في الحكم، و نقل بالمعنى ما هو دخيل فيه، و لو كانت الواقعة قضيتين فلا ريب في أن الشبهة ما ذكرناه، فتكون الرواية أجنبية عما نحن بصدده، و لا أظن أن الشيخ كان متمسكه هذه الصحيحة أو الذي ذكره المحقق، بل الظاهر عثوره على رواية بالمضمون المحكي.

و أما الآدمي منها فهل هي نجسة أم لا؟ و على الأول هل هي نجسة عينا أو حكما؟ و على التقديرين هل تكون نجاستها على حذو سائر النجاسات في السراية فلا تسري إلا بالملاقاة معها رطبا بنحو يتأثر منه الملاقي أم تسري مع اليبس أيضا؟ و على التقادير هل يكون حال ملاقي ملاقيها كسائر النجاسات أم لا؟ ربما يتشبث القائل بعدم النجاسة العينية بوجه عقلي، و هو أن عين النجاسة لا يعقل رفعها و زوالها بالاغتسال مع أن الميت بعد الغسل طاهر بلا إشكال.

و فيه أن ذلك موجه لو كانت أعيان النجاسات أمورا تكوينية و يكون الميت كالمني و العذرة قذرا ذاتا، و يكون منشأ نجاسته شرعا قذارته الذاتية، لكن قد عرفت أن القذارات الشرعية مختلفة، فمنها ما هي مستقذرة عرفا كالأخبثين. و منها ما ليست كذلك كالكافر و الخمر فإن القذارة فيهما مجعولة لجهات أخر غير القذارة العرفية و الذاتية،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 61

و لا مانع من أن تكون نجاسة الميت كذلك، أي مجعولة لجهة مرفوعة بالغسل.

و لو قيل: إن الميت و لو كان آدميا مستقذر عرفا، و كان الناس تستقذره و تتجنب منه، و لعله منشأ الحكم بنجاسته، لقلنا: هذا لو صح يوجب بقاء نجاسته حتى بعد الغسل، فلا بد أن يقال

بعدم طهارته بالغسل، لا عدم نجاسته بالموت، ضرورة أن التجنب و الاحتراز و الاستقذار باق بعد الغسل أيضا، و التحقيق أن النجاسة في مثله مجعولة كرافعها، فلا إشكال عقلي في المقام.

و ظني أن الإشكالات في خصوص ميتة الآدمي نشأت غالبا من توهم دلالة الروايات على وجوب غسل ملاقيها و لو مع اليبس، فظن أن الميتة ليست كسائر النجاسات المتداولة، فمنهم من التزم بعدم النجاسة و منهم من التزم بالنجاسة الحكمية، و هو أيضا يرجع الى الالتزام بعدم النجاسة، فإنه لا معنى للنجاسة الحكمية إلا لزوم ترتب آثارها تعبدا على ما ليس بنجس.

و إن قيل إن المراد بالنجاسة الحكمية هي الجعلية مقابل العرفية و الذاتية، قلنا: إن لازمة الالتزام بالنجاسة الحكمية في الكافر و الخمر بل الكلب أيضا مع عدم التزامهم بها في سائر النجاسات، فأساس الالتزام بالنجاسة الحكمية و كذا الالتزام بعدم سرايتها الى ما يلاقيها- فلا ينجس ملاقي ملاقيها- لا يبعد أن يكون البناء على لزوم غسل الملاقي و لو مع اليبوسة، فيقال: إنها لو كانت نجسة كسائر النجاسات لكانت نجاسة ملاقيها للسراية كما في سائر أنواعها، و هي لا تتحقق إلا مع الرطوبة، و هذه لازم عرفي للنجاسات، و مع فقده يكشف إما من عدم النجاسة رأسا و لزوم غسل ملاقيه تعبدا لا لتنجسه كلزوم غسل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 62

المس، أو من النجاسة الحكمية التي ترجع الى عدم النجاسة.

فالأولى عطف الكلام إلى ذلك، فنقول: لو لا الإجماعات المنقولة المتكررة في كلام الأصحاب على عدم الفرق بين الآدمي و غيره، كمحكي ظاهر الطبريات و صريح الغنية و المعتبر و المنتهى و نهاية الإحكام و التذكرة و الذكرى

و كشف الالتباس و الروض و الدلائل و الذخيرة و شرح الفاضل بل و محكي الخلاف لأمكن المناقشة في نجاستها لو خلينا و الروايات.

بل يمكن المناقشة في الإجماع أيضا، بدعوى تخلل الاجتهاد و الجزم بعدم شي ء عندهم إلا تلك الروايات التي باب الاجتهاد فيها واسع و لهذا اختلفت الآراء في أصل النجاسة، فإن القول بالنجاسة الحكمية، و عدم السراية إلى ما يلاقيها يرجع الى عدم النجاسة كما مر.

بل لازم محكي كلام الحلي دعوى عدم الخلاف في عدم النجاسة العينية، قال فيما حكي عنه في مقام الاستدلال على عدم السراية مع الرطوبة أيضا: «لأن هذه النجاسات حكميات و ليست عينيات و لا خلاف بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن يجتنب النجاسات العينية، و أجمعنا بغير خلاف على أن من غسل ميتا له أن يدخل المسجد و يجلس فيه، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك، و لأن الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر بغير خلاف. و من جملة الأغسال غسل من مس ميتا، و لو كان ما لاقى الميت نجسا لما كان الماء الذي يغتسل به طاهرا» انتهى فكأنه ادعى الإجماع بالملازمة على المسألة، فلو كانت إجماعية بنفسها لا يتأتى له ذلك.

و ليس المقصود في المقام تصحيح كلامه و صحة دعوى إجماعه حتى يقال: إن للمناقشة فيه مجالا واسعا، بل المقصود هدم بناء إجماعية المسألة، و فتح باب احتمال اجتهاديتها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 63

و أما الروايات فما يمكن الاستدلال عليها للنجاسة كثيرة:

منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب» «1» و رواية إبراهيم بن ميمون

قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و إن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه، يعني إذا برد الميت» «2».

و فيهما احتمالان: أحدهما قراءة الثوب بالفتح على أن يكون مفعول أصاب، فيكون المعنى: اغسل ما وصل إلى ثوبك من الميت و المراد غسل الثوب مما أصابه منه و على هذا الاحتمال تكون الروايتان ظاهرتين في لزوم غسل الملاقي لأجل السراية، و يكون المتفاهم منه عرفا بل عند المتشرعة نجاستها عينا كسائر النجاسات.

ثانيهما قراءته بالضم على أن يكون فاعله، و يكون الموصول كناية عن موضع الإصابة، و يرجع الضمير المجرور إلى الميت مع حذف العائد، فيكون المعنى اغسل موضع إصابة الثوب من الميت، نظير صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «و سألته عن الرجل يعرق في الثوب و لم يعلم أن فيه جنابة، كيف يصنع؟ هل يصلح أن يصلي قبل أن يغسله؟ قال: إذا علم أنه إذا عرق فيه أصاب جسده من تلك الجنابة التي في الثوب فليغسل ما أصاب من ذلك» إلخ «3».

و المظنون و إن كان الاحتمال الأول، لكنه ظن خارجي غير حجة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 7- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 64

و لا يوجب الظهور، نعم لو كان الاحتمال الثاني غلطا أدبا، كما قد يدعى لتعين الأول، لكنه غير متضح.

إن قلت لا فرق بين الاحتمالين في فهم نجاسة الميت بعد كون الارتكاز على أن الغسل

انما هو بالسراية و الرطوبة، و معه تدلان على نجاسته عينا كباقي النجاسات.

قلت: ما هو المرتكز عند العرف أو المتشرعة أن ملاقي النجس لا ينجس إلا مع السراية و الرطوبة السارية، و أما ارتكازية أن الأمر بغسل ملاقي كل شي ء للسراية فغير معلومة، فإن علم أن الكلب نجس و قيل: اغسل ثوبك إذا أصاب الكلب، يفهم منه أن الغسل لدى السراية كسائر النجاسات، و أما لو احتمل عدم نجاسة شي ء و لزوم تطهير ملاقيه تعبدا، فلم يثبت ارتكاز بعدم لزوم الغسل إلا بالسراية.

و منها رواية الاحتجاج قال: «مما خرج عن صاحب الزمان عليه السلام: الى محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري حيث كتب إليه روي لنا عن العالم عليه السلام أنه سئل عن إمام قوم يصلي بهم بعض صلاتهم و حدثت عليه حادثة، كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر و يتقدم بعضهم و يتم صلاتهم، و يغتسل من مسه، التوقيع: ليس على من مسه إلا غسل اليد» إلخ «1».

و عنه عليه السلام قال: «و كتب اليه عليه السلام و روى عن العالم عليه السلام أن من مس ميتا بحرارته غسل يده، و من مسه و قد برد فعليه الغسل، و هذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو؟ و لعله ينحيه بثيابه و لا يمسه، فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه في هذه الحال لم يكن عليه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 65

إلا غسل يده» «1».

و يمكن أن يقال: إن ظاهرهما أن المس بلا رطوبة موجب لغسل اليد و لا أقل من

الإطلاق، إلا أن يقال إنهما بصدد بيان حكم المستثنى منه لا المستثنى فلا إطلاق فيهما، و فيه تأمل لقوة إطلاقهما بالنسبة إلى حال اليبوسة، بل القدر المتيقن منهما ذلك. خصوصا مع أن الظاهر منهما أن الموضوع في غسل اليد و غسل المس واحد، فيشكل ظهورهما في النجاسة، لما عرفت من أن لزوم الغسل لأجل النجاسة ملازم للسراية و عدم سرايتها من اليابس ارتكازي عقلائي.

و منها رواية الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين عليه السلام حين غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجابه: النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين عليه السلام، و جرت به السنة» «2» بدعوى ظهورها في اختصاص الطاهرية و المطهرية بالنبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و يلحق به سائر المعصومين عليهم السلام بمقتضى المذهب، و أما غيرهم فمسلوب عنه هذه الخاصية، لكن في دلالتها بعد ضعف سندها إشكال، لقوة احتمال أن يكون المراد الطهارة من الحدث الحاصل للميت، سيما مع ما ورد من أن علة غسل الميت هي الجنابة الحاصلة له بواسطة خروج النطفة التي خلق منها، و النبي صلّى اللّٰه عليه و آله لا تصيبه الجنابة بغير اختياره، بل هي المناسبة للسؤال لا النجاسة العينية.

و كيف كان يشكل فهم النجاسة منها، و منه يعرف عدم دلالة رواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام، قال: «و علة اغتسال من غسل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 66

الميت أو مسه، الطهارة لما أصابه من نضح الميت لأن

الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته، فلذلك يتطهر منه و يطهر» «1» لأن الظاهر منها و لو بقرينة الصدر التطهير منه من حدث المس و تطهره من حدث الموت أو الجنابة العارضة له بالموت.

و منها رواية زرارة «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بئر قطرت فيه قطرة دم أو خمر، قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «2» بدعوى إطلاق الميت و شموله للإنسان، و لا ينافيها ما سيأتي من نزح سبعين للإنسان، لأن ذلك لأجل اختلاف الحدود في النزح، لكونه مستحبا، كما يختلف في سائر المنزوحات أيضا فراجع.

لكن في إطلاقها مضافا الى ضعفها تأمل، لاحتمال أن يكون الميت الحيوان الذي لم يذك مع كون الرواية بصدد بيان حكم آخر، نعم لو كان بتضعيف الياء يكون ظاهرا في الإنسان لكنه غير ثابت، بل بعيد.

و منها موثقة عمار الساباطي قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح منها دلاء، هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا، و ما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقله العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوى ذلك فيما بين هذين» «3» بدعوى أن المراد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 12 و فيه «من فضح الميت».

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 21- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2 و فيه: «فأكثره الإنسان» و الظاهر انه الصحيح، لما قابله في ذيلها بلفظة: «و أقله العصفور».

كتاب

الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 67

من أكبرية الإنسان ليس أكبرية جسمه و هو معلوم، و لا أكبرية شأنه فإنها لا تناسب أكثرية النزح، بل أنجسيته و أقذريته من سائر الميتات.

و يمكن الخدشة في دلالتها على النجاسة لاستحباب النزح، و بعد كون المراد أن الإنسان أنجس من الكلب و الخنزير جدا، و لذلك تضعف دلالتها على النجاسة. بل لا يبعد أن يكون أكثرية النزح حكما تعبديا غير ناش من نجاسته، و إلا فكيف يمكن أن يقال: إن المؤمن الذي له تلك المنزلة الرفيعة عند اللّٰه تعالى حيا و ميتا أنه أنجس من سائر الميتات، تأمل «1».

ثم لو سلمت دلالة هذه الروايات على النجاسة لكن في مقابلها طوائف من الروايات الدالة أو المشعرة بالطهارة، منها ما وردت في علة غسل الميت كرواية الفضل بن شاذان التي لا يبعد أن تكون حسنة عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر بغسل الميت لأنه إذا مات كان الغالب عليه النجاسة و الآفة و الأذى، فأحب أن يكون طاهرا إذا باشر أهل الطهارة من الملائكة الذين يلونه و يماسونه، فيما سهم نظيفا موجها به الى اللّٰه عز و جل» «2».

و رواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام «كتب إليه في جواب مسائله علة غسل الميت أنه يغسل ليتطهر و ينظف عن أدناس أمراضه،

______________________________

(1) إشارة إلى أنه استبعاد محض، و لا يصح رفع اليد به عن الدليل المعتبر من النص و الإجماع، مع ان شرف المؤمن بروحه و قلبه لا بجسده، و لزوم احترام المؤمن حيا و ميتا لشرف ايمانه و هو حظ روحه، و لا يلزم منه عدم نجاسة بدنه بعد خروج روحه، و سيشير الأستاذ

دام ظله الى هذا الوجه قريبا.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الميت- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 68

و ما أصابه من صنوف علله» إلخ «1».

فإن الظاهر منهما أن علة غسله رفع القذارات العرضية، و لو كان الميت نجسا عينا- مع قطع النظر عنها و الغسل مطهره- كان الأولى أو المتعين التعليل به لا بأمر عرضي.

و احتمال أن يكون المراد من قوله (ع) في الثانية: «ليتطهر و ينظف» التطهير من النجاسة الذاتية و النظافة من العرضية خلاف الظاهر جدا فتدلان على عدم نجاسته عينا و ذاتا، و لا ينافي دلالتها على المقصود كون العلة في أمثالها نكتة للتشريع لا علة حقيقة.

و منها ما دلت على أن غسل الميت لأجل الجنابة الحاصلة له كرواية الديلمي عن أبيه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في حديث:

«إن رجلا سأل أبا جعفر عليه السلام عن الميت لم يغسل غسل الجنابة قال: إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه، كائنا ما كان صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى، فلذلك يغسل غسل الجنابة» «2» و بهذا المضمون روايات أخر، فلو كان الميت نجسا عينا و يطهر بالغسل كان الأنسب تعليله به لا بالأمر العارضي، إلا أن يقال:

إن غسل الميت ليس لتطهير بدنه و إن رتب عليه، و هو كما ترى.

و منها الروايات الكثيرة الواردة في غسل الميت «3» و موردها الغسل بالماء القليل و لم يتعرض فيها على نجاسة الملاقيات، و كذا ما ورد في تجهيزه من حال خروج الروح إلى ما بعد الغسل «4» من غير تعرض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الميت- الحديث 3.

(2) الوسائل-

الباب- 3- من أبواب غسل الميت- الحديث 2.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل الميت.

(4) المروية في الوسائل- الباب 35- 40- 44- 46- 47- من أبواب الاحتضار- و الباب 2- 5- 6- 7- 8- 9- من أبواب غسل الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 69

لتطهير ما يلاقيه، و هي و إن كانت في مقام بيان أحكام أخر، لكن كان اللازم التنبيه لهذا الأمر الكثير الابتلاء المغفول عنه لدى العامة.

و الالتزام بصيرورة يد الغاسل و آلات الغسل المتعارفة طاهرة بالتبع و إن أمكن إلا أنه مع اختصاصه بحال الغسل دون الملاقيات قبله من حال نزع الروح الى حال الغسل مسلم بعد تسلم نجاسته، و أما مع عدم تسلمها فهذه الطائفة من أقوى الشواهد على الطهارة، فإن التطهير بالتبيعة أمر بعيد عن الأذهان، مخالف للقواعد لا يصار إليه إلا مع الإلجاء.

و منها ما دلت على رجحان توضي الميت قبل الغسل «1» مع أن شرطه طهارة الأعضاء، و إن أمكن المناقشة فيه، لكن يؤيد القول بالطهارة بل يمكن الاستشهاد أو الاستدلال على الطهارة بمكاتبة الصفار الصحيحة قال: «كتبت اليه: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟

فوقع عليه السلام: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «2» فان الظاهر أن الغسل بالضم لا بالفتح، لأن في صورة الفتح كان المناسب أن يقول «غسلها» أو «غسل يدك» كما ترى في سائر الموارد من الأشباه و النظائر مع أن فرض السائل ملاقاة يده ثوب الميت، فتغيير الجواب يؤيد أن يكون المراد أنه ليس في إصابة الثوب شي ء،

بل يجب الغسل في إصابة الجسد، فتدل على أنه ليس في

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 6- من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 70

إصابة الثوب شي ء، و لا في ملاقاة جسده إلا الغسل لا غسل اليد، تأمل.

بل عدم النجاسة و استحباب غسل ملاقيه مقتضى الجمع بين صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مس الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» «1» و بين مكاتبة الحميري المتقدمة «إذا مسه في هذه الحال (اي حال الحرارة) لم يكن عليه إلا غسل يده» «2» فان في الصحيحة نفي البأس عن مسه في حال الحرارة، و في التوقيع جعل عليه في حالها غسل اليد، إلا أن يقال بإمكان حمل المطلق على المقيد الى غير ذلك من الشواهد و المؤيدات، كبعد نجاسة بدن المؤمن عينا كالكلب و الخنزير، مع ما يعلم من منزلته عند اللّٰه تعالى، و عدم معروفية نجاسته لدى عامة المكلفين، مع أنه لو كان نجسا لكان ينبغي اشتهارها بين الناس كسائر النجاسات، لابتلائهم بملاقاته من لدن خروج روحه الى آخر تجهيزه.

لكن مع ذلك كله الأقوى نجاسته كسائر النجاسات، لصحيحة الحلبي و رواية ابن ميمون و موثقة عمار و التوقيعين المباركين و غيرها «3» خصوصا مع عدم إفادة النجاسة في سائر النجاسات إلا بغسل الملاقيات و قلما اتفق فيها التصريح بها كالكلب و الخنزير، و غالب الروايات فيهما أيضا يفيدها بالأمر بغسل الملاقي أو النهي عن شرب ملاقيهما، سيما مع فهم الأصحاب قاطبة من تلك الروايات و سائر الروايات التي من قبيلها النجاسة، و

هم أهل اللسان، و فهم أساليب الكلام، و أهل الحل و العقد في اللغة و الأدب، بل كثيرا ما في العرف أفيدت القذارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(3) مرت في صفحة 63 و 64 و 66.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 71

بغسل الملاقي، فإذا قال الطبيب: اغسل فمك إذا شربت الدواء الفلاني لا ينقدح في الذهن إلا نجاستها و قذارتها، تأمل.

فالشبهة في دلالة تلك الروايات من الوسوسة، و كابداء احتمالات عقلية في مقابل الظهور العرفي و الدلالة الواضحة، و معه لا يبقى مجال لما أطنبنا من سرد طوائف من الروايات في مقابلها، فان الروايات الواردة في العلل بعد الغض عن أسنادها لا تصلح لصرف الظواهر بعد وضوح أن العلل فيها من قبيل تقريبات لا علل واقعية، و لهذا ترى فيها التعليل لشي ء واحد بأمور مختلفة، ففي المقام علل اغتسال الميت تارة بتنظيفه و تطهيره عن أدناس الأمراض، و ما أصابه من صنوف علله، فجعل ما ذكر علة، و أخرى بأن الغالب عليه النجاسة و الآفة، فجعل النجاسة العارضة علة، مع أن آفة المرض أسبق من النجاسة العارضة في حال المرض، و ثالثة بخروج المني الذي خلق منه حين الموت، مع أنه متأخر عنهما، مضافا إلى أن الروايات الواردة في علة اغتسال الميت غسل الجنابة ضعاف غالبا مجهولة المراد، بل موهونة المتن لا يمكن الاتكال عليها في إثبات حكم شرعي.

و أما السكوت عن غسل يد الغاسل و آلات الغسل و ما يلاقيه عنده عادة فمع كونه غير مقاوم للأدلّة اللفظية الدالة على النجاسة، و مع كون ما وردت

في الغسل في مقام بيان حكم آخر أنه بعد ثبوت النجاسة نصا و فتوى لا بد من الالتزام بطهارتها تبعا كآلات نزح البئر، و أما دعوى السكوت عن غسل ملاقيه من حال الموت إلى حال الغسل فغير وجيهة بعد ما وردت الروايات المتقدمة في غسل الثوب و اليد الملاقيين لجسد الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 72

و أما التأييد باستحباب توضّيه فلا يخفى ما فيه، و أما مكاتبة الصفار «1» و إن كان المظنون ضم الغسل فيها لكن دعوى الظهور اللفظي في غير محلها، بل هو ظن خارجي حاصل من بعض الاعتبارات، و هو غير حجة، مع إمكان أن يقال: إنه من البعيد أن يترك جواب السؤال عن نجاسة الميت، و أجاب عن غسل المس، فالأنسب قراءته بالفتح، و إنما ذكر ملاقي البدن لإفادة أن ملاقاة الثوب الذي يلي البدن لا يوجب التنجس، و إنما الموجب له ملاقاة بدنه، مع أن الظاهر منها أن النجاسة كانت مفروغا عنها، و إنما سأل بعد الفراغ عنها عن أمر آخر، فهذا الاحتمال إن لم يكن أقوى فلا أقل من مساواته للاحتمال السابق، فلا تدل الرواية على شي ء من طرفي الدعوى.

و أما دعوى أن عدم النجاسة مقتضى الجمع بين صحيحة ابن مسلم و التوقيع الشريف فلا يخفى ما فيه، و سيأتي التعرض للصحيحة و الاحتمالات التي فيها.

و أما الاستبعاد من نجاسة بدن المؤمن فلا يوجب رفع اليد به عن الدليل المعتبر من النص و الإجماع، مع أن شرفه بروحه و قلبه لا بجسده، و لزوم احترامه حيا و ميتا لشرف ايمانه، و هو حظ روحه، و لا يلزم منه عدم نجاسة بدنه بعد خروج روحه،

و كيف كان لا يمكن ترك الأدلة بمجرد الاستبعاد و الاعتبار، و أما دعوى أنه لو كان نجسا لاشتهر و صار واضحا ففي غير محلها، لان الابتلاء بملاقاة جسد الميت مع رطوبته نادر حتى بالنسبة إلى أقربائه، و ليس أمره بحيث يدعى فيه لزوم الاشتهار.

فالأقوى ما عليه الأصحاب من نجاسته عينا كسائر النجاسات،

______________________________

(1) مرت في صفحة 69.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 73

فينجس ملاقيه مع الرطوبة كما هو المرتكز عند العقلاء بل المتشرعة في سائر النجاسات، فدعوى عدم نجاسة ملاقية مع نجاسته كدعوى نجاسة ملاقية أو لزوم غسله حتى مع ملاقاته يابسا ضعيفة مخالفة للأدلّة و فهم العرف.

و أما دعوى الحلي عدم السراية مع الرطوبة أيضا لما تقدم منه من دعوى عدم الخلاف في وجوب تجنب النجاسات العينية عن المساجد و دعوى الإجماع على جواز دخول من غسل ميتا المساجد، فاستنتج منهما عدم نجاسته، ففيها ما لا يخفى، أما أولا فلأن الإجماع لو كان إنما هو في أعيان النجاسات لا في ملاقياتها، مع أنه في الأعيان أيضا محل منع، مع عدم السراية أو الإهانة، كما أن الدعوى الثانية أيضا محل إشكال، و أما ثانيا فلأنه لو سلم الإجماعان فلا يلزم منهما عدم النجاسة، بل يمكن أن يقال بحصول الطهارة له تبعا، بل المتعين ذلك بعد الإجماعين المفروضين و قيام الدليل على نجاسته، و أما حال الملاقي مع الواسطة أو الوسائط فستأتي في محله بعد عدم خصوصية لهذه النجاسة و هل ينجس بمجرد الموت كما عليه جمع من المحققين، أو بعد البرد كما عليه جمع آخر؟ الأقوى هو الأول، لإطلاق صحيحة الحلبي و رواية ابن ميمون، فان الظاهر أن التفسير فيها ليس

من المعصوم، و تفسير غيره لا يوجب رفع اليد عن إطلاقها و إطلاق غير الروايتين مما مر و ليس في الباب ما يصلح لتقييدها، لأن العمدة فيه صحيحة محمد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مس الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس به بأس» «1» و رواها في الفقيه مرسلا، و هي مضافا إلى اختلاف النسخ في نقلها- قال الكاشاني في ذيلها:

______________________________

(1) مرت في ص 70.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 74

«ربما يوجد في بعض النسخ «بعد موته» و هو تصحيف» انتهى. قوله:

«و هو تصحيف» اجتهاد منه سيأتي الكلام فيه، و لا يدفع به اختلاف النسخ المحكية وجدانا، و في نسخة الوسائل و بعض نسخ الفقيه: «بها» بدل «به» و في النسخة المطبوعة من الفقيه أخيرا و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «من مس الميت بعد موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» و جعل علامة بدل النسخة «عند موته و عند غسله» و الموصول في أولها و إن كان من زيادة النساخ جزما كما هو ظاهر، لكن يظهر منها أن النسخة التي عند المصحح كان فيها «بعد موته و بعد غسله» بنحو جعل ذلك الأصل في الكتاب و جعل «عند موته و عند غسله» بدلا- لا تصلح لذلك.

أما أولا، فلأن الظاهر من قوله عليه السلام: «عند موته»- مع قطع النظر عن القرائن كنظائره مثل عند غروب الشمس- هو قبيل الموت و لا يطلق على ما بعده، فلا يقال عند طلوع الفجر لما بعده، كما أن الظاهر من قوله عليه السلام: «مس الميت» مع عدم القرينة هو الميت فعلا، لا من أشرف على

الموت، فعند اجتماعهما في كلام واحد مثل ما في الصحيحة يحتمل أن يكون كل منهما صارفا للآخر على سبيل منع الجمع، و يحتمل عروض الإجمال عليهما، و لا ترجيح لحفظ ظهور الميت و جعله قرينة على أن المراد من عنده بعده لو لم يكن الترجيح مع عكسه و يحتمل بعيدا أن يكون المراد من عنده كونه مقارنا له لإفادة أن المسح المقارن للموت لا يوجب شيئا، بمعنى أنه إذا وقع المس و زهاق الروح في آن واحد لا يوجب شيئا، كما قيل في حدوث الكرية و ملاقاة النجاسة معا إن كلا من أدلة الاعتصام و الانفعال قاصر عن شموله، لأن الظاهر منهما أن يكون الملاقاة بعد تحقق الكرية أو القلة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 75

فيقال في المقام: إن مس الميت يوجب الغسل أو التنجس، و مع مقارنته للموت لا يصدق مس الميت، لأن الظاهر منه أن يقع عليه و يكون حلول الموت مقدما على المس.

و أما ثانيا فلأن رفع اليد عن إطلاقها و صرفها الى عدم البأس نفسا أو عدم إيجاب الغسل أو هما معا أهون من تقييد الروايات المتقدمة، سيما رواية ابن ميمون، و ذلك لأن الغالب في الأسئلة و الأجوبة البحث عن إيجاب الغسل، و كأنه هو مورد الشبهة نوعا أو هو مع حزازته النفسية، كما يظهر من رواية تقبيل أبي عبد اللّٰه عليه السلام ابنه إسماعيل «1» و غيرها، و ذلك يوجب وهن إطلاقها و أوهنية صرفها من الروايات المتقدمة، و لقوة ظهور الشرطين في رواية ابن ميمون في أن الغسل علة لرفع النجاسة و الموت لعروضها، فهي أظهر في مفادها من الصحيحة.

هذا بناء على النسخة

المعروفة، و أما بناء على النسخة الأخرى أي «بعد الموت و بعد الغسل» فالأمر أوضح، لأن المراد منه حينئذ عدم البأس النفسي، إن كان المراد نفي البأس عن مسه بعد الموت مستقلا و نفيه عما بعده كذلك، و أما احتمال معاملة الإطلاق و التقييد بمعنى تقييد إطلاق الصحيحة بما دل على إيجاب الغسل بالضم و الفتح بعد البرد ففي غاية البعد، بل مقطوع الفساد و موجب لحملها على النادر و ان كان المراد نفي البأس عن مسه بعد الموت و الغسل معا باحتمال بعيد فتشعر أو تدل على النجاسة بمجرد الموت، و أما قول الكاشاني بأنه تصحيف فلم يتضح وجهه ان كان مراده اختلال في المعنى.

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 5 و 1- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 76

نعم لا يبعد أن يكون حكمه به لأجل أن النسخ المشهورة مخالفها و هو غير بعيد، كما أن النسخة المطبوعة أخيرا مصحفة من جهات، و كيف كان لا يمكن رفع اليد عن إطلاق الأدلة بمثل هذه الصحيحة.

و منه يظهر الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعل يقبّله و هو ميت، فقلت: جعلت فداك أ ليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت و من مسه فعليه الغسل؟ فقال: أما بحرارته فلا بأس، انما ذلك إذا برد» «1» فان الظاهر من نفي البأس هو نفي إيجاب الغسل أو مع حزازته النفسية كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)؛ ج 3، ص: 76

هذا كله مع قطع النظر عن روايتي الاحتجاج «2» و إلا فالأمر أوضح، و إن كان في سندهما كلام.

و أما سائر تشبثات الخصم كالتمسك بالأصل موضوعا للشك في الموت قبل البرد أو حكما، كالجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة كما قال به صاحب الحدائق، و كدعوى ملازمة الغسل بالفتح و الضم مع أن مضمومة لا يكون إلا عند البرد و كذا مفتوحة ففيها ما لا يخفى.

و إن استشهد للثالث بمكاتبة الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل أغتسل أمير المؤمنين عليه السلام حين غسّل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجابه: النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «3» و نحوها مكاتبة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

(2) مرتا في ص 64.

(3) مرت في ص 65.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 77

القاسم الصيقل «1».

و يمكن الاستشهاد له برواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام قال: «و علة اغتسال من غسل الميت أو مسه الطهارة لما أصابه من نضح الميت، لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته. فلذلك يتطهر منه و يطهر» «2».

لكن المكاتبة مع ضعفها ظاهرة في الطهارة من حدث الجنابة التي تعرض على الميت، فان المعصوم عليه السلام لا تصيبه الجنابة الغير الاختيارية، تأمل. أو في الطهارة من حدث الموت الموجب للغسل و للاغتسال من مسه أو منهما و من النجاسة العينية بحيث يكون المجموع علة للاغتسال من مسه، و مع الحرارة لا يوجبه. لفقد جزء منها، فلا تدل على الملازمة المدعاة.

و الثانية مع ضعفها سندا و وهنها

متنا باشتمالها على أن غسل المس للتطهير من إصابة نضح الميت و رشحه اللازم منه عدم الغسل إذا مسه بلا نضح و رشح، و هو كما ترى، تأمل.

ثم أن الظاهر من قوله عليه السلام: «يتطهر منه و يطهر» يغتسل من مسه و يغسل بمناسبة صدرها، فالقول بالملازمة مما لا دليل عليه.

بل يمكن الاستشهاد بعدم الملازمة بمرسلة أيوب بن نوح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه الإنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 12 و فيه «من فضح الميت».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 78

فيه عظم فلا غسل عليه» «1» بناء على جبر سندها بالشهرة كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه في محله، فإن القطعة المبانة من الحي نجس سواء اشتملت على العظم أو لا كما يأتي، و لا يوجب مسها الغسل إلا إذا اشتملت على العظم، كما قد يوجب الغسل مس ما ليس بنجس، مثل ما لا تحله الحياة.

و أما الميتة من غير ذي النفس فلا ينبغي الإشكال في طهارتها نصا و فتوى إلا في العقرب و الوزغ و العظاية- و هي نوع من الوزغة ظاهرا- فإنه يظهر من بعضهم نجاسة ميتتها، كالشيخين في محكي المقنعة و النهاية بل عن الوسيلة أن الوزغة كالكلب نجسة حال الحياة.

و الأقوى ما هو المشهور، بل عليه الإجماع في محكي الخلاف و الغنية و السرائر و المعتبر و المنتهى، لقول الصادق عليه السلام في موثقة عمار الساباطي قال: «سئل

عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه، قال: كل ما ليس له دم فلا بأس» «2» و موثقة حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «3» و لا إشكال فيهما سندا سيما أولاهما، و لا دلالة، ضرورة أن المراد من نفي البأس و عدم الإفساد هو عدم التنجيس، كما هو المراد منهما في سائر الموارد المشابهة للمقام، و قد تقدم جملة أخرى من الروايات الدالة على المقصود.

و ليس شي ء صالح لتخصيص العام أو تقييد المطلق إلا موثقة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 79

سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن جرة دخل فيها خنفساء قد مات، قال: ألقه و توضأ منه، و إن كان عقربا فأرق الماء و توضأ من ماء غيره» «1» و نحوها رواية أبي بصير «2».

و يمكن المناقشة في دلالتها على النجاسة، لأن العقرب لما كان من ذوي السموم يمكن أن يكون الأمر بالإراقة لأجل سمه، و احتمال دخوله في منافذ البدن عند التوضي، فلا ظهور لمثله في أن الإراقة لنجاسته.

نعم يمكن التمسك لنجاسة ميتته برواية منهال قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: العقرب يخرج من البئر ميتة، قال: استق منها عشرة دلاء، قال: قلت: فغيرها من الجيف، قال: الجيف كلها سواء» إلخ «3» بدعوى أن الحكم بالنزح لجيفة العقرب كما في سائر الجيف

و التسوية بين الجيف كلها دليل على أن النزح لأجل ميتته و جيفته فتدل على النجاسة كما في سائر الجيف.

و هي غير بعيدة لو لا ضعف سندها و معارضتها بدوا لرواية علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما السلام «عن العقرب و الخنفساء و أشباههما يموت في الجرة و الدن يتوضأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 4 و فيه «عن جرة وجد فيها».

(2) عنه عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الخنفساء تقع في الماء أ يتوضأ به؟ قال: نعم لا بأس به، قلت: فالعقرب، قال: أرقه» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار الحديث 5.

(3) راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب الماء المطلق- الحديث 7

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 80

قال: لا بأس» «1» و صحيحة ابن مسكان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس» «2».

و الجمع العرفي يقتضي عدم نجاسته و إن رجح الاستقاء عشرة دلاء للنظافة أو احتمال الضرر.

و إلا ما دلت على النزح من الوزغة كحسنة هارون بن حمزة الغنوي أو صحيحته عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ منه؟ قال: يسكب منه ثلاث مرات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه و يتوضأ منه غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «3» بدعوى دلالتها على نجاسته العينية، فميتته نجسة أيضا.

و رواية يعقوب بن عثيم قال: «قلت لأبي عبد

اللّٰه عليه السلام:

سام أبرص وجدته قد تفسخ في البئر قال: انما عليك أن تنزح منها سبع دلاء» «4» و الظاهر أنه أيضا نوع من الوزغة.

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة و الوزغة تقع في البئر، قال: ينزح منها ثلاث دلاء» «5» لكنها محمولة على الاستحباب بقرينة غيرها، كرواية جابر بن يزيد الجعفي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

(4) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 7.

(5) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 81

قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن السام أبرص يقع في البئر فقال: ليس بشي ء، حرك الماء بالدلو في البئر» «1» فإن الظاهر منها أن سام أبرص ليس بشي ء ينجس الماء، لا أن ماء البئر معتصم.

و مرسلة ابن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت:

بئر يخرج من مائها قطع جلود، قال: ليس بشي ء. إن الوزغ ربما طرح جلده، و قال: يكفيك دلو من ماء» «2» دلت على عدم نجاستها عينا، فتصير شاهدة على حمل رواية الغنوي على الكراهة.

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في البئر فلا يموت أ يتوضأ منه للصلوات؟ قال لا بأس به» «3» دلت على عدم نجاسته عينا.

و موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث «أنه سئل عن العظاية يقع في اللبن قال يحرم اللبن قال: إن فيها السم»

«4» و هذه الموثقة حاكمة على سائر الروايات و مفسرة لها بأن علة النزح و عدم الانتفاع هو كونه ذا سم، و نحن الآن لسنا بصدد بيان حرمة ما مات فيه الوزغ أو وقع فيه، بل بصدد عدم نجاسته، فلا إشكال فيه، بل الاتكال على الروايات المتقدمة الواردة في النزح مع مخالفتها للمشهور أو المجمع عليه بين الأصحاب في غير محله، بل تقدم الإشكال

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 8.

(2) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 9.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 46- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 82

في دلالتها أيضا، فتبقى الأدلة العامة أو المطلقة بلا مخصص و مقيد.

ثم أنه قد وقع في بعض الحيوانات كلام في كونه ذا نفس أو لا، و تحقيقه ليس من شأن الفقيه، نعم في مورد الشبهة موضوعا فالمرجع هو الأصول.

و ينبغي التنبيه على أمور:

منها [القطعة المبانة مما ينجس بالموت]
اشارة

أنه كل ما ينجس بالموت فما قطع من جسده حيا أو ميتا فهو نجس، بلا خلاف ظاهرا كما في الحدائق، و لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب كما عن المعالم، و هو المقطوع به في كلامهم كما عن المدارك و عن الأستاذ الأكبر ان أجزاءه نجسة و لو قطعت من الحي باتفاق الفقهاء بل الظاهر كونه إجماعيا، و عليه الشيعة في الأعصار و الأمصار، و عن الذخيرة أن المسألة كأنها إجماعية، و لو لا الإجماع لم نقل بها لضعف الأدلة، و قال في محكي المدارك: «احتج عليه في المنتهى بأن المقتضي لنجاسة الجملة الموت، و هذا المقتضي موجود في الأجزاء، فيتعلق به الحكم، و ضعفه ظاهر، إذ

غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت و هو لا يصدق على الأجزاء قطعا، نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال، و لا يخفى ما فيه» انتهى.

أقول: أما القطعة المبانة من الميت فلا ينبغي الإشكال في نجاستها لا للإجماع حتى يستشكل تارة بعدم ثبوته و تحصيله، و المنقول منه في كتب المتأخرين غير حجة، سيما مع ترديد النقلة، كما يظهر من كلماتهم، و أخرى بأنه مسألة اجتهادية فرعية لا يعلم ان استناد المجمعين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 83

إلى غير الأدلة التي في الباب.

و لا للاستصحاب و إن كان جريانه مما لا إشكال فيه بعد وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، لأن الجزء حال اتصاله بالكل كان نجسا قطعا، و يشك في بقاء نجاستها بعد الانفصال، و لا ريب في أن الاتصال و الانفصال من حالات الموضوع و لا يوجبان تبدله.

و توهم أن الأحكام تتعلق بالعناوين و عنوان الميتة لا يصدق على الجزء بعد الانفصال، و انما يصدق على المجموع حال الاتصال ناش من الخلط بين موضوع الدليل الاجتهادي و موضوع الاستصحاب، فإن الأول هو العناوين، و مع الشك في تبدلها لا يمكن التمسك بالدليل فضلا عما إذا علم ذلك، كما في المقام، لكن بعد تحقق العنوان خارجا بوجود مصداقه يصير المصداق الخارجي متعلقا لليقين بثبوت الحكم له، فإذا تبدل بعض حالاته فصار منشئا للشك لا مانع من جريان الاستصحاب، لوحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فإذا تعلق حكم النجاسة بالميتة فلا إشكال في أنها تثبت لأجزائها، كاليد و الرجل و غيرهما عند تحقق العنوان في الخارج، فيتعلق اليقين بنجاسة الأجزاء الخارجية، و بعد

الانفصال يصح أن يقال إني كنت على يقين من نجاسة هذه اليد الموجودة في الخارج فأشك في بقائها بعد الانفصال، و لا إشكال في وحدة القضيتين و هي المعتبرة في الاستصحاب، لا بقاء موضوع الدليل الاجتهادي، فقول صاحب المدارك: «و لا يخفى ما فيه» تضعيفا للاستصحاب لا يخفى ما فيه، و منه يعلم أن مقتضى الاستصحاب في الجزء المبان من الحي الطهارة و عدم النجاسة ما لم يدل دليل على خلافه.

بل للأدلّة المثبتة للحكم على الميتة، فإن معروض النجاسة بحسب نظر العرف هو أجزاء الميتة، من غير فرق في نظرهم بين الاتصال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 84

و الانفصال، كما أن ما دل على أن الكلب رجس نجس يفهم منه أنه بجميع أجزائه نجس، و لا يحتاج في إثبات النجاسة للأجزاء التمسك بدليل آخر غيره، كما لا يحتاج في إثبات نجاستها بعد الانفصال إلى غيره.

و بعبارة أخرى: أن العرف يرى أن موضوع النجاسة ذات الأجزاء من غير دخالة للاتصال و الانفصال فيها، كما أن الاستقذار من الكلب على فرضه استقذار من أجزائه اتصلت بالكل أو انفصلت، و هو مما لا شبهة فيه.

و أما المنفصل من الحي فقد عرفت أن مقتضى الأصل طهارته، فلا بد في الخروج من مقتضاه من قيام دليل، و قد عرفت من محكي المنتهى أن المقتضي لنجاسة المجموع- و هو الموت- موجود في الأجزاء فيتعلق بها الحكم.

و فيه أنه إن أراد من وجود المقتضى في الأجزاء التشبث بالقطع بوجود المناط الذي في الكل فيها فالعهدة عليه، فأنى لنا القطع في الأمور التشريعية المجهولة المناط، و أي مناط في وجوب غسل المس في الأجزاء المبانة من الحي إذا

اشتملت على العظم، و عدمه في اللحم المجرد، بل لازمة الحكم بنجاسة الجزء المتصل إذا علم موته و فساده. و بالجملة الطريق إلى العلم بمناطات مثل تلك الأحكام التعبدية مسدود.

و إن أراد استفادة الحكم من الأدلة المثبتة للحكم على الميتة بدعوى إلغاء خصوصية الكلية و الجزئية عرفا ففيه ما لا يخفى، ضرورة أن العرف مع ما يرى من الخصوصية بين الميت و أجزائه و بين الحي و جزئه المبان منه لا يمكن له إلغائها، فلا يمكن إثبات الحكم بمثله، كما لا يمكن التشبث بالأدلة العامة المثبتة للنجاسة لعنوان الميتة و الجيفة،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 85

لعدم صدقهما على الجزء المبان من الحي، و انما قلنا بثبوت الحكم للجزء المبان من الميت بواسطة الأدلة المثبتة للنجاسة للميت لا لأجل صدقهما عليه استقلالا، بل لأجل أن الحكم الثابت للميت ثابت لأجزائه بنفس ثبوته له عرفا، و الفرض أنه في المقام لم يثبت الحكم للكل حتى يجري على الأجزاء تبعا و استجرارا لأن الجزء مقطوع من الحي فصار مستقلا بالقطع و هو ليس بميتة عرفا و لغة، فلا يمكن إثبات الحكم له بدليل نجاسة الميتة.

كما أن إثباته بقول العلامة في محكي التذكرة: «إن كل ما أبين من الحي مما تحله الحياة فهو ميت، فان كان من آدمي فهو نجس عندنا خلافا للشافعي» انتهى، مشكل.

نعم هنا روايات خاصة يمكن التمسك بها: منها صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام:

ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه، فإنه ميت و كلوا مما أدركتم حيا و ذكرتم اسم اللّٰه عليه» «1» و صحيحة عبد الرحمن

ابن أبي عبد اللّٰه برواية الصدوق عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت، و ما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه» «2» و نحوها خبر زرارة «3».

و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ما أخذت الحبالة فانقطع منه شي ء فهو ميتة» «4» و الظاهر منها بعد العلم بعدم كون الجزء ميتة عرفا و لغة أنه ميتة تنزيلا و بلحاظ الآثار،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 86

و إطلاق التنزيل يقتضي النجاسة.

و توهم أن المتبادر منها هو التنزيل من حيث حرمة الأكل، بقرينة ما ذكر فيها من أكل ما أدرك حيا بعد التذكية، و لهذا يستفاد منها حرمة الأجزاء الصغار المقطوعة بالحبالة و لو كانت في غاية الصغر، و لا يستفاد نجاستها.

فاسد لأن التعليل في صحيحة ابن قيس يقتضي أن يكون وجوب رفضه بسبب كونه ميتا، و الحمل على أنه ميت في هذا الحكم مستهجن، و من قبيل تعليل الشي ء بنفسه، تأمل. و أما إذا كان الجزء بمنزلة الميت في جميع الأحكام يكون التعليل حسنا.

و بالجملة فرق بين قوله عليه السلام: «فذروه فإنه ميت» و بين قوله عليه السلام في موثقة معاوية بن عمار في العصير: «خمر لا تشربه» «1» فإن الثاني لا يستبعد فيه التنزيل من جهة الشرب من غير استهجان، بخلاف الأول الذي ذكر القضية معللة، كما لا يخفى على العارف بالمحاورات العرفية.

هذا لو

سلم أن قوله عليه السلام: «فذروه» بمعنى لا تأكلوه بقرينة قوله: «و كلوا مما أدركتم حيا» مع أنه غير مسلم، لاحتمال أن يكون المراد منه: لا تنتفعوا به، و انما ذكر أحد الانتفاعات التي هي أعم من سائرها فيما أدرك حيا، بل لأحد أن يقول: إن قوله:

«و كلوا مما أدركتم حيا» كناية عن جواز الانتفاع به مع ذكر أوضح الانتفاعات، و لهذا لا يفهم منه جواز الانتفاع أكلا فقط حتى يكون مقابله عدم جواز ذلك.

و كذا تدل الصحيحة الثانية على المطلوب، لإطلاق التنزيل، و لا

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 4- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 87

يكون ذيلها قرينة على اختصاصه بالأكل، سيما مع ذكر التذكية في مقابل الميتة، و خصوصا مع كون قوله (ع): «ثم كل منه» من متفرعات التذكية بحسب ظاهرها، و سيأتي تتمة لذلك عن قريب، و أوضح منهما في الإطلاق رواية عبد اللّٰه بن سليمان.

و أما توهم استفادة حرمة الأجزاء التي في غاية الصغر و عدم استفادة النجاسة منها فغير وجيه سيأتي التعرض له.

و تدل على النجاسة أيضا صحيحة عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي بطريق الصدوق بل بطريق الكليني أيضا بناء على وثاقة سهل بن زياد قال:

«سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال: إن في كتاب علي عليه السلام أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به» «1» فان الاستشهاد بكتاب علي عليه السلام دليل على أنه ميت تنزيلا و حكما لا عرفا و لغة، و إطلاق التنزيل و تفريع عدم الانتفاع به مطلقا دليل

على نجاسته.

و أوضح منها رواية الحسن بن علي قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها قال: هي حرام، قلت: فيستصبح بها؟ قال: أما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «2» و الظاهر عدم إرادة النجس من الحرام، بل الظاهر منها معروفية الملازمة بين حرمة الأكل في العضو المقطوع و بين النجاسة في عصر الصدور، كما هو مقتضى التأمل في ألفاظ الرواية فيستفاد منها نجاسة كل عضو حرام أكله، و يدل عليها إطلاق رواية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 88

أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: «إنها ميتة» «1».

و أما ما في صحيحة الحلبي: «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، أن الصوف ليس فيه روح» «2» فالظاهر عدم دلالتها على المقصود، فان موضوع الكلام فيها هو جزء الميتة، فتدل على أن الأجزاء التي فيها روح لا يصلى فيها إذا قطع من الميت، هذا حال غير الآدمي.

و أما هو فتدل على نجاسته مرسلة أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» «3».

و تفريع الذيل و التفصيل بين ما له العظم و غيره جعله كالنص في عموم التنزيل و عدم الاختصاص بغسل المس، و سيأتي الكلام في حال سندها

في غسل المس إن شاء اللّٰه.

تذنيب: [ما انفصل صغيرا عن بدن الإنسان]

حكي عن العلامة في المنتهى أن الأقرب طهارة ما ينفصل عن بدن الإنسان من الأجزاء الصغيرة مثل البثور و الثؤلول و غيرهما، لعدم إمكان التحرز عنها، فكان عفوا دفعا للمشقة، و اعترض عليه بأن التمسك

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 89

بدليل الحرج دليل على أن أدلة النجاسة شاملة لها و انما يستثنى منها بدليل الحرج مع قصورها عن شمولها.

أقول: لا بأس بذكر محتملات الروايات المتقدمة خصوصا صحيحة محمد بن قيس حتى يتضح الحال، فنقول: إن في قوله عليه السلام فيها «ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنه ميت» إلخ احتمالات:

أحدها أن يكون المراد من قوله عليه السلام: «فإنه ميت» انه ميت حكما، على معنى أن مصحح الادعاء بعد عدم الصدق على نحو الحقيقة هو محكومية الجزء بأحكام الميت كقوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

«الطواف بالبيت صلاة» «1» فيكون مفاده أن وجوب رفضه لأجل كونه ميتة حكما، و لازم هذا الاحتمال أن الأجزاء المقطوعة بالحبالة في حكم الميتة، و قد قلنا سابقا أن مقتضى إطلاق التنزيل و تناسب التعليل نجاسته أيضا، لكن لا يكون هذا التعليل كسائر التعليلات المعممة، فالموضوع للحكم هو الأجزاء المقطوعة بالحبالة لكونها في حكم الميتة، فلا تشمل الأجزاء المتصلة و لا ما انفصلت بالقطع، بل برفض الطبيعة المودوعة من قبل اللّٰه تعالى في الحيوان كفارة السمك، و كجلد الحية الذي رفضته و أفرزته بناء على كون الحية من ذي النفس.

بل يمكن

أن يقال بعدم شمولها للأجزاء الصغار و لو كانت ذا روح و زهق بالقطع مما لا تأخذها الحبالة لصغرها، و دعوى إلغاء الخصوصية بعد احتمال أن يكون للجزء المعتد به خصوصية كما فرق في المس بين ذي العظم و غيره في غير محلها، نعم لا خصوصية في الحبالة و لا الرجل و اليد بنظر العرف.

______________________________

(1) السنن الكبرى للبيهقي ج 5 ص 87.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 90

الثاني أن المصحح للدعوى بأنه ميت هو مشابهة الجزء للكل في زهاق الروح، فكأنه قال: فذروه لأنه زهق روحه، فعليه تكون العلة للحكم برفضه هي زهاق روحه، و العلة تعمم فتشمل الأجزاء المتصلة إذا زهق روحها و ذهبت إلى الفساد و النتن، و كذا ما زهق روحه و لو باقتضاء الطبع كالبثور و الثؤلول و الفأر و نظائرها لوجود العلة و تحقق موضوع الحكم.

نعم لو كان المراد من قوله عليه السلام «فذروه» ترك الأكل بقرينة ذيلها لما يستفاد النجاسة منها، لكنه ضعيف قد أشرنا إليه.

و سنشير إليه تارة أخرى.

الثالث أن يقال: إن المراد بقوله عليه السلام: «فإنه ميت» أنه غير مذكى، لإفادة أن الحيوان بأجزائه إذا لم يكن مذكى بما جعله الشارع سببا لتذكيته فهو ميت، فالميتة مقابلة المذكى في الشرع كما يظهر بالرجوع إلى الروايات و موارد الاستعمالات، و ليست التذكية في لسان الشارع و عرف المتشرعة عبارة عما في عرف اللغة، فان الذكاة لغة الذبح، و لا كذلك في الشرع، إذ التذكية ذبح بخصوصيات معتبرة في الشرع، و لهذا ترى لم تطلق هي و لا مشتقاتها في الذبح بغير طريق شرعي، كذبائح أهل الكتاب و الكفار، و كذا لو ذبح بغير تسمية

أو على غير القبلة عمدا، و هكذا.

فدعوى أن للتذكية حقيقة شرعية قريبة جدا، و كذا للميتة التي هي في مقابلها، فالمذبوح بغير ما قرر شرعا ميتة و إن قلنا بعدم صدقها عرفا إلى على ما ممات حتف أنفه أو بغير الذبح، و كذا الأجزاء المبانة من الحيوان ميتة أي غير مذكى و إن لم تصدق عليها في العرف و اللغة، و إطلاق الميتة و غير المذكى على الأجزاء كإطلاق المذكى و الذكي عليها في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 91

الأخبار شائع، فيراد في تلك الروايات بالميتة مقابل المذكى، و يشهد له ذيل الصحيحة حيث قال عليه السلام: «و كلوا ما أدركتم حيا و ذكرتم اسم اللّٰه عليه» فان الظاهر من مقابلتهما أن ما أدرك حيا و ذبح على الشرائط مذكى و الجزء المقطوع ميتة غير مذكى، و لا ريب في أن قوله عليه السلام: «كلوا» من قبيل التمثيل، و إلا فيجوز بيعه و الصلاة فيه و يكون طاهرا إلى غير ذلك.

فالصحيحة بصدد بيان أن ما قطعت بالحبالة ميت و غير مذكى، و ما ذبح على الشرائط هو المذكى، و لازم هذا الوجه نجاسة الأجزاء و لو كانت صغيرة، بل نجاسة ما خرج منه الروح برفض الطبيعة لعدم ورود التذكية عليه، فهو ميت على إشكال بل منع في هذا الأخير لأن ظواهر الأدلة لا تشملها، ضرورة عدم شمول ما قطعت الحبالة لمثل ثؤلول الإنسان و بثوره، و لمثل الألياف الصغيرة في أطراف أظفاره، و ما يتطاير من القشور عند حكها، و ما يعلو الجراحات إلى غير ذلك، و كذا رواية ابن نوح، لعدم صدق القطعة على مثلها أو انصرافها، بل لا

تشمل الأدلة لأمثال ما ذكر في الحيوانات غير الإنسان أيضا.

و بالجملة عناوين الروايات قاصرة عن شمولها، بل عن شمول الأجزاء الصغار الحية، و ما يساعد عليه العرف في إلغاء الخصوصية هو عدم الفرق بين الصغيرة و الكبيرة التي فيها روح و زال بالقطع، لإمكان دعوى استفادته من النصوص بدعوى أن المستفاد منها أن موضوع الحكم بعد إلغاء الخصوصية هو قطع الأجزاء التي فيها حياة، و أما إلغاؤها بالنسبة إلى ما رفضه الطبيعة و ألقاها بإذن اللّٰه تعالى فلا، لوجود الخصوصية في نظر العرف سيما إذا كانت الإبانة أيضا كإزالة الحياة برفضها.

ثم أن الاحتمالات المتقدمة إنما تأتي في صحيحة ابن قيس لو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 92

خليت و نفسها، و أما مع لحاظ سائر الروايات فيسقط الاحتمال الثاني جزما، لعدم تأتيه في سائرها، للفرق الظاهر بين قوله عليه السلام في الصحيحة: «فذروه فإنه ميت» و بين التعبير الذي في غيرها أي قوله عليه السلام: «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت» نعم يأتي احتماله على بعد في رواية الكاهلي، و أبعد منه احتماله في رواية الحسن بن علي.

و بعد عدم صحة الاحتمال الثاني في غير الصحيحة يسقط فيها أيضا للجزم بوحدة مفاد الجميع و عدم إعطاء حكم فيها غير ما في سائرها، فبقي الاحتمالان، و الأقرب الأخير منهما، لما عرفت من كثرة استعمال الميتة قبال المذكى بحيث صارت كحقيقة شرعية أو متشرعة أو نفسهما بل لو ادعاها أحد ليس بمجازف، فاتضح مما مر قوة التفصيل بين الأجزاء الصغار التي زالت حياتها بالقطع و غيرها كالثؤلول و البثور.

و قد يتمسك لطهارة أمثالها بصحيحة علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى

بن جعفر عليه السلام «عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول و هو في صلاته؟ أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح و يطرحه؟ قال: إذا لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله» «1».

و لا تخلو من دلالة، لأن السؤال و لو بملاحظة صدرها الذي سأل عن نزع الإنسان و لو كان من نفس هذا العمل لكن الجواب مع تعرضه لخوف السيلان و عدم تعرضه لملاقاته مع الرطوبة- خصوصا مع كون بلد السؤال مما يعرق فيه الأبدان كثيرا و سيما مع السؤال عن اللحم و هو مرطوب نوعا خصوصا ما هو على الجرح- يدل على أن المانع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 93

من جوازه الإدماء لا غير، فلا بأس بملاقيه رطبا و حمله في الصلاة.

و أما فأرة المسك- و هي الجلدة التي وعاؤه- فعن العلامة في التذكرة و النهاية و الشهيد في الذكرى التصريح باستثنائها من القطعة المبانة.

سواء انفصلت من الظبي في حال حياته، أو أبينت بعد موته، بل عن ظاهر التذكرة و الذكرى الإجماع عليه، و عن كشف اللثام القول بنجاستها مطلقا سواء انفصلت عن الحي أو الميت، إلا إذا كان ذكيا، و عن المنتهى التفصيل بين الأخذ من الميتة و بين الأخذ من الحي و المذكى.

و الظاهر أن محط البحث فيها هي الفأرة التي انقطعت علاقتها الروحية من غزالها، و زالت حياتها، و استقلت و بلغت و آن أوان رفضها سواء انفصلت بطبعها من الحي أو بقيت على اتصالها، و سواء كان الحيوان حيا أو

ميتا و أما ما كانت حية و علاقته الروحية باقية فلا ينبغي الإشكال في عدم كونه محل البحث، كما يظهر من كلماتهم لأنه جزء حيواني كسائر الأجزاء التي قد مر أن مبانها من الميت و الحي نجس.

و كيف كان تدل على طهارتها في الحي أصالة الطهارة أو استصحاب الطهارة الثابتة لها حال اتصالها، و لا يعارضه الاستصحاب التعليقي، بأن يقال: إن هذا الجزء قبل ذهاب الروح منه إذا كان مبانا من الحي نجس، فيستصحب الحكم التعليقي، و حصول المعلق عليه وجداني، و هو مقدم على الاستصحاب التنجيزي، لحكومته عليه كما حرر في محله.

و ذلك لأن الاستصحاب التعليقي انما يجري فيما إذا كان الحكم الصادر من الشارع على نحو التعليق كقوله عليه السلام: «العصير العنبي إذا نشّ و غلى يحرم» «1» دون ما إذا كان الحكم تنجيزيا و انتزعنا منه التعليق، لأنه ليس حكما شرعيا و لا موضوعا ذا حكم، و المقام من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 94

هذا القبيل، فان في أدلة الحبالة و الأليات علق الحكم التنجيزي على الأجزاء المبانة و لم يرد حكم تعليقي في الجزء المتصل حتى يستصحب.

و قد أشرنا إلى قصور أدلة نجاسة الجزء المبان من الحي عن شمول نحو الفأرة التي استقلت و بلغت و صارت كشي ء أجنبي من الحيوان، و في الميت أصالة الطهارة بعد قصور أدلة نجاسة الميتة عن إثباتها لها فان ما تدل على نجاستها على كثرتها انما تدل على نجاسة الجيفة و الميتة كما تقدم، و لا تشمل الجزء لعدم صدقهما عليه.

و انما قلنا بنجاسة أجزائها مبانة أو غير مبانة لارتكاز العقلاء بأن

ثبوتها للميتة ليس إلا للموجود الخارجي بأجزائه، فلا بد في إسراء الحكم لمثل هذا الجزء المستقل الذي زالت حياته برفض الطبيعة و بلوغه حد الاستقلال من دعوى عدم الفارق بين الأجزاء، و أنى لنا بهذه بعد ظهور الفارق بين هذا الجزء و غيره.

و لم يرد في دليل أن ملاقي الميتة أو ملاقي جسدها نجس حتى يستفاد منه نجاسة هذا الجزء بدعوى كونه من أجزائها و من جسدها حال اتصاله بها، و دعوى إلغاء خصوصية الاتصال و الانفصال، إلا في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب» و هي منصرفة إلى ميت الإنسان إن كان الياء مشددة، نعم لو ثبت سكونها و تخفيفها لا يبعد انصرافها الى غير الإنسان.

و الشاهد على انصراف الأول بعد موافقة العرف رواية ابن ميمون قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يقع ثوبه على جسد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 95

الميت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه» إلخ «1» حيث حمل الإطلاق على ميت الإنسان، و الظاهر أن الياء مشددة فيها، بل لا يبعد دعوى ظهور صحيحة الحلبي في ذلك، و لهذا ذكرها الفقهاء في أدلة نجاسة الميت الآدمي لا الحيواني.

و أما صحيحة عبد اللّٰه بن جعفر قال: «كتبت إليه يعني أبا محمد عليه السلام: يجوز للرجل أن يصلي و معه فأرة المسك؟ فكتب:

لا بأس به إذا كان ذكيا» «2» فاحتمال عود الضمير المذكر الى الغزال الذي يؤخذ منه الفأرة حتى تدل على نجاسة ما يؤخذ من الميتة و من الحي غير موجه و لا

حجة فيه، كاحتمال كون الذكي بمعنى الطاهر و عوده الى المسك، بل هذا الاحتمال بعيد جدا، لأن السؤال انما هو عن الفأرة، و لا يناسب الجواب عن مسكها.

كما أن احتمال عوده إلى الفأرة و كون الذكي بمعنى الطاهر أيضا بعيد لعدم موافقته للغة، و بعد استعمال الذكي فيه مجازا، بل المظنون قويا أن الذكي في مقابل الميتة كما في سائر الروايات، و عود الضمير إلى الفأرة إما بأن الأمر في التذكير و التأنيث سهل يتسامح فيه، و إما بمناسبة كونه معه، فعاد الى ما معه.

فتدل على أن للفأرة نوعين: ذكية و غيرها، لكن لا يستفاد منها أن أي قسم منها ذكية أو غيرها، فمن المحتمل أن تكون بعد استقلالها و بلوغها و خروج الروح منها برفض الطبيعة صارت ذكية، و تكون حالها حينئذ كالظفر و الحافر، و يكون القسم الغير المذكى ما لم تبلغ الى هذا الحد و قطعت قبل أوان بلوغها، و نحن لا نعلم حال الفأرة، فمن الممكن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 96

أن تكون هي أو نوع منها تتبدل ما في جوفها مسكا قبل تمام استقلالها و لا شبهة في أن هذا النوع تذكيتها بتذكية غزالها، و سائر أقسامها يمكن أن يكون من القسم المذكى، و بالجملة لا ركون الى هذه الرواية مع هذا التشويش و الإجمال في إثبات الحكم.

و قد يتمسك للطهارة بالتعليل الوارد في صوف الميتة بقوله عليه السلام:

«إن الصوف ليس فيه روح» «1» و في رواية «ليس في الصوف روح أ لا ترى أنه يجز و يباع

و هو حي؟» «2» و بصحيحة حريز قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن و اللباء و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر و كل شي ء يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي، و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «3» و برواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام «4» حيث علل عدم البأس في الانفحة «بأنها ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم انما تخرج من بين فرث و دم و انما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3

(4) في حديث طويل قال فيه: «قال قتادة: فأخبرني عن الجبن فتبسّم أبو جعفر عليه السلام ثم قال: رجعت بمسالك الى هذا؟

قال: ضلت عني، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميتة، قال: ليس بها بأس، ان الإنفحة ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم، انما تخرج من بين فرث و دم، ثم قال: ان الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة» الحديث. راجع الوسائل الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 97

أخرجت منها بيضة» و بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي و هو في جيبه أو ثيابه، فقال: لا بأس بذلك» «1» و بفحوى ما دل على طهارة المسك، و بالحرج.

و في الكل

نظر لأن المراد من كون الصوف غير ذي روح أنه كذلك رأسا، فلا يشمل ما كان ذا روح فزهق، و لذلك لا يتوهم شموله للعضو الفلج، فالمراد منه أن الصوف من غير ذوات الأرواح، لا أنه ليس له روح فعلا و لو بزهاقه، و إلا فالميتة أيضا كذلك.

و تشهد له رواية الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الشعر و الصوف و الريش و كل نابت لا يكون ميتا» «2» فإنها بمنزلة المفسر لغير ذي الروح، أي ما كان من قبيل النبات ليس له روح حيواني، و منه يظهر ما في الاستشهاد بصحيحة زرارة، فإن المراد من كل ما يفصل من الشاة و الدابة ما كان من قبيل المعدودات فيها، أي ما يجز في حال حياتها، لا كل ما يفصل حتى من قبيل اليد و الرجل و ليس المراد مما يفصل ما ينقطع عنه بطبعه، فان المذكورات ليست كذلك.

و التعليل الذي في الانفحة لا يعلم تحققه في الفأرة، فمن أين يعلم أن الفأرة ليس لها عروق و لا دم حال نموها و ارتزاقها و حياتها الحيوانية أو خروجها من بين فرث و دم، أو كونها بمنزلة البيضة؟ بل المظنون لو لم يكن المقطوع أن طريق رشدها و ارتزاقها بالدم و العروق الضعيفة كسائر الأعضاء ذوات الأرواح، بل في الإنفحة أيضا كلام سيأتي في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 98

محله إن شاء اللّٰه.

و صحيحة علي بن جعفر عليه السلام- مع أن التمسك بها مبني على عدم صحة الصلاة في المحمول-

أن إطلاقها محل تأمل مع كون المتعارف من الفأرة ما هي موجودة في بلاد المسلمين، مضافا إلى أنها متقيدة بصحيحة عبد اللّٰه بن جعفر المتقدمة، و الاستدلال مبني على عدم سراية إجمال القيد كعدم سراية إجمال المخصص، و هو لا يخلو من كلام.

و الفحوى ليس بشي ء بعد عدم معلومية الحكم بطهارته الواقعية، حتى مع الملاقاة رطبا مع جلدته، و بعد إمكان كون المسك كاللبن و اللباء و الانفحة على بعض الاحتمالات، و وقوع النظائر لها في الميتة يرفع الاستبعاد، و لا يخفى ما في التمسك بالحرج.

نعم قد يقال بعدم معلومية كون الفأرة مما تحلها الحياة، و مجرد كونها جلدة لا يستلزم حلول الروح، و معه لا إشكال في طهارتها، لكن الظاهر حلول الروح فيها كسائر الجلود، و ليس الجلد كالظفر و الحافر و القرن و سائر النابتات، و مع إحراز الروح فيها فالأقوى أيضا طهارة ما بلغت و استقلت و حان حين لفظها سواء انفصلت بطبعها أم قطعت من الحي أو الميت.

ثم أن ملاقي ما قلنا بنجاستها نجس سواء كان المسك الذي فيه أو غيره كسائر ملاقيات النجاسات، و ليس شي ء موجبا للخروج عن القاعدة إلا توهم إطلاق أدلة طهارة المسك، و فيه ما لا يخفى، لفقد إطلاق يقتضي ذلك كما يظهر من المراجعة إليها.

و منها: لا ينجس من الميتة ما لا تحله الحياة
اشارة

كالعظم و القرن و السن و المنقار و الظفر و الظلف و الحافر و الشعر و الصوف و الوبر و الريش اتفاقا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 99

كما عن كشف اللثام، و بلا خلاف كما عن المدارك، و عن الذخيرة لا أعرف خلافا بين الأصحاب في ذلك، و عن الغنية دعوى الإجماع في شعر الميتة

و صوفها، و عن المنتهى دعواه على طهارة العظم. و عن شارح الدروس «أن العمدة في طهارة هذه الأجزاء عدم وجود نص يدل على نجاسة الميتة حتى تدخل، لا عدم حلول الحياة، و إلا لو كان هناك نص كذلك لدخلت كشعر الكلب و الخنزير، و إلا فزوال الحياة ليس سببا للنجاسة، و إلا لاقتضى نجاسة المذكى، على أنه لا استبعاد في صيرورة الموت سببا لنجاسة جميع أجزاء الحيوان و إن لم تحله الحياة» انتهى.

و فيه أنه إن أراد عدم الدليل على نجاسة الميتة فقد مر ما يدل عليها، و إن أراد أنه لا دليل على نجاسة أجزائها فإن الميتة اسم للمجموع فقد مر ما فيه، مع أن التعليل عن عدم الأكل في آنية أهل الكتاب بأنهم يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير دليل على أن الأجزاء نجسة فإن المأكول لحمها.

و إن أراد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة ما لا تحله الحياة منها فهو لا يخلو من وجه، لأن ما دل على نجاسة الميتة على كثرتها إنما علق فيها الحكم على عنوان الجيفة و الميتة، و هما بما لهما من المعنى الوصفي لا تشملان ما لا تحله الحياة، فإن الجيفة هي جثة الميتة المنتنة، و النتن وصف لما تحله الحياة، و لا ينتن الشعر و الظفر و غيرهما من غير ما تحله الحياة.

و دعوى أنها و إن كانت معنى وصفيا و لكنها صارت اسما للمجموع الذي من جملته ما لا تحله في غير محلها، لعدم ثبوت ذلك، بل الظاهر من اللّغة أن الجيفة اسم للجثة المنتنة، فتكون تلك الأجزاء خارجة عن مسماها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 100

ففي القاموس و

الصحاح: الجيفة جثة الميت و قد أراح أي أنتن، و في المنجد الجيفة جثة الميت المنتنة، و فيه: جافت الجيفة أى أنتنت.

و الميتة ما زال عنها الروح في مقابل الحي، و لا تطلق على الأجزاء التي لم تحلها الحياة و لو بتأول، كما تطلق كذلك على ما تحلها، و صيرورتها اسما للمجموع الداخل فيه تلك الأجزاء غير ثابت، و ارتكاز العقلاء باسراء النجاسة إلى الأجزاء انما يوافق بالنسبة الى ما تحله الحياة لا غير فالحكم بنجاسة الجيفة و الميتة لا يشمل تلك الأجزاء لا لفظا و لا بمدد الارتكاز، فأصالة الطهارة بالنسبة إليها محكمة.

هذا بالنسبة الى ما لا تحلها أو ما شك في حلولها فيها، و أما لو فرض بعض تلك الأجزاء المستثناة مما تحله الحياة كالإنفحة فلا يأتي فيه ما ذكر، فلا بد من اقامة دليل على استثنائه.

ثم أن المنسوب إلى المحقق المتقدم أنه لو دل دليل على النجاسة لا تصلح الأدلة الخاصة لتخصيصه و استثناء المذكورات، و لا تبعد استفادة ذلك من كلامه المتقدم، و فيه ما لا يخفى، ضرورة أن تلك الأدلة الناصة على أن تلك الأجزاء ذكية دالة على طهارتها سواء كان الذكي بمعنى الطاهر كما قيل أو مقابل الميتة كما هو التحقيق.

فلا إشكال في أصل الحكم بالنسبة إلى ما لا تحله الحياة، و كذا بالنسبة إلى ما هو المنصوص به في الأدلة و الفتاوى، من غير فرق في الصوف و الريش و الشعر و الوبر بين الأخذ من الميتة جزّا أو قلعا، و إن احتاج الأصول في الثاني إلى الغسل لو كان ملاقاتها للميتة مع الرطوبة لإطلاق الأدلة و كونها مما لا تحلها الحياة، و إن فرض عدم استحالتها إلى

المذكورات بل لو شك فيها فالأصل يقتضي الطهارة.

فما عن نهاية الشيخ من تخصيص الطهارة بالمقطوع جزا كأنه ليس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 101

خلافا في المسألة حكما بل موضوعا بدعوى كونها من الأجزاء التي حلت فيها الحياة و لم تخرج بالاستحالة إلى أحد المذكورات، و فيه ما لا يخفى.

نعم يمكن أن يقال: إن مقتضى إطلاق قوله عليه السلام في صحيحة حريز: «و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» لزوم الغسل و لو لم يلاق المأخوذ مع جلد الميتة برطوبة، و هو يقتضي نجاسة أمثال ذلك بعد الموت، و يكون الغسل موجبا لزوالها، فالموت سبب لنجاسة ما تحله الحياة ذاتا، فلا تزول بالغسل و غيره، و في مثل المذكورات بمرتبة ترتفع بالغسل.

و فيه ما لا يخفى فان مقتضى ما دل على طهارة المذكورات ذاتا و الأمر في هذه الرواية بالغسل هو أن الغسل إنما هو لملاقاتها للميتة برطوبة، فالعرف بالارتكاز يقيدها بالصورة المذكورة، كما ورد نظيره في ملاقي الكلب و مصافحة اليهود و غيرهما مما لا يفهم منها إلا مع الملاقاة رطبا.

نعم ظاهر موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «قال جابر بن عبد اللّٰه: ان دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي شي ء يكون أطهر من الماء؟» «1» أن الشعر و الصوف يحتاجان الى التطهير بذاتهما، و التعبير بالدباغة مكان التطهير لعله بمناسبة قول العامة بأن دباغة جلد الميتة مطهرة، فالظاهر منها أن الشعر بذاته لا يكون طاهرا و يحتاج الى الدباغة ليتطهر، و دباغته غسله بالماء، و حملها على النجاسة العرضية خلاف الظاهر جدا «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث

6.

(2) مع احتمال أن يكون الأمر بالغسل مطلقا لأجل التجنب و الاستقذار من الميتة و ان لم يلاقها رطبا، فلا يكون الأمر بالغسل تعبديا كاشفا عن نجاستها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 102

لكنها مع مخالفتها لفتوى الأصحاب و إعراضهم عن ظاهرها مخالفة للأخبار الكثيرة الدالة على أن المذكورات ذكية معللا في الصوف بعدم الروح فيه، و هي أظهر في مفادها من تلك الموثقة، فتحمل على الاستحباب أو غسل موضع الملاقاة رطبا، و منه يظهر الكلام في صحيحة الحلبي «1» الظاهر في اشتراط الذكاة في السن الذي يضع مكان سنه.

ثم انه قد يتراءى منافاة في الروايات الواردة في استثناء المذكورات ففي رواية يونس عنهم عليهم السلام قالوا: «خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الانفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر» إلخ «2» و الظاهر منها انحصار الاستثناء بها و ان قلنا بعدم مفهوم العدد في غير المقام «3» و أيضا تشعر بأن الاستثناء لأجل منفعة الخلق و إن كان فيها

______________________________

(1) قال: «سألته عليه السلام عن الثنية تنفصم و تسقط أ يصلح أن تجعل مكانها سنّ شاة؟ قال: إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون ذكية» راجع الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2

(3) و لعل هذا الاستظهار مبني على الغض عن مرسلة الصدوق الواردة في هذا الباب و إليك نصها، عنه في الفقيه مرسلا قال: «قال الصادق عليه السلام: عشرة أشياء من الميتة ذكية: القرن و الحافر و العظم و السنّ و الانفحة و اللبن و الشعر و الصوف و الريش و البيض» قال في الوسائل: «و

رواه في الخصال عن علي بن أحمد بن عبد اللّٰه عن أبيه عن جده أحمد بن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عن محمد بن أبي عمير يرفعه الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام مثله مع مخالفة في الترتيب» راجع الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 103

اقتضاء النجاسة فهي بهاتين الجهتين مخالفة لغيرها.

و يمكن أن يجاب عنها- مضافا الى أن اختصاصها بالذكر لعله لكونها ذات منافع للخلق نوعا بخلاف غيرها حتى مثل لبنها، نعم في الريش أيضا منافع و لعله داخل بإلغاء الخصوصية في إحدى الثلاثة الأخيرة، تأمل. و معه لا مفهوم فيه جزما- بأن من الممكن أن تكون «ذكية» صفة لخمسة و خبرها بعدها، فيكون المراد الاخبار بأن في بعض المستثنيات منافع الناس، تأمل.

و كيف كان لا ريب في عدم صلاحيتها لمعارضة سائر النصوص كعدم صلاحية رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال: «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا فكتب عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب، و كلما كان من السخال الصوف إن جزّ و الشعر و الوبر و الانفحة و القرن، و لا يتعدى الى غيرها إن شاء اللّٰه» «1» الظاهر في أن جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز، و أن المستثنيات منحصرة بما ذكر فيها لا تتعدى الى غيرها، بعد ضعف سندها و وهن متنها بوجوه، و مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة و لفتوى الأصحاب، و لعل الاشتراط في الصوف للانتفاع به فعلا مع الجز، و أما مع القلع فبعد الغسل، و الظاهر عدم اختصاصه بالصوف دون الشعر و الوبر.

ثم

أنه قد صرح في النصوص و الفتاوى بخروج أشياء أخر ما عدا المذكورات: منها الانفحة، و لا إشكال نصا و فتوى في طهارتها، فعن المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، و عن المنتهى أنه قول علمائنا، و عن الغنية و كشف اللثام دعوى الإجماع عليه، و تدل عليها صحيحة زرارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 104

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت، قال: لا بأس به» إلخ «1».

و رواية الحسين بن زرارة أو موثقته قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أبى يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة، فقال: كل هذا ذكي» «2» و رواية يونس المتقدمة «3» أو حسنته و غيرها.

نعم يظهر من عدة روايات خلاف ذلك، كرواية بكر بن حبيب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الجبن و أنه توضع فيه الانفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي ء» «4».

و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عنه عليه السلام في الجبن قال: «كل شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» «5» و روايته الأخرى قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن- إلى أن قال-: قلت: ما تقول في الجبن؟ قال أو لم ترني آكله؟ قلت: بلى و لكني أحب أن أسمعه منك، فقال سأخبرك عن الجبن و غيره، كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33-

من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 10.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 4 و فيه «يسأله عن السن من الميتة».

(3) مرت في ص 102.

(4) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 2.

(6) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 105

و رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّٰه اني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظن كلهم يسمون:

هذه البربرية و هذه السودان» «1».

و لا شبهة في أن ما يجعل في الجبن و ما كان محل الكلام هو الانفحة كما نص عليه روايتا بكر بن حبيب المتقدمة و أبي حمزة الآتية، لكنها محمولة على بعض المحامل كالتقية و المماشاة معهم و الجدل بما هو أحسن.

كما تشهد به رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث «أن قتادة قال له: أخبرني عن الجبن فقال: لا بأس به فقال: إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميتة، فقال: ليس به بأس إن الإنفحة ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث و دم و إنما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة- إلى أن قال-: فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين، و لا تسأل عنه

إلا أن يأتيك من يخبرك عنه» «2» فإن الإرجاع إلى الحكم الظاهري بعد بيان الحكم الواقعي إنما هو على طريق المماشاة و الجدل بما هو أحسن، فلا إشكال في أصل الحكم.

انما الكلام في ماهية الانفحة حيث اختلفت كلمات أهل اللغة في تفسيرها، ففي الصحاح: «و الانفحة بكسر الهمزة و فتح الفاء مخففة كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش عن أبي زيد»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 106

و في القاموس: «الانفحة بكسر الهمزة و تشديد الحاء، و قد تكسر الفاء و المنفحة و البنفحة شي ء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر، فيعصر في صوفه فيغلظ كالجبن، فإذا أكل الجدي فهو كرش» و تفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو، و قريب منه في المنجد و عن المغرب.

و اختلفت كلمات الفقهاء على حذو اختلاف اللغويين، و قد اتفقت كلمات اللغويين فيما رأيت في مادة الكرش أنها بمنزلة المعدة للإنسان و أن الإنفحة صارت كرشا إذا رعي الجدي و أكل، ففي الصحاح:

«الكرش لكل مجر بمنزلة المعدة للإنسان- إلى أن قال-: و استكرشت الانفحة، لأن الكرش تسمى إنفحة ما لم يأكل الجدي، فإذا أكل تسمى كرشا» و في القاموس: «الكرش ككتف لكل مجرّ بمنزلة المعدة للإنسان- إلى أن قال-: استكرشت الانفحة صارت كرشا، و ذلك إذا رعى الجدي النبات» و قريب منهما في المنجد و المجمع و البستان، و الظاهر منهما أن الكرش عين الانفحة، و الفرق بينهما أن الإنفحة معدة الجدي قبل الرعي و الأكل. و الكرش معدته بعده، فنسبة السهو إلى

الجوهري كأنها في غير محلها.

و توهم أن المادة الصفراء التي هي كاللبن و لم تكن مربوطة بالحيوان ارتباطا حياتيا و اتصالا حيوانيا صارت كرشا مقطوع الفساد، فعلم من اتفاق أهل اللغة بأن الانفحة صارت كرشا بالأكل أنها هي الجلدة، لا المادة التي في جوفها، غاية الأمر أن الجلدة في الجدي قبل الرعي رقيقة، و إذا بلغ حده و رعى صارت غليظة مستكرشة، فالأظهر بحسب كلمات أهل اللغة أن الإنفحة هي الجلدة الرقيقة لا المادة في جوفها.

نعم يظهر من رواية الثمالي المتقدمة أنها المادة التي كاللبن أو هي اللبن بعينه و إن صارت في جوف الجدي غليظة، كما أن الظاهر أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 107

تلك المادة كانت فيها منافع الناس، و هي التي تجعل في الجبن و إن احتمل أن تكون الجلدة الرقيقة بما في جوفها مادته.

و كيف كان لا إشكال في طهارة المظروف، إما لطهارة ظرفه إن كان إنفحة، أو لعدم انفعاله منه إن كان المظروف إنفحة، و لو شك في أنها ظرف أو مظروف فيمكن أن يقال بوقوع التعارض بين أصالة الإطلاق في أدلة نجاسة أجزاء الميتة التي تحلها الحياة و أصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس، فيرجع الى أصالة الطهارة في الظرف بعد العلم تفصيلا بطهارة المظروف.

لكن التحقيق نجاسة الظرف أخذا بإطلاق دليل نجاسة الميتة و لا تعارض أصالة الإطلاق فيها بأصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس لعدم جريانها فيما علم الطهارة و شك في أنه من باب التخصيص أو التخصص، أو التقييد و الخروج موضوعا، لأن تلك الأصول العقلائية عملية يتكل عليها العقلاء في مقام الاحتجاج و العمل دون غيره، نظير أصالة الحقيقة فيما دار

الأمر بينها و بين المجاز، فإنها جارية مع الشك في المراد لا مع الشك في نحو الاستعمال بعد العلم بالمراد.

ففيما نحن فيه بعد ما علمنا بأن المظروف طاهر و شككنا في أن طهارته لأجل التقييد في إطلاق «النجس منجس» أو التخصيص في عمومه أو لأجل الخروج موضوعا و التخصص لا تجري أصالة الإطلاق، لعدم بناء العقلاء على إجرائها في مثله بعد عدم الأثر العملي لها، فبقيت أصالة العموم أو الإطلاق في نجاسة الميتة على حالها، نعم لو شك في كونها مما تحله الحياة فالأصل الطهارة.

هذا إذا كان ما في جوف الجلدة جامدا طبعا أو مائعا كذلك، و قلنا بعدم انفعاله بملاقاة الجلدة النجسة، و أما إذا كان جامدا طبعا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 108

كالخميرة و قلنا بانفعاله و لزوم غسل ظاهره الملاقي للجلدة فالأمر بالأخذ بأصالة الإطلاق في نجاسة أجزاء الميت مما تحله الحياة و الحكم بنجاسة الجلدة أوضح، للعلم بدخولها فيما تحله الحياة و الشك في ورود المخصص عليه، للشك في كون الانفحة الظرف أو المظروف، فمقتضى الإطلاق نجاستها و تنجيس ما في جوفها.

و هذا بوجه نظير العلم بعدم وجوب إكرام زيد و تردد الأمر بين كونه زيدا العالم حتى خصص أكرم العلماء، أو غير العالم حتى بقي العالم في العموم، فمقتضى العموم وجوب إكرام زيد العالم للشك في التخصيص نعم لا يستكشف بأصالة العموم و الإطلاق حال الفرد الخارج، ففيما نحن فيه لا يحرز بها، إلا أن الإنفحة هي ما في الجوف.

ثم ان الأظهر وجوب غسل ظاهر الانفحة الملاقي للميت برطوبة إن قلنا بأنها هي الجلدة أو قلنا بأنها ما في جوفها مع كونها طبعا و نوعا

جامدا، لعدم استفادة عدم انفعالها حينئذ من الأدلة، لقصور دلالتها إلا على طهارتها الذاتية كالشعر و الوبر و الصوف، حيث نصت الروايات بأنها ذكية مع الأمر بغسلها إذا قلعت من الميتة، فيظهر منها أن الحكم بذكاتها في مقابل الميتة التي هي نجسة ذاتا.

و هذا بخلاف اللبن و اللباء و الانفحة إذا كانت ما في الجوف و هي مائعة، فان لازم نفى البأس عنها و الحكم بأنها ذكية عدم انفعالها، لعدم إمكان غسلها، و لا معنى لبيان طهارتها الذاتية مع لزوم النجاسة معها و لا يبعد اختصاص الحكم بالانفحة المتعارفة التي تجعل في الجبن، و الظاهر أنها من الجدي و العناق و السخال و الحمل، لا من غير المأكول و لا من المأكول كالحمار و الفرس، بل في البقر و البعير أيضا تأمل، لعدم العلم بتعارف الأخذ منهما، بل في صدق الانفحة على غير المأخوذ عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 109

الجدي و الحمل إشكال، لظهور كلمات اللغويين في الاختصاص بهما.

نعم في بعض الروايات شبهة الإطلاق على فرض صدق الانفحة على سائر الحيوانات كمرسلة الصدوق قال: «قال الصادق عليه السلام:

عشرة أشياء من الميتة ذكية- و عد منها- الانفحة» «1» و رواية الحسين ابن زرارة «2» لكن المظنون أن ما هو محل الكلام هي الانفحة التي تجعل في الجبن، كما يظهر من الروايات الواردة في الجبن، فإنها التي فيها منافع الناس و تكون مورد السؤال غالبا، و معه يشكل الإطلاق فيهما، فالأحوط لو لم يكن الأقوى اختصاص الحكم بما يتعارف جعلها في الجبن و المتيقن منه إنفحة الجدي و الحمل، نعم لو شك في كونها مما تحلها الحياة كما تدل عليه رواية

الثمالي فالأصل طهارتها مطلقا.

و أما البيض فلا إشكال في طهارته نصا و فتوى، بل مقتضى القاعدة طهارته، لعدم كونه من أجزاء الميتة بعد استقلاله و اكتسائه الجلد الأعلى و عدم كونه مما تحله الحياة قبله، مع الشك في ملاقاته للميتة فضلا عن القطع به، و العلم بعدم سراية النجاسة من الجلدة فضلا عن الغليظة.

لكن حكي اتفاق الأصحاب على التقييد باكتسائه الجلد الأعلى أو الغليظ بل عن جمهور العامة موافقتنا في ذلك، فذهبوا إلى عدم حيلولة الجلد الرقيق بينه و بين النجاسة.

أقول: لو لا ذلك لكان للمناقشة في الحكم مجال، لا لضعف رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة قال إن كانت اكتست الجلد الغليظ فلا بأس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 9

(2) مرت في ص 104.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 110

بها» «1» فإنها من الموثق لو لم تكن من الصحيح.

بل لقوة احتمال أن يكون السؤال عن حليتها و حرمتها لا نجاستها و الجواب موافق للقاعدة، لأن البيضة قبل اكتسائها الجلد الغليظ تكون من أجزاء الحيوان مرتزقة منه متصلة به، و بعده تصير مستقلة منحازة فخرجت عن جزئيتها.

فهي قبل الاكتساء جزء الميتة حرام أكلها و إن كانت طاهرة لكونها مما لا تحله الحياة، و للشك في سراية النجاسة منها إليها لقطع الارتزاق بالموت و عدم العلم بالسراية، و بعد الاستقلال خرجت عن الجزئية، فحلال أكلها و طاهرة، فنفي البأس بعد الاكتساء لا يدل على نجاستها قبله إن كانت الشبهة في الحلية و الحرمة، و يكفي الشك في وجه السؤال بعد كون الطهارة موافقة للأصل.

لكن مخالفة الأصحاب غير

ممكنة، و احتمال أن يكون مستندهم الموثقة المتقدمة مع تخلل اجتهاد منهم ضعيف، لاشتهار الحكم بين الفريقين قديما و حديثا على ما حكي، و في مثله لا يمكن أن يكون المستند رواية غياث فقط، مع أن المفهوم منها ثبوت البأس، و هو أعم من النجاسة مضافا الى ما مرّ من الاحتمال.

فالأقوى ما عليه الأصحاب، لكن لا يشترط فيه صلابة الجلد، فإنها تحصل على ما قيل بعد خروجها من است الدجاجة بتصرف الهواء الخارج، و حين الخروج لا تكون صلبة و إن كانت غليظة، و كيف كان فالحكم مترتب على الجلد الغليظ لا الصلب، و لو حصل في جوف الدجاجة.

و أما اللبن فعن الصدوق و المفيد و الشيخ و القاضي و ابني زهرة و حمزة و صاحبي كشفي الرموز و اللثام و الشهيد و غيرهم القول بالطهارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 111

و عن البيان أنه قول المشهور، و عن الدروس أن القائل بخبر المنع نادر و عن الخلاف الإجماع على طهارة ما في ضرع الشاة، و عن الغنية الإجماع على جواز الانتفاع بلبن ميتة ما يقع الذكاة عليه، و تدل عليه صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الإنفحة- إلى أن قال-: قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت قال:

لا بأس به» «1» و خبر الحسين بن زرارة أو موثقته قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أبى يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة فقال: كل هذا ذكى» «2».

و مرسلة الصدوق قال: «قال الصادق عليه السلام: عشرة

أشياء من الميتة ذكية- و عد منها- اللبن» «3» و رواها في الخصال بسند غير نقي عن ابن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد اللّٰه عليه السلام مع مخالفة في الترتيب. بل و صحيحة حريز: قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن و اللباء- الى أن قال-:

و كل شي ء من الشاة و الدابة فهو ذكي، و ان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «4».

خلافا للمحكي عن أبي علي و أبي يعلى و العجلي و المحقق و أبي العباس و العلامة و المحقق الثاني و الصيمري و المقداد، و عن الحلي أنه لا خلاف فيه بين المحصلين من أصحابنا، و عن المنتهى أنه المشهور، و عن جامع المقاصد أنه المشهور الموافق لأصول المذهب و عليه الفتوى.

______________________________

(1) مرتا في ص 104.

(2) مرتا في ص 104.

(3) مرت ص 109.

(4) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 112

و يمكن تأييده بدعوى قصور الأدلة عن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد، بل المنكر في أذهان المتشرعة، لا لما ذكره الشيخ الأعظم من أن طرح الأخبار الصحيحة المخالفة لأصول المذهب غير عزيز إلا أن تعضد بفتوى الأصحاب- كما في الانفحة- أو بشهرة عظيمة توجب شذوذ المخالف، و ما نحن فيه ليس كذلك، فإن قاعدة منجسية النجس ليست من القواعد المعدودة من أصول المذهب بحيث لا يمكن تخصيصها بالرواية الصحيحة فضلا عن الروايات الصحيحة المؤيدة بفتوى من عرفت، بل لو لم يثبت إعراض الأصحاب عنها لوجب العمل بها، و لا ريب في عدم إعراضهم عنها، بل عملهم بها.

بل لاستضعاف سند رواية الحسين بن زرارة

لكونه مجهولا، و إن دعا له أبو عبد اللّٰه عليه السلام دعاء بليغا، إذ لا يوجب ذلك ثقته في الحديث و حجية روايته، مع أن في نسخة من الوسائل بدل اللبن «السن» و مرسلة الصدوق، و إن نسب الى الصادق عليه السلام جزما، و نحن قلنا بقرب اعتبار مثل هذا الإرسال، و ذلك لما قال في ذيلها في الفقيه:

و قد ذكرت ذلك مسندا في كتاب الخصال في باب العشرات، و سند الخصال ضعيف بجهالة علي بن أحمد بن عبد اللّٰه و أبيه.

و لعدم الإطلاق في صحيحة حريز، بل إشعار ذيلها بأن ما ذكر في صدرها هو ما يفصل من الحي.

فبقيت صحيحة واحدة هي صحيحة زرارة و هي- مع اشتمالها على الجلد مما هو خلاف الإجماع و اختلاف متنها لسقوط الجلد في رواية الصدوق و ثبوته في رواية الشيخ و هو يوجب نحو و هن فيها- لا يمكن الاتكال عليها في الخروج عن القاعدة، مع أنها مخصوصة بالشاة، و لم يقل أحد بالاختصاص خصوصا مع ما عن الحلي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 113

أنه نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا، لأنه مائع في ميتة ملامس لها، قال: و ما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب، و لا يعضدها كتاب و سنة مقطوعة بها و لا إجماع.

و دعوى العلامة الشهرة على النجاسة سيما مع اعتضادها برواية وهب عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال علي عليه السلام: ذلك الحرام محضا» «1» و رواية الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه السلام و فيها «و كلما كان من

السخال الصوف إن جزّ و الشعر و الوبر و الانفحة و القرن و لا يتعدى إلى غيرها إن شاء اللّٰه» «2» و رواية يونس عنهم عليهم السلام «قالوا: خمسة أشياء ذكية» «3» و لم يعد اللبن منها.

لكن مع ذلك الأقوى هو الطهارة، و المناقشة في تلك الروايات المعمول بها المعول عليها قديما و حديثا في غاية الفساد و الضعف، مع أن تضعيف رواية الحسين مع كونه إماميا ممدوحا يروي عنه الأجلة كصفوان بن يحيى في غير محله، مضافا إلى أن ظاهر الكليني حيث قال:

«و زاد فيه على بن عقبة و علي بن الحسن بن رباط قال: و الشعر و الصوف كله ذكي» «4» انهما رويا ما روى الحسين مع زيادة عمن روى لا عنه، فإنهما لم يرويا عن الحسين، بل علي بن عقبة من رجال الصادق عليه السلام. و قيل في علي بن الحسن أيضا ذلك، و لو كان من أصحاب الرضا عليه السلام لا يبعد إدراكه مجلس أبي عبد اللّٰه عليه السلام و ان لم يكن راويا عنه، فتكون الرواية صحيحة لوثاقتهما.

و لا شبهة في خطإ نسخة الوسائل لروايتها في مورد آخر و فيها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 11.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 114

«اللبن». و في مرآة العقول كذلك و في كتب الفروع أيضا كذلك، فالنسخة من خطأ النساخ جزما.

بل المناقشة في مرسلة الصدوق أيضا لا تخلو من إشكال بعد انتساب الرواية جزما إلى الصادق عليه السلام

و هو غير ممكن من مثل الصدوق إلا مع وثاقة رواتها، أو محفوفيتها بقرائن توجب جزمه بالصدور، فيمكن أن يجعل ذلك توثيقا منه للرجلين، و لو نوقش فيه فلا أقل من كونها معتمدة عنده و مجزوما بها، سيما مع ما في أول الفقيه من الضمان مضافا إلى أن المحكي عن العلامة تصحيح بعض روايات ابن مسلم إلى الصدوق و علي بن أحمد فيه، و قيل: إن الصدوق كثيرا ما يذكره مترضيا عنه و مترحما عليه، و عن المجلسي الأول توثيق أبيه مستندا إلى اعتماد الصدوق عليه في كثير من الروايات، و عن الفاضل الخراساني تصحيح خبرهما في سنده و جعلهما من مشايخ الإجازة.

و الظاهر أن لصحيحة حريز إطلاقا، و لا يكون ذيلها قرينة على عدمه لو لم يكن مؤكدا له، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» هو ذكر أحد شقي المذكور في الصدر، فكأنه قال: كل ما يفصل من الدابة ذكي ذاتا، لكن إذا أخذت من الميت اغسله لنجاسته العرضية.

و أغرب من جميع ذلك المناقشة في صحيحة زرارة بمجرد اشتمالها على الجلد إما لاشتباه من النساخ أو الرواة، أو لجهة في الصدور مع كون سائر المذكورات فيها موافقة للنصوص و الفتاوى، فلا وجه لردها.

و أغرب من ذلك المناقشة في الصحيحة بطريق الصدوق مع عدم اشتمالها على الجلد. بل يكشف ذلك عن الاشتباه في رواية الشيخ، فلا وهن فيها بوجه، و هي حجة كافية في رفع اليد عن قاعدة منجسية النجس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 115

و في دعوى الحلي ما لا يخفى، سيما في نسبة الشذوذ إلى الرواية مع أنها مشهورة

فتوى، متكررة نقلا، موافقة لفتوى المحصلين من أصحابنا.

و لعل مراد العلامة الشهرة عند المتأخرين، و إلا فقد مرت كلمات القوم و إجماع الخلاف و الغنية، و الشهرة المتأخرة لا تفيد جرحا و لا جبرا.

و من ذلك لا يعبأ برواية وهب بن وهب، أكذب البرية، مع أن الحرمة غير النجاسة، فيمكن أن يكون اللبن من الميت حراما غير نجس فلو كانت الرواية معتمدة يمكن الجمع بينها و بين سائر الروايات بذلك فبقي ما دل على الطهارة بلا معارض، و أما رواية الفتح مع ضعفها سندا و وهنها متنا مخالفة للإجماع و النصوص المعتبرة، و قد مرّ الكلام في رواية يونس، مع أن الانحصار بالخمسة مما لم يقل به أحد، فلا مفهوم لها جزما.

ثم أنه يأتي الكلام إن شاء اللّٰه في نجاسة شعر الكلب و أخويه في محله المناسب له فان الكلام ها هنا في نجاسة الميتة، نعم ينبغي الجزم بعدم تأثير الموت في تنجيس ميتتها بعد الجزم بعدم كون النجاسة بالموت أغلظ من نجاستها الذاتية، لعدم معنى تنجس النجس لكن لو كان للميت بما هو كذلك حكم يترتب عليها بموتها.

فما يشعر به كلام الشيخ الأعظم من ارتضائه بتنجسها بالموت مضافا إلى نجاستها العينية و عدم نجاسة ما لا تحله الحياة منها بالموت، بل يكون على نجاستها الأولية، لا يخلو عن الاشكال، و لعله أشار إليه بقوله فافهم.

(تنبيه استطرادي) [غسل مس الميت]

ذكر المحقق ها هنا غسل المس فقال: يجب الغسل على من مس ميتا من الناس قبل تطهيره و بعد برده، و الظاهر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 116

منه أن محل الكلام موضوع واحد: هو مسه كما هو المعروف، لكن يظهر من الشيخ في الخلاف

أن محط البحث بين الفريقين أمران: أحدهما أنه هل يجب الغسل على غاسل الميت؟ و الثاني هل يجب ذلك على من مس ميتا بعد برده و قبل غسله؟.

و ذلك أنه عنون المسألة الأولى فقال: يجب الغسل على من غسّل ميتا، و به قال الشافعي في البويطي، و هو قول علي عليه السلام و أبى هريرة، و ذهب ابن عمرو ابن عباس و عائشة و الفقهاء أجمع: مالك و أبو حنيفة و أصحابه و أحمد و إسحاق و أحد قولي الشافعي قاله في عامة كتبه أن ذلك مستحب، ثم استدل على الوجوب بإجماع الفرقة و قاعدة الاحتياط و رواية أبي هريرة «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: من غسل ميتا فليغتسل و من حمله فليتوضأ».

ثم عنون الثانية و جعل المخالف جميع الفقهاء، و استدل بالإجماع و الاحتياط دون الرواية. و هو ظاهر في أن خلافهم في الأولى دون الثانية.

ثم أن الموضوع في المسألة الأولى يحتمل أن يكون عنوان الغاسل و لو لم يمس الميت، فيكون الخلاف في أن الغاسل بما هو هل يجب عليه أم لا؟.

و يحتمل أن يكون المس الحاصل بتبع الغسل بمعنى أن للمس مصداقين أحدهما ما هو تبع الغسل، و هو محل الخلاف الأول، و الثاني ما هو مستقل، و هو مورد الثاني، و الجمود على ظاهر عنوان الخلاف أن محط البحث الأول، كما ربما تشهد له بعض الروايات، كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «قلت: الرجل يغمض عين الميت أ عليه غسل؟ قال: إذا مسه بحرارته فلا، و لكن إذا مسه بعد ما برد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 117

فليغتسل، قلت: فالذي

يغسله يغتسل؟ قال: نعم» «1» و صحيحته الأخرى عن أحدهما عليهما السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا- إلى أن قال- و إذا غسلت ميتا أو كفنته أو مسسته» إلخ «2» و رواها الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام باختلاف يسير «3» لكن عطف فيها «كفنته» بالواو، و هو الصحيح.

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

الذي يغسل الميت أ عليه غسل؟ قال: نعم، قلت: فإذا مسه و هو سخن؟ قال: لا غسل عليه، فإذا برد فعليه الغسل» «4» حيث يظهر منها أن عنوان الغاسل غير عنوان الماسّ، و يجب على كل منهما الغسل، مضافا إلى أن ذلك مقتضى الجمود على ظاهر ما علق فيها الغسل على عنوان من يغسل الميت تارة، و على من مسه أخرى في سائر الروايات.

لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بوجوبه له و لو مع عدم المس، لعدم احتماله في كلمات القوم فضلا عن اختياره، فلا بد من حمل ما دل على وجوبه على من مسه حال غسله، أما حمل مثل صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «من غسل ميتا و كفّنه اغتسل غسل الجنابة» «5» على ذلك فلأن غسله ملازم عادة لمسه. و قلما يتفق التفكيك لو لم نقل لم يتفق.

و أما صحيحته الأولى المتقدمة فلاحتمال أن يكون سؤاله لشبهة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة الحديث- 11.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة الحديث- 4.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 118

أن مسه حال الغسل لا يوجبه، أو أن غسله موجب لسقوط غسل المس تبعا، كما أن السؤال في صحيحة معاوية محمول عليه أيضا، فلا يكون سؤاله عن عنوان الغسل بل عن مسه في ضمنه، كما لعله المتفاهم عرفا منها، بل هو ظاهرها.

و عليه تحمل صحيحة ابن مسلم الأخرى، ضرورة أن التكفين لا يوجب شيئا، فيكون المقصود المس حال الغسل، و ذكر التكفين لعله لأجل أن الغاسل هو المكفن، و لهذا عد فيها للثلاثة غسلا واحدا، و لو لا ذلك للزم أن يكون الغسل في تسعة عشر موطنا لا سبعة عشر، فالغسل في الثلاثة لعنوان واحد هو المس، فتكون الرواية شاهدة على عدم تعدد العنوان، و تشهد لذلك حسنة الفضل الآتية الواردة في علة غسل من غسل ميتا بل هي حاكمة على غيرها.

فموضوع البحث هو مس الميت بعد برده و قبل غسله، كما عنون المحقق و غيره، و قد عرفت عنوان الشيخ، و لعل خلاف العامة في الغاسل الذي مسه لا الأعم، و لا أظن الخلاف في عدم وجوبه على من لم يمسه.

و كيف كان فالغسل واجب لمسه إجماعا كما في الخلاف و عن الغنية و في استفادته من كلامهما كلام، و هو المشهور كما عن المختلف و جامع المقاصد و الكفاية و مذهب الأكثر كما عن طهارة الخلاف و التذكرة و المنتهى و المدارك و الكفاية في موضع آخر، و لم يحك الخلاف صريحا إلا عن السيد، و في الخلاف أن من شذ منهم لا يعتد بخلافه، و تدل عليه روايات مستفيضة أو متواترة، فهي بين آمرة بالغسل كصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن أحدهما عليهما السلام، و صحيحة عاصم ابن

حميد «1» و صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

______________________________

(1) قال: «سألته عن الميت إذا مسّه الإنسان أ فيه غسل؟ قال: فقال: إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل» راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 119

«من غسّل ميتا و كفّنه اغتسل غسل الجنابة» «1» و صحيحة الحلبي و فيها: «و يغتسل من مسه» «2» و صحيحة الأقطع و صحيحة حريز عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «3».

و معبرة بأن عليه الغسل كصحيحة معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الذي يغتسل الميت أ عليه غسل؟ قال:

نعم- إلى أن قال-: فإذا برد فعليه الغسل» إلخ «4» و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان على الأصح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «و لكن إذا مسه و قبّله و قد برد فعليه الغسل» «5» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن رجل مس ميتا عليه الغسل؟

قال: فقال: إن كان الميت لم يبرد فلا غسل عليه، و إن كان قد برد فعليه الغسل إذا مسه» «6».

و معبرة بأنه الفرض كرواية يونس عن بعض رجاله عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا منها الفرض ثلاثة قلت ما الفرض منها؟ قال: غسل الجنابة و غسل من مس ميتا

______________________________

(1) مرت ص 117.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 9.

(3) و فيها: «من غسل ميتا فليغتسل، و ان مسّه ما دام حارا فلا غسل عليه، و إذا برد ثم مسّه فليغتسل» إلخ. راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس-

الحديث 14.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 15.

(6) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 18.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 120

و غسل الإحرام» «1».

و معبرة بمادة الأمر كحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة الطهارة مما أصابه من نضح الميت، لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته» «2».

و معبرة بمادة الوجوب كصحيحة الصفار قال: «كتبت إليه عليه السلام: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «3» بناء على ضم المعجمة كما لا يبعد، و في موثقة سماعة أو صحيحته «و غسل من مس الميت واجب» «4» تأمل، الى غير ذلك. فلا إشكال في دلالتها على وجوبه و الخدشة فيها من بعضهم في غير محلها.

نعم هنا روايات ربما يتمسك بها لعدم الوجوب كرواية سعد بن أبي خلف، و لا يبعد أن تكون صحيحة قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: الغسل في أربعة عشر موطنا، واحد فريضة و الباقي سنة» «5».

و فيه إن المواطن غير مذكورة فيها، و لعل الباقي المراد منها الأغسال المندوبة، و إلا فلا شبهة في وجوب أغسال أخر، كما لا إشكال في زيادتها عن أربعة عشر، و لو قيل باندراج بعضها في بعض يقال من المحتمل اندراج الواجبات في غسل الجنابة باعتبار اشتراكها في رفع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 17.

(2)

الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 16.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الجنابة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 121

الحدث الأكبر.

و مع الإغماض عنه لا بد من حمل الفريضة على ما ثبت وجوبه بالكتاب، و إلا فلا ينحصر الواجب في غسل الجنابة بالضرورة، فسبيل هذه الرواية سبيل صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران «أنه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب و الثاني ميت- إلى أن قال-: لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة» «1» و قريب منها رواية الحسين بن النضر «2» و غيرها، ضرورة وجوب غسل الميت.

و لو كان المراد من أربعة عشر موطنا هي المعدودة في محكي الخصال صحيحة عن عبد اللّٰه بن سنان لوجب حملها على ما ذكر، لأن فيها غسل الميت، و هو واجب بلا شبهة.

و منه يظهر الجواب عن مرسلة الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام و صحيحة محمد بن مسلم، و الظاهر كونهما واحدة كما مر. و فيها بعد عدّ جملة من الأغسال منها غسل المس قال: «و غسل الجنابة فريضة» هذا مع عدم المفهوم لها.

و منه يظهر الجواب عن رواية الأعمش عن جعفر بن محمد «3» و فيها بعد عد جملة منها غسل المس قال: «و أما الفرض فغسل الجنابة، و غسل الجنابة و الحيض واحد» مضافا إلى أن من جملة المعدود فيها غسل الميت، و هو معلوم الوجوب، فلا بد من رفع اليد عن مفهومها لو سلم المفهوم، أو حملها

على ما تقدم.

و من بعض ما تقدم يظهر الجواب عن رواية عمرو بن خالد عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 122

زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: «الغسل من سبعة:

من الجنابة و هو واجب، و من غسّل الميت، و إن تطهرت أجزأك» «1» و ذكر غيره، فإن إثبات الوجوب لغسل الجنابة لا يدل على النفي عن غيره، و لو استدل له بقوله عليه السلام: «و إن تطهرت» إلخ فلم يتضح معناه لاحتمال كون المراد من التطهير غسل الجنابة، و يريد إجزاءه عن غسل المس، و لعل التعبير بالتطهر تبعا للكتاب، حيث قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» و حملها الشيخ على التقية، و لا بأس به لو أغمض عما ذكرناه.

و أما رواية الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجاب النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «3» فهي ظاهرة في معروفية ثبوت الغسل لمس الميت، و انما سأل عن مس رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لخصوصية فيه، فأجاب بما أجاب، فيظهر منها أن غسل مس المعصوم عليه السلام سنة لكونه طاهرا مطهرا، و حكمه غير حكم مس غيره، فلا بد بعد ثبوته أن يكون واجبا فتدل على المقصود أى وجوبه لمس غير الطاهر.

و أما رواية الاحتجاج «4» فظاهرة في المس حال الحرارة كما لا

______________________________

(1) الوسائل-

الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 8.

(2) سورة المائدة: 5- الآية 6.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7.

(4) عن أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج قال «مما خرج عن صاحب الزمان عليه السلام إلى محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري حيث كتب اليه: روي لنا عن العالم عليه السلام انه سئل عن امام قوم يصلي بهم بعض صلاتهم و حدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر و يتقدم بعضهم و يتم صلاتهم و يغتسل من مسّه، التوقيع: ليس على من مسّه إلا غسل اليد، و إذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم صلاته مع القوم» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 123

يخفى، و تدل عليه مكاتبة أخرى «1» فراجع، و أما عده في عداد المستحبات فلا دلالة على استحبابه كما عد غسل الميت و الحيض في عدادها.

و أما ما دل على حصر النواقض في غيره فمضافا إلى أن الكلام في وجوبه لا ناقضيته أن تلك الروايات في مقام الرد على العامة الذين عدوا كثيرا من الأمور من النواقض، فالحصر إضافي فراجعها.

فتحصل مما ذكر أن لا معارض للروايات الدالة على وجوبه، فلا إشكال فيه، كما لا إشكال في عدم الغسل لمسه قبل البرد، كما صرحت به جملة من الروايات فيحمل عليها إطلاق غيرها لو كان، و كذا لا إشكال بعدم شي ء بمسه بعد الغسل كما صرح به في صحيحة ابن مسلم «2»

______________________________

(1) و عن الطبرسي قال: «و كتب إليه: و روي عن العالم أن من مسّ ميتا بحرارته غسل يده و من مسّه

و قد برد فعليه الغسل، و هذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو؟ و لعله ينحيه بثيابه و لا يمسه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه على (في) هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

(2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مسّ الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 124

و عبد اللّٰه بن سنان «1» فلا بد من حمل موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «يغتسل الذي غسّل الميت، و كل من مس ميتا فعليه الغسل و إن كان الميت قد غسل» «2» على الاستحباب أو غير ذلك.

هذا إذا لم يجز جعل اسم كان ضميرا راجعا الى من مس، و جعل الجملة التي بعدها خبرها بدعوى عدم جواز جعل معمول الخبر تلو العامل و إلا فتسقط عن الدلالة على الخلاف، فلا دليل على استحبابه إلا إشعار بعض الروايات. كصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها قال: «فمن أدخله القبر؟ قال: لا، إنما مس الثياب» «3» و نحوها صحيحة حريز «4» فهما مشعرتان أو ظاهرتان في أنه إذا مس جسده فعليه الغسل، فلا بد من حملهما على الاستحباب جمعا، و الأمر سهل.

ثم الظاهر أن المس من الأحداث الموجبة لنقض الطهارة، كما عن النهاية و الدروس و الذكرى و الألفية، و عن شرح المفاتيح أن المشهور المعروف بين الفقهاء أن مس الميت من الناس حدث أكبر

كالجنابة و الحيض و عن الحدائق دعوى عدم الخلاف بينهم لا لمجرد أن الأمر بالغسل عند مسه ظاهر في أنه مثل الجنابة من الأحداث المقتضية للطهارة لأن الظاهر منه أن الغسل رافع لما يحدث بالمس لكن لا يجدي ذلك في إثبات أن ما يحدث به حدث مانع للصلاة، و قياسه على سائر الأحداث

______________________________

(1) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس بأن يمسّه بعد الغسل و يقبله» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 125

كما ترى.

و بعبارة أخرى أن الظاهر من ترتب وجوب الغسل على المس أنه دخيل في ذلك، و المتفاهم منه عرفا أن المس موجب لحدوث حالة معنوية للماس لا ترتفع إلا بالغسل، و أما كون تلك الحالة مانعة عن الصلاة أو أن الغسل منه شرط لها فلا الا بالقياس إلى الجنابة و غيرها.

بل لدلالة جملة من الروايات كمكاتبتي الحسن بن عبيد و الصيقل قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسّل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته فأجابه: النبي طاهر مطهر و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «1» حيث أن الظاهر منهما أن مس غير الطاهر المطهر من حدث الموت موجب للغسل، و الظاهر منه أن إيجابه له إنما هو بنحو من السراية كما أن الظاهر من أدلة غسل ملاقي النجاسات ذلك.

فالمفهوم منهما أن مس الأموات موجب لحصول حالة شبيهة بما

في الأموات أي القذارة المعنوية المقابلة للطهارة، و ترتفع بالغسل و تتطهر به، فإذا ضم ذلك إلى قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» «2» يتم المطلوب، و يؤيده بل يدل عليه ما دل على أن غسل الأموات غسل الجنابة و كحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة الطهارة مما أصابه من نضح الميت» إلخ «3» و قريب منها رواية محمد بن سنان عنه عليه السلام «4» لكن في ذيلها «لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته، فلذلك

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 12.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 126

يتطهر منه و يطهر».

و هما كالصريح في أن المس موجب للقذارة و الحدث المقابلين للطهارة و هي تحصل بالغسل، و لما كان بصدد بيان علة الاغتسال لا بد من حمل ما أصابه على قذارة معنوية مقابلة للطهور الحاصل بالغسل بالضم، و أصرح من ذلك ذيل الثانية أي «يتطهر منه و يطهر» إذ معلوم أن المراد التطهير من الحدث كتطهير الميت منه، بل يمكن الاستشهاد لذلك بالقول المحكي عن أمير المؤمنين عليه السلام في رواية زيد بن علي عليه السلام قال:

«الغسل من سبعة: من الجنابة و هو واجب، و من غسّل الميت، و إن تطهرت أجزأك». «1» بناء على أن المراد التطهير منه الجنابة كما احتملناه، أو التطهير من مس الميت كما احتمله الحر في الوسائل.

و كيف كان لا إشكال في كونه

حدثا مانعا من الصلاة و غيرها مما هو مشروط بالطهارة، و هل هو ناقض للوضوء، فلو كان على وضوء و مسه يجب عليه الغسل و الوضوء إن قلنا بعدم كفاية الأول عن الثاني كما هو الحق؟ وجهان. لا يبعد أقربية الأول.

و يمكن الاستدلال عليه برواية ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان أو غيره عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «في كل غسل وضوء إلا الجنابة» «2» و في مرسلته الأخرى عنه عليه السلام قال: «كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة» «3».

بدعوى أن الظاهر أن الحكم فعلي، و أن كل غسل يجب قبله أو بعده وضوء، و مقتضى الإطلاق لزومه، و لو مع كونه على وضوء قبل تحقق السبب، لا حيثى يراد به أن غير غسل الجنابة لا يجزي عن الوضوء حتى يقال: لا يراد لزوم الوضوء حتى

______________________________

(1) مرت في ص 122.

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الجنابة- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الجنابة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 127

مع الفرض، فتدل على سببية ما يوجب الغسل للوضوء أيضا، و عدم إجزاء الغسل عنه. نعم على ما احتملناه سابقا من أن المراد اشتراط تحقق الغسل بالوضوء تكون أجنبية عن المقام. لكن لا يبعد دعوى كون ذلك الاحتمال خلاف الظاهر، و لهذا لم أجد احتماله في كلماتهم، و كيف كان لو لم يكن الناقضية أقوى فهي أحوط.

و هل يلحق المتيمم بالمغتسل مطلقا في رفع حدثه و خبثه أولا مطلقا أو يلحق في رفع الأول؟ وجوه، أقواها الأول، لا لما قد يقال: إنه مقتضى عموم أدلة البدلية، لعدم الدليل على عمومها حتى في الخليطين، أما دليل

تنزيل التراب منزلة الماء فظاهر، و أما مثل قوله عليه السلام، «ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» فلأن تلك الروايات ناظرة إلى الآية الكريمة التي أفادت بدليته عن الماء في الوضوء و غسل الجنابة، و ليست مطلقة خرجت منها الطهارة من الأخباث في جميع الموارد إلا ما ندر، كما لا يخفى. فسبيل تلك الطائفة سبيل دليل التنزيل.

و لا لما يقال: إنه حيث علم أن غسله ليس إلا غسل الجنابة و أنه يغسل الميت لصيرورته جنبا، فيكون الحال حينئذ بمنزلة ما لو بين الشارع للجنابة سببا آخر غير السببين المعهودين، فلا يشك حينئذ في قيام التيمم مقام غسلها حال الضرورة بمقتضى عموم ما دل على أنه أحد الطهورين، فيعلم أن التعدد و تشريك غير الماء معه في طهوريته لخصوصية المورد، فاعتبار ذلك لا يمنع من شمول أدلة البدلية، خصوصا مع أن السبب الأعظم الذي يستند إلى الطهورية إنما هو الماء و خصوصياته المعتبرة ككونه بماء السدر و الكافور بمنزلة الأوصاف الغير المقومة.

و ذلك لأنه بعد الاعتراف بأن الخليط دخيل في الرفع، و ليس الماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب التيمم- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 128

القراح تمام السبب في ذلك لا بد من التماس دليل على قيام التراب منزلة الماء المخلوط الذي يكون الخلط جزء سبب الرفع، و مجرد كون الماء السبب الأعظم على فرض تسليمه لا يفيد في قيام التيمم مقامه، و كون غسله غسل الجنابة على فرض تسليم كون تلك الجنابة كسائر الجنابات و الغض عما في النصوص من خروج النطفة التي خلق منها من فمه أو غيره الدال على أن هذه من

غير سنخ سائر الجنابات لا يفيد أيضا بعد كون السبب الرافع و لو لخصوصية المورد غير الماء القراح، بل الأغسال الثلاثة بالمقررات الخاصة، و معه لا بد من دلالة دليل على قيام التراب منزلة السبب و هو مفقود.

بل للأدلّة الخاصة الدالة على وجوب تيمم الميت مع فقد الماء كصحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران «أنه سأل أبا الحسن موسى ابن جعفر عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب و الثاني ميت و الثالث على غير وضوء و حضرت الصلاة، و معهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء و كيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب و يدفن الميت بتيمم، و يتيمم الذي هو على غير وضوء، لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة، و التيمم للآخر جائز» «1» و في نسخة من الوسائل الموجودة لديّ نقلها بهذا المتن عن الشيخ بسنده عن عبد الرحمن عمن حدثه عن الرضا عليه السلام، لكن عن المدارك نقل الصحيحة مع سقوط لفظ «بتيمم» و أورد عليه صاحب الحدائق بأن الصحيحة بسند الصدوق مشتملة عليه، نعم لم تشتمل عليه رواية الشيخ، و هي غير صحيحة، ثم قال: «إن صاحب الوافي و الوسائل قد نقلا هذه الرواية من التهذيب بهذا المتن- الذي ذكره، اي مع سقوطه- ثم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 129

نقلاها عن الفقيه و أحالا المتن على ما نقلاه عن التهذيب و لم ينبها على الزيادة- ثم قال-: إني قد تتبعت نسخا عديدة مضبوطة من الفقيه فوجدت الرواية فيها كما ذكرته من الزيادة» انتهى، لكن في نسخة الوسائل عكس ما قال

في الحدائق، فإنه نقل صحيحة ابن أبي نجران من الفقيه مع الزيادة، ثم نقل عن التهذيب و أحال المتن على ما نقل عن الفقيه.

و كيف كان هذه الصحيحة المشتملة على الزيادة حجة قاطعة على وجوب تيممه مع فقد الماء.

و تدل على وجوبه عند العذر رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: «إن قوما أتوا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّٰه مات صاحب لنا و هو مجدور فان غسلناه انسلخ فقال: يمّموه» «1» و قد يقال بجبر سندها بفتوى الأصحاب بمضمونها و ذكره في المتون.

وجه الدلالة على المقصود: أن المتفاهم منهما بعد مسبوقية ذهن المتشرعة بقيام التيمم مقام الغسل في الجنابة و غيرها أن الأمر بالتيمم عند فقد الماء و التعذر لأجل حصول ما يحصل بالغسل به في هذا الحال، و لا يكون التيمم أجنبيا غير مؤثر في تطهير الميت، لمقطوعية خلافه و مخالفته لارتكاز المتشرعة، فالمفهوم منهما أنه يقوم مقام الغسل في جميع الآثار، و منها رفع الخبث، فان الرافع له مع نجاسته العينية ليس الغسل بالفتح بل الغسل.

و بالجملة أن أدلة البدلية كتابا و سنة صارت موجبة لاستظهار ما ذكرناه من الدليل الخاص لو فرض قصوره و إن لم تكن بنفسها دالة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 16- من أبواب غسل الميت- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 130

عليه، فالأقوى قيامه مقامه في رفع الخبث أيضا، نعم رفعه لهما في موضوع خاص أو إلى أمد خاص، كما مرّ في باب التيمم.

و من هنا يظهر حال الأغسال الاضطرارية سواء كان مستندها الأدلة الخاصة كغسل المحرم بلا كافور، أو كون

الغاسل كافرا أو مخالفا، أو مستندها أدلة التقية كالغسل على طبق أهل الخلاف تقية، أو دليل الميسور أو إطلاق أدلة الغسل مع قصور دليل اعتبار الشرط و القيد مثلا.

أما الأخير فواضح، و أما ما عداه فلظهور الأدلة الخاصة و العامة في أن الطبيعة المأتي بها حينئذ ليست أمرا أجنبيا عن تحصيل ما يترقب من الغسل من رفع الحدث و الخبث، بل المتفاهم منها أن الغسل الذي أوجبه اللّٰه تعالى لتطهير الميت حدثا و خبثا و لملاقاته لملائكة اللّٰه طاهرا نظيفا هو المصداق الاضطراري لدى الاضطرار، و أنه موجب لتطهره.

فهل يمكن أن يقال: إن المحرم المحروم من الكافور باق على جنابته و نجاسته، و يكون الأمر بغسله لا للتطهير منهما، بل لمطلوبية نفسية بلا ترتب أثر عليه؟ و لا أظن التزام مثل الشيخ الأعظم المستشكل في المسألة بذلك فيه، و كذا فيما إذا كان الغاسل كافرا، فان الظاهر من الأدلة أنه يأتي بالغسل الذي يترتب عليه الآثار المطلوبة، بل الأمر كذلك لو كان دليل المثبت قاعدة الميسور، لأن الأرجح في معنى قوله عليه السلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور» أن ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها، بمعنى أن الطبيعة المأمور بها التي يكون لها فردان: اختياري و اضطراري لا تسقط عن العهدة بمعسورية الاختياري، بل يؤتى بها بمصداقها الميسور، فالطبيعة المأتي بها حال الاضطرار عين المأتي بها حال الاختيار، و الاختلاف في الخصوصيات الفردية، فيترتب عليها ما يترتب على الاختياري منها، و قد فرغنا في رسالة التقية عن أن المأتي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 131

به حالها مجز عن الواقع، و يترتب عليه ما يترتب على الفرد المأتي به في غير حالها.

فما أفاده

شيخنا الأعظم من انصراف الغسل في الأخبار إلى الغسل الاختياري التام و لا دليل على قيام الاضطراري مقام الاختياري في جميع الأحكام غير متجه.

و أما من لا يجب تغسيله إما لتقديم غسله على موته كالمرجوم، أو لكونه شهيدا لا يغسل كرامة، أو لكونه كافرا لا يغسل إهانة و لقصور المحل عن التأثير فالأظهر عدم إيجاب الموت في الأولين الجنابة و النجاسة.

لظهور دليل أولهما في أن غسله المعهود صار مقدما، و لا يتوهم عدم معقولية تأثير السبب المتقدم في رفع أثر السبب المتأخر زمانا، لأنه بعد ظهور الدليل في أن غسله غسل الميت قدم على موته نلتزم بمانعيته عن تأثير السبب، أى الموت في الحدث و الخبث.

و بالجملة الظاهر من دليل تقديم الغسل أن الأثر المترتب على الغسل المتأخر مترتب عليه، و إن كان نحو التأثير مختلفا لكون المتأخر رافعا و هو دافع.

و احتمال أن وجوب الغسل المتقدم بملاك آخر غير ملاك سائر الأغسال و أن المرجوم لا بد و أن يدفن جنبا و نجسا ففي غاية السقوط، و أما الشهيد فلا شبهة في أن سقوط غسله إنما هو لكرامة فيه، و أنه لعلوّ قدره لا يصير جنبا و لا نجسا. و معه لا يجب على من مسه غسل و لا غسل، أما بالفتح فواضح، و أما بالضم فلظهور الأدلة في أن الموجب له مس غير المطهر، فلا إشكال في المسألة و إن قال الشيخ الأعظم: إن المسألة لا تخلو من إشكال.

و أما الثالث فيجب الغسل بمسه لإطلاق مثل صحيحة عاصم بن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 132

حميد قال: «سألته عن الميت إذا مسه إنسان أ فيه غسل؟ قال: فقال:

إذا مسست

جسده حين يبرد فاغتسل» «1» بل الظاهر من سائر الأخبار أن الموجب للغسل هو المس، و أن الغسل غاية لرفع الحكم لا قيد في الموضوع، فظاهر مثل قوله عليه السلام: «إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «2» أن مس جسده موجب لذلك، و الغسل غاية لرفع الحكم، لا أن مس جسد من يجب غسله أو من يغسل موجب له، و تدل عليه رواية العلل «3» و غيرها.

بل ربما يتمسك له بمثل صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «في رجل مس ميتة أ عليه الغسل؟ قال: لا إنما ذلك من الإنسان» و فيه كلام و إشكال.

ثم أن مقتضى إطلاق بعض الروايات كصحيحتي علي بن جعفر و محمد بن مسلم و غيرهما عدم الفرق في الماسّ و الممسوس بين ما تحله الحياة و غيره. نعم لا يبعد الانصراف أو عدم الصدق في الشعر سيما المسترسل منه. و على فرض الإطلاق يمكن القول بالتفصيل في الممسوس بينه و بين غيره، لصحيحة عاصم بن حميد المتقدمة آنفا، فان الظاهر من ذكر الجسد سيما بعد فرض الراوي مس الميت أن له دخالة في الحكم و هو عليه السلام ذو عناية بذكره، و الظاهر عدم صدقه على الشعر بل لا يبعد مساوقته للبشرة، نعم لا شبهة في صدقه على مثل الظفر و العظم و السن.

و أما مكاتبة الصفار الصحيحة قال: «كتبت اليه: رجل أصاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 133

يده أو

بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع عليه السلام: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «1» ففي دلالتها تأمل ناش من احتمال كون الغسل بالفتح بمناسبة السؤال، و ان كان المظنون ضمه، و من احتمال كون ذكر الجسد في مقابل الثوب المذكور في السؤال.

و يمكن التمسك للتفصيل بين الشعر و غيره بمكاتبة الحسن بن عبيد المتقدمة فإن الظاهر من قوله عليه السلام: «النبي طاهر مطهر» «2» أن علة الغسل من المس نحو سراية من الممسوس الى الماسّ، و المناسبة تقتضي أن تكون السراية في الخبثية نحوها و في الحدثية نحوها، فان قلنا بأن الشعر كما أنه لا ينجس لا يصير معروضا للحدث و لا يجب غسله في غسل الجنابة و لا غسل الميت تدل الرواية على عدم لزوم الغسل بمسه لعدم السراية منه. و منه يظهر دلالة رواية العلل و العيون و محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام عليه.

نعم إن قلنا بوجوب غسل الشعر في الجنابة و غسل الميت كما لا يبعد فلا تكون الروايات شاهدة على التفصيل، و كيف كان الأقوى التفصيل في الممسوس، كما لا يبعد في الماسّ أيضا، لقوة دعوى الانصراف أو عدم الصدق.

و أما التفصيل بين ما تحله الحياة و غيره متشبثا بحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال «انما لم يجب الغسل على من مس شيئا من الأموات غير الإنسان كالطيور و البهائم و السباع و غير ذلك

______________________________

(1) مرت في ص 120.

(2) مرت في ص 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 134

لأن هذه الأشياء كلها ملبسة

ريشا و صوفا و شعرا و وبرا، و هذا كله ذكي لا يموت، و انما يماس منه الشي ء الذي هو ذكى من الحي و الميت» «1» ففي غاية الإشكال، بل غير وجيه، و إن ذهب اليه الشيخ الأعظم فإن ما ذكر إن كان علة للتفصيل بين ما تحله الحياة و غيره لا بين الإنسان و غيره فلا إشكال في مخالفتها للإجماع بل الضرورة. و إن كان نكتة للتشريع بمعنى أن الأغلب لما كان الملاقاة لغير الإنسان بما ذكر صار ذلك علة لجعل عدم البأس لملاقاته مطلقا، أو لعدم جعل الحكم له كذلك مس البشرة أو غيرها يكون مقتضى المقابلة إن مس ميت الإنسان مطلقا موجب له، و إن كانت نكتة التشريع غلبة المباشرة مع البشرة فتكون شاهدة على خلاف المقصود، و لا أقل من عدم الدلالة على التفصيل.

و بالجملة كيف يمكن الاستدلال للتفصيل بما يكون محل التفصيل منه غير مراد جزما، فما أفاده شيخنا الأعظم في وجه التمسك غير وجيه، و التفصيل بين ما تحله و غيره في الممسوس ضعيف فضلا عن الماسّ و إن فصل الشهيد في الروض بينهما في الماسّ و الممسوس.

فروع:
الأول: مقتضى الأصل أن مس القطعة المبانة من الميت موجب للغسل

سواء كانت مشتملة على العظم أولا، أو عظما مجردا حتى السن و الظفر، فكل ما يوجب مسه الغسل حال الاتصال يوجبه حال الانفصال، لاستصحاب الحكم التعليقي و قد فرغنا عن جريانه إذا كان التعليق شرعيا كما في المقام.

و قد يتوهم عدم جريانه، لأنه فرع إحراز الموضوع، و القدر المتيقن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 135

الذي علم ثبوته عند اتصال العضو بالميت إنما هو وجوب الغسل بمس الميت

المتحقق بمس عضوه، و هو مفروض الانتفاء عند الانفصال، و سببية العضو من حيث هو لم يعلم في السابق حتى يستصحب.

و فيه أن موضوع الاستصحاب ليس عين الدليل الاجتهادي حتى يشك فيه مع الشك في الثاني، و يعلم انتفاؤه مع العلم بانتفائه، ضرورة أن موضوع الأدلة الاجتهادية هو العناوين الأولية مثل الميت و العنب و العالم و غيرها، و أما الاستصحاب فجريانه يتوقف على صدق نقض اليقين بالشك و وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فإذا أشير إلى موضوع خارجي كالعنب و يقال: إن هذا الموجود إذا غلى عصيرة يحرم، ثم يبس و خرج عن عنوان العنبية لكن بقيت هذيته و تشخصه عرفا بحيث يقال: إن هذا الموجود عين الموجود سابقا و إن تغير صفة لا شبهة في جريان الاستصحاب فيه، مع العلم بتبدل موضوع الدليل الاجتهادي كما في المثال، لأن موضوعه عصير العنب و هو لا يصدق على الزبيب جزما، لكن العنب الخارجي متيقن الحكم بهذيته، لا بمعنى تعلق الحكم على عنوان هذيته، بل بمعنى تعلق اليقين بأن هذا الموجود الذي هو مصداق العنوان ذو حكم بتشكيل صغرى وجدانية و كبرى اجتهادية.

ففي المقام يصح أن يقال مشيرا الى كف الميت المتصلة به: إذا مسست هذه يجب عليّ الغسل، فإذا قطعت منه و انفصلت لا تتغير، إذا في بعض الحالات فالقضية المتيقنة عين المشكوك فيها، و هو الميزان في جريان الاستصحاب، و أما تغيير موضوع الدليل الاجتهادي فأجنبي عن جريانه و لا جريانه، و هذا الخلط يسد باب جريانه في كثير من الموارد و العجب من قوله أخيرا: إن سببية مس يده من حيث هو لم تعلم في السابق حتى تستصحب، لأنه إذا علم سببيته

من حيث هو بلا دخالة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 136

شي ء آخر فيتمسك بإطلاق الدليل لا الاستصحاب، إلا مع دعوى قصور الأدلة عن إثبات الحكم حال الانفصال و لو في الفرض.

ثم أنه لا فرق في اقتضاء الاستصحاب ذلك بين القطعات كما أشرنا إليه، هذا حال الجزء المبان من الميت.

و أما المبان من الحي فمقتضى الاستصحاب عدم إيجابه شيئا إن قلنا بجريانه في مثل المقام، و إلا فمقتضى البراءة ذلك، و الخروج في المسألتين عن مقتضى الأصل يحتاج الى الدليل.

و أما الأدلة الاجتهادية فما اشتملت على مس الميت أو مس جسده فلا إشكال في عدم شمولها لمس القطعة المنفصلة، لعدم صدق الميت و لا جسده عليها عرفا، سواء انفصلت من حي أو ميت.

و دعوى إلغاء الخصوصية عرفا إذ لم يفرق العرف بين حال الاتصال و الانفصال فاسدة جدا في مثل هذا الحكم التعبدي المجهول العلة، كما أن التمسك بالتعليل الوارد في رواية العلل و غيرها بدعوى أن العلة لوجوب الغسل إذا كانت إصابة نضح الميت و آفاته فهي متحققة مع الانفصال من الميت في غير محله، لأن العلة فيها غير حقيقية، و لا يكون الحكم دائرا مدارها، و إلا لزم الالتزام بعدم الوجوب إذا فرض العلم بنظافة الميت و عدم آفات صورية فيه، و هو كما ترى، فتلك العلل ليست معممة و لا مخصصة.

مع أن المراد فيها ليس النضح الظاهري و لا الآفات الظاهرية، فإنها ترتفع بتنظيف اليد المماسة و تطهيرها لا بالغسل الذي هو أمر تعبدي كما لا يخفى.

و قد يستدل لإثبات الحكم للقطعة المنفصلة من الميت بإطلاق مرسلة أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه

السلام قال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 137

«إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» «1» و لا شبهة في جبرها باتكال الأصحاب عليها قديما و حديثا، ضرورة أن الفتوى بمثل هذا الحكم التعبدي الذي هو مضمون المرسلة لا يمكن إلا بالاتكال عليها، فان ما في الفقه الرضوي «2» مخصوص بالميت، فلم يكن مستند الحكم في الحي، فالخدشة فيها من جهة القطع في غير محلها، كما أن إطلاقها غير بعيد سيما إذا قلنا بأن الرجل بكسر الراء و سكون المعجمة، كما لا يبعد، و لا يكون قوله عليه السلام: «فهي ميتة» موجبة لصرفها إلى الحي، فإن المراد بقوله ذلك تنزيل القطعة منزلة الميتة، و إلا فليس صدق الميتة على العضو حقيقيا.

و كيف كان لا يبعد الإطلاق، بل لو شك في الانصراف بعد شمول اللفظ و صدق الطبيعة عليهما يشكل رفع اليد عنه بمجرده، لأنه شك في انحراف الكلام عن ظاهره اللغوي، إلا أن يقال بأن إحراز عدم الانصراف من مقدمات الأخذ بالإطلاق، و هو ممنوع.

و أما ما قيل من أن الرواية و إن انصرفت إلى الحي لكن يلحق به الميت بالأولوية القطعية، ففيه أن ذلك موجه في إيجاب الغسل في مس القطعة المشتملة على العظم لا في عدم إيجاب مس القطعة المجردة، ففائدة القول بالإطلاق تظهر في ذلك الذي هو مخالف للاستصحاب.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) عن فقه الرضا عليه السلام: «و إن مسست شيئا من جسده أكله السبع فعليك الغسل إن كان فيما مسست

عظم، و ما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسه» راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 138

لكن لو قلنا بانصرافها إلى الحي و قد عرفت عدم الأولوية في الفقرة الثانية يلزم منه أن لا تكون مستند المشهور تلك الرواية، فاما أن يكون مستندهم الفقه الرضوي و هو بعيد، أو يكون الشهرة أو الإجماع المدعى في الخلاف بلا استناد إلى رواية، و هي أيضا حجة قاطعة في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد و البعيدة عن العقول.

نعم يحتمل في عبارة الخلاف أن يكون قوله (ع): «و كان فيها عظم» راجعا الى ما قطعت من الحي، حيث قال: «إن مس قطعة من ميت أو قطعة قطعت من حي و كان فيها عظم وجب عليه الغسل، و خالف جميع الفقهاء في ذلك» فتكون القطعة المبانة من الميت مطلقا مورد دعوى الإجماع، لكن عبارته في النهاية صريحة في أن القطعة المبانة من الميت أيضا مقيدة باشتمالها على العظم، و منها يرفع الاحتمال من عبارة الخلاف بإرجاع القيد الى كليهما كما فهم الأصحاب، و لم أجد في كلماتهم احتمال الرجوع الى الأخير.

فتحصل مما ذكر قوة التفصيل بين المشتمل على العظم و بين غيره في الحي و الميت، كما هو معقد إجماع الخلاف على ما استظهرناه، و في التذكرة نسب الخلاف الى الجمهور مع التنصيص باشتمال القطعة على العظم من آدمي حي أو ميت، و تمسك بالمرسلة ناسبا بنحو الجزم الى الصادق عليه السلام، و هو دليل على جبرها عنده، بل ثبوت الصدور لديه، و هو المشهور كما عن جامع المقاصد، و في الحدائق كذلك، و في

التذكرة عن الأكثر، و في روض الجنان هو الأشهر، و في الجواهر «على المشهور بين الأصحاب قديما و حديثا، بل لا أجد خلافا إلا من الإسكافي- فقيده في المبان من الحي بما بينه و بين سنة- و إلا من المصنف في المعتبر و السيد في المدارك فلم يوجباه» انتهى، و في طهارة شيخنا الأعظم دعوى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 139

معروفيته ممن عدا المحقق في المعتبر تارة، و مشهوريته و مخالفته للجمهور أخرى.

ثم ان الظاهر من الرواية وجوب الغسل بمس القطعة المشتملة على العظم، و أما مس عظم تلك القطعة فهي قاصرة عن إثبات وجوبه به، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» رجوع ضمير يمسه الى الموصول، فيصير المعنى إذا مس ما كان فيه عظم، و الظاهر منه اللحم الذي فيه عظم.

و يؤكده قوله عليه السلام: «فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» لأن الظاهر أن الموضوع في كليهما مس ما كان مشتملا عليه، و الحمل على اشتمال الكل على الجزء خلاف الظاهر جدا، بل لا يبعد أن يكون ذلك ظاهر كلمات الفقهاء كالشيخ و العلامة و غيرهما، فإنهم عبروا بمثل الرواية أو قريبا منها، فمس العظم من القطعة المبانة من الحي لا يوجب شيئا على الأقرب فضلا عن العظم المجرد منه، نعم العظم المبان من الميت يوجبه مجردا كان أولا؟ لما تقدم من الأصل، و لا شعار ما دلت على أن العظام يجب غسلها بعد ما يظهر من الروايات أن غسل المس بنحو من السراية، و لا فرق بين

الضرس و الظفر و غيرهما، و دعوى السيرة القطعية على عدم الغسل بملاقاتهما في الميت كما ترى، نعم هي في الحي في محلها.

ثم أن الأظهر اعتبار حصول البرد في القطعة المبانة من الحي أو الميت، لظهور الرواية في أن إيجاب مسها للغسل متفرع على التنزيل منزلة الميت، فهي باعتبار كونها ميتة في نظر الشارع يوجب مسها الغسل فلا محالة يعتبر فيها ما يعتبر في الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 140

و احتمال أن يكون التنزيل في النجاسة فقط باعتبار لفظ الميتة التي لا تطلق على الإنسان و باعتبار التفصيل بين ذي العظم و غيره غير وجيه لظهور الرواية في أن إيجاب المس للغسل متفرع على كونها ميتة، و هي قرينة على أن الميتة ها هنا مستعملة في الإنسان لو سلم عدم استعمالها فيه، مع أنه غير مسلم و إن لا يبعد انصرافها اليه عند الإطلاق، و بالجملة ظهور التفريع محكم على ذلك و على إشعار التفصيل بأن الحكم ليس للميت فالأظهر اعتبار البرودة، كما أن الأظهر اعتبار كونه قبل الغسل.

الثاني: لو وجد ميت أو جزء منه في مقبرة

فاما أن تكون المقبرة للمسلمين أو لغيرهم أو مشتركة بينهما أو غير معلومة الحال، فعلى أي تقدير إن الأصل يقتضي وجوب الغسل بمسه، و إن يقع الكلام في جريانه موضوعا أو حكما، توضيحه أنه إن قلنا بأن موضوع وجوبه بحسب الأدلة مس الميت قبل غسله بدعوى دلالة مكاتبة الصفار عليه إذ فيها: «إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «1» و مفهوم صحيحتي محمد بن مسلم و عبد اللّٰه بن سنان إذ قال عليه السلام فيهما: «لا بأس أن يمسه بعد الغسل و يقبّله» «2» لأن

مفهومه عرفا أن قبل الغسل فيه بأس، فلا يجري استصحاب عدم غسله لإثبات كون المس قبل الغسل، لكونه مثبتا، و أما الاستصحاب الحكمي التعليقي فلا مانع منه، و قد قلنا بجريانه في مثل المقام.

و إن قلنا بأن موضوعه هو الميت الذي لم يغسل كما هو الأقرب فلا مانع من الاستصحاب الموضوعي، سواء في الميت أو العضو منه، و إن قلنا بأن الغسل من واجبات الميت لا العضو لصحة أن يقال: إن

______________________________

(1) مرت في ص 120.

(2) مرتا في ص 123- 124.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 141

هذا العضو كان في زمان لم يغسل صاحبه و الآن كما كان، و الفرض أن عدم غسل الميت موضوع لوجوب الغسل بمس أعضائه شرعا، و بهذا يظهر جريانه فيما وجد في مقبرة الكفار، و كذا لو وجد الميت في المقبرة المشتركة أو مجهولة الحال، و أما إذا وجد عضو منه في المقبرة المشتركة فيدور الأمر بين كون هذا العضو من معلوم الاغتسال أو من معلوم العدم فحينئذ إن قلنا بأن الغسل صفة الميت لا العضو فيقع الإشكال في الأصل الموضوعي، نظير الإشكال في أصالة عدم التذكية في العضو المردد في أخذه من معلوم التذكية أو معلوم العدم، بأن الأصل غير جار بالنسبة إلى نفس الحيوانين لعدم الشك فرضا فيهما، و لا في العضو لعدم كون التذكية من صفاته، و لا أصل يثبت كونه من أحد القسمين.

و قد يقال بجريان الموضوعي فضلا عن الحكمي، فإن هذا العضو كان في زمان لم يغسل صاحبه فيستصحب. و بهذا التقرير يمكن إجراؤه في المثال المتقدم، فان هذا العضو لم يكن صاحبه مذكى في زمان، و الفرض ان عدم تذكية

الحيوان موجب شرعا لحرمة أجزائه و عدم صحة الصلاة فيها، و فيه إشكال لأن صاحب هذا العضو ليس مشكوكا فيه حتى يجري الاستصحاب فيه، بل الشك في أخذ هذا العضو من هذا المعلوم أو ذاك، و لا أصل محرز له.

و قد يقال بأن ما وجد في مقبرة المسلمين محكوم بالتغسيل، فإن الغلبة كافية في إحراز كونه منهم، و إحراز جريان يدهم عليه بمثل الدفن و الكفن، بل و إحراز كونه مغسلا، سيما مع شدة اهتمام المسلمين في أمر موتاهم و تجهيزها و خلو مقابرهم من سائر الأموات، بل و شدة اهتمام سائر الطوائف في اختصاص مقابرهم بموتاهم و عدم التدفين في مقابر غيرهم، و مثل هذه الغلبة حجة، بل مع إحراز جريان يد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 142

المسلمين عليه من تكفينه و تدفينه حكم بطهارته و عدم الغسل بمسه، لكون تصرفهم من قبيل تصرف ذي اليد فيما يتعلق به تصرفا مشروطا بالطهارة فإنه كإخباره بالطهارة حجة شرعية حاكمة على الاستصحاب.

و فيه أن مجرد الغلبة أو بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لا يوجب الحجية إلا مع انضمام عدم ردع من الشارع الكاشف عن رضائه به، و هو مفقود في المقام، لعدم إحراز وجوده في زمان الشارع الصادع صلّى اللّٰه عليه و آله أو الأئمة الهدى عليهم السلام و عمل العقلاء على طبقه و لم يردع عنه الشارع.

و إن شئت قلت: إمضاء بناء العقلاء ليس بدليل لفظي يتمسك بإطلاقه، بل يحرز لأجل السكوت عما يعمل العقلاء بمرئي و منظر من الشارع، فهو كاشف قطعي عن الرضا به كالعمل بخبر الثقة و اليد و أصالة الصحة، و أما في مثل

المقام الذي يكون نادر الاتفاق و لم يعلم تحققه في زمانه و ارتضائه به فلا يمكن الحكم بحجية الغلبة، أو بناء العقلاء، لعدم الدليل على الإمضاء نعم مع حصول الاطمئنان الشخصي لا كلام فيه، لأنه علم عادي و هو غاية للاستصحاب.

و منه يظهر ما في دعوى السيرة لعدم إحراز اتصالها بزمنهم على فرض تسليم تحققها و عدم القول بأن عدم اعتنائهم لحصول العلم و لو عاديا على اغتسال ما وجد.

و أما دعوى أن تصرف المسلم فيما يكون مترتبا على الغسل كتصرف ذي اليد و هو بمنزلة إخباره ففيه- بعد تسليم كون تصرفه كتصرف ذي اليد و أن تصرف ذي اليد مطلقا حجة- أنه لا يسلم كونه كإخباره بالطهارة، فإن غاية ما في الباب أن تصرفه في الدفن كان موافقا لوظيفته و هو لا يكفي في دفع احتمال كون ترك الغسل و التيمم لعذر، فلا بد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 143

في دفعه من التشبث بالغلبة و بناء العقلاء على عدم الاعتناء، و قد عرفت ما فيه، فالأحوط لو لم يكن أقوى وجوب الغسل بمسه إلا مع الاطمئنان كما هو حاصل غالبا.

الثالث: السقط بعد ولوج الروح

كغيره يجب في مسه الغسل، لصدق الميت عليه بلا إشكال، كما لا إشكال في عدم الوجوب قبله، لعدم الصدق، فان الميت ما زال عنه الروح لا ما لم يلج فيه، و لو مع شأنيته، و مقتضى الأصل طهارته، و إن حكي عن العلامة التصريح بوجوب غسل اليد منه، و عن النراقي عدم الخلاف فيه، لكن إثبات الحكم به مشكل بل ممنوع.

و دعوى ان نجاسته لكونه قطعة مبانة من الحي كما ترى، لأنه ليس قطعة من أمه، و على فرضه

لا يكون مما تحله الحياة، و دعوى حلول روح الأم فيه قبل حلول روحه و بحلوله زال روحها مجازفة مقطوعة الخلاف، و لا أقل من الشك فيه، و الأصل معه الطهارة.

كما ان دعوى استفادة نجاسته من قوله عليه السلام: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «1» بدعوى أن الظاهر منه قبول الجنين للتذكية و أن ما عدا المذكى ميتة شرعا، غير وجيهة، فإن قوله ذلك لا يثبت إلا أن تذكية ما يحتاج إلى التذكية بتذكية أمة، لا أن لكل جنين تذكية حتى يقال: إذا لم يذك يكون ميتة، و بالجملة لا تدل الرواية على أن لكل جنين تذكية، بل تدل على أن ما فرض قبوله لها تكون تذكيته بتذكية أمه، و بعبارة أخرى إن الموضوع المفروض ما يمكن أن تقع عليه التذكية لا مطلق الجنين.

الخامس من النجاسات: الدم،

و نجاسته في الجملة واضحة، بل

______________________________

(1) مرت في ص 48.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 144

يظهر منهم أنها إجماعية بين المسلمين، بل قيل إنها من ضروريات الدين، لكن لما كان بعض مصاديقه محل الشبهة كالعلقة و دم البيضة و المخلوق آية و المصنوع بتركيب أجزائه لو فرض اصطناعه إلى غير ذلك لا بد من النظر في الأدلة، حتى يعلم أن الأصل في الدم النجاسة، و الاستثناء يحتاج إلى دليل أو العكس و إلحاق المورد المشكوك فيه يحتاج إليه.

و قد استدل على نجاسته مطلقا بالآية الكريمة «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» «1» بناء على كون الرجس بمعنى النجس و عود الضمير إلى جميع ما تقدم، و فيه تأمل حتى بعد

تسليم الأمرين كما لا يبعد، فان الرجس على ما نص عليه أهل اللغة هو القذر، و هو عرفا بمعنى النجس و إن قيل إنه أعم، و على فرض أعميته لا يبعد دعوى أنه في الآية بمعناه، كما حكي عن شيخ الطائفة في التهذيب:

«أن الرجس هو النجس بلا خلاف» و قيل ظاهره أنه لا خلاف بين علمائنا في أنه في الآية بمعنى النجس.

و لا يبعد استظهاره من الآية بأن يقال: إن ما قيل في معنى الرجس لا يناسب في الآية إلا القذارة بالمعنى الأعم، أي ما يقابل النظافة، و لا ريب في أن لحم الخنزير الذي هو المتيقن في عود الضمير إليه لا يكون غير نظيف عرفا، و إنما يستقذره المسلمون للتلقين الحاصل لهم تبعا للشرع، و حكمه بنجاسته و حرمته لا لقذارة فيه عند العرف و العقلاء، و ليس استقذارهم منه إلا كاستقذارهم من الكافر و الخمر و الكلب، فلا مجال في حمل الآية على القذارة العرفية المقابلة للنظافة.

______________________________

(1) سورة الانعام: 6- الآية 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 145

و مع عدم إرادة ذلك يتعين الحمل على النجاسة بالمعنى المعهود شرعا إذ لا يناسب شي ء آخر مما ذكر في معناه يصح الانتساب إليه، كالقذارة المعنوية مع بعدها عن الأذهان، و يؤيد ذلك ما ورد في الكلب «إنه رجس نجس» «1» و في الخمر «لا تصل فيه فإنه رجس» «2» بل لا يبعد أن يكون الرجس بمعنى النجس و القذر، و إطلاقه على مثل الأوثان و الميسر و الأنصاب و الأزلام بنحو من التوسعة، بل لا يبعد أن يكون الشرع و العرف موافقين في مفهومه، و إن ألحق الشارع بعض ما ليس

بقذر عرفا به، و استثنى بعض ما يستقذره العرف عنه.

و كيف كان دعوى ظهور الرجس في النجس المعهود و لو بواسطة القرائن الداخلية و الخارجية غير مجازفة، كما لا يبعد عود الضمير إلى جميع المذكورات بواسطة القرينة، بأن يقال إن الظاهر من الآية أن الظاهر تعليل حرمة الأكل بما ذكر، و هو لا يناسب قصره على الأخير.

و دعوى عدم احتياج الأولين إلى التعليل لاستقذار الناس منهما دون الأخير كما ترى، ضرورة أن النهي عن أكلهما لردع الناس عنه، و مع استقذارهم لا يحتاج اليه، سيما إذا كان المراد بالميتة غير المذكى لا ما مات حتف أنفه، فإنه ليس بمستقذر عندهم رأسا، و في المجمع إرجاع الضمير إلى جميع المذكورات بلا احتمال خلاف.

لكن مع ذلك استفادة الإطلاق من الآية مشكلة بعد كونها بصدد بيان حرمة أكل المذكورات، و ذلك لأن الدم مطلقا و بجميع أنواعه ليس مأكولا أو متعارف الأكل، فالمستفاد منها بعد تسليم ما تقدم هو نجاسة الدم المطعوم لا مطلقه،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 146

بل لو أغمض عن ذلك يمكن منع الإطلاق في المستثنى، بدعوى عدم كونها في مقام بيان حكمه، بل الظاهر كونها بصدد بيان العقد السلبي و أنه لم يوجد غير المذكورات محرم، لا بصدد بيان حرمة المذكورات حتى يؤخذ بإطلاقها في المشتبهات، إلا أن يقال: إن تقييد الدم بالمسفوح و تعليل المذكورات بقوله (ع): «فإنه رجس» دليل على كونها بصدد بيان المستثنى و عنايتها بحكمه أيضا، فيؤخذ بإطلاقها، و فيه تأمل. لأن القيد على فرض قيديته لعله لأجل تعارف أكل

المسفوح، و يحتمل أن يكون التعليل لبيان أن حرمتها ليست إلا لنجاستها لا لعناوينها، تأمل.

و أما الروايات فعلى كثرتها لم أجد فيها ما يمكن الاتكال على إطلاقها إلا النبوي «يغسل الثوب من المني و الدم و البول» «1» و رواية دعائم

______________________________

(1) قال الشهيد في الذكرى: «الثالث و الرابع المني و الدم من كل ذي نفس سائلة و ان كان مائيا كالتمساح، لقول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: انما يغسل الثوب من المني و الدم و البول» و قال المحقق في المعتبر حول نجاسة الدم (ص 116) ما هذا لفظه: «الدم كله نجس عدا دم ما لا نفس له سائلة- إلى أن قال-: لنا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

انما يغسل الثوب من البول و الغائط و المني و الدم، و انما للحصر، و لم يرد حصر الجواز و لا الاستحباب، فتعين حصر الوجوب، و كأنه قال:

لا يجب غسل الثوب إلا من هذه» و قال في موضع آخر منه (ص 119) في بيان عدم العفو عما بلغ الدرهم: «فلأن مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل النجاسة و كثيرها لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: انما يغسل الثوب من البول و الغائط و المني و الدم، و هذا اللفظ بإطلاقه يقتضي وجوب إزالة الدم كيف كان، فيترك منه ما وقع الاتفاق على العفو عنه و هو ما دون الدرهم» و عن العلامة في المنتهى في مسائل نجاسة المني و الدم: «و ما رواه الجمهور عن عمار بن ياسر ان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال له حين رآه يغسل ثوبه من النجاسة: ما نخامتك و دموع عينك و الماء الذي في ركوتك إلا سواء، انما

يغسل الثوب من خمس: البول و الغائط و الدم و القي ء و المني، و روى ابن عباس ان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: سبعة يغسل الثوب منها: البول و المني ..» و قريب منهما ما أورده الشيخ في الخلاف (ص 69) و نقله في مستدرك الوسائل الباب 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2، و لكنه ما ذكر لفظ «القي ء و الدم» و أورده في جمع الجوامع للسيوطي- ج 5 ص 83- الحديث 1757 مع أدنى تغيير في العبارة، و كذلك في كتاب بدائع الصنائع للكرماني- ج 1 ص 60- و بما نقلناه يظهر وجه ما قاله صاحب الجواهر من أن الحديث مروي في كتب الفروع لأصحابنا و ان لم أجده من طرقنا، و ظني أنه عامي، بل ظاهر المنتهى أو صريحه ذلك.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 147

الإسلام عن الباقر و الصادق عليهما السلام «أنهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات» «1» و هما ضعيفان سندا، إذ لم يحرز اتكال القوم عليهما، بل الظاهر عدم استنادهم إليهما، و ربما يحتمل في الثانية كونها بصدد بيان كيفية غسل الدم لا أصله، و هو كما ترى سيما مع اختلاف النجاسات في كيفية التطهير.

و أما سائر الروايات فلا إطلاق فيها، لكونها بصدد بيان أحكام أخر كموثقة عمار بن موسى عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام، و فيها: «فقال:

كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا أن ترى في منقاره دما،

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 148

فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب»

«1» فإنها بصدد بيان سؤر الطيور لا نجاسة الدم، فكأنه قال: سؤر الطير لا بأس به إلا أن يتنجس بالدم.

و نظيرها رواية زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

بئر قطرت فيه قطرة دم أو خمر؟ قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد، ينزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «2» فإنها في مقام بيان حكم البئر لا الدم، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في بيان أحكام الصلاة و الماء و المكاسب المحرمة و آنية أهل الكتاب و غيرها مما لا مجال لتوهم الإطلاق فيها.

و أما رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن عليا عليه السلام لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل: يعني دم السمك» «3» فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى ما يذكى لأنه بصدد بيان نفي البأس عما لم يذك، لا إثبات البأس فيما يذكى.

ثم إن قلنا بعدم الإطلاق في الروايات فكما لا يمكن التمسك بها لإثبات نجاسة مطلق الدم لا يمكن التمسك بها لإثبات نجاسة دم ماله نفس سائلة، فلو شك في نجاسته ما دام كونه في الباطن، أو في نجاسة العلقة إن قلنا بأنها لذي النفس، أو في بعض أقسام الدم المتخلف، كالمتخلف في القلب و الكبد، أو في العضو المحرم، أو المتخلف في الحيوان الغير المأكول لا تصلح تلك الروايات لرفع الشك فيها.

و دعوى أن الناظر في تلك الروايات الكثيرة في الأبواب المختلفة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 149

لا يشك في أن نجاسة الدم مطلقا كانت معهودة مفروضة التحقق لدى السائل و المسئول عنه، كما تشهد به صحيحة أبي بصير قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السلام و هو يصلي فقال لي قائدي: إن في ثوبه دما فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما، فقال: إن بي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» «1» في غير محلها لأن المسلم من معهوديتها انما هو بنحو الإجمال لا الإطلاق، كما هو واضح. و أما الرواية فلا تدل على معهوديتها مطلقا، فان الدم في ثوبه لم يكن إلا من دمه الشريف عادة أو نظيره، و لم يحتمل الناظر غير ذلك، كدم العلقة أو المخلوق آية.

كدعوى إلغاء الخصوصية عرفا من الروايات الواردة في دم الرعاف و حكة الجلد و غيرهما، فإن إلغاء الخصوصية انما هو فيما لا تحتمل خصوصية عرفا، و أما مع احتمال أن للدم الظاهر أو في الأجزاء الأصلية خصوصية فلا مجال لإلغائها، مع إمكان أن يقال: إن إلغاء الخصوصية انما هو فيما إذا كانت الروايات بصدد بيان نجاسة الدم، و أما بعد مفروضية نجاسته و السؤال عن حال الابتلاء به فلا مجال لإلغائها.

فتحصل مما ذكرناه أن الأصل في الدم الطهارة إلا أن يدل دليل على نجاسته.

و الظاهر أن دم ماله نفس سائلة مع خروجه إلى الظاهر مما لا كلام و لا إشكال في نجاسته، و قد ادعي الإجماع في الدم من ذي النفس السائلة في محكي المختلف و الذكرى و كشف الالتباس و شرح الفاضل، و عن الغنية و التذكرة لا خلاف فيه، و عن المنتهى و نهاية الإحكام و المعتبر

______________________________

(1)

الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 150

و المدارك و الدلائل هو مذهب أصحابنا مع استثناء ابن الجنيد في الثلاثة الأخيرة، و نقل عنه: الدماء كلها تنجس الثوب بحلولها فيه، و أغلظها نجاسة دم الحيض.

لكن يظهر من جماعة التقييد بالمسفوح، فعن الحلي الاستدلال على طهارة دم السمك و نحوه بأنه ليس بمسفوح، و عنه أيضا: الدم الطاهر هو دم السمك و البراغيث و ما ليس بمسفوح، و قد نسب العلامة في المنتهى التقييد به إلى علمائنا قال: «قال علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة- أي يكون خارجا بدفع من عرق- نجس، و هو مذهب علماء الإسلام، لقوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ إلخ- و قال-:

دم السمك طاهر و هو مذهب علمائنا- الى أن قال-: و قوله تعالى:

«دَماً مَسْفُوحاً» و دم السمك ليس بمسفوح» و الظاهر أن كل من قيد الدم به انما هو بتبع الآية الكريمة، كما ترى تمسك العلامة بها، فالأولى عطف الكلام الى مفادها.

فنقول: إن في بادئ النظر و ان احتمل أن يكون التوصيف بالمسفوح للاحتراز عما لا يخرج من العرق صبا و اهراقا بدفع في مقابل الرشح كدم السمك و غيره مما لا نفس سائلة له، أو للاحتراز عن الدم المتخلف في الذبيحة، أو للاحتراز عن الدم في الباطن مقابل الظاهر، أو للاحتراز عن جميع المذكورات، لكن الأقرب عدم قيدية الوصف، لأن ما هو المتعارف أكله هو الدم المسفوح أي الدم المأخوذ من الذبائح دون سائر الدماء، و معه لا يصلح القيد للاحتراز، مضافا إلى أن الاستثناء لما كان من حرمة الأكل لا يراد بالقيد الاحتراز عن المذكورات و إثبات

الحلية لسائر أقسام الدم المقابل للمسفوح، و لا أظن من أحد احتمال حلية دم خرج من عرق حيوان بلا صب و دفع تمسكا بالآية الكريمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 151

نعم لو قيل بأن المراد بغير المسفوح هو ما اختلط باللحم مما لا يتعارف الاحتراز عنه أو لا يمكن لكان له وجه، لكنه خلاف ظاهر القيد، فان الظاهر منه كما مرّ في كلام العلامة هو ما خرج بدفع من العرق.

و الانصاف أن فهم القيدية و احترازية الوصف مشكل، و معه لا يجوز التمسك لطهارة ما في الباطن أو المتخلف في الذبيحة، و إن لا تدل على نجاستهما أيضا، لأن عدم احترازية القيد لا يلازم الإطلاق و بعبارة أخرى ان المدعى أن الآية حرمت ما يتعارف بينهم أكله، أي الدم المسفوح، و التقييد للمتعارف للاحتراز، فتكون ساكتة عن حكم غيره إثباتا و نفيا.

هذا كله مع عدم المفهوم للوصف، فلا تدل على حلية غير محل الوصف فضلا عن طهارته، فالاستدلال لطهارة دم السمك أو المتخلف بالآية في غير محله، سيما مع القول بحرمة دمهما إذا لم يكن تبعا للحم، و بهذا كله ظهر عدم صلاحية القيد في الآية لتقييد قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ «1» و للمسألة محل آخر.

ثم أن المتفاهم أو المتيقن من معاقد الإجماعات نجاسة الدم الخارج عن حيوان له نفس سائلة، و التقييد بالمسفوح في كلام الحلي و العلامة و غيرهما ليس لإخراج مثل دم الرعاف و الدماميل بالضرورة، بل لإخراج المتخلف و ما لا نفس له، ضرورة نجاسة المذكورات نصا و فتوى، فمثل الدم المخلوق آية أو الصناعي فرضا ليس مشمولا لها، كما لا تشمل الدم الذي

يوجد في البيضة، فإنه ليس دم الحيوان، و الأصل فيه الطهارة.

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية: 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 152

و دعوى غلبة الظن بمعهودية نجاسة مطلق الدم في الشريعة عهدتها على مدعيها، مع أن الظن لا يدفع الأصل إلا أن يكون حجة شرعية، كدعوى مغروسية نجاسة مثله في أذهان المتشرعة بحيث أمكن دعوى تلقيه من الشارع الأقدس، فإنها بلا بينة.

و كذا العلقة غير معلومة الشمول للإجماع لأن الظاهر من دم الحيوان غيرها فإنها نطفة تبدلت بالعلقة فلا تكون دم الأم عرفا، و لا دم الحيوان الذي تنقلب اليه بعد حين، لكن الشيخ ادعى في الخلاف إجماع الفرقة على نجاستها، و استدل لها أيضا بإطلاق الأدلة، و يظهر من المحقق و العلامة و محكي غيرهما التمسك لها بأنها دم أو دم ذي نفس و من ذلك ربما توهن دعوى إجماع الخلاف، و لعل مراد القاضي في محكي المهذب من أنه الذي يقتضيه المذهب ظاهر الأدلة، لكن مع ذلك الأحوط نجاستها بل لا تخلو من ترجيح.

و أما العلقة في البيضة فغير معلومة الشمول لإجماع الخلاف، بل الظاهر عدم إطلاق العلقة عليها حقيقة، و لا أقل من انصرافها عنها، فالأقوى طهارتها.

كما أن الحكم بطهارة الدم المتخلف لا يحتاج إلى إقامة برهان بعد قصور الأدلة اللفظية عن إثبات نجاسة مطلق دم ذي النفس، و عدم دليل آخر على نجاسته، و إن قام الدليل على طهارته، كما عن المختلف و كنز العرفان و الحدائق و آيات الجواد دعوى الإجماع عليها و إن كان في معقد بعضها قيد، و عن المجلسي و صاحب كشف اللثام و الذخيرة و الكفاية عدم الخلاف فيها، بل هو الظاهر

من الجواهر أيضا، و عن أطعمة المسالك أن ظاهرهم الاتفاق عليه.

نعم استثنى بعضهم ما في الجزء المحرم كالطحال، بزعم أن حرمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 153

أكله ملازمة لنجاسته و هو كما ترى، أو بزعم إطلاق أدلة نجاسة الدم و قصور دليل الإخراج، و قد مر ما فيه.

هذا مع استقرار السيرة على عدم الاجتناب عنه و عن اللحم الملاقي له، من غير فرق بين دم القلب و الكبد و الطحال و غيرها، و بين الدم الظاهر الخارج منها و المخلوط بها، فما عن بعضهم من احتمال الفرق أو اختياره في غير محله، و لو نوقش في شمول معقد الإجماع لبعض المذكورات أو ثبوت السيرة في بعض فلا مجال للمناقشة في الأصل بعد ما تقدم من فقد الإطلاق، مع أن المناقشة في السيرة لعلها في غير محلها كما أن مقتضى الأصل طهارة المتخلف في الحيوان المحرم.

لكن عن البحار و الذخيرة و الكفاية و شرح الأستاذ أن ظاهر الأصحاب الحكم بنجاسته في غير المأكول، و ثبوت الحكم بمثله مشكل، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه.

كما أن طهارة دم ما لا نفس سائلة له لا تحتاج الى تجشم استدلال بعد ما عرفت، و ان تكرر نقل الإجماع عليها من السيد و الشيخ و ابن زهرة و الحلي و المحقق و العلامة و الشهيدين و غيرهم.

و تشهد لبعضها السيرة المستمرة، و رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن عليا عليه السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك» «1» و كون التفسير من أبي عبد اللّٰه عليه السلام غير معلوم، فتدل على

عدم البأس لمطلق ما لم يذك، تأمل. بل لا يبعد صحة الاستدلال ببعض الروايات

______________________________

(1) مرت في ص 148.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 154

الواردة في ماء البئر و المياه، كموثقتي عمار «1» و حفص بن غياث «2» فما يظهر من بعضهم كالمحكي عن المبسوط و الجمل و المراسم و الوسيلة مما يوهم النجاسة و إن عفي عنه على فرض ثبوته لعله لزعم قصور الأدلة عن إثبات طهارتها بعد إطلاق أدلة النجاسة، لأن نفي البأس أعم من الطهارة، فلا يدل إلا على العفو، و هو مقتضى الجمع بين الأدلة و الاقتصار على تقييد المطلقات و تخصيص العمومات، و فيه- مضافا إلى أن المتفاهم من نفي البأس في المقام الطهارة- لا إطلاق و لا عموم في الأدلة كما مر مرارا حتى يأتي فيها ما ذكر.

فرع: المشكوك في كونه دما أو غيره أو كونه مما له نفس أو غيره أو من الدم المتخلف أو غيره محكوم بالطهارة، للأصل بعد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة الدم مطلقا، فلا مجال للتشبث بترك الاستفصال في الروايات الكثيرة الواردة في الدم، كقوله: «بئر قطرت فيه قطرة دم» و قوله عليه السلام: «فإن رأيت في منقاره دما». و قوله عليه السلام: «إن رأيت في ثوبك دما». و قوله: «فأصاب ثوبا نصفه دم» و غيرها. ضرورة أن ترك الاستفصال دليل العموم أو الإطلاق فيما إذا كان المتكلم في مقام بيان الحكم، و تلك الروايات في مقام

______________________________

(1) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه، قال: كل

ما ليس له دم فلا بأس به» راجع الوسائل- الباب- 10 من أبواب الأسئار- الحديث 1.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 154

(2) عنه عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» راجع الوسائل- الباب- 10- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 155

بيان أحكام أخر.

و بعبارة أخرى: أنه بعد فرض نجاسة قسم من الدم سأل فيها عن الابتلاء بما هو نجس، و في مثله لا معنى للاستفصال، و لا وجه لتوهم العموم مع تركه، و هذا الاشكال مشترك الورود في جميع الروايات و يختص بعضها بإشكال أو إشكالات لا مجال لعدها بعد ضعف أصل الدعوى ثم على فرض تسليم كون الأدلة أو بعضها في مقام البيان لكن لا مجال لتوهم العموم اللفظي فيها لفقدانه جزما، فلا يكون في المقام إلا الإطلاق المتوهم، و التمسك بالشبهة الموردية في المطلقات المتقيدة و لو بتقييد منفصل أضعف جدا من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، لقرب احتمال صيرورة المطلق بعد التقييد بمنزلة المقيد، فتكون الشبهة من قبيل الشبهة الموردية في المقيد المتصل، بخلاف تخصيص العام بالمنفصل فإنه لا يوجب حصول عنوان أو قيد فيه، و إن توهمه بعضهم قياسا بالمطلق و المقيد، و قد فرغنا عن تهجينه في محله.

و كيف كان لا عموم في المقام حتى يأتي فيه ما ذكر في بيان جواز التمسك به في الشبهة المصداقية للمخصص من تمامية الحجة بالنسبة إلى الفرد المشمول للعام، و عدم حجة على دفعها، لكون الفرد من

الشبهة المصداقية لنفس المخصص، فالعام حجة بالنسبة إلى الفرد، و الخاص ليس بحجة.

و نحتاج إلى الجواب عنه بأن حجية العام تتوقف على مقدمات:

منها أصالة الجد، و بعد خروج أفراد من العام يعلم عدم تطابق الجد و الاستعمال بالنسبة إلى الأفراد الواقعية من المخصص، و تطابقهما بالنسبة إلى غير مورد التخصيص و المورد المشتبه من الشبهة المصداقية، لأصالة التطابق، و ليس بناء العقلاء على جريانها في مورده كما لا يخفى،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 156

أو نحتاج الى ما أتعب به شيخنا الأعظم نفسه الشريفة من التصدي للجواب عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

و ربما يقال في الدم المتخلف في الذبيحة إذا شك في أنه من القسم الطاهر أو النجس: بأن الظاهر الحكم بنجاسته عملا بالاستصحاب أو بالعام مع لبيّة المخصص، و يحتمل التفصيل بين ما إذا كان الشك من جهة احتمال رد النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الرد و بين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علو فيحكم بالنجاسة عملا بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف.

و فيه أن الاستصحاب في الدم غير جار، لعدم العلم بنجاسته في الباطن، لقصور الأدلة عن إثباتها «1» و التمسك بالعام في المخصص اللبي فرع وجوده، و هو مفقود، مع أن في التمسك به مع لبيته إذا

______________________________

(1) و يمكن أن يفصل في المقام في جريان استصحاب النجاسة و عدمه من حيث الموجب لنجاسة الدم المتبقي في الذبيحة إذا كان رأسها عاليا بأن يقال: إن قلنا إن الموجب لنجاسته عدم خروجه منها بمقدار المتعارف لا يجري استصحاب نجاسته فيما إذا شك في أن الدم المتخلف من القسم الطاهر أو النجس لعدم العلم بنجاسته في الباطن لقصور

الأدلة عن إثباتها كما أفاده الأستاذ دام ظله، و اما إذا قلنا بأن الموجب لها هو الذبح غير أن خروجه بمقدار المتعارف سبب لطهارة المتخلف فيها، بدعوى أن الدم في الباطن طاهر ما دام جاريا في الدورة الدموية و أما عند الذبح فحاله كحال المتبقي في الذبيحة إذا لم يخرج بمقدار المتعارف، و عليه يجري استصحاب النجاسة في المقام لأنه عند الذبح محكوم بالنجاسة، فعند الشك في حصول سبب الطهارة نستصحب نجاسته المتيقن سابقا، تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 157

كان الإخراج بعنوان واحد إشكالا، بل منعا.

و أما أصالة عدم رد النفس لا تثبت كون هذا متخلفا، لأن خروج الدم بالمقدار المتعارف لازم عقلي أو عادي لعدم رد النفس، و كون الدم متخلفا لازم لهذا اللازم، كما أن أصالة عدم خروج المقدار المتعارف لا تثبت كون هذا الدم نجسا، لأن الدم النجس هو الدم الغير المتخلف أو الدم المسفوح أو نحوهما، و الأصل المتقدم لا يثبت تلك العناوين، بل أصالة عدم خروج الدم المتعارف لا تثبت لمصداق الدم حكما، نظير ما إذا علمنا بأن واحدا من الشخصين الموجودين في البيت عالم فخرج أحدهما منه. فلا إشكال في جريان استصحاب بقاء العالم فيه، لكن لا يثبت به أن الموجود في البيت عالم حتى يترتب عليه أثره.

ثم لو حاولنا جريان أصالة عدم رد النفس لإثبات طهارة بقية الدم لجرى أصل عدم كون رأسه على علو لإثبات طهارته «1» و هو حاكم على أصالة عدم خروج الدم المتعارف. لكن التحقيق عدم جريان واحد من تلك الأصول. و الحكم بطهارة المشكوك فيه لأصالة الطهارة.

السادس و السابع: الكلب و الخنزير

و نجاستهما في الجملة واضحة لا تحتاج الى تجشم استدلال، و

إن ذهب الى طهارتهما مالك و الزهري و داود على ما حكى عنهم العلامة في المنتهى، و نقل في التذكرة عن أبي حنيفة القول بطهارة الكلب دون الخنزير، و نسب الشيخ في الخلاف الى أبي حنيفة القول بنجاسة الكلب حكما لا عينا، و استدل على طهارته

______________________________

(1) هذا إذا كان المراد بردّ النفس استرجاع الدم الى الجوف قبل أن يخرج الى الخارج أى أن الردّ يوجب عدم الخروج و أما إذا كان المراد بالردّ ردّ ما خرج الى الجوف ففي المقام أصل آخر، و هو أصالة عدم رجوع الدم الخارج الى الجوف.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 158

بقوله تعالى فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ «1» و فيه ما لا يخفى من الوهن، ضرورة أنها في مقام بيان حليته و تذكيته، و لا إطلاق فيها من جهة أخرى، و لهذا لا يجوز التمسك بها لجواز أكله من غير تغسيل عن دمه الخارج عن موضع عض الكلب، و هو واضح.

و تدل على نجاسته مضافا إلى الإجماع المستفيض روايات مستفيضة كقوله عليه السلام في صحيحة البقباق «رجس نجس لا يتوضأ بفضله» «2» و كصحيحة ابن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه» «3» و في رواية معاوية بن شريح: «لا و اللّٰه إنه نجس، لا و اللّٰه إنه نجس» «4» الى غير ذلك.

و لا فرق بين ما تحله الحياة و غيره، فان الكلب عبارة عن الموجود الخارجي بجميع أجزائه من الشعر و الظفر و غيرهما، فما عن السيد من إنكار أن ما لا تحله الحياة من جملة الحي و ان كان متصلا

به، ان كان مراده أنه ليس من جملته بما هو حي أي لا تحله الحياة فهو معلوم لا كلام فيه، لكن لا دليل على تخصيص النجاسة بما تحله الحياة في الكلب أو الخنزير، و إن أراد أنه ليس من أجزائه مطلقا فهو غير وجيه، فكيف يمكن نفي جزئية العظم و الظفر بل الشعر، فان الكلب في الخارج كلب بجميع أجزائه.

بل المتيقن من قوله: «الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل»

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية: 4.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 159

و قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب السلوقي فقال: إذا مسسته فاغسل يدك» «1» و نحوهما ملاقاة شعره، لأنه نوعي غالبي، و لو نوقش فيه فلا أقل من الإطلاق، بل هو الفرد الشائع.

و كيف يمكن أن يقال في مثل قول علي عليه السلام على ما في حديث أربعمائة: «تنزهوا عن فرب الكلاب، فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافا فلينضح ثوبه بالماء» «2» لا يراد منه إصابة ظاهره المحفوف بالشعر، و لا يلاقي الملاقي نوعا إلى شعره.

نعم يمكن المناقشة في دلالة مثل صحيحة أبي العباس قال:

«قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و ان أصابه جافا فأصبّ عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟

قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أمر بقتله» «3» لاحتمال أن يكون المراد رطوبة الكلب مثل لعابه، لا ملاقاته رطبا، و

ان لا يبعد الاحتمال الثاني بقرينة قوله عليه السلام: «أصابه جافا» تأمل.

و كيف كان لا شبهة في نجاسة شعره و سائر ما لا تحله الحياة، و دعوى السيد الإجماع على طهارته موهونة، لعدم الموافق له ظاهرا فضلا عن الإجماع عليها، نعم ربما يمكن المناقشة في استفادة نجاسة لعابه و سائر رطوباته ذاتا من الروايات، بل من الإجماع أيضا، بدعوى أن الرطوبات خارجة عن اسمه، فكما أن خرءه لا يدخل فيه لأنه منفصل عنه و إن كان في جوفه كذلك سائر رطوباته، فما دلت على نجاسته عينا لا تدل على نجاستها ذاتا و عينا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 160

بل لما كانت الرطوبات ملاقية له لا يمكن استفادة نجاستها الذاتية من دليل ناطق بنجاستها، فإنها أعم من العينية، لكن الظاهر أنه شبهة في مقابل المسلم بل البديهي.

بل يمكن دعوى دخول الرطوبات في إطلاقه عرفا كدخول دمه فيه إن لم يدخل فيه خرؤه. و مقتضى إطلاق الأدلة و خصوص صحيحة ابن مسلم المتقدمة في الكلب السلوقي نجاسة كلب الصيد كسائر الكلاب فما عن ظاهر الصدوق من طهارته ضعيف، و ربما كان منشأه دعوى عدم صدق الكلب عليه أو انصراف الأدلة عنه، أو إطلاق قوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ و الجميع كما ترى، هذا مع عدم ورود شي ء منها على الصحيحة.

و بهذا كله ظهر لزوم التصرف في صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألت عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه و السنور أو شرب منه جمل أو

دابة أو غير ذلك، أ يتوضأ منه أو يغتسل؟

قال: نعم إلا أن تجد غيره فتنزه عنه» «1» بتقييد إطلاقها بما فصل في سؤر الكلب بين الماء الكثير و القليل، هذا كله في الكلب.

و أما الخنزير فيدل على نجاسته مضافا الى الآية الكريمة و الإجماعات المتقدمة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، و إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه، إلا أن يكون فيه أثر فيغسله، قال: و سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 161

قال: يغسل سبع مرات» «1».

فإنها ظاهرة في معهودية نجاسته، و انما سأل بعدها عن حكم آخر، فحينئذ يكون المراد من التفصيل بين ما إذا كان له أثر و لم يكن:

التفصيل مطلقا سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، مع أن ذيلها أيضا دال على نجاسته، فالأمر بالمضي مع دخوله في الصلاة في صورة الشبهة لا العلم بوجود الأثر، مضافا إلى أن الأمر بالمضي لا يدل على طهارته، بل دليل على صحة الصلاة مع النجس إذا تذكر في الأثناء، كما هو واضح و حمل الغسل على الاستحباب بقرينة الأمر بالمضي بعيد جدا.

و رواية ابن رئاب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الشطرنج قال:

«المقلب لها كالمقلب لحم الخنزير قال: قلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟

قال يغسل يده» «2» و في دلالتها تأمل، و رواية زرارة الواردة في البئر «3» و

تدل على نجاسة شعره مصححة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قلت له: إن رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير، قال:

إذا فرغ فليغسل يده» «4» و رواية برد الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شعر الخنزير يعمل به- إلى أن قال-: فاعمل به، و اغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة، قلت: و وضوء؟ قال:

لا، اغسل يدك كما تمس الكلب» «5».

و لعل قوله: «و وضوء» بالرفع: أي و وضوء عليّ إذا مسسته

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) راجع الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(4) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

(5) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 162

أو وضوء في مسه؟ قال: لا، و لكن اغسل يدك كما تمس الكلب، فكما لا وضوء معه فكذا مع مس الخنزير. و قريب منها روايته الأخرى «1» و رواية سليمان الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شعر الخنزير يخرز به قال: لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلي» «2».

فلا إشكال في نجاسته و نجاسة ما لا تحل الحياة منه، و يأتي في لعابه و رطوباته ما مرّ في الكلب، و الظاهر نجاستها ذاتا كما في الكلب.

و عن النهاية و التحرير و التذكرة و الذكرى طهارة كلب الماء، و عن الكفاية أنه المشهور. و عن الحلي نجاسته، و عن المنتهى تقريب شموله له معللا بأن اللفظ يقال له بالاشتراك.

و الأقوى طهارة كلب الماء و خنزيره، لا لانصراف

الأدلة على فرض صدق العنوان عليهما، فإنه ممنوع، و مجرد كون بعض الأفراد يعيش في محل أو يندر الابتلاء به لا يوجب الانصراف، بل لعدم صدق العنوانين عليهما جزما، و عدم كونهما مع البري منهما من نوع واحد، و قد طبع في المنجد رسمهما، فترى لا يوجد بينهما و بين البري منهما أدنى شباهة، و إن قال في الكلب: «كلب الماء و كلب البحر سمك بينه و بين الكلب بعض الشبه» و قال: «خنزير البحر جنس من الحيتان أصغر من الدلفين».

و تدل على طهارة كلبه بل و خنزيره على وجه صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج قال: «سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام رجل و أنا عنده عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 163

جلود الخز، فقال: ليس به بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي، و انما هي كلاب تخرج من الماء؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال:

ليس به بأس» «1».

ثم ان المتولد من النجسين أو أحدهما إن صدق عليه اسم أحدهما فلا إشكال في نجاسته، و إن صدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة فلا ينبغي الإشكال في طهارته، إما لإطلاق دليل طهارته لو كان و إما للأصل.

و دعوى ارتكازية نجاسة المتولد من الكلبين أو الكلب و الخنزير عند المتشرعة و تبعية ولدهما لهما فيها كتبعية ولد الكافر عنه، أو كونه حقيقة من جنس الوالدين، و ان كان غيرهما ظاهرا، و الأحكام مترتبة على الحقيقة، و الأسماء كاشفة عنها، أو القطع

بالمناط.

غير وجيهة و ان صدرت عن الشيخ الأعظم نضر اللّٰه وجهه، لعدم ثبوت ارتكازيتها في مثل المقام، و لا دليل على التبعية هاهنا، و التبعية في الكافر لا توجب الحكم بها في غيره، و ممنوعية كون حقيقته ما ذكر بعد صدق عنوان آخر عليهما، و سلب صدق اسمهما عنه، و لو سلم ذلك فلا دليل على أن الأحكام مترتبة على الحقائق بذلك المعنى، و ممنوعية القطع بالمناط بعد كونهما عنوانين.

و أما استصحاب النجاسة فيما إذا كانت أمه نجسة، سواء كان أبوه طاهرا أو لا بدعوى كون الجنين جزء من الأم و لا يتبدل الموضوع بنفخ الروح فيه ففيه ما لا يخفى بعد عدم الدليل على نجاسته و ممنوعية جزئيته لأمه.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 164

و أضعف منه استصحاب نجاسته في حال كونه علقة أو منيا حتى فيما إذا كان الأم نجسا، ضرورة تبدل الموضوع.

و قد يقال بجريان استصحاب الكلي الجامع بين الذاتي و العرضي في جميع الموارد المشكوك فيها، فإنه عند ملاقاته لرطوبات أمه نعلم بنجاسته إما عرضا أو ذاتا، و مع الغسل عن العرضية نشك في بقاء الذاتية.

أقول: تارة نقول بتنجس الجنين في الباطن لملاقاته النجس، و أخرى نقول بعدمه، إما لقصور أدلة النجاسة عن إثبات نجاسة البواطن، أو لقصور أدلة نجاسة الملاقي لإثبات نجاسة الملاقي في الباطن أو لغير ذلك.

فعلى الثاني لا إشكال في جريان أصالة الطهارة في الجنين في بطن أمه، مع الشك في نجاسته ذاتا، فحينئذ إن تنجس حين التولد عرضا فلا يجري الاستصحاب بعد زوالها و تطهيرها، لأنه مع جريان أصل الطهارة في الجنين لا مجال

لدعوى العلم الإجمالي بأنه إما نجس ذاتا أو عرضا، للعلم بالطهارة الظاهرية و ترتب جميع آثار الطهارة عليه، و معه ينقح موضوع تنجس الظاهر بالملاقاة نجاسة عرضية، بناء على عدم تنجس النجس، و بالجملة أن العلم الإجمالي بأن الجنين في الخارج بعد ملاقاة أمة إما نجس ذاتا أو عرضا مما لا أثر له، مع جريان أصالة الطهارة في أحد طرفيه.

و إن شئت قلت: إن محتمل البقاء هو الذي حكم الشارع بطهارته أو قلت بعد غسل ظاهره نعلم بأنه إما طاهر واقعا أو طاهر ظاهرا و لو حاول أحد جريان مثل هذا الاستصحاب للزم عليه إجراؤه فيما إذا شك في نجاسة عينية لواحد من الحيوانات كالوزغة، فيحكم بطهارتها قبل عروض النجاسة عليها، و بنجاستها بعد عروضها و غسلها، و هو كما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 165

ترى. و كذا لو فرض نجاسة طرف من الثوب و شك في نجاسة الباقي فغسل موضع النجس لزم عليه الحكم ببقاء نجاسته لاحتمال البقاء.

و الجواب و الحل أنه مع هذا الاحتمال المحكوم عليه بالطهارة لا مجرى للأصل، و لا أثر للعلم، تأمل جيدا حتى لا يختلط عليك بين المقام و المقامات التي يكون الاستصحاب حاكما على أصل الطهارة، و كذا لا يختلط بينه و بين المقامات التي قلنا بعدم جريان الأصل في الفرد المشكوك في حدوثه للتحكيم على استصحاب بقاء الكلي، فإن الفارق بينهما ظاهر لدى التأمل.

و مما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا قلنا بتنجس ما في الباطن، فان الظاهر جريان أصالة الطهارة في الجنين لإثبات طهارته العينية ظاهرا حتى مع تنجسها بالعرض لوجود الأثر، في جريانها كما عرفت.

ثم أنه قد وقع الخلاف من قدماء

أصحابنا في نجاسة جملة أخرى غيرهما كالثعلب و الأرنب و الفارة و الوزغة و المسوخ، بل و ما لا يؤكل لحمه. فعن المقنعة نجاسة الأربعة الأول، و عن ظاهر الفقيه و المقنع نجاسة الفارة، و عن المراسم أن الفارة و الوزغة كالكلب و الخنزير في رش ما مساه بيبوسة، و عن الشيخ أن الأربعة المذكورة كالكلب و الخنزير في وجوب إراقة ما باشرته من المياه، و عن الوسيلة عدها في عداد الكلب و الخنزير و الكافر و الناصب في وجوب غسل ما مسته رطبا و رشه يابسا، بل عن الغنية دعوى الإجماع في بعض المذكورات، و عن الشيخ في التهذيب النص بنجاسة ما لا يؤكل لحمه، و عن الاستبصار استثناء ما لا يمكن التحرز عنه، و عن الخلاف القول بنجاسة المسوخ، و عزي في محكي المختلف الى سلار و ابن حمزة، و عن المعالم حكايته عن ابن الجنيد.

و كيف كان، تدل على طهارة الجميع صحيحة الفضل أبى العباس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 166

قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع فلم أترك شيئا إلا سألت عنه، فقال: لا بأس، حتى انتهيت الى الكلب» إلخ «1» لدخول الثعلب و الأرنب في الوحش و السباع. فإن الأول سبع بلا إشكال، و عدّ بعضهم الثاني فيه أيضا. و يظهر من بعض الروايات أن الأرنب بمنزلة الهرة، و له مخالب كسباع الوحش. بل تدخل الوزغة في الوحش و كذا بعض أنواع الفارة إن كان الوحش مطلق الحيوان البري مقابل الأهلي، إذ الظاهر أن سؤاله كان

عن عنوان الوحش و السباع لا عن أفرادهما تفصيلا.

بل المظنون أن الفارة و الوزغة كانتا من جملة ما سألها فإن قوله:

«فلم أترك شيئا» و إن كان على سبيل المبالغة لكن من البعيد جدا ترك السؤال عن الفارة المبتلى بها و المعهودة في الذهن و الوزغة المعروفة سيما في بلد السؤال و الراوي.

و يظهر مما مرّ جواز الاستدلال لطهارة الأولين بناء على سبعيتهما بكل ما دل على طهارة السباع، كصحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء، و عن السنور، قال: لا بأس أن تتوضأ من فضلها، إنما هي من السباع» «2» و صحيحة زرارة عنه عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام ان الهر سبع و لا بأس بسؤره» «3» إلى غير ذلك مما يعلم منه مفروغية طهارة السبع إلا ما استثنى.

و تدل على طهارة الوزغة و الفارة مصححة على بن جعفر عن أخيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- لحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- لحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 167

موسى بن جعفر عليه السلام في حديث قال: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في الماء فلا يموت أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به، و سألته عن فأرة وقعت في حب دهن و أخرجت قبل أن تموت أ يبيعه من مسلم؟ قال: نعم، و يدهن منه» «1».

و على طهارة الفأرة صحيحة إسحاق بن عمار «2» و رواية أبي البختري «3» و صدر صحيحة هارون بن حمزة الغنوي «4» و صحيحة سعيد

الأعرج برواية الشيخ قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة يقع في السمن و الزيت ثم يخرج حيا قال: لا بأس بأكله» «5» و في رواية الكليني «عن الفارة و الكلب يقع» إلخ. و الظاهر زيادة لفظ الكلب من النساخ أو بعض الرواة، فإن أصالة عدم الزيادة و لو كانت أرجح من أصالة عدم النقيصة لم تسلم في مثل المقام الذي كانت نجاسة الكلب معهودة من الصدر الأول، مع بعد سمن أو زيت يقع الكلب فيه و يكون في معرض الموت، فالمظنون وقوع الزيادة سيما مع

______________________________

(1) مرت في ص 81.

(2) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: «لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه و تتوضأ منه» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار الحديث 2.

(3) عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام ان عليا عليه السلام قال: «لا بأس بسؤر الفأرة أن تشرب منه و يتوضأ» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار- الحديث 8.

(4) سيأتي في ص 168.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 168

إفراد الضمير.

و يدل على طهارة الوزغ كل ما دل على طهارة ميتة ما لا نفس له ضرورة أن الموت لو لم يؤثر في تغليظ النجاسة لم يؤثر في تطهير الميت مضافا إلى حسنة يعقوب بن عثيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«قلت: بئر يخرج من مائها قطع جلود، قال: ليس بشي ء، إن الوزغ ربما طرح جلده، و قال: يكفيك دلو واحد من ماء» «1».

و على طهارة الثعلب جملة من الروايات

الواردة في لباس المصلي الدالة على قبول تذكيته، كرواية جعفر بن محمد بن أبي زيد قال:

«سئل الرضا عليه السلام عن جلود الثعالب الذكية قال: لا تصل فيها» «2» و رواية الوليد بن أبان قال: «قلت للرضا عليه السلام:

يصلى في الثعالب إذا كانت ذكية؟ قال: لا تصل فيها» «3» فان الظاهر تقريره لقبوله التذكية.

بل و صحيحة ابن أبي نجران «4» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب فقال: إذا كانت ذكية فلا بأس» و نحوها غيرها، و هي و ان صدرت تقية من جهة تجويز الصلاة فيها لكن لا دليل على أن التعليق أيضا صدر كذلك.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب لباس المصلي الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 7- من أبواب لباس المصلي الحديث 7.

(4) الظاهر انه سهو إذ الراوي جميل بن دراج على ما في الوسائل و هو الصحيح لأن ابن أبي نجران من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السلام و لم يرو عن الصادق عليه السلام بلا واسطة راجع الوسائل الباب- 7- من أبواب لباس المصلي- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 169

بل قد يشعر بعض الروايات بقبول الأرنب التذكية، كمكاتبة محمد بن عبد الجبار قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة عليها و بر ما لا يؤكل لحمه، أو تكة حرير محض، أو تكة من وبر الأرانب؟ فكتب: لا تحل الصلاة في الحرير المحض و إن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه» «1» و من المعلوم أن التذكية لا تقع على نجس العين.

و في مقابلها جملة

من الروايات ربما يستدل بها للنجاسة، كمرسلة يونس عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته هل يحل أن يمس الثعلب و الأرنب أو شيئا من السباع حيا و ميتا؟ قال: لا يضره، و لكن يغسل يده» «2» و صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أ يصلى فيها؟ قال: اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره انضحه بالماء» «3».

و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و الكلب إذا أكلا من الخبز أو شماه أ يؤكل؟ قال: يطرح ما شماه و يؤكل ما بقي» «4» و قريب منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «5» و رواية الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن أكل سؤر الفار» «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 36- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 36- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(6) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 170

و ذيل صحيحة هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ به؟ قال: يكسب منه ثلاث مرات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه و يتوضأ منه غير

الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «1».

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة و الوزغة تقع في البئر قال: ينزح منها ثلاث دلاء» «2» و رواية العلل و العيون عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب اليه من جواب مسائله في العلل: «و حرم الأرنب، لأنها بمنزلة السنور و لها مخالب كمخالب السنور و السباع الوحش فجرت مجراها مع قذرها في نفسها و ما يكون منها من الدم كما يكون من النساء لأنها مسخ» «3» بدعوى أن القذر نجس، الى غير ذلك مما لا بد من حملها على استحباب الغسل و التنزه و كراهة الارتكاب جمعا بينها و بين ما هو نص في الطهارة، خصوصا في الفارة و الوزغة.

هذا لو سلم ظهورها في النجاسة، و هو ممنوع في جلها، فان المرسلة بعد إرسالها و كلام في محمد بن عيسى عن يونس لا يمكن حملها على النجاسة بعد اقترانهما بشي ء من السباع حيا و ميتا، مع كون جميع السباع طاهرا حيا إلا ما ندر، و استثناؤها لا يخلو من استهجان، مضافا الى أن السؤال عن حلية المس و إطلاقه شامل للمس يابسا، و لا ينصرف الى حال الرطوبة كما ينصرف في ملاقي النجس، و معه لا محيص عن حمل الأمر على الاستحباب، و هو أولى في المقام من ارتكاب التخصيص

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 171

و التقييد كما لا يخفى.

و صحيحة علي بن

جعفر و غيرها مما وردت في الفأرة لا تحمل عليها أيضا، للسيرة المستمرة على عدم التحرز عن سؤرها، و معها لا ينقدح في الذهن من الأمر بالغسل النجاسة، و صحيحته الأخرى الواردة في أكل الكلب و الفارة و شمهما لا محيص عن حملها على الاستحباب أو كراهة الأكل، ضرورة أن مجرد الشم بل الأكل لا يوجب النجاسة، و لم يفرض فيها سراية رطوبتهما، و مع الشك محكوم بالطهارة، و صحيحة معاوية في النزح مع عدم دلالتها على النجاسة بعد كونه استحبابيا- تأمل- محمولة على موتهما فيه كما هو مورد السؤال في باب المنزوحات غالبا.

و ذيل صحيحة الغنوي محمول على الكراهة بصراحة صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، تأمل. و القذر في رواية العلل بعد الغض عن السند لا يراد به النجاسة و إلا كان تمام الموضوع للحرمة، مع أن الظاهر منها أنها جزء العلة، و يشهد له ما رواه في العلل: «و أما الأرنب فكانت امرأة قذرة لا تغتسل من حيض و لا جنابة» و الظاهر أن القذارة فيه كالقذارة التي في المرأة الحائض و الجنب، و هي ليست النجاسة.

و كيف كان لا إشكال في طهارة المذكورات فضلا عن طهارة المسوخ و ما لا يؤكل لحمه إلا ما استثنى، فان نجاستهما بنحو العموم مخالف للنص و الإجماع بل الضرورة و لذا لا بد من تأويل ما نسب الى الشيخ رحمه اللّٰه.

الثامن: المسكر المائع بالأصالة كالخمر و غيره،

اشارة

فالمشهور بيننا نجاسته و لم ينقل من قدماء أصحابنا القول بالطهارة إلا من الصدوق و والده في الرسالة و ابن أبي عقيل و الجعفي.

لكن في الجواهر «عدم ثبوت ذلك عن الثاني، بل أنكره بعض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 172

الأساطين،

و عدم صراحة الأول فيه أيضا، سيما بملاحظة ما نقل عنه من إيجابه نزح البئر منه، كعدم معروفية حكاية ذلك عن الجعفي في كثير من كتب الأصحاب كالعلامة و غيره، نعم حكاه في الذكرى و تبعه بعض من تأخر عنه» انتهى.

أقول: إن الصدوق نفى البأس- على المحكي- عن الصلاة في ثوب أصابه خمر قائلا إن اللّٰه حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته، و هو ظاهر في طهارته، لكن من المحتمل بعيدا أن يكون مراده العفو في الصلاة كقليل الدم، و كذا لم ينقل من الجمهور إلا عن داود و ربيعة، و هو أحد قولي الشافعي على ما في التذكرة، لكن لم ينسبها إليه في المنتهى، و ظاهره انحصار المخالف فيهم بداود، و في حكاية ربيعة.

و ربما يظهر من البهائي عدم كون الشافعي قائلا بها، حيث قال في الحبل المتين: «و قد أطبق علماء الخاصة و العامة على ذلك إلا شرذمة منا و منهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم» بل من السيد أيضا حيث قال:

«لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم» فإن الشافعي ليس من الشذاذ الذين لا اعتداد بقولهم و لم يعتد الفريقان بمخالفتهم «1» و أما الصدوق منا فلم يصرح بالطهارة كما مر، بل لعل المجتهدين كالسيد و المفيد و الشيخ و أضرابهم لم يعتدوا برأيه و ان اعتدوا بنقله و نفسه، و لهذا حكي عن الشيخ أن الخمر نجس بلا خلاف، و لم يستثن أحدا.

______________________________

(1) و يؤيده ما نقله في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج 1 ص 12) عن المالكية و الشافعية و الحنفية و الحنابلة: «ان الخمر تطهر إذا صارت خلا».

كتاب

الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 173

و كيف كان قد تكرر نقل الإجماع بيننا بل بين المسلمين على نجاسة الخمر، و تدل عليها الآية الكريمة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» بناء على أن الرجس بمعنى النجس إما مطلقا أو في المقام، إما لنقل الإجماع في محكي التهذيب على أنه هاهنا بمعنى النجس، أو لمناسبة المقام، فان اللّٰه تعالى فرّع وجوب الاجتناب عن المذكورات على كونها رجسا من عمل الشيطان و لا يناسب التفريع على مطلق الرجس المشترك بين ما لا بأس به و لا يجب الاجتناب عنه و بين ما به بأس، فرفع اليد عن ذات العناوين و التفريع على الرجس لا يناسب إلا كونه بمعنى النجس المعهود الذي كان وجوب الاجتناب عنه معهودا بينهم.

و يؤيده إطلاق الرجس على لحم الخنزير أو عليه و على الميتة و الدم في آية أخرى «2» و إطلاقه على لحم الخنزير و الخمر في بعض الروايات، و لا يبعد أن يكون ذلك تبعا للآية، و بناء على أن باب المجازات مطلقا ليس من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل من قبيل ادعاء ما ليس بمصداق الماهية حقيقة مصداقها، و تطبيق المعنى الحقيقي الذي استعمل اللفظ فيه عليه كما حقق في محله.

ففي المقام استعمل الرجس في النجس الذي هو أحد معانيه بالتقريب المتقدم، و ادعي كون الثلاثة التي بعد الخمر مصداقا له تنزيلا لما ليس بنجس منزلته، لقيام القرينة العقلية عليه، و لم تقم قرينة على التنزيل و الادعاء في الخمر، فيحمل على الحقيقة فتثبت نجاستها، لكن بعد اللتيا و اللتي إثبات نجاستها بالآية محل

إشكال و مناقشة لا مجال للتفصيل حولها.

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية 90.

(2) سورة الانعام: 6- الآية: 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 174

و أما الروايات فعلى طوائف: منها ما هي ظاهرة في النجاسة، و هي التي أمر فيها بغسل ملاقيها أو النهي عن الصلاة فيما يلاقيها، و هي كثيرة كموثقة عمار بن موسى قال: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاث مرات، و سئل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟

قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات» «1».

و الفقرات منها ظاهرة في النجاسة، و الأخيرة كالنص فيها. و موثقته الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر، و اغسله إن عرفت موضعه، فان لم تعرف موضعه فاغسله كله، فان صليت فيه فأعد صلاتك» «2» و نحوها مرسلة يونس عنه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) هذه محكية في الحدائق و لم أجدها الآن عاجلا في كتب الحديث (منه دام ظله).

لم نعثر عليها في كتب الحديث بهذا اللفظ، و انما الوارد فيها هكذا «لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر، لأن الملائكة لا تدخله، و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» راجع الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7. نعم ورد هذا المضمون في مرسلة

يونس كما أشار إليه الأستاذ دام ظله و إليك متنها: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فأغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك» و في رواية غير زرارة التي يرويها علي بن مهزيار: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 3- 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 175

عليه السلام «1».

و رواية أبي جميلة البصري قال: «كنت مع يونس ببغداد و أنا أمشي في السوق، ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس، فقلت له: يا أبا محمد أ لا تصلي؟ قال: فقال لي: ليس أريد أن أصلي حتى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: رأي رأيته أو شي ء ترويه؟

فقال: أخبرني هشام بن حكم أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله» «2» و لا تخفى دلالتها على النجاسة من وجوه.

و صحيحة علي بن جعفر المنقولة في الأشربة المحرمة عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح للمرأة أن تصلي و هو على رأسها؟ قال: لا، حتى تغتسل منه» «3» و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحا عيدان أو باطية قال: إذا غسله فلا بأس، قال:

و سألته عن دنّ الخمر يجعل فيه الخل و الزيتون أو شبهه، قال إذا

______________________________

(1) مرت في

التعليقة (2) من ص 174.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 5 و تمام الحديث في الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 176

غسل فلا بأس» «1» إلى غير ذلك.

بل يظهر من بعضها مفروغية النجاسة، كصحيحة معاوية بن عمار الواردة في الثياب يعملها المجوس «2».

و منها ما هي كصريحة أو صريحة فيها، كرواية أبي بصير في حديث أم خالد العبدية في التداوي بالنبيذ قال في ذيلها. «ثم قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ما يبلّ الميل ينجس حبا من ماء، يقولها ثلاثا» «3» و حسنة خيران الخادم أو صحيحته قال: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فوقع: لا تصل فيه فإنه رجس» إلخ «4».

ضرورة أن الرجس في الحديث بمعنى النجس، فان اختلاف الأصحاب لم يكن في استحباب غسله، بل في نجاسته كما هو واضح، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5 و 6

(2) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث (أخباب) و هم يشربون الخمر و نساؤهم على تلك الحال» إلخ.

راجع الوسائل- الباب- 73- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 20- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 177

صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «1» فان الظاهر منها مفروغية نجاسة الخمر و لحم الخنزير، و إنما سأل عن الشبهة الموضوعية، فأجاب بما أجاب، حيث يعلم منه أنه مع ملاقاته يصير نجسا، سيما مع اقترانه بلحم الخنزير، و صحيحة هارون ابن حمزة الغنوي- بناء على وثاقة يزيد بن إسحاق كما لا تبعد- عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «في رجل اشتكى عينيه، فنعت له بكحل يعجن بالخمر، فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرا فليكتحل به» «2» فان التنزيل منزلة الميتة إما يكون في النجاسة أو مع الحرمة لا في الحرمة فقط، سيما مع قوله عليه السلام: «خبيث» و سيما أن الاكتحال ليس بأكل، و أن الخمر مستهلك في الكحل، فالأنسب فيه النجاسة، و لا أقل من إطلاق التنزيل.

و منه يظهر صحة الاستدلال برواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دواء يعجن بالخمر لا يجوز أن يعجن إلا به، إنما هو اضطرار؟ فقال: لا و اللّٰه لا يحل للمسلم أن ينظر اليه، فكيف يتداوى به؟ و انما هو بمنزلة شحم الخنزير الذي يقع في كذا و كذا» إلخ «3» تأمل «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 21- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 20- من أبواب

الأشربة المحرمة الحديث 10

(4) لعله إشارة الى أن السائل يكون بصدد السؤال عن حلية التداوي بالمعجون الذي يعجن بالخمر لا عن طهارته و نجاسته أو عن جواز امتزاجه بها و عدمه، و لهذا قال في جوابه: «لا يحل للمسلم، أن ينظر اليه فكيف يتداوى به» و أن التنزيل يكون في الحلية و الحرمة لا الطهارة و النجاسة، و مع هذا الظهور لا سبيل إلى إطلاق التنزيل كما لا يخفى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 178

و يمكن عدّ الروايات الواردة في باب المنزوحات من تلك الطائفة فان الناظر فيها لا يشك في أن نجاستها كانت مفروغا عنها، و إنما وقع بعدها السؤال عن حال البئر، بل جميع الروايات في منزوحات البئر إلا ما شذ منها واردة في ملاقاته لنجاسات مفروغ عنها، فلا شبهة في دلالتها عليها سيما مع إردافها بالدم و الميتة و لحم الخنزير و تسويتها معها، فجعلها كالصريحة في المطلوب.

كما أن منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث:

«أنه سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ، فقال: تغسله سبع مرات، و كذلك الكلب» «1» فان اقترانه بالكلب و تنظير الكلب به جعله كالصريح في النجاسة، و ان قلنا بأن السبع استحبابي.

و منها ما أمر فيها بإهراق ملاقيها، كرواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: يهراق المرق أو تطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله، قلت: فإنه قطر فيه دم؟ قال:

الدم تأكله النار إن شاء اللّٰه، قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟

قال: فقال: فسد،

قلت: أبيعه من اليهود و النصارى و أبيّن لهم؟

قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه، قلت: و الفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي ء من ذلك؟ قال: فقال: أكره أن آكله إذا قطر في شي ء من طعامي» «2»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 179

و اشتمالها على أكل النار الدم لا يضر بالمطلوب مع احتمال كون الدم مرددا بين النجس و غيره، سيما مع تعقيبه بأنه مع تقطير الدم في العجين يوجب الفساد، و دلالتها على النجاسة لا تكاد تخفى، فان إهراق المرق الكثير لأمر استحبابي بعيد، نعم فيها إشعار بأن حرمة الخمر صارت موجبة للاهراق على تأمل، إذ لا يبعد أن يكون قوله عليه السلام: «يستحلون شربه» إشارة إلى ملازمة الحرمة و النجاسة و إلا فمجرد حرمة الخمر أو الدم مع استهلاكهما لا يوجب التحريم.

و حسنة عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «1» و إطلاقها يقتضي لزوم إهراق كل ما لاقاها و لو مثل الزيت و الدبس، و مع عدم النجاسة يكون الإهراق بعيدا مع استهلاكها، و احتمال أن يكون ذلك لأجل المبالغة في أمر الخمر و شربها أيضا بعيد، لإمكان بيان حرمتها و المبالغة فيها بنحو آخر غير الأمر بإهراق مال محترم.

و في مقابلها روايات استدل بها للطهارة ربما يقال ببلوغها اثنتي عشرة، و هو غير ظاهر، إلا أن يلحق بها بعض

أدلة النجاسة، كرواية اعارة الثوب لمن يعلم أنه يشرب الخمر، حيث أجاز الصلاة فيه قبل غسله، و رواية دلت على جواز الصلاة فيما يعمله المجوس و هم يشربون الخمر، و غيرهما، و قد مرّ أنها ظاهرة في مفروغية نجاستها.

فمما استدل عليها: صحيحة أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أصاب ثوبي نبيذ أ أصلي فيه؟ قال: نعم قلت: قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه؟ قال: نعم إن أصل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 180

النبيذ حلال، و أصل الخمر حرام» «1» و فيه أنها تدل على خلاف مطلوبهم ان جعلت العلة مربوطة بالفقرتين، لدلالتها على ملازمة حرمة المشروب لنجاسته، و لا محيص عن حمل قوله عليه السلام: «أصل النبيذ حلال» إلخ على حلية نفس النبيذ و حرمة نفس الخمر، و إلا فما يؤخذ منه الخمر حلال بالضرورة إلا أن يراد من الأصل حال الغليان قبل صيرورته خمرا، و هو كما ترى.

و لا تدل على مطلوبهم إن جعلت علة للأخيرة، فإنها قرينة على أن المراد من النبيذ في الفقرة المتقدمة قسم الحلال منه، و لا يبعد شيوع النبيذ الحلال في تلك الأزمنة بحيث كان اللفظ منصرفا اليه.

و لهذا ترى في بعض الروايات تقييده بالمسكر، و في بعضها سئل عنه بلا قيد، فأجاب بأنه حلال، كرواية الكلبي النسابة «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن النبيذ فقال: حلال، فقال: إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك، فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة» إلخ «2» و موثقة حنان بن سدير قال: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه

عليه السلام: ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه و يزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال: صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال، و لم يسألني عن المسكر» «3» فيظهر منهما شيوع استعماله في القسم الحلال، و معه لا مجال للاستدلال بها للطهارة في القسم الحرام.

و العجب من الأردبيلي حيث اقتصر على نقل صدرها لمطلوبه، و ترك ذيلها الذي هو قرينة على الصدر، أو دال على خلاف مطلوبه، و أعجب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الماء المضاف- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 22- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 181

منه توهم انحصار الصحيحة في الروايات الدالة على النجاسة بصحيحة ابن مهزيار، مع أن فيها جملة من الصحاح تدل عليها، كصحيحتي عبد اللّٰه بن سنان في باب اعارة الثوب الذمي، و صحيحة معاوية بن عمار في باب طهارة ما يعمله الكفار من الثياب ما لم يعلم تنجيسهم لها و غيرها. مع أن الموثق سيما مثل موثق عمار لا يقصر في إثبات الحكم عن الصحاح.

و العجب منه أيضا تصحيح رواية الحسين بن أبي سارة بمجرد ظنه بأن ما وقع في التهذيب في موضعين من اشتباه النساخ، و أن الصحيح الحسن بن أبي سارة، لوقوعه في الاستبصار مكبرا، و عدم ذكر من الحسين في الرجال، فان مجرد وقوعه فيه كذلك و إهمال الحسين لا يوجب الاطمئنان به، و الظن لا يغني من الحق شيئا، مع أن إهمال الراوي في كتب الرجال ليس بعزيز، و من المحتمل أن لأبي سارة ولدا آخر يسمى بالحسين، و قد أهمله أصحاب الرجال لجهالته.

نعم

لو قيل بأن ذلك لا يوجب جواز طرح رواية الإستبصار التي في سندها الحسن الثقة لكان له وجه، لكنه غير وجيه لعدم احتمال كون ما في الاستبصار حديثا ثالثا غير ما في التهذيب، مع اتحادهما من جميع الجهات إلا الاختلاف في الحسن مكبرا و مصغرا، و مع ما يقال:

إن الاستبصار قطعة من التهذيب.

و قد قلنا في محله: أن لا دليل على حجية أخبار الثقة إلا بناء العقلاء الممضى من الشارع المقدس، و ليس بناؤهم على الاحتجاج بمثل هذه الرواية مع هذه الحال، مضافا إلى أن متنها أيضا لا يخلو من نحو اختلال، و هو هذا: قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 182

إن الثوب لا يسكر» «1» فان هذا التعليل الغير المناسب للسؤال و الحكم ربما يوجب و هنا فيها سيما في المقام، سواء كان لا يسكر من باب الافعال و يراد به أن الثوب لا يوجب سكر لابسه حتى لا تصح صلاته لأجل كونه سكرانا، أو يراد به أن الثوب لا يكون مسكرا حتى لا تصح الصلاة فيه، أو من المجرد و يراد به أن الثوب لا يصير سكرانا، فإن أفاده طهارة الثوب أو الخمر بتلك العلة البعيدة عن الأذهان و غير المناسبة للمقام توجب وهنا فيها، و ينقدح في الذهن أنها معللة، مع أنه على الاحتمال الثاني تشعر بنجاسة الخمر أو تدل عليها.

و أضعف منها سندا و دلالة روايته الأخرى قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنا نخالط اليهود و النصارى و المجوس و ندخل عليهم و هم يأكلون

و يشربون، فيمر ساقيهم و يصب على ثيابي الخمر، فقال: لا بأس به إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره» «2» فإنها مضافا الى اشتراكها مع ما قبلها في الحسين بن أبي سارة في سندها صالح بن سيابة، و هو مجهول، مع أن في متنها أيضا و هنا من جهة تقريره حضورهم في مجلس شربهم و المخالطة معهم حتى في المجالس التي يشربون فيها و يدور الساقي حولها، مع أنه حرام منهي عنه، و من جهة دلالتها على طهارة الطوائف الثلاث، فان الظاهر أن الخمر التي أصابت ثيابه من يد ساقيهم كانت من فضلهم و من الكأس الدائر بينهم للشرب، فتعارض ما دلت على نجاستهم آية و رواية و إجماعا، و سيأتي محمل لمثلها.

و يتلوهما في ذلك رواية الصدوق قال «سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّٰه عليهما السلام فقيل لهما: إنا نشتري ثيابا يصيبه الخمر و ودك الخنزير

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 183

عند حاكتها أ نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إن اللّٰه انما حرم أكله و شربه و لم يحرم لبسه و لمسه و الصلاة فيه» «1» إذ اشتمالها على ودك الخنزير أي شحمة و دسمه الذي لا يجوز الصلاة فيه بما أنه نجس العين و بما أنه ميتة و بما أنه من غير المأكول موجب لوهنها و عدم جواز التمسك بها، و التفكيك في مثله كما ترى.

و نظيرهما في ضعف السند بل الدلالة رواية حفص الأعور قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف

فيجعل فيه الخلّ قال: نعم» «2» لجهالة حفص، و قوة احتمال أن يكون السائل بصدد السؤال عن أن الدن الذي هو وعاء من خزف ينفذ فيه الخمر إذا جفف يجعل فيه الخل و لا ينفذ من جوفه الخمر فتسرى إلى الخل فتفسده و تنجسه، و لم يكن في مقام السؤال عن طهارة الخمر و نجاستها بل تشعر الرواية أو تدل على نجاستها من حيث مفروغيتها، و السؤال عن نفوذها و تنجيسها، تأمل «3» و كيف كان الظاهر عدم الإطلاق فيها و بالجملة لما كانت الظروف التي تصنع فيها الخمر من نظائره منهيا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 13

(2) الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) لعله إشارة إلى أن ما يظهر من السؤال عدم تغسيل الدّن بعد ما جفف، فإذا كانت نجاسة الخمر معلومة عند السائل و يكون السؤال عن نفوذها من جوفه إلى الخل يلزم ان لا يكون المتنجس منجسا و إلا فمتى لاقاه شي ء من رطوبة مسرية كالخل يتنجس بسبب الملاقاة و إن لم ينفذ من جوفه الخمر الى الخارج، و لذا حكى في الوسائل عن الشيخ بأنه قال: «المراد به إذا جفف بعد أن يغسل ثلاثا» على أن تصوير نفوذ الخمر من جوف الدّن الى الخل بعد ما جفف مشكل جدا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 184

عنها في الروايات كما في رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن كل مسكر فكل مسكر حرام، قلت: فالظروف التي يصنع فيها منه؟ قال: نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من الدباء و

المزفت و الحنتم و النقير» إلخ «1» فلعل ذلك صار سببا للسؤال عن نحوها، فلا يكون لها إطلاق يتمسك به للطهارة لو لم نقل بدلالتها على خلافها.

و منه يظهر الكلام في حسنة علي الواسطي قال: «دخلت الجويرية- و كانت تحت عيسى بن موسى- على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و كانت صالحة، فقالت: إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و أجعله في رأسي قال: لا بأس» «2» لقرب احتمال أن تكون شبهتها في حلية الانتفاع بالخمر و جواز التمشط بها.

ضرورة أنه مع تلك التشديدات في أمر الخمر و المسكر كقوله عليه السلام: «لا يحل للمسلم أن ينظر إليه» «3» و قوله عليه السلام:

«ما أحب ان أنظر اليه و لا أشمه» «4» و النهي عن الانتفاع بها، و تحريم الأكل على مائدة تشرب عليها الخمر، و النهي عن الجلوس عند شراب الخمر، و عن الصلاة في بيت فيه خمر، و عن الظروف التي يصنع فيها الخمر، و عن التداوي بها إلى غير ذلك، ينقدح في الأذهان عدم جواز التطيب بها، بل و سائر الانتفاعات، بل لعله تنقدح فيها شبهة جواز مسها و لمسها و لبس الثوب الذي أصابها.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 52- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 20 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 20 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 185

و عليه لا يبقى لمثل قوله عليه السلام «لا بأس» ظهور في الطهارة، مع قرب احتمال نفي الحرمة النفسية، فاذن فرق بين الخمر و المسكر و بين سائر الموارد مما

لا يحتمل الحرمة النفسية احتمالا معتدا به، حيث يقال فيها بظهور نفي البأس في نفي المانعية أو النجاسة، فإنه مع هذا الاحتمال القريب لا يبقى لنفي البأس ظهور في الغيرية حتى يستفاد منه ذلك.

و عليه لا يبعد إنكار ظهور موثقة ابن بكير قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب قال: لا بأس» «1» في نفي البأس الغيري حتى يستفاد منه الطهارة أو عدم المانعية، بعد احتمال أن يكون نفيه عن لبس ما يصيبه الخمر كما نفى البأس عنه في موثقته الأخرى المتقدمة، و فيها «نعم لا بأس إن اللّٰه حرم أكله و شربه، و لم يحرم لبسه و لمسه و الصلاة فيه» فإنها تشعر أو تدل على أن جواز اللبس و اللمس أيضا كان مورد الشبهة و النظر فلا يبقى ظهورها في الطهارة بعد ما عرفت، و هذا ليس ببعيد بعد التأمل فيما مر و التدبر فيما ورد في الخمر إن كان بعيدا بدوا.

و أما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن البيت يبال على ظهره و يغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس به، قال: و سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلي فيه و لا بأس به» «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 11

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 186

و عن

كتاب علي بن جعفر مثله، و زاد «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أ يصلى فيها قبل أن تغسل؟

قال: إذا جرى من ماء المطر لا بأس، و يصلى فيه» «1» فهي من أدلة نجاسة الخمر لا طهارتها، ضرورة أن السؤال عنها كالسؤال عن البول و الكنيف بعد الفراغ عن نجاستها انما هو عن حال اصابة المطر لها، و الانصاف أن الاستدلال بمثلها للطهارة ليس إلا لتكثير سواد الدليل، و إلا فهي من أدلة نجاستها.

و أما رواية فقه الرضا «2» فمع ضعفها بل عدم ثبوت كونها رواية مشتملة على ما لا نقول به، فراجعها.

فما بقي في الباب إلا صحيحة ابن رئاب قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه، إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إن اللّٰه تعالى انما حرم شربها» «3» فإنها سليمة سندا و دلالة عن الخدشة بل يمكن أن يقال: إن قوله عليه السلام «إلا أن تقذره فتغسل منه» إلخ نحو تفسير للأوامر الواردة في غسل الثوب منها، بل لقوله:

رجس و نجس، بدعوى أن القذارة فيها بالمعنى العرفي، فتكون شاهدة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(2) و هي هكذا: «لا بأس أن تصلي في ثوب أصابه خمر، لأن اللّٰه حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته، و إن خاط خياط ثوبك بريقه و هو شارب الخمر إن كان يشرب غبّا فلا بأس، و إن كان مدمنا للشرب كل يوم فلا تصل في ذلك الثوب حتى يغسل راجع المستدرك- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب-

38- من أبواب النجاسات- الحديث 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 187

للرجس و النجس في غيرها، بل قوله عليه السلام: «إن اللّٰه انما حرم شربها» إلخ حاكم على ما تقدم لو لا صحيحة علي بن مهزيار قال:

«قرأت في كتاب عبد اللّٰه بن محمد الى أبي الحسن عليه السلام جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، انما حرم شربها، و روى غير زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع عليه السلام بخطه و قرأته: خذ بقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام» «1» و حسنة خيران الخادم أو صحيحته المتقدمة، فإنهما حاكمتان عليها و على جميع الروايات في الباب على فرض تسليم دلالتها.

و العجب من الأردبيلي حيث رد الأولى تارة باحتمال أن المراد من الأخذ بقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام هو الأخذ بقوله المشترك مع أبي جعفر عليه السلام، و أخرى بأن المشافهة خير من المكاتبة، و أنت خبير بما فيه من الضعف.

ثم أنه على فرض تسليم دلالة الروايات المذكورة على الطهارة، و الغض عما مرّ فلا شبهة في تعارض الطائفتين من غير جمع مقبول بينهما، ضرورة وقوع المعارضة و المخالفة بين قوله عليه السلام: «لا تصل فيه فإنه رجس» و قوله عليه السلام: «و ينجس ما يبلّ الميل حبا من ماء» و قوله عليه السلام: «لا و اللّٰه و لا و

قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» و قوله عليه السلام: «إنه خبيث بمنزلة الميتة و أنه بمنزلة شحم الخنزير» و قوله عليه السلام: «تغسل الإناء منه سبع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 188

مرات، و كذلك الكلب» الى غير ذلك و بين قوله عليه السلام: «لا بأس بالصلاة فيه» و قوله عليه السلام: «صل فيه» معللا بأن اللّٰه انما حرم شربها الى غير ذلك.

و لو حاول أحد الجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب أو حمل الرجس و النجس على غير ما هو المعهود لساغ له الجمع بين جميع الروايات المتعارضة، فإنه ما من مورد إلا و يمكن حمل الروايات على ما يخرجها عن التعارض، فبقيت أخبار العلاج بلا مورد، و قد حقق في محله أن ميزان الجمع هو الجمع العرفي لا العقلي، و هو مفقود في المقام، و قد قلنا في محله: إن الشهرة التي أمرنا في مقبولة عمر بن حنظلة في باب التعارض بالأخذ بها، و ترك الشاذ النادر المقابل لها، هو الشهرة في الفتوى لا في النقل، و تلك الشهرة و مقابلها معيار تشخيص الحجة عن اللاحجة، و المشهور بين الأصحاب بيّن رشده، و مقابله بيّن غيّه، و المقام من هذا القبيل، و التفصيل موكول الى محله.

ثم أن حكم الخمر سار في جميع المسكرات المائعة بالأصالة، و لا يختص بالخمر و النبيذ المنصوص عليهما في الروايات، لا لصدق الخمر عليها لغة أو عرفا، ضرورة عدم ثبوت ذلك لو لم نقل بثبوت خلافه، و لا للحقيقة الشرعية كما ادعاها صاحب الحدائق مستدلا بجملة من الروايات:

كرواية أبي الجارود عن أبي

جعفر عليه السلام في قوله تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ- الآية- أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، و ما أسكر كثيره فقليله حرام- ثم ذكر قضية أبي بكر، ثم قال:- انما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر و التمر، فلما نزل تحريمها خرج رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقعد في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 189

المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها، و قال: هذه كلها خمر حرمها اللّٰه، فكان أكثر شي ء أكفئ في ذلك اليوم الفضيخ، و لم أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شي ء إلا إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا، و أما عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي ء، و حرم اللّٰه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شراءها و الانتفاع بها» إلخ «1».

و بما عن ابن عباس في تفسير الآية قال: «يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر» و بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله المحكي في رواية عطاء ابن يسار عن الباقر عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كل مسكر حرام، و كل مسكر خمر». «2» و بجملة من الروايات المصرحة بأن الخمر من خمسة أو ستة أشياء، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر» «3» و نحوها غيرها «4».

قال في الحدائق: فقد ظهر بما نقلناه من الأخبار تطابق كلام اللّٰه تعالى و رسوله

على أن الخمر أعمّ مما ذكروه من التخصيص بالمتخذ من العنب، فيكون حقيقة شرعية.

و أنت خبير بما فيه، ضرورة أن تلك الروايات و قول ابن عباس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(4) راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 2 و 3 و 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 190

لا يثبت بها إلا إطلاق الخمر على غير المتخذ من العنب أحيانا، و أما كونه على وجه الحقيقة فغير ظاهر، و التمسك بأصالة الحقيقة مع معلومية المراد و الشك في الوضع لإثباته كما ترى، مع أن شأن الرسول و الأئمة صلوات اللّٰه عليهم ليس بيان اللغة و وضعها.

و العجب منه كيف غفل عن سائر الروايات الظاهرة في أن الخمر مختصة بالمتخذ من العنب، و أن ما حرم اللّٰه تعالى هو ذلك بعينه، و أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم غيره من المسكرات، كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «وضع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله دية العين و دية النفس و حرم النبيذ و كل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من غير أن يكون جاء فيه شي ء؟ فقال:

نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه» «1» فانظر كيف صرح فيها بعدم ورود شي ء في حرمة المسكرات مع ورود حكم الخمر في الكتاب العزيز، و رواية أبي الربيع الشامي قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام إن اللّٰه حرم الخمر بعينها، فقليلها و كثيرها حرام، كما حرم

الميتة و الدم و لحم الخنزير، و حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله الشراب عن كل مسكر، و ما حرمه رسول اللّٰه فقد حرمه اللّٰه عزّ و جل» «2» و رواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن النبيذ فقال: حرم اللّٰه الخمر بعينها، و حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من الأشربة كل مسكر» «3».

و أوضح منها صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 191

السلام قال: «إن اللّٰه لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» «1» فإنها صريحة في أن اسم الخمر لا يطلق على غيرها من المسكرات، لكنها خمر عاقبة و أثرا و حكما و هي شاهدة للمراد في الروايات التي تمسك بها صاحب الحدائق بأن المراد من كون الخمر من خمسة أنها خمر لأجل كون عاقبتها عاقبة الخمر، فهي خمر حكما لا اسما و لغة.

و لا تنافي بينها و بين ما تقدم من أن تحريم غيرها من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فان الظاهر منها أيضا أن اللّٰه إنما حرم الخمر، لكن سر تحريمه عاقبته، و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم كل ما فيه هذا الثمر، و بعبارة أخرى: ان اللّٰه تعالى حرم الخمر فقط، لكن حكمة الجعل إسكاره، و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم كل ما فيه هذه

الحكمة.

و لا لكون النبيذ حقيقة في جميع الأنبذة و إن يظهر ذلك من بعض اللغويين قال في القاموس: «النبيذ: الملقى، و ما نبذ من عصير و نحوه» «2» و في المجمع: «و النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر و الزبيب و العسل و الحنطة و الشعير و غير ذلك» و في المنجد «النبيذ المنبوذ الخمر المعتصر من العنب أو التمر، الشراب عموما» و ذلك لأن الشائع في عصر صدور الروايات و محله هو استعماله في النبيذ من التمر، و قد يطلق على الزبيب، فكان المستعمل فيها منصرفا عن سائر الأنبذة جزما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) و فيه أيضا: «الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو عام كالخمرة و العموم أصح» و في تاج العروس و المصباح الخمر كل مسكر خامر العقل و اختمرت الخمر: أدركت و غلت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 192

و عن الزبيب ظاهرا، و قد تقدم عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أن الخمر من خمسة، و خص النبيذ بالتمر، و النقيع بالزبيب و لعل شيوع استعماله فيه لأجل كون التمر في محيط صدور الروايات شائعا جدا و ما كانوا ينبذون من غيره إلا نادرا، و كيف كان لا يمكن استفادة حكم سائر المسكرات من روايات النبيذ.

بل لروايات خاصة- مضافا إلى عدم الخلاف فيه ممن قال بحرمته و قد مر عدم الاعتداد بخلاف من خالف في المسألة المتقدمة- كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر لأن الملائكة لا تدخله، و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو

مسكر حتى تغسله» «1».

و الخدشة فيها بأن اشتمالها على النهي عن الصلاة في بيت فيه خمر المحمول على الكراهة يوهن دلالتها على الحرمة الوضعية مدفوعة أولا بأن مجرد ورود نهي في صدرها قام الدليل على عدم حرمته لا يوجب الوهن في نهي آخر مستقل مستأنف.

و ثانيا اقتران المسكر بالخمر و عطفه عليها يدفع توهم الوهن لو فرض، فإن النهي عن الصلاة في ثوب أصابه خمر، تحريمي كما مر، و لأجل نجاستها كما صرحت بها رواية خيران الخادم، و كذلك في المسكر المعطوف عليه، و حسنة عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «2» بل و صحيحة علي بن مهزيار بناء على أن قوله

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 193

عليه السلام: «يعني المسكر» لم يكن تفسيرا للنبيذ، بل يكون المراد التعميم في السؤال، و هو و إن كان للراوي ظاهرا، لكن تقرير أبي الحسن عليه السلام إياه و إرجاعه إلى قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام من غير التعرض للتفسير دال على ارتضائه به، لكن للخدشة فيها مجال، لاحتمال أن يكون التفسير للنبيذ، فإنه على قسمين محلل و محرم مسكر.

و الانصاف أن روايات النبيذ مع التقييد بالمسكر أو التفسير به و ما وردت في الخمر كقوله عليه السلام: «إن الثوب لا يسكر» و قوله عليه السلام: «ان اللّٰه لم يحرم الخمر لاسمها

لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» مما تؤيد نجاسة مطلق المسكر، بل لأحد أن يقول: إن المستفاد من الأخيرة عموم التنزيل و إطلاقه، و مجرد كون صدرها في مقام بيان التحريم لا يوجب صرف الإطلاق، إلا أن يقال: إن المعروف من خاصة الخمر في تلك الأزمنة هو حرمتها لا نجاستها، فإنها كانت محل خلاف و كلام، فينزل على الخاصة المعروفة في زمان الصدور، و هو لا يخلو من تأمل و كلام.

و أما التمسك لإثبات النجاسة بما دلت على أن الخمر من خمسة أشياء بدعوى أن الحمل إما حقيقي كما قد يدعى، و إما لثبوت أحكام الحقيقة فغير تام، لأن الحمل ليس بحقيقي كما تقدم، و ليس في تلك الروايات إطلاق جزما، فهي أسوأ حالا من الرواية المتقدمة و إن عكس الأمر شيخنا الأعظم رحمه اللّٰه.

ثم أن مقتضى الأصل طهارة المسكر الجامد بالأصالة و إن صار مائعا بالعرض، كما نص عليها في محكي التذكرة و الذكرى و جامع المقاصد و الروض و المسالك و المدارك و الذخيرة، بل عن الأخير أن الحكم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 194

بنجاسة المسكرات مخصوص عند الأصحاب بما هو مائع بالأصالة، و عن المدارك أن الحكم به مقطوع به في كلام الأصحاب، بل عن الدلائل نقل الإجماع عليه، و عن الحدائق اتفاق كلهم عليه، و عن شرح الدروس عدم ظهور الخلاف فيه.

و قد يتوهم شمول بعض الروايات الدالة على النجاسة له أيضا كعموم التنزيل في الرواية المتقدمة و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كل مسكر حرام و كل مسكر خمر» الى غير ذلك، و فيه أنها منصرفة إلى المائعات، خصوصا مع

حصر الخمر في الروايات التي تقدم بعضها بالأشياء التي كلها مائعات بالأصالة، مضافا إلى قوله عليه السلام في رواية أبي الجارود: «فكل مسكر من الشراب فهو خمر» هذا مع عدم الجزم بعموم التنزيل في تلك الروايات، فلا ينبغي التأمل في قصورها عن إثباتها.

كما لا ينبغي التأمل في نجاسة المنجمد من المسكر المائع بالأصالة للأصل، بل إطلاق الأدلة، ضرورة أنه لو جمد الخمر أو المسكر لا يسلب عنه الاسم، فتكون خمرا جامدا و مسكرا كذلك، لعدم انقلاب الحقيقة بالجمود عما هي عليه، نعم لو زال عن غير الخمر و النبيذ إسكاره يتشبث فيه بالاستصحاب لإثبات نجاسته، و لا شبهة في جريانه «1» و أما

______________________________

(1) و حكي عن العلامة في المنتهى الحكم بطهارته، و قد يقال في تقريب طهارته و عدم جريان استصحاب النجاسة فيه: إن الحكم كان معلقا نصا و فتوى على المائع المسكر، و هو منفي صدقه عليه فعلا، و لا يمكن إجراء استصحاب النجاسة لتغير الموضوع قطعا، مضافا إلى أن الحكم منقلب بنفس الدليل لو قلنا بحجية مفهوم الوصف.

و فيه أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها و ان موضوع القضية المتيقنة فيه هنا عبارة عن هذا المائع الخارجي المشار اليه، لا عنوان المائع المسكر الكلي، و هو بشخصيته موجود عرفا و إن سلب عنه عنوان المسكر، و هذا نظير الكبر و الصغر و المرض و الصحة في الشخص الخارجي حيث بقيت شخصيته مع تبادل العناوين و العوارض عليه، فعليه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة فيه، نعم لا يمكننا التمسك بالدليل الاجتهادي على نجاسته للعلم بعدم بقاء موضوع الدليل الاجتهادي، و بالجملة أن ما هو المعتبر في الاستصحاب وحدة

القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها، لا وحدة المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي، و لعل هذا التوهم نشأ من الخلط بينهما كما هو الظاهر من كلامه، فما أفاده الأستاذ دام ظله من صحة جريان استصحاب النجاسة فيه متين جدا، و أما التمسك بمفهوم الوصف فهو كما ترى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 195

الخمر و النبيذ فالحكم تابع لعنوانهما.

تنبيه:
[نجاسة العصير العنبي]

قد وقع الخلاف بين أصحابنا قديما و حديثا في نجاسة عصير العنب الذي غلى و لم يذهب ثلثاه و لم يعرض له إسكار، بعد عدم الاشكال و الريب في حرمته، ثم اعلم أنه لا يجوز الاتكال في المسألة على دعاوي الشهرة و عدم الخلاف و الاتفاق، لتراكم الأقوال و الدعاوي فيها من الطرفين، فربما يدعي الشهرة على نجاسته بين المتأخرين أو مطلقا، أو يدعى عدم الوقوف على القول بها إلا من أبي حمزة من القدماء و المحقق في المعتبر، أو يقال: إن القول بالنجاسة بين الطبقة الأولى من فقهائنا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 196

أما قليل أو معدوم.

و هو كذلك ظاهرا، كما يظهر بالمراجعة إلى كتبهم، كالناصريات و النهاية و المراسم و الغنية، بل و الوسيلة، بل هو الظاهر من كل من قيده بالاشتداد، و أما الصدوقان و إن يظهر منهما أن العصير المغلي خمر، لكن قد مر أن الظاهر منهما عدم نجاسة الخمر.

و بالجملة إن المسألة مما لا يمكن تحصيل الشهرة و الإجماع فيها، فان في كثير من عبارات الأصحاب التقييد بالاشتداد. حتى قيل: إن نجاسته إذا غلى و اشتد مشهورة بين الأصحاب، و حكي ذلك عن الذكرى و جامع المقاصد و غيرهما، بل في المجمع و

عن كنز العرفان دعوى الإجماع على نجاسته و حرمته مع الاشتداد، و الظاهر أو المحتمل أن يكون مرادهم من الاشتداد السكر، كما احتمله جمع، منهم النراقي، و تبعهم بعض أهل التتبع و التحقيق و أصرّ عليه، فحينئذ تكون المسألة خارجة عن بحثنا، أى إلحاق العصير المغلي الغير المسكر بالمسكر.

و كيف كان لا بأس قبل الاشتغال بالاستدلال بتحصيل المراد من العصير الوارد في النص و الفتوى، فنقول: لا شبهة في أن المراد منه فيهما هو العصير العنبي، لا لأنه موضوع لخصوصه وضعا جامدا، فإنه غير ثابت، كما أن وضعه لمطلق عصارة الأجسام غير ثابت، و إن يوهمه بعض تعبيرات اللغويين، أو يظهر منه ذلك، ففي القاموس «عصر العنب و نحوه يعصره فهو معصور و عصير- إلى أن قال-: و عصارته و عصارة و عصيرة ما تحلب منه» و في المنجد «العصير و العصيرة و العصار ما تحلب مما عصر، العصير أيضا المعصور».

و المستفاد منهما ظاهرا أنه موضوع له نحو موضوعية العصارة له، لا أنه يطلق عليه نحو إطلاق العنوان الاشتقاقي عليه، نعم في المجمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 197

«عصرت العنب عصرا- من باب ضرب- استخرجت ماؤه، و اسم الماء العصير فعيل بمعنى مفعول» و مراده من اسمه بقرينة قوله: «فعيل بمعنى مفعول» أنه يطلق عليه وصفا.

و لعله منه أخذ بعض أهل التحقيق، حيث ذهب في رسالته المعمولة في عصير العنب إلى أن العصير أطلق على الماء المستخرج من العنب و غيره بالمعنى الوصفي، و من قبيل استعمال فعيل بمعنى مفعول، و وجهه تارة بأن العصر إذا وقع على الشي ء المتضمن للماء فقد وقع على جميع أجزائه التي منها الماء، و

أخرى بأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعول حقيقة لا يختص بما إذا كان مفعولا من غير تقييد، بل يصح إذا كان مفعولا مع تقييد بحرف كالنبيذ و النقيع و المريس، فان النبيذ استعمل في الماء الذي ينبذ فيه التمر، و النقيع فيما نقع فيه الزبيب، و المريس في الماء الذي دلك فيه التمر أو الزبيب، فهي فعيل بمعنى المفعول مع التقييد، و العصير أيضا يستعمل في الماء المستخرج استعمال الفعيل في المفعول المقيد، و قد جعل ذلك دقيقة لغوية.

و قال أيضا في تقريبه: إنه إذا تحقق العصر فالفاعل عاصر، و ذلك الشي ء معصور و الماء معصور منه، و قد يؤدى هذا المعنى بالفعل المجهول، فيقال: عصر هذا من ذاك، و قد يؤدي بصيغة المفعول، فيقال: إنه معصور منه، فالعنب و ماؤه كلاهما معصور منه، لكن كلمة «منه» في الأول نائب الفاعل، و في الثاني الضمير المستتر في المعصور الراجع إلى الماء هو نائب الفاعل، انتهى ملخصا.

و فيه مواقع للنظر: منها ما يدعي أن العصر إذا وقع على العنب وقع على مائه الذي في جوفه، لأن الماء و نحوه من المائعات لا يقع عليها العصر، و لا تصير معصورا حقيقة في العرف و اللغة، فإذا وقع العصر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 198

على شي ء كان في جوفه الماء يقع العصر على ذلك الشي ء، و يفر الماء عن تحت يد العاصر، و ربما يخرج من المعصور، فالماء لا يقبل العصر و لا يقع عليه إلا ببعض الآلات الحديثة مما توجب تكاثفه، و أما الماء في جوف العنب أو الثوب لا يصير معصورا، و إلا لكان العصير صادقا على الماء الذي في جوف العنب

إذا عصر العنب رقيقا بحيث لا يخرج ماؤه. و لكان المعصور و العصير صادقا على الماء في جوف القربة إذا عصرت و هو كما ترى، و السر فيه عدم قبول المائعات العصر.

و منها أن ما جعله دقيقة لغوية في العصير و النبيذ و مثلهما من إطلاق الفعيل بمعنى المفعول مع التقييد يخالف الموازين الأدبية و الدقائق اللغوية و مغالطة نشأت من الخلط بين المفعول الصرفي و المفعول النحوي، فان الفعيل يجي ء بمعنى المفعول الصرفي لا النحوي، و المفعول الصرفي مقابل الفاعل الصرفي لا يصدق حقيقة إلا على ما وقع عليه الفعل، فهل ترى صحة إطلاق الفعيل على المفعول فيه حقيقة، فيقال الجريح على زمان الجرح و مكانه، و على سائر المفاعيل كالمفعول المطلق و المفعول له.

ففي المقام ما وقع عليه العصر هو العنب، و لأجله خرج الماء من جوفه. فالعنب معصور و عصير بمعنى المعصور، و الماء مستخرج منه لا معصور منه، بل لا محصل عند التأمل للمعصور منه إلا أن يراد أنه معصور من قبله، مع أن الماء ليس معصورا لا من قبل العاصر كما عرفت، و لا من قبل العنب، فلو أطلق على الماء المعصور منه يكون المراد أنه مستخرج من العنب بالعصر الواقع عليه لا على الماء، نعم لا مانع من الإطلاق الاستعاري و المجازي.

و منها أن دعواه أن العنب معصور منه و كذا الماء مستشهدا بصدق عصر هذا من ذاك في غير محلها، لأن العنب معصور لا معصور منه،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 199

فان «عصر» متعد، يقال: عصر العنب يعصره فهو عاصر و ذاك معصور و لا معنى لتعديته ب «من» و أما الماء فلا يطلق

عليه أنه معصور منه بمعنى وقع عليه العصر من العاصر. فلا يصح إطلاق العصير عليه، إلا أن يراد أنه يستخرج من العنب عصرا بمعنى وقوعه على العنب لا وقوعه عليه، و كذا الحال في عصر هذا من ذاك يراد به أنه خارج منه عصرا لا أنه معصور منه، فإنه لا يرجع إلى محصل، فما زعمه دقيقة ففي الحقيقة غفلة عن دقيقة.

نعم لا إشكال في أن العصير في الأخبار على كثرتها لم يعهد استعماله في غير الماء المستخرج من العنب. كما أن استعماله فيه شائع كثير الورود فيها، بحيث لا يبقى شبهة للمتتبع فيها في أن العصير فيها ليس إلا الماء المستخرج من العنب، و هذا كاف في حمل المطلقات عليه و لو قلنا بأن استعماله حقيقة في مطلق المعتصر من الأجسام، فضلا عن القول بأنه ليس على نحو الحقيقة، لأن المتيقن منه حينئذ عصير العنب، و إرادة غيره مشكوك فيه.

و الانصاف أنه لا مجال للتشكيك في أن المراد من المطلقات و العمومات هو خصوص العنبي منه.

هذا مع أن جملة من الروايات شاهدة على أن ما هو محط النظر فيها هو خصوص ذلك، كرواية أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها و حرامها و متى اتخذ الخمر؟ فقال. إن آدم لما أهبط من الجنة اشتهى من ثمارها فأنزل اللّٰه عليه قضيبتين من عنب فغرسهما- ثم ساق قضية منازعته مع إبليس إلى أن قال:- فرضيا بينهما بروح القدس، فلما انتهيا اليه قص آدم عليه قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار فرمى به عليهما،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 200

و العنب في أغصانهما،

حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شي ء، و ظن إبليس مثل ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت و قد ذهب منهما ثلثاهما و بقي الثلث، فقال الروح: أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم» «1».

و موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إن نوحا لما هبط من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس الحبلة «2» فجاء إبليس فقلعها- الى أن قال- فجعل له الثلثين، فقال أبو جعفر عليه السلام:

إذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان، و كل و اشرب، فذاك نصيب الشيطان» «3» كذا في الكافي، و قال المجلسي: و في بعض النسخ «النخلة» و نقلها في الوسائل باختلاف ما و ذكر بدل «الحبلة» «النخلة».

أقول: و الأصح الحبلة، لأن الظاهر من المجلسي أن النسخة المشهورة كذلك، مضافا الى أن سائر الروايات قرينة عليها، كموثقة سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن إبليس لعنه اللّٰه نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل، فقال له: إن له حقا فأعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف فلم يرض، فطرح جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين و بقي الثلث، فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح» «4» و في رواية وهب بن منبه ذكر قضية نوح قال: «و كان آخر شي ء أخرج حبلة العنب- ثم ساق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الحبلة: القضيب من شجر العنب.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 201

القضية فقال-: فما كان فوق

الثلث من طبخها فلإبليس و هو حظه، و ما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح و هو حظه، و ذلك الحلال الطيب يشرب منه» «1».

يظهر من تلك الروايات أن أصل قضية التثليث و النزاع بين إبليس و آدم عليه السلام تارة و بينه و بين نوح عليه السلام أخرى انما هو في الكرم و الحبلة، و العصير هو العنبي المورد للنزاع.

و تدل عليه طوائف أخرى من الروايات منها ما حكي عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «أن الخمر من خمسة: العصير من الكرم و النقيع من الزبيب» إلخ «2».

و منها ما وردت في جواز بيع العصير ممن يعمل خمرا، مثل رواية أبي كهمس قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كل سنة و أجعله في الدنان» إلخ «3» و صحيحة رفاعة بن موسى قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره» «4» الى غير ذلك.

و منها ما سئل فيه عن بيعه فيصير خمرا قبل قبض الثمن «5».

و منها ما حكي فيها لعن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله الخمر و عاصرها و معتصرها إلخ «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1 و 3

(3) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

(6) المروية في الوسائل- الباب- 55- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 3 و 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 202

و منها أخبار متفرقة، كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه قال في الرجل إذا باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا، فقال: إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» «1» و صحيحة عبد العزيز قال: «كتبت الى الرضا عليه السلام جعلت فداك العصير يصير خمرا فيصب عليه الخل» إلخ «2».

وجه دلالة تلك الروايات هو أن الخمر كما عرفت اسم لما يختمر من العنب، و غيره لا يسمى خمرا عرفا و لغة كما هو الظاهر من الروايات أيضا، كما أن الطلاء الوارد في الأخبار كصحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام» «3» هو العصير العنبي، إما المطبوخ منه الى ذهاب الثلثين كما في بعض كتب اللغة، أو أعم من ذلك كما في بعض، ففي الصحاح «الطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه و تسميه العجم الميبختج» و في المجمع و المنجد تفسيره بذلك، و عن النهاية تفسيره بالشراب المطبوخ من عصير العنب، و في دعائم الإسلام «روينا عن علي عليه السلام أنه كان يروق الطلاء، و هو ما طبخ من عصير العنب حتى يصير له قوام» «4» و الظاهر أن التفسير من صاحب الدعائم، و لعل مراده من القوام ذهاب الثلثين.

و كيف كان لا شبهة في أن الطلاء هو العصير العنبي المطبوخ، كما يظهر أيضا من قصة ورود عمر بالشام، و توصيف أهله ما صنعوا من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة-

الحديث 8

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 203

العنب شرابا يشبه العسل، فجعل عمر يرفعه بإصبعه يتمدد كهيئة العسل فقال: كأن هذا طلاء الإبل، و لعل هذا صار سببا لتسميته به، كما أن البختج الوارد في بعض الروايات هو العصير المطبوخ، لا مطلق المطبوخ و هو واضح، و لا المطبوخ من سائر العصارات التي تجعل خمرا، لتعارف الطبخ في العصير دون غيره، و لأن الطبخ على الثلث كما في بعض رواياته هو التثليث المعهود في عصير العنب، و لم يعهد وروده في الروايات في غيره إلا في شاذ غير معتمد عليه، و لتفسيره به، فعن النهاية: «البختج العصير المطبوخ و أصله بالفارسية: مى پخته» و فسره في المجمع أيضا به.

بل قد يقال: إنه مفسر في كلام الكل بالعصير المطبوخ، و قد يقال باتفاق اللغويين على ذلك، و لعل مراده اتفاق المتعرض لتفسيره، و إلا فلم يتعرض الكل لذكره أو تفسيره، نعم الفقهاء المستدلون على نجاسة العصير المغلي بصحيحة معاوية بن عمار الآتية لم يعهد استدلالهم بها على نجاسة سائر العصارات.

فقد تحصل مما مر أن العناوين الثلاثة الواردة في الأخبار حرمتها قبل ذهاب الثلثين أي العصير و الطلاء و البختج هي خصوص العصير العنبي حتى المطلقات و العمومات كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «ذكر أبو عبد اللّٰه عليه السلام أن العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه فهو حلال» «1» و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «2» و غيرهما.

و كيف كان فقد استدل على نجاسة العصير المغلي تارة

بالإجماع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 204

و الشهرة، و قد عرفت حالهما، و أخرى بموثقة معاوية بن عمار أو صحيحته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعلم أنه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال:

خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم» «1» بتقريب أن الحمل إما حقيقي، كما هو المحكي عن جمع من الفريقين أن الخمر اسم للعصير، و إما تنزيلي، فمقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع أحكامه له.

و الجواب أن الحمل لا يمكن أن يكون حقيقيا، لأن الموضوع هو المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو النصف، و لا يجوز حمل الخمر حقيقة على مشتبه الخمرية فضلا عن العصير المشتبه، مع أن خمرية العصير بمجرد الغليان ممنوعة، لعدم صدق الخمر عليه عرفا و لغة، و سيأتي الكلام في ذلك.

و لا يمكن أن يكون تنزيليا لأن المشتبه لا يكون منزّلا منزلته واقعا بحيث يكون محرما و نجسا واقعا و لو كان مطبوخا على الثلث، بل الظاهر من الرواية صدرا و ذيلا هو السؤال عن الحكم الظاهري، و عن حال شهادة ذي اليد بالتثليث، فالمراد بقوله عليه السلام: «خمر» أي خمر ظاهرا يجب البناء على خمريته للاستصحاب، و هو و إن يكشف عن كون

المغلي قبل التثليث نازلا منزلة الخمر في الجملة، لكن لا يكشف عن إطلاق دليل التنزيل، و بعبارة أخرى إنها ليست في مقام بيان

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 4- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 205

التنزيل و حكم العصير حتى يتمسك بإطلاقها، بل بعد الفراغ عن حكمه كانت بصدد بيان حال الشك، فدعوى إمكان استكشاف دليل مطلق من الحكم الظاهري ممنوعة.

و ليس لأحد أن يقول: إنه لا يمكن أن تكون بصدد أمرين:

أحدهما تنزيل العصير منزلة الخمر و الآخر التعبد ببقاء خمريته، لأن ذلك غير معقول بجعل واحد، بل هو أسوأ حالا من استفادة قاعدة الطهارة و الاستصحاب من مثل قوله عليه السلام: «كل شي ء حلال حتى تعرف أنه حرام» «1» لأن القائل بها إنما قال باستفادة الثاني من الغاية، و المقام ليس كذلك، و أما احتمال أن يكون قوله عليه السلام:

«خمر» خبرا من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة للحكم الواقعي بالتنزيل و قوله عليه السلام: «لا تشربه» يكون نهيا عن شرب المشتبه فهو كما ترى لا يستأهل جوابا، و على فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضا لا يخلو من مناقشة.

ثم أن ذلك مع الغض عما في الرواية من الإشكال، فإنها في الكافي- بل و النسخة من التهذيب التي كانت عند الحر و الكاشاني- خالية عن لفظة «خمر» مع إتقان الكافي و شدة ضبط الكليني، و ما يقال من الاغتشاش و التحريف و الزيادة و النقيصة في التهذيب.

و يؤيد ذلك- مضافا إلى ما قيل من عدم تمسك الفقهاء بها لنجاسته، و أول من تمسك بها الأسترآبادي- أن هذا التعبير غير معهود في أدلة الاستصحاب على كثرتها عموما و

خصوصا، بل التعبير فيها بعدم نقض اليقين بالشك و ما يشبهه، بل الزيادة في مثل الرواية ليست بذلك

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة و الباب- 4- من أبواب ما يكتسب به.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 206

البعد، لأن خمرية عصير العنب لما كانت موردا للبحث و الجدال فربما تنسبق إلى ذهن الراوي أو الناسخ، فيأتي بها ارتكازا كما قلنا نظيره في قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام».

فما يقال من تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ليس مسلما مطلقا لو سلم في الجملة، و كذا ما أفاد شيخنا الأعظم من أن الظاهر عدم الزيادة حتى من الشيخ الذي يكثر منه الخلل غير موجه إن أراد بالظاهر غير الأصل العقلائي، لعدم الدليل عليه، و قد عرفت عدم ثبوت الأصل العقلائي في مثل المقام، كما أن تأييده وجود لفظ الخمر في الرواية بتعبير والد الصدوق بمضمونها في رسالته إلى ولده التي هي كالروايات المنقولة بالمعنى غير وجيه، لأن تعبير والد الصدوق غير مضمون الرواية، فإنه بصدد بيان حكم العصير العنبي إذا غلى أو نشّ بنفسه، و هي بصدد بيان الحكم الظاهري و أن المشتبه محكوم بحرمة الشرب، فأين أحدهما من الآخر! إلا أن يراد به مجرد اشتماله على لفظة «خمر» و هو كما ترى، أو يراد إن والد الصدوق عثر على رواية بذلك المضمون، و هو كذلك، لأن عبارته عين عبارة الفقه الرضوي لو كان رواية، لكن لا يوجب ذلك تأييد اشتمال الموثقة لها مع اختلافهما في المضمون.

و قد يستدل بصحيحة عمر بن يزيد بناء على كونه بياع السابري كما

لا يبعد، قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يهدي إليّ البختج من غير أصحابنا؟ فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل شربه فاقبله، أو قال: اشربه» «1» احتج بها صاحب الجواهر، و العجب من بعض أهل التتبع من دعوى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 207

عدم وجدان الاحتجاج بها من أحد.

و تقريبه أن المنع عن شرب ما في يد المستحل انما هو لخوف الإسكار، فيظهر منه أن للعصير المطبوخ قسمين: مسكر و غيره، و المستحل لا يأبى عن هدية المسكر منه، فلا يقبل هديته، و ليس المراد من ذكر الاستحلال بيان فسقه جزما، بل ذكر لمناسبة بينهما كما لا يخفى.

و فيه أولا أن غاية ما تدل الرواية عليه وجود قسم مسكر للبختج و هو لا يدل على أن مطلق المغلي قبل التثليث مسكر، و لعل المستحل كان يطبخ عصيرا و يعالجه حتى يصير مسكرا كما كانوا يعالجون النبيذ، و ثانيا أن الإسكار كما هو الظاهر من الروايات و غيرها انما يحصل بالاختمار و الفساد لا بالغليان بالنار و الطبخ المانع منهما. و معه لا خوف من الإسكار إذا كان منشأ الشك طبخه على الثلث أو أزيد.

فلا بد من حمل الرواية على أن المستحل للمسكر لما لا يبالي بالعصير المطبوخ و لا يرى غير الخمر حراما لا يجوز الاعتماد عليه في هديته، بخلاف غير المستحل، مضافا إلى أن المستحل لا يبالي بإبقاء العصير قبل تثليثه للشرب مدة حتى يعرض عليه الاختمار المطلوب لأصحابه.

و أما الاستدلال عليها بالروايات الحاكية لقضيتي آدم و نوح عليهما السلام

مع إبليس بدعوى دلالتها على أن تلك الواقعة منشأ تحريم الخمر و فيها دلالة واضحة على أن عصير العنب إذا غلى بالنار أو نش بنفسه حكمه حكم الخمر إلا أن يذهب ثلثاه أو يصير خلا كما أفاده الشيخ الأعظم ففيه أنه لا دلالة فيها رأسا، فضلا عن وضوح الدلالة.

أما رواية أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها و حرامها و متى اتخذ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 208

الخمر؟ فقال: إن آدم لما أهبط من الجنة» «1» ثم ساق القضية في بيان حرمة عصير العنب المغلي قبل ذهاب ثلثيه، ففيها إشعار بأن العصير المغلي خمر حقيقة، حيث تصدى لبيان حرمته عند السؤال عن بدو حرمة الخمر، لكن لما كانت خمرية العصير المغلي خلاف الوجدان و الضرورة و ان فرض مسكريته مع ممنوعيتها أيضا فلا محالة لا يريد بذكر القضية بيان خمريته، بل أراد بيان بدو القضية و مقدماتها حتى انجر إلى حرمة الخمر، فكأن نزاع آدم مع إبليس في الكرم صار موجبا لتحريم الخمر، لا أن محل النزاع هو الخمر، فإنه خلاف الواقع.

و أما احتمال كونه بصدد بيان أن حكم العصير حكم الخمر ففي غاية البعد، لعدم تطابق السؤال و الجواب، فإنه سأل عن بدو حرمة الخمر، فالجواب بأن عصير العنب خمر حكما غير مربوط به، و بالجملة هذه الرواية محمولة على أنه بصدد بيان أن الخمر كان حراما من لدن زمن آدم عليه السلام، كما وردت به روايات، و بدؤ قصتها نزاع آدم (ع) مع إبليس في الكرم و عصيرة، لا بصدد بيان أن العصير خمر أو في حكمه، كما

يظهر بالتأمل في سائر روايات الباب، هذا مع ما فيها من الضعف سندا.

و أما سائر الروايات الواردة في تلك القضية أو قضية نوح عليه السلام فلا إشعار فيها لما ذكره رحمه اللّٰه، و أما الاستدلال عليها بقوله عليه السلام: «فلا خير فيه» «2» و قوله عليه السلام: «فمن هنا طاب الطلاء على الثلث» «3» و قوله عليه السلام: «و ذلك الحلال

______________________________

(1) مرت في ص 199.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 209

الطيب» «1» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «الخمر من خمسة: العصير من الكرم» «2» ففيه ما لا يخفى.

نعم يمكن الاستدلال عليها برواية فقه الرضا (ع) قال: «الخمر حرام بعينها- الى أن قال-: و لها خمسة أسامي، فالعصير من الكرم و هي الخمرة الملعونة» «3» بأن يقال: إن العصير لما لم يكن وجدانا الخمرة الملعونة لا بد من الحمل على التنزيل، و إطلاقه و ان اقتضى كونه بمنزلتها حتى قبل الغليان و بعد التثليث لكنهما خارجان نصا و فتوى و بقي الباقي، و مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع الأحكام له.

و فيه مضافا الى ضعفها أن ظاهرها بقرينة قوله: «و لها خمسة أسامي» و سائر فقرأتها أن المراد بها الخمرة الواقعية لا التنزيلية، كما يشعر به توصيفها بالملعونة، و لما كان العصير قبل غليانه و بعده إذا كان بالنار ليس خمرا حقيقة بلا شبهة فلا محالة يراد بذلك العصير الخاص المختمر.

و يمكن الاستدلال عليها بالفقه الرضوي أيضا. قال فيه: «اعلم أن أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير

أن تصيبه النار فهو خمر، و لا يحل شربه إلا أن يذهب ثلثاه» إلخ «4» و هو بعينه عبارة والد الصدوق رحمهما اللّٰه. بأن يقال: إن حمل الخمر عليه بعد ما لم يكن حقيقيا يحمل على التنزيل، و عمومه يقتضي ترتب جميع الآثار، لكنه غير صالح للاستناد عليه لضعفه، بل عدم ثبوت

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 11.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(3) المستدرك- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 210

كونه رواية، مع احتمال أن يكون التنزيل في حرمة شربه، كما قيل في موثقة ابن عمار.

و مما جعله صاحب الجواهر مؤكدا لنجاسته قوله: «إنه قد استفاضت الروايات بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ و غيره على الإسكار و عدمها على عدمه مع استفاضة الروايات بحرمة عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين، و حملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقق الإسكار فيه، بل هو أولى لأصالة عدم التجوز، بل لعله متعين لعدم القرينة، بل قد يقطع به لعدم ظهور شي ء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية، بل و لا إشارة» انتهى.

و هو لا يخلو من غرابة، لعدم ورود رواية في مطلق الأشربة و لا في الخمر أو العصير أو النبيذ بنحو ما ذكره من التعليق فضلا عن استفاضتها نعم وردت روايات كثيرة بأن كل مسكر حرام، و أن المسكر حرام، و في النبيذ روايات بأن المسكر منه حرام.

و أما ورود روايات بأن ما ليس بمسكر فليس بحرام فكلّا، لا بنحو

الإطلاق أو العموم و لا في موضوع خاص، فدوران الأمر بين التخصيص و التخصص لا موضوع له جزما ثم، لو فرض ورود روايات في النبيذ بذلك المضمون فلا ربط له بالعصير العنبي الذي هو عنوان خاص مغاير له، فما معنى تخصيص ما ورد في النبيذ بما ورد في العصير.

مضافا إلى أن أولوية التخصص من التخصيص فيما إذا علم المراد ممنوعة، فإذا علم عدم وجوب إكرام زيد و لم يعلم أنه عالم و خارج عن وجوب إكرام العلماء تخصيصا أو ليس بعالم فخرج تخصصا لا دليل على تقديم الثاني، فأصالة عدم التخصيص كأصالة الحقيقة غير معول عليها مطلقا في نحو المقام، و أما تشبثه بأصالة عدم التجوز فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 211

يخفى ما فيه، و في كلامه موارد أخر للمناقشة.

فتحصل من جميع ما ذكر عدم دليل على نجاسته، فالأصل طهارته من غير فرق بين ما غلى بنفسه أو بالنار و غيرها.

و قد فصل ابن حمزة في الوسيلة بين ما غلى بنفسه فذهب إلى نجاسته و حرمته إلى أن يصير خلا، و بين ما غلى بالنار فذهب إلى حرمته الى ذهاب الثلثين دون نجاسته، و ربما يتوهم أن تفصيله ليس في الحكم الشرعي، بل لإحراز مسكرية ما غلى بنفسه، فحكمه بالنجاسة لمسكريته لا للتفصيل في العصير، و لقد أصرّ على ذلك بعض أهل التتبع، حتى نسب الغفلة إلى أساطين العلم و جهابذة الفن، و أرعد و أبرق في رسالته المعمولة لحكم العصير، و لم يأت بشي ء مربوط بجوهر المسألة الفقهية.

و قد وقع منه فلتأت عجيبة، من جملتها دعوى عدم تفرد ابن حمزة في ذلك التفصيل، و زعم أن مرجع أقوال

عدا من شذ الى هذا القول، و عدّ منهم شيخ الطائفة و الحلي و القاضي صاحب دعائم الإسلام و القاضي ابن البراج في المهذب و الشهيد في الدروس، بل استظهر من رسالة على ابن بابويه و من عبارة فقه الرضا، ثم قال: «إن المحقق و العلامة و الفاضل المقداد كلهم موافقون لما عزي الى ابن حمزة من التفصيل، و أن عدّ قولهم مقابلا لقوله ناش من عدم تدقيق النظر و تحديد البصر فانتظر لهذه الفائدة التي لم يتنبه لها أحد في الحديث و القديم و لا ينبئك مثل الخبير العليم» انتهى.

و أنا أقول: لم أر من وافق ابن حمزة حتى صاحب هذه الرسالة نفسه، و لتوضيح ذلك لا بد من تحرير المسألة حتى يتضح موضع الخلط فنقول: إن محط البحث في هذه المسألة بعد الفراغ عن حكم المسكر و نجاسته في أن العصير العنبي هل هو ملحق بالمسكرات في النجاسة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 212

مطلقا أو لا مطلقا أو ملحق بها إذا غلى بنفسه دون ما إذا غلى بالنار؟

و الأقوال انما تتقابل في المسألة الفقهية إذا كان محط كلامهم العصير الذي لا يسكر، أو لم يحرز إسكاره، و أما إذا ادعي أحد مسكريته فحكم بنجاسته و الآخر عدمها فذهب الى طهارته و المفصل يرى مسكرية قسم منه فلا تتقابل في المسألة الفقهية، و لو فرض اختلاف كلامهم موضوعا فلا تتقابل الأقوال رأسا.

ثم أنه قد وقع خلاف آخر بين الفقهاء في غاية حرمة العصير لا نجاسته، فذهب جمع الى أن غايتها ذهاب الثلثين، و جمع آخر الى التفصيل بين ما غلى بنفسه فغايتها انقلابه خلا، و ما غلى بالنار فذهاب

الثلثين.

إذا عرفت ذلك فاعلم إن ابن حمزة قائل بالتفصيل في المسألتين و لم يوافقه أحد فيما أعلم في المسألة الأولى، و وافقه جملة من الأساطين في الثانية، و الخلط بين المسألتين صار سببا لنسبة التفصيل في المسألة الأولى إليهم، و قلة التأمل في كلام ابن حمزة بل و في المسألة أيضا صارت منشئا لتوهم أن ابن حمزة قائل بنجاسة ما غلى بنفسه لصيرورته مسكرا، كما أن قلة التدبر في كلمات القوم صارت منشئا لزعم موافقتهم مع ابن حمزة في التفصيل بما زعم أنه قائل به، و نحن نحكي كلام ابن حمزة و الشيخ حتى يتضح مورد خلط صاحب الرسالة في كلامهما ثم راجع الى غيرهما من كلمات الأصحاب حتى يتضح لك الأمر.

قال ابن حمزة في الوسيلة بعد ذكر الأشربة التي تؤخذ من الحيوان بهذه العبارة: «و أما ما يؤخذ من الأشربة من غير الحيوان ضربان:

مسكر و غير مسكر، فالمسكر نجس حرام- ثم قال-: و غير المسكر ضربان: ربّ و غيره- ثم قال-: و غير الربّ ضربان إما جعل فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 213

شي ء من المسكرات و يحرم شربه و ينجس بوقوع المسكر فيه أو لم يجعل فيه شي ء منها، فان كان عصيرا لم يخل إما غلى أو لم يغل، فان غلى لم يخل إما غلى من قبل نفسه أو بالنار، فان غلى من قبل نفسه حتى يعود أسفله أعلاه حرم و نجس، إلا أن يصير خلا بنفسه أو بفعل غيره فيعود حلالا طيبا، و إن غلى بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه و نصف سدسه، و لم ينجس أو يخضب الإناء و يعلق به و يحلو»

انتهى.

و ظاهر كلامه كالصريح في أن التفصيل بين المغلي بنفسه و غيره بعد الفراغ عن عدم كونه مسكرا، فإنه من قسم غير المسكر الذي لم يقع فيه مسكر كما هو واضح، فهو مفصل في مسألتنا و قائل بنجاسة العصير الذي غلى بنفسه و لم يكن مسكرا، و جعل غاية النجاسة الانقلاب بالخل كما أنه مفصل في المسألة الثانية بأن غاية الحلية فيما إذا غلى بنفسه صيرورته خلا و فيما إذا غلى بالنار التثليث، و كثير من الأصحاب وافقوه في المسألة الثانية دون الأولى، حتى أن صاحب الرسالة أيضا لم يوافقه فيها و لم يلتزم بالنجاسة لو فرض عدم إسكاره، لكنه مدع لذلك، و سيأتي الكلام فيه.

و قال الشيخ في النهاية: «كل ما أسكر كثيره فالقليل منه حرام لا يجوز استعماله بالشرب و التصرف فيه بالبيع و الهبة، و ينجس ما يحصل فيه خمرا كان أو نبيذا أو تبعا أو نقيعا أو مزرا أو غير ذلك من أجناس المسكرات، و حكم الفقاع و حكم الخمر على السواء في أنه حرام شربه و بيعه و التصرف فيه، و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل، و حدّ الغليان الذي يحرّم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه، فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود الى كونه خلا، و إذا غلى العصير على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 214

النار لم يجز شربه الى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» انتهى.

و أنت خبير بأن الظاهر منه موافقة ابن حمزة في غاية الحلية لا في النجاسة، بل الظاهر منه عدم نجاسة العصير مطلقا، حيث جعله مقابل النجس، و لم يحكم بالتسوية فيه

كما حكم في الفقاع، و إن كانت عبارته في الفقاع لا يخلو من نوع إجمال، و على هذا المنوال أو قريب منه العبارات المحكية عن ابن إدريس و صاحب الدعائم و القاضي ابن البراج و الشهيد، فإنها أيضا بصدد بيان المسألة الثانية لا الأولى، فراجع.

و أعجب من ذلك إرجاع كلمات المحقق و العلامة و الفاضل المقداد إلى ما فصل ابن حمزة، مع أن المتأمل في عباراتهم لا ينبغي أن يشك في خلافه، و أنهم في طرف النقيض منه، قال المحقق في المعتبر: «و في نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردد، أما التحريم فعليه إجماع فقهائنا، ثم منهم من أتبع التحريم النجاسة، و الوجه الحكم بالتحريم مع الغليان حتى يذهب الثلثان، و وقوف النجاسة على الاشتداد».

و هو صريح في خلاف ابن حمزة القائل بالنجاسة مع عدم السكر إن أراد بالاشتداد السكر، كما قال به صاحب الرسالة، و نحوه في ذلك كلام العلامة و المحكي من الفاضل المقداد، و أما والد الصدوق فقال في وصيته الى ابنه: «اعلم يا بني أن أصل الخمر من الكرم، إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فيصير أسفله أعلاه فهو خمر لا يحل شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، فان نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلا من ذاته من غير أن تلقي فيه أو ملحا أو غيره حتى يتحول خلا» انتهى.

و هو كما ترى مخالف لابن حمزة و موافقيه في المسألة الثانية: أي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 215

غاية الحلية، و أما قوله: «فان نش» إلخ فمسألة أخرى غير مربوطة بما ذكرها أولا، كما لا يخفى على

المتأمل في قوله: «من غير أن تلقى» إلخ، لكن صاحب الرسالة لم يرتض إلا أن يؤوّل كلامه، و كذا عبارة فقه الرضا الموافقة له بما لا يرضى به صاحبهما و لا منصف متأمل.

فتبين مما مر أن ابن حمزة متفرد في تفصيله في مسألتنا بذهابه إلى النجاسة في المغلي بنفسه مع عدم إسكاره، و عدمها في المغلي بالنار.

ثم أن تفصيله خال عن الوجه، بل لو فصل أحد بعكس ما فصل أي ذهب إلى نجاسة ما يغلى بالنار دون ما يغلى بنفسه لكان أوجه، بدعوى أن عمدة ما يمكن أن يتمسك بها للنجاسة موثقة معاوية بن عمار و صحيحة عمر بن يزيد المتقدمتان، و هما واردتان في البختج، و هو العصير المطبوخ، بل غالب ما يستدل به لها إنما هو في العصير المغلي بالنار.

و كيف كان فالأقوى طهارة العصير، سواء غلى بالنار أو بنفسه، إلا أن يحرز مسكريته، و هو أمر آخر.

ثم أنه لا يلزم علينا دفع الشبهة الموضوعية، و ليس تحقيق مسكرية ما غلى بنفسه شأن الفقيه، لكن لا بأس في البحث عنها على سبيل الاختصار دفعا لتوهم دلالة الروايات عليها، و العجب من صاحب الرسالة أنه لما سمع أن قائلا من معاصريه قال: إن البحث في الشبهة الموضوعية ليس بمهم للفقيه، اعترض عليه و نسبه إلى الغرور و الغفلة و البعد عن تلك المسائل بمراحل، و أنه عدو لما جهله، و قال: «إن الذي لا يهم للفقيه أن يتكلم في موضوع وهمي فرضي، من قبيل اتصاف الشي ء بنقيضه، أو سلب الشي ء عن نفسه، أو يتعرض لحكم الكوسج العريض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 216

اللحية، أو العنين المستهتر بالجماع» انتهى.

و أنت

خبير بما في كلامه من الوهن، و كيف غفل عن أمر واضح و هو أن تنقيح الموضوعات و إثبات كون شي ء خمرا أو خلا، أو أن الأدوية الكذائية مسكرة أو ليست بمسكرة، أو أن المسافة الكذائية ثمانية فراسخ أو لا، و هكذا ليس من المسائل الفقهية التي للفقيه البحث عنها، و ليس رأى الفقيه فيها حجة على غيره، و إنما شأنه البحث عن الأحكام الكلية و مداركها لا عن موضوعاتها.

و كيف كان فقد زعم أن في المسألة إعضالات لا تنحل إلا بالالتزام بمسكرية العصير المغلي بنفسه.

أحدها: أن الروايات المتضمنة لحرمة العصير المطبوخ كلها مغياة بذهاب الثلثين، و لم يتفق التحديد بذهابهما الا فيما تضمن لفظ الطبخ أو ما يساوقه كالبختج و الطلاء، و أما الروايات الحاكمة بتحريم العصير بالغليان فكلها خالية عن التحديد بهما، فجعل هذا شاهدا على أن العصير المغلي بنفسه مسكر و شاهدا على التفصيل المتقدم، بعد التنبيه على أن الغليان و النشيش إذا أسند إلى الأشياء التي يحدثان فيها تارة بسبب و أخرى باقتضاء نفسها من غير ذكر السبب، كان المراد بهما حصولهما بنفسها لا بالسبب، و بعد دعوى حصول السكر بمجرد الغليان.

و فيه أنه بعد تسليم كون الروايات كما زعمها لا تدل هي إلا على أن غاية الحرمة فيما نش بنفسه ليست التثليث، و هو موافق للتفصيل في المسألة الثانية المشار إليها في صدر البحث، و غير مربوط بالمسألة الأولى و لا هي شاهدة على حصول السكر في المغلي بنفسه، مع أن دعاويه بجميع شعبها ممنوعة أو غير مسلمة.

أما دعوى كون الغليان إذا لم يسند إلى سبب و مؤثر خارجي يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 217

المراد ما حصل بذاته ففيها- مضافا إلى كونها مجردة عن الدليل- ما لا يخفى، فان المتبادر من الغليان عرفا و لغة هو الفوران و القلب بقوة، و لا يبعد أن يكون مأخوذا من الصوت في الأصل ثم اشتق منه.

ففي المجمع: «غلت القدر غليانا إذا اشتد فورانها» و في المنجد:

«غلت القدر: جاشت بقوة الحرارة» و لم يفسره في الصحاح و القاموس لوضوحه عرفا، و معلوم أن الفوران و اشتداده لا يحصل فيما إذا غلى العصير بنفسه، بل ما حصل بنفسه هو النش و الجيش الضعيف، فاذن لأحد أن يقول: إن الغليان و سائر تصاريفه إذا أسند إلى شي ء بلا اضافة الى نفسه يتبادر منه الفوران الشديد بقوة الحرارية النارية و غيرها، و إذا قيل غلى بنفسه يراد منه القلب الضعيف غالبا، و لعل النش المستعمل في الروايات فيما إذا غلى العصير بنفسه عبارة عن الصوت الحاصل من الجيش الضعيف للعصير المغلي بنفسه و إن كان لغة أعم منه.

و كيف كان لا بينة على دعواه، بل على خلافها، و لا أقل من أن يكون الغليان أعم.

و أما دعوى حصول الإسكار بمجرد الغليان فسيأتي الكلام فيها، و مما ذكرنا يظهر حال مستنده، و هو أن كل ما ذكر فيه الغليان لم يذكر فيه الثلثان لإثبات أن الغليان بنفسه موجب للإسكار، مع أن الواقع ليس كما ذكره.

أما صحيحة حماد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «1» فمع الغض عما ذكرناه آنفا- و الغض عن احتمال كون «يغلي» مجهولا من باب التفعيل، و لا دافع له إلا الظن الخارجي الغير الحجة، و الغض عن أن المراد في مقام الذي بصدد بيان الكبرى

______________________________

(1) الوسائل-

الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 218

الكلية- هو مطلق الغليان بنفسه أو بغيره جزما. و لا تعارض بينها و بين ما دل على حرمة العصير المغلي بالنار، و أن الاختصاص موجب لمخالفته للواقع نصا و فتوى، فلا معنى لذكر الثلثين فيها، لأنها بصدد بيان غاية الحلية لا غاية الحرمة كما هو واضح.

و منه يظهر الحال في روايته الأخرى قال: «سألته عن شرب العصير، قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه، قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: القلب» «1» فإنها أيضا بيان غاية الحلية صدرا و ذيلا، فلا معنى لذكر التثليث فيها، و أما موثقة ذريح قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إذا نش العصير أو غلى حرم» «2» فهي كالنص في خلاف دعواه، و لهذا تشبث بدعوى أخرى، و هي أن الرواية في النسخ المصححة من الكافي بالواو، و في التهذيب «أو» بدلها قال: «و الأول أصح لأضبطية الكافي، و أنه لا وجه لجعل النشيش و هو الصوت الحاصل بالغليان مقابلا له، إلا على وجه راجع الى عدم المقابلة» انتهى.

و فيه أن الرواية على ما هو الموجود في كتب الأخبار و الفقه و اللغة كالمرآة و الوسائل و الحدائق و الجواهر و المستند و طهارة الشيخ و مصباح الفقيه و مجمع البحرين انما هي بأو لا بالواو، و لم يشر أحدهم حتى المجلسي إلى اختلاف نسخ الكافي فضلا عن كون النسخ المصححة كذلك، فأضبطية الكافي انما تفيد إذا ثبت كونها كذلك فيه، و أما مع اختلاف نسخه على فرض التسليم و اتفاق نسخ التهذيب بذكر «أو» موافقة للنسخ المشهورة المتداولة من

الكافي، فلا وجه لرجحان ما ذكر.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 219

مع أن الأصح بحسب الاعتبار نسخة التهذيب، لما أشرنا إليه من أن النش كلما أطلق في الأخبار أريد به الجيش بنفسه، و الغليان عند الإطلاق بمناسبة ما ذكرناه هو ما حصل بالنار و لا أقل من كونه أعم، لكن في الرواية بعد عدم معنى لذكر النش و الغليان معا بعد كون أحدهما موضوعا للحكم لا بد و أن يراد بالنش ما ذكرناه، كما في سائر الروايات، و بالغليان ما غلى بغيره، فلا بد من العطف بأو لا الواو لكن صاحب الرسالة لما اغتر بإصابة رأيه فتح باب التأويل و التحريف في الروايات المخالفة له.

و أما دعواه بأن كل ما ورد بلفظ الطبخ أو ما يساوقه فهو مغياة بذهاب الثلثين ففيها إنه إن أراد بذلك أن ما ذكر فيها ذهاب الثلثين منحصر بالمطبوخ كما هو الظاهر منه- و لهذا ادعى أمرا آخر، و هو أن المغلي بنفسه إذا ذهب ثلثاه بالنار يكون حراما، و لا يفيد التثليث إلا في العصير الذي طبخ قبل نشيشه بنفسه- ففيها منع، فان الظاهر من غير واحد من الروايات أن التثليث غاية مطلقا، ففي رواية أبي الربيع الشامي بعد ذكر منازعة آدم عليه السلام و إبليس لعنه اللّٰه قال:

«فرضيا بروح القدس، فلما انتهيا اليه قص آدم عليه السلام عليه قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار فرمى به عليهما (اي على القضيبتين) و العنب في أغصانهما حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شي ء، و ظن إبليس مثل

ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت، و قد ذهب منهما ثلثاهما و بقي الثلث، فقال الروح: أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم» «1» فان الظاهر منها أن التثليث مطلقا موجب للحلية، لأن إخراق نفس القضيبتين انما هو لتعيين حظ آدم و إبليس، و هو غير

______________________________

(1) مرت في ص 199.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 220

مربوط بطبخ عصير العنب و تثليثه بالنار، فبعد تعيين ذلك و تحديد الحدود قال الروح: «أما ما ذهب منهما فحظ إبليس» أي مقدار ما ذهب من القضيبتين و هو الثلثان فحظ إبليس من العصير الذي نش أو غلى بالنار، و انما قيدناه بذلك لقيام الإجماع و الضرورة بعدم حظ لإبليس في نفس العنب و لا في عصيرة قبل الغليان.

فاتضح مما ذكر من فقه الحديث أن مقتضى إطلاقها أن الثلثين من العصير المغلي بنفسه أو بغيره لإبليس، و بعد ذهابهما يتخلص سهم آدم (ع) و يحل ما بقي، و منه يظهر الكلام في موثقة سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «1» و كأن صاحب الرسالة حمل الطبخ في الروايتين و نحوهما على طبخ العصير، فصار ذلك موجبا لدعواه المتقدمة مع أنهما صريحتان في أن الإحراق وقع في نفس القضيبتين و الكرم لتعيين الحظين لا في العصير للتثليث.

و في موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام بعد ذكر معارضة إبليس نوحا عليه السلام في الحبلة «فقال جبرئيل أحسن يا رسول اللّٰه فان منك الإحسان، فعلم نوح أنه قد جعل له عليها سلطان، فجعل له الثلثين، فقال أبو جعفر عليه السلام: فإذا أخذت عصيرا فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان

فكل و اشرب» «2» و هو أيضا ظاهر في

______________________________

(1) قال: «إن إبليس نازع نوحا في الكرم، فأتاه جبرئيل فقال له: «إن له حقا، فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف فلم يرض، فطرح عليه جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين و بقي الثلث فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح حلال» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 221

أن حظ إبليس هو الثلثان، و أما قول أبي جعفر عليه السلام فتفريع على قول نوح لا ينبغي أن يتوهم منه اختصاص الغاية بذهاب الثلثين بالنار، كما لا يتوهم منه اختصاص الحرمة بالغليان بها.

و في حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «كان أبي يقول: إن نوحا حين أمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه، فلما أراد أن يغرس العنب قال: هذه الشجرة لي، فقال نوح: كذبت، فقال إبليس: فما لي منها؟ فقال نوح: لك الثلثان، فمن هناك طاب الطلاء على الثلث» «1» و هي أوضح في تفريع قوله: «فمن هناك» إلخ على كلية هي كون الثلثين من العصير المغلي لإبليس لعنه اللّٰه و الثلث لنوح عليه السلام، و من هنا يظهر حال رواية وهب بن منبه «2».

و في مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلى من ساعته أ يشربه صاحبه؟

فقال: إذا تغير عن حاله و غلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «3» و هي أوضح فيما ذكرناه، فان فاعل «تغير» و «غلى» ضمير

راجع الى العصير، لا هو مع قيد الطبخ و الغليان، و هو واضح، فحينئذ إعراضه عن الموضوع المفروض في السؤال و استيناف الكلام بأنه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 10

(2) و فيها: قال عليه السلام- أي نوح-: «لي الثلث و له الثلثان، فرضي، فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس و هو حظّه، و ما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح عليه السلام و هو حظّه، و ذلك الحلال الطيّب ليشرب منه» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 2- أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 222

«إذا تغير عن حاله و غلى» لإعطاء قاعدة كلية، و هي أن مطلق التغير عن حاله و الغليان موجب للحرمة إلى ذهاب الثلثين مع أن قوله عليه السلام: «تغير عن حاله» لا يبعد أن يكون ظاهرا في الفساد الذي يحصل من الجيش بنفسه، و كيف كان لا وجه لاختصاصه بالنار.

و في فقه الرضا «اعلم أن أصل الخمر من الكرم، إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر، و لا يحل شربه إلا أن يذهب ثلثاه على النار و بقي ثلثه، فان نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلا من ذاته من غير أن يلقى فيه شي ء» «1».

و هي ظاهرة في أن ما غلى بنفسه يحل إذا ذهب ثلثاه على النار، و أما قوله: «فإذا نش .. فدعه» إلخ فمتعرض لفرع آخر، و هو عدم جواز إلقاء شي ء خارجي فيما يجعل خلا، بل لا بدّ من أن يدعه حتى يصير خلا بذاته من دون إلقاء

شي ء فيه.

و انما قيد ذهاب الثلثين بكونه على النار لأجل أن التثليث بغير النار قلما يتفق، بل العصير إذا غلى بنفسه يصير خلا أو خمرا بعلاج أو بغيره قبل أن يذهب ثلثاه، لا أقول: إنه يصير خمرا أو مسكرا بمجرد الغليان بنفسه، بل أقول قبل ذهاب الثلثين يتبدل إليه أو الى الخل، و لهذا قيده بقوله: «على النار».

و لعله لأجل ما ذكرناه من عدم دخالة النار في الحلية لو اتفق التثليث بغيرها أسقطها على بن بابويه، فقال: لا يحل شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، مع أن كلامه عين ما في فقه الرضا تقريبا، لكن صاحب الرسالة نقل كلام ابن بابويه ثم قال: «و الذي أحصله من هذا الكلام أن عصير الكرم إذا أصابته النار و لم يذهب ثلثاه و ترك

______________________________

(1) مرت في ص 209.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 223

على هذا الحال أو غلى من غير أن يصيبه النار فهو خمر، و إن لم يترك طبخه حتى ذهب ثلثاه كان حلالا، و إن غلى بنفسه كان خمرا لا يفيد فيه التثليث إلا أن ينقلب خلا» انتهى.

و ليت شعري من أين حصل له هذا الأمر المخالف لظاهر الكلام بل صريحه؟ و من أين لفق بالعبارة قوله: «و ترك على هذا الحال» و قوله: «و إن لم يترك طبخه حتى يذهب ثلثاه كان حلالا» حتى وافقت مذهبه بعد مخالفتها له؟ مع أنه على فرض كون مراده ذلك لا يتضح موافقته لمذهبه، لما مر من أن هؤلاء انما يكون كلامهم في مسألة الحلية و الحرمة، لا النجاسة و الطهارة، و لم يتضح أن مراده من كونه خمرا أنه هو تكوينا،

و لعله تبع بعض النصوص في إطلاق الخمر عليه كما هو دأبه، و لم يظهر منه و لا من الفقهاء ملازمة النشيش و الغليان من قبله نفسه مع الإسكار و ان نسب صاحب الرسالة ذلك أيضا إليهم من غير حجة، بل مع الحجة على خلافه كما لعلنا أشرنا إليها من ذي قبل.

الإعضال الثاني: أنه قد ورد في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «1».

هذا التقييد لا يتضح وجهه مع أنه بصدد إعطاء القاعدة، و موضوع الحكم مطلق ما غلى بنفسه أو بالنار، فالتقييد مخل إن قلنا بمفهوم الوصف، و موجب لعدم دلالته على حكم ما غلى بنفسه إن لم نقل به، فالمناسب أو المتعين أن يقول: «كل عصير غلى فهو حرام حتى يذهب ثلثاه» و جعل وجه حله أن الحديث في مقام بيان الحرمة المحدودة بذهاب الثلثين، و ليست إلا في العصير المطبوخ، فالتقييد في موقعه، و الضابطة

______________________________

(1) مرت في ص 202.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 224

تامة، و القاعدة محكمة، انتهى ملخصا.

و فيه أولا أنه بعد تسليم ما ذكره لا تدل إلا على أن غاية الحرمة في المغلي بالنار ذهاب الثلثين لا في المغلي بنفسه، و هو غير مربوط بمدعاه الذي ذكر الاعضالات و الانحلالات المتوهمة لأجله، و هي مسكرية ما غلى بنفسه دون ما غلى بالنار.

و قد عرفت أن مورد البحث و محط كلام الفقهاء في مسألتين:

إحداهما في النجاسة و الطهارة، و الثانية في غاية الحلية، فالرواية على فرض تمامية مدعاه مربوطة بالثانية، و هو يريد الاستدلال بها للأولى على

زعمه في طرح المسألة، و ثانيا انه لا إشكال في أن الصحيحة بصدد بيان حرمة ما أصابته النار لا مطلق العصير المغلي، كما لا إشكال في أن ذهاب الثلثين غاية للحرمة فيه، و أما عدم ذكر العصير المغلي بنفسه مع حرمته بنحو الإطلاق فهو إشكال مشترك لو فرض وروده.

و العذر بأنها بصدد بيان العصير الذي يصير حلالا بذهاب الثلثين تسليم للإشكال لا دافع له، إلا أن يقال: إنها بصدد بيان الغاية فقط، و هو كما ترى. هذا مع عدم ورود الإشكال رأسا، لأن السكوت عن بعض أنواع موضوع بعد عدم المفهوم للقيد هنا جزما غير عزيز، سيما إذا كان المذكور أخفى حكما كما في المقام.

و الظاهر أنه غفل عما التزم به من اختصاص مثل رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «1» بما يغلي بنفسه، مع أنها بصدد بيان الضابطة و القاعدة الكلية جزما، و الضابطة مع ذلك الاختصاص مخلة بالمقصود جزما، لأن ما غلى بالنار حرام أيضا، و لم يذكر فيها الغاية حتى يتوهم أنها بصدد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 225

بيان ما كانت غايته التخليل، اللهم إلا أن يقول: الذي أحصله منها ذلك، كما قال في عبارة الصدوق، فلا كلام لنا حينئذ.

و ثالثا أنه لقائل أن يقول: إن إطلاق ذيل الصحيحة يقتضي أن يحل ما أصابته النار بذهاب الثلثين و لو بغير النار، و مجرد كون الغليان بالنار لا يوجب صرفه الى كون التثليث بها، و لو توهم الانصراف فهو بدوي، كما أن ندرة الوجود لا توجبه، بل مقتضى إطلاق

صدرها أن ما أصابته النار أعم مما كانت الإصابة بعد النش بنفسه أو لا، و أول مراتب النش ليس بنادر في العصير الذي يتهيأ للطبخ، سيما إذا كان كثيرا و يعصر بتدريج، و سيما إذا كان في المناطق الحارة، و ليس ظهور الصحيحة في حدوث الحرمة بإصابة النار ظهورا يدفع الإطلاق، سيما مع قوة احتمال أن يكون المقصود الأصلي فيها بيان غاية التحريم.

فتكون دالة على خلاف مدعاه من وجهين: أحدهما دعواه بأن ما غلى بنفسه لا يحل و لا يطهر إلا بصيرورته خلا و لا يفيده ذهاب الثلثين بالنار، و هي دالة على خلافها، و ثانيهما دعواه بأن ما غلى بالنار لا يحل إلا بذهاب ثلثيه بها، و هي دالة على خلافها.

الإعضال الثالث أنه قد وقع في موثقة عمار ما لم يهتد الى وجهه و سره أغلب الواقفين عليها قال عمار: «وصف لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا، فقال: تأخذ ربعا من زبيب و تنقيه، ثم تصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء، ثم تنقعه ليلة، فإذا كان أيام الصيف و خشيت أن ينش جعلته في تنور مسجور قليلا حتى لا ينش- إلى أن قال-: ثم تغليه بالنار، فلا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان و يبقى الثلث» «1» فان هذه الفقرة مما تحير الناظر من وجهين:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 226

أحدهما أنه إذا نش خارج التنور فهو بأن ينش فيه أولى، فكيف داواه بما يضاعفه؟ الثاني أنه أمره بعد ذلك بالتثليث، فالنشيش ليس فيه محذور يخاف منه، و لو فرض خوف فيندفع بعد الغليان و

التثليث، ثم حل هذه المعضلة بأنه إذا نش بنفسه حدث فيه الإسكار و بطل المقصود، إذ لا بد من إراقته أو تخليله، بخلاف تعجيل غليانه بالتنور المسجور، فإنه يمنع من تسارع الفساد عليه، انتهى بتلخيص.

و فيه- بعد الغض عن تسميتها موثقة مع ترددها بين موثقة و مرسلة، و بعد الغض عن أن ذلك بعد تسليم المقدمات لا ينتج مقصوده لأن غاية ما يستفاد منها أنه مع النشيش بنفسه لا يحلله التثليث، و هو المسألة الثانية من المسألتين المتقدمتين، و هو استدل بها للأولى- أن هذه الرواية لا يمكن التعويل عليها حتى في حرمة ما ينش بنفسه لو لا دليل آخر، ضرورة أن القيود الكثيرة المأخوذة فيها مما لا دخالة لها في الحلية تمنع عن الاستدلال بها، فمن المحتمل قريبا أن يكون الأمر بجعله في التنور لئلا ينش لأجل أن النشيش بنفسه يوجب الفساد تكوينا فلا يحصل معه المقصود من تحصيل مشروب لذيذ طبي مطبوخ له خواص و آثار «1» لا لما ذكره من لزوم إراقته أو تخليله، إلا أن يقول: الذي أحصله ذلك، و لا كلام معه.

نعم لا إشكال في أن الرواية دالة على أنه بعد ما عمل بدستوره حصل له مطبوخ حلال، و أما لو نش فلم يصر حلالا لإسكاره و لا يحل

______________________________

(1) أي يحتمل أن يكون الدستور طبيا لا شرعيا نظير ما احتمله المستدل جوابا عن استدلال القائلين بالحرمة بهذا الخبر و نحوه من الأخبار الآمرة بإذهاب الثلثين في العصير الزبيبي بإمكان مدخلية ذهاب الثلثين طبيا لا شرعيا راجع ص 125 من كتابه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 227

إلا بالتخليل فلا تدل عليه بوجه، هذا مع أن هذه

الفقرة غير مذكورة في روايته الأخرى الموثقة، مع أن الناظر فيهما يرى أنهما رواية واحدة نقلتا بالمعنى لحكاية قضية واحدة، نعم ترك في الثانية ذيل الأولى، فلو كان النش موجبا لحرمته و عدم حليته بالتثليث كان عليه ذكره، إلا أن يقال بوقوع السقط في الثانية اشتباها، أو بتوهم الساباطي عدم الدخالة، و أولى بالدلالة على عدم الدخالة ما لو كانت الموثقة رواية أخرى.

الإعضال الرابع أنه قد ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «سألته عن نبيذ قد سكن غليانه، قال:

كل مسكر حرام» وجه الاشكال أنه قد دل الجواب سيما مع ترك الاستفصال على أن مطلق الغليان في النبيذ يوجب إسكاره غلى بنفسه أو بالنار، بل يدل على أن اندراجه في موضوع الجواب مفروغ عنه عند السائل، و هو مع مخالفته للوجدان و صريح رواية وفد اليمن يشكل بأنه لو كان الغليان موجبا لإسكاره لم يكن معنى لجعل ذهاب الثلثين محللا، فان تسخين المسكر و تغليظه لا يزيل إسكاره، ثم أجاب عنه بأن المراد من الغليان ما كان بنفسه، فاندراجه تحت الكبرى لما كان مفروغا عنه أجاب بما أجاب.

و فيه بعد إصلاح الرواية- فإن صحيحة ابن مسلم ليست كما نقلها بل هي هكذا: محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن نبيذ سكن غليانه، فقال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كل مسكر حرام» «1» و بعد تسليم اندراج مورد السؤال في موضوع الجواب بل مفروغيته لدى السائل، و الغض عن احتمال أن إلقاء الكبرى لأجل إفادة أن الحرمة دائرة مدار السكر، فان كان ما وصفته مسكرا فهو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب الأشربة المحرمة-

الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 228

حرام، و إلا فلا كما في رواية وفد اليمن، حيث أن فيها قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- بعد توصيفهم ما صنعوا-: «يا هذا قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام» «1»- أن مضمون الرواية غير مرتبط بدعواه التي من أجلها أسس أساس المعضلات المتوهمة، أي مسكرية العصير إذا نش و غلى بنفسه، لو لم نقل أنه ضدها، لا لأنها واردة في النبيذ و كلامنا في العصير، بل لأن موضوع السؤال نبيذ سكن غليانه لأحدث فيه الغليان، فلو فرض كون النبيذ الذي غلى بنفسه و بقي حتى سكن غليانه مسكرا لم يثبت به مسكرية ما غلى في أول غليانه فيه فضلا عن العصير.

بل يمكن أن يقال: إن عدم مسكرية ما غلى بنفسه مفروغ عنه لدى السائل، و انما شبهته فيما سكن غليانه، و هذه الصحيحة نظير جملة أخرى من الروايات التي تمسك بها لإثبات مدعاه بعد عدة مقالات، كرواية إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقلت: يا جارية اسقيني ماء، فقال لها: اسقيه من نبيذي فجائت بنبيذ مريس في قدح من صفر، قلت: لكن أهل الكوفة لا يرضون بهذا، قال: فما نبيذهم؟ قلت يجعلون فيه القعوة، قال:

و ما القعوة؟ قلت الداذي، قال: و ما الداذي؟ قلت: ثفل التمر يفري به الإناء حتى يهدر النبيذ فيغلي ثم يسكب فيشرب، قال: ذاك حرام» «2». و قريب منها رواية إبراهيم بن أبي البلاد عن الرضا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 6 و في الثاني: «الزازى» (اللاذى)- و كذلك: «و يضرى

به الإناء».

(2) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1 و في الثاني: «الزازى» (اللاذى)- و كذلك: «و يضرى به الإناء».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 229

عليه السلام «1» و في نسخة مرآة العقول: «ثم يسكر» بدل «يسكن» فعليها تدل الرواية على ضد مقصوده، لمكان «ثم».

و كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: «استأذنت لبعض أصحابنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام، فسأله عن النبيذ، فقال: حلال فقال: إنما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر ثم يسكن، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

كل مسكر حرام» «2» و في نسخة المرآة «3» «فيغلي حتى يسكر» فعليها تدل على ضد مقصوده، فان الظاهر منها أنه يغلي إلى أن ينتهي إلى السكر، فتدل على أن السكر بعد الغليان مدة.

و في رواية وفد اليمن في وصف النبيذ: «يؤخذ التمر فينبذ في إناء، ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ، ثم يوقد تحته حتى ينطبخ، فإذا انطبخ أخرجوه فألقوه في إناء آخر، ثم صبوا عليه ماء ثم مرس، ثم صفوه بثوب، ثم ألقي في إناء، ثم صب عليه من عكر ما كان قبله، ثم هدر و غلى ثم سكن على عكره، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

يا هذا قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام» «4».

و هذه الروايات كما ترى تدل على أن النبيذ بعد العلاج و إلقاء العكر فيه و الغليان و السكون بعده صار مسكرا، فتدل على أن الإسكار

______________________________

(1) المروية الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 17- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7 و

فيه: «كل ما أسكر حرام».

(3) و كذلك في الوسائل المطبوع جديدا.

(4) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 230

انما هو بعد تلك المقدمات لا بمجرده، فتكون دالة على ضد مقصوده، و لو منعت دلالتها على ذلك فلا شبهة في عدم دلالتها بل و لا إشعارها بحصول السكر بمجرد الغليان.

لكن صاحب الرسالة لا يبالي بعدم الدلالة حتى استدل بها على حصول السكر بمجرده، كما استدل عليه بروايات أخر نظيرها في عدم الدلالة، كذيل رواية إبراهيم في باب تحريم العصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ثم أن إبليس ذهب بعد وفاة آدم عليه السلام فبال في أصل الكرم و النخلة، فجرى الماء في عودهما ببول عدو اللّٰه، فمن ثم يختمر العنب و التمر، فحرم اللّٰه على ذرية آدم كل مسكر، لأن الماء جرى ببول عدو اللّٰه في النخلة و العنب و صار كل مختمر خمرا لأن الماء اختمر في النخلة و الكرمة من رائحة بول عدو اللّٰه» «1» و استشهد لإتمام الدلالة بقول ابن الأعرابي: سميت الخمر خمرا لأنها تركت و اختمرت، قال: و اختمارها تغير ريحها.

أقول: أما الرواية فلا دلالة لها على منظورة بوجه، فإن صيرورة الخمر حراما لجريان بول عدو اللّٰه في عود النخلة و الكرم و صيرورة كل مختمر خمرا لاختمار الماء فيهما من رائحة بوله لا تدل على أن العصير بمجرد غليانه بنفسه صار مسكرا أو خمرا، و أي ربط بين تلك الفقرات و دعواه.

إلا أن يقال: إن رائحة الخمر إذا كانت في شي ء تكشف عن بول عدو اللّٰه و اختماره ببوله، و هو حسن لمن أراد الدعابة و المزاح،

مع أن موافقة رائحة الخمر لرائحة العصير إذا نش غير معلومة، بل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3 و فيه: «يختمر العنب و الكرم».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 231

معلومة العدم، و أما التشبث بقول ابن الأعرابي و غيره من أئمة اللغة فمع الغض عن عدم حجية قولهم في غير المعاني اللغوية- و ذكر وجه التسمية غير داخل في فنهم، بل من قبيل الاجتهاد في أصل اللغة- أن العبارة المنقولة منه دالة على أن كل ما تغير ريحها يسمى خمرا، بل تدل على أن الخمر سميت بذلك لهذا الوجه، و الافتراق بينهما ظاهر لا يخفى.

و أما قوله: «اختمارها تغير ريحها» فإن أراد به الاخبار عن حقيقة كيمياوية فهو غير مسموع منه، لعدم كونه داخلا في فنه، إلا أن يدعى التجربة، و هي كما ترى، هذا مضافا الى أن الظاهر من تلك العبارة أن الخمر سميت خمرا لأنها- أي الخمر- تركت و اختمرت و تغيرت حالها، لا أن العصير إذا ترك و تغير حاله يصير خمرا و يسمى بها، فلعل مراده أن وجه تسمية الخمر أنها إذا تركت تتغير في ريحها و تأويل كلامه بما يرجع الى ما أراد المستدل بلا حجة لا داعي به.

و استدل أيضا بما دل على حرمة ما تغير من العصير و غيره إذا نش و غلى بنفسه، و أمر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بإهراق ما تغير و نش و الأمر بغسل الإناء الذي ينبذ فيه لكيلا يغتلم، و بروايات النهي عن الانتباذ في جملة من الأواني، أو مطلق استعمالها كالدباء و المزفت و الحنتم و النقير «1».

و أنت خبير بما في

الاستدلال بها لإثبات مسكرية ما غلى بنفسه من الوهن بعد التأمل فيما مر، و التميز بين المسألتين المتقدمتين أي مسألة حرمة ما نش و غلى و الاختلاف في غايتها و مسألة نجاسة العصير المغلي التي تفرد بالتفصيل فيها ابن حمزة كما مر و مع جعل ذلك نصب عينيك تهتدي الى أن ما تمسك به لمدعاه من الأخبار و كلمات الأصحاب

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 25- من أبواب الأشربة المحرمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 232

إما مخالف لمذهبه أو غير مربوط به، إلا بعض إشعارات في بعض الكلمات، و لو كان الوقت متسعا و الحال مقتضيا و المسألة مهمة لسردت عليك موارد خلطه حتى لا تغتر بعباراته و دعاويه، و اتضح لك وهن اعتراضاته على أئمة الفقه و مهرة الفن، و اللّٰه العاصم.

فاتضح مما مر عدم قيام دليل على نجاسته مطلقا لا ما غلى بنفسه و لا ما غلى بغيره.

ثم أن الاشتداد الواقع في كلام جملة من الأصحاب كالمحقق و العلامة إن كان المراد منه الإسكار فالتعبير بالإلحاق بالمسكر غير مناسب و إن كان المراد الثخانة و الخثورة فلا دليل على اعتباره إلا ما احتمله الشيخ الأعظم من «أن عمدة الدليل على النجاسة لما كانت الموثقة المتقدمة المختصة بما بعد الثخونة المحسوسة و فتوى المشهور المتيقن منها ذلك كان الاقتصار في مخالفة الأصل عليها أولى، و إن كان الإطلاق لا يخلو من قوة» انتهى.

و هو غير وجيه، فإنه على فرض كون المستند هو الموثقة لا يظهر منها الاختصاص، بل الظاهر منها و لو بالقرائن الداخلية و الخارجية هو الإطلاق، مضافا الى أن في كونها مستندهم إشكالا بعد كونها في مقام بيان

الحكم الظاهري كما مر، و بعد ما قيل من عدم معهودية التمسك بها الى زمان الأسترآبادي، و لو قيل باستنادهم الى مثل الرضوي المتقدم و صحيحة عمر بن يزيد المتقدمة كان أولى، و لم يظهر منهما الاختصاص، أما الرضوي فظاهر، و أما الصحيحة فلأن البختج صادق على أول مراتب الطبخ الحاصل بالغليان، و يحتمل أن يكون المراد به الاشتداد في الغليان و إن كان بعيدا، بل غير وجيه.

و كيف كان فبعد بطلان أصل الدعوى لا داعي بالبحث في متفرعاتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 233

و قيودها.

و أما عصير الزبيب فلا ينبغي الإشكال في طهارته و إن قلنا بنجاسة عصير العنب، بل في الحدائق «الظاهر أنه لا خلاف في طهارته و عدم نجاسته بالغليان، فاني لم أقف على قائل بالنجاسة هنا» و حكى ذلك عن الذخيرة أيضا، لكن يظهر من بعضهم وجود قول بها، بل عن أطعمة مجمع البرهان أنه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر و الزبيب، لكن في مفتاح الكرامة ليس لذلك في الذكرى عين و لا أثر قال: «و في الذكرى بعد أن نسب الحكم بالنجاسة الى ابن حمزة و المحقق في المعتبر، و ذكر أن المصنف تردد في النهاية، قال: و لم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة، نعم اختار في الألفية النجاسة» انتهى.

أقول: و لم أر في الوسيلة و المعتبر ما نسب إليهما، إلا أن يقال: إن العصير شامل للأقسام، و هو غير ظاهر، سيما بعد معروفية اختصاصه عند الإطلاق بالعنبي و تسمية غيره بأسماء أخر، و كيف كان فالأصل فيه الطهارة الى أن قام دليل على نجاسته.

و ربما يتمسك لنجاسته بعد البناء على نجاسة العصير

العنبي المغلي بالاستصحاب التعليقي تارة، و بالتنجيزي أخرى، و هو استصحاب سببية غليانه للحرمة و النجاسة أو استصحاب ملازمة لهما.

أقول: إن ظواهر الأدلة المستدل بها لنجاسة العصير مختلفة، و يختلف حال الاستصحاب حسب اختلاف المستند، فان ظاهر موثقة معاوية بن عمار «1» و صحيحة عمر بن يزيد «2» جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ، لأن موضوع السؤال فيهما البختج، و هو العصير المطبوخ

______________________________

(1) مرت في ص 204.

(2) مرت في ص 206.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 234

فقد نزله في الموثقة منزلة الخمر في الآثار فرضا، و منها النجاسة، فكأنه قال: البختج حرام و نجس، و كذا الحال في الصحيحة، فإن الحكم فيها أيضا تنجيزي لا تعليقي.

و أما ظاهر مرسلة محمد بن الهيثم «1» و خبر فقه الرضا «2» بل خبر أبي بصير «3» المستدل بكل منهما لها هو إنشاء قضايا تعليقية، أي إذا تغير العصير و غلى فلا خير فيه، أو إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر، فان المستفاد من مثلهما جعل حكم على العصير معلقا على الغليان، و لا يرجع ذلك الى الحكم التنجيزي مطلقا، لا في الجعل و لا في الاعتبار و لا في الواقع، لا قبل حصول المعلق عليه و لا بعده، لاختلاف موضوعهما اعتبارا و واقعا و كذا حكمهما.

لأن المجعول في القضايا التنجيزية أي مفاد الطائفة الأولى هو الحكم الفعلي المنجز على موضوع مقيد أي العصير المغلي و لو تحليلا، فان البختج هو العصير المغلي أو المطبوخ، و في القضايا التعليقية يكون الموضوع ذات العصير و الغليان واسطة و معلق عليه الحكم، و هو أمر تعليقي يتوقف فعليته على حصول المعلق

عليه.

فقبل حصول المعلق عليه و بعده لا يفترق الموضوع و لا الحكم المجعول فإن القضية لا تنقلب عما هي عليها حصل المعلق عليه أو لم يحصل. نعم

______________________________

(1) مرت في ص 221.

(2) مر في ص 222.

(3) قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام و سئل عن الطلاء فقال: إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 235

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 235

بعد حصول المعلق عليه يصير الحكم فعليا منجزا على العبد و حجة عليه، لا بانقلاب القضية التعليقية الى التنجيزية أو انقلاب موضوعها الى موضوع آخر، فإنه غير معقول، فالموضوع في القضية التعليقية هو العصير لا العصير المغلي و لو بعد حصول المعلق عليه، فالغليان ليس قيدا له في وعاء من الأوعية و ما قرع الأسماع من أن الجهات التعليلية ترجع إلى التقييدية انما هو في القضايا العقلية لا القضايا العرفية و الظواهر اللفظية، و هو ظاهر لدى التأمل.

ثم أن الظاهر من القضايا التعليقية هو جعل الحكم على الموضوع على تقدير وجود المعلق عليه، ففي المقام جعل النجاسة و الحرمة على تقدير وجود الغليان، و ينتزع منه سببية الغليان لهما أو ملازمتهما معه لا أقول: لا يمكن جعل السببية أو الملازمة ثبوتا، بل أقول: إن الظاهر منها في مقام الإثبات جعل الحكم، لا جعل السببية أو الملازمة، فهما منتزعتان من جعل الحكم عقلا لا مجعولتان

شرعا.

إذا عرفت ذلك فاعلم إنه إن قلنا بأن النجاسة في العصير العنبي مستفادة من القضية التعليقية فإن قلنا بأن المستفاد منها هو سببية الغليان لها أو ملازمته لها فاستصحابهما و إن كان تنجيزيا و السببية و الملازمة شرعية لكن تحقق المسبب بتحقق سببه، و كذا تحقق الملازم بتحقق صاحبه عقلي، فاستصحاب السببية المجعولة لعصير العنب لا يثبت نجاسة عصير الزبيب المغلي إلا بالأصل المثبت، و كذا استصحاب الملازمة فصرف كون السببية أو الملازمة شرعية لا يوجب التخلص عن المثبتية.

و إن قلنا بأن المستفاد منها الحكم التعليقي فيجري استصحابه من غير شبهة المثبتية، لأن حصول الحكم بحصول المعلق عليه شرعي، فكأن الشارع المقدس قال: تعبديا بأنه إذا وجد غليان عصير الزبيب وجدت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 236

النجاسة، أو تعبد بوجودها عند وجوده، فلا إشكال من هذه الجهة، و كذا لو قلنا بأن السببية الشرعية ليست على مثابة السببية التكوينية بل ترجع الى التعبد بوجود المسبب عند وجود سببه يكون استصحابها كاستصحاب الحكم التعليقي جاريا.

لكن قد يستشكل في الاستصحاب تارة بعدم بقاء الموضوع، فان العنب و الزبيب عنوانان مختلفان عرفا و عقلا، و كذا مصاديقهما، و لهذا لا يمكن التمسك بدليل حكم العنب على حكم الزبيب، و فيه أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها، لا وحدة المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي.

و لما كان الزبيب في الخارج مسبوقا بالعنبية فحين كان عنبا يقال:

هذا الموجود في الخارج إذا غلى عصيرة ينجس و يحرم، و ذلك بالاستنتاج من كبرى كلية اجتهادية و صغرى وجدانية، فموضوع القضية المتيقنة فيه ليس عنوان العنب الكلي، بل الموجود الخارجي المشار اليه لانطباق الكبرى

عليه.

فإذا جف رطوبته لم يصر موجودا آخر و إن صدق عليه عنوان آخر و سلب عنه عنوانه الأولي، فالرطوبة و اليبوسة فيه نظير الكبر و الصغر و المرض و الصحة في الشخص الخارجي، حيث بقيت شخصيته عرفا و عقلا مع تبادل العناوين و العوارض عليه، فموضوع القضية المتيقنة باق مع العلم بعدم بقاء موضوع الدليل الاجتهادي.

و أخرى بأن الحكم التعليقي و التقديري ليس بشي ء، و لا بد في الاستصحاب من ثبوت حكم وضعي أو تكليفي أو موضوع ذي حكم و الشك في بقائه، و فيه- مضافا إلى أن الحكم التكليفي أو الوضعي المشروط أمر مجعول محقق في وعائه و ليس معدوما و لا شي ء- أنه لا يشترط في الاستصحاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 237

كون المستصحب أمرا موجودا، بل ما يعتبر فيه هو فعليه الشك و اليقين لا فعلية المتيقن و المشكوك فيه، و كون المتعلق ذا أثر قابل للتعبد في زمان الشك.

فلو تعلق اليقين بعدم شي ء و كان له أثر في زمان الشك يجري الاستصحاب بلا شبهة فضلا عن المقام، فان اليقين متعلق بقضية شرعية هي أنه إذا نش العصير أو غلى يحرم، أو إذا أصابته النار فهو خمر، و شك في بقائها بعد انطباقها على العنب الخارجي لأجل صيرورتها زبيبا، و التعبد به ذو أثر في زمان الشك، و هو الحكم بالنجاسة و الحرمة إذا تحقق الغليان.

و أما ما قيل بأن معنى الاستصحاب التعليقي هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئية و تبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر.

ثم استشكل على الاستصحاب التعليقي تارة بأن الحكم المرتب على

الموضوع المركب انما يكون وجوده و تقرره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء و الشرائط لأن الموضوع كالعلة للحكم، و لا يعقل تقدم الحكم عليه، فلا معنى لاستصحاب ما لا وجود له، و تارة بأنه ليس للجزء الموجود من المركب أثرا إلا إذا انضم إليه الغليان، و هذا مما لا شك فيه، فلا معنى لاستصحابه، و تارة بأن هذه القضية التعليقية عقلية، لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب.

فلا ينبغي أن يصغى إليه، بعد خلطه بين القضايا التعليقية التي موضوعها نفس العناوين، و حكمها تعليقي، و المعلق عليه واسطة في ثبوت الحكم للموضوع، و بين القضايا التنجيزية التي موضوعها أمر مركب من جزءين: أي العصير و الغليان، و هو مبنى إشكاله الأول.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 238

و أعجب منه إشكاله الثاني، فإن ما لا شك فيه هو عصير العنب إذا ضم إليه الغليان، لا عصير الزبيب. و أعجب من ذلك إشكاله الثالث، حيث أرجع القضايا التعليقية الواردة في الشرع الى القضايا التنجيزية المركبة الموضوع، ثم قال: إن القضية التعليقية لازمة عقلا بجعل الحكم على الموضوع المركب.

و ثالثه بأن الاستصحاب التعليقي معارض دائما باستصحاب تنجيزي فان العصير الزبيبي المغلي كما هو محكوم بالنجاسة و الحرمة للاستصحاب التعليقي و بعد حصول المعلق عليه كذلك محكوم بالطهارة و الحلية الثابتين له قبل الغليان، فأجابوا عنه بحكومة الأصل التعليقي السببي على التنجيزي المسبي، و ذكروا في وجهها بما لا يخلو عن مناقشة أو مناقشات.

و التحقيق في تقريرها أن يقال: إن الاستصحاب التعليقي جار بلحاظ حال قبل الغليان، و المستصحب فيه هو القضية التعليقية، فإذا شك في بقائها يستصحب، و أما مفاد القضية المستصحبة فهو

أن هذا العصير إذا غلى ينجس و يحرم. و بعد حصول الغليان و ضم الوجدان إلى القضية المستصحبة تصير النتيجة أن هذا العصير نجس و حرام، لا أن العصير المشكوك في نجاسته أو حرمته كذا، لأن الاستصحاب لم يجر في المغلي المشكوك فيه، بل يجري في التعليقي بلحاظ قبل الغليان، فيحرز الدليل الاجتهادي في ظرفه.

و أما استصحاب الحل و الطهارة انما يجري في العصير المغلي المشكوك في حليته و طهارته، فالدليل الاجتهادي المستصحب لسانه نجاسة هذا العصير إذا غلى، و بعد الغليان ينتج نجاسة هذا العصير من غير قيد الشك، و لسان استصحاب الحل و الطهارة الجاري في المغلي أن المشكوك فيه طاهر و حلال، فالأول بلسانه مقدم على الثاني، و هذا هو السر في تقدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 239

الأصل السببي على المسببي في جميع الموارد.

مثلا إذا شك في نجاسة الثوب المغسول بما شك في كريته فاستصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي تعبدا، فينطبق عليه الدليل الاجتهادي، أي أن الكر مطهر لما أصابه و غسل فيه، و ليس مفاده: إذا شككت فيما غسل فيه فهو طاهر، بخلاف مفاد استصحاب نجاسة الثوب، فان مفاده إذا شك في نجاسته فهو باق عليها، فمفاد الأول بعد تطبيق الدليل أن هذا طاهر، و مفاد الثاني إذا شك في نجاسته فهو نجس.

و ان شئت قلت إن استصحاب الكرية في المثال لا يعارض استصحاب النجاسة لتعدد موضوعهما، و إنما التعارض بين مفاد الدليل الاجتهادي المنطبق على المستصحب تعبدا بعد ضم الوجدان و بين مفاد استصحاب نجاسة الثوب، و الأول مقدم بلسانه على الثاني و حاكم عليه و لو كان تنقيحه ببركة التعبد ببقاء الكرية

بالاستصحاب، و كذا الحال في المقام، فتدبر و اغتنم.

و رابعة بأن الحكم انما تعلق بالعصير لا بالعنب حتى يقال ببقاء الموضوع، و هذا الاشكال يقرر بوجهين: أحدهما أن موضوع الدليل الاجتهادي عصير العنب لا نفسه، و هو غير باق، فان الزبيب لما كان مسبوقا بالعنبية صح أن يقال: إن هذا الموجود كان كذا و الآن كما كان لكن عصيرة لم يكن مسبوقا بعصيرية العنب حتى يجي ء فيه ما ذكر، فاسراء الحكم من عصير العنب الى عصيرة إسراء له من موضوع الى موضوع مباين له في المفهوم و الحقيقة و الوجود.

و فيه أنه بعد فرض تعلق الحكم بعصير العنب يصح أن يقال عليه إن عصير هذا الموجود إذا غلى يحرم و ينجس، فإذا يبس و صار زبيبا يقال: إن هذا الموجود كان عصيرة كذا و الآن كما كان.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 240

و ثانيهما أنه ليس للزبيب عصير، فان العنب بعد جفاف ما في جوفه من الماء صار زبيبا، و ما بقي فيه هو الجرم اللزج، و هو ليس بعصير جزما، و موضوع الحكم في العنب هو عصيرة لا نفسه، فإذا صار زبيبا لا يبقى فيه ماء يعتصر و يغلى، و الماء الخارجي الذي يراق فيه لإخراج حلاوته غير العصير العنبي جزما، فالقضية المتيقنة غير القضية المشكوك فيها يقينا، و هذا الاشكال متين، و هو الجواب عن الاستصحاب التعليقي «1».

هذا كله إذا كان المستند للنجاسة و الحرمة هو القضايا التعليقية، و أما إذا كان المستند لهما القضايا التنجيزية كقوله: «البختج خمر»

______________________________

(1) و قد يستشكل عليه بأن موضوع الحكم هو نفس المادة لا العنب و هي موجودة في الزبيب، بل العنبية

و الزبيبية من الحالات، و لذلك لو خلط شي ء من عصير العنب بالماء و غلى نحكم بحرمته، و عليه لا مانع من جريان الاستصحاب، و فيه ما لا يخفى من ان الموضوع هو العصير العنبي، و ما لم يصدق عليه هذا العنوان لا اثر لغليانه مع الماء كما هو واضح.

و قد يقال في وجه عدم جريان الاستصحاب بأن العنب لا يصير زبيبا إلا بعد ذهاب الثلثين فلا يضره الغليان بعد ذلك إذ لا اثر للغليان بعد الغليان، و فيه انه مبنى على دعويين الأولى ان ماء العنب يغلي في جوفه كي ينقلب زبيبا، و الثانية انه بعد ذهاب الثلثين يصير زبيبا، و لا يخفى أن كلتيهما غير ثابتة، فإذا نشك في غليانه الأصل يقتضي عدمه، و كذلك في ذهاب الثلثين لو سلمنا غليانه، على انه لا اثر لغليان ماء العنب و هو في حباته، لعدم صدق العصير على مائه ما دام موجودا فيها، تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 241

أو «لا تشرب البختج من يد مستحل المسكر» فعدم جريان الاستصحاب واضح، لأن الحكم التنجيزي على الموضوع المقيد لا يتحقق إلا بعد تحقق موضوعه بجميع قيوده، و قبله لا وجود له و لو بنحو الاعتبار في الخارج حتى يشك في بقائه و يستصحب.

و توهم إجراء الاستصحاب التعليقي بتقريب أن العنب كان إذا انضم اليه الغليان محكوما بالحرمة و النجاسة، فإذا صار عصيرا يستصحب الحكم التعليقي فاسد، فان هذا التعليق عقلي لا شرعي، لأن المفروض أنه ليس للشارع إلا حكم تنجيزي على العصير المغلي، فالحكم التعليقي غير مجعول بل من اللوازم العقلية، و في مثله لا يجري الاستصحاب، مضافا إلى ورود الإشكال الأخير،

أي عدم بقاء الموضوع عليه أيضا.

فتحصل مما ذكر عدم جريان الأصل، و عدم الدليل على نجاسة العصير الزبيبي، و دعوى صدق العصير عليه قد مرّ جوابها، هذا كله على فرض تسليم نجاسة عصير العنب، و إلا فقد عرفت عدم نجاسته فضلا عن نجاسة عصير الزبيب.

ثم أنه لا بأس بصرف الكلام إلى حكم عصير الزبيب من جهة الحرمة و ان كان خارجا عن محط البحث، لكونه محلا للابتلاء، فنقول المشهور كما في الحدائق حليته، بل في طهارة شيخنا الأعظم عن جماعة دعوى الشهرة عليه، بل عن الرياض كادت تكون إجماعية، و هي مقتضى الأصل السالم عن المعارض.

أما الاستصحاب فقد عرفت الكلام فيه، و أما غيره فعمدة المستند للحرمة رواية زيد النرسي في أصله قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الزبيب يدق و يلقى في القدر ثم يصب عليه الماء و يوقد تحته؟

فقال: لا تأكله حتى يذهب الثلثان و يبقى الثلث، فان النار قد أصابته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 242

قلت: فالزبيب كما هو في القدر و يصب عليه الماء ثم يطبخ و يصفى عنه الماء؟ فقال: كذلك هو سواء، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فصار حلوا بمنزلة العصير ثم نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، و كذلك إذا أصابته النار فأغلاه فسد» «1».

و قد حاول العلامة الطباطبائي تصحيح سندها تبعا للمجلسي (رحمه اللّٰه)، و استند في ذلك تارة على قول النجاشي: «له كتاب يرويه عنه جماعة، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن نوح السيرافي، قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي بكتابه»

و على نص الشيخ رواية ابن أبي عمير كتابه.

و عن البحار و غيره طريق اليه بتوسط ابن أبي عمير، قال: «و روايته لهذا الأصل تدل على صحته و اعتباره و الوثوق بمن رواه، فان المستفاد من تتبع الحديث و كتب الرجال بلوغه الغاية في الثقة و العدالة و الورع و الضبط، و التحذر عن التخليط، و الرواية عن الضعفاء و المجاهيل، و لهذا ترى أن الأصحاب يسكنون الى روايته و يعتمدون على مراسيله، و قد ذكر الشيخ في العدة أنه لا يروي و لا يرسل إلا عمن يوثق به، و هذا توثيق عام لمن روى عنه و لا معارض له هاهنا» ثم ذكر إجماع الكشي على تصحيح ما يصح عنه و أجال القلم حوله.

و أخرى على قول الشيخ: له أصل قال «وعد النرسي من أصحاب الأصول و تسمية كتابه أصلا مما يشهد بحسن حاله و اعتبار كتابه، فإن الأصل في اصطلاح المحدثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر، و ليس بمعنى مطلق الكتاب، فإنه قد يجعل

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 243

مقابلا له فيقال: له كتاب و له أصل».

ثم حكى الكلام المنقول عن المفيد طاب ثراه بأنه «صنفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين عليه السلام الى عهد أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام أربعمائة كتاب تسمى الأصول، قال: و هذا معنى قولهم: له أصل، و معلوم أن مصنفات الإمامية فيما ذكر من المدة تزيد على ذلك بكثير، كما يشهد به تتبع كتب الرجال، فالأصل أخص من الكتاب، و لا يكفي فيه بمجرد عدم انتزاعه

من كتاب آخر و ان لم يكن معتمدا، فإنه يؤخذ في كلام الأصحاب مدحا لصاحبه و وجها للاعتماد على ما تضمنه، و ربما ضعفوا الرواية لعدم وجدان متنها في شي ء من الأصول».

و ثالثة بسكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ و أجلاء الأصحاب، حتى قيل: السالم من رجال الحديث من سلم منه، بل قال: «زيد الزراد و زيد النرسي رويا عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال أبو جعفر بن بابويه: إن كتابهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمان، و غلط أبو جعفر في هذا القول، فإني رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير» انتهى. قال: «و لو لا أن هذا الأصل من الأصول المعتمدة المتلقاة بالقبول بين الطائفة لما سلم من طعنه و من غمزه على ما جرت به عادته في كتابه الموضوع لهذا الغرض» و رابعة بإخراج الكليني في جامعه الكافي- الذي ذكر أنه قد جمع الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام- روايتين منه: إحداهما في باب التقبيل من كتاب الايمان و الكفر، و ثانيتهما في كتاب الصوم في باب صوم العاشوراء، و أخرج الشيخ عنه حديثا في كتاب الوصايا من التهذيب مع إيراده الرواية الأخيرة في كتابي الأخبار بإسناده عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 244

الكليني، فلا تخلو الكتب الأربعة عن أخباره، بل روى جعفر بن قولويه عن علي بن الحسين و غيره بسندهم عن النرسي، و منه يعلم رواية علي بن بابويه والد الصدوق أصل النرسي.

و يظهر منه أن أصل نسبة اعتقاد وضعهما الى الصدوق تبعا لشيخه ضعيف، أو رجف عنه بعد ما ذكره في فهرسته، فان والده شيخ القميين

و فقيههم و ثقتهم- و الذي خاطبه الإمام العسكري عليه السلام بقوله في توقيعه: يا شيخي و معتمدي- يروي الأصل المذكور، و ولده يعتقد كونه موضوعا، هذا مما لا ينبغي نسبته اليه، انتهى ملخصا، و هو تفصيل ما أفاده المجلسي على ما حكي عنه تقريبا.

قال بعد نقل كلمات الجماعة في الأصلين و صاحبيهما: «أقول:

و إن لم يوثقهما أصحاب الرجال لكن أخذ أكابر المحدثين من كتابهما، و اعتمادهم عليهما حتى الصدوق في معاني الأخبار و غيره، و رواية ابن أبي عمير عنهما، و عد الشيخ كتابهما من الأصول لعلها تكفي لجواز الاعتماد عليهما» انتهى، ثم ذكر حال نسخته العتيقة.

أقول: لا بأس بصرف الكلام الى حال ما تشبثا به، سيما إجماع الكشي الذي هو العمدة في المقام و غيره من الموارد الكثيرة المبتلى بها، فعن الكشي في حق فقهاء أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام:

«اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام، و انقادوا لهم بالفقه، فقالوا أفقه الأولين ستة» ثم ساق أسماءهم.

و في فقهاء أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون، و أقروا لهم بالفقه» ثم ساق أسماءهم، و في فقهاء أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن (ع) «اجتمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 245

أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم، و أقروا لهم بالفقه و العلم» ثم ذكر أسماءهم.

و يقع الكلام تارة في المفهوم المراد من تلك العبارات، و أخرى في حول كلمات الأصحاب، و فهمهم المعنى المراد منها، و حال دعوى تلقيهم هذا الإجماع بالقبول.

أما

الأول ففيها احتمالات أظهرها أن المراد تصديقهم لما أخبروا عنه، و ليس أخبارهم في الاخبار مع الواسطة إلا الاخبار عن قول الواسطة و تحديثه، فإذا قال محمد بن أبي عمير: حدثني زيد النرسي قال: حدثني علي بن مزيد قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام كذا، لا يكون إخبار ابن أبي عمير إلا تحديث زيد، و هذا فيما ورد في الطبقة الأولى واضح، و كذلك الحال في الطبقتين الأخيرتين، أي الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، لأن ما يصح عنهم ليس متن الحديث في الاخبار مع الواسطة لو لم نقل مطلقا.

فحينئذ إن كان المراد من الموصول مطلق ما صح عنهم يكون لازمة قيام الإجماع على صحة مطلق أخبارهم، سواء كان مع الواسطة أو لا، إلا أنه في الاخبار مع الواسطة لا يفيد تصديقهم و تصحيح ما صح عنهم بالنسبة إلى الوسائط، فلا بد من ملاحظة حالهم و وثاقتهم و عدمها.

و إن كان المراد منه متن الحديث بدعوى أن الصحة و الضعف من صفات المتن و لو بلحاظ سنده فلازمه قيام الإجماع على تصحيح الاخبار بلا واسطة، فإن ما يصح عنهم من المتن هو الذي أخبروا عن نفسه، و أما الاخبار مع الواسطة فليس إخبارهم عن متنه بل عن تحديث الغير ذلك و إن شئت قلت: ما صح عنهم الذي يجب تصحيحه لا بد و أن يكون الاخبار عن واقع حتى يجوز فيه الصدق و الكذب و التصحيح و عدمه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 246

فإذا قال ابن أبي عمير: حدثني النرسي قال: حدثني علي بن مزيد قال الصادق عليه السلام كذا، فما أخبر به ابن أبي عمير و يصح أن يكون

كاذبا فيه و صادقا و يمكن الحكم بصحته و الإجماع على تصحيحه هو إخباره بأن زيدا حدثني، و أما قول النرسي و علي بن مزيد و كذا قول الصادق عليه السلام فليس من إخباره، و لهذا لو كان أخبار النرسي أو علي بن مزيد كاذبا لا يكون ابن أبي عمير كاذبا، و ليس ذلك إلا لعدم إخباره به، و صحة سلبه عنه، و هو واضح جدا.

فهل ترى من نفسك لزوم تصديق الجماعة حتى فيما لا يقولون؟

بل قالوا إنا لم نقله، فإذا كذب علي بن مزيد مثلا على الصادق عليه السلام و نقل ابن أبي عمير قوله، ثم قيل له: لم كذبت على الصادق عليه السلام؟

يصح له أن يقول: إني لم أكذب عليه، بل نقلت عن زيد و هو عن علي بن مزيد و هو كاذب لا أنا و لا زيد، و انما كررنا هذا الأمر الواضح لما هو مورد الاشتباه كثيرا.

فما قد يقال في رد هذا الاحتمال- من أنه لا يخفى ما فيه من الركاكة خصوصا بالنسبة إلى هؤلاء الأعلام، و لو كان المراد ما ذكر اكتفى بقوله أجمعت العصابة على تصديقهم بل هنا دقيقة أخرى و هي أن الصحة و الضعف من أوصاف متن الحديث تعرضه باعتبار اختلاف حالات رجال السند- لا يخفى ما فيه من الغفلة عن أن ذلك من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب، فإنه يلزم منه عدم قيام الإجماع على تصديقهم في الاخبار مع الواسطة، حتى بالنسبة إلى تحديث الوسائط إلا بدعوى تنقيح المناط، نعم لازم تصديقهم وثاقتهم و صداقتهم في النقل، و هو واضح.

و أما دعوى ركاكة دعوى الإجماع على صرف تصديقهم سيما في هؤلاء العظماء ففيها أنه إذا

قام الإجماع على تصديق هؤلاء فأية ركاكة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 247

في نقله؟ كما لا ركاكة في نقل الإجماع على فقاهتهم و الإقرار لهم بالعلم كما نقله أيضا.

و دعوى عدم اختصاص هذا الإجماع بهم بعد تسليمها يمكن أن لا يكون عند الكشي ثابتا في غيرهم، هذا مضافا إلى أن لزوم الركاكة في ظاهر لفظ لا يوجب جواز صرفه عن ظاهره و حمله على ما لا تلزم منه الركاكة كائنا ما كان.

و قوله: لو كان المراد ذلك لاكتفى بقوله: «أجمعت العصابة على تصديقهم» فيه أولا أكتفي به في الطبقة الأولى، و من في الطبقتين الأخيرتين ليسوا بأوثق و أورع ممن في الأولى، و من ذلك يمكن أن يقال: إن مراده في الجميع واحد و حيث لم يرد في الأولى إلا تصديقهم و توثيقهم لم يرد في غيرها إلا ذلك، إلا أن يقال: إن الطبقة الأولى لما لم يكن إخبارهم مع الواسطة لم يحتج إلى دعوى الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، و هو كذلك نوعا، لكن دعوى الإجماع على تصديقهم لو كانت ركيكة كانت بالنسبة إليهم ركيكة أيضا، بل أشد ركاكة.

و ثانيا لنا أن نقول: لو كان المراد من العبارة ما ذكرتم من تصحيح الرواية مع توثيق ما بعده لكان عليه أن يقول: اجتمعت العصابة على وثاقة من نقل عنه واحد من هؤلاء، أو نحو ذلك من العبارات، حتى لا يشتبه الأمر على الناظر، و ما الداعي إلى ذكر تلك العبارات التي هي ظاهرة في خلاف المقصود؟

و ربما يقال: إن بناء فقهاء أصحاب الأئمة عليهم السلام نقل فتواهم بالرواية، فكل ما روى أحد هؤلاء العظماء كان مضمونها فتواه، فكما صح

من أصحاب الإجماع التحديث بالمعنى الذي تقدم صح منهم الفتوى على مضمون حديثه، و مقتضى تصديقهم و تصحيح ما صح عنهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 248

تصديق التحديث و مضمون الحديث جميعا، فيتم المطلوب.

و فيه- بعد تسليم ذلك و بعد الغض عن أن ذلك الإجماع لو ثبت فإنما قام على تصديقهم في النقل لا الفتوى كما هو الظاهر من معقده- أن ما ينتج لإتمام المطلوب إثباته أن كل ما رووا موافق لفتواهم، و هو مقطوع البطلان، ضرورة وجود رواية المتعارضين من شخص واحد في مروياتنا، و رواية ما هو خلاف المذهب أصولا أو فروعا فيها مما لا يمكن مطابقتها لفتواهم.

و أما إثبات كون فتواهم بنحو الرواية فلا ينتج المطلوب، فإذا علمنا أن بعض ما روى ابن أبي عمير مطابق لفتواه لا ينتج ذلك لزوم الأخذ بجميع رواياته، و كذا لو علمنا أن كل ما أفتى به فهو بنحو الرواية، و هذا مغالطة نشأت من إياهم الانعكاس، مع أن في أصل الدعوى أيضا كلاما.

ثم أنهم ذكروا في وجه حجية هذا الإجماع بعد عدم كونه بالمعنى المصطلح أحد الأمرين: الأول اطلاع العصابة على احتفاف جميع الأخبار التي هي منقولة بتوسطهم بقرائن خارجية يوجب الاطلاع عليها العلم بصحة الخبر.

و هذا غير ممكن عادة، ضرورة عدم حصر تلك الأخبار، و عدم إمكان اطلاع جميع العصابة على القرائن الموجبة لكل ناظر في كل واحد من الأخبار التي لا تحصى.

فهذا محمد بن مسلم أحد الجماعة روى عن الكشي عن حريز عنه أنه قال: ما شجرني رأي قط إلا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، و سألت أبا عبد اللّٰه عليه

السلام عن ستة عشر ألف حديث، و الظاهر أن أحاديث زرارة لم تقصر منها لو لم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 249

تكن أزيد، و من المحال اطلاع جميع الأصحاب على جميع ما روى هؤلاء مع اطلاعهم على قرائن موجبة للقطع، بل من المحال عادة احتفاف جميع أخبارهم بالقرائن الكذائية، فهذا ليس وجه إجماعهم و لا ذاك وجه حجيته.

الثاني- اطلاعهم على جميع مشايخ هؤلاء و من يروون عنهم مسندا و مرسلا، و العلم بوثاقة جميعهم، فحكموا بصحة أحاديثهم لأجل صحة سندها إلى المعصوم عليه السلام، هذا وجه إجماعهم.

و منه يظهر وجه حجيته، و هو و إن كان دون الأول في البطلان، لكنه يتلوه فيه، أما أولا فلأن اطلاع جميع العصابة على جميع الأفراد الذين يروي هؤلاء الجماعة عنهم بلا واسطة و مع الواسطة بعيد في الغاية، بل غير ممكن عادة، مع عدم تدوين كتب الحديث و الرجال في تلك الأعصار بنحو يصل الكل إلى الكل، و بعد وصول أخبار البلاد البعيدة بعضها إلى بعض، و تصوير تهيئة الأسباب جميعا لجميعهم مجرد تصور لا يمكن تصديقه.

و أما ثانيا فلأن مشايخ الجماعة و من يروون عنهم لم يكن كلهم ثقات، بل فيهم من كان كاذبا وضاعا ضعيفا لا يعتني برواياته و بكتبه، هذا ابن أبي عمير و هو أشهر الطائفة في هذه الخاصة يروي عن يونس ابن ظبيان الذي قال النجاشي فيه على ما حكي عنه: «ضعيف جدا لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط» و عن ابن الغضائري «أنه غال وضاع للحديث» و عن الفضل في بعض كتبه «الكذابون المشهورون أبو الخطاب و يونس بن ظبيان و يزيد الصائغ» إلخ. و

قد ورد فيه عن أبي الحسن الرضا عليه السلام اللعن البليغ.

و عن عبد اللّٰه بن القاسم الحضرمي الذي قال فيه ابن الغضائري:

«ضعيف غال متهافت» و قال النجاشي «كذاب غال يروي عن الغلاة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 250

لا خير فيه و لا يعتد بروايته» و قريب منه بل أزيد عن الخلاصة.

و عن علي بن أبي حمزة البطائني الذي قال فيه أبو الحسن على بن الحسن بن الفضال على المحكي «علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون قد رويت عنه أحاديث كثيرة و كتبت عنه تفسير القرآن من أوله إلى آخره إلا أني لا أستحل أن أروى عنه حديثا واحدا» نعم عن صاحب المعالم أن ذلك في حق ابنه الحسن بن علي بن أبي حمزة، و عن ابن الغضائري «أنه لعنه اللّٰه أصل الوقف و أشد الخلق عداوة للمولى يعني الرضا عليه السلام، و نقل عنه نفسه قال لي أبو الحسن موسى عليه السلام:

إنما أنت يا علي و أصحابك أشباه الحمير».

و روى الكشي روايات في ذمه: منها ما رواه بسنده عن يونس ابن عبد الرحمن قال: «مات أبو الحسن و ليس من قوّامه أحد إلا و عنده المال الكثير، و كان ذلك سبب وقفهم و جحودهم موته، و كان عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار» و روى بسنده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام حديثا و فيه: «و سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟» إلى غير ذلك.

و الاعتذار بأن رواية ابن أبي عمير عنه كانت قبل وقفه غير مقبول لظهور ما تقدم و غيره في سوء حاله قبل الوقف، و أن

الوقف لأجل حطام الدنيا، و لهذا لم يستحل علي بن الحسن بن الفضال أن يروي عنه رواية واحدة، فلو كان قبل الوقف صحيح الرواية لم يستحل له ترك روايته بناء على كون ذلك في حقه، كما عن ابن طاوس و العلامة، و عمل الطائفة برواياته لا يوجب توثيقه، مع أنه غير مسلم بعد ما نقل عن المشهور عدم العمل بها، تأمل.

و عن أبي جميلة الذي ضعفه النجاشي، و قال ابن الغضائري

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 251

و العلامة: «إنه ضعيف كذاب يصنع الحديث».

و عن علي بن حديد الذي قال الشيخ في محكي الاستبصار: «إنه ضعيف جدا لا يعوّل على ما ينفرد بنقله» و ضعّفه في محكي التهذيب أيضا.

و عن الحسين بن أحمد المنقري الذي ضعّفه الشيخ و النجاشي و العلامة و غيرهم، الى غير ذلك.

و أما نقله عن غير المعتمد و المجهول و المهمل و من ضعّفه المتأخرون أمثال محمد بن ميمون التميمي و هاشم بن حيان فكثير يظهر للمتتبع.

و أما صفوان بن يحيى فقد روى عن علي بن أبي حمزة، و أبي جميلة المفضل بن صالح المتقدمين، و عن محمد بن سنان الذي ضعّفوه، بل عن المفضل أنه من الكذابين المشهورين، و عن عبد اللّٰه بن خداش الذي قال فيه النجاشي: ضعيف جدا، الى غير ذلك.

و أما البزنطي فروى عن أبي جميلة المتقدم، و أحمد بن زياد الخزاز الضعيف، و الحسن بن على بن أبي حمزة الضعيف المطعون، عن ابن الغضائري «أنه واقفي ابن واقفي ضعيف في نفسه، و أبوه أوثق منه» و قال الحسن بن علي بن الفضال: «اني لأستحيي من اللّٰه أن أروي عن الحسن بن علي»

و قد مر أن ما حكي عن ابن الفضال في علي بن أبي حمزة ذهب صاحب المعالم إلى أنه في ابنه الحسن، و حكى الكشي عن بعضهم أن الحسن بن علي بن أبي حمزة كذاب.

و أما الحسن بن محبوب فروى عن أبي الجارود الضعيف جدا، الوارد فيه عن الصادق عليه السلام أنه كذاب مكذب كافر عليه لعنة اللّٰه و عن محمد بن سنان إنه قال: «أبو الجارود لم يمت حتى شرب المسكر و تولى الكافرين».

و عن صالح بن سهل الهمداني الذي قال ابن الغضائري فيه: «إنه غال كذاب وضاع للحديث، روى عن أبي عبد اللّٰه عليه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 252

السلام لا خير فيه و لا في سائر ما رواه، و قد روي أنه قال بألوهية الصادق عليه السلام».

و عن عمرو بن شمر الذي قال فيه النجاشي: «إنه ضعيف جدا زيّد أحاديث في كتب جابر الجعفي» و غيرهم كعبد العزيز العبدي و أبي جميلة و محمد بن سنان و مقاتل بن سليمان من الضعاف و الموصوفين بالوضع، فقد حكي أنه قيل لأبي حنيفة، قدم مقاتل بن سليمان قال:

«إذا يجيئك بكذب كثير» (فويل لمن).

و أما يونس بن عبد الرحمن فقد روى عن صالح بن سهل، و عمرو ابن جميع، أبي جميلة، و محمد بن سنان، و محمد بن مصادف، الى غير ذلك من الضعفاء.

و كذا حال غيرهم كرواية ابن بكير و ابن مسكان عن محمد بن مصادف و جميل، و أبان بن عثمان عن صالح بن الحكم النيلي، الى غير ذلك. و أما روايتهم عن المجاهيل و غير الموثقين فإلى ما شاء اللّٰه.

و مما ذكرنا يظهر الجواب عن دعوى شيخ

الطائفة قال في محكي العدة: «إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، و لأجل ذلك سوت الطائفة بين ما رواه محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون و لا يرسلون إلا ممن يوثق به و بين ما يسنده غيرهم، و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم» انتهى. فان هذا الإجماع المدعى معلل، و نحن إذا وجدنا خلاف ما وجدوا أو ادعوا لا يمكننا التعويل على إجماعهم فضلا عن دعواه.

و ما قيل من عدم منافاة خروج فرد أو فردين بالظن بل الاطمئنان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 253

بالوثاقة مدفوع بأن الخارج كثير سيما مع انضمام المجهول و المهمل الى الضعيف، و معه كيف يمكن حصول الاطمئنان على ذلك، و الظن لو حصل لا يغني من الحق شيئا، هذا مع عدم إحراز اتكال أصحابنا على دعوى إجماع الكشي و لا على إجماع الشيخ.

و قد يقال باتكالهم على إجماع الكشي، فإن شيخ الطائفة قال في أول كتابه المختار من رجال الكشي بهذه العبارة: «فإن هذه الأخبار اختصرتها من كتاب الرجال لأبي عمر و محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، و اخترنا ما فيها» انتهى. بدعوى ظهورها أو صراحتها في أن ما في الكتاب مختاره و مرضية، و أيضا عبارته المتقدمة المحكية عن العدة إشارة إلى الإجماع المذكور، و أيضا نقل الشهيد في الروضة عنه أن العصابة أجمعت على تصحيح ما

يصح عن عبد اللّٰه بن بكير، و أقروا له بالفقه و الثقة.

و فيه أن ما ذكر في أول الرجال لا إشعار فيه بكون ما فيه مختاره لو لم نقل بإشعاره بخلافه، فضلا عن الظهور أو الصراحة فيه، فان الضمير المؤنث في قوله: «ما فيها» يرجع الى الأخبار المذكورة قبله فيظهر منه أن مختاره بعض الأخبار التي اختصرها من كتابه، و إلا لكان عليه أن يقول: و اخترناها أو اخترنا ما فيه، مع أن الاختيار في مقام التصنيف غير الارتضاء و الاختيار بحسب الرأي، كما هو ظاهر بعد التدبر.

ثم أن رجال الكشي على ما يظهر من مختاره و مختصره مشحون بالروايات و الأحاديث، و انما قال الشيخ إن هذه الأخبار اختصرتها من كتابه، و ظاهره الأخبار المصطلحة، فأي ربط لهذا الكلام مع ما ذكر من اختياره لدعاوي الكشي و سائر ما في الكتاب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 254

مع أن الضرورة قائمة بعدم كون جميع ما في الكتاب الذي اختصره من كتاب الكشي مرضيا له، فان فيها روايات الطعن على زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و بريد بن معاوية من مشايخ أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام و غيرهم، و فيها الأخبار المتناقضة، فهل يمكن أن تكون تلك الأخبار مختارا له؟ و لو كان كذلك لزم منه هدم إجماع الكشي.

و أما عبارته المتقدمة فمفادها غير مفاد إجماع الكشي على ما تقدم مستقصى مفاده، إلا أن يقال: إنه أتكل على إجماعه و نقله بالمعنى، و أخطأ في فهم المراد منه، و فيه ما فيه، بل الظاهر عدم اعتماده على إجماع الكشي، و قد طعن على عبد اللّٰه

بن بكير بجواز وضعه الرواية و الكذب على زرارة، نصرة لمذهبه في محكي كتاب الطلاق من التهذيب و الاستبصار.

قال بعد ذكر روايته عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في هدم كل طلاق ما قبله إذا تركت الزوجة حتى تخرج العدة و لو كان مائة مرة بهذه العبارة: «هذه الرواية في طريقها ابن بكير، و قد قدمنا أنه قال حين سئل عن هذه المسألة: هذا مما رزق اللّٰه من الرأي، و لو كان سمع ذلك لكان يقول: نعم رواية زرارة، و يجوز أن يكون أسند إلى زرارة نصرة لمذهبه، لما رأى أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه، و قد وقع منه من اعتقاد الفطحية ما هو أعظم من ذلك» انتهى.

و أنت خبير بأن ما ذكره فيه لا يجتمع مع تصديقه إجماع الكشي لما عرفت أن لازم إجماعه وثاقة الجماعة أو مع من بعدهم على زعم بعضهم، و لا يمكن دعوى احتفاف جميع رواياتهم بالقرائن الموجبة للاطمئنان أو القطع بالصدور سوى هذه الرواية من ابن بكير، هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 255

مع ما يأتي من شواهد أخر على عدم اعتماده على إجماعه.

و أما العبارة المحكية عن الروض- فمع عدم وجودها في كتب الشيخ كما قال بعض أهل التتبع، و احتمال أن يكون النقل بالمعنى من العبارة المتقدمة بزعم كونها إشارة إلى إجماع الكشي، أو زعم أن ما في مختصر الكشي مختاره و مرضية، و منه دعوى الإجماع كما زعمها غيره- فلا يمكن الاتكال عليها في نسبة تصديق الإجماع اليه مع وجود الشواهد على خلافه كما مر و يأتي، هذا حال شيخ الطائفة.

و أما النجاشي الذي هو أبو عذرة هذا الفن،

و سابق حلبته، و مقدم على الكل فيه فلم تر منه اشارة ما الى هذا الإجماع، و لم يظهر منه أدنى اتكال عليه، مع شدة حرصه بتوضيح أحوال الرجال، و الفحص عن وثاقتهم، و عنايته بنقل توثيق الثقات، و لو كان هذا الإجماع صالحا للاتكال عليه لما غفل عنه، بل لما خفي عليه إجماعهم مع تضلعه و كثرة اطلاعه و تقدمه عليه في سعة الباع و الإحاطة و قرب عهده منه، فلو ثبت عنده ما ثبت عند الكشي أو كان نقله معتمدا عنده لما صح منه التوقف في أحد من الجماعة و رجالهم، فضلا عن تضعيف بعض رجالهم.

فعدم التعرض لهذا الإجماع و عدم توثيق بعض أصحابه كأبان بن عثمان و عبد اللّٰه بن بكير و تضعيف بعض رجالهم و رميه بالكذب و الوضع كما تقدم منه كاشف قطعي عن عدم ثبوت الإجماع عنده، و عدم اعتنائه بنقل الكشي، لا لعدم اتكاله على الإجماع المنقول بخبر الواحد، بل لوجدان خلافه مع قربه منه، و كان كتاب الكشي موجودا عنده.

قال في ترجمته: «محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو كان ثقة عينا، و روى عن الضعفاء كثيرا- إلى أن قال-: له كتاب الرجال، كثير العلم، و فيه أغلاط كثيرة، أخبرنا أحمد بن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 256

علي بن نوح و غيره عن جعفر بن محمد عنه بكتابه» انتهى. سيما مع تعرضه في ترجمة ابن أبي عمير بسكون الأصحاب إلى مرسلاته.

فلو كان إجماعه ثابتا أو كان متكلا عليه في ابن أبي عمير لأشار إليه في سائر الرجال المشاركين له فيه، قال في ترجمة ابن أبي عمير:

«و كان حبس في أيام

الرشيد- إلى أن قال-: و قيل: إن أخته دفنت كتبه في حال استتاره و كونه في الحبس أربع سنين، فهلكت الكتب و قيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث من حفظه و مما سلف له في أيدي الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون الى مراسيله» انتهى. و هو واضح الدلالة على أن الأمر ليس كما ذكره الكشي أو نسب اليه، بل هذا خاصة ابن أبي عمير عنده، نعم صرف ضياع الكتب ليس موجبا لعملهم على مراسيله لو كان السكون بمعنى العمل و الاعتماد و فيه كلام، بل لا بد من علمهم أو ثقتهم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة، و هو يدل على أن مرسلاته فقط مورد اعتماد أصحابنا دون غيرها، بل المتيقن منها ما إذا أسقط الواسطة و رفع الحديث الى الامام عليه السلام لا ما ذكره بلفظ مبهم كرجل أو بعض أصحابنا، و كون المرسلة في تلك الأزمنة أعم غير واضح عندي عجالتا لا بد من الفحص و التحقيق.

فاتضح بما ذكر أن النجاشي لم يكن مباليا بإجماع الكشي، و كان يرى سكون الأصحاب إلى خصوص مرسلات ابن أبي عمير دون مسنداته و لا بمرسلات غيره و مسنداته، و كذا لم يظهر من ابن الغضائري المعاصر لشيخ الطائفة- بل له نحو شيخوخة و تقدم عليه- ادنى اعتماد على ذلك الإجماع، تأمل. و كذا المفيد و غيره ممن هو في عصر الكشي أو قريب منه و قد ضعّف القميون يونس بن عبد الرحمن و طعنوا فيه، و بهذا يظهر المناقشة في دعوى إجماع شيخ الطائفة في عبارته المتقدمة، هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 257

حال تلك الأعصار.

و أما الأعصار

المتأخرة عنها التي اشتهر هذا الإجماع فيها و كلما مضى الزمان قوى الاشتهار فلا حجية في شهرتهم و إجماعهم لا في مثل المسألة و لا في المسائل الفرعية، لعدم شي ء عندهم غير ما عندنا، و مع ذلك إن المحقق اختلفت كلماته، فربما مال الى حجية مرسلات ابن أبي عمير أو قال بها، و ربما صرح بعدمها، فعن موضع من المعتبر قال:

«الجواب الطعن في السند، لمكان الإرسال، و لو قال قائل: مراسيل ابن أبي عمير تعمل بها الأصحاب منعنا ذلك، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه، فإذا أرسل احتمل ان يكون الراوي أحدهم» انتهى.

هذا بالنسبة الى ابن أبي عمير، فما حال مرسلات غيره كصفوان و البزنطي فضلا عن غيرهما.

و عنه في زكاة المستحقين: «إن في ابان بن عثمان ضعفا» و قريب منه عن العلامة و الفخر و المقداد و الشهيد، و عن الشهيد الثاني «ان ظاهر كلام الأصحاب قبول مرسلات ابن أبي عمير لأجل إحرازه أنه لا يرسل إلا عن ثقة، و دون إثباته خرط القتاد، و قد نازعهم صاحب البشرى في ذلك، و منع تلك الدعوى» انتهى، و مع كون العلامة أتكل كثيرا على الإجماع المذكور حكى عنه فخر الدين قال: «سألت والدي عن أبان بن عثمان قال: الأقرب عدم قبول روايته، لقوله تعالى:

إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ الآية، و لا فسق أعظم من عدم الايمان».

و ردّ ابن طاوس رواية ابن بكير، و ضعّفه المحقق و الفاضل المقداد و الشهيد، و طعنوا في روايات هو في سندها لأجله، و يظهر من ابن طاوس نحو تردد في جميل بن دراج، و الاختلاف في الأسدي و المرادي معروف و لم يتعرض النجاشي لمعروف بن خربوذ، و لم يوثقه

الشيخ و العلامة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 258

و قال الثاني: «روى الكشي فيه مدحا و قدحا» و قال ابن داود:

«و ثقته أصح» و هو ظاهر أو مشعر بوجود الخلاف فيه.

و عن ابن داود في بريد بن معاوية مدحه الكشي ثم ذمه، و يقوى عندي أن ذمه انما هو لإطباق العامة على مدحه و الثناء عليه فساء ظن بعض أصحابنا به، و هو ظاهر في أن الذام غير منحصر بالكشي.

هذا حال أصحاب الإجماع، و قد تقدم حال جملة من رجالهم و مشايخهم، و عليك بالفحص في حال سائرهم حتى يتضح لك حال إجماع الكشي و الشيخ، هذا شطر من الكلام في أول ما تشبث به الطباطبائي في إصلاح حال النرسي و كتابه.

و أما ما تشبث به ثانيا من أنه ذو أصل، و هو في اصطلاح المحدثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر إلى آخر ما تقدم منه فهو ينحلّ إلى دعويين أو دعاو ثلاث إن حاول به إصلاح حال النرسي الراوي له.

الأولى: أن الأصل عبارة عن كتاب معتمد لا مطلق الكتاب، و يرد عليها أولا أنه لا مستند له في ذلك من قول متقدمي أصحابنا إلا قول المفيد المتقدم أي انحصار الأصول بالأربعمائة، مع كون الكتب أكثر من ذلك، و أنت خبير بأن مجرد ذلك لا يدل على مطلوبه، بل يدل على أخصية الأصل من الكتاب، فيمكن أن يكون الأصل عبارة عن كتاب جامع لعدة كتب يكون نسبته إليها كنسبة كتاب الشرائع إلى كتاب الطهارة و الصلاة الى الديات، فتكون تلك الكتب متفرعة عن الكتاب الأصل، و عددها أكثر من الأصل بكثير.

و يمكن أن يكون

الأصل كتابا غير مأخوذ من كتاب آخر من غير قيد الاعتماد فيه، و الكتاب أعم منه، و لا دليل على أكثرية الكتب بلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 259

واسطة من أربعمائة، سيما إذا قلنا بأن الأصل عبارة عن مجموع كتب غير مأخوذ من آخر أي أخذنا فيه القيدين، و سيجي ء احتمال أقرب منها فانتظر، و بالجملة دليله أعم.

و ثانيا يظهر من التصفح في كتاب الرجال خلاف ما أفاده، لأن جعل الاصطلاح على فرضه لا يمكن أن يكون لمحض التفنن لغوا و العياذ باللّٰه، سيما من مثل هؤلاء الأعاظم، بل لا بد أن يكون لتميز من تأخر منهم الكتب المعتمدة من غيرها.

فحينئذ كان عليهم التصريح به في كتبهم الموضوعة في الرجال و الحديث، مع عدم نقله منهم و عدم تصريح أو اشارة اليه فيها، و إلا لما اختلفت كلمة المتأخرين في معنى الأصل هذا الاختلاف، و لكان عليهم عدّ جميع الكتب التي بهذه الخاصية أصلا، مع انه خلاف ما نجد في الفهارست و كتب الرجال، لعدم إطلاقهم الأصل على كتب أصحاب الإجماع في جميع الطبقات غير كتاب جميل بن دراج، فان الشيخ قال: «له أصل» و أثبت النجاشي له كتابا و أصلا، و غير أبان بن عثمان، فأثبت الشيخ له أصلا، و قال النجاشي: «له كتاب» و كذا لا يطلقون الأصل على نوع كتب أصحاب الأئمة أكابرهم و غيرهم، و انما أطلق النجاشي على كتب معدودة منهم لعلها لم تتجاوز عن عدد الأصابع.

و الشيخ و إن أطلقه على كتب جمع منهم كثير نسبة لكن نسبته إلى ما لا يطلق عليه بل أطلق الكتاب عليه كنسبة القطرة إلى البحر، فممن لم يذكر

له أصل من كبار أصحاب الأئمة غير من تقدم من أصحاب الإجماع أبو بصير ليث المرادي، و الحسن بن علي بن فضال، و فضالة ابن أيوب، و عثمان بن عيسى- و هؤلاء من أصحاب الإجماع على نقل بعضهم- و جعفر بن بشير، و صفوان الجمال، و عبد الرحمن بن الحجاج،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 260

و عباس بن معروف، و عبد الرحمن بن أبي نجران، و عبد اللّٰه بن سنان، و محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، و علي بن الحسن بن فضال، و محمد الحلبي، و عبيد اللّٰه الحلبي، و عمار بن موسى الساباطي، و علي بن النعمان، و الحسن بن موسى الخشاب، و حريز بن عبد اللّٰه، و سعد بن سعد، و علي بن يقطين، و الصفار، و الحميري، إلى غير ذلك من المشايخ و أصحاب الكتب المتعددة و الأصول المعول عليها ممن يطول ذكرهم، كثعلبة ابن ميمون، و معاوية بن وهب، و معاوية بن عمار، و معاوية بن حكم، و الحسين بن سعيد، و سعد بن عبد اللّٰه و غيرهم، فهل ترى من نفسك أن هؤلاء المشايخ اصطلحوا على أن الأصل الكتاب المعتمد ثم لم يعدوا كتب جميع المشايخ و الأصحاب، مع كونها معتمدة في الأصول إلا نادرا منها فما عذر هذا الإغراء بالجهل؟.

و ثالثا ربما أطلق الأصل على كتب غير معتمدة من قوم ضعاف بتصريح منهم، كالحسن بن صالح بن الحي، قال الشيخ: «إنه زيدي إليه تنسب الصالحية منهم» و عن التهذيب: «إنه زيدي بتري متروك العمل بما يختص بروايته» و مع ذلك قال في الفهرست: «الحسن الرباطي له أصل، و الحسن بن صالح بن الحي له

أصل، و الرباطي أيضا غير موثق، و سعيد الأعرج له أصل» و قال العلامة: «لا حجة في روايته».

و زكريا بن مؤمن عده الشيخ في ترجمة أحمد بن الحسين المفلس من صاحب الأصول، و قال النجاشي: «حكي عنه ما يدل على أنه كان واقفا، و كان مختلط الأمر في حديثه» و قال الشيخ في أحمد بن عمر الحلال «إنه كوفي رديّ الأصل ثقة» و توقف العلامة في قبول روايته لقوله هذا، و الغرض من ذكره أن الأصل لو كان بحسب اصطلاحهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 261

الكتاب المعتمد لم يتوقف العلامة في ذلك، بل كان يحمل ردىّ الأصل على محامل أخر.

و أثبت الشيخ الأصل لجماعة أخر من الضعاف أو غير الموثقين، كعلي بن أبي حمزة، و سفيان بن صالح، و علي بن بزرج، و شهاب بن عبد ربه، و عبد اللّٰه بن سليمان، و سعدان بن مسلم، و زيد الزراد، و زيد النرسي، و إبراهيم بن عمر اليماني، و إبراهيم بن يحيى الى غير ذلك ممن يطلع عليه المتتبع.

فهل تكون كتب تلك الجماعة المتقدمة غير معتبرة عندهم دون هذه الجماعة من الضعفاء و المردودين، أو اصطلحوا على أمر و خالفوه في غالب الموارد؟ اللهم لا، و لكن ..

و أيضا بعض تعابيرهم تشعر أو تدل على خلاف هذه الدعوى، كقول الشيخ في الساباطي: «له أصل، و كان فطحيا إلا أنه ثقة و أصله معتمد عليه» و كالمحكي عن الشيخ البهائي في مشرق الشمسين في الأمور الموجبة لحكم القدماء بصحة الحديث: «منها وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة المشهورة، أو تكرره في أصل أو أصلين، منها بأسانيد مختلفة متعددة أو وجوده في أصل

رجل واحد من أصحاب الإجماع» انتهى.

و لو كان الأصل هو الكتاب المعتمد عليه لكان وجوده في أصل واحد من أيّ شخص موجبا للحكم بالصحة، و إن كان في كلام البهائي كلام من جهة أخرى.

و كالمحكي عن رواشح المحقق الداماد: «و ليعلم ان الأخذ من الأصول المصححة المعتمدة أحد أركان تصحيح الرواية» و أنت خبير بأن التقييد بالمصححة المعتمدة مع كون الأصل الكتاب المعتمد بشيع مخل بالمقصود.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 262

الدعوى الثانية: أن الأصل هو الكتاب الذي لم ينتزع من كتاب، و فيها- مضافا الى أنه على فرض صحتها لا تنتج المدعى إلا مع ضم الدعوى الأولى إليها، و قد عرفت ما فيها- أولا انها مجرد دعوى خالية عن البينة، و كون كتب أصحابنا أكثر من الأصول المنحصرة بالاربعمائة أعم من مدعاه، كما مر في دعواه الاولى.

و قد يقال: إن الأصل بمعناه اللغوي، و هو مقابل الفرع، فان الكتاب مأخوذا من كتاب آخر يكون ذلك فرع ما أخذ منه و هو أصله و فيه- مضافا الى أنه أيضا دعوى بلا بينة، و التمسك بأصالة عدم النقل كما ترى- انه أعم من المدعى لصحة أن يقال لكتاب كبير مشتمل على كتب كثيرة ككتاب الشرائع المشتمل على عدة كتب: إن هذه فروع و ذاك أصل.

بل يصح إطلاق الأصل حقيقة على كتاب مشتمل على أخبار أصول الدين و المذهب، ككتاب التوحيد و الإمامة مقابل كتب الفروع، كما يصح إطلاق الأصل أو الأصول على مطلق كتب الأخبار في مقابل كتب الفروع المستنبطة منها كالكتب الفقهية كما يظهر من البهائي.

و ثانيا ان المحدثين أطلقوا الأصل على كتاب منتزع من كتب أخر قال الشيخ البهائي في

الوجيزة بعد ذكر الأصول الأربعمائة: «ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر اللّٰه سعيهم بجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مبسوطة مبوّبة و أصولا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة سلام اللّٰه عليهم، كالكافي و كتاب من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار و مدينة العلم و الخصال و الأمالي و عيون اخبار الرضا و غيرها، و لأصول الأربعة الأول هي التي عليها المدار في هذه الأعصار- الى أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 263

قال-: فجمعت في كتاب حبل المتين خلاصة ما تضمنه الأصول الأربعة من الأحاديث الصحاح و الحسان و الموثقات التي منها تستنبط أمهات الأحكام الفقهية، و إليها ترد مهمات المطالب الفرعية» انتهى.

و ظاهر ان الأصول عبارة عن كتاب الاخبار مطلقا مقابل الفروع التي هي الكتب المشتملة على ما يستنبط منها مثل الكتب الفقهية، و قد تكرر من المحدث الكاشاني إطلاق الأصول على الكتب الأربعة في مقدمات الوافي، و قال المحدث المجلسي في أول مرآة العقول: «أن الكافي أضبط الأصول و أجمعها» و عن السيد الجزائري ان هذه الأصول الأربعة لم تستوف الاحكام.

و قال شيخ الطائفة في ترجمة أحمد بن محمد بن زيد: إنه لم يرو عنهم، و قال: روى عنه حميد أصولا كثيرة، و عدّ احمد بن محمد ابن عمار في باب من لم يرو عنهم، و مع ذلك قال في الفهرست: إنه كثير الحديث و الأصول، و صنف كتبا، و عن الحسين بن عبيد اللّٰه انه مات سنة ست و أربعين و ثلاثمائة، و عدّ علي بن بزرج ممن لم يرو عنهم، و قال: روى

عنه حميد كتاب كثيرة من الأصول.

و من البعيد جدا لو لم نقل مقطوع الخلاف ان تكون تلك الأصول الكثيرة من الجماعة روايات بلا واسطة، أو مع الواسطة سماعا لا من كتاب مدوّن قبلهم، مع شدة حرص أصحابنا بضبط أخبار الأئمة عليهم السلام و كتابتها.

و احتمال ان لا تكون تلك الأصول من الجماعة بل من غيرهم في غاية البعد، بل كخلاف الصريح في مثل قوله كثير الحديث و الأصول مضافا إلى ان عدم إنهاء الكتب و الأصول إلى صاحبها و الرواية عن الواسطة خلاف المعهود بينهم و المتعارف كما لا يخفى، و عليه يمكن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 264

الاستدلال لضد مطلوبهم بكل من كان كذلك، كأحمد بن نهيك، و علي ابن إبراهيم الخياط، و غيرهما ممن لم يرووا عنهم و روي عنهم أصول أو أصل.

فتحصل من جميع ما تقدم عدم وجاهة دعوييه بل دعاويه الثلاث لو حاول إثبات وثاقة النرسي أو حسنه.

ثم بعد ما لم يثبت كون الأصل في اصطلاح متقدمي أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد المعول عليه أو ثبت خلافه لا نتيجة معتد بها في التحقيق عن مرادهم من كون الرجل ذا أصل أو له أصول.

لكن لما بلغ الكلام إلى هذا المجال لا بأس بالإشارة إلى احتمالين منقدحين في ذهن القاصر: أحدهما الذي انقدح في ذهني لأجل بعض التعبيرات و القرائن انه عبارة عن كتاب معدّ لتدوين ما هو مرتبط بأصول الدين أو المذهب، كالامامة و العصمة و البداء و الرجعة و بطلان الجبر و التفويض إلى غير ذلك من المطالب الكثيرة الأصلية التي كان التصنيف فيها متعارفا في تلك الأزمنة، كما يظهر من الفهارس و التراجم، و الكتاب أعم

منه.

و الذي اوقعني في هذا الاحتمال إثباتهم الأصل لكثير من أصحابنا المتكلمين كهشام بن الحكم، و هشام بن سالم. و جميل بن دراج، و سعيد ابن غزوان الذي يظهر من ترجمته انه أيضا منهم، روى الكشي بإسناده عن جعفر بن الحكيم الخثعمي قال: «اجتمع هشام بن سالم و هشام ابن الحكم و جميل بن دراج و عبد الرحمن بن الحجاج و محمد بن حمران و سعيد بن غزوان و نحو من خمسة عشر رجلا من أصحابنا فسألوا هشام ابن الحكم ان يناظر هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد و صفة اللّٰه عزّ و جل لينظروا أيهما أقوى» و يؤيد هذا الاحتمال قول الشيخ في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 265

الفهرست في ترجمة أبي منصور الصرام: «إنه من جملة المتكلمين من أهل نيسابور، و كان رئيسا مقدما، و له كتب كثيرة: منها كتاب في الأصول سماه بيان الدين».

و قال في ترجمة هشام بن الحكم: «له مباحث كثيرة مع المخالفين في الأصول و غيرها، و له أصل» و عن منتجب الدين في ترجمة أبي الخير بركة بن محمد «إنه فقيه ديّن، قرأ على شيخنا أبي جعفر الطوسي، و له كتاب حقائق الايمان في الأصول، و كتاب الحجج في الإمامة» الى غير ذلك من التعبيرات.

ثم عدلت عن هذا الاحتمال، و قوي في نفسي احتمال آخر لعل المنصف يجزم به بعد الفحص الأكيد، و هو أن لأصحابنا كما يظهر من كلماتهم تعبيرات عن مؤلفات أصحاب الكتب، فقد يعبر عنها بالكتاب فيقال: لفلان كتاب أوله كتب، و هو أكثر تداولا و إطلاقا، و قد يعبر بالأصل، فيقال: له أصل أوله أصول كما مر،

و هو أقل تداولا.

و قد يعبّر بالمصنف، فيقال: له مصنفات أوله من المصنفات كتاب كذا، و قد يعبر بالنوادر، و قد يقال: له روايات أو أخبار، كما أن لأصحاب الأئمة عليهم السلام و من بعدهم و غيرهم كتبا مختلفة، فربما كان الكتاب ممحضا في نقل الرواية لا غيرها، و ربما كان لمقصد آخر كالتاريخ و الأدب و الرجال و التفسير و إثبات المعراج و الرجعة و البداء الى غير ذلك مما شاع تصنيفها في تلك الأعصار، كما يظهر بأدنى مراجعة إلى تراجمهم، و تلك المصنفات و إن عملت لأجل إثبات مقصد لكنها كانت مشحونة بالآيات و الروايات، و كان مصنفوها استشهدوا بها كثيرا.

إذا عرفت ذلك نقول: إن الظاهر المقطوع به أن الكتاب أعم من المصنفات و الأصول، و هما قسمان منه، و كل قسيم الآخر، و الظاهر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 266

أن الأصل عبارة عن كتاب المعمول لنقل الحديث، سواء كان مسموعا عن الامام عليه السلام بلا واسطة أو معها، و سواء كان مأخوذا من كتاب و أصل آخر أو لا، و لا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر.

و المصنف عبارة عن كتاب معمول لأجل مقصد مما تقدم، و إن أطلق أحيانا على مطلق الكتاب، و الشاهد على ما ذكرناه ما عن الشيخ في الفهرست قال: «إني رأيت جماعة من أصحابنا من شيوخ طائفتنا من أصحاب التصانيف عملوا فهرست كتب أصحابنا و ما صنفوه من التصانيف، و رووه من الأصول، فلم أجد أحدا استوفى ذلك إلا أحمد ابن الحسين الغضائري، فإنه عمل كتابين أحدهما ذكر فيه المصنفات، و الآخر فيه الأصول» انتهى.

و هذا كما

ترى ظاهر الدلالة في أن الكتاب أعم من التصانيف و الأصول، و هما مقابلان، بل يمكن أن يقال: إن ظاهر قوله:

«ما صنفوه من التصانيف و رووه من الأصول» إن كلمة «من» في الفقرتين بيانية، فتدل على أن مطلق كتب الرواية أصل.

و يشهد له أيضا ما قال في ترجمة أبان بن عثمان: «و ما عرفت من مصنفاته إلا كتابه الذي يجمع المبدء و المبعث و المغازي و الوفاة و السقيفة و الردة» ثم ذكر طرقه اليه ثم أنهى طريقه الى أصل له الى محسن بن أحمد و ابن أبي نصر.

ترى كيف جعل المعروف من مصنفاته منحصرا في كتابه الكذائي، و أثبت له أصلا و أنهى طريقه اليه، و فيه شهادة على مقابلة التصنيف بالأصل، و على سنخ الكتب المصنفة، و عنه في ترجمة هشام بن الحكم:

«كانت له مباحث كثيرة مع المخالفين في الأصول و غيرها، و كان له

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 267

أصل أخبرنا به جماعة- الى أن قال- و له من المصنفات كتب كثيرة» ثم عدّ ثمانية و عشرين كتابا، انتهى.

و مع الأسف ليس عندي فهرست الشيخ حتى أنظر في تلك الكتب و انما أنقل عنه بواسطة، و على أيّ حال يظهر منه مقابلة المصنف بالأصول، و عنه في ترجمة أحمد بن محمد بن عمار أنه كثير الحديث و الأصول، و صنف كتبا: منها كتاب أخبار آل النبي و فضائلهم و ايمان أبي طالب عليه السلام، و كتاب المبيضة، و هي على ما حكي الفرقة المخالفة لبني العباس في البيعة و الرأي، و عدّ النجاشي من كتبه كتاب الفلك، و كتاب الممدوحين و المذمومين، و يظهر منه مضافا الى

التقابل بين المصنف و الأصل سنخ المصنفات.

و عن المفيد بعد ذكر جماعة من الأصحاب قال: «هم أصحاب الأصول المدونة و المصنفات المشهورة» و قال الشيخ الصدوق في الفقيه بعد ذكر جملة من الكتب: «و رسالة أبي رضي اللّٰه عنه اليّ و غيرها من الأصول و المصنفات» و قال النجاشي في ترجمة أحمد بن عبيد اللّٰه ابن يحيى: «ذكره أصحابنا في المصنفين، و أن له كتابا يصف فيه سيدنا أبا محمد عليه السلام الى غير ذلك، فاتضح مما مر مقابلة التصنيف بالأصل.

ثم أنك لو تصفحت مليا تجد أن التصنيف يطلق غالبا في لسانهم على الكتاب الذي عمل لمقصد غير جمع الأخبار، و إن ذكرت فيه استشهادا بها مثل بيان الفروع، ككتاب علي بن الحسين الى ابنه، أو لغير ذلك، كالرجال و الطب و النجوم و ما يرتبط بأصول المذهب و نحوها فالكتاب أعم من الصنفين.

ثم لا يبعد أن يقال: إن سرّ عدم إطلاق الأصل على كتب من

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 268

في الطبقة الأولى من أصحاب الإجماع و أضرابهم إلا ما استثنى عدم كونهم من المصنفين، و تعارف التصنيف في الطبقات المتأخرة عنهم، و انما أطلق على كتاب أبان بن عثمان لكونه ذا تصنيف، مضافا الى أنه ذو أصل و كذا يظهر من ترجمة جميل بن دراج أن له أصلا و له كتابا هذه جملة حول الأصل و الكتاب، و قد اتضح عدم دلالة قولهم:

إن له أصلا على الاعتماد به أو بصاحبه فضلا عن قولهم: له كتاب.

و أما ما تشبث به ثالثا لإصلاح حال زيد بعدم طعن ابن الغضائري عليه ففيه ما لا يخفى، أما تغليطه الشيخ الصدوق فهو غير

مرتبط بوثاقة النرسي أو صحة أصله، بل غايته أنه غير مجعول و لم يكذب محمد بن موسى الهمداني علي زيد النرسي، ففي الحقيقة هو دفاع عن الهمداني، و أما سكوته فلا يدل على شي ء، و لعله لم يطلع على طعن فيه، و كان عنده من المجاهيل، و هو لا يكفي في الاعتماد عليه.

و أما ما تشبث به رابعا من عدم خلو الكتب الأربعة من أخبار أصل النرسي، فهو عجيب منه، فإنه لو لا هذا الأمر في سلب الوثوق عن أصله لكان كافيا، لأن اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصله على حديثين أو ثلاث أحاديث دليل على عدم اعتمادهم بأصله من حيث هو أصله أو من حيث رواية ابن أبي عمير عنه، فكانت لما نقلوا منه خصوصية خارجية، و إلا فلأي علة تركوا جميع أصله و اقتصروا على روايتين منه، مع كون الأصل عندهم و بمرئي و منظرهم.

بل لو ثبت ان كتابا كان عندهم فتركوا الرواية عنه إلا واحدا أو اثنين مثلا صار ذلك موجبا لعدم الاكتفاء بتوثيق أصحاب الرجال صاحبه في جواز الأخذ بالكتاب، و هذا واضح جدا، و موجب لرفع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 269

اليد عن كتاب النرسي جزما، بل تركهم الرواية عنه مع كون الراوي عنه ابن أبي عمير دليل على عدم تمامية ما قيل في شأن ابن أبي عمير من انه لا يروي إلا عن ثقة، تأمل.

و بما ذكرنا في حال أصل النرسي يظهر الكلام في أصل زيد الزراد فإنهما مشتركان غالبا فيما ذكر، هذا كله مع عدم وصول النسخة التي عند المحدث المجلسي اليه بسند يمكن الاتكال عليه، لجهالة منصور بن الحسن الآبي الذي كانت

النسخة بخطه مؤرخة بأربع و سبعين و ثلاثمائة و هو غير منصور بن الحسين الآبي الذي ترجمه منتجب الدين، و قال:

«فاضل عالم فقيه، و له نظم حسن، قرأ على شيخنا المحقق أبي جعفر الطوسي» انتهى، لتأخره عن كتابة النسخة عصرا بناء على ما ترجمه، و إن صرح بعض بأنه معاصر الصاحب بن عباد، مضافا إلى اختلافهما في الأب. هذا مع عدم ثبوت وثاقة الثاني أيضا، و عدم كفاية ما قال منتجب الدين فيها، هذا مع ما حكي من اشتمال أصله على المناكير و ما يخالف المذهب، تأمل.

أضف الى كل ذلك ان الرواية مغشوشة المتن، فإن المحكي عن جملة من المشايخ كسليمان بن عبد اللّٰه البحراني رحمه اللّٰه و الوحيد البهبهاني و صاحب البرهان و الموجود في الحدائق و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم نقلها بغير المتن الذي نقله المجلسي، و تبعه جملة أخرى من المشايخ.

و العجب من بعض أهل التتبع حيث رأى صراحة الرواية بذلك المتن على خلاف مدعاه الذي قد فرغنا عن فساده أخذ في الاشكال بل الطعن على أكابر المشايخ، فقال: «هذا الذي اتفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكر مثله، و الاستعاذة باللّٰه العاصم عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 270

الوقوع في شبهه» ثم نقل الرواية على طبق رواية المجلسي من النسخة المتقدمة، و قد سبقه على تذكر هذا الاختلاف المحدث النوري في مستدركة.

ثم ذكر موارد الاختلاف بين المتنين مسميا لما يخالف مذهبه بالتصحيف و الزيادة الباطلة، ثم قال: «و الذي نقلناه مطابق لجميع نسخ أصل زيد المصححة الموجودة في عصرنا المنتشرة في بلاد مختلفة».

ثم قال بعد كلام: و أول من عثرت عليه ممن وقع

في تلك الورطة الموحشة و الهوة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني، فتبعه من تبعه ممن لا يراجع إلى أصل زيد و لا البحار كالذين سميناهم أولا، و سلم منه من راجعه أو البحار كالذين سميناهم أخيرا، ثم ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام تتميما لإشكاله و طعنه».

أقول: لأحد أن يسترجع عند تذكر مثله من مثله من إطالة اللسان على هؤلاء الأكابر من غير دليل وثيق على خطائهم، فان الشيخ الأجل أبا الحسن سليمان بن عبد اللّٰه البحراني كما يظهر من ترجمته و شهدت له الأكابر كان زميلا للمحدث المجلسي و عديلا له عصرا و ثقة و حفظا و إحاطة و علما و خبرا.

فعن المولى الوحيد طه: «العالم العامل و الفاضل الكامل المحقق المدقق الفقيه النبيه نادرة العصر و الزمان المحقق الشيخ سليمان» و عن تلميذه- أي تلميذ الشيخ سليمان- الشيخ عبد اللّٰه بن صالح في إجازاته:

«كان هذا الشيخ أعجوبة في الحفظ و الدقة و سرعة الانتقال في الجواب و المناظرة و طلاقة اللسان لم أر مثله قط، و كان ثقة في النقل ضابطا، إماما في عصره، وحيدا في دهره، أذعنت له جميع العلماء، و أقرت بفضله جميع الحكماء، و كان جامعا لجميع العلوم، علامة في جميع الفنون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 271

حسن التقرير، عجيب التحرير، خطيبا شاعرا، مفوها، و كان أيضا في غاية الانصاف، و كان أعظم علومه الحديث و الرجال و التواريخ» انتهى.

و قريب منهما عن صاحب الحدائق مع ذكر تاريخ وفاته، و هو سنة سبع و ثلاثين و مائة و ألف.

فكان هذا الشيخ معاصرا للمولى المجلسي، و هو يروي هذا الحديث على

ما حكي بمتن روى صاحب الحدائق و غيره، و كيف يمكن تغليطه و نسبة التصحيف و الخطأ إليه بمجرد مخالفة حديثه نسخة المحدث المجلسي.

و هل هذا إلا مثل تغليط المجلسي في رواية روى بعض معاصريه على خلافه و لو من نسخة عتيقة أو غيرها، مع احتمال كون ما روى من نسخة غيرها، سيما مثل هذا الشيخ الذي كان عمدة علومه الحديث و الرجال، كيف يمكن منه رواية حديث و الاستناد إليه من غير اسناد إلى كتاب و نسخة أصل، بل المحدث صاحب الحدائق أيضا مثله في ذلك، و شأن الوحيد البهبهاني و تقدمه في العلوم معلوم لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه، نعم لا يبعد عن صاحب الجواهر و شيخنا المرتضى نقل رواية اتكالا على نقل صاحب الحدائق.

و ليت شعري كيف لغير العالم بالغيب الاطلاع على جميع نسخ كتاب، سيما مثل أصل النرسي حتى يحكم بخطإ هؤلاء الأكابر، و العجب أنه ادعى أن ما نقلناه مطابق لجميع نسخ أصل زيد، إلخ. لا لأن الاطلاع على جميعها بل غالبها غير ممكن سيما لمن لم يخرج من سور بلد، و هل هذه الدعوى إلا من سذوجة النفس و صفاء الضمير، حيث رأي أو سمع كون بعض النسخ كذلك فجزم بمطابقته لجميع النسخ المتفرقة في البلاد.

بل لأن الآلاف من النسخ المصححة إذا انتهت الى نسخة المجلسي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 272

لا تفيد شيئا إلا الجزم بأنها موافقة لما في البحار و عند المجلسي، و أنها فيه بعين هذه الألفاظ، و لا يكشف منها عدم نسخة أخرى عند الشيخ سليمان و غيره، هذا مضافا إلى اختلاف بعض ما حكي عن أصل زيد في

الكافي مع ما هو الموجود عند المجلسي، و هو دليل على اختلاف في النسخ فراجع.

فاتضح من جميع ذلك عدم إمكان الاتكال على أصلي زيدين و ما هو من قبيلهما، و أما مع الغض عنه فالإنصاف أن الخدشة في دلالتها في غير محلها، لظهورها صدرا و ذيلا في حرمة عصير الزبيب إذا غلى بالنار أو بنفسه.

و ما يقال من أن التعبير في ذيلها عن الحكم بالفساد دون التحريم لا يبعد أن يكون الوجه فيه أنه بعد إصابة النار صار معرضا لطروّ الفساد و الإسكار لا لحرمته لا ينبغي الإصغاء إليه، لأن مجرد الاحتمال لا يوجب جواز رفع اليد عن الظاهر المتفاهم عرفا، و إطلاق الفاسد على ما يكون معرضا للإسكار على فرض تسليم دعوى أن إصابة النار توجب تسريع الإسكار و المعرضية له مجازا لا يصار إليه بلا وجه، و لم يظهر و لو إشعارا التفكيك بين ما غلى بنفسه و غيره، بل ظاهرها عدم التفكيك، كما لا يخفى فالعمدة ما مر.

ثم أنه قد يتمسك للتحريم بوجوه مخدوشة كعموم قوله عليه السلام:

«كل عصير أصابته النار فهو حرام» إلخ «1»، و فيه ما مر في أوائل البحث من أن العصير في الروايات هو العنبي منه لا غير، مضافا إلى أن مطلق العصير لا يكون موضوعا للحكم بالضرورة، و لو كان المدعى الأخذ بالعموم بعد خروج ما خرج منه، ففيه أنه من تخصيص الأكثر

______________________________

(1) تقدم في ص 203.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 273

البشيع، فلا بد أن يحمل على عصير معهود، و المتيقن هو العنبي و غيره مشكوك فيه.

مع أن العصير بنفسه ليس موضوع الحكم، فلا محيص عن أن يقال: إن الموضوع عصير

العنب و نحوه، و من الواضح أنه ليس للزبيب و التمر بلا نقع في الماء عصير، و معه يجذب الماء الخارجي، و هو ليس عصير الزبيب، فان المتفاهم من عصير شي ء هو عصيرة بالذات لا بمداخلة شي ء أجنبي فيه و إخراجه منه.

نعم لو دل دليل على أن عصير الزبيب أو التمر إذا غلى يحرم لا يكون بدّ إلا بالحمل على الماء الخارجي المعصور منه بعد نقعه فيه، و هو مفقود، و إطلاق العصير لا يحمل إلا على ما بنفسه عصير الشي ء، فالعصير منحصر بالعنب أو ما يشبهه، مضافا إلى أن الزبيب المنقوع في الماء لا يجذب من الماء ما يمكن أن يعصر منه شي ء معتدّ به، بل دائما يكون المعصور منه مستهلكا في الماء المصبوب فيه، فلا يطلق على المجموع العصير.

و كالروايات الواردة في خصوص الزبيب كمرسلة الساباطي أو موثقته قال: «وصف لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا» إلخ «1» و موثقته عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سئل عن الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟» إلخ «2» فذكر فيهما كيفية طبخه، و أمر بالإغلاء حتى يذهب الثلثان.

و فيه أن الرواية الأولى و إن كانت ظاهرة في أن المفروض لدى الساباطي أن المغلي من الزبيب حرام إلى غاية، و يصير حلالا بما وصف

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3 و فيه: «كيف يحل طبخه».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 274

أبو عبد اللّٰه عليه السلام، لكن لم يظهر منها أن أبا عبد اللّٰه عليه السلام أفتى بحرمته و صيرورته حلالا بالتثليث، بل فيها

توصيف أبي عبد اللّٰه عليه السلام طبخه من غير ذكر الحرمة و الحلية، و لعل الساباطي توهم من ذكر التثليث أن الغليان موجب للحرمة، و التثليث لرفعها، قياسا على عصير العنب المعهود فيه ذلك، مع أنها مرددة بين المرسلة و الموثقة و لا اعتماد عليها.

و الثانية و إن كانت موثقة لكن لا ظهور فيها في المدعى، للفرق الظاهر بين قوله: «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» و بين قوله:

«كيف طبخه حتى يشرب حلالا» لأن المتعارف في طبخ الزبيبة مع تلك التفصيلات و التشريفات المذكورة في الروايتين طبخ مقدار كثير حتى بقي عدة أيام كثيرة، بل إلى شهور أو سنة أو أزيد كما قال في رواية علي بن جعفر الآتية، فيشرب منه السنة، فإذا لم يذهب الثلثان لا يبعد أن يعرض عليه الفساد و الإسكار إذا طال بقاؤه، سيما في تلك الآفاق، فإذا أريد أن يشرب ذاك المشروب حلالا من غير عروض الإسكار عليه لا بد من طبخه حتى يذهب ثلثاه، فيشرب حلالا الى آخر أمده.

و الانصاف أن هذا الاحتمال لو لم يكن ظاهرا فيها فلا أقل من عدم مرجوحيته بالنسبة إلى احتمال آخر يوافق دعوى المدعي، و يشهد لرجحانه بل تعينه ذيل رواية إسماعيل الهاشمي حيث قال بعد وصف النبيذ: «و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء اللّٰه» «1» و لعل

______________________________

(1) الظاهر أنه من كلام السائل لا الامام عليه السلام و إليك نص الرواية: قال: «شكوت الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام قراقر تصيبني في معدتي و قلة استمرائي الطعام، فقال لي: لم لا تتخذ نبيذا؟

- الى أن قال-: فقلت له: صفه لي جعلت فداك، قال: تأخذ صاعا من زبيب فتنقيه من

حبّه و ما فيه، ثم تغسل بالماء غسلا جيدا ثم تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره، ثم تتركه في الشتاء ثلاثة أيام بلياليها و في الصيف يوما و ليلة، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفيته و أخذت صفوته و جعلته في إناء و أخذت مقداره بعود، ثم طبخته طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه- إلى أن قال-: فإذا برد صفيت و أخذت منه على غذائك و عشائك، قال: ففعلت فذهب عني ما كنت أجده، و هو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي إن شاء اللّٰه» راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 275

الطيب مقابل الخبيث الذي أطلق على الخمر و المسكر.

و كذا تشهد له صحيحة علي بن جعفر- بناء على وثاقة سهل بن زياد كما هو الأصح- عن أخيه موسى أبي الحسن عليه السلام قال:

«سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه، ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثم يرفع فيشرب منه السنة، فقال: لا بأس به» «1».

فان الظاهر أن علي بن جعفر لم يكن شكه إلا في أن ماء الزبيب المطبوخ كذلك إذا بقي سنة يحل شربه أو يعرضه الفساد و الإسكار، و إلا فحليته بعد ذهاب الثلثين كانت واضحة، فتصير شاهدة لسائر الروايات أيضا.

و بما ذكرناه يظهر ضعف الاستدلال بها على حرمة عصير الزبيب قبل التثليث بتوهم دلالتها على معهوديتها، و ذلك بما عرفت من أن السؤال لم يكن عن حليته بالتثليث، بل عن بقائه حلالا الى آخر السنة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام

الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 276

لاحتمال عروض الفساد عليه، هذا مضافا الى أن غاية ما تدل عليه هذه الصحيحة بل سائر الروايات معهودية التثليث، و أما كونه لرفع الحرمة فلا، و الظاهر أن تعارفه لأجل عدم عروض الفساد و الإسكار عليه.

و يشهد لذلك مضافا الى ما تقدم ورود التثليث في السفرجل و العسل في رواية خليلان بن هاشم قال: «كتبت الى أبي الحسن عليه السلام جعلت فداك عندنا شراب يسمى الميبة، نعمد الى السفرجل فنقشره و نلقيه في النار، ثم نعمد الى العصير فنطبخه على الثلث، ثم ندقّ ذلك السفرجل و نأخذ ماءه و نعمد الى هذا المثلث و هذا السفرجل فنلقي فيه المسك و الأفاوي و الزعفران و العسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه أ يحل شربه؟ فكتب: لا بأس به ما لم يتغير» «1» مع وضوح عدم حرمة عصير السفرجل و العسل بالغليان بالنار، و وروده في دستور الطبيب أيضا في رواية إسحاق بن عمار «2»، و ليس ذلك ظاهرا إلا لعدم عروض الفساد أو الإسكار عليه بطول المدة.

و ربما يتمسك للحرمة بالروايات الحاكية لمشاجرة إبليس لعنه اللّٰه آدم و نوحا عليهما السلام «3» بدعوى إعطائهما إبليس من ثمرة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(2) قال: «شكوت الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام بعض الوجع و قلت له: إن الطبيب وصف لي شرابا آخذ الزبيب و أصبّ عليه الماء للواحد اثنين، ثم أصبّ عليه العسل، ثم أطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث، قال: أ ليس حلوا؟ قلت: بلى، قال: اشربه و لم أخبره كم العسل» راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث

5.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 277

الحبلة الثلثين.

و فيه ما لا يخفى، فإن الأخذ بظاهر تلك الروايات مستلزم لمالكية إبليس ثلثي جميع شجرة الكرم كما هو مقتضى بعضها، و لزوم تثليث ماء العنب باغلائه و إخراج حظ إبليس و عدم جواز شربه قبل غليانه، و هو كما ترى، فلا بد من حملها على بيان سرّ حرمة الخمر أو عصير العنب المغلي كما هو المتيقن منها، بل الظاهر من بعضها، و بعبارة أخرى لا يستفاد الإطلاق من هذه الروايات التي هي بصدد بيان سرّ مخفي و حكمة غير معقولة لنا لحرمة شي ء معهود، كما لا يخفى.

و أضعف منه التمسك بموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث: «أنه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، قال: إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب» «1» و نحوها رواية علي بن جعفر عن أخيه «2» لأنها بصدد بيان حكم آخر، فلا إطلاق فيها «3» فتحصل من جميع ذلك حلية عصير الزبيب المغلي و طهارته.

و أما العصير التمري فأولى بهما، لفقد الأصل الذي تمسك به للزبيبي، و عدم دليل على حرمته عدا ما عن دعائم الإسلام عن جعفر ابن محمد عليه السلام أنه قال: «الحلال من النبيذ أن تنبذه و تشربه من يومه و من الغد، فإذا تغير فلا تشربه، و نحن نشربه حلوا قبل أن يغلي» «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(3) مع إمكان دعوى أن الشراب لم يشمل لغير المتخذ من العنب

(4) المستدرك- الباب-

2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 278

و فيه- مضافا الى ضعف سنده و إرساله، و نقل الإجماع على خلافه و معارضته بما يأتي- أن المراد بالتغير يمكن أن يكون الإسكار لا مطلق التغير أو الغليان، و يمكن الاستشهاد عليه بقوله عليه السلام: «نحن نشربه» إلخ، حيث يشعر بأن عدم الشرب قبل الغليان ليس حكما إلزاميا على الناس، بل أهل البيت عليهم السلام كانوا لا يشربونه.

و نحو هذا التعبير غير عزيز في الروايات، كرواية زرارة قال:

«قلت: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاث لا أتقي فيهن أحدا:

شرب المسكر، و مسح الخفين، و متعة الحج، قال زرارة: و لم يقل:

الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا» «1» و ورد نظيره في إتيان أدبار النساء إلى غير ذلك، فحينئذ يكون التغير مقابلا للغليان، فيرجع إلى الاستحالة و صيرورته خمرا و مسكرا، تأمل.

و لا على نجاسته إلا بعض الروايات الشاذة المشعرة بها، كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث «انه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله حتى يذهب ثلثا ماء التمر» «2» و موثقته الأخرى عنه عليه السلام قال:

«سألته عن النضوح، قال: يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثم يمتشطن» «3» مما يجب طرحها على فرض دلالتها، لقيام الشهرة على طهارته، بل حكى شيخنا المرتضى الأنصاري خمسة إجماعات عليها و لو ضم إليها ما حكي على حليته المستلزم للطهارة لزاد عددها.

مع ما في دلالتهما من الإشكال، أما الثانية فواضح، و أما الأولى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب الوضوء- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب الأشربة

المحرمة- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 279

فبعد القطع بأن المراد من الحلية ليس حلية الشرب لكونه من الطيب، بل إما حلية الاستعمال تكليفا أو حلية الصلاة فيه وضعا أن الوصف بالمعتق مشعر أو دال على أن المراد أنه كيف يصنع النضوح أي الطيب الخاص حتى يحل استعماله معتقا.

و بعبارة أخرى كيف يصنع حتى لا يصير مع صيرورته عتيقا فاسدا و مسكرا، فالأمر بإذهاب الثلثين حينئذ لأجل عدم طروّ الفساد عليه «1» و يظهر من الروايات تعارف جعل الخمر أو النبيذ في النضوح في تلك الأزمنة «2».

______________________________

(1) في مجمع البحرين في مادة نضح: «أصل النضح الرش، فشبّه كثرة ما يفوح من طيبه بالرش» و في كلام بعض الأفاضل:

«النضوح طيب مائع ينقعون به التمر و السكر و القرنفل و التفاعل و الزعفران و أشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء، و يشد رأسها و يصبرون أياما حتى ينشر و يتخمر، و هو شائع بين النساء الحرمين الشريفين، و كيفية تطيب المرأة به أن تحط الأزهار بين شعر رأسها ثم ترشرش به الأزهار لتشتد رائحتها، قال: و في أحاديث أصحابنا انهم عليهم السلام نهوا نساءهم عن التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة» انتهى. قوله: «في أحاديث أصحابنا» إشارة إلى رواية عيثمة المروية في الوسائل- الباب- 32- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1 قال: «دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و عنده نساؤه، قال:

فشم رائحة النضوح، فقال: ما هذا؟ قالوا: نضوح يجعل فيه الضياح قال: فأمر به فأهريق في البالوعة».

(2) «كرواية علي الواسطي قال: دخلت الجويرية- و كانت تحت عيسى

بن موسى- على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و كانت صالحة، فقالت:

إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و اجعله في رأسي، قال: لا بأس» و رواية علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (ع) قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح للمرأة أن تصلي و هو على رأسها؟ قال لا حتى تغتسل منه» راجع الوسائل- الباب- 37 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2- 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 280

مضافا إلى دلالة بعض الأخبار على أن حرمته و نجاسته تابع لإسكاره كخبر وفد اليمن، و فيها بعد توصيفهم النبيذ من التمر لرسول الهّٰح صلى اللّٰه عليه و آله و تصريحهم بطبخه «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام» يظهر منها أنه مع طبخه و عدم عروض الإسكار عليه ليس بحرام، و لازمة عدم نجاسته. فالمسألة واضحة بحمد اللّٰه.

التاسع: الفقاع،

و لا ريب في نجاسته، و قد حكي الإجماع عليها مستفيضا، كما في الانتصار و الخلاف و محكي الغنية و المنتهى و المهذب البارع و التنقيح و كشف الالتباس و إرشاد الجعفرية و ظاهر المبسوط و التذكرة و الذكرى، و عن المدارك تأمل في نجاسته، حيث قال: «وردت به رواية ضعيفة» أراد رواية الكافي عن أبي جميلة البصري قال: «كنت مع يونس ببغداد و أنا أمشي معه في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه، فقفز «1» فأصاب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس، فقلت له: يا أبا محمد أ لا تصلي؟ قال: فقال لي: ليس أريد أن أصلي حتى أرجع الى البيت فأغسل هذا الخمر

من ثوبي، فقلت له:

هذا رأي رأيته أو شي ء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول

______________________________

(1) قفز بالقاف ثم الفاء ثم الزاء: وثب (الوافي).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 281

فإذا أصاب ثوبك فاغسله» «1» و لا مجال للتردد في الحكم بعد ذلك الاشتهار و تلك الإجماعات، و لو نوقش في الرواية بضعف السند بل و عدم العلم بالجبر لاشتراطه بإحراز الاستناد و هو ممنوع، لما تصح المناقشة في دلالة الروايات المتظافرة الآتية الحاكمة بأنه خمر بعينها أو من الخمر، أو خمر استصغره الناس، الى غير ذلك، فإنها إما تدل على خمريته و مسكريته واقعا، فقد فرغنا عن نجاسة المسكرات المائعة، و إما تدل على التنزيل منزلته حكما، فلا شبهة في استفادة عموم التنزيل مع هذه التعبيرات و التأكيدات، و لو لا كونه بمنزلته في جميع الآثار لما صح هذا التنزيل بهذا اللسان الأكيد، و الشاهد عليه ثبوت حكم شارب الخمر عليه «2» فلا ينبغي الإشكال في نجاسته و حرمته.

فما في رواية زكريا بن آدم عن أبي الحسن عليه السلام «3» مما يشعر أو يدل على الخلاف لا يعول عليه مع ضعفها سندا بابن المبارك و وهنها متنا باشتمالها على حكم في الدم لا نقول به، و موافقتها للناس، و مخالفتها للإجماع و النصوص.

نعم يأتي الكلام في جهة أخرى، و هي أن الفقاع ليس خمرا حقيقة و لم يسمّ باسمها عرفا و لغة، و الدليل عليه مضافا الى وضوحه وفاق أهل الخلاف في عدم حرمته و نجاسته، مع أن كثيرا منهم من أهل اللسان و علماء العربية و

أئمة الأدب و اللغة، فلو كان الخمر صادقا

______________________________

(1) مرت في ص 175.

(2) إشارة إلى الروايات الدالة عليه كموثقة ابن فضّال قال:

«كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقاع فقال: هو الخمر و فيه حد شارب الخمر» راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2 و 11- و الباب 28 منها- الحديث 1.

(3) مرت في ص 178.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 282

عليه حقيقة لما اتفق بينهم هذا الاتفاق مع حرمتها بنص الكتاب، مضافا إلى استفادة ذلك من الأخبار و كلمات أصحابنا.

أما الأخبار فقد تقدم الكلام فيها من أن الظاهر منها أن الخمر اسم للمادة الخبيثة المأخوذة من العنب، و هي التي حرمها اللّٰه تعالى، و انما حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سائر المسكرات، و في بعضها أن اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها بل حرمها لعاقبتها «1» و هو كالنص في أن الاسم مختص بالمتخذ من العنب، و إطلاقها على غيرها بضرب من التأويل، فراجع.

و أما كلمات الأصحاب فبين ظاهرة في ذلك، لأن مقابلة المسكرات مع الفقاع في كلماتهم في أبواب النجاسات و الأشربة المحرمة و المكاسب المحرمة و الحدود ظاهرة في أنه بعنوانه موضوع الحكم لا لإسكاره، و لا لصدق الخمر عليه، مضافا إلى أنه لم نر استدلالهم على خلاف العامة في حرمته بظاهر القرآن، فقد استدلوا عليه تارة بروايات من طرقهم و أخرى بدليل الاحتياط.

و لو أمكن الاستدلال عليه بظاهر الآية و لو بوجه لاستدلوا عليه، سيما علم الهدى رضي اللّٰه عنه الذي عمل الانتصار لانتصار الحق و إزهاق الباطل جزاه اللّٰه عن الإسلام أفضل جزاء، و من دأبه التشبث بظواهر الآيات عليهم

حيثما أمكن مع أنه من أئمة الأدب و اللسان، و كذا شيخ الطائفة في خلافه، بل و ابن زهرة، و قد تمسك الشيخ في حدود نهايته لإثبات أحكام الخمر له بثبوت سوائيته مع الخمر من أئمة آل محمد عليهم الصلاة و السلام.

و بالجملة يظهر من كلمات أصحابنا عدم كونه خمرا أو مسكرا،

______________________________

(1) مر في ص 191.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 283

و ليست حرمته لهما، ففي النهاية بعد ذكر المسكرات: «و حكم الفقاع حكم الخمر على السواء» و في المراسم: «و الخمر و سائر المسكرات و الفقاع» و في الغنية: «و كل شراب مسكر نجس و كل فقاع نجس» و كذا سائر الكتب و المصنفات على هذا المنوال قديما و حديثا.

و بين ناصّة على عدم مسكريته مطلقا أو قسم منه المتفاهم منه عدم خمريته أيضا، لبعد تسميته خمرا مع عدم الإسكار، ففي الانتصار:

«و قد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة أن قوما من العرب سألوا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن الشراب المتخذ من القمح، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: يسكر؟ قالوا: نعم، فقال: لا تقربوه و لم يسأل من الشراب المتخذ من الشعير عن الإسكار، بل حرم ذلك على الإطلاق، و حرم الشراب الآخر إذا كان مسكرا- و قال قبل ذلك-:

و مما انفردت به الإمامية القول بتحريم الفقاع و أنه جار مجرى الخمر في جميع الأحكام» و هو كالنص في أنه بمنزلة الخمر لا نفسها.

و في الوسيلة و غير المسكر ضربان: فقاع و غيره، و الفقاع حرام نجس، و عن فقه الرضا: «و اعلم ان كل صنف من صنوف الأشربة التي لا يغير العقل شرب

الكثير منها لا بأس به سوى الفقاع، فإنه منصوص عليه لغير هذه العلة» «1» و عن الأستاذ في حاشية المدارك انهم صرحوا بأن حرمة الفقاع و نجاسته يدوران مع الاسم و الغليان لا للسكر فهو حرام و نجس و إن لم يكن مسكرا، لأن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حكم بالحرمة من دون استفصال، و في المجمع: «الفقاع كرمان: شي ء يشرب، يتخذ من ماء الشعير فقط، ليس بمسكر، و لكن ورد النهي عنه».

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 19- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 284

نعم ظاهر المعتبر أنه خمر اسما و إن لم يكن مسكرا، متمسكا بالتسمية الشرعية و أصالة الحقيقة، و هو كما ترى. و بقول أبي هاشم الواسطي المحكي في الانتصار: «الفقاع نبيذ الشعير، فإذا نشّ فهو خمر» و هو أيضا غير وجيه لأن الظاهر أن مراده من كونه خمرا أنه مسكر، لا أنه مسمى بها، مع أن التعويل على قوله مع ما عرفت في غير محله، و لهذا لم يعول عليه علم الهدى، و إلا لأستدل على حرمته بظاهر الكتاب، إلا أن يقال: إن الكتاب منصرف عنه، و هو غير معلوم، بل ممنوع بعد الصدق حقيقة.

ثم أنه بعد العلم بعدم خمريته حقيقة لا بد من حمل الروايات الحاكمة بأنه خمر بعينها «1» أو من الخمر «2» أو خمر استصغره الناس «3» على نحو من التنزيل، فيدور الأمر بين احتمالين: إما البناء على التنزيل باعتبار الحكم، بمعنى أن الأئمة عليهم السلام لما رأوا ثبوت جميع آثار الخمر له أطلقوها عليه ادعاء و مجازا، و إما البناء على

______________________________

(1) كرواية محمد بن سنان قال: «سألت

أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الفقاع فقال: هي الخمر بعينها» راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(2) كرواية حسين القلانسي قال: «كتبت الى أبي الحسن الماضي عليه السلام أسأله عن الفقاع فقال: لا تقربه فإنه من الخمر» و نحوها رواية محمد بن سنان راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

(3) كرواية الوشّاء عن أبي الحسن عليه السلام قال: «هي خمرة استصغرها الناس» راجع الوسائل- الباب- 28- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 285

التنزيل باعتبار الخاصية، و أنه لما كان عاقبته عاقبة الخمر و فعله فعلها نزلوه منزلتها.

و الفرق بينهما أنه على الأول يحكم بترتب الأحكام بمجرد صدق الفقاع و ان لم يكن مسكرا، لأن التنزيل ليس بلحاظ إسكاره، و على الثاني يترتب الأحكام على قسم المسكر، لأن التنزيل باعتبار مسكريته.

و لا شبهة في أن مقتضى إطلاق الأخبار البناء على الوجه الأول، و لا وجه لرفع اليد عن إطلاقها بلا دليل مقيد، و دعوى الانصراف الى القسم المسكر ممنوعة، فالأقوى حرمته و نجاسته و ترتب سائر الآثار عليه بمجرد صدق الاسم و لو لم يكن مسكرا كما نص عليه الأصحاب في كلماتهم المتقدمة و أرسلوه إرسال المسلمات.

نعم الظاهر عدم ترتبها قبل الغليان، لصحيحة ابن أبي عمير عن مرازم قال: «كان يعمل لأبي الحسن عليه السلام الفقاع في منزله، قال ابن أبي عمير: و لم يعمل فقاع يغلي» «1» و الظاهر أن ابن أبي عمير كان بصدد دفع توهم عمل الفقاع الحرام، و موثقة عثمان بن عيسى قال «كتب عبد اللّٰه بن محمد الرازي الى أبي جعفر الثاني عليه السلام إن

رأيت أن تفسر لي الفقاع، فإنه قد اشتبه علينا أ مكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب: لا تقرب الفقاع إلا ما لم يضر آنيته أو كان جديدا، فأعاد الكتاب إليه كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني:

اشربه ما كان في إناء جديد، أو غير ضار، و لم أعرف حد الضراوة و الجديد، و سأل أن يفسر ذلك له، و هل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة و الزجاج و الخشب و نحوه من الأواني؟ فكتب عليه السلام: يفعل الفقاع في الزجاج و في الفخار الجديد الى قدر ثلاث عملات، ثم لا يعد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 286

منه بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد و الخشب مثل ذلك» «1».

و الظاهر منها أن النهي عن هذه الظروف لأجل حصول النشيش و الغليان له إذا نبذ فيها، و يمكن أن يكون لحصول الإسكار له، لكن هذا مجرد احتمال لا يمكن رفع اليد به عن إطلاق الأدلة و كلمات الأجلة، و صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: «سألته عن شرب الفقاع الذي يعمل في السوق و يباع و لا أدرى كيف عمل و لا متى عمل أ يحل أن أشربه؟ قال: لا أحبه» «2».

و الظاهر منها وجود قسمين منه: حلال و حرام، و الظاهر من الروايتين المتقدمتين أن الحلال منه قبل غليانه و نشيشه و الحرام بعده، و كذا الأخيرة أيضا لإشعار قوله: «متى عمل» أو ظهوره في شكه في بقائه الى حال التغير و النشيش، و لا يبعد حمل إطلاق كلمات الأصحاب على ما بعده

كما مر ما عن الأستاذ في حاشية المدارك أنهم صرحوا بأن حرمة الفقاع و نجاسته تدوران مع الاسم و الغليان.

بل الظاهر من اللغويين عدم صدقه على ما لم ينش، قال في القاموس «الفقاع كرمان: هذا الذي يشرب، سمي به لما يرتفع في رأسه من الزبد» و نحوه في المنجد و معيار اللغة، و في المجمع: «قيل: سمي فقاعا لما يرتفع في رأسه من الزبد» و يظهر من الشهيد في محكي الروض اعتباره في الصدق.

ثم ان المتيقن منه ما أخذ من الشعير، و الظاهر عدم الكلام فيه و انما الكلام و الاشكال فيما يؤخذ من سائر الأشياء كالقمح و الذرة و الزبيب و غيرها، و قد مر كلام الطريحي في المجمع في انحصاره بما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 287

يؤخذ من الشعير، و هو ظاهر السيد في الانتصار حيث استدل على حرمة الفقاع مطلقا بعدم استفصال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فيما يؤخذ من الشعير دون ما يؤخذ من القمح، فما نسب إليه من أخذه من القمح أيضا مخالف لذلك.

نعم حكى هو من طريق الناس عن أم حبيبة زوجة النبي صلى اللّٰه عليه و آله «أن أناسا من أهل اليمن قدموا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ليعلمهم الصلاة و السنن و الفرائض، فقالوا: يا رسول اللّٰه إن لنا شرابا نعمله من القمح و الشعير، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم، قال:

لا تطعموه» إلخ، ثم حكى تفسير زيد بن أسلم الغبيراء بالاسكركة، و هي بالفقاع.

و لعل الغبيراء في كلام النبي صلّى اللّٰه

عليه و آله كان مربوطا بالمتخذ من الشعير المتأخر في الذكر في كلام السائل لا منه و من القمح، تأمل و يظهر من السيد اختصاص الغبيراء بما يؤخذ من الشعير، فراجع الانتصار بتعمق.

و عن المدنيات أنه شراب معمول من الشعير، و حكى السيد عن الواسطي أن الفقاع نبيذ الشعير، و إذا نشّ فهو خمر، و عن بعض آخر عدم الاختصاص به، فعن رازيات السيد و الانتصار كان يعمل من الشعير و من القمح، و قد عرفت حال ما في الانتصار، و ليس عندي الرازيات، و عن مقداديات الشهيد: «كان قديما يتخذ من الشعير غالبا، و يحصل «1» حتى يحصل فيه التنشر، و كأنه الآن يتخذ من الزبيب» انتهى. كذا في مفتاح الكرامة، و لعل مراده أنه يبقى حتى ينشّ، و عن أبي عبيدة أن السكركة من الذرة، و عن مخزن الأدوية «أن الفقاع

______________________________

(1) كذا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 288

اسم لنوع من النبيذ مركب طعمه من حلاوة قليلة و حموضة و مرارة، و يصنع من أكثر الحبوب كالشعير و الأرز و الدخن و الذرة و الخبز الحواري و الزبيب و التمر و السكر و العسل، و قد يضيفون اليه الفلفل و سنبل الطيب و القرنفل» انتهى.

و المتحصل من الجميع أن ما يؤخذ من الشعير فقاع بلا ريب، و صدقه على ما عداه مشكوك فيه، و مقتضى الأصل الحلية و الطهارة بعد كون الشك في المفهوم و الوضع، و مجرد إطلاقه في الأزمنة المتأخرة على المأخوذ من غيره لا يفيد، و أصالة عدم النقل و الاشتراك على فرض جريانهما لا تفيد في إثبات الوضع و لو كانت عقلائية.

العاشر: الكافر بجميع أنواعه،
اشارة

ذميا كان أو

غيره، أصليا أو مرتدا، إجماعا كما في الانتصار و الناصريات مع التصريح بالكلية، و في الخلاف دعواه في المشرك الذمي و غيره. و في الغنية ادعى الإجماع المركب، و قال:

«التفرقة بين نجاسة المشرك و غيره خلاف الإجماع» و ادعى الإجماع صريحا في المنتهى، و ظاهرا في التذكرة، و هو المحكي عن السرائر و البحار و الدلائل و شرح الفاضل و ظاهر نهاية الإحكام، و عن التهذيب إجماع المسلمين، و لعل مراده المؤمنين الذين هم المسلمون حقا، و حكى تأويله عن الفاضل الهندي بما هو أبعد مما ذكرناه.

و عن حاشية المدارك أن الحكم بالنجاسة شعار الشيعة يعرفه علماء العامة منهم، بل و عوامهم يعرفون أن هذا مذهب الشيعة، بل و نساؤهم و صبيانهم يعرفون ذلك، و جميع الشيعة يعرفون أن هذا مذهبهم في الأعصار و الأمصار، و عن القديمين القول بعدم نجاسة أسئار اليهودي و النصارى، و كذا عن ظاهر المفيد و عن موضع من النهاية.

لكن عن حاشية المدارك لا يحسن جعل ابن أبي عقيل من المخالفين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 289

مع تخصيصه عدم النجاسة بأسئارهم. لأنه لا يقول بانفعال الماء القليل، و السؤر هو الماء الملاقي لجسم حيوان، قال: «و الكراهة في كلام المفيد لعله يريد منها المعنى اللغوي» انتهى. و هو حسن، و أما ما نسب إلى نهاية الشيخ ففي غير محله جزما، قال فيها: «و لا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم، و لا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء، و كل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز أكله، لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه- قال بعد أسطر-: و يكره أن يدعو الإنسان

أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل منه، و إن دعاه فليأمره بغسل يديه» انتهى.

و هو كما ترى محمول كما عن نكتها على الطعام اليابس، كالتمر و الخبز و نحوهما، بقرينة ما تقدم، و الأمر بغسل يدهم لدفع القذارة العرفية، و أما ما عن ابن إدريس بأنه ذكر ذلك إيرادا لا اعتقادا فبعيد و الظاهر استناد الشيخ فيما ذكره إلى صحيحة عيص بن القاسم، فإنها بمضمون ما ذكره ظاهرا «1».

و لم يحضرني كلام ابن الجنيد، و ما نقل عنه غير ظاهر في المخالفة و نسب الى صاحب المدارك و المفاتيح الميل الى طهارتهم، لكن لم يظهر من المدارك ذلك فراجع، و لم يحضرني المفاتيح، نعم قد يظهر من الوافي ذلك، لأنه بعد ذكر الأخبار قال: «و قد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، و التطهير من مسّهم مما لا ينبغي تركه» و فيه إشعار على رجحان التطهير منه لا لزومه.

و كيف كان فالعمدة هو الإجماعات المتقدمة، و المعروفية بين جميع طبقات الشيعة بحيث صار شعارهم عند الفريقين، كما تقدم عن الأستاذ

______________________________

(1) سيأتي البحث عنها في ص 301.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 290

الوحيد، و لا يمكن أن يقال: إن ذلك لتخلل اجتهاد من الفقهاء و تبعهم العوام، أما أولا فلأن الأخبار كما تأتي جملة منها ظاهرة الدلالة على طهارة أهل الكتاب، و لها جمع عقلائي مقبول مع غيرها لا يمكن خفاؤه على فاضل، فضلا عن جميع الطبقات من أهل الحل و العقد من الطائفة و هو دليل على أن استنادهم إلى بعض الآيات و الأخبار ليس مبنى فتواهم بل المبنى هو المعلومية من

الصدر الأول و أخذ كل طبقة لاحقة عن سابقتها.

و احتمال تخلل الاجتهاد و خطأ جميع طبقات الفقهاء في هذه المسألة الواضحة المأخذ بحسب الرواية مما تبطله الضرورة، و لا تقاس هذه المسألة بمسألة المنزوحات التي اختلفت الآراء و الأخبار فيها بحيث تكون مظنة تخلل الاجتهاد، كما يظهر بالرجوع إليها.

و أما ثانيا فلأن احتمال كون المعروفية عند جميع الطبقات من النساء و الصبيان و الحاضر و البادي من فتوى فقهائهم بعيد جدا، بل غير وجيه، فإن المسائل الاجتهادية التي أجمعت الفقهاء عليها غير عزيزة، مع عدم معروفيتها لدى العامة حتى فيما تكون محل الابتلاء، كحرمة العصير العنبي، و حرمة كثير من أجزاء الذبيحة، هذا مع أن كثيرا ممن يكون الحكم واضحا عندهم لعله لا عهد لهم بالفقهاء و آرائهم.

و بالجملة هذه الشهرة و المعروفية في جميع الطبقات في الأعصار و الأمصار تكشف جزما عن رأي أئمتهم عليهم السلام، و لا يبقى فيها محل تشكيك و ريب، سيما مع مخالفة العامة جميعا، فذهبوا إلى طهارة الكفار مطلقا.

قال السيد: «و مما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كل كافر، و خالف جميع الفقهاء في ذلك، و حكى الطحاوي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 291

عن مالك في سؤر النصراني و المشرك أنه لا يتوضأ به، و وجدت المحصلين من أصحاب مالك يقولون: إن ذلك على سبيل الكراهة لا التحريم، لأجل استحلالهم الخمر و الخنزير، و ليس بمقطوع على نجاسته، فالامامية منفردة بهذا المذهب» انتهى.

هذا أيضا يؤكد البناء على نجاستهم، و على معللية ما دلت على طهارتهم من الأخبار، و قد تكرر منا أنه لا دليل معتد به على حجية خبر

الثقة إلا بناء العقلاء، و التي وردت في هذا المضمار آية و رواية لا يستشعر منها التأسيس، بل كلها أو جلها دالة على إمضاء ما لدى العقلاء و ليس للشارع المقدس طريق خاص و تعبد في ذلك، و لو وجد فيها ما يشعر بخلاف ذلك لم تصل الى حد الدلالة.

و لا شبهة في عدم بناء العقلاء على العمل بمثل الروايات التي أعرض عنها الأصحاب مع كونها بمرئي و منظر منهم، و كونهم متعبدين على العمل بما وصل إليهم من طريق أهل البيت عليهم السلام، فيكون إعراضهم إما موجبا للوهن في سندها، و مع عدم إمكان ذلك لكثرة الروايات و القطع بصدور بعضها فلا محالة يوجب الوهن في جهة صدورها مع اتفاق أهل الخلاف على طهارتهم.

فالقول بأن مجرد وثاقة الراوي يكفي في العمل بالرواية تارة، و بأن احتمال صدورها تقية في المقال في مقام بيان الحكم بعيد عن مساق الأخبار أخرى لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أن القول بحدوث هذه السيرة و المعروفية بعد عصر الأئمة عليهم السلام و لم يكن الحكم معروفا في زمانهم- لشهادة جل الروايات بخلو أذهان السائلين الذين هم من عظماء الشيعة و رواة الأحاديث عن احتمال نجاستهم الذاتية، و أن الذي أوقعهم في الريبة الموجبة للسؤال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 292

عدم تجنبهم عن النجاسات، حتى أن محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري الذي كتب إلى صاحب الزمان في عصر الغيبة «1» استشكل في الصلاة في الثياب المتخذة من المجوس، لأجل أنهم كانوا يأكلون الميتة و لا يغتسلون من الجنابة. فيستفاد منه عدم انقداح نجاستهم الذاتية في ذهنه، فيظن منه حدوث المعروفية لدى العلماء للاجتهاد،

و لدى العوام للتقليد- في غاية الضعف.

أما أسئلة الرواة فلا تدل على عدم المعروفية لدى الشيعة، فإن المتتبع في أسئلتهم في المسائل الفقهية يرى أن كثيرا ما لم تكن الأسئلة الصادرة من فقهاء أصحابهم لرفع شبهة، بل كان بناؤهم على السؤال لضبط الجواب عن كل إمام في أصولهم و كتبهم، فمثل مشايخ أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السلام نظير زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و غيرهم ممن أدركوا عصر أبي جعفر عليه السلام و أخذوا المسائل منه سألوا أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن تلك المسائل بعينها، و ربما سألوا عن مسائل واضحة لا يمكن خفاؤها عليهم إلى زمان الصادق عليه السلام، ككيفية غسل الجنابة، و غسل الميت، و الوضوء، و جواز المسح على الخفين بل و عدد الصلوات الفرائض، إلى غير ذلك مما لا تحصى، حيث كان السؤال لمقاصد أخر، كالحفظ في الكتب للبقاء و الوصول إلى الطبقة المتأخرة و كثرة الانتشار و غير ذلك.

و أما دعوى أن جل الروايات شاهدة على خلو أذهان السائلين عن نجاستهم ذاتا ففيها أن الواقع خلاف ذلك، فان جلها خالية عن الاشعار بما ذكر فضلا عن الشهادة به، كما يظهر للمراجع إليها في كتاب الطهارة

______________________________

(1) الرواية مروية في الوسائل- الباب- 73 من أبواب النجاسات الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 293

و الأطعمة، نعم في بعضها إشعار بذلك كرواية الحميري المتقدمة، لكن ليس محط نظره السؤال عن نجاسة المجوس، بل نظره إلى السؤال عن حال الثوب المنسوج بيدهم، و لا يبعد أن يكون بعد الفراغ عن نجاستهم و لهذا خصهم بالذكر، و إنما ذكر أكلهم الميتة و عدم اغتسالهم من

الجنابة لفرض قوة احتمال تنجس الثوب، و أنه مع كونهم نجسا كانوا كذلك و لأجله صار ما بأيديهم أقرب إلى التنجس، و لهذا أضاف إلى أكل الميتة عدم اغتسالهم من الجنابة.

فهي نظير صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث و هم يشربون الخمر و نساؤهم على تلك الحال ألبسها و لا أغسلها» إلخ «1» و الظاهر أن المراد بالأخباث الأنجاس، فان الخبث الباطني النفساني لا يناسب المقام، و ذكر النجاسة العرضية غير مناسب مع قوله بعده: «و هم يشربون الخمر» فالظاهر فرض قوة احتمال تلوث الثياب و تنجسها بفرض نجاسات ذاتا و عرضا فيهم و فيما بأيديهم، و نحوها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «2» حيث فرض فيها إعارة الذمي الثوب و يعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير.

بل الأسئلة الكثيرة في الروايات عن ثياب المجوس و النصارى و اليهود و بواريهم و ما يعملونه و غير ذلك ظاهرة الدلالة على معهودية نجاستهم في ذلك العصر، إلا أن يقال: اختصاصهم بالذكر لكثرة ابتلائهم بها، كما ربما يشهد به بعضها.

ثم أنه قد استدل على نجاستهم بقوله تعالى:

______________________________

(1) الوسائل- الباب 73- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 294

«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» «1» و يمكن تقريبه بنحو لا يرد عليه بعض الإشكالات، و هو أن المستفاد من كلمة الحصر و حمل المصدر أن المشركين ليسوا إلا حقيقة النجاسة بالمعنى المصدري، و هو مبني على الادعاء و التأول، و هو لا يناسب طهارتهم و نظافتهم ظاهرا التي هي بنظر العرف أوضح

مقابل للنجاسة و أظهره، فلا يجوز الحمل على القذارة الباطنية من كفرهم أو جنابتهم، لبشاعة أن يقال: إن الكافر ليس إلا عين القذارة، لكنه طاهر نظيف في ظاهره كسائر الأعيان الطاهرة، بل لو منع من افادة كلمة «إنما» الحصر يكون حمل المصدر الدال على الاتحاد في الوجود موجبا لذلك أيضا، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

نعم لو قارن الكلام بدعوى أخرى هي دعوى أن المشركين ليسوا إلا بواطنهم لكان لإنكار الدلالة وجه، لكنها على فرض صحتها خلاف الأصل. و الحمل على القذارة الصورية العرفية غير جائز، لعدم مطابقته للواقع إن أريد الحقيقة، فلا بد من ارتكاب تجوز، و هو دعوى أنه من هو نظيف بينهم كالعدم، و هي لا تصح إلا إذا كان النظيف بينهم نادرا يلحق بالعدم، و هو غير معلوم، بل معلوم العدم، مع أن المجاز خلاف الأصل، و لا قرينة عليه.

و كذا إن أريد نجاستهم عرضا لا بد من ارتكاب التجوز، و هو أيضا خلاف الأصل لو فرض كثرة ابتلائهم بحد تصحح الدعوى، مضافا إلى أن دعوى كونهم عين النجاسة بالمعنى المصدري أو حاصله أيضا لا تناسب في النجاسة العرضية إلا في بعض الأحيان كما لو تلوث جميع البدن تحقيقا أو تقريبا، و إلا فمع الملاقاة ببعض البدن لا يصح دعوى أنه عين القذارة، و تلوث جميع أفراد المشركين أو أكثرهم بنحو تصح

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 38.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 295

دعوى أن جميعهم نجاسة و نجس بالفتح معلوم العدم، مع أن المجاز خلاف الأصل.

فتحصل مما ذكر أن حمل الآية على إرادة القذارة المعنوية فقط غير صحيح لا يناسب البلاغة، و حملها على القذارة

العرفية حقيقة غير موافق للواقع، و على التأول غير صحيح، و مع فرض الصحة مخالف للأصل، و كذا على القذارة العرضية.

فبقي احتمال أن يكون المراد به النجاسة الجعلية الاعتبارية، فهو إما محمول على الاخبار عن الواقع، فلا بد من مسبوقيته بجعل آخر، و هو بعيد، أو على الاخبار في مقام الإنشاء، فيصح دعوى أنهم عين القذارة و النجاسة بعد كون جميع أبدانهم قذرا، سيما إذا أريد نجاستهم الباطنية أيضا فتكون دعوى انهم عين القذارة بعد كونهم ظاهرا و باطنا ملوثين بالكفر و الخباثة و الجنابة و القذارة في غاية البلاغة، فإبقاء المصدر على ظاهره أبلغ في إفادة المطلوب من حمله على خلاف ظاهره مرادفا للنجس بالكسر، و بما ذكرناه يندفع الإشكال بأنه نمنع كون النجس في زمان صدور الآية حقيقة في المعنى المصطلح، بل المتبادر منه هو المعنى اللغوي الذي هو أعم من الاصطلاحي، لما عرفت من أن الحمل على المعنى الحقيقي أي القذارة العرفية غير ممكن كما تقدم.

و لو قيل إنه يدور الأمر بين حمل النجس على المعنى الحقيقي و التصرف و التأويل في المشركين أو العكس و لا ترجيح يقال: إن الترجيح مع حمل النجس على الجعلي الاعتباري، لمساعدة العرف، مع أن مصحح الادعاء في المشركين غير محقق، لما تقدم.

هذا مضافا إلى ما أشرنا إليه في هذا المختصر بأن ليس للشارع اصطلاح خاص في النجاسة و القذارة مقابل العرف، بل وضع أحكاما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 296

لبعض القذارات العرفية و أخرج بعضها عنها، و ألحق أمورا بها، فالبول و الغائط و نحوهما قذرة عرفا و شرعا، و وضع الشارع لها أحكاما، و أخرج مثل النخامة و القيح

و نحوهما من القذارات العرفية عنها حكما بلسان نفي الموضوع في بعضها، و ألحق مثل الكافر و الخمر و الكلب بها بجعلها نجسا أي اعتبر القذارة لها، ففي الحقيقة أخرج مصاديق من المفاهيم تعبدا و أدخل مصاديق فيه كذلك من غير تصرف في المفهوم، فإن أريد من الاصطلاح الشرعي ذلك فلا كلام، و إن أريد أن مفهوم القذارة عند الشرع و العرف مختلفان فهو ممنوع.

و لا إشكال في أن الأحكام الشرعية كانت مرتبة على قذارات كالأخبثين و غيرهما في عصر الشارع الأقدس، فقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ محمول على النجاسة بمفهومها، لكن لا بمعنى الاخبار عن الواقع، فإنه غير محقق، و مع فرض تحققه لا يكون الاخبار به وظيفة الشارع، بل بمعنى جعل ما ليس بمصداق مصداقا تعبدا، و هو الأقرب بعد قيام القرينة العقلية و العادية، كما عرفت الكلام فيها مستقصى.

فتحصل من ذلك أن دلالة الآية الكريمة بالنسبة إلى المشركين تامة، و أما بالنسبة إلى الذمي فقد يقال بانسلاكه فيهم، لقوله تعالى:

وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ- إلى قوله- سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «1» و فيه أن تلك الآية مسبوقة بأخرى، و هي اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ و المراد باتخاذهم أربابا ليس ما هو ظاهرها، لعدم قولهم بألوهيتهم.

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 31.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 297

ففي مجمع البيان «1» عن الثعلبي عن عدي بن حاتم في حديث قال:

«انتهيت إليه- أي إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- و هو يقرأ سورة البراءة هذه الآية اتَّخَذُوا

أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ حتى فرغ منها، فقلت له: لسنا نعبدهم، فقال: أ ليس يحرمون ما أحل اللّٰه فتحرمونه و يحلون ما حرم اللّٰه فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم» و قريب منها في رواياتنا، فعليه لا يكون الشرك بمعناه الحقيقي.

إلا أن يقول النصارى بأن المسيح اللّٰه كما قال تعالى أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ «2» و قال تعالى في الآية المتقدمة:

و المسيح بن مريم و لم ينفه عدي بن حاتم، بل الظاهر نفى عبادتهم للأحبار و الرهبان، و قال تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ «3» قال في المجمع القائلون بهذه المقالة جمهور النصارى من الملكانية و اليعقوبية و النسطورية، لأنهم يقولون ثلاثة أقانيم» و في مجمع البحرين قيل: «هو رد على النصارى لإثباتهم قدم الأقنون» انتهى.

و قال تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ- وَ قٰالَ الْمَسِيحُ: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» «4» حيث يظهر منها شركهم، و لعله لقولهم بأن المسيح هو الرب المتجسد في الناسوت، حتى أن صاحب المنجد المسيحي قال: «المسيح: لقب الرب، يسوع ابن اللّٰه المتجسد- و قال-:

المسيحي: المنسوب إلى المسيح الرب» تعالى اللّٰه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

و في مجمع البيان هذا مذهب اليعقوبية منهم، لأنهم قالوا: إن اللّٰه اتحد بالمسيح اتحاد الذات، فصار شيئا واحدا و صار الناسوت لاهوتا،

______________________________

(1) ج 3 ص 23 ط صيدا.

(2) سورة المائدة: 5- الآية 116.

(3) سورة المائدة: 5- الآية 73.

(4) سورة المائدة: 5- الآية 72.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 298

و ذلك قولهم: إنه إلا له.

و

كيف كان لا يمكن لنا إثبات الشرك لجميع طوائفهم، و لا إثباته لليهود مطلقا. و ليس في قول النصارى «ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ» إشعار بأن اليهود قائلون: إنه ثاني اثنين، و مجرد القول بأن عزيزا ابن اللّٰه لا يوجب الشرك و ان لزم منه الكفر، مع أن القائلين بذلك- على ما قيل- طائفة منهم قد انقرضوا.

و أما المجوس فان قالوا بإلهية النور و الظلمة أو يزدان و أهرمن فهم مشركون داخلون في إطلاق الآية الكريمة، مع احتمال أن يكون المراد بالمشركين في الآية هو مشركو العرب أي الوثنيين، كما أن الطبيعيين من الكفار و المنتحلين إلى الإسلام خارجون عن الشرك، فالآية الشريفة غير وافية لإثبات تمام المدعي، أي نجاسة تمام صنوف الكفار.

و استدل المحقق لنجاستهم بقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «1» و هو مشكل مع اشتراكه بين العذاب و اللعنة و غيرهما، و إن حكي عن الشيخ في التهذيب أن الرجس هو النجس بلا خلاف، و قال في المجمع: «ظاهره أنه لا خلاف بين علمائنا في أنه في الآية بمعنى النجس» انتهى.

و لعل دعواه ناشئة من عدم الخلاف في نجاستهم، و إلا فلم يفسره المفسرون به، كما يظهر من المحقق، و لم يحتمله في مجمع البيان، و لم ينقله من أحد، مع أن بناءه على نقل الأقوال.

و استدل على نجاسة أهل الكتاب بروايات مستفيضة و هي على طوائف:

______________________________

(1) سورة الأنعام: 6- الآية 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 299

منها- ما وردت في النهي عن مصافحتهم و الأمر بغسل اليد إن صافحهم، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «في رجل صافح رجلا مجوسيا، فقال: يغسل يده

و لا يتوضأ» «1» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «سألته عن مؤاكلة المجوس في قصعة واحدة و أرقد معه على فراش واحد و أصافحه، قال: لا». «2» و قريب منها صحيحته الأخرى «3» فإن الأمر بالغسل محمول على ما إذا كان في اليد رطوبة سارية، فهو ظاهر في نجاستهم كالأمر بغسل الثوب عن ملاقاة الكلب.

و فيه أن الأمر كذلك بالنسبة إلى صحيحة ابن مسلم لو لا سائر الروايات، و أما مع ملاحظتها فالظاهر منها أن مصافحة الذمي مرجوح نفسا لأجل ترك المحابة معهم، و الأمر بالغسل محمول على الاستحباب لإظهار التنفر و الانزجار عنهم، سواء كانت اليد مربوطة أو لا.

و الدليل على المرجوحية مطلقا- مضافا الى رواية الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «إنه نهى عن مصافحة الذمي» «4»- صحيحة علي بن جعفر المتقدمة و صحيحته الأخرى الظاهرتان في أن المصافحة معهم مطلقا مرجوح، و حمل النهي فيها على الغيري خلاف الظاهر، سيما في مثل المقام مما يعلم مرجوحية إظهار الموادّة معهم بأيّ نحو كان، و يؤيده بل يدل عليه إرداف النهي عن المصافحة للرقود مع المجوس على فراش واحد، و مع النهي عن إقعاد اليهودي و النصراني على فراشه و مسجده في صحيحته الأخرى.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 125- من أبواب أحكام العشرة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 300

و تدل على أن الغسل ليس للتطهير بل لإظهار التنفر-

مضافا الى ما تقدم- رواية خالد القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

ألقى الذمي فيصافحني، قال: امسحها بالتراب أو بالحائط، قلت:

فالناصب، قال: اغسلها» «1» فان الظاهر منها أن الموضوع في الموردين واحد، فيكون المسح بالتراب أو الحائط لإظهار نفرة و انزجار منهم، و هو في الناصب أشد. و يمكن أن يكون الغسل في الناصب للنجاسة و المسح في الذمي لإظهار النفرة، فالرواية دالة على طهارتهم.

و موثقة أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام «في مصافحة المسلم اليهودي و النصراني قال: من وراء الثوب، فان صافحك بيده فاغسل يدك» «2» و الظاهر منها أن غسل اليد ليس للنجاسة، و إلا لكان يأمر بغسل الثوب أيضا بل لأجل التماس مع يدهما و هو نحو انزجار و نفور، و الحمل على عرق اليدين مشترك، و التفكيك كما ترى، فتلك الطائفة أجنبية عن الدلالة على النجاسة.

و منها- ما دلت على النهي عن مؤاكلتهم في قصعة واحدة، كصحيحة علي بن جعفر المتقدمة و صحيحته الأخرى عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن فراش اليهودي و النصراني ينام عليه قال: لا بأس، و لا يصلى في ثيابهما، و لا يأكل المسلم مع المجوس في قصعة واحدة، و لا يقعده على فراشه و لا مسجده و لا يصافحه» إلخ «3» و صحيحة هارون بن خارجة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) مرت قريبا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 301

إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم، فقال: لا» «1» و الظاهر منها النهي عن المؤاكلة، فتدل على نجاستهم.

و فيه أنه

لا دلالة لها على النجاسة، لقوة احتمال مرجوحية المؤاكلة معهم مطلقا لا للسراية، كما أنه مقتضى إطلاقها الشامل لليابس سيما مع اشتمالها على النهي عن الإقعاد على الفراش و المسجد و نحوهما و تشهد له حسنة الكاهلي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم رجل مجوسي أ يدعونه الى طعامهم؟ فقال:

أما أنا فلا أواكل المجوس، و أكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم» «2» و المراد من التحريم المنع، و ظاهرها أن الحكم على سبيل التنزه لا الحرمة، كما هو ظاهر هذا التعبير في غير واحد من المقامات.

و صحيحة عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني و المجوسي، فقال: إن كان من طعامك و توضأ فلا بأس» «3» و صحيحته الأخرى قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني، فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، و سألت عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس» «4» و لعل المراد بالتوضي الاستنجاء بالماء أو غسل يده، و هما ظاهرتا الدلالة في عدم نجاستهم، و النهي عن مؤاكلتهم على سبيل الكراهة مطلقا أو في بعض الصور.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 53- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 53- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 302

و منها- ما وردت في النهي عن آنيتهم، كصحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قال لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام: لا تأكل ذبائحهم و لا تأكل في آنيتهم-

يعني أهل الكتاب-» «1» و نحوها روايته الأخرى «2» و كذا رواية عبد اللّٰه بن طلحة «3» و صحيحة محمد بن مسلم قال:

«سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمة و المجوس، فقال:

لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الذي يطبخون و لا في آنيتهم الذي يشربون فيه الخمر» «4» بدعوى أن النهي عنه ظاهر في نجاستهم.

و فيها أن هاهنا احتمالين آخرين أقرب مما ذكر: أحدهما احتمال المرجوحية النفسية، لكون الأكل في آنيتهم أيضا نحو عشرة معهم، و الدليل عليه- مضافا إلى أن إطلاقها يقتضي منع الأكل من مطلق أوانيهم سواء كان المأكول يابسا أو لا و الآنية يابسة أو لا- رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في آنية المجوس فقال: «إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء» «5» فان الظاهر منها أن المنع ليس لنجاستهم و إلا لما قيده بالاضطرار، نعم ظاهر الأمر بالغسل نجاسة إنائهم، و إطلاقه يقتضي نجاستهم، و إن أمكن أن يقال: إن إطلاقه يقتضي لزوم غسل إنائهم و لو لم يستعملوها في المائعات أو شك فيه، فيكون الغسل نحو نفور و انزجار عنهم، تأمل.

ثانيهما أن الأمر بالغسل لكونها مستعملة في أكل النجس و شربه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب الذبائح- الحديث 10 و هذه الرواية ضعيفة فإن ابن سنان الواقع في سندها محمد بن سنان لا عبد اللّٰه بن سنان كما في التهذيب ج 9 ص 63 الرقم 269 و الاستبصار ج 4 ص 81 الرقم 302.

(2) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3.

(4) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 54-

من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 303

و تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «1» و صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله و لا تتركه، تقول: إنه حرام و لكن تتركه تتنزه (تنزها خ) عنه إن في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير» «2».

و هما مفسرتان لسائر الروايات. و ظاهرتان في طهارتهم، و شاهدتان للجمع بين جميع الروايات لو فرضت دلالتها على النجاسة في نفسها.

و منها- ما وردت في سؤرهم كصحيحة سعيد الأعرج بناء على كونه ابن عبد الرحمن كما هو الظاهر قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن سؤر اليهودي و النصراني، فقال: لا» «3» و مرسلة الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه كره سؤر ولد الزنا. و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك و كل من خالف الإسلام، و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «4» بناء على كون الكراهة الانزجار على نحو الالتزام و فيه مضافا إلى معارضتهما بما هو كالصريح في الطهارة أعني موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي فقال:

نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم» «5»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6

(2) الوسائل-

الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 304

و الظاهر أن المراد بقوله: «على أنه يهودي» أنه على فرض كون الرجل يهوديا. و الحمل على الظن بكونه يهوديا خلاف الظاهر، و صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الجارية النصرانية تخدمك و أنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة، قال: لا بأس، تغسل يديها» «1» و مقتضى الجمع بينهما و بين ما تقدم حمل النهى على الكراهة، لاحتمال النجاسة العرفية، بل الصحيحة الأخيرة شاهدة للجمع بين الروايات المتفرقة كما هو واضح.

يمكن منع دلالتهما، أما الثانية فهي على خلاف المطلوب أدلّ سيما مع اقترانه بولد الزنا، و أما الاولى فلأن استفادة نجاستهم منها انما هي بمدد ارتكاز العقلاء، على أن النهي عن سؤرهم لانفعال الماء منه، كما تستفاد النجاسة في سائر النجاسات من الأمر بالغسل أو النهي عن الصلاة فيها أو نحو ذلك، و هو في المقام ممنوع بعد الاحتمال العقلائي المعوّل عليه بأن الشرب من سؤرهم و فضلهم بما أنهم أعداء اللّٰه كان منهيا عنه و منفورا، سيما مع ورود النهي عن مؤاكلتهم و مصافحتهم و النوم معهم على فراش واحد، و إقعادهم على الفراش و المسجد، فإنها توجب قوة احتمال أن تكون النواهي الواردة فيهم نواهي نفسية لتجنب المسلمين و نفورهم عنهم، لا لنجاستهم العرضية أو الذاتية، بل لمحض كونهم مخالفين للإسلام و أعداء اللّٰه و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله. و يؤيده

قوله في المرسلة: «و كان أشد ذلك عند سؤر الناصب» و بالجملة لو لم نقل بأن تلك النواهي ظاهرة في ذلك، فلا أقل من الاحتمال الراجح أو المساوي، فلا يستفاد منها نجاستهم بوجه.

و مما ذكرناه يظهر الكلام في روايات أخر. كموثقة عبد اللّٰه بن أبي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 11

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 305

يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و أن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1» فإن استفادة نجاستهم منها لمقارنتهم بالناصب مع تصريحه بأنهم أنجس من الكلب، و هي لم تصل إلى حد الدلالة فضلا عن معارضة غيرها، و لو سلمت دلالتها فمقتضى الجمع بينها و بين ما هو كالصريح في طهارتهم حملها على الكراهة أو على ابتلائهم بالنجاسات، مضافا إلى قيام شواهد على ذلك في روايات المنع عن الاغتسال بغسالة الحمام أو على الحمل على الكراهة كالتعليل بأن فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبع آباء، لمعلومية أن الطهارة فيها غير ما تقابل نجاسة ظاهر أبدانهم.

كرواية محمد بن علي بن جعفر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلا نفسه، فقلت لأبي الحسن: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرّهما و كل

من خلق اللّٰه ثم يكون فيه شفاء من العين؟» «2» بناء على أن المراد الغسل من غسالة الحمام.

و عنه عليه السلام في حديث أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «3» و غيرها مما تشعر أو تدل على الكراهة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 306

هذا إذا كان المراد من الغسالة غير ماء الحمام كما لا يبعد، و أما لو كان المراد ذلك فلا إشكال في كونها محمولة على الكراهة، للمستفيضة الدالة على عدم انفعال ماء الحمام، و أنه كماء النهر، و لا ينجسه شي ء.

فعليها أيضا تحمل صحيحة علي بن جعفر «أنه سأل أخاه موسى ابن جعفر عليه السلام عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام، قال:

إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحده على الحوض، فيغسله ثم يغتسل، و سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال. لا، إلا أن يضطر إليه» «1».

فإن الظاهر منها الاغتسال بماء الحمام لا غسالته المجتمعة في البئر فلا محيص عن الحمل على الكراهة، لعدم انفعاله، مع أن الظاهر من ذيلها طهارتهم، و الحمل على الاضطرار للتقية كما ترى.

و منها- ما وردت فيما يعملون من الثياب أو يستعيرونها «2» فإنها و إن اشتملت على نفي البأس غالبا، لكن يظهر منها معهودية نجاستهم و فيه أنها أعم من الذاتية، كما

تشعر أو تدل على العرضية نفس الروايات، مع أنها لا تقاوم الأدلة الصريحة أو كالصريحة بطهارتهم كما مرت.

فتحصل من جميع ذلك أن لا دليل على نجاسة أهل الكتاب و لا الملحدين ما عدا المشركين، بل مقتضى الأصل طهارتهم، بل قامت الأدلة على طهارة الطائفة الأولى، بل هي مقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على جواز تزويج الكتابية و اتخاذها ظئرا، و تغسيل الكتابي للميت المسلم بعض الأحيان، إلى غير ذلك. و يؤيدها مخالطة الأئمة عليهم السلام

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

(2) راجع الوسائل- الباب- 73 و 74- من أبواب النجاسات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 307

و خواصهم مع العامة الغير المتحرزين عن معاشرتهم.

فالمسألة مع هذه الحال التي تراها لا ينبغي وقوع خطأ عمن له قدم في الصناعة فيها، فضلا عن أكابر أصحاب الفن و مهرة الصناعة، فكيف بجميع طبقاتهم، و من ذلك يعلم أن المسألة معروفة بينهم من الأول، و أخذ كل طائفة من سابقتها، و هكذا إلى عصر الأئمة عليهم السلام و التمسك بالأدلة أحيانا ليس لابتناء الفتوى عليها.

و لقد أجاد العلم المحقق صاحب الجواهر قدس اللّٰه نفسه حيث قال: «فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعد له الملك العلام» و تعريض بعض الأجلة عليه وقع في غير محله، و خروج عن الحد في حق من عجز البيان عن وصفه، و عقم الدهر عن الإتيان بمثله في التحقيق و التدقيق و الكر و الفر و الرتق و الفتق و جودة الذهن و ثقابة الفكر و الإحاطة بأطراف المسائل و الآثار و الدلائل شكر اللّٰه سعيه، و نضر اللّٰه وجهه، و جزاه اللّٰه عنا و عن

الإسلام أفضل الجزاء.

ثم أنه لا فرق في نجاسة الكفار بين ما تحله الحياة و ما لا تحله لا للآية الكريمة المتقدمة الظاهرة في نجاسة المشرك الذي هو الموجود الخارجي بجميع أجزائه كالكلب الذي هو اسم للموجود كذلك و تتميمه بعدم القول بالفصل، و لا لما دل على نجاسة الناصب بعنوانه الشامل لما ذكر و تتميمه بما ذكر، و إن كان لهما وجه.

بل لإطلاق معاقد الإجماعات و إطلاق فتاوى الأصحاب، لعدم تعقل طهارة ما لا تحله الحياة من الكفار، و عدم استثناء الفقهاء مع شمول اللفظ للموجود بجميع أجزائه، و هل هذا إلا الفتوى بغير ما أنزل اللّٰه تعالى؟ و هل ترى أن استثناء ما لا تحل في الميتة وقع من باب الاتفاق كعدم الاستثناء هاهنا؟

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 308

و لو كان اللفظ غير شامل له عندهم و احتمل خطأ الكل في مثل هذا الأمر الواضح فلم استثنوها في الميتة و تركوها هاهنا؟ بل ليس ذلك إلا لعدم كونها مستثناة عندهم، نعم مقتضى كلام السيد في الناصريات و استدلاله في خروج ما لا تحله الحياة في الكلب و الخنزير جريان بحثه هاهنا أيضا، لكنه ضعيف.

و يلحق بالكافر ما تولد من الكافرين، كما عن المبسوط و التذكرة و الإيضاح و كشف الالتباس، و عن الأستاذ أن الصبي الذي يبلغ مجنونا نجس عند الأصحاب، و هو مؤذن بالإجماع، و عن الكفاية أنه مشهور، و قرّبه العلامة، قيل: و هو مؤذن بالخلاف، و هو غير معلوم، و في جهاد الجواهر دعوى الإجماع بقسميه على تبعية الولد لوالديه في النجاسة و الطهارة، و عن جملة من الكتب دعوى الإجماع صريحا على تبعية الولد المسبيّ

مع أبويه لهما في النجاسة.

و الدليل عليها- مضافا إلى ذلك و إلى احتمال صدق اليهودي و النصراني و المجوسي على أولادهم، كما جزم به النراقي حتى في الناصب و إن لا يخلو من نظر بل منع، سيما في الأخير، و إلى صدق العناوين على أطفالهم المميزين المظهرين لدين آبائهم، سيما مع قربهم بأوان التكليف، مع عدم القول بالفصل جزما- السيرة القطعية على معاملة الطائفة الحقة معهم معاملة آبائهم في الاحتراز عنهم، و إلحاقهم بآبائهم، و عدم الافتراق بينهم.

و أما سائر الاستدلالات فغير تام، كالاستصحاب و تنقيح المناط عند أهل الشرع، حيث أنهم يتعدون من نجاسة الأبوين ذاتا إلى أولادهما و هو شي ء مركوز في أذهانهم إن لم يرجع الى ما تقدم من السيرة القطعية

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 309

و كقوله تعالى «وَ لٰا يَلِدُوا إِلّٰا فٰاجِراً كَفّٰاراً» «1» و قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «أبوانه يهودانه» بدعوى أن المراد منه يجعلانه تبعا لهما في التهوّد، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «2» و غيرها مما وردت في أولاد الكفار، و رواية حفص بن غياث: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك، فقال: إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار، و هم أحرار و ولده و متاعه و رقيقه له، و أما الولد الكبار فهم في ء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك» إلخ «3» لما مر في نظائره من أن الطفل في بطن أمه ليس من أجزائها، و استصحاب الكلي الجامع بين الذاتية و العرضية قد عرفت ما فيه، و تنقيح المناط إن لم يرجع

الى السيرة المتقدمة ممنوع بعد عدم كفر الصغار و عدم نصبهم.

و لا يراد من عدم توليدهم إلا فاجرا كفارا هو كونهم كذلك لدى

______________________________

(1) سورة نوح: 71- الآية 27.

(2) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث، قال: كفار، و اللّٰه أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم» و قال عليه السلام: «يؤجّج لهم نار فيقال لهم: أدخلوها، فان دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما، و إن أبوا قال لهم اللّٰه عز و جل: هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني، فيأمر اللّٰه عز و جل بهم الى النار» و لا يخفى أنه بصدد بيان حالهم فيما بعد الموت لا حال حياتهم- راجع من لا يحضره الفقيه- ج 3 ص 317 ط نجف- باب حال من يموت من أطفال المشركين و الكفار (151) الحديث 2، و بحار الأنوار ج 5 ص 295 من الطبعة الحديثة.

(3) الوسائل- الباب- 43- من أبواب جهاد العدو- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 310

الولادة، ضرورة عدم كونه فاجرا، بل المراد أنهم يصيرون كذلك بسوء تربيتهم و تلقيناتهم، و هو المراد من تهويد الوالدين، و الروايات المشار إليها مع مخالفتها لأصول العدلية غير مربوطة بعالم التكليف، مضافا الى معارضتها لجملة أخرى من الروايات الدالة على امتحانهم في الآخرة بتأجيج النار و أمرهم بالدخول فيها.

و رواية حفص- مع الغض عن سندها- لا تدل على المقصود، لأن قوله عليه السلام: «إسلامه إسلام» إلخ ليس على وجه الحقيقة بل على نحو التنزيل، و لم يتضح التنزيل من جميع الجهات و إن لا يبعد ثم لو سلم ذلك لا تدل على عمومه للكفر أيضا،

كما لا يخفى.

و أما الاستدلال على طهارتهم بالأصل و قوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا» «1» المفسر بفطرة التوحيد و المعرفة و الإسلام «2» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه» إلخ «3» ففيه ما لا يخفى، لانقطاع الأصل بما تقدم، و عدم كون المراد من فطرة التوحيد أو الإسلام هو كونهم موحدين مسلمين، بل المراد ظاهرا أنهم مولودون على وجه لو لا إضلال الأبوين و تلقيناتهما لاهتدوا بنور فطرتهم الى تصديق الحق و رفض الباطل عند التنبه على آثار التوحيد و أدلة المذهب الحق، و هو المراد من النبوي المعروف.

و لو أسلم أحد الأبوين ألحق به ولده، لا لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

______________________________

(1) سورة الروم: 30- الآية 30.

(2) راجع أصول الكافي ج 2 ص 12 من الطبعة الحديثة (باب فطرة الخلق على التوحيد).

(3) راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 311

«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» «1» لمنع دلالته على ذلك، لاحتمال أن يكون المراد منه غلبة حجته على سائر الحجج، أو يكون المراد منه عدم علوّ غير المسلم على المسلم، نظير قوله وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «2» و لا لقوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ إلخ «3» لكونه أجنبيا عما نحن بصدده، و لا للنبوي: «كل مولود» إلخ، لما تقدم، و لا لكون عمدة دليل الحكم بالتبعية الإجماع و السيرة فليقتصر على القدر المتيقن منهما، و هو ثبوت الحكم مع تبعيته لهما، و مقتضى الأصل الطهارة لما يأتي من جريان استصحاب النجاسة فيه

و في المسبي.

بل لعدم نقل الخلاف في المسألة، و دعوى الشيخ الإجماع عليها في لقطة الخلاف، قال: «إذا أسلمت الأم و هي حبلى من مشرك أو كان منه ولد غير بالغ فإنه يحكم للولد و الحمل بالإسلام و يتبعانها- ثم قال-:

دليلنا إجماع الفرقة» و في نسخة «و أخبارهم» و في جهاد الجواهر نفي وجدان الخلاف عنها، كما اعترف به بعضهم، و استدل برواية حفص بن غياث المتقدمة، و لا يبعد دعوى عموم التنزيل فيها متمسكا بإطلاقه.

و أما المسبي فإن انفرد عن أبويه ففي إلحاقه بالسابي المسلم في مطلق الأحكام أو في الطهارة فقط أو عدم الإلحاق مطلقا وجوه: أوجهها الأخير، لاستصحاب نجاسته المتيقنة قبل السبي، و كذا غيرها من الأحكام.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 243- الرقم 778 (باب ميراث أهل الملل- الحديث 3).

(2) سورة النساء: 4- الآية 141.

(3) سورة الطور: 52- الآية 21.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 312

و استشكل الشيخ الأعظم فيه بأن الدليل على ثبوت النجاسة للطفل هو الإجماع، و لم يعلم ثبوتها لنفس الطفل أو الطفل المصاحب للأبوين فلعل لوصف المصاحبة مدخلا في الموضوع الذي يعتبر القطع ببقائه في جريان الاستصحاب.

و إليه يرجع ما في كلام بعض أهل التحقيق في الاشكال على استصحاب نجاسة من أسلم أحد أبويه بتبدل الموضوع و عدم بقائه عرفا، لأن وصف التبعية من مقوّمات الموضوع عرفا في مثل هذه الأحكام الثابتة له بالتبع، و أضاف إليه أن الاستصحاب فيه من قبيل الشك في المقتضي و الجواب عنه ما مرّ مرارا من أن المعتبر في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها من غير مدخلية لبقاء موضوع الدليل الاجتهادي و

عدمه، بل و مع القطع بعدم بقاء ما أخذ في موضوعه، فلو علمنا بأن المأخوذ في الدليل الاجتهادي هو الطفل المصاحب لأبويه لكن كان الدليل قاصرا عن نفي الحكم عما بعد المصاحبة و شككنا في بقاء الحكم لاحتمال أن يكون وصف المصاحبة واسطة في الإثبات و دخيلا في ثبوت الحكم لا في بقائه فلا إشكال في جريانه، لأنا على يقين من أن الطفل الموجود في الخارج كان نجسا ببركة الكبرى الكلية المنضمة إلى الصغرى الوجدانية، فيشار الى الطفل الموجود، و يقال: هذا كان مصاحبا لأبويه الكافرين، و كل طفل كان كذلك كان نجسا و لو لأجل مصاحبته، فهذا كان نجسا، و هو القضية المتيقنة المتحدة مع القضية المشكوك فيها.

و لو قيل: إن القضية المتيقنة ببركة الدليل الاجتهادي لا بد و أن تكون على طبقه، و هو لم يثبت الحكم على نفس الذات بل على الذات الموصوفة، و هي غير باقية، يقال له: إن الذات الموصوفة متحدة الوجود

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 313

في الخارج مع الذات، و لا يعقل حصول القطع بنجاسة الذات الموصوفة الخارجية، و عدم حصول القطع بنجاسة الذات، و التفكيك بين العناوين الكلية لا يستلزم التفكيك في الموجود الخارجي عرفا، فإذا كان زيد عالما في الخارج يحصل القطع بأن ابن عمرو و ابن أخ الخالد عالم لمكان الاتحاد و لو كانت العناوين مختلفة، و بالجملة إنكار العلم بأن الطفل الموجود المسمى بفلان نجس مكابرة.

فالقضية المتيقنة موضوعها الطفل المسمى بكذا، و هو باق بعينه عقلا و عرفا، مع أن ما ذكر مستلزم للبناء على طهارة ما انقطعت عنه هذه المصاحبة و لو بغير السبي، كما لو فرّ الطفل

من حجر أبويه أو مات الأبوان أو أخذه الوالي و سلمه الى دار الرضاعة من غير البناء على عودة إليهما، الى غير ذلك مما لا يمكن الالتزام به.

و دعوى دخالة السبي في الحكم بالطهارة مع خلوها عن الدليل خروج عن محط البحث و فرار عن المبنى، و الاستدلال للتبعية ببعض ما تقدم من النبوي و غيره كما ترى، فالأقوى عدم تبعيته مطلقا إذا سبي منفردا فضلا عمن سبي مع أبويه أو أحدهما.

و أما اللقيط فمقتضى الأصل طهارته، و عدم جريان الأحكام المخالفة للقواعد عليه، نعم لا يبعد جريان حكم المسلم عليه إذا غلب على البلد المسلمون بحيث يكون غيرهم نادرا، و حكم الكافر إذا غلبت الكفار كذلك، لعدم اعتناء العقلاء في أمثال ذلك على الاحتمال، كما في الشبهة الغير المحصورة و نحوها، إلا أن يقال: مجرد الغلبة لا يكون حجة ما لم يحصل العلم العادي و الاطمئنان إلا إذا كان بناء العقلاء على العمل و أحرزنا إمضاء الشارع، و هو مشكل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 314

تنبيه: في تحصيل مفهوم الكفر،

و الظاهر مقابلته مع الإسلام تقابل العدم و الملكة، و الكافر و غير المسلم مساوقان، فمن لم يعتقد بالألوهية و لو لم يعتقد بخلافها و لم ينقدح في ذهنه شي ء من المعارف و مقابلاتها يكون كافرا، و ما ذكرناه هو المرتكز عند المتشرعة، و المستفاد من الأدلة.

فما في بعض الروايات مما يوهم خلاف ذلك لا بد من توجيهه.

كقوله (ع) في رواية عبد الرحيم القصير: «و لا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود و الاستحلال» «1» و في صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا

لم يكفروا» «2» و رواية محمد بن مسلم قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه إذ دخل أبو بصير، فقال: يا أبا عبد اللّٰه ما تقول فيمن شك في اللّٰه تعالى؟ قال: كافر يا أبا محمد، قال: فشك في رسول اللّٰه؟ فقال: كافر، ثم التفت إلى زرارة فقال. إنما يكفر إذا جحد» «3» و لعل المراد أنه لا يحكم بكفره إلا مع الجحود، و من المحتمل أن يكون «يكفر» من التفعيل مبنيا للمفعول.

بل هو مقتضى الجمع بين صدرها و ذيلها، و مقتضى الجمع بينها

______________________________

(1) راجع أصول الكافي- ج 3 ص 37 (باب أن الإسلام قبل الايمان)

(2) هذه الرواية ضعيفة، لأن في سندها محمد بن سنان على ما في أصول الكافي ج 2 ص 388 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 19)

(3) أصول الكافي ج 2 ص 399 من الطبعة الحديثة (باب الشك- الحديث 3).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 315

و بين غيرها مما حكم فيه بكفر الشاك كصحيحة منصور بن حازم قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: من شك في رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قال: كافر، قال: قلت: فمن شك في كفر الشاك فهو كافر؟ فأمسك عني، فرددت عليه ثلاث مرات، فاستنبت في وجهه الغضب» «1» و عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة: «لا ترتابوا فتشكوا، و لا تشكوا فتكفروا» «2» و في صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «من شك في اللّٰه تعالى و في رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله فهو كافر» «3».

و بالجملة لا إشكال بحسب ارتكاز المتشرعة في مقابلة الكفر

و الإسلام و أن الكافر من لم يكن مسلما، و من شأنه ذلك، فلا بد في تحصيل معنى الكفر من تحصيل مفهوم الإسلام حتى يتضح هو بمقابلته.

فنقول: إن المسلم بحسب ارتكاز المتشرعة هو المعتقد باللّٰه تعالى، و وحدانيته، و رسالة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، أو الشهادة بالثلاثة على احتمالين يأتي الكلام فيهما.

و هذه الثلاثة مما لا شبهة و لا خلاف في اعتبارها في معنى الإسلام و يحتمل أن يكون الاعتقاد بالمعاد إجمالا أيضا مأخوذا فيه لدى المتشرعة على تأمل يأتي وجهه.

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 387 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 11).

(2) أصول الكافي ج 2 ص 399 من الطبعة الحديثة (باب الشك- الحديث 2).

(3) أصول الكافي- ج 2 ص 386 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 10).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 316

و أما الاعتقاد بالولاية فلا شبهة في عدم اعتباره فيه، و ينبغي أن يعد ذلك من الواضحات لدى كافة الطائفة الحقة إن أريد بالكفر المقابل له ما يطلق على مثل أهل الذمة من نجاستهم و حرمة ذبيحتهم و مساورتهم و تزويجهم، ضرورة استمرار السيرة من صدر الإسلام إلى زماننا على عشرتهم و مؤاكلتهم و مساورتهم و أكل ذبائحهم و الصلاة في جلودها، و ترتيب آثار سوق المسلمين على أسواقهم من غير أن يكون ذلك لأجل التقية، و ذلك واضح لا يحتاج إلى مزيد تجشم.

لكن اغتر بعض من اختلت طريقته ببعض ظواهر الأخبار و كلمات الأصحاب من غير غور إلى مغزاها، فحكم بنجاستهم و كفرهم، و أطال في التشنيع على المحقق القائل بطهارتهم بما لا ينبغي له و له، غافلا عن أنه حفظ أشياء

هو غافل عنها، فقد تمسك لنجاستهم بأمور:

منها روايات مستفيضة دلت على كفرهم، كموثقة الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إن اللّٰه تعالى نصب عليا علما بينه و بين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، و من جاء بولايته دخل الجنة، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالا، و من نصب معه شيئا كان مشركا، و من جاء بعداوته دخل النار» «1».

و رواية أبي حمزة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

إن عليا باب فتحه اللّٰه تعالى من دخله كان مؤمنا و من خرج منه كان

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 388 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 20) و فيه: «فمن عرفه كان مؤمنا و من أنكره كان كافرا-- إلى أن قال-: و من جاء بولايته دخل الجنة و من جاء بعداوته دخل النار».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 317

كافرا» «1» و نحوهما أخبار كثيرة، و فيه أن كفرهم على فرض تسليمه لا يفيد ما لم يضم إليه كبرى كلية هي: كل كافر نجس، و لا دليل عليها سوى توهم إطلاق معاقد إجماعات نجاسة الكفار.

و هو وهم ظاهر، ضرورة أن المراد من الكفار فيها مقابل المسلمين الأعم من العامة و الخاصة، و لهذا ترى إلحاقهم بعض المنتحلين إلى الإسلام كالخوارج و الغلاة بالكفار، فلو كان مطلق المخالف نجسا عندهم فلا معنى لذلك، بل يمكن دعوى الإجماع أو الضرورة بعدم نجاستهم، و تخيل أن المحقق أول من قال بطهارتهم باطل، لقلة مصرح بنجاستهم قبله أيضا.

نعم قد صرح جمع بكفرهم، منهم المحقق في أوصاف المستحقين من كتاب الزكاة، قال: «و كذا لا يعطى غير الإمامي و إن

اتصف بالإسلام، و نعني بهم كل مخالف في اعتقادهم الحق، كالخوارج و المجسمة و غيرهم من الفرق الذين يخرجهم اعتقادهم عن الايمان- إلى أن قال-:

إن الايمان هو تصديق النبي صلّى اللّٰه عليه و آله في كل ما جاء به، و الكفر جحود ذلك، فمن ليس بمؤمن فهو كافر» انتهى.

و مع ذلك قد صرح بطهارتهم في كتاب الطهارة، فالقول بكفرهم و طهارتهم غير متناقضين، لعدم الدليل على نجاسة مطلق الكفار، و العلامة أيضا- مع ظهور كلامه في محكي شرحه لكتاب فصّ الياقوت تصنيف الشيخ ابن نوبخت في كفرهم بالمعنى المعروف على تأمل- لم يحكم بنجاستهم في طهارة القواعد و التذكرة و المنتهى، بل صرح في التذكرة بطهارة من عدا النواصب منهم، فيظهر منه أن كفرهم لا يلازم نجاستهم.

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 388 الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 16).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 318

و من ذلك يعلم عدم استفادة النجاسة من مثل قول ابن نوبخت:

«دافعوا النص كفرة عند جمهور أصحابنا، و من أصحابنا من يفسقهم» و لا من قول ابن إدريس المحكي عن السرائر بعد اختيار عدم جواز الصلاة على المخالف تبعا للمفيد «و هو أظهر، و يعضده القرآن، و هو قوله تعالى وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً «1» يعني الكفار، و المخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا» انتهى.

و لعل السيد المرتضى أيضا حكم بكفرهم دون نجاستهم و إن كان ما نقل عنه خلاف ذلك، و هكذا حال سائر العبارات الموجبة لاغترار الغافل.

و بالجملة لو التزمنا بكفرهم لا يوجب ذلك الالتزام بنجاستهم بعد عدم الدليل عليها و على نجاسة مطلق الكفار الشامل لهم، بل مع قيام

الأدلة على طهارتهم من النصوص المتفرقة في أبواب الصيد و الذباحة و سوق المسلم و غيرها، و توهم أن المراد من المسلم في النصوص و الفتاوى في تلك الأبواب خصوص الشيعة الاثنى عشرية من أفحش التوهمات.

هذا كله لو سلم أنهم كفار، مع أنه غير مسلم، لتطابق النصوص و الفتاوى في الأبواب المتفرقة على إطلاق المسلم عليهم، فلا يراد بذبيحة المسلمين و لا سوقهم و بلادهم إلا ما هو الأعم من الخاصة و العامة لو لم نقل باختصاصها بهم، لعدم السوق في تلك الأعصار للشيعة كما هو ظاهر كما أن المراد من إجماع المسلمين في كتب أصحابنا هو الأعم من الطائفتين. هذا مع ما تقدم من ارتكاز المتشرعة خلفا بعد سلف على إسلامهم.

و أما الأخبار المتقدمة و نظائرها فمحمولة على بعض مراتب الكفر، فإن الإسلام و الايمان و الشرك أطلقت في الكتاب و السنة بمعان مختلفة،

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 84.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 319

و لها مراتب متفاوتة و مدارج متكثرة، كما صرحت بها النصوص، و يظهر من التدبر في الآيات، ففي آية قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا، وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1» و في آية فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً «2» و في آية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ «3» و في آية فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا «4» و في آية فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلٰامِ «5».

و في رواية: «الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها» «6» و في أخرى «و الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه، و التصديق

برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «7» و في ثالثة:

«إن اللّٰه خلق الإسلام فجعل له عرصة، و جعل له نورا، و جعل له حصنا، و جعل له ناصرا» إلخ «8» و في رابعة «الإسلام عريان فلباسه الحياء، و زينته الوفاء، و مروته العمل الصالح، و عماده الورع، و لكل شي ء أساس و أساس الإسلام حبنا أهل البيت» «9» و في خامسة «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي و لا

______________________________

(1) سورة الحجرات: 49- الآية 14.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 319

(2) سورة الجن: 72- الآية 14.

(3) سورة آل عمران: 3- الآية 19.

(4) سورة آل عمران: 3- الآية 20.

(5) سورة الأنعام: 6- الآية 125.

(6) راجع أصول الكافي- ج 2 ص 26 من الطبعة الحديثة (باب أن الايمان لا يشرك الإسلام و الإسلام لا يشرك الايمان- الحديث 5)

(7) راجع المصدر المذكور آنفا ص 25- الحديث 1.

(8) أصول الكافي- ج 2 ص 46 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 3) و في بعض النسخ: «و زينته الوقار»

(9) أصول الكافي- ج 2 ص 46 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 2) و في بعض النسخ: «و زينته الوقار»

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 320

ينسبه أحد بعدي إلا بمثل ذلك. إن الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو العمل، و العمل هو الأداء» إلخ «1».

و كذا للإيمان مراتب لو حاولنا ذكرها خرجنا عما هو مقصدنا الآن، و

بإزاء كل مرتبة من مراتب الإسلام و الايمان مرتبة من مراتب الكفر و الشرك، فراجع أبواب أصول الكافي و غيره: كباب وجوه الكفر و باب وجوه الشرك، و باب أدنى الكفر و الشرك، ترى أنهما أطلقا على غير الإمامي، و على الكافر بالنعمة، و على تارك ما أمر اللّٰه به، و على تارك الصلاة. و على تاركها مع الجهد، و على تارك عمل أقر به، و على من عصى عليا عليه السلام، و على الزاني و شارب الخمر، و من ابتدع رأيا فيحب عليه و يبغض، و من سمع عن ناطق يروي عن الشيطان، و على من قال للنواة إنها حصاة و للحصاة إنها نواة ثم دان به، و قد استفاضت الروايات في إطلاق المشرك على المرائي، بل يستفاد من بعض الروايات أن من لقي اللّٰه و في قلبه غيره تعالى فهو مشرك، إلى غير ذلك.

فهل لصاحب الحدائق و أمثاله أن يقولوا: إن كل من أطلق في الروايات عليه المشرك أو الكافر فهو نجس، و ملحق بالكفار و أهل الكتاب؟ فهلا تنبه بأن الروايات التي تشبث بها لم يرد في واحدة منها أن من عرف عليا عليه السلام فهو مسلم و من جهله فهو كافر، بل قابل في جميعها بين المؤمن و الكافر، و الكافر المقابل للمسلم غير المقابل للمؤمن.

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 45 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 1).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 321

و الانصاف أن سنخ هذه الروايات الواردة في المعارف غير سنخ ما وردت في الفقه، و الخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، و لهذا أن صاحب الوسائل لم يورد تلك الروايات في

أبواب النجاسات في جامعه، لأنها أجنبية عن افادة الحكم الفقهي.

ثم مع الغض عن كل ذلك فقد وردت روايات أخر حاكمة عليها لا يشك معها ناظر في أن إطلاق الكافر عليهم ليس على ما هو موضوع للنجاسة و سائر الآثار الظاهرة، كموثقة سماعة قال: «قلت: لأبي عبد اللّٰه عليه السلام أخبرني عن الإسلام و الايمان انهما مختلفان؟

فقال: إن الايمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الايمان، فقلت:

فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس» إلخ «1».

و حسنة حمران بن أعين أو صحيحته عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب و افضى به الى اللّٰه و صدقه العمل بالطاعة للّٰه، و التسليم لأمر اللّٰه، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء، و عليه جرت المواريث، و جاز النكاح- الى أن قال-: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شي ء من الفضائل و الاحكام و الحدود و غير ذلك؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحد، و لكن للمؤمن فضل على المسلم» إلخ «2». و بعض فقرأت هذا الحديث لا يخلو من

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 25 من الطبعة الحديثة (باب أن الايمان يشركه الإسلام و الإسلام لا يشرك الايمان- الحديث 1).

(2) راجع المصدر المذكور آنفا ص 26- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 322

تشويش فراجع.

و رواية سفيان بن السمط قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه

عليه السلام عن الإسلام و الايمان ما الفرق بينهما؟ فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق و قد أزف من الرجل الرحيل فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: كأنه قد أزف منك رحيل؟ فقال: نعم، قال: فالقني في البيت فلقيه، فسأل عن الإسلام و الايمان ما الفرق بينهما؟ فقال:

الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، و قال: الايمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالا» «1».

و رواية قاسم الصيرفي قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام:

الإسلام يحقن به الدم، و تؤدى به الامانة، و تستحل به الفروج، و الثواب على الايمان» «2» و قريب منها روايات أخر يظهر منها بنحو حكومة أن الناس مسلمون، و أن الإسلام عبارة عن الشهادتين، و بهما حقنت الدماء، و جرت الأحكام، و إن كان الثواب على الايمان و الفضل له «3».

هذا مع ما مرّ من أن الكفر يقابل الإسلام تقابل العدم و الملكة حسب ارتكاز المتشرعة و أن ما أخذ في ماهية الإسلام ليس إلا الشهادة بالوحدانية و الرسالة و الاعتقاد بالمعاد بلا إشكال في الأولين، و على

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 24 من الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و أن الثواب على الايمان الحديث 4).

(2) أصول الكافي ج 2 ص 24 من الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و أن الثواب على الايمان

الحديث 1).

(3) راجع أصول الكافي- ج 2 ص 24 و 25 و 26 من الطبعة الحديثة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 323

احتمال اعتبار الأخير أيضا و لو بنحو الإجمال، و لا يعتبر فيها سوى ذلك سواء فيه الاعتقاد بالولاية و غيرها، فالإمامة من أصول المذهب لا الدين.

فالعامة العمياء من المسلمين بشهادة جميع الملل مسلما و غيره، و إنكاره إنكار لأمر واضح عند جميع طبقات الناس، فما وردت في أنهم كفار لا يراد به الحقيقة بلا إشكال، و لا التنزيل في الأحكام الظاهرة لأنه مع مخالفته للأخبار المستفيضة بل المتواترة التي مرت جملة منها واضح البطلان، ضرورة معاشرة أهل الحق معهم أنواع العشرة من لدن عصر الأئمة عليهم السلام إلى الحال من غير نكير، و من غير شائبة تقية.

فلا بد من حملها إما على التنزيل في الأحكام الباطنة، كالثواب في الآخرة كما صرحت به رواية الصيرفي أو على بعض المراتب التي هي غير مربوطة بالأحكام الظاهرة، و أما الحمل على أنهم كفار حقيقة لكن يجري عليهم أحكام الإسلام ظاهرا و لو من باب المصالح العالية و عدم التفرقة بين جماعات المسلمين فغير وجيه بعد ما تقدم من أنه لا يعتبر في الإسلام إلا ما مرّ ذكره.

و مما ذكرناه يتضح الجواب عن دعوى صاحب الحدائق بأنهم نصاب و كل ناصب نجس، أما الصغرى فلروايات: منها رواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمدا و آل محمد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انكم تتولونا و انكم من شيعتنا» «1» و نحوها

عن المعلى بن خنيس «2»، و منها مكاتبة محمد بن علي بن عيسى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 324

المنقولة عن السرائر قال: «كتبت إليه يعني علي بن محمد عليهما السلام أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب» «1» و أما الكبرى فللإجماع و الأخبار على نجاسة الناصب.

و الجواب بمنع المقدمة الأولى لضعف مستندها، أما الرواية الأولى فمضافا الى ضعف سندها بجميع طرقها في متنها، و هي أما أوّلا فلورود روايات تدل على وجود الناصب لهم أهل البيت عليهم السلام، و حملها على الناصب لشيعتهم بعيد جدا، مع أن الواقع على خلاف ذلك، فكم لهم ناصب و عدو في عصرهم!.

و أما ثانيا فلأن الظاهر منها أن كل من نصب لمن يعلم أنه يتولاهم و شيعتهم فهو ناصب، و لا يمكن الالتزام به، إلا أن يقال: إن من نصب لجميع الشيعة التي تولى الأئمة عليهم السلام مع علمه بذلك فهو ناصب، أي ناصب للشيعة و للموالي بما هم كذلك، لكنه ملازم لعداوتهم، سيما مع ضم توليهم، فان البغض لمن يتولاهم بما هو كذلك يرجع الى البغض لهم، و لعل المراد أن الناصب لم يصرح بعداوتنا، و لو نصب لكم بما أنتم من موالينا يكون ذلك دليلا على نصبه.

و أما الرواية الثانية فمع ضعفها سندا أيضا مخالفة للواقع إن كان المراد أن كل من قدمهما فهو ناصب لهم حقيقة، كيف و كثير منهم

لا يكونون ناصبين لهم و إن قدموا الجبت و الطاغوت، فيحتمل التنزيل بحسب الآثار في يوم القيامة، و أما بحسب الآثار ظاهرا فلا، لما تقدم.

و بمنع المقدمة الثانية، أما دعوى الإجماع على الكلي بحيث يشمل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 14 عن موسى بن محمد بن علي بن عيسى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 325

محل البحث فواضحة الفساد، بل يمكن دعوى الإجماع على خلافها، بل الإجماع العملي من جميع الطبقات على خلافها، و أما الأخبار فصرح في جملة منها بالناصب لنا أهل البيت، و ما اشتملت على الناصب بلا قيد فمحمول عليه، لتبادر الناصب للناصب لهم لا لشيعتهم، بل مع تلك السيرة القطعية و الإجماع العملي لا يمكن العمل برواية على خلافهما لو وردت كذلك فضلا عن فقدانها.

و مما ذكرنا يظهر الحال في غير الاثني عشري من سائر فرق الشيعة كالزيدي و الواقفي، نعم لو كان فيهم من نصب لأهل البيت فمحكوم بحكمه، و سيأتي الكلام فيه، و أما مجرد الزيدية و الواقفية فلا يوجب الكفر المقابل للإسلام و حال الأخبار الواردة فيهم حال ما وردت في الناس، و قد عرفت الكلام فيها.

و من بعض ما ذكر يظهر حال الدعوى الأخرى لصاحب الحدائق و هي أنهم منكرون للضروري من الإسلام، و من كان كذلك فكافر، لكنه خلط بين مطلق العامة و نصابهم من قبيل يزيد و ابن زياد عليهما لعائن اللّٰه، و فيها أولا أن الإمامة بالمعنى الذي عند الإمامية ليست من ضروريات الدين، فإنها عبارة عن أمور واضحة بديهية عند جميع طبقات المسلمين، و لعل الضرورة عند كثير على خلافها فضلا عن كونها ضرورة،

نعم هي من أصول المذهب، و منكرها خارج عنه لا عن الإسلام و أما التمثيل بمثل قاتلي الأئمة عليهم السلام و ناصبيهم غير مربوط بالمدعى.

و ثانيا أن منكر الضروري بوجه يشمل منكر أصل الإمامة لا دليل على نجاسته من إجماع أو غيره، بل الأدلة على خلافها كما تقدم الكلام فيها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 326

تنبيه آخر: قد اختلفت كلماتهم في كفر منكر الضروري و نجاسته،

فلا بد من تمحيص البحث في منكره بما هو في مقابل منكر الألوهية و النبوة، و أما البحث عن المنكر الذي يرجع إنكاره إلى إنكار اللّٰه تعالى أو النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فهو خارج عن محط البحث، ضرورة أن الموجب للكفر حينئذ هو إنكار الأصلين لا الضروري، و هو بأيّ نحو موجب له نعم أحد مبرزاته إنكار الضروري أحيانا، فالبحث المفيد هاهنا هو أن إنكاره مستقلا موجب للكفر كانكارهما أو لا؟.

ثم أن القائل بأن إنكاره موجب له إذا رجع الى إنكار أحد الأصلين من المنكرين لموجبيته له، فقد استدل الشيخ الأعظم على كفره بوجوه: منها أن الإسلام عرفا و شرعا عبارة عن التدين بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال اللّٰه تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ «1» ثم تمسك بروايات يأتي حالها، ثم قال: و أما ما دل من النصوص و الفتاوى على كفاية الشهادتين في الإسلام فالظاهر أن المراد به حدوث الإسلام ممن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام، إذ يكفي منه الشهادة بالوحدانية و الرسالة المستلزمة للالتزام بجميع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إجمالا فلا ينافي ما ذكرنا من أن عدم التدين ببعض الشريعة أو التدين بخلافه موجب للخروج عن

الإسلام، و كيف كان فلا إشكال في أن عدم التدين بالشريعة كلا أو بعضا مخرج عن الدين و الإسلام.

______________________________

(1) سورة آل عمران: 3- الآية 19.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 327

ثم ذكر أقسام المنكرين و ساق الكلام إلى أن قال في تأييد عموم كلام الفقهاء في نجاسة الخوارج و النواصب للقاصر و المقصر: و يؤيدها ما ذكرنا من أن التارك للتدين ببعض الدين خارج عن الدين، انتهى ملخصا.

و فيه أن لازم دليله من أن الإسلام عبارة عن مجموع الأحكام، و التدين بالمجموع إسلام، و عدم التدين به كفر هو كفر كل من لم يتدين بمجموع ما جاء به النبي واقعا أصلا و فرعا ضروريا و غيره، منجزا على المكلف أولا، لأن عدم التنجز العقلي لا يوجب خروج غير المنجز عن قواعد الإسلام، فلا وجه للتقييد بالمنجز، مع أن هذا التقييد ينافي التأييد في ذيل كلامه، لعدم تنجز التكليف على القاصر.

كما لا ينبغي معه الفرق بين الأمور الاعتقادية و العملية بعد كون الإسلام عبارة عن مجموع ما ذكر، فالتفصيل بين الأمرين كما وقع في خلال كلامه مناف لدليله، و مجرد أن المطلوب في الأحكام العملية ليس إلا العمل لا يوجب خروجها عن ماهيته التي ادعى أنها مجموع هذه الحدود الشرعية، و بترك التدين ببعضها يخرج عن الإسلام، و الانصاف إن كلامه في تقرير هذا المدعى لا يخلو من تدافع و اغتشاش.

و التحقيق أن ما يعتبر في حقيقة الإسلام بحيث يقال للمتدين به إنه مسلم ليس إلا الاعتقاد بالأصول الثلاثة أو الأربعة: أي الألوهية و التوحيد و النبوة و المعاد على احتمال، و سائر القواعد عبارة عن أحكام الإسلام، و لا دخل لها

في ماهيته، سواء عند الحدوث أو البقاء، فإذا فرض الجمع بين الاعتقاد بتلك الأصول و عدم الاعتقاد بغيرها لشبهة بحيث لا يرجع الى إنكارها يكون مسلما.

نعم لا يمكن الجمع بين الاعتقاد بالنبوة مع عدم الاعتقاد بشي ء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 328

من الأحكام، و هذا بخلاف بعضها ضروريا كان أو غيره، لأجل بعض الشبهات و الاعوجاجات، فإذا علم إن فلانا اعتقد بالأصول و التزم بما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إجمالا الذي هو لازم الاعتقاد بنبوته لكن وقع في شبهة من وجوب الصلاة أو الحج و تخيل أنهما كانا واجبين في أول الإسلام مثلا دون الأعصار المتأخرة لا يقال: إنه ليس بمسلم في عرف المتشرعة، و تدل على إسلامه الأدلة المتقدمة الدالة على أن الإسلام هو الشهادتان.

و دعوى أنهما كافيتان في حدوث الإسلام و أما المسلم فيعتبر في إسلامه أمور أخر زائدا عليهما خالية عن الشاهد، بل الشواهد في نفس تلك الروايات على خلافها، كما في حسنة حمران، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء و غيرها مما تقدم ذكرها.

و الانصاف أن دعوى كون الإسلام عبارة عن مجموع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و ترك الالتزام ببعضها بأيّ نحو موجبا للكفر مما لا يمكن تصديقها، و لهذا أن الشيخ الأعظم لم يلتزم به بعد الكرّ و الفرّ.

و مع الإغماض عما تقدم يلزم من دليله كفر كل من أنكر شيئا مما يطلب فيه الاعتقاد و لو لم يكن ضروريا كبعض أحوال القبر و البرزخ و القيامة، و كعصمة الأنبياء و

الأئمة عليهم السلام و نظائرها، و التفكيك بين الضروري و غيره خروج عن التمسك بهذا الدليل.

ثم أن اندراج منكر المعاد أيضا في الكفار حقيقة و دعوى كون الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأركان الأربعة و الاعتقاد بالمعاد داخل في ماهيته أيضا لا يخلو من إشكال، بل منع، لإطلاق الأدلة المتقدمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 329

الشارحة لماهية الإسلام الذي به حقنت الدماء، و قوة احتمال أن يكون الارتكاز المدعى لأجل وضوح عدم الجمع بين الاعتقاد بالنبوة و إنكار المعاد الذي لأجل كمال بداهة كونه من الإسلام عدّ في الأصول.

فدعوى كون الإسلام هو الاعتقاد بالألوهية و التوحيد و النبوة غير بعيدة، و كلامنا ها هنا في مقام الثبوت و الواقع، و إلا فمنكر الضروري سيما مثل المعاد محكوم بالكفر ظاهرا، و يعد منكرا للألوهية أو النبوة بل لا يقبل قوله إذا ادعى الشبهة إلا في بعض أشخاص أو بعض أمور يمكن عادة وقوع الشبهة منه أو فيه، كما أن إنكار البديهيات لدى العقول لا يقبل من متعارف الناس، فلو ادعى أحد أن اعتقاده أن الاثنين أكثر من الألف لا يقبل منه، بل يحمل على أنه خلاف الواقع إلا أن يكون خلاف المتعارف.

و يمكن أن يقال: إن أصل الإمامة كان في الصدر الأول من ضروريات الإسلام، و الطبقة الأولى المنكرين لامامة المولى أمير المؤمنين صلوات اللّٰه و سلامه عليه و لنص رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله على خلافته و وزارته كانوا منكرين للضروري من غير شبهة مقبولة من نوعهم، سيما أصحاب الحل و العقد، و سيأتي الكلام فيهم.

ثم وقعت الشبهة للطبقات المتأخرة لشدة وثوقهم بالطبقة الأولى، و عدم احتمال تخلفهم عمدا

عن قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و نصه على المولى سلام اللّٰه عليه، و عدم انقداح احتمال السهو و النسيان من هذا الجم الغفير، و لعل ما ذكرناه هو سر ما ورد من ارتداد الناس بعد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلا أربعة أو أقل أو أكثر، و الظاهر عدم ارادة ارتداد جميع الناس سواء كانوا حاضرين في بلد الوحي أو لا، و يحتمل أن يكون المراد من ارتداد الناس نكث عهد الولاية و لو ظاهرا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 330

و تقية لا الارتداد عن الإسلام، و هو أقرب.

و مما استدل به على كفره جملة من الروايات: منها مصححة أبي الصباح عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السلام:

من شهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه كان مؤمنا؟ قال:

فأين فرائض اللّٰه؟ قال: و سمعته يقول: كان علي عليه السلام يقول:

لو كان الايمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة و لا حرام، قال:

قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود، و لم يقطع أيديهم، و ما خلق اللّٰه تعالى خلقا أكرم على اللّٰه من مؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين، و ان جوار اللّٰه تعالى للمؤمنين، و ان الجنة للمؤمنين، و ان الحور العين للمؤمنين، ثم قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافرا؟» «1».

قال الشيخ الأعظم: «فهذه الرواية واضحة الدلالة على ان التشريع بالفرائض مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام كما هو ظاهر السؤال و الجواب، كما لا

يخفى» انتهى.

أقول: بل هي واضحة الدلالة على أن المراد من الايمان فيها هو الايمان الكامل المنافي لترك ما فرضه اللّٰه و لفعل ما يوجب إجراء الحد عليه، و المؤمن الذي هذا صفته و ملائكة اللّٰه خدامه و جوار اللّٰه له هو المؤمن الكامل لا المرادف للمسلم الذي لا ينافي إسلامه ارتكاب المعاصي و إجراء الحدود عليه إلى غير ذلك.

نعم ذيلها يدل على أن جحد الفرائض موجب للكفر، فهو إما محمول بقرينة صدره على أن الجحد موجب للكفر المقابل للإيمان لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 331

الإسلام، فيكون شاهدا على الحمل في سائر الروايات، فإنها على كثرتها طائفتان.

إحداهما- ما دلت على أن ترك الفرائض أو ترك ما أمر اللّٰه به موجب للكفر، و هي كثيرة جدا، كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من اجترى على اللّٰه في المعصية و ارتكاب الكبائر فهو كافر، و من نصب دينا غير دين اللّٰه فهو مشرك» «1».

و رواية حمران بن أعين قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً قال:

إما آخذ فهو شاكر، و إما تارك فهو كافر» «2» و رواية عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» فقال: ترك العمل الذي أقرّ به منه الذي يدع الصلاة متعمدا لا من سكر و لا من علة» «3».

و رواية أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«الكفر في كتاب اللّٰه خمسة أوجه- إلى أن

قال-: و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّٰه عز و جل به، و هو قول اللّٰه عز و جل:

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فكفرهم ترك ما أمر اللّٰه عز و جل به» «4» و في كثير من الروايات ورد كفر تارك الصلاة، و مانع الزكاة، و تارك الحج، إلى غير ذلك.

و ثانيتهما- ما دلت على أن تركها مع الجحود أو الاستكبار أو نفس الجحد موجب له، و هي كثيرة أيضا، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كل شي ء يجره الإقرار

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 21.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 332

و التسليم فهو الايمان، و كل شي ء يجره الإنكار و الجحود فهو الكفر» «1» و رواية داود بن كثير الرقي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

سنن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- إلى أن قال-: فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها و جحدها كان كافرا» «2».

و رواية عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها: «و لم يخرجه إلى الكفر إلا الجحود و الاستحلال، فإذا قال للحلال: هذا حرام و للحرام هذا حلال و دان بذلك فعندها يكون خارجا من الايمان و الإسلام إلى الكفر» «3».

و رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» «4».

و رواية عبد اللّٰه بن سنان قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام- إلى أن قال-: فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشد العذاب، و إن كان معترفا أنه ذنب و مات عليها أخرجه من الايمان و لم يخرجه من الإسلام و كان عذابه أهون من عذاب الأول» «5».

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في حديث:

«الكفر أقدم من الشرك- ثم ذكر كفر إبليس ثم قال-: فمن اجترى على اللّٰه فأبى الطاعة و قام على الكبائر فهو كافر، يعني مستخف كافر» «6» إلى غير ذلك.

و يمكن الجمع بينها إما بحمل الجميع على مراتب الكفر و الشرك و الايمان و الإسلام، فأول مراتب الإسلام هو ما يحقن به الدماء و يترتب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 18.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 10.

(6) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 333

عليه أحكام ظاهرة، و هو شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كما في موثقة سماعة و نحوها، و أكمل مراتبه هو ما عرّفه أمير المؤمنين عليه السلام على ما في مرفوعة البرقي قال: «لأنسبن الإسلام» إلخ «1».

و لعله المراد بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «2» فهذه المرتبة من الإسلام أعلى من كثير من مراتب الايمان، و بين المرتبتين مراتب إلى ما

شاء اللّٰه، و بإزاء كل مرتبة مرتبة من الكفر أو الشرك، و كذا للإيمان درجات و مراتب كثيرة يشهد بها الوجدان و الروايات، و بذلك يجمع بين جميع الروايات الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرقة، و له شواهد كثيرة في نفس الروايات، فخرجت الروايات المستشهد بها لكفر منكر الضروري عن صلاحية الاستشهاد بها، و عن صلاحية تقييد مثل موثقة سماعة المتقدمة و غيرها.

و إما بحمل الطائفة الأولى المتقدمة على الثانية، و حمل الطائفة الثانية على ما إذا جحد حكما علم أنه من الدين، لكن لا لكونه موجبا للكفر بنفسه، بل لكونه مستلزما لإنكار الألوهية أو النبوة و تكذيب النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بدعوى عدم ملاءمة تصديق النبوة مع إنكار ما أعلم أنه جاء به منتسبا إلى اللّٰه، من غير فرق بين الضروري منها و غيره، و هذا أقرب إلى حفظ ظواهرها من حملها على إنكار الضروري بل حملها عليه خال عن الشاهد، بل مخالف لكثير منها، سيما إذا قيل بالتسوية بين الجحد عن علم و غير علم، و إن لم نقل بأن الجحد هو

______________________________

(1) راجع أصول الكافي ج 2 ص 45 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 1).

(2) سورة البقرة: 2- الآية 208.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 334

الإنكار عن علم، و إلا فالأمر أوضح.

و هنا احتمال ثالث بعد حمل المطلقات على المقيدات، و هو حملها على الحكم الظاهري، و أن الجاحد لما علم أنه من الدين محكوم بالكفر لكنه لا يلائم جميع الروايات و إن يلائم بعضها، كما أن الجمع الثاني كذلك و إن كان أقرب من الثالث، و أقرب منهما الجمع الأول.

و كيف كان لا دلالة

لها على كفر منكر الضروري من حيث هو، و الظاهر أن غالب كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة سيما أبواب الحدود ناظر إلى الحكم الظاهري، و بعضها محتمل للوجه الثاني أو محمول عليه. فلا يمكن تحصيل الشهرة أو الإجماع على المدعى.

ففي كتاب المرتد من الخلاف: «من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة كان كافرا يجب قتله بلا خلاف» و في النهاية: «من استحل الميتة و الدم و لحم الخنزير ممن هو مولود على فطرة الإسلام فقد ارتدّ بذلك عن دين الإسلام و وجب عليه القتل بالإجماع».

و في حدود الشرائع: «من شرب الخمر مستحلا استتيب، فان تاب أقيم عليه الحد، و إن امتنع قتل، و قيل يكون حكمه حكم المرتد و هو قوي، و أما سائر المسكرات فلا يقتل مستحلها، لتحقق الخلاف بين المسلمين- و قال-: من استحل شيئا من المحرمات المجمع عليها كالميتة و الدم و لحم الخنزير ممن ولد على الفطرة يقتل».

و يحتمل في هذه العبارات أحد الوجهين، و لهذا قال المحقق في حدود الشرائع: «كلمة الإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه» نعم صريح بعض و ظاهر جمع حصول الارتداد بإنكار الضروري أو ما يعلم إنه من الدين مطلقا و انه سبب مستقل، كما أن صريح بعض و ظاهر جمع أنه ليس سببا مستقلا، بل هو لأجل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 335

رجوعه إلى إنكار الأصلين، و لم يظهر من قدماء أصحابنا شي ء من الوجهين يمكن الوثوق بمرادهم، فضلا عن تحصيل الشهرة في المسألة.

نعم قد يقال بأن تسالمهم على نجاسة الخوارج و النصاب مع استدلالهم لها بأنهم منكروا الضروري من الدين دليل

على تسالمهم بأن إنكاره مطلقا موجب للكفر، ضرورة أن كثيرا منهم بل غالبهم كانوا يتقربون إلى اللّٰه تعالى بالنصب لهم و الحرب معهم، لجهلهم عما ورد في حقهم من الكتاب و السنة.

و فيه أن التمسك لنجاستهم بانكارهم الضروري انما وقع من بعضهم، و لم يظهر تسالمهم عليه، بل الظاهر أن نجاسة الطائفتين مسلمة عندهم بعنوان النصب و الحرب، و لهذا لم ينقل الخلاف في نجاستهما، مع وقوع الخلاف في منكر الضروري، فالأقوى عدم نجاسة منكر الضروري إلا أن يرجع إلى إنكار الأصلين و لو قلنا بأن الإنكار مطلقا موجب للكفر، لعدم الدليل على نجاسة الكفار بحيث يشمل المرتد بهذا المعنى، أما الآية فواضح، و أما الروايات فقد مرّ الكلام فيها. و أما الإجماع فلم يقم عليها.

بل لا يبعد أن يكون دعوى الشيخ الإجماع على كفر مستحل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ارتداده تارة و دعوى عدم الخلاف في كفر من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة أخرى، مضافا إلى ما تقدم هي ارتداده بحسب بعض الآثار كالقتل و غيره دون النجاسة، تأمل. و كيف كان لا يمكن إثبات نجاسته بالإجماع أو الشهرة.

و أما الطائفتان فالظاهر نجاستهما، كما نقل الإجماع و عدم الخلاف و عدم الكلام فيها من جملة من الأعاظم، و إرسالهم إياها إرسال المسلمات و يمكن الاستدلال عليها بموثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 336

في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت و هو شرهم فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا

أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1» فإنه بعد ثبوت نجاسة الطوائف الثلاث بما مرّ مستقصى جعل هذه الطائفة الخبيثة قرينة لهم يشعر أو يدل على كونهم نجسة، هذا مع التصريح بأنهم أنجس من الكلب الظاهر بمناسبة الحكم و الموضوع في النجاسة الظاهرية، و مجرد جعلهم أنجس من الكلب لا يوجب رفع اليد عن الظاهر الحجة.

و لا ينافي ذلك ما مرّ منا من الخدشة في الاستدلال عليها لنجاسة الطوائف الثلاث، لأن الاستدلال هناك كان لمقارنتهم مع النصاب، و قلنا إن صرف ذلك لا يدل على المطلوب، و ها هنا بعد ثبوت النجاسة للطوائف يستدل من المقارنة على أن المراد بتلك النجاسة هي النجاسة الظاهرة التي للطوائف و الكلب بالدليل الخارجي، تأمل.

و أما الاستدلال لها برجوع إنكارهم فضائل أهل البيت الواردة من النبي الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله إلى تخطئته و اعتقاد الغفلة و الجهل بعواقب أمورهم في حقه صلّى اللّٰه عليه و آله و هو كفر فغير تام صغرى و كبرى، لمنع عموم المدعى في جميع طبقاتهم، و منع صيرورته موجبا للكفر و النجاسة سيما مع ذهاب بعض أصحابنا كابن الوليد إلى أن نفى السهو عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أول مراتب الغلو، و ظهور بعض الآيات و الروايات في سهوه. و كيف كان لا ينبغي الإشكال في كفر الطائفتين و نجاستهما ثم أن المتيقن من الإجماع هو كفر النواصب و الخوارج أي الطائفتين المعروفتين، و هم الذين نصبوا للأئمة عليهم السلام، أو بعنوان

______________________________

(1) مرت في ص 305.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 337

التدين به، و أن ذلك وظيفة دينية لهم، أو

خرجوا على أحدهم كذلك كالخوارج المعروفة، و الظاهر أن الناصب الوارد في الروايات كموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة أيضا يراد به ذلك، فان النواصب كانوا طائفة معهودة في تلك الأعصار كما يظهر من الموثقة أيضا، حيث نهى فيها عن الاغتسال في غسالة الحمام التي يغتسل فيها الطوائف الثلاث و الناصب، و ليس المراد منه المعنى الاشتقاقي الصادق على كل من نصب بأي عنوان كان، بل المراد هو الطائفة المعروفة و هم النصاب الذين كانوا يتدينون بالنصب، و لعلهم من شعب الخوارج.

و أما سائر الطوائف من النصاب بل الخوارج فلا دليل على نجاستهم و إن كانوا أشد عذابا من الكفار، فلو خرج سلطان على أمير المؤمنين عليه السلام لا بعنوان التدين بل للمعارضة في الملك أو غرض آخر كعائشة و زبير و طلحة و معاوية و أشباههم أو نصب أحد عداوة له أو لأحد من الأئمة عليهم السلام لا بعنوان التدين بل لعداوة قريش أو بني هاشم أو العرب أو لأجل كونه قاتل ولده أو أبيه أو غير ذلك لا يوجب ظاهرا شي ء منها نجاسة ظاهرية. و إن كانوا أخبث من الكلاب و الخنازير لعدم دليل من إجماع أو أخبار عليه.

بل الدليل على خلافه، فان الظاهر أن كثيرا من المسلمين بعد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كأصحاب الجمل و الصفين و أهل الشام و كثير من أهالي الحرمين الشريفين كانوا مبغضين لأمير المؤمنين و أهل بيته الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم و تجاهروا فيه و لم ينقل مجانبة أمير المؤمنين و أولاده المعصومين عليهم السلام و شيعته المنتجبين عن مساورتهم و مؤاكلتهم و سائر أنواع العشرة، و القول بأن الحكم لم يكن معلوما في ذلك

الزمان و انما صار معلوما في عصر الصادقين عليهما السلام كما ترى، مع عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 338

نقل مجانبة الصادقين عليهما السلام و أصحابهما و شيعتهما و كذا سائر الأئمة عليهم السلام المتأخرة عنهما و شيعتهم عن مساورة شيعة بني أمية و بني العباس و لا من خلفاء الجور، و الظاهر أن ذلك لعدم نجاسة مطلق المحارب و الناصب، و أن الطائفتين لعنهما اللّٰه لم تنصبا للأئمة عليهم السلام لاقتضاء تدينهما ذلك، بل لطلب الجاه و الرئاسة، و حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، أعاذنا اللّٰه منه بفضله.

بل المنقول عن بعض خلفاء بني العباس أنه كان شيعيا، و نقل عن المأمون أنه قال: «إني أخذت التشيع من أبي» و مع ذلك كان هو و أبوه على أشدّ عداوة لأبي الحسن موسى بن جعفر و ابنه الرضا عليهما السلام لمّا رأيا توجه النفوس إليهما، فخافا على ملكهما من وجودهما.

و بالجملة لا دليل على نجاسة النصاب و الخوارج إلا الإجماع و بعض الأخبار، و شي ء منهما لا يصلح لإثبات نجاسة مطلق الناصب و الخارج، و إن قلنا بكفرهم مطلقا، بل وجوب قتلهم في بعض الأحيان.

ثم أن المتحصل من جميع ما تقدم أن المحكوم بالنجاسة هو الكافر المنكر للألوهية أو التوحيد أو النبوة و خصوص النواصب و الخوارج بالمعنى المذكور، و سائر الطوائف من المنتحلين إلى الإسلام أو التشيع كالزيدية و الواقفة و الغلاة و المجسمة و المجبرة و المفوضة و غيرهم إن اندرجوا في منكري الأصول أو في إحدى الطائفتين فلا إشكال في نجاستهم كما يقال: إن الواقفة من النصاب لسائر الأئمة من بعد الصادق عليه السلام.

و أما مع

عدم الاندراج فلا دليل على نجاستهم، فان بعض الأخبار الواردة في كفر بعضهم كقوله عليه السلام: «من شبه اللّٰه بخلقه فهو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 339

مشرك، و من نسب اليه ما نهي عنه فهو كافر» «1» و قوله عليه السلام:

«من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك» «2» و قوله عليه السلام:

«و القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك» «3» و غير ذلك فسبيله سبيل الأخبار الكثيرة المتقدمة و غيرها مما لا يحصى مما أطلق فيها الكافر و المشرك على كثير ممن يعلم عدم كفرهم و شركهم في ظاهر الإسلام و قد حملناها على مراتب الشرك و الكفر، كما قامت الشواهد في نفس الروايات عليه.

و الانصاف أن كثرة استعمال اللفظين في غير الكفر و الشرك الظاهريين صارت بحيث لم يبق لهما ظهور يمكن الاتكال عليه لإثبات الكفر و الشرك الموجبين للنجاسة فيمن أطلقا عليه، و لا لإثبات التنزيل في جميع الآثار، و هو واضح جدا لمن تتبع الروايات، و لا دليل آخر من إجماع أو غيره على نجاستهم.

و أما الغلاة فإن قالوا بإلهية أحد الأئمة عليهم السلام مع نفي إله آخر أو إثباته أو قالوا بنبوته فلا إشكال في كفرهم، و أما مع الاعتقاد بألوهيته تعالى و وحدانيته و نبوة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فلا يوجب شي ء من عقائدهم الفاسدة كفرهم و نجاستهم حتى القول بالاتحاد أو الحلول إن لم يرجع إلى كون اللّٰه تعالى هو هذا الموجود المحسوس- و العياذ باللّٰه- فإنه يرجع الى إنكار اللّٰه تعالى.

بل يراد بهما ما عند بعض الصوفية من فناء العبد في اللّٰه و اتحاده معه نحو فناء الظل في ذيه،

فان تلك الدعاوي لا توجب الكفر و إن كانت فاسدة، و كالاعتقاد بأن اللّٰه تعالى فوض أمر الخلق مطلقا الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 340

أمير المؤمنين عليه السلام، فهو بتفويض اللّٰه تعالى اليه خالق ما يرى و ما لا يرى، و رازق من ورى، و أنه محيي و مميت الى غير ذلك من الدعاوي الفاسدة، فإن شيئا منها لا يوجب الكفر، و إن كان غلوا و كان الأئمة عليهم السلام يبرؤون منها و ينهون الناس عن الاعتقاد بها.

و دعوى أن إثبات ما هو مختص باللّٰه تعالى لغيره إنكار للضروري، ممنوعة إن أريد به ضروري الإسلام، فإن تلك الأمور من ضروري العقول لا الإسلام، مع أن منكر الضروري ليس بكافر كما مرّ.

و أما المجسمة فإن التزموا بأنه تعالى جسم حادث كسائر الحوادث فلا إشكال في كفرهم لإنكار ألوهيته تعالى، و لا أظن التزامهم به، و مع عدمه بأن اعتقد بجسميته تعالى بمعنى أن يعتقد أن الإله القديم الذي يعتقده كافة الموحدين جسم لنقص معرفته و عقله فلا يوجب ذلك كفرا و نجاسة.

هذا إن ذهب الى أنه جسم حقيقة، فضلا عما إذا قال بأنه جسم لا كالأجسام، كما نسب الى هشام بن الحكم الثقة الجليل المتكلم، و لقد ذبّ أصحابنا عنه، و قالوا: انما قال ذلك معارضة لطائفة لا اعتقادا و بعض الأخبار و إن ينافي ذلك لكن ساحة مثل هشام مبرّأ عن مثل هذا الاعتقاد السخيف، مع أن مراده غير معلوم على فرض

ثبوت اعتقاده به.

و أما القول بالجبر أو التفويض فلا إشكال في عدم استلزامه الكفر بمعنى نفي الأصول إلا على وجه دقيق يغفل عنه الأعلام فضلا عن عامة الناس، و مع عدم الالتفات الى اللازم لا يوجب الكفر جزما.

و دعوى استلزام الجبر لنفي العقاب و الثواب و ذلك إبطال للنبوات لو فرضت صحتها فلم يلتزم المجبر به، و لا إشكال في أن القائل بهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 341

ليس منكرا للضروري، لعدم كون الأمر بين الأمرين من ضروريات الدين، بل و لا من ضروريات المذهب، و إن كان ثابتا بحسب الأخبار بل البرهان كما حقق في محله.

و الانصاف ان الأمر بين الأمرين بالمعنى المستفاد من الأخبار و القائم عليه البرهان الدقيق لا يمكن تحميل الاعتقاد به الى فضلاء الناس فضلا عن عوامهم و عامتهم، و لهذا ترى أنه قلما يتفق لأحد تحقيق الحق فيه، و سلوك مسلك الأمر بين الأمرين من دون الوقوع في أحد الطرفين أي الجبر و التفويض سيما الثاني.

فتحصل مما ذكر عدم كفر الطوائف المتقدمة، فما عن غير واحد من أن نجاسة الغلاة إجماعية أو لا خلاف و لا كلام فيها، فالقدر المتيقن منه هو الغلو بالمعنى الأول لا بمعنى التجاوز عن الحد مطلقا، و ما عن الشيخ و غيره من نجاسة المجسمة، و عن حاشية المقاصد و الدلائل «لا كلام في نجاستهم» لعل المراد منهم من توجه و التفت الى لازمة، و إلا فلا دليل عليها كما تقدم، و كذا الكلام في المجبرة و المفوّضة.

بقي الكلام في المنافقين الذين يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، فان قلنا بأن الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأصول الثلاثة، و كلمة الشهادتين

طريق إثباته في الظاهر أو أنه عبارة عن الإقرار باللسان و الاعتقاد بالجنان فيكون الموضوع الأحكام مركبا من جزءين و جعل أحدهما طريقا للآخر فلا إشكال في كفرهم واقعا و إن رتبت عليهم أحكام الإسلام ظاهرا ما لم يثبت خلافه، فإذا علمنا بنفاقهم لا يجوز إجراء الأحكام عليهم.

فحينئذ يقع الإشكال في المنافقين الذين كانوا في صدر الإسلام، و كان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الوصي عليه السلام يعاملان معهم معاملة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 342

الإسلام، و طريق دفعه إما بأن يقال: إن مصالح الإسلام اقتضت جعل أحكام ثانوية واقعية نظير باب التقية، فجريان أحكام الإسلام عليهم واقعا لمصلحة تقوية الإسلام في أوائل حدوثه، فإنه مع عدم إجرائها في حال ضعفه و نفوذ المنافقين و قوتهم كان يلزم منه الفساد و التفرقة، فأجرى اللّٰه تعالى أحكامه عليهم واقعا، و أما بعد قوة الإسلام و عدم الخوف منهم و عدم لزوم تلك المفسدة فلا تجري الأحكام عليهم.

و إما بأن يقال: إن ترتيب الآثار كان ظاهر لخوف تفرقة المسلمين، فهم مع كفرهم و عدم محكوميتهم بأحكامه واقعا كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و وصيه عليه السلام يعاملان معهم معاملة المسلمين ظاهرا حفظا لشوكة الإسلام، و الالتزام بالثاني في غاية الإشكال، بل مقطوع الخلاف بالنسبة إلى بعض الأحكام.

و إما بأن يقال: إن العلم الغير العادي كالعلم من طريق الوحي لم يكن معتبرا، لا بمعنى نفي اعتباره حتى يلزم منه الاشكال، بل بالتزام تقييد في الموضوع، و هو أيضا بعيد.

و إن قلنا بأن الإسلام عبارة عن صرف الإقرار ظاهرا و الشهادة باللسان و هو تمام الموضوع لإجراء الأحكام واقعا

فلا إشكال في طهارتهم و إجراء الأحكام عليهم، و لا يرد الاشكال على معاملة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله معهم معاملة الإسلام، فإنهم مسلمون حقيقة، إلا أن يظهر منهم مخالفة الإسلام، بأن يقال: إن الإسلام عبارة عن التسليم و الانقياد ظاهرا مقابل الجحد و الخروج عن السلم، فمن ترك عبادة الأوثان مثلا و دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين و انقاد لأحكامه كان مسلما منقادا يجري عليه أحكامه واقعا، إلا أن يظهر منه ما يخالف الأصول.

هذا بحسب مقام الثبوت. و أما بحسب مقام الإثبات و التصديق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 343

فقد عرفت في صدر المبحث أن المرتكز في أذهان المتشرعة أن الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأصول الثلاثة، فلو علمنا بأن نصرانيا أظهر الإسلام من غير اعتقاد بل يبقى على اعتقاد التنصر لم يكن في ارتكازهم مسلما.

لكن يظهر من الكتاب و الأخبار خلاف ذلك، قال تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنٰا، وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1» في المجمع «2» «هم قوم من بني أسد أتوا النبي صلى اللّٰه عليه و آله في سنة جدبة و أظهروا الإسلام و لم يكونوا مؤمنين في السر- ثم قال-: قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع و القبول لما أتى به الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله، بذلك يحقن الدم، فان كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق بالقلب فذلك الايمان- إلى أن قال-: و روى أنس عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: الإسلام علانية و الايمان في القلب أشار إلى صدره» انتهى.

و موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: قالت الأعراب: آمنا

قل: لم تؤمنوا و لكن قولوا: أسلمنا» فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب، و من زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب» «3» و في موثقة جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد الهّٰ عليه السلام عن قول اللّٰه تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ فقال لي: أ لا ترى أن

______________________________

(1) سورة الحجرات: 49- الآية 14،

(2) ج 5 ص 138 ط صيدا.

(3) أصول الكافي ج 2 ص 25 الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم- الحديث 5).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 344

الايمان غير الإسلام» «1».

و في حسنة حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب، و أفضى به إلى اللّٰه، و صدقه العمل بالطاعة للّٰه، و التسليم لأمر اللّٰه، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء و عليه جرت المواريث، و جاز النكاح- ثم استشهد بالآية المتقدمة- و قال: فقول اللّٰه أصدق القول» «2».

و تدل عليه أيضا جملة من الروايات الأخر، كموثقة سماعة المتقدمة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها: «فقلت: فصفهما لي فقال:

الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله به حقنت الدماء. و عليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان الهدى، و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، و ما ظهر من العمل به، و الايمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الايمان يشارك الإسلام في الظاهر و الإسلام لا

يشارك الايمان في الباطن، و إن اجتمعا في القول و الصفة» «3» و هي بحسب ذيلها كالصريحة أو الصريحة في المقصود.

و يمكن المناقشة في صدرها بأن يقال: إن الشهادة لا تصدق إلا مع الموافقة للقلوب، و لهذا كذّب اللّٰه تعالى المنافقين مع شهادتهم برسالة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، فقال «وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ»

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 24 الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم- الحديث 3).

(2) مرتا في ص 321.

(3) مرتا في ص 321.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 345

و الظاهر أن تكذيبهم لعدم موافقة شهادتهم لقلوبهم.

و يمكن دفعها بأن الشهادة صادقة بصرف الشهادة ظاهرا، و لهذا تجعل مقسما للصادقة و الكاذبة بلا تأول، و لعل التكذيب في الآية كان لقرينة على دعواهم موافقة القلوب للظاهر، و كيف كان لا إشكال في دلالتها عليه.

و في صحيحة الفضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إن الايمان يشارك الإسلام و لا يشاركه الإسلام، إن الايمان ما وقر في القلوب، و الإسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء» «1».

و في رواية حفص بن خارجة قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام- إلى أن قال-: فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان، و يجري عليه أحكام المؤمنين، و هو عند اللّٰه كافر، و قد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله و عمله» «2» إلى غير ذلك، و حمل تلك الروايات على لزوم جريان الأحكام في الظاهر لو أمكن في بعضها لكن يأبى عنه أكثرها.

ثم أن المشهور على ما حكاه جماعة طهارة ولد الزنا و إسلامه، بل عن الخلاف الإجماع على

طهارته، و لعله مبنيّ على أن فتوى السيد بكفره لا يلازم فتواه بنجاسته، كما أن فتوى الصدوق بعد جواز الوضوء بسؤره لا يستلزم القول بها، و لم يحضرني كلام السيد و لا الحلي، و اختلف النقل عنهما، ففي الجواهر: «في السرائر أن ولد الزنا قد ثبت كفره

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 26 الطبعة الحديثة

(2) أصول الكافي ج 2 ص 40 الطبعة الحديثة (باب أن الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها- الحديث 8).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 346

بالأدلة بلا خلاف بيننا، بل يظهر منه أنه من المسلمات، كما عن المرتضى الحكم بكفره أيضا» انتهى.

و يظهر ذلك أيضا من الشيخ سليمان البحراني، كما في الحدائق، و هو لا يدل على حكمهما بنجاسته، لعدم الملازمة بينهما بعد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة مطلق الكافر، إلا أن يقال: إن السيد قائل بنجاسة كل كافر، كما يظهر من انتصاره و ناصرياته.

و كيف كان تدل على إسلامه الأخبار الشارحة للإسلام الذي عليه المناكح و المواريث، و إطلاقها شامل له بلا شبهة، و دعوى عدم الإطلاق في غاية الضعف، و هي حاكمة على جميع ما ورد في حق ولد الزنا، فإن غاية ما في الباب تصريح الأخبار بكفره، فتكون حالها حال الأخبار التي وردت في كفر كثير من الطوائف و شركهم مما مرّ الكلام فيها، مع عدم دليل عليه أيضا كما سنشير إليه.

ثم أن القائل بكفره إن أراد منه أنه لا يمكن منه الإسلام عقلا أو لا يقع منه خارجا فلا بدّ من طرح إظهاره للشهادتين، للعلم بتخلفه عن الواقع، ففيه- مضافا إلى عدم الدليل على ذلك لو لم نقل: إن الدليل على خلافه- إنه لو

سلم لا يوجب كفره، لما مر من أن الإسلام الذي يجري عليه الأحكام ظاهرا ليس إلا التسليم الظاهري و الانقياد بإظهار الشهادتين، فما لم يظهر منه شي ء مخالف لذلك يكون محكوما بالإسلام و لو علم عدم اعتقاده كما قلنا في المنافقين.

و إن أراد منه أنه محكوم بأحكام الكفر من عدم جواز التزويج و غيره فهو ممكن، لكن يحتاج إلى قيام دليل عليه، و هو مفقود، لأن الأخبار الواردة فيهم الدالة على عدم دخولهم في الجنة فإنها للمطهرين لا تدل على كفرهم، بل فيها ما تدل على صحة إيمانهم، مثل ما دل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 347

على بناء بيت في النار لولد الزنا العارف، و كان منعما فيها و محفوظا عن لهيبها، و هذا دليل على صحة إيمانه.

و لا يجب على اللّٰه تعالى أن يدخله الجنة، فإن ما يحكم به العقل امتناع تعذيب اللّٰه تعالى أحدا من غير كفر أو عصيان، و أما لزوم إدخاله في الجنة بل لزوم جزائه و استحقاقه على اللّٰه تعالى شيئا فلا دليل عليه، بل العقل حاكم على خلافه، نعم لا يمكن تخلف وعده، لكن لو دل دليل على اختصاص وعده بطائفة خاصة لا ينافي حكم العقل.

و كيف كان هذه الطائفة من الأخبار أجنبية عن الأحكام الظاهرية، كأجنبية سائر ما تشبث به في الحدائق، كما وردت في مساواة ديتهم لدية أهل الكتاب مع عدم عمل الطائفة بهذه الأخبار على ما حكي.

و ما وردت من أن حبّ علي عليه السلام علامة طيب الولادة، و بغضه علامة خبثها «1» و ما وردت من أن لبن أهل الكتاب أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا «2» و ما وردت

أن نوحا عليه السلام لم يحمل في السفينة ولد الزنا مع حمله الكلب و الخنزير «3» و ما وردت من عدم قبول شهادته و عدم جواز توليته القضاء و الإمامة «4» إلى غير ذلك مما لا دخل لها بكفره و نجاسته، كما لا يخفى.

نعم ربما يتمسك لنجاسته بأخبار غسالة الحمام، و بكفره بدعوى ملازمتها مع كفره، في المقدمتين إشكال و منع، أما الثانية فلعدم الدليل

______________________________

(1) كتاب الغدير- ج 4 ص 322 و 323.

(2) الوسائل- الباب- 75- من أبواب أحكام الأولاد- الحديث 2 من كتاب النكاح.

(3) البحار- ج 5 ص 287 الطبع الحديث.

(4) راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب الشهادات و الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 348

عليها، و أما الأولى فللاشكال في روايتها سندا و دلالة.

أما رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن عليه السلام قال: «سألته أو سأله غيري عن الحمام قال: أدخله بمئزر. و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «1» فمع ضعفها و إرسالها أن الظاهر منها أن اغتسال الجنب بما هو مانع عن الاغتسال بغسالة الحمام لا للنجاسة، و لعله لكون البقية هو الماء المستعمل فلا يمكن الاستدلال بها لنجاسة ولد الزنا و لو كان الناصب نجسا.

و قريب منها رواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام في حديث أنه قال: «لا تغتسل من غسالة الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم»

«2» و الظاهر منها أن غسالة الغسل من الزنا بما هي من غسل الزنا مانع، و هو غير نجس بالضرورة، و الحمل على نجاسة عرقه خلاف ظاهرها.

و أما رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر الى سبع آباء» «3» فمع ضعفها و إرسالها تدل على خلاف مطلوبه، ضرورة أن قوله عليه السلام: «لا يطهر إلى سبع آباء» بمنزلة التعليل للمنع، مع قيام الضرورة بعدم نجاسة آباء ولد الزنا أو أبنائه، فيعلم أن ما أوجب النهي عن غسالته، هو خباثته المعنوية لا النجاسة الصورية، و لو كان المراد منه المبالغة فلا تناسب إلا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 349

للخباثة المعنوية.

بل هي شاهدة على صرف سائر الروايات على فرض دلالتها، فأخبار هذا الباب ينبغي أن تعدّ من أدلة طهارة ولد الزنا لا نجاسته، فما في الحدائق من دعوى دلالة الأخبار الصحيحة الصريحة الغير القابلة للتأويل على كفره أو نجاسته على فرض ارادتها أيضا في غاية الغرابة بعد ما عرفت من عدم دلالة رواية واحدة على مطلوبه. بل عرفت دلالتها على خلافه، و أغرب منه توهم عدم وقوف علمائنا الأعلام على هذه الأخبار التي خرجت من لديهم، و إليه و إلى مثله، و هو عيال لهم في العثور عليها، و كم له من نظير.

تتميم:
اشارة

يذكر فيه بعض ما هو محل خلاف بين الأصحاب:

منها- عرق الجنب من الحرام،

فعن جملة من المتقدمين كالصدوقين و الشيخين و القاضي و ابن الجنيد القول بالنجاسة، و عن الخلاف الإجماع عليه. و عن الأستاذ دعوى الشهرة العظيمة عليه، و عن الرياض الشهرة العظيمة بين القدماء، و عن المراسم و الغنية نسبته إلى أصحابنا، و عن المبسوط إلى رواية أصحابنا، و عن أمالي الشيخ الصدوق أنه من دين الإمامية.

و استدل عليه بجملة من الروايات، كرواية إدريس بن داود الكفرتوثي «انه كان يقول بالوقف، فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن عليه السلام و أراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أ يصلى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره حرّكه أبو الحسن عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 350

بمقرعة، و قال مبتدئا: إن كان من حلال فصلّ فيه، و إن كان من حرام فلا تصلّ فيه» «1».

و عن إثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي نقل الرواية بتفصيل آخر، و في آخرها «فقال لي: يا إدريس أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي، فقال: إن كان العرق من الحلال فحلال، و إن كان من الحرام فحرام من غير أن أسأله، فقلت به و سلمت لأمره» «2».

و عن البحار: وجدت في كتاب عتيق من مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطريفي، عن علي بن عبد اللّٰه الميموني عن محمد بن على بن معمر، عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي عن الكاظم عليه السلام مثله، و قال: «إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال، و إن كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام» «3» كذا في

مفتاح الكرامة، و في المستدرك ذكره بعد رواية المناقب نقلا عن البحار و عن مناقب ابن شهرآشوب «أن علي بن مهزيار كان أراد أن يسأل أبا الحسن عليه السلام عن ذلك و هو شاكّ في الإمامة- إلى أن قال-: ثم قلت: أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب؟

فقلت في نفسي: إن كشف عن وجهه فهو الامام، فلما قرب مني كشف وجهه، ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب و جنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، و إن كان جنابته من حلال فلا بأس، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة» «4».

و عن الفقه الرضوي «إن عرقت في ثوبك و أنت جنب فكانت

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 12

(2) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 7.

(3) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(4) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 351

الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه، و إن كان حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل» «1» نقله في الحدائق و لم ينقله صاحب المستدرك.

و قد يؤيد بما ورد في غسالة الحمام، كرواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من الزنا» «2».

و في الكل نظر، أما الإجماع أو الشهرة فغير ثابت لا بالنسبة إلى النجاسة و لا المانعية، أما الأولى فلأن عبارات القدماء إلا الشاذ منهم خالية عن التصريح بالنجاسة، بل و لا ظهور فيها يمكن الاتكال عليه، ففي الأمالي «3» فيما يملي من دين الإمامية: «و إذا عرق الجنب في ثوبه و

كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة في الثوب، و إن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه».

و في الفقيه: «و متى عرق في ثوبه و هو جنب فليستنشف فيه إذا اغتسل، و إن كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه، و إن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه».

و هما كما ترى ظاهران في المانعية لا النجاسة، بل الظاهر من الثاني الطهارة مع المانعية، لأن الظاهر أن الضمير المجرور في ذيله راجع الى الثوب الذي أجاز التنشيف به، و في الخلاف: «عرق الجنب إذا كان الجنابة من حرام يحرم الصلاة فيه، و إذا كان من حلال فلا بأس بالصلاة فيه- ثم قال-: دليلنا إجماع الفرقة و دليل الاحتياط و الاخبار التي ذكرناها في الكتابين المتقدم ذكرهما».

______________________________

(1) فقه الرضا- ص 4.

(2) مرت في ص 348.

(3) ص 384- 385 ط قم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 352

و هو كما ترى نقل الإجماع على حرمة الصلاة، و هي أعم من النجاسة، كحرمة الصلاة في وبر ما لا يؤكل، و توهم أن مراده النجاسة بقرينة تصريحه في نهايته بنجاسته و تظهر من تهذيبه أيضا في غير محله حتى بالنسبة إلى فتواه، فضلا عن نقل فتوى الفرقة، لاحتمال عدوله عن الفتوى بالنجاسة، كما يظهر من محكي مبسوطة التوقف في الحكم، و في التهذيب في ذيل كلام المفيد حيث قال: «و لا يجب غسل الثوب منه- أي من عرق الجنب- إلا أن تكون الجنابة من حرام، فتغسل ما أصابه من عرق صاحبها من جسد و ثوب، و يعمل في الطهارة بالاحتياط» قال بهذه العبارة: «فأما ما يدل على أن الجنابة من حرام فإنه يغسل الثوب منها احتياطا فهو ما

أخبرني- ثم نقل صحيحة الحلبي- قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل أجنب في ثوبه» إلخ «1».

ثم حمل الرواية على عرق المجنب من حرام، ثم قال: «مع أنه يحتمل أن يكون المعنى فيه أن يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلي فيه و يعيد» انتهى. فترى أن كلام الشيخين مبني على الاحتياط، نعم يظهر منهما سيما الأول أنه لاحتمال النجاسة، و في المراسم: «و أما غسل الثياب من رزق الدجاج و عرق الجلال و عرق الجنب من الحرام فأصحابنا يوجبون إزالته، و هو عندي ندب» و الظاهر أن المسألة لم تكن إجماعية، لمخالفته صريحا، و ذكر زرق الدجاج، مضافا الى عدم ظهور معتد به لكلامه في النجاسة.

و في الغنية: «و قد ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلالة، و عرق الجنب إذا أجنب من حرام» و هو غير صريح، بل و لا ظاهر في النجاسة، لاحتمال أن يكون مراده الإلحاق الحكمي مطلقا أو في خصوص

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 353

الصلاة، فيمكن تأييد شارح الموجز، فعنه أن القول بالنجاسة للشيخ و هو متروك، بل تصديقه، بل تصديق دعوى الحلي الإجماع على الطهارة بدعوى رجوع الشيخ عن القول بها فضلا عن تصديق دعوى صاحب المختلف و الذكرى و الكفاية و الدلائل الشهرة بها.

و أما الأخبار فلا دلالة لشي ء منها على النجاسة، نعم ظاهرها مانعيته عن الصلاة، و هي أعم منها، نعم ما عن الفقه الرضوي لا يخلو من إشعار عليها، لكن كون هذا الكتاب رواية غير ثابت، فضلا عن اعتباره، فلو ثبت اعتماد الأصحاب على تلك الروايات الدالة على عدم جواز الصلاة فيه لا محيص

عن العمل بها، لكنه أيضا محل إشكال، سيما مع ما في الخلاف كما تقدم، حيث تمسك في الحكم بالأخبار التي في التهذيبين.

فلو كان اعتماده على تلك الأخبار لم يقل ذلك، و لم يكن وجه لترك التمسك بها في الكتابين، و سيما مع نقل الدلائل عن المبسوط نسبة كراهة الصلاة فيه الى الأصحاب، و إن قال صاحب مفتاح الكرامة:

«و لم أجد ذكر ذلك فيه» فان عدم وجدانه أعم.

فإثبات المانعية بتلك الروايات الضعيفة غير المجبورة مشكل بل ممنوع، و الاتكال على نفس الشهرة و الإجماع المنقول في الخلاف و غيره أيضا لا يخلو من إشكال، لإعراض المتأخرين عنه من زمن الحلي، مضافا إلى أن مدعي الإجماع كالشيخ توقف أو مال الى الخلاف على ما في محكي مبسوطة و يظهر من تهذيبه. و الناسب إلى الأصحاب توقف كابن زهرة أو أفتى بالخلاف كأبي يعلى سلار بن عبد العزيز.

و أما ما في الأمالي فالظاهر أن ما أدى اليه نظره عدّه من دين الإمامية، كما يظهر بالرجوع إلى أحكام ذكرها في ذلك المجلس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 354

هذا مع ما في جملة من الروايات المصرحة بعدم البأس عن عرق الجنب لا يبعد دعوى تحكيم بعضها على تلك الاخبار، مثل ما عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: «سألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن الجنب و الحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما؟ فقال: إن الحيض و الجنابة حيث جعلهما اللّٰه عز و جل ليس في العرق، فلا يغسلان ثوبهما» «1».

و عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «لا يجنب الثوب الرجل، و لا يجنب الرجل الثوب» «2» فلو كان عرق الجنب موجبا للنجاسة أو

المانعية في الجملة لم يعبرا بمثل ما ذكر فيهما، هذا و لكن الاحتياط لا ينبغي أن يترك سيما بالنسبة إلى المانعية.

و منها- عرق الإبل الجلالة،

و الأقوى نجاسته وفاقا للمحكي عن الصدوقين و الشيخين في المقنعة و النهاية و المبسوط و القاضي و العلامة في المنتهى و صاحب كشف اللثام و الحدائق و اللوامع، و عن الرياض أنها الأشهر بين القدماء، و قد تقدم ما في الغنية و المراسم من نسبة إلحاقه بالنجاسات في الأول، و نسبة وجوب إزالته عن الثياب في الثاني إلى الأصحاب.

و ما قلنا في المسألة السابقة: إن المحتمل في الأول الإلحاق الحكمي، و لم يكن الثاني صريحا في النجاسة لدفع تحصيل الشهرة أو الإجماع بإبداء الاحتمال لا ينافي تشبثنا بكلامهما في المقام، للفرق بين المسألتين بأن هناك لم يدل دليل معتمد على النجاسة، بل و لا على المانعية فاحتجنا في إثباتهما إليهما و لو لجبر سند بعض ما تقدم، و المناقشة في تحققهما أو جبر الاسناد بهما بما تقدم كافية فيه.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 9- 5.

(2) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 9- 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 355

و هاهنا تدل الرواية الصحيحة على نجاسته، فلا يجوز رفع اليد عنها إلا بإثبات إعراض الأصحاب عنها، و مع المناقشة فيه باحتمال كون المراد صاحب الغنية و المراسم ذهاب الأصحاب إلى نجاسته تبقى الصحيحة سليمة عن الموهن، و هي صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله» «1» و إطلاق صحيح هشام بن سالم عنه عليه السلام قال: «قال: لا تأكل

اللحوم الجلالة، و إن أصابك من عرقها فاغسله» «2».

و عن الفقيه: «نهى صلّى اللّٰه عليه و آله عن ركوب الجلالات و شرب ألبانها، و إن أصابك من عرقها فاغسله» «3» و خلافا للمراسم و عن الديلمي و الحلي و جمهور المتأخرين بل عن كشف الالتباس و الذكرى و البحار و غيرها نسبته إلى الشهرة من غير تقييد، بل عن كشف الالتباس أن القول بالنجاسة للشيخ و هو متروك.

و قد بالغ المحقق صاحب الجواهر في تشييده و تأييده بما لا مزيد عليه، و لم يأت بشي ء مقنع يتجه معه ترك العمل بالحجة الظاهرة في النجاسة، أما تمسكه بالأصول فمع الإشكال في بعضها فظاهر، كتمسكه بعمومات طهارة الحيوان أو سورة، و كون الجلال طاهر العين، و ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه لعدم الانفكاك غالبا، و استبعاد الفرق بينهما و بين ما حرم أكله أصالة، بل و بين سائر الجلالات، بل و بين سائر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(3) و عن الصدوق في المقنع: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله» راجع المستدرك- الباب- 11- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 356

فضلات نفسه، و ما دل على حلّ أكله بعد الاستبراء من غير ذكر نجاسته، و بفحوى عدم حرمة استعماله في الركوب و حمل الأثقال مع استلزامه للعرق غالبا من غير الأمر بالتجنب.

إذ العمومات على فرض وجودها قابلة للتخصيص، مع أن الظاهر عدم عموم لفظي يدل على طهارة الجلال أو سورة، بل

لو كان شي ء يكون إطلاقا، مع أنه أيضا محل تأمل و مناقشة، و على فرضه قابل للتقييد و قضية ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه على فرضها إنما هي متجهة لورود دليل في خصوص سؤر الجلال، و هو مفقود، و العمومات و الإطلاقات لا تقتضي ما ذكر، مع أنها مخصصة أو مقيدة.

و الاستبعاد المذكور غير معتمد في الأحكام التعبدية، مع عدم بعد في بعض، و عدم إطلاق فيما دل على حل الأكل بعد الاستبراء، لكونها في مقام بيان حكم آخر، و منه يظهر حال الفحوى المدعى الى غير ذلك من مؤيداته.

و أما ما أفاده من أن صحيحة هشام و مرسل الفقيه لا اختصاص فيهما بالإبل، لا قائل غير النزهة بالأعم، و التخصيص الى واحد غير جائز، و الحمل على العهد تكلف، فلا بد من الحمل على غير الوجوب، و إلا لكان الخبر من الشواذ، و مجاز الندب أولى من عموم المجاز، لشيوعه حتى قيل، إنه مساو للحقيقة، فيكون قرينة على ارادة الندب أيضا بالنسبة إلى الإبل في حسنة حفص.

ففيه بعد تسليم جميع المقدمات أنه لا يوجب رفع اليد عن الحسنة، و دعوى قرينية ما ذكر لإرادة الندب فيها ممنوعة، بل هي مخصصة أو مقيدة للصحيح و المرسل، مع أن ما ذكر من المقدمات غير سليمة عن المناقشة بل المنع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 357

لمنع لزوم الاستهجان لو قلنا بعدم نجاسة غير عرق الإبل، فإن هيئة الأمر على ما ذكرنا في محله لا تدل على الوجوب دلالة لفظية وضعية بل هي موضوعة للبعث و الإغراء، كما أن هيئة النهي موضوعة للزجر، فهي في عالم الألفاظ كالإشارة المغرية أو الزاجرة، نعم مع عدم

قيام دليل على الترخيص تكون حجة على العبد، لحكم العقل و العقلاء على لزوم تبعية إغراء المولى و زجره مع عدم الدليل على الترخيص، كما ترى في الإشارة الاغرائية أو الزاجرة مع عدم وضعها لشي ء.

فحينئذ نقول: إن الترخيص الى واحد لا يوجب الاستهجان مع بقاء أصل البعث بالنسبة إلى سائر الأفراد، فإن الترخيص ليس مخصصا للدليل، بل يكون كاشفا عن عدم الإرادة الإلزامية بالنسبة إلى مورد الترخيص مع بقاء البعث بحاله من غير ارتكاب خلاف ظاهر، نعم لو دل دليل على عدم استحباب غسل عرق سائر الجلالات لا يبعد القول بالاستهجان.

هذا لو لم نقل بأن كثرة ابتلاء أهالي محيط ورود الروايات بالإبل دون سائر الجلالات، فإنها بالنسبة إلى الإبل كانت قليلة بحيث توجب الانصراف أو عدم استهجان التخصيص و إلا فالأمر أوضح.

و الانصاف عدم قيام الحجة بما ذكره لرفع اليد عن الحجة القائمة على النجاسة، فالأقوى نجاسته، كما أن الأقوى طهارة عرق سائر الجلالات، و الأحوط التجنب منه أيضا.

و قد وقع من الشيخ الأعظم هنا أمر ناش عن الاستناد الى حافظته الشريفة و التعجيل في التصنيف، و هو انه نقل حسنة ابن البختري مع إسقاط لفظة «الإبل»، فقال: إن ظاهر الصحيحة الأولى كالحسنة عدم اختصاص الحكم بالإبل، مع ان جميع النسخ الموجودة عندي و كذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 358

الكتب الفرعية التي راجعتها مشتملة عليها، و من هنا لزم على كل باحث أن يراجع المدارك عند التأليف و الفتوى، و لا يكتفي بالكتب الاستدلالية لنقل الرواية و لا يتكل عليها، فضلا عن حفظ نفسه بعد ما رأى وقوع مثله من مثل من هو تالي العصمة و فقيه الأمة، و

اللّٰه العاصم.

ثم إنه قد تقدم الكلام في المسوخ فلا نطيل بالإعادة، و هنا بعض أمور أخر قد ذهب بعض الى نجاسته، و دلّ بعض الأخبار عليها كلبن الجارية و الحديد و أبوال البغال و الحمير و غيرها مما هي ضعيفة المستند بعد كون طهارتها كأمر ضروري، فلا نطيل الى ذكرها.

و الحمد للّٰه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا و قد وقع الفراغ من مبيضة هذه الوريقات في صبيحة العاشر من ذي الحجة الحرام سنة 1373 هج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 359

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه رب العالمين و صلى اللّٰه على محمد و آله أجمعين و لعنة اللّٰه على أعدائهم إلى يوم الدين.

الفصل الثاني في أحكام النجاسات

اشارة

و فيه مطالب:

الأول- المعروف بينهم القول بسراية النجاسة
اشارة

مما هو محكوم بها شرعا إلى ما يلاقيه و هكذا بلغ ما بلغ، فهاهنا جهات من البحث بعد الفراغ عن أن السراية من الأعيان النجسة إلى ملاقياتها تتوقف على الرطوبة السارية كما مرّ الكلام فيه مستقصى.

الأولى: الكلام في سرايتها إلى الملاقيات

مقابل من أنكر ذلك إما مطلقا أو في الجملة، و هو لازم كلام علم الهدى حيث حكي عنه في مقام الاستدلال لجواز استعمال المائعات الطاهرة غير الماء في تطهير الثوب بأن تطهيره ليس إلا إزالة النجاسة عنه، و قد زالت بغير الماء شاهدة، و أوضح منه ما حكي عنه من جواز تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول عنها العين معللا لذلك بزوال العلة، و الظاهر منهما أن الأعيان النجسة لا تؤثر في تنجيس ملاقياتها حكما، و أن الطهارة للأشياء ليست إلا زوال عين النجاسة منها، فإذا زالت العلة و لا يبقى أثر منها تصير طاهرة، إذ ليست النجاسة إلا تلطخها بأعيانها، و هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 360

مساوق للقول بعدم سراية النجاسة من الأعيان إليها.

و عن المحدث الكاشاني «أنه لا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، و أما وجوب غسلها بالماء من كل جسم فلا، فما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهره إلا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء كالثوب و البدن، و من هنا يظهر طهارة البواطن بزوال العين و طهارة أعضاء الحيوان النجسة غير الآدمي به، كما يستفاد من الصحاح» انتهى. و لعمري أن قول السيد أظهر في هذا المقال من قول الكاشاني أو مثله حيث تبعه في ذلك، فلا وجه للطعن عليه بتفرده.

و يمكن أن يستدل على مطلوبهما بطوائف من الأخبار: منها

ما دلت على أن اللّٰه جعل الأرض مسجدا و طهورا، و ورودها في مقام الامتنان يؤكد إطلاقها، فعن الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: فضلت بأربع: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» «1» و في مرسلة أبان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «إن اللّٰه تبارك و تعالى أعطى محمدا صلّى اللّٰه عليه و آله شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى- إلى أن قال-: جعل له الأرض مسجدا و طهورا» إلخ «2» و دعوى عدم إطلاقها فإنه في مقام الاخبار بالتشريع كأنها في غير محلها، فان حكايته انما هي للعمل، لا لنقل قضية كنقل التاريخ، فلو كانت أرض خاصة طهورا لكان عليه البيان، سيّما مع اقتضاء المقام التعميم، كدعوى اختصاصها برفع الحديث لعدم الدليل عليه، و مجرد اشتمال بعضها على ذكر التيمم لا يوجب الاختصاص.

و من هذا القبيل صحيحة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 361

«إن اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» سيما إذا أريد التشبيه، و مجرد كون صدرها في مورد التيمم لا يوجب تقييد الكبرى الكلية التي في مقام الامتنان المقتضي للتعميم.

و تقريب الاستدلال بهذه الطائفة للمطلوب بأن يقال: إن الطهارة لدى العرف عبارة عن خلو الأشياء و نقائها عن القذارات، و الأرض كالماء مؤثرة في إزالتها و إرجاعها إلى حالها الأصلية، و زوال العلة، و هي بعينها دعوى السيد، و لازمة عدم سراية القذارات في الأشياء، إذ الأرض لا تؤثر إلا في

زوال الأعيان، و هو بعينه الطهارة عرفا و عقلا.

و بالجملة هذه الطائفة تدل على ما ذهب إليه من عدم اختصاص الطهور بالماء، و يثبت بها لازمة، و شاهدة أيضا على ما لدى العقلاء في ماهية الطهارة و القذارة، فما قد يمكن أن يقال: إن التعبير بالطهور دليل على أن الأشياء تصير قذرة محتاجة إلى المطهر- غاية الأمر كما يكون الماء مطهرا تكون الأرض مطهرة و هو مخالف لمذهب السيد- مدفوع بأن العرف لا يرى الطهارة إلا إزالة النجاسة عن الجسم و إرجاعه إلى حالته الذاتية، و طهورية الأرض كطهورية الماء ليست إلا ذلك، و هي معلومة بالمشاهدة كما قال السيد في كلامه المتقدم.

و منها ما دلت على مطهرية غير الماء لبعض النجاسات، كصحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها، أ ينقض ذلك وضوءه؟ و هل يجب عليه غسلها؟

فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها. و لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها، و يصلي» «2» و لا يخفى قوة دلالتها على مذهب السيد، فإن العذرة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب التيمم- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 362

ظاهرة وضعا أو انصرافا إلى ما للإنسان أو الأعم منها و مما لغير المأكول من السباع كالكلب و السنور، و حملها على عذرة مأكول اللحم خلاف الظاهر جدا، كما أن حمل المسح على المسح بالأرض خلاف ظاهرها، بل الظاهر منها أن كل ما أذهب أثرها كاف، و الميزان فيه ذهاب الأثر بأي طريق كان، و هو عين مدعاه، و لازمة عدم السراية حكما مطلقا.

بل يمكن دعوى حكومة هذه الرواية

على الروايات الواردة في غسل ملاقي القذارات بدعوى أن قوله (ع): «لا يغسلها إلا أن يقذرها» دليل على أن الأمر بالغسل فيها لرفع القذارة العرفية بجميع مراتبها، لا لكون الماء ذا خصوصية شرعا، بل المعتبر لدى الشارع ليس إلا ذهاب الأثر بأي نحو اتفق.

و كموثقة الحلبي أو صحيحته قال: «نزلنا في مكان بيننا و بين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام فقال: أين نزلتم؟

فقلت: في دار فلان، فقال: إن بينكم و بين المسجد زقاقا قذرا، أو قلنا له: إن بيننا و بين المسجد زقاقا قذرا، فقال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضا» «1» و مقتضى إطلاقها أن الأرض بإزالتها للعين موجبة للتطهر من غير اختصاص بالمشي أو بالرجل و غير ذلك.

و بما ذكرنا من أن الطهارة في الأشياء عرفا و عقلا ليست إلا زوال القذارات عنها، و رجوعها إلى حالتها الأصلية من غير حصول صفة وجودية فيها، يظهر صحة الاستدلال بروايات تدل على مطهرية الشمس أو هي و الريح في بعض ما يذهب أثره باشراق الشمس و تبخيرها «2» و بما هو كالضروري من أن زوال عين النجاسة عن بدن الحيوان بأي نحو موجب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) المروية في الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 363

لطهارته، و بما دل على طهارة بصاق شارب الخمر «1» و ما دل على أنه ليس للاستنجاء حدّ إلا النقاء «2» و بموثق غياث الدال على جواز غسل الدم بالبصاق «3» و بمرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في عجين عجن و خبز ثم علم أن

الماء كانت فيه ميتة، قال: لا بأس أكلت النار ما فيه» «4» و بما دل على طهارة الدن الذي كان فيه الخمر ثم يجفّف و يجعل فيه الخل «5» إلى غير ذلك، فان كل تلك الموارد موافق للقواعد، و ليس للشارع إعمال تعبّد فيها بعد عدم كون الطهارة أمرا مجعولا تعبديا، بل هي بمعنى النظافة، و هي تحصل بإزالة القذارة بأي نحو كان.

و نحوها أو أوضح منها رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الحجامة أ فيها وضوء؟ قال: لا، و لا يغسل مكانها، لأن الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه و لم يكن صبيا صغيرا» «6» فان الظاهر منها أن التنظيف بأي نحو يقع مقام الغسل في تحصيل الطهارة و ليس المراد منه الغسل بالماء جزما، أما أولا فلعدم تعارف غسل الحجام محل الحجامة، بل المتعارف تنظيفه بثوب أو خرقة. فحملها عليه حمل بالفرد النادر أو غير المحقق، و أما ثانيا فلأن تبديل الغسل بالتنظيف و جعله مقابلا له مع أن المناسب ذكر الغسل دليل على مغايرتهما، فهي

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 39- من أبواب النجاسات.

(2) المروية في الوسائل- الباب- 13- من أبواب أحكام الخلوة

(3) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المضاف- الحديث 1

(4) الوسائل- الباب- 14 من أبواب الماء المطلق- الحديث 18

(5) مر في ص 183.

(6) الوسائل- الباب- 56- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 364

دالة على أن الغسل لم يؤمر به إلا للتنظيف، و الحجام إذا كان ينظفه حصل المقصود به، و منه يعرف سر الأمر بالغسل في سائر النجاسات، و هو تحصيل النظافة عرفا.

و من ضمّ تلك الروايات

الكثيرة و غيرها مما لم نذكره يحصل الجزم لو خليت الواقعة عن دليل تعبدي بأن التنظيف عند الشارع ليس إلا ما لدى العقلاء، و أن الأمر بالغسل بالماء فيما ورد انما هو لسهولة تحصيل الطهور به و لو فوره و لكونه مع مجانيته أوقع و أسهل في تحصله، و معه لا يفهم من الأدلة الآمرة بغسل الأشياء بالماء خصوصية تعبدية، و لا يفهم العرف أن التطهير و التنظيف لدى الشارع غير ما لدى العقلاء و أن الطهارة عنده ليست عبارة عن خلو الشي ء عن القذارة العارضة، بل هي أمر آخر ليس للعقلاء إلى فهمه سبيل، فان كل ذلك بعيد عن الافهام، مخالف لتلك الروايات الكثيرة، يحتاج إثباته إلى دليل تعبدي رادع للعقلاء عن ارتكازهم، و لا تصلح الروايات الآمرة بالغسل لذلك لما عرفت.

و منها روايات متفرقة في الأبواب ظاهرة في عدم السراية، كصحيحة حكم بن حكيم قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أبول فلا أصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول فأمسحه بالحائط و بالتراب ثم تعرق يدي فأمسح بها وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي، قال: لا بأس به» «1» و هي أيضا موافقة لما تقدم.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و قد احتمل المحدث الكاشاني فيها احتمالين: أحدهما الظاهر منها أن ما يلاقي اليد برطوبة بعد زوال عين النجاسة عنها بالمسح يلاقي اليد المتنجسة لا عين النجاسة، فالرواية دليل على مدعاه و ثانيهما أن اصابة البول جميع أجزاء اليد و وصول جميع أجزاء اليد الى الوجه أو الجسد أو الثوب و شمول العرق كل اليد كلها غير متيقنة، فاحتمال ملاقاة البول لا يوجب رفع اليد عن

الطهارة المتيقنة سابقا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 365

و نحوها رواية سماعة قال: «قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام إني أبول فأتمسح بالأحجار فيجي ء مني البلل ما يفسد سراويلي، قال:

ليس به بأس» «1».

و رواية زيد الشحام «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل علي، فقال: لا بأس به» «2» و حملها على تطهر الثوب بالمطر كما ترى.

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء، فينضح على الثياب ما حاله؟ قال: إذا كان جافا فلا بأس» «3».

و صحيحة أبي أسامة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

تصيبني السماء و عليّ ثوب فتبلّه و أنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أ فأصلي فيه؟ قال: نعم» «4» بناء على أن المراد إصابة الثوب لنفس المني الذي في الجسد لا للجسد الملاقي له.

و رواية علي بن أبي حمزة قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأسا، فقال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 13- من أبواب نواقض الوضوء- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 60- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 366

أبو عبد اللّٰه عليه السلام في وجه الرجل، فقال: إن أبيتم فشي ء من ماء فانضحه» «1» و الظاهر أن السؤال عن الثوب الذي فيه أثر الجنابة إذا عرق فيه، و معلوم

أن العرق بالوجه المسئول عنه يوجب ملاقاة البدن للأثر، و الحمل على السؤال عن عرق الجنب كما ترى.

و موثقة أبي أسامة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب الذي فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل عليّ، قال: لا بأس» «2» و توجيهها بأن المطر طهره بعيد، فإن إزالة المني تحتاج إلى الدلك و نحوه.

و أوضح منها صحيحة زرارة قال: «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أ يتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به، إلا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس» «3» و الظاهر أن التفصيل بين الرطبة و غيرها لكون التجفيف بالرطبة موجبا لتلوث البدن بها دون اليابسة التي لا يوجب ذلك معها إلا الملاقاة له بلا تلوث بالنطفة «4» إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع «5»،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) لعلها محمول على عدم العلم بالتسرية تأمل، راجع الوسائل الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(4) و لعل التفصيل بين الرطبة و غيرها من أجل أنه إذا كانت رطبة يعلم موضع النجاسة فيه، فلا بد من الاحتراز عنه، بخلاف ما إذا كانت جافة، فإنه ربما لا يعلم موضعها فلا يجب الاحتراز عن كله، تأمل.

(5) كذيل صحيحة العيص المروي في الوسائل- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 2 و موثقة حنان بن سدير المروية في الباب- 13- من أبواب نواقض الوضوء- الحديث 7- و رواية محمد ابن مسلم المروية في الباب- 11- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 2 و كلها لا تخلو عن مناقشة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 367

و

ليس في مقابلها غير الروايات المستفيضة بل المتواترة الآمرة بالغسل بالماء «1» أو بالغسل المنصرف إلى كونه بالماء في أنواع النجاسات، و هي لا تصلح لمعارضتها، أما أولا فلأن المفهوم منها- بعد ما تقدم من أن الطهارة ليست لدى العقلاء إلا إزالة النجاسة- أن الأمر بالغسل بالماء ليس إلا للتطهير و التنظيف من غير خصوصية للماء، و انما خص بالذكر لسهولته و كثرته و أوقعيته للتطهير غالبا، و أما ثانيا فلعدم المفهوم لتلك الروايات، فلا تنافي بينها و بين ما تقدم من جواز التنظيف بغيره كالأرض و التراب و البصاق و نحوها، بل لبعض الأخبار المتقدمة نحو حكومة عليها كما تقدم.

نعم ما دلّ على أن الاستنجاء في محل البول لا بد له من الماء «2»

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 9- 26- 28- 29- 31- 34 من أبواب أحكام الخلوة و الباب- 1- 2- 4- 5- 7- 8- 12- 13 14- 16- 19- 21- 24- 25- 34- 38- 40- 51- 53- 68- من أبواب النجاسات و الباب- 1- 3- من أبواب الأسئار و غيرها.

(2) كرواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:

«يجزى من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» و في صحيحة زرارة عنه عليه السلام قال: «و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم، و أما البول فإنه لا بد من غسله» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 6- 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 368

و لا يجوز بغيره مخصوص بمورده، و لا يتعدى منه إلى البول في سائر الموارد

فضلا عن غيره، مع احتمال أن يكون اللابدية اضافية في مقابل التحجر لا سائر المائعات.

و غير ما دلّ على تغسيل ملاقي مثل الكلب و الخنزير و الكافر «1» مما لا يتلوث الملاقي به، و هو دليل على عدم كون النجاسة و الطهارة لدى الشارع ما لدى العرف، و لهذا حكم بنجاسة أمور لا يستقذرها العرف و عدم نجاسة أمور يستقذرها.

و يمكن أن يجاب عنه بأن النجاسات الالحاقية كالكافر و الكلب و غيرها مما لا يستقذرها العقلاء بما هم كذلك ليست نجاستها لكشف قذارة واقعية في ظاهر أجسامها من سنخ القذارات الصورية، لعدم قذارة كذائية فيها، بل الظاهر أن انسلاكها في سلك القذارات بجهات و علل أخرى سياسية أو غيرها، و ليس الحكم بغسل ملاقياتها للسراية كما في سائر النجاسات المستقذرة، بل لأمور أخر و علل شتى غير السراية:

كتجنب المسلمين عن الكفار، و عدم اختلاطهم بهم، و كدفع مضرات لم نطلع بها، فإذا لم تكن الأمر بالغسل للسراية لم تكن تلك الروايات شاهدة على أن سائر النجاسات كذلك، و أن الطهارة و النجاسة مطلقا في عرف الشرع و نظر الشارع المقدس غير ما عند العقلاء.

و بعبارة أخرى مجرد إلحاق أشياء بها و إخراج أشياء منها لا يدل على مخالفة نظره مع العرف في أصل ماهية النجس و الطاهر.

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 12- 13- 14- 26- من أبواب النجاسات و الباب- 1- 3- من أبواب الأسئار.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 369

و غير الأدلة الدالة على انفعال الماء القليل و سائر المائعات «1» و هي تبلغ في الكثرة حد التواتر، و فيه أن تلك مسألة برأسها لا تكون أوضح من هذه المسألة، و

لا ملازمة بينهما كما لا يخفى، هذا غاية ما يمكن لنا ذكره في هذا المختصر لتأييد مذهبهما.

لكن الانصاف عدم خلو كثير من تلك الأخبار من المناقشة إما في السند أو في الدلالة أو الجهة، لو حاولنا ذكرها تفصيلا لطال بنا البحث، كما أن الانصاف خلو بعضها منها، لكن مع ذلك كله لا يمكن الاتكال في تلك المسألة التي عدت من الضروريات على تلك الأخبار المعرض عنها أو عن إطلاقها خلفا عن سلف. و قد مرّ منا مرارا أن دليل حجية أخبار الثقة ليس إلا بناء العقلاء مع إمضاء الشارع، و معلوم أن العقلاء لا يتكلون على أخبار أعرض عنها نقلتها و غيرهم، بل ادعى جمع من الأعاظم الإجماع على تنجيس المتنجس فضلا عن النجس، فهذه المسألة من المسائل التي يقال فيها: إنه كلما ازدادت الأخبار فيها كثرة و صحة ازدادت و هنا و ضعفا، هذا مع تظافر الأخبار بسراية النجاسة من المتنجس كما تأتي، فضلا عن النجس.

الجهة الثانية [سراية النجاسة من المتنجس]

بعد الفراغ عن السراية من الأعيان النجسة يقع الكلام في السراية من المتنجس إلى ملاقيه، إما في الجملة أو مطلقا و لو بلغ ما بلغ، و هي الجهة الثالثة.

و قد نسب الخلاف في أصل السراية إلى ابن إدريس، و اختاره صريحا المحدث الكاشاني، لكن لم يظهر من الحلي الإنكار مطلقا، أي في مطلق المتنجسات، لاحتمال اختصاص كلامه بميت الإنسان، و إن

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق و الباب- 5 من أبواب الماء المضاف.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 370

كان ظاهر تعليله العموم، لكن يظهر منه في بعض الموارد عدم العموم، و لهذا عدّ ذلك من متفردات الكاشاني، نعم لازم كلام

السيد ذلك أيضا كما لا يخفى.

قال الكاشاني في محكي المفاتيح: «انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة، و أما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح و نحوه بحيث لا يبقى فيه شي ء منها فلا يجب غسله، كما يستفاد من المعتبرة، على أنا نحتاج إلى دليل على ذلك» إلخ.

أقول: أما ما ادعى من عدم الدليل ففيه أن الأدلة المتفرقة في الأبواب بلغت حدّ التواتر أو قريب منه إن أراد عدم الدليل حتى بالنسبة إلى المائعات، كما هو مقتضى إطلاقه، و إلا فهي أيضا كثيرة نذكر جملة منها، مع الإشارة إلى مقدار دلالتها بالنسبة إلى الوسائط، حتى يظهر حال الملاقيات مع الوسائط.

منها صحيحة الفضل أبي العباس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة- إلى أن قال-: حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس، لا يتوضأ بفضله، فاصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1» و الظاهر منها أن الماء الملاقي للكلب صار نجسا، و الإناء الملاقي للماء كذلك، و أمر بغسله لسراية النجاسة منه إلى ما يلاقيه بعد ذلك.

و دعوى أن غاية ما يمكن استفادته منها و من مثلها بعد البناء على ظهورها في الوجوب الغيري كما هو المتعين انما هو حرمة استعمالها حال كونها متنجسة في المأكول و المشروب المطلوب فيها النظافة و الطهارة في الجملة و لو بالنسبة إلى المائعات التي يتنفر الطبع من شربها في

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 371

إناء يستقذره، و أما تأثيرها في نجاسة ما فيها فلا.

مدفوعة بأن العرف لا يشك في أن الأمر بغسل الإناء سيما مع تفرعه على قوله عليه السلام:

«رجس نجس» ليس إلا لتأثير الإناء في المائع المصبوب فيه، و لا يشك في الفرق بين الأمر بغسل خارج الإناء الذي لا يلاقي المائع و داخله الملاقي، و هل يكون استقذار العقلاء من المائعات المصبوبة في الإناء غير النظيف دون الجامدات إلا لتأثر الأولى منه دون الثانية، فالاعتراف بتنفر الطباع من الشرب في إناء مستقذر دون أكل الجوامد اعتراف بالسراية عرفا، و بالجملة يظهر من هذه الرواية تنجس الملاقي للنجس و ملاقيه و ملاقي ملاقيه، و من تعليله أن ذلك حكم النجس من غير اختصاص بالكلب و اختصاص كيفية الغسل به بدليل آخر لا يوجب اختصاص سائر الأحكام به.

و منها صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن الكلب يشرب في الإناء، قال: اغسل الإناء» «1» و نحوها ما دل على غسل الإناء من شرب الخنزير كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام «2».

و منها حسنة المعلى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق، فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافيا؟ فقال: أ ليس وراءه شي ء جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس أن الأرض يطهر بعضها بعضا» «3» و هي كالصريح في نجاسة الرجل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 3

(2) في حديث قال: «و سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 372

الملاقي لملاقي النجس.

و منها ما دلت على وجوب غسل آنية اليهود «1» و آنية يشرب فيها الخمر «2» و غسل

أواني الخمر «3» و غسل ما فيه الجرذ ميتا «4» و غسل الفراش و البساط و ما فيه الحشو «5» و غسل لحم القذر الذي قطرت فيه قطرة من الخمر «6» و غسل الثوب الذي لاقى الطين الذي نجسه شي ء بعد المطر «7» و غسل الفخذ الملاقي مع الذكر بعد مسحه بالحجر «8» و ما دل على عدم جواز الصلاة على البواري التي يبل قصبها بماء قذر قبل

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 7.

(2) راجع الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات و الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة.

(3) راجع الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات و الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة.

(4) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل- الباب- 26- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(7) راجع الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(8) إشارة إلى صدر صحيحة العيص، و لا يخفى أن ذيلها معارض لصدرها، و إليك نصها قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذه، قال: يغسل ذكره. و فخذه، و سألته عمن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصابه ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: لا» أورد صدرها في الوسائل في الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و ذيلها في الباب- 6- من هذه الأبواب- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 373

الجفاف «1».

و منها موثقة الساباطي الآمرة بغسل كل ما أصاب ماء مات فيه الفارة «2» و رواية العيص الآمرة بغسل الثوب الذي أصابه

قطرة من طست فيه وضوء من بول أو قذر «3» و صحيحة معاوية بن عمار الآمرة بغسل الثوب الملاقي للبئر النتن «4» و ما دلت على انفعال الماء القليل ببعض المتنجسات «5» إلى غير ذلك.

نعم لا يظهر من تلك الروايات على كثرتها إلا التنجيس بواسطة أو واسطتين، فلا بد من التماس دليل على تنجس الوسائط الكثيرة، سيما إذا كانت الكثرة معتدا بها، و التشبث بإلقاء الخصوصية من واسطة أو واسطتين إلى الوسائط سيما الكثيرة في غير محله، بعد وضوح الفرق بين الكثرة و القلة في الوسائط.

و غاية ما يمكن الاستدلال على تنجسها بالغة ما بلغت أن يقال:

إن الظاهر من كثير من الروايات أن ملاقي النجس يصير نجسا، و بالملاقاة ينسك الملاقي بالكسر تحت عنوان النجس، كقوله عليه السلام في المستفيضة: «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي ء» «6» فإنه بمفهومه

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 2 و 5

(2) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المضاف- الحديث 14

(4) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 10

(5) راجع الوسائل- الباب- 8 من أبواب الماء المطلق.

(6) ما وجدته بلفظة «بلغ» بل غير موجود في كتب الحديث و الموجود فيها بلفظة «كان» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1 و 2 و 5 و 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 374

يدل على أن ملاقاة الماء للنجس موجب لصيرورته نجسا، و قوله عليه السلام: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غيّر لونه» الى آخره «1» و كقوله عليه السلام في الثوب الذي يستعيره الذمي:

«أعرته إياه

و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «2» و قوله عليه السلام في النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبّا من ماء» «3» إلى غير ذلك.

فإذا ضم ذلك إلى التعليل في بعض الروايات المتقدمة لغسل الملاقي بكونه نجسا، و ضم إليه ارتكاز العرف بأن الأمر بغسل الملاقي للسراية ينتج المطلوب، بأن يقال: لو فرضت سلسلة مترتبة من الملاقيات رأسها عين النجس فالملاقي الأول محكوم بأنه نجس، لأن العين نجسته بارتكاز العرف و دلالة الروايات، و بمقتضى التعليل بأن النجس يغسل ملاقيه و بضميمة الارتكاز بأن لزوم الغسل ليس لتعبد محض بل للسراية و صيرورة الملاقي نجسا، و التأييد بالروايات الحاكمة بصيرورته نجسا يحكم بنجاسة ملاقي الملاقي، و هكذا في جميع السلسلة يحكم بلزوم غسل ملاقي كل نجس، بالارتكاز و الروايات المتقدمة يحكم بصيرورة الملاقي نجسا.

و بعبارة أخرى يستفاد من التعليل و الارتكاز و ضميمة الروايات قاعدة كلية: هي أن كل نجس متنجس، أي موجب لتحقق مصداق آخر للنجس، و هو أيضا منجس، و هلم جرّا.

لكن الانصاف عدم خلوه عن إشكال بل منع، بعد ما علمنا اختصاص الحكم المذكور في الرواية الشاملة على العلة بولوغ الكلب و عدم الاسراء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 375

إلى سائر ملاقياتها، فضلا عن سائر النجاسات، و دعوى أن ورود التقييد أو التخصيص في حكم لا يوجب رفع اليد عن عموم العلة غير وجيهة، فإنه مع اختصاص هذا الحكم الظاهر به لا

يبقى وثوق بعموم التعليل، و لا ظهور له.

مضافا إلى الإشكال في كون قوله عليه السلام: «رجس نجس» تعليلا يمكن الاتكال عليه لإسراء الحكم، نعم فيه إشعار بأن التغليظ في نجاسة الكلب ربما يوجب اختصاص الأحكام به أو بما هو من قبيله، و لا دليل على كون سائر النجاسات مغلظة نحوها، فضلا عن ملاقياتها و لو مع الوسائط المعلوم عدم غلظتها كذلك.

مضافا إلى أن التعليل الآخر في صحيحة أخرى لأبي العباس يورث و هنا فيه قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و ان أصابه جافا فاصبب عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟ قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أمر بقتلها» «1» هذا مع أن ما دلت من الروايات على صيرورة الملاقي نجسا انما هو في ملاقي أعيان النجاسات لا ملاقي ملاقيها، و هكذا. و التشبث بارتكاز العرف في الوسائط الكثيرة محل إشكال و منع، فاستفادة نجاستها مما تقدم مشكلة بل ممنوعة.

بقي الكلام في حال الإجماعات المنقولة، فليعلم أن هذه المسألة بهذا الوجه لم تكن معنونة في كتب القدماء من أصحابنا على ما تتبعت الكتب الموجودة عندي، و لم أر النقل منهم فيما هو معدّ لنقل الأقوال، نعم عنون الشيخ في الخلاف مسألتين:

إحداهما مسألة (136): «إذا ولغ الكلب في الإناء نجس الماء الذي فيه، فان وقع ذلك الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب عليه

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 376

غسله- إلى أن قال-: دليلنا أن وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء».

ثانيتهما مسألة (137): «إذا أصاب الماء الذي يغسل به الإناء من ولوغ الكلب ثوب الإنسان

أو جسده لا يجب غسله سواء كان من الدفعة الأولى أو الثانية أو الثالثة- ثم قال-: دليلنا أن الحكم بنجاسة ذلك يحتاج إلى دليل، و ليس في الشرع ما يدل عليه» ثم تمسك بالدليل العقلي المعروف في الغسالة.

أقول: لم يتضح من قوله في المسألة الأولى إلا دعوى الاتفاق على وجوب غسله، و أما التعليل بنجاسة الماء فليس من معقد الاتفاق حتى يتوهم الإجماع، على أن كل نجس يجب غسل ملاقيه، و يضم إليه ارتكازية السراية بالتقريب المتقدم، بل الظاهر من المسألة الثانية أن مسألة تنجيس ملاقي ملاقيه ليس ثابتا بإجماع أو غيره، و هي و إن كانت في الغسالة التي وقعت محل البحث، لكن تعليله بعدم الدليل دليل على عدم قيام الإجماع على الكلية، مع أن الدليل العقلي في الغسالة على فرض صحته انما يجري في الغسلة الأخيرة لا مطلقا، و قد صرح بعدم الفرق بين الغسلات، و من هنا يظهر أن استدلاله بالدليل العقلي لبعض المقصود، و هو الغسلة الأخيرة.

و مما يدل على عدم إجماعية المسألة و عدم وضوحها في تلك الأعصار قوله في كتاب الصلاة في مسألة (222): «الجسم الصقيل مثل السيف و المرآة و القوارير إذا أصابته نجاسة فالظاهر أنه لا يطهر إلا بأن يغسل بالماء، و به قال الشافعي، و في أصحابنا من قال: يطهر بأن يمسح ذلك منه أو يغسل بالماء، اختاره المرتضى، و لست أعرف به أثرا، و به قال أبو حنيفة، دليلنا أنا قد علمنا حصول النجاسة في هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 377

الجسم و الحكم بزوالها يحتاج إلى شرع، و ليس في الشرع ما يدل على زوال هذا الحكم مما قالوه-

ثم تمسك بدليل الاحتياط-» انتهى.

و قد تقدم أن لازم كلام السيد بل صريح ما نقل عنه في دليل مذهبه أن ملاقي النجس ليس بنجس، فضلا عن ملاقي المتنجس، و مع ذلك قد ترى أن ظاهر كلام الشيخ وجود القائل غير السيد فيها، و عدم إجماع أو دليل آخر على خلافه، و إلا لتمسك به، و لم يقل: و الظاهر كذا مما يظهر منه عدم الجزم بالمسألة، و لم يتمسك بالأصل و الاحتياط و لم يقل: لست أعرف به أثرا، فيظهر منه أن المسألة حتى في ملاقي عين النجس لم تكن إجماعية في عصره، فضلا عن ضروريتها، فضلا عن إجماعية نجاسة الملاقي مع الوسائط بالغة ما بلغت أو ضروريتها.

و ظاهر ابن إدريس أن ملاقي ملاقي النجس لم يحكم بنجاسته لعدم الدليل عليها، و لو كانت المسألة إجماعية لما قال ذلك، نعم قد يقال: إن كلامه مختص بالميت مع الملاقاة بيبوسة، لكن الظاهر من كلامه عدم الاختصاص باليابس، بل يظهر منه أن النجاسات الحكمية مطلقا لا تؤثر في تنجيس الملاقي، و لا يبعد بقرينة المقام أن يكون مراده من الحكميات من قبيل الملاقي الذي لا أثر فيه من الملاقاة مقابل الأعيان النجسة.

كما أن استدلال المحقق في المعتبر في ردّ الحلي بقوله: «لما اجتمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت، و أجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع» انتهى دليل على عدم إجماعية نجاسة الملاقيات و لو بلا واسطة، و إلا لتمسك به من غير احتياج إلى التمسك بالإجماعين على نحو لا يخلو من إشكال و مصادرة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 378

و أما دعاوي متأخري

المتأخرين الإجماع أو الضرورة فجملة منها في مقابل المحدث الكاشاني، كالأستاذ الأكبر و المحقق القمي و النراقي و صاحب الجواهر و الشيخ الأعظم و غيرهم، و البعض منها الظاهر أو المصرح بعدم الخلاف في الوسائط و هلمّ جرا كالطباطبائي صاحب البرهان فلا وثوق بها، بعد ما عرفت من عدم كون المسألة معنونة في كتب القدماء و من غير ذلك مما تقدم ذكره.

و من جملة ثالثة لم يظهر دعوى الإجماع على الوسائط كذلك، كالشهيد في الروض بناء على استفادة الإجماع منه لأجل استثناء ابن إدريس فقط، قال في حكم مس الميت: «فان كان من الرطوبة فهي عينية محضة، فلو لمس اللامس له برطوبة آخر برطوبة نجس أيضا و هلمّ جرا، و خلاف ابن إدريس في ذلك ضعيف» انتهى، فإنه بعد تسليم الاستفادة لا يظهر منه إلا الإجماع في مقابل ابن إدريس القائل بعدم تنجيس المتنجس مطلقا، مع أن في الاستفادة أيضا إشكالا.

نعم لا يبعد ظهور كلام صاحب المعالم في الوسائط قال فيما حكي عنه: «إن كل ما حكم بنجاسته شرعا فهو يؤثر التنجيس في غيره أيضا مع الرطوبة عند جمهور الأصحاب، لا نعرف فيه الخلاف إلا من العلامة و ابن إدريس» بأن يقال: إن التأثير في التنجيس عبارة أخرى من صيرورة الملاقي محكوما بنجاسته شرعا، فلا بد من تأثيره، و هلمّ جرا.

و فيه- مضافا إلى إمكان أن يكون الكلام في مقابل ابن إدريس و العلامة فمن البعيد استفادة الوسائط الكثيرة منه- أن دعوى عدم معرفة الخلاف غير دعوى عدم الخلاف أو الإجماع، هذا مع ما تقدم من عدم كون المسألة إجماعية في الطبقة الأولى، و عدم تعرض تلك الطبقة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 379

بل الطبقة الثانية أيضا للمسألة.

ثم أن هاهنا شواهد داخلية و خارجية على عدم تنجس الملاقيات مع الوسائط المتعددة، أما الأولى فيمكن الاستشهاد عليه بروايات:

منها موثقة عمار الساباطي «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يجد في إنائه فارة و قد توضأ من ذلك الإناء مرارا أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، و قد كانت الفأرة متسلخة، فقال، إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة» إلخ «1» فإن الظاهر أن الإناء المسئول عنه هو مثل الحب الذي كان متعارفا في تلك الأمكنة أن يصيب فيه الماء لرفع الحوائج من الوضوء و الغسل و غسل الثياب و غيرها، و قد اتفق رؤية الفارة المتسلخة فيه، و من الواضح أنه لو تنجس يوما يوجب ذلك نجاسة كثير مما في الأيدي لو قلنا بسراية النجاسة من الملاقيات هلمّ جرا فضلا عن تنجسه أياما. كما هو مقتضى ظاهر الرواية أو إطلاقها.

و بالجملة لا شبهة في ابتلاء صاحب الحب بملاقيات الماء و ملاقيات ملاقياته، و هكذا بعد مضي أيام، فلو صار الملاقاة مطلقا موجبا للنجاسة كان على الامام عليه السلام الأمر بغسل ملاقي ملاقي الماء و هكذا، فسكوته عنها مع العلم عادة بالابتلاء و تخصيص التطهير بملاقي ذلك الماء المشعر بعدم لزوم تطهير غيره لو لم نقل بدلالة نحو التعبير عليه دليل على عدم السراية مع الوسائط، فإن الماء تنجس بالفارة، و ملاقي الماء تنجس به، و الأمر بغسل ملاقيه مطلقا الذي منه الأواني و الظروف

دليل على تنجس ملاقي ذلك الملاقي، و أما الملاقي مع ذلك الملاقي الأخير

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 380

فلا يؤثر ذلك في نجاسته، و إلا لأمر بغسلها مع الجزم بالابتلاء عادة، بل كان عليه البيان بعد السؤال عن تكليف الرجل الذي ابتلى بذلك، مع احتمال ابتلائه بملاقي الملاقي للماء فضلا عن الجزم به، فعدم البيان دليل على عدم التنجيس، فضلا عن الاشعار المذكور الموجب للإغراء و العياذ باللّٰه.

و منها رواية بكار بن أبي بكر قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحب في مكان قذر ثم يدخله الحب، قال: يصب من الماء ثلاثة أكف ثم يدلك الكوز» «1» بناء على أن المراد بالمكان القذر المتنجس، لا المكان الذي فيه عين النجس، كما لا يبعد أن يكون منصرفا إليه، و إلا لخرجت عن الاستشهاد بها للمقام، و ينسلك في الأدلة الدالة على كلام المحدث الكاشاني، و هنا احتمال آخر في الرواية: هو أن المراد من قوله:

«ثم يدخله» إرادة إدخاله فيه، و قوله عليه السلام: «يصب» إلخ بيان تطهير الكوز، لكنه بعيد.

و منها الروايات التي تعرضت لاكفاء الماء و إراقته، و السكوت عن حكم الإناء مع اقتضاء المقام بيانه لو تنجس، كصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة، قال: يكفئ الإناء» «2» و صحيحة أبي بصير «3» و غيرهما «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 17

(2) الوسائل- الباب- 8 من أبواب الماء المطلق- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 8

من أبواب الماء المطلق- الحديث 11

(4) المروية في الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق و الباب 43- 44- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 381

و نظيرها موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «ان عليا عليه السلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فارة، قال:

يهراق المرق و يغسل اللحم و يؤكل» «1».

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فان كان جامدا فألقها و ما يليها، و كل ما بقي، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك» «2» إلى غير ذلك.

و السكوت في مقام سئل عن التكليف في القضية المبتلى بها عن حال الأواني و سائر الملاقيات دليل على عدم تنجسها، سيما في مثل الرواية الأخيرة، فإن الاستصباح بالسمن و الدهن في مدة كثيرة مع كثرتهما لا يتخلف عن الابتلاء بالملاقيات بلا وسط و معه، و دعوى كون الحكم معهودا أو مرتكزا تردها نفس الروايات، كدعوى كونهما في مقام بيان حكم آخر.

و أما الشواهد الخارجية فكثيرة: منها أن فقهاء العامة الذين كانوا مرجعا للناس في تلك الأعصار من زمن الصادقين عليهما السلام إلى زمن الهادي و العسكري عليهما السلام قلما اتفق موافقتهم معنا في أعيان النجاسات و كيفية تطهيرها، فمالك و الشافعي في الجديد خالفانا في نجاسة المني، و أبو حنيفة قال باجزاء فركه إذا كان يابسا، و الشافعي في أحد وجهيه و الزهري ذهبا إلى طهارة الميتة، و مالك و داود و الزهري إلى طهارة الكلب، و داود إلى طهارة الخمر، و أبو حنيفة إلى طهارة المسكرات، و جمهورهم إلى

طهارة الفقاع و حليته و طهارة الكفار.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 43- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 382

و قال أبو حنيفة: تطهر جلود الميتة بالدباغ إلا الخنزير، و عن مالك حتى الخنزير، و عن الشافعي الحيوان الطاهر، و قال أبو حنيفة:

لا يجب العدد في النجاسات، و عن داود و مالك و الزهري إناء الولوغ طاهر، و عن كثير منهم كالشافعي في أحد قوليه و مالك في إحدى الروايتين عدم نجاسة الماء القليل إلا بالتغير، و اختلفوا معنا في تحديد الكر أيضا و عن أبي حنيفة جواز إزالة النجاسة بالمضاف، و عن أحمد روايتان، و عنه في إحدى الروايتين عدم تنجس المضاف إن بلغ قلتين، و في الأخرى: ما أصله الماء كالخل التمري فكالماء، و قال أبو حنيفة: لا يجب الاستنجاء من البول و الغائط بالماء و غيره، و هو إحدى الروايتين عن مالك، و قال الشافعي و مالك في الأخرى و أحمد: يكفي في البول الحجر إلى غير ذلك.

فهذه جملة من موارد اختلافهم معنا في أبواب النجاسات و الطهارات فلو كان أمر الملاقي و ملاقي ملاقيه و هلمّ جرا كما ذكر في السراية لما بقي من الناس طاهر، و مع حشر الخاصة معهم في تلك الأعصار صارت حالهم كذلك، و مع ذلك لم يسأل أحد من أصحاب الأئمة عليهم السلام عن حال الملاقيات معهم مطلقا، و لم يكن ذلك إلا لما رأوا أن الأئمة عليهم السلام عاشروا معهم كعشرتهم مع غيرهم.

أضف إلى ذلك ما هو المشاهد من حال أهل البوادي، و عدم احترازهم غالبا عن النجاسات و ملاقياتها،

و كانت تلك الطوائف في زمن الأئمة عليهم السلام مترددين في البلاد سيما الحرمين الشريفين، و لم يعهد من أحد من الأئمة عليهم السلام و أصحابهم و شيعتهم التنزه عنهم أو السؤال من حالهم و من ملاقياتهم.

و هذه الأمور و غيرها مما يوجب الجزم بأن قضية الملاقي ليس كما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 383

ذكر من السراية هلمّ جرا، سيما مع سهولة الملة و سماحتها.

و الانصاف أن الفتوى بالنجاسة سيما مع الوسائط الكثيرة جرأة على المولى، و الأشبه عدم النجاسة مع الوسائط الكثيرة، و الاحتياط سيما فيما علم تفصيلا بالملاقاة و لو مع الوسائط لا ينبغي تركه.

المطلب الثاني [إزالة النجاسة عن الثياب]
اشارة

قالوا: يجب إزالة النجاسة عينية كانت أو حكمية عن الثياب عدا ما استثنى، و عن ظاهر البدن للصلاة واجبة كانت أو مندوبة بالوجوب الشرطي الذي يتبعه الوجوب الشرعي المقدمي عند وجوب ذيها أصلا أو عارضا.

أقول: أما الوجوب الشرعي المقدمي فقد فرغنا عن بطلانه، بل عدم تعقله في محله، و أما الوجوب الشرطي فهو موقوف على كون الشرط للصلاة إزالة النجاسة أو عدم النجاسة، و هو محل بحث و نظر، و لا بأس ببسط الكلام فيه لترتب ثمرات مهمة عليه.

فنقول: يحتمل ثبوتا أن تكون الطهارة شرطا للصلاة أو عدم القذارة شرطا لها أو القذارة مانعة عنها، و الفرق بين الأولين واضح و إن كان في صحة جعل العدم شرطا كلام، و أما الفرق بين الشرطية و المانعية أن الشرط ما هو دخيل في الملاكات الواقعية، إن كان المراد به شرط الماهية كما في المقام الذي لا يحتمل أن يكون الطهور شرطا لوجودها لا دخيلا في ماهيتها.

و بعبارة أخرى أن الشرط لبا من مقومات حمل

الملاك، و الصلاة بلا طهور لا تكون حاملة للملاك بناء على شرطية الطهور، و بناء على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 384

شرطية عدم القذارة أن ماهية الصلاة المجردة عن القذارة حاملة له.

و أما المانع فلا يتصور للماهية، و لا يرجع إلى محصل، بل المانعية مطلقا ترجع إلى مقام الوجود، و منشأها الضدية بين الشيئين، و تصويرها في المقام بأن يقال: إن الملاك الذي في ماهية الصلاة من غير دخالة لعدم القذارة أو وجود الطهارة فيه مضاد لوجود القذارة أو المفسدة الواقعية الحاصلة منه، و هذه المضادة موجبة لمانعية الملاك الأقوى للملاك الأضعف، من غير تقييد وجود أحدهما بعدم الآخر حتى ترجع المانعية إلى الاشتراط بعدم المانع.

و بعبارة أخرى كما أن البياض و السواد مضادان، و يكون وجود كل مانعا عن وجود الآخر من غير اشتراط وجود أحدهما بعدم الآخر و لا مقدمية له بل نفس المضاد موجبة للتمانع، فإذا كان أحدهما أقوى مقتضيا يمنع عن تحقق الآخر، كذلك يتصور ذلك في الملاكات الواقعية فمع تحقق المانع و الملاك المضاد الذي هو أقوى لا يمكن تحقق الممنوع و مع عدم تحققه تقع الصلاة بلا ملاك و باطلة.

و لا يتوهم أن ذلك مستلزم للقول بالاشتغال في الشك في المانع، و هو خلاف مختارك في مباحث البراءة و الاشتغال- قائلا: إن احتمال عدم سقوط الأمر لاحتمال عدم حصول الملاك الواقعي و أخصية الغرض لا يصير حجة على العبد- ضرورة أن ما ذكرناه في مباحث البراءة انما هو في مقام الإثبات و تمامية الحجة، و قلنا أن العقل يحكم بالبراءة مع عدم تمامية حجة المولى، و احتمال بقاء الأمر لأجل احتمال بقاء الملاك لا

يوجب تمامية حجته بعد قيام العبد بما هو حجة عليه، و الكلام هاهنا في الملاكات الواقعية، و تصور المانعية و الشرطية بحسب الثبوت، فلا تناقض بين الكلامين.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 385

ثم أنه بعد تصور المانعية بنحو لا ترجع إلى شرطية العدم لو قام دليل ظاهر في المانعية لا يجوز رفع اليد عنه، و انما نطرح الظاهر إن قلنا بعدم تعقل المانعية، و قد عرفت تعقله.

ثم أن ما ذكرناه من تردد الأمر بين شرطية الطهارة أو عدم القذارة و بين مانعية القذارة الراجعة إلى منع الجمع بينهما انما يصح لو امتنع الجمع بين شرطية الضد و مانعية ضده فيما لا ثالث لهما، و كذا بين شرطية الشي ء و مانعية نقيضه، و إلا لما يبقى مجال للتردد، و لا تتعارض الأدلة لو فرض فيها ما هو ظاهرها الشرطية و ما ظاهرها المانعية، كما لا يخفى.

و التحقيق امتناع ذلك، و عدم إمكان الجمع بين شرطية شي ء و مانعية نقيضه أو ضده الذي لا ثالث له، لأن اشتراط شي ء لماهية المأمور به لا يعقل بحسب الملاكات الواقعية إلا مع دخالته في حاملية الملاك، لئلا يلزم جزافية الإرادة، و كذا لا يمكن تعلق الإرادة بالفاقد مما هو دخيل في تحصيل الملاك، و كذا الحال في تعلق الأمر الواقعي، فحينئذ لو كان عدم النجاسة مثلا شرطا لماهية المأمور به لا يعقل وقوع المانع بين الملاك الواقعي لها مع وجود النجاسة، إذ قد عرفت أن التمانع انما يكون بين الوجودين لا الماهيتين، و أما الشرطية فترجع إلى قيد في الماهية مع عدمه لا تكون حاملة للملاك، و مع عدم الملاك لا يعقل التمانع بين الملاكين.

و بالجملة

الماهية المشروطة بشرط مع فقده لا تكون ذات الملاك و لا متعلقة للإرادة و لا للأمر، و معه لا يعقل التمانع الذي طرفه الوجود بعد تمامية الملاك، هذا كله بحسب التصور و الثبوت.

و أما حال مقام الإثبات و دلالة الأدلة فتتضح بعد التنبيه إلى ما مر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 386

منا من أن الطهارة الخبثية ليست أمرا وجوديا مضادا للقذارة، بل هي عبارة عن خلو الجسم عن القذارات و نقائها عنها، لا بمعنى دخالة هذا العنوان، بل الطهارة عدم تلوث الجسم الموجود بشي ء من القذارات و كونه على حالته الأصلية، فإن الضرورة قاضية بأنه لم يكن في الجسم غير أوصافه الذاتية و العرضية شي ء وجودي هو الطهارة مقابل القذارة، فالطهارة عبارة أخرى عن عدم القذارة، و كذا النظافة، بل الطهارة عن الأخباث المعنوية و الصفات الخبيثة ليست إلا خلو النفس عنها، و أما حصول كمالات مقابلات لها فهي أمور أخر غير الطهارة عنها كما يظهر بالتأمل، و ما ذكرناه هو الموافق للعرف و اللغة، فما ادعى بعض الأعيان من وضوح كون الطهارة ضدا وجوديا للقذارة الخبثية في غير محله، بل مدعي وضوح خلافه غير مجازف.

فحينئذ نقول: لا يعقل شرطية حيثية العدم للماهية المأمور بها لا بحسب الملاكات الواقعية و لا بحسب تعلق الإرادة الجدية و لا بحسب الأوامر المتعلقة بمتعلقاتها، أما الأولى فلعدم إمكان مؤثرية العدم و لو بنحو جزء الموضوع في شي ء و ما يتوهم ذلك في بعض الأمثلة العرفية ناش من الخلط و قلة التدبر، و إلا فما ليس بشي ء أصلا كيف يمكن تأثيره و دخالته في أمر، فإن التأثر و نحوه من الأمور الوجودية لا يمكن

اتصاف العدم به، و من هنا يظهر امتنان تعلق الإرادة و الأمر به، أي بما هو عدم حقيقة، لا بمفهوم العدم الذي هو وجود بالحمل الشائع.

و ما ذكرناه ليس أمرا دقيقا عقليا خارجا عن فهم العرف حتى يقال: إن الميزان في هذه الأبواب هو الفهم العرفي، و بعد امتناع شرطية العدم لا محيص عن إرجاع ما يظهر منه الشرطية إلى مانعية الوجود التي قد عرفت تعقله، مع أن غالب الأدلة ظاهرة في مانعية النجاسة لا شرطية الطهارة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 387

أو عدم النجاسة، كقوله عليه السلام في مكاتبة خيران الخادم في الخمر:

«لا تصل فيه فإنه رجس» «1» و في رواية أبي يزيد القسمي في جلود الدارش: «لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «2» و مثل ما دلت على نفي البأس عن الدم ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم «3» حيث يظهر منها البأس في مقداره، و هو عين المانعية، و ما دلت على نفي البأس عن القذارة فيما لا تتم فيه الصلاة وحدها «4» و ما دلت على إعادة الصلاة مع إتيانها في النجس في الموارد الخاصة «5» و هي كثيرة، و المتفاهم منها عرفا أن النجس موجب للإعادة، بل ما دلت على وجوب الغسل و الإعادة إذا صلى في النجس «6» و هي كثيرة، بل لك أن تتمسك بقوله (ع):

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 71- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(3) كمرسلة جميل بن دراج عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام انهما قالا: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرقا شبه النضح، و إن

كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» راجع لوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(4) كمرسلة حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة فلا بأس» و غيرها من الروايات المروية في الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات.

(5) راجع الوسائل- الباب- 18- 19- 20- 21- 37 40- 41- 42- 43- 44- من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل- الباب- 18- 19- 20- 21- 37 40- 41- 42- 43- 44- من أبواب النجاسات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 388

«لا تجوز الصلاة في شي ء من الحديد فإنه نجس ممسوخ» «1» فإنه يظهر منها كراهة الصلاة في النجس الذي صار ممسوخا، و يستأنس منه عدم الجواز في النجس غير الممسوخ، تأمل.

نعم بإزائها روايات ربما تكون ظاهرة في شرطية الطهارة كقوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلا بطهور» «2» بناء على شمولها للطهارة الخبثية أو ظهورها فيها بقرينة ذيلها، و صحيحة زرارة الثانية «3» من أدلة الاستصحاب، و قوله عليه السلام: «الصلاة ثلثها الطهور» «4» و قوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة إلا من خمس- و عدّ منها- الطهور» «5» و ما عدّ الطهور من فروض الصلاة «6» بناء على أعميته من الطهور عن الخبث. و هو محل إشكال في كثير منها، مع أن قوله عليه السلام مثلا: «لا صلاة إلا بطهور»- بناء على ما تقدم من أن الطهور ليس إلا خلو المحل عن القذارة و كونه على حالته الأصلية- معناه لا صلاة إلا بإزالة القذارة و التطهر

منها، و هو غير ظاهر في شرطية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب لباس المصلي- الحديث 6

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1

(3) الحديث طويل و نحن نشير الى قطعاته راجع الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 2- و الباب- 37- من هذه الأبواب- الحديث 1- و الباب- 7- من هذه الأبواب- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الوضوء- الحديث 8.

(6) كصحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة، فقال: الوقت و الطهور و القبلة» إلخ، راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 389

الطهور، بل غير ظاهر في شرطية الإزالة، بل لا يبعد دعوى ظهورها في أن النجاسة لما كانت مانعة عن الصلاة قال: لا صلاة إلا بإزالتها، و لو نوقش في ذلك فرفع اليد عن مثله أولى من رفع اليد عن الأدلة الكثيرة الدالة على مانعية النجاسة لو لم نقل بتعينه بلحاظ ما تقدم.

فالأقرب أن النجاسة مانعة، لا الطهارة أو ازالة النجاسة شرط، فما قيل من أن إزالة النجاسات واجبة شرطا للصلاة لا يخلو من تسامح.

نعم يجب عقلا إزالتها لمانعيتها عن الصلاة من غير فرق بين الواجبة و المندوبة، لإطلاق الأدلة، و من غير فرق بين أنواع النجاسات، للإجماع المنقول عن جملة من الأصحاب، بل لزومها في الجملة من الواضحات، و النصوص في الموارد الخاصة مستفيضة أو متواترة، بحيث لا يبقى للناظر فيها شك في مانعية مطلق النجاسات بإلقاء الخصوصية عن الموارد المنصوصة من غير احتياج إلى دعوى الإجماع المركب.

بل المستفاد من جملة من الروايات عموم

الحكم لمطلق النجاسات كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، فيردّ عليّ فاغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: صل فيه، و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «1» يعلم منها أن غاية جواز الصلاة فيه العلم بتنجسه، و مقتضى الإطلاق ثبوت الحكم لمطلق النجاسات.

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 390

أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من المني- إلى أن قال-: فان ظننت أنه قد أصابه و لم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت فيه فرأيت فيه، قال: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟

قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، قلت: فاني قد علمت أنه قد أصابه و لم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» إلخ «1» فإن المستفاد منها أن الطهارة عن جميع القذارات لازمة في الصلاة، بل الظاهر من صدرها أن المذكور فيها من قبيل المثال لمطلق النجاسات، و كيف كان فلا إشكال في استفادة حكم مطلق النجاسات منها، إلى غير ذلك مما سيأتي الكلام في بعضها كرواية خيران الخادم.

و من غير فرق بين الثوب و

البدن، للإجماع المتقدم، و لفحوى ما دلت على لزوم إزالتها عن الثوب «2» و للمستفيضة الدالة على إعادة الصلاة على من نسي غسل البول عن فخذه أو جسده أو ذكره أو نسي الاستنجاء فصلى أو دخل في الصلاة «3» و لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلا بطهور، و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و أما

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و الباب- 7- من هذه الأبواب- الحديث 2.

(2) راجع الوسائل- الباب- 8- 16- 19- 42- من أبواب النجاسات.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 18- من أبواب نواقض الوضوء و الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 391

البول فلا بد من غسله» «1» حيث يظهر منها لزوم طهارة البدن بل الثوب عن النجاسات، و سيأتي تتمة لفقه الحديث، و لرواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح أن تصلي المرأة و هو في رأسها؟ قال:

لا حتى تغتسل منه» «2» إلى غير ذلك، و يظهر منها عدم الفرق بين الشعر و غيره، كما أن مقتضى إطلاق ما تقدم كصحيحة زرارة عدم الفرق بين الظفر و الشعر و غيرها.

و من غير فرق بين ما صدق عليه اسم الثوب عرفا أولا إذا كان للمصلي نحو تلبس به، كالقطن و الصوف غير المنسوجين الملفوفين بالبدن و الحصير و الحشيش كذلك، لإمكان دعوى أن الثوب الوارد في الأدلة من باب المثال أو لجري العادة عن السؤال عنه، و لرواية خيران الخادم

الحسنة أو الصحيحة قال: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه، فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فوقع: لا تصل فيه، فإنه رجس» إلخ «3» يظهر من التعليل عدم جواز الصلاة في الرجس مطلقا.

نعم يقع الكلام في هذه الظرفية هل هي للمصلي، فيكون المعنى:

لا يصلي المصلي و هو في رجس، فلا تصدق في مثل الخاتم و السيف و الخف و الجورب و التكة و غيرها مما لا تتم فيها الصلاة، فتكون خارجة تخصصا ضرورة عدم صدق كون الإنسان في الخاتم و السيف و نحوهما مما ليس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(3) مرت في ص 387.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 392

لها نحو اشتمال على البدن كالقميص و الرداء و القباء مما هي صادقة فيها عرفا بخلاف ما قبلها، بل التأويل و الادعاء فيها أيضا لا يخلو من اشكال و نحو ركاكة إلا في بعض الأحيان الذي ليس في المقام منه، أو هي للصلاة بالمعنى المصدري أو حاصلة بنحو من الادعاء و التخيل، فيكون المعنى لا تجعل صلاتك في النجس، و هو نحو ادعاء و اعتبار ليس للعرف تشخيص مراده إلا ببيان من المتكلم و اقامة قرينة على مراده؟

و يمكن دعوى أقربية الاحتمال الثاني بالنظر الى الروايات و موارد الاستعمال في خصوص المقام، لشيوع استعمال الظرفية في مثل الخف و النعل و الجورب و الجرموق و التكة و الكمرة و المنديل و القلنسوة و الفص

و السيف و أشباه ذلك، و قد عرفت أن دعوى ظرفية هذه الأمور للمصلي و لو بنحو من التأويل بعيدة. و أما ظرفيتها لفعل الصلاة و حاصله فمبتنية على نحو اعتبار و ادعاء، فلو قامت قرينة على اعتبار ظرفية تلك الأمور له يتبع بمقدار دلالتها.

و الذي يمكن دعواه أن شيوع استعمال الظرفية فيما يتلبس المصلى بنحو تلبس كالتختم و التقلد و التلبس بنحو التكة و الكمرة و أشباهها يوجب حمل ما يستفاد من الرواية المتقدمة، أي «لا تصل في النجس» على الأعم من الثياب و من مثل هذا النحو من المتلبسات، فالاستعمال الشائع الكثير و المتعارف قرينة على إرادة الأعم، فيكون خروج ما لا تتم فيه الصلاة من قبيل الاستثناء.

و أما إلحاق المحمول بها فلا بد من قيام دليل آخر غير ذلك لعدم الظرفية لا للمصلي، و هو واضح، و لا للصلاة لعدم قيام قرينة عليه بعد عدم تشخيص العرف لإناطته على اعتبار المعتبر، و هو يحتاج إلى قيام القرينة.

نعم لو كان استعمال الظرف في المحمول أيضا شائعا كاستعماله في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 393

الملبوس و ما يتلبس به بنحو ما تقدم كان الإلحاق وجيها، لكن لم يثبت ذلك، بل التعبير في لسان الأدلة سؤالا و جوابا في المحمول و المصاحب خلافه في اللباس و ما يتلبس به.

ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي و هو في جيبه أو ثيابه، فقال: لا بأس بذلك» «1» و نحوها مكاتبة عبد اللّٰه بن جعفر الآتية «2» و في صحيحته الأخرى «سألته عن الرجل يصلي و معه دبة من جلد حمار

أو بغل، قال. لا يصلح أن يصلي و هو معه» «3» و نحوها صحيحته الأخرى «4» و على هذا التعبير ورد في الطير و الدراهم في جملة من الروايات «5» و في المفتاح و السكين «6» إلى غير ذلك.

و أما مرسلة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل و الخفين و ما أشبه ذلك» «7» فلا تدل على استعمال الظرف فيما مع الإنسان أو عليه، بل الظاهر استعمالها فيما يتلبس به المصلي كالأمثلة المذكورة، فإنها مع الإنسان و بعضها عليه، لكن مع نحو من التلبس.

و يشهد له قصر الأمثلة في الملبوسات، فلو كان ما معه مختصا بالمحمول

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1

(2) مرت في ص 95.

(3) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(5) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1 و الباب- 45- منها- الحديث 3.

(6) راجع الوسائل- الباب- 32- من أبواب لباس المصلي.

(7) الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 394

أو الأعم منه كان عليه ذكر مثال له سيما على الأول.

و أما قوله عليه السلام في موثقة ابن بكير: «الصلاة في وبره و روثه و بوله» إلخ «1» و قوله عليه السلام في رواية فارس عن رزق الدجاج: «يجوز الصلاة فيه» «2» فليس في مورد المحمول، بل فيما تلوث اللباس

بها، فاستعمال الظرف باعتبار الصلاة في الثوب المتلوث بها، فتحصل من جميع ذلك عدم صحة الاستدلال بمثل رواية خيران الخادم لعدم صحة الصلاة في المحمول.

و ربما يستدل على المنع فيه بروايات أجنبية عن المقام كمكاتبة عبد اللّٰه بن جعفر الواردة في فأرة المسك و صحيحة علي بن جعفر الواردة في دبة من جلد الحمار و البغل، فإنهما على فرض دلالتهما غير مربوطتين بالمقام، بل ترجعان إلى مانعية الميتة و أجزائها نعم لو كان المراد بالذكي الطاهر كان له وجه، لكنه خلاف ظاهره، و قد مر الكلام في الرواية في نجاسة الميتة «3».

و كرواية رفاعة و فيها «أ يصلي في حنائه؟ قال: نعم إذا كانت خرقته طاهرة» «4» فإن الخرقة إذا كانت نجسة تسري لا محالة إلى البدن، بل لا يبعد صدق الصلاة فيها و في الحناء مع هذا التلبس نحو التلبس بالكمرة و التكة.

و كرواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «إن عليا عليه السلام قال: السيف بمنزلة الرداء تصلي فيه ما لم تر فيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1

(2) مرت في ص 22 و 23.

(3) راجع ص 95.

(4) الوسائل- الباب- 39- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 395

دما، و القوس بمنزلة الرداء» «1» فإنها أيضا مربوطة بما يتلبس به فان المراد منه السيف المتقلد و الصلاة فيه لا المحمول، و لهذا قال عليه السلام: إنه بمنزلة الرداء، و كذا القوس، و لو لا ضعف سندها لما كانت روايات ما لا تتم فيه الصلاة معارضة معها، لحكومتها عليها بواسطة التنزيل منزلة الرداء. فخرج السيف و القوس عما لا

تتم مع أنها أخص من تلك الروايات.

و كرواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «و سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة فتهب الريح فتسقى عليه من العذرة فيصيب ثوبه و رأسه يصلي فيه قبل أن يغسله، قال: نعم ينفضه و يصلي فلا بأس» «2» فإن الظاهر أنه من قبيل المتلبسات التي يصدق معها الصلاة فيه. فان سفي الريح من العذرة على الثوب و الرأس و صيرورتهما مغيرا بما هو نحو الذر يوجب نحو تلبس بالنجاسة يصدق معه الصلاة فيه، فلا تجوز الصلاة كذلك، فلا يستفاد منها حكم المحمول الذي عرفت عدم صدق الصلاة فيه، هذا مع ضعف سندها.

و قد يقال: لا يدل قوله عليه السلام: «ينفضه» على وجوب النفض لجريانه مجرى العادة. و الرواية بصدد بيان نفي الغسل، و فيه ما لا يخفى، سيما إن قلنا بأن المستفاد من قوله عليه السلام: «فلا بأس» أنه جواب شرط، فكأنه قال: إن ينفضه و يصلي فلا بأس.

و بالجملة رفع اليد عن ظاهر الدليل الموافق لارتكاز مانعية النجاسة و لو في الجملة بمجرد احتمال الجري مجرى العادة مما لا وجه له، فالوجه ما ذكرناه، بل مع احتماله لا تدل الرواية على مطلق المحمول بعد

________________________________________

خمينى، سيد روح الهّٰ موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 395

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 57- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 396

كون موردها غيره عرفا.

و يمكن الاستدلال عليه بصحيحة زرارة «لا صلاة إلا بطهور» «1» الشاملة للطهور من الخبث

بدعوى شمولها للمحمول بمناسبة الحكم و الموضوع بأن يقال: إن المصلى المناجي لربه القائم بين يدي الجبار لا بد و أن يكون طاهرا نقيا عن الأدناس و الأرجاس مطلقا في بدنه و ثوبه و مصاحباته كما ربما يستأنس به من رواية العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر بالوضوء و بدء به لأن يكون العبد إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه مطيعا له فيما أمره نقيا عن الأدناس و النجاسة» «2» و مع نجاسة شي ء منها لا تكون الصلاة بطهور ضرورة أن المراد منه مطلق وجود الطهور لا صرف وجوده، و هو لا يتحقق إلا مع كون المصلي طاهرا بجميع ما معه و عليه، هذا.

و لكن الانصاف عدم جواز التعويل على هذه الاستحسانات و الاعتبارات في تعميم الصحيحة للبدن و الثوب فضلا عن المحمول، مع ما نرى من إعمال تعبدات في العبادة بعيدة عن العقول، كجواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه و لو كان متلطخا بالقذارة، و جوازها في الدم القليل غير الدماء الثلاثة، و إجزاء الأحجار في الغائط دون البول مع أقذريته عرفا، فأمثال ما ذكر و غيرها مما هو وارد في باب التعبديات توجب عدم الاتكال بالاعتبارات و المقايسات العقلية، كمقايسة محضر الربّ الجليل بمحاضر أشراف البشر، و أما رواية العلل فلا تكون بمثابة يمكن التعدي عن موردها الذي هو الطهارة عن الحدث إلى غيره.

و أما دعوى أن المراد من الطهور هو مطلق الوجود الشامل للمحمول

______________________________

(1) مرت في ص 388.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 397

فخالية عن الشاهد، نعم الظاهر و لو

بمساعدة فهم العرف مطلق وجوده بالنسبة إلى البدن و عدم الاختصاص بمحل النجو، لكن أسراؤه إلى اللباس فضلا عن المحمول محل إشكال.

و إن شئت قلت: إن كان المراد من قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» أن الصلاة لا بد و أن تكون طاهرة فلا تتصف هي بالطهارة مع أن العقول قاصرة عن إدراك كيفية طهارتها، و ان كان المراد غير ذلك كما أن الأمر كذلك فلا بد من تقدير مثل لا صلاة إلا بطهور بدن المصلي، أو نفس المصلي، أو بدنه و لباسه، أو مع ملابساته، أو مع محموله، و لا طريق إلى إثبات شي ء منها إلا بدنه الذي يدل عليه ذيل الصحيحة، و غاية ما يمكن دعواه هو التعميم بالنسبة إلى ما يصلي فيه، فيكون مساوقا لقوله: «لا تصل في النجس» و هو غير شامل للمحمول الذي كالأجنبي عن الصلاة.

و أضعف مما تقدم أو نحوها التمسك بصحيحة زرارة المعروفة في الاستصحاب، و فيها «فاني قد علمت أنه أصابه و لم أدر أين هو فاغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» «1» بأن يقال: إن انتساب الطهارة إليه دال على لزوم طهارته و طهارة جميع ما عليه و فيه و معه، و فيه ما لا يخفى من الوهن، ضرورة أن الانتساب إلى اللابس انما يكون بنحو من التأويل و الدعوى، و هما في اللباس صحيحان، لأن المصحح هو التلبس، فيصح أن يقال مع نجاسة اللباس: اني نجس، و مع طهارته اني طاهر، دون مثل المحمول، فهل يصح لمن يكون في جيبه سكين نجس أن يقول: اني نجس. أو كان بيده سيف نجس يقول ذلك، بل

لا تصح الدعوى في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 398

بعض الألبسة و الملابسات كالخاتم و السيف المتقلد، مضافا إلى أن فرض صحة الدعوى لا يوجب وقوعها.

فلا تدل الرواية إلا على لزوم طهارة الإنسان و لباسه، لا مطلق متلبساته، فضلا عن محمولاته التي لا يصح إطلاق طهارتك حتى مجازا و ادعاء بالنسبة إليها، فمقتضى الأصل جواز الصلاة مع المحمول النجس من غير فرق بين كونه عين النجاسة أو لا.

قال الشيخ في الخلاف في قارورة مشدودة الرأس بالرصاص فيها بول أو نجاسة: «ليس لأصحابنا فيه نص، و الذي يقتضيه المذهب أنه لا ينقض الصلاة به» و هو كذلك للأصل السالم عن الدليل الحاكم، و قوله بعد ذلك: «و لو قلنا إنه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا» مبني على القول بالاشتغال في الشك في القيود و الموانع، و هو ضعيف، و أما قوله: «و لأن على المسألة الإجماع فإن خلاف ابن أبي هريرة لا يعتد به» فالظاهر منه إجماع القوم بدليل ما تقدم منه، و بدليل استثناء ابن أبي هريرة، و أما احتمال أن يكون مراده الإجماع على القاعدة فبعيد.

بل يمكن الاستدلال على الجواز في عين النجاسة بصحيحة علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام «عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل له أن يقطع الثؤلول و هو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح و يطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله» «1» فان اللحم الذي على الجرح أو حوله ليس مثل الثؤلول الذي ترفضه

الطبيعة بإذن اللّٰه تعالى، و قلنا في محله بعدم نجاسته و عدم كونه ميتة أو في حكمها،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 399

لأن اللحم الفاسد يتبع الجرح مما تحله الحياة، و ذهاب حياته لأجل الفساد لو فرض لا يوجب عدم كونه مما تحله الحياة، فنفي البأس عنه دليل على عدم مانعية المحمول النجس.

و توهم أن قوله عليه السلام: «إن لم يتخوف أن يسيل الدم» كناية عن عدم كونه مما تحله الحياة، و الخوف عن السيلان كناية عما تحله كما ترى، كتوهم عدم صدق المحمول على النتف و الرمي، فإن قلة زمان الحمل لا يوجب نفي الصدق، إلا أن يقال بانصراف الدليل، فيلزم منه الالتزام بعدم مانعية سائر الموانع مع قلته. فيقال بجواز لبس ما لا يؤكل و النجس عمدا و طرحه فورا، و هو كما ترى، مع أن الطرح الذي في لسان السائل ليس به غايته. أي ليس نظره إلى قلة الزمان، بل نظره إلى جواز الأخذ في حال الصلاة، فلا يبعد فهم جوازه و لو مع حفظ القطعة المأخوذة من الرواية، تأمل.

و لك الاستدلال للمطلوب بموثقة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «في الرجل يمسّ أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع؟

أ ينصرف؟ قال: إن كان يابسا فليرم به، و لا بأس» «1» بتقريب أن التفصيل بين الرطب و اليابس دليل على أن الدم لو كان رطبا كان مانعا، فالمفروض فيه ما كان بمقدار غير معفو عنه، و مع ذلك نفى البأس عن يابسة.

إلا أن يقال: إن التفصيل لأجل أنه مع عدم يبسه يمكن أن يسري الى اللباس و البدن

فصار زائدا عن المعفو عنه، دون ما إذا كان يابسا، مضافا إلى بعد كون الدم اليابس المأخوذ بمسّ الأنف زائدا عنه، إلا أن يقال: إن التعرض للفرد النادر لا مانع منه، و حملها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 400

على عدم بيان الحكم الشرعي بعيد.

و كيف كان لا فرق بين عين النجاسة و غيرها، و التفصيل ضعيف لعل منشأه رواية الفارة و الدبة «1» و قد عرفت حالهما، و لو قال أحد بالتفصيل بين عينها و غيرها بعكس ما ذهب إليه المفصل و قال بالعفو في العين كان أوجه، لمكان الروايتين المتقدمتين، لكن الوجه عدم التفصيل.

و لا فرق في المحمول بين ما تتم فيه الصلاة و غيره، و لا وجه للافتراق بينهما إلا بتخيل صدق الصلاة فيه في المحمول مطلقا، و قد خرج ما لا تتم بالأدلة الآتية و بقي غيره، و قد عرفت بطلانه، و إلا توهم دلالة مرسلة عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة «2» عليه، بدعوى أن المراد من قوله: «معه» هو المحمول، و قد فصل فيها بين ما تتم الصلاة فيه و غيره، و قد مر ما فيها فراجع.

ثم أنه لا إشكال نصا و فتوى في الجملة في استثناء ما لا تتم فيه الصلاة منفردا، و قد حكي عليه الإجماع أو الاتفاق في الانتصار و الخلاف و عن السرائر و نسبه في التذكرة إلى علمائنا. و عن المختلف و المدارك نسبته إلى الأصحاب، و عن الذخيرة و الكفاية و شرح الأستاذ لا أعلم في أصل الحكم خلافا بين الأصحاب.

و به يجبر ضعف الروايات سندا و دلالة إن كان ضعف

في دلالة ما هي معتبرة الإسناد، فإنه قد يقال إن الروايات في الباب بين ما ضعيفة دلالة مع اعتبار سندها كصحيحة زرارة أو موثقته عن أحدهما عليهما السلام قال:

«كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء.

______________________________

(1) مرتا في ص 393.

(2) مرتا في ص 393.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 401

مثل القلنسوة و التكة و الجورب» «1» فان في قوله عليه السلام: «عليه الشي ء» إجمالا غير معلوم المراد، كما ان كونه عليه غير متضح المقصود، و بين ما هي واضحة الدلالة غير معتبرة الإسناد كمرسلة إبراهيم «2» و ابن سنان «3» و حماد «4» و كرواية زرارة «5» و حفص بن أبي عيسى «6»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس بالصلاة في الشي ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر مثل، القلنسوة و التكة و الجورب» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل و الخفين و ما أشبه ذلك» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(4) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة فلا بأس» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(5) قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن قلنسوتي وقعت في

بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صلّيت فقال: لا بأس» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(6) قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن وطأت على عذرة بخفي و مسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال:

لا بأس» راجع الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 402

و فقه الرضا «1».

لكن الانصاف عدم ورود الإشكال بشي ء مع استفاضة الروايات و عمل الأصحاب بها قديما و حديثا لا في الأسناد و لا في دلالة الموثقة، فإنه لا يشك أحد في أن المراد قذارة المذكورات لا حمل القذر، لعدم التناسب معها، و لا حمل سائر الموانع، و التشكيك فيه وسوسة، و لهذا لم يعهد من أحد الإشكال فيها من هذه الجهة، فالمسألة لا إشكال فيها إجمالا.

كما أن الحكم عام لجميع مصاديق ما لا تتم سواء كانت من المذكورات أو غيرها، فما عن القطب من الحصر ضعيف، بل لا يبعد عدم استفادة الحصر من عبارته المحكية في مفتاح الكرامة، و نسب ذلك إلى أبي الصلاح و سلار، و لعلهم اقتصروا على مورد اتفاق النص و الفتوى بعد الخدشة في الروايات بما مرت منا، تأمل.

فروع:
الأول- [فيما لا تتم الصلاة فيه مع نجاسته]

يحتمل في بادئ النظر أن يكون المراد من قوله عليه السلام:

«كل ما كان لا يجوز فيه الصلاة وحده» أنه كل ما لا تجوز مطلقا و بنحو السلب الكلي في مقابل جوازها في الجملة و بنحو الإيجاب الجزئي بمعنى أن الموضوع للعفو ما لا تتم الصلاة فيه لا من الرجال و لا من النساء و لا من صغير الجثة و لا كبيرها، فإذا صح الصلاة في الجملة يرتفع العفو،

و أن يكون المراد أنه كل ما لا تجوز في الجملة بنحو السلب الجزئي يكون موضوعا للعفو في مقابل الإيجاب الكلي، فإذا لم تصح

______________________________

(1) سيأتي نقلها و البحث عنها في ص 404.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 403

و لو من مكلف يكون معفوا عنه من جميع المكلفين، و لازمة العفو عن كل ثوب لا يصح الصلاة فيه و لو من النساء للرجال و النساء، و أن يكون المراد ما لا تتم بالقياس إلى صنف الرجال و صنف النساء، فيكون مثل المقنعة و القميص غير معفو عنه للرجال، لجواز صلاتهم فيه منفردا و معفوا عنه للنساء، و أن يكون عدم الإتمام بالقياس إلى أشخاص المكلفين فيكون بعض الثياب معفوا عنه عن صغير الجثة لا كبيرها، وجوه:

أوجهها الأول، لا للأمثلة المذكورة في الروايات، فإنها لا توجب التقييد في موضوع الحكم بصرف كونها من قبيله، نعم يمكن تأييد الوجه الآتي بها، بل لا يبعد أن تكون الأمثلة مرجحة له.

بل لأجل أن الظاهر أن الحكم لطبيعة الصلاة، و عدمها بعدم جميع الأفراد عرفا، كما أن وجودها بوجود فرد ما، فما لا تتم الصلاة فيه انما يصدق إذا لم تتم فيه مطلقا، و إلا فيصدق أنه مما تتم فيه، و هو الموافق لفهم العرف.

ثم الثالث بدعوى أن الروايات متعرضة لحال الرجال كنوع الأحكام المشتركة بينهم و بين النساء، كقوله: رجل شك بين كذا و كذا، لكن العرف بإلقاء الخصوصية يفهم أن الحكم أعم و مشترك بين الصنفين، و مقتضى ذلك أن ما لا تتم الصلاة فيه للرجال تصح صلاتهم فيه مع القذارة، و ما لا تتم للنساء تصح صلاتهن فيه، أو يقال: إن العرف لمّا

علم أن ما لا تتم للرجال مغاير لما لا تتم للنساء لا ينقدح في ذهنه إلا أن لكل صنف حكمه، فكل صنف لا تتم صلاته في شي ء تصح صلاته فيه مع القذارة.

و أما الاحتمالان الآخران فضعيفان سيما الأخير، و الأقوى هو الوجه الأول و إن كان الثاني لا يخلو من قوة، و لو شككنا في ترجيح أحد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 404

الوجهين كان المرجع عموم عدم جواز الصلاة في النجس، لإجمال المخصص المنفصل، و المتيقن منه مورد الأمثلة المذكورة و أشباهها.

الثاني- عن الصدوقين عدّ العمامة مما لا تتم الصلاة فيها،

و هو موافق للفقه الرضوي «1» و ربما يحمل كلامهما على العمامة التي تكون كذلك لصغرها، و قد يقال: إن العمامة بالهيئة الفعلية المعهودة لا تتم فيها، و هو الميزان فيما لا تتم، و إلا لأمكن تغيير القلنسوة أيضا بنحو يتم الصلاة فيها.

و التحقيق أن الظاهر من الروايات أن الثياب على نوعين: منها ما يصدق عليها أنها موصوفة بجواز الصلاة فيها وحدها، و منها ما هي بخلاف ذلك، و الموضوع لجواز الصلاة مع القذارة هو الثوب الذي له هذا الوصف العنواني من غير لحاظ كونه على المصلي و لا لحاظ إتيان الصلاة معه فعلا، فالقلنسوة متصفة فعلا بأنها ما لا تجوز الصلاة فيها وحدها، سواء صلى فيها مصل أو لا، و الرداء متصف بجواز الصلاة فيه صلى فيه مصل أو لا، و العمامة من الثياب التي تتصف بالوصف العنواني، أي جواز الصلاة فيها بأية هيئة كانت. كما ان الرداء كذلك

______________________________

(1) عن فقه الرضا عليه السلام: «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه،

و ذلك أن الصلاة لا تتم في شي ء من هذه وحده» المستدرك- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 1، و فيه- مع أنه ضعيف السند بل في كونه رواية كلام- أن ما يظهر من التعليل الوارد في ذيله أن الأشياء المذكورة كانت من مصاديق عنوان ما لا تتم الصلاة فيه وحده، فيحمل قوله: «أو عمامتك» على العمامة التي تكون كذلك.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 405

كان ملفوفا أو لا.

و بالجملة لم يلحظ في الثياب هيئة فعلية، بل الملحوظ نفس الثياب و لا شبهة في أن العمامة كالمئزر في صدق جواز الصلاة فيها.

فما قد يقال: إن الروايات لو لا الأمثلة المذكورة لا يبعد دلالتها على قول الصدوق، لظهورها في أن المدار جواز الصلاة فيها وحده بالفعل لا بالفرض، غير وجيه لأن الظاهر منها النظر إلى ذات الثياب لا هيئاتها فكما أن الرداء بذاته يصدق عليه جواز الصلاة فيه و لو كان ملفوفا كذلك العمامة، فهي قطعة كرباس مثلا يجوز الصلاة فيها، أي يمكن جعلها ساترا، و هو ثابت لها بأية هيئة كانت.

فلو لوحظ فعلية جواز الصلاة فيها حقيقة لا يصدق ذلك على شي ء إلا مع جعله مئزرا بالفعل، و اعتبار ذلك- مع كونه خلاف الضرورة للزوم البناء على العفو عن سائر الألبسة عدا الساتر الفعلي- خلاف المتفاهم من الروايات.

و بالجملة الجواز الفعلي لا يصدق إلا مع فعلية التلبس و التستر به و هو غير مقصود بالبداهة، و الوصف العنواني صادق حتى مع لفّه و كونه على هيئة العمامة، و أما النقض بالقلنسوة بأنه يمكن تغيرها بنحو يجوز الصلاة فيها فهو كما ترى.

الثالث- [الملابس المتنجسة المعفو عنها في الصلاة]

اعتبر العلامة و جمع آخر منهم الشيخ الأعظم أن تكون

الملابس المعفو عنها في محالها مدعيا أنه المتبادر من إطلاق النص و معاقد الإجماعات، فلو شد تكته في وسطه أو حملها على عاتقه لم تجز الصلاة أقول: أما لو أخذها من محالها و حملها من غير تلبس فعدم الجواز مبني على عدم جواز حمل المتنجس، و قد مرّ جوازه، و أما مع التلبس بها في غير محلها فالظاهر أيضا الجواز، لأن الظاهر من الروايات أن ماله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 406

هذا الوصف العنواني لصغره يكون تمام الموضوع لجواز الصلاة فيه من غير دخالة شي ء آخر فيه، و لم يلحظ فيها حال الصلاة و المصلي فعلا حتى يقال: إن المتبادر تلبسه بها في محلها.

و توهم أن الحكم مبني على العفو- كما هو ظاهر تعبير الفقهاء، و هو مناسب لكون تلك الألبسة في محلها، و بالجملة معنى العفو ان المقتضى للمنع موجود لكن مصلحة التسهيل على المكلف أوجبت العفو عنها فيقتصر على ما إذا كانت في محلها- مدفوع أولا بأن لا إشعار في شي ء من روايات الباب بالعفو، و لم يتضح من تعبير بعض الفقهاء بذلك أن يكون مراده وجود الاقتضاء فيها، بل الظاهر جريانه مجرى العادة، و تبعا لذكر دم الجروح و القروح الذي يظهر من نفس الواقعة فيه العفو، فدعوى العفو في المقام بهذا المعنى خالية عن الشاهد، و ثانيا لو فرض العفو لكن لا يلزم منه رفع اليد عن ظاهر الرواية و إطلاقها، و دعوى الانصراف ممنوعة، و إلا فلقائل أن يدعي الانصراف في دليل المنع أيضا فالأقوى عدم الفرق بين كونها في المحال و عدمه.

الرابع- [الفرق بين ما تتم و ما لا تتم فيه الصلاة]

بناء على عدم جواز حمل المتنجس لا فرق بين ما تتم فيه

الصلاة و غيره إن قلنا باستفادة عدم جوازه من غير ما دل على عدم جواز الصلاة في النجس كصحيحة زرارة «1» و غيرها، و منعنا صدق الصلاة فيه بالنسبة إلى المحمول، لأن أدلة التجويز انما أجازت فيما لا تتم الصلاة فيها إذا كانت قذرة، و المحمول خارج عنه فرضا، نعم لو قلنا بصدق الصلاة فيه و قلنا باستفادة حكمه من الكبرى الدالة على عدم جواز الصلاة في النجس فمقتضى أدلة العفو التفصيل في المحمول أيضا كالتفصيل في الملبوس.

______________________________

(1) مرت في ص 388.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 407

الخامس- [لا فرق في العفو عما لا تتم فيه الصلاة بين النجاسات]

قيل مقتضى إطلاق النص و الفتوى عدم الفرق في العفو بين النجاسات التي من فضلات غير مأكول اللحم أو غيرها، و كذا عدم الفرق بين ما يكون ما لا تتم من أعيان النجاسات كالخف المتخذ من جلد الميتة و القلنسوة المنسوجة من شعر الكلب و الخنزير أو غيرها.

أقول: ما هو المناسب بالبحث عنه هاهنا هو حيثية إطلاق نصوص العفو لما ذكر، و أما البحث عن أدلة عدم الجواز فيما لا يؤكل أو في الميتة و نجس العين و مقدار دلالتها و معارضتها فهو موكول إلى محل آخر.

و الظاهر عدم الإطلاق في الأدلة، أما غير «1» موثقة زرارة فلأن الظاهر منه هو العفو من حيث النجاسة لا الموانع الأخر، و لهذا لا يتوهم إطلاقها لما إذا كان ما لا تتم مغصوبا، و بالجملة إطلاق العفو عن النجس حيثي لا يقتضي رفع مانعية أخرى تكون مستقلة في المانعية كغير المأكول و الميتة بناء على مانعيتها من غير جهة النجاسة، و أما الموثقة فلأن قوله عليه السلام: «بأن يكون عليه الشي ء» ليس له إطلاق، بل الظاهر

أنه إشارة إلى شي ء خاص، و إلا لقال: «عليه شي ء» منكرا، و هو إما القذر كما هو الظاهر و لو بقرينة سائر الروايات أو مجمل لا يدل على المقصود.

فصل: لا إشكال نصا و فتوى في العفو عن دم القروح و الجروح

في الجملة و عليه الإجماع في محكي الخلاف و الغنية و غيرهما، لكن عبارات القوم

______________________________

(1) مر في ص 401.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 408

مختلفة في اعتبار الدوام و السيلان و عدمه، و مشقة الإزالة و عدمها، و وجوب التقليل و عدمه، و وجوب إبدال الخرقة مع الإمكان و عدمه. و العفو لو ترشرش عليه من دم غيره و عدمه، و وجوب العصب و عدمه، و أن الغاية هي الاندمال أو قطع الدم، الى غير ذلك.

و قبل الورود في أصل المسألة لا بأس بذكر أمر يبتني عليه بعض فروعها، و يترتب عليه ثمرات في غير المقام، و هو أنه بعد ما فرغنا فيما سلف عن أن النجاسة مانعة عن الصلاة لا أن الطهارة شرط فيها يقع الكلام في المانع و كيفية مانعيته، بمعنى أن المانع هل هو عنوان النجس الجامع بين أنواع النجاسات، فيكون المانع شي ء واحد هو النجس، أو كل نوع من أنواعها مانع مستقل بنحو تمام الموضوع أو بعضه، فيكون المني بعنوانه مانعا، و البول كذلك بناء على تمام الموضوعية، أو المني أو البول النجسين كذلك بناء على جزء الموضوعية؟ و على أي تقدير هل يكون المانع بعنوان صرف الوجود أو الطبيعة السارية.

و لوازم الصور معلومة، فإنه إن كان المانع النجس الجامع بعنوان صرف الوجود لو اضطر المكلف إلى بعض النجاسات في صلاته لا يجب التطهير من سائر الأنواع و لا تقليل ما يضطر إليها، بخلاف ما لو كان

بالوجود الساري فيجب عليه التطهير و التقليل، و كذا الحال بالنسبة إلى كل نوع لو قلنا بمانعيته مستقلا أو بنحو جزء الموضوع، فان قلنا بمانعية كل نوع بنحو صرف الوجود فإذا اضطر الى ارتكاب نوع منها لا يجب تقليله، لكن يجب تطهير سائر الأنواع غير المضطر إليها بخلاف ما إذا كان بنحو الوجود الساري، فإنه يجب عليه التقليل و التطهير، و يمكن أن يكون الاعتبار في بعض الأنواع بنحو صرف الوجود و في بعضها بنحو الوجود الساري، و لوازمه معلومة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 409

هذا بحسب، مقام الثبوت، و أما بحسب مقام الدلالة و الإثبات فيمكن أن يستدل برواية خيران الخادم المتقدمة «1» على أن المانع هو النجاسة بعنوانها بأن يقال: إن قوله عليه السلام: «لا تصل فيه- أي في الثوب الذي أصابه الخمر- فإنه رجس» يدل على أن تمام الموضوع لعدم جواز الصلاة هو الرجس من غير دخالة الخمر فيه، لا بنحو تمام الموضوع و لا جزئه.

و مقتضى عموم العلة أن النجس بعنوانه مانع في جميع أنواع النجاسات، و مع مانعية النجاسة التي هي صفة زائدة على الذات لازمة لها لا يكون المانع ذات العناوين، و إلا نسبت المانعية إليها، لأولوية الانتساب إلى الذات من الانتساب إلى الصفة الزائدة أو تعينه، فالانتساب الى الرجس بعنوانه الظاهر في أنه مانع دليل على أن لا مانعية لذوات العناوين، و لا دخالة لها رأسا.

و تدل عليه صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الثوب الذي يستعيره الذمي، و فيها «و لا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «2» و يدل عليه أيضا بعض ما ورد

في ما لا تتم الصلاة فيه «3».

و كذا يمكن الاستدلال برواية خيران الخادم على أن المانع هو الطبيعة السارية، بأن يقال: إن النهى إذا تعلق بطبيعة يكون ظاهره الزجر عن تلك الطبيعة، و لازمة العرفي مبغوضيتها بأي وجود تحققت به،

______________________________

(1) مرت في ص 387.

(2) مرت في ص 389.

(3) راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- و الباب- 14- من أبواب لباس المصلي.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 410

بخلاف الأمر كما حقق في محله، هذا في الأوامر و النواهي النفسيتين، و كذا الحال في الارشاديتين مثل المقام، فإن النهي عن الصلاة في النجس و إن كان إرشادا إلى مانعيته، لكن ليس معناه أنه مستعمل في عنوان المانع بحيث يكون معنى لا تصل في النجس أن النجس مانع حتى يتوهم ظهوره في صرف الوجود على تأمل فيه أيضا، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له، أي الزجر عن الصلاة في النجس، لكن المتفاهم العرفي من الزجر الكذائي هو أنه لمانعية النجس، لا للمبغوضية النفسية.

و لا ريب في أن الزجر عن الصلاة في النجس كالزجر عن شرب الخمر لازمة الزجر عن الطبيعة بأي وجود وجدت، و لازمة مانعيتها لجميع أنحاء تحققها.

و تدل عليه في الجملة رواية أبي يزيد القسمي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف، قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «1» و يتم المطلوب بعدم الفصل جزما، بل يمكن أن يقال: إن المتفاهم من التعليل و لو بضميمة الارتكاز أن خرء الكلاب لنجاسته منهي عنه، بل لا ينبغي الشك فيه بعد دلالة الأدلة المتقدمة على أن المانع هو القذارة لا العناوين الذاتية،

فيصير مفادها كرواية خيران.

و منه يعلم الوجه في دلالة موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل» «2» بالتقريب المتقدم، سيما مع إشعار به في نفسها.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب مانعية الطبيعة السارية،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 71- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 411

لكن مع ذلك لا تخلو من إشكال بل منع، لأن الظاهر من تلك الروايات تعلق النهي بطبيعة الصلاة بمعنى أن المنهي عنه هو الصلاة في النجس أو ثوب أصابه الخمر، و لازمة بالتقريب المتقدم النهي عن جميع مصاديق الصلاة في النجس، لا في جميع مصاديق النجس، فقوله عليه السلام: «لا تصل في وبر ما لا يؤكل» على فرض الانحلال أو على التقريب المتقدم هو النهي عن إيجاد المكلف الصلاة مطلقا و بأي مصداق منها في وبر ما لا يؤكل، لا عدم التلبس بأي مصداق من الوبر، ضرورة أن ما يقال في الانحلال أو ما قلنا في لازم النهي انما هو في الطبيعة التي جعلت تلو النهي و صارت منهيا عنها، و هي الصلاة في الوبر على أن يكون ظرفا لها.

فتحصل من ذلك أن المتفاهم من الروايات مانعية النجس عن كل صلاة، لا مانعية كل مصداق منه عن الصلاة، مضافا الى الفرق بين النواهي النفسية و الإرشادية. فإن وقوع جميع مصاديق الطبيعة في الأولى على صفة المبغوضية الفعلية لا مانع منه، بخلاف الثانية، لعدم إمكان اتصاف المصداق الثاني بالمانعية الفعلية مع اتصاف المصداق المتقدم بها فلا بد من الالتزام بالمانعية الشأنية أو

التقديرية، و هو خلاف ظاهر الأدلة، و لا يرد النقض بالموانع الأخر من غير سنخ النجاسة، لأن الأدلة في كل نوع غير ناظرة إلى حال الأدلة الأخرى، فضلا عن حال تقدم بعض المصاديق و تأخرها.

و هذا بخلاف الدليل الواحد الظاهر في النهي الفعلي عن الصلاة في النجس الظاهر في فعلية المانعية، و هي تناسب مانعية صرف الوجود و لهذا يمكن دعوى ظهور الأدلة في مانعية صرف الوجود من النجس لطبيعة الصلاة السارية، و لو نوقش في هذا الأخير فلا أقل من عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 412

دلالة الروايات على مانعية الوجود الساري بما تقدم.

نعم لرواية أبي يزيد القسمي نوع إشعار به لا يبلغ حدّ الظهور و الدلالة مع ضعف سندها جدا، كالاشعار في صحيحة علي بن جعفر الواردة في الثؤلول و الجرح «1».

و أما صحيحة الحلبي «2» و موثقة ابن سنان «3» الواردتان في كيفية غسل الجرح فلا ينبغي توهم الاشعار فيهما فضلا عن الدلالة، مع انهما غير واردتين في الصلاة، فتحصل مما ذكر عدم الدليل على أن المانع هو الوجود الساري للنجاسة.

بل يمكن الاستدلال بجملة من الروايات على عدم مانعيته، مثل ما وردت في جواز الصلاة في ثوب النجس مع تعذر الإزالة، كصحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره، قال: يصلي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «4» و نحوها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه «5» و غيرها.

و كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم، يصلي فيه أو

يصلي عريانا؟ قال: إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 63- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «سألته عن الجرح كيف يصنع به في غسله؟ قال: اغسل ما حوله» و نحوها موثقة ابن سنان، راجع الوسائل- الباب- 24- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(3) راجع الوسائل- الباب- 24- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(4) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 413

صلى فيه، و لم يصل عريانا» «1» فان عدم الأمر بفرك المني و الدم عن الثوب مع أن لهما عينا قابلة له، سيما الثوب الذي كله أو نصفه دم دليل على عدم لزوم فركهما و تقليلهما، و لازمة كون المانع صرف الوجود لا الساري منه.

و منها ما وردت في المقام: أي دم القرح و الجرح، كصحيحة أبي بصير قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السلام و هو يصلي، فقال قائدي: إن في ثوبه دما فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما، فقال: إن بي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» «2» و موثقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الجرح يكون في مكان لا يقدر ربطه فيسيل منه الدم و القيح فيصيب ثوبي، فقال: دعه فلا يضرك أن لا تغسله» «3» و صحيحة ليث المرادي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

الرجل يكون به الدماميل و القروح فجلده و ثيابه مملوءة دما و قيحا و ثيابه بمنزلة جلده، فقال: يصلي في ثيابه و لا

يغسلها، و لا شي ء عليه» «4».

و رواية سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ و ينقطع الدم» «5» إلى غير ذلك، فإن أقرب الاحتمالات فيها هو أنه بعد الابتلاء بالدم زائدا على المقدار المعفو عنه و حرجية غسل الدماميل نوعا أو شخصا لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 22 من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(5) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 414

يكون الدم في الثوب و البدن مانعا عن الصلاة.

و أما احتمال حرجية غسل الثوب نوعا أو شخصا فواضح البطلان سيما إلى أن يبرأ القرح و الجرح، ضرورة أن البرء و الاندمال تدريجي التحقق، و قبله يوما أو أزيد لا يكون الدم سائلا و لا تعويض الثوب أو غسله حرجيا لا نوعا و لا شخصا، فعدم لزوم الغسل و التعويض إلى زمان البرء إما للعفو عن المانع بعد فرض مانعية الطبيعة السارية، أو لعدم مانعية الزائد عن صرف وجود الزائد عن مقدار الدرهم بعد الابتلاء به و حرجية غسله، و العفو مع فرض المانعية بلا جهة موجبة له من الحرج نوعا أو شخصا بل مع سهولة التعويض كما هو كذلك نوعا بعيد في نفسه، بل عن سوق الروايات، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «لا يضرّك» و قوله عليه السلام: «لست اغسله حتى تبرأ» لا يبعد أن يكون عدم اقتضائه للمانعية، لا العفو عن المقتضي، بل اقامة الدليل على

أن المانع صرف الوجود غير لازمة، و عدم الدليل على مانعية الطبيعة السارية كاف بعد جريان الأصل أو الأصول.

نعم يمكن ان يستدل لمانعية الطبيعة السارية بموثقة سماعة قال:

«سألته عن الرجل به الجرح و القرح فلا يستطيع ان يربطه و لا يغسل دمه، قال: يصلي، و لا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة واحدة، فإنه لا يستطيع ان يغسل ثوبه كل ساعة» «1».

و رواية محمد بن مسلم عن مستطرفات السرائر قال: «قال:

إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها و لا حبس دمها يصلي و لا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة» «2» بدعوى ان الظاهر منهما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 4- الطبعة الحديثة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 415

لزوم غسل الثوب مرة في اليوم. و لو لا مانعية الطبيعة السارية لما كان وجه للزومه، بل الظاهر من تعليل الأولى أن عدم لزوم الغسل زائدا على مرة واحدة لعدم استطاعته، و إلا فالمقتضي له محقق، و هو لا يتم إلا مع مانعية الوجود الساري.

و فيه أن دلالتهما على ما ذكر فرع لزوم الغسل في اليوم مرة واحدة و لا يمكن الالتزام به، إما لإعراض الأصحاب عن ظاهرهما و عدم الإفتاء بهما، و إما لأن مقتضى الجمع بينهما و بين ما تقدم حملهما على الاستحباب ضرورة عدم إمكان حمل صحيحة أبي بصير المتقدمة على غسل أبي جعفر عليه السلام ثوبه كل يوم مرة، فإنها ليست من قبيل المطلق القابل للتقييد، بل هو إخبار منه عن عدم غسله إلى زمان البرء، فاللازم حملهما على الاستحباب، فيكون التعليل لأمر استحبابي لا

لزومي، فدلت الأولى على أنه لو كان مستطيعا لكان الراجح عليه الغسل لا اللازم و هو لا يتم إلا بما ذكرناه.

لكن لازم ما ذكرناه أمر لا يمكن الالتزام به لمخالفته لارتكاز المتشرعة، بل من البعيد التزام أحد من الأصحاب به، و هو عدم مانعية سائر النجاسات عن الصلاة بعد ابتلاء المكلف بواحدة منها، فيقال فيما نحن فيه لا يكون البول و المني و غيرهما مانعة، و يجوز للمكلف الصلاة مع التلوث بها عمدا، و الالتزام به في النوع غير المبتلى به غير ممكن، و أما في المبتلى به فليس بذلك البعد، كما هو مورد الروايات المتقدمة في الدم و المني.

و قد التزم به في الجملة بعضهم مدعيا عليه الإجماع، قال في مفتاح الكرامة و في نهاية الإحكام و المنتهى: لو ترشرش عليه من دم غيره فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 416

عفو، و نقله الأستاد الآقا أيده اللّٰه تعالى عن بعض من قرب زمانه، و ردّه بالإجماع على عدم الفرق بين الدمين، و بمطلقات أخبار العفو.

و إليه أشار في المبسوط، حيث قال: «و ما نقص «1» عنه من سائر الحيوان» انتهى، و عن المدارك تقريب ثبوت العفو إن أصاب الدم ماء فأصاب الماء الثوب، و عن الذكرى تقويته، نعم عن شرح الأستاد دعوى الاتفاق على عدم العفو إن أصاب الدم نجاسة خارجية، فالتفصيل بين النوع المبتلى به و غيره غير بعيد، و إن كان الاحتياط سيما في بعض الفروع لازم المراعاة.

إذا عرفت ذلك فالمحتملات في باب دم القرح و الجرح كثيرة، ككون الحكم مطلقا في نفس القروح و الجروح و ما يتلوث بدمهما دائرا مدار الحرج الشخصي، فلا يكون في

الباب تعبد خاص، و يكون مما قال فيه أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه» «2» أو الحرج النوعي، فيكون التعبد في المقام لأجله، أو كون حكم نفس القرح و الجرح دائرا مداره شخصا أو نوعا دون الثياب و ما يتلوث بالدم، فلا يكون فيهما مانعا كما تقدم. أو يكون معفوا عنه على فرض المانعية، أو كون حكم نفسهما العفو مع الاستمرار و اللزوم أو مطلقا مع فرض عدم المانعية في غيرهما أو العفو، أو كون الحكم فيهما و ما يتلوث بدمهما مبينا على العفو إما مطلقا أو مع الاستمرار.

و الاستمرار أينما يعتبر يمكن أن يكون المراد منه الاستمرار الفعلي في جميع الأوقات، أو شأنيته أي تكون له مادة قابلة لدفع

______________________________

(1) في مفتاح الكرامة «نقص» بالقاف و الصاد المهملة، و لعله بالفاء و الضاد المعجمة (منه دام ظله).

(2) راجع الوسائل- الباب- 39- من أبواب الوضوء- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 417

الدم و جريانه، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

ثم أن بعضها مقطوع الفساد بحسب مفاد الأدلة كالاحتمالين الأولين ضرورة عدم حرجية غسل الثياب أو تبديلها إلى زمان البرء لا شخصا و لا نوعا، و بعضها مبني على عدم مانعية الدم بطبيعته السارية، و قد مرّ الكلام فيه، و الأولى عطف الكلام إلى بعض الاحتمالات المعتد بها.

منها أن موضوع العفو هل القرح و الجرح إذا كان غسلهما حرجيا بمعنى أنه مع حرجية غسلهما يعم العفو الثياب و غيرها مما يتلوث به عادة مطلقا حرجيا كان غسلهما أو لا؟ فنقول بناء على مانعية الطبيعة السارية لا بد في رفع اليد عن دليل المانعية من دليل، و

الظاهر قصور الأدلة عن افادة العفو عن مطلق دم القروح و الجروح، و المتيقن منها ما يلزم منه الحرج.

أما صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام فمع كون قضية شخصية و لم يتضح أن دماميله عليه السلام على أية كيفية أن الظاهر أن الدماميل مع كثرتها يعسر عادة غسلها، و يكون تطهيرها حرجيا و لو نوعا سيما في اليدين، بل لا يبعد أن يكون الدمل غير مطلق الجراح عرفا، بل ماله مادة معتد بها، و كيف كان لا يستفاد منها العفو عن مطلق القروح.

و في موثقة سماعة يكون عدم استطاعة الغسل مفروضا، و المراد منه غسل نفس الجرح و القرح، لا غسل الدم عن الثوب، كما يظهر من الجواب، أو غسل جميع الدم الحاصل منهما باعتبار عدم إمكان غسلهما و في موثقة عبد الرحمن كان المفروض سيلان الدم و القيح، و غسل مثله في معرض الضرر، و يكون فيه الحرج و لو نوعا، مع أن قوله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 418

«لا يقدر على ربطه» دال على احتياجه إلى الربط، و مثله يكون معتدا به، و غسله حرجي نوعا.

و المفروض في صحيحة محمد بن مسلم «1» انها لا تزال تدمى، و غسل مثلها حرجي بلا شبهة، و كذا مورد صحيحة ليث المرادي، و كذا ظاهر «جرح سائل» في رواية سماعة، و رواية عمار مع ضعفها بعلي ابن خالد ظاهرة فيما يكون معتدا به، فان الانفجار لا يصدق إلا مع مادة كثيرة معتد بها، فيكون غسله حرجيا.

فتحصل من ذلك اعتبار الحرج النوعي في غسل نفس الجرح و القرح لكن لا بمعنى دوران الحكم مدار الحرج حتى لزم منه وجوب الغسل

عند قرب الاندمال. لعدم الحرج فيه نوعا، بل بمعنى أن المعتبر كونهما على وجه يكون غسلهما و لو في زمان طغيانهما حرجيا، فحينئذ يكون الدم مطلقا معفوا عنه، و لو في زمان لا يكون الغسل حرجيا و الثوب كذلك، و توهم أن ذلك مستلزم للعفو عن مطلق الجرح و القرح لعدم الفرق بين ما هو قريب بالاندمال و ما هو في رتبته مدفوع بكونه قياسا ممنوعا.

و منها أن الاستمرار هل هو معتبر أم لا؟ لا شبهة في أن الاستمرار الفعلي و عدم الفتور في جميع الأوقات غير معتبر كما هو ظاهر النصوص فان الظاهر من صحيحة أبي بصير أن الغاية لعدم وجوب الغسل هي البرء، و معلوم أنه تدريجي الحصول، و ينقطع الدم و سيلانه قبله بيوم

______________________________

(1) عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمى، كيف يصلي؟ فقال: يصلي و إن كانت الدماء تسيل» راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات.

الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 419

أو أيام حسب اختلاف الدماميل.

و أما رواية سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ و ينقطع الدم» «1» فالظاهر أن البرء غاية لا الانقطاع، و ذكره جار مجرى العادة لكونه لازم البرء، فلا يظهر منه القيدية «2» و ليس المراد بقوله عليه السلام: «جرح سائل» السيلان الفعلي في كل زمان، بل المراد الذي له مادة سائلة يسيل منه الدم دفعة بعد دفعة، و إلا فليس في الجروح ما يكون دائم السيلان فعلا الى زمان البرء، هذا مضافا إلى عدم المفهوم للقيد و لا

للشرطية، لكونها محققة للموضوع.

و لا يراد من قوله في صحيحة ابن مسلم: «فلا تزال تدمى» السيلان الدائمي الفعلي، لما عرفت، مع أنه في السؤال لا في كلامه عليه السلام «3» و بالجملة اعتبار السيلان الفعلي ضعيف.

______________________________

(1) مرت في ص 413.

(2) يمكن أن يستشهد عليه بقوله عليه السلام في صحيحة أبي بصير «و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» حيث اقتصر بذكر البرء من دون تعرض للانقطاع، فإذا كان الانقطاع غاية لا يحسن الاكتفاء بذكر البرء، مع أنه الأعم منه، و عليه فالمراد بالانقطاع هنا البرء، لأنه يلازمه، و بهذا يظهر الجواب عما قيل من أن عطف العام على الخاص يشعر بأن المراد بالخاص هو العام، تأمل.

(3) بل يمكن أن يستفاد من الجواب و هو قوله عليه السلام:

«يصلي و ان كانت الدماء تسيل» عدم اعتبار السيلان، بدعوى أن التعبير بأن الوصيلة يقتضي ذلك، فيكون المفاد هكذا: أن الدم الذي يسيل معفو عنه، فكيف إذا لم يكن كذلك تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 420

نعم المتيقن من مورد الروايات كونهما داميتين، بمعنى ان يكون لهما مادة معتد بها يكون لها شأنية السريان و الإدماء، فتكون صاحبة الدم و المادة، فلا يشمل العفو مطلق الدماميل، و هذا هو المراد من الجرح السائل، و من قوله: «لا تزال تدمى» و لا إطلاق في الباب يشمل غير الداميات و السائلات بالمعنى المتقدم.

أما صحيحة أبي بصير فواضح، لكون القضية شخصية، مع أن خروج الدماميل ملازم نوعا لشأنية السيلان و كونها ذا مادة قابلة له سيما في الأبدان السمينة البدينة، و ظاهر موثقة سماعة ذلك، لأن ما يحتاج الى الربط ملازم لها، و كذا الحال في سائر الروايات حتى

رواية عمار، لأن الانفجار لا يقال إلا في ماله مادة سائلة.

ثم أنه بناء على مانعية النجاسات بطبائعها السائلة لا يكون سائر النجاسات معفوا عنها إذا أصابت الدم المعفو عنه، حتى دم نفسه فضلا عن دم غيره فضلا عن سائر النجاسات، بل الظاهر عدم العفو عن الماء الواصل بهذا الدم فتنجس به، نعم الرطوبات الملازمة للقرح و الجرح كالعرق و القيح و كذا الدواء الموضوع عليهما معفو عنها.

و لو شك في دم أنه من القروح أو لا فالأحوط عدم العفو، و إن كان العفو لا يخلو من وجه، لأن المانع عن الصلاة ليس مطلق الدم، بل الدم المسفوح، و قد خرج منه ما سفح بالجرح و القرح، فصار الموضوع بحسب الواقع و اللّب الدم المسفوح، لا عنهما على نحو القضية المعدولة، أو الدم الذي لا يكون مسفوحا منهما على نعت القضية الموجبة السالبة المحمول، و لا حالة سابقة لهما، و استصحاب العدم الأزلي لإثبات القضية على أحد النحوين مثبت، كاستصحاب عدم خروجه منهما أو استصحاب كون هذا الدم غير خارج منهما أو لم يكن خارجا منهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 421

فان هذه العناوين ليست موضوعة للحكم، بل الموضوع الدم المسفوح بالقيد المتقدم، و تلك الاستصحابات لا تثبته إلا على الأصل المثبت، و التفصيل موكول إلى محله.

فصل: و عفي عن قليل الدم

غير ما استثني يكون في الثوب بلا إشكال، و حكي عليه الإجماع مستفيضا، و هو العمدة في إطلاق الحكم، و إلا فربما يمكن المناقشة في دلالة الروايات و إطلاقها بالنسبة إلى العالم العامد.

أما صحيحة ابن أبي يعفور «1» فموردها الناسي، و دعوى فهم عدم المانعية مطلقا بإلقاء الخصوصية ممنوعة بعد اختلاف الحكم في الناسي

و غيره في موارد، فمن الجائز اختصاص العفو به في الدم القليل.

و أما رواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«في الدم يكون في الثوب: إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة» «2» فمع ضعفها سندا أن الظاهر أن مقول قول أبى جعفر عليه السلام قوله:

______________________________

(1) في حديث قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله و يعيد الصلاة» الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 422

«إن كان أقل» إلخ، و لم يذكر الجعفي خصوصيات السؤال، و يظهر من الجواب أن سؤاله كان فيمن صلى مع الدم، و لم يتضح أنه كان مختصا بالناسي أو العامد أو الأعم، و مجرد عدم ذكره لا يدل على الأعم، و احتمال كون قوله: «في الدم يكون في الثوب» من أبي جعفر عليه السلام بعيد، بل غير مناسب لابتداء الكلام.

نعم يمكن أن يقال: إن قوله عليه السلام: «و إن كان أكثر» قرينة على أعمية السؤال و الجواب في الدم الأقل، لكنه محل إشكال و تأمل، بل الظاهر من قوله عليه السلام: «و كان رآه» إلخ أن رؤيته السابقة صارت موجبة للإعادة، و هو مخصوص بالناسي، و بالجملة

في دلالتها على العفو مطلقا تأمل، فتأمل.

كدلالة مرسلة جميل عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام أنهما قالا: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرقا شبه النضح، و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» «1» فإنه- مع ضعف سندها بعلى بن حديد، و مجرد أن الراوي منه أحمد بن محمد بن عيسى، و هو كان يخرج من «قم» من يروي عن الضعفاء و يعتمد المراسيل لا يوجب وثاقة الراوي و هو ظاهر، و لا موثقية الصدور، لاحتمال اتكاله على أمر لم يكن عندنا معتمدا عليه، كما أن كون المرسل جميلا و هو من أصحاب الإجماع لا يوجب اعتبارها، لعدم دليل مقنع على ما ذكروا في أصحاب الإجماع و قد مرّ شطر من الكلام فيهم في باب العصير- يمكن المناقشة في دلالتها، لاحتمال كون «إن» في قوله عليه السلام: «و إن كان» إلخ وصلية و قوله عليه السلام: «فلا بأس» أعيد للفصل الطويل بينه و بين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 423

سابقه، و للتوطئة للقيد المذكور: أي قوله عليه السلام: «ما لم يكن مجتمعا» إلخ، فيكون التالي للوصلية أخفى الأفراد، و لو كان العفو مطلقا حتى بالنسبة إلى العامد كان حق العبارة غير ما ذكرت.

فعلى الوصلية تدل الرواية على العفو بالنسبة إلى من رأى فنسيه و صلى، و لو قلنا بشرطية «إن» كان الظاهر من الرواية عدم البأس بشبه النضح مطلقا على تأمل، و التفصيل بين قدر الدرهم و أقله في غيره فلا يبعد أن يكون الظاهر

حينئذ أيضا بيان حال الناسي لظهور قوله عليه السلام: «رأى صاحبه قبل ذلك» في أن المقتضى للإعادة رؤيته قبلا، و في العامد يكون المقتضى العلم به فعلا لا سابقا، و كيف كان لا دلالة فيها على العفو مطلقا و لو عن العامد.

و أما صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة، قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء، رأيته من قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله و صليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» «1» فالتفصيل فيها بين الثوب المنحصر و غيره، و هو مسألة أخرى.

و احتمال ان قوله عليه السلام: «و ما كان أقل» أمر مستأنف لا من فروع الثوب المنحصر بعيد غايته مع أنه على فرضه يكون مخصوصا بالناسي بمناسبة قوله عليه السلام: «رأيته من قبل أو لم تره» بالتقريب المتقدم.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 424

نعم عن التهذيب «و ما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء» بزيادة الواو و حذف «و ما كان أقل» و عن الاستبصار حذفه بلا زيادة الواو، و في نسخة من التهذيب مقروة على المحدث المجلسي كتبت الواو في ذيل السطر مع علامة النسخة، يظهر منها أن نسخة الأصل بلا واو و في نسخة زيادتها، و ليس

فيها لفظ «من قبل» بعد قوله عليه السلام: «رأيته» فتكون العبارة كذلك «و ما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء رأيته أو لم تره» إلخ.

فعلى نسخة زيادة الواو و سقوط «من قبل» تدل الرواية على مذهب المشهور من جهة، أي التفصيل بين القليل و الكثير مطلقا، و جواز الصلاة مع قليله و لو عمدا، لكن الاتكال على هذه النسخة مع مخالفتها للكافي و الفقيه بل و الاستبصار و بعض نسخ التهذيب مشكل، سيما مع مخالفتها لمذهب المشهور من جهة أخرى كما يأتي.

و أما رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه أو أبي جعفر عليهما السلام قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض، فإن قليله و كثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء» «1» فمع ضعف سندها منصرفة عن العمد، لكن الإنصاف أن المناقشة في هذه المسألة المجمع عليها في غير محلها، بل الظاهر أن المناقشة في إطلاق بعض الروايات كرواية الجعفي و بعض آخر كذلك.

بل مقتضى موثقة داود بن سرحان عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلى فأبصر في ثوبه دماء قال: يتم» «2» صحة الصلاة في الدم مطلقا، خرج منه الزائد على مقدار العفو إجماعا و نصوصا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 21- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 425

و بقي الباقي، و توهم التفصيل بين أثناء الصلاة و غيره فاسد مخالف للإجماع و كيف كان لا ينبغي الإشكال في المسألة من هذه الجهة، كما لا ينبغي الإشكال في إلحاق البدن بالثوب، لعدم القول بالفرق. بل مقتضى تصريح جمع

و إطلاق آخر الإجماع عليه، و مجرد سكوت جمع عن البدن لا يوجب استظهار الفتوى بالاختصاص، سيما أن مثل الصدوق يوافق لفظ النص في التعبير.

و الشيخ في الخلاف على النسخ المشهورة ألحق البدن به، و يظهر منه الإجماع عليه، و هو قرينة على أن ما في المبسوط ليس مخالفا للخلاف، كما أن دعوى السيد إجماع الإمامية على العفو في البدن دليل على أن رأي أستاده المفيد موافق له، و أما ابن زهرة فكلامه في دم القروح و الجروح، و هو أمر آخر، مع أنه لا يظهر منه الاختصاص، بل مقتضى مجموع كلامه عدمه، و انما ذكر الثوب مثالا، و لهذا ذكره أيضا في الدماء الثلاثة مع القطع بعدم إرادته الخصوصية، و أما سلار فقد عقد البحث رأسا في تطهير الثياب عن النجاسات فلا يظهر منه القيدية.

هذا مضافا إلى إمكان استفادة الإلحاق من رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه أو أبي جعفر عليهما السلام المتقدمة، فإن مقتضى إطلاق صدرها عدم وجوب الإعادة في الدم القليل في الثوب و البدن، و أما ذكر الثوب في التعليل الراجع إلى المستثنى فالمقطوع عدم قيديته، بل ذكر من باب المثال، ضرورة وجوب تطهير البدن كالثوب عن دم الحيض فلا يجوز تقديره في الصدر و دعوى دخالته في الحكم، كما لا تتجه دعوى عدم الإطلاق في الصدر بتوهم أنه بصدد بيان الفرق بين الدمين، أو أن الصدر توطئة لبيان حكم دم الحيض، فان كل ذلك تكلف و تهجس مخالف للظاهر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 426

ثم ان المستفاد منها أصل التفصيل، و أما مقدار المعفو عنه فمستفاد من سائر الروايات بعد الجزم بعدم التفصيل فيه بين

الثوب و البدن، و من صحيحة ابن مسلم المتقدمة، فإن قوله عليه السلام: «و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء» ظاهر في أن القليل منه لأجل قلته ليس بشي ء و لا يكون مانعا، و ان القلة بما هي تمام الموضوع لعدم المانعية و لو كان الثوب دخيلا في الحكم لم يتجه ذلك التعبير.

بل يمكن الاستيناس بعدم دخالة الثوب في الروايات بمقطوعية عدم دخالته في الدم الذي بمقدار الدرهم أو أكثر، مع أنه مذكور فيها أيضا، فالقطع بعدم دخالته في غير المعفو عنه و أنه ذكر تبعا للسائل أو من باب المثال يقرب أن ذكره في المعفو عنه أيضا كذلك. فإن التفرقة بين الفقرات خلاف ظاهر السياق و ارتكاز العرف.

و من رواية مثنى بن عبد السلام عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله و إلا فلا» «1» بعد عدم إمكان التفصيل بين الثوب و البدن في مقدار الدم، و فساد حمل الرواية على عدم نجاسته إذا كان أقل من حمصة، لمخالفته لارتكاز العقلاء و المتشرعة، بل للقطع بفساده، فلا محيص عن حملها على عدم مانعية الأقل منها، و هو يعطي التفصيل بين القليل و الكثير في البدن، و إن كانت في مقداره محمولة على بعض المحامل، تأمل.

و كيف كان لا إشكال في أصل الحكم، و انما الإشكال في أن مقدار الدرهم غاية للرخصة أو للمنع، فالمشهور كما عن كشف الالتباس و المسالك الثاني، بل في الخلاف الإجماع عليه، و ذهب سلار إلى الأول، و ربما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص:

427

نسب ذلك إلى السيد في انتصاره، و هو خلاف الواقع، فإنه بعد ما صرح بأنه مما انفردت به الإمامية هو جواز الصلاة في ثوب أو بدن أصاب منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم، و نقل عن الشافعي القول بعدم الاعتبار بالدرهم في جميع النجاسات، و عن أبي حنيفة القول باعتبار مقداره في جميعها قال: «فاعتباره في بعضها دون بعض هو التفرد-- ثم قال-: و يمكن القول بأن الشيعة غير متفردة بهذه التفرقة- ثم حكى قول زفر، و قال-: هو نظير قول الإمامية- ثم حكى قول محسن بن صالح، و قال:- هذا مضاهي لقول الإمامية».

و مراده في أصل التفصيل و التفرقة بين الدم و غيره، لا في مقداره ضرورة أن قولهما مختلفان في المقدار، فإن الأول جعل الدرهم معفوا عنه دون الثاني، و أما ما في خلال كلامه في مقام الاستدلال مما يوهم خلاف المشهور فلا بد من حمله على صدر كلامه دفعا للتناقض، بل ليس في خلال البحث بصدد بيان الخصوصيات، بل بصدد بيان أصل التفرقة، فالمخالف هو سلار ظاهرا.

و تدل على المشهور صحيحة ابن أبي يعفور «1» و مرسلة جميل «2» بل و رواية إسماعيل الجعفي «3» فإن الظاهر من قوله: إن كان أقل فكذا، و إن كان أكثر فكذا أن الجملة الثانية بيان لمفهوم الجملة الأولى

______________________________

(1) تقدم الإشارة إليها في ص 421.

(2) مرت في ص 422.

(3) مرت في ص 421.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 428

و انما خص بالذكر بعض المصاديق الشائعة منه، لأن المساوي لمقدار الدرهم قليل الوجود بخلاف الأكثر منه، و لا مفهوم للجملة الثانية التي بصدد بيان مفهوم الأولى عرفا، فتوهم أن مفهوم

الجملتين متعارضان، بل مفهوم الثانية معارض للروايتين المتقدمتين أيضا ضعيف، و أضعف منه توهم كون الجملة الأولى بيان بعض مصاديق مفهوم الجملة الثانية، عكس ما قلناه، ضرورة أنه في غاية الحزازة، و مخالف للمحاورات العرفية نعم يحتمل أن لا يكون لمثل الجملتين مفهوم، فكان مقدار المساوي مسكوتا عنه، لكن الأقرب ما ذكرناه و إن لا يختلف الحكم على هذا الاحتمال، غاية الأمر لا تكون هذه الرواية متعرضة للمقدار المساوي فنأخذ فيه بالروايتين المتقدمتين.

و أما صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة فعلى نسخة الكافي و الفقيه لا يبعد أن يكون مفادها كرواية الجعفي، فإن قوله عليه السلام: «ما لم يزد عليه» من تتمة حكم انحصار الثوب مع رؤية الدم في الأثناء، و هو مسألة أخرى، و الظاهر أن قوله عليه السلام: «و ما كان أقل من ذلك» مسألة أخرى برأسها لا في موضوع الثوب المنحصر حتى يكون تتمة للجملة السابقة، فإن جعله من تتمتها يوجب التكرار في حكم الزائد عن مقدار الدرهم، مضافا إلى أن ظاهر الذيل ينافي كونه في الفرض السابق، فحينئذ تكون الشرطيتان نظير الشرطيتين في رواية الجعفي، و قد عرفت حالهما، فلو فرض كونها من تتمتها فتكون مسألة أخرى هي فرض انحصار الثوب، تأمل.

نعم على نسخة التهذيب تكون معارضة لسائر الروايات، لكن قد عرفت عدم جواز لاعتماد على نسخته، و على فرض التعارض لا يعتمد عليها لمخالفتها للمشهور، و كونها شاذة، و لموافقتها لأبي حنيفة، و مخالفتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 429

للقواعد و العمومات، فلا إشكال في الحكم.

هذا إن كان الدم مجتمعا قدر الدرهم، و اما ان كان متفرقا فان لم يكن قدره لو اجتمع فلا إشكال بل

لا خلاف كما في الجواهر في مساواته للمجتمع في العفو عنه، لإطلاق الأدلة و خصوص ما تقدم، و إن كان قدره أو زائدا ففيه خلاف، فعن المبسوط و السرائر و النافع و الشرائع و ابن سعيد و الأردبيلي و التلخيص و الكفاية و الذخيرة و الحدائق و بعض من متأخري المتأخرين العفو، و عن الذكرى أنه المشهور، و في المراسم و الوسيلة و عن العلامة في جملة من كتبه و جملة وافرة ممن تأخر عنه عدمه، بل عن بعضهم دعوى الشهرة عليه، و عن جملة نسبته إلى أكثر المتأخرين، و هو ظاهر نهاية الشيخ على تأمل، و عن المحقق في المعتبر القول بالعفو، إلا أن يتفاحش، لكن عبارته فيه على خلاف ما نسب إليه، فراجع.

و منشأ اختلافهم الاختلاف في فهم الروايات، فقد استدل كل من القائل بالعفو و عدمه برواية ابن أبى يعفور، و محتملاتها كثيرة لا يمكن الركون إلى واحد منها، و لا استظهار واحد من القولين منها، لاحتمال أن يكون «مقدار الدرهم» في قوله عليه السلام: «إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا» مرفوعا اسما للفعل الناقص، و خبره «مجتمعا» و أن يكون منصوبا خبرا له، و اسمه الضمير الراجع إلى الدم، «و مجتمعا» خبرا بعد خبر، أو الراجع إلى نقط الدم «و مجتمعا» خبر ثان إما لسهولة أمر التذكير و التأنيث أو لكونها مضافة إلى المذكر الممكن قيامه مقامها، و على التقديرين يمكن أن يكون «مجتمعا» حالا محققة من «مقدار الدرهم» أو من الضمير، و أن يكون حالا مقدرة، و على جميع الاحتمالات تكون ظاهرة في العفو إلا على تقدير كون الحال مقدرة،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 430

و

قد قيل باتفاق أئمة الأدب على اشتراط كون الحال مقدرة بمخالفة زمان العامل مع الحال و هو مفقود في المقام، فعلى فرض صحة ذلك يكون هذا الاحتمال مرجوحا، و إن كان انقطاع الاستثناء على سائر الاحتمالات مخالف الظاهر أيضا.

لكن الإنصاف أن الاتكال على تلك الرواية مع تلك الاحتمالات الكثيرة لإثبات كل من طرفي الدعوى مشكل، نعم ظاهر مرسلة جميل «1» العفو، فان قوله عليه السلام: «و إن كان قد رآه صاحبه» إلى آخره وصلية، و إلا يلزم التفصيل بين شبه النضح و غيره في العلم به و عدمه، و هو خلاف الواقع، و على الوصلية تكون ظاهرة في العفو، فان قوله عليه السلام: «فلا بأس به» إلخ بيان للجملة المتقدمة، أي لا بأس بالدم ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم فشبه النضح لا بأس به لكن الاتكال عليها مشكل لضعف سندها و عدم جابر له، لأن الأصحاب و إن أفتوا بمضمون روايات الباب لكن لما كانت بينها روايات صحيحة معتمدة لا يظهر منهم الاتكال على تلك المرسلة.

و أما رواية إسماعيل الجعفي «2» و صحيحة محمد بن مسلم «3» فيمكن أن يستدل بهما للطرفين بأن يقال: إن المراد بالدم و الثوب جنسهما، فيكون المعنى إن كان جنس الدم في جنس الثوب أقل من قدر الدرهم فلا يعيد. و إن كان أكثر فيعيد، و إطلاقهما شامل للمتفرق، و أن يقال: إن الحكم على طبيعي الدم و الثوب و هما صادقتان على المصداق الخارجي الفعلي و ليس في الخارج من طبيعة الدم إلا هذا المصداق و ذاك و ذلك، و كذا الثوب. و أما مجموع الدمين و الدماء فليس مصداقا للدم

______________________________

(1) مرت في ص 422.

(2) مرت في

ص 421.

(3) مرت في ص 423.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 431

و لا موجودا في الخارج، و فرض الاجتماع لا يوجب إلا المصداق الفرضي لا الفعلي، و هذا خلاف ظواهر الأدلة، فكل مصداق محقق في الخارج منه أقل من مقدار الدرهم فرضا، و غير ذلك غير موجود خارجا إلا بحسب الفرض و التعليق المخالف للظاهر، فالروايتان دالتان على القول بالعفو إن كان العرف مساعدا لما ذكرناه كما لا يبعد.

و من هنا يمكن الاستدلال عليه برواية أبي بصير المعمول بها عند الأصحاب عن أبي جعفر أو أبى عبد اللّٰه عليهما السلام قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض، فإن قليله و كثيره في الثوب إن رآه و إن لم يره سواء» «1» فان ما في الخارج شبه النضح مصاديق كثيرة يصدق على كل منها أنها دم لا تبصره، و مجموعها ليس إلا مصداقا تخيليا، إلا أن يكون قوله عليه السلام: «لا تبصره» كناية عن الدم القليل المقابل للكثير، و قلنا بأن العرف يرى الدماء التي على شبه النضح كثيرا.

و تدل على العفو صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، و إن كثر فلا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه و لا يغسله» «2» فان الظاهر أن قوله عليه السلام: «ينضحه و لا يغسله» راجع إلى دم البراغيث، لأنه مورد السؤال و الجواب و انما ذكر الرعاف استطرادا و تطفلا، و المنظور الأصلي بيان حكم دم البراغيث، و للمناسبة

______________________________

(1) مرت في ص 424.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 432

بينه و بين النضح كما هو وارد في بعض موارد أخر نظيره مما لا يكون قذرا كالملاقي مع الكلب يابسا، و للقرينة العقلية على عدم المراد منه دم الرعاف، حيث يوجب النضح تكثير النجس لا تطهيره، فلا شبهة في رجوعهما إلى دم البراغيث، فلا إشكال في الرواية من هذه الحيثية، و أما دلالتها على المطلوب فواضحة، بل تدل على العفو و إن كثر و تفاحش لظهور التشبيه فيه، فلا إشكال في الرواية سندا «1» و لا دلالة.

و تدل عليه إطلاق مرفوعة أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قال: دمك أنظف من دم غيرك، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس، و إن كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله» «2» بعد حمل ذيلها على الاستحباب في الدم القليل و كون المراد بالكثير مقابل النضح، لعدم الفصل في الدماء.

فتحصل مما ذكر قوة القول الأول، و مقتضى إطلاق الروايات عدم الفرق بين المتفاحش و غيره، مضافا إلى ظهور صحيحة الحلبي فيه كما تقدم، و دعوى انصرافها عن المتفاحش في غير محلها، كما أن الاستبعاد في الأحكام التعبدية المجهولة المناط في غير محله، و أما رواية دعائم الإسلام «3» فلا ركون إليها بعد ضعفها سندا و وهنها متنا، لكن الاحتياط حسن على كل حال سيما مع كون الثوب واحدا، و سيما مع التفاحش جدا.

______________________________

(1) هذا بناء على كون المراد من ابن سنان في سندها عبد اللّٰه بن سنان

(2) الوسائل- الباب- 21- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) عن الباقر و الصادق عليهما السلام انهما قالا في الدم يصيب الثوب: «يغسل كما تغسل النجاسات» و

رخصا في النضح اليسير منه و من سائر النجاسات، مثل دم البراغيث و أشباهه قالا: «فإذا تفاحش غسل» المستدرك- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 433

ثم أنه قد استثني من أدلة العفو موارد: منها- الدماء الثلاثة كما في الوسيلة و المراسم و الغنية و الشرائع، و عن السرائر و كشف الحق و كتب الشهيدين، بل في الغنية الإجماع، و لا يبعد استظهار دعوى الإجماع من الخلاف، و عن السرائر عدم الخلاف فيه، بل عن ظاهر كشف الحق هو من دين الإمامية، و يظهر من الانتصار إلحاق النفاس بالحيض.

هذا مضافا إلى رواية أبي بصير المتقدمة «1» بالنسبة إلى دم الحيض و هي مروية في الوافي عن أبي جعفر أو أبي عبد اللّٰه عليهما السلام، و في التهذيب عن أبي عبد اللّٰه و أبي جعفر عليهما السلام كليهما، و الاشكال فيها بالقطع غير وجيه، مضافا إلى أن قطع مثل أبى بصير لا يضر بعد القطع بأن مثله لا يقول إلا مع السماع عن المعصوم عليه السلام، كما أن تضعيفها بأبي سعيد المكاري في غير محله بعد الجبر بعمل الأصحاب، كما أشار إليه المحقق أيضا، و ظاهرها بل صريحها عدم العفو عن الأقل من الدرهم، فان الاستثناء فيه عن دم لم تبصره و هو أقل من الدرهم، فالمراد بالقليل هو مثل ما في المستثنى منه، و هو واضح.

و أما دم النفاس فمضافا إلى الإجماعات المتقدمة- التي لا يضر بها نسبة الإلحاق في المعتبر إلى الشيخ بحيث يظهر منه اختصاصه به فإنه خلاف الوجدان، لأن كثيرا ممن تقدم على المحقق لم يفترق بين الدماء الثلاثة، بل ادعى الإجماع أو

عدم الخلاف عليه- الإجماعات المدعاة في اتحاد حكم النفاس مع الحيض إلا فيما استثني، و أما دعوى أن النفاس حيض محتبس فقد مر في محله أنه لا دليل عليها.

و أما دم الاستحاضة فمضافا إلى ما تقدم تدل على عدم العفو عنه

______________________________

(1) مرت في ص 424.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 434

الإجماعات المستفيضة المنقولة، و الشهرة المحققة على لزوم تبديل القطنة في أوقات الصلاة في القليلة منها، مع أن الغالب فيها عدم بلوغ الدم بمقدار الدرهم، سيما إذا قلنا بأن مقداره قدر أخمص الراحة، فالشهرة قائمة على وجوب التبديل من غير تفصيل من الصدر الأول، و هي الحجة القاطعة سيما مع ما مر في محله من أن إطلاق الأدلة على خلاف الإجماعات و الشهرات، و معه يزيد الوثوق بها.

و لا شبهة في أن التبديل ليس واجبا تعبديا نفسيا، بل لمانعيته عن الصلاة، كما لا شبهة في أن الظاهر من الأدلة أن المانع هو الدم بما هو من غير دخالة للقطنة و المحل فيه، و لهذا قلنا بلزوم تبديل الخرقة أيضا إن تلوثت به، فيستفاد منها مانعيته في الثوب و البدن قليلا كان أو كثيرا.

بل يمكن الاستدلال عليه بإطلاق بعض ما ورد في المستحاضة المتوسطة على لزوم تبديل القطنة «1» لعدم ملازمة التوسط مع كون الدم بمقدار الدرهم، فان الميزان فيه هو ثقب القطن، و لا يلزم منه أكثريته منه، فلو منع ذلك فيكفي ما تقدم، فالحاقهما بالحيض مع أنه أحوط لا يخلو من قوة.

و منها- دم نجس العين، فقد استثناه العلامة في القواعد و التذكرة و عن سائر كتبه ذلك، بل عن جملة من الأصحاب استثناؤه، و عن الطوسي و الراوندي

استثناء دم الكلب و الخنزير، و ربما ينسب إليهما استثناء مطلق دم نجس العين، و عن ابن إدريس بعد نسبة استثناء دم الكلب و الخنزير إلى الراوندي معللا بأنه دم نجس العين قال: «و هذا خطأ عظيم و زلل فاحش، لأن هذا هدم و خرق لإجماع أصحابنا» انتهى

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الاستحاضة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 435

و قد استدل عليه تارة بأن ملاقاة دم نجس العين لسائر أجزائه موجب لطرو نجاسة أخرى عليه منها، و هي غير معفو عنها، و بعبارة أخرى أدلة العفو عن الدم ناظرة إلى العفو عنه لا عنه و عن ملاقيه، كما لو لاقى نجاسة أخرى كالعذرة و البول، و أخرى بأن دم نجس العين منطبق عنوانين: أحدهما كونه دما، و هو مانع، و ثانيهما كونه جزء من نجس العين، و هو مانع آخر، و ما دل على العفو عن الدم قاصر عن الدلالة على العفو عن العنوان الثاني، و ثالثة بأن دم نجس العين من أجزاء غير المأكول، و هو مانع آخر، فالعفو عن الدم لا عنه، و سيأتي الكلام في هذا الأخير.

و أما الوجه الأول ففيه أنه لا دليل على انفعال أجزاء نجس العين بعضها عن بعض، بل و لا انفعال نجس عن مثله، فلا يتنجس بول من بول آخر، و لا بعض أجزاء الكافر بملاقاة بعض آخر من أجزائه، بل لا دليل على تنجس النجاسات بملاقاة بعضها مع بعض حتى فيما إذا كان أحد النجسين أغلظ و أشد، لعدم إطلاق أو عموم في أدلة الانفعال بالملاقاة، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية من الموارد الجزئية، و لهذا لا يبعد القول

بالعفو فيما إذا لاقى الدم المعفو عنه نجاسة أخرى إذا لم تكن أجزاؤها محققة فيه فعلا، بل استهلكت فيه و مع عدم ملاقاتها للجسد، فإنه مع ملاقاته يشكل العفو، و بالجملة لا شبهة في عدم الدليل على تنجس دم نجس العين بملاقاة أجزائه، فلا يكون دمه نجسا ذاتا و عرضا.

و أما الوجه الثاني ففيه أنه لا دليل على مانعية أجزاء نجس العين بما أنه أجزاؤه، بمعنى أن جزء الكلب بما أنه كلب يكون مانعا، بل الظاهر من الأدلة أن المانع النجاسة، فاجزاء الكلب بما أنها نجسة مانعة عن الصلاة لا بما أنها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 436

أجزاؤه، و كذا الدم ليس بعنوانه مانعا، فلا يكون عنوان نجس العين مانعا آخر مغايرا لمانعية النجس.

و منها- دم غير المأكول، فقد استثناه من العفو بعضهم، و عن الأستاد اختياره، و هو مخالف لتضاعف كلمات الفقهاء، حيث اقتصروا على استثناء الدماء الثلاثة أو مع نجس العين، و لإجماع الحلي.

و يدل على العفو إطلاق أدلته. و دعوى الانصراف فاسدة جدا كدعوى معارضتها لموثقة ابن بكير «1» فإنها حاكمة عليها أولا، و يحتمل قريبا عدم شمول الموثقة للدم و المني المانعين عن الصلاة- سواء كانا من مأكول اللحم أو غيره- ثانيا، و مثلها في الضعف دعوى أن أدلة العفو متعرضة لحيثية نجاسة الدم لا لحيثية أخرى منطبقة عليه، و هو كونه من غير المأكول، ضرورة أنه ليس فيها ما يمكن استشمام تعرضها لحيثية نجاسته، بل الموضوع فيها نفس الدم، و مقتضى إطلاقها عدم مانعيته بأي عنوان منطبق عليه ذاتا، فلا قصور فيها لشمول مطلق الدماء من المأكول أو غيره، نجس العين أو غيره، و قد

عرفت حكومتها على موثقة ابن بكير و إن كان بينهما عموم من وجه.

و دعوى قوة إطلاق الموثقة بل صراحتها في الإطلاق كدعوى إبائها عن التقييد مردودة على مدعيها، و أضعف من الجميع استبعاد العفو عن الدم القليل من غير المأكول مع كونه نجسا، و عدم العفو عن سائر أجزائه مع طهارتها، ضرورة عدم طريق للعقول إلى فهم مناطات الأحكام التعبدية، و إلا فأي فارق عند العقول بين الدم و غيره، و بين مقدار الدرهم و أقل منه، و بين دم القروح و الجروح و غيره إلى غير ذلك من التعبديات، فالفقيه كل الفقيه من يقف على التعبديات، و لا يستبعد

______________________________

(1) مرت في ص 25.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 437

شيئا منها بعد ما رأى رواية أبان في الدية «1».

ثم أن البحث في أطراف كون الدرهم هو البغلي أو الوافي و كونهما واحدا أو متعددا و كون وزنه درهما و ثلثا لا فائدة فيه في المقام، و ما هو مفيد: البحث عن تعيين سعته التي هي موضوع الحكم نصا و فتوى، لكن لا طريق لنا إليه، لاختلاف الكلمات في ذلك، و ما نسب إلى الحلي من كونه قريبا من أخمص الراحة ليس على ما ينبغي.

قال في محكي السرائر: «إن الشارع عفى عن ثوب و بدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي المضروب من درهم و ثلث، و بعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي المضروب المنسوب إلى مدينة قديمة يقال لها:

بغل، قرية من بابل، بينهما قريب من فرسخ، متصلة ببلد الجامعين يجد فيها الحفرة دراهم واسعة، شاهدت درهما من تلك الدراهم، و هذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد، يقرب

سعته من سعة أخمص الراحة» انتهى.

و هذا كما ترى بعد الغض عن نحو إجمال فيه ليس شهادة برؤية الدرهم الوافي و ان سعته كذا، بل شهادة برؤية درهم مما وجدها الحفرة من غير تعرض لكون ما شاهده عين الوافي، مع أن الشهادة في ذلك مبني على الحدس و الاجتهاد، و لو فرض رسم فيه يدل على كونه وافيا أو بغليا لاحتمال ضرب الحفرة دراهم على نعت الدراهم القديمة اختلافا لجلب الأنظار و بيعها بثمن غال على طالبي الآثار القديمة كما انه لا اعتماد على مدعي الخبرة في هذا العصر و لا على الدراهم المنقوشة مما يزعم الناظر أنها من الآثار القديمة لكثرة الخدعة و الاختلاق و عدم الوثوق على أقوالهم و ما في أيديهم، فمقتضى القاعدة الاقتصار على الأقل فيما دار الأمر بينه و بين الأقل منه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب ديات الأعضاء- الحديث 1- من كتاب الديات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 438

المطلب الثالث: و من أحكام النجاسات

عدم جواز إدخالها في المساجد و لو مع عدم التعدي، قال الشيخ في الخلاف: «لا يجوز للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام و لا شي ء من المساجد لا بإذن و لا بغير إذن- ثم تمسك بالآية الشريفة الآتية ثم قال-: و إذا ثبت نجاستهم فلا يجوز أن يدخلوا شيئا من المساجد، لأنه لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات» انتهى.

و عن الحلي في مقام الاستدلال على طهارة ميت الإنسان «و لا خلاف بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات العينية، و قد أجمعنا بغير خلاف بيننا أن من غسل ميتا له أن يدخل المسجد و يجلس فيه» انتهى، و قد أنكر المحقق

عليه جواز دخول الغاسل المسجد، و لم ينكر عليه دعواه عدم الخلاف بين الأمة تجنب المساجد، و لأحد أن يقول: إن معقد عدم الخلاف وجوب تجنب المساجد النجاسات، و الظاهر من تجنبها منها أو المتيقن منه هو وجوب تجنبها عن التلوث بالقذارة، لا حرمة إدخال النجاسة غير المتعدية فيها، و لعل استدلالهما على ما ذكراه مبني على اجتهادهما و استظهارهما الإطلاق من معقد الإجماع و هو ليس بحجة.

و منه يظهر النظر فيما عن كشف الحق في توجيه الاستدلال بالآية بأنه لا خلاف في وجوب تجنب المساجد كلها النجاسات بأجمعها، فضلا عما عن المفاتيح من نفي الخلاف عن إزالة النجاسة عنها، فإن الإزالة ظاهرة في رفع تلوث المسجد عنها أو منصرفة إليه، و أما إخراج النجس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 439

غير المتعدي منها فلا يقال له الإزالة، فالمتيقن من تلك الدعاوي وجوب تنزه المساجد عن التنجس أو حرمة تنجسها أو وجوب إزالتها منها، سيما مع دعوى الحلي عدم الخلاف في جواز دخول من غسل الميت المساجد و الجلوس فيها. و هو و إن استدل به على أمر آخر لكن نحن نأخذ بروايته و نترك درايته كما أشار إليه الشيخ الأعظم.

و استدل على حرمة إدخال مطلق النجاسات فيها و لو مع عدم التعدي بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» و قد مر في باب نجاسة الكافر تقريب أن المراد بالنجاسة المعنى المعهود، فلا نعيده.

نعم هاهنا مناقشة أخرى في دلالتها، و هي أن النهي قد تعلق بالفعل الاختياري، أي دخول المشركين المسجد، و مقتضى تفريع الحكم على نجاستهم أن كل نجس لا يدخله، فيعم

الحكم سائر طوائف الكفار و أما إدخال النجس فيه فلا، لاحتمال دخالة الفعل الاختياري من نجس العين في الحكم، و هذا الاحتمال سيال في جميع الأوامر و النواهي المتعلقة بالأفعال الاختيارية، إلا أن تقوم القرينة على إلقاء الخصوصية لكنها مدفوعة بأن النهي عن القرب متفرع على النجاسة، فيدل على أن نجاستهم تمام الموضوع لعدم الدخول لا الاختياري منه، فدخالة الاختيارية خلاف الظاهر، مع أن العرف يساعد على إلقاء خصوصية الاختيار، سيما في المقام الذي يؤكده مناسبة الحكم و الموضوع.

نعم هنا أمر آخر، و هو أن حمل المصدر على الذات لا يصح إلا بادعاء و تأول، و هو لا يصح إلا في مقام المبالغة سيما مع المقارنة لكلمة «إنما» المفيد للحصر أو التأكيد، فكأنه قال: لا حيثية للمشركين

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 28.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 440

إلا حيثية القذارة أو المشركون بتمام حقيقتهم عين القذارة.

و هذه الدعوى انما تحسن و تصير بليغة إذا كان المشرك خبيثا في باطنه و نجسا في ظاهره و لا تكون له نقطة طهارة و لو ادعاء، و انما تفرع عدم قرب المسجد الحرام على هذه المرتبة من النجاسة الادعائية، و هي مختصة بالمشرك أو هو و سائر الكفار، و أما سائر النجاسات فلا دليل على إلحاقها بهم ما لم يدعي لها ما ادعى، فالحكم لم يتفرع على النجس بالكسر حتى يتعدى إلى سائر النجاسات، بل على ما بلغ مرتبة يدعى له هذه الدعوى على سبيل المبالغة، و لعل ما ذكرناه هو مراد من قال بغلظة نجاستهم، فلا يرد عليه ما قيل: إن أغلظية نجاسة الكافر من الكلب أو دم الحيض غير معلومة.

و بالجملة إسراء

الحكم من هذه الحقيقة الادعائية المبنية على ما أشرنا إليه إلى غيرها مشكل بل ممنوع، و لا يتوهم أن أعيان النجاسات كلها عين النجس بالفتح، و ذلك أن شيئا منها ليس كذلك. بل لها ذوات و حقائق غير هذا المعنى المصدري أو الحاصل من المصدر، نعم يصدق عليها النجس بالكسر بلا تأول، لكن لم يتفرع عليه الحكم.

ثم أن هاهنا كلاما آخر، و هو أن قوله «فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا» لا يبعد أن يكون كناية عن عدم دخولهم للحج و عمل المناسك بقرينة قوله «بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا» المتفاهم منه عدم قربهم في سائر الأعوام، و مع كون المعهود من شد رحال المشركين في كل سنة الى المسجد الحرام لعمل المناسك لم يبق للآية ظهور في الكناية عن مطلق الدخول، بل لا يبعد أن تكون كناية عن الدخول للعمل أو عمل المناسك المستلزم للدخول.

ففي المجمع و العام الذي أشار إليه هو سنة تسع الذي نادى فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 441

علي عليه السلام بالبراءة، و قال: «لا يحجن بعد هذا العام مشرك» «1» و في البرهان عن العياشي عن حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«إن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعث أبا بكر- إلى أن قال-:

و قال- أي قال علي عليه السلام-: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة و لا مشرك بعد هذا العام» «2» و عنه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «خطب علي عليه السلام بالناس و اخترط سيفه، و قال:

لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يحجن بالبيت مشرك» إلخ «3» و عن الصدوق بسنده عن أبي عبد

اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «انما سمي الأكبر- أي الحج- لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون و لم يحج المشركون بعد تلك السنة» «4» و في بعض الروايات فكان ما نادى به «أن لا يطوف بعد هذا العام عريان، و لا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك» «5».

و لا يبعد أن يكون الظاهر من تلك الروايات أن النهي عن القرب لأجل الحج و الطواف و أعمال المناسك لا مطلقا، لكن الظاهر تسالمهم على عدم جواز تمكين الكفار المسجد الحرام.

ثم أن إلحاق سائر المساجد به بعد عدم إلقاء الخصوصية عرفا لما له من العظمة و الأحكام الخاصة، يحتاج إلى دليل، و دعوى عدم القول بالفصل غير مسموعة، بل هو غير حجة ما لم يرجع الى الإجماع على التلازم، و لو سلم عدم القول بالفصل بين تمكينهم سائر المساجد و تمكينهم المسجد الحرام لكن عدم القول بالفصل بين تمكينهم و إدخال النجاسة سائر المساجد لو نوقش في دلالة الآية بما تقدم أو عدم القول بالفصل بين

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(2) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(3) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(4) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(5) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 442

حرمة إدخال النجاسات في المسجد الحرام و بين إدخالها في سائر المساجد على فرض تسليم دلالتها بالنسبة

إلى المسجد الحرام بحيث يرجع إلى الإجماع على التلازم أنى لنا بإثباته.

فالقول بجواز إدخال النجاسات غير المتعدية الغير المستلزمة لهتك حرمة المسجد لا يخلو من قوة، فإن عمدة الدليل على عدم الجواز دعوى الإجماع و الشهرة و دلالة الآية، و قد تقدم الكلام فيهما.

و أما قوله تعالى وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ «1» فهو أجنبي عن إدخال النجاسة غير المتعدية فيها، مع أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام أو هو و إسماعيل عليه السلام كما في آية أخرى «2» و أما ما عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «جنبوا مساجدكم النجاسة» «3» ففي سنده و دلالته إشكال، إذ استنادهم اليه غير ثابتة، و احتمال أن يكون المراد بالمساجد محال السجدة قريب.

هذا مضافا إلى ما دلت على جواز اجتياز الجنب و الحائض المساجد بما لا يمكن حملها على الجواز الحيثي، كصحيحة أبي حمزة قال:

«قال أبو جعفر عليه السلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم، و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «4» و هي كما ترى ظاهرة في أن الذي احتلم يجوز له الاجتياز، و هو حكم فعلي لا حيثي.

______________________________

(1) سورة الحج: 22- الآية 26.

(2) سورة البقرة: 2- الآية 125.

(3) الوسائل- الباب- 24- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث- 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 443

و قريب منها روايته الأخرى «1» إلا أن فيها «و كذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك، و لا بأس ان يمرا في سائر المساجد، و لا يجلسان

فيها» و هذه بملاحظة ذيلها أوضح دلالة، مضافا إلى انه قلما يتفق كون الحائض طاهرة. بل لعل نوع النساء لا يتجنبن عن بعض النجاسات في أيام الحيض، فتجويز دخولها في المساجد ملازم لتجويز دخول النجاسة.

و تدل عليه ما وردت في المستحاضة من جواز دخولها في المسجد و جواز الطواف لها، و السيرة المستمرة على تمكين الصبيان، بل إدخالهم في المساجد، بل ادعيت السيرة على عدم منع أصحاب القروح و الجروح و من به دم قليل عن الجمعة و الجماعات، و هذه كلها شاهدة على عدم العموم في الآية، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية، و عدم صحة دعوى عدم القول بالفصل بين حرمة تمكين الكفار المسجد الحرام أو مطلق المساجد و بين إدخال سائر النجاسات غير المتعدية، و مما ذكر ظهر عدم حرمة إدخال المتنجس فيها مع عدم السراية.

و أما إدخال النجاسات السارية فالظاهر ان حرمته لا بعنوان إدخالها فيها، بل بعنوان تنجيس المساجد، و هو القدر المتيقن من الإجماعات، بل حرمة التنجيس معروفة لدى المتشرعة، و هما العمدة فيها.

و أما سائر ما استدل لها- كقوله تعالى وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ الى آخره، و رواية الثمالي التي لا يبعد صحتها عن أبي جعفر عليه السلام و فيها: «إن اللّٰه أوحى إلى نبيه أن طهر مسجدك و أخرج من المسجد من يرقد بالليل، و مر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلا باب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 444

علي عليه السلام و مسكن فاطمة عليها السلام، و لا يمرن فيه جنب» «1» و صحيحة الحلبي الواردة في زقاق قذر بينه و بين

المسجد «2» و رواية علي بن جعفر الواردة في اصابة بول الدابة المسجد أو حائطه «3» إلى غير ذلك- فغير تام إذ الآية الشريفة مع كونها مربوطة بالأمم السالفة لا يبعد أن يكون المراد من التطهير فيها هو التنظيف العرفي و الكنس، لا التطهير من النجاسة بمناسبة قوله لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ إلخ مع أن التعدي من المسجد الحرام يحتاج إلى دليل.

و رواية الثمالي راجعة إلى مسجد النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و التعدي منه إلى غيره يحتاج الى دليل بعد عدم إمكان إلقاء الخصوصية عرفا، و رواية الزقاق أجنبية عن المقام، فان الظاهر منها أن مورد الكلام تنجس الرجل المانع عن الصلاة، و رواية علي بن جعفر لا تدل على المطلوب بعد طهارة أبوال الدواب، فيمكن أن يكون وجه السؤال معهودية كراهة الصلاة مع تلوث المسجد.

و قد يستدل على ذلك بالأخبار المستفيضة الدالة على جواز اتخاذ الكنيف مسجدا بعد تطهيره، مثل صحيحة الحلبي «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام في مسجد يكون في الدار فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه عن مكانه، فقال: لا بأس بذلك، قال: فقلت:

أ فيصلح المكان الذي كان حشا زمانا (حشي رمادا خ ل) أن ينظف و يتخذ مسجدا؟ قال: نعم إذا القي عليه من التراب ما يواريه، فإن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث 10.

(2) مرت في ص 362.

(3) مرت في ص 24.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 445

ذلك ينظفه و يطهره» «1» و قريب منها رواية أبي الجارود «2» و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «3».

و مثل رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال.

«سأله عن بيت

كان حشا زمانا هل يصلح أن يجعله مسجدا؟ قال:

إذا نظف و أصلح فلا بأس» «4».

و رواية مسعدة التي لا يبعد أن تكون موثقة عن جعفر بن محمد عليهما السلام «أنه سأل أ يصلح مكان حش أن يتخذ مسجدا؟ فقال إذا القى عليه من التراب ما يواري ذلك و يقطع ريحه فلا بأس، و ذلك لأن التراب يطهره، و به مضت السنة» «5» و استدل بعضهم بها على وجوب تطهير ظاهر المسجد دون باطنه مطلقا أو في خصوص مورد الأخبار، و بعضهم على عدم وجوبه مطلقا.

أقول: لا يبعد أن يكون المساجد في تلك الروايات غير المساجد المعهودة التي محل البحث، بل المراد منها الأمكنة التي اتخذت في البيت مسجدا، كما قد يشهد صدر الروايات الثلاثة المتقدمة و يشعر به قوله:

«يتخذ مسجدا» و يحتمل في بعضها أن يكون المراد من اتخاذ المسجد اتخاذها محلا يسجد عليه، فيكون سؤاله عن جواز السجدة على مكان كان حشا بعد تنظيفه، و اما الحمل على السؤال عن بناء المسجد أو الوقف للمسجدية فبعيد عن سوق الروايات.

______________________________

(1) أورد صدرها في الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 1- و ذيلها في الباب- 11- من هذه الأبواب- الحديث 1.

(2) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 3.

(3) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 4.

(4) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 7.

(5) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 446

و ربما تشهد لما ذكرناه رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط أو مقبرة»

«1» و لو أريد بها المساجد المعهودة فمقتضى الجمع بينها جواز جعل الكنيف بعد تطهيره و تنظيفه مسجدا، و عليه يحمل المطلق منها، و أما إلقاء التراب فلكمال النظافة لا للتطهير الشرعي، و لهذا أمر به مع فرض السائل تنظيفه، و حمل التنظيف في لسان السائل على الكنس مع بقاء النجاسة لا وجه معتد به له.

و كيف كان لا يمكن التشبث بتلك الروايات على جواز تنجيس بواطن المساجد أو عدم وجوب تطهيرها، نعم ربما يقال: إن المتيقن من معاقد الإجماع و الروايات تطهير ظواهرها، و فيه أن المسجد عنوان معهود و اسم للمعبد المعهود بين المسلمين و المعنى الوضعي منسي، و الإجماع القائم على تجنب المساجد النجاسات يدل على وجوب ما يصدق عليه هذا العنوان، و هو مجموع ما جعلت للمعبدية، أرضها إلى مقدار متعارف و سقفها و جدارها داخلا و خارجا، و ليس المسجد من قبيل المطلق حتى يؤخذ بالقدر المتيقن فيه، بل هو كالعلم اسم لهذه البنية، فالأظهر حرمة تنجيس أجزائه ظاهرا و باطنا، بل لا يبعد استفادة حرمة تنجيس حصيره و فرشه بالمناسبات المغروسة في الأذهان من النبوي و معقد الإجماع بل الظاهر معهوديتها لدى المتشرعة.

ثم انه كما يحرم تنجيسه يجب إزالة النجاسة منه، و لا يبعد أن يكون قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جنبوا مساجدكم» و كذا معاقد الإجماعات ظاهرة في وجوب الإزالة. لكن المتفاهم منها عرفا أن الأمر بها و بتجنب المساجد لمبغوضية تنجيسها حدوثا و بقاء، و منه يعلم أن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 447

وجوب الإزالة فوري عقلا، لاستفادة مبغوضية تلوث المساجد مطلقا

من الأدلة.

و يلحق بالمساجد المصحف الشريف و المشاهد المشرفة و الضرائح المقدسة و التربة الحسينية، سيما المتخذة للتبرك و الاستشفاء و السجدة عليها بلا اشكال مع لزوم الوهن، بل مطلقا على وجه موافق للارتكاز بل لا يبعد أن يكون المناط في نظر المتشرعة و ارتكازهم في وجوب تجنب المساجد النجاسات هو حيثية عظمتها و حرمتها لدى الشارع الأقدس، أو كان التنجيس مطلقا هتكا عنده و لو لم يكن عندنا كذلك.

هذا بالنسبة الى غير الخط من المصحف، و أما هو فلا ينبغي الإشكال في حرمة تنجيسه و وجوب الإزالة عنه، لارتكازية الحكم لدى المتشرعة، و لفحوى قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» الظاهر منه مبغوضية مسّ غير الطاهر إياه بأي وجه اتفق، و المفهوم منه الحكم فيما نحن فيه، سيما أن الظاهر من الآية الكريمة أن المناط فيها غاية علو القرآن و عظمته و كرامته.

المطلب الرابع: يعتبر في التطهير بالماء القليل انفصال الغسالة

على النحو المتعارف ففي مثل الأجسام التي لا يرسب فيها النجاسة كالبدن و الجسم الصقيل يكفي صب الماء بنحو ينفصل غسالته عنها، و فيما ترسب النجاسة فيه و تنفذ لا بد من إخراج الغسالة بالعصر أو بغيره بأي نحو يمكن، لا لقيام إجماع أو شهرة عليه كما قد يدعي، فان الظاهر من تعليل

______________________________

(1) سورة الواقعة: 56- الآية 79.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 448

من يدعي الشهرة أو الإجماع أن الاستناد لم يكن إليهما، بل المسألة من التفريعات التي يدخلها الاجتهاد، و في مثلها لا يكون الإجماع حجة فضلا عن الشهرة.

بل الظاهر انه لم يكن للشارع إعمال تعبد في تطهير النجاسات إلا ما استثني مما نص على كيفية تطهيره، و الشاهد عليه أن الروايات الواردة في

باب تطهير أنواع النجاسات على كثرتها لم تزد إلا الأمر بالغسل أو الصب في بعض الموارد من غير تعرض لبيان الكيفية إلا نادرا، و التنصيص في بعض الموارد على التعدد كالبول أو على كيفية خاصة كالولوغ دليل على كونها في مقام البيان في سائر النجاسات أيضا فإطلاق الأمر بالغسل فيها يكشف عن عدم طريقة خاصة في التطهير، فدعوى ورود تعبد خاص زائدا على لزوم الغسل في غير محلها.

و لا لأن الغسل متضمن للعصر لغة أو عرفا، و إن قال المحقق في المعتبر: الغسل يتضمن العصر، و مع عدم العصر يكون صبا ثم قال:

و يجري ذلك- أي قولهم يغسل الثياب و البدن- مجرى قول الشاعر:

«علفتها تبنا و ماء باردا» ثم استشهد برواية الحسين بن أبي العلاء حيث قال: «في الجسد يصب عليه الماء مرتين، و في الثوب اغسله مرتين» «1» فجعل الصب مقابل الغسل، ثم قال: «أما الفرق بين الثوب و البدن فلأن البول يلاقي ظاهر البدن و لا يرسب فيه، فيكفي صب الماء لأنه يزيل ما على ظاهره، و ليس كذلك الثوب لأن النجاسة ترسخ فيه فلا تزول إلا بالعصر» انتهى.

و الظاهر من كلامه أن العصر مأخوذ في مفهوم الغسل. فلا بد في الثياب من الغسل و لا يكفي فيها الصب، لأنه لا يزيل النجاسة التي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 449

رسبت فيها، و سائر كلامه تعقيب لما فهم من معنى الغسل، و لا يبعد أن يكون قوله: «و هو مذهب علمائنا» استشهادا بفهمهم لتضمن الغسل العصر، لا دعوى الإجماع على حكم تعبدي، و انما قلنا لا لذلك لأن الغسل صادق عرفا

و لغة على صب الماء على البدن لإزالة القذارة و غيرها، و قد ورد الأمر بغسل الجسد و البدن و الوجه و اليدين في الكتاب و السنة إلى ما شاء اللّٰه من غير شائبة تجوز و تأول، و سيأتي الكلام في مثل رواية الحسين بن أبي العلاء، و توهم اعتبار العصر في مفهوم غسل الثياب و نحوها دون غيرها فيكون الغسل مشتركا لفظيا في غاية الفساد يرده العرف و اللغة.

و لا لأن خروج الغسالة و انفصالها معتبر في مفهوم الغسل كما يظهر من المحقق القمي على ما يبالي، لمنع ذلك و صدقه مع عدم انفصالها عرفا و لا لأن مفهوم الإزالة مأخوذ في ماهية الغسل كما قال به في مصباح الفقيه، ضرورة صدقه على الفاقد لها أيضا، فيصدق على صب الماء على اليد و لو لم تكن قذرة كالغسلتين في الوضوء.

بل لأن الظاهر من أدلة غسل النجاسات أن الأمر به غيري لإزالة النجاسة، و لا يكون عنوان الغسل بما هو مطلوبا حتى نقتصر في تحققه على أول المصاديق بأي نحو وجد، و لا شبهة في أن إزالة النجاسة و إرجاع الأجسام إلى حالتها الأصلية تختلف باختلاف الأجسام و اختلاف النجاسات، فإذا أمر بغسل الثوب من المني يفهم العرف منه أنه لا بد من الفرك و الدلك و التغميز و نحوها، لا لاعتبارها في مفهوم الغسل، بل لأنه توصلي إلى حصول النظافة للجسم و رجوعه إلى حالته الأصلية، و هو لا يحصل إلا بها، و إذا أمر بغسل اليد من البول الذي لا جرم له لا يفهم منه إلا صب الماء عليه و إخراج غسالته، لأن ملاقاة البول لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 450

يوجب حصول أثر يحتاج الى الدلك و إن احتاج إلى إخراج غسالته لزوال القذارة به.

و بعبارة أخرى ان الغسل بالماء انما يوجب النظافة و رفع القذارة لأنه إذا صب على المحل و غسل به يوجب ذلك انتقال القذارة منه اليه فمع بقاء الغسالة على المحل لا يرتفع القذارة، فلو يبس الثوب المغسول بالماء من غير إخراج غسالته تبقى قذارته عرفا، بخلاف ما لو خرجت منه، فالمعتبر في التطهير ليس العصر بعنوانه، بل المعتبر خروج الغسالة بأي علاج كان، و هو أمر عقلائي متفاهم من الأوامر الواردة في غسل النجاسات.

و هذا بالنسبة إلى القذارات التي يدرك العرف قذارتها لا إشكال فيه و لا في مساعدة العرف له، و إن كانت حكمية بنظر العرف بأن لا يبقى في الملاقي أثر من الملاقي لكن تتنفر الطباع بمجرد ملاقاته، كملاقاته لبدن الميت، أو العذرة اليابسة، أو ملاقاة طعامه لها، فان غسله لرفع النفرة لا يتحقق إلا بانفصال الغسالة.

و أما النجاسات الجعلية الالحاقية كالكافر و الكلب و نحوهما فهي أيضا كذلك، لأن الغسل كما عرفت لإزالة القذارة، و هي تتوقف على إخراج الغسالة بالعصر أو ما يقوم مقامه في القذارات العرفية، فإذا جعل الشارع قذارة لشي ء و أوجد مصداقا من القذارة في عالم التعبد يجب على المكلف ترتيب آثار القذارة العرفية عليه، نعم لما لم يكن التنزيل و الجعل إلا في نفس القذارة لا غير يكون حكمه حكم القذارات غير العينية إذا لم يلصق من أعيانها على الملاقي كالمثال المتقدم، فلا يحتاج في التطهير إلى الدلك و نحوه.

ثم أن ما ذكرناه من لزوم العصر أو ما يقوم مقامه لإخراج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3،

ص: 451

الغسالة ثابت حتى مع القول بعدم انفعال الغسالة، فإن عدم انفعالها لا يلازم إزالة النجاسة عن المحل المتوقفة على إخراج الماء و انفصاله، نعم لو قلنا بأن المحل يصير طاهرا قبل خروج الغسالة و مع بقائها فيه ينفعل ثانيا عنها لكان للتفصيل وجه، لكن المبنى غير صحيح. لأن طهارة المحل و نظافته انما تحصل بمرور الماء على المحل القذر و خروجه عنه، فلو صب الماء في إناء قذر و قلنا بعدم انفعاله فمع بقائه فيه حتى يبس لا يصير طاهرا نظيفا بحكم العقلاء و لو لم ينفعل الماء، فالنظافة موقوفة على إزالة النجاسة و ذهابها بوسيلة مرور الماء على المحل سواء انفعل أم لا.

و بعبارة أخرى أن الماء يزيل القذارة بمروره على المحل و انفصاله عنه لا بانتقال النجاسة إليه محضا، مضافا إلى أن الأقوى انفعال الغسالة و عدم التلازم بين طهارة المحل و طهارتها كما هو المقرر في محله.

ثم أن الأخبار الواردة في غسل البول كصحيحة الحسين بن أبى العلاء على الأصح قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين، و سألته عن الصبي يبول على الثوب، قال: يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره» «1» و صحيحة البزنطي قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب، قال: اغسله مرتين» «2» لا تدل على اعتبار العصر أو نحوه في مفهوم الغسل، و هو واضح، و لا تدل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4 و الباب- 3- من هذه الأبواب- الحديث

1.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 452

على أن الصب ليس بغسل، بل تدل على أن الغسل المطلوب لإزالة القذارة يحصل في مثل البول و الجسد بالصب من غير احتياج إلى الدلك و الغمز.

و لهذا يفهم العرف منه أن الصب بوجه خاص تزال به القذارة مطلوب، لا مطلقه و لو لم يمر على المحل و لم تخرج غسالته، و انما قال في الثوب: «اغسله» لأجل أنه لو قال صب عليه لتوهم منه عدم لزوم إخراج غسالته ردعا لبناء العقلاء في كيفية الغسل، و أمر بالغسل لمعهودية كيفيته إذا كان لإزالة القذارة.

فتحصل مما ذكرناه أن ما يعتبر في التطهير إخراج الغسالة و انفصالها بأي علاج كان، بل لو كان العصر مصرحا به في الروايات لما كان ينقدح منه في الأذهان إلا الطريقية لخروج الغسالة، لا موضوعية عنوانه بحيث لم يقم مقامه ما فعل فعله.

ثم أنه يظهر مما مر من أن عدم انفعال ماء الغسالة لا يلازم عدم لزوم إخراجها في التطهير أنه يعتبر في الغسل بالماء الجاري و الكثير المعتصم خروج الماء المحيط بالثوب، و لو بتغيره و تبدله، و لو في داخل الماء بأي نحو كان من الغمز أو تموج الماء أو قوة حركته و جريانه إلى غير ذلك، فالاكتفاء في التطهير بمطلق اصابة الثوب الكر أو الجاري مشكل لا دليل عليه. و الأخذ بإطلاق أدلة الغسل بعد ما مر من مساعدة العرف في كيفية التطهير لإمرار الماء على المحل لاذهاب القذارة في غير محله.

كما أن التمسك بمرسلة الكاهلي الواردة في المطر، و فيها: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» مع دعوى

عدم القول بالفصل بينه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 453

و بين الجاري بل عدم القول به بينه و بين الكثير، مضافا الى المرسل المحكي عن المنتهى عن أبي جعفر عليه السلام مشيرا الى غدير ماء «ان هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «1» مشكل لضعف المرسلة و لو سلم جبرها بالعمل كما لا يبعد، و سيأتي في محله، فعدم القول بالفصل و الإجماع على التلازم بين المطر و الجاري و الكر غير ثابت، بل مقتضى إطلاق كثير من الأصحاب على ما حكي عدم الفرق في لزوم العصر بين القليل و غيره، و لو لبنائهم على كون العصر مأخوذا في مفهوم الغسل.

و مرسلة المنتهى غير حجة، و اشتهار الحكم بين المتأخرين، بل و استنادهم إليها لا يوجب الجبر مع عدم معلومية الاستناد إليها، فالأحوط لو لم يكن الأقوى لزوم الفرك أو العصر أو التحريك أو نحوها مما يوجب تبدل الماء الداخل في الجملة، و الظاهر تحققه بالغمز في الجاري الذي يكون جريانه محسوسا، سيما إذا كان قويا. بل الظاهر حصول

______________________________

(1) أورده المحدث النوري في مستدركة نقلا عن المختلف و هذا نصه: «العلامة في المختلف عن ابن أبي عقيل قال: ذكر بعض علماء الشيعة أنه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام و كان في طريقه ماء فيه العذرة و الجيف و كان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل به رجله إذا خاضه، فأبصر بي يوما أبو جعفر عليه السلام فقال: ان هذا لا يصيب شيئا إلا طهره فلا تعد منه غسلا» ثم قال بعد كلام

له و قال الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة في كلام له: مضافا الى قوله عليه السلام في بعض الروايات مشيرا الى غدير الماء: إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره، و أراد به هذا الخبر و ليس فيه ذكر للغدير، و هو أعرف بما قال» راجع المستدرك- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 454

ذلك في القليل في بعض الأحيان، كما إذا صب من مكان مرتفع بقوة، أو صب على الثوب مستمرا بحيث خرجت الغسالة بورود الماء بعد ورود مستمرا.

ثم أنه يستثنى مما ذكر بول الصبي قبل أن أكل و أطعم، و قد ادعى السيد إجماع الفرقة المحقة على جواز الاقتصار على صب الماء و النضح، ثم تمسك بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «يغسل من بول الجارية، و ينضح من (على خ ل) بول الصبي ما لم يأكل الطعام» «1» و بما روت زينب (لباب خ ل) بنت الجون «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أخذ الحسين بن على عليهما السلام فأجلسه في حجره فبال عليه، قالت: فقلت له: لو أخذت ثوبا و أعطيتني إزارك لأغسله، فقال: انما يغسل من بول الأنثى، و ينضح على بول الذكر» «2» انتهى، و الروايتان من غير طرق أصحابنا، و كذا ادعى الشيخ إجماع الفرقة فيه على كفاية الصب بمقدار ما يغمزه، و عدم وجوب غسله، و عن غير واحد من المتأخرين دعوى عدم الخلاف و أنه مذهب الأصحاب.

و تدل عليه مضافا إلى ذلك صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصب

عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا، و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء» «3» و نحوها عن فقه الرضا عليه السلام «4» و عن الصدوق في معاني الأخبار «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتي بالحسن بن علي عليهما السلام فوضع

______________________________

(1) راجع سنن أبي داود ج 1- ص 154.

(2) راجع سنن أبي داود ج 1- ص 154.

(3) مرت في ص 27.

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 455

في حجره فبال، فقال: لا تزرموا ابني، ثم دعا بماء فصب عليه» «1» و عن دعائم الإسلام قال الصادق عليه السلام. «في بول الصبي يصب عليه الماء حتى يخرج من الجانب الآخر» «2».

و موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام قال: «لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن يطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين» «3» و روي في فقه الرضا عليه السلام نحوها عنه عليه السلام «4» و قريب منها ما عن الجعفريات عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام «5» و عنها عن جعفر بن محمد عن علي عليهم السلام «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بال عليه الحسن و الحسين عليهما السلام قبل أن يطعما، فكان لا يغسل بولهما من ثوبه» «6».

و لا منافاة بين ما دل على عدم الغسل من بوله و بين ما دل على وجوب الصب، فإن دلالة الأول على طهارته

و عدم لزوم شي ء بالسكوت في مقام البيان، و هو لا يقاوم التصريح بالصب، بل في كون موثقة السكوني و ما يضمونها في مقام البيان من هذه الجهة منع، فان الظاهر أنها في مقام بيان نكتة الفرق بين بول الغلام و الجارية بعد معهودية أصل الفرق.

______________________________

(1) مرت في ص 28.

(2) المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(3) مرت في ص 29.

(4) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 1.

(5) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 3.

(6) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 456

و أما موثقة سماعة قال: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب فقال: اغسله، قلت: فان لم أجد مكانه، قال: اغسل الثوب كله» «1» فطريق الجمع بينها و بين صحيحة الحلبي تقييدها بها، و يمكن حملها على الاستحباب و كمال النظافة تحكيما لنص رواية السكوني على ظاهرها.

و أما رواية الحسين بن أبي العلاء الصحيحة على الأصح قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن البول يصيب الجسد. قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول، قال:

اغسله مرتين، و سألته عن الصبي يبول على الثوب قال: يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره» «2» فليس المراد من العصر فيها العصر المعهود في غسل الثياب بقرينة مقابلة صب الماء قليلا و العصر مع غسل الثوب في بول غير الصبي، فإنه لو كان المراد منه صب الماء و العصر على النحو المعهود في غسل سائر النجاسات لقال: اغسله، و لو كان الفرق بين بوله و بول غيره بالمرة و المرتين لقال اغسله مرة، فتغيير التعبير دليل على عدم لزوم الغسل،

فلو كان العصر هو المعهود لزم منه وجوب الغسل، و هو ينافي المقابلة «3» سيما مع تقييد الصب بكونه قليلا،

______________________________

(1) مرت في ص 26

(2) مرت في ص 451.

(3) و لا يخفى أن ما استظهره الأستاد دام ظله من الصحيحة مبني على كونها رواية واحدة و أما إذا قلنا بأنها روايات ثلاث و ان راويها جمعها في كتاب أو نقل واحد كما هو الظاهر منها- و يؤيده كون الحسين بن أبي العلاء من أصحاب الكتب بل و عن الشيخ في الفهرست:

«له كتاب يعد في الأصول»- فلا يحسن الاستظهار منها بهذا النحو بل لا بد من بيان آخر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 457

و هو دليل آخر على عدم لزوم الغسل، و على عدم كون العصر لإخراج الغسالة.

بل الظاهر أنه لا يصال الماء الى جوف الثوب، فان من طباع البول لحرارته أن يرسب في الثوب، و من طباع الماء البارد أن لا يرسب عاجلا إلا بالعلاج سيما مع قلته، فلا منافاة بينها و بين صحيحة الحلبي المقتصر فيها على الصب، فإنه أيضا لا يكفي إلا مع الغلبة على البول و وصول الماء إلى جميع ما وصل إليه البول، و لا يكفي الصب على ظاهر الثوب لتطهير باطنه، كما هو الظاهر من رواية الدعائم المتقدمة، فإن الخروج من الجانب الآخر من الثوب لوصوله الى كل ما وصل اليه البول لخروجه من الجانب الآخر في غالب الثياب، فلا تعارض بين الروايات بحمد اللّٰه.

و هل تلحق الصبية بالصبي؟ ظاهر الخلاف بل الناصريات الإجماع على عدم الإلحاق، و عن المختلف الإجماع على اختصاص الحكم بالصبي و عن جمع دعوى الشهرة عليه، و عن الذكرى و في بول

الصبي قول بالمساواة، و لعله استظهره من محكي عبارة الصدوقين، حيث أوردا عبارة الرضوي بعينها «1» و اختاره صاحب الحدائق صريحا.

و الأقوى عدم الإلحاق كما عليه الأصحاب، لاعراضهم عن ذيل الصحيحة، مع معارضتها لموثقة السكوني، حيث انها نفت التفرقة بينهما، و هي صرحت بها و لا جمع عقلائي بينهما «2» و مع التعارض

______________________________

(1) هذا نصها: «و إن كان البول للغلام الرضيع فتصب عليه الماء صبا، و إن كان قد أكل الطعام فاغسله، و الغلام و الجارية سواء» راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) و يمكن حمل رواية السكوني على التقية، لموافقة مضمونها لبعض العامة. و أن التصريح بالتسوية في الصحيحة لدفع مثل ما صدر تقية، بل هي ناظرة إليها، مضافا الى ان التفصيل بين لبن الجارية و لبن الغلام يورث فيها الوهن، على أن في سندها النوفلي، و هو لم يوثق، فالتعبير عنها بالموثقة لا يخلو من مسامحة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 458

فإن قلنا بأن الشهرة مرجحة فالترجيح مع الموثقة، و إن قلنا بأنها موهنة لمخالفها فالوهن للصحيحة، و إن قلنا بأن موافقة السنة القطعية مرجحة فالترجيح للموثقة. و إن قلنا بأن العمومات مرجع لدى التعارض فعمومات غسل النجاسات و غسل البول مرتين حاكمة على عدم المساواة ثم أن الظاهر المتفاهم من الأدلة أن الموضوع للحكم هو الصبي الذي لم يطعم أو لم يأكل الطعام، كما هو معقد إجماع الخلاف بل الناصريات، كما يظهر من عنوان البحث فيها، و هو المراد من الرضيع في خلال كلامه، كما هو ظاهر، و هو و مقابله مأخوذان في الروايات المحكية من طرقهم و طرقنا عدا فقه الرضا عليه السلام

الذي لم يثبت كونه رواية و لا شبهة في ان الظاهر من قوله عليه السلام في صحيحة الحلبي: «فإن كان قد أكل فاغسله» أنه إذا كان متغذيا و آكلا بشهوته و إرادته على النحو المعهود بحيث يقال: إنه صار متغذيا، للفرق بين قوله: «إذا أكل فاغسله» و قوله: «فان كان قد أكل» لأن الثاني ظاهر فيما ذكرناه دون الأول، و كذا الحال في قوله عليه السلام في موثقة السكوني:

«قبل أن يطعم» و قوله عليه السلام: «ما لم يأكل الطعام» الى غير ذلك من التعابير.

و ليس الرضيع موضوعا للحكم حتى يقال بانصرافه إلى من لم يبلغ سنتين، و احتمال كون العنوانين كناية عن عدم كونه رضيعا- و في مقابله الرضيع- لا يساعده الظاهر، و لهذا لا يحتمل كون بول المولود

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 459

آن ولادته قبل الرضاع كبول سائر الناس، و لا أظن التزام أحد بذلك، إلا أن يقال بصدق الرضيع عليه بمعنى كونه في سن الرضاع و هو كما ترى مجاز في مجاز.

و مما ذكرناه من كون الموضوع هو الصبي الذي لم يطعم و لم يأكل يتضح ثبوت الحكم للصبي الذي شرب من لبن كافرة أو خنزيرة فضلا عن بقرة و نحوها، بل لا يبعد ثبوته لمن شرب من الألبان الجافة المعمولة في هذه الأعصار على إشكال، سيما إذا كان ممزوجا من بعض الأغذية، بل الأقرب عدم الثبوت في هذا الفرض.

ثم أن ما ذكرناه من ثبوت الحكم للمذكورات انما هو لإطلاق الأدلة، و دعوى انصرافها عنها انما تسمع على تأمل في بعضها إذا كان الموضوع للحكم الرضيع، و الاستيناس أو الاستدلال لوجوب الغسل في بعضها بموثقة السكوني بدعوى

ان مقتضى التعليل فيها وجوبه كما ترى فان التعليل على فرض العمل به تعبدي يناسب استحباب الغسل لا لزومه ضرورة أن اللبن إذا خرج من المثانة لا يوجب ذلك نجاسته لو أريد الملاقاة للنجس في الباطن، و مع ذلك هو غير مربوط بالاغتذاء باللبن النجس كما هو ظاهر.

نعم في إلحاق بول طفل الكافر نوع تردد ناش من أن ملاقاته لجسمه يمكن أن يلحقه الأثر الزائد و إن لم ينجسه، و يأتي ذلك التردد فيما إذا لاقى بوله نجسا آخر و استهلك ذلك النجس فيه، و لو لاقى المحل بعد ملاقاته لبول الصبي نجسا آخر كبول غيره فالظاهر وجوب غسله و عدم الاكتفاء بالصب.

ثم ان الظاهر من الأخبار المعتمدة لزوم الصب، فلا يكفي النضح و الرش، و هو معتمد إجماع الخلاف، و لا يبعد أن يكون عطف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 460

السيد في الناصريات النضح على الصب انما أراد به ما يصدق عليه الصب كبعض مصاديقه، و لهذا لم يعطفه بأو، إذ من البعيد استناده في الفتوى إلى الروايتين المتقدمتين من طرقهم، و انما استدل بهما اقحاما لهم كما هو دأبه، و كذا دأب شيخ الطائفة و بعض آخر من أصحابنا، كما انهم ربما يستدلون في الأحكام بأمور تشبه القياس إرغاما لهم لا استنادا إليها، و ظن الغافل غير ذلك، و ربما طعن بهم و العياذ باللّٰه.

و كيف كان فالأقوى عدم كفاية الرش، و دعوى إلقاء الخصوصية لو فرضت قاهرية الماء بالرش مع تكرره و إن لا تخلو من وجه لكن الأوجه خلافها، لاحتمال كون الدفعة دخيلا في التطهير، و القاهرية التدريجية غير كافية، بل العرف يساعد ذلك في أبواب

التطهير و إزالة النجاسات.

ثم أن الظاهر من الأخبار أن مجرد صب الماء على بوله موجب لطهارته من غير لزوم خروج الغسالة و جري الماء على المحل، و لازمة عرفا عدم نجاسة ما انفصل منه لو فرض انفصاله بعصر أو غيره.

للفرق الواضح بين غسالته و غسالة سائر النجاسات بحسب اقتضاء الأدلة فإن كيفية تطهير سائرها على ما مر بصب الماء على المحل القذر و إجرائه عليه لإزالة القذارة بذلك، بمعنى أن الماء بإجرائه على المحل و انفصاله يذهب بقذارته، فصار الماء قذرا و المحل طاهرا لانتقال قذارته إلى الماء، و هو أمر يساعد معه العرف و العقلاء في رفع القذارات العرفية كما هو واضح، و لهذا قلنا بنجاسة الغسالة حتى المطهرة.

و أما بول الرضيع الذي بيّن الشارع كيفية تطهيره و أخطأ العرف فيها فلا ينبغي الإشكال في أن المتفاهم من أدلتها أن غلبة الماء عليه مطهرة من غير انفعاله به، و إلا فلا يحكم بجواز بقائه في الثوب حتى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 461

ييبس، و معه كيف يمكن التفكيك عرفا بين الماء الذي في المحل فيقال بطهارته إذا كان فيه و نجاسته إذا انفصل منه، و بالجملة فرق واضح بين الغسلة المزيلة للنجاسة بجريانها و انفصالها و بين الماء المطهر للمحل بنفس اصابته و قاهريته و لو لم يخرج منه، فالقول بالتفكيك كالقياس على الغسالة ضعيف جدا.

ثم أن ما ذكرناه في صدر المبحث من اعتبار حصول الغسل في النجاسات لإزالتها و تطهيرها- و هو يتوقف على قاهرية الماء على المحل و خروج غسالته لتحصيل الإزالة و إذهاب القذارة بمرور الماء و خروجه- هو مقتضى الأدلة الواردة في غسل النجاسات، و

ليس للشارع إلا فيما استثني طريقة خاصة في ذلك و لا اعمال تعبد.

فحينئذ يكون غسل الفرش المحشوة بالصوف أو القطن ممكنا، أما ظاهرها فبإجراء الماء عليه و عصرها، و لا تسري النجاسة من باطنها اليه بمجرد رطوبة متصلة ما لم يلاق مع النجس برطوبة، و ملاقاة أحد الطرفين لا يوجب نجاسة الطرف الآخر كما هو مقتضى صحيحة إبراهيم ابن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الطنفسة و الفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما و هو ثخين كثير الحشو؟ قال: يغسل ما ظهر منه في وجهه» «1».

و أما باطنها فلا بد في تطهيره من حصول الغسل بالمعنى المتقدم فيه، و هو يحصل بغمرها في الماء الكثير و تحريكها أو غمزها أو عصرها لخروج الماء الوارد فيها، أو صب الماء القليل عليها حتى قهر على النجاسة ثم إخراج غسالته بوجه من العلاج.

و ربما يتوهم من رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 462

خلاف ذلك و أوسعية الأمر فيها، قال: «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال: يغسل الظاهر، ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر» «1» بدعوى دلالتها على عدم لزوم العصر و إخراج الغسالة و فيه أولا أن الظاهر منها اصابة البول على ظاهر الفراش، للفرق بين قوله عليه السلام: «أصابه البول» و بين قوله: «بال عليه شخص» لأن الظاهر من الأول اصابة ظاهره، و لعل السؤال عنه و القيد بكثرة الصوف لاحتماله لزوم إخراج الصوف منه ثم غسله، و عدم تحقق غسل

ظاهره إلا به، و الأمر بصب الماء عليه بعد غسل ظاهره لعله لاحتمال السراية كالرش الوارد في نظيره، و لهذا أمر بغسل ظاهره أولا ثم صب الماء عليه.

و تشهد لما ذكرناه صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر و عن الفرو و ما فيه من الحشو؟ قال: اغسل ما أصاب منه، و مس الجانب الآخر، فإذا أصبت مس (من خ ل) شي ء منه فاغسله و إلا فانضحه» «2» حيث أمره بالغسل في فرض نفوذ النجاسة إلى الباطن.

و ثانيا أنه من المحتمل أن يكون مراده من خروجه من الجانب الآخر خروج جميعه أو معظمه و لم يذكر العصر أو نحوه لعدم الاحتياج الى الذكر بعد توقفه عليه، تأمل.

و ثالثا يمكن أن يكون الصوف الكثير في باطن الفراش بوجه لا يقبل الماء نوعا، و خرج منه الغسالة بلا علاج، و الانصاف أن رفع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 463

اليد عن إطلاق أدلة الغسل الموافق للقواعد و ارتكاز العقلاء و خصوص صحيحة إبراهيم المتقدمة لا يجوز بمثل هذه الرواية.

هذا كله فيما يمكن فيها الغسل بالمعنى المعتبر في إزالة النجاسة، و أما الأجسام التي لا يمكن فيها ذلك كالصابون و الحبوب و الفواكه و ما يجري مجراها مما لا ينفذ الماء فيها بل تنفذ الرطوبة فيها فالظاهر عدم إمكان تطهير بواطنها لا بالماء الكثير و لا بالقليل، فان تطهيرها يتوقف على مرور الماء المطلق عليها و خروجه منها لإزالة القذارة كما مر مرارا و ليس للشارع

تعبد خاص في تطهير البواطن. و سيأتي في حال بعض الأخبار المتمسك بها لذلك، كما انه ليس في الأدلة ما تدل على قبول كلية الأجسام للتطهير، و ما قيل: إنه يستفاد من تتبع الأخبار و كلمات الأصحاب ان كل متنجس حاله حال الثوب و البدن في قبوله للتطهير و التشكيك في ذلك سفسطة غير وجيه، و لا مستند الى دليل.

نعم لا شبهة في أن تحقق الغسل في كل متنجس موجب للطهارة و أما مع تعذره لأجل عدم إمكان نفوذ الماء فيه أو عدم إمكان إخراج غسالته منه فلا دليل على حصول الطهارة له- و غمض الشارع عن الغسل و الاكتفاء بغيره بدله أو اكتفاؤه بغسل ظاهره لطهارة باطنه تبعا من غير تحقق الغسل- إلا بعض الروايات، كرواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله» «1» و قريب منها خبر السكوني «2».

بدعوى أن مقتضى إطلاقها إمكان غسل اللحم مطلقا سواء كان مما ينفذ

______________________________

(1) مرت في ص 178.

(2) مرت في ص 381.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 464

فيه الماء أو لا، فتدل على جواز غسل مطلق اللحوم بل مطلق أجسام نحوها بماء كثير أو قليل يمر على ظاهرها، و طهارة باطنها بتبعه، و عدم لزوم مرور الماء أو سرايته و نفوذه الى باطنها، فان اللحم الذي يكون رطبا و لزجا و قد رسب فيه الماء المتنجس لا يرسب فيه الماء حتى يتحقق الغسل بالنسبة إلى باطنه، فالأمر بغسله و أكله دليل على أن غسل

ظاهره كاف في طهارته ظاهرا و باطنا.

و فيه أن ما ذكر وجيه لو لم يقبل باطن اللحوم مطلقا غسلا، و أما مع قبول كثير من أفرادها فلا وجه له، لأن الأمر بغسل اللحم و أكله لا يدل على قبول كل لحم ذلك، كما هو واضح. فهل يمكن أن يقال إن قوله: «اغسل ثوبك من البول وصل فيه» يدل على قبول كل ثوب الغسل؟ فلو فرض عدم إمكان غسل باطن ثوب لعارض يكتفى بظاهره و يصلى فيه، بل لأحد أن يقول: إن الروايتين بما أنهما تدلان على توقف جواز الأكل على الغسل الذي أمر عقلائي معهود دالتان على أن ما لا يمكن غسله لا يجوز أكله، فلا يجوز أكل مثل الشحم و بعض أقسام اللحوم الذي لا يرسب فيه الماء و لا يمكن غسله.

مضافا إلى أن في إطلاقهما لصورة العلم بنفوذ النجاسة إلى باطن اللحم مع ندرة حصوله اشكالا، بل لعل الجمع بين افادة لزوم الغسل فيما يمكن غسل باطنه و الاكتفاء بغسل الظاهر عن الباطن و طهارته تبعا بلفظ واحد غير ممكن، و كالجمع بين اللحاظين المختلفين، فتدبر.

و الانصاف ان القول بتبعية الباطن للظاهر التي هي خلاف القواعد المحكمة بمثل هاتين الروايتين اللتين على خلاف المطلوب أدل مما لا يمكن مساعدته، و أضعف منه التمسك بمرسلة الكاهلي، و فيها «كل شي ء يراه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 465

ماء المطر فقد طهر» «1» بدعوى عدم الفصل بينه و بين سائر المياه حتى الماء القليل من هذه الجهة، و مرسلة العلامة في غدير الماء «2» مع الدعوى المذكورة، و ذلك لمنع اصابة ماء المطر و اصابة الكر بواطن الأشياء، بل ما أصابها

هو الرطوبة، و هي غير الماء عرفا، مع ضعف مرسلة العلامة، و عدم الجابر لها. و عدم ثبوت الإجماع على الملازمة، سيما مع القليل.

و أغرب منه التمسك بمرسلة الصدوق الحاكية لوجدان أبى جعفر عليه السلام لقمة خبز في القذر فأخذها و غسلها ليأكلها فأكلها غلامه «3» لأنها قضية شخصية لا يعلم كيفية قذارة الخبز، بل لا يعلم تأثره من القذر فضلا عن العلم بقذارة باطنه، و يتلوه في الضعف التشبث برواية طهارة طين المطر إلى ثلاثة أيام «4» و نحوها مما هي أجنبية عن المقام، مع أن في المطر كلاما ربما يلتزم فيه بما لا يلتزم في غيره.

فتحصل مما ذكر أن في كل جسم من المذكورات تحقق الغسل بما هو معتبر فيه لإزالة النجاسة و لو بجعله مرة أو مرات في الماء العاصم لينفذ الماء المطلق الى باطنها و يخرج منه صار طاهرا، و إلا فمجرد وصول الرطوبة و لو من الماء العاصم اليه لا يوجب الطهارة.

و دعوى وحدة الماء مع الرطوبة التي في الجوف غير مسموعة أولا و غير مفيدة للطهارة ثانيا كما مر، و أوضح منها فسادا دعوى أن المناط في التطهير على صدق نفوذ الكر فيه و وصول الماء المطلق الى باطنه، و لا ملازمة بينه و بين إطلاق اسم الماء عليه، فإنه لو سرت نداوة الماء الى

______________________________

(1) مرت في ص 452.

(2) مرت في ص 453

(3) راجع الوسائل- الباب- 39- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1

(4) راجع الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 466

خارج الإناء يطلق عرفا ان ماءه نفذ فيه و خرج منه إطلاقا حقيقيا، لكن لو لوحظ الأجزاء

المائية السارية فيه بحيالها لا يطلق عليها اسم الماء لاستهلاكها في الظرف، انتهى.

إذ لم يتضح كيف لا يصدق على ما سرى فيه الماء، و مع ذلك صدق نفوذ الماء فيه و وصول الماء المطلق الى باطنه، و أنه غسل باطنه بالماء مع كون الرطوبة غير الماء عرفا، و هل هذا إلا تناقض ظاهر؟! و مجرد لحاظ الأجزاء تارة مستقلا و أخرى تبعا لا يوجب صيرورة الرطوبة ماء و الماء رطوبة، و ليت شعري ما الداعي إلى هذه التكلفات البعيدة عن الواقع و الأذهان لإثبات أمر لا دليل عليه، و أي دليل على قبول كل شي ء التطهير، فالأقوى ما تقدم.

و يظهر مما مر في كيفية غسل المتنجسات أنه لو تنجس الأرض تصير طاهرة بإمرار الماء القليل عليها و إخراج الغسالة، و لا يكفي صبه عليها من غير الإمرار و الإخراج، و رواية أبي هريرة «1»- مع كونها ضعيفة و تسميتها مقبولة غير مقبولة و مجرد تمسك شيخ الطائفة بها إرغاما للقوم لا يوجب مقبوليتها- فيها نقل قضية مجهولة لا يعلم كيفيتها، لاحتمال أن الأعرابي بال عند باب المسجد بحيث صار صب ذنوب من الماء عليه موجبا لخروج غسالته عن المسجد.

المطلب الخامس: يعتبر في تطهير البول
اشارة

- عدا ما استثني- بالماء القليل الغسل مرتان من غير فرق بين الثوب و الجسد، لتظافر الأخبار عليه كصحيحة محمد بن مسلم

______________________________

(1) راجع عمدة القارئ شرح البخاري للعيني ج 1 ص 884.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 467

عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن البول يصيب الثوب، قال: اغسله مرتين» «1» و نحوها صحيحة ابن أبي يعفور «2» و صحيحة الحسين بن أبي العلاء المتقدمة «3».

و صحيحة البزنطي المنقولة عن جامعه

قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله مرتين» «4».

و صحيحة أبي إسحاق النحوي ثعلبة بن ميمون الثقة على الأصح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين» «5».

فالتفصيل بين الثوب و غيره بلزوم المرتين في الأول و الاكتفاء بالمرة في الثاني للخدشة في أسناد ما دل على المرتين في الجسد ضعيف، لصحة الروايات المتقدمة و وثاقة رواتها على الأصح، مع أن الحكم مشهور بين الأصحاب، كما عن البحار و المدارك و الكفاية، و عن المعتبر نسبته إلى علمائنا، و عن الذخيرة أن عليه عمل الطائفة، و ليس لهم مستند غيرها، فأسنادها مجبورة لو فرض ضعفها.

و توهم أن حمل أخبار المرتين على الاستحباب أولى من رفع اليد عن إطلاق الروايات الكثيرة المقتصرة على الأمر بالغسل مؤيدة بما دل على الاكتفاء بالمرة في الاستنجاء بعد عدم الفارق عرفا بينه و بين غيره فاسد، لعدم الإطلاق في الأخبار، لأن كلها أو جلها في مقام بيان أحكام أخر، فلا إطلاق فيها كما تقدم في غسل الفراش، لكونها في مقام بيان كيفية غسل الفراش لا حال البول.

فقوله عليه السلام في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود: «يغسل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 468

ما ظهر منها في وجهه» «1» يراد منه أنه يكتفى

بغسل ظاهره، و لا يجب إخراج حشوه أو غسله، لعدم الاحتياج إليه و عدم الابتلاء إلا بظاهره، فلا إطلاق فيها، و كذا الحال في غيرها.

نعم لا يبعد الإطلاق في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «2» على إشكال فيه، لاحتمال كونه بصدد الفرق بين بول ما يؤكل و ما لا يؤكل، لا بصدد كيفية الغسل، و لو فرض الإطلاق في بعضها فيقيد بالمستفيضة الدالة على وجوب التعدد، و التأييد بما في باب الاستنجاء في غير محله، فإنه لو التزمنا فيه بكفاية المرة فلا يمكن إلقاء الخصوصية بعد ما نرى فيه من التخفيف ما ليس في غيره.

ثم أن الظاهر منها أن المعتبر في كل غسلة هو إخراج الغسالة على النحو المتقدم، و أما الاكتفاء في الغسلة الأولى بإزالة العين كيف ما اتفقت فخلاف ظاهر الأدلة، حتى بناء على أن قوله: «مرة للإزالة و مرة للإنقاء» من تتمة رواية ابن أبي العلاء المحكية في المعتبر «3» و الذكرى «4» فان الغسل للإزالة بنظر العرف هو بإمرار الماء و إخراج غسالته لا الإزالة كيف ما اتفقت، فالمأمور به الغسل للإزالة لا الإزالة كما لا يكتفى بالإنقاء كيف ما اتفق، فكما أن الغسل للإنقاء لا يقتضي و لو بغير الغسل فكذا للإزالة، سيما مع الارتكاز بأن للماء خصوصية و أن للغسل لإزالة النجاسة لديهم كيفية معهودة.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) في أحكام النجاسات ص 162.

(4) في البحث الثالث من أحكام النجاسات ص 15.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 469

هذا

كله مع أن الوثوق حاصل بعدم كون هذا الذيل من تتمة الحديث. بل هو من اجتهاد الناقل، لعدم وجوده في شي ء من كتب الحديث، كما هو المحكي و المشاهد.

هذا كله حال بول غير الصبي، و أما بوله فالظاهر عدم اعتبار تعدد الصب فيه، لإطلاق صحيحة الحسين المتقدمة. سيما بعد وقوع السؤال عن بوله عقيب السؤال عن البول الذي أصاب الجسد و الثوب، و الأمر فيهما بالصب و الغسل مرتين، إذ لا يبقى معه مجال توهم عدم الإطلاق «1».

بل الظاهر إطلاق صحيحة الحلبي أيضا قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصب عليه الماء، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا» «2» فان الظاهر أن سؤاله كان بعد الفراغ عن كيفية غسل بول غير الصبي، و إنما كان شاكا في كيفية غسل بوله، فقوله عليه السلام: «تصب عليه الماء» لبيان كيفيته، و قوله عليه السلام: «فان كان قد أكل» لبيان غاية الحكم في الصبي، لا لبيان غسل بول غيره حتى يقال كما لم يذكر الكيفية في الثاني لعدم كونه في مقام بيانها فكذا بول الصبي.

و بالجملة أن الظاهر كونه في مقام بيان كيفية غسل بول الصبي الذي هو محط السؤال، فيؤخذ بإطلاقه، لا لبيان كيفية غسل بول غيره، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة، فلا ينبغي الإشكال في

______________________________

(1) هذا بناء على أن تكون الصحيحة رواية واحدة، و أما بناء على ما استظهرناه سابقا من أنها روايات ثلاث فللخدشة في إطلاقها مجال.

(2) مرت في ص 454.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 470

كفاية المرة.

هذا حال الغسل بالماء القليل، و أما الجاري فيكفي فيه مرة واحدة بلا خلاف على المحكي،

و تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله في المركن مرتين، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة» «1».

و يمكن الاستدلال بها للاكتفاء بالغسل في الكر بمرة واحدة بأن يقال: لا إشكال في أن قوله عليه السلام: «في المركن» كناية عن الغسل بالماء القليل، و إلا فالكون في المركن لا دخالة له في الحكم، سيما مع مقابلته للجاري، فكأنه قال: اغسله بالقليل مرتين، و لا ريب في أن لقيد القلة دخالة في إيجاب المرتين، و مفهوم القيد و إن لم يكن حجة في غير المقام لكن فيه خصوصية لا بد من الالتزام بحجيته، و هي عدم كون شي ء آخر صالح للقيام مقام القيد في إيجاب المرتين، فان ما يتوهم إمكان قيامه هو الكثير المقابل للجاري و القليل المذكورين، و هو لا يصلح للنيابة، لأن دخالة القلة في ثبوت حكم لا يمكن مع دخالة الكثرة أيضا، و كون الحكم للجامع بينهما يخالف ظاهر الرواية فلا بد من القول بأن القلة علة منحصرة، و مع فقدها لا يجب المرتين و الأكثر منهما مقطوع العدم، فيجب المرة في غير القليل، و هو المطلوب و انما ذكر أحد مصاديق المفهوم و هو الجاري لنكتة خفية علينا.

و قد قلنا سابقا أن لا مفهوم للقضية الشرطية التي ذكرت تصريحا بالمفهوم، و إن قلنا بالمفهوم في سائر الموارد، هذا مع أن الشرطية في المقام سيقت لبيان تحقق الموضوع، و الوصف لا مفهوم له في غير المقام فضلا عن المقام الذي ذكرت القضية الثانية لبيان مفهوم القيد في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)، ج 3، ص: 471

القضية الأولى.

فتحصل من ذلك حجية مفهوم القيد في الجملة الأولى دون الثانية فلا تعارض بينهما من حيث المفهوم، و انما ذكر الجاري و هو أحد مصاديق المفهوم لنكتة لعلها كثرة وجوده في بلد السائل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الصحيحة لإثبات المطلوب لكنه محل إشكال، و لو سلم كون المركن كناية عن القلة، لإمكان أن يكون النائب مناب القيد الركود لا الكثرة، فلا يأتي فيه ما تقدم من البيان لا يقال: إن الركود مشترك بين القليل و الكر، فإن الجاري القليل حكمه مرة، فلا معنى لنيابته عنه، فإنه يقال: يمكن أن تكون القلة سببا مستقلا و الجريان مانعا عن تأثيره، و الركود سببا آخر، و انما نسب الحكم في القليل بالقلة لكونها كالوصف الذاتي للماء بخلاف الركود المقابل للجريان، فإنه من الأعراض اللاحقة، و الوصف الذاتي أسبق في التأثير.

هذا مع إمكان أن يقال: إن ذكر المركن ليس للاحتراز، بل لمجرد ذكر قسم من الماء، فحينئذ لأحد أن يعكس الأمر و يقول: إن توصيف الماء بالجاري لدخالته في الحكم، و ليس شي ء ينوب منابه، إذ مقابل الجاري الراكد، و هو لا يصلح للنيابة لعين ما تقدم، فيكون للجملة الثانية مفهوم بعد عدم المفهوم للأولى، و انما ذكر المركن لأنه أحد المصاديق، فتدل الرواية بمفهومها على وجوب التعدد في غير الجاري، لكنه أيضا محل إشكال، لأن الراكد و إن لم يصلح للنيابة لكن الكثير يمكن أن ينوب عن الجاري، سيما مع التناسب بينهما، و لكن الإنصاف أن إثبات حكم المرة أو المرتين في الكر بهذه الرواية في غاية الاشكال، و الظاهر سكوتها عن حكم الكر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 472

و أما الاستدلال على الاكتفاء بالمرة بمرسلة العلامة المتقدمة عن أبي جعفر عليه السلام مشيرا إلى غدير: «إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «1» بدعوى انجبار سندها بالشهرة، و أقوائية دلالتها مما وردت في غسل البول مرتين لأنها بالعموم و تلك بالإطلاق، بل الإطلاق أيضا صار موهونا بخروج الجاري منها، بل يمكن إنكار دلالتها إلا على القليل لكثرة القليل و قلة الكثير في تلك البلاد، سيما مع مقابلة الغسل للصب فيها و مصبه القليل.

ففيه منع جبر السند بعمل المتأخرين مع عدم ثبوت الاشتهار بالعمل بها حتى منهم، و منع أقوائية دلالتها، لأنها بالإطلاق أيضا لا العموم كما قرر في محله. بل للمنع من أقوائية العموم من الإطلاق مجال و خروج الجاري لا يوجب وهنا في الإطلاق لو لم نقل بإيجابه القوة، و لا مجال لإنكار إطلاقها حتى فيما اشتملت على الصب فضلا عن غيرها و قلة الكثير في بلد السائل كابن مسلم و أبي إسحاق و ابن أبي يعفور الكوفيين كما ترى.

و الاستدلال عليه بروايات ماء الحمام كقوله عليه السلام: «هو بمنزلة الماء الجاري» «2» و قوله: «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «3» فرع إثبات عموم التنزيل، و هو ممنوع، لأن الناظر في الروايات لا ينبغي أن يشك في أن التنزيل في عدم الانفعال، و تقوي بعضه ببعض آخر، و تطهير المادة الحياض كما هو الظاهر من الأسئلة و الأجوبة، فلا دلالة مع عمومه، سيما مع كون المعهود ذلك.

______________________________

(1) مرت في ص 453.

(2) راجع الوسائل- الباب- 7 من أبواب الماء المطلق الحديث 1.

(3) راجع الوسائل- الباب- 7 من أبواب الماء المطلق الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 473

و دعوى إلقاء الخصوصية عرفا من قوله عليه السلام: «فان غسلته بالماء الجاري فمرة واحدة»- فإن الاكتفاء فيه بها ليس إلا لقاهريته و استهلاك النجاسة فيه، و لا دخالة للمادة و الجريان فيه، بل ربما يدعى القطع بالمساواة- فيها ما لا يخفى، لعدم مجال لإلقائها عرفا بعد ما نرى أن للجاري خصوصية عرفا و لدى العقلاء، و من هنا لا ظنّ بالمساواة فضلا عن القطع به، سيما مع ما في الأحكام من المناطات التي تقصر العقول عن إدراكها.

و لقد أطنب المحقق صاحب الجواهر و أكثر في الاستدلال على الاكتفاء و لم يأت بشي ء مقنع يمكن التشبث به في مقابل الإطلاقات و الأصل.

ثم أن مقتضى الأدلة عدم الفرق بين بول الإنسان و غيره من الحيوانات غير المأكولة، و دعوى الانصراف و عدم الإطلاق ضعيفة، كما لا يتوهم فيما ورد في الدم و غيره مع كونهما من قبيلة أو أسوأ حالا، بل لا يبعد استفادة حكم سائر الأبوال لو فرض السؤال عن بوله الذي أصاب ثوبه، فإنه كما تلقى الخصوصية من الثوب عرفا تلقى من البول، فيقال: إن الحكم لطبيعة البول لا لبول نفسه أو نوعه، تأمل.

مضافا إلى أنه لا قصور في إطلاق صحيحة ابن مسلم و أبي إسحاق و ابن أبي يعفور و غيرها، و الظاهر منها أن الحكم لنفس طبيعته، و قلة الابتلاء ببول غير الإنسان و كثرة الابتلاء ببوله لا توجب الانصراف كما لا تنصرف سائر المطلقات عن الإفراد القليلة الابتلاء بها، مع منع قلة الابتلاء عن بعض الأبوال.

مضافا الى موثقة سماعة قال: «سألته عن أبوال الكلب و السنور و الحمار و الفرس، فقال: كأبوال الإنسان» «1» و مقتضى عموم

التشبيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 474

أن حد قذارتها كقذارة بوله، فلا بد من غسلها مرتين، و حمل الحكم في الحمار و الفرس على محمل كالتقية و نحوها لا يوجب رفع اليد عن غيره و الظاهر أن ذكر الكلب و السنور من باب المثال لكل ما لا يؤكل، و لو نوقش فيما ذكر ففي الإطلاقات كفاية، كما أن مقتضى إطلاقها لزوم الغسل مرتين و لو بعد جفاف البول أو زواله بغير الماء، و كذا مقتضاه عدم لزوم كونهما بعد زوال العين إذا فرض زوالها بالغسلة الأولى.

و بالجملة ما يعتبر فيه هو المرتان، سواء كانت عين البول زائلة بشي ء آخر أو زالت بإحداهما فيضم إليها الأخرى و يكتفى بهما و القول بالاكتفاء بالمرة مع زوال العين و لو بالجفاف أو بغير الماء- بدعوى أن الغسلة الأولى للإزالة، فإذا تحققت لا يحتاج إليها، بل يطهر مع مرة كما هو مقتضى ذيل صحيحة الحسين على نقل المحقق و الشهيد- ضعيف لعدم الدليل على كون الأولى لمجرد الإزالة بأي نحو اتفقت، بل لا دليل على كونها لها مطلقا، و قد مر الكلام في حال ذيل الصحيحة، بل قلنا أنه مع فرضه أيضا لا ينتج، فمقتضى إطلاق الأدلة لزومهما جف أولا أزيل بغير الغسل أولا، كما أن القول بكفاية المرتين و لو لم تزل العين بالأولى ضعيف جدا، فان فرض حصول الغسل بالأولى و بقاء عين البول فرض غير واقع أو نادر جدا، و لو فرض تحققه في بعض الأحيان كما إذا تكرر البول في شي ء و رسب و بقي جرمه و رسوبه فيه فلا يطهر إلا

بالدلك و إزالة العين ثم غسله مرتين، و يكفي ضم غسله إلى الغسلة المزيلة.

و قريب منها في الضعف دعوى كفاية التقدير في الغسلتين بمعنى الاكتفاء بالصب المستمر بقدر الغسلتين بدعوى أن الأمر بالمرتين لحصول النظافة، و هي تحصل بالاستمرار، بل ربما يكون ذلك أوقع في التنظيف بل لا دخالة لقطع الماء جزما، و ما هو المزيل و المطهر جريان الماء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 475

و قاهريته، و قد حصلا بالاستمرار، و فيها أن تلك الدعاوي لا توجب رفع اليد عن ظاهر الأخبار المستفيضة، و دعوى الجزم بالمناط في غير محلها في الأحكام التعبدية.

فالأقوى اعتبار التعدد و لو في الكر بناء على اعتباره فيه، و لا يكفي الجري تحت الماء مرتين إلا إذا حصل تعدد الغسل عرفا، كما لا يبعد حصوله بعض الأحيان، تأمل.

فرع: هل يختص اعتبار التعدد بغسل البول

فيكفي في غيره غسله مرة واحدة أم يجري في سائر النجاسات؟ الأقوى الأول كما نسب إلى الأكثر بل المشهور، لا لإطلاق الأدلة، لعدم الإطلاق في جميع الأنواع بل يتطرق الإشكال في كثير من الموارد التي ادعي فيها الإطلاق، نعم لا يبعد في بعضها، لكن كفايته بالنسبة إلى ما لا إطلاق فيه مشكلة، و دعوى عدم القول بالفصل غير متجهة.

و ما يمكن دعوى الإطلاق فيها بالنسبة إلى جميع النجاسات ليست إلا مرسلة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام: «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام، إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله، و إن كان الطريق نظيفا لم تغسله» «1» بدعوى أن قوله عليه السلام: «فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله» يراد

به أنه إذا نجسه شي ء من النجاسات و مقتضى إطلاقها كفاية المرة في مطلق النجاسات إلا ما خرجت بالدليل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 476

لكنها مشكلة بل ممنوعة، فإنه بعد الغض عن كونها في مقام بيان حكم آخر فلا إطلاق فيها من هذه الجهة أن ظاهرها لزوم الغسل بعد ثلاثة أيام في فرض عدم العلم، و إلا فلا وجه للفرق بين ثلاثة أيام و بعدها، فلا بد من حمل الأمر على الاستحباب بعد المخالفة للقواعد، و الظاهر عدم التزامهم بمضمونها، مع أنها ضعيفة أيضا، و أما غيرها ففي موارد خاصة لا يمكن إلحاق غيرها بها بدعوى إلقاء الخصوصية بعد اعمال التعبد في بعض الموارد كالبول و الولوغ.

و لا لأصالة البراءة عن الغسلة الثانية- بدعوى أن النجاسة في الحكميات انتزاعية من التكليف، فمرجع الشك في زوالها إلى الشك في لزوم المرة أو المرتين، فتدفع الثانية بالأصل و لا يجري الاستصحاب- إذ هي ضعيفة مخالفة لظواهر الأدلة، و لقد قلنا سابقا أنه ليس للشارع المقدس في باب النجاسات اصطلاح خاص، و قد تصرف فيها بالإلحاق و الإخراج، فالقذارة كما لدى العرف و العقلاء أمر قائم بالجسم باق فيه إلى أن تزول بمزيل و لو في المعنوي منها بنظرهم، فكذلك لدى الشارع، و مع الشك في بقائها يجري الاستصحاب، و لا مجال لجريان أصالة البراءة.

و بالجملة للقذارة مصداقان عرفي و جعلي وضعي، و لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب فيها كما في أشباهها.

و لا لقوله عليه السلام: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء» «1» ضرورة عدم الإطلاق فيه للمقام، و مثله أجنبي عنه.

بل لأن

الطهور و إزالة النجاسة لما كانا أمرين معلومين لدى العقلاء، و تكون كيفية حصولهما معهودة معروفة لديهم، و لهم طريقة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 477

عقلائية معمولة فيهما، و حصول الطهور و هو إرجاع الأمر المتلوث بالقذارة إلى حالته الأولية و نظافته الذاتية أمر معلوم لدى كل أحد، فلا محالة إذا حكم الشارع بعدم جواز الصلاة في الثوب المستقذر بالمني أو الدم مثلا حتى إذا طهر لا يشك العرف في كيفية رفع قذارته و حصول الطهارة له، فإذا تحقق لا يرى العقلاء بقاء المانع أو عدم حصول الشرائط إلا أن دل دليل على الخلاف.

و إن شئت قلت: إن ذلك نظير بناء العقلاء على العمل بشي ء، فإذا لم يرد منع عنه يكشف عن ارتضاء الشارع به، بل هو أولى من ذلك، فإنه أمر تكويني حاصل بالوجدان، فإذا قال الشارع: إن الثوب النجس بالبول أو الدم لا يجوز الصلاة فيه حتى يتطهر لا يشك العرف في كيفية تطهره و إرجاعه إلى حالته الأولى، إلا أن يرد تعبد خاص من الشارع يردعه عما هو المعلوم عنده، و إن شئت سمّ ذلك بالإطلاق المقامي، بل هو أوضح عنده، و لهذا لم يرد في شي ء من الأدلة إلا فيما فيه تعبد خاص بيان كيفية الغسل إلا نادرا، و ليس ذلك إلا لعدم الاحتياج إليه كعدم الاحتياج إلى بيان سائر الموضوعات المعلومة لدى العرف.

هذا مضافا إلى إمكان الاستدلال للمطلوب بكفاية المرة في ملاقي الكلب، لإطلاق أدلة غسله، كصحيحة الفضل قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن أصابه جافا

فاصبب عليه الماء» «1».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 478

أصابه» «1».

و في حديث الأربعمائة عن علي عليه السلام قال: «تنزهوا عن قرب الكلاب فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافا فلينضح ثوبه بالماء» «2» إلى غير ذلك مما لا ينبغي الإشكال في إطلاقها سيما صحيحة ابن مسلم، فان السامع إذا سمع مثل ذلك يفهم منه أن تحقق الغسل كاف في رفع القذارة، سيما مع كون الغسل من القذارات معهودا عندهم.

فإذا ضم إلى ذلك موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هم شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «3» يستفاد منها أن سائر النجاسات التي لا تكون بمثابة نجاسة الكلب تطهر بمرة إلا ما ورد دليل على عدم الاكتفاء بها، فيستكشف منه أقذريته من الكلب، و استثناء شي ء منها موضوعا أو حكما لا مانع منه.

و توهم عدم ملازمة الاقذرية لما ذكر مدفوع بمخالفته لفهم العرف نعم لا يلزم أن يكون ملاقي الأقذر محتاجا إلى مرتين، لإمكان أن تكون المرة مزيلة لتمام مراتب النجاسة.

و لا ينبغي الإشكال في أن النجاسة المذكورة في الرواية هي المعهودة بقرينة صدرها لا القذارة المعنوية، و المراد من غسالة الحمام فيها هي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب

النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 11.

(3) مرت في ص 305.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 479

ماء البئر الذي يكون من فضالة ماء الحياض التي لها مادة من المنابع التي في الحمامات، فان الظاهر من مجموع ما وردت في الحمامات أن لها في تلك الأعصار منابع محفوظة لها مزملة، و تحت المزملات حياض صغار متقويات بتلك المنابع بوسيلة المزملات، و كان يغتسل الناس في تلك الحياض و تجري فضالتها إلى محل آخر يقال له البئر.

فما وردت من عدم انفعال ماء الحمام و انه بمنزلة الجاري «1» يراد به ما في الحياض الصغار المتقوية بالمنابع التي يقال لها المادة، و ما بمضمون الموثقة يراد به ماء البئر الذي غير متقو بالمادة، فلا منافاة بينها حتى نحتاج الى حمل هذه الطائفة على الاستحباب كما صنع صاحب الوسائل، و خرجت عن الاستشهاد بها للمقام، و دعوى اختصاص أقذرية الكلب بولوغه أو أنه أقذر بلحاظها مخالفة لظاهر الدليل كما لا يخفى.

و أما الاستدلال للزوم المرتين في سائر النجاسات بقوله عليه السلام في البول: «انما هو ماء» «2» مع لزوم المرتين فيه فإذا وجب الغسل في الأهون مرتان يجب في غيره كالمني الذي شدده و جعله أشد من البول كما في الحديث فضعيف، لأن قوله عليه السلام: «هو ماء» يراد به عدم لزوم الدلك لا أهونية نجاسته، كما يراد بأشدية المني احتياجه إليه لا أقذريته من البول، و لهذا قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام على ما في حديث في إبطال القياس ردا على أبى حنيفة: «أيهما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال: البول، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام فما بال الناس

يغتسلون من الجنابة و لا يغتسلون من البول» «3» و الظاهر أن

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 7- من أبواب الماء المطلق.

(2) مر في ص 467.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 480

أرجسية البول كان متسالما بينهما، و إن احتمل كونها عند أبي حنيفة و ألزمه بما هو مسلم عنده.

ثم أن الظاهر كون المرة في سائر النجاسات غير الغسلة المزيلة لا بمعنى لزوم مرة بعدها، بل بمعنى إمرار الماء على المحل بعد الإزالة و لو باستمرار الغسلة المزيلة، فان التطهير و ازالة القذارة لدى العرف معهودان، و إطلاقات الغسل محمولة على ما هو المعهود، و هما متقدمتان على ما مر بما ذكر فلا مجال للأخذ بإطلاق الأدلة.

و يظهر مما مر آنفا من أن الغسل للإزالة معهود أنه لا عبرة باللون و الريح و نحوهما مما لا تعد لدى العرف من أعيان النجاسات، فغسل الدم من الثوب ليس إلا إزالة عينه بالماء بالطريق المعهود، و اللون ليس بدم عرفا و ليس بنجس، و لا يحتاج في تطهير الدم إلى إزالته، و لا عبرة بحكم العقل البرهاني ببقاء العين حتى في الرائحة، و لا بالآلات المستحدثة المكبرة للاجزاء الصغار حتى يرى بتوسطها الألوان أعيانا، و هذا واضح لا يحتاج إلى تجشم استدلال بعد وضوح كون المشخص لموضوعات الأحكام مفهوما و مصداقا هو العرف العام.

و أما الروايات المستدل بها للمطلوب فلا تخلو دلالتها عن نوع مناقشة، لأن صحيحة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال:

«قلت له: إن للاستنجاء حدا، قال: لا حتى ينقى ما ثمة، قلت:

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 480

فإنه ينقي ما ثمة و يبقى الريح، قال: الريح لا ينظر اليه» «1».

يحتمل فيها أن يكون الحكم من مختصات الاستنجاء، و لا يجوز إلقاء الخصوصية بعد اختصاصه بالأحكام و تخفيفات لا تعم غيره، نعم لو أراد بقوله عليه السلام: «الريح لا ينظر إليه» أنه ليس بشي ء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 481

يمكن أن يقال باستفادة الحكم الكلي منه. و أما إن أراد منه أنه لا بأس به فالاستفادة مشكلة.

و منه يظهر الكلام في مرسلة الصدوق في الريح الباقي بعد الاستنجاء «1» و أما ما ورد من نفي الشي ء عليه من الشقاق فلعله لكونه من البواطن كباطن الأنف، بل هو أولى منه.

و رواية علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليه السلام قال: «سألته أم ولد لأبيه- إلى أن قال-: قالت أصاب ثوبي دم حيض فغسلته فلم يذهب أثره، فقال: اصبغيه بمشق «2» حتى يختلط و يذهب أثره» «3» فمع ضعفها على خلاف المطلوب أدل، لاحتمال أن يكون بصدد بيان العلاج لرفع الأثر و صيرورته طاهرا، ضرورة أن مجرد الاختلاط لا يذهب بالأثر، بل لا بد من غسله حتى يذهب، و السكوت عنه لمعلوميته، و الحمل على أمر عادي لا حكم شرعي خلاف المعهود من شأن المعصوم عليه السلام.

و عليها يحمل إطلاق قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «قل لها تصبغيه بمشق حتى يختلط» «4» و مرفوعة الأشعري قال: «اصبغيه

______________________________

(1) قال: «سئل الرضا عليه السلام عن الرجل يطأ في الحمام و في رجله الشقاق فيطأ البول و النورة فيدخل

الشقاق أثر أسود مما وطأ من القذر و قد غسله كيف يصنع به و برجليه التي وطأ بهما؟

أ يجزيه الغسل أم يخلل أظفاره (بأظفاره) و يستنجي فيجد الريح من أظفاره و لا يرى شيئا؟ فقال: لا شي ء عليه من الريح و الشقاق بعد غسله» راجع الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 6

(2) المشق: الطين الأحمر.

(3) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 482

بمشق، فان الاختلاط بغير الغسل بعده لا يذهب بالأثر» «1».

فالاستدلال بتلك الروايات لإثبات عدم العبرة مشكل، و لإثبات العبرة بها أشكل بعد ضعف أسنادها و مخالفتها للسيرة القطعية في تطهير الأشياء و معهودية كيفية التطهير، و أشكل منها الاستدلال بضعيفة القسمي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «أنه سأل عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «2» لأن الظاهر النهي عنها لنجاستها الحاصلة من ملاقاة الخرء كقوله: «لا تصل في الثوب الكذائي، لأنه أصابتها الخمر» فلا تدل على عدم تطهرها بالغسل بالماء، مع أن ظاهرها النهي عن الصلاة في الخف، و هو مما لا تتم فيه الصلاة، و احتمال كون السؤال عن أثواب أخر غير الخفاف خلاف الظاهر منها، تأمل.

(فصل) في كيفية تطهير الأواني
اشارة

و فيها مسائل:

الأولى: اختلفت كلمات الأصحاب في كيفية تطهيرها من ولوغ الكلب،
اشارة

فعن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) مرت في ص 410.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 483

المشهور يغسل ثلاث مرات أولاهن بالتراب. و في الناصريات «الصحيح عندنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات أولاهن بالتراب- ثم قال بعد كلام- لا خلاف بين الأصحاب في التحديد بوجوب الثلاث» و الظاهر منه عدم الخلاف في الثلاث على الكيفية المتقدمة، سيما مع قوله: «الصحيح عندنا» و ادعى الإجماع عليها في الغنية.

و على ما في الناصريات يحمل ما في الانتصار، و هو قوله:

«مما انفردت الإمامية إيجابهم غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات إحداهن بالتراب» و كذا ما في الخلاف «أي ثلاث مرات إحداهن بالتراب» بقرينة قوله في النهاية: «إحداهن- و هي الأولى- بالتراب» فهي مفسرة لما في الخلاف، بل يمكن رفع الإجمال عنه بإجماع الناصريات، إذ من البعيد أن يكون مراد الشيخ الإجماع على عنوان إحداهن في مقابل دعوى السيد، كما أنه من البعيد دعوى ابن زهرة الإجماع على أن أولاهن بالتراب مقابل دعوى الشيخ الإجماع على الإطلاق.

فلا ينبغي الإشكال في أن مراد الجميع حتى الصدوقين واحد، و هو كون الأولى بالتراب، كما تدل عليه صحيحة البقباق الآتية، كما لا إشكال في اعتبار العدد، للإجماع المتقدم، و عدم نقل خلاف من أحد منا، فيقيد به إطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء» «1» لو فرض لها إطلاق مع إمكان الخدشة فيه، بأن يقال: إنها بصدد بيان أصل نجاسة الكلب لا كيفية الغسل، و انما أمر به إرشادا لنجاسته، تأمل.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12-

من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 484

و إطلاق صحيحة الفضل أبي العباس عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال في الكلب: «رجس نجس لا يتوضأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و أغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1» و يحتمل بعيدا عدم الإطلاق فيها بدعوى كونها بصدد بيان الترتيب بين الغسل بالتراب و الغسل بالماء، فلا إطلاق لها من جهة العدد، هذا مع أنها منقولة في الخلاف في أول مسائل الولوغ مع زيادة «مرتين» بعد قوله: «ثم بالماء» و إن نقلها في مواضع أخر منه و كذا في التهذيب بغير الزيادة، و في المعتبر و المنتهى مع الزيادة، و عن المختلف بلا زيادة، و عليه لا وثوق بإطلاقها، بل يمكن كشف الزيادة من شهرة القول بالعدد بين قدماء أصحابنا، بل استدل الشيخ في التهذيب و الخلاف بها على لزوم الثلاث، و إن تشبث في الأول عليه بما لا دلالة فيه، و لو لا استدلاله بغيرها لم يبق شك في كون النقيصة من النساخ.

هذا مع ما اشتهر بينهم من تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة. و إن كان للتأمل في أصله مجال، فضلا عن مثل المقام الذي تكرر الحديث بلا زيادة في كتب الأصول و الفروع.

و أما ما قال الشيخ البهائي ردا على من قال بأن الزيادة من قلم النساخ-: «إن المحقق مصدق فيما نقله، و عدم اطلاعنا عليها في الأصول المتداولة في هذا الزمان غير قادح، فان كلامه في أوائل المعتبر يعطي أنه نقل بعض الأحاديث المذكورة فيه عن كتب ليس في أيدي أهل زماننا هذا إلا أسماؤها، ككتب الحسن بن محبوب، و

محمد بن أبي نصر البزنطي «2» و الحسين بن سعيد، و الفضل بن شاذان و غيرهم،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) هكذا في حبل المتين، و كذا في نسخة غير نقية من المعتبر و الصحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر (منه دام ظله).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 485

فلعله طاب ثراه نقل هذه الزيادة من بعض تلك الكتب» انتهى- فغير وجيه، لأن الظاهر من الفصل الرابع من مقدمات المعتبر أنه اقتصر في النقل فيه عن كتب المتقدمين على ما نقله الحسين بن محبوب و أحمد ابن محمد بن أبي نصر و الحسين بن سعيد و الفضل بن شاذان و يونس بن عبد الرحمن، و عن المتأخرين على كتب الصدوقين و الكليني و الشيخ و عدة أخرى سماهم، و ليس أبو العباس الفضل منهم. فلم ينقل منه إلا بتوسط الجوامع المتأخرة لا من أصل آخر.

هذا مع أنه لم ينقل لأبي العباس إلا كتاب واحد نقله سعد بن عبد اللّٰه و النجاشي، فلا معنى لنقل المحقق روايته عن أصل آخر غير كتابه، فهو إما ناقل عن كتابه أو من كتاب آخر ناقل عنه أو من التهذيب الناقل عنه، و على أي حال يدور الأمر بين الزيادة و النقيصة في كتاب أبي العباس أو فيما نقل عنه.

و الظاهر أنه حكاها عن التهذيب و الشاهد عليه ان العلامة في المنتهى نقلها مع الزيادة عن الشيخ، فيظهر منه اختلاف نسخ التهذيب بل من البعيد أن يكون كتاب أبي العباس عند المحقق، و كانت الرواية فيها مع الزيادة، و لم يطلع عليها العلامة مع تلمذه عليه، و نقلها بتوسط الشيخ.

و على أي حال

فالاعتماد في الحكم على الإجماع و الشهرة قديما و حديثا في مثل هذه المسألة التعبدية سيما لو كانت الرواية خالية عنها و سيما مع إطلاقها و البناء على إطلاق صحيحة ابن مسلم المتقدمة، فإن ترك أصحابنا إطلاق الصحيحتين و الفتوى بلزوم العدد يوجب الجزم بكون الحكم معروفا بين السلف و الخلف و مأخوذا عن أئمة أهل البيت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 486

عليهم السلام.

و يظهر مما مر ضعف قول ابن الجنيد من لزوم السبعة إحداهن أو أولاهن بالتراب وفاقا للشافعي، و إن أمكن الاستدلال عليه بعد عدم ثبوت الزيادة المتقدمة في صحيحة أبي العباس بتقييد إطلاقها بموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الإناء يشرب فيه النبيذ، قال:

تغسله سبع مرات، و كذا الكلب» «1» و تقييد الغسلات في الموثقة بكون الأولى منها بالتراب، و كذا الكلب بالولوغ، و إن كانت التقييدات سيما الأخيرتان بعيدة.

و كيف كان لا ينبغي التأمل في ضعف ما ذهب اليه بعد عدم موافق له، فالمتيقن حمل الموثقة على الاستحباب، و يتلوه في الضعف قول المفيد، و هو وجوب الثلاث وسطهن بالتراب، و إن قال في الوسيلة به رواية، إذ هي غير ثابتة، و مع ثبوتها شاذة بلا إشكال، فالأقوى ما عليه المشهور.

تنبيهات::
الأول- [اختصاص التعفير بالولوغ]

ظاهر الأصحاب قديما و حديثا عدا شاذ منهم كالصدوقين و المحكي عن المفيد من القدماء، و كالمحكي عن الكركي و صاحبي المدارك و الحدائق من المتأخرين اختصاص الحكم بالولوغ، و هو شربه من الإناء بأطراف لسانه على ما هو المعهود من شربه، و يظهر من اللغة، و هو معقد إجماع السيد و الشيخ و ابن زهرة، و ألحق جمع اللطع بالولوغ، و

ادعى شيخنا المرتضى الشهرة عليه، و هو غير ثابتة، بل الظاهر من قدماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 487

أصحابنا الاختصاص، و التعدي من بعض المتأخرين، و ألحق الصدوق الوقوع بالولوغ، و هو المحكي عن أبيه موافقا للرضوي.

و الأصل في الحكم صحيحة أبي العباس المتقدمة «1» ففي صدرها «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة و الشاة- إلى أن قال-: حتى انتهيت الى الكلب فقال: رجس نجس» إلخ، و احتمل بحسب التصور أن يكون «رجس نجس» علة للحكم، فتعمم الى كل رجس و لو كان غير الكلب، و أن يكون علة لكون فضله محكوما بالحكم، فيتعدى الى فضل كل نجس كالخنزير و الكافر، و أن تكون نجاسة الكلب علة فيتعدى من ولوغه إلى مباشرة سائر أجزائه، و أن تكون نجاسته علة لكون فضله محكوما بالحكم، فيختص بالولوغ.

و الحق عدم استفادة العلية منها بحيث يدور الحكم مدارها كائنة ما كانت، بل هو خلاف المقطوع به و ضرورة الفقه، نعم الحكم متفرع على كون الكلب رجسا نجسا، و من المحتمل بل المعلوم أن لمرتبة نجاسته دخالة في ذلك، فاحتمال أن الحكم لمطلق النجس أو لفضل مطلق نجس العين ضعيف، و إن قال الشيخ و بعض من تأخر عنه: إن الخنزير كالكلب، بل في الخلاف هو مذهب جميع الفقهاء، لكن ظاهره فقهاء العامة، و لهذا لم يستدل عليه بالإجماع، بل تشبث بأمرين ضعيفين، فراجع.

فانحصر الاحتمال بالآخرين، و أقواهما الثاني، لعدم فهم العلية بنحو توجب التعدي من فضله إلى مباشرة سائر أجزائه، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية عن الفضل لخصوصية ظاهرة في ولوغه ليست

في غيره حتى في لطعه، فان لشربه بأطراف لسانه بكيفية معهودة موجبة لرجوع

______________________________

(1) مرت في ص 484.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 488

المشروب إلى الإناء كرارا قذارة ليست في سائر ملاقياته حتى لطعه بل و لا لعابه، فمن المحتمل أن يكون للشرب كذلك دخالة في الحكم، فلا تلقى الخصوصية عرفا.

فما يقال في اللطع: إنه مساو للولوغ، و لا يفقد شيئا مما يتضمنه من الأمور المناسبة للتنجيس، و في اللعاب: إن المقصود قلعه من غير اعتبار السبب ممنوع، لوضوح الفرق بين الولوغ و مجرد اللطع، فإن الثاني يفقد بعض الخصوصيات المناسبة لشدة الاستقذار مما يتضمنها الأول، كما مرت الإشارة اليه، و عدم الدليل على أن المقصود قلع اللعاب، بل في شربه خصوصية خاصة به.

فالتحقيق قصور الرواية عن إثبات الحكم لما عدا ولوغه، بل لو شرب بغير النحو المتعارف لعلة كقطع لسانه بحيث لم يسم ولوغا لا يلحقه الحكم، و توهم أن الحكم متعلق بالفضل و هو أيضا فضله في غير محله بعد معهودية نحو شربه الموجبة لانصراف الدليل اليه، سيما مع الخصوصية التي في شربه المعهود، و لهذا أخذ الولوغ خاصة في معاقد الإجماعات و ظواهر الفتاوى، مع أن الأصل في الحكم صحيحة أبي العباس و لكن الاحتياط سيما في الأخير و في وقوع اللعاب لا ينبغي تركه.

نعم لا إشكال في أن العرف لا يرى لخصوصية الماء دخالة، بل الظاهر المتفاهم من الدليل أن الشرب الكذائي تمام الموضوع للحكم، فلو كان المشروب لبنا أو غيره من المائعات يلحقه الحكم.

و أما فضله من غير المائعات كاللحم الفاضل منه في الإناء مع ملاقاته له فلا يلحقه الحكم، لقصور الدليل عن إثباته، فهل يلحق

غير الإناء مما يمكن تعفيره بالإناء؟ بأن يقال: إن الإناء غير مذكور في النص، و لو فرض فهمه منه لكن لا يفرق العرف بينه و بين حجر مثلا لو اجتمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 489

على سطحه الماء و ولغ فيه الكلب، فان الحكم عرفا للولوغ من غير دخالة للمحل فيه، لكن الأقوى الاختصاص كما هو ظاهر الفقهاء و ظاهر معاقد الإجماعات، لأن في الأواني التي مورد استعمال الأكل و الشرب غالبا خصوصية ليست في غيرها، و النظافة المطلوبة فيها ليست مطلوبة في غيرها و لهذا ترى أن الشارع الأقدس اعتبر في كيفية تطهيرها ما لا يعتبر في غيرها، كالغسل ثلاثا من مطلق النجاسات و سبعا من بعضها، فالأقوى اختصاص الحكم بولوغ الكلب في الأواني و نحوها كما هو ظاهر الأصحاب و المتيقن من النص، و طريق الاحتياط واضح.

الثاني- [ما يعفر به الإناء]

هل يعتبر مزج التراب بالماء مع بقاء مسمى التراب، أو يتعين عدم مزجه، أو يعتبر المزج بما يخرجه عن مسماه، أو بمقدار حصول الميعان، أو يعتبر الغسل بالماء مع مزجه بالتراب بما لا يخرجه عن الإطلاق، أو بما يخرجه عنه، أو يجب الجمع بين الأولين، أو هما مع الثالث، أو هي مع ما قبل الأخير، أو يتخير بينها؟ وجوه، بل في بعضها قول، لم يتعرض النص و لا الفتوى في الطبقة الأولى من الفقهاء كالصدوقين و السيد و الشيخين و من في تلك الطبقة أو قريب منها لكيفية الغسل بالتراب، بل اقتصروا بما في النص أي غسله بالتراب.

و عن الحلي و الراوندي لزوم المزج، و لم يظهر من الاستدلال المحكي عن الأول أنه قائل بأي نحو من الامتزاج، قال: «إن الغسل

بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه و من الماء لا يفرد أحدهما عن الآخر، إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا، لأن حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول، و التراب وحده غير جار» انتهى، و لا يبعد إرادته المزج بمقدار حصول الميعان، و يظهر من التذكرة أنه عند القائل بالامتزاج الاكتفاء بامتزاج لا يخرج الماء عن إطلاقه مسلم قال: «التاسع إن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 490

قلنا بمزج الماء بالتراب فهل يجزى لو صار مضافا؟ إشكال».

ثم أن أردأ الوجوه الوجه الثالث و ما هو نظيره بحسب ظاهر النص، لأنه موجب لرفع اليد عن مفهوم الغسل و مفهوم التراب و مفهوم الغسل بالتراب جميعا، و دعوى كونه موافقا لفهم العرف من اضافة الغسل الى التراب فاسدة، كما يأتي الإشارة إليه، ثم الوجه الخامس لأنه و إن كان موجبا لحفظ ظهور الغسل لكن موجب لرفع اليد عن ظهور التراب و ظهور الظرف في اللغوية و تعلقه بالغسل، و عن ظهور المقابلة بين الغسل بالتراب و الغسل بالماء في المغايرة و صرف كون أحد الماءين خالصا و الآخر مخلوطا بما لا يخرجه عن الإطلاق لا يوجب مقابلته للغسل بالماء، بل في مثله لا بد من مقابلة القراح بالمخلوط، و ظاهر النص خلافه، فحفظ ظهور الغسل موجب لارتكاب مخالفات للظواهر المتقدمة و أما الاحتياط بالجمع بين الاثنين فما زاد فلزومه يتوقف على التوقف في فهم النص. و الظاهر المتفاهم منه عرفا بالمناسبات المغروسة في الأذهان- من كون الغسل بالتراب لقلع اللزوجة الحاصلة للإناء من لعاب الكلب الخارجة من فمه بواسطة الولوغ، أو لأجل رفع القذارة الشديدة التي حصلت به- أن المراد من ذلك التعفير، و وضع

التراب في الإناء، و دلكه عنيفا حتى يقلع الأثر أو يدفع الاستقذار منه و هذا هو الموافق لفهم العرف في محاوراتهم و مقاولاتهم.

و بعبارة أخرى كانت الظهورات المتقدمة محكمة لدى العرف على ظهور الغسل لو سلم ظهوره، بل تكون إضافته إلى التراب موجبة لظهوره فيما قلناه.

نعم مقتضى إطلاق الرواية عدم الفرق بين التراب اليابس أو مع المزج بمقدار لا يخرجه عن مسمى التراب، و كما أن العرف يرى أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 491

التراب مع مزج ما موجب لقلع القذارة كذلك يرى هذه الخاصة للتراب بلا مزج، كما يشاهد أن دلك التراب أو نحوه يابسا على الأواني موجب لنظافتها جدا، بل لعله أبلغ فيها من الممزوج بالماء، فالأقوى هو التخيير بينهما أخذا بإطلاق النص و معاقد الإجماعات.

ثم أن طريق الاحتياط التام الموجب للعمل بقول جميع الأصحاب أن يغسله أولا بالماء ثم أربع مرات بالتراب أي يابسة و ممزوجة مع بقاء اسمه و ممزوجة مع ميعانه و مزجه بالماء مع بقاء إطلاقه ثم ستة بالماء عملا بقول ابن الجنيد.

و أما ما أفاده الشيخ الأعظم من لزوم العشرة إذا روعي مذهب المفيد مع احتمالات أربعة ثمانية بالتراب بينها غسلة و بعدها غسلة، و إذا روعي مذهب الإسكافي بالسبع صارت الغسلات المتأخرة خمسا فيصير أربعة عشر، انتهى. فيحتاج إلى مزيد تأمل، و إلا فيرد على ظاهره إشكالات.

الثالث- [ما يقوم مقام التراب و التعفير]

حكي عن أبي علي الغسل بالتراب أو ما يقوم مقامه من غير قيد بفقده، و عن التحرير احتمال القيام مطلقا، و عن الشيخ في المبسوط و العلامة في جملة من كتبه قيام ما يشبهه كالأشنان و الصابون و الجص و نظائرها مقامه عند فقده، و

عن الشيخ و جمع آخر أنه مع تعذر التراب سقط اعتباره، و طهر الإناء بغسله مرتين، و لو لا مخافة مخالفة ظاهر الأصحاب و الاحتياط لكان قول أبى علي قويا في النفس، فان النص و ان اقتصر على التراب و كذا ظاهر كلمات الأصحاب لزوم الغسل بالتراب لكن ليس باب غسل القذارات كباب التيمم من الأمور التعبدية التي ليس للعرف طريق الى فهم الملاك منها فإنه أمر معهود معلوم الملاك بل طريق تطهير جملة من الأمور لدى العرف الغسل بالتراب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 492

كالأواني المتلوثة بالدسومات و نحوها مما فيها لزوجة بل استقذار شديد و لم يقتصروا فيها على الغمس في الماء أو الدلك باليد، و مع هذا و ذاك لا ينقدح في ذهن العرف من قوله: «اغسله بالتراب مرة» إلا أن ذكره من باب المثال لكل قالع نحوه، و انما ذكره لكونه كثير الوجود و المتعارف في التعفير، فلو أمر بعض أهل العرف بعضا بغسل إناء دسم بالتراب لا ينقدح في ذهنه أن للتراب خصوصية لا يحصل التنظيف إلا به، و أنه لو غسله بالرماد أو الرمل أو النورة أو الجص و نحوها تخلف عن الإتيان بالمراد.

و توهم أن نجاسة الولوغ أمر معنوي معقول لا يصل إليها العقول و الغسل بخصوص التراب موجب لحصول النظافة عنه بكشف الشارع فاسد و إن كانت نجاسة الكلب بجعل من الشارع، لكن لم تكن إلا كسائر النجاسات الشديدة التي كان لنظافتها طريق معهود.

و بالجملة لما كان التطهير في ارتكاز العقلاء عبارة عن استرجاع الأجسام و الملاقيات للقذارات الى حالتها الأصلية الأولية، و هو يحصل بقلع المادة القذرة بكيفية معهودة عندهم من

التغسيل بالماء في جملة منها و التعفير ثم التغسيل في جملة أخرى لا ينقدح في ذهنهم من قوله:

«اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء مرتين» إلا ما هو المعهود بينهم في التعفير و الغسل فيما يحتاج إليهما، و إلا كان لازم الاقتصار و الجمود على النص وجوب غسله بالتراب الخالص، و عدم كفاية التراب الممزوج بالتبن أو الرمل أو الحصاة في الجملة مثلا، كما أن الأمر كذلك في التيمم بالتراب، فيعتبر أن يكون خالصا من الأجزاء غير الأرضية إلا إذا استهلك فيها، و لا أظن التزامهم به في المقام، و ليس ذلك إلا لما ذكرناه من الارتكاز.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 493

و بالجملة لا ينقدح في الأذهان الخالية عن الدقائق العلمية و الفارغة عن الشبهات المخرجة للنفوس عن السذاجة لفهم المطالب العرفية أن للتراب خصوصية ليست لغيرها، فكما لا يفهم العقلاء من قوله: «رجل شك بين الثلاث و الأربع» أن للرجل خصوصية فلا يكون إسراء الحكم إلى المرأة قياسا كذلك الأمر فيما نحن فيه.

و لو لا مخافة مخالفتهم لقلنا بقيام كل قالع مقامه، لكن الخروج عما قالوا مشكل، بل الخروج عن مورد النص كذلك، فالاقتصار على مورده لو لم يكن أقوى فهو أحوط، سيما في هذه النجاسة المجعولة من قبل الشارع.

و أما سقوط التعفير مطلقا مع فقد التراب و الاقتصار على الغسلتين فغير وجيه جدا، فهو نظير الالتزام بسقوط إحدى الغسلتين إذا فقد الماء إلا لمرة أو سقوطهما مع فقده. كما ان قيام غير التراب مقامه حال الفقدان و العذر كذلك، لأن خصوصية التراب إما معتبرة، فلا تتحقق الطهارة إلا به، و العذر و الفقدان لا يوجبان مطهرية غير المطهر، و

دليل الميسور مع عدم ثبوت جابر له و عدم كون مثل المورد مصبه لا يدل على حصول الطهارة بالميسور، و لهذا لو فقد الماء بمقدار الغسلتين لا يقوم المرة مقام المرتين بدليله.

كما أن مثل المورد ليس مجرى دليل الحرج و الضرر، و لا يكون دليلهما مشرعا، و لهذا لو فقد الماء و التراب لا يمكن أن يقال بطهارة الإناء، و هو واضح، فالأوجه من تلك الأقوال قول أبي علي، و إن كان الوقوف على ظاهر النص و كلمات الأصحاب أحوط أو أوجه.

الرابع- لو لم يمكن التعفير،

فهو إما لضيق المجري بحيث لا يمكن معه ذلك و لو بآلة كخشبة رقيقة أو ميل كذلك تجعل رأسهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 494

خرقة ليعفر بها، أو لعدم قابلية المحل ككون الإناء من القرطاس و نحوه أو يلزم منه فساده كآنية منقوشة لو غسلت بالتراب زالت النقوش و فسدت لا شبهة في أن الأخيرة لا تطهر إلا بالتعفير، و زوال النقوش به لا يوجب طهارتها بلا مطهر معتبر، كما لو فرض زوالها بالغسل، فإنه لا يوجب طهارتها بلا غسل، و قد مر ما في التمسك بدليل الحرج و الضرر و أما الأولتان فيمكن القول بقصور دليل التعفير عن إثباته لنحوها أما الأولى فلأن تحقق الولوغ فيها غير معلوم أو معلوم العدم، لأنه عبارة عن شرب الكلب من الإناء بأطراف لسانه بالنحو المعهود، و هو لا يحصل في مثل قارورة ضيقة الفم جدا بحيث لا يمكن إدخال ميل فيه، نعم لو فرض تحققه كما لو كان رأسها وسيعة و عنقها ضيق فالظاهر بقاؤها على النجاسة، و كون تعطيلها حرجا أو ضررا قد مر الكلام فيه و أما الثانية

فلأن سوق الرواية في إناء يمكن تعفيره، فالدليل منصرف عما لا يمكن تعفيره لفقد القابلية، و لهذا اقتصر الفقهاء قديما و حديثا على الأواني، مع أن مورد النص فضل الكلب، و هو صادق فيما إذا ولغ في ثوب اجتمع فيه الماء كعمامة أو قلنسوة، لكن لما لم يكن التعفير و نحوها في الأثواب و نظائرها متعارفا لدى العرف بل لم تكن قابلة له عرفا لم يفهم من النص غير الأواني القابلة له.

فالأقوى في مثل الآنية غير القابلة ذاتا للتعفير عدم لزومه، و طهارته بغيره، أخذا بإطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام.

قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال: اغسل الإناء» «1» لقصور صحيحة البقباق «2» عن تقييدها في مثل المورد.

و لو استشكل في إطلاقها أو قيل بوهنها للزوم تقييدها بصحيحة

______________________________

(1) مرت في ص 483

(2) مرت في ص 484.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 495

البقباق في الأواني الممكنة الغسل بقاء الفرد النادر تحتها و هو مستهجن حتى في المطلقات يمكن التمسك بموثقة عمار الساباطي عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل؟

و كم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات: يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ ذلك الماء، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه، فقد طهر» «1» بعد تقييدها بصحيحة البقباق في إناء يمكن تعفيره، و لا يلزم فيه استهجان كما لا يخفى.

فالأقوى في الموارد التي كانت خارجة عن مصب الصحيحة الغسل ثلاثا، و الاكتفاء بالواحد غير جائز، لما عرفت من الإشكال في إطلاق

صحيحة ابن مسلم، بل لقرب احتمال عدم الإطلاق فيها، بل لعله مقطوع الخلاف، لما يأتي من لزوم غسل الأواني من مطلق النجاسات ثلاث مرات، مع كون الكلب أنجس من سائر المخلوقات، و كون المتنجس بولوغه أشد رجسا من سائر أجزائه، كما يظهر من الروايات و منه يظهر أن الاكتفاء بالمرتين بدعوى أن التعفير ساقط و الغسلتان مطهرتان بعد سقوطه أخذا بصحيحة البقباق في المرتين ضعيف، لأن مصبها أن الغسلتين مطهرتان فيما إذا سبقهما التعفير المؤثر في تخفيف النجاسة بالقلع و رفع الأثر، و لو لا موثقة عمار المتقدمة لأمكن القول ببقاء تلك الأواني على النجاسة أخذا بالاستصحاب.

الخامس- هل يسقط التعفير بالغسل بالماء الكثير و الجاري و المطر

و ما بحكمها، و كذا العدد، فيكتفى بمرة واحدة، أو يسقط العدد دون التعفير، أو يسقط العدد أيضا؟ وجوه:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 496

قال في الحدائق: «المشهور بين الأصحاب سقوط التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في الماء الكثير، و كذا كل نجس يحتاج الى العدد، إلا أنه لا بد من تقديم التعفير في إناء الولوغ» انتهى، و فيما ادعى من الشهرة سيما في الطبقة المتقدمة من فقهاء أصحابنا إشكال و منع، بل مقتضى إطلاقهم و إطلاق معاقد الإجماعات المدعاة عدم الفرق بين القليل و الكثير و سائر أقسام المياه، و يؤكد الإطلاق تصريح شيخ الطائفة بلزوم العدد في الكثير، فيظهر منه أنه أراد بلزوم الغسل بالماء مرتين مطلق المياه، فتمسكه بالإجماع و صحيحة أبي العباس يكون في الأعم من القليل.

و كيف كان الأقوى عدم سقوط التعفير، و كذا العدد، أما الأول فلأن المتفاهم من قوله عليه السلام: «اغسله بالتراب» أن التعفير به لقلع الأثر

لا التطهير، و مرسلة الكاهلي في المطر «1» و مرسلة العلامة في الكثير «2» مع الغض عن إرسالهما إنما تدلان على قيام المطر و الكثير مقام العدد في المطهر المعتبر فيه العدد، لا في القالع للأثر لظهورهما في كونهما مطهرين و قائمين مقام المطهر لا القالع، و ليس القالع مطهرا، و لهذا أن الأقوى عدم اعتبار الطهارة في التراب، لإطلاق الصحيحة، و منع الانصراف الى الطاهر فيما لا يكون إلا للقلع الحاصل به مطلقا، و إن شئت قلت: إن الروايتين منصرفتان عن القيام مقامه.

و أما القيام مقام العدد فقد يقال في تقريبه بأنه إذا سلمنا وجود المرتين في رواية البقباق و مقتضى إطلاقها لزومهما حتى في غير القليل لكن تقييدها بما إذا كان الغسل بالقليل أولى في مقام الجمع من تخصيص

______________________________

(1) مرت في ص 452

(2) مرت في ص 453.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 497

الخبرين بها، فان ظهور المطلق أضعف من ظهور العامين في العموم بالنسبة إلى مورد الاجتماع، بل قد يدعى انصراف المطلق في حد ذاته إلى إرادة الغسل بالماء القليل، لكونه هو الغالب في مكان صدور المطلق.

و لا يخفى ما فيه، فان الأمر لا يدور بين التخصيص و التقييد حتى يقال فيه بالترجيح مع إشكال فيه أيضا، بل يدور بين التقييدين، فان لقوله عليه السلام: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» عموما أفراديا بالنسبة إلى المتنجسات، و إطلاقا لازمة الاكتفاء بمجرد الرؤية و عدم لزوم العدد، فلو خرج المتنجس بالولوغ عنه تخصيصا يلزم منه عدم مطهرية المطر له، سواء أصابه مرة أو دفعات، و هو كما ترى، و أما لو قيل بلزوم العدد فليس ذلك تخصيصا

للأفراد، بل تقييد لإطلاق الرؤية كما أن لزوم التعفير أيضا تقييد لو فرض إطلاقها من هذه الجهة و غض البصر عما تقدم.

فحينئذ الأرجح في النظر العرفي تقديم إطلاق الصحيحة على إطلاق المرسلة، لأن العرف يرى أن للولوغ خصوصية موجبة لشدة نجاسة الإناء به، بحيث لا يكتفي فيه بالماء فقط و لا بالمرة، فلا ينقدح في الأذهان إلا إخراج الإناء الذي ولغ فيه الكلب من سائر النجاسات لمزيد خصوصية فيه، و إن شئت قلت أن الأظهر تحكيم الصحيحة على المرسلة.

و أضعف منه دعوى الانصراف الى القليل، فان مجرد ذلك لا يوجبه مع أن السائل من الكوفيين، و المجيب يراعي حال السائل و بلده و هو محل وفور الجاري و الكثير، و مما ذكرناه، يظهر حال مرسلة العلامة مع أن فيها ضعفا غير مجبور، نعم الظاهر كون سند الأولى مجبورا بالعمل.

______________________________

(1) مر في ص 452.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 498

المسألة الثانية: اختلفوا في إناء شرب منه الخنزير،

فالشيخ في الخلاف ألحقه بولوغ الكلب متمسكا بوجهين غير وجيهين، و ألحقه المحقق بسائر النجاسات و اكتفى بمرة، و حكيت الشهرة بين المتأخرين على وجوب السبع أخذا بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن خنزير يشرب من الإناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» «1» و قد حملها المحقق على الاستحباب، قيل لقلة العامل بها.

و هو كذلك لأن الظاهر من قدماء أصحابنا كالمفيد و السيد و الشيخ و ابن حمزة و سلار بل الصدوق و من بعدهم كالحلي و ابن زهرة عدم وجوب السبع، بل ظاهر الخلاف على عدم وجوب الزيادة على الثلاث في النجاسات سوى الولوغ، و معه لا يبقى وثوق بها مع كونها بمرئي و

منظر لهم، رواه الكليني و الشيخ، و مع عدم معارض لها، فتقييد موثقة عمار الآتية بها مشكل، و طريق الاحتياط واضح.

و أما الخمر فذهب جملة من الأصحاب إلى وجوب غسل الإناء منها سبعا، و ذهب جمع الى الثلاث، و هو مقتضى الجمع بين الروايات فان منها ما تدل على السبع، كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الإناء يشرب فيه النبيذ، قال: تغسله سبع مرات، و كذلك الكلب» «2» و الظاهر إلقاء الخصوصية و فهم حكم الخمر منها، و لهذا استدلوا بها لها.

______________________________

(1) مرت في ص 160.

(2) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 499

و منها ما تدل على الثلاث كموثقته الأخرى عنه عليه السلام قال:

«سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرات، و سأل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟

قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، و يغسله ثلاث مرات» «1» فتحمل الأولى على الاستحباب جمعا سيما مع عطف الكلب به، و يحمل إطلاق الغسل في الدن و الإبريق على المقيد، لكن هو في المقام لا يخلو من اشكال، لقوة ظهور الصدر في الإطلاق، لمقابلته مع الأمر بالثلاث في القدح و الإناء، و احتمال الفرق بين الأواني المستعملة في الشرب و غيرها لكن الأقوى التقييد، لأن من المحتمل بل الظاهر أن عمار جمع في النقل بين

روايات مستقلة لا أنها كانت واحدة، و معه لا قوة في الإطلاق، مع أن ذلك التفصيل مخالف لفهم العقلاء، و لهذا لم ينقل من أحد حتى احتماله، بل لا يبعد إنكار إطلاق الصدر رأسا لاحتمال أن تكون شبهة السائل عدم جواز جعل الخل في ظرف الخمر و لو بعد الغسل فأجاب بجوازه بعده، فلا يكون في مقام بيان كيفية الغسل.

و أما ما مات فيه الجرذ فقد ورد عن عمار في الموثقة الغسل سبعا «2» و مقتضى الجمود هو الأخذ بها مع كونها موثقة، و لا معارض لها، فيقيد بها موثقته الأخرى الآتية في مطلق القذارات الآمرة بالثلاث، لكن في النفس وسوسة، و هي أن السبع في الكلب و الخمر و الخنزير بعد ما كان محمولا على الاستحباب و اكتفي فيها بالثلاث و كذا في جميع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 500

النجاسات يشكل الالتزام بوجوب السبع من بين جميع النجاسات بميتة الجرذ، مع أن الكلب بحسب النص أنجس من جميع المخلوقات، و ورد في الخمر ما يظهر منه شدة قذارته، مضافا الى دعوى الشيخ الإجماع على طهارة النجاسات سوى الولوغ بالثلاث.

و الانصاف أن حمل الموثقة على الاستحباب مع ما نرى من حمل نظائرها عليه في الباب أهون من تقييد الموثقة الآمرة بالثلاث، مع قوة إطلاقها، كما يظهر بالتأمل فيها، لكن رفع اليد عن ظاهر الأمر بالسبع مع دعوى اشتهاره و فتوى جمع من قدماء أصحابنا جرأة على المولى، فالسبع أشبه مع كونه أحوط. و ان بقيت الوسوسة في النفس، إلا أن يقال أو يحتمل

كون الغسل سبعا لشي ء آخر غير محض القذارة

المسألة الثالثة [التعدد في غسل الأواني]

مقتضى موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام وجوب غسل الأواني عن سائر النجاسات ثلاثا قال: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل؟ و كم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ ذلك الماء، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه و قد طهر» «1» و هو المحكي عن أبي علي و الشيخ في غير المبسوط، و الشهيد في الذكرى و الدروس، و الكركي في جامع المقاصد و تعليق النافع، و جعلها في الشرائع و محكي المبسوط و النافع و الإصباح أحوط.

و اختار في المعتبر مرة، و قال: «و الذي يقوى عندي الاقتصار

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 501

في اعتبار العدد على الولوغ، و فيما عداه على إزالة النجاسة و غسل الإناء بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة» انتهى. و تقريب ما ذكره أن النجاسة و الطهارة ليستا من الأمور المعنوية التي لم يصلها العقول، بل هما من الأمور الواضحة و المفاهيم الظاهرة عنوانا و مصداقا فإذا علم من الشارع لزوم تطهير الأواني أو غيرها و عدم جواز استعمالها إلا مع طهارتها لا يحتاج العقلاء في تحصيل الطهارة إلى بيان من الشارع كما لا يحتاجون في بيان سائر المصاديق العرفية و العناوين الكذائية اليه و احتمال أن الطهارة أمر غير ما يدركها العقلاء كاحتمال لزوم الغسل تعبدا من غير نظر الى التطهير و إرجاع الشي ء إلى حالته الأصلية ضعيف

مخالف لظواهر الأدلة و فهم العقلاء منها، و لهذا لا ينقدح في ذهن العقلاء من الأمر بغسل الأواني ثلاثا إلا أنه لغرض تنظيفها، فإذا حصلت النظافة بمرة إذا بالغ في تنظيفها فقد حصل الغرض.

و بهذا الوجه يمكن الاستدلال على جواز الاكتفاء بمرة في الغسل بماء جار أو كثير إذا حصل الغرض من الغمس فيهما، بل يتسع نطاق البيان الى جميع أنواع النجاسات كالبول و الولوغ أيضا، بدعوى عدم إعمال تعبد من الشرع في باب النجاسات و الطهارات إلا بجعل مصداق نجسا أو سلب النجاسة عن قذر عرفي، فالطهارة أمر واضح يدركه العقلاء، و الأمر بالغسل و الدلك و التعفير و التعدد لأجل حصولها من غير إعمال تعبد في ماهيتها، فإذا علم حصولها و لو بنحو مغاير لما في الأوامر الشرعية التوصلية تسقط الأوامر لحصول الغرض.

هذا غاية تقريب كلام المحقق رحمه اللّٰه، و به قال العلامة، و حمل الروايات الآمرة بالعدد على الغالب لا على المقدر، قال في جملة من كلامه في الخمر: و الأقرب عندي عدم اعتبار العدد، بل الواجب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 502

الإنقاء، لنا محل نجس فوجب تطهيره بصيرورته الى الحال الأول، و ذلك انما يحصل بالنقاء، فيجب الإنقاء، لكن الغالب أنه لا يحصل إلا مع الثلاث، فيجب لا باعتبار أنه مقدر» انتهى.

و هو متين، لكن مع ذلك يشكل الخروج عن مقتضى موثقة عمار سيما مع ما نرى من إعمال التعبد في أبواب النجاسات الى ما شاء اللّٰه كالاكتفاء في محل النجو بالأحجار و نحوها دون محل البول مع أشدية قذارة الأول عرفا، و كالاكتفاء بالأرض في تطهير بعض الأمور خاصة، مثل تحت الأقدام. و كالاكتفاء بتطهير

الشمس في بعض الأمور: أي غير المنقول، و كزوال عين النجاسة في الحيوان الصامت بأي نحو كان، الى غير ذلك.

و معه كيف يمكن دعوى عدم إعمال تعبد من قبله من أبوابهما، فلا محيص عن الوقوف على النصوص، و عليه لا فرق ظاهرا بين القليل و الكثير و الجاري و المطر، لأن الظاهر من موثقة عمار أنه عليه السلام سئل عن كيفية الغسل و عن كميته فأجاب عن الثانية بقوله عليه السلام:

«يغسل ثلاث مرات» و عن الأولى بقوله: «يصب فيه الماء» إلخ «1» و إطلاق الجواب الأول يقتضي عدم الفرق بين القليل و غيره، و الجملة الثانية لا تكون قرينة على أن المراد بالأولى الغسل بالقليل، لان بيان الكيفية انما يحتاج إليه في القليل دون الكر و الجاري، فإن كيفية غسله فيهما واضحة، و أما الغسل بالقليل فلما كان في نظر العرف أن صب الماء في الإناء يوجب تنجيسه فلا يمكن التطهير به إلا بنحو يجري الماء من غير أن يجتمع فيه كان بيانه لازما و رافعا للتحير، فلا يصير الذيل قرينة على الصدر و لا مقيدا له، فتكون الموثقة مقدمة على مرسلة الكاهلي

______________________________

(1) مرت في ص 500.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 503

الواردة في المطر، و على مرسلة العلامة في الكثير، لما مر سابقا من تحكيم مثلها عليهما، هذا مع ضعف الثانية بلا جبر، فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبار التعدد مطلقا.

فائدة استطرادية:
اشارة

جرت عادتهم باستطراد أحكام الأواني و الجلود في المقام،

و فيها مسائل:
الأولى: لا يجوز الأكل و الشرب و كذا سائر الاستعمالات من آنية الذهب و الفضة،

و هو في الجملة ثابت، ادعي عليه الإجماع و عدم الخلاف و سيأتي الكلام فيه.

و تدل على الأول جملة من الروايات من طرق الناس كالمروي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، و لا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة» «1» و عنه صلّى اللّٰه عليه و آله «نهى عن الشرب في آنية الفضة» «2» و عنه صلى اللّٰه عليه و آله «من يشرب في آنية الفضة في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة» «3» و عنه صلّى اللّٰه عليه و آله «الذي يشرب في آنية الفضة

______________________________

(1) راجع كنز العمال ج 8- ص 16- الرقم 362.

(2) المستدرك- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(3) المستدرك- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 504

انما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1».

و من طرقنا صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا تأكل من آنية الذهب و الفضة» «2» و صحيحته الأخرى على الأصح عنه عليه السلام «أنه نهى عن آنية الذهب و الفضة» «3» و رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تأكل في آنية الذهب و الفضة» «4» و في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله عن الشرب في آنية الذهب و الفضة» «5» و رواية مسعدة ابن صدقة الموثقة ظاهرا عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهاهم عن سبع: منها

الشرب في آنية الذهب و الفضة» «6».

لكن بإزائها روايات ربما يكون مقتضى الجمع العقلائي بينها و بين الأولى الحكم على الكراهة لو لا الجهات الخارجية كموثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب و الفضة» «7» و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه كره

______________________________

(1) نقله في المستدرك عن البحار هكذا «قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للشارب في آنية الذهب و الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» و عن عوالي اللئالي عنه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم «الذين يشربون في آنية الفضة يجرجر في بطونهم نار جهنم» راجع المصدر المذكور الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 4- 7.

(2) الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 7 و فيه: «لا تأكل في آنية ذهب و لا فضة».

(3) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 3.

(4) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 9.

(6) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 11.

(7) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 505

آنية الذهب و الفضة و الآنية المفضضة» «1» و ظاهرها ان الكراهة في الفضة و المفضضة سواء، فتكون الكراهة ظاهرة في الاصطلاحية.

و لو قيل: إن الكراهة عن أصل الآنية لا تنافي حرمة الشرب منها يقال: الظاهر أن المراد من كراهتهما كراهة الأكل و الشرب، كما تشهد به روايته الأخرى «2» عنه عليه السلام قال: «لا تأكل في آنية من فضة و لا آنية مفضضة».

و لعل الرواية الأولى نقل بالمعنى للثانية، و انما فهم الحلبي من النهي

الكراهة بقرينة ذكر المفضضة، و هو جيد، لأن الظاهر من الثاني أن المفضضة كالفضة، فإذا ضم إليها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس، أن يشرب الرجل في القدح المفضض، و اعزل فمك عن موضع الفضة» «3» يستفاد منها الكراهة، و كون الأولى في الأكل و الثانية في الشرب لا يقدح في ذلك لإلقاء الخصوصية عرفا، و عدم الفصل جزما.

و موثقة بريد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه كره الشرب في الفضة و في القدح المفضض، و كذلك أن يدهن في مدهن مفضض و المشطة كذلك» «4» و هي ظاهرة الدلالة في الكراهة الاصطلاحية بعد عطف المفضض و المشطة عليها.

و صحيحة ابن بزيع قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 10

(2) أي صحيحته الأخرى، راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(4) راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 506

عن آنية الذهب و الفضة فكرههما، فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن عليه السلام مرآة ملبسة فضة. قال: لا و الحمد للّٰه، و انما كانت لها حلقة من فضة نحوا من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن عليه السلام فكسر» «1» و هي أيضا بلحاظ ذيلها و نحو تعبيرها ظاهر في الكراهة مقابل الحرمة.

و رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه السلام قال: «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا يوقنون» «2» و هي أيضا مشعرة بالكراهة أو ظاهرة فيها.

و الانصاف أن الجمع بين

الطائفتين من أهون التصرفات العقلائية نعم لو كانت الروايات التي من طرقهم معتبرة عندنا كان الجمع بينهما مشكلا، لكنها غير معول عليها.

هذا حال الأكل و الشرب، و منه يظهر حال سائر الاستعمالات فان ما يمكن الاستشهاد بها على حرمة سائرها ليست إلا صحيحة محمد ابن مسلم الثانية لكن لما لا يمكن أن يتعلق النهي بماهية آنية الذهب و الفضة لا بد و أن يتعلق بمحذوف كالأكل و الشرب أو الاستعمال أو الاقتناء، و ليس المقام مما يقال فيه: إن حذف المتعلق دليل العموم، لأن محمد بن مسلم حكى عن أنه عليه السلام نهى عنها، و لم يحك نحو النهي الذي في كلامه و لا متعلقه، و المتيقن بل الظاهر هو النهي عن

______________________________

(1) في الوسائل بعد قوله: «من فضة»: «و هي عندي» ثم قال: «ان العباس حين عذر عمل له قضيت ملبس من فضة من نحو ما يعمله للصبيان تكون فضة نحوا من عشرة دراهم» إلخ، راجع الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 507

الأكل و الشرب لا كل شي ء، كما تشهد به سائر الروايات.

و قياس المورد بقوله عليه السلام: «نهى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله عن الغرر» حيث يستفاد منه الغرر في كل معاملة مع الفارق، لأن الغرر مصدر يمكن تعلق النهي به دون آنية الذهب، بل الظاهر أن هذه الرواية نقل بالمعنى عن روايته الأخرى عنه عليه السلام قال: «لا تأكل من آنية الذهب و الفضة».

و بالجملة لو سمع ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام هذا النهي يجوز له أن يقول: «نهى أبو جعفر

عليه السلام عن آنية الذهب و الفضة» و توهم أن الصادر عن أبي جعفر عليه السلام بتوسط ابن مسلم روايتان إحداهما منقولة بلفظها و الأخرى بمعناها و لا بد أن يكون النهي عن عنوان عام حتى يصح له أن يحكي عنه عليه السلام بقوله: «نهى عن الآنية» كما ترى، و الحاصل أنه لا يمكن إثبات نهي عن مطلق الاستعمال بحكايته النهى عن الآنية، مع صحة الحكاية إن لم يصدر عن أبي جعفر عليه السلام إلا روايته الأخرى المتقدمة.

و أما سائر الروايات التي يمكن استفادة حكم مطلق الاستعمال منها فظاهرة في الكراهة، كرواية موسى بن بكر، و صحيحة ابن بزيع و صحيحة الحلبي مع إشكال فيها تقدم ذكره، و هو أنها عين صحيحته الأخرى منقولة بالمعنى، و رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة من فضة؟ قال: نعم، انما يكره استعمال ما يشرب فيه» «1» بناء على أن المراد كراهة مطلق استعمال إناء يشرب فيه أي يكون

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 67- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 508

معدا للشرب.

و هذه أيضا ظاهرة الدلالة على الكراهة المصطلحة، بل لو فرض ظهور في صحيحة ابن مسلم في حرمة مطلق الاستعمال تكون هذه الرواية حاكمة عليها موجبة لصرفها عنه، فتحصل مما ذكر عدم دليل لفظي على حرمة استعمال الأواني بنحو الإطلاق و لا الأكل و الشرب منها.

ثم لو فرض دلالة الأدلة على حرمة الأكل و الشرب و كذا حرمة الاستعمال هل تنصرف إلى حرمة الشرب و الأكل في آنية يتعارف الأكل و الشرب منها و كذا

تنصرف إلى الأكل و الشرب المتعارفين أو تعم غير المتعارفين في البابين؟ وجهان، لا يبعد القول بالتعميم، لأجل ارتكاز العقلاء بعدم دخالة كيفية الأكل و الشرب و لا تعارف الإناء فيهما، نعم الظاهر أن استعمال الإناء منصرف الى استعمال يكون من شأن الأواني لا مثل قتل الحية و دق الباب بها، فلو ورد دليل على أن استعمال الأواني محرم كمرسلة الخلاف روي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «أنه نهى عن استعمال أواني الذهب الفضة» «1» لا يعم إلا ما يكون الاستعمال نحو استعمال الأواني.

و لو استعمل ما للشرب في الأكل أو بالعكس أو استعمل ما ليس لهما فيهما فشرب من القنديل و غلاف السيف يكون محرما على اشكال في مثل الأخير، دون ما لو استعمل الإناء فيما لا يكون شأن الأواني بما هي، كاستعمالها في ضرب الدابة، و وضعها و الجلوس عليها، كما أن الظاهر عدم التعميم لمثل الوضع على الرفوف للتزيين إلا ما كان

______________________________

(1) نقله في المستدرك عن الأحسائي، في درر اللئالي عنه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم، راجع الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 509

نحو استعمالها كذلك بناء على عموم حرمة الاستعمال، و أولى بعدم الحرمة اقتناؤها.

نعم لو استفيد من صحيحة ابن بزيع الحرمة لا يبعد أن يقال:

إنها متعلقة بذات الآنية، فيكون وجودها مبغوضا لا يجوز اقتناؤها، بل يجب كسرها كما أمر أبو الحسن عليه السلام بكسر قضيب يلبس بالفضة على ما فيها «1» لكنها ظاهرة في الكراهة أو غير دالة على الحرمة كما أنه لو فرض استفادة الحرمة من قوله عليه السلام: «آنية الذهب و الفضة متاع

الذين لا يوقنون» «2» يكون دالا على حرمة مطلق الانتفاع و التمتع بها مما هو من شأن الأواني، نعم لا يشمل مثل الاقتناء فإنه تعطل عن الانتفاع لا انتفاع بها.

هذا كله حال الأدلة اللفظية، و قد عرفت عدم نهوضها لإثبات حرمة الأكل و الشرب فضلا عن سائر الاستعمالات، نعم قد تكرر و استفاض نقل الإجماع من عصر العلامة إلى عصرنا على حرمة الأكل و الشرب في جملة من الكتب، و عن الذكرى و المجمع للأردبيلي و المدارك و غيرها على حرمة سائر الاستعمالات أيضا، و عن المدارك و كشف الرموز لا خلاف فيه، و نسبه في محكي الكفاية إلى المشهور، و عن الصدوق و المفيد و سلار و الشيخ في النهاية الاقتصار على الأكل و الشرب، و عن المدارك و الكفاية أن تحريم اتخاذها لغير الاستعمال هو المشهور، و عن المجمع هو مذهب الأكثر، و هو المحكي عن الشيخ و المحقق و اليوسفي و العلامة و الفخر و الكركي و ظاهر الشهيد، و عن الحلي و العلامة في المختلف تقريب الجواز. و عن المدارك استحسانه، و عن شيخه الأردبيلي الميل اليه هذا.

______________________________

(1) مرتا في ص 506.

(2) مرتا في ص 506.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 510

و الذي يوجب وسوسة في النفس أمران: أحدهما احتمال تخلل الاجتهاد في الحكم، و أن الفقهاء إنما أفتوا بالحرمة في الأكل و الشرب و سائر الاستعمالات اتكالا على الروايات، سيما مع استدلال الشيخ و المفيد و من بعدهما كالمحقق و العلامة و أمثالهما من عمد أصحاب الفتوى و أئمة الفن بها.

و معه كيف يمكن القطع بأن عندهم غير تلك الروايات أمرا آخرا و يكون الحكم معروفا

من لدن زمن الأئمة عليهم السلام، و انما ذكروا الروايات إيرادا لا استنادا و اعتمادا، أو أعرضوا عن الروايات الحاكمة عليها، لا رجحوا مفاد ما دلت على التحريم عليها بالتقريبات التي ذكرها المتأخرون.

و الحاصل أنه مع الظن الراجح على استنادهم الى الروايات كيف يمكن القطع بكشف الإجماع عن الدليل المعتبر غيرها، أو عن أخذهم الحكم خلفا عن سلف من غير تخلل اجتهاد.

و ثانيهما عبارة الشيخ في الخلاف قال في مسألة (15) من كتاب الطهارة: «يكره استعمال أواني الذهب و الفضة، و كذلك المفضض منها، و قال الشافعي: لا يجوز استعمال أواني الذهب و الفضة، و به قال أبو حنيفة في الشرب و الأكل و التطيب على كل حال، و قال الشافعي يكره المفضض، و قال أبو حنيفة: لا يكره، و هو مذهب داود، دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا روى الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «لا تأكل في آنية من فضة و لا في آنية مفضضة» و روى ابن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه نهى عن آنية الذهب و الفضة» و روي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «أنه نهى عن استعمال أواني الذهب و الفضة» انتهى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 511

و هذه كما ترى ظاهرة في الكراهة المصطلحة غير ممكن التأويل بغيرها من وجوه. و إن كان مقتضى تمسكه بالروايات الظاهرة في الحرمة أن يكون مدعاه التحريم، لكن نصوصية الصدر حاكمة على الذيل، سيما مع أن رواية الحلبي محمولة على الكراهة بقرينة عطف المفضضة على آنية الفضة، و النص قائم على عدم البأس بها، و هو صحيحة

عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة «1».

و لعل استناد الشيخ إليها على الكراهة كذلك، كما أن الحلبي الناقل لها عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في موضع آخر: «إنه كره آنية الذهب و الفضة، و الآنية المفضضة» «2».

و أما فتواه في زكاة الخلاف بحرمة الاتخاذ و الاستعمال مستدلا على النبويين المتقدمين، و كذا فتواه في النهاية بحرمة الأكل و الشرب فلا يصيران قرينة على أن مراده في المقام الحرمة أو الجامع بينهما و بين الكراهة، فإن التصرف في عبارة الخلاف كطرح النص لا تأويل الظاهر أو المجمل، نعم لأحد أن يقول بتصحيف نسخة الخلاف، و هو كما ترى فإذا كان الأمر كذلك و المسألة على هذه المنوال كيف يمكن الاتكال على دعوى إجماع العلامة و من تأخر عنه، سيما في مطلق الاستعمال، مع أن جمعا من المتقدمين اقتصروا على الأكل و الشرب كما تقدم.

فالمسألة قوية الاشكال، و لكن الخروج عن الإجماعات المنقولة في الأكل و الشرب و الاستعمالات المتعارفة المتيقنة أشكل، للوهن الحاصل منها في الروايات المقابلة للنواهى الواردة عن الأكل و الشرب، أو حصول الوثوق بأن المراد من الكراهة في الروايات غير معناها الاصطلاحي

______________________________

(1) تقدمت في ص 505.

(2) مرت في ص 504.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 512

و على أي حال غاية ما يمكن الاتكال عليها في ذاك و ذلك هي حرمة الأكل و الشرب و الاستعمالات المتعارفة دون غير المتعارفة أو غير المتوقعة من الأواني فلا سيما الثانية، فضلا عما لا يكون استعمالا أو شك فيه كالوضع على الرفوف للتزيين و الاقتناء و نحوهما.

فالأقوى حلية غير الأكل و الشرب و الاستعمالات المتوقعة عن الأواني، و إن لا يخلو

عن تأمل فيما لا يتعارف فيها، كالشرب من غلاف السيف لو قلنا بأنه آنية أو جعل الكوز و الكأس محلا للمداد لأجل الكتابة و نظائرها.

و قد ظهر من بعض ما تقدم عدم حرمة المفضض، و هل يحرم الشرب من موضع الفضة أو يكره؟ ظاهر ذيل صحيحة ابن سنان المتقدمة «1» الأول، و به قال جملة من الأصحاب قديما و حديثا، بل عن الكفاية نقل الشهرة عليه، و في المدارك نسبته إلى عامة المتأخرين، و اختار المحقق في المعتبر الاستحباب، و استحسنه صاحب المدارك، لإطلاق صحيحة معاوية بن وهب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة، قال: لا بأس إلا أن يكره الفضة فينزعها» «2».

و مقتضى الجمود على قواعد الفن و إن كان تقييد هذا الإطلاق لكن لا يبعد أقربية حمل الصحيحة على استحباب العزل أو كراهة الشرب من المحل عنه، لقوة الإطلاق سيما إذا كانت الضبة بمعنى الشعب التي يزين بها الإناء، فان الابتلاء بها في الشرب كثير، فعدم النهي عنها و التذييل بقوله عليه السلام: «إلا أن يكره الفضة فينزعها» و المناسبات

______________________________

(1) مرت في ص 505.

(2) الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 513

المغروسة في الذهن ربما توجب ترجيح الحمل على الكراهة على التقييد، لكن مع ذلك رفع اليد عن ظهور الصحيحة مشكل، فالأحوط العزل كما أن الأحوط إلحاق المذهب بالمفضض، بل لا يخلو من قوة.

الثانية: يحتمل بحسب التصور حرمة الأكل و الشرب من الآنيتين،

و كذا سائر العناوين التي نظيرهما في استلزام الاستعمال، كالوضوء و التدهين و التطيب و التدخين و هكذا، بمعنى أن المنهي عنه ذات تلك العناوين، فكل منها محرم بعنوانه،

و يحتمل حرمة عنوان استعمالهما سواء كان في الأكل أو الشرب أو غيرهما من المقاصد، بحيث يكون نفس الاستعمال بما هو محرما لا العناوين المتقدمة، و يحتمل أن يكون الأكل و الشرب بعنوانهما محرما دون سائر العناوين، بل هي بعنوان الاستعمال محرمة.

ظاهر شيخ الطائفة في عبارته المتقدمة عن موضعين من الخلاف ثاني الاحتمالات، و هو ظاهر المحقق في المعتبر و النافع، حيث قال في الأول: «لا يجوز استعمال أواني الذهب و الفضة في الأكل و الشرب و غيرهما» و الظاهر منه حرمة نفس الاستعمال لا عنوان الشرب و الأكل و هكذا، و يشهد له ما قال بعد ذلك: «لا يحرم المأكول و المشروب فيهما و إن كان الاستعمال محرما، لأن النهي عن الاستعمال لا يتناول المستعمل» و يؤيده ما قال في رد من قال ببطلان الوضوء من آنية الذهب و الفضة: «لنا أن انتزاع الماء ليس جزء من الطهارة، بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده» انتهى، تأمل تعرف.

بل لا يبعد رجوع عبارة الشرائع إليه، قال: «لا يجوز الأكل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 514

و الشرب في آنية من ذهب أو فضة و لا استعمالها في غير ذلك» بأن يقال: إن الأكل و الشرب المذكورين مثال لأنحاء الاستعمال المذكور في الذيل، فكأنه قال: «لا يجوز استعمالها في الأكل و الشرب و غير ذلك، سيما مع قرينية ما في المعتبر و النافع عليه.

و هو ظاهر القواعد و التذكرة، قال في الثاني: «و يحرم استعمال المتخذ من الذهب و الفضة في أكل و شرب و غيرهما عند علمائنا أجمع- ثم قال-: فروع: الأول لا فرق في تحريم الاستعمال بين الأكل و الشرب

و غيرهما كالبخور و الاكتحال منه و الطهارة و شبهه و جميع وجوه الاستعمال، لأن في تحريم الأكل و الشرب تنبيها على منع غيرهما» انتهى. فيظهر منه البناء على إلقاء الخصوصية من الأكل و الشرب الواردين في النصوص، و لو لا ذهابه إلى صحة الوضوء و الغسل في آنيتهما و استدلاله بما استدل به المحقق لكان المحتمل في عبارته أن مراده من سائر الاستعمالات غير الأكل و الشرب عناوين أخر نظيرهما كالوضوء و الغسل حتى يكون موافقا للاحتمال الأول من الاحتمالات المتقدمة، لكن ما ذكره أخيرا كالنص في أن النهي لم يتعلق بالعناوين، فيكون قرينة على أن مراده من كون الأكل و الشرب تنبيها على منع غيرهما، انهما مثال لمطلق الاستعمال، فهو محرم منطبق على سائر العناوين، و هو قرينة على ما في المنتهى.

و كيف كان ظاهرهم حرمة الاستعمال و التناول، كما نسب إلى المشهور، و ما ذكروه هو الأقرب، لأن مقتضى الجمود على ظاهر النواهي المتعلقة بعنوان الأكل و الشرب و إن كان موضوعيتهما، و أن المحرم نفس عنوانهما لا الاستعمالات التي مقدمات لهما، فلا بد من الاقتصار عليهما لو لا دليل آخر، لكن بعد ثبوت حرمة مطلق الاستعمالات إما للإجماع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 515

أو بعض الأدلة المتقدمة و بعد كون الشرب و الأكل فيها نحو استعمال لها عرفا لا يبقى ظهور في موضوعية العنوانين.

ألا ترى أنه لو ورد دليل بعدم جواز استعمال الأواني مطلقا ثم ورد النهي عن الاغتراف عنها لا ينقدح في الذهن إلا أن النهي عنه لكونه استعمالا لا لخصوصية في عنوانه، و إن شئت قلت: إن ملازمة الأكل و الشرب للاستعمال- و كونهما

من الأفراد الشائعة في استعمال الأواني، و بعد حرمة العنوانين مستقلا في مقابل الاستعمال المطلق، و بعد كون الشرب من الآنية محرما من حيث الشرب و من حيث الاستعمال، فيكون وضع الفم على الآنية و جذب الماء منها محرما و بلعه و ازدراده محرما آخر، و بعد عدم حرمة التناول و الاستعمال في الأكل و الشرب، فيكون المحرم مطلق الاستعمالات إلا ما كانت مقدمة لهما- توجب رفع اليد عن موضوعية عنوان الأكل و الشرب.

بل بعد التنبيه على تلك المقدمات لا ينقدح في الذهن من قوله:

«لا تأكل من آنية الذهب و الفضة» إلا ما يفهم من قوله: «لا تحج مع الدابة المغصوبة» و قوله: «لا ترفع على السطح مع المدرج المغصوب» حيث يرى العرف أن المبغوض هو التصرف في المال المغصوب لا الحج أو الكون على السطح.

نعم لو لم يكن في المقام إلا قوله: «لا تشرب من آنية الذهب أو «لا تأكل منها» كان الظاهر حرمة عنوانهما بخلاف باب الغصب في المثالين، للقرينة العرفية فيهما، لكن بعد ما ذكرناه من الشواهد لا يبقى مجال لدعوى الظهور في حرمة نفس العنوانين، بل المستفاد عرفا منه أن المحرم هو الاستعمال مطلقا، و لهذا ترى أن الشيخ قد استدل على حرمة مطلق الاستعمالات بالروايات الناهية عن الأكل و الشرب، و كذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 516

المحقق، بعد الوثوق بأن استدلالهما بروايات الناس ليس استنادا و اعتمادا بل جدلا في مقابلهم.

الثالثة: لو فرضنا حرمة العنوانين فهل تسري إلى المأكول و المشروب؟

فعن المفيد نعم، و عن الذكرى «و هو يلوح من كلام أبي الصلاح» و رده المحقق بأن النهي عن الاستعمال لا يتناول المستعمل، و هو موافق للتحقيق و لو كان المراد من الاستعمال

عنوان الشرب و الأكل، لأن ما تعلق به النهي هو الشرب عن الآنية من غير لحاظ إضافته إلى مشروب أصلا، و لزوم المتعلق بمشروب ما محقق عنوان الشرب لا جزء موضوع المحرم.

و إن شئت قلت: إن هاهنا عناوين يمكن بحسب الثبوت أن يتعلق النهي بكل منها: أحدها الشرب المطلق مقابل الأكل و المشي و نحوهما، فيكون المبغوض أصل الشرب لا الشرب المتعلق بمائع و إن كان في تحققه يتوقف على تعلق ما، لكنه خارج عن الموضوع المنهي عنه و ثانيها شرب الخمر مقابل شرب الماء، فيكون المنهي عنه شرب هذا العنوان الخاص، و هو بذاته مبغوض، و منه شرب المتنجس أو أكل لحم الموطوء، فإن النهي إذا تعلق بالعنوان الخاص كشرب المتنجس يكون بذاته مبغوضا، نعم إذا تعلق بمائع إذا تنجس يكون المائع مبغوضا بالعرض.

و الثالث شرب المائع مطلقا، و الفرق بينه و بين الأول بأن المائع هاهنا أخذ جزء الموضوع بخلافه هناك.

و الرابع شرب الخمر من آنية كذائية أو في مكان كذا بحيث يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 517

عنوان الخمر جزء الموضوع و الإضافة إلى الآنية أو المكان جزء آخر له.

و الخامس شرب المائع المطلق من آنية كذائية أو مكان كذا.

و السادس الشرب في آنية أو من آنية كذائية بحيث تكون نفس طبيعة الشرب بلا تعلق بمتعلق إذا كانت من آنية كذائية أو فيها مبغوضة فيكون الشرب في آنية كذائية متعلق النهي، فيكون الشرب المطلق من حيث المتعلق جزء من الموضوع، و الإضافة إلى الآنية جزءا آخر منه، فالمتعلق في هذه الصورة محتاج إليه في وجوده من غير أن يكون مقوما للموضوع المنهي عنه.

و المقام من قبيل الأخير،

فإن قوله: «لا تشرب في آنية الذهب و الفضة و لا تأكل فيها» يكون من حيث المتعلق ساقط الإضافة، فلا يكون المائع بنحو الإطلاق و لا العناوين الخاصة كالماء و اللبن جزءا للموضوع المنهي عنه، و لا متعلقا للنهي و لا مبغوضا، و هذا مرادنا من أن النهى عن الشرب لا يتناول المشروب، و لعله مراد المحقق أيضا و إن استظهرنا من كلامه أن المحرم هو الاستعمال و التناول من الآنيتين و مما ذكرناه يظهر ضعف الاستدلال للسراية بقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «إن الذي يشرب في آنية الذهب و الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1» فان ظاهره أن نفس الشرب منها توجب الجرجرة لا المشروب، بل المناسب للجرجرة هو الشرب، لانه سببها لا المشروب.

و كيف كان يتضح مما ذكرناه ضعف توجيه صاحب الحدائق كلام المفيد بأن المأكول صار حراما بالعرض، و يرجع النهي ثانيا و بالعرض إلى المأكول، فيكون حراما متى أكل بهذه الكيفية، و ظاهر النصوص يساعده، انتهى. أقول: بل لا يساعده شي ء من النصوص، فإن النهي

______________________________

(1) راجع ص 503- 504.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 518

فيها انما تعلق بالشرب من الآنية لا بالمشروب، و أضعف منه تنظيره بما أخذ الحق الشرعي بحكم حاكم الجور، لوضوح الفارق، فان الدليل هناك و هو مقبولة عمر بن حنظلة «1» دال على أن ما أخذه بحكمه سحت، فالحرمة تعلقت بما أخذ، بخلاف المقام، فإن النهي لم يتعلق بما شرب.

و يتلوه في الضعف قول بعض أهل النظر بأن «أضافه الحرمة إلى الذوات انما هي بلحاظ الفعل المتعلق بها، فالمراد بحرمة المأكول ما دام في الآنية ليس إلا حرمة أكله

فيها، فالاعتراض عليه بأن النهي عن الأكل لا يتعدى الى المأكول ليس على ما ينبغي- ثم ذكر المناقشة التي أوردوها في الاستدلال بحديث الجرجرة، و أجاب عنها بأن- المتبادر منه كون الشرب بنفسه سببا لجرجرة النار في البطن لا مقدمته التي هي أجنبية عن البطن، فالمتبادر الى الذهن من التشبيه ليس إلا حرمة المأكول التي مآلها إلى حرمة الأكل، كما أن هذا هو المتبادر من الأخبار الناهية، فهذا هو الأقوى» انتهى.

و أنت خبير بما فيه، فان المراد من عدم حرمة المأكول ليس عدم حرمة الذات بما هي حتى يقال: إن الذات لا يتعلق بها النهي إلا بلحاظ الفعل، بل المراد ان المنهي عنه هو الاستعمال أو الشرب و الأكل من الآنية أو فيها، لا شرب المائع فيها أو شرب الماء و اللبن و سائر العناوين، فلا تسري الحرمة من الشرب الى متعلقه أي الماء، فلا يكون شرب الماء من الآنية حراما، بل الشرب منها حرام بلا اضافة الى متعلق، و انما هو دخيل في تحقق عنوان المحرم لا جزء لموضوعه.

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 519

فالمفيد رحمه اللّٰه قائل بأن المأكول حرام كحرمة الخمر أو حرمة المال الذي أخذ بحكم حاكم الجور أو حرمة لحم الموطوء أو العين المنذور عدم أكلها، و كل ذلك يرجع الى حرمة أكل هذه العناوين ذاتا أو عرضا بالمعنى الذي أشرنا اليه على تأمل في المثال الأخير، قد أشرنا إليه في بعض مسفوراتنا.

و المحقق رحمه اللّٰه منكر لذلك إما لأن المحرم التناول و الاستعمال كما قدمنا تقريبه و تقويته، و إما لأن المحرم الشرب و

الأكل من الإناء لا شرب المائع أو الماء كما تقدم، و قد تقدم الكلام في حديث الجرجرة و انما ارتكبنا في المقام التطويل الممل مع وضوح المطلب بنظر القاصر لما وقع الخلط من بعض أهل التحقيق، و حمله كلام المحقق على غير مرضية.

الرابعة [الغسل و الوضوء بآنية الذهب و الفضة]

إن قلنا بأن المنهي عنه استعمال الأواني فالأقوى صحة الوضوء و الغسل بها، سواء كانا بالاغتراف أو الارتماس، و سواء كان الماء منحصرا و لم يمكن إفراغه في غيرها أم لا.

أما في صورة عدم الانحصار و إتيانه بالاغتراف فواضح، و أما مع الانحصار و الإتيان بالاغتراف فلأن غاية ما يقال في وجه البطلان: عدم الأمر بهما أو عدم تنجز التكليف بهما، و فيه أن صحتهما لا تتوقف على الأمر، و لا على تنجزه، و كفى فيها عباديتهما و مطلوبيتهما الذاتية و المفروض ان النهى لم يتعلق بهما، و التبديل بالتيمم ليس لمبغوضيتهما في هذه الحالة، بل لمبغوضية استعمال الإناء.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 520

و بالجملة ان المقام من قبيل تزاحم المطلوب الأعلى مع المبغوض، فاكتفاء الشارع بالمطلوب الأدنى بلحاظ عدم الابتلاء باستعمال المبغوض لا بلحاظ عدم الاقتضاء في المحبوب الأعلى أو مبغوضيته، فلو تخلف المكلف و أتى بالمطلوب الأعلى صح وضوؤه و إن عصى باستعمال الآنية، مع أن لنا الالتزام بتعلق الأمر الاستحبابي النفسي بالوضوء و الغسل بناء على ما حققناه من أن عباديتهما غير متقومة بالأمر الوجوبي الغيري، بل انما تتوقف على الأمر الاستحبابي بناء على توقفها على الأمر، و ذلك لأن الأوامر متعلقة بنفس الطبائع من غير لحاظ حال التزاحم، و في صورة التزاحم لا يسقط الأمر، بل يرجح العقل أو الشرع المزاحم الأقوى على

الأضعف، فالوضوء فيما نحن فيه متعلق لأمر استحبابي فعلى، لكن الشارع رجح جانب حرمة الاستعمال على الوضوء الاستحبابي الذي مقدمة و شرط للصلاة الواجبة، و يتضح مما ذكر حال ما لو قلنا بتقوم العبادية بالأمر الغيري، فتدبر.

و بالجملة لا وجه معتد به لبطلان الوضوء و الغسل في صورة الانحصار لأن الأمر بالتيمم لا يوجب النهي عن الوضوء و لا مبغوضيته، بل و لا عدم الأمر على ما حققناه في تصويره، و كذا يصح الوضوء و الغسل ارتماسا لما قلنا في باب اجتماع الأمر و النهى من صحة العبادة المتحدة في الوجود مع المنهي عنه، و حديث أن المبعد لا يمكن أن يصير مقربا قد فرغنا عن حله.

بل لو قلنا بأن المستفاد من الأدلة النهي عن العناوين الخاصة فكأنه قال: «لا تتوضأ من الآنيتين» يمكن تقريب الصحة بأن يقال:

إن المنهي عنه في أمثال المقام هو إيجاد الطبيعة بتلك الإضافة، فالنهي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 521

في قوله عليه السلام: «لا تصل في الحمام» «1» انما تعلق بأمر خارج و هو تمكين الصلاة المطلوبة في المكان الكذائي.

و هكذا الحال في المقام، فإن النهي تعلق بالإضافة الخارجية أو نحوها، و هي كون الوضوء من آنية الذهب، لا بنفس طبيعة الوضوء فالمسألة في هذه الصورة بحسب حكم العقل محل نظر و إشكال، و إن كان العرف لا يساعد على هذا التحليل، و يكون قوله: «لا تتوضأ من آنية الذهب» من قبيل النهي في العبادة عرفا، فالأوجه في هذه الصورة البطلان.

ثم أن المرجع في تشخيص الإناء و الآنية و الأواني المذكورة في النصوص هو العرف، كما عن كثير من اللغويين إيكاله إليه، و التفسير بالوعاء

و الأوعية في غير محله، لإطلاق الوعاء على ما لا تكون آنية جزما من غير تأويل، قال تعالى في قضية يوسف على نبينا و آله و عليه السلام:

«فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعٰاءِ أَخِيهِ» «2» و معلوم أن أوعيتهم لم تكن من الأواني، بل كانت من الجواليق و ما يشبهها، و أما ما عن كاشف الغطاء في تشخيص الموضوع- من اعتبار الظرفية، و كون المظروف معرضا للرفع و الوضع، احترازا عن موضع فص الخاتم و عكوز الرمح و نحوها، و أن تكون موضوعة على صورة متاع البيت الذي يعتاد استعماله عند أهله في أكل أو شرب أو طبخ أو غسل أو نحوها، احترازا عن كوز الغليان و رأسها و رأس الشطب و قراب السيف و نحوه و بيت السهام و بيت المكحلة و المرآة و الصندوق و قوطي النشوق و العطر و نحوها، و أن يكون لها أسفل يمسك ما يوضع فيه، و حواشي

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 34- من أبواب مكان المصلي.

(2) سورة يوسف: 76 الآية 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 522

كذلك، احترازا عن القناديل و المشبكات و المخرمات و الطبق- فلا يخلو من إشكال و إن كان كلامه ذلك مع كونه من أهل اللسان يوجب لنا الشك في صدقها على كثير مما ذكره، و معه مقتضى الأصل الإباحة، و الانصاف أن المتيقن منها ما ذكره و إن كان الاحتياط في مثل كوز الغليان لا ينبغي تركه، بل لا يترك.

و أما ما عدّ صاحب الجواهر منها كرأس الغليان و رأس الشطب و ما يجعل موضعا له و قراب السيف و الخنجر و السكين و بيت السهام و ظروف الغالية و الكحل

و العنبر و القير و المعجون و التتن و التنباك و الأفيون و المشكاة و المجامر و المحابر و نحوها فكثير منها محل إشكال أو منع، سيما مع جزم الأستاذ على خلافه، و هو يوجب الشك لنا مع عدم إمكان إحرازها أو إحراز كثير منها من العرف و اللغة، بعد ما كان الإناء في عصرنا قليل الاستعمال أو عديمه، على ما شهد به صاحب الجواهر و غيره من أهل اللسان.

و دعوى استفادة إنائية كثير منها أو جميعها من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع- قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن آنية الذهب و الفضة فكرهها، فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن عليه السلام مرآة ملبسه فضة، فقال: لا و الحمد للّٰه، انما كانت لها حلقة من فضة، و هي عندي- ثم قال-: إن العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس فضة من نحو ما يعمل للصبيان، تكون فضة نحوا من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن عليه السلام فكسر» «1» بدعوى أن الظاهر أن الراوي نقض عليه فعل أبى الحسن عليه السلام فأنكره شديدا، و حكى أمره بكسر القضيب الملبس، و هو دليل على صدقها في جميع تلك الموارد حتى فيما لا يقول به صاحب الجواهر كالمثال-

______________________________

(1) مرت في ص 506.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 523

ضعيفة، لمنع كون كلام الراوي نقضا بالنسبة إلى المرآة بدعوى صدق الآنية عليها، بل من المحتمل قريبا أنه فهم من كراهة أبي الحسن الرضا عليه السلام أن استعمال مطلق الذهب و الفضة مكروه، فقال ما قال، و إلا فالظاهر عدم صدق الآنية على المرآة الملبس و لا على لباس المرآة.

و كذا لا يصدق على القضيب أو لباسه. و الظاهر من قوله عليه السلام: «تكون فضة نحوا من عشرة دراهم» أن ادخار الفضة حتى بهذا المقدار كان مكروها لدى أبى الحسن عليه السلام فضلا عن ادخار الملبسة بها.

و الانصاف ان دعوى تشخيص الآنية من الرواية في غاية السقوط بعد عدم صدقها على ما فيها، و أضعف منه دعوى كون الموضوع الشرعي أعم، بدعوى أن للآنية حقيقة شرعية، و هو كما ترى، نعم لا يبعد استفادة كراهة مطلق استعمال الآلات المعمولة من الفضة و الذهب من هذه الرواية و بعض روايات أخر واردة فيها و في الذهب، و الأمر سهل.

الخامسة [استعمال الجلود]

لا يجوز استعمال شي ء من الجلود إذا كانت من ذوات الأنفس فيما يشترط فيه الطهارة- إلا إذا كانت من حيوان وردت عليه تذكية شرعية بالشروط المقررة- و لو دبغت سبعين مرة، إذ هي بدون التذكية نجسة ميتة لا تحل الصلاة فيها، و هذا لا اشكال فيه نصا و فتوى إلا من ابن الجنيد القائل بطهارتها بالدباغة، و إن قال بعدم جواز الصلاة فيها.

و الذي ينبغي بسط الكلام فيه أنه هل يعتبر في جواز استعمالها، و كذا في حلية اللحوم من الحيوانات المحللة الأكل، و كذا في صحة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 524

الصلاة فيما تجوز فيها مع التذكية إحرازها بالعلم أو بأمارة شرعية معتبرة، و مع عدمه يحكم بنجاستها و حرمة الانتفاع بها و عدم جواز الصلاة فيها أو عدم التذكية يحتاج الى دليل، و مع عدمه يحكم بطهارتها و جواز الصلاة فيها، و حلية أكل اللحم أو تفصيل بين الطهارة و غيرها؟

قد استقر آراؤهم على جريان أصالة عدم التذكية في

الجملة و إن فصّل بعضهم بين ما إذا رتبت الأحكام على مجرد عدم التذكية بنحو السالبة المحصلة و بين ما إذا كان الموضوع بنحو الإيجاب العدولي، كما لعله الظاهر من الشيخ الأعظم، و فصّل آخر بين كون المذكى و مقابله من قبيل الضدين فلا تجري و بين كونهما من قبيل العدم و الملكة فتجري و تترتب عليها الأحكام، بدعوى كون الموضوع في هذه الصورة من قبيل الموضوعات المركبة أو المقيدة المشكوك فيها بقيدها أو جزئها فيحرز بالأصل، و هو ظاهر المحقق الخراساني.

و ثالث بين الآثار التي رتبت على عدم كون الحيوان مذكى كعدم الحلية و عدم جواز الصلاة و عدم الطهارة من الأحكام العدمية المنتزعة من الوجوديات التي تكون التذكية شرطا في ثبوتها، فيقال الأصل عدم تعلق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحل أكله و لا الصلاة فيه و لا استعماله فيما يشترط بالطهارة و بين الآثار المترتبة على كونه غير المذكى، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات، كحرمة أكله و نجاسته و تنجيس ملاقيه و نحوها، بدعوى ان الحلية و سائر الأحكام الوجودية المترتبة على سبب حادث تصير منتفية بانتفاء سببها، فالموت المقرون بالشرائط أمر مركب سبب للأحكام، و هو أمر حادث مسبوق بالعدم، فأصالة عدمه مما يترتب عليها عدم الحلية و الطهارة و جواز الصلاة فيها، فعدم حلية اللحم من آثار عدم حدوث ما يؤثر في حليته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 525

بعد الموت لا من آثار كون الموت فاقدا للشرائط حتى لا يمكن إحرازه بالأصل، و هو صريح المولى الهمداني تبعا لظاهر الشيخ الأعظم، و لعله يرجع الى التفصيل الأول أو قريب منه.

و نحن قد استقصينا

البحث في أطراف أصالة عدم التذكية و ما هي نحوها بما لا مزيد عليه مع مقدمات مفيدة في المقام و سائر المقامات في الأصول، و تذكارها و نقلها هاهنا موجب للتطويل المخالف لوضع هذا المختصر، و لهذا نشير الى لمحة منها احترازا عن الحوالة، فنقول:

لا شبهة في أن التذكية عبارة عن أمر وجودي هو إزهاق الروح بكيفية خاصة معتبرة في الشرع: أي فري المسلم الأوداج الأربعة متوجها للحيوان إلى القبلة ذاكرا عليه اسم اللّٰه مع قابلية الحيوان لها، و هو الموضوع للأحكام المتقدمة، أي الطهارة و حلية الأكل و جواز الصلاة في أجزائه و غيرها و مقابل هذا العنوان الذي يكون موضوعا لأحكام أخر أي الحرمة و النجاسة أو عدم الحلية و عدم الطهارة و عدم جواز الصلاة فيه يمكن أن يكون عنوانا وجوديا هو إزهاق الروح بكيفية أخرى ضد الكيفية المأخوذة في التذكية، و يمكن أن يكون ازهاقه لا بالكيفية المذكورة على نعت الإيجاب العدولي، أو إزهاقه الذي لم يكن بالكيفية الخاصة على نعت الموجبة السالبة المحمول، أو إزهاقه مسلوبا عنه الكيفية الخاصة على نعت سلب محصل بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع، و يمكن أن يكون أمرا سلبيا بالسلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع، و يمكن أن يكون مركبا من إزهاق الروح و عدم تحقق الكيفية الخاصة بنحو العدم المحمولي.

هذا بحسب التصور و الاحتمال البدوي، لكن لا شبهة في أن الموضوع للأحكام ليس عدم إزهاق الروح بالكيفية الخاصة بنحو السالبة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 526

المحصلة الأعم من سلب الموضوع، ضرورة عدم إمكان موضوعية عدم محض للأحكام ثبوتا و عدم مساعدة الأدلة لها إثباتا.

و منه يظهر بطلان الصورة

الأخيرة، لعدم تعقل كون جزء الموضوع للأحكام شيئا أعم من الوجود، بل يلزم من جزئيته له التناقض، لأن فرض إزهاق الروح الذي هو صفة لأمر وجودي و فرض سلب الكيفية بالسلب البسيط الأعم فرض كون المتناقضين موضوع الحكم، فبقيت الاعتبارات الأخر و في شي ء منها لا مصير لجريان أصالة عدم التذكية لإثبات الحكم، أما في صورة الضدية فواضح، ضرورة أن سلب الضد على فرض جريان الأصل لا يثبت تحقق الضد الآخر إلا بالأصل المثبت و لو مع فرض عدم الثالث لهما، و أما صورة اعتبار الإيجاب العدولي و الموجبة السالبة المحمولي و السالبة المحصلة مع فرض وجود الموضوع و كون السلب عنه فليس لشي ء منها بعنوانه حالة سابقة يقينية.

و استصحاب السلب البسيط التحصيلي الجامع بين سلب الحيوان و سلب الزهوق و سلب الكيفية لا يثبت الحكم المترتب على مصداقه المنحصر إلا بالأصل المثبت، فان موضوع الحكم إذا كان بأحد الاعتبارات الثلاثة لا يكون السلب التحصيلي موضوعا له، بل هو أي السلب المطلق كلى جامع منطبق على السلب الأزلي بسلب الحيوان و سلب الإزهاق مع وجود الحيوان و إزهاق روحه بغير الكيفية الخاصة، و موضوع الحكم هو الأخير، و استصحاب الجامع و إثبات الفرد و أحكامه مثبت كما هو ظاهر.

و منه يتضح بطلان ما يمكن أن يقال: إن الحيوان في حالة حياته يصدق عليه أنه غير زاهق الروح بالكيفية الخاصة أو مسلوب عنه الزهوق الكذائي، و هذا العنوان و إن لم يكن موضوعا للحكم في حال اليقين لكنه موضوع له في حال الشك، و هو كاف في الاستصحاب، و ذلك لأن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 527

موضوعه ليس عنوان عدم زهوق

الروح القابل للصدق على الحيوان الحي و لو بنحو الإيجاب العدولي مع موضوعية الحيوان، بل الموضوع زهوقه بلا كيفية خاصة، فاستصحاب أن الحيوان غير زاهق الروح بالكيفية الخاصة لترتب الاحكام عليه غير صحيح، لان هذا العنوان المستصحب ليس موضوع الحكم، بل الموضوع عنوان آخر منطبق هذا العنوان، و استصحاب العنوان الأعم لا يثبت أحكام الأخص.

و ما ذكره المولى الهمداني فهو غفلة عن دقيقة، و هي أن سلب السبب الموجب لأحكام وجودية بالسلب المطلق لازمة سلب الأحكام الوجودية القابل للانطباق على عدم التشريع رأسا لا ثبوت حكم آخر سلبي أو ثبوتي، فاستصحاب عدم تحقق السبب لإثبات حكم من الشارع كعدم الحلية و نحوه من المثبتات لو لم نقل بأن سلب السبب لإثبات سلب المسبب أيضا من المثبتات، فأصالة الحل و الطهارة محكمة ما لم يدل دليل على خلافها، هذا إجمال مما فصلناه في الأصول، و لا بد أن يطلب التحقيق من هناك.

و الاولى في المقام صرف الكلام الى حال الروايات، فنقول: قد وردت جملة من الاخبار في باب الصيد و الذباحة يستفاد منها توقف حلية الأكل على إحراز الذبح الشرعي، كصحيحة الحذاء قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يسرح كلبه المعلم و يسمي إذا سرحه قال: يأكل مما أمسك عليه، فإذا أدركه قبل قتله ذكاه، و إن وجد معه كلبا غير معلم فلا يأكل منه» «1».

و رواية أبي بصير عنه عليه السلام قال: «سألته عن قوم أرسلوا كلابهم و هي معلمة كلها، و قد سموا عليها، فلما أن مضت الكلاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الصيد- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 528

دخل فيها كلب غريب لا

يعرفون له صاحبا، و أشركت جميعا في الصيد فقال: لا يؤكل منه، لأنك لا تدري أخذه معلم أم لا» «1».

و صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من جرح صيدا بسلاح و ذكر اسم اللّٰه عليه ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه سبع، و قد علم أن سلاحه هو الذي قتله، فليأكل منه إن شاء» «2» و بمضمونها عدة روايات.

و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام في صيد وجد فيه سهم و هو ميت لا يدري من قتله قال:

لا تطعمه» «3».

و حسنة حمران عنه عليه السلام «أنه سأله عن الذبح فقال: إن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكله و لا تطعم. فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» «4» الى غير ذلك، و يستفاد من التعليل فيها و في رواية أبي بصير و لو بالمناسبات و إلقاء الخصوصيات عرفا أنه مع الشك في وقوع التذكية الشرعية على الحيوان لا يجوز الأكل منه، فجواز الأكل موقوف على إحراز التذكية الشرعية.

و بإزائها موثقة السكوني عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «إن أمير المؤمنين (ع) سئل عن سفرة وجدت في الطريق- الى أن قال-: قيل له: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسي، فقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الصيد- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب الصيد- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الصيد- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الذبائح- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 529

هم في سعة حتى يعلموا» «1» و مقتضى إطلاقها و إن كان جواز الأكل حتى مع الشك

في التذكية، لكنها مقيدة بالروايات المتقدمة، فتحمل على جواز الأكل إذا كانت الشبهة في الطهارة و النجاسة.

نعم لو كان بدل المجوسي اليهودي لكان الحمل مشكلا، لان اليهود لا يأكلون من ذبائح المسلمين، و نقل عن بعضهم إن أكل ذبائح المسلمين علامة الخروج عن التهود أو كالخروج منه، لكن الظاهر أن المجوس ليسوا كذلك، فلا مانع من هذا الجمع.

انما الكلام في أنه هل يستفاد من تلك الروايات أنه مع عدم إحراز التذكية يحكم بأنه غير مذكى في جميع الاحكام، فهو محكوم بالنجاسة، و لا تصح الصلاة في اجزائه مع قطع النظر عن الروايات الواردة في الصلاة إما بدعوى أن الظاهر منها أن هذا الحكم انما هو للاتكال على الاستصحاب فيكشف منها جريان استصحاب عدم التذكية كما جعلها بعضهم شاهدة على جريانه، و إما بدعوى إلقاء الخصوصية عرفا بين عدم جواز الأكل و سائر أحكام غير المذكى، و إما بدعوى أن التعليل في الروايتين دليل على أن تمام العلة للحكم بعدم جواز الأكل هو الجهل بالتذكية، و معه يكون محكوما بعدمها، و إما بدعوى أن النهي عن الأكل ليس إلا للشك في عدم التذكية، فما شك في تذكيته محكوم بعدمها، و الحكم بالحرمة متفرع على ذلك سيما مع ما يأتي من الروايات الدالة على لزوم إحراز التذكية الشرعية في صحة الصلاة، فإذا ضم تلك الروايات إلى هذه يستفاد منها استفادة قطعية بأن المشكوك فيه في حكم غير المذكى مطلقا، و أن الحكم بعدم جواز الصلاة فيه و عدم جواز الأكل منه متفرعان على ترجيح احتمال عدم التذكية على الاحتمال المقابل.

و للإشكال في جميع الدعاوي مجال واسع، فان الاتكال على الاستصحاب لم يظهر في شي ء منها، بل الظاهر

منها أن مجرد عدم الدراية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب الذبائح- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 530

موضوع للحكم بالحرمة، لا إحراز عدم التذكية بالأصل، مع أن لازمة حجية الاستصحاب في المثبتات بعد ما عرفت أن الأصل المذكور مثبت، و هذا و إن لم يكن محذورا لو دل الدليل عليه لكن التزامهم به مشكل مع أن الشأن في قيام الدليل عليه و هو ممنوع مخالف للظواهر.

و دعوى إلقاء الخصوصية عرفا ممنوعة، مع الاحتمال القريب في أن لأكل الميتة خصوصية لا يرضى الشارع بارتكابه بمجرد الشك و أصل الحل، بل لا بد فيه من إحراز التذكية و الحلية بأمارة معتبرة، فدعوى إلقاء الخصوصية من حرمة الأكل و من عدم صحة الصلاة و الحكم بترتب سائر الأحكام كالنجاسة و حرمة سائر الانتفاعات غير وجيهة.

و أضعف منها دعوى الاستفادة من التعليل، فإنه و إن يعم لكن لا الى موضوع أجنبي أو حكم كذلك، فأي تناسب بين قوله عليه السلام «لا تأكله، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» و بين نجاسة الحيوان المذبوح أو عدم جواز الصلاة في اجزائه و النهي عن الأكل و إن كان للشك في تذكيته، لكن لا ينتج أن كل ما شك في تذكيته محكوم بعدمها في جميع الأحكام، و حكم حرمة الأكل متفرع على التعبد بعدمها مطلقا إذ لا شاهد عليها، و انما هي مجرد دعوى بلا بينة، كدعوى ترجيح جانب احتمال عدم التذكية.

و الحاصل أن المشكوك فيه ليس غير المذكى واقعا، فلا بد من قيام دليل على التعبد بعدم التذكية مطلقا، و لم يظهر من تلك الروايات و لا الروايات الآتية إشعار بأن المشكوك فيه محكوم

بعدمها، فضلا عن الدلالة، فضلا عن عموم التنزيل و التعبد، و التفكيك في الأحكام تعبدا بين الملازمات غير عزيز.

نعم دعوى حصول الظن من جميع ما ذكر بعدم التفكيك وجيهة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 531

لكنه لا يغني من الحق شيئا، فمقتضى قصور الأخبار عن إثبات عدم التذكية مطلقا تعبدا البناء على الطهارة و جواز لبسها و سائر الانتفاعات بها إلا الأكل. و أما جواز الصلاة في أجزائها فمع عدم جريان أصالة عدم التذكية و البناء على البراءة في الأقل و الأكثر هو ذلك مع قطع النظر عن الأخبار، فلا بد من التماس دليل على المنع، و في كل مورد قصرت الأدلة عن إثبات المنع يحكم بالجواز على طبق القواعد.

ثم أن الأخبار في المقام على طوائف:

منها- ما تدل على عدم جواز الصلاة فيها إلا بعد العلم بالتذكية كموثقة ابن بكير قال: «سأل زرارة أبا عبد الهّٰخ عليه السلام عن الصلاة في الثعالب- الى أن قال-: فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي و قد ذكاه الذبح» «1».

و منها- ما تدل على الجواز مطلقا حتى يعلم أنها ميتة. كصحيحة جعفر بن محمد بن يونس «أن أباه كتب الى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الفرو و الخف ألبسه و أصلي فيه و لا أعلم أنه ذكي، فكتب لا بأس به» «2» و موثقة سماعة «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام في تقليد السيف في الصلاة و فيه الفراء و الكيمخت، فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» «3» و رواية علي بن

أبي حمزة «أن رجلا سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن الرجل يتقلد السيف و يصلي فيه قال: نعم، فقال الرجل: إن فيه الكيمخت، قال: و ما الكيمخت؟

______________________________

(1) مرت في ص 25.

(2) الوسائل- الباب- 55- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 532

فقال: جلود دواب منه ما يكون ذكيا و منه ما يكون ميتة، فقال:

ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه» «1».

و منها- ما دلت على جوازها في موارد: كمورد السؤال عن الاشتراء من السوق، و هي صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال: اشتر و صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» «2» و قريب منها صحيحته الأخرى «3» و صحيحة البزنطي قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أ ذكية هي أم غير ذكية أ يصلي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك» «4» و قريب منها صحيحته الأخرى عن الرضا عليه السلام «5» و رواية الحسن بن الجهم قال: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: اعترض السوق فاشتري خفا لا أدري أ ذكي أم لا؟ قال: صل فيه، قلت: فالنعل، قال: مثل ذلك، قلت: إني أضيق من هذا، قال: أ ترغب عما كان أبو الحسن عليه السلام يفعله» «6».

و مثل مورد الضمان، و هي رواية محمد بن الحسين الأشعري قال:

«كتب بعض أصحابنا الى أبي جعفر الثاني عليه السلام ما تقول في الفرو يشترى من

السوق؟ فقال: إذا كان مضمونا فلا بأس» «7».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) الوسائل الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(5) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 6

(6) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(7) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 10

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 533

و مورد المصنوع في أرض الإسلام، و هي موثقة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السلام «أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «1».

و مورد صلاتهم فيها كرواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال:

عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» «2».

و منها- ما فصلّت بين النعل و الخفاف في المشتري في أرض غير المسلمين و غيرهما، كموثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن لباس الجلود و الخفاف و النعال و الصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المسلمين (المصلين خ ل) فقال: أما النعل و الخفاف فلا بأس بهما» «3».

و منها- ما يظهر منها التفصيل بين ما صنع في أرض يستحل أهلها الميتة بدباغتها و غيرها، كرواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن

الصلاة في الفراء، فقال: كان علي بن الحسين عليه السلام رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز، لأن دباغها بالقرظ، فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال: إن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 534

أهل العراق يستحلون لباس جلود الميت و يزعمون أن دباغه ذكاته» «1» و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «تكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة» «2».

و قد جمعوا بين الروايات بحمل المطلقات من الطرفين على الموارد الخاصة، فصارت النتيجة عدم جواز الصلاة فيها إلا إذا علم تذكيته، أو قامت امارة عليها، كسوق المسلمين، أو الصنع في أرضهم، أو يد المسلم مطلقا، أو مع معاملته معه معاملة المذكى، أو إخباره بالتذكية.

و هذا الجمع لا يخلو من إشكال، أما في مثل الطائفة الأولى من الطائفة الثالثة التي لم يرد القيد في كلام المعصوم عليه السلام كصحيحتي الحلبي و ما بعدهما فلأن فهم القيدية فيهما مشكل، فان قوله: «الرجل يأتي السوق فيشتري» أو قوله: «اعترض السوق فاشتري خفا» بل و كذا قوله: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق» انما يجري مجرى العادة، كقوله: «أدخل السوق و اشتر كذا» و ليست العناية بالاشتراء منه بخصوصه و السؤال عن حاله حتى يقال: إنه بصدد بيان أمارية السوق للتذكية، بل الظاهر من قوله عليه السلام:

«صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» أن الموضوع لجواز الصلاة عدم العلم لا الامارة على التذكية.

فهل ترى من نفسك فيما إذا قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «كل شي ء نظيف حتى تعلم أنه قذر» «3» ثم سئل عنه منفصلا «أني اعترض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 61- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 535

السوق فاشرب من المياه التي فيه، فقال: اشرب منها حتى تعلم أنها قذرة» تقييد الرواية الأولى بالثانية؟ فيقال: لا يجوز الشرب إلا مع قيام أمارة- و هي سوق المسلمين- على الطهارة.

فهل المقام إلا نظيره؟ إذ قال عليه السلام في مورد: «لا بأس به ما لم تعلم أنه ميتة» و سئل في مورد «أنى اعترض السوق فاشتري الخف و أصلي فيه فقال: صل حتى تعلم أنه ميتة» فهل الذهن الخالي عن شبهة جريان أصالة عدم التذكية و أنه لا بد من قيام أمارة يدفع بها الأصل ينقدح فيه غير ما ينقدح فيه من المثال المتقدم، فكما لا يتوهم منه أمارية السوق كذلك فيما نحن فيه، سيما مع ما تقدم من عدم جريان أصالة عدم التذكية.

إن قلت: نعم و لكن إلقاء الخصوصية و فهم الإطلاق أشكل، قلت: انما المراد عدم صالحية تلك الروايات لتقييد المطلقات لا التمسك بإطلاقها، مع أن الانصاف أن عدّ تلك الروايات في عداد المطلقات أقرب الى الفهم العرفي من عدها في المقيدات و البناء على أمارية سوق المسلمين، سيما إن قلنا: إن إحراز عدم التذكية يحتاج إلى أمارة، لا جواز الصلاة و نحوه.

و أما سائر

الروايات ما عدا موثقة ابن بكير و موثقة الهاشمي فالجمع بينها بالحمل على مراتب الفضل في التنزه عن المشكوك فيه أقرب من تقييد المطلقات أو حملها على مورد قيام الامارة، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» و ما هو نظيره أن تمام الموضوع لجواز الصلاة هو عدم العلم بكونه ميتة، و عدم اعتبار قيام الأمارة على التذكية في الجواز، و إرجاع مثله الى مورد قيام الأمارة بعيد عن الأذهان.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 536

و دعوى الانصراف الى ما يشترى من سوق المسلمين و إن لم تكن بعيدة ذلك البعد، لكن حملها على مراتب الفضل في التنزه أو مراتب الكراهة في الارتكاب لعله أقرب، بأن يقال: إن ما شك في تذكيته تصح الصلاة فيه إلى أن يعلم كونه ميتة أو قامت أمارة عليه، لكن يكره ارتكابه، و ترتفع كراهته بمراتبها إذا علم وجدانا تذكيته أو صنع في مثل أرض الحجاز. كما هو ظاهر صحيحة الحلبي الأخيرة.

و عليه يحمل فعل زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام و تنزهه عما صنع في أرض العراق، و فعل أبي جعفر عليه السلام على ما في رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: أهديت لأبي جبة فرو من العراق، و كان إذا أراد أن يصلي نزعها فطرحها» «1» فان اشتراؤه و قبول هديته و لبسه و عدم التنزه عنه إلا في الصلاة دليل على أنه على سبيل الفضل.

و كذا ترتفع ببعض مراتبها أو جميعها إذا اشترى من سوق المسلمين من مسلم ضمن تذكيته، و هو ظاهر رواية الأشعري. فان الاشتراء من السوق

منصرف الى الاشتراء من سوق المسلمين، و الظاهر من قوله عليه السلام: «إذا كان مضمونا» أن الضامن البائع المسلم لا الكافر، فإنه في غاية البعد، فمع قيام امارة أو أمارتين- أي سوق المسلم و بيعه على التذكية- لا يكون اعتبار الضمان إلا على الفضل و ترتفع ببعض مراتبها فيما إذا صنع في أرض الإسلام أو أرض كان الغالب عليها المسلمون أو صلى فيه المسلم أو كان في سوق المسلمين و الحمل المذكور قريب جدا. لكن المانع منه موثقة ابن بكير المتقدمة حيث أن ظاهرها أن الصلاة في الجلود مع عدم العلم بتذكيتها فاسدة،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 537

و أن الجواز موقوف على العلم بالتذكية، و حملها على الجواز بلا كراهية مع العلم بها بعيد غايته، سيما مع التصريح بالفساد في صدرها و ذيلها الموجب لقوة ظهور كون الجواز مقابل الفساد.

فالأقرب بالنظر الى الموثقة حمل الروايات المتقدمة التي ترك فيها الاستفصال على كون الكيمخت و غيره كان في أرض المسلمين و سوقهم لا الكفار، فان المظنون إن ما كان مورد السؤال الأشياء التي اشتريت من الأسواق، و كانت هي من المسلمين أو كان الغالب على أهلها الإسلام، فتحصل من ذلك أن الجمع الذي صنعه أهل التحقيق لا محيص عنه.

نعم يبقى الكلام في موثقة الهاشمي، و لا يبعد أن يكون التفصيل فيها بين ما تتم و ما لا تتم في غير المذكى لا في مشتبه التذكية كما فصل بينهما في النجس، و يشهد له أن الظاهر منها قيام الأمارة العقلائية على عدم التذكية، فإن قوله: «في غير أرض المسلمين» أو «المصلين» يراد به

أنه من أرض الكفار، و الحمل على مشتبه الحال أو الأعم فاسد. فاتضح أنها بصدد بيان مسألة غير ما نحن بصددها.

ثم أن السوق منصرف الى سوق المسلمين، سيما بالنظر الى موثقة إسحاق بن عمار، و هو واضح، و لا فرق بين سوق المستحلين و غيرهم، لما قدمنا من ظهور رواية أبي بصير الحاكية عن فعل علي بن الحسين عليهما السلام في أن جلود العراق أيضا محكومة بالتذكية و إلا لما اشتراها و لما لبسها، و لما قبل أبو جعفر عليه السلام هديتها، و انما ألقاها لفضل التنزه منها، فهي و نحوها ظاهرة في عدم الفرق بين السوقين، فتوهم تقييد إطلاق الأدلة بها فاسد.

و يشهد للتعميم موثقة إسحاق بن عمار حيث نفى فيها البأس عن الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام، و مقتضى المقابلة بينهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 538

جواز الصلاة فيما صنع في أرض غير المستحلين كاليمن و المستحلين، و حملها على سائر المستحلين بعيد، فلها إطلاق قوي في قوة التصريح، و يشهد له أيضا كون السائلين فقهاء العراق كالحلبي و ابن أبي نصر و إسحاق بن عمار، و من البعيد جدا استثناء سوق العراق، و عدم جواز الصلاة فيما يشترى من أرضه، و عدم التنبه للعراقيين مع ابتلائهم به، و لعل سوق العراق القدر المتيقن من الروايات.

ثم أن مقتضى إطلاق الأدلة اعتبار سوق المسلمين و أماريته للتذكية مطلقا و لو كان الكافر بايعا في سوقهم فضلا عن مجهول الحال، بل لموثقة إسحاق بن عمار قوة إطلاق بالنسبة إلى الأخذ من الكافر، بل قوله: «فان كان فيها غير أهل الإسلام، قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا

بأس» لا يبعد أن يراد به الاشتراء من غير المسلم بعد كون يد المسلم أمارة بنفسها، بل الظاهر منها أن غلبة المسلمين في بلد أمارة على أن المصنوع من صنعهم لا صنع الصنف الذي في الأقلية و الحاصل أن مقتضى الإطلاق اعتبار سوق المسلمين و أرضهم، فهما أمارة على وقوع التذكية الشرعية، و إن شئت قلت: أمارة على إجراء يد المسلمين عليه، و كون المصنوع منهم و لو كان بيد الكافر، إلا أن يعلم عدم اجراء يد المسلم عليه، و الظاهر أن الأمر كذلك لدى العقلاء أيضا، فإن السوق إذا كان للمسلمين و يكون متاع متاع تجارتهم و كان فيهم بعض أهل ملة أخرى و كانت تحت يده من ذلك المتاع يكون احتمال كونه من غير بلد المسلمين و اشتراؤه من غير أهل هذا السوق احتمالا بعيدا لا يعتني به العقلاء.

و لو استشكل في هذا البناء أو حجيته لكن لا إشكال في أن ذلك الارتكاز موجب لفهم العرف من الروايات أن سوق المسلمين و غلبتهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 539

صار سببا لحكم الشارع جواز الصلاة فيما يشترى منه أو مما صنع في أرضهم.

نعم ربما يقال: إن رواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف، قال:

عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» «1» دلت على أن يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

و فيه مع ضعف الرواية أن الظاهر منها أن الفراء إذا كان من المتاع الذي يبيعه

المشركون و كان له نحو اختصاص بهم في التجارة و كانوا هم الذين يبيعونه لا يجوز الصلاة فيه، و يجب السؤال عنه، و هو غير أمارية يد الكافر، فكما أن سوق المسلمين أمارة على التذكية بما قدمناه كذلك سوق الكفار، و كون المتاع منهم و من مال تجارتهم يكون أمارة على عدمها.

و بالجملة فرق بين قوله: «إذا كان المشركون يبيعون ذلك» و بين قوله: «إذا اشتريت من مشرك أو من المشركين» فالمفهوم من العبارة الأولى أن للمتاع نحو اختصاص بهم في التجارة دون الثانية، و لا أقل من مساواة هذا الاحتمال للاحتمال الآخر، فلا يجوز معه رفع اليد عن إطلاق أدلة اعتبار السوق الموافق لارتكاز العقلاء، نعم سوق الكفار أو كون المتاع من أمتعتهم أمارة على عدم التذكية ما لم تقم أمارة أقوى عليها، كترتيب المسلم آثار التذكية عليها.

و لعله الظاهر من ذيل رواية إسماعيل، و هو قوله عليه السلام:

______________________________

(1) مرت في ص 533.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 540

«و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» فان المفهوم منه أن ما رأيتم المشركين يبيعونه يجب السؤال عنه إلا إذا رأيتم المسلمين يصلون فيه، أي في ذلك المتاع الذي يبيعه المشركون، و ليس المراد من قوله: «يصلون فيه» أن جميع المسلمين يصلون فيه، فلا محالة يراد به جواز الصلاة إذا رتب المسلم آثار التذكية عليه، و لا اختصاص بالصلاة فيه، بل الظاهر أن ترتيب مطلق آثارها موجب لذلك، و سيأتي إشكال فيه.

ثم اعلم أنا و إن قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية لكن بمقتضى موثقة ابن بكير التي علق فيها جواز الصلاة على العلم بالتذكية نحكم بعدم الجواز إلا مع قيام

الأمارة عليها، أو دل دليل على جواز معاملة المذكى معه، و لا شبهة عندهم في أن سوق المسلمين و الصنع في أرضهم أمارة عليها لا بمعنى اعتبار مفهوم السوق، بل الظاهر أن ما هو الموضوع للحكم هو اجتماع المسلمين و كون المتاع في مجتمعهم و مورد تجارتهم، سواء كان في السوق أو غيره، كما أن المراد بما صنع في أرض الإسلام أن المصنوع من مصنوعات مجتمعهم و لو لم تكن الأرض لهم، فلو اجتمع المسلمون في أرض غيرهم و كان المتاع الفلاني كالفراء من مصنوعات ذلك المجتمع و كان صنع غيرهم له مشكوكا فيه أو نادرا يحكم عليه بالتذكية.

و الحاصل أن الامارة على التذكية كون الجلد في مجتمعهم سوقا أو غيره و كونه صنع مجتمعهم و مستقرهم كان الأرض ملكا لهم أو لا، و هذا لا ريب فيه ظاهرا، و احتمال خصوصية السوق و نحوه من العناوين ضعيف ملقى بنظر العرف، ضرورة أنهم لا يرون لخصوصية السقف و الجدار دخالة في الحكم. و كذا لمملوكية الأرض، و كون النكتة للجعل دفع الحرج مشتركة بين السوق و غيره مع أن كونها ذلك غير معلوم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 541

ثم أنه لا ثمرة مهمة في البحث عن أن عنوان السوق و عنوان الصنع في أرض المسلمين أو الفراء اليماني أو الحجازي مما ورد في النصوص يرجع الى عنوان واحد هو كون الشي ء في مجتمعهم أو عناوين مستقلة.

نعم الظاهر بناء على الأمارية أن عنوان السوق و غيره أمارة على التذكية بلا وسط، لا امارة على الامارة عليها، و ما هي أمارة بلا وسط يد المسلم أو يده مع ترتيبه أثر التذكية على ما

في اليد، أو نفس ترتيب المسلم أثرها و لو لم يكن تحت يده، مثل عدم احترازه عن ملاقاته و الصلاة في ملاقيه، لأن ظاهر الأدلة أن السوق بنفسه أمارة عليها لا بوسط، و لا دليل على الوسطية، بل لا إشعار في الروايات عليها.

فحينئذ يقع الكلام في أن يد المسلم مطلقا أو مع ترتيب أثر التذكية أو نفس ترتيبه الأثر أمارة عليها، فان كان شي ء تحت يده أو عامل معه معاملة المذكى في غير سوق المسلمين و أرضهم يحكم عليه بالتذكية؟ الظاهر ذلك، لا لكون الأدلة الواردة في المقام ظاهرة في أمارية يده عليها أصالة، لما عرفت.

و لا لرواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة بدعوى أن الظاهر منها عدم لزوم السؤال عما كان بائعه مسلما غير عارف فضلا عن العارف، لقصرها لزوم السؤال على ما إذا كان المشركون يبيعونه، فكأنه قال لا يجب السؤال إذا كان المسلم يبيعه، و بدعوى أن دلالة ذيلها على أن ترتيب المسلم أثر التذكية أمارة كما تقدم، فتدل على اعتبار يد المسلم و ترتيبه الأثر و إن كانت يده مسبوقة بيد الكافر، كما يظهر من ذيلها بالتقريب السابق، و ذلك لأن في الرواية احتمالا آخر مساويا له أو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 542

أقرب منه، و هو أن قوله عليه السلام: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه» أي عليكم أن تسألوا عما يبيعه المسلم غير العارف إذا كان المتاع مما يبيعه المشركون، فيكون المراد أن المبيع إذا كان من متاع المشركين و مورد تجارتهم نوعا يجب السؤال عنه و إن باعه مسلم ترجيحا للغلبة.

و قوله عليه السلام: «و إذا رأيتهم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» معناه أن ما

كان من متاع تجارة المشركين و كان له نحو اختصاص بهم لا يجوز الصلاة فيه، إلا أن يكون المسلمون يصلون فيه، لا بمعنى صلاة جميع المسلمين فيه، بل بمعنى بناء المسلمين على الصلاة فيه، و حاصل فقه الحديث على هذا الاحتمال أن البائع إذا كان مسلما و باع المتاع الذي كان يبيعه المشركون نوعا بحيث ينسب المتجر إليهم يجب السؤال عنه لترجيح غلبة الكفار على فرد من المسلمين، نعم إن كان بناء المسلمين الصلاة فيه يجوز الصلاة فيه بلا سؤال ترجيحا لعمل المسلمين على سوق الكفار.

و هذا الاحتمال لو لم يكن ظاهر الرواية فلا أقل من مساواته للاحتمال المتقدم، فتدل الرواية حينئذ على عدم اعتبار يد المسلم في مثل الواقعة، نعم لا تدل على نفي الاعتبار مطلقا و لا على الاعتبار و لو في الجملة، هذا بعد تسليم أن السوق المسئول عنه أعم من سوق المسلمين في خصوص الرواية لقرينة.

و لا للروايات الواردة في باب سوق الهدي، كصحيحة حفص بن البختري قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدق به عليه، قال: ينحره و يكتب كتابا يضعه عليه ليعلم من مر به أنه صدقة» «1» و قريب منها روايات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبح الحديث 1- من كتاب الحج.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 543

أخر «1» و ذلك لأن في مورد تلك الروايات يكون النحر وجدانيا، و كونه بيد مسلم مجزوما به بالأمارات كالنحر و الكتابة و كونه في طريق الحج و انما الشك في حصول التذكية الشرعية، و هي محرزة بأصالة الصحة.

و لا كلام في جريانها فيما إذا

أحرز عمل المسلم و شك في صحته، و هو غير ما نحن بصدده من إحراز التذكية من غير إحراز الذبح و النحر فضلا عن كونهما بيد المسلم، فتلك الروايات أجنبية عن المدعى.

و لا لأولوية اعتبار يد المسلم من يد مجهول الحال في سوق المسلمين و ذلك لأن المعتبر في المفروض سوق المسلمين لا يد مجهول الحال، و لو لا مخافة مخالفة الأصحاب لقلنا باعتبار سوق المسلمين و لو كان الشي ء في يد الكافر، لا لكون يده معتبرة، بل لكون السوق كذلك.

و لا لأصالة الصحة، لأن إثباتها لتلك المثبتات محل إشكال، مضافا الى مبنى أصالة الصحة عند العقلاء، أن العاقل إذا أتى بعمل يعتبر في صحته أمور لا يتركها عمدا و لا يأتي بها فاسدا، لمنافاة الترك عمدا لقصد فراغ الذمة و قصد تحقق المأتي به، و الترك من غير عمد مخالف للأصل، و هذا غير جار في المستحل، و لا تجري أصالة الصحة مع احتمال التصادف للواقع من باب الاتفاق كما قرر في محله، مع أن الصحة في بعض الأحيان و الأعمال لا تلازم التذكية، كما لو صلى في شي ء لإمكان كون صلاته فيه لعذر، و لا يحرز بأصالة الصحة عدم العذر و لا لكون ترتيب آثار التذكية بمنزلة الاخبار عنها، فكما أن إخبار ذي اليد حجة عند العقلاء كذلك ما هو بمنزلته، و ذلك لمنع كونه بمنزلته، سيما في المستحل ذبيحة أهل الكتاب و مستحل الصلاة في جلد الميتة مع دباغه، و سيما مع اختلاف الناس معنا في بعض شرائط

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبح من كتاب الحج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 544

التذكية كالتسمية و فري الأوداج

و غيرهما، بل لا يلازم بعض الأعمال من غير المستحل أيضا للتذكية كما تقدم، فلا يكون مطلق ترتيب الآثار بمنزلة الاخبار.

بل لبناء المتشرعة على ترتيب آثار الملكية على ما في يد المسلمين من غير نكير، و هو كاشف عن التذكية، و إن شئت قلت: سيرة المتشرعة على ترتيب آثار الملكية و التذكية على ما في يدهم من غير تفرقة بين المستحل و غيره، سواء كان في سوق المسلمين أم لا، مضافا إلى أن البناء العملي على التذكية فيما في يد غير المستحل مع ترتيبه آثارها كأنه إجماعي لم ينقل الخلاف فيه من أحد.

و الانصاف أن الخدش في كل واحد مما ذكر و إن أمكن لكن لا يبعد دعوى الوثوق من مجموعها، على أنه يعمل مع ما في أيدي المسلمين معاملة المذكى، سيما مع كون ذبيحة المسلمين محللة علينا، و قد اختلفوا معنا في شرائط الذبح مع مناسبة الحكم لسهولة الملة و سمحتها.

مضافا الى أن سوق المسلمين في تلك الأعصار و البلاد كان لغير الطائفة المحقة، و لم يكن لهذه الطائفة سوق في تلك البلاد، و هم مختلفون مع الطائفة في كثير من الشرائط، كفري الأوداج، و استقبال القبلة، و التسمية، و مورد النحر و الذبح، و آلة الذبح، و في الصيد أيضا في صائده و شرائطه، و في استحلال ذبيحة أهل الكتاب مع كثرتهم في ذلك العصر، كما يظهر من الأسئلة و الأجوبة في الروايات الواردة في ذبيحتهم و أوانيهم و أثوابهم، و معه يمكن أن يقال: إن حكم تحليل ما يشترى من السوق لأجل التوسعة على العباد، لا لكاشفيته و أماريته عن التذكية، ضرورة أنه مع هذا الاختلاف الفاحش بين الفرقتين و أقلية الفرقة

الحقة لم يكن سوق المسلمين و لا يدهم أمارة عقلائية على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 545

التذكية الشرعية، فخصوصية السوق ليست لكاشفيته عن التذكية الشرعية بل لأجل أنه يعمل مع المأخوذ من يد المسلمين الذين لا يراعون شرائط التذكية معاملة المذكى توسعة على العباد، كما أنه يعمل مع ما في سوقهم و ما صنع في أرضهم معاملته، كل ذلك للتوسعة.

و تشهد لما ذكرناه- مضافا الى عدم صالحية مثل هذا السوق و تلك اليد للأمارية- الروايات الواردة في الباب الظاهرة فيما ذكرناه، و ليس فيها بكثرتها ما تشعر بالامارية، بل لسانها لسان أدلة الأصول، كقوله عليه السلام: «هم في سعة حتى يعلموا» و قوله عليه السلام: «إن الدين أوسع من ذلك» و قوله عليه السلام: «لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» و قوله عليه السلام: «صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه».

و ما ظهر لي بعد التأمل في الأخبار و النظر في حال سوق المسلمين في تلك الأعصار الذي كان منحصرا بالعامة أمران: أحدهما أن منشأ سؤال السائلين احتمال عدم مراعاة القصابين شرائط التذكية، و الثاني أن الحكم على سبيل التوسعة لا للأمارية العقلائية و لا الجعلية الشرعية لو سلم إمكانها، كما تشهد لهما صحيحة الفضلاء «أنهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدرى ما صنع القصابون؟

فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه» «1».

فكان منشأ سؤال فقهاء أصحاب أبي جعفر عليه السلام اطلاعهم على فتاوى أبي حنيفة و مالك و اختلافها معنا، و قوله عليه السلام:

«كل» إلخ لا يدل إلا على جواز الأكل عما كان في سوق المسلمين لا

لاماريته على التذكية الشرعية بالشرائط المقررة عند الفرقة المحقة ضرورة عدم اماريته لها كما مر، و لا لأصالة الصحة، فإنها غير جارية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب الذبائح- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 546

في مثل المقام الذي يحتمل الانطباق من باب الاتفاق و لا لأمارية اليد الكذائية لعين ما ذكر، بل للتوسعة على العباد كما تدل عليه الروايات المتقدمة.

و إن شئت قلت: هذه الرواية لا تدل إلا على جواز الأكل بلا سؤال، و سائر الروايات ظاهرة في أن الحكم على نحو التوسعة لا الأمارية فلا تنافي بينهما، بل يمكن أن يقال: إن تجويز الأكل و ترك السؤال في موضوع لا يقوم عليه أمارة عند العقلاء ظاهر في التوسعة.

و تشهد أيضا لما ذكرناه رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، و فيها «و اللّٰه اني لأعترض على السوق فاشتري اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظن كلهم يسمون: هذه البربر و هذه السودان» «1» فلو كان السوق امارة على التذكية لكان المناسب أن يقول عليه السلام:

أن ما يشترى منه مذكى، و لا يناسب هذا التعبير مع إلقاء احتمال الخلاف في الأمارات.

و يشهد له خبر عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني أدخل السوق أعنى هذا الخلق الذي يدعون السلام، فاشتري منهم الفراء للتجارة، و أقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية: فيقول:

بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول قد شرط الذي اشتريتها منه أنها ذكية، قلت:

ما أفسد ذلك، قال استحلال أهل العراق الميتة» «2» حيث يظهر منها جواز البيع و

الشراء مطلقا و عدم جواز الاخبار بتذكيته حتى مع إخبار صاحبها. لاستحلال أهل العراق الميتة، فلو كان سوق المسلمين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 5

(2) راجع الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 547

امارة على التذكية جاز الاخبار بها و لو لم يخبر صاحبه بها، و ليس هذا إلا لكون جواز ترتيب أثر التذكية عملا انما هو للتوسعة على العباد، لا أن السوق أو اليد امارة عليها.

فظهر من جميع ذلك جواز معاملة المذكى مع ما في سوق المسلمين و ما صنع في أرضهم و ما في أيدي المستحل و غيره، بل مورد الروايات هو ما في أيدي المستحلين للميتة و لو لاستحلال ذبيحة أهل الكتاب أو استحلال ما لا يكون مذكى شرعا عند الفرق الناجية، و مقتضى إطلاق الروايات جواز الشراء من يد مجهول الحال، بل لعل سوق المسلمين و أرضهم أمارة على أن مجهول الحال مسلم.

و أما المأخوذ من يد الكافر فمع كون الحكم بعدم التذكية مظنة الإجماع يمكن دعوى قصور الروايات عن شموله بالتقريب الأخير، فإنها سؤالا و جوابا بصدد بيان حال المأخوذ من سوق العامة و أيديهم، و المسألة بجميع جوانبها تحتاج الى مزيد تدبّر.

المطلب الخامس: طريق ثبوت النجاسة و الطهارة

و غيرهما من الموضوعات الخارجية العلم و ما قام مقامه من الأمارات الشرعية و بعض الأصول.

و قيل بثبوتها بمطلق الظن، فان الشرعيات كلها ظنية، و العمل بالمرجوح في مقابل الراجح قبيح، و هو منقول عن أبي الصلاح الحلبي و فيه منع اعتبار الظن المطلق في الشرعيات، و لو فرض اعتباره في الأحكام فإلحاق الموضوعات بها قياس، و منع كون عدم العمل بالظن من

باب ترجيح المرجوح عليه، بل لعدم الدليل على اعتباره و العمل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 548

بالأصول المعتبرة في مقابل الظن عمل بالراجح.

و عن ابن البراج أن طريق ثبوتها العلم فقط، قائلا: إن الطهارة ثابتة بالعلم، و البينة لا تفيد إلا الظن، و فيه منع ثبوت الطهارة بالعلم إلا في بعض الأحيان، و منع الملازمة بين ثبوتها بالعلم و ثبوت النجاسة به، لعدم الدليل على أن الشي ء إذا ثبت بالعلم لا بد و أن يثبت ضده به أيضا، و أما الاستدلال له بنحو قوله عليه السلام: «كل شي ء نظيف حتى تعلم أنه قذر» «1» فلا يخفى ما فيه بعد تحكيم أدلة اعتبارات الأمارات عليه لو سلم أن المراد بالعلم هو العلم الوجداني، و إلا فهو أيضا محل منع أشرنا إلى وجهه في بعض المقامات.

فالأولى صرف الكلام الى ما يثبت به النجاسة غير العلم، لا ينبغي الإشكال في ثبوتها بالبينة كما عن المشهور، فإن الأدلة الواردة في ثبوت المعظمات بها كما يوجب القتل مثل الزندقة و عبادة الأوثان و اللواط أو القطع كالسرقة أو الحد كشرب الخمر و نحوها مما يعثر عليه المتتبع و كذا في موارد حقوق الناس و غيرها من الموارد الكثيرة المختلفة موجبة لإلقاء الخصوصية عرفا، لأن العرف يرى أن ثبوت تلك الأحكام كالقطع و القتل و الحد انما هو لثبوت موضوعاتها بالبينة من غير دخالة لخصوصية الموضوع أو الحكم في ذلك، بل دعوى الجزم باعتبارها في مثل النجاسة و الطهارة من غير المعظمات بعد ثبوت تلك المعظمات بها غير جذاف.

هذا مضافا الى موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل شي ء هو لك

حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك يكون عندك و لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة

______________________________

(1) مرت في ص 534

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 549

تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» «1».

و في الرواية احتمالان: أحدهما ما فهموا منها، و هو أن كل شي ء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه سواء كان من قبيل الأمثلة مما قامت امارة عقلائية و شرعية على حليتها أم لا، فإن الأمارة لا توجب العلم الوجداني على الحلية، فيصح انسلاك موردها فيما لا يعلم، و ذكر خصوص تلك الأمثلة انما هو من باب الاتفاق ثم عقبها بقاعدة كلية شاملة لمواردها و غيرها. هي قوله عليه السلام: «و الأشياء كلها على ذلك» إلخ.

و المراد بالاستبانة المقابلة للبينة إن كان خصوص العلم الوجداني فاختصاصهما بالذكر لكونهما أوضح مصاديق ما يثبت به الموضوع، فلا ينافي ثبوته بغيرهما كاخبار ذي اليد و الاستصحاب، و إن كان المراد بها مطلق الأمارات و الأصول المحرزة فاختصاص البينة بالذكر لكونها أوضح مصاديق ما جعله الشارع حجة.

و المراد من قيام البينة قيامها على السرقة و الحرية و الأختية و نحوها من الموضوعات التي تقوم عليها البينة عادة، و توهم أن المراد قيامها على الحكم فاسد جدا، مخالف لظاهر الرواية و للمعهود من قيامها على الموضوعات فتترتب عليها الأحكام لا عليها.

و لا شبهة في عدم فهم خصوصية للموضوعات التي تترتب عليها الحرمة حتى يقال لا دلالة لها على حجية البينة

فيما يترتب عليه حكم وجوبي، لأن المستفاد منها أن تمام الملاك لثبوت الموضوع قيام البينة، سيما مع كونها امارة عقلائية مضاعفة فإن خبر الثقة أيضا امارة عقلائية.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 550

و بالجملة لما كانت للبينة حيثية الأمارية فلا يفهم العرف من قاطعيتها للحلية إلا لاماريتها على الواقع و ثبوته بها من غير خصوصية للموضوعات أو الأحكام المترتبة عليها خصوصا مع جعلها عدلا للاستبانة و الاحتمال الثاني الذي يمكن أن يكون ثقيلا على الأسماع ابتداء و ليس بعيدا بعد التنبه لخصوصيات الرواية هو أن المراد بقوله عليه السلام: «كل شي ء هو لك حلال» أن ما هو لك بحسب ظاهر الشرع حلال فيكون قوله عليه السلام: «هو لك» من قيود الشي ء «و حلال» خبره، و تشهد لهذا أمور:

منها ذكر «هو» في خلال الكلام، و هو غير مناسب لبيان حلية المجهول، كما هو غير مذكور في الروايات التي سيقت لبيان حليته، فنكتة ذكر الضمير لعلها لإفادة خصوصية زائدة هي تقييد الشي ء بكونه لك.

و منها قوله: و ذلك مثل كذا و كذا، فان الظاهر منه أن له عناية خاصة بالأمثلة التي ذكرها، و لها نحو اختصاص بالحكم.

و منها ذكر الأمثلة التي كلها من قبيل ما تقدم من كون الموضوع مما يختص به بحسب أمارة شرعية كاليد، أو أصالة الصحة أو الاستصحاب فذكر خصوص تلك الأمثلة التي ليست واحدة منها من مورد كون الشك موجبا للحلية يؤكد ما ذكرناه، بل يدل عليه.

و منها أن لسان الرواية بناء على الاحتمال الأول لسان الأصل، و هو لا يناسب الأمثلة المذكورة، و أما بناء على الاحتمال الثاني

فليس المنظور جعل الحكم الظاهري حتى لا يناسبها، بل أمر آخر يأتي بيانه.

و منها اختصاص العلم الوجداني و البينة بالذكر، فان الظاهر من الاستبانة في مقابل البينة هو العلم الوجداني فحملها على الأعم خلاف الظاهر المتفاهم منها، فعليه تكون الرواية بصدد بيان أن ما هو لك

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 551

بحسب الأمارات الشرعية و نحوها لا تنقطع حليته إلا بالعلم الوجداني و خصوص البينة من بين الأمارات، و ليست بصدد بيان الحكم الظاهري.

ففقه الحديث على هذا أن ما هو بحسب ظاهر الشرع لك و مختص بك- كالثوب الذي اشتريته و احتمل أن يكون سرقة، و المملوك الذي تحت يدك و محكوم بملكيتك و احتمل حريته، و الامرأة التي تحتك و احتمل كونها أختك أو رضيعتك، مع ان اليد و أصالة الصحة بل و الاستصحاب الموضوعي في الرضيعة بل في الأخت على فرض جريانه في الأعدام الأزلية كل يقتضي كونها زوجتك- هو حلال لك لا تنقطع حليته إلا بأمرين: العلم الوجداني و البينة دون سائر الأمارات، و هذا الاحتمال و إن كان بعيدا ابتداء، لأنس الأذهان بأن مثل العبارة سيقت في سائر الروايات لبيان الحكم الظاهري، لكن بعد التأمل في الجهات المتقدمة لا يبعد أن يكون أظهر من الأول، و لا أقل من مساواته له مع رفع الاشكال به عن الرواية، فيكون حينئذ المراد من قوله عليه السلام: «و الأشياء كلها على هذا» أن كل شي ء من قبيل الأمثلة لا جميع الأشياء.

و كيف كان تثبت على هذا الاحتمال أيضا حجية البينة مطلقا، ضرورة ان جعلها عدلا للعلم في قطع الأصول و الأمارات العقلائية و الشرعية المخالفة لها موجب لاستظهار كونها

أقوى الأمارات في إثبات الموضوعات، و احتمال دخالة خصوصية قيام الامارة على خلافها في حجيتها مدفوع بالقطع و مخالفته لفهم العقلاء، فالمستفاد منها ان البينة عدل العلم في إثبات الموضوعات حتى مع قيام الأمارات على خلافها.

و تدل على ثبوتها بها أيضا رواية عبد اللّٰه بن سليمان قال: «كل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 552

شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» «1».

و هل يثبت النجاسة بل سائر الموضوعات بخبر الثقة؟ قيل: نعم متمسكا باستقرار سيرة العقلاء على العمل به، و لم يثبت الردع من الشارع، بل ثبت الإنفاذ في أخذ الاحكام و الاخبار من الثقات، و الظاهر من الاخبار الواردة في هذا المضمار أن الشارع لم يؤسس حكما، بل أنفذ ما لدى العقلاء من الأخذ عن الثقات، و لا فرق في نظر العقل و العقلاء بين الاحكام و موضوعاتها، نعم ورد الردع في بعض الموارد كأبواب الخصومات.

بل يمكن الاستدلال للمطلوب بموثقة مسعدة المتقدمة بدعوى أن الاستبانة أعم من العلم و غيره كخبر الثقة، و انما خصت البينة بالذكر لكونها أوضح الطرق الشرعية لا لخصوصية فيها.

و تشهد له أيضا الأخبار الواردة في أبواب مختلفة. مثل صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، و فيها «قلت: فان الوكيل أمضى الأمر قبل ان يعلم العزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم، قلت له: فان بلغه العزل قبل ان يمضي الأمر ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي ء؟ قال:

نعم، إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، و الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو

يشافه بالعزل عن الوكالة» «2».

و موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن رجل كانت له عندي دنانير و كان مريضا فقال لي: إن

______________________________

(1) مرت في ص 104

(2) الوسائل- الباب- 2- من كتاب الوكالة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 553

حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا، و أعط أخي بقية الدنانير فمات و لم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين، و لم يعلم أخوه أن عندي شيئا فقال: ارى أن تصدق منها بعشرة دنانير» «1».

و موثقة سماعة قال: «سألته عن رجل تزوج امرأة أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة، فقال: إن هذه امرأتي و ليست لي بينة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل» «2».

و الأخبار الدالة على جواز الاعتماد على أذان الثقة «3» و ما دلت على جواز و طي الأمة بغير استبراء إذا كان البائع ثقة أمينا «4».

و صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت ثم مسح تلك اللمعة بيده» «5».

أقول: و في الجميع نظر، أما استقرار سيرة العقلاء فمسلم، لكن مع ما نرى من اعتبار البينة في موارد كثيرة لا تحصى، لا يبقى وثوق بها، فإنها بنفسها ليست بحجة، و مع ورود الردع في تلك الموارد لا يمكن استكشاف عدمه في الموارد المشكوك فيها.

إلا أن يقال:

إن للموارد المردوعة خصوصيات كباب الخصومات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 97- من كتاب الوصايا- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 23- من أبواب عقد النكاح- الحديث 2

(3) المروية في الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأذان و الإقامة.

(4) الوسائل- الباب- 5- من أبواب نكاح العبيد و الإماء- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 41- من أبواب الجنابة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 554

فان غالب مواردها قامت أمارة شرعية على أمر يراد دفعها، فلا بد و أن تكون الأمارة الدافعة أقوى منها، و لهذا اعتبرت فيها البينة لقطعها، و في موارد الحدود و نحوها يكون للشارع الأقدس مزيد عناية بعدم ثبوتها و محفوظية عرض المسلم و دمه، و لهذا تدرأ بالشبهات، و لا يعتنى في بعض الموارد بإقرار المرتكب مرة أو مرتين أو أزيد، فردع الشارع في تلك الموارد المهمة لا يدل على ردعه في سائر الموارد.

لكن نقل الشهرة على عدم اعتبار خبر الثقة فيما نحن فيه، و كذا نقلها بل نقل الإجماع في الموارد التي وردت فيها الخبر بالخصوص باعتبار خبر الثقة على عدم الثبوت به- كمورد عزل الوكيل و مورد الوصية و مورد أذان الثقة مما تأتي الإشارة إليه- ربما توجب الوثوق بمعهودية عدم اعتباره في الموضوعات.

هذا مع أن موثقة مسعدة ظاهرة في الردع عنه بناء على ما هو المعروف في معناها أي الاحتمال الأول من الاحتمالين المتقدمين، فان الظاهر أن الغاية للحل مطلقا البينة، فلو كان خبر الثقة مثبتا للموضوع كان اعتبار البينة بلا وجه، فان معنى اعتبارها أن يكون كل واحد من الشاهدين جزء الموضوع للإثبات، و مقتضى ثبوته بخبر الثقة أنه تمام الموضوع، فلا يمكن الجمع بينهما في الجعل، فالقول بأن

الاستبانة أعم من العلم و خبر الثقة ضعيف غايته، ضرورة لغوية جعل البينة حينئذ غاية.

فإن قلت: المراد بالبينة شاهدا عدل و لو لم يكونا ثقتين من غير جهة الكذب بل من جهته أيضا فإن ظهور الصلاح كاشف تعبدي عن العدالة، فحينئذ يكون خبر الثقة في مقابل البينة، لا جزئها حتى يرد الإشكال العقلي، فالبينة إحدى طرق الإثبات، و هي شاهدا عدل ثبت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 555

عدالتهما بظهور الصلاح و لو لم نثق بهما من جهة الاحتراز عن الكذب أو من جهة الغفلة و الخطأ، و خبر الثقة و لو لم يكن عدلا طريق آخر له مباين لها لا مداخل فيها، نعم لو قلنا باعتبار خبر واحد عدل لتطرق الاشكال المتقدم.

قلت: نمنع عدم اعتبار الوثوق من جهة احتمال الغفلة و الخطأ في البينة، فإن الشاهدين إذا كانا من متعارف الناس تجري فيهما أصالة عدم الخطأ و الغفلة لدى العقلاء، و إن لم يكونا كذلك و كان الغالب عليهما الاشتباه و الخطأ أو كانا بحيث لم يتكل عليهما العقلاء و لم تجر في حقهما الأصول العقلائية لا تعتبر شهادتهما، و تكون أدلة اعتبار البينة منصرفة عن مثلهما.

و الظاهر ملازمة ظهور الصلاح بالمعنى المعتبر في الكاشف للوثوق النوعي بالاحتراز عن الكذب، و الوثوق الشخصي غير معتبر لا في البينة و لا في خبر الثقة، و مع عدم حصول الوثوق النوعي لجهة من الجهات في الشاهدين فلا محالة تكون تلك الجهة منافية لظهور الصلاح، مضافا الى أن إطلاق الموثقة يقتضي اعتبار التعدد و لو كان الشاهدان موثقين، و حملها على خصوص غير الموثق مع كون العدلين موثوقا بهما نوعا كما ترى.

فتحصل مما

ذكرناه أن الموثقة رادعة عن العمل بخبر الثقة في الموضوعات، و من هنا ظهر ضعف التمسك بها لإثبات اعتبار خبر الثقة كما هو واضح، نعم بناء على الاحتمال الثاني لا تكون الموثقة رادعة إلا عن الموارد التي قامت أمارة على إحراز موضوع و يراد إثبات خلافها نظير الأمثلة المتقدمة.

و أما الروايات المستشهد بها فمع كونها في موارد خاصة لا يمكن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 556

إثبات سائر الموارد بها، سيما مع البناء على كون الموثقة رادعة، و سيما مع قلة العامل بها على الظاهر، كما حكي عن التذكرة و جامع المقاصد الإجماع على عدم ثبوت العزل بخبر العدل، و ظهور الكتاب و السنة في عدم ثبوت الوصية إلا بشاهدين عدلين، بل أرسل الأصحاب إرسال المسلمات عدم ثبوت شي ء من الوصية باخبار رجل عدل، و إن ثبت الربع منها باخبار مرأة و الربعين بمرأتين و ثلاثة أرباع بثلاث للنص «1» فضلا عن ثبوت التمام به، و عدم عمل المشهور بالأخبار الواردة في أذان الثقة في حال إمكان العلم و مع عدمه يكون مطلق الظن حجة يثبت به الوقت.

ان المحتمل في خبر عزل الوكيل أن العزل المحقق واقعا إذا بلغ بثقة ينعزل الوكيل به لا لأجل ثبوت العزل به بل لبلوغه، ففرق بين ثبوت العزل به عند الشك فيه و بين بلوغ العزل المحقق بثقة، فالأول محط البحث هاهنا، و الثاني مورد دلالة الخبر.

و بعبارة اخرى أن العزل الواقعي لا يكون موضوع حكم حتى يكون خبر الثقة مثبتا له، بل الموضوع للحكم بلوغ العزل بثقة على أن يكون كل من العزل و البلوغ جزء للموضوع، و هو أجنبي عما نحن بصدده، و

لا دليل على أن أحد الجزءين مثبت للجزء الآخر، و بهذا اللحاظ يكون موضوعا له، فتدبر تعرف.

و المحتمل في خبر الوصية أن الوصي لم تكن شبهته في ثبوت الوصاية بخبر الثقة، بل الظاهر فرض حصول الاطمئنان بها، حيث فرض كون المخبر صادقا مع انه أخبر عن واقعة شخصية كانت بينه و بين الموصي، و معه تطمئن النفس بصدقه، سيما في أمر لا داعي له

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 22- من كتاب الوصايا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 557

أن يكذب فيه، بل كانت شبهته في أن تبديل الوصية بوصية أخرى جائز، و معه هل يجب على الموصي العمل بالأولى أو الثانية؟ تأمل.

و موثقة سماعة محمولة على الاستحباب، ضرورة عدم اعتبار قول المدعي و لو كان ثقة، و قد ورد في موردها ما يدل على عدم سماع دعواه إلا بالبينة «1».

و خبر قبول الاستبراء من البائع فمن أخبار ذي اليد، و هو أمر آخر غير مربوط بالمقام.

و لم يظهر من خبر اللمعة العمل بخبر الثقة، بل لعله كان مشتغلا بالعمل فصار خبره موجبا للشك حال الاشتغال، أو كانت اللمعة في طرف الأيسر بناء على اعتبار الشك فيه و لو بعد الفراغ، أو كان من باب الاحتياط.

فالمسألة محل إشكال من جهة الإشكال في معنى موثقة مسعدة، و من جهة عدم العثور على مورد عمل الأصحاب بخبر الثقة في الموضوعات كما عملوا به في الأحكام، و من هنا يشكل الاعتماد على السيرة و الوثوق بعدم الردع، فالأحوط عدم الثبوت بخبر الثقة لو لم يكن الأقوى.

و أما إخبار ذي اليد أي من كان له نحو استيلاء و تصرف في الشي ء و لو كان غاصبا و فاسقا فضلا

عمن كان مالكا أو أمينا كالمستأجر و المستودع بل و الخادم و غيرهم فلا ينبغي الإشكال في اعتبار قوله في ثبوت النجاسة و الطهارة، بل و غيرهما إلا ما استثني.

و الدليل عليه السيرة المستمرة، و بناء العقلاء، و نقل الشهرة، و الاتفاق على قبول قوله، و يدل على اعتباره في الجملة الأخبار المختلفة في موارد لا يبعد إلقاء الخصوصية منها عرفا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب عقد النكاح- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 558

منها روايات قبول خبر غير العارف و غير معروف الحال في البختج إن لم يكن مستحلا كصحيحة عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل فاشربه» «1» و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث، و أنا أعرف أنه يشربه على النصف، فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال:

نعم» «2».

دلتا على أنه مع كون الرجل غير متهم و لا مكذب عمله قوله يقبل منه إخباره و لو كان إخبارا عمليا، سواء كان من أهل المعرفة أو لا، معلوم الحال أو لا، و إطلاقهما يقتضي قبول قول الفاسق في مذهبه.

نعم في بعض الروايات «3» اعتبار كون المخبر مسلما ورعا مؤمنا أو

مسلما عارفا أو اعتبار كون البختج حلوا يخضب الإناء مضافا الى إخبار صاحبه، و الأوليان محمولتان على الاستحباب حملا على النص، و الثالثة محمولة على ما إذا كانت الامارة على خلاف قوله، فان عدم الاختضاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(3) المرأة في الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6 و 7 و 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 559

دليل على عدم التثليث، بل لعله دليل قطعي على عدمه، و أما الاختضاب فأعم من حصول التثليث، فاعتباره لأجل حصول الشك فيه لا قيام الأمارة عليه.

نعم إطلاق صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «إذا كان يخضب الإناء فاشربه» «1» يقتضي أمارية الاختضاب على التثليث، لكنها محمولة على صحيحة معاوية بن وهب «2» التي اعتبر فيها مضافا الى ذلك أخبار ذي اليد حملا للمطلق على المقيد.

و منها بعض الروايات الواردة في الجبن، كرواية بكر بن حبيب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الجبن و أنه توضع فيه الانفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي ء» «3» و نحوها في عدم لزوم السؤال رواية حماد بن عيسى «4» و هذه الروايات و إن صدرت تقية لأن الإنفحة من الميتة طاهرة عندنا لكن يظهر منها أنه لا بأس بالاشتراء و الأكل من سوق المسلمين، و لا يلزم السؤال، لكن لو سأل و أجاب صاحب اليد بكون الميتة فيه لا يجوز الأكل، فيظهر منهما أن هذا الحكم كان معهودا في ذلك العصر.

و

منها ما وردت في قبول قول البائع الأمين الثقة في استبراء الأمة «5» و اعتبار الامانة و الثقة لكون أمر الفروج مهما كما يظهر من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(3) مرت في ص 104.

(4) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 8

(5) مرت في ص 553.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 560

تلك الروايات.

و منها رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أني أدخل السوق أعني هذا الخلق الذي يدعون الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة و أقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية؟ فيقول:

بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية، قلت: ما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق الميتة» «1».

و قد مرّ في المسألة السابقة أن الظاهر منها و من سائر الروايات أن سوق المسلمين- أي هذا الخلق- ليس امارة على التذكية، و إن جاز لنا ترتيب آثارها توسعة، و أما جواز الاخبار بها فهو من آثار ثبوتها لدى المخبر، و انما نهي عن الاخبار بها مع إخبار ذي اليد لاستحلال أهل العراق الميتة، فيظهر منه أنه لو لا ذلك لجاز الاتكال على إخباره و قول عبد الرحمن: «ما أفسد ذلك؟» دليل على معروفية الاتكال على قول صاحب اليد، فسأل عن وجه عدم الجواز، فأجابه عليه السلام بذلك.

إن قلت: مع عدم استحلاله تكون يده امارة قلت المراد بالاستحلال استحلال الميتة بالدباغ، و لهذا نسبه الى أهل العراق، فحينئذ مع عدم الاستحلال أيضا لا يكون

سوقهم امارة و لا يدهم، لاختلافهم معنا في معظم شرائط التذكية، تأمل.

و يمكن أن تعد من الشواهد أو الأدلة الروايات الواردة في سياق الهدي، كصحيح حفص بن البختري قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدق به

______________________________

(1) مرت في ص 546.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 561

عليه، قال: ينحره و يكتب كتابا يضعه عليه، ليعلم من مرّ به أنه صدقة» «1» بدعوى دلالتها على معروفية قبول قول صاحب اليد بأنها صدقة الى غير ذلك من الموارد التي يعلم- بإلقاء الخصوصية عنها عرفا- أن قول صاحب اليد معتبر عند الشارع، كما هو معتبر عند العرف، سيما مع قبوله في المهمات.

المطلب السادس: مقتضى إطلاق أدلة شرطية الطهارة
اشارة

أو مانعية النجاسة- كقوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلا بطهور» «2» المتيقن منها بقرينة ذيلها الطهور من الخبث، و قوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة» إلخ «3» بناء على أن الطهور في المستثنى أعم من الخبث- بطلان الصلاة التي يؤتى بها في النجس مطلقا، سواء كان عن عمد أو جهل بالحكم أو الموضوع أو النسيان أو غيرها من الأعذار، فلا بد من التماس دليل على صحة الصلاة المأتي بها في النجس.

و قد يقال: إن الأدلة قاصرة عن إثبات الحكم للجاهل، لقبح تعلق التكليف بالغافل، و عليه يكون المأتي به مع النجاسة مجز، لأنه صلاة تامة في حقه بعد عدم الدليل على إثبات المانعية أو الشرطية في حقه.

و فيه ما حقق في الأصول من عدم قصور الأدلة عن إثبات التكليف لمطلق المكلفين، و لا مانع من تعلقه بالعناوين الكلية الشاملة لعامة

______________________________

(1) مرت في ص 542.

(2) مرتا في ص

388.

(3) مرتا في ص 388.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 562

المكلفين، و إن كان التارك عن عذر معذورا في أدائه، و السر فيه عدم انحلال الخطاب المتعلق بالعناوين كالناس و المؤمنين إلى خطابات جزئية بعدد النفوس أو العناوين الطارية، و لهذا يكون العصاة مكلفين، مع أن العاصي الذي يعلم المولى طغيانه لا يمكن تكليفه جدا لغرض الانبعاث لامتناع انقداح إرادة التكليف جدا بمن لا يطيع.

هذا مع أن ما ذكر لا يتأتى في الوضعيات، كقوله عليه السلام:

«لا صلاة إلا بطهور» و لا شبهة في إطلاقه بالنسبة الى كل صلاة من دون اشكال.

نعم لا فرق في الاشكال بين الأوامر النفسية و ما هي للإرشاد إلى الشرطية، كقوله «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» إلخ «1» فإنها و ان كانت للإرشاد لكنها لم تنسلخ عن البعث و التكليف، و لم تستعمل في الاشتراط، بل يفهم العرف من البعث الى تحصيل الطهور للصلاة اشتراطها بها، فان قبح أو امتنع تعلق التكليف بالغافل لا يمكن انتزاع الاشتراط مطلقا منها بحيث يشمل الغافل، فما قد يقال في الجواب عنه: إن الأوامر الإرشادية لا اشكال فيها كأنه في غير محله.

هذا مع اقتضاء بعض الأدلة الخاصة في المقام بطلان الصلاة في النجاسة، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم، قال: إن كان علم أنه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلي ثم صلى فيه و لم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى» «2» و غيرها مما تشمل بإطلاقها للعالم و غيره.

و أما الجاهل بالموضوع ففيه أقوال: عدم الإعادة مطلقا، و الإعادة

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية 6

(2) الوسائل-

الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 563

كذلك كما حكي عن بعض، و التفصيل بين التذكر في الوقت و خارجه، فيعيد في الأول، و التفصيل بين المتذكر الذي لم يتفحص و غيره، فيعيد الأول.

و قد يقال: إن مقتضى الجمع بين الروايات التفصيل الأول، لأن منها ما تدل على عدم الإعادة مطلقا كموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «1» و نحوها روايات «2».

و منها ما تدل على الإعادة مطلقا، كصحيحة وهب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الجنابة تصيب الثوب و لا يعلم به صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك، قال: يعيد إذا لم يكن علم» «3» و رواية أبي بصير الصحيحة بناء على كون وهب بن حفص هو الجريري الثقة عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن رجل صلى و في ثوبه بول أو جنابة، فقال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم» «4».

و منها ما تدل على عدم وجوب القضاء كصحيحة العيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل صلى في ثوب رجل أياما، ثم أن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلي فيه، قال: لا يعيد شيئا من صلاته» «5» و رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(2) المروية في الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات.

(3) الرسائل- الباب- 40- من

أبواب النجاسات الحديث 8.

(4) الرسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات الحديث 9.

(5) الرسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 564

عليه السلام قال: «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إذا كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله» «1».

و طريق الجمع بينها بتقييد صحيحة ابن عبد ربه و رواية أبي بصير بالروايتين الأخيرتين، فيصير مفادهما بعده الإعادة في الوقت دون خارجه فتقيد بهما الطائفة الأولى الدالة على عدم الإعادة مطلقا، فتصير النتيجة التفصيل بين الوقت و خارجه.

و فيه- مضافا الى منع كون الأخيرتين مختصتين بالقضاء. أما صحيحة العيص فظاهر، ضرورة أن ترك الاستفصال في وقت إخبار صاحب اليد دليل على عموم الحكم لما إذا أخبره في الوقت و قد صلى في ثوبه و بقي وقت الإعادة، و الرواية الثانية و ان كان صدرها متعرضا للقضاء لكن ذيلها مطلق يشمل الفرض المتقدم، و مجرد تعرض الصدر للقضاء لا يوجب الانصراف أو تقييد الإطلاق.

ان المتفاهم العرفي من نفي القضاء هو الإرشاد إلى صحة الصلاة المأتي بها، فيفهم العرف من نفي القضاء نفي الإعادة، كما أنه يفهم من نفي الإعادة نفي القضاء، و ذلك لأن نفي كل منهما دليل عرفا على صحة الصلاة، و إرشاد إليها، و احتمال أن تكون النجاسة المحرزة في جزء من أجزاء الوقت مانعة منها- و بعبارة أخرى تعقبها بالاحراز في الوقت و لو بعد الصلاة مانعة- بعيد عن فهم العرف

غايته.

نعم لو ورد دليل على التفصيل بين الإعادة في الوقت و عدم القضاء خارجه كان هذا التصوير العقلي موجبا لعدم جواز طرحه و عدم العمل به

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 565

أما إن كانت الواقعة مثل المقام من عدم الدليل على التفصيل و انما أردنا البناء عليه بدليل نفي القضاء و التقييد المشار اليه فلا يساعده العرف فان ما يدل على نفى القضاء يدل على صحة الصلاة لدى العرف فيعارض ما دل على الإعادة.

هذا مع التأمل في أن هذا النحو من التقييد و انقلاب النسبة جمع مقبول عقلائي، بل كأنه أمر صناعي عقلي، لا جمع عرفي، و الميزان في جمع الأدلة هو الثاني، و هو محل اشكال سيما في المقام الذي يأبى جل الروايات عن الحمل على ما بعد الوقت، كما لا يخفى على المتأمل فيها، فبقيت صحيحة ابن عبد ربه و رواية أبي بصير معارضتين لسائر الروايات.

و يمكن أن يجاب عن الأولى بأن الشرطية المذكورة فيها ظاهرة في دخالتها في الحكم، فيكون موضوع الإعادة النجاسة غير المعلومة، و هذا غير البناء على المفهوم كما هو المقرر في محله، فإذا قطعنا بعدم دخالتها في الحكم بل كان ذكرها مخلا بالمقصود أو لغوا يجب تنزيه ساحة القائل عنهما يدور الأمر بين زيادة الشرطية و ما بعدها و نقصان كلمة «لا» قبل «يعيد» أو كون اداة الاستفهام غير مذكورة فيكون الاستفهام إنكاريا و لا ترجيح لواحد منها.

و بعبارة أخرى إن العمل بالظواهر ليس أمرا تعبديا، بل أمر عقلائي يتوقف على جريان الأصول العقلائية، كأصالة عدم الخطأ و النسيان و الغفلة في صدورها حتى يجوز

الاتكال عليها، و في مثل المورد الذي كان القيد الزائد بلا وجه لا يعتد العقلاء بالأصول المتقدمة، سيما مع معارضتها بالروايات المستفيضة المصرحة بأنه لا يعيد إذا لم يعلم، و الانصاف أن دعوى الجزم بوجود خلل فيها غير بعيدة.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 566

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 566

و أوضح منه الجواب عن الثانية، فإنه بعد الغض عن عدم الدليل عن أن وهب بن حفص هو الجريري الثقة أن صحة الشرطية فيها أيضا تحتاج الى التوجيه و التأويل، و إلا فبعد قوله عليه السلام: «علم به» الظاهر في أنه علم به حين الصلاة لا وجه للتقييد بأنه إذا علم فلا بد من أن يقال: سواء علم به فنسي أو لم يعلم فعليه الإعادة إذا علم بالخلل «1» و هو تأويل فيها بلا دليل، و لا ترجيح لهذا الاحتمال على الاحتمال الآخر، و هو الحمل، على أن قوله عليه السلام: «علم به أو لم يعلم» استفسار عن الواقعة، و أن الشرطية لإفادة أن في شق منهما يعيد دون الآخر، و عليه تكون الرواية من أدلة القول المشهور.

و الانصاف عدم إمكان التعويل عليهما في مقابل تلك الروايات الظاهرة الدلالة الواضحة المراد السليمة عن المناقشة في الاسناد و المتون و الحمل على الاستحباب لا يخلو من بعد و إشكال، سيما في المقام الذي يكون الأمر بالإعادة لدى العرف إرشادا إلى الفساد، كما أن النهي عنها إرشاد إلى الصحة، و لم ينقدح في الأذهان منهما النفسية وجوبا كان أو استحبابا، كما أنه مع تصديق

التعارض بين الأخبار يشكل ترجيح الروايات النافية للإعادة عليهما بعد ما قرر في محله أن كثرة الرواية ليست من المرجحات، و ليس في المقام شهرة فتوائية موهنة لمقابلها بحيث يكون المقابل شاذا نادرا، بعد عمل عمد الفقهاء بها كالشيخ و ابن زهرة و المحقق و العلامة و ثاني المحققين و الشهيدين و غيرهم على ما حكي عنهم، و موافقتهما لأدلة الاشتراط، مثل «لا صلاة إلا بطهور» و «لا تعاد» بناء على أن الطهور أعم، و غيرهما من أدلة

______________________________

(1) أضف الى ذلك أن التعبير بالعلم في صورة النسيان غير مناسب بل المناسب التعبير بتذكر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 567

اعتبار الطهارة أو مانعية النجاسة، فالتفصيل المتقدم ضعيف لا لما ذكر آنفا، بل لما تقدم من الوجه.

و أضعف منه التفصيل الثاني، لعدم دليل عليه سوى رواية ميمون الصيقل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، فقال:

الحمد للّٰه الذي لم يدع شيئا إلا و له حد، إن كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا إعادة عليه، و إن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة» «1» كذا في نسخة الوسائل و مرآة العقول، و في الوافي عن الكافي و التهذيب بزيادة «و صلى» بعد «فاغتسل» و في هامش الوافي «هذا الخبر أورده في التهذيب مرتين، و ليس في أحدهما قوله عليه السلام: «حين» الأول إلى «حين» الثاني (منه)» انتهى.

و في الوسائل بعد نقله عن الكافي كما تقدم قال: «و رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب، و رواه أيضا بإسناده عن الصفار عن الحسن بن علي بن عبد

اللّٰه، و رواه أيضا مثله الى قوله عليه السلام:

فلا إعادة عليه» و في نسخة من التهذيب مقروة على المحدث المجلسي كما تقدم عن الوسائل، لكن بزيادة «إلى الصلاة» بعد قوله عليه السلام: «حين قام» الأول، و قد اختلف نقلها في الكتب الاستدلالية أيضا.

فهذه الرواية مع هذا السند الضعيف بل المغشوش كما يظهر بالرجوع الى كتب الحديث و هذا المتن المشوش لا يمكن الاتكال عليها، سيما مع عدم تحقق عامل بها، مع أنه على نسخة الوسائل التي ليس فيها قوله: «و صلى» لم يتضح أن الإعادة إعادة الصلاة، و لعلها اعادة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 568

الغسل، و لزوم فساد المتن على هذا الفرض لا يوجب العلم بكون المقدر فيها الصلاة إلا أن يكون ذلك موجبا لترجيح النسخة الأخرى.

و على النسخة التي ليس فيها جملة «و إن كان حين قام لم ينظر» الى آخره لا تدل على المقصود إلا بتوهم أن المفهوم لها أنه إذا لم ينظر .. إلخ، و هو غير معلوم، لأن أخذ النظر و غيره من العناوين التي لها طريقية الى الواقع في موضوع لا يكون ظاهرا في الموضوعية، و لعل قوله عليه السلام: «نظر فلم ير» أخذ امارة على عدم الجنابة فيه واقعا، و مقابلها وجودها واقعا فيه، و معارضة هذا المفهوم للأدلّة المتقدمة لا توجب ظهورا فيها.

و أما دعوى تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة على فرض تسليمها لا تسلم في المقام، فان المحتمل فيه أن تكون الزيادة عن عمد نقلا بالمعنى و تفصيلا لما أجمل في الرواية، و هو ليس بممنوع حتى ينافي العدالة، فيدور

الأمر بين النقيصة السهوية أو العمدية بلا وجه، و بين الزيادة السهوية أو العمدية مع الوجه، إلا أن يقال:

يحتمل في النقيصة أن تكون عن عمد في المقام أيضا، لاحتمال اكتفاء الراوي بالمنطوق و إيكال فهم المفهوم على السامع، لكنه بعيد، بل ما ذكرناه أيضا كذلك.

فالأوجه في الجواب عنها الطعن في السند و الهجر في العمل، و بالأخير يجاب عن سائر الروايات التي استدل بها للمقصود لو سلمت دلالتها لكنها غير مسلمة، لأن الظاهر من صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني فشدده و جعله أشد من البول، ثم قال:

إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 569

إعادة عليك، و كذلك البول» «1» أن الجملة الثانية مفهوم الشرطية للأولى، و ليست جملة مستقلة غير مربوطة بها، فيكون المراد عدم رؤية المني في الثوب، و قد مر منا أن الجملة المذكورة لبيان المفهوم لا مفهوم لها.

و أما مرسلة الصدوق «2» فهي على الظاهر عين الرواية المتقدمة، و رواية ميسر «3» أجنبية عن المقام.

و لو رأى النجاسة في أثناء الصلاة فإن علم بسبقها و ان بعض صلاته وقع مع النجاسة بطلت صلاته مع سعة الوقت، لبطلان المشروط مع فقد شرطه، و لجملة من الروايات الآتية عن قريب.

و قد يقال: إن مقتضى الروايات الواردة في حدوث الدم في أثناء الصلاة كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن الرعاف أ ينقض الوضوء؟ قال: لو أن رجلا رعف في صلاته

و كان عنده ماء أو من يشير اليه بماء فتناوله فقال: برأسه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) هكذا نصها: قال: «و قد روي في المني أنه ان كان الرجل حيث قام نظر و طلب فلم يجد شيئا فلا شي ء عليه، فان كان لم ينظر و لم يطلب فعليه أن يغسله و يعيد صلاته» راجع الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: «آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله، فأصلي فيه فإذا هو يابس، قال:

أعد صلاتك، أما أنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي ء» راجع الوسائل- الباب- 18- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 570

فغسله فليبن على صلاته و لا يقطعها» «1» و نحوها جملة من الصحاح «2» و غيرها، و الروايات الواردة في صحتها لو علم بالنجاسة بعدها صحة صلاته في الفرض، فان الجهل إذا كان في جميعها عذرا يكون في بعضها بالأولوية و إلقاء الخصوصية عرفا، فصحت صلاته الى حين الالتفات، و في حاله و الاشتغال بالتطهير يكون معذورا بمقتضى الروايات المتقدمة في الرعاف، و العرف لا يفرق بين الحدوث و العلم بالوجود، لأن المانع للصلاة النجاسة لا حدوثها.

و بالجملة تصح صلاته هذه بعضها بدليل معذورية الجاهل، و بعضها بما دل على معذوريته حال الاشتغال بالتطهير، و بعضها بوجدانها للشرط و فيه منع الأولوية المدعاة، أما إن قلنا بالعفو فلأن العفو في الجميع ربما يكون تخفيفا على المكلف و عدم إرادة اعادة جميع الصلاة دون بعضها، و إن قلنا بعدم المانعية فكذلك، لإمكان أن يكون للجهل في جميع الصلاة

دخالة فيه، فلا قطع بالمناط، و هو واضح سيما مع وقوع نظائره في الشرع.

و لا يمكن دعوى إلقاء الخصوصية، لمنع فهم العرف من الأدلة ذكر بعد الصلاة من باب المثال مثلا بعد ما يرى أن لتمام الصلاة خصوصية و أحكام في الشرع ليست لبعضها.

و منع القطع بعدم الفارق بين حدوث الدم و حدوث الالتفات اليه لاحتمال أن يكون للحدوث القهري خصوصية لم تكن لغيره، بل لو كان الدليل في الباب منحصرا بأدلة الرعاف لا يمكن لنا التعدي منها الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 11

(2) المروية في الوسائل- الباب- 76- من أبواب نواقض الوضوء- و الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 571

سائر النجاسات بعد ثبوت التخفيف في الدم بما لا يكون في غيره كالتخفيف في دم القروح و الجروح كائنا ما كان، و كالأقل من الدرهم، لكن سيأتي ما يستفاد منه العموم لسائر النجاسات.

و قد يقال لتصحيح العبادة في الفرض و سائر الفروض في المقام:

إنه لا دليل على مانعية النجاسة في جميع الصلاة أفعالا و أكوانا، لقصور أدلة الاشتراط أو المانعية عن شمول الأكوان، و مع الشك مقتضى الأصل البراءة، فتكون الصلاة صحيحة إلى حين الالتفات بأدلة الجهل كما تقدم و في حينه و حين الاشتغال بالتطهير بأصالة البراءة.

و فيه ما مر من عدم الدليل على معذورية الجاهل مع الالتفات في أثناء الصلاة و منع فقدان الدليل على اعتبار الطهارة أو عدم النجاسة في الأكوان لعدم قصور صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«لا صلاة إلا بطهور، و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنة عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه

عليه و آله، و أما البول فإنه لا بد من غسله» «1» عن إفادته ذلك، لأن الظاهر منها أن الصلاة باطلة مع فقد الطهور، فإذا فقدت الطهور في بعضها لم تكن هي بطهور، و بالجملة الظاهر منها اعتباره في جميعها.

إن قلت: نعم لكن الأكوان ليست بصلاة، بل هي عبارة عن التكبير الى التسليم أى الأجزاء الوجودية من الأذكار و غيرها، و السكوتات المتخللات بينها ليست من الصلاة.

قلت: مضافا الى إمكان أن يقال: إن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا يخلو من التلبس بفعل من أفعال الصلاة كالقيام و القعود و الركوع و السجود، بل يمكن أن يقال: إن النهوض للقيام و الهوي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 572

للسجود أيضا من أجزائها لا من مقدماتها فاجزاء الصلاة متصلة إلى آخرها، تأمل:

ان المرتكز لدى المتشرعة أن المصلي إذا كبر يكون في الصلاة الى ان خرج عنها بالسلام، فتكون الصلاة عندهم أمرا ممتدا يكون المكلف متلبسا بها في جميع الحالات أكوانا أو أفعالا، و دعوى أن الأكوان خارجة عنها مخالفة لارتكازهم، مع ان التعبير بالقاطع في جملة من الموارد يدل على أنها أمر ممتد في الاعتبار يقطعها بعض القواطع.

و القول بأن التعبير بالقاطع لأجل إبطاله الأجزاء السابقة و سلب صلوح اتصالها بالأجزاء اللاحقة خلاف ظاهر القطع و القاطع، مع أن اعتبار الطهور و سائر ما يعتبر في الصلاة في جميع الأجزاء و الأكوان مما لا ينبغي الشك و الترديد فيه، و من هنا لا يجوز الإتيان بالموانع عمدا في الأكوان و رفعها للأفعال، و هو كالضروري، و ليس إلا لبعض ما تقدم فتحصل

مما ذكر أن مقتضى القاعدة بطلان الصلاة في صورة العلم بسبق العروض، سواء علم بسبقه عن الدخول في الصلاة أو سبقه عن الرؤية مع إتيان بعض الصلاة مع النجس.

هذا مضافا الى دلالة صحيحة زرارة الطويلة عليه قال: «قلت له:

أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني فعلمت أثره- الى أن قال-: قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة، قال: تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، و ان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» «1» و لا ريب في أنه يستفاد منها حكم مطلق النجاسات، ضرورة أن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 573

ذكر الدم و المني من باب المثال، كما يظهر مضافا الى وضوحه من سائر فقرأتها، كما لا شبهة في أن المراد بالفرع الأول من الفرعين مورد العلم بسبق النجاسة على زمان الرؤية، و قوله عليه السلام: «إذا شككت في موضع منه ثم رأيته» لتنقيح موضوع الاطمئنان بكون ما رآه هو المشكوك فيه قبلا، كما يظهر ذلك من تقييد المرئي في الفقرة الثانية بكونه رطبا، فإنه مع فرض اليبوسة يعلم بسبقه، و يؤيده بل يشهد عليه قوله عليه السلام: «لأنك لا تدري لعله شي ء أوقع عليك» فإنه لإلقاء الشبهة بحدوث النجاسة.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في ظهورها في أنه مع العلم بوجود النجاسة قبل الرؤية تبطل الصلاة، و مع الشك لا تبطل، و حمل الفقرة الأولى على مورد العلم الإجمالي مخالف للظاهر من

وجوه.

فيبقى سؤال الفارق بين الفرعين، حيث تمسك في الثانية بالاستصحاب دون الأول، مع أن جريان الأصل انما يفيد الحال الجهل لا الالتفات بوجود النجاسة، و في الفرع الأول أيضا كان المصلي شاكا في عروضها، و تبين الخلاف غير مضر به، كما أجراه في صدر الصحيحة بالنسبة الى من صلى في الثوب ثم علم بالنجاسة، و بالجملة كما انه في الفرع الثاني يجري الاستصحاب و يفيد بالنسبة الى حال قبل الالتفات كذا في الأول بالنسبة اليه، و لا بد في تصحيح حال الالتفات و العلم من دليل آخر غير الاستصحاب.

و الجواب عنه ما ذكرناه من احتمال عدم العفو عن النجاسة الموجودة قبل حال الرؤية في حالها، لقصور الأدلة الدالة على حدوث الرعاف بين الصلاة عن إثباته، و هذه الصحيحة شاهدة على ما ذكرناه من اقتضاء القواعد، و انما تمسك في الفرع الثاني بالاستصحاب لإصلاح

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 574

حال الجهل لا حال الالتفات، و أما في حال العلم فلما شك في وقوعها من الأول أو حدوثها في الآن يشك في حدوث المانع، فأصالة البراءة عقلا و شرعا جارية، و مع التطهير تصح صلاته ببركة الاستصحاب و أصالة البراءة و الطهارة الواقعية.

هذا إذا كان المراد من الاستصحاب في الرواية استصحاب عدم عروض النجاسة، و انما تمسكنا بأصالة البراءة دون أدلة الرعاف، فان استصحاب عدم عروض النجاسة إلى زمان الرؤية لا يثبت حدوثها في الحال حتى ينقح به موضوع الأدلة الاجتهادية، فالأصل لإثبات الحدوث مثبت، و أما إن أريد استصحاب عدم عروض المانع أو استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية للصلاة على فرض جريانهما فالأمر واضح.

و أما الفرع الأول فلا يمكن تصحيحه بالاستصحاب، لأنه

مع انكشاف أن النجس عرض سابقا يحرز عدم اندراج المورد في أدلة العفو الظاهرة في حدوث النجاسة لدى الرؤية، فتبقى أدلة اعتبار الطهور في الصلاة بلا مقيد.

و تدل على المطلوب أيضا صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به، قال:

عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلى و في ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال: مضت صلاته و لا شي ء عليه» «1».

و احتمال أن يكون المراد فرض نسيان النجاسة في غاية البعد لو لم نقل مقطوع الخلاف، سيما بملاحظة ذيلها الذي لا شبهة في أن المراد منه الجهل لا النسيان.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 575

و احتمال أن الفقرة الثانية كانت رواية أخرى مستقلة ذكرت في ذيلها تلفيقا بعيد لا يصار اليه، و بالجملة لا ينبغي الإشكال في دلالتها على المطلوب.

و تدل عليه أيضا إطلاق صدر صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني فشدده و جعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و ان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه و صليت فيه ثم رأيته بعد ذلك فلا إعادة عليك، و كذلك البول» «1» و لو نقش فيها بدعوى ظهورها بمناسبة الإعادة و غيرها فيما لو صلى و أتمها بعد رؤية الدم ففي ما عداها كفاية و ان أمكن إنكار المناقشة.

و ربما يقال بأن الإعادة مختصة بما إذا لم يكن نزع الثوب أو تطهيره، و مع

إمكان ذلك فعله و أتمها جمعا بين الروايات بشهادة صحيحة محمد بن مسلم قال: «قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة، قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صل، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك، و لا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء رأيته من قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله و صليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» «2».

و فيه- بعد الغض عن اغتشاش متنها و نقلها كما مر في باب العفو عن الدم القليل، و الغض عن ان ظاهرها بيان احكام لموضوعات ثلاثة: الدم المساوي للدرهم الدم و الأقل منه، و الأكثر منه، فان ما لم

______________________________

(1) مرت في ص 568.

(2) مرت في ص 423.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 576

يزد إذا وقع في مقابل الزائد و القليل يتعين أن يكون بمقداره، و هو تفصيل لم يقل به أحد- أن الاستدلال بها لما ذكر موقوف على أن المراد بالشرطية الأولى الدم الكثير و بالثانية طبيعة الدم، و إرجاع القيد إلى الثانية فقط، و هو خلاف الظاهر، فان الظاهر أن قوله عليه السلام «و ان لم يكن عليك ثوب غيره» بيان مفهوم الشرطية الأولى، فحينئذ يكون القيد راجعا إليهما، فيكون الأمر بالطرح محمولا على الاستحباب إن أريد بما لم يزد الدم الأقل، و إلا كانت الشرطية الثانية خلاف الإجماع و الأخبار.

و الانصاف أن رفع اليد عن القواعد و التصرف في الاخبار بهذه الرواية غير ممكن.

و اما الناسي بأن

علم بالنجاسة فنسيها و صلى فعليه الإعادة في الوقت و خارجه على المشهور أو مذهب الأكثر، كما عن المعتبر و كشف الالتباس و الروض و غيرها، و عن كشف الرموز نسبته الى الشيخ و المفيد و علم الهدى و أتباعهم، و عن التنقيح أنه مذهب الثلاثة و اتباعهم، و عليه الفتوى، و عن ابن زهرة و الحلي و ظاهر شرح القاضي الإجماع عليه، و لم ينسب الخلاف إلى متقدمي أصحابنا إلا الشيخ في الاستبصار الذي لم يعد للفتوى، بل لرفع التنافي بين الاخبار، فلا ينبغي عده مخالفا، نعم عن التذكرة نسبة عدم وجوب الإعادة مطلقا إليه في بعض أقواله و على أي تقدير الشهرة محققة في الطبقة الأولى من أصحابنا.

و قبل التكلم في مفاد الأخبار الخاصة لا بأس بالتكلم في مقتضى القواعد، فنقول: مقتضى أدلة اشتراط الطهور أو مانعية النجس سيما مثل قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» هو بطلانها مع فقده نسيانا، و قد فرغنا عن رفع إشكال الأردبيلي و من تبعه في المسألة المتقدمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 577

و أما حديث «لا تعاد الصلاة» إلخ فإن قلنا بأن الطهور في المستثنى أعم من الطهور عن الخبث كما هو الأظهر يكون مقتضاه موافقا لأدلة الاشتراط، و إن قلنا باختصاصه بالطهور عن الحدث فيكون الطهور عن الخبث في العقد المستثنى منه تكون النسبة بينه و بين «لا صلاة إلا بطهور» أعم من وجه، سواء كان الحديث مخصوصا بالنسيان كما حكى عن المشهور، أو كان الأعم منه و من الجهل بالحكم و الموضوع و من نسيان الحكم، و يكون الخارج منه العالم العامد للانصراف عنه لا للإشكال العقلي كما

قيل.

و كيف كان يكون «لا صلاة إلا بطهور» حاكما عليه، لأن الصحيحة تنفي موضوع الحديث بلسانها، و هو الصلاة المأخوذة في موضوعه فوزان الصحيحة معه وزان «لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو» مع أدلة السهو، و ما قد يقال من حكومة حديث لا تعاد على أدلة اعتبار الأجزاء و الشرائط ممنوع على إطلاقه، نعم هو حاكم على نحو قوله:

«لا تصل في النجس» لا مثل الصحيحة التي تتصرف في عقد وضع الحديث، بل و لا على ما دلت على الإعادة بعنوانها، فإنها معارضة معه أو مخصصة إياه.

فتحصل مما ذكر أن حديث لا تعاد إما معاضد للصحيحة أو محكوم لها، فتصير النتيجة بطلان الصلاة مع نسيان الطهور.

و أما حال حديث «لا تعاد» مع حديث الرفع فان قلنا باختصاص لا تعاد بالنسيان و شمول المستثنى للطهور عن الخبث فيكون مخصصا لحديث الرفع، لأخصيته عنه و يقدم عليه، و لو فرض تحكيم لسان حديث الرفع فان التحكيم انما يفيد في الجمع العرفي فيما كانت نتيجته التخصيص لا فيما كانت النتيجة سقوط الدليل في جميع مفاده، فالخاص و المقيد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 578

مقدمان على العام و المطلق، و لو كان لسانهما الحكومة.

نعم لو كان «لا تعاد» أعم من النسيان و شاملا لغير العامد العالم تكون النسبة بينه و بين حديث الرفع العموم من وجه، و يمكن أن يقال: بتقدم حديث الرفع عليه، فان المستثنى في «لا تعاد» إن كان إرشادا إلى اشتراط الصلاة بالخمسة في جميع الأحوال فحديث الرفع حاكم عليه، لأنه ناظر إلى أدلة الاشتراط بالرفع حال النسيان، و إن كان متعرضا لعدم التقبل في المستثنى و التقبل في المستثنى منه

فالمفروض فيه الاشتراط حال العمل، و لسان الرفع مقدم عليه على تأمل، لكن لا يمكن تحكيم حديث الرفع عليه، لأن لا تعاد و ان كان شاملا لغير العامد لكن حديث الرفع أيضا بفقراته مستغرق لجميع مفاد «لا تعاد» في العقد المستثنى، فيقع التعارض بينهما كما قرر في محله، فيكون المرجع أو المرجح أدلة الاشتراط.

و أما حال حديث الرفع و قوله عليه السلام في صحيحة زرارة:

«لا صلاة إلا بطهور» مع الغض عن «لا تعاد» فلا يبعد أن يقال بتحكيمه على حديث الرفع، فان الحديث يرفع الشرط و الجزء بعد مفروغية كون المأتي به صلاة، و الصحيحة ترفع الموضوع، و مع عدمه لا معنى لرفع الجزء و الشرط، تأمل. فتحصل من ذلك أن مقتضى القواعد بطلانها مع فقد الطهور نسيانا.

و تدل عليه مضافا الى ذلك روايات مستفيضة، كصحيحة زرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منى فعلمت أثره الى أن أصيب له الماء، و حضرت الصلاة، و نسيت أن بثوبي شيئا و صليت، ثم أني ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصلاة و تغسله، قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه و علمت أنه أصابه فطلبته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 579

فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال: تغسله و تعيد» إلخ «1» و صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه و هو لا يعلم، فلا اعادة عليه، و إن هو علم قبل أن يصلي فنسي و صلى فيه فعليه الإعادة» «2».

و موثقة سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى

أن يغسله حتى يصلي، قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشي ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه» «3» الى غير ذلك مما وردت في البول و الدم و الاستنجاء كموثقة سماعة قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة فلم تهرق الماء، ثم توضأت و نسيت أن تستنجي فذكرت بعد ما صليت فعليك الإعادة، فإن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتى صليت فعليك إعادة الوضوء و الصلاة و غسل ذكرك، لأن البول مثل البراز» «4» و قريب منها غيرها «5».

و بإزائها روايات: منها صحيحة العلاء عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه، فينسى أن يغسله فيصلي فيه، ثم يذكر أنه لم يكن غسله أ يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(4) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5

(5) المروية في الوسائل- الباب- 18- من أبواب نواقض الوضوء- و الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 580

قد مضت الصلاة و كتبت له» «1».

و منها موثقة عمار بن موسى قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: لو أن رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة» «2» و نحوها غيرها و لو لا روايات الاستنجاء أو أمكن الالتزام باختلاف حكمه مع غيره كما قيل لأمكن الجمع بين روايات الباب بالتفصيل بين نسيان الغسل عن أعيان النجاسات كالدم و المني و غيرهما فيقال فيه بالإعادة، و بين نسيان غسل

المتنجس بها فيقال بعدمها، فان مورد روايات إيجاب الإعادة نسيان الأعيان و مورد صحيحة العلاء تنجس الثوب بها، لكن مضافا الى بعد ذلك جدا ان هذا التفصيل لم ينقل من أحد و لو احتمالا.

و يمكن الجمع بين الروايات بحمل ما دلت على عدم الإعادة على الحكم الحيثى، بقرينة موثقة سماعة الأولى، فإن ظاهرها أن إيجاب الإعادة انما هو لعقوبة الناسي و عدم اهتمامه، فتحمل روايات إيجابها على كونه للعقوبة لا جبرا لبطلانها، و اخبار نفيها على انها لا تعاد لأجل فسادها، و قد مضت صلاته و كتبت له، لكن تجب الإعادة لكي يهتم بالشي ء.

و هذا الجمع و ان كان أقرب من حمل روايات الإعادة على الاستحباب لإباء بعضها عنه، سيما مع ما أشرنا إليه من أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى فساد الصلاة، كما ان النهي عنها إرشاد إلى صحتها، و الحمل على الاستحباب النفسي بعيد في الغاية و غير مقبول عرفا، لكنه أيضا بعيد عن مذاق العرف، و ليس جمعا عقلائيا مقبولا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 581

و أبعد منه التفصيل بين الوقت و خارجه بشهادة صحيحة علي بن مهزيار قال: «كتب اليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل، و أنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه و لم يره، و أنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، و تمسح بدهن فمسح به كفه و وجهه و رأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى، فأجابه بجواب قرأته بخطه أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشي ء إلا ما

تحقق، فان حققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، و ما فات وقتها فلا اعادة عليك لها من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت و ان كان جنبا أو صلى على غير وضوء، فعليه اعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء اللّٰه» «1» و أنت خبير بأن الروايات آبية عن هذا التفصيل، و لو سلمت هذه الصحيحة عن الخدشة فكيف يمكن حمل موثقة الساباطي المتقدمة على نفى القضاء، و كذا الحال في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل ذكر و هو في صلاته أنه لم يستنج من الخلاء، قال: ينصرف و يستنجي من الخلاء، و يعيد الصلاة، و ان ذكر و قد فرغ من صلاته فقد أجزأه ذلك و لا إعادة» «2» فضلا عن أنه لم تسلم عنها سندا لاضمارها، و ان كان المظنون كون المسئول عنه أبو الحسن الرضا أو أحد الإمامين بعده عليهم السلام، و متنا، و هو واضح.

و المظنون أن فيها سقطا بعد قوله عليه السلام: «و ما فات وقتها»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 582

و لا يبعد أن يكون السقط نحو هذه العبارة «و إن كان ثوبك نجسا» و يكون قوله: «و ما فات وقتها» عطفا على سابقه لا استينافا «1» و يكون المراد من قوله: «إن الثوب خلاف الجسد» ان النجاسة خلاف

الحدث الذي محله الجسد.

و كيف كان لا يمكن الاتكال على مثل هذه الرواية و التصرف بها في سائر الروايات و تخصيص القواعد بها.

و الانصاف ان الروايات متعارضة، و الترجيح لروايات إيجاب الإعادة، بل الظاهر عدم عمل متقدمي أصحابنا بروايات نفي الإعادة و أعرضوا عنها، فلا تصلح للحجية، لما ذكرنا أن العمل بالاخبار لبناء العقلاء و إمضاء الشارع، و في مثل تلك الروايات التي لم يعمل بها رواتها لا يتكل العقلاء عليها، فهي ساقطة عن الحجية، لا مرجوحة بعد الفراغ عن حجيتها.

و مع الغض عنه فالترجيح مع أخبار الإعادة، لموافقة مقابلاتها للعامة كأبي حنيفة و الشافعي في القديم و الأوزاعي، حيث ذهبوا على ما حكي عنهم الى عدم وجوب الإعادة في الناسي و غيره، بل ذهب أبو حنيفة إلى استحباب الاستنجاء من الغائط، فتحمل موثقة عمار على التقية، و رواية هشام بن سالم ضعيفة، مع أن اخبار وجوب الإعادة موافقة لقواعد السنة القطعية، و لعلها تكون مرجحة كموافقة الكتاب،

______________________________

(1) و لا يخفى لو قلنا بأنه استيناف يقع التهافت بين صدرها و ذيلها، إذ الظاهر من صدرها أن الإعادة لأجل فساد الوضوء و أن مقتضى الاستيناف الفرق بين ما كان في الوقت و خارجه، و هو لا يلائم قوله في ذيلها: «أو صلى على غير وضوء فعليه الإعادة» إلخ الظاهر في عدم الفرق بين ما كان في الوقت و خارجه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 583

فالأقوى وجوب الإعادة وقتا و خارجا، هذا حال الناسي.

و أما إذا صلى فيه عالما عامدا فعليه الإعادة بلا اشكال نصا و فتوى، نعم يستثنى منه موارد قد تقدم بعضها.

و منها- المرأة المربية لمولود إذا تنجس ببوله قميصها مع

وحدته، فإنها تغسل ثوبها في اليوم مرة واحدة و تجزيها عن الغسل في بقيته، و الأصل فيه رواية أبي حفص عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص واحد و لها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في اليوم مرة» «1» و لا ينبغي الإشكال في سندها بعد عمل الأصحاب بها قديما و حديثا، فأصل الحكم لا اشكال فيه، و انما الكلام في بعض الفروع، و لا بد من الخروج عن القواعد بمقدار دلالتها.

فنقول: إلحاق الرجل المربي بالمرأة محل إشكال، لأن النص مخصوص بها، و لها خصوصية، و هي كونها ضعيفة بحسب النوع جسما و روحا، فيمكن أن يكون التخفيف عليها دون الرجال. فان غسل الثوب في كل يوم كرارا ربما يكون موجبا لمعرضية فساده، و هو مشقة على النساء نوعا دون الرجال، فإلقاء الخصوصية منها أو القطع بالملاك ممنوعان «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) يمكن ان يقال: ان السؤال عن المرأة لا يوجب اختصاص الحكم بها، بل العرف يرى أن السؤال عنها في هذا المورد من باب التغليب، و غير خفي أن غسل الثوب على الرجال مشقة دون النساء، نعم إن الجمود على اللفظ يقتضي الفرق بينهما، و هكذا بين القميص و غيره، و اختصاص الحكم بقميص واحد و بما ولد منها، مع انهم لم يلتزموا بذلك، و الذي يشكل الأمر ذهاب جل الفقهاء الى الفرق بين المربي و المربية كما ذهب إليه الأستاذ دام ظله.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 584

و الظاهر عدم الفرق بين القميص و غيره كالسربال، لا نحو المقنعة التي لا يبول عليها عادة، و

ذلك لإلقاء الخصوصية عرفا، نعم لا يجوز التعدي إلى البدن لعسر الغسل في الثوب دون البدن لاحتياج الأول في تجفيفه الى زمان معتد به دون الثاني، فلا يمكن التعدي.

و هل الحكم مختص بقميص واحد كما هو مورد النص أو يتعدى الى المتعدد مع الاحتياج إليه في اللبس بحيث لا يمكنها الاكتفاء بغيره؟

الظاهر ذلك، لمساعدة العرف في الفهم من النص بإلقاء الخصوصية.

كما أن الحكم لا يختص بما ولد منها فيتعدى إلى المؤجرة و المتبرعة و المربية بغير رضاع، لأن العرف يرى أن الحكم جعل تخفيفا على المرأة المتصدية للطفل من غير دخالة للولادة في ذلك، و انما ذكر المولود مثالا و من باب الغلبة.

كما أنه شامل للذكر و الأنثى «1» و الواحد و المتعدد، و لو قيل باختصاصه بالأولين منهما لا يختص الحكم بهما، لأن المفهوم من النص أن ذلك تخفيف بالنسبة إلى المرأة من غير دخالة لخصوصية الولد، و لا لكونه واحدا، فتوهم أن بول الصبي و الواحد أخف من الصبية و المتعدد فيمكن الاختصاص بهما في غير محله، بعد ما يتفاهم منه أن الحكم جعل للتخفيف على المرأة لا لتخفيف البول.

و الظاهر ان الحكم مختص بالبول لخصوصية فيه دون الغائط فضلا عن سائر نجاساته، و هي كثرة الابتلاء به دون غيره، فلا يمكن التعدي من ظاهر النص، نعم الظاهر ان ملاقي بوله في حكمه.

______________________________

(1) و لا يخفى أن لفظ المولود بحسب اللغة يطلق على الذكر و الأنثى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 585

و الظاهر أن المراد بالغسل في النص ليس إلا ما كان تكليفها في تطهير بول المولود، فان كان ذكرا فبالصب، و إن كان أنثى فبالغسل، فتوهم أن الغسل

في خصوص المورد واجب حتى في مورد جواز الصب ضعيف، و إن شئت قلت: إن الرواية ليست بصدد بيان حال الغسل و كيفيته حتى يقال: أراد بالغسل عنوانه مطلقا، بل بصدد بيان الاجتزاء بتطهير واحد عن الكثير، بل لا إشكال في أنها بصدد تخفيف ما كان عليها، لا تبديل الحكم بحكم آخر فضلا عن التضييق عليها.

و الظاهر أن المراد من اليوم اليوم بليلته، بمعنى كفاية غسل واحد للصلوات النهارية و الليلية، و لا دخالة لبياض اليوم في الحكم، و اختصاص التخفيف باليوم و التضييق في الليل مع أنها أولى بالتخفيف مخالف لفهم العرف من الرواية.

و هل يجب وقوع الغسل في النهار و لا يكفي الغسل في الليل عنه؟

مقتضى الجمود على اللفظ ذلك، لكن الظاهر المتفاهم من الرواية أن اليوم فيها في مقابل اليومين و الثلاثة، و كذا في مقام ردع لزومه لكل صلاة، فلا عناية فيه بحيثية وقوع الغسل فيه، سيما أن السائل إنما سأل عن تكليفها في صلواتها الخمس. و أنه مع الابتلاء بالبول كيف تصنع؟ فترك ذكر الليل و أنه لو ابتليت فيها لا بد من غسله لكل صلاة يدل على أن الغسل مرة واحدة عند الابتلاء به و إرادة الصلاة كاف و لو وقع في الليل، و تكون تلك النجاسة معفوة في سائر الصلوات، و البناء على الشرط المتأخر كما ترى.

و بالجملة لا يفهم العرف لليوم خصوصية و إن كان الغسل فيه أسهل، بل الظاهر المتفاهم أن الغسل الواحد المحتاج إليه كاف لجميع الصلوات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 586

و الظاهر أن المقصود بالغسل في اليوم مرة هو وقوع صلاة منها مع الطهارة و العفو عن البقية، فالغسل

في غير موقع الصلاة و إتيان جميع الصلوات مع النجس غير مراد جزما، و بعبارة أخرى أن الغسل لما كان لأجل الصلاة و لا نفسية له لا ينقدح في الذهن إطلاق في الرواية لوقوعه في أي قطعة من اليوم، بل لا بد من إيقاعه قبل صلاة من الصلوات اليومية، لتقع بعضها مع الطهور.

نعم لا يجب عليها الجمع بين الصلوات بل و لا الصلاتين، لإطلاق الرواية، فلو كان عليها الجمع لكان عليه التنبيه عليه، سيما ان بناءهم في الصدر الأول على تفريق الصلوات، و كانوا يصلون صلاة الظهر أول الزوال و العصر في موقعه، و هكذا في المغرب و العشاء، كما ورد في أخبار المستحاضة من الأمر بتأخير الظهر و تقديم العصر و كذا في العشاءين «1» فيظهر منها أن بناء النساء أيضا كان على التفريق بينها، و مع هذا البناء و العادة لو كان الواجب عليها الجمع بين الصلاتين لوجب عليه التنبيه عليه.

و توهم عدم الإطلاق لها فإنها بصدد بيان الاجتزاء بغسل واحد مقابل الغسل لكل صلاة في غاية الفساد، لأنه سأل عن تكليفها و أنها كيف تصنع مع هذا الابتلاء فلو كان أمر آخر غير الغسل دخيلا فيه لنبّه عليه.

ثم أن الظاهر من الرواية ان الغسل انما هو لتحصيل شرط الصلاة على وزان سائر المكلفين و إن عفي عن الشرط في بعضها، لا أن الشرط المجعول لسائر المكلفين سقط عنها، و جعل لها شرط آخر متأخر، إذا أوقعت الطهارة آخر النهار بعد الصلوات اليومية و الليلية السابقة

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 1- من أبواب الاستحاضة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 587

أو بعد العشاء على احتمال، و متقدم إذا أوقعت

قبلها، و متقدم و متأخر إن أوقعت في خلالها، فان كل ذلك خلاف الواقع و المتفاهم من الدليل، و مع القول بالعفو أيضا لا ينقدح في الأذهان هذا النحو من العفو بأن يكون موقوفا على أمر متأخر تارة و متقدم أخرى و هما معا ثالثة.

فدعوى الإطلاق بالنسبة إلى ساعات النهار ممنوعة، و كذا بالنسبة إلى الصلوات أيضا بأن تكون مخيرة في إيقاعه قبل صلاة من صلواتها الخمس بحيث تصح المتقدمة و المتأخرة بغسلها المتخلل، فإنه أيضا مستلزم لتغير شرط الصلاة بالنسبة إليها من بين سائر المكلفين، و هو مقطوع الفساد.

كما انه لا إطلاق لها يشمل ما إذا غسلت ثوبها للصلاة فبال عليه قبل إتيان الصلاة، فإن الأمر بالغسل في المقام ليس إلا كالأمر به في سائر المقامات، و الفرق بينه و بينها أن الشارع الأقدس خفف عليها إذا غسل ثوبها و صلى فيه مع الطهارة في أول الدورة بالنسبة إلى سائر الصلوات في هذه الدورة.

و الحاصل أن الظاهر منها أنه إذا تنجس ثوبها ببول الصبي غسلته و صلت فيه، فإذا ابتلت به بعدها يكون معفوا عنه، و تصح صلاتها في ذلك اليوم و ليلته، و لا يجوز عليها إتيان الصلاة في النجس في أول الابتلاء و الغسل لسائرها، فإذا ابتلت في الصبح غسلته و صلت بطهور و عفي عن سائر صلواتها الى العشاء، و يجب عليها الغسل ليوم آخر، و إذا ابتلت في الظهر صلت الظهر بطهور و عفي عما بعدها الى العشاء و هكذا، و التلفيق و ان كان محتملا لكن خلاف ظاهر الدليل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 588

فرع: لو كان مع المصلي ثوبان أحدهما نجس و لا يعلمه

بعينه و تعذر غسل أحدهما ليصلي فيه بطهارة صلى في

كل منهما تحصيلا للقطع بفراغ الذمة على المشهور نقلا و تحصيلا، بل لا نعرف فيه خلافا إلا من ابني إدريس و سعيد كما في الجواهر، و عن الشيخ في الخلاف حكاية الخلاف عن قوم من أصحابنا، فأوجبوا الصلاة عاريا، و هو ضعيف مخالف للنص و الفتوى.

ففي صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام أنه كتب إليه يسأله عن الرجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول و لم يدر أيهما هو و قد حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يصلي فيهما جميعا» «1».

و عن الحلي الاستدلال على ما ذهب إليه بأمرين: أحدهما أنه يجب عليه عند افتتاح كل فريضة القطع بطهارة ثوبه، فإن المؤثرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخرا عنها، و المسألة خلافية، و دليل الإجماع فيها مفقود، و الاحتياط يوجب ما قلناه، ثانيهما أن كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة، و كيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعدها و من شأن المؤثر في وجوه الأفعال أن يكون مقارنا لها لا يتأخر عنها.

و الظاهر أنهما يرجعان الى عدم إمكان الجزم بالنية المعتبر في العبادات، و فيه أنه على فرض تسليم اعتبار الجزم لا يتم مطلوبه لعدم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 64- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 589

القطع بكون الصلاة عاريا مأمورا بها، و لا يدل عليه دليل شرعي، و لهذا تمسك هو بفقد الإجماع، و تشبث بدليل الاحتياط، و معه كيف يمكن الجزم بأن المأتي به هو الواجب الشرعي، و الفرض أن الوجوب وجه للواجب يجب العلم به مقارنا للإتيان، بل الإتيان عاريا

أسوأ حالا من الإتيان فيهما، فإنه مع الإتيان فيهما يعلم بإتيان المأمور به الواقعي و إن ترك نية الوجه، و مع الإتيان عاريا لا يعلم بإتيانه بعد الصلاة و لا مقارنا لها، تأمل.

و ليت شعري أنه كيف بنى على تحقق الجزم في الصلاة عاريا مع تمسكه في الواقعة بالاحتياط، هذا مع ما في مبناه من الضعف، لعدم الدليل على اعتباره، و لا يمكن كشف الحكم الشرعي عن الإجماع المنقول فيه، لأن المسألة عقلية كلامية، و لهذا نقل عليها الإجماع في الكتب الكلامية.

و أما ما أجاب عنه صاحب الجواهر من إمكان الجزم في النية في المقام، لأن كل واحد منهما واجب و ان كان أحدهما أصليا و الآخر مقدميا ففيه ما لا يخفى، لأن التحقيق عدم وجوب المقدمات الوجودية فضلا عن المقدمة العلمية، و لا يستفاد من الصحيحة المتقدمة وجوبهما شرعا بعد كون الحكم موافقا للعقل و وضوح عدم تغيير التكليف الشرعي في المورد، فلا يفهم منها إلا الإرشاد إلى حكم العقل، فدعوى كونهما صلاة شرعية متمسكا بها في غير محلها.

ثم على فرض تسليم اعتبار الجزم في النية و حصوله بالصلاة عاريا لا يرد عليه أنه مع الدوران بين سقوط هذا و غيره من الأمور المعتبرة في الماهية لتعين سقوط هذا الشرط المتأخر عن غيره في الرتبة، ضرورة أن القائل باعتباره في العبادات انما يدعي انها بلا نية جازمة لم تقع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 590

عبادة، فالجزم كالنية مقوم لعبادية العبادة، إذ وقوعها على صفة الطاعة للمولى متوقف على انبعاثه ببعثه، و مع عدم الجزم لا يمكن ذلك، فلا تقع ما فعل عبادة، فدار الأمر بين ترك أصلها أو ترك

شرطها أو جزئها، مع أن مجرد التأخر الرتبي لا يوجب أولوية السقوط، بل هي تابعة للأهمية، و القائل يمكنه أن يقول بأهمية النية و ما بحكمها، لتقوم لعبادة بها دون سائر الشروط.

فالتحقيق في الجواب تضعيف المبنى و فساد ما بنى عليه، هذا مع ما تقدم من النص الصحيح الصريح المعمول به.

و لو كانت الثياب كثيرة و أمكن الإتيان بصلاة في ثوب طاهر بتكرارها يجب عليه ذلك حتى يعلم الإتيان بصلاة صحيحة على قاعدة العلم الإجمالي، بل يستفاد حكمها من الصحيحة المتقدمة بإلقاء الخصوصية عرفا.

و لو لم يمكنه إلا صلاة واحدة لضيق أو غيره هل يجب عليه نزع الثوب و الصلاة عاريا أو يصلي في أحدهما أو يتخير بينهما؟ وجوه، و يقع الكلام هاهنا بعد الفراغ عن وجوبها عاريا مع انحصار الثوب النجس كما يأتي في المسألة الآتية، و أما إن قلنا في تلك المسألة بوجوبها في النجس فلا إشكال في وجوبها في محتمل النجاسة في المقام، ضرورة أنه على أي تقدير يجب الصلاة فيه، و كذا إن قلنا فيها بالتخيير بين الصلاة فيه أو عاريا، فإن الإتيان فيه حينئذ مسقط يقيني، لأن الثوب إما طاهر يتعين الصلاة فيه، أو نجس يتخير بين الصلاة فيه أو عاريا و أما إن صلى عاريا فلا يحصل له اليقين بالبراءة، لاحتمال كونه طاهرا يجب الصلاة فيه، ففي مورد دوران الأمر بين التعيين و التخيير يحكم العقل بالتعيين، سيما في مقام إبراء الذمة و الفراغ عن الاشتغال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 591

اليقيني.

فمع وجوبها عاريا في تلك المسألة قد يقال بوجوبها فيه في هذه المسألة، لدوران الأمر بين المخالفة القطعية لدليل الستر و المخالفة الاحتمالية

لدليل مانعية النجس، و قد يجاب عنه باحتمال أن يكون أهمية المانع بحد يقدم مخالفته الاحتمالية على المخالفة القطعية لشرطية الستر، و لازمة التخيير بينهما.

و التحقيق أن يقال: إن كون المورد من قبيل الدوران بين المخالفة القطعية و الاحتمالية يتوقف على استفادة شرطية الستر للصلاة مطلقا بحيث يكون مطلوبا و لو مع النجاسة، و تكون النجاسة أيضا مانعة مطلقا فيكون المورد من قبيل المتزاحمين. و ان قدم الشارع أحدهما و هو المانع على الآخر، و ذلك يتوقف على إطلاق أدلة الستر، و هو مفقود، فان دليله الإجماع الذي لا إطلاق فيه و بعض الأخبار التي في مقام بيان حكم آخر و لا إطلاق فيها.

فحينئذ يحتمل أن يكون الستر الطاهر مطلوبا واحدا فيكون المورد من الدوران بين الموافقتين الاحتماليتين، فان إتيان الصلاة في الثوب لا يكون موافقة قطعية للشرط، كما أن ترك الصلاة في أحد الثوبين ليس مخالفة قطعية في خصوص المقام الذي لا يمكنه إلا صلاة واحدة، فحينئذ يمكن أن يقال: إن الأوجه وجوب الصلاة عاريا، لأن أهمية مراعاة المانع كما أوجبت الصلاة عاريا مع النجس المحرز توجب تقديم الموافقة الاحتمالية فيه على الموافقة الاحتمالية في الستر عقلا في مقام الامتثال، فيجب الصلاة عاريا، إلا أن يقال: إنه مع احتمال تعدد المطلوب يأتي احتمال أهمية الستر من المانع كما يحتمل العكس فالقاعدة التخيير، لكن يمكن أن يقال: إنه مع الشك في اعتبار

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 592

الستر مع نجاسته يكون إطلاق دليل مانعية النجس محكما، هذا مضافا الى جريان البراءة الشرعية عن الستر في حال نجاسته، و هو كاف في وجه التقديم في المقام، فتدبر جيدا و تأمل فإنه

لا يخلو منه.

و هل العمل على طبق حكم العقل يوجب سقوط القضاء بدعوى كشف التكليف الشرعي من حكم العقل بتقديم محتمل الأهمية، و مع إحرازه يحكم بسقوط الأمر، فلا إعادة عليه و لا قضاء، مضافا الى أن إثبات القضاء يتوقف على إحراز الفوت، و هو لا يحرز بالأصل، أو لا يوجبه بدعوى ان كشف الحكم الشرعي يتوقف على إحراز وحدة المطلوب في الستر الطاهر، و أما مع احتمال التعدد فلا يمكن ذلك، و هذا لا ينافي ما تقدم من تقدم محتمل الأهمية، تأمل. مضافا الى أن تقديم محتمل الأهمية على غيره بحكم العقل لا يكشف عن حكم الشرع، فلا دليل على سقوط القضاء.

و أما دعوى أن القضاء مترتب على الفوت، و هو عنوان لا يمكن إحرازه بالأصل ممنوعة، لأن الأمر بالقضاء و ان علق على الفوت في غالب الأخبار، لكن علق على عدم الإتيان و الترك في بعضها، فلا يبعد دعوى عدم دخالة هذا العنوان الوجودي فيه، و موضوعه صرف عدم الإتيان بها في الوقت، أي عدم إتيانها إلى خارج الوقت، و معه لا مانع من إحرازه بالأصل.

و قد يقال بأنه لا شك في الخارج في المورد، لأن ما أتى بها هي الصلاة عاريا و ما لم يأت بها هي مع الثوب، فالمقام نظير الشك في كون الغروب سقوط الشمس أو ذهاب الحمرة مما لا يجري فيه الاستصحاب و فيه ما لا يخفى و لو سلم عدم الجريان في مورد النقض، لأنا لا نريد إثبات حكم للصلاة المتحققة في الخارج، بل الموضوع لوجوب القضاء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 593

عدم إتيان المكلف بالصلاة المأمور بها الى بعد الوقت، و الآتي

بها عاريا يشك في إتيانه للمأمور به شرعا، لاحتمال أن يكون الثوب طاهرا و كان تكليفه إتيانها فيه، فيجري استصحاب عدم الإتيان بالمأمور به، فيجب عليه القضاء، فالأحوط لو لم يكن أقوى إتيانها عاريا و قضاؤها خارج الوقت.

فرع: لو لم يجد إلا ثوبا نجسا

يجب أن يلقيه و يصلي عريانا إذا لم يتمكن من غسله و لم يضطر الى لبسه لضرورة عرفية أو شرعية، كما عن جل المتقدمين بل كلهم عدا ابن الجنيد، فإن المحكي عنه التخيير بين الصلاة فيه و الصلاة عريانا، و لم ينقل ذلك عن غيره الى عصر المحقق نعم حكي عن الشيخ احتماله، لكن ادعى في الخلاف الإجماع على الأول و عن الدروس و المسالك و الروض و الدلائل و المدارك نقل الشهرة فيه، و عن المحقق في المعتبر و العلامة في بعض كتبه و بعض من تأخر عنهما القول بالتخيير، و لم يحك من أحد القول بتعين الصلاة فيه، و انما هو أمر حادث بين بعض متأخر المتأخرين ممن قارب عصرنا.

فالمسألة لدى القدماء ذات قول واحد حقيقة، و لدى المتأخرين ذات قولين الى الأعصار القريبة منا، فحدث قول ثالث فيها.

ثم أنه حكي عن المنتهى أنه لو صلى عاريا فلا إعادة قولا واحدا و عن الذخيرة و الكفاية حكاية الشهرة على أنه لو صلى بالثوب لم يعد، و لعل مرادهما فيما لا يمكن نزعه، أو حكاية الشهرة بين المتأخرين.

و اختلفت آراء العامة فيها، فعن الشافعي يصلي عريانا و لا اعادة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 594

عليه، و عن مالك و محمد بن الحسن و المزني يصلي فيه و لا اعادة عليه، و عن أبي حنيفة إن كان أكثره طاهرا لزمه أن يصلي

فيه و لا اعادة عليه و إن كان أكثره نجسا فهو بالخيار بين أن يصلي فيه و بين أن يصلي عريانا و كيف كان ما صلى فلا اعادة عليه، و منشأ الاختلاف بيننا اختلاف الأخبار فمما تدل على الصلاة فيه صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره، قال:

يصلي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «1» و قريب منها صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّٰه عنه عليه السلام «2» و موثقته «3» و هما رواية واحدة و يحتمل في هذه الروايات أن يكون السؤال عن عرق المجنب، كما سئل عنه في روايات عديدة، و حمل شيخ الطائفة رواية الحلبي علي عرق المجنب من الحرام، و ما ذكرناه و إن كان خلاف المظنون لكنه ظنّ خارجي لا دليل على حجيته، تأمل.

و أما موثقة الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه سأل عن رجل ليس معه إلا ثوب، و لا تحل الصلاة فيه و ليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال يتيمم و يصلي، فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة» «4» فلا يظهر منها بأنه يصلي فيه، سيما مع قوله:

«و لا تحل الصلاة فيه» فيمكن أن أقره على عدم الصحة و أراد بالصلاة الصلاة عريانا، و الظن الخارجي بأن المراد الصلاة فيه قد مر حاله.

و أما صحيحة الحلبي الأخرى أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام «عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله قال:

يصلي فيه» «5» من المحتمل قريبا وقوع التقطيع فيها، فإن الحلبي روى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 45- من أبواب

النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 595

ثلاث روايات إحداها ما تقدمت، و هي متعرضة لحكم الثوب الذي أجنب فيه، و الثانية متعرضة لحكم البول، و هي أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل .. إلخ التي تقدمت آنفا، و الثالثة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره قال: يصلي فيه إذا اضطر اليه» «1».

فيحتمل أن تكون الثالثة هي الأصل، و الأوليان تقطيع منها، إذ من البعيد أن يسأل الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام تارة عن الثوب الذي أجنب فيه و أخرى عن الثوب الذي أصابه البول، و ثالثة عن كليهما، فقيد الاضطرار غير مذكور للتقطيع، و هذا و إن كان غير مرضي في غير الباب، لكن يوجب فيه نحو وهن فيها لخصوصية فيه، و الرواية الثالثة إما ظاهرة في الاضطرار في اللبس لبرد أو ناظر محترم أو محتملة له، لا يمكن معه استفادة الإطلاق منها.

فبقيت صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟ قال: إن وجد ماء غسله و إن لم يجد ماء صلى فيه، و لم يصل عريانا» «2» فهي صريحة الدلالة و صحيحة السند، لكن ربما يمكن الخدشة فيها بأن الظاهر من إصابة الثوب أنه وجده مطروحا كاللقطة، فكيف أجاز التصرف و الصلاة فيه، و هو

نحو وهن فيها.

و لو نوقش في الخدشات بضعف الاحتمالات المتطرقة و ظهورها في صحة الصلاة في الثوب النجس كما هو الصواب يمكن أن يقال: إن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 596

وجه الجمع بينها و بين موثقة سماعة قال: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و ليس معه إلا ثوب فأجنب فيه، و ليس يجد الماء، قال: يتيمم و يصلي عريانا قائما يومئ إيماء» «1» و نحوها روايته الأخرى «2» إلا أن فيها: «و يصلي قاعدا» و عن الكليني و الشيخ رواية الموثقة أيضا كذلك، و مصححة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة، و ليس عليه إلا ثوب واحد و أصاب ثوبه مني، قال: يتيمم و يطرح ثوبه فيجلس مجتمعا فيصلي فيومئ إيماء» «3» بحمل الأخبار المتقدمة على حال وجود الناظر المحترم بدعوى أن قوله:

«و هو في الفلاة» لإفادة فقدان الناظر المحترم فتكون أخص مطلقا منها فتقيد بها.

و تشهد له رواية الحلبي المتقدمة، و حملها على اضطرار اللبس للصلاة تأكيد، و التأسيس خير منه و أظهر، و لو نوقش في ذلك بأن ذكر الفلاة توطئة لبيان عدم اصابة ثوب آخر و عدم اصابة الماء.

و بمنع ظهور رواية الحلبي في الاضطرار التكويني بعد كون الصلاة عند المسلمين من الضروريات التي يصدق معها الاضطرار، فصارت الروايات متعارضة، فلا ينبغي الإشكال في ترجيح الروايات الحاكمة بالصلاة عاريا على معارضاتها بل لا تصلح هي للحجية، لإعراض الطبقة الأولى من أصحابنا عنها، و الميزان في وهن الرواية هو إعراض تلك

الطبقة المتقدمة.

و الظاهر أن المحامل التي تراها من شيخ الطائفة مما هي مقطوع

______________________________

(1) و لعل التعبير بالمضمرة أولى، راجع الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 597

الخلاف، و لا يليق بجنابة- كحمل صحيحة علي بن جعفر على الدم المعفو عنه، و حمل الأخبار الأخر على صلاة الجنازة- انما هي بعد مفروغية عدم صلوحها للعمل، لا أن اتكاله على هذا الجمع في الفتوى.

فترك الروايات المتكثرة الصحيحة الظاهرة الدلالة لأجل روايتين ربما يخدش في سندهما بالقطع، و بأحمد بن محمد بن يحيى، و محمد ابن عبد الحميد، و سيف بن عميرة إلى عصر المحقق، و عدم طرح أحد من أصحابنا هاتين الروايتين حتى صاحب المدارك الذي دأبه الاشكال و الخدشة في الروايات، فإنه لم يردهما بل جعل الأخذ بالروايات الأولى أولى.

يدفعنا عن الاستبداد بالرأي اغترارا بصحة تلك الروايات و كثرتها ففي مثل المقام يقال: كلما ازدادت الروايات صحة و كثرة ازدادت ضعفا و وهنا، هذا مع موافقتها لمالك و غيره ممن تقدم ذكره و لأبي حنيفة غالبا، و الروايتان الآمرتان بالصلاة عاريا مخالفتان لأبي حنيفة و مالك و هما من عمد الفقهاء من أهل الخلاف في عصر صدور الروايات، و لم يكن الشافعي موجودا فيه، بل لعله لم يكن معتمدا في زمن أبي الحسن عليه السلام، فإنه كان شابا في عصره، فلا ينبغي الإشكال في تعين الصلاة عاريا.

فما قد يقال: من أن أصل الستر أولى بالرعاية من وصفه أو أنه مع إلقائه يلزم ترك السجود و الركوع الاختياري اجتهاد في

مقابل النص المعمول به.

ثم أنه مع عدم تمكنه من النزع لعذر عقلي أو شرعي صلى فيه بلا إشكال، لعدم سقوط الصلاة بحال، و تكون صحيحة مجزية لا تجب إعادتها كما عن المشهور، و هو الموافق للقواعد، و ما في موثقة الساباطي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 598

من الأمر بالإعادة فمع اشتمالها على التيمم محمول على الاستحباب.

خاتمة في باقي المطهرات: و هو أمور:
اشارة

-

الأول: المطر،

و مطهريته كطهارته من الواضحات التي لا ينبغي التكلم فيها، كيف و هو من أقسام الماء المطلق الذي خلقه اللّٰه طهورا، و نزل فيه قوله تعالى وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1» و قوله:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «2» إلخ، و لهذا لم يعنون في كلمات القوم أصل طهوريته أو طهارته، و انما أفردوه بالذكر لبيان حكمين آخرين:

أحدهما عدم انفعاله بملاقاة النجس حال تقاطره، مع أنه من أقسام الماء القليل، فكان معتصما حين نزوله، سواء فيه القطرات النازلة المعتصمة بعضها بالبعض كالماء الجاري و الكر المعتصم بالمادة و الكثرة، أو ما اجتمع منه بعد النزول و كان قليلا بشرط تمطير السماء فعلا و عدم الانقطاع و ارتباط بينهما، و ثانيهما كيفية التطهير به، و أن مجرد اصابته للمحل المتنجس موجب لطهارته بشرط قابليته لها.

ثم اعلم انا لو التزمنا باعتبار الكرية في الماء الجاري أو قلنا باعتبار العصر فيه في مثل الثياب أو التعدد في الأواني لا يوجب ذلك التزامنا باعتبارها في المطر، لعدم دليل على مشاركته للجاري في الأحكام و الشروط، و انما حكي الشهرة على أن ماء المطر كالجاري في عدم الانفعال

______________________________

(1) سورة الفرقان: 25- الآية 51.

(2) سورة الأنفال: 8- الآية 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 599

و تطهير ما اصابه بعد الفراغ عن عدم اعتبار ما تقدم، أي الكرية و العصر و التعدد في الجاري، فمع سقوط تلك القيود نزلوا المطر منزلته لا لقيام دليل على التنزيل، فالمتبع في ماء المطر الأدلة الخاصة.

فنقول: تدل على الحكمين- مضافا الى الشهرة المنقولة و اعتراف بعض الأعيان بعدم معرفة الخلاف بين الأصحاب، بل عن الذخيرة الظاهر

عدم الخلاف في أنه لو أصاب حال تقاطره متنجسا غير الماء طهر مطلقا، اللازم منه عدم انفعاله- مرسلة عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت: أمرّ في الطريق فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أن الناس يتوضئون، قال: ليس به بأس لا تسأل عنه، قلت: يسيل على من ماء المطر أرى فيه التغير، و أرى فيه آثار القذر. فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضأ على سطحه، فيكف على ثيابنا، قال: ما بذا بأس، لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1».

و الظاهر جبر سندها بالشهرة، لنقل جمع من الأعيان الشهرة على الحكم الثاني من الحكمين المتقدمين، و ليس في المسألة دليل صالح للاتكال عليه إلا المرسلة، و لهذا لم يرمها صاحب المدارك بالضعف، و قال الأردبيلي بعد الإشكال في طريقها «و قد يقال: ينجبر بالشهرة، و فيه تأمل» و الظاهر تأمله في الانجبار بالشهرة لا في تحققها، و لعله استشكل في أصل الانجبار بها أو ثبوت اتكالهم عليها.

أقول: في مثل هذا الحكم المخالف للقواعد المفقود فيه الدليل إلا المرسلة و المرسلة الآتية على إشكال فيها يطمئن النفس بأن اتكالهم كان عليها، و هذا يكفي في الجبر.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 600

و لا إشكال في دلالتها على مطهريته بمجرد الإصابة من غير لزوم خروج الغسالة أو شرط آخر فيما يعتبر في الغسل بالماء القليل، و لازمة عدم انفعاله، إذ لو انفعل لما يمكن التطهير به مع بقاء الغسالة، فتدل على الحكمين.

ثم أن قوله: «أمرّ في الطريق» إلخ في صدرها سؤال

عن مورد يظن بكون ما سال من الميزاب نجسا، فان المراد بتوضي الناس إما استنجاؤهم أو الوضوء لكنهم كانوا يتوضئون في محل يبولون فيه و يستنجون، فأجابه بما أجاب، ثم سأل عن سيلان المطر مع فرض العلم بملاقاته للنجاسة برؤية آثارها فيه، و رؤية تغيير فيه، و هذا التعبير لا يدل على كون ماء المطر متغيرا، و لو فرض أن المراد التغيير بالنجاسة فإن الظاهر من رؤية التغيير فيه أن فيه آثار القذارة بأن يكون بعض الماء الذي يسيل متغيرا، فقوله: «و أرى فيه آثار القذر» على هذا يكون بيانا للجملة المتقدمة.

و بالجملة الظاهر منه عدم تغير جميع الماء، بل رأى تغيرا و آثارا من القذارة فيه، فأجاب بأنه لا بأس به، و علله بأن كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر.

لا يقال: التعليل لا يناسب هذا الحكم، لأن المناسب أن يقول:

ماء المطر لا ينفعل، لا أنه مطهر لما يراه، لعدم التنافي بين مطهريته و تنجسه به كغسالة ماء القليل، فإنه يقال: يحتمل أن يكون المراد تطبيق الكبرى على الماء الذي يسيل و يرى فيه آثار القذر، فأفاد أن هذا الماء الذي يسيل حال تقاطر المطر يطهر ما أصابه فكيف يتنجس به، بل كيف يمكن انفعاله، فان الماء المتنجس لا يكون مطهرا، فأفاد المراد بلازمه بنحو بليغ.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 601

و يحتمل أن يكون المراد تطبيقها على الماء حال وصوله الى المحل القذر قبل جريانه، بأن يقال: إن ماء المطر ليس كسائر المياه القليلة لأنه بمجرد الإصابة مطهر، و ما من شأنه ذلك لا بد و أن لا ينفعل بملاقاة النجس و لو بمثل الأعيان النجسة، لعدم الفرق في

التنجس بينها و بين ما تنجس بها، تأمل.

و كيف كان لا إشكال في إفادتها الحكمين المتقدمين.

و تدل عليهما أيضا مرسلة محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السلام «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله، و ان كان الطريق نظيفا فلا تغسله» «1» و مقتضى إطلاقها أن طينه طاهر و لو نجسه شي ء قبل المطر، سيما مع تعقبه بقوله عليه السلام: «إلا أن يعلم» إلخ المتفاهم منه أن العلم بنجاسته قبل المطر لا يوجب التحرز، و لعل الأمر بالغسل بعد ثلاثة أيام للاستحباب، و على أي تقدير يظهر منها طهارة المتنجس، و لازمها عدم انفعال ماء المطر، لعدم خروج الغسالة و اختلاط المطر بالطين.

و تدل على الحكم الأول من الحكمين المتقدمين جملة من الروايات:

كصحيحة هشام بن سالم «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب، فقال: لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه» «2».

و صحيحة هشام بن الحكم عنه عليه السلام «في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضره

______________________________

(1) مرت في ص 475.

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 602

ذلك» «1» الى غير ذلك.

و يمكن أن يستدل بها للحكم الثاني في الجملة بأن يقال: إنه بعد عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجس إذا أصاب المتنجس و غلب عليه يصير طاهرا، لصدق الغسل و عدم لزوم إخراج غسالته، و انما اعتبر إخراجها في

الغسل بالماء القليل لانفعاله بالملاقاة، فلا بد في الغسل به من صب الماء عليه و إخراج غسالته لإزالة النجاسة بعد انتقال القذارة من المتنجس الى الماء، كما مر تقريبه في بابه.

و أما ماء المطر فلما لم ينفعل بحكم تلك الروايات فلا يحتاج في التطهير به الى إخراجه من المحل المتنجس، و لازمة تطهيره باصابته و غلبته عليه.

هذا بناء على عدم لزوم العصر في الكثير و الجاري بدعوى صدق الغسل بمجرد نفوذ الماء في المحل، و أما لو بني على عدم صدقه أو شك فيه إلا بعد العصر أو التحريك في الماء حتى ينتقل الماء الداخل في الجملة كما تقدم احتماله أو اختياره فلا تدل تلك الروايات على الحكم الثاني، و على الفرض الأول أيضا لا تدل على تمام المطلوب أي الكفاية عما يحتاج الى التعدد كالبول و الأواني، بخلاف مرسلة الكاهلي المتقدمة، فهي الأصل في إثبات الحكم على نحو الإطلاق.

ثم أن مقتضى إطلاق المرسلتين و صحيحة هشام بن سالم و ذيل صحيحة علي بن جعفر الآتية و رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكنيف يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر عليّ القطرة قال: ليس به بأس» «2» ثبوت الحكم بمجرد صدق المطر من غير اعتبار الجريان على الأرض فضلا عن كونه بحد يجرى من الميزاب، كما لعله

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 603

مراد الشيخ و ابن سعيد، ضرورة فساد توهم أن مرادهما من الجريان منه دخالة الجريان منه في الحكم بحيث لو لم يجر منه بالفعل لفقدانه أو

كون محل التمطير كالصحاري و البراري لم يحكم بمطهريته، فالنقض عليهما بمثل ذلك غير صحيح، فان ذكر الميزاب لبيان تعيين حد الجريان لا اعتبار ذاك الخشب و الجريان منه.

كما أن الظاهر من ابن حمزة أن الحد جريانه من الشعب، قال في بيان ما هو بحكم الماء الجاري: «و حكم الماء الجاري من الشعب من ماء المطر كذلك» و الشعب بكسر الأول: الطريق في الجبل، و مسيل الماء في بطن الأرض، فيرجع كلامه الى اعتبار الجريان بمقدار يسيل من مسيل الجبل المنحدر.

و هو يوافق الجريان من الميزاب الذي ظاهر الشيخ، قال في التهذيب: «قال محمد بن الحسن: الوجه في هذين الخبرين- أي خبر هشام بن الحكم و خبر محمد بن مروان الواردين في ميزابين- أن ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته، و يدل على ذلك ما رواه على بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن البيت يبال على ظهره و يغتسل فيه من الجنابة ثم يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس» «1» انتهى.

و لا يبعد أن يكون مراده مطلق الجريان، و انما ذكر في ذيل الخبرين الواردين في ميزابين وجه عدم الانفعال في موردهما لا تقييد أصل الحكم بقرينة تمسكه برواية علي بن جعفر، فالقول باشتراطه الجريان من خصوص الميزاب فاسد جدا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 604

نعم لا يبعد اعتباره ذلك بحد جرى من الميزاب، لكن الأقرب أنه اشترط أصل الجريان على تأمل فيه أيضا ناش

من أن كتاب التهذيب لم يعمل للفتيا، بل عمل لتأويل الروايات المختلفة، و توجيهها لحفظ القلوب الضعيفة التي ثقل عليها الاختلاف فيها، كما يظهر من أوله، و لم يحضرني كتاب المبسوط.

و كيف كان فالمشهور على ما حكي عدم اعتبار الجريان شهرة عظيمة بل عن الروض أنه جعل المخالف الشيخ، و عن المصابيح بعد نسبته الى فتوى الأصحاب «أنه لم يثبت مخالف ناص» و هو كذلك بالنسبة إلى الشيخ في تهذيبه، على ما تقدم، لكن ظاهر ابن حمزة اعتباره بنحو ما تقدم، و مستند أصل الجريان صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، فتقيد بها المطلقات.

و لا يخفى ما فيه، فان الظاهر من قوله: «البيت يبال على ظهره» إن ظهره معد لذلك، و الظاهر أنه كان متعارفا في تلك الأمكنة و الأزمنة، كما يظهر من سائر الروايات، فحينئذ يكون اشتراط الجريان لخصوصية المورد، لعدم غلبة المطر على النجاسة بلا جريان في مثله مما يكون مبالا، كما أن السؤال عن الاغتسال من الجنابة يؤيده، فيكون اعتبار الجريان للغلبة على النجاسة.

و يحتمل ان يكون المراد من الأخذ من مائه أخذ ما جرى خارج المحل، فإنه إذا كان الماء فيه و كان معدا للبول لم يذهب بالمطر عين النجاسة، و مع بقائها فيه و الأخذ منه لا محالة يبتلي المكلف بها إذا أخذ منه، فيكون القيد للإرشاد إلى الأخذ من المحل الخارج لئلا يبتلى بها، و لهذا لم يذكر الجريان في ذيلها، و هو هكذا «قال: و سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 605

قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه

و لا رجله و يصلي فيه و لا بأس به» «1».

هذا مضافا الى احتمال أن يكون المراد من جريانه فعلية تمطير السماء، فالشرط لأجل أن المحل المعد للبول لا يرتفع جرم البول المتراكم فيه بالمطر، فمع قطع الجريان ينفعل ماؤه كسائر المياه القليلة و الانصاف أنه لا يجوز رفع اليد عن الإطلاقات سيما مثل قوله عليه السلام: «ما أصابه من الماء أكثر» «2» بمثل هذه الرواية.

و أما رواية الحميري بإسناده عن علي بن جعفر «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أ يصلى فيه قبل أن تغسل؟ قال: إذا جرى من ماء المطر فلا بأس» «3» فظاهرها أن ما يكف إن كان من ماء المطر فلا بأس في مقابل ما كان من البول أو ماء الكنيف، فهي في الحقيقة من أدلة عدم اعتبار الجريان فيه أولا أقل من عدم دلالتها على اعتباره.

كما أن ما في كتاب علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أ يصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جرى فيه المطر فلا بأس» «4» لا ظهور فيه في القيدية بعد مسبوقيته بفرض جريانه في المكان، فكأنه قال: على هذا الفرض لا بأس به، مضافا الى ان الظاهر أن المفروض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2

(2) مرت في ص 601.

(3) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(4) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9 و فيه: «إذا جرى به المطر» و لعل بين التعبيرين فرق.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 606

جريان ماء المطر الى

محل فيه العذرة، و لم يكن ذلك المكان مورد اصابة المطر، فالسؤال عن تمطير السماء في مكان و إجراء مائه في مكان آخر فيه العذرة، فلا يدل على القيدية في مورد البحث، مع أن الشرطية لبيان تحقق الموضوع، فان مفهومها إذا لم يجر فيه المطر لا إذا تحقق المطر و لم يكن جاريا، فالأقوى ما عليه القوم من عدم اعتبار الجريان نعم لا عبرة بالقطرات اليسيرة لانصراف الأدلة عنها، بل لا يبعد عدم صدق المطر عليها عرفا، بل و لغة.

ثم أن التطهير بالمطر متوقف على صدق رؤية مائه للشي ء النجس أي المحل الذي تنجس فإذا تقاطر على بعض الجسم النجس طهر موضع التقاطر لا غير، هذا في غير المائعات.

و أما فيها فلا إشكال في عدم طهارة غير الماء منها به، لعدم إمكان رؤيته جميع أجزائها، و ما وصل إليه أيضا لا يطهر للسراية، ففي مثله لا يمكن حصول الطهارة، و إن شئت قلت: إن قوله عليه السلام:

«كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» لا يشمل مثل المائعات، فإنها غير قابلة للتطهير كالأعيان النجسة، فان رؤية المطر جميع أجزائها غير ممكن، و بعضها المتصل بالنجس غير قابل له، فلا يشمله الدليل، و من ذلك يعلم الحال في الماء أيضا.

و دعوى صدق رؤيته إياه بتقطير قطرات بل قطرة عليه غير وجيهة لأن المراد من صدقها إن كان صدق الرؤية لهذا الجسم بملاحظة كونه موجودا واحدا، فإذا صدق رؤيته لجزء منه صدق رؤيته له، فلازمه طهارة جميع الأرض إذا تقاطر على نقطة منها المطر، لصدق رؤيته إياها.

و الحل أن الظاهر من قوله عليه السلام: «كل شي ء يراه» إلخ

______________________________

(1) مرت في ص 599.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)، ج 3، ص: 607

بمناسبة الحكم و الموضوع أن الطهارة مخصوصة بموضع الملاقاة دون غيره و هو واضح، و لو قيل: إن مقتضى إطلاق الرؤية طهارة الجزء الذي رآه المطر، و لازمة طهارة جميع الماء للإجماع على عدم محكومية الماء الواحد بحكمين يقال له: بعد تسليم ثبوت الإجماع المذكور أنا نمنع إطلاقها لمثل المورد، لعدم إمكان قبوله للتطهير كسائر المائعات، فإن الجزء المائع المتصل للنجس اللازم الانفعال منه لا يصير طاهرا بورود المطهر عليه.

بل لو لا الإجماع على قبول المياه للطهارة و دلالة بعض الأخبار عليه كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الواردة في ماء البئر «1» و ما وردت في ماء الحمام «2» لكان الحكم بقبوله لها مشكلا، و المتيقن من الإجماع طهارته بعد الامتزاج، كما أن مورد الروايات المتقدمة ذلك فالأقوى عدم طهارة الماء المتنجس إلا بالامتزاج بالمعتصم.

و قد يقال بدلالة مرسلة الكاهلي على طهارته بالتقاطر عليه على بعض نسخ الكافي كما نقل في الوافي «و يسيل على الماء المطر» بتعريف «الماء» و جره بعلى و كون «المطر» فاعل «يسيل» قال في الوافي:

«و الغرض من السؤال الثاني أن المطر يسيل على الماء المتغير بالقذر فيثب من الماء القطرات و ينتضح عليّ، و البيت يتوضأ على سطحه سؤال آخر» انتهى بدعوى إن كل شي ء يراه .. إلخ بعد تعقبه بذلك يدل على المطلوب.

و فيه مع عدم ثبوت صحة هذه النسخة- و لهذا لم يشر إليها المحدث المجلسي في مرآته و لا الحر في جامعه و الاستشهاد على صحتها بمنافاة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(2) المروية في الوسائل- الباب- 7- من أبواب الماء المطلق.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 608

فرض السيلان عليه على النسخة المعروفة مع فرض ورود القطرات عليه غير تام، لإمكان رفع التنافي بأن يقال: إن فرض ورود القطرات قرينة على أن المراد من سيلانه عليه سيلانه من فوق رأسه، فكأنه قال: يسيل عليّ الميزاب فيقطر عليّ منه القطرات- ان سيلان المطر على الماء بناء على هذه النسخة ملازم لامتزاجه به، و لعله مع الامتزاج صدق الرؤية عرفا بنحو من التسامح، مع أن لنا أن نقول: إن تطبيق الكبرى على المورد دليل على صحة النسخة المشهورة لو منع الصدق العرفي مع الامتزاج.

و كيف كان لا يمكن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد و الارتكاز العرفي بهذه النسخة غير الثابتة.

الثاني: [في مطهرية الشمس]

الشمس إذا جففت باشراقها البول و غيره من النجاسات و المتنجسات التي لا يبقى جرمها بعد الجفاف بالتبخير عن الأرض و غيرها مما لا ينقل كالنباتات و الأشجار و أثمارها الموصولة بها و الأبنية و ما يتعلق بها من الأبواب و الأخشاب و المسامير و غيرها، بل عن البواري و الحصر من المنقولات على الأظهر الأقوى في جميع المذكورات.

و قد خالف في أصل الحكم المحدث الكاشاني، فاختار في الوافي عدم مطهريتها، بل عدم العفو حتى عن السجدة عليها، قال في ذيل رواية ابن أبي عمير قال «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أصلي على الشاذ كونة و قد أصابتها الجنابة، قال: لا بأس» «1» بهذه العبارة:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 609

«و الوجه في ذلك عدم اشتراط الطهارة في مواضع الصلاة إلا بقدر ما يسجد عليه، نعم يشترط أن لا يكون فيها- إذا كانت نجسة- رطوبة يتعدى بها

النجاسة إلى ثوب المصلي أو بدنه، و بناء الأخبار الآتية على هذا الأصل، إلا أن جماعة من أصحابنا اشتبه ذلك عليهم، فزعموا أن الشمس تطهر الأرض و البواري» ثم ذكر في ذيل بعض الأحاديث مؤيدات لما اختاره، و حمل صحيحة زرارة الآتية و رواية أبي بكر الحضرمي على المعنى اللغوي، أي عدم سراية القذر، كقوله عليه السلام: «كل يابس زكي» «1» ليوافق سائر الأخبار.

و عن جملة من الأصحاب القول بصحة السجود عليها و بقائها على النجاسة، فيكون البناء على العفو في خصوص هذا الحكم، و المشهور البناء على الطهارة، بل عن جملة منهم دعوى الإجماع عليها.

ففي الخلاف الإجماع على طهارة الأرض و الحصر و البواري من البول، و عن السرائر الإجماع على التطهير بالشمس، و عن كشف الحق ذهب الإمامية الى أن الأرض لو أصابها البول و جفت بالشمس طهرت و جاز التيمم منها، و عن جملة منهم دعوى الشهرة عليها.

و أيضا يظهر من بعضهم اختصاص الحكم بالبول، و عن جملة منهم دعوى الشهرة على التطهير من سائر النجاسات المائعة، و ظاهر بعضهم اختصاص الحكم بالأرض و الحصر و البواري، و عن جملة منهم نقل الشهرة عليها و على كل ما لا ينقل كالنباتات و الأبنية و غيرهما.

و الأقوى في المقامات الثلاثة ما حكي عن المشهور، أي حصول الطهارة و عموم الحكم لكل مائع متنجس أو نجس، نظير البول مما يتبخر باشراق الشمس، و عمومه لكل ما لا ينقل و للحصر و البواري.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 610

و تدل على المطلوب في المقامات الثلاثة صحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه

السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلى فيه فقال: إذا جففته الشمس فصل عليه فهو طاهر» «1» أما دلالتها على الطهارة فلا ينبغي الإشكال فيها.

و توهم أن الطهارة فيها بمعنى عدم السراية كقوله عليه السلام:

«كل يابس زكي» خلاف الظاهر بل الصريح لا يذهب إليه إلا مع قيام قرينة، و سيأتي حال بعض ما يتوهم قرينيته، بل الظاهر من قوله عليه السلام: «فصل عليه» ان شرط الصلاة عليه حاصل.

و معلوم أن المتعارف في تلك الأعصار السجود على المكان الذي كانوا يصلون فيه، نعم من كان على مذهب الحق كان لا محالة يراعي كون المكان مما تصح السجدة عليه، و أما وضع شي ء كتراب قبر مولانا الحسين سلام اللّٰه عليه أو حجر أو خشب فلم يكن معهودا و متعارفا، سيما مع شدة التقية، فسؤال زرارة عن البول في المكان الذي يصلى فيه انما هو عن صحة الصلاة و السجود عليه مع جفاف البول، ضرورة عدم تعقل السؤال عن البول الرطب الساري، فقوله عليه السلام في مقام الجواب:

«إذا جففته الشمس فصل عليه» يدل على حصول شرط السجود، و الحمل على العفو مع بقاء النجاسة خلاف الظاهر المتفاهم، فهل ترى من نفسك بعد معهودية اشتراط الطهارة في ثوب المصلي انقداح احتمال العفو و بقاء النجاسة من قوله مثلا: «إن أصابه المطر صل فيه» و ليس ذلك إلا أن تجويز الصلاة فيه دليل على حصول شرطه.

فيستفاد من الصحيحة مع الغض عن قوله عليه السلام: «فهو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 611

طاهر» حصول شرط السجدة مع الجفاف بالشمس، فاحتمال التجفيف مخالف للظاهر، فضلا عن

احتمال ارتكبه الكاشاني، فإنه بناء على ما ذكره يكون ذكر الشمس و التعليق عليها في غير محله، إذ لو كان الموضوع هو التجفيف فلا معنى للتقييد، و كون الشمس أسرع في التجفيف لا يوجب تعليقه عليها من غير دخالة لها.

هذا مع أن الطاهر في مقابل القذر عرفا و شرعا، و ليس للشارع اصطلاح خاص فيهما، كما مر مرارا، و حملها على عدم السراية مع الجفاف من قبيل توضيح الواضحات بعد وضوحه لدى العرف، و بالجملة لا شبهة في دلالتها و صراحتها على المطلوب و تدل عليه أيضا رواية الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«كل ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر» «1» و في رواية أخرى عنه عليه السلام «ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر» «2» و الظاهر أنهما رواية واحدة، و السند و إن كان ضعيفا بعثمان بن عبد الملك، بل في الحضرمي تأمل، لكن رواية أحمد بن محمد بن عيسى إياها مع ما هو المعروف من طريقته لا يبعد أن تكون نحو توثيق لهما أو دالة على قرينة على صدورها.

و أما صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألته عن الأرض و السطح يصيبه البول و ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟

قال: كيف يطهر من غير ماء؟!» «3» فالظاهر منها أن الشمس تطهر مع الماء سيما لو كان «يطهر» في الذيل من التفعيل و ضميره رجع الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 6- و لا يخفى أن إطلاقها يقيد بالصحيحة أو بها و بالإجماع

(2) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 5- و لا يخفى أن إطلاقها يقيد بالصحيحة أو بها و بالإجماع

(3) الوسائل- الباب- 29- من أبواب

النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 612

الشمس، كما هو المناسب للسؤال، و في نسخة الوافي «تطهر» بالتاء و الظاهر منها كونه من التفعيل لا من باب المجرد، فتكون الرواية دالة على المطلوب، فدعوى الكاشاني بأنها صريحة في عدم التطهر بالشمس غير وجيهة.

و من بعض ما ذكرناه يظهر إمكان الاستدلال للمطلوب- أى حصول الطهارة- بصحيحة زرارة و حديد الأزدي قالا: «قلنا لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلى في ذلك المكان؟

فقال: إن تصيبه الشمس و الريح و كان جافا فلا بأس به إلا أن يكون يتخذ مبالا» «1» فان التفصيل بين ما يتخذ مبالا فلا يجوز فيه الصلاة مع جفافه و بين غيره فيجوز كالصريح في مخالفة مختار الكاشاني، و مع معهودية اشتراط الطهور في محل سجدة المصلي و كون المتعارف عدم وضع شي ء للسجود تدل الرواية على حصول الشرط، أي الطهور، فدعوى أن تجويز الصلاة فيه و نفي البأس لا يدلان على حصول الطهارة لإمكان كونهما مبنيا على العفو خلاف فهم العرف و ظهور الرواية.

نعم فيها مناقشة ناشئة من ضم الريح الى الشمس، و مناقشة أخرى و هي دعوى كون قوله عليه السلام: «و كان جافا» ظاهرا في أن الجفاف موضوع الحكم و لو لم يحصل بالشمس.

و هما ضعيفتان، فان ذكر الريح بعد قيام الإجماع و ظهور الأدلة في عدم دخالته لعله لدفع توهم أن دخالته الجزئية مضرة بتطهير الشمس و من المعلوم أن الشمس إذا أشرقت على موضع و هبّ الريح عليه يكون التأثير في التجفيف مستندا إلى إشراقها، و إن كان للريح أيضا تأثير ضعيف، فلا يكون هذا التأثير مضرا، لا أنه

جزء الموضوع بحيث ينتفي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 613

الحكم بانتفائه.

و أما قوله عليه السلام: «و كان جافا» فلا ظهور فيه لما ادعي، نعم لا ظهور فيه بأن الجفاف حصل بالشمس فقط، و إن لا يبعد ظهوره العرفي فيه، و لو كان فيه إجمال يرفع بسائر الروايات فلا إشكال فيها.

و أما موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس و لكنه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يصلي، و أعلم موضعه حتى تغسله، و عن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطبا فلا يجوز الصلاة حتى ييبس، و إن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك» «1».

كذا في الوسائل، و ليس في الوافي «حتى ييبس» بعد قوله عليه السلام: «ذلك الموضع» و يكون بدل «غير الشمس» «عين الشمس» و بدل «أصابه» «أصابته» و في نسخة من التهذيب مقروة على المولى المجلسي رواها نحو الوافي، إلا أنه جعل فيها لفظ «غير» فوق «عين» مع علامة نسخة، و نقل «أصابه» مذكرا.

و في حبل المتين «ربما يوجد في بعض نسخ التهذيب بدل «عين الشمس» بالعين المهملة و النون «غير الشمس» بالغين المعجمة و الراء و الصحيح

الموجود في النسخ الموثوق بها هو الأول» انتهى.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 614

و في المنتهى رواها نحو ما في الوسائل، و صرح في ذيلها بأن رواية عمار فرقت بين اليبوسة بالشمس و غيرها، و في هامش حبل المتين «و قد ظفرنا في النسخ الصحيحة المعتمد عليها جدا على لفظة «غير» أيضا نسخة، و الظاهر أن الهامش لمصحح الكتاب».

و كيف كان فالموثقة متعرضة لأحكام:

منها- انه إن يبس الموضع بغير الشمس لا يجوز الصلاة عليه حتى يغسل، و وجهه لزوم كون محل السجدة طاهرا، فالمراد من النهي عنها اما عن خصوص السجود، أو عن الصلاة بجميع أجزائها التي منها السجود، لما ذكرناه من عدم تعارف وضع شي ء للسجدة عليه، فلا محالة يكون السؤال عن الصلاة على موضع قذر شاملا للسجود عليه.

و منها- أنه إذا كان الموضع قذرا ببول أو غيره فيبس بالشمس يجوز الصلاة عليه، و التفصيل بين الجفاف بالشمس و غيرها كالنص على ردّ الكاشاني، و ليس المراد من قوله عليه السلام: «ثم يبس» اليبوسة و لو بغير الشمس، بل المراد الجفاف بها، و تخلل لفظة «ثم» لكون الجفاف يحصل بتدريج، فيكون متأخرا عن حدوث إصابتها، و لو كان فيه نوع إجمال يرفع بصحيحة زرارة المتقدمة و بالإجماع، على أن الجفاف بغير الشمس غير مفيد، كما أنه لو كان له إطلاق يقيد بهما.

و التقريب فيها لحصول الطهارة بنحو ما تقدم من أن العرف بعد ما رأى أن الطهارة في محل السجدة معتبرة لا ينقدح في ذهنه من تجويز الصلاة إلا حصول الشرط، و العفو لا ينقدح في الأذهان غير المشوشة بالعلميات «1».

______________________________

(1) أضف

الى ذلك أن الراوي سأل عن مطهرية الشمس و أن مقتضى ارتباط الجواب بالسؤال أن يكون الحكم بتجويز الصلاة عليه كناية عن طهارة الموضع التي هي معتبرة في مسجد الجبهة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 615

و منها- أنه إن أصابته الشمس فلم ييبس و كان رطبا لا يجوز الصلاة عليه حتى ييبس، و الظاهر أن هذه الفقرة مفهوم الفقرة المتقدمة، و قوله عليه السلام: «حتى ييبس» تأكيد لها، و لو فرض الإجمال أو الإطلاق فيها يرفع أو يقيد كما تقدم.

و منها- أنه مع رطوبة الأعضاء لا يجوز الصلاة عليه حتى ييبس و المراد اليبوسة بالشمس بقرينة الفقرة الآتية، أي «و إن كان غير الشمس أصابه» إلخ، و المراد من الفقرتين التفصيل في الصلاة عليه مع رطوبة الأعضاء بين الجفاف بالشمس و غيرها، فتدل على حصول الطهارة بالأول دون الثاني.

هذا على نسخة الوسائل الموافقة لمنتهى العلامة و للنصوص و الفتاوى و المناسب لتذكير الضمير كما في التهذيب و الوسائل، و لعل البهائي و الكاشاني تصرفا في النسخة بعد ترجيح «عين» على «غير» فجعلا الضمير مؤنثا كما يظهر من حبل المتين، حيث جعل «أصابته» بالتأنيث في المتن، و التذكير فوق السطر مع علامة التهذيب، مع أن الرواية من التهذيب فكان نسخه كذلك، و تصرف فيها تصحيحا.

و أما على النسخة الأخرى و هي هكذا «و إن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع و إن كان عين الشمس أصابه حتى ييبس، فإنه لا يجوز ذلك» ففيه احتمالان: أحدهما أن المراد بذلك الموضع هو الموضع القذر الرطب أي لا تصل مع رطوبة

الأعضاء على ذلك الموضع و إن كان عين الشمس أصابته إلا أن يبس بالشمس، فيجوز حينئذ الصلاة عليه مع رطوبتها، فكان المقصود بهذه الفقرة إثبات طهارة ما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 616

أصابته الشمس، فتكون مخالفة للقول بالعفو دون الطهارة.

فعلى هذا الاحتمال تكون الفقرة السابقة على هذه الفقرة متعرضة لعدم جواز الصلاة على الموضع حتى ييبس، و هذه الفقرة لجواز الصلاة مع رطوبة الأعضاء فيما إذا يبس الموضع بالشمس، فيكون التعرض لعدم الجواز حتى ييبس توطئة لهذا الحكم، فتدل على طهارة الموضع بالتجفيف بالشمس، و على هذا الاحتمال يكون «حتى ييبس» غاية لعدم جواز الصلاة، نعم يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: «أصابه» فتدل على عدم الطهارة.

و ثانيهما أن المراد الموضع القذر بعد اليبوسة أي لا تصل مع رطوبة الأعضاء على الموضع الذي يبس و إن كان أصابه عين الشمس و يبس بها، فتدل على نجاسة ما يبس بالشمس، و لا ترجيح لهذا الاحتمال على الاحتمال الأول، بل الترجيح معه سيما مع كونه موافقا لسائر الروايات الدالة على الطهارة صريحا، فدعوى الكاشاني بأن الرواية على هذه النسخة صريحة في عدم الطهارة غير وجيهة، بل لا ظهور لها فيه، بل الأرجح دلالتها على الطهارة على هذه النسخة أيضا.

و استدل على عدم الطهارة بها بصحيحة ابن بزيع قال: «سألته عن الأرض و السطح يصيبه البول و ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال: كيف يطهر من غير ماء؟» «1» بدعوى أن المراد من السؤال أن الشمس مطهرة في قبال الماء، و من الجواب أنه كيف يطهر بالشمس؟! بل لا بد من الغسل بالماء.

و فيها أن هاهنا احتمالا آخر أقرب منه بلفظ

الرواية، و هو أن الشمس في تطهيرها تحتاج الى ماء أو يطهر المحل بصرف إشراقها عليه؟

______________________________

(1) مرت في ص 611.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 617

فتعجب من ذلك، و قال: كيف تطهر من غير ماء؟! أي تحتاج في التطهير الى التبخير و التجفيف، و هما لا يتمان إلا بماء، و لعل المراد بالماء مطلق المائع القابل للتبخير، و لهذا نكره، و لو نوقش في ذلك يجب تقييد إطلاقها بصحيحة زرارة.

و انما قلنا هذا الاحتمال أقرب لأن الرواية مشعرة بأن مطهرية الشمس كانت مفروضة، و انما سئل عن كيفيتها، و ان الإشراق بلا ماء كاف أولا، و قوله عليه السلام: «كيف يطهر» معناه كيف يطهر المحل بالشمس فقط من دون ماء سيما على نسخة الوافي، فإن فيها «تطهر» بالتاء المثناة، و الظاهر انه من التفعيل بمناسبة السؤال، و سيما مع تنكير «ماء» فإنه مشعر بأن المراد ليس التطهير بالماء على النحو المعهود، بل لا بد فيه من ماء يتبخر بالشمس.

و مع تساوي الاحتمالين لا يجوز رفع اليد عن صحيحة زرارة و غيرها الناصة على الطهارة بمثلها، بل مع فرض أرجحية الاحتمال الأول صارت معارضة لها، و الترجيح معها لموافقتها مع الشهرة و الإجماعات المنقولة، و الانصاف أن طرح الصحيحة الصريحة بمثل هذه المضمرة المجملة غير جائز «1».

و أما الروايات الواردة في الشاذكونة و غيرها مما تدل على جواز الصلاة عليها مع الجفاف بلا تقييد بالشمس- و هي التي صارت موجبة لاغترار الكاشاني و ارتكابه للتأويل البعيد في صحيحة زرارة و غيرها- فهي مطلقات يمكن تقييدها بتلك الروايات، و مع المناقشة فيه فالتصرف

______________________________

(1) و يمكن حملها على التقية إذ أكثر أهل العامة

يخالفونا في هذا الحكم، و لذا قيل: إن ما يظهر من كلام العلامة ان هذا الحكم مختص بالطائفة الحقة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 618

فيها بحملها على جواز الصلاة فيها أو عليها إذا كان موضع السجدة طاهرا بتقييدها بالإجماع على لزوم طهارته أولى من التصرف في صحيحة زرارة و نحوها الموافقة للشهرة و الإجماعات المنقولة، هذا حال إحدى المقامات الثلاثة.

و أما دلالة صحيحة زرارة على تعميم الموضوع و عدم الاختصاص بالسطح و المكان الذي يصلي فيه فبالقاء الخصوصية عرفا، بل لدلالة الشرطية على أن تمام العلة للتطهير هو تجفيف الشمس من غير دخالة القابل فيه و المقام، لا يقصر عن سائر المقامات التي يدعي فيها إلقاء الخصوصية عرفا.

و بالجملة لا ينقدح في ذهن العرف من هذا الكلام أن السطح بما هو مكان خاص أو مكان المصلي بما هو كذلك دخيل في تطهيره بالشمس، بل يرى أن التأثير للشمس و إشراقها و التجفيف بها، من غير دخالة الأرض و السطح و مكان المصلي فيه، نعم لو كان الحكم من قبيل العفو لكان لدعوى الخصوصية وجه.

لكن بعد البناء على حصول الطهارة لا ينقدح في الأذهان الخصوصية سيما مع وقوع المكان الخاص في كلام السائل فلو كان يدل هذه الشرطية قوله: «إذا أصابه المطر صل عليه و هو طاهر» هل يختلج في الذهن أن المطر مطهر السطح أو مكان المصلى بحيث يكون للجدار تحت السطح أو لصلاة المصلي دخالة فيه؟ و المقام من قبيله، و عدم معهودية كون الشمس مطهرة لا يوجب فهم الخصوصية بعد دلالة الدليل على أصل الحكم.

و بالجملة أن الظاهر المتفاهم من الشرطية أن السبب الوحيد للتطهير تجفيف الشمس كما هو

المتفاهم في غير المقام، نعم يستثنى المنقولات ما عدا الحصر و البواري عنها بالإجماع و دلالة بعض الأدلة، أو بدعوى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 619

عدم إلقاء الخصوصية بالنسبة إليها بملاحظة الأخبار الواردة في كيفية تطهير الأواني و الثياب و أمثالهما، تأمل.

و يدل على التعميم رواية أبي بكر الحضرمي المتقدمة «1» بعد تقييدها بحصول الجفاف لو لم نقل بانصرافها عما قبله، بعد عدم إمكان كون إشراقها مطهرا مع بقاء عين النجس أو الرطوبة المتنجسة، فلا ينقدح في الأذهان من قوله عليه السلام: «ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر» إلا إذهاب الإشراق عين النجس أو الرطوبة المتنجسة بالتبخير، لكن يجب تقييدها بالمنقولات بالإجماع.

و توهم انصرافها الى غير المنقول الذي من شأنه الثبات و إشراق الشمس عليه كما ترى، إلا أن يدعى الانصراف بملاحظة ما وردت في كيفية تطهير الأواني و الثياب، و هو أيضا لا يخلو من تأمل، و يشهد على التعميم حكاية جمع من الأعاظم الشهرة عليه.

و مما تقدم يظهر الحال في الأمور التي يشك في كونها منقولا أولا لعدم دليل على هذا العنوان، بل ما دل على الاستثناء هو الإجماع، و الواجب الأخذ بالمتيقن منه و هو غير المذكورات و تدل على تعميم الحكم بالنسبة الى غير البول مما هو نظيره في رقته و تبخيره صحيحة زرارة بعد إلقاء الخصوصية منه عرفا، سيما مع كون البول أشد نجاسة من المائعات المتنجسة بسائر النجاسات، بل من كثير من النجاسات.

و يدل عليه أيضا مضافا الى الشهرة المنقولة بتوسط كثير من الأعيان إطلاق رواية الحضرمي و موثقة الساباطي و صحيحة ابن بزيع بناء على أحد الاحتمالين.

______________________________

(1) مرت في ص 611.

كتاب الطهارة (للإمام

الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 620

ثم أن المراد من الجفاف في صحيحة زرارة و غيرها هو حصول اليبوسة كما في موثقة عمار، ضرورة أنه مع بقاء رطوبة عين البول و كذا سائر المائعات النجسة أو المتنجسة لا يطهر المحل، و هو واضح، و الميزان حصول اليبوسة، و عدم بقاء أثر النجس، و لو كان للبول و غيره بواسطة التكرار على المحل جرم لا يتبخر باشراق الشمس لم يطهر، و هذا هو المراد من استثناء المحل المتخذ مبالا في صحيحة زرارة و حديد و لعله مراد الشيخ من استثناء الخمر.

و الظاهر من النصوص أن يكون الجفاف و اليبس حاصلا باشراقها استقلالا، فلو اشترك معه غيره و لو بتنشيف المحل بحيث لا يبقى من الرطوبة السارية شي ء أو أعينت الشمس في فعلها بحرارة و نحوها لا يطهر المحل، و كون الشمس متأخرة في التأثير في بعض الصور لا يوجب استقلالها في حصوله، نعم لا يضر تقليل العين و الرطوبة عنه مع بقاء شي ء من الرطوبة السارية للصدق العرفي.

لا يقال: إطلاق موثقة عمار أي قوله عليه السلام: «إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة» يقتضي طهارته و لو مع نداوة غير سارية فاللازم استقلال الشمس في تحصيل اليبوسة، و هو حاصل و لو كان الوصول الى حد الرطوبة غير السارية بفاعل آخر، بل و لو لم يبق للمحل إلا نداوة ضعيفة جدا، لصدق أن المحل كان قذرا بالبول و يبس بالشمس فإنه يقال: إطلاقها محل تأمل، لأن اليبوسة فيها في مقابل الرطب المذكور في الفقرة الثانية، و هو لا يصدق على النداوة الضعيفة غير السارية،

فان المتفاهم من كون الشي ء رطبا و لو بالانصراف هو كونه ذا نداوة سارية، و لا يلزم أن تكون الرطوبة أيضا كذلك، أي لا تصدق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 621

إلا على السارية، لاختلاف المشتقات بعضها مع بعض أحيانا و لو للانصراف كجري الماء و الماء الجاري، ألا ترى أن الظاهر من قوله عليه السلام في الفقرة الأخرى منها: «إن كانت رجلك رطبة» إلخ كونها ذا نداوة سارية مع إمكان أن يقال: إنها بصدد بيان حكم آخر، و هو حصول اليبس بالشمس تارة و بغيرها أخرى، لا بصدد بيان كيفية التطهير بها مضافا الى أن صحيحة محمد بن إسماعيل على الاحتمال الراجع تقيد الإطلاق لو كان.

هذا مع أن في صحيحة زرارة التي هي الأصل في المسألة علق الحكم على التجفيف، و هو لا يصدق على ما ذكر، و لا يلزم منه كفاية حصول الجفاف مع بقاء رطوبة غير سارية في التطهير، للقرينة العقلية على أن المراد حصول الجفاف الى حد اليبوسة، فلا بد من حفظ مفهوم الجفاف غير الصادق على حصول اليبس من النداوة غير السارية، و التقييد بانتهائه إلى حد اليبوسة.

فالأحوط بل الأقوى عدم الطهارة إلا مع نداوة سارية للمحل، و لو جف بغير الشمس و يراد تطهيره يرش عليه الماء، فإذا جففته الشمس طهر، لعدم الفرق بين النجس و المتنجس.

الثالث: النار،
اشارة

و الكلام فيها يقع في مقامين:

أحدهما- في أنها هل مطهرة كمطهرية الشمس،

فكما أن الثانية مطهرة باشراقها على المحل و تبخير النجس أو المتنجس كذلك الأولى إذا أصابت شيئا طهرته؟ يظهر من الشيخ في مياه نهايته و محكي استبصاره

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 622

ذلك في الجملة، قال في النهاية: «فإن استعمل شي ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به و يخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز، لأن النار قد طهرته» نعم عدل عنه في أطعمتها فقال: «لم يجز أكل ذلك الخبز، و قد رويت رخصة في جواز أكله، و ذكر أن النار طهرته».

و يظهر من المقنع ذلك أيضا، حيث أجاز الأكل من خبز عجين عجن بماء البئر الواقع فيه الفارة و غيرها و ماتت فيها، بناء على انفعال ماء البئر عنده.

و عن خلاف الشيخ و مبسوطة و جمع آخر القول بطهارة الخزف و الآجر مع نجاسة طينهما، و ادعى الشيخ الإجماع عليه، و استدل على الطهارة بصحيحة ابن محبوب الآتية، و الظاهر منهم مطهريتها مع عدم تبدل الموضوع سيما مع الاستدلال بالصحيحة، و قد أفتى الشيخ في أطعمة النهاية بمضمون رواية زكريا بن آدم الظاهر منها أن النار إذا أكلت الدم طهر المرق فكانت مطهريتها فوق سائر المطهرات حتى الماء.

و كيف كان فما يمكن أن يستدل على مطلوبهم روايات.

منها- صحيحة الحسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثم يجصص به المسجد أ يسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطه أن الماء و النار قد طهراه» «1».

بدعوى أن السؤال عن الجص الملاقي للعذرة و العظام الموقدتين عليه و هما ملازمتان للرطوبة، سيما الثانية التي لا تنفك

غالبا عن دسومة سارية في أول الإيقاد، فسئل عن النجاسة العارضة للجص، فأجاب عليه السلام بأن الماء و النار طهراه، و معلوم أنهما لم يقعا عليه دفعة، بل النار أصابته أولا للطبخ و الماء بعدها للتجصيص، و بعد عدم مطهرية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 81- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 623

الماء المخلوط بالجص جزما و إجماعا، و عدم كونه جزء المطهر أيضا كالمرة الثانية في الماء المطهر للبول، فلا محالة تكون المطهرية مستندة الى النار حقيقة، و للماء أيضا نحو تأثير في رفع القذارة العرفية، و لا يلزم منه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي لما مر مرارا من أن الطهارة و القذارة في اصطلاح الشارع ليستا إلا بالمعنى العرفي و اللغوي مع أن الاستعمال في الجامع بعد قيام القرينة لا مانع منه، بل لا يمتنع الاستعمال في المعنيين كما قرر في محله.

فتحصل من ذلك أن الجص النجس بملاقاة النجاسة صار طاهرا بايقاد النار عليه.

و فيه- أن في الرواية احتمالات أخر لعل بعضها أقرب مما ذكر كاحتمال كون السؤال عن الجص الموقد عليه ما ذكر لأجل اختلاطه برمادهما و عدم إمكان تفكيكه عنه، فعليه يكون المراد من التطهير بالنار استحالتهما، و بالماء رفع القذارة العرفية، و التطهير بالاستحالة و تبدل الموضوع غير ما هو المطلوب في المقام.

و كاحتمال كون السؤال لتوهم ان الطبخ بالعذرة و عظام الموتى مناف لاحترام المسجد و السجود فسئل عن جوازه فأجاب بعدم المنافاة لرفع القذارة العرفية بالنار و الماء.

و كاحتمال أن يكون المراد أن إيقادهما عليه معرض لعروض النجاسة فيكون مظنة لذلك، فأجاب بما ذكر، و المراد بالتطهير رفع القذارة المظنونة

أو المحتملة كما ورد الرش في موارد الشبهات في الأخبار.

و الانصاف أن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد بمثل هذه الرواية غير ممكن، جمع أن الظاهر منها أن النار جزء الموضوع للتطهير، و الحمل المتقدم بعيد جدا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 624

و منها- مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في عجين عجن و خبز ثم علم ان الماء كانت فيه ميتة، قال: لا بأس أكلت النار ما فيه» «1».

و فيه- مضافا الى أنه لم يصرح فيها بأن العجين عجن بالماء النجس بل الظاهر منها أنه بعد العجن علم أن في الماء الذي أخذ ماء العجين منه كانت ميتة، فلو فرض أن المأخوذ منه لم يكن بئرا لكن لم يعلم أن الميتة كانت فيه حين أخذ الماء منه أو وقعت فيه بعده فكانت الشبهة موضوعية، و قوله عليه السلام: «أكلت النار ما فيه» لدفع القذارة المحتملة كرش الماء في مثله، و لم يتضح حال من أرسل عنه ابن أبي عمير فلعله كان رجلا مبتلى بوسواس، فأراد أبو عبد اللّٰه عليه السلام دفعها كما نقل عن الشيخ الأعظم أنه يرى رجلا مبتلى بالوسواس يتحرز عن بخار الحمام لكونه بخار الماء النجس، فقال له: إن هذا البخار متصل بالخزانة و هي كر فلا ينفعل، و بالجملة أن الشبهة ظاهرا كانت موضوعية تأمل- أنها معارضة بما هو أوضح سندا و متنا.

و هو مرسلته الأخرى بالسند المتقدم عن بعض أصحابنا و ما أحسبه إلا عن حفص بن البختري قال: «قيل لأبي عبد اللّٰه عليه السلام في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة» «2» و

بالإسناد عنه عن بعض أصحابه عنه عليه السلام قال: «يدفن و لا يباع» «3».

و حمل الثانية على الاستحباب كما ترى، فان دفن المال المحترم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 18

(2) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الأسئار- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 625

تبذير، و لا يبعد حملها على النهي عن بيعه على المسلم، فيجوز البيع على المستحل، و مع عدمه أو عدم اشترائه كما هو الغالب يدفن، فهذه نص في العجين بالماء النجس و الأولى محتمل للأمرين، فتحمل على مورد الشبهة هذا مع عدم نقل عامل بها يعتد به، فان الشيخ قد رجع عن القول به في أطعمة النهاية، و الاستبصار ليس كتاب الفتوى.

و منها- رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله قلت: فإنه قطر فيه الدم، قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّٰه، قلت:

فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم، قال: فقال: فسد، قلت: أبيعه من اليهودي و النصراني و أبيّن لهم؟ قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه» إلخ «1».

و فيه أنها- مع ضعفها سندا و مناقضة صدرها و ذيلها في الدم و مخالفتها لقاعدة انفعال المضاف و تفصيلها بين الدم و غيره و هو كما ترى و ظهور ذيلها في كراهة أكل ما قطر فيه الفقاع- لا تصلح لإثبات هذا الحكم المخالف للقواعد، بل الظاهر منها أن أكل النار الدم موجب لطهارة المرق أيضا،

و هو غير معهود في شي ء من المطهرات.

هذا مضافا الى أن الدم المستهلك في المرق لا تأكله النار بالتبخير أو لا يمكن العلم به إلا بعد تبخير جميع المرق، بل المستهلك ليس بشي ء عرفا حتى تأكله النار، فتحصل مما ذكر عدم كون النار مطهرة مطلقا.

و المقام الثاني- في تطهيرها كل ما أحالته دخانا أو رمادا،

و هذا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 626

الحكم ليس من مختصات النار، و ليست الاستحالة مطهرة، بل هي من قبيل تبديل موضوع بموضوع آخر، كما أن الأمر كذلك في بعض آخر مما يعدّ مطهرا.

و الميزان الكلي في الحكم بالطهارة بالاستحالة تبدل موضوع النجس أو المتنجس بآخر طاهر بنحو لا يصدق عليه عنوان موضوع الدليل الاجتهادي المثبت للحكم على الموضوع الأول، و لم يبق موضوع القضية المتيقنة عرفا حتى يستصحب، فان فرض حصول التغير للموضوع الأول لكن بنحو لم يخرج عن صدق عنوانه عليه أو فرض حصوله بنحو بقي عرفا موضوع القضية المتيقنة المعتبر في الاستصحاب يحكم عليه بالنجاسة و خرج عن موضوع الاستحالة و لو ظاهرا.

نعم قد يتفق حصول التغير على النحو الأول دون الثاني، فيكون المورد مجرى الاستصحاب، لكن قام دليل لفظي اجتهادي أو إجماع أو سيرة على طهارته، فيحكم بها تحكيما للدليل على الأصل.

ثم أن الاختلافات التي وقعت في المقام كالاختلاف في التفرقة بين النجاسات و المتنجسات و عدمها، و كالاختلاف في الآجر و الخزف المعمولين من الطين النجس، و كالاختلاف في الفحم، و في بخار الماء النجس أو المائع النجس، و دخان الدهن المتنجس و غيرها كلها موضوعية، فالقائل بالنجاسة يرى الموضوع الاستصحابي باق، و القائل بالطهارة ينكره أو يشك فيه، و ليست الاختلافات

فيها فقهية و إن يظهر من بعض استدلالاتهم كونها في بعض الموارد كذلك.

ثم أن الانتقال من الاستحالة لو فرض إيجابه لتعدد الموضوع بحيث لا يبقى موضوع الدليل الاجتهادي و لا القضية المتيقنة و ذلك مثل ما إذا انتقل الى النبات و تبدل إلى الرطوبة التي جزء له و خرج عن مسماه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 627

أو شرب حيوان دم إنسان، فتبدل بتصرف جهاز هضمه إلى أجزائه كالدم و غيره، و أما لو لم يتبدل بل انتقل الى المنتقل اليه و بقي على حقيقته فلا يخلو إما أن صدق عليه أنه من المنتقل منه و لم يصدق أنه من المنتقل إليه، أو على عكسه، أو صدقا عليه، أو لم يصدق شي ء منهما عليه، أو صدق أحدهما و يشك في صدق الآخر، أو شك في صدق كل منهما عليه.

و على أي تقدير فاما كان لدليل المنتقل منه إطلاق يشمله، أو للمنتقل اليه، أو لدليلهما، أو لا إطلاق لهما، فمع إطلاق دليل أحدهما و إحراز موضوعه و لو بالأصل دون الآخر يحكم به، فلو أحرز أن الدم من الإنسان كدم مصه العلق و كان لدليل نجاسته إطلاق حكم بها له، و كذا لو شك في تبديل الإضافة لتنقيح موضوع الدليل بالاستصحاب.

و لو كان لدليل طهارة دم المنتقل إليه إطلاق دون المنتقل منه و أحرز كونه من المنتقل اليه يحكم عليه بالطهارة، و لو شك فيه يحكم بالنجاسة للاستصحاب الحكمي.

و لو كان لدليلهما إطلاق و أحرز كونه لهما لو فرض صحة ذلك يقع التعارض بين الدليلين، فيؤخذ بالأرجح لو قلنا بالترجيح في مثل المقام، و مع عدمه يحكم بالنجاسة لو قلنا بسقوطهما في

مثله، بل و كذلك لو شك في كونه مضافا الى المنتقل منه سواء أحرز كونه من المنتقل إليه أم شك فيه، كل ذلك للاستصحاب على تأمل في بعض الصور، و منه يظهر حال الفروض الأخر.

هذا بحسب القاعدة، لكن لا يبعد الحكم بطهارة دم البق و البرغوث و لو مع العلم بأن الدم الذي فيهما من الإنسان لقيام السيرة على عدم الاحتراز منه، و لإطلاق صحيحة ابن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 628

عليه السلام: ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس، قلت أنه يكثر و يتفاحش، قال: و ان كثر» «1».

و رواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دم البراغيث في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال: لا» «2».

و رواية غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «3».

و مكاتبة محمد بن ريان قال: «كتبت الى الرجل عليه السلام هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ و هل يجوز لأحد أن يقيس دم البق على البراغيث فيصلي فيه، و أن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟

فوقّع يجوز الصلاة، و الطهر منه أفضل» «4».

و تلك الروايات و إن وردت في الدم المضاف إليهما، لكن ما يضاف إليهما سيما الى البق هو ما اجتمع في جوفهما من دم الإنسان و أما بعد هضمه فلا يتبدل بالدم عرفا، و لهذا لا يرى للبق دم إلا ما امتصه من الإنسان، و لعل البرغوث أيضا كذلك، و لو كان له دم أيضا لا شبهة في شمول الروايات للدم الذي في جوفه و امتصه من

الإنسان، فالأقوى ما ذكر، و إن كان الأحوط الاجتناب عن الدم الذي امتصه من الإنسان و لم يستقر في جوفه زمانا.

كما أن الأقوى نجاسة الدم الذي امتصه العلق، للاستصحاب، بل لإطلاق الدليل على احتمال، و عدم سيرة أو دليل آخر على طهارته نعم لو صار جزء بدنه و تبدل الى موضوع آخر و لو كان دما طهر.

و اما انقلاب الخمر خلا فلا يكون استحالة للتبدل في الصفة عرفا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 629

فبقي موضوع الاستصحاب، و جرى الاستصحاب الحكمي فيه، بل مع الغض عنه يحكم بنجاسته، لملاقاته مع الإناء المتنجس بالخمر، فلا بد في الحكم بطهارته من قيام دليل مخرج عن الأصل و إطلاق الدليل، و هو النصوص المستفيضة، مضافا الى الإجماع المنقول مستفيضا فيما ينقلب خلا بنفسه، و إطلاق بعض معاقده فيما ينقلب بالعلاج، و عن جمع دعوى الشهرة عليه.

مثل موثقة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا قال: لا بأس» «1».

و موثقة عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلا قال: لا بأس» «2».

و موثقته الأخرى عنه عليه السلام أنه قال: «في الرجل إذا باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا قال:

إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» «3».

و الظاهر منها جعلها خلا بالعلاج، فان الخمر بنفسها و لو بقيت طويلا لا تصير خلا، فالمراد من جعلها

خلا هو علاجها حتى صارت كذلك، بأن يوضع فيها شي ء كالخل و الملح.

هذا مع تصريح بعض الروايات به، مثل ما عن ابن إدريس نقلا عن جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه سئل عن الخمر تعالج بالملح و غيره لتحول خلا قال: لا بأس بمعالجتها» إلخ «4» و صحيحة عبد العزيز بن المهتدي على الأصح قال: «كتبت الى الرضا عليه السلام جعلت فداك العصير يصير خمرا فيصب عليه الخل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 630

و شي ء يغيره حتى يصير خلا، قال: لا بأس به» «1».

فما في بعض الروايات الشاذة من المنع مطروح أو مؤول و محمول على الكراهة، مثل ما عن العيون عن على عليه السلام «كلوا من الخمر ما انفسد، و لا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم» «2».

و رواية أبي بصير- و لا يبعد أن تكون صحيحة- عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخمر يجعل فيها الخل فقال: لا إلا ما جاء من قبل نفسه» «3» مع ما في الأولى من الإجمال، بل الثانية لا تخلو منه أيضا.

و أما موثقة أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر تجعل خلا قال: لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها» «4» ففي الوسائل و الكافي «يغلبها» بالغين المعجمة، و في بعض كتب الاستدلال «يقلبها» بالقاف، و الظاهر أنها موافقة لمضمون روايته الأخرى عنه قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر يضع فيها شي ء حتى تحمض، قال: إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس به» «5».

فهي مؤيدة لصحة نسخة الكافي و الوسائل، و فيها نحو إجمال يرفع بما في النسختين، فيكون المراد من الروايتين النهي عن غلبة ما يعالج به الخمر لتصير خلا، فلا يجوز صب مقدار منها في خل كثير، و لا تطهر و لو مع العلم بصيرورتها خلا لأنه صار نجسا بصبها فيه، و لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8

(2) راجع عيون أخبار الرضا عليه السلام- الباب- 31- الحديث 127

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(4) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 631

دليل على صيرورته طاهرا بالتبع، فان ما طهر بالتبع هو شي ء يصب للعلاج بحسب المتعارف كمقدار من الملح أو الخل مما يتعارف صبه فيها للانقلاب.

فما عن الشيخ من القول بطهارة الخمر القليلة الملقاة في خل كثير إذا مضى عليها زمان يعلم عادة باستحالتها ضعيف، لا لما قيل بأن صب المائع حتى للعلاج محل اشكال فضلا عن غيره، فان الخل الوارد في الأدلة من المائعات مضافا الى أن مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق بل منشأ الاشكال أن المستفاد من الأدلة هو طهارة ما يعمل علاجا و يتعارف استعماله فيه دون غيره، فإلقاء الأجسام الأجنبية فيها سواء كانت من المائعات أو الجامدات لتصير طاهرة بالتبع محل إشكال و منع، بل الإشكال في الجامدات أشد إذا كانت المائعات بمقدار يستهلك فيها و

إن زاد عن المتعارف، بل مع الاستهلاك يكون للقول بالطهارة وجه نعم يمكن أن يقال: إن مقتضى موثقتي أبي بصير جواز جعل الخل و غيره فيها إذا لم يغلبها و ان زاد عن المتعارف، لكن الاتكال عليهما مع اختلاف نسخة الأولى و الإجمال في الثانية لا يخلو من اشكال، فالأحوط عدم التجاوز عن المقدار المتعارف للعلاج.

و أما ذهاب الثلثين فلا موجب للبحث عنه بعد ما تقدم من عدم نجاسة العصير بغليانه، و لو فرض حصول الإسكار في بعض الأحيان و صار خمرا فلا يطهر إلا بالانقلاب.

و أما الإسلام فموجب لارتفاع نجاسة الكفر، و هو نظير الانقلاب من تبدل عنوان بالآخر دلت الأدلة على طهارة المعنون به.

نعم إن قلنا بطهارة رطوباته المتصلة به كعرقه و بصاقه و وسخه و ثوبه المتنجس بها كما ادعي عليها السيرة و عدم معهودية الأمر بتطهيره

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 632

بعد الإسلام مع ملازمته لها يكون الإسلام مطهرا لها، و أما بناء على ما قيل من تبدل النسبة و صيرورتها من المسلم يكون من الانقلاب، لكنه كما ترى سيما في بعضها.

و كيف كان فالحكم بطهارة المسلم من الكفر الأصلي إجماعي بل ضروري، كما ادعاه الأعلام، و هو كذلك، و هو متسالم عليه فيمن أسلم عن ارتداد ملي، و حكي عليه الاتفاق.

و تدل عليه مضافا الى أولوية قبول إسلامه و توبته من الفطري الذي يأتي قوة قبوله منه آنفا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: «سألته عن مسلم تنصر، قال: يقتل و لا يستتاب قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد، قال: يستتاب فان رجع و إلا قتل» «1».

و بها يقيد إطلاق نحو

صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرتد، فقال: من رغب عن الإسلام و كفر بما انزل على محمد بعد إسلامه فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و يقسم ما ترك على ولده» «2» و المراد من قوله عليه السلام: «بعد إسلامه»: بعد كونه مسلما لا بعد دخوله في الإسلام جمعا بينها و بين صحيحة على بن جعفر المصرحة باستتابته.

و أما المرتد الفطري فالظاهر قبول توبته أيضا، أما باطنا فيمكن دعوى القطع به، لعموم رحمته تعالى و فضله على العباد، و عدم إمكان من رجع اليه و تاب و أسلم و آمن أن رده من بابه، و عذبه عذاب الكفار بل لعله مخالف لأصول العدلية.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب حد المرتد- الحديث 5- من كتاب الحدود و التعزيرات.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب حد المرتد- الحديث 2- من كتاب الحدود و التعزيرات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 633

و أما ظاهرا بمعنى صحة إسلامه فقد يقال بعدم قبوله، و على فرض قبوله و صيرورته مسلما فلا دليل على صيرورته طاهرا، لعدم عموم على طهارة كل مسلم يشمل مثله، فمقتضى الاستصحاب نجاسته، و قد يستدل على عدم قبوله بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.

و فيه- مضافا إلى عدم الملازمة بين عدم قبول توبته و عدم صحة إسلامه لإمكان أن يكون المرتد الذي عصى ربه و استوجب القتل في الدنيا و العذاب في الآخرة لا تقبل توبته من هذا العصيان و إن صار مسلما فمقتضى الجمع بين الصحيحة و بين ما دلت على أن الإسلام عبارة عن الشهادتين أن يصح إسلامه و يترتب عليه أحكام

الإسلام من الطهارة و غيرها، لكن لا يصير إسلامه موجبا لقبول توبته من عصيانه السابق فيستحق العقوبة في الآخرة لا نحو عقوبة الكفار من الجلود، و في الدنيا تترتب عليه أحكام المرتد- أن الصحيحة قاصرة عن إثبات عدم قبول توبته باطنا و ظاهرا فيما هو راجع إلى الأحكام الثابتة له بالارتداد كوجوب قتله و بينونة زوجته و تقسيم ماله و ما لا يرجع إليه، لأن الظاهر من قوله عليه السلام: «و قد وجب قتله و بانت امرأته و يقسم ما ترك على ولده» أن الجمل حالية.

فحاصل الصحيحة أن الأحكام الثلاثة بعد ثبوتها بحدوث الارتداد لا ترفع بالتوبة، فلا توبة له، و الحال أن القتل صار ثابتا، و الامرأة بائنة، و المال منتقلا إلى الورثة، فيمكن دعوى ظهورها أو إشعارها بأن لا توبة لها بالنسبة إلى ما ثبت عليه و مضى، و هي الأحكام الثلاثة دون ما سيأتي من الأحكام كطهارته و غيرها.

بل الظاهر أن الصحيحة نظير غيرها من الروايات الواردة في الباب الدالة على أن المرتد الملي يستتاب و لا يقتل، و الفطري لا يستتاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 634

و على الامام أن يقتله بلا استتابة، فلا إطلاق فيها.

و بالجملة لا يصح إثبات هذا الحكم المخالف للعقول في قبول توبته باطنا و للأدلّة في قبول إسلامه و تحققه منه بتلك الرواية، و لا يبعد رجوع كلمات الفقهاء إلى ما تقدم، فلا يمكن الاعتماد على الشهرة المحكية في الباب.

و أما احتمال بقاء نجاسته بعد صحة إسلامه فلا ينبغي التفوه به بعد وضوح طهارة كل مسلم لدى المتشرعة، بل لو أنكر أحد نجاسة هذا المرتد الراجع عن ارتداده كان أقرب الى

الصواب من إنكار طهارة هذا المسلم الذي إسلامه كسائر المسلمين.

مضافا الى أن الروايات الواردة في تشريح حقيقة الإسلام ظاهرة في أن جميع أحكام الإسلام مترتبة على من أقر بالشهادتين، كموثقة سماعة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أخبرني عن الإسلام- الى أن قال-: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس» «1» و نحوها صحيحة حمران بن أعين «2».

و معلوم أن تلك الأمثلة لإفادة أن جميع الأحكام الظاهرة من المعاشرات و المناكحات و غيرها مترتبة على الشهادتين، فتوهم أن الطهارة التي هي من أوضح ما يحتاج إليها الناس في عشرتهم لا تترتب عليها في غاية السقوط.

نعم لأحد أن يقول: إن الروايات في هذا المضمار انما هي لبيان الإسلام المقابل للإيمان و لا إطلاق لها بالنسبة إلى المرتد عن الإسلام إذا رجع و أظهر الشهادتين، لكنه وهم، فان المنساق من الروايات أن

______________________________

(1) مرتا في ص 321.

(2) مرتا في ص 321.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 635

الشهادتين تمام حقيقة الإسلام، و تمام الموضوع لترتب الآثار الظاهرة على مظهرها، فالتشكيك في طهارة المسلم سيما المؤمن بجميع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله الذي أعز من الكبريت الأحمر و يكون من أولياء اللّٰه تعالى الى غير ذلك من الأوصاف التي ذكرت له في الروايات كالتشكيك في البديهي.

و أما الاستدلال عليها بأنه مكلف بالإسلام و شرائعه، فلا بد من صحتها منه و إلا فلا يعقل تكليفه بها جدا، و الصحة متوقفة على قبول إسلامه و على طهارته فغير وجيه، إذ غاية ما يدل عليه

هذا الوجه هو قبول إسلامه الذي هو شرط في قبول عمله و لا يمكن التخصيص في دليله و أما اشتراط الطهارة فيمكن أن يقال: بسقوطه منه، فالعلم بصحة العبادات منه ملازم للعلم بصحة إسلامه لا العلم بطهارته.

و منه يظهر أن الاستدلال عليها برواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام فيمن كان مؤمنا فحج و عمل في إيمانه ثم أصابته في إيمانه فتنة فكفر ثم تاب و آمن، قال: يحسب له كل عمل صالح في إيمانه، و لا يبطل منه شي ء» «1» غير وجيه، لأنها تدل على قبول اعماله الصالحة، و هو لا يلازم طهارة بدنه، نعم يلازم صحة عباداته و لو مع إسقاط شرطية الطهارة.

الرابع: الأرض،

و لا ينبغي الإشكال في مطهريتها إجمالا، و عن جامع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 1- و فيه: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 636

المقاصد الإجماع عليها في باطن النعل و أسفل القدم و الخف و القبقاب و نحوه، و عن المدارك أن هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب، و ظاهرهم الاتفاق عليه، و عن الدلائل هو مقطوع به في كلام الأصحاب و نقل بعضهم الإجماع عليه، و عن المعالم و الذخيرة لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب.

و ربما يظهر من الشيخ في الخلاف خلاف في ذلك على اشكال في ظهور كلامه، و على فرضه لا بد من تأويله، و تدل عليها الكبرى الواردة في الروايات بأن الأرض يظهر بعضها بعضا تارة في وطء العذرة، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «كنت مع أبي جعفر عليه السلام إذ مرّ على عذرة يابسة فوطأ عليها

فأصابت ثوبه، فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك، فقال: أ ليس هي يابسة؟ فقلت:

بلى، قال: لا بأس إن الأرض تطهر بعضها بعضا» «1».

و لعل المراد أنه لا بأس بإصابة الثوب لكونها يابسة، و لا يوطئها الملازم لصحابة اجزائها للرجل أو النعل، لأن الأرض يزيلها، و على هذا يكون مفادها غير مفاد ما تأتي في سائر الروايات.

و يحتمل بعيدا أن يراد بنفي البأس إذا كانت يابسة نفيه عن اصابة الثوب، و ذكر الكبرى لأجل التنبيه على أنها لو كانت رطبة و تلوثت بها الرجل تطهر بالأرض فضلا عما كانت يابسة، و عليه يكون مفادها كغيرها، و احتمل بعضهم وقوع سقط فيها.

و أخرى في مورد التنجس بملاقي الخنزير، كحسنة المعلى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافيا فقال: أ ليس وراه شي ء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 637

جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا» «1» و ثالثة في مورد التنجس بالبول، كحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت له: إن طريقي الى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه و ليس عليّ حذاء فليلصق برجلي من نداوته، فقال: أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال:

فلا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا» إلخ «2».

و رابعة في مورد التنجس بمطلق القذر، كموثقة الحلبي «3» لو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(3) الوسائل- الباب- 32-

من أبواب النجاسات- الحديث 4- و سندها في الوسائل هكذا: محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، عن محمد الحلبي، و ظني أن محمد بن إسماعيل هذا هو محمد بن إسماعيل البندقي النيشابوري الذي يذكر أحوال الفضل بن شاذان بلا واسطة، و يؤيده رواية الكشي عنه عند ترجمة الفضل بن شاذان، و أيضا روايته عنه عن الفضل بن شاذان عند ترجمة أبي ذر الغفاري، و محمد بن إسماعيل البندقي النيشابوري لم يوثق.

و ما قيل من أن محمد بن إسماعيل الذي يروى عنه الكليني مردد بين أن يكون محمد بن إسماعيل بن بزيع، أو محمد بن إسماعيل ابن أحمد بن بشير البرمكي المعروف بصاحب الصومعة، أو محمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني و كلهم ثقات غير وجيه، لأنهم لقوا أصحاب الصادق عليه السلام كما يظهر من ترجمتهم، و من البعيد جدا أن روى الكليني عن الصادق عليه السلام بواسطتين.

على أن الكليني يروي عن ابن البزيع بواسطتين، لأنه يروى عن علي بن إبراهيم عن أبيه عنه، أو عن محمد بن يحيى عن احمد ابن محمد عنه، هذا مع أن الفضل بن شاذان ممن روى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع كما صرح به الكشي، و أن الكليني روى عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، و بالجملة أن محمد بن إسماعيل مشترك بين الموثق و غير الموثق، فالتعبير عن رواية الحلبي هذه بالموثقة أو بالصحيحة كما عن بعض لا يخلو من اشكال.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 638

كانت القضية غير ما في الحسنة، و إلا كان المراد من القذر البول كما صرح

به في الأولى.

و كيف كان يظهر من تلك الكبرى أن الأرض مطهرة للرجل و لو فرض أن فيها إجمالا. فإن صدورها لإفادة طهارتها و جواز الدخول معها في المسجد، و الدخول في الصلاة كما لعله المنساق منها مما لا ينبغي الإشكال فيه، و انما الإشكال في كيفية إفادتها طهارة الرجل، و لا يبعد أن يكون المتفاهم منها أن الأرض يظهر بعضها ما يتنجس ببعضها أو يكون المراد بالبعض الثاني نفس النجاسات الحالة في الأرض بنحو من التأويل فإنها صارت كالجزء لها، و المراد بتطهيرها تطهير آثارها من الملاقي كقوله:

«الماء يطهر الدم».

نعم ما احتمله الكاشاني غير بعيد بالنسبة إلى صحيحة ابن مسلم المتقدمة، و الظاهر أن مراده توجيه هذه الرواية دون غيرها.

بل يمكن استفادة الطهارة من سائر الروايات أيضا فإن اشتراط طهارة البدن لما كان معهودا لدى السائل و المسئول عنه فلا يفهم من تجويز الصلاة مع رجل ساخت في العذرة بعد مسحها و ذهاب أثرها و لا من نفي البأس إذا مشى نحو خمسة عشر ذراعا إلا حصول شرط

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 639

الصلاة و الطهارة، و أما رفع اليد عنه و العفو فشي ء لا يفهمه العرف، فلا ينبغي التأمل في حصولها.

نعم الاستدلال عليها بمثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» «1» أو قوله عليه السلام: «إن اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «2» ضعيف، لأن الظاهر منهما سيما الثانية كونهما إشارة إلى آية التيمم، و إلا فالأخذ بإطلاقهما خلاف الإجماع بل الضرورة، و تقييدهما موجب للاستهجان.

ثم أن مقتضى إطلاق بعض الروايات كالكبرى المتقدمة و صحيحة الأحول عن أبي عبد اللّٰه

عليه السلام قال: «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا، قال: لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك» «3» بل و موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث أنه سأله «عن رجل يتوضأ و يمشي حافيا و رجله رطبة، قال: إن كانت أرضكم مبلطة أجزأكم المشي عليها» إلخ «4» عموم الحكم لجميع النجاسات من غير فرق بين العذرة و البول و غيرهما.

و هل يعم الحكم حصولها بأي نحو كان أو يختص بحصولها من الأرض بمشي و نحوه لا النجاسة الخارجية كأن قطرت على باطن القدم قطرة دم أو غيره؟ قد يقال: إن مورد جل الروايات أو كلها و إن كان ما حصل التلوث من الأرض بل قد يستشعر من قوله عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم- الحديث 2 و 3 و 4

(2) مرت في ص 361.

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 640

«الأرض يطهر بعضها بعضا» ذلك.

لكن استبعاد مدخلية مثل هذه الخصوصية في موضوع الحكم مانع عن أن يقف الذهن دونها، و لهذا لم يفهم الأصحاب منها الاختصاص، و حاصل كلامه يرجع الى إلقاء الخصوصية عرفا.

و يمكن أن يستدل له بإطلاق صحيحة الأحول، فان الموضع الذي ليس بنظيف أعم من الأرض، كأن وطأ على فراش و نحوه، و يتم في غيره بعدم الفصل جزما، لكن الحكم بالتعميم في المقام لا يخلو من إشكال، لأن الكبرى المتقدمة لما كانت في مقام بيان الضابط لا بد من أخذ القيود التي فيها، و

لا يجوز إلقاؤها إذا كانت في مورد إعطاء القاعدة و لا يبعد أن يكون أظهر الاحتمالات فيها أحد الاحتمالين المتقدمين فيفهم منها دخالة خصوصية حصول النجاسة من الأرض، و إلا لم يأخذها في مقام إعطاء الضابط.

و احتمال أن يكون المراد من البعض الثاني الأرض، و يكون المراد من تطهيرها إزالة أثرها أو استحالتها و تبديل موضوعها و يكون الاستدلال بهذه القضية لطهارة الرجل و الخف مبنيا على تنزيلهما منزلة الأرض بعلاقة المجاورة بعيد مخالف للمتفاهم العرفي، بل لعله من أبعد الاحتمالات.

كما أن في إطلاق صحيحة الأحول إشكالا، سيما مع أن المراد من المكان النظيف الذي بعده هو الأرض كما يأتي الكلام فيه، و التفكيك بينهما بدعوى إطلاق الموضع الذي ليس بنظيف لكل موضع، لمساعدة العرف مع عدم الفرق بين أسباب حصول النجاسة، و عدم إطلاق قوله:

«مكانا نظيفا» بعيد، سيما مع الكبرى المتقدمة، بل يمكن تقييد إطلاقه بها لو فرض الإطلاق بعد ما عرفت ظهورها و أن القيد فيها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 641

ظاهر في القيدية، بل و ظهور النبويين العاميين في الاختصاص، فان قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «إذا وطأ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» «1» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «إذا وطأ أحدكم بنعليه الأذى فان التراب له طهور» «2» ظاهر أو مشعر بالاختصاص، و معه يشكل إلقاء الخصوصية.

و أما عدم ذكر الأصحاب هذا القيد بل مقتضى إطلاق كلامهم عدم القيدية ليس إلا لاجتهادهم في تلك الروايات، للجزم بعدم أمر آخر عندهم وراؤها، و معه ليست الشهرة بحجة، إلا أن يقال: إن عدم دخالة الخصوصية عرفا يستكشف من فهم الأصحاب، فإنهم أيضا من العرف، و

هو مشكل بعد عدم استفادتنا إلقاء الخصوصية بالشواهد المتقدمة، فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبار كون النجاسة من الأرض.

نعم لا يلزم أن يكون التنجس بملاقاة الأرض المتنجسة، بل أعم منه و من ملاقاة عين النجس الملقاة فيها، كما تدل عليه صحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أ ينقض ذلك وضوءه؟ و هل يجب عليه غسلها؟ فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها، و لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها و يصلي» «3» كما تدل على ثبوت الحكم لملاقاة الأرض المتنجسة حسنة المعلى و إطلاق بعض الروايات.

ثم أنه لا ينبغي الإشكال في ثبوت الحكم لأسفل القدم لإطلاق بعض الروايات، كصحيحة الأحول و إحدى روايتي الحلبي، و صراحة جملة منها كحسنتي المعلى و الحلبي و صحيحة زرارة و موثقة عمار، و لم

______________________________

(1) راجع كنز العمال- ج 5- ص 88- الرقم 1878

(2) راجع كنز العمال- ج 5- ص 88- الرقم 1879

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 642

يتضح مع ذلك وجه إشكال العلامة في محكي التحرير، و توقفه في محكي المنتهى فيه.

و أما باطن النعل و الخف فمضافا إلى حكاية الشهرة و الإجماع و عدم الخلاف فيه يدل عليه إطلاق الكبرى المتقدمة و إطلاق صحيحة الأحول و صحيحة ابن مسلم، فان من المعلوم عدم كون أبي جعفر عليه السلام بلا حذاء، و رواية حفص بن أبي عيسى قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني وطأت على عذرة بخفي و مسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال: لا بأس» «1» إذا الظاهر أن سؤاله

عن طهارته بالمسح، و إلا فصلاته صحيحة مع نجاسته أيضا.

و يلحق بهما مثل القبقاب و ظاهر القدم و النعل إذا كان المشي به لنقص في الخلقة على الأقوى، لإطلاق بعض الأخبار، و في إلحاق الركبتين و اليدين ممن يمشي عليهما تأمل، و ان لا يخلو من وجه، للتعليل المتقدم بل لا يبعد صدق الوطء عليهما على تأمل سيما في اليدين.

و في إلحاق عصى الأعرج و خشبة الأقطع إشكال، لاحتمال انصراف الأدلة عنهما، و أشكل منهما نعل الدواب و أسفل العكاز و كعب الرمح و من الكل أسفل العربات و الدبابات و نحوها.

و احتمال إلحاق الجميع لإطلاق الكبرى المتقدمة غير وجيه، لعدم إمكان الأخذ بإطلاقها، إذ مقتضى ذلك أن كل ما تنجس بالأرض تطهر بها، و هو مقطوع البطلان، فلا بد من اختصاصها بأنحاء ما وقع السؤال عنها، و عدم التعدي عن إطلاق بعض الأدلة، مثل صحيحة الأحول و بالجملة بعد وضوح بطلان الأخذ بإطلاق الكبرى المتقدمة للزوم التعدي الى كل ما تنجس بالأرض حتى الثياب و الأواني لا يبقى لإطلاقها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 643

في المذكورات وثوق، بل يوهن ذلك الإطلاق، و يشكل التعدي عن موردها أي القدم و النعل.

نعم لا فرق بين أنحاء النعال، بل لا يبعد إلحاق الجورب إذا خيط في أسفله جلد الدابة- كما قد يعمل- على تأمل فيه، و أما الجورب المعمول من القطن و الصوف أو غيرهما فالأقوى عدم الإلحاق، لانصراف صحيحة الأحول عنه، و عدم دليل آخر عليه.

ثم أنه يعتبر في المطهر أن يكون أرضا، و عن ابن الجنيد كفاية المسح بكل قالع، و عن

النهاية احتماله، و اختار النراقي الاجتزاء بالمشي في غير الأرض كالحصير و النبات و الخشب.

و الدليل على الاعتبار الكبرى الملقاة في مقام الضابط، حيث لا بد من الأخذ بقيودها و الحكم بدخالتها، فلو كان مطلق القالع أو المشي على مطلقه مجزيا لما كان اختصاص الأرض بالذكر في مقام ذكر الضابط مناسبا، سيما مع قوله عليه السلام في حسنة الحلبي: «أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟» و هي المراد بقوله عليه السلام: «أ ليس وراه شي ء جاف؟» في حسنة المعلى بقرينة ذكر الكبرى بعده، و هما يؤكدان خصوصية الأرض، و يؤيد الاعتبار بل يدل عليه موثقة عمار و يؤيده النبويان المتقدمان، بل كون الأرض بخصوصها مطهرة للحدث لا يخلو من تأييد.

و بكل ذلك يقيد إطلاق صحيحتي الأحول و زرارة و رواية حفص المتقدمات، و ذيل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله و يجوز أن يمسح رجليه و لا يغسلهما» «1» على فرض تسليم إطلاقها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 644

مع إمكان إنكاره بدعوى أن صحيحة الأحول منصرفة إلى الأرض كما عن صاحب الحدائق، و هو غير بعيد، سيما مع أن الوطء مع الرجل القذر بمثل الفراش بعيد خصوصا عمدا، و ان غير الأرض في محل الصدور نادر، و دعوى أن صحيحة زرارة في مقام بيان عدم وجوب الغسل و كفاية المسح، و ليست بصدد بيان ما يمسح به و شرائطه، مع أن المتعارف في مسح ما يقذر بالعذرة هو المسح على الأرض، سيما في تلك البلاد

و ذلك العصر، و منه يظهر الحال في رواية حفص، و الصحيحة الأخيرة مع عدم وضوح المراد منها يأتي فيها ما ذكر.

و أما دعوى كون المقام نظير باب الاستنجاء بل هو منه، فكما يكفي فيه مطلق القالع كذلك في المقام، ففيه ما لا يخفى، فالأقوى اعتبار كون القالع أرضا.

نعم لا فرق بين أجزاء الأرض كالتراب و الحجر و الحصى و الرمل و الجص و النورة، بل و الآجر و الخزف، لصدق الأرض عليها، و لجريان استصحاب كونها مطهرة في بعضها، و لا يضر بالحكم اختلاط غير الأرض بها بما لا يضر بالصدق العرفي، كالتبن القليل و نحوه، لابتلاء الأراضي نوعا به، فمقتضى الإطلاق عدم الإضرار، و إلا لوجب التنبه عليه.

و من بعض ما تقدم يظهر اعتبار الجفاف و اليبوسة في الأرض، لأن ذكر الجاف في حسنة المعلى و اليابس في حسنة الحلبي دليل عليه، سيما في مقام بيان الضابط، و دعوى أن الجاف في الأولى في مقابل الماء السائل من الخنزير و اليابسة في الثانية في مقابل نداوة البول كما ترى، فإنه إن أريد مقابلتهما للنداوة و الرطوبة مطلقا فمسلم، لكن يستفاد منهما التقييد.

و إن أريد مقابلتهما لنداوة البول و ما سال من الخنزير أى يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 645

جافا من هذه الرطوبة و النداوة حتى لا ينافي كونه رطبا بغيرها بل وحلا فهو ممنوع جدا، لعدم صدق الجفاف و اليبوسة عليه كما لا يخفى، مع أن للمسح على الجاف و اليابس دخالة في قلع القذارة لدى العرف، فان مسح شي ء رطب رطوبة سارية أو شي ء نحو الوحل يوجب انتشار القذارة، بل صيرورة المحل أقذر لا قلعها، و

لهذا يناسب الجفاف و اليبس للقلع بارتكاز العرف، فيفهم منهما القيدية، و بهما يقيد إطلاق لو كان نعم لا يبعد أن يقال: إن الرطوبة الضعيفة غير السارية غير مضرة، لصدق الجاف بل و اليابس على الأرض إذا كانت كذلك سيما بعض مراتبها، و لو كانت الجفاف أعم من اليبوسة و كان الثانية غير صادقة على الأرض التي لها رطوبة غير سارية فلا يبعد أيضا القول بكفاية الجفاف، بدعوى أن ذكر اليبوسة لكونها أحد المصاديق الحاصلة به التطهير، فيكون كل من الجافة، و اليابسة مطهرة و إن كانت الثانية أسرع في القلع و أوقع، و بعبارة أخرى تقييد حسنة المعلى بحسنة الحلبي أبعد من البناء على ما ذكر، و أما تأييد كفاية الرطوبة السارية بل الوحل بأن الملة سمحة سهلة و بحصول الحرج في فصل الشتاء فهو كما ترى و تعتبر طهارة الأرض، لأن الظاهر من قوله عليه السلام: «إن الأرض يطهر بعضها بعضا» التقابل بين الأرض التي تنجس به القدم و الأرض المطهرة، فيفهم منه أن الأرض الطاهرة ترفع النجاسة الحاصلة من الأرض القذرة، تأمل.

مضافا الى أن التناسب بين طهارة الشي ء و مطهريته يوجب صرف الذهن الى ذلك، و لهذه المناسبة قابل الأحول في روايته بين الموضع الذي ليس بنظيف و المكان النظيف، فيمكن أن يستدل على اعتبارها بالرواية للارتكاز المذكور.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 646

و لهذا لو قيل إن العذرة اليابسة مطهرة للنجاسة إذا ذهب بالمسح بها أثرها عد عند العرف مستنكرا، فلا ينقدح في الأذهان من الأدلة إطلاق يشمل الأرض النجس، فلو كانت الأرض نجسا بالبول و كانت رطوبة البول موجودة غير سارية و قلنا باجتزاء الجفاف فهل

ترى من نفسك أن المشي في رطوبة البول صار مطهرا لنداوته.

و الانصاف أن الأدلة منصرفة عن الأرض النجسة، فلا وجه للتمسك بإطلاقها لنفي الاعتبار، و توهم أن ترك هذا القيد في الأخبار على كثرتها دليل على عدم الاعتبار مدفوع بأن الترك للاتكال على الارتكاز العقلائي، و لهذا لم يرد هذا القيد في مطهرية الماء، لعدم الاحتياج الى ذكره لا لعدم الاعتبار.

ثم أنه لا فرق بين المشي و المسح في حصول الطهارة، كما تدل على كل منهما الروايات المتقدمة، و لا يتقدر المشي بمقدار معين، بل المعتبر زوال عين النجاسة، و لا تصلح صحيحة الأحول لتقييد الإطلاقات، سيما مثل قوله عليه السلام: «إن الأرض يطهر بعضها بعضا» خصوصا بعد قوله عليه السلام: «أ ليس وراه شي ء جاف؟» أو «أ ليس يمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟».

مضافا الى أن الظاهر من قوله عليه السلام في صحيحة زرارة:

«لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها» أن المسح و نحوه انما هو لاذهاب الأثر، فلها نحو حكومة على سائر الأخبار، فيفسر المقصود من مشي خمسة عشر ذراعا بأنه ليس إلا للقلع، و لهذا لا يشك أحد في أنه مع عدم القلع بهذا المقدار لا يصير طاهرا، مع أن قوله (ع) في الصحيحة:

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 646

«أو نحو ذلك» دليل على أن التحديد ليس تعبديا، بل لحصول الغاية بها نوعا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 647

و احتمال أن يكون في التطهير بالمشي إعمال تعبد، و هو المقدار الذي في الصحيحة دون المسح، فإذا مسح كانت الغاية زوال الأثر

دون ما إذا مشى في غاية السقوط، ضرورة عدم انقداح النفسية في أمثال المقامات في الأذهان.

بل يمكن أن يقال: بأن لا خفاء لمفهوم التطهير عند العرف، فإذا قال الشارع: إن الأرض تطهر كذا يستفاد منه أن التطهير بها عبارة عن رفع القذارة عن الشي ء بها، و هو بقلع عين النجس عنه، كما إذا قال أحد من أهل العرف لصاحبه: نظف قدمك بالتراب يفهم منه إزالة القذارة منها بمسحها به أو المشي عليه، فظاهر قوله عليه السلام: «الأرض يطهر بعضها بعضا» أن تطهيره عبارة عن ازالة قذارته، فلا يختلج في الأذهان بعد هذا الارتكاز إعمال تعبد خاص في مقدار المشي، نعم لا مانع من إعمال التعبد، لكن يحتاج الى بيان غير ما في الصحيحة، و هل يتعين المسح على الأرض أو يجتزى بمسح التراب أو الحجر على الموضع حتى يذهب أثره؟ ظاهر الكبرى المتقدمة هو الأول، لعدم صدق بعض الأرض على الجزء المنفصل عنها صدقا حقيقيا، و انما يصدق عليه حال الاتصال، و لو نوقش فيه فالظاهر من الكبرى و لو بقرينة سابقها هو المشي على الأرض، و لما كانت الكبرى في مقام بيان الضابط لا بد من الحكم بدخالة الخصوصية فيه.

و لا يجوز في المقام الاتكال على ارتكاز العرف، فإنه يوجب اتساع الخرق كما تقدم، فبها يقيد إطلاق صحيحة زرارة و حفص على فرض تسليم إطلاقهما.

و قد يقال: إن الظاهر منهما أن الرجل و الخف ممسوحتان لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 648

ماسحتان، و فيه أن المتعلق غير مذكور، فان كان التقدير يمسحها على الأرض تكون الرجل ماسحة، و إن كان يمسحها بالتراب مثلا تكون ممسوحة، و مع عدم الذكر

لو فرض أن مقتضاه الاجتزاء بكل منهما نظير الإطلاق لكن مقتضى الكبرى عدم الاجتزاء الا بالمسح على الأرض فيقدم عليه، و لو قيل: إن بين الصحيحة و الكبرى عموما من وجه قلنا: ان الترجيح مع الكبرى، لأظهريتها و موافقتها للشهرة ظاهرا.

ثم أن التطهير حاصل بذهاب عين النجاسة و أثرها بمعنى الاجزاء الصغار التي يعد أثرا لدى العرف، و لا يلزم رفع الآثار كالرائحة و اللون و اما احتمال أن الأرض مطهرة للأجزاء الصغار التي يراها العرف الأعيان النجسة فلا ينبغي التفوه به فضلا عن اختياره، لعدم معنى طهارة عين النجاسة، نعم لو كانت الإزالة بالأرض من قبيل العفو لا التطهير لكان لاحتمال العفو عن الاجزاء الصغار سبيل، و ان كان أيضا خلاف الأدلة، لكن مع البناء على الطهارة فلا سبيل اليه، و بناء الحكم على السهولة لا يوجب طهارة النجس ذاتا.

و أما الاجزاء الصغار التي لا يراها العرف أعيانا فلا يعتنى بها، بل الألوان و الروائح من بقايا الأعيان واقعا بحسب البرهان أو كشف الآلات الحديثة المكبرة، لكن الميزان في التشخيص العرف العام، فلا يعبأ بمثلها.

و هل يتعين أن يكون السبب لذهاب عين النجاسة المشي أو المسح أولا، فلو ذهبت بغيرهما يطهر المحل بالمشي أو المسح، و بالجملة كما أنهما موجبان للطهارة بإذهاب العين موجبان لها عن ملاقي الأعيان؟

الأقوى الثاني، لإطلاق الكبرى المتقدمة و صحيحة الأحول، بل إطلاق بعض روايات أخر، و لا ينافيها صحيحة زرارة و رواية حفص، لعدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 649

ظهورهما في القيدية، بل فرض فيهما وجود العين، فقوله عليه السلام:

«يمسحها حتى يذهب أثرها» لبيان حال قضية مفروضة، فيكون بيانا عاديا لا يستفاد منه دخالة

وجود العين في طهارة المحل، و لا ينقدح في الأذهان منه بقاء النجاسة على المحل لو زالت العين بغير الأرض و لو مشى بعده ما مشى.

و بالجملة لا تصلح الصحيحة و نحوها لتقييد إطلاق الكبرى و غيرها مع أن تطهير المحل الخالي من العين أولى من المشغول بها في نظر العرف فالأقوى عدم اعتبار وجودها أو أثرها في المحل، و مع عدمهما يكفي مجرد المسح أو المشي دون المس، لعدم الدليل عليها إلا دعوى إطلاق الكبرى، و هو مشكل، سيما مع سبقها في حسنة الحلبي بقوله عليه السلام:

«أ ليس يمشي بعد ذلك؟» إلخ، و تبادر المشي من موارد غيرها، و هو و إن لا يصلح لتقييد إطلاق لو كان لكن يوهن توهم الإطلاق، فإن الأظهر عدم إطلاقها لصرف المماسة، لأن التطهير به خلاف ارتكاز العقلاء في باب التنظيف بالأرض دون التمسح الذي موافق له، و دون المشي الذي دل عليه الدليل، مع إمكان أن يقال. إنه كالمسح في رفع الأثر، هذا مع إمكان تقييد إطلاقها لو فرض بموثقة عمار بن موسى، تأمل.

و كيف كان فالأحوط لو لم يكن أقوى عدم الاجتزاء بمجرد المماسة و الحمد للّٰه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين.

و قد وقع الفراغ من هذه الوجيزة يوم الثامن و العشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة 1377.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.