کتاب الطهاره المجلد 3

اشارة

سرشناسه : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1368 - 1279

عنوان و نام پديدآور : کتاب الطهاره/ تالیف الامام الخمینی

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی(س)، 1380.

مشخصات ظاهری : ج 4

شابک : 964-335-460-1(دوره) ؛ 964-335-485-x(ج.1) ؛ 964-335-459-811000ریال:(ج.2) ؛ 964-335-380-x13000ریال:(ج.3) ؛ 964-335-381-811000ریال:(ج.4)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : طهارت

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره : BP185/2 /خ75ک2 1380

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-2199

المقدمه

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه رب العالمين و صلى اللّٰه على محمد و آله الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين.

القول في النجاسات و فيه مقدمة و فصلان

أما المقدمة

اشارة

ففيها جهات من البحث:

الأولى: الظاهر ان النجاسة و القذارة العرفية أمر وجودي

مقابل النظافة و النقاوة، فان الأعيان الخارجية على قسمين: أحدهما ما هو قذر و رجس و هو ما يستكرهه العقلاء و يستقذرونه و يتنفرون عنه، كالبول و الغائط و المني و النخامة و أمثالها مما تجتنب منها العقلاء لتنفرهم عنها و عن التماس معها، و منها ما ليس كذلك كسائر الأعيان.

و الثانية نظيفة نقية لا بمعنى أن النظافة أمر وجودي قائم بذاتها وراء أوصافها و أعراضها الذاتية، فالحجر و المدر و الجص و أمثالها بذاتها نظيفة ليست بقاذورة يستكرهها الناس، و انما تصير بملاقاتها مع بعض الأعيان القذرة و تلطخها بها نجسة قذرة بالعرض، و يستقذرها الناس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 4

لتلك المماسة و ذلك التلطخ، فالأشياء كلها ما عدي الأعيان القذرة نظيفة أي نقية عن القذارة.

فالنظافة هي كون الشي ء نقيا عن الأقذار، فإذا صارت الأشياء بملاقاتها قذرة فغسلت بالماء ترجع الى حالتها الأصلية، أي النقاوة عنها من غير أن يحصل لها أمر وجودي قائم بها خارجا أو اعتبارا.

و ما ذكر موافق للاعتبار و العرف و هو ظاهر، و كذا موافق للغة ففي الصحاح: «النظافة: النقاوة، و نظفته أنا تنظيفا أي نقيته» و في القاموس: «النظافة: النقاوة، و هو نظيف السراويل و عفيف الفرج» انتهى و الظاهر أن نظيف السراويل كناية عن عدم التلطخ بدنس الزنا و مثله، و في المجمع: «النظافة النقاوة، و نظف الشي ء ينظف- بالضم- نظافة: نقى من الوسخ و الدنس» و في المنجد: «نظف الشي ء كان نقيا من الوسخ و الدنس يقال: فلان نظيف السراويل أي عفيف، و نظيف الأخلاق أي مهذب، و تنظف الرجل اي تنزه عن المساوي» هذا حال

القذارات العرفية و يأتي الكلام في حال اعتبار الشارع و حكمه.

الثانية [هل النجاسة من الأحكام الوضعية]

يحتمل في بادئ النظر أن تكون النجاسة من الأحكام الوضعية الشرعية للأعيان النجسة عند الشارع حتى فيما هو قذر عند العرف كالبول و الغائط فتكون النجاسة قذارة اعتبارية غير ما لدى العرف بحسب الحقيقة موضوعة لأحكام شرعية.

و يحتمل أن تكون أمرا انتزاعيا من الأحكام الشرعية كوجوب الغسل و بطلان الصلاة معها و هكذا، و يحتمل أن تكون امرا واقعيا غير ما يعرفها الناس كشف عنها الشارع المقدس و رتب عليها أحكاما.

و يحتمل أن تكون الأعيان النجسة مختلفة بحسب الجعل، بمعنى أن ما هو قذر عرفا كالبول و الغائط و المني لم يجعل الشارع لها القذارة بل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 5

رتب عليها أحكاما، و ما ليس كذلك كالكافر و الخمر و الكلب ألحقها بها موضوعا أي جعل و اعتبر لها النجاسة و القذارة، فيكون للقذارة مصداقان:

حقيقي و هو الذي يستقذره العرف، و اعتباري جعلي كالأمثلة المتقدمة و غيرها من النجاسات الشرعية التي لا يستقذرها الناس لو خليت طباعهم و أنفسها أو ألحقها بها حكما أي رتب عليها أحكام النجاسة من غير جعل نجاسة لها.

و الظاهر بحسب الاعتبار بل الأدلة هو احتمال ما قبل الأخير، لأن الظاهر انه لم يكن للشارع اصطلاح خاص في القذر و النجس، فما هو قذر و نجس عند العقلاء و العرف لا معنى لجعل القذارة لها، لأن الجعل التكويني محال، و اعتبار آخر نظير التكوين لغو، و ليست للنجاسة و القذارة حقيقة واقعية لم يصل إليها العرف و العقلاء كما هو واضح، نعم لما كان العرف يستقذر أشياء لم يكن لها أحكام النجاسات الإلزامية

و ان استحب التنزه عنها و التنظيف منها كالنخامة و المذي و الوذي، يكشف ذلك عن استثناء الشارع إياها موضوعا أو حكما.

و أما النجاسات الشرعية التي ليست لدى العرف قذرة نجسة كالخمر و الكافر فالظاهر إلحاقها بها موضوعا، كما هو المرتكز عند المتشرعة فإنها قذرة عندهم كسائر الأعيان النجسة.

و لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» فان الظاهر منه تفريع عدم قربهم المسجد على نجاستهم، بل و قوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «2» فإن الرجس القذر، و ظاهره أنه تعالى جعلهم رجسا، و قوله تعالى:

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية: 28.

(2) سورة الانعام: 6- الآية: 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 6

«قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ- الى قوله- أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «1».

و لحسنة خيران الخادم قال: «كتبت الى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم فيه: فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فكتب: لا تصل فيه فإنه رجس» «2» فان التعليل دليل على ان عدم صحة الصلاة فيه لأجل كون الخمر رجسا فلا تكون نجاستها منتزعة من الأحكام و لما لم يكن الخمر رجسا عرفا و لدى العقلاء لا محالة تكون نجاستها مجعولة شرعا.

و صحيحة أبي العباس و فيها «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب فقال: رجس نجس لا يتوضأ بفضله» «3» و التقريب فيها كسابقتها، و قريب منها صحيحته الأخرى «4» و حسنة معاوية بن

______________________________

(1) سورة الانعام: 6- الآية:- 145.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث

4.

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) في الوسائل بطريق صحيح عن الفضل أبي العباس قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن مسه جافا فاصبب عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟

قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أمر بقتلها (بغسلها)» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 1- هذه صحيحة أخرى للفضل في باب نجاسة الكلب، إلا انه لا يحسن الاستشهاد بها لما بصدده الأستاذ دام ظله، نعم أورد في الوسائل صدر الصحيحة المتقدمة في الباب 11 من أبواب النجاسات- الحديث 1- و ذيلها في الباب 12 و 70- من هذه الأبواب- الحديث 2- 1- و أوردها بتمامها في الباب 1- من أبواب الأسئار الحديث 4- و لعل هذا التقطيع صار منشأ لتوهم تعدد الحديث فراجع و تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 7

شريح «1».

فتحصل مما ذكر أن النجاسات على نوعين: أحدهما ما يستقذره الناس و قد رتب الشارع عليه أحكاما، و ثانيهما ما جعله الشارع قذرا و ألحقه بها موضوعا بحسب الاعتبار و الجعل، فصار قذرا في عالم الجعل و وعاء الاعتبار و رتب عليه أحكام القذر.

الثالثة [جعل النجاسة للموضوعات]

الظاهر أن جعل القذارة للموضوعات التي ليست قذرة عند الناس ليس بملاك واحد، كما أن الظاهر عدم قذارة واقعية لها لم يطلع عليها الناس و كشف عنها الشارع، ضرورة أن القذارة ليست من الحقائق المعنوية الغائبة عن أبصار الناس و مداركهم.

بل الظاهر أن جعل القذارة لمثل الخمر لأجل أهمية المفسدة التي في شربها فجعله نجسا لأن يجتنب الناس عنها غاية الاجتناب، كما أن الظاهر ان جعل النجاسة للكفار لمصلحة

سياسية هي تجنب المسلمين عن معاشرتهم و مؤاكلتهم لا لقذارة فيهم تؤثر في رفعها كلمة الشهادتين.

و لعل في مباشرة الكلب و الخنزير مضرات أراد الشارع تجنبهم

______________________________

(1) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام (في حديث): «انه سئل عن سؤر الكلب يشرب منه أو يتوضأ، قال: لا، قلت: أ ليس هو سبع؟ قال: لا و اللّٰه، انه نجس، لا و اللّٰه انه نجس» و في رواية عن أبي سهل القرشي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن لحم الكلب. فقال: هو مسخ، قلت: أ هو حرام؟ قال: هو نجس:

أعيده (ها) عليه ثلاث مرات، كل ذلك يقول: هو نجس» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 6- 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 8

عنهما تحفظا عنها الى غير ذلك، و لا أظن إمكان الالتزام بأن القذارة عند الشارع ماهية مجهولة الكنه يصير المرتد بمجرد الردة قذرا واقعا، و صارت الردة سببا لاتصافه تكوينا بصفة وجودية تكوينية غائبة عن أبصارنا، و مجرد الإقرار بالشهادتين صار سببا لرفعها تكوينا.

الفصل الأول في تعيين الأعيان النجسة

اشارة

و هي عشرة أنواع على ما في جملة من الكتب أو أكثر كما يأتي حال الخلاف في بعض:

الأول و الثاني: البول و الغائط

اشارة

من كل حيوان غير مأكول ذي نفس سائلة فما لا يصدق عليه عنوانهما ليس بنجس كالحب الخارج من الحيوان إذا لم يصدق عليه العذرة و لو فرض الخروج عن صدق عنوانه الذاتي أيضا فضلا عما إذا صدق عليه و ان زالت صلابته و قوة نبته، فما عن المنتهى من الحكم بنجاسته إذا زالت صلابته غير وجيه، و قد حكي الإجماع على نجاستهما مع القيدين عن الخلاف و الغنية و المعتبر و المنتهى و التذكرة و كشف الالتباس و المدارك و الدلائل و الذخيرة، و عن الناصريات و الروض و المدارك و الذخيرة نقل الإجماع على عدم الفرق بين الأرواث و الأبوال و لعله هو العمدة في الأرواث لعدم إطلاق أو عموم معتد به يمكن الركون إليه، و ان لا يبعد في بعضها كما سيتضح الكلام فيه.

و أما الأبوال فلا إشكال في دلالة كثير من الأخبار عموما أو إطلاقا على نجاستها فلا موجب لنقلها، و الاولى سرد الروايات الواردة في الأرواث:

فمنها ما عن المختلف نقلا عن كتاب عمار بن موسى عن الصادق عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 9

قال: «خرء الخطاف لا بأس به، هو مما يؤكل لحمه لكن كره أكله لأنه استجار بك و آوى الى منزلك، و كل طير يستجير بك فأجره» «1».

بدعوى أن قوله: «هو مما يؤكل» تعليل لعدم البأس، و برفع العلة يرفع عدم البأس، و أن المراد بعدم البأس صحة الصلاة معه و جواز شرب ملاقيه و غير ذلك و لو بملاحظة معهوديته من البأس و اللابأس

في خرء الحيوان و بوله، و بقرينة الروايات الواردة في أبوال ما لا يؤكل لحمه.

و فيها بعد الغض عن أن الرواية بعينها نقلت في باب المطاعم عن الشيخ بإسناده عن عمار، و فيها: «الخطاف لا بأس به» من غير كلمة «خرء» و احتمال كونها رواية أخرى نقلها العلامة و أهملها الشيخ في غاية البعد، بل مقطوع الفساد، نعم يحتمل اختلاف النسخ فدار الأمر بين الزيادة و النقيصة، فإن قلنا بتقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لدى العقلاء خصوصا في المقام مما يظن لأجل بعض المناسبات وجود لفظ الخرء صح الاستدلال بها. لكن إثبات بنائهم على ذلك مشكل، بل إثبات بنائهم على العمل بمثل الرواية أيضا مشكل، و قد حرر في محله أنه لا دليل على حجية خبر الثقة إلا بناءهم المشفوع بإمضاء الشارع.

أن غاية ما يستفاد من إطلاق التعليل أن أكل اللحم تمام العلة و تمام الموضوع لعدم البأس، و أما انحصارها به فغير ظاهر، و لا يكون مقتضى الإطلاق، فيمكن قيام علة أخرى مقامها عند عدمها، و بعبارة أخرى أن الإطلاق يقتضي عدم دخالة شي ء غير المأكولية في نفي البأس فتكون تمام العلة له لا جزءها، و هو غير الانحصار، و ما يفيد هو انحصارها

______________________________

(1) الوسائل- الباب 9- من أبواب النجاسات- الحديث 20.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 10

بها حتى يقتضي رفعها ثبوت نقيض الحكم أو ضده.

و دعوى أن العرف مع خلو ذهنه عن هذه المناقشة يفهم من الرواية أن في خرء غير المأكول بأسا غير مسلمة. مضافا الى أن البأس أعم و المعهودية غير معلومة و قرينية أخبار الأبوال غير ظاهرة، مع كون البول أشد في

بعض الموارد كلزوم تعدد غسله و عدم الاكتفاء بالأحجار فيه.

و منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل ما يؤكل فلا بأس بما يخرج منه» «1» بدعوى أن تعليق الحكم على ما يؤكل يفيد العلية، و الكلام فيها كسابقتها، مضافا إلى أنه لو سلم دلالتها فلا تدل على الكلية في مفهومها، فغاية ما يثبت بها أن هذه الكلية غير ثابتة لما لا يؤكل، بل لو سلم كون ما يخرج منه عبارة عن ما يخرج من طرفيه من البول و الخرء، فلا يثبت في المفهوم البأس فيهما، فيمكن أن يكون في أحدهما بأس.

و منها رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يطأ في العذرة أو البول أ يعيد الوضوء؟ قال: لا، و لكن يغسل ما أصابه» «2» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:

«سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» «3».

و رواية علي بن محمد في حديث قال: «سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من

______________________________

(1) في الوسائل «كل ما أكل لحمه» راجع الباب 9- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

(2) الوسائل- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 15.

(3) الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق- الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 11

أثره شي ء فاغسله، و إلا فلا بأس» «1».

و صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام

عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: ان كان لم يعلم فلا يعيد» «2».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: «كنت مع أبي جعفر عليه السلام إذ مرّ على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك. فقال أ ليس هي يابسة؟ فقلت:

بلى، قال: لا بأس، ان الأرض يطهر بعضها بعضا» «3» الى غير ذلك كبعض ما ورد في ماء البئر «4» و أبواب المطاعم «5».

و يظهر منها أن نجاسة العذرة بعنوانها كانت معهودة و ان أمكنت

______________________________

(1) الوسائل- الباب 37- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب 40- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب 32- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) كموثقة عمار قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن البئر يقع فيها زبيل عذرة يابسة أو رطبة، فقال: لا بأس إذا كان فيها ماء كثير» و كصحيحة إسماعيل بن بزيع قال: «كتبت الى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟

فوقع عليه السلام بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها» و قريب منها غيرها المروية في الوسائل- الباب 14 و 20- من أبواب الماء المطلق.

(5) راجع الوسائل- الباب 27- 28- 29- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 12

المناقشة في دلالة بعضها و إطلاق بعض، لكن يتوقف إثبات عموم الحكم على كون العذرة خرء مطلق الحيوان إنسانا و غيره، طائرا

و غيره، كما هو الظاهر من كلمات كثير من اللغويين، ففي القاموس «العذرة:

الغائط و أردأ ما يخرج من الطعام» و نحوه في المعيار و المنجد، و في الصحاح «الخرء بالضم: العذرة، و الجمع الخروء، و قال يهجو: كأن خروء الطير فوق رءوسهم» و في المجمع: «العذرة وزان كلمة الخرء» و في القاموس: «الخرء بالضم العذرة» و قريب منه ما في المنجد و المعيار و عن الصراح: «عذره پليدى مردم و ستور و جز آن» و نحوه عن منتهى الارب.

و يظهر من الفقهاء في المكاسب المحرمة إطلاق العذرة على مطلق مدفوع الحيوان، و حملوا رواية «لا بأس ببيع العذرة» على عذرة ما يؤكل لحمه، و استندوا في حرمة عذرة غير المأكول على الإجماع المدعى على حرمة بيع العذرة، و بالجملة يظهر منهم إطلاق العذرة على مدفوع مطلق الحيوان.

و تدل على عدم الاختصاص بعذرة الإنسان مضافا الى صحيحة عبد الرحمن المتقدمة رواية سماعة قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر فقال: اني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها، و قال: لا بأس ببيع العذرة» «1» حيث تدل ان العذرة:

منها ما يجوز بيعها و منها ما لا يجوز، و قد حملوا الجزء الثاني منها على عذرة الحيوان المحلل اللحم.

و تؤيده صحيحة ابن بزيع في أحكام البئر قال: «كتبت الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب 40- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 13

رجل- الى ان قال-: أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها» «1» بناء على كون البعرة مثالا للعذرة، لكن في رواية أخرى بدل «من عذرة» «من غيره» و دعوى

انصراف العذرة الى ما هي محل الابتلاء كعذرة الإنسان و السنور و الكلب دون السباع و نحوها غير وجيهة، لفهم العرف أن حكم النجاسة ثابت لذات العذرة من غير دخالة للإضافة إلى صاحبها، و لعدم الانصراف عن عذرة بعض الطيور و بعض الحيوانات كالقردة و الخنازير مما يبتلى بها و لو قليلا، و عدم الفصل جزما بينها و بين غيرها، مع أن إطلاق الخرء على رجيع الطيور و الفأرات و الكلاب شائع ظاهرا، و هو مساوق للعذرة كما مر من كتب اللغة المتقدمة.

لكن مع ذلك إثبات كون العذرة الواردة في الروايات شاملة لفضلة جميع الحيوانات مشكل، أما أولا فلاختلاف اللغويين في ذلك فعن جمع منهم الاختصاص بفضلة الآدمي، كالهروى و الغريبين و مهذب الأسماء و تهذيب اللغة و دائرة المعارف للفريد، بل الظاهر من محكي ابن الأثير.

و أما ثانيا فلقرب احتمال انصرافها الى فضلة الآدمي لو فرض كونها أعم. و أما ثالثا فلعدم الإطلاق في الروايات الواردة لإثبات الحكم كما ستأتي الإشارة اليه.

و كيف كان لا إشكال في نجاسة البول و الغائط من الحيوان الغير المأكول الذي له نفس سائلة إلا ما استثنى كما يأتي لما مر حكاية الإجماع عليها بل في بعضها واضحة.

______________________________

(1) الوسائل- الباب 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 21.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 14

و ينبغي التنبيه على أمور:

منها قالوا: لا فرق بين غير المأكول الأصلي و العرضي كالجلال و الموطوء، و عن الغنية الإجماع على نجاسة خرء مطلق الجلال و بوله، و عن المختلف و التنقيح و المدارك و الذخيرة الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال، و عن ظاهر الذخيرة و الدلائل الإجماع على نجاسة الجلال و الموطوء و

كل ما لا يؤكل لحمه، و عن التذكرة و المفاتيح نفي الخلاف في إلحاق الجلال من كل حيوان و الموطوء بغير المأكول في نجاسة البول و العذرة و هو العمدة.

و لولاه لكان للخدشة في الحكم مجال، لأن الظاهر مما يؤكل و ما لا يؤكل المأخوذين في الأدلة هو الأنواع كالبقر و الغنم و الإبل و الكلب و السنور و الفأر لا أشخاص الأنواع، فكأنه قال: اغسل ثوبك من أبوال كل نوع لا يؤكل لحمه كما يظهر من الأمثلة التي في بعض الروايات.

ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يصيبه بعض أبوال البهائم. أ يغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار و الفرس و البغل، و أما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1» و عنه (ع) مثله الا أنه قال: «و ينضح بول البعير و الشاة، و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «2» الى غير ذلك مما هي ظاهرة في أن الحكم في الطرفين معلق على الأنواع.

و لا ريب في ان الظاهر من ذلك التعليق أن النوع مما أكل أولا،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 15

و لا تنافي مأكوليته مع عروض العدم بالجلل و غيره لبعض الافراد، نعم لو كان موضوعه أفراد الأنواع كان الجلال مصداقه، لكنه خلاف ظواهر الأدلة.

و أما الاستشهاد للمطلوب بما ورد من غسل عرق الجلال ففي غير محله و لو قلنا بنجاسته، لحرمة القياس، و دعوى الأولوية غير مسموعة بعد احتمال كون نجاسة عرقه

لكونه فضل العذرة بخلاف بوله، مع أن الأقوى عدم نجاسة عرق ما عدم الإبل الجلال كما يأتي.

نعم لو أغمض عما ذكرنا، فلا مجال للقول بتعارض ما دل على نجاسة بول غير المأكول و روثه مع ما دل على طهارتهما من الغنم و البقر تعارض العموم من وجه، فيرجع إلى أصالة الطهارة و استصحابها، لتقدم الاولى على الثانية بنحو من الحكومة، لأن المأكولية و غيرها من الأوصاف الانتزاعية الزائدة على الذات، و الدليل الدال على الحكم المعلق عليها مقدم عرفا على الدال على الحكم المعلق على عناوين الذات.

و كيف كان لا مجال للتشكيك في الحكم بعد ما عرفت من تسلمه بين الأصحاب و ان احتمل أن يكون مستندهم فيه هو الأدلة اللفظية، بدعوى عمومها للمحرم بالعرض كما صرح به بعضهم، و بعد وصول شي ء آخر إليهم غير ما وصل إلينا، لكن مع ذلك الأقوى ما عليه الأصحاب و لفهم العلية من الأدلة و الدوران مدارها ببركة فهمهم منها. و إمكان دعوى إطلاق أدلة نجاسة البول و العذرة، و المتيقن من الخروج هو ما للمأكول فعلا، و المتأيد في روثة بأنه من فضل العذرة، و هو أردأ منها.

و منها: اختلفوا في رجيع الطير،

فعن الصدوق في الفقيه: «لا بأس بخرء ما طار و بوله» و إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين المأكول و غيره،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 16

و حكي القول بطهارته عن ابن أبي عقيل و الجعفي، و تبعهم جمع من متأخري المتأخرين، و عن الشيخ في المبسوط القول بها فيما عدي الخشاف. فقال: «بول الطيور و ذرقها كله طاهر الا الخشاف».

و عن المشهور القول بنجاسة خرء ما لا يؤكل و بوله، بل في الجواهر «شهرة عظيمة

تقرب الإجماع ان قلنا بشمول لفظ الغائط و العذرة و الروث في عبارات الأصحاب لما نحن فيه، كما قطع به العلامة الطباطبائي في مصابيحه بالنسبة إلى خصوص عباراتهم» انتهى. و هو ليس ببعيد، لما عرفت من تصريح اللغويين من مساوقة العذرة للخرء و شيوع إطلاق الخرء على رجيع الطير في الاخبار و غيرها.

و عن الحلي في باب البئر: «قد اتفقنا على نجاسة ذرق غير المأكول من سائر الطيور، و قد رويت رواية شاذة لا يعول عليها أن ذرق الطائر طاهر سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكوله، و المعمول عند محققي أصحابنا و المحصلين منهم خلاف هذه الرواية لأنه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها» انتهى.

و في التذكرة: «البول و الغائط من كل حيوان ذي نفس سائلة غير مأكول اللحم نجسان بإجماع العلماء كافة، و للنصوص الواردة عن الأئمة عليهم السلام بغسل البول و الغائط عن المحل الذي أصاباه، و هي أكثر من أن تحصى، و قول الشيخ في المبسوط بطهارة ذرق ما يؤكل لحمه من الطيور لرواية أبي بصير ضعيف، لأن أحدا لم يعمل بها» انتهى.

و هو ظاهر في أن الروايات المشتملة على البول و العذرة و الخرء بإطلاقها شاملة للطيور و غيرها من أصناف الحيوان، و كذا كلمات الفقهاء المشتملة عليها و على الغائط و نحوه، و يظهر ذلك من الحلي أيضا.

و عن الغنية: «و النجاسات هي بول ما لا يؤكل و خرؤه بلا خلاف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 17

و ما يؤكل لحمه إذا كان جلالا بدليل الإجماع» و شمول الخرء لرجيع الطير مما لا سبيل إلى إنكاره، و عن الخلاف دعوى إجماع الفرقة و أخبارهم على

نجاسة بول و ذرق ما لا يؤكل طيرا أو غيره، و عن الجامعة شرح الألفية دعوى إجماع الكل على نجاستهما من الطير الغير المأكول و غير الطير.

فعليه يشكل العمل بصحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل شي ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه» «1» و عن البحار:

وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «خرء كل شي ء يطير و بوله لا بأس به» «2» لعدم ثبوت عمل الصدوق بها و ان كان ظاهر فقيهه، سيما مع ما عن مقنعته قال: «و ان أصاب ثوبك بول الخشاشيف فاغسل ثوبك» «3» و روي «أنه لا بأس بخرء ما طار و بوله و لا تصل في ثوب أصابه ذرق الدجاج» «4» انتهى. فان الظاهر منه عدم عمله بما روي، و لم يحضرني عبارة الجعفي و ابن أبي عقيل، و لا يعتمد بما في المبسوط مع دعوى الإجماع في الخلاف على خلافه، و مع فتواه في النهاية التي هي معدة لذلك على نجاسة ذرق غير المأكول من الطيور، كما أنه لا اعتماد على فتوى متأخري المتأخرين مع إعراض الأصحاب عن الصحيحة بشهادة الحلي و العلامة مع صحة سندها و وضوح دلالتها، و لا شبهة في أن المشهور بين قدماء أصحابنا هو النجاسة، و لهذا لم ينقل الخلاف الا ممن ذكر، فتكون الفتوى بالطهارة شاذة.

و لو أغمض عن ذلك و محضنا النظر الى الروايات فيمكن أن يقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات الحديث 2.

(3) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(4) المستدرك- الباب- 6- من أبواب

النجاسات الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 18

إن بين صحيحة أبي بصير و صحيحة ابن سنان تعارض العموم من وجه بدوا، فإن الأولى بعمومها شاملة لغير المأكول و الثانية بإطلاقها شاملة له.

نعم هنا رواية أخرى عن ابن سنان رواها الكليني في أبواب لباس المصلي عن علي بن محمد عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه» «1» فهي أيضا شاملة له بالعموم، لكن فيها إرسال لأن علي بن محمد من مشايخ الكليني و لم يدرك ابن سنان، فإنه من أصحاب أبي عبد اللّٰه (ع) و لم يثبت إدراكه لأبي الحسن موسى عليه السلام كما يشهد به التتبع و شهد به النجاشي، و ان عده الشيخ من أصحابه عليه السلام، و لا إشكال في عدم إدراك على بن محمد و من في طبقته له و لمن في طبقته، بل في طبقة متأخرة منه أيضا، كابن أبي عمير و جميل و من في طبقتهما.

و على أي تقدير بينهما جمع عرفي في مورد الاجتماع، لأن الأمر بالغسل من بول ما لا يؤكل من الطير حجة على الإلزام و الوجوب ما لم يرد الترخيص، و نفي البأس ترخيص، و لو سلم ظهوره في الوجوب لغة يجمع بينهما بحمل الظاهر على النص، و صحيحة أبي بصير نص في عدم الوجوب.

و توهم عدم إمكان التفكيك في مفاد الهيئة مدفوع، أما على ما ذكرناه في محله بأنها لا تدل إلا على البعث و الإغراء من غير دلالة على الوجوب أو الاستحباب وضعا فظاهر، لعدم لزوم التفكيك في مفادها الذي هو البعث و الإغراء و

ان انقطعت الحجة على الإلزام بالنسبة إلى مورد الترخيص دون غيره و أما على ما قالوا فللكشف عن استعمالها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 19

في مطلق الرجحان.

و كيف كان لا تعارض بينهما بعد الجمع العقلائي مضافا الى ما قيل من تقدم أصالة العموم على أصالة الإطلاق فيقدم صحيحة أبي بصير بعمومها على إطلاق صحيحة ابن سنان، و روايته الأخرى و ان كانت عامة، لكن قد عرفت أنه لا ركون إليها و ان كان في تقديم أصالة الإطلاق إشكال و كلام، مع إمكان أن يقال: إن صحيحة ابن سنان غير ظاهرة في الوجوب و لا حجة عليه، لقرب احتمال ان يكون المراد مما لا يؤكل لحمه ما لا يعد للأكل و لا يكون أكله متعارفا، لا ما يحرم أكله شرعا، بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك لأن ما يؤكل و ما لا يؤكل ظاهر ان فيما يأكله الناس و ما لا يأكله، و الحمل على ما يحرم أو يحل يحتاج الى تقدير و تأويل.

و تشهد لما ذكر صحيحة عبد الرحمن أو موثقته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يصيبه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا؟

قال: يغسل بول الفرس و الحمار و البغل فأما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1» حيث قابل فيها بين الفرس و أخويه و بين ما يؤكل لحمه.

و رواية العياشي عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال:

«سألته عن أبوال الخيل و البغال و الحمير قال فكرهها فقلت: أ ليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أ ليس قد بين اللّٰه لكم: و الانعام

خلقها لكم فيها دف ء و منافع و منها تأكلون، و قال في الخيل: و الخيل و البغال و الحمير؟ و ليس لحومها بحرام و لكن الناس عافوها» «2».

______________________________

(1) مرت في صفحة 10.

(2) المستدرك- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 20

مضافا الى الروايات الكثيرة الآمرة بالغسل عن أبوال البهائم الثلاث «1» فيضعف ظهور قوله عليه السلام: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» في الوجوب حتى يستفاد منه النجاسة، بعد معلومية عدم نجاسة بول تلك البهائم من الصدر الأول خصوصا في زمان الصادقين عليهما السلام. حيث كانت طهارته ضرورية مع كثرة ابتلاء الأعراب بها، و كثرة حشرهم مع تلك الدواب في الحروب و غيرها من زمن رسول اللّٰه (ص) الى عصر الصادقين عليهما السلام.

و بالجملة ان قلنا بظهور صحيحة ابن سنان فيما لا يعد للأكل و لا يأكله الناس فعلا لا يبقى ظهور الأمر بالغسل في الوجوب.

ثم لو أغمض عن ذلك و قلنا بتعارض الروايتين و قلنا بعدم شمول أدلة العلاج للعامين من وجه كما هو الأقرب فالقاعدة تقتضي سقوطهما و الرجوع الى أصالة الطهارة، إلا أن يقال بإطلاق الروايات الواردة في البول، كصحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن البول يصيب الثوب؟ قال: اغسله مرتين» «2» و نحوها غيرها «3».

و إطلاق ما وردت في العذرة تقدم جملة منها و ان كان في إطلاقها

______________________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 1- يمكن أن يقال: انه ليس في مقام بيان أصل النجاسة للبول، بل بصدد بيان كيفية التطهير من حيث التعدد بعد

المفروغية عن نجاسته و لا يصح التمسك بإطلاق كلمة البول الواقعة في كلام السائل كما لا يخفى، و عليه ففي إطلاقها نظر.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات الحديث 2 و 3 و 4 و 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 21

لبول الطير كلام، و قد يقال بعدم البول للطيور غير الخفاش، كما يظهر من رواية المفضل «1» اختلافه مع سائر الطهور في أمور: منها أنه يبول دونها، و يحتمل أن يكون بول الطيور مخلوطا برجيعها لوحدة مخرجهما، و تشهد لوجود البول للطيور صحيحة أبي بصير المتقدمة، لبعد إلغاء الكلية في بول الطير، لمكان الخفاش فقط.

و الانصاف انه لو لا إعراض الأصحاب عن صحيحة أبي بصير، لكان القول بالطهارة متجها، لما مر من الوجوه، و العمدة منها الجمع العقلائي بينها و بين غيرها، لكن لا مجال للوسوسة بعد ما عرفت، بل و لو لا الخدشة المتقدمة في رواية المختلف عن كتاب عمار بن موسى لكانت الرواية من أقوى الشواهد على أن علة عدم البأس في خرء الخطاف مأكولية اللحم لا الطيران، و إلا كان التعليل به أولى بل متعينا، فيظهر منها أن الطيور أيضا على قسمين.

و مما ذكرنا يظهر حال بول الخفاش، بل القول بالنجاسة فيه أظهر لا لرواية داود قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه فلا أجده فقال: اغسل ثوبك» «2» لضعفها سندا و عدم مقاومتها لموثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام

______________________________

(1) في الخبر المشتهر بتوحيد المفضل: «تأمل يا مفضل جسم الطائر و خلقته فإنه حين قدر ان يكون طائرا في الجو خفف جسمه و أدمج خلقه فاقتصر

به من القوائم الأربع على اثنتين، و من الأصابع الخمس على اربع و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما» راجع البحار- ج 3- ص 103- من الطبعة الحديثة.

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 22

قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «1» لا سندا و لا دلالة، أما الأول فواضح لعدم من يتأمل فيه في سندها إلا غياث و هو موثق أو ثقة، بخلاف الأولى فان في سندها موسى بن عمر و يحيى ابن عمر و لم يرد فيهما توثيق.

و أما دلالة فلتقدمها عليها تقدم النص على الظاهر مع تأيدها بما عن نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام «أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخشاشيف و دماء البراغيث فقال: لا بأس به» «2» بل لما تقدم من عدم العامل بمثل هذه الرواية. و الشيخ الذي أفتى في المبسوط بطهارة بول الطيور و ذرقها استثنى الخفاش و حمل هذه الرواية على التقية مع أنها أخص مطلقا من أدلة نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، فهي إذا شاذة لا يعبأ بها.

و أما خرء الدجاجة فلا ينبغي الإشكال في طهارته، بل مع شدة ابتلاء الناس به لو كان نجسا لصار من الضروري، مع إمكان دعوى ضرورية طهارته، مضافا الى العمومات و خصوص رواية وهب «3».

و أما رواية فارس قال: «كتب اليه: رجل يسأله عن ذرق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) المستدرك- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه

عن على عليهم السلام انه قال: «لا بأس بخرء الدجاج و الحمام يصيب الثوب» راجع الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 23

الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا» «1» فمر دودة الى راويها «2» الذي هو فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني الكذاب اللعين المختلط الحديث و شاذة، المقتول بيد أصحاب أبي محمد العسكري عليه السلام و بأمر أبي الحسن عليه السلام كما هو المروي.

فما عن المفيد و الشيخ من القول بنجاسته غير وجيه، بل عن ظاهر الثاني في التهذيب و الاستبصار موافقة الأصحاب، و من بعض ما تقدم يظهر وضوح طهارة أبوال الخيل و البغال و الحمير و أرواثها، فإنها مع هذا الابتلاء الكثير المشاهد خصوصا في بلاد الأعراب في حروبهم و غيرها لو كانت نجسة لصارت ضرورية واضحة لدى المسلمين لا يشك فيها أحد منهم، مع أن الطهارة في جميع الأعصار كالضروري لا يحوم حولها التشكيك.

فالقول بالنجاسة اغترارا بالروايات الآمرة بالغسل عن أبوالها في غاية السقوط و لو فرض عدم الروايات النافية للبأس عنها، و في مثل المقام يقال: كلما ازدادت الروايات صحة و كثرة ازدادت و هنا و ضعفا مع أن الجمع بينها عقلائي و التصرف فيها من أوهن التصرفات.

ففي حسنة معلى بن الخنيس و عبد اللّٰه بن أبي يعفور أو صحيحتهما قال: «كنا في جنازة و قدامنا حمار فبال، فجائت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا و ثيابنا، فدخلنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام فأخبرناه فقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) و كذلك رواية وهب بن وهب المتقدمة لما عن النجاشي و ابن الغضائري في شأنه من انه

كذاب، و كذلك عن الكشي من أنه أكذب البرية فلا فرق بين ما رواه فارس بن حاتم أو وهب بن وهب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 24

ليس عليكم بأس» «1».

و ليس في سندها من يتأمل فيه إلا الحكم بن مسكين، و هو مع كونه كثير الرواية و مقبولها و رواية مثل ابن أبي عمير و ابن محبوب و ابن أبي الخطاب و الحسن بن على بن فضال عنه، و كونه كثير الكتب يندرج في الحسان، بل عن الوحيد في حاشية المدارك عن المحقق الحكم بصحة رواياته، و معه لا مجال للتوقف فيها. و هي نص في المطلوب، فيحمل عليها ما هو ظاهر في وجوب الغسل لو سلم ذلك.

و عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه، أ يصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جف فلا بأس» «2» قال في الوسائل: و رواه على ابن جعفر في كتابه مثله فهي صحيحة بالطريق الثاني.

و صحيحته الأخرى عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على أبوالها و أرواثها كيف يصنع؟ قال: إن علق به شي ء فليغسله، و إن كان جافا فلا بأس» «3» و الظاهر من فرض وقوعه في الأبوال وصولها اليه و تأثره منها، فحينئذ يراد بقوله: «إن كان جافا» صيرورته جافا بعد وصول البول اليه، لا إبداع الشك في الوصول أو فرض عدمه، فإنهما خلاف الظاهر منها، تأمل.

و رواية النخاس قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني أعالج الدواب، فربما خرجت بالليل و قد بالت و راثت، فيضرب إحداها برجله أو يده،

فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه، فقال: ليس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 15.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 19.

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 22.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 25

عليك شي ء» «1».

و الظاهر أن المراد بالدابة عند الإطلاق الخيل و أخواه كما تشهد به رواية زرارة الآتية، نعم يحتمل في رواية النخاس عدم العلم بوصول البول إلى ثيابه، لكن بعد فرض أنها بالت و راثت مع كون بولها و روثها في مكان واحد، فلا محالة لو كانت الأبوال نجسة صارت الأرواث بملاقاتها نجسة، سيما مع فرض دواب كثيرة في مكان واحد، فنفي البأس عن الروث دليل على عدم البأس في أبوالها أيضا، و منه يظهر إمكان الاستيناس أو الاستدلال للمقصود ببعض ما دلت على نفي البأس في الأرواث.

و في رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام «في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه، فقلت: أ ليس لحومها حلالا؟ فقال: بلى، و لكن ليس مما جعله اللّٰه للأكل» «2» بدعوى ظهور «كرهه» في الكراهة و إن لا تخلو من اشكال.

و في موثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «ان الصلاة في وبر كل شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كل شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل اللّٰه أكله، ثم قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فاحفظ ذلك يا زرارة فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و روثه و

ألبانه و كل شي ء منه جائز» «3» إلخ الى غير ذلك مما هو نص في الطهارة و عدم البأس، و الجمع بينها و بين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 26

ما أمر فيها بالغسل عقلائي بحمل الثانية على رجحان التنزه عنها.

و لقد أطنب صاحب الحدائق في المقام، و أتى بغرائب و أطال اللسان على محققي أصحابنا بزعم تنبهه على أمور غفل عنها المحصلون، و لو لا مخافة تضييع الوقت لسردت إيراداته مع ما يرد عليها، لكن الأولى الغض عنها بعد وضوح المسألة.

و أما بول الرضيع فلم ينقل الخلاف في نجاسته إلا عن ابن الجنيد فإنه قال: «بول البالغ و غير البالغ من الناس نجس إلا أن يكون غير البالغ صبيا ذكرا، فان بوله و لبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس» و الظاهر منه نجاسة لبنه إذا أكل اللحم و هو غريب، كما أن التقييد بأكل اللحم أيضا غريب، لكن عن المدارك حكاية «الطعام» بدل «اللحم» عنه.

و الأقوى ما عليه الأصحاب لا لروايات غسل بول ما لا يؤكل، فإنها منصرفة عن الإنسان، بل للإجماع المحكي عن السيد، بل دخوله في معقد إجماع غيره، و للروايات الخاصة الآمرة بالغسل تارة كموثقة سماعة «1» و بالصب و العصر أخرى كصحيحة الحسين بن أبي العلاء «2» بناء على وثاقته، و بالصب ثالثة مفصلا بين من كان قد أكل و غيره مع

______________________________

(1) عن سماعة قال: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب، فقال: اغسله، قلت: فان لم أجد مكانه، قال:

أغسل الثوب كلّه» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(2) عن الحسين بن أبي العلاء (في حديث) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الصبي يبول على الثوب، قال: تصبّ عليه الماء قليلا ثم تعصره» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 27

الحكم بأن الغلام و الجارية شرع سواء «1».

و لا منافاة بين ما دلت على الغسل و ما دلت على الصب إما بحمل الغسل على الصب بأن يقال: إنه نحو من الغسل، و ما دلت عليه حاكمة على ما دلت على الغسل، و بيان لكيفيته، أو يقال: إن ما دلت على الصب مطلقا محمولة على غير من أكل، و ما دلت على الغسل محمولة على من أكل. بشهادة صحيحة الحلبي المفصلة بينهما لو قلنا بأن الغسل مباين له.

و أما توهم أن ما دلت على الصب لا تدل على النجاسة لبعد أن يكون الصب مطهرها مع بقاء الغسالة فيه بعد البناء على عدم وجوب العصر كما يأتي في محله.

فمدفوع بأن غاية ما لزم من عدم لزوم انفصال غسالته أنها طاهرة فلا يلزم انفصالها، و هي غير مستبعدة بعد وقوع نظيرها في باب الاستنجاء فان لازم طهارة مائه انه يجوز صب الماء على الحشفة في السراويل، بل وضعها على ثوب وصب الماء عليها، نعم لو قلنا بلزوم انفصال غسالتها يكون ذلك نحو افتراق بينهما مع اشتراكهما في عدم نجاسة غسالتها.

فالقائل بالطهارة إن أراد عدم لزوم غسل بول الصبي و كذا الصب عليه، فمحجوج بالروايات المعتبرة الدالة على لزوم الصب و الغسل، و لا يمكن رفع اليد عنها بمجرد الاستبعاد مع تعبدية الحكم.

و

إن أراد أنه مع لزومه لا يكون البول نجسا فهو أبعد مما استبعده

______________________________

(1) و هي صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصبّ عليه الماء، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا، و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء» راجع الوسائل الباب- 3- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 28

ضرورة أن الأمر بالصب ليس إلا لنحو تغسيل له، لا حكم تعبدي غير مربوط بباب التطهير و التغسيل.

و أما ما ورد في قضية الحسنين عليهما السلام في رواية الراوندي و الجعفريات عن على عليه السّلام «1» من عدم غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ثوبه من بولهما قبل أن يطعما فلا تنافي الروايات، لأن الغسل منصرف أو حقيقة فيما يتعارف من انفصال الغسالة، و هو غير لازم فلم يفعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و لا ينافي لزوم الصب كما تشهد به رواية الصدوق في معاني الأخبار «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتي بالحسن بن علي عليه السّلام فوضع في حجره فبال، فقال: لا تزرموا ابني، ثم دعا بماء فصب عليه» «2» بل لا يبعد أن تكون القضية واحدة بل ورد في مولانا الحسين عليه السلام شبه القضية فقال: «مهلا يا أم الفضل فهذا ثوبي يغسل و قد أوجعت ابني» «3» و في رواية فقال: «مهلا يا أم الفضل إن هذه الإراقة الماء يطهرها، فأي شي ء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين عليه السلام» «4» مضافا إلى أن الروايات الواردة في القضيتين ضعاف لا ركون إليها لإثبات حكم.

______________________________

(1) عن السيد فضل اللّٰه الراوندي في

نوادره بإسناده عن موسى ابن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: «قال علي عليه السلام:

بال الحسن و الحسين عليهما السلام على ثوب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قبل أن يطعما فلم يغسل بولهما من ثوبه» و مثلها ما عن الجعفريات راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 4- 2

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(4) المستدرك- الباب- 4- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 29

و أما رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام قال: لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن يطعم لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين» «1» فمع اشتمالها على ما يخالف الإجماع و الاعتبار و معارضتها لصحيحة الحلبي «2» المصرحة بالتسوية و إمكان كون التصريح بها لدفع مثل ما صدر تقية و إمكان أن يقال: إنه لا يغسل من بوله و إن صب عليه، فيكون طريق جمع بينها و بين روايات الصب، لا تصلح لإثبات حكم مخالف للإجماع و الأدلة العامة و الخاصة.

و منها: لا ينبغي الإشكال في طهارة رجيع ما لا نفس له

إذا كان من غير ذوات اللحوم كالذباب و الخنفساء و نحوهما، و ان حكي عن المعتبر التردد فيه لانصراف أدلة ما لا يؤكل لحمه عنها بلا إشكال، و توهم أعمية ما لا يؤكل من السالبة بسلب الموضوع في غاية السقوط.

و أما ما لا نفس له من ذوات اللحوم ففي طهارة بولها و رجيعها و نجاستهما

و التفصيل بين البول و الرجيع بنجاسة الأول دون الثاني وجوه: و الظاهر عدم إجماع في المسألة يمكن الاتكال عليه في إثبات شي ء مما ذكر، و إن قال صاحب الحدائق «الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في طهارة رجيع ما لا نفس له كالذباب و نحوه»، و يشعر قول العلامة في التذكرة على عدم الخلاف بيننا، حيث نسب الخلاف إلى الشافعي قال «رجيع ما لا نفس له سائلة كالذباب و الخنافس طاهر لأن دمه طاهر، و كذا ميتته و روث السمك، و للشافعي في الجميع قولان» انتهى لكن مع احتمال أن يكون دعوى عدم الخلاف في مثل الذباب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 30

مما لا لحم له، و هو مسلم أن ذلك غير مجد، مع ما نرى من إطلاق كلام كثير من الأصحاب كصاحب الوسيلة و النهاية و المراسم و الغنية و اشارة السبق، و لا يبعد الاستظهار من الناصريات و محكي المقنعة و الخلاف و الجمل و النافع و الدروس، مع تقييد بعضهم في الميتة و الدم بما لا نفس له مما يؤكد الإطلاق، و الإطلاق معقد لا خلاف الغنية و محكي الخلاف.

و الانصاف أن المسألة اجتهادية لا إجماعية و منشأ الخلاف يمكن أن يكون اختلافهم في فهم الإطلاق من الروايات الدالة على نجاسة العذرة التي مرت جملة منها، و كذا اختلافهم في صدقها على غير ما للإنسان بحيث تشمل رجيع ما لا نفس له، و كذا في البول من الخلاف في الإطلاق، و المسألة محل تردد من هذه الجهة لعدم الوثوق بإطلاق

معتد به في الأدلة، و احتمال اختصاص العذرة بالآدمي كما قال جمع، أو بالأعم منه و من السباع كالسنور و الكلب لا مثل رجيع الطير و ما لا نفس له، أو منصرفة إليه.

بل يمكن أن يقال: إنه ليس في الروايات ما أطلق الحكم على العذرة، لأن أوضحها دلالة و إطلاقا رواية على بن محمد قال: «سألته عن الفأرة و الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من أثره شي ء فاغسله» «1» و عبد الرحمن «عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «2» و علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباهها تطأ العذرة ثم تدخل في ألما يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يكون الماء

______________________________

(1) مرت في الصفحة 10.

(2) مرت في الصفحة 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 31

كثيرا قدر كر من ماء» «1» الى غير ذلك مما هي نظيرها أو أخفى منها.

و هي مع كونها في مقام بيان حكم آخر لا نجاسة العذرة ان موردها عذرة الإنسان و شبهها مما هي محل الابتلاء التي تطؤها المذكورات أو يكون في ثوب الإنسان و إلغاء الخصوصية عرفا من موردها حتى تشمل مما لا نفس له غير ممكن بعد قرب احتمال الخصوصية، سيما مع طهارة ميتتها و دمها.

و منه يظهر الكلام في صحيحة ابن سنان قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «2» لعدم الوثوق بإطلاقها لما لا نفس له، و

ميتتها و دمها طاهرة، و عدم إمكان إلغاء الخصوصية عرفا بعد ذلك، و الشك في خروج البول منها بحيث يصيب الثوب.

و أما روايته الأخرى فمرسلة لا يمكن إثبات الحكم بعمومها اللغوي و المسألة محل إشكال و ان كانت الطهارة أشبه، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط خصوصا في البول.

تنبيه [بول الحيوان المشكوك كونه من ذي النفس]

يظهر من صاحب الجواهر (ره) نوع ترديد في الشبهات الموضوعية، كفضلة لم يعلم أنها من ذي النفس، قال: «بقي شي ء بناء على اعتبار هذا القيد (أي كونه من ذي النفس) و هو أن مجهول الحال من الحيوان الذي لم يدر أنه من ذي النفس أو لا يحكم بطهارة فضلته حتى يعلم أنه من ذي النفس، للأصل و استصحاب طهارة الملاقي و نحوه، أو يتوقف الحكم بالطهارة على اختياره بالذبح و نحوه، لتوقف امتثال الأمر بالاجتناب عليه، و لأنه كسائر الموضوعات التي علق الشارع

______________________________

(1) مرت في الصفحة 10.

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 32

عليها أحكاما كالصلاة للوقت و القبلة و نحوهما، أو يفرق بين الحكم بطهارته و بين عدم تنجيسه للغير، فلا يحكم بالأول إلا بعد الاختبار بخلاف الثاني للاستصحاب فيه من غير معارض، و لأنه حينئذ كما لو أصابه رطوبة مترددة بين البول و الماء، وجوه لم أعثر على تنقيح منها في كلمات الأصحاب» انتهى.

و فيه انه لا شبهة في جريان الأصول الشرعية في الشبهات الموضوعية بل الحكمية بعد الفحص، بل الأقوى جريان الأصول العقلية أيضا بالنسبة إلى أكل ملاقيه و شربه و سائر التكاليف الاستقلالية، بل و التكاليف الغيرية و الإرشادية لو قلنا بمانعية النجاسة، نعم لو قلنا بشرطية الطهارة أو عدم النجاسة

يشكل الأصل العقلي، لكن يجري الشرعي، لأن أصالة الطهارة حاكمة على أدلة الاشتراط و منقحة لموضوعها كما حررنا في محله.

نعم قد يتوقف في جريانها في الموارد التي ترفع الشبهة بأدنى شي ء كالنظر بدعوى انصراف أدلة الأصول عن المشكوك فيه الذي يزول الشك عنه بأدنى اختبار، لكن الأقوى خلاف ذلك سيما في باب النجاسات لصحيحة زرارة فيها «قلت: فهل عليّ إن شككت في أنه أصاب شي ء أن أنظر فيه؟ قال: لا و لكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك» «1» بل لا يبعد ظهورها في أن عدم لزوم الفحص انما هو للاتكال على الاستصحاب، و أنه لا ينبغي نقض اليقين بالشك لا لخصوصية النجاسة، كما أن الأقرب عدم انصراف الأدلة عن مثلها.

و ما يقال: إن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصوله إلى أزيد من النظر، فان في مثله يجب النظر، و لا يجوز الاقتحام في الشبهات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 33

مطلقا إلا بعد النظر في المقدمات لعدم صدق الفحص على مجرد النظر.

ففيه أن ذلك يتم لو كان الاتكال على الإجماع على عدم وجوب الفحص، و أما لو كان المعول عليه إطلاق أدلة الأصول فصدق الفحص و عدمه أجنبي عنه، إلا أن يدعى الانصراف و هو غير مسلم، و التفصيل موكول الى محله.

الثالث المني:

و هو نجس من الآدمي بلا إشكال و نقل خلاف، بل في الانتصار إجماع الشيعة الإمامية على النجاسة، و كذا عن الخلاف و المسائل الطبرية و الغنية و المنتهى و كشف الحق الإجماع على

نجاسته من كل حيوان ذي نفس، و عن النهاية و التذكرة و كشف الحق أنها مذهب علمائنا.

و استدل عليها السيد في الناصريات مضافا إلى الإجماع بقوله تعالى:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ «1» قال: «روي في التفسير أنه تعالى أراد بذلك أثر الاحتلام، فدلت الآية على نجاسة المني من وجهين: أحدهما قوله تعالى «وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطٰانِ» و الرجز و النجس بمعنى واحد- الى أن قال-: و الثاني من دلالة الآية أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير، و التطهير لا يطلق في الشرع إلا لإزالة النجاسة، أو غسل الأعضاء الأربعة» انتهى.

و فيه أن الظاهر من عطف قوله «يُذْهِبَ عَنْكُمْ» على قوله:

«لِيُطَهِّرَكُمْ» بالواو الظاهر في المغايرة أن التطهير بالماء غير إذهاب رجز الشيطان، فالمراد بالتطهير إما التطهير من الخبث و بإذهاب الرجز رفع الجنابة، أو المراد منه أعم من رفع الخبث و حدث الجنابة، فيكون المراد من إذهاب الرجز إذهاب وسوسة الشيطان كما عن ابن عباس،

______________________________

(1) سورة الأنفال: 8- الآية: 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 34

و ذلك أنه حكى أن الكفار في وقعة بدر قد سبقوا المسلمين إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل فأصبحوا محدثين و مجنبين و أصابهم الظمأ و وسوس إليهم الشيطان، فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء و أنتم تصلون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل، فمطرهم اللّٰه حتى اغتسلوا به من الجنابة، و تطهروا به من الحدث، و تلبدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوهم، و هذا هو المراد من ذهاب رجز الشيطان كما عن ابن عباس، و عليه لا يتم ما ذكره السيد من

الوجهين.

نعم تدل على النجاسة مضافا إلى الإجماع المحكي المستفيض طوائف من الأخبار: منها ما أمر فيها بغسله «1» و احتمال كونه مانعا من الصلاة من غير كونه نجسا مقطوع الفساد، خصوصا بعد إردافه فيها بالدم و البول.

و منها ما أمر فيها بإعادة الصلاة التي صلى فيه «2» و منها ما أمر بالصلاة عريانا مع كون الثوب منحصرا بما فيه الجنابة «3» و منها ما دل

______________________________

(1) كموثقة سماعة قال: «سألته عن المني يصيب الثوب، قال:

اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» و قريب منها روايات أخر المروية في الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 1- 3- 4- 5- 6.

(2) كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ذكر المني و شدّده و جعله أشد من البول ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة» الحديث. راجع الوسائل- الباب 16 من أبواب النجاسات الحديث 2.

(3) كرواية سماعة قال: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و ليس عليه إلا ثوب واحد و أجنب فيه و ليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يتيمم و يصلي عريانا قاعدا و يومئ إيماء» و قريب منها روايته الأخرى راجع الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 1- 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 35

على جواز الصلاة فيه حال الاضطرار «1» و منها ما صرح فيه بالنجاسة، كقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام على ما في مرسلة شعيب بن أنس لأبي حنيفة: «أيهما أرجس؟ البول أو الجنابة» إلخ «2».

و رواية العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام «و إنما أمروا

بالغسل من الجنابة و لم يؤمروا بالغسل من الخلاء و هو أنجس من الجنابة» «3» إلى غير ذلك، فلا إشكال فيها نصا و فتوى.

نعم هنا روايات ربما يتوهم ظهورها في الطهارة، منها صحيحة أبي أسامة زيد الشحام قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: تصيبني السماء و عليّ ثوب فتبله و أنا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أ فأصلي فيه؟ قال: نعم» «4».

و موثقة ابن بكير عنه عليه السلام قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل عليّ؟

قال: لا بأس» «5» بدعوى أن الظاهر منهما أن ملاقي المني طاهر

______________________________

(1) كرواية محمد الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره، قال:

يصلي فيه إذا اضطرّ إليه» راجع الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 5

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 4

(4) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(5) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 36

و لازمة طهارته.

و فيه أن الظاهر منهما أن السؤال انما هو عن أمر بعد مفروغية نجاسة المني، و ليس السائل بصدد السؤال عن نجاسته، بل بصدد أنه بمجرد كون البدن نجسا من المنى و صار الثوب مبتلا بالمطر يحكم بنجاسة الثوب إذا أصاب بعض ما أصاب الجسد من المني أولا؟ فأجاب بعدم البأس، لأن مجرد ذلك لا يوجب العلم بالسراية و وصول أثر المني الى الثوب، لاحتمال كون ما أصابه غير مورد البلة أو كون البلة

بمقدار لا يوجب السراية، و بالجملة لا يحكم بالنجاسة إلا مع العلم بإصابة الثوب بما أصابه المني مع العلم بالسراية، و مع الشك في جهة من الجهات محكوم بالطهارة.

و الشاهد على أن سؤاله عن الشبهة الموضوعية أنه فرض في الروايتين مصداقين من الشبهة الموضوعية: أحدهما فرض كون المني في جسده و ثوبه مبتلا فسأل عن حال الثوب و الصلاة فيه، و الثاني فرض كون الجنابة في ثوبه و أصابه السماء حتى يبتل عليه فسأل عن حال جسده.

فهاتان الروايتان من أدلة نجاسته لا طهارته، لأن الظاهر منهما مفروغيتها، و السؤال عن الشبهة الموضوعية، و السؤال عنها غير عزيز يظهر بالتتبع.

و منها رواية علي بن أبي حمزة قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأسا، و قال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطب أبو عبد اللّٰه عليه السلام في وجه الرجل، فقال: ان أبيتم فشي ء من ماء ينضحه به» «1» بدعوى ظهورها في طهارة ملاقيه و لازمها طهارته.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 37

و فيه أن فيها احتمالين: أحدهما أن مراد السائل رفع الشبهة عن عرق الجنب كما وردت فيه روايات يظهر منها أن عرقه كان مورد الشبهة في تلك الأزمنة، فيكون قوله: «أجنب في ثوبه» يعني به أجنب و عليه ثوب فيعرق فيه، لا أن الجنابة وقعت في الثوب.

و ثانيهما أن السؤال عن الشبهة الموضوعية كما تقدم في الروايتين المتقدمتين، و الشاهد عليه قوله: «أنه يعرق حتى لو شاء» إلخ، فكأنه قال: مع كون العرق كذلك

كيف يحتمل عدم الملاقاة، و يؤيده أمره بالنضح الذي ورد الأمر في غير مورد من الشبهات الموضوعية، فتكون الرواية من أدلة نجاسته لا طهارته.

و منها صحيحة زرارة قال: «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه، أ يتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به، إلّا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس به» «1».

و الظاهر منها التفصيل بين الرطب و الجاف كما نسب ذلك إلى أبي حنيفة، قال السيد في الناصريات: إن أبا حنيفة و أصحابه و إن وافقوا في نجاسته فإنهم يوجبون غسله رطبا و يجزى عندهم فركه يابسا، و الظاهر منهم أن ملاقي النطفة ليس بنجس، و لهذا اكتفوا بالفرك، و الظاهر أنها صدرت تقية موافقة لمذهبهم فإنها نفت البأس عن النطفة اليابسة، لأن التجفيف مع يبسها لا يوجب إلا الملاقاة معها، و أما التجفيف مع الرطبة فيوجب انتقال أجزائها إلى الجسد، و الشيخ البهائي حملها على ما لا يخلو من تعسف و إشكال.

و يمكن أن يقال: إنه مع اليبوسة لا يحصل العلم بسراية النجاسة إلى البدن لاحتمال سبق موضع الطاهر بالبدن و تجفيفه، و معه لا تسرى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 38

النجاسة، و أما مع الرطوبة و وجود المني الرطب فيه فلا محالة تسرى إليه، تأمل. و كيف كان فالعمل على المذهب، و الرواية مأولة أو مطروحة.

و أما المني من الحيوان غير الآدمي من ذي النفس فلا إشكال في نجاسته، و نقل الإجماع عليها متكرر بحيث لا يبقى مجال للتشكيك فيها.

و إنما الكلام في إطلاق الأدلة، فإنه يظهر من المعتبر و المنتهى التمسك بإطلاقها، و

أنكره صاحب المدارك، و شدد النكير عليه صاحب الحدائق، و تبعهما غيرهما، و قد علله في الجواهر بتبادر الإنسان من الأدلة، قال «و لعله لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب و نحوه مما يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان» انتهى.

أقول: إن كانت دعوى التبادر و الانصراف توهم ندرة الوجود فلا نسلمها في المحيط الذي وردت الروايات فيه، ضرورة أنه محل تربية الحيوانات و استنتاجها و استفحالها، و لا يخفى على من رأى كيفية استفحال البهائم شدة الابتلاء بمنيها و كثرته و أن إصابة منيها خصوصا البهائم الثلاثة بالثوب و غيره مما يحتاج إليه الإنسان و يبتلى به كثيرة لا يمكن معها دعوى الانصراف، و العرب سيما سكان الجزيرة كان مهم شغلهم تربية الحيوانات التي تحتاج إلى الاستفحال الذي يكثر معه إصابة المني بألبستهم و أيديهم و سائر متاعهم.

و الانصاف أن دعوى الانصراف و التبادر إنما صدرت ممن لا يبتلى به، و نشأ في بيت أو محيط كان الابتلاء به نادرا أو مفقودا رأسا، فقاس به سائر الأمكنة و الأشخاص، و إلا فأي قصور بعد التنبه بما ذكرناه في إطلاق رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن المني يصيب الثوب قال: إن عرفت مكانه فاغسله، و إن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 39

خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله» «1» و موثقة سماعة قال:

«سألته عن المني يصيب الثوب، قال: اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» «2».

و صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني و شدده و جعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني

قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك و كذا البول» «3» إلى غير ذلك.

بل لا يبعد أن يقال: إن العرف يرى أن الحكم لماهية المني من غير دخالة للإضافات فيه، بل يمكن أن يقال: إن المراد من تشديد المنى و جعله عليه السلام أشد من البول هو كونه نجسا مطلقا، و أما البول فطاهر من مأكول اللحم، فكان أمره أهون في الشريعة من المني، لكون هذا طاهرا في الجملة، و ذاك نجس مطلقا، أي حتى من المأكول ذي النفس، و أما احتمال كونه أشد لاحتياج إزالته إلى الدلك و الفرك دون البول فبعيد، لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى الذكر و النقل، مع أن الظاهر من قوله: «شدده و جعله أشد» أن ذلك أمر لا يعرفه الناس، و يعرفه الامام عليه السلام، و أما احتمال كون الأشد بمعنى أنجس فيرده تصريح أبي عبد اللّٰه عليه السلام في رواية شعيب و أبي الحسن الرضا عليه السلام في رواية العلل «4» بأنجسية البول. بل يدل على أنجسيته ما دل على لزوم غسله مرتين دون المني.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) مرتا في صفحة 35.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 40

و احتمال كون الأشدية باعتبار وجوب غسل الجنابة منه دون البول بعيد أيضا، لأن الظاهر منها أن الحكم لطبيعة المني لا لخروجه من المجرى، فبقي الاحتمال الأول، و ما ذكر و إن لم يثبت جزما

و لا يوجب ظهورا لكن يقرب دعوى الإطلاق فيها.

و الانصاف أن دعواه في تلك الروايات لا تقصر عن دعواه في كثير من الموارد التي التزموا به، نعم لا إشكال في اختصاص ما اشتملت على الجنابة أو الاحتلام بالآدمي، لكن لا يوجب ذلك طرح الإطلاق في غيرها. و أما موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «1» فالظاهر انصرافها إلى البول و الروث مما كثرت الروايات في التعرض لهما و لحكمهما، و لهذا لا ينقدح في الذهن منها عدم البأس بدمه.

نعم لو قلنا بإطلاقها و شمولها للمني لا يعارضها تلك المطلقات لتقدمها عليها بنحو حكومة، و لو نوقش فيها فالأهون الجمع بينهما بحملها على الاستحباب بقرينة نفي البأس النص في عدم النجاسة.

و أما موثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال:

«إن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و شعره و بوله و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» «2» فمحمولة على ما كانت التذكية دخيلة فيه بمناسبة الشرطية، لا مثل الدم و المني، نعم في مثل البول و الروث ظاهرها طهارتهما، و على أي تقدير لا إشكال في الحكم بعد الإجماع و ما تقدم من الأخبار.

و أما غير ذي النفس من الحيوان فلا يبعد انصراف الأدلة عنها،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 41

كما لا يبعد انصرافها عن بعض أقسام ذي النفس أيضا، لكن يتم فيه بالإجماع، و في غيره يكون

مقتضى الأصل طهارته بعد الانصراف أو عدم إحراز الإطلاق، بل لا وثوق بإطلاق معاقد الإجماعات يشمل غير ذي النفس، بل و بعض أفراد ذي النفس، فان المحتمل من عبارة السيد أن دعواه الإجماع بالنسبة إلى مني الإنسان، و لهذا استدل عليها بعد الإجماع بقوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً إلخ، و هو مخصوص بمنيه.

و الظاهر من إجماع الخلاف هو مقابل أبي حنيفة المدعي بأنه يغسل رطبا و يفرك يابسا، بقرينة قوله بعد دعواه: «و دليل الاحتياط لأن من أزال ذلك بالغسل صحت صلاته بلا خلاف، و إذا فرّكه و أزاله بغير الماء فيه خلاف» ثم استدل بالآية المتقدمة.

و في الغنية: و المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل رطبا كان أو يابسا بدليل الإجماع المذكور، و قوله تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ إلخ، ثم استدل بها كما استدل السيد، و لم يظهر منها دعوى الإجماع حتى بالنسبة إلى ما لا نفس له مما يشك في وجود المني له، لكن الإنصاف أن إنكار شمول إجماع الخلاف المصرح بأن المني كله نجس من الإنسان و غير الإنسان و الرجل و المرأة لغير ذي النفس مكابرة. مع أنه استدل بالآية أيضا كما استدل بها السيد.

و من هنا يمكن دعوى شمول معقد إجماع السيد و ابن زهرة لمطلق الحيوان ذي النفس و غيره، و إنما استدلوا بالآية في مقابل بعض العامة القائل بالطهارة مطلقا، فاستدلالهم بها لنفي السلب الكلي لا لإثبات جميع المدعى، و إنما دليلهم على جميعه الإجماع و الروايات الواردة من الطريقين.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 42

و قد حكي الإجماع بقول مطلق زائدا على ما ذكرناه عن المسائل الطبرية و المنتهى

و كشف الحق و السرائر، و إن قال صاحب مفتاح الكرامة بأنه لم أجده في السرائر، و إنما نص على نجاسة المني بقول مطلق من غير نقل إجماع، و عن شرح الفاضل أن ظاهر الأكثر على نجاسة مني غير ذي النفس، و عن نهاية الإحكام و الذكرى و الدروس و الروض و الروضة أنه لا فرق بين الآدمي و غيره و الحيوان البري و البحري كالتمساح، مع أنه من غير ذي النفس ظاهرا، و هو الظاهر ممن لم يقيده بغير ذي النفس كالوسيلة و المراسم و اشارة السبق، بل لم يحك عن أحد قبل المحقق التفصيل بين ذي النفس و غيره، و لا تقييد المني بذي النفس مع تقييدهم الميتة به، و هو مما يؤكد الإطلاق، فحينئذ كيف يسوغ دعوى الشهرة جزما بل تقريب الإجماع من السيد في محكي الرياض، و دعوى الإجماع من صاحب مجمع البرهان و صاحب الجواهر، و استظهار عدم الخلاف من الشيخ الأعظم.

فالمسألة مشكلة من أجل إمكان دعوى إطلاق الأدلة و معاقد الإجماعات المتقدمة، بل عموم معقد إجماع الخلاف، و من إمكان دعوى الانصراف بالنسبة إلى غير ذي النفس، خصوصا مع عدم العلم بكونه ذا مني، بل و من بعض أنواع ذي النفس، و الاحتياط لا يترك مطلقا، و ان كان التفصيل أشبه بالقواعد بعد قوة دعوى الانصراف عن غير ذي النفس، و الجزم بعدم التفصيل بين أقسام ذي النفس بعد شمول المطلقات لبعضها كما تقدم. و اللّٰه العالم.

الرابع الميتة:

اشارة

و هي إما من ذي النفس أو غيره، و الأولى إما من آدمي أو غيره، فقد استفيض نقل الإجماع على نجاسة ميتة ذي النفس، و عن المعالم قد تكرر في كلام الأصحاب

ادعاء الإجماع على هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 43

الحكم، و هو الحجة، إذ النصوص لا تنهض بإثباته، ثم ذكر بعض الروايات و ناقش في سنده و دلالته في إفادة الحكم بكماله.

و عن المدارك المناقشة في أصل الحكم لفقدان نص على نجاستها، و ناقش في دلالة ما أمر فيها بالغسل و نهي عن الأكل على النجاسة، ثم ذكر رواية الفقيه النافية للبأس عن جعل الماء و مثله في جلود الميتة «1» مع تصريح الصدوق (ره) في أوله بأن ما أوردته فيه هو ما أفتى و أحكم بصحته و أعتقد أنه حجة بيني و بين ربي، ثم قال: و المسألة قوية الإشكال.

أقول: أما نجاستها من ذي النفس غير الآدمي فلا ينبغي الإشكال فيها، لا لدعوى الإجماع المتكرر فقط، بل لدلالة طوائف من الروايات عليها، و قلما توجد كثرة الأخبار في نجاسة شي ء بمثلها، و نحن نذكر قليلا من كثير.

فمنها صحيحة حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء و أشرب، فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب» «2».

و رواية أبي خالد القماط «أنه سمع أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول في الماء يمر به الرجل و هو نقيع فيه الميتة، فقال أبو عبد اللّٰه

______________________________

(1) عن محمد بن علي بن الحسين قال: «سئل الصادق عليه السلام عن جلود الميتة يجعل فيها اللّبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصل فيها»

راجع الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 44

عليه السلام: إن كان الماء قد تغير ريحه و طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه، و إن لم يتغير ريحه و طعمه فاشرب و توضأ» «1» و موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يمر بالماء و فيه دابة ميتة قد أنتنت، قال: إن كان النتن الغالب على الماء. فلا تتوضأ و لا تشرب» «2».

و موثقة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهرا و لا توجد منه الريح فتوضأ» «3» و نحوها مرسلة الصدوق «4».

و لا إشكال في ظهور هذه الطائفة عرفا في تنجس الماء بغلبة الريح أو تغير الطعم، و يستكشف عن ذلك- مضافا إلى ذلك و مضافا إلى أن الظاهر من بعضها مفروغية نجاستها كما يظهر بالتأمل فيه- رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة، قال: إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضأ فصبها، و إذا كان غير منفسخ فاشرب منه و توضأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، و كذلك الجرة و حب الماء و القربة و أشباه ذلك من أوعية الماء، قال: و قال أبو جعفر عليه السلام: إذا كان الماء أكثر من رواية لا ينجسه شي ء، تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه، إلا أن يجي ء ريح فغلب على ريح الماء»

«5».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 4

(2) الظاهر انه موثقة سماعة- راجع الوسائل- الباب- 3 من أبواب الماء المطلق- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 11.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 13.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق الحديث 8 و 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 45

فان ذيلها مفسر لصدرها و مبين للنهي عن الشرب و الوضوء بأنه لأجل النجاسة لا لأمر تعبدي غيرها. و في صحيحة زرارة قال: «إذا كان الماء أكثر من راوية» إلى آخر الحديث المتقدم «1» فتفسر الرواية و الصحيحة سائر ما تقدم، و تبيّنان أن النهى فيها لنجاسة الماء بملاقاة الميتة إذا كان دون الكر، و بالتغير إذا كان كرا، بل يمكن الاستشهاد عليها بمثل صحيحة ابن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» «2» إلخ.

فإذا ضمت تلك الروايات إلى ما تقدم من الروايات الناهية عن شرب ملاقي الجيفة و الميتة و الوضوء منه تنتج نجاستها مطلقا.

و توهم كون تلك الروايات بل سائر ما في الباب في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق فيها فاسد، فان الظاهر منها أن الحكم لنفس الجيفة، و إن غلبة ريحها مطلقا موجبة لعدم جواز الشرب و الوضوء كما أن عدم الاستفصال في صحيحة شهاب الآتية دليل عموم الحكم، و الانصاف أن توهم عدم الإطلاق فيها وسوسة مخالفة لفهم العرف، تأمل.

و نظيرها في وضوح الدلالة صحيحة شهاب بن عبد ربه قال: «أتيت أبا عبد اللّٰه عليه السلام أسأله فابتدأني، فقال: إن شئت فاسأل يا شهاب، و إن شئت أخبرناك بما جئت له، قلت: أخبرني، قال:

جئت تسألني عن الغدير يكون

في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قلت:

نعم، قال: توضأ من الجانب الآخر، إلا أن يغلب الماء الريح فينتن و جئت تسأل عن الماء الراكد، فما لم يكن فيه تغيير و ريح غالبة،- قلت فما التغيير؟ قال: الصفرة-، فتوضأ منه، و كلما غلب كثرة الماء فهو طاهر» «3» فهي مع إطلاقها كالصريحة في المطلوب من أن الماء

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 46

ينجس بالتغيير.

و قريب منها في الدلالة رواية زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بئر قطرت فيه قطرة دم أم خمر، قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد، تنزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «1» فان إردافها بسائر النجاسات دليل على نجاستها، و حمل نزح العشرين على الاستحباب لعدم انفعال البئر لا يوجب قصورها عن الدلالة مع موافقة ذيلها لسائر الروايات، كصحيحة ابن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء الا أن يتغير ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح و يطيب طعمه، لأن له مادة» «2» لأن المراد بالفساد هو النجاسة كما هو واضح.

بل الروايات في النزح من الميتة كلها ظاهرة في مفروغية نجاستها كما يظهر بالنظر إليها، و تدل عليها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «3»

فإنها ظاهرة في تنجسها، سيما مع إردافها بما ذكر.

و رواية تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث قال:

«و أما وجوه الحرام من البيع و الشراء- إلى أن قال-: و البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس، هذا كله حرام محرم» إلخ «4»، فإن الظاهر منها أنه في مقام عد النجاسات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 47

فذكر عدة منها و عطف عليها سائرها كما هو واضح.

و ما عن الجعفريات بسنده عن علي عليه السلام قال «في الزيت و السمن إذا وقع فيه شي ء له دم فمات فيه: استسرجوه، فمن مسه فليغسل يده، و إذا مس الثوب أو مسح يده في الثوب أو أصابه منه شي ء فليغسل الموضع الذي أصاب من الثوب أو مسح يده في الثوب يغسل ذلك خاصة» «1».

و عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام «انه رخص في الإدام و الطعام يموت فيه خشاش الأرض و الذباب و ما لا دم له، و قال:

لا ينجس ذلك شيئا و لا يحرمه، فان مات فيه ما له دم و كان مائعا فسد، و ان كان جامدا فسد منه ما حوله و أكلت البقية» «2» إلى غير ذلك مما يطول الكلام بسردها. نعم لا ننكر عدم إطلاق كثير منها مما يكون بصدد بيان أحكام أخر.

بل يمكن الاستدلال على المطلوب بموثقة ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه

عليه السلام و فيها: «فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» إلخ «3».

بناء على أن المراد بقوله: «ذكاه» طهره، كما لعله المناسب لنسبة التذكية إلى الذبح، و بعد إرادة الذكاة بمعنى الذبح، و الذكاة بالذال و إن كان بمعنى الذبح في اللغة و لم أر في اللغة من عد الطهارة من معانيه إلا في مجمع البحرين، حيث قال «و في الحديث» كل يابس

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) المستدرك- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) مرت في صفحة 25.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 48

ذكي» «1» أي طاهر، و منه ذكاة الأرض يبسها: أي طهارتها من النجاسة، و منه أذك بالأدب قلبك: أي طهره و نظفه» انتهى، لكنه ذكر في «زكى» بالزاء زكاة الأرض يبسها، و يمكن الاستشهاد لاستعمال «ذكى» بالذال في الطهارة بروايات، كقوله عليه السلام:

«الحوت ذكي حيه و ميته» «2» قال الشيخ الحر: الذكي هنا بمعنى الطاهر، و قوله عليه السلام «الجراد ذكي كله و الحيتان ذكي كله و أما ما هلك في البحر فلا تأكل» «3» بل قوله عليه السلام «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «4» و قوله عليه السلام: «خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الانفحة و البيض» إلخ «5» و قوله عليه السلام: «اللبن و اللباء- الى أن قال-: و كل شي ء يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي و ان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «6» الى غير ذلك.

و ان كان للمناقشة فيها أو في جلها

مجال، بل الظاهر أن الذكاة في مقابل الميتة في الروايات لا بمعنى الطاهرة و لا الذبح مطلقا كيف ما كان كما لعله يأتي التنبيه عليه.

و يمكن الاستدلال للمطلوب بقوله تعالى إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ «7» بدعوى أن الظاهر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبائح- الحديث 5 من كتاب الصيد و الذبائح.

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبائح- الحديث 7 من كتاب الصيد و الذبائح.

(4) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الذبائح- الحديث 12.

(5) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 2.

(6) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 3.

(7) سورة الانعام: 9- الآية 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 49

رجوع الضمير الى جميع المذكورات، فان قوله عليه السلام: «فإنه رجس» تعليل لاستثنائها من الحلية، فلا يناسب أن يجعل تعليلا للأخير فقط و إهمال التعليل في غيره. و ان كان للتأمل فيه مجال، كالتأمل في كون الرجس بمعنى النجس و إن لا يبعد ذلك، و فيما ذكرنا من الأخبار كفاية.

نعم في الاستدلال للمطلوب بمثل موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخنفساء- إلى أن قال-: كل ما ليس له دم فلا بأس» «1» و صحيحة ابن مسكان عنه عليه السلام قال: «كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس» «2» محل إشكال، لأن الكلية في طرف نفي البأس عما ليس له دم لا تثبت الكلية في الطرف المقابل، نعم لا إشكال في الإثبات جزئية و في الجملة، و الظاهر من

البأس النجاسة و لو بقرائن و لو من سائر الروايات.

و كذا يشكل الاستدلال بمثل موثقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «3» لإعطائها الكلية في المستثنى منه دون المستثنى، و ان قال الشيخ الأعظم: أنها بصدد تنويع الميتة على قسمين مختلفين في الحكم لا مجرد ضابطة كلية في طرف المنطوق فقط. و هذه الدعوى خالية عن الشاهد و عهدتها عليه.

تنبيهان:

الأول [جلد الميتة]

قال الصدوق في المقنع: «و لا بأس ان تتوضأ من الماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 50

إذا كان في زق من جلدة ميتة، و لا بأس بأن تشربه» انتهى.

و قال في الفقيه: «و سئل الصادق عليه السلام: عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصل فيه» «1». فصار هذا مع ضمانه قبل إيراد الحديث بقليل صحة ما في الكتاب و حجيته بينه و بين ربه منشأ لنسبة الخلاف في نجاسة الميتة اليه.

و ربما يجاب عنه بأنه لم يف بهذا العهد، كما يظهر بالتتبع في الفقيه، و لعله كذلك، لكن من البعيد حصول البداء له في أول كتابه.

لكن لا يظهر من فتواه في المقنع و لا روايته في الفقيه مخالفته في مسألة نجاسة الميتة أو نجاسة جلدها. و استثناؤه ذلك زائدا على سائر المستثنيات

كالوبر و غيره، بل يحتمل ذهابه إلى عدم سراية النجاسة مطلقا أو في خصوص الجلد أو الميتة إلى ملاقيها، و هو أيضا في غاية البعد، نعم لا يبعد ذهابه إلى طهارة جلدها بالدباغ، كما حكي عن ابن الجنيد من القدماء و عن الكاشاني.

و كيف كان فان كان مراده المخالفة في مسألتنا فقد مر ما يدل على خلافه، و إن كانت في سراية النجاسة أو نجاسة الميتة أو جلدها فهي ضعيفة مخالفة للروايات الكثيرة بل المتواترة الدالة على غسل الملاقي و انفعال الماء القليل و سائر المائعات، و ان كان مراده طهارة الجلود بالدباغ فهو مخالف للإجماع المتكرر في كلام القوم، كالناصريات و الخلاف و الغنية و محكي الانتصار و كشف الحق، و عن المنتهى و المختلف و الدلائل اتفق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 51

علماؤنا إلا ابن الجنيد على عدمها به، و قريب منه عن البيان و الدروس بل عن شرح المفاتيح للأستاذ هذا من ضروريات المذهب كحرمة القياس، إلى غير ذلك مما يعلم منه أنه من مسلمات المذهب، و هو حجة قاطعة و لولاها لكان للمناقشة في دلالة الأخبار مجال.

بل لا يبعد القول بطهارتها بالدباغ بمقتضى الجمع بينها، فإن طائفة منها ظاهرة في حرمة الانتفاع بها مطلقا الظاهرة في نجاستها و عدم طهارتها بالدباغ، كرواية علي بن أبي المغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي ء، فقال: لا، قلت بلغنا ان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله مرّ بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها

قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أن (اي خ ل) تذكى» «1».

و حسنة أبي مريم بطريق الصدوق و موثقته بطريق الشيخ قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: السخلة التي مر بها رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و هي ميتة فقال: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(2) راجع الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 5- و الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 52

و رواية الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه السلام «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب» «1» و موثقة سماعة قال: «سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها فقال: إذا رميت و سميت فانتفع بجلده، و أما الميتة فلا» «2» الى غير ذلك، كرواية قاسم الصيقل قال: «كتبت إلى الرضا عليه السلام: اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلي فيها، فكتب إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: كنت كتبت إلى أبيك بكذا و كذا فصعب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية، فكتب إليّ: كل أعمال البر بالصبر يرحمك

اللّٰه، فان كنت ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس» «3».

و طائفة منها دالة على عدم تذكيتها بالدباغ و عدم جواز الصلاة فيها و لو دبغت، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن جلد الميتة يلبس في الصلاة إذا دبغ قال: لا و إن دبغ سبعين مرة» «4» و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث عن علي بن الحسين عليهما السلام «كان يبعث إلى العراق، فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و القى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال: ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة و يزعمون أن دباغه ذكاته» «5».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 49- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 49- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 53

و رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني ادخل سوق المسلمين، أعني: هذا الخلق الذين يدعون الإسلام، فأشترى منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على انها ذكية؟ فقال:

لا، و لكن لا بأس ان تبيعها و تقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية، قلت: و ما أفسد ذلك قال: استحلال أهل العراق للميتة و زعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته، ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما

السلام قال: «سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها، أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: لا، و ان لبسها فلا يصلي فيها» «2» و رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام «انه كتب إلى المأمون: و لا يصلي في جلود الميتة» «3» و رواية فقه الرضا عليه السلام «و لا تصل في جلد الميتة على كل حال» «4».

و طائفة منها نص في طهارتها، بل شاهدة للجمع بين الروايات كحسنة الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضأ؟ قال: نعم، و قال:

يدبغ فينتفع به و لا يصلى فيه» «5» و موثقة سماعة قال: «سألته عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث- 6

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6

(3) الوسائل- الباب- 6- من أبواب لباس المصلي- الحديث 3.

(4) المستدرك- الباب- 1- من أبواب لباس المصلي- الحديث 5.

(5) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 54

جلد الميتة المملوح و هو الكيمخت فرخص فيه، و قال: إن لم تمسه فهو أفضل» «1». و رواية الفقيه المتقدمة.

و رواية دعائم الإسلام انه قال: «سمعت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب، فلما كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال:

ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها، قال: قلت: يا رسول اللّٰه فأين قولك بالأمس؟ قال: ينتفع منها بالإهاب الذي لا يلصق» «2» و عن فقه الرضا «و ان

كان الصوف و الوبر و الشعر و الريش من الميتة و غير الميتة بعد ان يكون مما أحل اللّٰه اكله فلا بأس به، و كذلك الجلد فان دباغه طهارته» «3» نعم عنه أيضا «ان ذكاة الحيوان ذبحه، و ذكاة الجلود الميتة دباغه» الى غير ذلك.

و أنت خبير بأن الجمع العرفي بين الروايات ممكن إما بحمل الروايات الناهية عن الانتفاع بها مطلقا على الكراهة في مورد الاجتماع بقرينة ما هو نص في طهارته، و لقوله: «فرخص فيه، و قال: إن لم تمسه فهو أفضل» فيلتزم بأن جلدها يطهر بالدباغ، لكن لا يصير ذكية فإنها عبارة عن صيرورته بحيث يستحل معها جميع الآثار كالصلاة فيها و البيع و الشراء و غيرها.

و الظاهر من الروايات أن الذي كذبوا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله هو أن دباغه ذكاته، و هو الذي أنكره الأئمة عليهم السلام على العامة، و أما الطهارة فليست التذكية، بل بعض آثارها، و ليست في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8

(2) المستدرك- الباب- 25- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2

(3) المستدرك- الباب- 24- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 55

الأخبار ما تدل على نجاسته بعد الدباغ إلا إطلاق النواهي القابل للجمع المذكور بالشواهد التي فيها، نعم في رواية دعائم الإسلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «الميتة نجس و إن دبغت» «1» لكنها- مع ضعفها و إرسالها و مخالفتها لروايته الأخرى المتقدمة- يمكن حملها على القذارة العرفية لكونها من الميتة التي يستقذرها العرف.

و الانصاف أن هذا الجمع عقلائي، بل لو لا تصريح الأصحاب و العلم من الخارج بأن الطهارة

بعد الدبغ كانت محل الخلاف بين الفريقين لقلنا بحسب الأخبار أن النزاع بينهم في عصر الأئمة عليهم السلام كان في أن دباغه ذكاته لا دباغه طهارته، و قد مر أن الحمل على الكراهة في بعض مدلول النهى لا يلزم منه محذور.

أو حمل المطلقات على المقيد، فيحكم بعدم الانتفاع بها إلا بمثل جعله ظرفا للماء و غيره، أو حمل النهي عن الانتفاع بالميتة على الانتفاع قبل الدباغ بقرينة ما نص على أن الجلد يدبغ فينتفع به، لكن لا يصلى فيه و لا يصير مذكى به.

هذا كله مع قطع النظر عن فتاوى الأصحاب، و إلا فلا ينبغي الترديد في عدم طهارته بالدباغ، كما أن الظاهر أن محط البحث بينهم هو الطهارة و النجاسة، فإن أبا حنيفة رأى طهارة جميع الجلود بالدباغ إلا جلد الخنزير، و قال داود: يطهر الجميع، و قال الشافعي كل حيوان طاهر حال حياته فجلده إذا مات يطهر بالدباغ، و قال: يطهر الظاهر منه دون الباطن.

فلا إشكال في المسألة بل لم تثبت مخالفة الصدوق للطائفة، أما

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 37- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 56

روايته في الفقيه مع الضمان المذكور فللجزم بأن مراده منه ليس الإفتاء بكل ما نقل فيه، ضرورة أنه نقل فيه المطلق و المقيد و العام و الخاص و المتعارضين، و لا يعقل الفتوى بعموم العام و إطلاق المطلق و بما يقابلهما و لا بالمتعارضين، فالمراد منه حجية الروايات في ذاتها و الفتوى بمضمونها بعد الجمح أو الترجيح.

بل يظهر من أول مقنعته أيضا أن ما فيه روايات محذوفة الإسناد، فلم يعلم من عبارته المتقدمة فيه فتواه به، بل من البعيد

جدا فتوى مثل الصدوق بما يخالف جميع الأصحاب، نعم لا يبعد ذلك من ابن الجنيد كما يظهر من فتاواه.

الثاني [نجاسة الحيوانات البحرية]

قال الشيخ في الخلاف: «إذا مات في الماء القليل ضفدع أو غيره مما لا يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء، و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي: إذا قلنا إنه لا يؤكل لحمه فإنه ينجسه، دليلنا أن الماء على أصل الطهارة و الحكم بنجاسته يحتاج إلى دليل، و روي عنهم عليهم السلام قالوا: إذا مات في الماء ما فيه حياته لا ينجسه، و هو يتناول هذا الموضع أيضا».

ورد الأصل بإطلاق الأدلة و الرواية بعدم العثور عليها، و عن المحقق أنه رد الشيخ بأنه لا حجة لهم في قوله عليه السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «1» لأن التحليل مختص بالسموك.

أقول: أما قطع الأصل فموقوف على إطلاق الأدلة، و القائل بالعموم و الإطلاق هاهنا أنكر إطلاق أدلة نجاسة المني، كصاحب الجواهر و الشيخ الأعظم و صاحب مصباح الفقيه، مع أن المانع المدعى في المني و هو ندرة اصابته الثوب موجود في المقام، لأن الروايات المتقدمة الدالة على نجاسة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الماء المطلق- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 57

الميتة على طوائف، كلها منصرفة عن الحيوان البحري لو كانت ندرة الابتلاء موجبة له، كما قالوا في المني.

أما أخبار البئر فواضح انصرافها، لعدم وقوع الحيوان البحري فيه مطلقا، و لو فرض وقوعه فهو من أشذ الشواذ، و كذا أخبار الجيفة و وقوعها في الغدير و الماء النقيع «1» فان الجيفة الواقعة في المياه و الغدران هي الجيف المتداولة الموجودة في البر، كالكلب و الحمار

أو بعض السباع البرية دون الحيوانات البحرية.

و كذا ما دل على وقوع بعض الحيوانات في الإدام أو السمن أو الزيت و أمثالها «2» و ما دل على نجاسة إناء اليهود لأكلهم الميتة، فإن الميتة المأكولة ليست مثل الفرس البحري و كلبه، و الروايات التي استثنى فيها من الميتة بعض الأعضاء، كالشعر و الانفحة و اللبن و اللباء «3» موردها الحيوانات البرية بلا إشكال.

و أما رواية تحف العقول المتقدمة فمع ضعفها سندا تكون في مقام بيان حكم آخر يشكل استفادة الإطلاق منها، و قد مرت المناقشة في رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام «أن اللّٰه حرم الميتة من كل شي ء».

نعم يمكن التمسك بإطلاق الآية الكريمة المتقدمة لو قلنا برجوع الضمير إلى جميع المذكورات، لكنه محل إشكال و الترجيح الظني بما

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب الماء المطلق و الباب- 43- من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) راجع الوسائل- الباب- 35- أبواب النجاسات.

(3) راجع الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 58

تقدم غير مفيد و بموثقة ابن بكير «1» لو استظهرنا منها أن المراد بالتذكية التطهير كما مر، لكنه محل إشكال بل منع بعد عدم ثبوت كونها بمعناه لغة، و الاستعمال فيه في بعض الموارد لو سلم لا يوجب ثبوت الحقيقة و لقوة احتمال أن يكون المراد بالتذكية الواردة في الروايات هي معنى مقابل للميتة، فمعنى ذكاه الذبح أنه جعله مذكى، و المراجع الى الروايات في الأبواب المتفرقة لعله يطمئن بكون المذكى فيها مقابلها لا مطلق ما ذبح فراجع، فيبقى الأصل سليما بناء على مبناهم من أن ندرة الوجود موجبة للانصراف، بل المقام أولى بدعواه، لما عرفت

أن إصابة الثوب بمني الحيوانات ليست نادرة.

لكن كما قد عرفت بطلان دعوى الانصراف في المني فكذلك تبطل و لو كان ندرة الابتلاء فيه مسلما، ضرورة أن مثل قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم: «لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «2» ظاهر في أن الحكم لنفس الميتة و ماهيتها من غير دخالة خصوصياتها فيه.

و كذا قوله عليه السلام في رواية زرارة: «الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد» «3» و كذا غيرها ظاهر في ذلك، فإنكار الإطلاق في مثل المقام خلاف فهم العرف، بل ربما يوجب اختلالا في الفقه، فلا إشكال في سقوط الأصل.

و أما الرواية التي أشار إليها الشيخ فالظاهر أنها غير ما ذكرها

______________________________

(1) مرت في الصفحة 25.

(2) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 6.

(3) مرت في الصفحة 46.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 59

المحقق و أجاب عنها، لأن الحل ظاهر في حلية اللحم، و لهذا تختص ببعض السموك.

و قد يقال: إن نظر الشيخ إلى صحيحة ابن الحجاج قال: «سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام رجل و أنا عنده عن جلود الخز، فقال: ليس به بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي، و انما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال: ليس به بأس» «1» بدعوى أن ظاهر التعليل نفى البأس من كل ما لا يعيش إلا في الماء، فكأنه فهم من ذلك طهارة ميتته، لعدم معهودية ذبحه و عدم إشعار في الرواية باشتراطه.

و فيه أن الشبهة في

الخز انما هي من قبل عدم تذكيته و إخراجه من الماء و أخذ الجلد بلا ذبح، و نفي البأس لأجل أن أخذه من الماء ذكاته، و تشهد لذلك رواية ابن أبي يعفور قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام إذ دخل عليه رجل من الخزازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل جعلت فداك إنه ميت، و هو علاجي و أنا أعرفه، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: أنا أعرف به منك، فقال له الرجل: إنه علاجي و ليس أحد أعرف به مني، فتبسم أبو عبد اللّٰه عليه السلام ثم قال: أ تقول إنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: فإنك تقول: إنه دابة تمشي على أربع و ليس هو في حد الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء، فقال له الرجل:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 60

أي و اللّٰه هكذا أقول، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: فان اللّٰه تعالى أحله و جعل ذكاته موته، كما أحل الحيتان و جعل ذكاتها موتها» «1».

و هي كما ترى ظاهرة في أن الشبهة فيه إنما هي في كونه ميتة لعدم تعارف ذبحه، و ليس مثل الحيتان يكون خروجها من الماء ذكاتها، فأجاب بأنه مثلها في ذلك، و لا يبعد أن تكون رواية ابن الحجاج أيضا حكاية عن هذه القضية التي حكاها ابن أبي يعفور، فترك ابن الحجاج ما لا دخالة له

في الحكم، و نقل بالمعنى ما هو دخيل فيه، و لو كانت الواقعة قضيتين فلا ريب في أن الشبهة ما ذكرناه، فتكون الرواية أجنبية عما نحن بصدده، و لا أظن أن الشيخ كان متمسكه هذه الصحيحة أو الذي ذكره المحقق، بل الظاهر عثوره على رواية بالمضمون المحكي.

و أما الآدمي منها فهل هي نجسة أم لا؟ و على الأول هل هي نجسة عينا أو حكما؟ و على التقديرين هل تكون نجاستها على حذو سائر النجاسات في السراية فلا تسري إلا بالملاقاة معها رطبا بنحو يتأثر منه الملاقي أم تسري مع اليبس أيضا؟ و على التقادير هل يكون حال ملاقي ملاقيها كسائر النجاسات أم لا؟ ربما يتشبث القائل بعدم النجاسة العينية بوجه عقلي، و هو أن عين النجاسة لا يعقل رفعها و زوالها بالاغتسال مع أن الميت بعد الغسل طاهر بلا إشكال.

و فيه أن ذلك موجه لو كانت أعيان النجاسات أمورا تكوينية و يكون الميت كالمني و العذرة قذرا ذاتا، و يكون منشأ نجاسته شرعا قذارته الذاتية، لكن قد عرفت أن القذارات الشرعية مختلفة، فمنها ما هي مستقذرة عرفا كالأخبثين. و منها ما ليست كذلك كالكافر و الخمر فإن القذارة فيهما مجعولة لجهات أخر غير القذارة العرفية و الذاتية،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 61

و لا مانع من أن تكون نجاسة الميت كذلك، أي مجعولة لجهة مرفوعة بالغسل.

و لو قيل: إن الميت و لو كان آدميا مستقذر عرفا، و كان الناس تستقذره و تتجنب منه، و لعله منشأ الحكم بنجاسته، لقلنا: هذا لو صح يوجب بقاء نجاسته حتى بعد الغسل، فلا بد أن يقال

بعدم طهارته بالغسل، لا عدم نجاسته بالموت، ضرورة أن التجنب و الاحتراز و الاستقذار باق بعد الغسل أيضا، و التحقيق أن النجاسة في مثله مجعولة كرافعها، فلا إشكال عقلي في المقام.

و ظني أن الإشكالات في خصوص ميتة الآدمي نشأت غالبا من توهم دلالة الروايات على وجوب غسل ملاقيها و لو مع اليبس، فظن أن الميتة ليست كسائر النجاسات المتداولة، فمنهم من التزم بعدم النجاسة و منهم من التزم بالنجاسة الحكمية، و هو أيضا يرجع الى الالتزام بعدم النجاسة، فإنه لا معنى للنجاسة الحكمية إلا لزوم ترتب آثارها تعبدا على ما ليس بنجس.

و إن قيل إن المراد بالنجاسة الحكمية هي الجعلية مقابل العرفية و الذاتية، قلنا: إن لازمة الالتزام بالنجاسة الحكمية في الكافر و الخمر بل الكلب أيضا مع عدم التزامهم بها في سائر النجاسات، فأساس الالتزام بالنجاسة الحكمية و كذا الالتزام بعدم سرايتها الى ما يلاقيها- فلا ينجس ملاقي ملاقيها- لا يبعد أن يكون البناء على لزوم غسل الملاقي و لو مع اليبوسة، فيقال: إنها لو كانت نجسة كسائر النجاسات لكانت نجاسة ملاقيها للسراية كما في سائر أنواعها، و هي لا تتحقق إلا مع الرطوبة، و هذه لازم عرفي للنجاسات، و مع فقده يكشف إما من عدم النجاسة رأسا و لزوم غسل ملاقيه تعبدا لا لتنجسه كلزوم غسل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 62

المس، أو من النجاسة الحكمية التي ترجع الى عدم النجاسة.

فالأولى عطف الكلام إلى ذلك، فنقول: لو لا الإجماعات المنقولة المتكررة في كلام الأصحاب على عدم الفرق بين الآدمي و غيره، كمحكي ظاهر الطبريات و صريح الغنية و المعتبر و المنتهى و نهاية الإحكام و التذكرة و الذكرى

و كشف الالتباس و الروض و الدلائل و الذخيرة و شرح الفاضل بل و محكي الخلاف لأمكن المناقشة في نجاستها لو خلينا و الروايات.

بل يمكن المناقشة في الإجماع أيضا، بدعوى تخلل الاجتهاد و الجزم بعدم شي ء عندهم إلا تلك الروايات التي باب الاجتهاد فيها واسع و لهذا اختلفت الآراء في أصل النجاسة، فإن القول بالنجاسة الحكمية، و عدم السراية إلى ما يلاقيها يرجع الى عدم النجاسة كما مر.

بل لازم محكي كلام الحلي دعوى عدم الخلاف في عدم النجاسة العينية، قال فيما حكي عنه في مقام الاستدلال على عدم السراية مع الرطوبة أيضا: «لأن هذه النجاسات حكميات و ليست عينيات و لا خلاف بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن يجتنب النجاسات العينية، و أجمعنا بغير خلاف على أن من غسل ميتا له أن يدخل المسجد و يجلس فيه، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك، و لأن الماء المستعمل في الطهارة الكبرى طاهر بغير خلاف. و من جملة الأغسال غسل من مس ميتا، و لو كان ما لاقى الميت نجسا لما كان الماء الذي يغتسل به طاهرا» انتهى فكأنه ادعى الإجماع بالملازمة على المسألة، فلو كانت إجماعية بنفسها لا يتأتى له ذلك.

و ليس المقصود في المقام تصحيح كلامه و صحة دعوى إجماعه حتى يقال: إن للمناقشة فيه مجالا واسعا، بل المقصود هدم بناء إجماعية المسألة، و فتح باب احتمال اجتهاديتها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 63

و أما الروايات فما يمكن الاستدلال عليها للنجاسة كثيرة:

منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب» «1» و رواية إبراهيم بن ميمون

قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و إن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه، يعني إذا برد الميت» «2».

و فيهما احتمالان: أحدهما قراءة الثوب بالفتح على أن يكون مفعول أصاب، فيكون المعنى: اغسل ما وصل إلى ثوبك من الميت و المراد غسل الثوب مما أصابه منه و على هذا الاحتمال تكون الروايتان ظاهرتين في لزوم غسل الملاقي لأجل السراية، و يكون المتفاهم منه عرفا بل عند المتشرعة نجاستها عينا كسائر النجاسات.

ثانيهما قراءته بالضم على أن يكون فاعله، و يكون الموصول كناية عن موضع الإصابة، و يرجع الضمير المجرور إلى الميت مع حذف العائد، فيكون المعنى اغسل موضع إصابة الثوب من الميت، نظير صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «و سألته عن الرجل يعرق في الثوب و لم يعلم أن فيه جنابة، كيف يصنع؟ هل يصلح أن يصلي قبل أن يغسله؟ قال: إذا علم أنه إذا عرق فيه أصاب جسده من تلك الجنابة التي في الثوب فليغسل ما أصاب من ذلك» إلخ «3».

و المظنون و إن كان الاحتمال الأول، لكنه ظن خارجي غير حجة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 7- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 64

و لا يوجب الظهور، نعم لو كان الاحتمال الثاني غلطا أدبا، كما قد يدعى لتعين الأول، لكنه غير متضح.

إن قلت لا فرق بين الاحتمالين في فهم نجاسة الميت بعد كون الارتكاز على أن الغسل

انما هو بالسراية و الرطوبة، و معه تدلان على نجاسته عينا كباقي النجاسات.

قلت: ما هو المرتكز عند العرف أو المتشرعة أن ملاقي النجس لا ينجس إلا مع السراية و الرطوبة السارية، و أما ارتكازية أن الأمر بغسل ملاقي كل شي ء للسراية فغير معلومة، فإن علم أن الكلب نجس و قيل: اغسل ثوبك إذا أصاب الكلب، يفهم منه أن الغسل لدى السراية كسائر النجاسات، و أما لو احتمل عدم نجاسة شي ء و لزوم تطهير ملاقيه تعبدا، فلم يثبت ارتكاز بعدم لزوم الغسل إلا بالسراية.

و منها رواية الاحتجاج قال: «مما خرج عن صاحب الزمان عليه السلام: الى محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري حيث كتب إليه روي لنا عن العالم عليه السلام أنه سئل عن إمام قوم يصلي بهم بعض صلاتهم و حدثت عليه حادثة، كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر و يتقدم بعضهم و يتم صلاتهم، و يغتسل من مسه، التوقيع: ليس على من مسه إلا غسل اليد» إلخ «1».

و عنه عليه السلام قال: «و كتب اليه عليه السلام و روى عن العالم عليه السلام أن من مس ميتا بحرارته غسل يده، و من مسه و قد برد فعليه الغسل، و هذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو؟ و لعله ينحيه بثيابه و لا يمسه، فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه في هذه الحال لم يكن عليه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 65

إلا غسل يده» «1».

و يمكن أن يقال: إن ظاهرهما أن المس بلا رطوبة موجب لغسل اليد و لا أقل من

الإطلاق، إلا أن يقال إنهما بصدد بيان حكم المستثنى منه لا المستثنى فلا إطلاق فيهما، و فيه تأمل لقوة إطلاقهما بالنسبة إلى حال اليبوسة، بل القدر المتيقن منهما ذلك. خصوصا مع أن الظاهر منهما أن الموضوع في غسل اليد و غسل المس واحد، فيشكل ظهورهما في النجاسة، لما عرفت من أن لزوم الغسل لأجل النجاسة ملازم للسراية و عدم سرايتها من اليابس ارتكازي عقلائي.

و منها رواية الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين عليه السلام حين غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجابه: النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين عليه السلام، و جرت به السنة» «2» بدعوى ظهورها في اختصاص الطاهرية و المطهرية بالنبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و يلحق به سائر المعصومين عليهم السلام بمقتضى المذهب، و أما غيرهم فمسلوب عنه هذه الخاصية، لكن في دلالتها بعد ضعف سندها إشكال، لقوة احتمال أن يكون المراد الطهارة من الحدث الحاصل للميت، سيما مع ما ورد من أن علة غسل الميت هي الجنابة الحاصلة له بواسطة خروج النطفة التي خلق منها، و النبي صلّى اللّٰه عليه و آله لا تصيبه الجنابة بغير اختياره، بل هي المناسبة للسؤال لا النجاسة العينية.

و كيف كان يشكل فهم النجاسة منها، و منه يعرف عدم دلالة رواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام، قال: «و علة اغتسال من غسل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 66

الميت أو مسه، الطهارة لما أصابه من نضح الميت لأن

الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته، فلذلك يتطهر منه و يطهر» «1» لأن الظاهر منها و لو بقرينة الصدر التطهير منه من حدث المس و تطهره من حدث الموت أو الجنابة العارضة له بالموت.

و منها رواية زرارة «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: بئر قطرت فيه قطرة دم أو خمر، قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «2» بدعوى إطلاق الميت و شموله للإنسان، و لا ينافيها ما سيأتي من نزح سبعين للإنسان، لأن ذلك لأجل اختلاف الحدود في النزح، لكونه مستحبا، كما يختلف في سائر المنزوحات أيضا فراجع.

لكن في إطلاقها مضافا الى ضعفها تأمل، لاحتمال أن يكون الميت الحيوان الذي لم يذك مع كون الرواية بصدد بيان حكم آخر، نعم لو كان بتضعيف الياء يكون ظاهرا في الإنسان لكنه غير ثابت، بل بعيد.

و منها موثقة عمار الساباطي قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح منها دلاء، هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا، و ما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقله العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوى ذلك فيما بين هذين» «3» بدعوى أن المراد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 12 و فيه «من فضح الميت».

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 21- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2 و فيه: «فأكثره الإنسان» و الظاهر انه الصحيح، لما قابله في ذيلها بلفظة: «و أقله العصفور».

كتاب

الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 67

من أكبرية الإنسان ليس أكبرية جسمه و هو معلوم، و لا أكبرية شأنه فإنها لا تناسب أكثرية النزح، بل أنجسيته و أقذريته من سائر الميتات.

و يمكن الخدشة في دلالتها على النجاسة لاستحباب النزح، و بعد كون المراد أن الإنسان أنجس من الكلب و الخنزير جدا، و لذلك تضعف دلالتها على النجاسة. بل لا يبعد أن يكون أكثرية النزح حكما تعبديا غير ناش من نجاسته، و إلا فكيف يمكن أن يقال: إن المؤمن الذي له تلك المنزلة الرفيعة عند اللّٰه تعالى حيا و ميتا أنه أنجس من سائر الميتات، تأمل «1».

ثم لو سلمت دلالة هذه الروايات على النجاسة لكن في مقابلها طوائف من الروايات الدالة أو المشعرة بالطهارة، منها ما وردت في علة غسل الميت كرواية الفضل بن شاذان التي لا يبعد أن تكون حسنة عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر بغسل الميت لأنه إذا مات كان الغالب عليه النجاسة و الآفة و الأذى، فأحب أن يكون طاهرا إذا باشر أهل الطهارة من الملائكة الذين يلونه و يماسونه، فيما سهم نظيفا موجها به الى اللّٰه عز و جل» «2».

و رواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام «كتب إليه في جواب مسائله علة غسل الميت أنه يغسل ليتطهر و ينظف عن أدناس أمراضه،

______________________________

(1) إشارة إلى أنه استبعاد محض، و لا يصح رفع اليد به عن الدليل المعتبر من النص و الإجماع، مع ان شرف المؤمن بروحه و قلبه لا بجسده، و لزوم احترام المؤمن حيا و ميتا لشرف ايمانه و هو حظ روحه، و لا يلزم منه عدم نجاسة بدنه بعد خروج روحه، و سيشير الأستاذ

دام ظله الى هذا الوجه قريبا.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الميت- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 68

و ما أصابه من صنوف علله» إلخ «1».

فإن الظاهر منهما أن علة غسله رفع القذارات العرضية، و لو كان الميت نجسا عينا- مع قطع النظر عنها و الغسل مطهره- كان الأولى أو المتعين التعليل به لا بأمر عرضي.

و احتمال أن يكون المراد من قوله (ع) في الثانية: «ليتطهر و ينظف» التطهير من النجاسة الذاتية و النظافة من العرضية خلاف الظاهر جدا فتدلان على عدم نجاسته عينا و ذاتا، و لا ينافي دلالتها على المقصود كون العلة في أمثالها نكتة للتشريع لا علة حقيقة.

و منها ما دلت على أن غسل الميت لأجل الجنابة الحاصلة له كرواية الديلمي عن أبيه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في حديث:

«إن رجلا سأل أبا جعفر عليه السلام عن الميت لم يغسل غسل الجنابة قال: إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه، كائنا ما كان صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى، فلذلك يغسل غسل الجنابة» «2» و بهذا المضمون روايات أخر، فلو كان الميت نجسا عينا و يطهر بالغسل كان الأنسب تعليله به لا بالأمر العارضي، إلا أن يقال:

إن غسل الميت ليس لتطهير بدنه و إن رتب عليه، و هو كما ترى.

و منها الروايات الكثيرة الواردة في غسل الميت «3» و موردها الغسل بالماء القليل و لم يتعرض فيها على نجاسة الملاقيات، و كذا ما ورد في تجهيزه من حال خروج الروح إلى ما بعد الغسل «4» من غير تعرض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الميت- الحديث 3.

(2) الوسائل-

الباب- 3- من أبواب غسل الميت- الحديث 2.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل الميت.

(4) المروية في الوسائل- الباب 35- 40- 44- 46- 47- من أبواب الاحتضار- و الباب 2- 5- 6- 7- 8- 9- من أبواب غسل الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 69

لتطهير ما يلاقيه، و هي و إن كانت في مقام بيان أحكام أخر، لكن كان اللازم التنبيه لهذا الأمر الكثير الابتلاء المغفول عنه لدى العامة.

و الالتزام بصيرورة يد الغاسل و آلات الغسل المتعارفة طاهرة بالتبع و إن أمكن إلا أنه مع اختصاصه بحال الغسل دون الملاقيات قبله من حال نزع الروح الى حال الغسل مسلم بعد تسلم نجاسته، و أما مع عدم تسلمها فهذه الطائفة من أقوى الشواهد على الطهارة، فإن التطهير بالتبيعة أمر بعيد عن الأذهان، مخالف للقواعد لا يصار إليه إلا مع الإلجاء.

و منها ما دلت على رجحان توضي الميت قبل الغسل «1» مع أن شرطه طهارة الأعضاء، و إن أمكن المناقشة فيه، لكن يؤيد القول بالطهارة بل يمكن الاستشهاد أو الاستدلال على الطهارة بمكاتبة الصفار الصحيحة قال: «كتبت اليه: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟

فوقع عليه السلام: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «2» فان الظاهر أن الغسل بالضم لا بالفتح، لأن في صورة الفتح كان المناسب أن يقول «غسلها» أو «غسل يدك» كما ترى في سائر الموارد من الأشباه و النظائر مع أن فرض السائل ملاقاة يده ثوب الميت، فتغيير الجواب يؤيد أن يكون المراد أنه ليس في إصابة الثوب شي ء،

بل يجب الغسل في إصابة الجسد، فتدل على أنه ليس في

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 6- من أبواب غسل الميت.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 70

إصابة الثوب شي ء، و لا في ملاقاة جسده إلا الغسل لا غسل اليد، تأمل.

بل عدم النجاسة و استحباب غسل ملاقيه مقتضى الجمع بين صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مس الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» «1» و بين مكاتبة الحميري المتقدمة «إذا مسه في هذه الحال (اي حال الحرارة) لم يكن عليه إلا غسل يده» «2» فان في الصحيحة نفي البأس عن مسه في حال الحرارة، و في التوقيع جعل عليه في حالها غسل اليد، إلا أن يقال بإمكان حمل المطلق على المقيد الى غير ذلك من الشواهد و المؤيدات، كبعد نجاسة بدن المؤمن عينا كالكلب و الخنزير، مع ما يعلم من منزلته عند اللّٰه تعالى، و عدم معروفية نجاسته لدى عامة المكلفين، مع أنه لو كان نجسا لكان ينبغي اشتهارها بين الناس كسائر النجاسات، لابتلائهم بملاقاته من لدن خروج روحه الى آخر تجهيزه.

لكن مع ذلك كله الأقوى نجاسته كسائر النجاسات، لصحيحة الحلبي و رواية ابن ميمون و موثقة عمار و التوقيعين المباركين و غيرها «3» خصوصا مع عدم إفادة النجاسة في سائر النجاسات إلا بغسل الملاقيات و قلما اتفق فيها التصريح بها كالكلب و الخنزير، و غالب الروايات فيهما أيضا يفيدها بالأمر بغسل الملاقي أو النهي عن شرب ملاقيهما، سيما مع فهم الأصحاب قاطبة من تلك الروايات و سائر الروايات التي من قبيلها النجاسة، و

هم أهل اللسان، و فهم أساليب الكلام، و أهل الحل و العقد في اللغة و الأدب، بل كثيرا ما في العرف أفيدت القذارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(3) مرت في صفحة 63 و 64 و 66.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 71

بغسل الملاقي، فإذا قال الطبيب: اغسل فمك إذا شربت الدواء الفلاني لا ينقدح في الذهن إلا نجاستها و قذارتها، تأمل.

فالشبهة في دلالة تلك الروايات من الوسوسة، و كابداء احتمالات عقلية في مقابل الظهور العرفي و الدلالة الواضحة، و معه لا يبقى مجال لما أطنبنا من سرد طوائف من الروايات في مقابلها، فان الروايات الواردة في العلل بعد الغض عن أسنادها لا تصلح لصرف الظواهر بعد وضوح أن العلل فيها من قبيل تقريبات لا علل واقعية، و لهذا ترى فيها التعليل لشي ء واحد بأمور مختلفة، ففي المقام علل اغتسال الميت تارة بتنظيفه و تطهيره عن أدناس الأمراض، و ما أصابه من صنوف علله، فجعل ما ذكر علة، و أخرى بأن الغالب عليه النجاسة و الآفة، فجعل النجاسة العارضة علة، مع أن آفة المرض أسبق من النجاسة العارضة في حال المرض، و ثالثة بخروج المني الذي خلق منه حين الموت، مع أنه متأخر عنهما، مضافا إلى أن الروايات الواردة في علة اغتسال الميت غسل الجنابة ضعاف غالبا مجهولة المراد، بل موهونة المتن لا يمكن الاتكال عليها في إثبات حكم شرعي.

و أما السكوت عن غسل يد الغاسل و آلات الغسل و ما يلاقيه عنده عادة فمع كونه غير مقاوم للأدلّة اللفظية الدالة على النجاسة، و مع كون ما وردت

في الغسل في مقام بيان حكم آخر أنه بعد ثبوت النجاسة نصا و فتوى لا بد من الالتزام بطهارتها تبعا كآلات نزح البئر، و أما دعوى السكوت عن غسل ملاقيه من حال الموت إلى حال الغسل فغير وجيهة بعد ما وردت الروايات المتقدمة في غسل الثوب و اليد الملاقيين لجسد الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 72

و أما التأييد باستحباب توضّيه فلا يخفى ما فيه، و أما مكاتبة الصفار «1» و إن كان المظنون ضم الغسل فيها لكن دعوى الظهور اللفظي في غير محلها، بل هو ظن خارجي حاصل من بعض الاعتبارات، و هو غير حجة، مع إمكان أن يقال: إنه من البعيد أن يترك جواب السؤال عن نجاسة الميت، و أجاب عن غسل المس، فالأنسب قراءته بالفتح، و إنما ذكر ملاقي البدن لإفادة أن ملاقاة الثوب الذي يلي البدن لا يوجب التنجس، و إنما الموجب له ملاقاة بدنه، مع أن الظاهر منها أن النجاسة كانت مفروغا عنها، و إنما سأل بعد الفراغ عنها عن أمر آخر، فهذا الاحتمال إن لم يكن أقوى فلا أقل من مساواته للاحتمال السابق، فلا تدل الرواية على شي ء من طرفي الدعوى.

و أما دعوى أن عدم النجاسة مقتضى الجمع بين صحيحة ابن مسلم و التوقيع الشريف فلا يخفى ما فيه، و سيأتي التعرض للصحيحة و الاحتمالات التي فيها.

و أما الاستبعاد من نجاسة بدن المؤمن فلا يوجب رفع اليد به عن الدليل المعتبر من النص و الإجماع، مع أن شرفه بروحه و قلبه لا بجسده، و لزوم احترامه حيا و ميتا لشرف ايمانه، و هو حظ روحه، و لا يلزم منه عدم نجاسة بدنه بعد خروج روحه،

و كيف كان لا يمكن ترك الأدلة بمجرد الاستبعاد و الاعتبار، و أما دعوى أنه لو كان نجسا لاشتهر و صار واضحا ففي غير محلها، لان الابتلاء بملاقاة جسد الميت مع رطوبته نادر حتى بالنسبة إلى أقربائه، و ليس أمره بحيث يدعى فيه لزوم الاشتهار.

فالأقوى ما عليه الأصحاب من نجاسته عينا كسائر النجاسات،

______________________________

(1) مرت في صفحة 69.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 73

فينجس ملاقيه مع الرطوبة كما هو المرتكز عند العقلاء بل المتشرعة في سائر النجاسات، فدعوى عدم نجاسة ملاقية مع نجاسته كدعوى نجاسة ملاقية أو لزوم غسله حتى مع ملاقاته يابسا ضعيفة مخالفة للأدلّة و فهم العرف.

و أما دعوى الحلي عدم السراية مع الرطوبة أيضا لما تقدم منه من دعوى عدم الخلاف في وجوب تجنب النجاسات العينية عن المساجد و دعوى الإجماع على جواز دخول من غسل ميتا المساجد، فاستنتج منهما عدم نجاسته، ففيها ما لا يخفى، أما أولا فلأن الإجماع لو كان إنما هو في أعيان النجاسات لا في ملاقياتها، مع أنه في الأعيان أيضا محل منع، مع عدم السراية أو الإهانة، كما أن الدعوى الثانية أيضا محل إشكال، و أما ثانيا فلأنه لو سلم الإجماعان فلا يلزم منهما عدم النجاسة، بل يمكن أن يقال بحصول الطهارة له تبعا، بل المتعين ذلك بعد الإجماعين المفروضين و قيام الدليل على نجاسته، و أما حال الملاقي مع الواسطة أو الوسائط فستأتي في محله بعد عدم خصوصية لهذه النجاسة و هل ينجس بمجرد الموت كما عليه جمع من المحققين، أو بعد البرد كما عليه جمع آخر؟ الأقوى هو الأول، لإطلاق صحيحة الحلبي و رواية ابن ميمون، فان الظاهر أن التفسير فيها ليس

من المعصوم، و تفسير غيره لا يوجب رفع اليد عن إطلاقها و إطلاق غير الروايتين مما مر و ليس في الباب ما يصلح لتقييدها، لأن العمدة فيه صحيحة محمد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مس الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس به بأس» «1» و رواها في الفقيه مرسلا، و هي مضافا إلى اختلاف النسخ في نقلها- قال الكاشاني في ذيلها:

______________________________

(1) مرت في ص 70.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 74

«ربما يوجد في بعض النسخ «بعد موته» و هو تصحيف» انتهى. قوله:

«و هو تصحيف» اجتهاد منه سيأتي الكلام فيه، و لا يدفع به اختلاف النسخ المحكية وجدانا، و في نسخة الوسائل و بعض نسخ الفقيه: «بها» بدل «به» و في النسخة المطبوعة من الفقيه أخيرا و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «من مس الميت بعد موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» و جعل علامة بدل النسخة «عند موته و عند غسله» و الموصول في أولها و إن كان من زيادة النساخ جزما كما هو ظاهر، لكن يظهر منها أن النسخة التي عند المصحح كان فيها «بعد موته و بعد غسله» بنحو جعل ذلك الأصل في الكتاب و جعل «عند موته و عند غسله» بدلا- لا تصلح لذلك.

أما أولا، فلأن الظاهر من قوله عليه السلام: «عند موته»- مع قطع النظر عن القرائن كنظائره مثل عند غروب الشمس- هو قبيل الموت و لا يطلق على ما بعده، فلا يقال عند طلوع الفجر لما بعده، كما أن الظاهر من قوله عليه السلام: «مس الميت» مع عدم القرينة هو الميت فعلا، لا من أشرف على

الموت، فعند اجتماعهما في كلام واحد مثل ما في الصحيحة يحتمل أن يكون كل منهما صارفا للآخر على سبيل منع الجمع، و يحتمل عروض الإجمال عليهما، و لا ترجيح لحفظ ظهور الميت و جعله قرينة على أن المراد من عنده بعده لو لم يكن الترجيح مع عكسه و يحتمل بعيدا أن يكون المراد من عنده كونه مقارنا له لإفادة أن المسح المقارن للموت لا يوجب شيئا، بمعنى أنه إذا وقع المس و زهاق الروح في آن واحد لا يوجب شيئا، كما قيل في حدوث الكرية و ملاقاة النجاسة معا إن كلا من أدلة الاعتصام و الانفعال قاصر عن شموله، لأن الظاهر منهما أن يكون الملاقاة بعد تحقق الكرية أو القلة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 75

فيقال في المقام: إن مس الميت يوجب الغسل أو التنجس، و مع مقارنته للموت لا يصدق مس الميت، لأن الظاهر منه أن يقع عليه و يكون حلول الموت مقدما على المس.

و أما ثانيا فلأن رفع اليد عن إطلاقها و صرفها الى عدم البأس نفسا أو عدم إيجاب الغسل أو هما معا أهون من تقييد الروايات المتقدمة، سيما رواية ابن ميمون، و ذلك لأن الغالب في الأسئلة و الأجوبة البحث عن إيجاب الغسل، و كأنه هو مورد الشبهة نوعا أو هو مع حزازته النفسية، كما يظهر من رواية تقبيل أبي عبد اللّٰه عليه السلام ابنه إسماعيل «1» و غيرها، و ذلك يوجب وهن إطلاقها و أوهنية صرفها من الروايات المتقدمة، و لقوة ظهور الشرطين في رواية ابن ميمون في أن الغسل علة لرفع النجاسة و الموت لعروضها، فهي أظهر في مفادها من الصحيحة.

هذا بناء على النسخة

المعروفة، و أما بناء على النسخة الأخرى أي «بعد الموت و بعد الغسل» فالأمر أوضح، لأن المراد منه حينئذ عدم البأس النفسي، إن كان المراد نفي البأس عن مسه بعد الموت مستقلا و نفيه عما بعده كذلك، و أما احتمال معاملة الإطلاق و التقييد بمعنى تقييد إطلاق الصحيحة بما دل على إيجاب الغسل بالضم و الفتح بعد البرد ففي غاية البعد، بل مقطوع الفساد و موجب لحملها على النادر و ان كان المراد نفي البأس عن مسه بعد الموت و الغسل معا باحتمال بعيد فتشعر أو تدل على النجاسة بمجرد الموت، و أما قول الكاشاني بأنه تصحيف فلم يتضح وجهه ان كان مراده اختلال في المعنى.

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 5 و 1- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 76

نعم لا يبعد أن يكون حكمه به لأجل أن النسخ المشهورة مخالفها و هو غير بعيد، كما أن النسخة المطبوعة أخيرا مصحفة من جهات، و كيف كان لا يمكن رفع اليد عن إطلاق الأدلة بمثل هذه الصحيحة.

و منه يظهر الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام حين مات ابنه إسماعيل الأكبر فجعل يقبّله و هو ميت، فقلت: جعلت فداك أ ليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت و من مسه فعليه الغسل؟ فقال: أما بحرارته فلا بأس، انما ذلك إذا برد» «1» فان الظاهر من نفي البأس هو نفي إيجاب الغسل أو مع حزازته النفسية كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)؛ ج 3، ص: 76

هذا كله مع قطع النظر عن روايتي الاحتجاج «2» و إلا فالأمر أوضح، و إن كان في سندهما كلام.

و أما سائر تشبثات الخصم كالتمسك بالأصل موضوعا للشك في الموت قبل البرد أو حكما، كالجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة كما قال به صاحب الحدائق، و كدعوى ملازمة الغسل بالفتح و الضم مع أن مضمومة لا يكون إلا عند البرد و كذا مفتوحة ففيها ما لا يخفى.

و إن استشهد للثالث بمكاتبة الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل أغتسل أمير المؤمنين عليه السلام حين غسّل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجابه: النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «3» و نحوها مكاتبة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

(2) مرتا في ص 64.

(3) مرت في ص 65.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 77

القاسم الصيقل «1».

و يمكن الاستشهاد له برواية محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام قال: «و علة اغتسال من غسل الميت أو مسه الطهارة لما أصابه من نضح الميت، لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته. فلذلك يتطهر منه و يطهر» «2».

لكن المكاتبة مع ضعفها ظاهرة في الطهارة من حدث الجنابة التي تعرض على الميت، فان المعصوم عليه السلام لا تصيبه الجنابة الغير الاختيارية، تأمل. أو في الطهارة من حدث الموت الموجب للغسل و للاغتسال من مسه أو منهما و من النجاسة العينية بحيث يكون المجموع علة للاغتسال من مسه، و مع الحرارة لا يوجبه. لفقد جزء منها، فلا تدل على الملازمة المدعاة.

و الثانية مع ضعفها سندا و وهنها

متنا باشتمالها على أن غسل المس للتطهير من إصابة نضح الميت و رشحه اللازم منه عدم الغسل إذا مسه بلا نضح و رشح، و هو كما ترى، تأمل.

ثم أن الظاهر من قوله عليه السلام: «يتطهر منه و يطهر» يغتسل من مسه و يغسل بمناسبة صدرها، فالقول بالملازمة مما لا دليل عليه.

بل يمكن الاستشهاد بعدم الملازمة بمرسلة أيوب بن نوح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه الإنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 12 و فيه «من فضح الميت».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 78

فيه عظم فلا غسل عليه» «1» بناء على جبر سندها بالشهرة كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه في محله، فإن القطعة المبانة من الحي نجس سواء اشتملت على العظم أو لا كما يأتي، و لا يوجب مسها الغسل إلا إذا اشتملت على العظم، كما قد يوجب الغسل مس ما ليس بنجس، مثل ما لا تحله الحياة.

و أما الميتة من غير ذي النفس فلا ينبغي الإشكال في طهارتها نصا و فتوى إلا في العقرب و الوزغ و العظاية- و هي نوع من الوزغة ظاهرا- فإنه يظهر من بعضهم نجاسة ميتتها، كالشيخين في محكي المقنعة و النهاية بل عن الوسيلة أن الوزغة كالكلب نجسة حال الحياة.

و الأقوى ما هو المشهور، بل عليه الإجماع في محكي الخلاف و الغنية و السرائر و المعتبر و المنتهى، لقول الصادق عليه السلام في موثقة عمار الساباطي قال: «سئل

عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه، قال: كل ما ليس له دم فلا بأس» «2» و موثقة حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» «3» و لا إشكال فيهما سندا سيما أولاهما، و لا دلالة، ضرورة أن المراد من نفي البأس و عدم الإفساد هو عدم التنجيس، كما هو المراد منهما في سائر الموارد المشابهة للمقام، و قد تقدم جملة أخرى من الروايات الدالة على المقصود.

و ليس شي ء صالح لتخصيص العام أو تقييد المطلق إلا موثقة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 79

سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن جرة دخل فيها خنفساء قد مات، قال: ألقه و توضأ منه، و إن كان عقربا فأرق الماء و توضأ من ماء غيره» «1» و نحوها رواية أبي بصير «2».

و يمكن المناقشة في دلالتها على النجاسة، لأن العقرب لما كان من ذوي السموم يمكن أن يكون الأمر بالإراقة لأجل سمه، و احتمال دخوله في منافذ البدن عند التوضي، فلا ظهور لمثله في أن الإراقة لنجاسته.

نعم يمكن التمسك لنجاسة ميتته برواية منهال قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: العقرب يخرج من البئر ميتة، قال: استق منها عشرة دلاء، قال: قلت: فغيرها من الجيف، قال: الجيف كلها سواء» إلخ «3» بدعوى أن الحكم بالنزح لجيفة العقرب كما في سائر الجيف

و التسوية بين الجيف كلها دليل على أن النزح لأجل ميتته و جيفته فتدل على النجاسة كما في سائر الجيف.

و هي غير بعيدة لو لا ضعف سندها و معارضتها بدوا لرواية علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما السلام «عن العقرب و الخنفساء و أشباههما يموت في الجرة و الدن يتوضأ منه للصلاة؟

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات- الحديث 4 و فيه «عن جرة وجد فيها».

(2) عنه عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الخنفساء تقع في الماء أ يتوضأ به؟ قال: نعم لا بأس به، قلت: فالعقرب، قال: أرقه» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار الحديث 5.

(3) راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب الماء المطلق- الحديث 7

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 80

قال: لا بأس» «1» و صحيحة ابن مسكان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «كل شي ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس» «2».

و الجمع العرفي يقتضي عدم نجاسته و إن رجح الاستقاء عشرة دلاء للنظافة أو احتمال الضرر.

و إلا ما دلت على النزح من الوزغة كحسنة هارون بن حمزة الغنوي أو صحيحته عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ منه؟ قال: يسكب منه ثلاث مرات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه و يتوضأ منه غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «3» بدعوى دلالتها على نجاسته العينية، فميتته نجسة أيضا.

و رواية يعقوب بن عثيم قال: «قلت لأبي عبد

اللّٰه عليه السلام:

سام أبرص وجدته قد تفسخ في البئر قال: انما عليك أن تنزح منها سبع دلاء» «4» و الظاهر أنه أيضا نوع من الوزغة.

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة و الوزغة تقع في البئر، قال: ينزح منها ثلاث دلاء» «5» لكنها محمولة على الاستحباب بقرينة غيرها، كرواية جابر بن يزيد الجعفي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

(4) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 7.

(5) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 81

قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن السام أبرص يقع في البئر فقال: ليس بشي ء، حرك الماء بالدلو في البئر» «1» فإن الظاهر منها أن سام أبرص ليس بشي ء ينجس الماء، لا أن ماء البئر معتصم.

و مرسلة ابن المغيرة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت:

بئر يخرج من مائها قطع جلود، قال: ليس بشي ء. إن الوزغ ربما طرح جلده، و قال: يكفيك دلو من ماء» «2» دلت على عدم نجاستها عينا، فتصير شاهدة على حمل رواية الغنوي على الكراهة.

و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في البئر فلا يموت أ يتوضأ منه للصلوات؟ قال لا بأس به» «3» دلت على عدم نجاسته عينا.

و موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث «أنه سئل عن العظاية يقع في اللبن قال يحرم اللبن قال: إن فيها السم»

«4» و هذه الموثقة حاكمة على سائر الروايات و مفسرة لها بأن علة النزح و عدم الانتفاع هو كونه ذا سم، و نحن الآن لسنا بصدد بيان حرمة ما مات فيه الوزغ أو وقع فيه، بل بصدد عدم نجاسته، فلا إشكال فيه، بل الاتكال على الروايات المتقدمة الواردة في النزح مع مخالفتها للمشهور أو المجمع عليه بين الأصحاب في غير محله، بل تقدم الإشكال

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 8.

(2) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق الحديث 9.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 46- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 82

في دلالتها أيضا، فتبقى الأدلة العامة أو المطلقة بلا مخصص و مقيد.

ثم أنه قد وقع في بعض الحيوانات كلام في كونه ذا نفس أو لا، و تحقيقه ليس من شأن الفقيه، نعم في مورد الشبهة موضوعا فالمرجع هو الأصول.

و ينبغي التنبيه على أمور:

منها [القطعة المبانة مما ينجس بالموت]

اشارة

أنه كل ما ينجس بالموت فما قطع من جسده حيا أو ميتا فهو نجس، بلا خلاف ظاهرا كما في الحدائق، و لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب كما عن المعالم، و هو المقطوع به في كلامهم كما عن المدارك و عن الأستاذ الأكبر ان أجزاءه نجسة و لو قطعت من الحي باتفاق الفقهاء بل الظاهر كونه إجماعيا، و عليه الشيعة في الأعصار و الأمصار، و عن الذخيرة أن المسألة كأنها إجماعية، و لو لا الإجماع لم نقل بها لضعف الأدلة، و قال في محكي المدارك: «احتج عليه في المنتهى بأن المقتضي لنجاسة الجملة الموت، و هذا المقتضي موجود في الأجزاء، فيتعلق به الحكم، و ضعفه ظاهر، إذ

غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت و هو لا يصدق على الأجزاء قطعا، نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال، و لا يخفى ما فيه» انتهى.

أقول: أما القطعة المبانة من الميت فلا ينبغي الإشكال في نجاستها لا للإجماع حتى يستشكل تارة بعدم ثبوته و تحصيله، و المنقول منه في كتب المتأخرين غير حجة، سيما مع ترديد النقلة، كما يظهر من كلماتهم، و أخرى بأنه مسألة اجتهادية فرعية لا يعلم ان استناد المجمعين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 83

إلى غير الأدلة التي في الباب.

و لا للاستصحاب و إن كان جريانه مما لا إشكال فيه بعد وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، لأن الجزء حال اتصاله بالكل كان نجسا قطعا، و يشك في بقاء نجاستها بعد الانفصال، و لا ريب في أن الاتصال و الانفصال من حالات الموضوع و لا يوجبان تبدله.

و توهم أن الأحكام تتعلق بالعناوين و عنوان الميتة لا يصدق على الجزء بعد الانفصال، و انما يصدق على المجموع حال الاتصال ناش من الخلط بين موضوع الدليل الاجتهادي و موضوع الاستصحاب، فإن الأول هو العناوين، و مع الشك في تبدلها لا يمكن التمسك بالدليل فضلا عما إذا علم ذلك، كما في المقام، لكن بعد تحقق العنوان خارجا بوجود مصداقه يصير المصداق الخارجي متعلقا لليقين بثبوت الحكم له، فإذا تبدل بعض حالاته فصار منشئا للشك لا مانع من جريان الاستصحاب، لوحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فإذا تعلق حكم النجاسة بالميتة فلا إشكال في أنها تثبت لأجزائها، كاليد و الرجل و غيرهما عند تحقق العنوان في الخارج، فيتعلق اليقين بنجاسة الأجزاء الخارجية، و بعد

الانفصال يصح أن يقال إني كنت على يقين من نجاسة هذه اليد الموجودة في الخارج فأشك في بقائها بعد الانفصال، و لا إشكال في وحدة القضيتين و هي المعتبرة في الاستصحاب، لا بقاء موضوع الدليل الاجتهادي، فقول صاحب المدارك: «و لا يخفى ما فيه» تضعيفا للاستصحاب لا يخفى ما فيه، و منه يعلم أن مقتضى الاستصحاب في الجزء المبان من الحي الطهارة و عدم النجاسة ما لم يدل دليل على خلافه.

بل للأدلّة المثبتة للحكم على الميتة، فإن معروض النجاسة بحسب نظر العرف هو أجزاء الميتة، من غير فرق في نظرهم بين الاتصال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 84

و الانفصال، كما أن ما دل على أن الكلب رجس نجس يفهم منه أنه بجميع أجزائه نجس، و لا يحتاج في إثبات النجاسة للأجزاء التمسك بدليل آخر غيره، كما لا يحتاج في إثبات نجاستها بعد الانفصال إلى غيره.

و بعبارة أخرى: أن العرف يرى أن موضوع النجاسة ذات الأجزاء من غير دخالة للاتصال و الانفصال فيها، كما أن الاستقذار من الكلب على فرضه استقذار من أجزائه اتصلت بالكل أو انفصلت، و هو مما لا شبهة فيه.

و أما المنفصل من الحي فقد عرفت أن مقتضى الأصل طهارته، فلا بد في الخروج من مقتضاه من قيام دليل، و قد عرفت من محكي المنتهى أن المقتضي لنجاسة المجموع- و هو الموت- موجود في الأجزاء فيتعلق بها الحكم.

و فيه أنه إن أراد من وجود المقتضى في الأجزاء التشبث بالقطع بوجود المناط الذي في الكل فيها فالعهدة عليه، فأنى لنا القطع في الأمور التشريعية المجهولة المناط، و أي مناط في وجوب غسل المس في الأجزاء المبانة من الحي إذا

اشتملت على العظم، و عدمه في اللحم المجرد، بل لازمة الحكم بنجاسة الجزء المتصل إذا علم موته و فساده. و بالجملة الطريق إلى العلم بمناطات مثل تلك الأحكام التعبدية مسدود.

و إن أراد استفادة الحكم من الأدلة المثبتة للحكم على الميتة بدعوى إلغاء خصوصية الكلية و الجزئية عرفا ففيه ما لا يخفى، ضرورة أن العرف مع ما يرى من الخصوصية بين الميت و أجزائه و بين الحي و جزئه المبان منه لا يمكن له إلغائها، فلا يمكن إثبات الحكم بمثله، كما لا يمكن التشبث بالأدلة العامة المثبتة للنجاسة لعنوان الميتة و الجيفة،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 85

لعدم صدقهما على الجزء المبان من الحي، و انما قلنا بثبوت الحكم للجزء المبان من الميت بواسطة الأدلة المثبتة للنجاسة للميت لا لأجل صدقهما عليه استقلالا، بل لأجل أن الحكم الثابت للميت ثابت لأجزائه بنفس ثبوته له عرفا، و الفرض أنه في المقام لم يثبت الحكم للكل حتى يجري على الأجزاء تبعا و استجرارا لأن الجزء مقطوع من الحي فصار مستقلا بالقطع و هو ليس بميتة عرفا و لغة، فلا يمكن إثبات الحكم له بدليل نجاسة الميتة.

كما أن إثباته بقول العلامة في محكي التذكرة: «إن كل ما أبين من الحي مما تحله الحياة فهو ميت، فان كان من آدمي فهو نجس عندنا خلافا للشافعي» انتهى، مشكل.

نعم هنا روايات خاصة يمكن التمسك بها: منها صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام:

ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه، فإنه ميت و كلوا مما أدركتم حيا و ذكرتم اسم اللّٰه عليه» «1» و صحيحة عبد الرحمن

ابن أبي عبد اللّٰه برواية الصدوق عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت، و ما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه» «2» و نحوها خبر زرارة «3».

و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«ما أخذت الحبالة فانقطع منه شي ء فهو ميتة» «4» و الظاهر منها بعد العلم بعدم كون الجزء ميتة عرفا و لغة أنه ميتة تنزيلا و بلحاظ الآثار،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الصيد الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 86

و إطلاق التنزيل يقتضي النجاسة.

و توهم أن المتبادر منها هو التنزيل من حيث حرمة الأكل، بقرينة ما ذكر فيها من أكل ما أدرك حيا بعد التذكية، و لهذا يستفاد منها حرمة الأجزاء الصغار المقطوعة بالحبالة و لو كانت في غاية الصغر، و لا يستفاد نجاستها.

فاسد لأن التعليل في صحيحة ابن قيس يقتضي أن يكون وجوب رفضه بسبب كونه ميتا، و الحمل على أنه ميت في هذا الحكم مستهجن، و من قبيل تعليل الشي ء بنفسه، تأمل. و أما إذا كان الجزء بمنزلة الميت في جميع الأحكام يكون التعليل حسنا.

و بالجملة فرق بين قوله عليه السلام: «فذروه فإنه ميت» و بين قوله عليه السلام في موثقة معاوية بن عمار في العصير: «خمر لا تشربه» «1» فإن الثاني لا يستبعد فيه التنزيل من جهة الشرب من غير استهجان، بخلاف الأول الذي ذكر القضية معللة، كما لا يخفى على العارف بالمحاورات العرفية.

هذا لو

سلم أن قوله عليه السلام: «فذروه» بمعنى لا تأكلوه بقرينة قوله: «و كلوا مما أدركتم حيا» مع أنه غير مسلم، لاحتمال أن يكون المراد منه: لا تنتفعوا به، و انما ذكر أحد الانتفاعات التي هي أعم من سائرها فيما أدرك حيا، بل لأحد أن يقول: إن قوله:

«و كلوا مما أدركتم حيا» كناية عن جواز الانتفاع به مع ذكر أوضح الانتفاعات، و لهذا لا يفهم منه جواز الانتفاع أكلا فقط حتى يكون مقابله عدم جواز ذلك.

و كذا تدل الصحيحة الثانية على المطلوب، لإطلاق التنزيل، و لا

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 4- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 87

يكون ذيلها قرينة على اختصاصه بالأكل، سيما مع ذكر التذكية في مقابل الميتة، و خصوصا مع كون قوله (ع): «ثم كل منه» من متفرعات التذكية بحسب ظاهرها، و سيأتي تتمة لذلك عن قريب، و أوضح منهما في الإطلاق رواية عبد اللّٰه بن سليمان.

و أما توهم استفادة حرمة الأجزاء التي في غاية الصغر و عدم استفادة النجاسة منها فغير وجيه سيأتي التعرض له.

و تدل على النجاسة أيضا صحيحة عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي بطريق الصدوق بل بطريق الكليني أيضا بناء على وثاقة سهل بن زياد قال:

«سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال: إن في كتاب علي عليه السلام أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به» «1» فان الاستشهاد بكتاب علي عليه السلام دليل على أنه ميت تنزيلا و حكما لا عرفا و لغة، و إطلاق التنزيل و تفريع عدم الانتفاع به مطلقا دليل

على نجاسته.

و أوضح منها رواية الحسن بن علي قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها قال: هي حرام، قلت: فيستصبح بها؟ قال: أما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «2» و الظاهر عدم إرادة النجس من الحرام، بل الظاهر منها معروفية الملازمة بين حرمة الأكل في العضو المقطوع و بين النجاسة في عصر الصدور، كما هو مقتضى التأمل في ألفاظ الرواية فيستفاد منها نجاسة كل عضو حرام أكله، و يدل عليها إطلاق رواية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 88

أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: «إنها ميتة» «1».

و أما ما في صحيحة الحلبي: «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، أن الصوف ليس فيه روح» «2» فالظاهر عدم دلالتها على المقصود، فان موضوع الكلام فيها هو جزء الميتة، فتدل على أن الأجزاء التي فيها روح لا يصلى فيها إذا قطع من الميت، هذا حال غير الآدمي.

و أما هو فتدل على نجاسته مرسلة أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» «3».

و تفريع الذيل و التفصيل بين ما له العظم و غيره جعله كالنص في عموم التنزيل و عدم الاختصاص بغسل المس، و سيأتي الكلام في حال سندها

في غسل المس إن شاء اللّٰه.

تذنيب: [ما انفصل صغيرا عن بدن الإنسان]

حكي عن العلامة في المنتهى أن الأقرب طهارة ما ينفصل عن بدن الإنسان من الأجزاء الصغيرة مثل البثور و الثؤلول و غيرهما، لعدم إمكان التحرز عنها، فكان عفوا دفعا للمشقة، و اعترض عليه بأن التمسك

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الذبائح- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 89

بدليل الحرج دليل على أن أدلة النجاسة شاملة لها و انما يستثنى منها بدليل الحرج مع قصورها عن شمولها.

أقول: لا بأس بذكر محتملات الروايات المتقدمة خصوصا صحيحة محمد بن قيس حتى يتضح الحال، فنقول: إن في قوله عليه السلام فيها «ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنه ميت» إلخ احتمالات:

أحدها أن يكون المراد من قوله عليه السلام: «فإنه ميت» انه ميت حكما، على معنى أن مصحح الادعاء بعد عدم الصدق على نحو الحقيقة هو محكومية الجزء بأحكام الميت كقوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

«الطواف بالبيت صلاة» «1» فيكون مفاده أن وجوب رفضه لأجل كونه ميتة حكما، و لازم هذا الاحتمال أن الأجزاء المقطوعة بالحبالة في حكم الميتة، و قد قلنا سابقا أن مقتضى إطلاق التنزيل و تناسب التعليل نجاسته أيضا، لكن لا يكون هذا التعليل كسائر التعليلات المعممة، فالموضوع للحكم هو الأجزاء المقطوعة بالحبالة لكونها في حكم الميتة، فلا تشمل الأجزاء المتصلة و لا ما انفصلت بالقطع، بل برفض الطبيعة المودوعة من قبل اللّٰه تعالى في الحيوان كفارة السمك، و كجلد الحية الذي رفضته و أفرزته بناء على كون الحية من ذي النفس.

بل يمكن

أن يقال بعدم شمولها للأجزاء الصغار و لو كانت ذا روح و زهق بالقطع مما لا تأخذها الحبالة لصغرها، و دعوى إلغاء الخصوصية بعد احتمال أن يكون للجزء المعتد به خصوصية كما فرق في المس بين ذي العظم و غيره في غير محلها، نعم لا خصوصية في الحبالة و لا الرجل و اليد بنظر العرف.

______________________________

(1) السنن الكبرى للبيهقي ج 5 ص 87.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 90

الثاني أن المصحح للدعوى بأنه ميت هو مشابهة الجزء للكل في زهاق الروح، فكأنه قال: فذروه لأنه زهق روحه، فعليه تكون العلة للحكم برفضه هي زهاق روحه، و العلة تعمم فتشمل الأجزاء المتصلة إذا زهق روحها و ذهبت إلى الفساد و النتن، و كذا ما زهق روحه و لو باقتضاء الطبع كالبثور و الثؤلول و الفأر و نظائرها لوجود العلة و تحقق موضوع الحكم.

نعم لو كان المراد من قوله عليه السلام «فذروه» ترك الأكل بقرينة ذيلها لما يستفاد النجاسة منها، لكنه ضعيف قد أشرنا إليه.

و سنشير إليه تارة أخرى.

الثالث أن يقال: إن المراد بقوله عليه السلام: «فإنه ميت» أنه غير مذكى، لإفادة أن الحيوان بأجزائه إذا لم يكن مذكى بما جعله الشارع سببا لتذكيته فهو ميت، فالميتة مقابلة المذكى في الشرع كما يظهر بالرجوع إلى الروايات و موارد الاستعمالات، و ليست التذكية في لسان الشارع و عرف المتشرعة عبارة عما في عرف اللغة، فان الذكاة لغة الذبح، و لا كذلك في الشرع، إذ التذكية ذبح بخصوصيات معتبرة في الشرع، و لهذا ترى لم تطلق هي و لا مشتقاتها في الذبح بغير طريق شرعي، كذبائح أهل الكتاب و الكفار، و كذا لو ذبح بغير تسمية

أو على غير القبلة عمدا، و هكذا.

فدعوى أن للتذكية حقيقة شرعية قريبة جدا، و كذا للميتة التي هي في مقابلها، فالمذبوح بغير ما قرر شرعا ميتة و إن قلنا بعدم صدقها عرفا إلى على ما ممات حتف أنفه أو بغير الذبح، و كذا الأجزاء المبانة من الحيوان ميتة أي غير مذكى و إن لم تصدق عليها في العرف و اللغة، و إطلاق الميتة و غير المذكى على الأجزاء كإطلاق المذكى و الذكي عليها في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 91

الأخبار شائع، فيراد في تلك الروايات بالميتة مقابل المذكى، و يشهد له ذيل الصحيحة حيث قال عليه السلام: «و كلوا ما أدركتم حيا و ذكرتم اسم اللّٰه عليه» فان الظاهر من مقابلتهما أن ما أدرك حيا و ذبح على الشرائط مذكى و الجزء المقطوع ميتة غير مذكى، و لا ريب في أن قوله عليه السلام: «كلوا» من قبيل التمثيل، و إلا فيجوز بيعه و الصلاة فيه و يكون طاهرا إلى غير ذلك.

فالصحيحة بصدد بيان أن ما قطعت بالحبالة ميت و غير مذكى، و ما ذبح على الشرائط هو المذكى، و لازم هذا الوجه نجاسة الأجزاء و لو كانت صغيرة، بل نجاسة ما خرج منه الروح برفض الطبيعة لعدم ورود التذكية عليه، فهو ميت على إشكال بل منع في هذا الأخير لأن ظواهر الأدلة لا تشملها، ضرورة عدم شمول ما قطعت الحبالة لمثل ثؤلول الإنسان و بثوره، و لمثل الألياف الصغيرة في أطراف أظفاره، و ما يتطاير من القشور عند حكها، و ما يعلو الجراحات إلى غير ذلك، و كذا رواية ابن نوح، لعدم صدق القطعة على مثلها أو انصرافها، بل لا

تشمل الأدلة لأمثال ما ذكر في الحيوانات غير الإنسان أيضا.

و بالجملة عناوين الروايات قاصرة عن شمولها، بل عن شمول الأجزاء الصغار الحية، و ما يساعد عليه العرف في إلغاء الخصوصية هو عدم الفرق بين الصغيرة و الكبيرة التي فيها روح و زال بالقطع، لإمكان دعوى استفادته من النصوص بدعوى أن المستفاد منها أن موضوع الحكم بعد إلغاء الخصوصية هو قطع الأجزاء التي فيها حياة، و أما إلغاؤها بالنسبة إلى ما رفضه الطبيعة و ألقاها بإذن اللّٰه تعالى فلا، لوجود الخصوصية في نظر العرف سيما إذا كانت الإبانة أيضا كإزالة الحياة برفضها.

ثم أن الاحتمالات المتقدمة إنما تأتي في صحيحة ابن قيس لو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 92

خليت و نفسها، و أما مع لحاظ سائر الروايات فيسقط الاحتمال الثاني جزما، لعدم تأتيه في سائرها، للفرق الظاهر بين قوله عليه السلام في الصحيحة: «فذروه فإنه ميت» و بين التعبير الذي في غيرها أي قوله عليه السلام: «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت» نعم يأتي احتماله على بعد في رواية الكاهلي، و أبعد منه احتماله في رواية الحسن بن علي.

و بعد عدم صحة الاحتمال الثاني في غير الصحيحة يسقط فيها أيضا للجزم بوحدة مفاد الجميع و عدم إعطاء حكم فيها غير ما في سائرها، فبقي الاحتمالان، و الأقرب الأخير منهما، لما عرفت من كثرة استعمال الميتة قبال المذكى بحيث صارت كحقيقة شرعية أو متشرعة أو نفسهما بل لو ادعاها أحد ليس بمجازف، فاتضح مما مر قوة التفصيل بين الأجزاء الصغار التي زالت حياتها بالقطع و غيرها كالثؤلول و البثور.

و قد يتمسك لطهارة أمثالها بصحيحة علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى

بن جعفر عليه السلام «عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول و هو في صلاته؟ أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح و يطرحه؟ قال: إذا لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله» «1».

و لا تخلو من دلالة، لأن السؤال و لو بملاحظة صدرها الذي سأل عن نزع الإنسان و لو كان من نفس هذا العمل لكن الجواب مع تعرضه لخوف السيلان و عدم تعرضه لملاقاته مع الرطوبة- خصوصا مع كون بلد السؤال مما يعرق فيه الأبدان كثيرا و سيما مع السؤال عن اللحم و هو مرطوب نوعا خصوصا ما هو على الجرح- يدل على أن المانع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 93

من جوازه الإدماء لا غير، فلا بأس بملاقيه رطبا و حمله في الصلاة.

و أما فأرة المسك- و هي الجلدة التي وعاؤه- فعن العلامة في التذكرة و النهاية و الشهيد في الذكرى التصريح باستثنائها من القطعة المبانة.

سواء انفصلت من الظبي في حال حياته، أو أبينت بعد موته، بل عن ظاهر التذكرة و الذكرى الإجماع عليه، و عن كشف اللثام القول بنجاستها مطلقا سواء انفصلت عن الحي أو الميت، إلا إذا كان ذكيا، و عن المنتهى التفصيل بين الأخذ من الميتة و بين الأخذ من الحي و المذكى.

و الظاهر أن محط البحث فيها هي الفأرة التي انقطعت علاقتها الروحية من غزالها، و زالت حياتها، و استقلت و بلغت و آن أوان رفضها سواء انفصلت بطبعها من الحي أو بقيت على اتصالها، و سواء كان الحيوان حيا أو

ميتا و أما ما كانت حية و علاقته الروحية باقية فلا ينبغي الإشكال في عدم كونه محل البحث، كما يظهر من كلماتهم لأنه جزء حيواني كسائر الأجزاء التي قد مر أن مبانها من الميت و الحي نجس.

و كيف كان تدل على طهارتها في الحي أصالة الطهارة أو استصحاب الطهارة الثابتة لها حال اتصالها، و لا يعارضه الاستصحاب التعليقي، بأن يقال: إن هذا الجزء قبل ذهاب الروح منه إذا كان مبانا من الحي نجس، فيستصحب الحكم التعليقي، و حصول المعلق عليه وجداني، و هو مقدم على الاستصحاب التنجيزي، لحكومته عليه كما حرر في محله.

و ذلك لأن الاستصحاب التعليقي انما يجري فيما إذا كان الحكم الصادر من الشارع على نحو التعليق كقوله عليه السلام: «العصير العنبي إذا نشّ و غلى يحرم» «1» دون ما إذا كان الحكم تنجيزيا و انتزعنا منه التعليق، لأنه ليس حكما شرعيا و لا موضوعا ذا حكم، و المقام من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 94

هذا القبيل، فان في أدلة الحبالة و الأليات علق الحكم التنجيزي على الأجزاء المبانة و لم يرد حكم تعليقي في الجزء المتصل حتى يستصحب.

و قد أشرنا إلى قصور أدلة نجاسة الجزء المبان من الحي عن شمول نحو الفأرة التي استقلت و بلغت و صارت كشي ء أجنبي من الحيوان، و في الميت أصالة الطهارة بعد قصور أدلة نجاسة الميتة عن إثباتها لها فان ما تدل على نجاستها على كثرتها انما تدل على نجاسة الجيفة و الميتة كما تقدم، و لا تشمل الجزء لعدم صدقهما عليه.

و انما قلنا بنجاسة أجزائها مبانة أو غير مبانة لارتكاز العقلاء بأن

ثبوتها للميتة ليس إلا للموجود الخارجي بأجزائه، فلا بد في إسراء الحكم لمثل هذا الجزء المستقل الذي زالت حياته برفض الطبيعة و بلوغه حد الاستقلال من دعوى عدم الفارق بين الأجزاء، و أنى لنا بهذه بعد ظهور الفارق بين هذا الجزء و غيره.

و لم يرد في دليل أن ملاقي الميتة أو ملاقي جسدها نجس حتى يستفاد منه نجاسة هذا الجزء بدعوى كونه من أجزائها و من جسدها حال اتصاله بها، و دعوى إلغاء خصوصية الاتصال و الانفصال، إلا في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب» و هي منصرفة إلى ميت الإنسان إن كان الياء مشددة، نعم لو ثبت سكونها و تخفيفها لا يبعد انصرافها الى غير الإنسان.

و الشاهد على انصراف الأول بعد موافقة العرف رواية ابن ميمون قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يقع ثوبه على جسد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 95

الميت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه» إلخ «1» حيث حمل الإطلاق على ميت الإنسان، و الظاهر أن الياء مشددة فيها، بل لا يبعد دعوى ظهور صحيحة الحلبي في ذلك، و لهذا ذكرها الفقهاء في أدلة نجاسة الميت الآدمي لا الحيواني.

و أما صحيحة عبد اللّٰه بن جعفر قال: «كتبت إليه يعني أبا محمد عليه السلام: يجوز للرجل أن يصلي و معه فأرة المسك؟ فكتب:

لا بأس به إذا كان ذكيا» «2» فاحتمال عود الضمير المذكر الى الغزال الذي يؤخذ منه الفأرة حتى تدل على نجاسة ما يؤخذ من الميتة و من الحي غير موجه و لا

حجة فيه، كاحتمال كون الذكي بمعنى الطاهر و عوده الى المسك، بل هذا الاحتمال بعيد جدا، لأن السؤال انما هو عن الفأرة، و لا يناسب الجواب عن مسكها.

كما أن احتمال عوده إلى الفأرة و كون الذكي بمعنى الطاهر أيضا بعيد لعدم موافقته للغة، و بعد استعمال الذكي فيه مجازا، بل المظنون قويا أن الذكي في مقابل الميتة كما في سائر الروايات، و عود الضمير إلى الفأرة إما بأن الأمر في التذكير و التأنيث سهل يتسامح فيه، و إما بمناسبة كونه معه، فعاد الى ما معه.

فتدل على أن للفأرة نوعين: ذكية و غيرها، لكن لا يستفاد منها أن أي قسم منها ذكية أو غيرها، فمن المحتمل أن تكون بعد استقلالها و بلوغها و خروج الروح منها برفض الطبيعة صارت ذكية، و تكون حالها حينئذ كالظفر و الحافر، و يكون القسم الغير المذكى ما لم تبلغ الى هذا الحد و قطعت قبل أوان بلوغها، و نحن لا نعلم حال الفأرة، فمن الممكن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 96

أن تكون هي أو نوع منها تتبدل ما في جوفها مسكا قبل تمام استقلالها و لا شبهة في أن هذا النوع تذكيتها بتذكية غزالها، و سائر أقسامها يمكن أن يكون من القسم المذكى، و بالجملة لا ركون الى هذه الرواية مع هذا التشويش و الإجمال في إثبات الحكم.

و قد يتمسك للطهارة بالتعليل الوارد في صوف الميتة بقوله عليه السلام:

«إن الصوف ليس فيه روح» «1» و في رواية «ليس في الصوف روح أ لا ترى أنه يجز و يباع

و هو حي؟» «2» و بصحيحة حريز قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن و اللباء و البيضة و الشعر و الصوف و القرن و الناب و الحافر و كل شي ء يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي، و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «3» و برواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام «4» حيث علل عدم البأس في الانفحة «بأنها ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم انما تخرج من بين فرث و دم و انما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3

(4) في حديث طويل قال فيه: «قال قتادة: فأخبرني عن الجبن فتبسّم أبو جعفر عليه السلام ثم قال: رجعت بمسالك الى هذا؟

قال: ضلت عني، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميتة، قال: ليس بها بأس، ان الإنفحة ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم، انما تخرج من بين فرث و دم، ثم قال: ان الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة» الحديث. راجع الوسائل الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 97

أخرجت منها بيضة» و بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي و هو في جيبه أو ثيابه، فقال: لا بأس بذلك» «1» و بفحوى ما دل على طهارة المسك، و بالحرج.

و في الكل

نظر لأن المراد من كون الصوف غير ذي روح أنه كذلك رأسا، فلا يشمل ما كان ذا روح فزهق، و لذلك لا يتوهم شموله للعضو الفلج، فالمراد منه أن الصوف من غير ذوات الأرواح، لا أنه ليس له روح فعلا و لو بزهاقه، و إلا فالميتة أيضا كذلك.

و تشهد له رواية الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الشعر و الصوف و الريش و كل نابت لا يكون ميتا» «2» فإنها بمنزلة المفسر لغير ذي الروح، أي ما كان من قبيل النبات ليس له روح حيواني، و منه يظهر ما في الاستشهاد بصحيحة زرارة، فإن المراد من كل ما يفصل من الشاة و الدابة ما كان من قبيل المعدودات فيها، أي ما يجز في حال حياتها، لا كل ما يفصل حتى من قبيل اليد و الرجل و ليس المراد مما يفصل ما ينقطع عنه بطبعه، فان المذكورات ليست كذلك.

و التعليل الذي في الانفحة لا يعلم تحققه في الفأرة، فمن أين يعلم أن الفأرة ليس لها عروق و لا دم حال نموها و ارتزاقها و حياتها الحيوانية أو خروجها من بين فرث و دم، أو كونها بمنزلة البيضة؟ بل المظنون لو لم يكن المقطوع أن طريق رشدها و ارتزاقها بالدم و العروق الضعيفة كسائر الأعضاء ذوات الأرواح، بل في الإنفحة أيضا كلام سيأتي في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 98

محله إن شاء اللّٰه.

و صحيحة علي بن جعفر عليه السلام- مع أن التمسك بها مبني على عدم صحة الصلاة في المحمول-

أن إطلاقها محل تأمل مع كون المتعارف من الفأرة ما هي موجودة في بلاد المسلمين، مضافا إلى أنها متقيدة بصحيحة عبد اللّٰه بن جعفر المتقدمة، و الاستدلال مبني على عدم سراية إجمال القيد كعدم سراية إجمال المخصص، و هو لا يخلو من كلام.

و الفحوى ليس بشي ء بعد عدم معلومية الحكم بطهارته الواقعية، حتى مع الملاقاة رطبا مع جلدته، و بعد إمكان كون المسك كاللبن و اللباء و الانفحة على بعض الاحتمالات، و وقوع النظائر لها في الميتة يرفع الاستبعاد، و لا يخفى ما في التمسك بالحرج.

نعم قد يقال بعدم معلومية كون الفأرة مما تحلها الحياة، و مجرد كونها جلدة لا يستلزم حلول الروح، و معه لا إشكال في طهارتها، لكن الظاهر حلول الروح فيها كسائر الجلود، و ليس الجلد كالظفر و الحافر و القرن و سائر النابتات، و مع إحراز الروح فيها فالأقوى أيضا طهارة ما بلغت و استقلت و حان حين لفظها سواء انفصلت بطبعها أم قطعت من الحي أو الميت.

ثم أن ملاقي ما قلنا بنجاستها نجس سواء كان المسك الذي فيه أو غيره كسائر ملاقيات النجاسات، و ليس شي ء موجبا للخروج عن القاعدة إلا توهم إطلاق أدلة طهارة المسك، و فيه ما لا يخفى، لفقد إطلاق يقتضي ذلك كما يظهر من المراجعة إليها.

و منها: لا ينجس من الميتة ما لا تحله الحياة

اشارة

كالعظم و القرن و السن و المنقار و الظفر و الظلف و الحافر و الشعر و الصوف و الوبر و الريش اتفاقا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 99

كما عن كشف اللثام، و بلا خلاف كما عن المدارك، و عن الذخيرة لا أعرف خلافا بين الأصحاب في ذلك، و عن الغنية دعوى الإجماع في شعر الميتة

و صوفها، و عن المنتهى دعواه على طهارة العظم. و عن شارح الدروس «أن العمدة في طهارة هذه الأجزاء عدم وجود نص يدل على نجاسة الميتة حتى تدخل، لا عدم حلول الحياة، و إلا لو كان هناك نص كذلك لدخلت كشعر الكلب و الخنزير، و إلا فزوال الحياة ليس سببا للنجاسة، و إلا لاقتضى نجاسة المذكى، على أنه لا استبعاد في صيرورة الموت سببا لنجاسة جميع أجزاء الحيوان و إن لم تحله الحياة» انتهى.

و فيه أنه إن أراد عدم الدليل على نجاسة الميتة فقد مر ما يدل عليها، و إن أراد أنه لا دليل على نجاسة أجزائها فإن الميتة اسم للمجموع فقد مر ما فيه، مع أن التعليل عن عدم الأكل في آنية أهل الكتاب بأنهم يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير دليل على أن الأجزاء نجسة فإن المأكول لحمها.

و إن أراد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة ما لا تحله الحياة منها فهو لا يخلو من وجه، لأن ما دل على نجاسة الميتة على كثرتها إنما علق فيها الحكم على عنوان الجيفة و الميتة، و هما بما لهما من المعنى الوصفي لا تشملان ما لا تحله الحياة، فإن الجيفة هي جثة الميتة المنتنة، و النتن وصف لما تحله الحياة، و لا ينتن الشعر و الظفر و غيرهما من غير ما تحله الحياة.

و دعوى أنها و إن كانت معنى وصفيا و لكنها صارت اسما للمجموع الذي من جملته ما لا تحله في غير محلها، لعدم ثبوت ذلك، بل الظاهر من اللّغة أن الجيفة اسم للجثة المنتنة، فتكون تلك الأجزاء خارجة عن مسماها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 100

ففي القاموس و

الصحاح: الجيفة جثة الميت و قد أراح أي أنتن، و في المنجد الجيفة جثة الميت المنتنة، و فيه: جافت الجيفة أى أنتنت.

و الميتة ما زال عنها الروح في مقابل الحي، و لا تطلق على الأجزاء التي لم تحلها الحياة و لو بتأول، كما تطلق كذلك على ما تحلها، و صيرورتها اسما للمجموع الداخل فيه تلك الأجزاء غير ثابت، و ارتكاز العقلاء باسراء النجاسة إلى الأجزاء انما يوافق بالنسبة الى ما تحله الحياة لا غير فالحكم بنجاسة الجيفة و الميتة لا يشمل تلك الأجزاء لا لفظا و لا بمدد الارتكاز، فأصالة الطهارة بالنسبة إليها محكمة.

هذا بالنسبة الى ما لا تحلها أو ما شك في حلولها فيها، و أما لو فرض بعض تلك الأجزاء المستثناة مما تحله الحياة كالإنفحة فلا يأتي فيه ما ذكر، فلا بد من اقامة دليل على استثنائه.

ثم أن المنسوب إلى المحقق المتقدم أنه لو دل دليل على النجاسة لا تصلح الأدلة الخاصة لتخصيصه و استثناء المذكورات، و لا تبعد استفادة ذلك من كلامه المتقدم، و فيه ما لا يخفى، ضرورة أن تلك الأدلة الناصة على أن تلك الأجزاء ذكية دالة على طهارتها سواء كان الذكي بمعنى الطاهر كما قيل أو مقابل الميتة كما هو التحقيق.

فلا إشكال في أصل الحكم بالنسبة إلى ما لا تحله الحياة، و كذا بالنسبة إلى ما هو المنصوص به في الأدلة و الفتاوى، من غير فرق في الصوف و الريش و الشعر و الوبر بين الأخذ من الميتة جزّا أو قلعا، و إن احتاج الأصول في الثاني إلى الغسل لو كان ملاقاتها للميتة مع الرطوبة لإطلاق الأدلة و كونها مما لا تحلها الحياة، و إن فرض عدم استحالتها إلى

المذكورات بل لو شك فيها فالأصل يقتضي الطهارة.

فما عن نهاية الشيخ من تخصيص الطهارة بالمقطوع جزا كأنه ليس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 101

خلافا في المسألة حكما بل موضوعا بدعوى كونها من الأجزاء التي حلت فيها الحياة و لم تخرج بالاستحالة إلى أحد المذكورات، و فيه ما لا يخفى.

نعم يمكن أن يقال: إن مقتضى إطلاق قوله عليه السلام في صحيحة حريز: «و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» لزوم الغسل و لو لم يلاق المأخوذ مع جلد الميتة برطوبة، و هو يقتضي نجاسة أمثال ذلك بعد الموت، و يكون الغسل موجبا لزوالها، فالموت سبب لنجاسة ما تحله الحياة ذاتا، فلا تزول بالغسل و غيره، و في مثل المذكورات بمرتبة ترتفع بالغسل.

و فيه ما لا يخفى فان مقتضى ما دل على طهارة المذكورات ذاتا و الأمر في هذه الرواية بالغسل هو أن الغسل إنما هو لملاقاتها للميتة برطوبة، فالعرف بالارتكاز يقيدها بالصورة المذكورة، كما ورد نظيره في ملاقي الكلب و مصافحة اليهود و غيرهما مما لا يفهم منها إلا مع الملاقاة رطبا.

نعم ظاهر موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «قال جابر بن عبد اللّٰه: ان دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي شي ء يكون أطهر من الماء؟» «1» أن الشعر و الصوف يحتاجان الى التطهير بذاتهما، و التعبير بالدباغة مكان التطهير لعله بمناسبة قول العامة بأن دباغة جلد الميتة مطهرة، فالظاهر منها أن الشعر بذاته لا يكون طاهرا و يحتاج الى الدباغة ليتطهر، و دباغته غسله بالماء، و حملها على النجاسة العرضية خلاف الظاهر جدا «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث

6.

(2) مع احتمال أن يكون الأمر بالغسل مطلقا لأجل التجنب و الاستقذار من الميتة و ان لم يلاقها رطبا، فلا يكون الأمر بالغسل تعبديا كاشفا عن نجاستها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 102

لكنها مع مخالفتها لفتوى الأصحاب و إعراضهم عن ظاهرها مخالفة للأخبار الكثيرة الدالة على أن المذكورات ذكية معللا في الصوف بعدم الروح فيه، و هي أظهر في مفادها من تلك الموثقة، فتحمل على الاستحباب أو غسل موضع الملاقاة رطبا، و منه يظهر الكلام في صحيحة الحلبي «1» الظاهر في اشتراط الذكاة في السن الذي يضع مكان سنه.

ثم انه قد يتراءى منافاة في الروايات الواردة في استثناء المذكورات ففي رواية يونس عنهم عليهم السلام قالوا: «خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الانفحة و البيض و الصوف و الشعر و الوبر» إلخ «2» و الظاهر منها انحصار الاستثناء بها و ان قلنا بعدم مفهوم العدد في غير المقام «3» و أيضا تشعر بأن الاستثناء لأجل منفعة الخلق و إن كان فيها

______________________________

(1) قال: «سألته عليه السلام عن الثنية تنفصم و تسقط أ يصلح أن تجعل مكانها سنّ شاة؟ قال: إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون ذكية» راجع الوسائل- الباب- 68- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2

(3) و لعل هذا الاستظهار مبني على الغض عن مرسلة الصدوق الواردة في هذا الباب و إليك نصها، عنه في الفقيه مرسلا قال: «قال الصادق عليه السلام: عشرة أشياء من الميتة ذكية: القرن و الحافر و العظم و السنّ و الانفحة و اللبن و الشعر و الصوف و الريش و البيض» قال في الوسائل: «و

رواه في الخصال عن علي بن أحمد بن عبد اللّٰه عن أبيه عن جده أحمد بن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عن محمد بن أبي عمير يرفعه الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام مثله مع مخالفة في الترتيب» راجع الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 103

اقتضاء النجاسة فهي بهاتين الجهتين مخالفة لغيرها.

و يمكن أن يجاب عنها- مضافا الى أن اختصاصها بالذكر لعله لكونها ذات منافع للخلق نوعا بخلاف غيرها حتى مثل لبنها، نعم في الريش أيضا منافع و لعله داخل بإلغاء الخصوصية في إحدى الثلاثة الأخيرة، تأمل. و معه لا مفهوم فيه جزما- بأن من الممكن أن تكون «ذكية» صفة لخمسة و خبرها بعدها، فيكون المراد الاخبار بأن في بعض المستثنيات منافع الناس، تأمل.

و كيف كان لا ريب في عدم صلاحيتها لمعارضة سائر النصوص كعدم صلاحية رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال: «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا فكتب عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب، و كلما كان من السخال الصوف إن جزّ و الشعر و الوبر و الانفحة و القرن، و لا يتعدى الى غيرها إن شاء اللّٰه» «1» الظاهر في أن جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز، و أن المستثنيات منحصرة بما ذكر فيها لا تتعدى الى غيرها، بعد ضعف سندها و وهن متنها بوجوه، و مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة و لفتوى الأصحاب، و لعل الاشتراط في الصوف للانتفاع به فعلا مع الجز، و أما مع القلع فبعد الغسل، و الظاهر عدم اختصاصه بالصوف دون الشعر و الوبر.

ثم

أنه قد صرح في النصوص و الفتاوى بخروج أشياء أخر ما عدا المذكورات: منها الانفحة، و لا إشكال نصا و فتوى في طهارتها، فعن المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب، و عن المنتهى أنه قول علمائنا، و عن الغنية و كشف اللثام دعوى الإجماع عليه، و تدل عليها صحيحة زرارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 104

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت، قال: لا بأس به» إلخ «1».

و رواية الحسين بن زرارة أو موثقته قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أبى يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة، فقال: كل هذا ذكي» «2» و رواية يونس المتقدمة «3» أو حسنته و غيرها.

نعم يظهر من عدة روايات خلاف ذلك، كرواية بكر بن حبيب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الجبن و أنه توضع فيه الانفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي ء» «4».

و رواية عبد اللّٰه بن سليمان عنه عليه السلام في الجبن قال: «كل شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» «5» و روايته الأخرى قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن- إلى أن قال-: قلت: ما تقول في الجبن؟ قال أو لم ترني آكله؟ قلت: بلى و لكني أحب أن أسمعه منك، فقال سأخبرك عن الجبن و غيره، كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33-

من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 10.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 4 و فيه «يسأله عن السن من الميتة».

(3) مرت في ص 102.

(4) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 2.

(6) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 105

و رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال: أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّٰه اني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظن كلهم يسمون:

هذه البربرية و هذه السودان» «1».

و لا شبهة في أن ما يجعل في الجبن و ما كان محل الكلام هو الانفحة كما نص عليه روايتا بكر بن حبيب المتقدمة و أبي حمزة الآتية، لكنها محمولة على بعض المحامل كالتقية و المماشاة معهم و الجدل بما هو أحسن.

كما تشهد به رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث «أن قتادة قال له: أخبرني عن الجبن فقال: لا بأس به فقال: إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميتة، فقال: ليس به بأس إن الإنفحة ليس لها عروق و لا فيها دم و لا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث و دم و إنما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة- إلى أن قال-: فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين، و لا تسأل عنه

إلا أن يأتيك من يخبرك عنه» «2» فإن الإرجاع إلى الحكم الظاهري بعد بيان الحكم الواقعي إنما هو على طريق المماشاة و الجدل بما هو أحسن، فلا إشكال في أصل الحكم.

انما الكلام في ماهية الانفحة حيث اختلفت كلمات أهل اللغة في تفسيرها، ففي الصحاح: «و الانفحة بكسر الهمزة و فتح الفاء مخففة كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش عن أبي زيد»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 106

و في القاموس: «الانفحة بكسر الهمزة و تشديد الحاء، و قد تكسر الفاء و المنفحة و البنفحة شي ء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر، فيعصر في صوفه فيغلظ كالجبن، فإذا أكل الجدي فهو كرش» و تفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو، و قريب منه في المنجد و عن المغرب.

و اختلفت كلمات الفقهاء على حذو اختلاف اللغويين، و قد اتفقت كلمات اللغويين فيما رأيت في مادة الكرش أنها بمنزلة المعدة للإنسان و أن الإنفحة صارت كرشا إذا رعي الجدي و أكل، ففي الصحاح:

«الكرش لكل مجر بمنزلة المعدة للإنسان- إلى أن قال-: و استكرشت الانفحة، لأن الكرش تسمى إنفحة ما لم يأكل الجدي، فإذا أكل تسمى كرشا» و في القاموس: «الكرش ككتف لكل مجرّ بمنزلة المعدة للإنسان- إلى أن قال-: استكرشت الانفحة صارت كرشا، و ذلك إذا رعى الجدي النبات» و قريب منهما في المنجد و المجمع و البستان، و الظاهر منهما أن الكرش عين الانفحة، و الفرق بينهما أن الإنفحة معدة الجدي قبل الرعي و الأكل. و الكرش معدته بعده، فنسبة السهو إلى

الجوهري كأنها في غير محلها.

و توهم أن المادة الصفراء التي هي كاللبن و لم تكن مربوطة بالحيوان ارتباطا حياتيا و اتصالا حيوانيا صارت كرشا مقطوع الفساد، فعلم من اتفاق أهل اللغة بأن الانفحة صارت كرشا بالأكل أنها هي الجلدة، لا المادة التي في جوفها، غاية الأمر أن الجلدة في الجدي قبل الرعي رقيقة، و إذا بلغ حده و رعى صارت غليظة مستكرشة، فالأظهر بحسب كلمات أهل اللغة أن الإنفحة هي الجلدة الرقيقة لا المادة في جوفها.

نعم يظهر من رواية الثمالي المتقدمة أنها المادة التي كاللبن أو هي اللبن بعينه و إن صارت في جوف الجدي غليظة، كما أن الظاهر أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 107

تلك المادة كانت فيها منافع الناس، و هي التي تجعل في الجبن و إن احتمل أن تكون الجلدة الرقيقة بما في جوفها مادته.

و كيف كان لا إشكال في طهارة المظروف، إما لطهارة ظرفه إن كان إنفحة، أو لعدم انفعاله منه إن كان المظروف إنفحة، و لو شك في أنها ظرف أو مظروف فيمكن أن يقال بوقوع التعارض بين أصالة الإطلاق في أدلة نجاسة أجزاء الميتة التي تحلها الحياة و أصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس، فيرجع الى أصالة الطهارة في الظرف بعد العلم تفصيلا بطهارة المظروف.

لكن التحقيق نجاسة الظرف أخذا بإطلاق دليل نجاسة الميتة و لا تعارض أصالة الإطلاق فيها بأصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس لعدم جريانها فيما علم الطهارة و شك في أنه من باب التخصيص أو التخصص، أو التقييد و الخروج موضوعا، لأن تلك الأصول العقلائية عملية يتكل عليها العقلاء في مقام الاحتجاج و العمل دون غيره، نظير أصالة الحقيقة فيما دار

الأمر بينها و بين المجاز، فإنها جارية مع الشك في المراد لا مع الشك في نحو الاستعمال بعد العلم بالمراد.

ففيما نحن فيه بعد ما علمنا بأن المظروف طاهر و شككنا في أن طهارته لأجل التقييد في إطلاق «النجس منجس» أو التخصيص في عمومه أو لأجل الخروج موضوعا و التخصص لا تجري أصالة الإطلاق، لعدم بناء العقلاء على إجرائها في مثله بعد عدم الأثر العملي لها، فبقيت أصالة العموم أو الإطلاق في نجاسة الميتة على حالها، نعم لو شك في كونها مما تحله الحياة فالأصل الطهارة.

هذا إذا كان ما في جوف الجلدة جامدا طبعا أو مائعا كذلك، و قلنا بعدم انفعاله بملاقاة الجلدة النجسة، و أما إذا كان جامدا طبعا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 108

كالخميرة و قلنا بانفعاله و لزوم غسل ظاهره الملاقي للجلدة فالأمر بالأخذ بأصالة الإطلاق في نجاسة أجزاء الميت مما تحله الحياة و الحكم بنجاسة الجلدة أوضح، للعلم بدخولها فيما تحله الحياة و الشك في ورود المخصص عليه، للشك في كون الانفحة الظرف أو المظروف، فمقتضى الإطلاق نجاستها و تنجيس ما في جوفها.

و هذا بوجه نظير العلم بعدم وجوب إكرام زيد و تردد الأمر بين كونه زيدا العالم حتى خصص أكرم العلماء، أو غير العالم حتى بقي العالم في العموم، فمقتضى العموم وجوب إكرام زيد العالم للشك في التخصيص نعم لا يستكشف بأصالة العموم و الإطلاق حال الفرد الخارج، ففيما نحن فيه لا يحرز بها، إلا أن الإنفحة هي ما في الجوف.

ثم ان الأظهر وجوب غسل ظاهر الانفحة الملاقي للميت برطوبة إن قلنا بأنها هي الجلدة أو قلنا بأنها ما في جوفها مع كونها طبعا و نوعا

جامدا، لعدم استفادة عدم انفعالها حينئذ من الأدلة، لقصور دلالتها إلا على طهارتها الذاتية كالشعر و الوبر و الصوف، حيث نصت الروايات بأنها ذكية مع الأمر بغسلها إذا قلعت من الميتة، فيظهر منها أن الحكم بذكاتها في مقابل الميتة التي هي نجسة ذاتا.

و هذا بخلاف اللبن و اللباء و الانفحة إذا كانت ما في الجوف و هي مائعة، فان لازم نفى البأس عنها و الحكم بأنها ذكية عدم انفعالها، لعدم إمكان غسلها، و لا معنى لبيان طهارتها الذاتية مع لزوم النجاسة معها و لا يبعد اختصاص الحكم بالانفحة المتعارفة التي تجعل في الجبن، و الظاهر أنها من الجدي و العناق و السخال و الحمل، لا من غير المأكول و لا من المأكول كالحمار و الفرس، بل في البقر و البعير أيضا تأمل، لعدم العلم بتعارف الأخذ منهما، بل في صدق الانفحة على غير المأخوذ عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 109

الجدي و الحمل إشكال، لظهور كلمات اللغويين في الاختصاص بهما.

نعم في بعض الروايات شبهة الإطلاق على فرض صدق الانفحة على سائر الحيوانات كمرسلة الصدوق قال: «قال الصادق عليه السلام:

عشرة أشياء من الميتة ذكية- و عد منها- الانفحة» «1» و رواية الحسين ابن زرارة «2» لكن المظنون أن ما هو محل الكلام هي الانفحة التي تجعل في الجبن، كما يظهر من الروايات الواردة في الجبن، فإنها التي فيها منافع الناس و تكون مورد السؤال غالبا، و معه يشكل الإطلاق فيهما، فالأحوط لو لم يكن الأقوى اختصاص الحكم بما يتعارف جعلها في الجبن و المتيقن منه إنفحة الجدي و الحمل، نعم لو شك في كونها مما تحلها الحياة كما تدل عليه رواية

الثمالي فالأصل طهارتها مطلقا.

و أما البيض فلا إشكال في طهارته نصا و فتوى، بل مقتضى القاعدة طهارته، لعدم كونه من أجزاء الميتة بعد استقلاله و اكتسائه الجلد الأعلى و عدم كونه مما تحله الحياة قبله، مع الشك في ملاقاته للميتة فضلا عن القطع به، و العلم بعدم سراية النجاسة من الجلدة فضلا عن الغليظة.

لكن حكي اتفاق الأصحاب على التقييد باكتسائه الجلد الأعلى أو الغليظ بل عن جمهور العامة موافقتنا في ذلك، فذهبوا إلى عدم حيلولة الجلد الرقيق بينه و بين النجاسة.

أقول: لو لا ذلك لكان للمناقشة في الحكم مجال، لا لضعف رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة قال إن كانت اكتست الجلد الغليظ فلا بأس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 9

(2) مرت في ص 104.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 110

بها» «1» فإنها من الموثق لو لم تكن من الصحيح.

بل لقوة احتمال أن يكون السؤال عن حليتها و حرمتها لا نجاستها و الجواب موافق للقاعدة، لأن البيضة قبل اكتسائها الجلد الغليظ تكون من أجزاء الحيوان مرتزقة منه متصلة به، و بعده تصير مستقلة منحازة فخرجت عن جزئيتها.

فهي قبل الاكتساء جزء الميتة حرام أكلها و إن كانت طاهرة لكونها مما لا تحله الحياة، و للشك في سراية النجاسة منها إليها لقطع الارتزاق بالموت و عدم العلم بالسراية، و بعد الاستقلال خرجت عن الجزئية، فحلال أكلها و طاهرة، فنفي البأس بعد الاكتساء لا يدل على نجاستها قبله إن كانت الشبهة في الحلية و الحرمة، و يكفي الشك في وجه السؤال بعد كون الطهارة موافقة للأصل.

لكن مخالفة الأصحاب غير

ممكنة، و احتمال أن يكون مستندهم الموثقة المتقدمة مع تخلل اجتهاد منهم ضعيف، لاشتهار الحكم بين الفريقين قديما و حديثا على ما حكي، و في مثله لا يمكن أن يكون المستند رواية غياث فقط، مع أن المفهوم منها ثبوت البأس، و هو أعم من النجاسة مضافا الى ما مرّ من الاحتمال.

فالأقوى ما عليه الأصحاب، لكن لا يشترط فيه صلابة الجلد، فإنها تحصل على ما قيل بعد خروجها من است الدجاجة بتصرف الهواء الخارج، و حين الخروج لا تكون صلبة و إن كانت غليظة، و كيف كان فالحكم مترتب على الجلد الغليظ لا الصلب، و لو حصل في جوف الدجاجة.

و أما اللبن فعن الصدوق و المفيد و الشيخ و القاضي و ابني زهرة و حمزة و صاحبي كشفي الرموز و اللثام و الشهيد و غيرهم القول بالطهارة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 111

و عن البيان أنه قول المشهور، و عن الدروس أن القائل بخبر المنع نادر و عن الخلاف الإجماع على طهارة ما في ضرع الشاة، و عن الغنية الإجماع على جواز الانتفاع بلبن ميتة ما يقع الذكاة عليه، و تدل عليه صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الإنفحة- إلى أن قال-: قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت قال:

لا بأس به» «1» و خبر الحسين بن زرارة أو موثقته قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أبى يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة فقال: كل هذا ذكى» «2».

و مرسلة الصدوق قال: «قال الصادق عليه السلام: عشرة

أشياء من الميتة ذكية- و عد منها- اللبن» «3» و رواها في الخصال بسند غير نقي عن ابن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد اللّٰه عليه السلام مع مخالفة في الترتيب. بل و صحيحة حريز: قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن و اللباء- الى أن قال-:

و كل شي ء من الشاة و الدابة فهو ذكي، و ان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» «4».

خلافا للمحكي عن أبي علي و أبي يعلى و العجلي و المحقق و أبي العباس و العلامة و المحقق الثاني و الصيمري و المقداد، و عن الحلي أنه لا خلاف فيه بين المحصلين من أصحابنا، و عن المنتهى أنه المشهور، و عن جامع المقاصد أنه المشهور الموافق لأصول المذهب و عليه الفتوى.

______________________________

(1) مرتا في ص 104.

(2) مرتا في ص 104.

(3) مرت ص 109.

(4) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 112

و يمكن تأييده بدعوى قصور الأدلة عن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد، بل المنكر في أذهان المتشرعة، لا لما ذكره الشيخ الأعظم من أن طرح الأخبار الصحيحة المخالفة لأصول المذهب غير عزيز إلا أن تعضد بفتوى الأصحاب- كما في الانفحة- أو بشهرة عظيمة توجب شذوذ المخالف، و ما نحن فيه ليس كذلك، فإن قاعدة منجسية النجس ليست من القواعد المعدودة من أصول المذهب بحيث لا يمكن تخصيصها بالرواية الصحيحة فضلا عن الروايات الصحيحة المؤيدة بفتوى من عرفت، بل لو لم يثبت إعراض الأصحاب عنها لوجب العمل بها، و لا ريب في عدم إعراضهم عنها، بل عملهم بها.

بل لاستضعاف سند رواية الحسين بن زرارة

لكونه مجهولا، و إن دعا له أبو عبد اللّٰه عليه السلام دعاء بليغا، إذ لا يوجب ذلك ثقته في الحديث و حجية روايته، مع أن في نسخة من الوسائل بدل اللبن «السن» و مرسلة الصدوق، و إن نسب الى الصادق عليه السلام جزما، و نحن قلنا بقرب اعتبار مثل هذا الإرسال، و ذلك لما قال في ذيلها في الفقيه:

و قد ذكرت ذلك مسندا في كتاب الخصال في باب العشرات، و سند الخصال ضعيف بجهالة علي بن أحمد بن عبد اللّٰه و أبيه.

و لعدم الإطلاق في صحيحة حريز، بل إشعار ذيلها بأن ما ذكر في صدرها هو ما يفصل من الحي.

فبقيت صحيحة واحدة هي صحيحة زرارة و هي- مع اشتمالها على الجلد مما هو خلاف الإجماع و اختلاف متنها لسقوط الجلد في رواية الصدوق و ثبوته في رواية الشيخ و هو يوجب نحو و هن فيها- لا يمكن الاتكال عليها في الخروج عن القاعدة، مع أنها مخصوصة بالشاة، و لم يقل أحد بالاختصاص خصوصا مع ما عن الحلي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 113

أنه نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا، لأنه مائع في ميتة ملامس لها، قال: و ما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب، و لا يعضدها كتاب و سنة مقطوعة بها و لا إجماع.

و دعوى العلامة الشهرة على النجاسة سيما مع اعتضادها برواية وهب عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «أن عليا عليه السلام سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال علي عليه السلام: ذلك الحرام محضا» «1» و رواية الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه السلام و فيها «و كلما كان من

السخال الصوف إن جزّ و الشعر و الوبر و الانفحة و القرن و لا يتعدى إلى غيرها إن شاء اللّٰه» «2» و رواية يونس عنهم عليهم السلام «قالوا: خمسة أشياء ذكية» «3» و لم يعد اللبن منها.

لكن مع ذلك الأقوى هو الطهارة، و المناقشة في تلك الروايات المعمول بها المعول عليها قديما و حديثا في غاية الفساد و الضعف، مع أن تضعيف رواية الحسين مع كونه إماميا ممدوحا يروي عنه الأجلة كصفوان بن يحيى في غير محله، مضافا إلى أن ظاهر الكليني حيث قال:

«و زاد فيه على بن عقبة و علي بن الحسن بن رباط قال: و الشعر و الصوف كله ذكي» «4» انهما رويا ما روى الحسين مع زيادة عمن روى لا عنه، فإنهما لم يرويا عن الحسين، بل علي بن عقبة من رجال الصادق عليه السلام. و قيل في علي بن الحسن أيضا ذلك، و لو كان من أصحاب الرضا عليه السلام لا يبعد إدراكه مجلس أبي عبد اللّٰه عليه السلام و ان لم يكن راويا عنه، فتكون الرواية صحيحة لوثاقتهما.

و لا شبهة في خطإ نسخة الوسائل لروايتها في مورد آخر و فيها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 11.

(2) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 33- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 114

«اللبن». و في مرآة العقول كذلك و في كتب الفروع أيضا كذلك، فالنسخة من خطأ النساخ جزما.

بل المناقشة في مرسلة الصدوق أيضا لا تخلو من إشكال بعد انتساب الرواية جزما إلى الصادق عليه السلام

و هو غير ممكن من مثل الصدوق إلا مع وثاقة رواتها، أو محفوفيتها بقرائن توجب جزمه بالصدور، فيمكن أن يجعل ذلك توثيقا منه للرجلين، و لو نوقش فيه فلا أقل من كونها معتمدة عنده و مجزوما بها، سيما مع ما في أول الفقيه من الضمان مضافا إلى أن المحكي عن العلامة تصحيح بعض روايات ابن مسلم إلى الصدوق و علي بن أحمد فيه، و قيل: إن الصدوق كثيرا ما يذكره مترضيا عنه و مترحما عليه، و عن المجلسي الأول توثيق أبيه مستندا إلى اعتماد الصدوق عليه في كثير من الروايات، و عن الفاضل الخراساني تصحيح خبرهما في سنده و جعلهما من مشايخ الإجازة.

و الظاهر أن لصحيحة حريز إطلاقا، و لا يكون ذيلها قرينة على عدمه لو لم يكن مؤكدا له، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «و إن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه» هو ذكر أحد شقي المذكور في الصدر، فكأنه قال: كل ما يفصل من الدابة ذكي ذاتا، لكن إذا أخذت من الميت اغسله لنجاسته العرضية.

و أغرب من جميع ذلك المناقشة في صحيحة زرارة بمجرد اشتمالها على الجلد إما لاشتباه من النساخ أو الرواة، أو لجهة في الصدور مع كون سائر المذكورات فيها موافقة للنصوص و الفتاوى، فلا وجه لردها.

و أغرب من ذلك المناقشة في الصحيحة بطريق الصدوق مع عدم اشتمالها على الجلد. بل يكشف ذلك عن الاشتباه في رواية الشيخ، فلا وهن فيها بوجه، و هي حجة كافية في رفع اليد عن قاعدة منجسية النجس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 115

و في دعوى الحلي ما لا يخفى، سيما في نسبة الشذوذ إلى الرواية مع أنها مشهورة

فتوى، متكررة نقلا، موافقة لفتوى المحصلين من أصحابنا.

و لعل مراد العلامة الشهرة عند المتأخرين، و إلا فقد مرت كلمات القوم و إجماع الخلاف و الغنية، و الشهرة المتأخرة لا تفيد جرحا و لا جبرا.

و من ذلك لا يعبأ برواية وهب بن وهب، أكذب البرية، مع أن الحرمة غير النجاسة، فيمكن أن يكون اللبن من الميت حراما غير نجس فلو كانت الرواية معتمدة يمكن الجمع بينها و بين سائر الروايات بذلك فبقي ما دل على الطهارة بلا معارض، و أما رواية الفتح مع ضعفها سندا و وهنها متنا مخالفة للإجماع و النصوص المعتبرة، و قد مرّ الكلام في رواية يونس، مع أن الانحصار بالخمسة مما لم يقل به أحد، فلا مفهوم لها جزما.

ثم أنه يأتي الكلام إن شاء اللّٰه في نجاسة شعر الكلب و أخويه في محله المناسب له فان الكلام ها هنا في نجاسة الميتة، نعم ينبغي الجزم بعدم تأثير الموت في تنجيس ميتتها بعد الجزم بعدم كون النجاسة بالموت أغلظ من نجاستها الذاتية، لعدم معنى تنجس النجس لكن لو كان للميت بما هو كذلك حكم يترتب عليها بموتها.

فما يشعر به كلام الشيخ الأعظم من ارتضائه بتنجسها بالموت مضافا إلى نجاستها العينية و عدم نجاسة ما لا تحله الحياة منها بالموت، بل يكون على نجاستها الأولية، لا يخلو عن الاشكال، و لعله أشار إليه بقوله فافهم.

(تنبيه استطرادي) [غسل مس الميت]

ذكر المحقق ها هنا غسل المس فقال: يجب الغسل على من مس ميتا من الناس قبل تطهيره و بعد برده، و الظاهر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 116

منه أن محل الكلام موضوع واحد: هو مسه كما هو المعروف، لكن يظهر من الشيخ في الخلاف

أن محط البحث بين الفريقين أمران: أحدهما أنه هل يجب الغسل على غاسل الميت؟ و الثاني هل يجب ذلك على من مس ميتا بعد برده و قبل غسله؟.

و ذلك أنه عنون المسألة الأولى فقال: يجب الغسل على من غسّل ميتا، و به قال الشافعي في البويطي، و هو قول علي عليه السلام و أبى هريرة، و ذهب ابن عمرو ابن عباس و عائشة و الفقهاء أجمع: مالك و أبو حنيفة و أصحابه و أحمد و إسحاق و أحد قولي الشافعي قاله في عامة كتبه أن ذلك مستحب، ثم استدل على الوجوب بإجماع الفرقة و قاعدة الاحتياط و رواية أبي هريرة «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: من غسل ميتا فليغتسل و من حمله فليتوضأ».

ثم عنون الثانية و جعل المخالف جميع الفقهاء، و استدل بالإجماع و الاحتياط دون الرواية. و هو ظاهر في أن خلافهم في الأولى دون الثانية.

ثم أن الموضوع في المسألة الأولى يحتمل أن يكون عنوان الغاسل و لو لم يمس الميت، فيكون الخلاف في أن الغاسل بما هو هل يجب عليه أم لا؟.

و يحتمل أن يكون المس الحاصل بتبع الغسل بمعنى أن للمس مصداقين أحدهما ما هو تبع الغسل، و هو محل الخلاف الأول، و الثاني ما هو مستقل، و هو مورد الثاني، و الجمود على ظاهر عنوان الخلاف أن محط البحث الأول، كما ربما تشهد له بعض الروايات، كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «قلت: الرجل يغمض عين الميت أ عليه غسل؟ قال: إذا مسه بحرارته فلا، و لكن إذا مسه بعد ما برد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 117

فليغتسل، قلت: فالذي

يغسله يغتسل؟ قال: نعم» «1» و صحيحته الأخرى عن أحدهما عليهما السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا- إلى أن قال- و إذا غسلت ميتا أو كفنته أو مسسته» إلخ «2» و رواها الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام باختلاف يسير «3» لكن عطف فيها «كفنته» بالواو، و هو الصحيح.

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

الذي يغسل الميت أ عليه غسل؟ قال: نعم، قلت: فإذا مسه و هو سخن؟ قال: لا غسل عليه، فإذا برد فعليه الغسل» «4» حيث يظهر منها أن عنوان الغاسل غير عنوان الماسّ، و يجب على كل منهما الغسل، مضافا إلى أن ذلك مقتضى الجمود على ظاهر ما علق فيها الغسل على عنوان من يغسل الميت تارة، و على من مسه أخرى في سائر الروايات.

لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بوجوبه له و لو مع عدم المس، لعدم احتماله في كلمات القوم فضلا عن اختياره، فلا بد من حمل ما دل على وجوبه على من مسه حال غسله، أما حمل مثل صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «من غسل ميتا و كفّنه اغتسل غسل الجنابة» «5» على ذلك فلأن غسله ملازم عادة لمسه. و قلما يتفق التفكيك لو لم نقل لم يتفق.

و أما صحيحته الأولى المتقدمة فلاحتمال أن يكون سؤاله لشبهة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة الحديث- 11.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة الحديث- 4.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 118

أن مسه حال الغسل لا يوجبه، أو أن غسله موجب لسقوط غسل المس تبعا، كما أن السؤال في صحيحة معاوية محمول عليه أيضا، فلا يكون سؤاله عن عنوان الغسل بل عن مسه في ضمنه، كما لعله المتفاهم عرفا منها، بل هو ظاهرها.

و عليه تحمل صحيحة ابن مسلم الأخرى، ضرورة أن التكفين لا يوجب شيئا، فيكون المقصود المس حال الغسل، و ذكر التكفين لعله لأجل أن الغاسل هو المكفن، و لهذا عد فيها للثلاثة غسلا واحدا، و لو لا ذلك للزم أن يكون الغسل في تسعة عشر موطنا لا سبعة عشر، فالغسل في الثلاثة لعنوان واحد هو المس، فتكون الرواية شاهدة على عدم تعدد العنوان، و تشهد لذلك حسنة الفضل الآتية الواردة في علة غسل من غسل ميتا بل هي حاكمة على غيرها.

فموضوع البحث هو مس الميت بعد برده و قبل غسله، كما عنون المحقق و غيره، و قد عرفت عنوان الشيخ، و لعل خلاف العامة في الغاسل الذي مسه لا الأعم، و لا أظن الخلاف في عدم وجوبه على من لم يمسه.

و كيف كان فالغسل واجب لمسه إجماعا كما في الخلاف و عن الغنية و في استفادته من كلامهما كلام، و هو المشهور كما عن المختلف و جامع المقاصد و الكفاية و مذهب الأكثر كما عن طهارة الخلاف و التذكرة و المنتهى و المدارك و الكفاية في موضع آخر، و لم يحك الخلاف صريحا إلا عن السيد، و في الخلاف أن من شذ منهم لا يعتد بخلافه، و تدل عليه روايات مستفيضة أو متواترة، فهي بين آمرة بالغسل كصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن أحدهما عليهما السلام، و صحيحة عاصم ابن

حميد «1» و صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

______________________________

(1) قال: «سألته عن الميت إذا مسّه الإنسان أ فيه غسل؟ قال: فقال: إذا مسست جسده حين يبرد فاغتسل» راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 119

«من غسّل ميتا و كفّنه اغتسل غسل الجنابة» «1» و صحيحة الحلبي و فيها: «و يغتسل من مسه» «2» و صحيحة الأقطع و صحيحة حريز عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «3».

و معبرة بأن عليه الغسل كصحيحة معاوية بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الذي يغتسل الميت أ عليه غسل؟ قال:

نعم- إلى أن قال-: فإذا برد فعليه الغسل» إلخ «4» و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان على الأصح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «و لكن إذا مسه و قبّله و قد برد فعليه الغسل» «5» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن رجل مس ميتا عليه الغسل؟

قال: فقال: إن كان الميت لم يبرد فلا غسل عليه، و إن كان قد برد فعليه الغسل إذا مسه» «6».

و معبرة بأنه الفرض كرواية يونس عن بعض رجاله عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الغسل في سبعة عشر موطنا منها الفرض ثلاثة قلت ما الفرض منها؟ قال: غسل الجنابة و غسل من مس ميتا

______________________________

(1) مرت ص 117.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 9.

(3) و فيها: «من غسل ميتا فليغتسل، و ان مسّه ما دام حارا فلا غسل عليه، و إذا برد ثم مسّه فليغتسل» إلخ. راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس-

الحديث 14.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 15.

(6) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 18.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 120

و غسل الإحرام» «1».

و معبرة بمادة الأمر كحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة الطهارة مما أصابه من نضح الميت، لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته» «2».

و معبرة بمادة الوجوب كصحيحة الصفار قال: «كتبت إليه عليه السلام: رجل أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «3» بناء على ضم المعجمة كما لا يبعد، و في موثقة سماعة أو صحيحته «و غسل من مس الميت واجب» «4» تأمل، الى غير ذلك. فلا إشكال في دلالتها على وجوبه و الخدشة فيها من بعضهم في غير محلها.

نعم هنا روايات ربما يتمسك بها لعدم الوجوب كرواية سعد بن أبي خلف، و لا يبعد أن تكون صحيحة قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: الغسل في أربعة عشر موطنا، واحد فريضة و الباقي سنة» «5».

و فيه إن المواطن غير مذكورة فيها، و لعل الباقي المراد منها الأغسال المندوبة، و إلا فلا شبهة في وجوب أغسال أخر، كما لا إشكال في زيادتها عن أربعة عشر، و لو قيل باندراج بعضها في بعض يقال من المحتمل اندراج الواجبات في غسل الجنابة باعتبار اشتراكها في رفع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 17.

(2)

الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 16.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل الجنابة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 121

الحدث الأكبر.

و مع الإغماض عنه لا بد من حمل الفريضة على ما ثبت وجوبه بالكتاب، و إلا فلا ينحصر الواجب في غسل الجنابة بالضرورة، فسبيل هذه الرواية سبيل صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران «أنه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب و الثاني ميت- إلى أن قال-: لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة» «1» و قريب منها رواية الحسين بن النضر «2» و غيرها، ضرورة وجوب غسل الميت.

و لو كان المراد من أربعة عشر موطنا هي المعدودة في محكي الخصال صحيحة عن عبد اللّٰه بن سنان لوجب حملها على ما ذكر، لأن فيها غسل الميت، و هو واجب بلا شبهة.

و منه يظهر الجواب عن مرسلة الصدوق عن أبي جعفر عليه السلام و صحيحة محمد بن مسلم، و الظاهر كونهما واحدة كما مر. و فيها بعد عدّ جملة من الأغسال منها غسل المس قال: «و غسل الجنابة فريضة» هذا مع عدم المفهوم لها.

و منه يظهر الجواب عن رواية الأعمش عن جعفر بن محمد «3» و فيها بعد عد جملة منها غسل المس قال: «و أما الفرض فغسل الجنابة، و غسل الجنابة و الحيض واحد» مضافا إلى أن من جملة المعدود فيها غسل الميت، و هو معلوم الوجوب، فلا بد من رفع اليد عن مفهومها لو سلم المفهوم، أو حملها

على ما تقدم.

و من بعض ما تقدم يظهر الجواب عن رواية عمرو بن خالد عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأغسال المسنونة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 122

زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: «الغسل من سبعة:

من الجنابة و هو واجب، و من غسّل الميت، و إن تطهرت أجزأك» «1» و ذكر غيره، فإن إثبات الوجوب لغسل الجنابة لا يدل على النفي عن غيره، و لو استدل له بقوله عليه السلام: «و إن تطهرت» إلخ فلم يتضح معناه لاحتمال كون المراد من التطهير غسل الجنابة، و يريد إجزاءه عن غسل المس، و لعل التعبير بالتطهر تبعا للكتاب، حيث قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» و حملها الشيخ على التقية، و لا بأس به لو أغمض عما ذكرناه.

و أما رواية الحسن بن عبيد قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته؟ فأجاب النبي طاهر مطهر، و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «3» فهي ظاهرة في معروفية ثبوت الغسل لمس الميت، و انما سأل عن مس رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لخصوصية فيه، فأجاب بما أجاب، فيظهر منها أن غسل مس المعصوم عليه السلام سنة لكونه طاهرا مطهرا، و حكمه غير حكم مس غيره، فلا بد بعد ثبوته أن يكون واجبا فتدل على المقصود أى وجوبه لمس غير الطاهر.

و أما رواية الاحتجاج «4» فظاهرة في المس حال الحرارة كما لا

______________________________

(1) الوسائل-

الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 8.

(2) سورة المائدة: 5- الآية 6.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 7.

(4) عن أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج قال «مما خرج عن صاحب الزمان عليه السلام إلى محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري حيث كتب اليه: روي لنا عن العالم عليه السلام انه سئل عن امام قوم يصلي بهم بعض صلاتهم و حدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخر و يتقدم بعضهم و يتم صلاتهم و يغتسل من مسّه، التوقيع: ليس على من مسّه إلا غسل اليد، و إذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمم صلاته مع القوم» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 123

يخفى، و تدل عليه مكاتبة أخرى «1» فراجع، و أما عده في عداد المستحبات فلا دلالة على استحبابه كما عد غسل الميت و الحيض في عدادها.

و أما ما دل على حصر النواقض في غيره فمضافا إلى أن الكلام في وجوبه لا ناقضيته أن تلك الروايات في مقام الرد على العامة الذين عدوا كثيرا من الأمور من النواقض، فالحصر إضافي فراجعها.

فتحصل مما ذكر أن لا معارض للروايات الدالة على وجوبه، فلا إشكال فيه، كما لا إشكال في عدم الغسل لمسه قبل البرد، كما صرحت به جملة من الروايات فيحمل عليها إطلاق غيرها لو كان، و كذا لا إشكال بعدم شي ء بمسه بعد الغسل كما صرح به في صحيحة ابن مسلم «2»

______________________________

(1) و عن الطبرسي قال: «و كتب إليه: و روي عن العالم أن من مسّ ميتا بحرارته غسل يده و من مسّه

و قد برد فعليه الغسل، و هذا الميت في هذه الحال لا يكون إلا بحرارته، فالعمل في ذلك على ما هو؟ و لعله ينحيه بثيابه و لا يمسه فكيف يجب عليه الغسل؟ التوقيع: إذا مسه على (في) هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

(2) عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مسّ الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس بها بأس» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 124

و عبد اللّٰه بن سنان «1» فلا بد من حمل موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «يغتسل الذي غسّل الميت، و كل من مس ميتا فعليه الغسل و إن كان الميت قد غسل» «2» على الاستحباب أو غير ذلك.

هذا إذا لم يجز جعل اسم كان ضميرا راجعا الى من مس، و جعل الجملة التي بعدها خبرها بدعوى عدم جواز جعل معمول الخبر تلو العامل و إلا فتسقط عن الدلالة على الخلاف، فلا دليل على استحبابه إلا إشعار بعض الروايات. كصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها قال: «فمن أدخله القبر؟ قال: لا، إنما مس الثياب» «3» و نحوها صحيحة حريز «4» فهما مشعرتان أو ظاهرتان في أنه إذا مس جسده فعليه الغسل، فلا بد من حملهما على الاستحباب جمعا، و الأمر سهل.

ثم الظاهر أن المس من الأحداث الموجبة لنقض الطهارة، كما عن النهاية و الدروس و الذكرى و الألفية، و عن شرح المفاتيح أن المشهور المعروف بين الفقهاء أن مس الميت من الناس حدث أكبر

كالجنابة و الحيض و عن الحدائق دعوى عدم الخلاف بينهم لا لمجرد أن الأمر بالغسل عند مسه ظاهر في أنه مثل الجنابة من الأحداث المقتضية للطهارة لأن الظاهر منه أن الغسل رافع لما يحدث بالمس لكن لا يجدي ذلك في إثبات أن ما يحدث به حدث مانع للصلاة، و قياسه على سائر الأحداث

______________________________

(1) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس بأن يمسّه بعد الغسل و يقبله» راجع الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب غسل المس- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس- الحديث 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 125

كما ترى.

و بعبارة أخرى أن الظاهر من ترتب وجوب الغسل على المس أنه دخيل في ذلك، و المتفاهم منه عرفا أن المس موجب لحدوث حالة معنوية للماس لا ترتفع إلا بالغسل، و أما كون تلك الحالة مانعة عن الصلاة أو أن الغسل منه شرط لها فلا الا بالقياس إلى الجنابة و غيرها.

بل لدلالة جملة من الروايات كمكاتبتي الحسن بن عبيد و الصيقل قال: «كتبت إلى الصادق عليه السلام هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسّل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عند موته فأجابه: النبي طاهر مطهر و لكن فعل أمير المؤمنين، و جرت به السنة» «1» حيث أن الظاهر منهما أن مس غير الطاهر المطهر من حدث الموت موجب للغسل، و الظاهر منه أن إيجابه له إنما هو بنحو من السراية كما أن الظاهر من أدلة غسل ملاقي النجاسات ذلك.

فالمفهوم منهما أن مس الأموات موجب لحصول حالة شبيهة بما

في الأموات أي القذارة المعنوية المقابلة للطهارة، و ترتفع بالغسل و تتطهر به، فإذا ضم ذلك إلى قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» «2» يتم المطلوب، و يؤيده بل يدل عليه ما دل على أن غسل الأموات غسل الجنابة و كحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة الطهارة مما أصابه من نضح الميت» إلخ «3» و قريب منها رواية محمد بن سنان عنه عليه السلام «4» لكن في ذيلها «لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته، فلذلك

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 12.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 126

يتطهر منه و يطهر».

و هما كالصريح في أن المس موجب للقذارة و الحدث المقابلين للطهارة و هي تحصل بالغسل، و لما كان بصدد بيان علة الاغتسال لا بد من حمل ما أصابه على قذارة معنوية مقابلة للطهور الحاصل بالغسل بالضم، و أصرح من ذلك ذيل الثانية أي «يتطهر منه و يطهر» إذ معلوم أن المراد التطهير من الحدث كتطهير الميت منه، بل يمكن الاستشهاد لذلك بالقول المحكي عن أمير المؤمنين عليه السلام في رواية زيد بن علي عليه السلام قال:

«الغسل من سبعة: من الجنابة و هو واجب، و من غسّل الميت، و إن تطهرت أجزأك». «1» بناء على أن المراد التطهير منه الجنابة كما احتملناه، أو التطهير من مس الميت كما احتمله الحر في الوسائل.

و كيف كان لا إشكال في كونه

حدثا مانعا من الصلاة و غيرها مما هو مشروط بالطهارة، و هل هو ناقض للوضوء، فلو كان على وضوء و مسه يجب عليه الغسل و الوضوء إن قلنا بعدم كفاية الأول عن الثاني كما هو الحق؟ وجهان. لا يبعد أقربية الأول.

و يمكن الاستدلال عليه برواية ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان أو غيره عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «في كل غسل وضوء إلا الجنابة» «2» و في مرسلته الأخرى عنه عليه السلام قال: «كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة» «3».

بدعوى أن الظاهر أن الحكم فعلي، و أن كل غسل يجب قبله أو بعده وضوء، و مقتضى الإطلاق لزومه، و لو مع كونه على وضوء قبل تحقق السبب، لا حيثى يراد به أن غير غسل الجنابة لا يجزي عن الوضوء حتى يقال: لا يراد لزوم الوضوء حتى

______________________________

(1) مرت في ص 122.

(2) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الجنابة- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الجنابة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 127

مع الفرض، فتدل على سببية ما يوجب الغسل للوضوء أيضا، و عدم إجزاء الغسل عنه. نعم على ما احتملناه سابقا من أن المراد اشتراط تحقق الغسل بالوضوء تكون أجنبية عن المقام. لكن لا يبعد دعوى كون ذلك الاحتمال خلاف الظاهر، و لهذا لم أجد احتماله في كلماتهم، و كيف كان لو لم يكن الناقضية أقوى فهي أحوط.

و هل يلحق المتيمم بالمغتسل مطلقا في رفع حدثه و خبثه أولا مطلقا أو يلحق في رفع الأول؟ وجوه، أقواها الأول، لا لما قد يقال: إنه مقتضى عموم أدلة البدلية، لعدم الدليل على عمومها حتى في الخليطين، أما دليل

تنزيل التراب منزلة الماء فظاهر، و أما مثل قوله عليه السلام، «ان اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» فلأن تلك الروايات ناظرة إلى الآية الكريمة التي أفادت بدليته عن الماء في الوضوء و غسل الجنابة، و ليست مطلقة خرجت منها الطهارة من الأخباث في جميع الموارد إلا ما ندر، كما لا يخفى. فسبيل تلك الطائفة سبيل دليل التنزيل.

و لا لما يقال: إنه حيث علم أن غسله ليس إلا غسل الجنابة و أنه يغسل الميت لصيرورته جنبا، فيكون الحال حينئذ بمنزلة ما لو بين الشارع للجنابة سببا آخر غير السببين المعهودين، فلا يشك حينئذ في قيام التيمم مقام غسلها حال الضرورة بمقتضى عموم ما دل على أنه أحد الطهورين، فيعلم أن التعدد و تشريك غير الماء معه في طهوريته لخصوصية المورد، فاعتبار ذلك لا يمنع من شمول أدلة البدلية، خصوصا مع أن السبب الأعظم الذي يستند إلى الطهورية إنما هو الماء و خصوصياته المعتبرة ككونه بماء السدر و الكافور بمنزلة الأوصاف الغير المقومة.

و ذلك لأنه بعد الاعتراف بأن الخليط دخيل في الرفع، و ليس الماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب التيمم- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 128

القراح تمام السبب في ذلك لا بد من التماس دليل على قيام التراب منزلة الماء المخلوط الذي يكون الخلط جزء سبب الرفع، و مجرد كون الماء السبب الأعظم على فرض تسليمه لا يفيد في قيام التيمم مقامه، و كون غسله غسل الجنابة على فرض تسليم كون تلك الجنابة كسائر الجنابات و الغض عما في النصوص من خروج النطفة التي خلق منها من فمه أو غيره الدال على أن هذه من

غير سنخ سائر الجنابات لا يفيد أيضا بعد كون السبب الرافع و لو لخصوصية المورد غير الماء القراح، بل الأغسال الثلاثة بالمقررات الخاصة، و معه لا بد من دلالة دليل على قيام التراب منزلة السبب و هو مفقود.

بل للأدلّة الخاصة الدالة على وجوب تيمم الميت مع فقد الماء كصحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران «أنه سأل أبا الحسن موسى ابن جعفر عليه السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب و الثاني ميت و الثالث على غير وضوء و حضرت الصلاة، و معهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء و كيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب و يدفن الميت بتيمم، و يتيمم الذي هو على غير وضوء، لأن غسل الجنابة فريضة و غسل الميت سنة، و التيمم للآخر جائز» «1» و في نسخة من الوسائل الموجودة لديّ نقلها بهذا المتن عن الشيخ بسنده عن عبد الرحمن عمن حدثه عن الرضا عليه السلام، لكن عن المدارك نقل الصحيحة مع سقوط لفظ «بتيمم» و أورد عليه صاحب الحدائق بأن الصحيحة بسند الصدوق مشتملة عليه، نعم لم تشتمل عليه رواية الشيخ، و هي غير صحيحة، ثم قال: «إن صاحب الوافي و الوسائل قد نقلا هذه الرواية من التهذيب بهذا المتن- الذي ذكره، اي مع سقوطه- ثم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب التيمم- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 129

نقلاها عن الفقيه و أحالا المتن على ما نقلاه عن التهذيب و لم ينبها على الزيادة- ثم قال-: إني قد تتبعت نسخا عديدة مضبوطة من الفقيه فوجدت الرواية فيها كما ذكرته من الزيادة» انتهى، لكن في نسخة الوسائل عكس ما قال

في الحدائق، فإنه نقل صحيحة ابن أبي نجران من الفقيه مع الزيادة، ثم نقل عن التهذيب و أحال المتن على ما نقل عن الفقيه.

و كيف كان هذه الصحيحة المشتملة على الزيادة حجة قاطعة على وجوب تيممه مع فقد الماء.

و تدل على وجوبه عند العذر رواية عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: «إن قوما أتوا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّٰه مات صاحب لنا و هو مجدور فان غسلناه انسلخ فقال: يمّموه» «1» و قد يقال بجبر سندها بفتوى الأصحاب بمضمونها و ذكره في المتون.

وجه الدلالة على المقصود: أن المتفاهم منهما بعد مسبوقية ذهن المتشرعة بقيام التيمم مقام الغسل في الجنابة و غيرها أن الأمر بالتيمم عند فقد الماء و التعذر لأجل حصول ما يحصل بالغسل به في هذا الحال، و لا يكون التيمم أجنبيا غير مؤثر في تطهير الميت، لمقطوعية خلافه و مخالفته لارتكاز المتشرعة، فالمفهوم منهما أنه يقوم مقام الغسل في جميع الآثار، و منها رفع الخبث، فان الرافع له مع نجاسته العينية ليس الغسل بالفتح بل الغسل.

و بالجملة أن أدلة البدلية كتابا و سنة صارت موجبة لاستظهار ما ذكرناه من الدليل الخاص لو فرض قصوره و إن لم تكن بنفسها دالة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 16- من أبواب غسل الميت- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 130

عليه، فالأقوى قيامه مقامه في رفع الخبث أيضا، نعم رفعه لهما في موضوع خاص أو إلى أمد خاص، كما مرّ في باب التيمم.

و من هنا يظهر حال الأغسال الاضطرارية سواء كان مستندها الأدلة الخاصة كغسل المحرم بلا كافور، أو كون

الغاسل كافرا أو مخالفا، أو مستندها أدلة التقية كالغسل على طبق أهل الخلاف تقية، أو دليل الميسور أو إطلاق أدلة الغسل مع قصور دليل اعتبار الشرط و القيد مثلا.

أما الأخير فواضح، و أما ما عداه فلظهور الأدلة الخاصة و العامة في أن الطبيعة المأتي بها حينئذ ليست أمرا أجنبيا عن تحصيل ما يترقب من الغسل من رفع الحدث و الخبث، بل المتفاهم منها أن الغسل الذي أوجبه اللّٰه تعالى لتطهير الميت حدثا و خبثا و لملاقاته لملائكة اللّٰه طاهرا نظيفا هو المصداق الاضطراري لدى الاضطرار، و أنه موجب لتطهره.

فهل يمكن أن يقال: إن المحرم المحروم من الكافور باق على جنابته و نجاسته، و يكون الأمر بغسله لا للتطهير منهما، بل لمطلوبية نفسية بلا ترتب أثر عليه؟ و لا أظن التزام مثل الشيخ الأعظم المستشكل في المسألة بذلك فيه، و كذا فيما إذا كان الغاسل كافرا، فان الظاهر من الأدلة أنه يأتي بالغسل الذي يترتب عليه الآثار المطلوبة، بل الأمر كذلك لو كان دليل المثبت قاعدة الميسور، لأن الأرجح في معنى قوله عليه السلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور» أن ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها، بمعنى أن الطبيعة المأمور بها التي يكون لها فردان: اختياري و اضطراري لا تسقط عن العهدة بمعسورية الاختياري، بل يؤتى بها بمصداقها الميسور، فالطبيعة المأتي بها حال الاضطرار عين المأتي بها حال الاختيار، و الاختلاف في الخصوصيات الفردية، فيترتب عليها ما يترتب على الاختياري منها، و قد فرغنا في رسالة التقية عن أن المأتي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 131

به حالها مجز عن الواقع، و يترتب عليه ما يترتب على الفرد المأتي به في غير حالها.

فما أفاده

شيخنا الأعظم من انصراف الغسل في الأخبار إلى الغسل الاختياري التام و لا دليل على قيام الاضطراري مقام الاختياري في جميع الأحكام غير متجه.

و أما من لا يجب تغسيله إما لتقديم غسله على موته كالمرجوم، أو لكونه شهيدا لا يغسل كرامة، أو لكونه كافرا لا يغسل إهانة و لقصور المحل عن التأثير فالأظهر عدم إيجاب الموت في الأولين الجنابة و النجاسة.

لظهور دليل أولهما في أن غسله المعهود صار مقدما، و لا يتوهم عدم معقولية تأثير السبب المتقدم في رفع أثر السبب المتأخر زمانا، لأنه بعد ظهور الدليل في أن غسله غسل الميت قدم على موته نلتزم بمانعيته عن تأثير السبب، أى الموت في الحدث و الخبث.

و بالجملة الظاهر من دليل تقديم الغسل أن الأثر المترتب على الغسل المتأخر مترتب عليه، و إن كان نحو التأثير مختلفا لكون المتأخر رافعا و هو دافع.

و احتمال أن وجوب الغسل المتقدم بملاك آخر غير ملاك سائر الأغسال و أن المرجوم لا بد و أن يدفن جنبا و نجسا ففي غاية السقوط، و أما الشهيد فلا شبهة في أن سقوط غسله إنما هو لكرامة فيه، و أنه لعلوّ قدره لا يصير جنبا و لا نجسا. و معه لا يجب على من مسه غسل و لا غسل، أما بالفتح فواضح، و أما بالضم فلظهور الأدلة في أن الموجب له مس غير المطهر، فلا إشكال في المسألة و إن قال الشيخ الأعظم: إن المسألة لا تخلو من إشكال.

و أما الثالث فيجب الغسل بمسه لإطلاق مثل صحيحة عاصم بن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 132

حميد قال: «سألته عن الميت إذا مسه إنسان أ فيه غسل؟ قال: فقال:

إذا مسست

جسده حين يبرد فاغتسل» «1» بل الظاهر من سائر الأخبار أن الموجب للغسل هو المس، و أن الغسل غاية لرفع الحكم لا قيد في الموضوع، فظاهر مثل قوله عليه السلام: «إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «2» أن مس جسده موجب لذلك، و الغسل غاية لرفع الحكم، لا أن مس جسد من يجب غسله أو من يغسل موجب له، و تدل عليه رواية العلل «3» و غيرها.

بل ربما يتمسك له بمثل صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «في رجل مس ميتة أ عليه الغسل؟ قال: لا إنما ذلك من الإنسان» و فيه كلام و إشكال.

ثم أن مقتضى إطلاق بعض الروايات كصحيحتي علي بن جعفر و محمد بن مسلم و غيرهما عدم الفرق في الماسّ و الممسوس بين ما تحله الحياة و غيره. نعم لا يبعد الانصراف أو عدم الصدق في الشعر سيما المسترسل منه. و على فرض الإطلاق يمكن القول بالتفصيل في الممسوس بينه و بين غيره، لصحيحة عاصم بن حميد المتقدمة آنفا، فان الظاهر من ذكر الجسد سيما بعد فرض الراوي مس الميت أن له دخالة في الحكم و هو عليه السلام ذو عناية بذكره، و الظاهر عدم صدقه على الشعر بل لا يبعد مساوقته للبشرة، نعم لا شبهة في صدقه على مثل الظفر و العظم و السن.

و أما مكاتبة الصفار الصحيحة قال: «كتبت اليه: رجل أصاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب غسل المس الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 133

يده أو

بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع عليه السلام: إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «1» ففي دلالتها تأمل ناش من احتمال كون الغسل بالفتح بمناسبة السؤال، و ان كان المظنون ضمه، و من احتمال كون ذكر الجسد في مقابل الثوب المذكور في السؤال.

و يمكن التمسك للتفصيل بين الشعر و غيره بمكاتبة الحسن بن عبيد المتقدمة فإن الظاهر من قوله عليه السلام: «النبي طاهر مطهر» «2» أن علة الغسل من المس نحو سراية من الممسوس الى الماسّ، و المناسبة تقتضي أن تكون السراية في الخبثية نحوها و في الحدثية نحوها، فان قلنا بأن الشعر كما أنه لا ينجس لا يصير معروضا للحدث و لا يجب غسله في غسل الجنابة و لا غسل الميت تدل الرواية على عدم لزوم الغسل بمسه لعدم السراية منه. و منه يظهر دلالة رواية العلل و العيون و محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام عليه.

نعم إن قلنا بوجوب غسل الشعر في الجنابة و غسل الميت كما لا يبعد فلا تكون الروايات شاهدة على التفصيل، و كيف كان الأقوى التفصيل في الممسوس، كما لا يبعد في الماسّ أيضا، لقوة دعوى الانصراف أو عدم الصدق.

و أما التفصيل بين ما تحله الحياة و غيره متشبثا بحسنة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال «انما لم يجب الغسل على من مس شيئا من الأموات غير الإنسان كالطيور و البهائم و السباع و غير ذلك

______________________________

(1) مرت في ص 120.

(2) مرت في ص 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 134

لأن هذه الأشياء كلها ملبسة

ريشا و صوفا و شعرا و وبرا، و هذا كله ذكي لا يموت، و انما يماس منه الشي ء الذي هو ذكى من الحي و الميت» «1» ففي غاية الإشكال، بل غير وجيه، و إن ذهب اليه الشيخ الأعظم فإن ما ذكر إن كان علة للتفصيل بين ما تحله الحياة و غيره لا بين الإنسان و غيره فلا إشكال في مخالفتها للإجماع بل الضرورة. و إن كان نكتة للتشريع بمعنى أن الأغلب لما كان الملاقاة لغير الإنسان بما ذكر صار ذلك علة لجعل عدم البأس لملاقاته مطلقا، أو لعدم جعل الحكم له كذلك مس البشرة أو غيرها يكون مقتضى المقابلة إن مس ميت الإنسان مطلقا موجب له، و إن كانت نكتة التشريع غلبة المباشرة مع البشرة فتكون شاهدة على خلاف المقصود، و لا أقل من عدم الدلالة على التفصيل.

و بالجملة كيف يمكن الاستدلال للتفصيل بما يكون محل التفصيل منه غير مراد جزما، فما أفاده شيخنا الأعظم في وجه التمسك غير وجيه، و التفصيل بين ما تحله و غيره في الممسوس ضعيف فضلا عن الماسّ و إن فصل الشهيد في الروض بينهما في الماسّ و الممسوس.

فروع:
الأول: مقتضى الأصل أن مس القطعة المبانة من الميت موجب للغسل

سواء كانت مشتملة على العظم أولا، أو عظما مجردا حتى السن و الظفر، فكل ما يوجب مسه الغسل حال الاتصال يوجبه حال الانفصال، لاستصحاب الحكم التعليقي و قد فرغنا عن جريانه إذا كان التعليق شرعيا كما في المقام.

و قد يتوهم عدم جريانه، لأنه فرع إحراز الموضوع، و القدر المتيقن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب غسل المس- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 135

الذي علم ثبوته عند اتصال العضو بالميت إنما هو وجوب الغسل بمس الميت

المتحقق بمس عضوه، و هو مفروض الانتفاء عند الانفصال، و سببية العضو من حيث هو لم يعلم في السابق حتى يستصحب.

و فيه أن موضوع الاستصحاب ليس عين الدليل الاجتهادي حتى يشك فيه مع الشك في الثاني، و يعلم انتفاؤه مع العلم بانتفائه، ضرورة أن موضوع الأدلة الاجتهادية هو العناوين الأولية مثل الميت و العنب و العالم و غيرها، و أما الاستصحاب فجريانه يتوقف على صدق نقض اليقين بالشك و وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فإذا أشير إلى موضوع خارجي كالعنب و يقال: إن هذا الموجود إذا غلى عصيرة يحرم، ثم يبس و خرج عن عنوان العنبية لكن بقيت هذيته و تشخصه عرفا بحيث يقال: إن هذا الموجود عين الموجود سابقا و إن تغير صفة لا شبهة في جريان الاستصحاب فيه، مع العلم بتبدل موضوع الدليل الاجتهادي كما في المثال، لأن موضوعه عصير العنب و هو لا يصدق على الزبيب جزما، لكن العنب الخارجي متيقن الحكم بهذيته، لا بمعنى تعلق الحكم على عنوان هذيته، بل بمعنى تعلق اليقين بأن هذا الموجود الذي هو مصداق العنوان ذو حكم بتشكيل صغرى وجدانية و كبرى اجتهادية.

ففي المقام يصح أن يقال مشيرا الى كف الميت المتصلة به: إذا مسست هذه يجب عليّ الغسل، فإذا قطعت منه و انفصلت لا تتغير، إذا في بعض الحالات فالقضية المتيقنة عين المشكوك فيها، و هو الميزان في جريان الاستصحاب، و أما تغيير موضوع الدليل الاجتهادي فأجنبي عن جريانه و لا جريانه، و هذا الخلط يسد باب جريانه في كثير من الموارد و العجب من قوله أخيرا: إن سببية مس يده من حيث هو لم تعلم في السابق حتى تستصحب، لأنه إذا علم سببيته

من حيث هو بلا دخالة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 136

شي ء آخر فيتمسك بإطلاق الدليل لا الاستصحاب، إلا مع دعوى قصور الأدلة عن إثبات الحكم حال الانفصال و لو في الفرض.

ثم أنه لا فرق في اقتضاء الاستصحاب ذلك بين القطعات كما أشرنا إليه، هذا حال الجزء المبان من الميت.

و أما المبان من الحي فمقتضى الاستصحاب عدم إيجابه شيئا إن قلنا بجريانه في مثل المقام، و إلا فمقتضى البراءة ذلك، و الخروج في المسألتين عن مقتضى الأصل يحتاج الى الدليل.

و أما الأدلة الاجتهادية فما اشتملت على مس الميت أو مس جسده فلا إشكال في عدم شمولها لمس القطعة المنفصلة، لعدم صدق الميت و لا جسده عليها عرفا، سواء انفصلت من حي أو ميت.

و دعوى إلغاء الخصوصية عرفا إذ لم يفرق العرف بين حال الاتصال و الانفصال فاسدة جدا في مثل هذا الحكم التعبدي المجهول العلة، كما أن التمسك بالتعليل الوارد في رواية العلل و غيرها بدعوى أن العلة لوجوب الغسل إذا كانت إصابة نضح الميت و آفاته فهي متحققة مع الانفصال من الميت في غير محله، لأن العلة فيها غير حقيقية، و لا يكون الحكم دائرا مدارها، و إلا لزم الالتزام بعدم الوجوب إذا فرض العلم بنظافة الميت و عدم آفات صورية فيه، و هو كما ترى، فتلك العلل ليست معممة و لا مخصصة.

مع أن المراد فيها ليس النضح الظاهري و لا الآفات الظاهرية، فإنها ترتفع بتنظيف اليد المماسة و تطهيرها لا بالغسل الذي هو أمر تعبدي كما لا يخفى.

و قد يستدل لإثبات الحكم للقطعة المنفصلة من الميت بإطلاق مرسلة أيوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه

السلام قال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 137

«إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» «1» و لا شبهة في جبرها باتكال الأصحاب عليها قديما و حديثا، ضرورة أن الفتوى بمثل هذا الحكم التعبدي الذي هو مضمون المرسلة لا يمكن إلا بالاتكال عليها، فان ما في الفقه الرضوي «2» مخصوص بالميت، فلم يكن مستند الحكم في الحي، فالخدشة فيها من جهة القطع في غير محلها، كما أن إطلاقها غير بعيد سيما إذا قلنا بأن الرجل بكسر الراء و سكون المعجمة، كما لا يبعد، و لا يكون قوله عليه السلام: «فهي ميتة» موجبة لصرفها إلى الحي، فإن المراد بقوله ذلك تنزيل القطعة منزلة الميتة، و إلا فليس صدق الميتة على العضو حقيقيا.

و كيف كان لا يبعد الإطلاق، بل لو شك في الانصراف بعد شمول اللفظ و صدق الطبيعة عليهما يشكل رفع اليد عنه بمجرده، لأنه شك في انحراف الكلام عن ظاهره اللغوي، إلا أن يقال بأن إحراز عدم الانصراف من مقدمات الأخذ بالإطلاق، و هو ممنوع.

و أما ما قيل من أن الرواية و إن انصرفت إلى الحي لكن يلحق به الميت بالأولوية القطعية، ففيه أن ذلك موجه في إيجاب الغسل في مس القطعة المشتملة على العظم لا في عدم إيجاب مس القطعة المجردة، ففائدة القول بالإطلاق تظهر في ذلك الذي هو مخالف للاستصحاب.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1

(2) عن فقه الرضا عليه السلام: «و إن مسست شيئا من جسده أكله السبع فعليك الغسل إن كان فيما مسست

عظم، و ما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسه» راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب غسل المس- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 138

لكن لو قلنا بانصرافها إلى الحي و قد عرفت عدم الأولوية في الفقرة الثانية يلزم منه أن لا تكون مستند المشهور تلك الرواية، فاما أن يكون مستندهم الفقه الرضوي و هو بعيد، أو يكون الشهرة أو الإجماع المدعى في الخلاف بلا استناد إلى رواية، و هي أيضا حجة قاطعة في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد و البعيدة عن العقول.

نعم يحتمل في عبارة الخلاف أن يكون قوله (ع): «و كان فيها عظم» راجعا الى ما قطعت من الحي، حيث قال: «إن مس قطعة من ميت أو قطعة قطعت من حي و كان فيها عظم وجب عليه الغسل، و خالف جميع الفقهاء في ذلك» فتكون القطعة المبانة من الميت مطلقا مورد دعوى الإجماع، لكن عبارته في النهاية صريحة في أن القطعة المبانة من الميت أيضا مقيدة باشتمالها على العظم، و منها يرفع الاحتمال من عبارة الخلاف بإرجاع القيد الى كليهما كما فهم الأصحاب، و لم أجد في كلماتهم احتمال الرجوع الى الأخير.

فتحصل مما ذكر قوة التفصيل بين المشتمل على العظم و بين غيره في الحي و الميت، كما هو معقد إجماع الخلاف على ما استظهرناه، و في التذكرة نسب الخلاف الى الجمهور مع التنصيص باشتمال القطعة على العظم من آدمي حي أو ميت، و تمسك بالمرسلة ناسبا بنحو الجزم الى الصادق عليه السلام، و هو دليل على جبرها عنده، بل ثبوت الصدور لديه، و هو المشهور كما عن جامع المقاصد، و في الحدائق كذلك، و في

التذكرة عن الأكثر، و في روض الجنان هو الأشهر، و في الجواهر «على المشهور بين الأصحاب قديما و حديثا، بل لا أجد خلافا إلا من الإسكافي- فقيده في المبان من الحي بما بينه و بين سنة- و إلا من المصنف في المعتبر و السيد في المدارك فلم يوجباه» انتهى، و في طهارة شيخنا الأعظم دعوى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 139

معروفيته ممن عدا المحقق في المعتبر تارة، و مشهوريته و مخالفته للجمهور أخرى.

ثم ان الظاهر من الرواية وجوب الغسل بمس القطعة المشتملة على العظم، و أما مس عظم تلك القطعة فهي قاصرة عن إثبات وجوبه به، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» رجوع ضمير يمسه الى الموصول، فيصير المعنى إذا مس ما كان فيه عظم، و الظاهر منه اللحم الذي فيه عظم.

و يؤكده قوله عليه السلام: «فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه» لأن الظاهر أن الموضوع في كليهما مس ما كان مشتملا عليه، و الحمل على اشتمال الكل على الجزء خلاف الظاهر جدا، بل لا يبعد أن يكون ذلك ظاهر كلمات الفقهاء كالشيخ و العلامة و غيرهما، فإنهم عبروا بمثل الرواية أو قريبا منها، فمس العظم من القطعة المبانة من الحي لا يوجب شيئا على الأقرب فضلا عن العظم المجرد منه، نعم العظم المبان من الميت يوجبه مجردا كان أولا؟ لما تقدم من الأصل، و لا شعار ما دلت على أن العظام يجب غسلها بعد ما يظهر من الروايات أن غسل المس بنحو من السراية، و لا فرق بين

الضرس و الظفر و غيرهما، و دعوى السيرة القطعية على عدم الغسل بملاقاتهما في الميت كما ترى، نعم هي في الحي في محلها.

ثم أن الأظهر اعتبار حصول البرد في القطعة المبانة من الحي أو الميت، لظهور الرواية في أن إيجاب مسها للغسل متفرع على التنزيل منزلة الميت، فهي باعتبار كونها ميتة في نظر الشارع يوجب مسها الغسل فلا محالة يعتبر فيها ما يعتبر في الميت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 140

و احتمال أن يكون التنزيل في النجاسة فقط باعتبار لفظ الميتة التي لا تطلق على الإنسان و باعتبار التفصيل بين ذي العظم و غيره غير وجيه لظهور الرواية في أن إيجاب المس للغسل متفرع على كونها ميتة، و هي قرينة على أن الميتة ها هنا مستعملة في الإنسان لو سلم عدم استعمالها فيه، مع أنه غير مسلم و إن لا يبعد انصرافها اليه عند الإطلاق، و بالجملة ظهور التفريع محكم على ذلك و على إشعار التفصيل بأن الحكم ليس للميت فالأظهر اعتبار البرودة، كما أن الأظهر اعتبار كونه قبل الغسل.

الثاني: لو وجد ميت أو جزء منه في مقبرة

فاما أن تكون المقبرة للمسلمين أو لغيرهم أو مشتركة بينهما أو غير معلومة الحال، فعلى أي تقدير إن الأصل يقتضي وجوب الغسل بمسه، و إن يقع الكلام في جريانه موضوعا أو حكما، توضيحه أنه إن قلنا بأن موضوع وجوبه بحسب الأدلة مس الميت قبل غسله بدعوى دلالة مكاتبة الصفار عليه إذ فيها: «إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل» «1» و مفهوم صحيحتي محمد بن مسلم و عبد اللّٰه بن سنان إذ قال عليه السلام فيهما: «لا بأس أن يمسه بعد الغسل و يقبّله» «2» لأن

مفهومه عرفا أن قبل الغسل فيه بأس، فلا يجري استصحاب عدم غسله لإثبات كون المس قبل الغسل، لكونه مثبتا، و أما الاستصحاب الحكمي التعليقي فلا مانع منه، و قد قلنا بجريانه في مثل المقام.

و إن قلنا بأن موضوعه هو الميت الذي لم يغسل كما هو الأقرب فلا مانع من الاستصحاب الموضوعي، سواء في الميت أو العضو منه، و إن قلنا بأن الغسل من واجبات الميت لا العضو لصحة أن يقال: إن

______________________________

(1) مرت في ص 120.

(2) مرتا في ص 123- 124.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 141

هذا العضو كان في زمان لم يغسل صاحبه و الآن كما كان، و الفرض أن عدم غسل الميت موضوع لوجوب الغسل بمس أعضائه شرعا، و بهذا يظهر جريانه فيما وجد في مقبرة الكفار، و كذا لو وجد الميت في المقبرة المشتركة أو مجهولة الحال، و أما إذا وجد عضو منه في المقبرة المشتركة فيدور الأمر بين كون هذا العضو من معلوم الاغتسال أو من معلوم العدم فحينئذ إن قلنا بأن الغسل صفة الميت لا العضو فيقع الإشكال في الأصل الموضوعي، نظير الإشكال في أصالة عدم التذكية في العضو المردد في أخذه من معلوم التذكية أو معلوم العدم، بأن الأصل غير جار بالنسبة إلى نفس الحيوانين لعدم الشك فرضا فيهما، و لا في العضو لعدم كون التذكية من صفاته، و لا أصل يثبت كونه من أحد القسمين.

و قد يقال بجريان الموضوعي فضلا عن الحكمي، فإن هذا العضو كان في زمان لم يغسل صاحبه فيستصحب. و بهذا التقرير يمكن إجراؤه في المثال المتقدم، فان هذا العضو لم يكن صاحبه مذكى في زمان، و الفرض ان عدم تذكية

الحيوان موجب شرعا لحرمة أجزائه و عدم صحة الصلاة فيها، و فيه إشكال لأن صاحب هذا العضو ليس مشكوكا فيه حتى يجري الاستصحاب فيه، بل الشك في أخذ هذا العضو من هذا المعلوم أو ذاك، و لا أصل محرز له.

و قد يقال بأن ما وجد في مقبرة المسلمين محكوم بالتغسيل، فإن الغلبة كافية في إحراز كونه منهم، و إحراز جريان يدهم عليه بمثل الدفن و الكفن، بل و إحراز كونه مغسلا، سيما مع شدة اهتمام المسلمين في أمر موتاهم و تجهيزها و خلو مقابرهم من سائر الأموات، بل و شدة اهتمام سائر الطوائف في اختصاص مقابرهم بموتاهم و عدم التدفين في مقابر غيرهم، و مثل هذه الغلبة حجة، بل مع إحراز جريان يد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 142

المسلمين عليه من تكفينه و تدفينه حكم بطهارته و عدم الغسل بمسه، لكون تصرفهم من قبيل تصرف ذي اليد فيما يتعلق به تصرفا مشروطا بالطهارة فإنه كإخباره بالطهارة حجة شرعية حاكمة على الاستصحاب.

و فيه أن مجرد الغلبة أو بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لا يوجب الحجية إلا مع انضمام عدم ردع من الشارع الكاشف عن رضائه به، و هو مفقود في المقام، لعدم إحراز وجوده في زمان الشارع الصادع صلّى اللّٰه عليه و آله أو الأئمة الهدى عليهم السلام و عمل العقلاء على طبقه و لم يردع عنه الشارع.

و إن شئت قلت: إمضاء بناء العقلاء ليس بدليل لفظي يتمسك بإطلاقه، بل يحرز لأجل السكوت عما يعمل العقلاء بمرئي و منظر من الشارع، فهو كاشف قطعي عن الرضا به كالعمل بخبر الثقة و اليد و أصالة الصحة، و أما في مثل

المقام الذي يكون نادر الاتفاق و لم يعلم تحققه في زمانه و ارتضائه به فلا يمكن الحكم بحجية الغلبة، أو بناء العقلاء، لعدم الدليل على الإمضاء نعم مع حصول الاطمئنان الشخصي لا كلام فيه، لأنه علم عادي و هو غاية للاستصحاب.

و منه يظهر ما في دعوى السيرة لعدم إحراز اتصالها بزمنهم على فرض تسليم تحققها و عدم القول بأن عدم اعتنائهم لحصول العلم و لو عاديا على اغتسال ما وجد.

و أما دعوى أن تصرف المسلم فيما يكون مترتبا على الغسل كتصرف ذي اليد و هو بمنزلة إخباره ففيه- بعد تسليم كون تصرفه كتصرف ذي اليد و أن تصرف ذي اليد مطلقا حجة- أنه لا يسلم كونه كإخباره بالطهارة، فإن غاية ما في الباب أن تصرفه في الدفن كان موافقا لوظيفته و هو لا يكفي في دفع احتمال كون ترك الغسل و التيمم لعذر، فلا بد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 143

في دفعه من التشبث بالغلبة و بناء العقلاء على عدم الاعتناء، و قد عرفت ما فيه، فالأحوط لو لم يكن أقوى وجوب الغسل بمسه إلا مع الاطمئنان كما هو حاصل غالبا.

الثالث: السقط بعد ولوج الروح

كغيره يجب في مسه الغسل، لصدق الميت عليه بلا إشكال، كما لا إشكال في عدم الوجوب قبله، لعدم الصدق، فان الميت ما زال عنه الروح لا ما لم يلج فيه، و لو مع شأنيته، و مقتضى الأصل طهارته، و إن حكي عن العلامة التصريح بوجوب غسل اليد منه، و عن النراقي عدم الخلاف فيه، لكن إثبات الحكم به مشكل بل ممنوع.

و دعوى ان نجاسته لكونه قطعة مبانة من الحي كما ترى، لأنه ليس قطعة من أمه، و على فرضه

لا يكون مما تحله الحياة، و دعوى حلول روح الأم فيه قبل حلول روحه و بحلوله زال روحها مجازفة مقطوعة الخلاف، و لا أقل من الشك فيه، و الأصل معه الطهارة.

كما ان دعوى استفادة نجاسته من قوله عليه السلام: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «1» بدعوى أن الظاهر منه قبول الجنين للتذكية و أن ما عدا المذكى ميتة شرعا، غير وجيهة، فإن قوله ذلك لا يثبت إلا أن تذكية ما يحتاج إلى التذكية بتذكية أمة، لا أن لكل جنين تذكية حتى يقال: إذا لم يذك يكون ميتة، و بالجملة لا تدل الرواية على أن لكل جنين تذكية، بل تدل على أن ما فرض قبوله لها تكون تذكيته بتذكية أمه، و بعبارة أخرى إن الموضوع المفروض ما يمكن أن تقع عليه التذكية لا مطلق الجنين.

الخامس من النجاسات: الدم،

و نجاسته في الجملة واضحة، بل

______________________________

(1) مرت في ص 48.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 144

يظهر منهم أنها إجماعية بين المسلمين، بل قيل إنها من ضروريات الدين، لكن لما كان بعض مصاديقه محل الشبهة كالعلقة و دم البيضة و المخلوق آية و المصنوع بتركيب أجزائه لو فرض اصطناعه إلى غير ذلك لا بد من النظر في الأدلة، حتى يعلم أن الأصل في الدم النجاسة، و الاستثناء يحتاج إلى دليل أو العكس و إلحاق المورد المشكوك فيه يحتاج إليه.

و قد استدل على نجاسته مطلقا بالآية الكريمة «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» «1» بناء على كون الرجس بمعنى النجس و عود الضمير إلى جميع ما تقدم، و فيه تأمل حتى بعد

تسليم الأمرين كما لا يبعد، فان الرجس على ما نص عليه أهل اللغة هو القذر، و هو عرفا بمعنى النجس و إن قيل إنه أعم، و على فرض أعميته لا يبعد دعوى أنه في الآية بمعناه، كما حكي عن شيخ الطائفة في التهذيب:

«أن الرجس هو النجس بلا خلاف» و قيل ظاهره أنه لا خلاف بين علمائنا في أنه في الآية بمعنى النجس.

و لا يبعد استظهاره من الآية بأن يقال: إن ما قيل في معنى الرجس لا يناسب في الآية إلا القذارة بالمعنى الأعم، أي ما يقابل النظافة، و لا ريب في أن لحم الخنزير الذي هو المتيقن في عود الضمير إليه لا يكون غير نظيف عرفا، و إنما يستقذره المسلمون للتلقين الحاصل لهم تبعا للشرع، و حكمه بنجاسته و حرمته لا لقذارة فيه عند العرف و العقلاء، و ليس استقذارهم منه إلا كاستقذارهم من الكافر و الخمر و الكلب، فلا مجال في حمل الآية على القذارة العرفية المقابلة للنظافة.

______________________________

(1) سورة الانعام: 6- الآية 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 145

و مع عدم إرادة ذلك يتعين الحمل على النجاسة بالمعنى المعهود شرعا إذ لا يناسب شي ء آخر مما ذكر في معناه يصح الانتساب إليه، كالقذارة المعنوية مع بعدها عن الأذهان، و يؤيد ذلك ما ورد في الكلب «إنه رجس نجس» «1» و في الخمر «لا تصل فيه فإنه رجس» «2» بل لا يبعد أن يكون الرجس بمعنى النجس و القذر، و إطلاقه على مثل الأوثان و الميسر و الأنصاب و الأزلام بنحو من التوسعة، بل لا يبعد أن يكون الشرع و العرف موافقين في مفهومه، و إن ألحق الشارع بعض ما ليس

بقذر عرفا به، و استثنى بعض ما يستقذره العرف عنه.

و كيف كان دعوى ظهور الرجس في النجس المعهود و لو بواسطة القرائن الداخلية و الخارجية غير مجازفة، كما لا يبعد عود الضمير إلى جميع المذكورات بواسطة القرينة، بأن يقال إن الظاهر من الآية أن الظاهر تعليل حرمة الأكل بما ذكر، و هو لا يناسب قصره على الأخير.

و دعوى عدم احتياج الأولين إلى التعليل لاستقذار الناس منهما دون الأخير كما ترى، ضرورة أن النهي عن أكلهما لردع الناس عنه، و مع استقذارهم لا يحتاج اليه، سيما إذا كان المراد بالميتة غير المذكى لا ما مات حتف أنفه، فإنه ليس بمستقذر عندهم رأسا، و في المجمع إرجاع الضمير إلى جميع المذكورات بلا احتمال خلاف.

لكن مع ذلك استفادة الإطلاق من الآية مشكلة بعد كونها بصدد بيان حرمة أكل المذكورات، و ذلك لأن الدم مطلقا و بجميع أنواعه ليس مأكولا أو متعارف الأكل، فالمستفاد منها بعد تسليم ما تقدم هو نجاسة الدم المطعوم لا مطلقه،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 146

بل لو أغمض عن ذلك يمكن منع الإطلاق في المستثنى، بدعوى عدم كونها في مقام بيان حكمه، بل الظاهر كونها بصدد بيان العقد السلبي و أنه لم يوجد غير المذكورات محرم، لا بصدد بيان حرمة المذكورات حتى يؤخذ بإطلاقها في المشتبهات، إلا أن يقال: إن تقييد الدم بالمسفوح و تعليل المذكورات بقوله (ع): «فإنه رجس» دليل على كونها بصدد بيان المستثنى و عنايتها بحكمه أيضا، فيؤخذ بإطلاقها، و فيه تأمل. لأن القيد على فرض قيديته لعله لأجل تعارف أكل

المسفوح، و يحتمل أن يكون التعليل لبيان أن حرمتها ليست إلا لنجاستها لا لعناوينها، تأمل.

و أما الروايات فعلى كثرتها لم أجد فيها ما يمكن الاتكال على إطلاقها إلا النبوي «يغسل الثوب من المني و الدم و البول» «1» و رواية دعائم

______________________________

(1) قال الشهيد في الذكرى: «الثالث و الرابع المني و الدم من كل ذي نفس سائلة و ان كان مائيا كالتمساح، لقول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: انما يغسل الثوب من المني و الدم و البول» و قال المحقق في المعتبر حول نجاسة الدم (ص 116) ما هذا لفظه: «الدم كله نجس عدا دم ما لا نفس له سائلة- إلى أن قال-: لنا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

انما يغسل الثوب من البول و الغائط و المني و الدم، و انما للحصر، و لم يرد حصر الجواز و لا الاستحباب، فتعين حصر الوجوب، و كأنه قال:

لا يجب غسل الثوب إلا من هذه» و قال في موضع آخر منه (ص 119) في بيان عدم العفو عما بلغ الدرهم: «فلأن مقتضى الدليل وجوب إزالة قليل النجاسة و كثيرها لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: انما يغسل الثوب من البول و الغائط و المني و الدم، و هذا اللفظ بإطلاقه يقتضي وجوب إزالة الدم كيف كان، فيترك منه ما وقع الاتفاق على العفو عنه و هو ما دون الدرهم» و عن العلامة في المنتهى في مسائل نجاسة المني و الدم: «و ما رواه الجمهور عن عمار بن ياسر ان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال له حين رآه يغسل ثوبه من النجاسة: ما نخامتك و دموع عينك و الماء الذي في ركوتك إلا سواء، انما

يغسل الثوب من خمس: البول و الغائط و الدم و القي ء و المني، و روى ابن عباس ان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: سبعة يغسل الثوب منها: البول و المني ..» و قريب منهما ما أورده الشيخ في الخلاف (ص 69) و نقله في مستدرك الوسائل الباب 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2، و لكنه ما ذكر لفظ «القي ء و الدم» و أورده في جمع الجوامع للسيوطي- ج 5 ص 83- الحديث 1757 مع أدنى تغيير في العبارة، و كذلك في كتاب بدائع الصنائع للكرماني- ج 1 ص 60- و بما نقلناه يظهر وجه ما قاله صاحب الجواهر من أن الحديث مروي في كتب الفروع لأصحابنا و ان لم أجده من طرقنا، و ظني أنه عامي، بل ظاهر المنتهى أو صريحه ذلك.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 147

الإسلام عن الباقر و الصادق عليهما السلام «أنهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات» «1» و هما ضعيفان سندا، إذ لم يحرز اتكال القوم عليهما، بل الظاهر عدم استنادهم إليهما، و ربما يحتمل في الثانية كونها بصدد بيان كيفية غسل الدم لا أصله، و هو كما ترى سيما مع اختلاف النجاسات في كيفية التطهير.

و أما سائر الروايات فلا إطلاق فيها، لكونها بصدد بيان أحكام أخر كموثقة عمار بن موسى عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام، و فيها: «فقال:

كل شي ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا أن ترى في منقاره دما،

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 148

فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه و لا تشرب»

«1» فإنها بصدد بيان سؤر الطيور لا نجاسة الدم، فكأنه قال: سؤر الطير لا بأس به إلا أن يتنجس بالدم.

و نظيرها رواية زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

بئر قطرت فيه قطرة دم أو خمر؟ قال: الدم و الخمر و الميت و لحم الخنزير في ذلك كله واحد، ينزح منه عشرون دلوا، فان غلب الريح نزحت حتى تطيب» «2» فإنها في مقام بيان حكم البئر لا الدم، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في بيان أحكام الصلاة و الماء و المكاسب المحرمة و آنية أهل الكتاب و غيرها مما لا مجال لتوهم الإطلاق فيها.

و أما رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن عليا عليه السلام لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل: يعني دم السمك» «3» فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى ما يذكى لأنه بصدد بيان نفي البأس عما لم يذك، لا إثبات البأس فيما يذكى.

ثم إن قلنا بعدم الإطلاق في الروايات فكما لا يمكن التمسك بها لإثبات نجاسة مطلق الدم لا يمكن التمسك بها لإثبات نجاسة دم ماله نفس سائلة، فلو شك في نجاسته ما دام كونه في الباطن، أو في نجاسة العلقة إن قلنا بأنها لذي النفس، أو في بعض أقسام الدم المتخلف، كالمتخلف في القلب و الكبد، أو في العضو المحرم، أو المتخلف في الحيوان الغير المأكول لا تصلح تلك الروايات لرفع الشك فيها.

و دعوى أن الناظر في تلك الروايات الكثيرة في الأبواب المختلفة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 149

لا يشك في أن نجاسة الدم مطلقا كانت معهودة مفروضة التحقق لدى السائل و المسئول عنه، كما تشهد به صحيحة أبي بصير قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السلام و هو يصلي فقال لي قائدي: إن في ثوبه دما فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما، فقال: إن بي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» «1» في غير محلها لأن المسلم من معهوديتها انما هو بنحو الإجمال لا الإطلاق، كما هو واضح. و أما الرواية فلا تدل على معهوديتها مطلقا، فان الدم في ثوبه لم يكن إلا من دمه الشريف عادة أو نظيره، و لم يحتمل الناظر غير ذلك، كدم العلقة أو المخلوق آية.

كدعوى إلغاء الخصوصية عرفا من الروايات الواردة في دم الرعاف و حكة الجلد و غيرهما، فإن إلغاء الخصوصية انما هو فيما لا تحتمل خصوصية عرفا، و أما مع احتمال أن للدم الظاهر أو في الأجزاء الأصلية خصوصية فلا مجال لإلغائها، مع إمكان أن يقال: إن إلغاء الخصوصية انما هو فيما إذا كانت الروايات بصدد بيان نجاسة الدم، و أما بعد مفروضية نجاسته و السؤال عن حال الابتلاء به فلا مجال لإلغائها.

فتحصل مما ذكرناه أن الأصل في الدم الطهارة إلا أن يدل دليل على نجاسته.

و الظاهر أن دم ماله نفس سائلة مع خروجه إلى الظاهر مما لا كلام و لا إشكال في نجاسته، و قد ادعي الإجماع في الدم من ذي النفس السائلة في محكي المختلف و الذكرى و كشف الالتباس و شرح الفاضل، و عن الغنية و التذكرة لا خلاف فيه، و عن المنتهى و نهاية الإحكام و المعتبر

______________________________

(1)

الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 150

و المدارك و الدلائل هو مذهب أصحابنا مع استثناء ابن الجنيد في الثلاثة الأخيرة، و نقل عنه: الدماء كلها تنجس الثوب بحلولها فيه، و أغلظها نجاسة دم الحيض.

لكن يظهر من جماعة التقييد بالمسفوح، فعن الحلي الاستدلال على طهارة دم السمك و نحوه بأنه ليس بمسفوح، و عنه أيضا: الدم الطاهر هو دم السمك و البراغيث و ما ليس بمسفوح، و قد نسب العلامة في المنتهى التقييد به إلى علمائنا قال: «قال علماؤنا الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة- أي يكون خارجا بدفع من عرق- نجس، و هو مذهب علماء الإسلام، لقوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ إلخ- و قال-:

دم السمك طاهر و هو مذهب علمائنا- الى أن قال-: و قوله تعالى:

«دَماً مَسْفُوحاً» و دم السمك ليس بمسفوح» و الظاهر أن كل من قيد الدم به انما هو بتبع الآية الكريمة، كما ترى تمسك العلامة بها، فالأولى عطف الكلام الى مفادها.

فنقول: إن في بادئ النظر و ان احتمل أن يكون التوصيف بالمسفوح للاحتراز عما لا يخرج من العرق صبا و اهراقا بدفع في مقابل الرشح كدم السمك و غيره مما لا نفس سائلة له، أو للاحتراز عن الدم المتخلف في الذبيحة، أو للاحتراز عن الدم في الباطن مقابل الظاهر، أو للاحتراز عن جميع المذكورات، لكن الأقرب عدم قيدية الوصف، لأن ما هو المتعارف أكله هو الدم المسفوح أي الدم المأخوذ من الذبائح دون سائر الدماء، و معه لا يصلح القيد للاحتراز، مضافا إلى أن الاستثناء لما كان من حرمة الأكل لا يراد بالقيد الاحتراز عن المذكورات و إثبات

الحلية لسائر أقسام الدم المقابل للمسفوح، و لا أظن من أحد احتمال حلية دم خرج من عرق حيوان بلا صب و دفع تمسكا بالآية الكريمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 151

نعم لو قيل بأن المراد بغير المسفوح هو ما اختلط باللحم مما لا يتعارف الاحتراز عنه أو لا يمكن لكان له وجه، لكنه خلاف ظاهر القيد، فان الظاهر منه كما مرّ في كلام العلامة هو ما خرج بدفع من العرق.

و الانصاف أن فهم القيدية و احترازية الوصف مشكل، و معه لا يجوز التمسك لطهارة ما في الباطن أو المتخلف في الذبيحة، و إن لا تدل على نجاستهما أيضا، لأن عدم احترازية القيد لا يلازم الإطلاق و بعبارة أخرى ان المدعى أن الآية حرمت ما يتعارف بينهم أكله، أي الدم المسفوح، و التقييد للمتعارف للاحتراز، فتكون ساكتة عن حكم غيره إثباتا و نفيا.

هذا كله مع عدم المفهوم للوصف، فلا تدل على حلية غير محل الوصف فضلا عن طهارته، فالاستدلال لطهارة دم السمك أو المتخلف بالآية في غير محله، سيما مع القول بحرمة دمهما إذا لم يكن تبعا للحم، و بهذا كله ظهر عدم صلاحية القيد في الآية لتقييد قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ «1» و للمسألة محل آخر.

ثم أن المتفاهم أو المتيقن من معاقد الإجماعات نجاسة الدم الخارج عن حيوان له نفس سائلة، و التقييد بالمسفوح في كلام الحلي و العلامة و غيرهما ليس لإخراج مثل دم الرعاف و الدماميل بالضرورة، بل لإخراج المتخلف و ما لا نفس له، ضرورة نجاسة المذكورات نصا و فتوى، فمثل الدم المخلوق آية أو الصناعي فرضا ليس مشمولا لها، كما لا تشمل الدم الذي

يوجد في البيضة، فإنه ليس دم الحيوان، و الأصل فيه الطهارة.

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية: 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 152

و دعوى غلبة الظن بمعهودية نجاسة مطلق الدم في الشريعة عهدتها على مدعيها، مع أن الظن لا يدفع الأصل إلا أن يكون حجة شرعية، كدعوى مغروسية نجاسة مثله في أذهان المتشرعة بحيث أمكن دعوى تلقيه من الشارع الأقدس، فإنها بلا بينة.

و كذا العلقة غير معلومة الشمول للإجماع لأن الظاهر من دم الحيوان غيرها فإنها نطفة تبدلت بالعلقة فلا تكون دم الأم عرفا، و لا دم الحيوان الذي تنقلب اليه بعد حين، لكن الشيخ ادعى في الخلاف إجماع الفرقة على نجاستها، و استدل لها أيضا بإطلاق الأدلة، و يظهر من المحقق و العلامة و محكي غيرهما التمسك لها بأنها دم أو دم ذي نفس و من ذلك ربما توهن دعوى إجماع الخلاف، و لعل مراد القاضي في محكي المهذب من أنه الذي يقتضيه المذهب ظاهر الأدلة، لكن مع ذلك الأحوط نجاستها بل لا تخلو من ترجيح.

و أما العلقة في البيضة فغير معلومة الشمول لإجماع الخلاف، بل الظاهر عدم إطلاق العلقة عليها حقيقة، و لا أقل من انصرافها عنها، فالأقوى طهارتها.

كما أن الحكم بطهارة الدم المتخلف لا يحتاج إلى إقامة برهان بعد قصور الأدلة اللفظية عن إثبات نجاسة مطلق دم ذي النفس، و عدم دليل آخر على نجاسته، و إن قام الدليل على طهارته، كما عن المختلف و كنز العرفان و الحدائق و آيات الجواد دعوى الإجماع عليها و إن كان في معقد بعضها قيد، و عن المجلسي و صاحب كشف اللثام و الذخيرة و الكفاية عدم الخلاف فيها، بل هو الظاهر

من الجواهر أيضا، و عن أطعمة المسالك أن ظاهرهم الاتفاق عليه.

نعم استثنى بعضهم ما في الجزء المحرم كالطحال، بزعم أن حرمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 153

أكله ملازمة لنجاسته و هو كما ترى، أو بزعم إطلاق أدلة نجاسة الدم و قصور دليل الإخراج، و قد مر ما فيه.

هذا مع استقرار السيرة على عدم الاجتناب عنه و عن اللحم الملاقي له، من غير فرق بين دم القلب و الكبد و الطحال و غيرها، و بين الدم الظاهر الخارج منها و المخلوط بها، فما عن بعضهم من احتمال الفرق أو اختياره في غير محله، و لو نوقش في شمول معقد الإجماع لبعض المذكورات أو ثبوت السيرة في بعض فلا مجال للمناقشة في الأصل بعد ما تقدم من فقد الإطلاق، مع أن المناقشة في السيرة لعلها في غير محلها كما أن مقتضى الأصل طهارة المتخلف في الحيوان المحرم.

لكن عن البحار و الذخيرة و الكفاية و شرح الأستاذ أن ظاهر الأصحاب الحكم بنجاسته في غير المأكول، و ثبوت الحكم بمثله مشكل، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه.

كما أن طهارة دم ما لا نفس سائلة له لا تحتاج الى تجشم استدلال بعد ما عرفت، و ان تكرر نقل الإجماع عليها من السيد و الشيخ و ابن زهرة و الحلي و المحقق و العلامة و الشهيدين و غيرهم.

و تشهد لبعضها السيرة المستمرة، و رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن عليا عليه السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك» «1» و كون التفسير من أبي عبد اللّٰه عليه السلام غير معلوم، فتدل على

عدم البأس لمطلق ما لم يذك، تأمل. بل لا يبعد صحة الاستدلال ببعض الروايات

______________________________

(1) مرت في ص 148.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 154

الواردة في ماء البئر و المياه، كموثقتي عمار «1» و حفص بن غياث «2» فما يظهر من بعضهم كالمحكي عن المبسوط و الجمل و المراسم و الوسيلة مما يوهم النجاسة و إن عفي عنه على فرض ثبوته لعله لزعم قصور الأدلة عن إثبات طهارتها بعد إطلاق أدلة النجاسة، لأن نفي البأس أعم من الطهارة، فلا يدل إلا على العفو، و هو مقتضى الجمع بين الأدلة و الاقتصار على تقييد المطلقات و تخصيص العمومات، و فيه- مضافا إلى أن المتفاهم من نفي البأس في المقام الطهارة- لا إطلاق و لا عموم في الأدلة كما مر مرارا حتى يأتي فيها ما ذكر.

فرع: المشكوك في كونه دما أو غيره أو كونه مما له نفس أو غيره أو من الدم المتخلف أو غيره محكوم بالطهارة، للأصل بعد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة الدم مطلقا، فلا مجال للتشبث بترك الاستفصال في الروايات الكثيرة الواردة في الدم، كقوله: «بئر قطرت فيه قطرة دم» و قوله عليه السلام: «فإن رأيت في منقاره دما». و قوله عليه السلام: «إن رأيت في ثوبك دما». و قوله: «فأصاب ثوبا نصفه دم» و غيرها. ضرورة أن ترك الاستفصال دليل العموم أو الإطلاق فيما إذا كان المتكلم في مقام بيان الحكم، و تلك الروايات في مقام

______________________________

(1) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه، قال: كل

ما ليس له دم فلا بأس به» راجع الوسائل- الباب- 10 من أبواب الأسئار- الحديث 1.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 154

(2) عنه عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: «لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة» راجع الوسائل- الباب- 10- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 155

بيان أحكام أخر.

و بعبارة أخرى: أنه بعد فرض نجاسة قسم من الدم سأل فيها عن الابتلاء بما هو نجس، و في مثله لا معنى للاستفصال، و لا وجه لتوهم العموم مع تركه، و هذا الاشكال مشترك الورود في جميع الروايات و يختص بعضها بإشكال أو إشكالات لا مجال لعدها بعد ضعف أصل الدعوى ثم على فرض تسليم كون الأدلة أو بعضها في مقام البيان لكن لا مجال لتوهم العموم اللفظي فيها لفقدانه جزما، فلا يكون في المقام إلا الإطلاق المتوهم، و التمسك بالشبهة الموردية في المطلقات المتقيدة و لو بتقييد منفصل أضعف جدا من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، لقرب احتمال صيرورة المطلق بعد التقييد بمنزلة المقيد، فتكون الشبهة من قبيل الشبهة الموردية في المقيد المتصل، بخلاف تخصيص العام بالمنفصل فإنه لا يوجب حصول عنوان أو قيد فيه، و إن توهمه بعضهم قياسا بالمطلق و المقيد، و قد فرغنا عن تهجينه في محله.

و كيف كان لا عموم في المقام حتى يأتي فيه ما ذكر في بيان جواز التمسك به في الشبهة المصداقية للمخصص من تمامية الحجة بالنسبة إلى الفرد المشمول للعام، و عدم حجة على دفعها، لكون الفرد من

الشبهة المصداقية لنفس المخصص، فالعام حجة بالنسبة إلى الفرد، و الخاص ليس بحجة.

و نحتاج إلى الجواب عنه بأن حجية العام تتوقف على مقدمات:

منها أصالة الجد، و بعد خروج أفراد من العام يعلم عدم تطابق الجد و الاستعمال بالنسبة إلى الأفراد الواقعية من المخصص، و تطابقهما بالنسبة إلى غير مورد التخصيص و المورد المشتبه من الشبهة المصداقية، لأصالة التطابق، و ليس بناء العقلاء على جريانها في مورده كما لا يخفى،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 156

أو نحتاج الى ما أتعب به شيخنا الأعظم نفسه الشريفة من التصدي للجواب عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

و ربما يقال في الدم المتخلف في الذبيحة إذا شك في أنه من القسم الطاهر أو النجس: بأن الظاهر الحكم بنجاسته عملا بالاستصحاب أو بالعام مع لبيّة المخصص، و يحتمل التفصيل بين ما إذا كان الشك من جهة احتمال رد النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الرد و بين ما كان لأجل احتمال كون رأسه على علو فيحكم بالنجاسة عملا بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف.

و فيه أن الاستصحاب في الدم غير جار، لعدم العلم بنجاسته في الباطن، لقصور الأدلة عن إثباتها «1» و التمسك بالعام في المخصص اللبي فرع وجوده، و هو مفقود، مع أن في التمسك به مع لبيته إذا

______________________________

(1) و يمكن أن يفصل في المقام في جريان استصحاب النجاسة و عدمه من حيث الموجب لنجاسة الدم المتبقي في الذبيحة إذا كان رأسها عاليا بأن يقال: إن قلنا إن الموجب لنجاسته عدم خروجه منها بمقدار المتعارف لا يجري استصحاب نجاسته فيما إذا شك في أن الدم المتخلف من القسم الطاهر أو النجس لعدم العلم بنجاسته في الباطن لقصور

الأدلة عن إثباتها كما أفاده الأستاذ دام ظله، و اما إذا قلنا بأن الموجب لها هو الذبح غير أن خروجه بمقدار المتعارف سبب لطهارة المتخلف فيها، بدعوى أن الدم في الباطن طاهر ما دام جاريا في الدورة الدموية و أما عند الذبح فحاله كحال المتبقي في الذبيحة إذا لم يخرج بمقدار المتعارف، و عليه يجري استصحاب النجاسة في المقام لأنه عند الذبح محكوم بالنجاسة، فعند الشك في حصول سبب الطهارة نستصحب نجاسته المتيقن سابقا، تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 157

كان الإخراج بعنوان واحد إشكالا، بل منعا.

و أما أصالة عدم رد النفس لا تثبت كون هذا متخلفا، لأن خروج الدم بالمقدار المتعارف لازم عقلي أو عادي لعدم رد النفس، و كون الدم متخلفا لازم لهذا اللازم، كما أن أصالة عدم خروج المقدار المتعارف لا تثبت كون هذا الدم نجسا، لأن الدم النجس هو الدم الغير المتخلف أو الدم المسفوح أو نحوهما، و الأصل المتقدم لا يثبت تلك العناوين، بل أصالة عدم خروج الدم المتعارف لا تثبت لمصداق الدم حكما، نظير ما إذا علمنا بأن واحدا من الشخصين الموجودين في البيت عالم فخرج أحدهما منه. فلا إشكال في جريان استصحاب بقاء العالم فيه، لكن لا يثبت به أن الموجود في البيت عالم حتى يترتب عليه أثره.

ثم لو حاولنا جريان أصالة عدم رد النفس لإثبات طهارة بقية الدم لجرى أصل عدم كون رأسه على علو لإثبات طهارته «1» و هو حاكم على أصالة عدم خروج الدم المتعارف. لكن التحقيق عدم جريان واحد من تلك الأصول. و الحكم بطهارة المشكوك فيه لأصالة الطهارة.

السادس و السابع: الكلب و الخنزير

و نجاستهما في الجملة واضحة لا تحتاج الى تجشم استدلال، و

إن ذهب الى طهارتهما مالك و الزهري و داود على ما حكى عنهم العلامة في المنتهى، و نقل في التذكرة عن أبي حنيفة القول بطهارة الكلب دون الخنزير، و نسب الشيخ في الخلاف الى أبي حنيفة القول بنجاسة الكلب حكما لا عينا، و استدل على طهارته

______________________________

(1) هذا إذا كان المراد بردّ النفس استرجاع الدم الى الجوف قبل أن يخرج الى الخارج أى أن الردّ يوجب عدم الخروج و أما إذا كان المراد بالردّ ردّ ما خرج الى الجوف ففي المقام أصل آخر، و هو أصالة عدم رجوع الدم الخارج الى الجوف.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 158

بقوله تعالى فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ «1» و فيه ما لا يخفى من الوهن، ضرورة أنها في مقام بيان حليته و تذكيته، و لا إطلاق فيها من جهة أخرى، و لهذا لا يجوز التمسك بها لجواز أكله من غير تغسيل عن دمه الخارج عن موضع عض الكلب، و هو واضح.

و تدل على نجاسته مضافا إلى الإجماع المستفيض روايات مستفيضة كقوله عليه السلام في صحيحة البقباق «رجس نجس لا يتوضأ بفضله» «2» و كصحيحة ابن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي أصابه» «3» و في رواية معاوية بن شريح: «لا و اللّٰه إنه نجس، لا و اللّٰه إنه نجس» «4» الى غير ذلك.

و لا فرق بين ما تحله الحياة و غيره، فان الكلب عبارة عن الموجود الخارجي بجميع أجزائه من الشعر و الظفر و غيرهما، فما عن السيد من إنكار أن ما لا تحله الحياة من جملة الحي و ان كان متصلا

به، ان كان مراده أنه ليس من جملته بما هو حي أي لا تحله الحياة فهو معلوم لا كلام فيه، لكن لا دليل على تخصيص النجاسة بما تحله الحياة في الكلب أو الخنزير، و إن أراد أنه ليس من أجزائه مطلقا فهو غير وجيه، فكيف يمكن نفي جزئية العظم و الظفر بل الشعر، فان الكلب في الخارج كلب بجميع أجزائه.

بل المتيقن من قوله: «الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل»

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية: 4.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 159

و قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب السلوقي فقال: إذا مسسته فاغسل يدك» «1» و نحوهما ملاقاة شعره، لأنه نوعي غالبي، و لو نوقش فيه فلا أقل من الإطلاق، بل هو الفرد الشائع.

و كيف يمكن أن يقال في مثل قول علي عليه السلام على ما في حديث أربعمائة: «تنزهوا عن فرب الكلاب، فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافا فلينضح ثوبه بالماء» «2» لا يراد منه إصابة ظاهره المحفوف بالشعر، و لا يلاقي الملاقي نوعا إلى شعره.

نعم يمكن المناقشة في دلالة مثل صحيحة أبي العباس قال:

«قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و ان أصابه جافا فأصبّ عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟

قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أمر بقتله» «3» لاحتمال أن يكون المراد رطوبة الكلب مثل لعابه، لا ملاقاته رطبا، و

ان لا يبعد الاحتمال الثاني بقرينة قوله عليه السلام: «أصابه جافا» تأمل.

و كيف كان لا شبهة في نجاسة شعره و سائر ما لا تحله الحياة، و دعوى السيد الإجماع على طهارته موهونة، لعدم الموافق له ظاهرا فضلا عن الإجماع عليها، نعم ربما يمكن المناقشة في استفادة نجاسة لعابه و سائر رطوباته ذاتا من الروايات، بل من الإجماع أيضا، بدعوى أن الرطوبات خارجة عن اسمه، فكما أن خرءه لا يدخل فيه لأنه منفصل عنه و إن كان في جوفه كذلك سائر رطوباته، فما دلت على نجاسته عينا لا تدل على نجاستها ذاتا و عينا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 160

بل لما كانت الرطوبات ملاقية له لا يمكن استفادة نجاستها الذاتية من دليل ناطق بنجاستها، فإنها أعم من العينية، لكن الظاهر أنه شبهة في مقابل المسلم بل البديهي.

بل يمكن دعوى دخول الرطوبات في إطلاقه عرفا كدخول دمه فيه إن لم يدخل فيه خرؤه. و مقتضى إطلاق الأدلة و خصوص صحيحة ابن مسلم المتقدمة في الكلب السلوقي نجاسة كلب الصيد كسائر الكلاب فما عن ظاهر الصدوق من طهارته ضعيف، و ربما كان منشأه دعوى عدم صدق الكلب عليه أو انصراف الأدلة عنه، أو إطلاق قوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ و الجميع كما ترى، هذا مع عدم ورود شي ء منها على الصحيحة.

و بهذا كله ظهر لزوم التصرف في صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألت عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه و السنور أو شرب منه جمل أو

دابة أو غير ذلك، أ يتوضأ منه أو يغتسل؟

قال: نعم إلا أن تجد غيره فتنزه عنه» «1» بتقييد إطلاقها بما فصل في سؤر الكلب بين الماء الكثير و القليل، هذا كله في الكلب.

و أما الخنزير فيدل على نجاسته مضافا الى الآية الكريمة و الإجماعات المتقدمة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض، و إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه، إلا أن يكون فيه أثر فيغسله، قال: و سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 161

قال: يغسل سبع مرات» «1».

فإنها ظاهرة في معهودية نجاسته، و انما سأل بعدها عن حكم آخر، فحينئذ يكون المراد من التفصيل بين ما إذا كان له أثر و لم يكن:

التفصيل مطلقا سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، مع أن ذيلها أيضا دال على نجاسته، فالأمر بالمضي مع دخوله في الصلاة في صورة الشبهة لا العلم بوجود الأثر، مضافا إلى أن الأمر بالمضي لا يدل على طهارته، بل دليل على صحة الصلاة مع النجس إذا تذكر في الأثناء، كما هو واضح و حمل الغسل على الاستحباب بقرينة الأمر بالمضي بعيد جدا.

و رواية ابن رئاب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الشطرنج قال:

«المقلب لها كالمقلب لحم الخنزير قال: قلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟

قال يغسل يده» «2» و في دلالتها تأمل، و رواية زرارة الواردة في البئر «3» و

تدل على نجاسة شعره مصححة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قلت له: إن رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير، قال:

إذا فرغ فليغسل يده» «4» و رواية برد الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شعر الخنزير يعمل به- إلى أن قال-: فاعمل به، و اغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة، قلت: و وضوء؟ قال:

لا، اغسل يدك كما تمس الكلب» «5».

و لعل قوله: «و وضوء» بالرفع: أي و وضوء عليّ إذا مسسته

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) راجع الوسائل- الباب- 15- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(4) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

(5) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 162

أو وضوء في مسه؟ قال: لا، و لكن اغسل يدك كما تمس الكلب، فكما لا وضوء معه فكذا مع مس الخنزير. و قريب منها روايته الأخرى «1» و رواية سليمان الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن شعر الخنزير يخرز به قال: لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلي» «2».

فلا إشكال في نجاسته و نجاسة ما لا تحل الحياة منه، و يأتي في لعابه و رطوباته ما مرّ في الكلب، و الظاهر نجاستها ذاتا كما في الكلب.

و عن النهاية و التحرير و التذكرة و الذكرى طهارة كلب الماء، و عن الكفاية أنه المشهور. و عن الحلي نجاسته، و عن المنتهى تقريب شموله له معللا بأن اللفظ يقال له بالاشتراك.

و الأقوى طهارة كلب الماء و خنزيره، لا لانصراف

الأدلة على فرض صدق العنوان عليهما، فإنه ممنوع، و مجرد كون بعض الأفراد يعيش في محل أو يندر الابتلاء به لا يوجب الانصراف، بل لعدم صدق العنوانين عليهما جزما، و عدم كونهما مع البري منهما من نوع واحد، و قد طبع في المنجد رسمهما، فترى لا يوجد بينهما و بين البري منهما أدنى شباهة، و إن قال في الكلب: «كلب الماء و كلب البحر سمك بينه و بين الكلب بعض الشبه» و قال: «خنزير البحر جنس من الحيتان أصغر من الدلفين».

و تدل على طهارة كلبه بل و خنزيره على وجه صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج قال: «سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام رجل و أنا عنده عن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 85- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 13- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 163

جلود الخز، فقال: ليس به بأس، فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي، و انما هي كلاب تخرج من الماء؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال:

ليس به بأس» «1».

ثم ان المتولد من النجسين أو أحدهما إن صدق عليه اسم أحدهما فلا إشكال في نجاسته، و إن صدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة فلا ينبغي الإشكال في طهارته، إما لإطلاق دليل طهارته لو كان و إما للأصل.

و دعوى ارتكازية نجاسة المتولد من الكلبين أو الكلب و الخنزير عند المتشرعة و تبعية ولدهما لهما فيها كتبعية ولد الكافر عنه، أو كونه حقيقة من جنس الوالدين، و ان كان غيرهما ظاهرا، و الأحكام مترتبة على الحقيقة، و الأسماء كاشفة عنها، أو القطع

بالمناط.

غير وجيهة و ان صدرت عن الشيخ الأعظم نضر اللّٰه وجهه، لعدم ثبوت ارتكازيتها في مثل المقام، و لا دليل على التبعية هاهنا، و التبعية في الكافر لا توجب الحكم بها في غيره، و ممنوعية كون حقيقته ما ذكر بعد صدق عنوان آخر عليهما، و سلب صدق اسمهما عنه، و لو سلم ذلك فلا دليل على أن الأحكام مترتبة على الحقائق بذلك المعنى، و ممنوعية القطع بالمناط بعد كونهما عنوانين.

و أما استصحاب النجاسة فيما إذا كانت أمه نجسة، سواء كان أبوه طاهرا أو لا بدعوى كون الجنين جزء من الأم و لا يتبدل الموضوع بنفخ الروح فيه ففيه ما لا يخفى بعد عدم الدليل على نجاسته و ممنوعية جزئيته لأمه.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 164

و أضعف منه استصحاب نجاسته في حال كونه علقة أو منيا حتى فيما إذا كان الأم نجسا، ضرورة تبدل الموضوع.

و قد يقال بجريان استصحاب الكلي الجامع بين الذاتي و العرضي في جميع الموارد المشكوك فيها، فإنه عند ملاقاته لرطوبات أمه نعلم بنجاسته إما عرضا أو ذاتا، و مع الغسل عن العرضية نشك في بقاء الذاتية.

أقول: تارة نقول بتنجس الجنين في الباطن لملاقاته النجس، و أخرى نقول بعدمه، إما لقصور أدلة النجاسة عن إثبات نجاسة البواطن، أو لقصور أدلة نجاسة الملاقي لإثبات نجاسة الملاقي في الباطن أو لغير ذلك.

فعلى الثاني لا إشكال في جريان أصالة الطهارة في الجنين في بطن أمه، مع الشك في نجاسته ذاتا، فحينئذ إن تنجس حين التولد عرضا فلا يجري الاستصحاب بعد زوالها و تطهيرها، لأنه مع جريان أصل الطهارة في الجنين لا مجال

لدعوى العلم الإجمالي بأنه إما نجس ذاتا أو عرضا، للعلم بالطهارة الظاهرية و ترتب جميع آثار الطهارة عليه، و معه ينقح موضوع تنجس الظاهر بالملاقاة نجاسة عرضية، بناء على عدم تنجس النجس، و بالجملة أن العلم الإجمالي بأن الجنين في الخارج بعد ملاقاة أمة إما نجس ذاتا أو عرضا مما لا أثر له، مع جريان أصالة الطهارة في أحد طرفيه.

و إن شئت قلت: إن محتمل البقاء هو الذي حكم الشارع بطهارته أو قلت بعد غسل ظاهره نعلم بأنه إما طاهر واقعا أو طاهر ظاهرا و لو حاول أحد جريان مثل هذا الاستصحاب للزم عليه إجراؤه فيما إذا شك في نجاسة عينية لواحد من الحيوانات كالوزغة، فيحكم بطهارتها قبل عروض النجاسة عليها، و بنجاستها بعد عروضها و غسلها، و هو كما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 165

ترى. و كذا لو فرض نجاسة طرف من الثوب و شك في نجاسة الباقي فغسل موضع النجس لزم عليه الحكم ببقاء نجاسته لاحتمال البقاء.

و الجواب و الحل أنه مع هذا الاحتمال المحكوم عليه بالطهارة لا مجرى للأصل، و لا أثر للعلم، تأمل جيدا حتى لا يختلط عليك بين المقام و المقامات التي يكون الاستصحاب حاكما على أصل الطهارة، و كذا لا يختلط بينه و بين المقامات التي قلنا بعدم جريان الأصل في الفرد المشكوك في حدوثه للتحكيم على استصحاب بقاء الكلي، فإن الفارق بينهما ظاهر لدى التأمل.

و مما ذكرنا ظهر الحال فيما إذا قلنا بتنجس ما في الباطن، فان الظاهر جريان أصالة الطهارة في الجنين لإثبات طهارته العينية ظاهرا حتى مع تنجسها بالعرض لوجود الأثر، في جريانها كما عرفت.

ثم أنه قد وقع الخلاف من قدماء

أصحابنا في نجاسة جملة أخرى غيرهما كالثعلب و الأرنب و الفارة و الوزغة و المسوخ، بل و ما لا يؤكل لحمه. فعن المقنعة نجاسة الأربعة الأول، و عن ظاهر الفقيه و المقنع نجاسة الفارة، و عن المراسم أن الفارة و الوزغة كالكلب و الخنزير في رش ما مساه بيبوسة، و عن الشيخ أن الأربعة المذكورة كالكلب و الخنزير في وجوب إراقة ما باشرته من المياه، و عن الوسيلة عدها في عداد الكلب و الخنزير و الكافر و الناصب في وجوب غسل ما مسته رطبا و رشه يابسا، بل عن الغنية دعوى الإجماع في بعض المذكورات، و عن الشيخ في التهذيب النص بنجاسة ما لا يؤكل لحمه، و عن الاستبصار استثناء ما لا يمكن التحرز عنه، و عن الخلاف القول بنجاسة المسوخ، و عزي في محكي المختلف الى سلار و ابن حمزة، و عن المعالم حكايته عن ابن الجنيد.

و كيف كان، تدل على طهارة الجميع صحيحة الفضل أبى العباس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 166

قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع فلم أترك شيئا إلا سألت عنه، فقال: لا بأس، حتى انتهيت الى الكلب» إلخ «1» لدخول الثعلب و الأرنب في الوحش و السباع. فإن الأول سبع بلا إشكال، و عدّ بعضهم الثاني فيه أيضا. و يظهر من بعض الروايات أن الأرنب بمنزلة الهرة، و له مخالب كسباع الوحش. بل تدخل الوزغة في الوحش و كذا بعض أنواع الفارة إن كان الوحش مطلق الحيوان البري مقابل الأهلي، إذ الظاهر أن سؤاله كان

عن عنوان الوحش و السباع لا عن أفرادهما تفصيلا.

بل المظنون أن الفارة و الوزغة كانتا من جملة ما سألها فإن قوله:

«فلم أترك شيئا» و إن كان على سبيل المبالغة لكن من البعيد جدا ترك السؤال عن الفارة المبتلى بها و المعهودة في الذهن و الوزغة المعروفة سيما في بلد السؤال و الراوي.

و يظهر مما مرّ جواز الاستدلال لطهارة الأولين بناء على سبعيتهما بكل ما دل على طهارة السباع، كصحيحة ابن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء، و عن السنور، قال: لا بأس أن تتوضأ من فضلها، إنما هي من السباع» «2» و صحيحة زرارة عنه عليه السلام قال: «في كتاب علي عليه السلام ان الهر سبع و لا بأس بسؤره» «3» إلى غير ذلك مما يعلم منه مفروغية طهارة السبع إلا ما استثنى.

و تدل على طهارة الوزغة و الفارة مصححة على بن جعفر عن أخيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- لحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأسئار- لحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 167

موسى بن جعفر عليه السلام في حديث قال: «سألته عن العظاية و الحية و الوزغ يقع في الماء فلا يموت أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به، و سألته عن فأرة وقعت في حب دهن و أخرجت قبل أن تموت أ يبيعه من مسلم؟ قال: نعم، و يدهن منه» «1».

و على طهارة الفأرة صحيحة إسحاق بن عمار «2» و رواية أبي البختري «3» و صدر صحيحة هارون بن حمزة الغنوي «4» و صحيحة سعيد

الأعرج برواية الشيخ قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة يقع في السمن و الزيت ثم يخرج حيا قال: لا بأس بأكله» «5» و في رواية الكليني «عن الفارة و الكلب يقع» إلخ. و الظاهر زيادة لفظ الكلب من النساخ أو بعض الرواة، فإن أصالة عدم الزيادة و لو كانت أرجح من أصالة عدم النقيصة لم تسلم في مثل المقام الذي كانت نجاسة الكلب معهودة من الصدر الأول، مع بعد سمن أو زيت يقع الكلب فيه و يكون في معرض الموت، فالمظنون وقوع الزيادة سيما مع

______________________________

(1) مرت في ص 81.

(2) عنه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: «لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه و تتوضأ منه» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار الحديث 2.

(3) عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام ان عليا عليه السلام قال: «لا بأس بسؤر الفأرة أن تشرب منه و يتوضأ» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار- الحديث 8.

(4) سيأتي في ص 168.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 168

إفراد الضمير.

و يدل على طهارة الوزغ كل ما دل على طهارة ميتة ما لا نفس له ضرورة أن الموت لو لم يؤثر في تغليظ النجاسة لم يؤثر في تطهير الميت مضافا إلى حسنة يعقوب بن عثيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«قلت: بئر يخرج من مائها قطع جلود، قال: ليس بشي ء، إن الوزغ ربما طرح جلده، و قال: يكفيك دلو واحد من ماء» «1».

و على طهارة الثعلب جملة من الروايات

الواردة في لباس المصلي الدالة على قبول تذكيته، كرواية جعفر بن محمد بن أبي زيد قال:

«سئل الرضا عليه السلام عن جلود الثعالب الذكية قال: لا تصل فيها» «2» و رواية الوليد بن أبان قال: «قلت للرضا عليه السلام:

يصلى في الثعالب إذا كانت ذكية؟ قال: لا تصل فيها» «3» فان الظاهر تقريره لقبوله التذكية.

بل و صحيحة ابن أبي نجران «4» عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب فقال: إذا كانت ذكية فلا بأس» و نحوها غيرها، و هي و ان صدرت تقية من جهة تجويز الصلاة فيها لكن لا دليل على أن التعليق أيضا صدر كذلك.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب لباس المصلي الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 7- من أبواب لباس المصلي الحديث 7.

(4) الظاهر انه سهو إذ الراوي جميل بن دراج على ما في الوسائل و هو الصحيح لأن ابن أبي نجران من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السلام و لم يرو عن الصادق عليه السلام بلا واسطة راجع الوسائل الباب- 7- من أبواب لباس المصلي- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 169

بل قد يشعر بعض الروايات بقبول الأرنب التذكية، كمكاتبة محمد بن عبد الجبار قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة عليها و بر ما لا يؤكل لحمه، أو تكة حرير محض، أو تكة من وبر الأرانب؟ فكتب: لا تحل الصلاة في الحرير المحض و إن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه» «1» و من المعلوم أن التذكية لا تقع على نجس العين.

و في مقابلها جملة

من الروايات ربما يستدل بها للنجاسة، كمرسلة يونس عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته هل يحل أن يمس الثعلب و الأرنب أو شيئا من السباع حيا و ميتا؟ قال: لا يضره، و لكن يغسل يده» «2» و صحيحة على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أ يصلى فيها؟ قال: اغسل ما رأيت من أثرها، و ما لم تره انضحه بالماء» «3».

و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و الكلب إذا أكلا من الخبز أو شماه أ يؤكل؟ قال: يطرح ما شماه و يؤكل ما بقي» «4» و قريب منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «5» و رواية الحسين بن زيد عن الصادق عليه السلام في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن أكل سؤر الفار» «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 34- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(3) الوسائل- الباب- 33- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 36- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 36- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(6) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الأسئار- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 170

و ذيل صحيحة هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الفارة و العقرب و أشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء و يتوضأ به؟ قال: يكسب منه ثلاث مرات، و قليله و كثيره بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه و يتوضأ منه غير

الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه» «1».

و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة و الوزغة تقع في البئر قال: ينزح منها ثلاث دلاء» «2» و رواية العلل و العيون عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب اليه من جواب مسائله في العلل: «و حرم الأرنب، لأنها بمنزلة السنور و لها مخالب كمخالب السنور و السباع الوحش فجرت مجراها مع قذرها في نفسها و ما يكون منها من الدم كما يكون من النساء لأنها مسخ» «3» بدعوى أن القذر نجس، الى غير ذلك مما لا بد من حملها على استحباب الغسل و التنزه و كراهة الارتكاب جمعا بينها و بين ما هو نص في الطهارة، خصوصا في الفارة و الوزغة.

هذا لو سلم ظهورها في النجاسة، و هو ممنوع في جلها، فان المرسلة بعد إرسالها و كلام في محمد بن عيسى عن يونس لا يمكن حملها على النجاسة بعد اقترانهما بشي ء من السباع حيا و ميتا، مع كون جميع السباع طاهرا حيا إلا ما ندر، و استثناؤها لا يخلو من استهجان، مضافا الى أن السؤال عن حلية المس و إطلاقه شامل للمس يابسا، و لا ينصرف الى حال الرطوبة كما ينصرف في ملاقي النجس، و معه لا محيص عن حمل الأمر على الاستحباب، و هو أولى في المقام من ارتكاب التخصيص

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 171

و التقييد كما لا يخفى.

و صحيحة علي بن

جعفر و غيرها مما وردت في الفأرة لا تحمل عليها أيضا، للسيرة المستمرة على عدم التحرز عن سؤرها، و معها لا ينقدح في الذهن من الأمر بالغسل النجاسة، و صحيحته الأخرى الواردة في أكل الكلب و الفارة و شمهما لا محيص عن حملها على الاستحباب أو كراهة الأكل، ضرورة أن مجرد الشم بل الأكل لا يوجب النجاسة، و لم يفرض فيها سراية رطوبتهما، و مع الشك محكوم بالطهارة، و صحيحة معاوية في النزح مع عدم دلالتها على النجاسة بعد كونه استحبابيا- تأمل- محمولة على موتهما فيه كما هو مورد السؤال في باب المنزوحات غالبا.

و ذيل صحيحة الغنوي محمول على الكراهة بصراحة صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، تأمل. و القذر في رواية العلل بعد الغض عن السند لا يراد به النجاسة و إلا كان تمام الموضوع للحرمة، مع أن الظاهر منها أنها جزء العلة، و يشهد له ما رواه في العلل: «و أما الأرنب فكانت امرأة قذرة لا تغتسل من حيض و لا جنابة» و الظاهر أن القذارة فيه كالقذارة التي في المرأة الحائض و الجنب، و هي ليست النجاسة.

و كيف كان لا إشكال في طهارة المذكورات فضلا عن طهارة المسوخ و ما لا يؤكل لحمه إلا ما استثنى، فان نجاستهما بنحو العموم مخالف للنص و الإجماع بل الضرورة و لذا لا بد من تأويل ما نسب الى الشيخ رحمه اللّٰه.

الثامن: المسكر المائع بالأصالة كالخمر و غيره،

اشارة

فالمشهور بيننا نجاسته و لم ينقل من قدماء أصحابنا القول بالطهارة إلا من الصدوق و والده في الرسالة و ابن أبي عقيل و الجعفي.

لكن في الجواهر «عدم ثبوت ذلك عن الثاني، بل أنكره بعض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 172

الأساطين،

و عدم صراحة الأول فيه أيضا، سيما بملاحظة ما نقل عنه من إيجابه نزح البئر منه، كعدم معروفية حكاية ذلك عن الجعفي في كثير من كتب الأصحاب كالعلامة و غيره، نعم حكاه في الذكرى و تبعه بعض من تأخر عنه» انتهى.

أقول: إن الصدوق نفى البأس- على المحكي- عن الصلاة في ثوب أصابه خمر قائلا إن اللّٰه حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته، و هو ظاهر في طهارته، لكن من المحتمل بعيدا أن يكون مراده العفو في الصلاة كقليل الدم، و كذا لم ينقل من الجمهور إلا عن داود و ربيعة، و هو أحد قولي الشافعي على ما في التذكرة، لكن لم ينسبها إليه في المنتهى، و ظاهره انحصار المخالف فيهم بداود، و في حكاية ربيعة.

و ربما يظهر من البهائي عدم كون الشافعي قائلا بها، حيث قال في الحبل المتين: «و قد أطبق علماء الخاصة و العامة على ذلك إلا شرذمة منا و منهم لم يعتد الفريقان بمخالفتهم» بل من السيد أيضا حيث قال:

«لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم» فإن الشافعي ليس من الشذاذ الذين لا اعتداد بقولهم و لم يعتد الفريقان بمخالفتهم «1» و أما الصدوق منا فلم يصرح بالطهارة كما مر، بل لعل المجتهدين كالسيد و المفيد و الشيخ و أضرابهم لم يعتدوا برأيه و ان اعتدوا بنقله و نفسه، و لهذا حكي عن الشيخ أن الخمر نجس بلا خلاف، و لم يستثن أحدا.

______________________________

(1) و يؤيده ما نقله في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج 1 ص 12) عن المالكية و الشافعية و الحنفية و الحنابلة: «ان الخمر تطهر إذا صارت خلا».

كتاب

الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 173

و كيف كان قد تكرر نقل الإجماع بيننا بل بين المسلمين على نجاسة الخمر، و تدل عليها الآية الكريمة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» بناء على أن الرجس بمعنى النجس إما مطلقا أو في المقام، إما لنقل الإجماع في محكي التهذيب على أنه هاهنا بمعنى النجس، أو لمناسبة المقام، فان اللّٰه تعالى فرّع وجوب الاجتناب عن المذكورات على كونها رجسا من عمل الشيطان و لا يناسب التفريع على مطلق الرجس المشترك بين ما لا بأس به و لا يجب الاجتناب عنه و بين ما به بأس، فرفع اليد عن ذات العناوين و التفريع على الرجس لا يناسب إلا كونه بمعنى النجس المعهود الذي كان وجوب الاجتناب عنه معهودا بينهم.

و يؤيده إطلاق الرجس على لحم الخنزير أو عليه و على الميتة و الدم في آية أخرى «2» و إطلاقه على لحم الخنزير و الخمر في بعض الروايات، و لا يبعد أن يكون ذلك تبعا للآية، و بناء على أن باب المجازات مطلقا ليس من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له، بل من قبيل ادعاء ما ليس بمصداق الماهية حقيقة مصداقها، و تطبيق المعنى الحقيقي الذي استعمل اللفظ فيه عليه كما حقق في محله.

ففي المقام استعمل الرجس في النجس الذي هو أحد معانيه بالتقريب المتقدم، و ادعي كون الثلاثة التي بعد الخمر مصداقا له تنزيلا لما ليس بنجس منزلته، لقيام القرينة العقلية عليه، و لم تقم قرينة على التنزيل و الادعاء في الخمر، فيحمل على الحقيقة فتثبت نجاستها، لكن بعد اللتيا و اللتي إثبات نجاستها بالآية محل

إشكال و مناقشة لا مجال للتفصيل حولها.

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية 90.

(2) سورة الانعام: 6- الآية: 145.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 174

و أما الروايات فعلى طوائف: منها ما هي ظاهرة في النجاسة، و هي التي أمر فيها بغسل ملاقيها أو النهي عن الصلاة فيما يلاقيها، و هي كثيرة كموثقة عمار بن موسى قال: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: تغسله ثلاث مرات، و سئل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟

قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات» «1».

و الفقرات منها ظاهرة في النجاسة، و الأخيرة كالنص فيها. و موثقته الأخرى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر، و اغسله إن عرفت موضعه، فان لم تعرف موضعه فاغسله كله، فان صليت فيه فأعد صلاتك» «2» و نحوها مرسلة يونس عنه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) هذه محكية في الحدائق و لم أجدها الآن عاجلا في كتب الحديث (منه دام ظله).

لم نعثر عليها في كتب الحديث بهذا اللفظ، و انما الوارد فيها هكذا «لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر، لأن الملائكة لا تدخله، و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» راجع الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7. نعم ورد هذا المضمون في مرسلة

يونس كما أشار إليه الأستاذ دام ظله و إليك متنها: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فأغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك» و في رواية غير زرارة التي يرويها علي بن مهزيار: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك» راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 3- 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 175

عليه السلام «1».

و رواية أبي جميلة البصري قال: «كنت مع يونس ببغداد و أنا أمشي في السوق، ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس، فقلت له: يا أبا محمد أ لا تصلي؟ قال: فقال لي: ليس أريد أن أصلي حتى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: رأي رأيته أو شي ء ترويه؟

فقال: أخبرني هشام بن حكم أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله» «2» و لا تخفى دلالتها على النجاسة من وجوه.

و صحيحة علي بن جعفر المنقولة في الأشربة المحرمة عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح للمرأة أن تصلي و هو على رأسها؟ قال: لا، حتى تغتسل منه» «3» و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «سألته عن الشرب في الإناء يشرب فيه الخمر قدحا عيدان أو باطية قال: إذا غسله فلا بأس، قال:

و سألته عن دنّ الخمر يجعل فيه الخل و الزيتون أو شبهه، قال إذا

______________________________

(1) مرت في

التعليقة (2) من ص 174.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 5 و تمام الحديث في الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 176

غسل فلا بأس» «1» إلى غير ذلك.

بل يظهر من بعضها مفروغية النجاسة، كصحيحة معاوية بن عمار الواردة في الثياب يعملها المجوس «2».

و منها ما هي كصريحة أو صريحة فيها، كرواية أبي بصير في حديث أم خالد العبدية في التداوي بالنبيذ قال في ذيلها. «ثم قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ما يبلّ الميل ينجس حبا من ماء، يقولها ثلاثا» «3» و حسنة خيران الخادم أو صحيحته قال: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صلّ فيه فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فوقع: لا تصل فيه فإنه رجس» إلخ «4».

ضرورة أن الرجس في الحديث بمعنى النجس، فان اختلاف الأصحاب لم يكن في استحباب غسله، بل في نجاسته كما هو واضح، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5 و 6

(2) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث (أخباب) و هم يشربون الخمر و نساؤهم على تلك الحال» إلخ.

راجع الوسائل- الباب- 73- من أبواب النجاسات الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 20- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 177

صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «1» فان الظاهر منها مفروغية نجاسة الخمر و لحم الخنزير، و إنما سأل عن الشبهة الموضوعية، فأجاب بما أجاب، حيث يعلم منه أنه مع ملاقاته يصير نجسا، سيما مع اقترانه بلحم الخنزير، و صحيحة هارون ابن حمزة الغنوي- بناء على وثاقة يزيد بن إسحاق كما لا تبعد- عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «في رجل اشتكى عينيه، فنعت له بكحل يعجن بالخمر، فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرا فليكتحل به» «2» فان التنزيل منزلة الميتة إما يكون في النجاسة أو مع الحرمة لا في الحرمة فقط، سيما مع قوله عليه السلام: «خبيث» و سيما أن الاكتحال ليس بأكل، و أن الخمر مستهلك في الكحل، فالأنسب فيه النجاسة، و لا أقل من إطلاق التنزيل.

و منه يظهر صحة الاستدلال برواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دواء يعجن بالخمر لا يجوز أن يعجن إلا به، إنما هو اضطرار؟ فقال: لا و اللّٰه لا يحل للمسلم أن ينظر اليه، فكيف يتداوى به؟ و انما هو بمنزلة شحم الخنزير الذي يقع في كذا و كذا» إلخ «3» تأمل «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 21- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 20- من أبواب

الأشربة المحرمة الحديث 10

(4) لعله إشارة الى أن السائل يكون بصدد السؤال عن حلية التداوي بالمعجون الذي يعجن بالخمر لا عن طهارته و نجاسته أو عن جواز امتزاجه بها و عدمه، و لهذا قال في جوابه: «لا يحل للمسلم، أن ينظر اليه فكيف يتداوى به» و أن التنزيل يكون في الحلية و الحرمة لا الطهارة و النجاسة، و مع هذا الظهور لا سبيل إلى إطلاق التنزيل كما لا يخفى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 178

و يمكن عدّ الروايات الواردة في باب المنزوحات من تلك الطائفة فان الناظر فيها لا يشك في أن نجاستها كانت مفروغا عنها، و إنما وقع بعدها السؤال عن حال البئر، بل جميع الروايات في منزوحات البئر إلا ما شذ منها واردة في ملاقاته لنجاسات مفروغ عنها، فلا شبهة في دلالتها عليها سيما مع إردافها بالدم و الميتة و لحم الخنزير و تسويتها معها، فجعلها كالصريحة في المطلوب.

كما أن منها موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث:

«أنه سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ، فقال: تغسله سبع مرات، و كذلك الكلب» «1» فان اقترانه بالكلب و تنظير الكلب به جعله كالصريح في النجاسة، و ان قلنا بأن السبع استحبابي.

و منها ما أمر فيها بإهراق ملاقيها، كرواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: يهراق المرق أو تطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله، قلت: فإنه قطر فيه دم؟ قال:

الدم تأكله النار إن شاء اللّٰه، قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟

قال: فقال: فسد،

قلت: أبيعه من اليهود و النصارى و أبيّن لهم؟

قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه، قلت: و الفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي ء من ذلك؟ قال: فقال: أكره أن آكله إذا قطر في شي ء من طعامي» «2»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 35- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 179

و اشتمالها على أكل النار الدم لا يضر بالمطلوب مع احتمال كون الدم مرددا بين النجس و غيره، سيما مع تعقيبه بأنه مع تقطير الدم في العجين يوجب الفساد، و دلالتها على النجاسة لا تكاد تخفى، فان إهراق المرق الكثير لأمر استحبابي بعيد، نعم فيها إشعار بأن حرمة الخمر صارت موجبة للاهراق على تأمل، إذ لا يبعد أن يكون قوله عليه السلام: «يستحلون شربه» إشارة إلى ملازمة الحرمة و النجاسة و إلا فمجرد حرمة الخمر أو الدم مع استهلاكهما لا يوجب التحريم.

و حسنة عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «1» و إطلاقها يقتضي لزوم إهراق كل ما لاقاها و لو مثل الزيت و الدبس، و مع عدم النجاسة يكون الإهراق بعيدا مع استهلاكها، و احتمال أن يكون ذلك لأجل المبالغة في أمر الخمر و شربها أيضا بعيد، لإمكان بيان حرمتها و المبالغة فيها بنحو آخر غير الأمر بإهراق مال محترم.

و في مقابلها روايات استدل بها للطهارة ربما يقال ببلوغها اثنتي عشرة، و هو غير ظاهر، إلا أن يلحق بها بعض

أدلة النجاسة، كرواية اعارة الثوب لمن يعلم أنه يشرب الخمر، حيث أجاز الصلاة فيه قبل غسله، و رواية دلت على جواز الصلاة فيما يعمله المجوس و هم يشربون الخمر، و غيرهما، و قد مرّ أنها ظاهرة في مفروغية نجاستها.

فمما استدل عليها: صحيحة أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أصاب ثوبي نبيذ أ أصلي فيه؟ قال: نعم قلت: قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه؟ قال: نعم إن أصل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 180

النبيذ حلال، و أصل الخمر حرام» «1» و فيه أنها تدل على خلاف مطلوبهم ان جعلت العلة مربوطة بالفقرتين، لدلالتها على ملازمة حرمة المشروب لنجاسته، و لا محيص عن حمل قوله عليه السلام: «أصل النبيذ حلال» إلخ على حلية نفس النبيذ و حرمة نفس الخمر، و إلا فما يؤخذ منه الخمر حلال بالضرورة إلا أن يراد من الأصل حال الغليان قبل صيرورته خمرا، و هو كما ترى.

و لا تدل على مطلوبهم إن جعلت علة للأخيرة، فإنها قرينة على أن المراد من النبيذ في الفقرة المتقدمة قسم الحلال منه، و لا يبعد شيوع النبيذ الحلال في تلك الأزمنة بحيث كان اللفظ منصرفا اليه.

و لهذا ترى في بعض الروايات تقييده بالمسكر، و في بعضها سئل عنه بلا قيد، فأجاب بأنه حلال، كرواية الكلبي النسابة «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن النبيذ فقال: حلال، فقال: إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك، فقال شه شه تلك الخمرة المنتنة» إلخ «2» و موثقة حنان بن سدير قال: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه

عليه السلام: ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه و يزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال: صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال، و لم يسألني عن المسكر» «3» فيظهر منهما شيوع استعماله في القسم الحلال، و معه لا مجال للاستدلال بها للطهارة في القسم الحرام.

و العجب من الأردبيلي حيث اقتصر على نقل صدرها لمطلوبه، و ترك ذيلها الذي هو قرينة على الصدر، أو دال على خلاف مطلوبه، و أعجب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الماء المضاف- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 22- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 181

منه توهم انحصار الصحيحة في الروايات الدالة على النجاسة بصحيحة ابن مهزيار، مع أن فيها جملة من الصحاح تدل عليها، كصحيحتي عبد اللّٰه بن سنان في باب اعارة الثوب الذمي، و صحيحة معاوية بن عمار في باب طهارة ما يعمله الكفار من الثياب ما لم يعلم تنجيسهم لها و غيرها. مع أن الموثق سيما مثل موثق عمار لا يقصر في إثبات الحكم عن الصحاح.

و العجب منه أيضا تصحيح رواية الحسين بن أبي سارة بمجرد ظنه بأن ما وقع في التهذيب في موضعين من اشتباه النساخ، و أن الصحيح الحسن بن أبي سارة، لوقوعه في الاستبصار مكبرا، و عدم ذكر من الحسين في الرجال، فان مجرد وقوعه فيه كذلك و إهمال الحسين لا يوجب الاطمئنان به، و الظن لا يغني من الحق شيئا، مع أن إهمال الراوي في كتب الرجال ليس بعزيز، و من المحتمل أن لأبي سارة ولدا آخر يسمى بالحسين، و قد أهمله أصحاب الرجال لجهالته.

نعم

لو قيل بأن ذلك لا يوجب جواز طرح رواية الإستبصار التي في سندها الحسن الثقة لكان له وجه، لكنه غير وجيه لعدم احتمال كون ما في الاستبصار حديثا ثالثا غير ما في التهذيب، مع اتحادهما من جميع الجهات إلا الاختلاف في الحسن مكبرا و مصغرا، و مع ما يقال:

إن الاستبصار قطعة من التهذيب.

و قد قلنا في محله: أن لا دليل على حجية أخبار الثقة إلا بناء العقلاء الممضى من الشارع المقدس، و ليس بناؤهم على الاحتجاج بمثل هذه الرواية مع هذه الحال، مضافا إلى أن متنها أيضا لا يخلو من نحو اختلال، و هو هذا: قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبي شي ء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 182

إن الثوب لا يسكر» «1» فان هذا التعليل الغير المناسب للسؤال و الحكم ربما يوجب و هنا فيها سيما في المقام، سواء كان لا يسكر من باب الافعال و يراد به أن الثوب لا يوجب سكر لابسه حتى لا تصح صلاته لأجل كونه سكرانا، أو يراد به أن الثوب لا يكون مسكرا حتى لا تصح الصلاة فيه، أو من المجرد و يراد به أن الثوب لا يصير سكرانا، فإن أفاده طهارة الثوب أو الخمر بتلك العلة البعيدة عن الأذهان و غير المناسبة للمقام توجب وهنا فيها، و ينقدح في الذهن أنها معللة، مع أنه على الاحتمال الثاني تشعر بنجاسة الخمر أو تدل عليها.

و أضعف منها سندا و دلالة روايته الأخرى قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنا نخالط اليهود و النصارى و المجوس و ندخل عليهم و هم يأكلون

و يشربون، فيمر ساقيهم و يصب على ثيابي الخمر، فقال: لا بأس به إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره» «2» فإنها مضافا الى اشتراكها مع ما قبلها في الحسين بن أبي سارة في سندها صالح بن سيابة، و هو مجهول، مع أن في متنها أيضا و هنا من جهة تقريره حضورهم في مجلس شربهم و المخالطة معهم حتى في المجالس التي يشربون فيها و يدور الساقي حولها، مع أنه حرام منهي عنه، و من جهة دلالتها على طهارة الطوائف الثلاث، فان الظاهر أن الخمر التي أصابت ثيابه من يد ساقيهم كانت من فضلهم و من الكأس الدائر بينهم للشرب، فتعارض ما دلت على نجاستهم آية و رواية و إجماعا، و سيأتي محمل لمثلها.

و يتلوهما في ذلك رواية الصدوق قال «سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّٰه عليهما السلام فقيل لهما: إنا نشتري ثيابا يصيبه الخمر و ودك الخنزير

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 183

عند حاكتها أ نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إن اللّٰه انما حرم أكله و شربه و لم يحرم لبسه و لمسه و الصلاة فيه» «1» إذ اشتمالها على ودك الخنزير أي شحمة و دسمه الذي لا يجوز الصلاة فيه بما أنه نجس العين و بما أنه ميتة و بما أنه من غير المأكول موجب لوهنها و عدم جواز التمسك بها، و التفكيك في مثله كما ترى.

و نظيرهما في ضعف السند بل الدلالة رواية حفص الأعور قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف

فيجعل فيه الخلّ قال: نعم» «2» لجهالة حفص، و قوة احتمال أن يكون السائل بصدد السؤال عن أن الدن الذي هو وعاء من خزف ينفذ فيه الخمر إذا جفف يجعل فيه الخل و لا ينفذ من جوفه الخمر فتسرى إلى الخل فتفسده و تنجسه، و لم يكن في مقام السؤال عن طهارة الخمر و نجاستها بل تشعر الرواية أو تدل على نجاستها من حيث مفروغيتها، و السؤال عن نفوذها و تنجيسها، تأمل «3» و كيف كان الظاهر عدم الإطلاق فيها و بالجملة لما كانت الظروف التي تصنع فيها الخمر من نظائره منهيا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 13

(2) الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) لعله إشارة إلى أن ما يظهر من السؤال عدم تغسيل الدّن بعد ما جفف، فإذا كانت نجاسة الخمر معلومة عند السائل و يكون السؤال عن نفوذها من جوفه إلى الخل يلزم ان لا يكون المتنجس منجسا و إلا فمتى لاقاه شي ء من رطوبة مسرية كالخل يتنجس بسبب الملاقاة و إن لم ينفذ من جوفه الخمر الى الخارج، و لذا حكى في الوسائل عن الشيخ بأنه قال: «المراد به إذا جفف بعد أن يغسل ثلاثا» على أن تصوير نفوذ الخمر من جوف الدّن الى الخل بعد ما جفف مشكل جدا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 184

عنها في الروايات كما في رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن كل مسكر فكل مسكر حرام، قلت: فالظروف التي يصنع فيها منه؟ قال: نهى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من الدباء و

المزفت و الحنتم و النقير» إلخ «1» فلعل ذلك صار سببا للسؤال عن نحوها، فلا يكون لها إطلاق يتمسك به للطهارة لو لم نقل بدلالتها على خلافها.

و منه يظهر الكلام في حسنة علي الواسطي قال: «دخلت الجويرية- و كانت تحت عيسى بن موسى- على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و كانت صالحة، فقالت: إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و أجعله في رأسي قال: لا بأس» «2» لقرب احتمال أن تكون شبهتها في حلية الانتفاع بالخمر و جواز التمشط بها.

ضرورة أنه مع تلك التشديدات في أمر الخمر و المسكر كقوله عليه السلام: «لا يحل للمسلم أن ينظر إليه» «3» و قوله عليه السلام:

«ما أحب ان أنظر اليه و لا أشمه» «4» و النهي عن الانتفاع بها، و تحريم الأكل على مائدة تشرب عليها الخمر، و النهي عن الجلوس عند شراب الخمر، و عن الصلاة في بيت فيه خمر، و عن الظروف التي يصنع فيها الخمر، و عن التداوي بها إلى غير ذلك، ينقدح في الأذهان عدم جواز التطيب بها، بل و سائر الانتفاعات، بل لعله تنقدح فيها شبهة جواز مسها و لمسها و لبس الثوب الذي أصابها.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 52- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 20 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 20 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 185

و عليه لا يبقى لمثل قوله عليه السلام «لا بأس» ظهور في الطهارة، مع قرب احتمال نفي الحرمة النفسية، فاذن فرق بين الخمر و المسكر و بين سائر الموارد مما

لا يحتمل الحرمة النفسية احتمالا معتدا به، حيث يقال فيها بظهور نفي البأس في نفي المانعية أو النجاسة، فإنه مع هذا الاحتمال القريب لا يبقى لنفي البأس ظهور في الغيرية حتى يستفاد منه ذلك.

و عليه لا يبعد إنكار ظهور موثقة ابن بكير قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب قال: لا بأس» «1» في نفي البأس الغيري حتى يستفاد منه الطهارة أو عدم المانعية، بعد احتمال أن يكون نفيه عن لبس ما يصيبه الخمر كما نفى البأس عنه في موثقته الأخرى المتقدمة، و فيها «نعم لا بأس إن اللّٰه حرم أكله و شربه، و لم يحرم لبسه و لمسه و الصلاة فيه» فإنها تشعر أو تدل على أن جواز اللبس و اللمس أيضا كان مورد الشبهة و النظر فلا يبقى ظهورها في الطهارة بعد ما عرفت، و هذا ليس ببعيد بعد التأمل فيما مر و التدبر فيما ورد في الخمر إن كان بعيدا بدوا.

و أما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن البيت يبال على ظهره و يغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس به، قال: و سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه و لا رجله، و يصلي فيه و لا بأس به» «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 11

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 186

و عن

كتاب علي بن جعفر مثله، و زاد «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أ يصلى فيها قبل أن تغسل؟

قال: إذا جرى من ماء المطر لا بأس، و يصلى فيه» «1» فهي من أدلة نجاسة الخمر لا طهارتها، ضرورة أن السؤال عنها كالسؤال عن البول و الكنيف بعد الفراغ عن نجاستها انما هو عن حال اصابة المطر لها، و الانصاف أن الاستدلال بمثلها للطهارة ليس إلا لتكثير سواد الدليل، و إلا فهي من أدلة نجاستها.

و أما رواية فقه الرضا «2» فمع ضعفها بل عدم ثبوت كونها رواية مشتملة على ما لا نقول به، فراجعها.

فما بقي في الباب إلا صحيحة ابن رئاب قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه، إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إن اللّٰه تعالى انما حرم شربها» «3» فإنها سليمة سندا و دلالة عن الخدشة بل يمكن أن يقال: إن قوله عليه السلام «إلا أن تقذره فتغسل منه» إلخ نحو تفسير للأوامر الواردة في غسل الثوب منها، بل لقوله:

رجس و نجس، بدعوى أن القذارة فيها بالمعنى العرفي، فتكون شاهدة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(2) و هي هكذا: «لا بأس أن تصلي في ثوب أصابه خمر، لأن اللّٰه حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته، و إن خاط خياط ثوبك بريقه و هو شارب الخمر إن كان يشرب غبّا فلا بأس، و إن كان مدمنا للشرب كل يوم فلا تصل في ذلك الثوب حتى يغسل راجع المستدرك- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب-

38- من أبواب النجاسات- الحديث 14.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 187

للرجس و النجس في غيرها، بل قوله عليه السلام: «إن اللّٰه انما حرم شربها» إلخ حاكم على ما تقدم لو لا صحيحة علي بن مهزيار قال:

«قرأت في كتاب عبد اللّٰه بن محمد الى أبي الحسن عليه السلام جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، انما حرم شربها، و روى غير زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله، و إن صليت فيه فأعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع عليه السلام بخطه و قرأته: خذ بقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام» «1» و حسنة خيران الخادم أو صحيحته المتقدمة، فإنهما حاكمتان عليها و على جميع الروايات في الباب على فرض تسليم دلالتها.

و العجب من الأردبيلي حيث رد الأولى تارة باحتمال أن المراد من الأخذ بقول أبي عبد اللّٰه عليه السلام هو الأخذ بقوله المشترك مع أبي جعفر عليه السلام، و أخرى بأن المشافهة خير من المكاتبة، و أنت خبير بما فيه من الضعف.

ثم أنه على فرض تسليم دلالة الروايات المذكورة على الطهارة، و الغض عما مرّ فلا شبهة في تعارض الطائفتين من غير جمع مقبول بينهما، ضرورة وقوع المعارضة و المخالفة بين قوله عليه السلام: «لا تصل فيه فإنه رجس» و قوله عليه السلام: «و ينجس ما يبلّ الميل حبا من ماء» و قوله عليه السلام: «لا و اللّٰه و لا و

قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» و قوله عليه السلام: «إنه خبيث بمنزلة الميتة و أنه بمنزلة شحم الخنزير» و قوله عليه السلام: «تغسل الإناء منه سبع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 188

مرات، و كذلك الكلب» الى غير ذلك و بين قوله عليه السلام: «لا بأس بالصلاة فيه» و قوله عليه السلام: «صل فيه» معللا بأن اللّٰه انما حرم شربها الى غير ذلك.

و لو حاول أحد الجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب أو حمل الرجس و النجس على غير ما هو المعهود لساغ له الجمع بين جميع الروايات المتعارضة، فإنه ما من مورد إلا و يمكن حمل الروايات على ما يخرجها عن التعارض، فبقيت أخبار العلاج بلا مورد، و قد حقق في محله أن ميزان الجمع هو الجمع العرفي لا العقلي، و هو مفقود في المقام، و قد قلنا في محله: إن الشهرة التي أمرنا في مقبولة عمر بن حنظلة في باب التعارض بالأخذ بها، و ترك الشاذ النادر المقابل لها، هو الشهرة في الفتوى لا في النقل، و تلك الشهرة و مقابلها معيار تشخيص الحجة عن اللاحجة، و المشهور بين الأصحاب بيّن رشده، و مقابله بيّن غيّه، و المقام من هذا القبيل، و التفصيل موكول الى محله.

ثم أن حكم الخمر سار في جميع المسكرات المائعة بالأصالة، و لا يختص بالخمر و النبيذ المنصوص عليهما في الروايات، لا لصدق الخمر عليها لغة أو عرفا، ضرورة عدم ثبوت ذلك لو لم نقل بثبوت خلافه، و لا للحقيقة الشرعية كما ادعاها صاحب الحدائق مستدلا بجملة من الروايات:

كرواية أبي الجارود عن أبي

جعفر عليه السلام في قوله تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ- الآية- أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، و ما أسكر كثيره فقليله حرام- ثم ذكر قضية أبي بكر، ثم قال:- انما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر و التمر، فلما نزل تحريمها خرج رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقعد في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 189

المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها، و قال: هذه كلها خمر حرمها اللّٰه، فكان أكثر شي ء أكفئ في ذلك اليوم الفضيخ، و لم أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شي ء إلا إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا، و أما عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي ء، و حرم اللّٰه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شراءها و الانتفاع بها» إلخ «1».

و بما عن ابن عباس في تفسير الآية قال: «يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر» و بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله المحكي في رواية عطاء ابن يسار عن الباقر عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كل مسكر حرام، و كل مسكر خمر». «2» و بجملة من الروايات المصرحة بأن الخمر من خمسة أو ستة أشياء، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر» «3» و نحوها غيرها «4».

قال في الحدائق: فقد ظهر بما نقلناه من الأخبار تطابق كلام اللّٰه تعالى و رسوله

على أن الخمر أعمّ مما ذكروه من التخصيص بالمتخذ من العنب، فيكون حقيقة شرعية.

و أنت خبير بما فيه، ضرورة أن تلك الروايات و قول ابن عباس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(4) راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 2 و 3 و 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 190

لا يثبت بها إلا إطلاق الخمر على غير المتخذ من العنب أحيانا، و أما كونه على وجه الحقيقة فغير ظاهر، و التمسك بأصالة الحقيقة مع معلومية المراد و الشك في الوضع لإثباته كما ترى، مع أن شأن الرسول و الأئمة صلوات اللّٰه عليهم ليس بيان اللغة و وضعها.

و العجب منه كيف غفل عن سائر الروايات الظاهرة في أن الخمر مختصة بالمتخذ من العنب، و أن ما حرم اللّٰه تعالى هو ذلك بعينه، و أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم غيره من المسكرات، كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «وضع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله دية العين و دية النفس و حرم النبيذ و كل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من غير أن يكون جاء فيه شي ء؟ فقال:

نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه» «1» فانظر كيف صرح فيها بعدم ورود شي ء في حرمة المسكرات مع ورود حكم الخمر في الكتاب العزيز، و رواية أبي الربيع الشامي قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام إن اللّٰه حرم الخمر بعينها، فقليلها و كثيرها حرام، كما حرم

الميتة و الدم و لحم الخنزير، و حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله الشراب عن كل مسكر، و ما حرمه رسول اللّٰه فقد حرمه اللّٰه عزّ و جل» «2» و رواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن النبيذ فقال: حرم اللّٰه الخمر بعينها، و حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من الأشربة كل مسكر» «3».

و أوضح منها صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 191

السلام قال: «إن اللّٰه لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» «1» فإنها صريحة في أن اسم الخمر لا يطلق على غيرها من المسكرات، لكنها خمر عاقبة و أثرا و حكما و هي شاهدة للمراد في الروايات التي تمسك بها صاحب الحدائق بأن المراد من كون الخمر من خمسة أنها خمر لأجل كون عاقبتها عاقبة الخمر، فهي خمر حكما لا اسما و لغة.

و لا تنافي بينها و بين ما تقدم من أن تحريم غيرها من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فان الظاهر منها أيضا أن اللّٰه إنما حرم الخمر، لكن سر تحريمه عاقبته، و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم كل ما فيه هذا الثمر، و بعبارة أخرى: ان اللّٰه تعالى حرم الخمر فقط، لكن حكمة الجعل إسكاره، و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حرم كل ما فيه هذه

الحكمة.

و لا لكون النبيذ حقيقة في جميع الأنبذة و إن يظهر ذلك من بعض اللغويين قال في القاموس: «النبيذ: الملقى، و ما نبذ من عصير و نحوه» «2» و في المجمع: «و النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر و الزبيب و العسل و الحنطة و الشعير و غير ذلك» و في المنجد «النبيذ المنبوذ الخمر المعتصر من العنب أو التمر، الشراب عموما» و ذلك لأن الشائع في عصر صدور الروايات و محله هو استعماله في النبيذ من التمر، و قد يطلق على الزبيب، فكان المستعمل فيها منصرفا عن سائر الأنبذة جزما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) و فيه أيضا: «الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو عام كالخمرة و العموم أصح» و في تاج العروس و المصباح الخمر كل مسكر خامر العقل و اختمرت الخمر: أدركت و غلت.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 192

و عن الزبيب ظاهرا، و قد تقدم عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أن الخمر من خمسة، و خص النبيذ بالتمر، و النقيع بالزبيب و لعل شيوع استعماله فيه لأجل كون التمر في محيط صدور الروايات شائعا جدا و ما كانوا ينبذون من غيره إلا نادرا، و كيف كان لا يمكن استفادة حكم سائر المسكرات من روايات النبيذ.

بل لروايات خاصة- مضافا إلى عدم الخلاف فيه ممن قال بحرمته و قد مر عدم الاعتداد بخلاف من خالف في المسألة المتقدمة- كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر لأن الملائكة لا تدخله، و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو

مسكر حتى تغسله» «1».

و الخدشة فيها بأن اشتمالها على النهي عن الصلاة في بيت فيه خمر المحمول على الكراهة يوهن دلالتها على الحرمة الوضعية مدفوعة أولا بأن مجرد ورود نهي في صدرها قام الدليل على عدم حرمته لا يوجب الوهن في نهي آخر مستقل مستأنف.

و ثانيا اقتران المسكر بالخمر و عطفه عليها يدفع توهم الوهن لو فرض، فإن النهي عن الصلاة في ثوب أصابه خمر، تحريمي كما مر، و لأجل نجاستها كما صرحت بها رواية خيران الخادم، و كذلك في المسكر المعطوف عليه، و حسنة عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّٰه، و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب» «2» بل و صحيحة علي بن مهزيار بناء على أن قوله

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 18- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 193

عليه السلام: «يعني المسكر» لم يكن تفسيرا للنبيذ، بل يكون المراد التعميم في السؤال، و هو و إن كان للراوي ظاهرا، لكن تقرير أبي الحسن عليه السلام إياه و إرجاعه إلى قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام من غير التعرض للتفسير دال على ارتضائه به، لكن للخدشة فيها مجال، لاحتمال أن يكون التفسير للنبيذ، فإنه على قسمين محلل و محرم مسكر.

و الانصاف أن روايات النبيذ مع التقييد بالمسكر أو التفسير به و ما وردت في الخمر كقوله عليه السلام: «إن الثوب لا يسكر» و قوله عليه السلام: «ان اللّٰه لم يحرم الخمر لاسمها

لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» مما تؤيد نجاسة مطلق المسكر، بل لأحد أن يقول: إن المستفاد من الأخيرة عموم التنزيل و إطلاقه، و مجرد كون صدرها في مقام بيان التحريم لا يوجب صرف الإطلاق، إلا أن يقال: إن المعروف من خاصة الخمر في تلك الأزمنة هو حرمتها لا نجاستها، فإنها كانت محل خلاف و كلام، فينزل على الخاصة المعروفة في زمان الصدور، و هو لا يخلو من تأمل و كلام.

و أما التمسك لإثبات النجاسة بما دلت على أن الخمر من خمسة أشياء بدعوى أن الحمل إما حقيقي كما قد يدعى، و إما لثبوت أحكام الحقيقة فغير تام، لأن الحمل ليس بحقيقي كما تقدم، و ليس في تلك الروايات إطلاق جزما، فهي أسوأ حالا من الرواية المتقدمة و إن عكس الأمر شيخنا الأعظم رحمه اللّٰه.

ثم أن مقتضى الأصل طهارة المسكر الجامد بالأصالة و إن صار مائعا بالعرض، كما نص عليها في محكي التذكرة و الذكرى و جامع المقاصد و الروض و المسالك و المدارك و الذخيرة، بل عن الأخير أن الحكم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 194

بنجاسة المسكرات مخصوص عند الأصحاب بما هو مائع بالأصالة، و عن المدارك أن الحكم به مقطوع به في كلام الأصحاب، بل عن الدلائل نقل الإجماع عليه، و عن الحدائق اتفاق كلهم عليه، و عن شرح الدروس عدم ظهور الخلاف فيه.

و قد يتوهم شمول بعض الروايات الدالة على النجاسة له أيضا كعموم التنزيل في الرواية المتقدمة و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كل مسكر حرام و كل مسكر خمر» الى غير ذلك، و فيه أنها منصرفة إلى المائعات، خصوصا مع

حصر الخمر في الروايات التي تقدم بعضها بالأشياء التي كلها مائعات بالأصالة، مضافا إلى قوله عليه السلام في رواية أبي الجارود: «فكل مسكر من الشراب فهو خمر» هذا مع عدم الجزم بعموم التنزيل في تلك الروايات، فلا ينبغي التأمل في قصورها عن إثباتها.

كما لا ينبغي التأمل في نجاسة المنجمد من المسكر المائع بالأصالة للأصل، بل إطلاق الأدلة، ضرورة أنه لو جمد الخمر أو المسكر لا يسلب عنه الاسم، فتكون خمرا جامدا و مسكرا كذلك، لعدم انقلاب الحقيقة بالجمود عما هي عليه، نعم لو زال عن غير الخمر و النبيذ إسكاره يتشبث فيه بالاستصحاب لإثبات نجاسته، و لا شبهة في جريانه «1» و أما

______________________________

(1) و حكي عن العلامة في المنتهى الحكم بطهارته، و قد يقال في تقريب طهارته و عدم جريان استصحاب النجاسة فيه: إن الحكم كان معلقا نصا و فتوى على المائع المسكر، و هو منفي صدقه عليه فعلا، و لا يمكن إجراء استصحاب النجاسة لتغير الموضوع قطعا، مضافا إلى أن الحكم منقلب بنفس الدليل لو قلنا بحجية مفهوم الوصف.

و فيه أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها و ان موضوع القضية المتيقنة فيه هنا عبارة عن هذا المائع الخارجي المشار اليه، لا عنوان المائع المسكر الكلي، و هو بشخصيته موجود عرفا و إن سلب عنه عنوان المسكر، و هذا نظير الكبر و الصغر و المرض و الصحة في الشخص الخارجي حيث بقيت شخصيته مع تبادل العناوين و العوارض عليه، فعليه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة فيه، نعم لا يمكننا التمسك بالدليل الاجتهادي على نجاسته للعلم بعدم بقاء موضوع الدليل الاجتهادي، و بالجملة أن ما هو المعتبر في الاستصحاب وحدة

القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها، لا وحدة المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي، و لعل هذا التوهم نشأ من الخلط بينهما كما هو الظاهر من كلامه، فما أفاده الأستاذ دام ظله من صحة جريان استصحاب النجاسة فيه متين جدا، و أما التمسك بمفهوم الوصف فهو كما ترى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 195

الخمر و النبيذ فالحكم تابع لعنوانهما.

تنبيه:

[نجاسة العصير العنبي]

قد وقع الخلاف بين أصحابنا قديما و حديثا في نجاسة عصير العنب الذي غلى و لم يذهب ثلثاه و لم يعرض له إسكار، بعد عدم الاشكال و الريب في حرمته، ثم اعلم أنه لا يجوز الاتكال في المسألة على دعاوي الشهرة و عدم الخلاف و الاتفاق، لتراكم الأقوال و الدعاوي فيها من الطرفين، فربما يدعي الشهرة على نجاسته بين المتأخرين أو مطلقا، أو يدعى عدم الوقوف على القول بها إلا من أبي حمزة من القدماء و المحقق في المعتبر، أو يقال: إن القول بالنجاسة بين الطبقة الأولى من فقهائنا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 196

أما قليل أو معدوم.

و هو كذلك ظاهرا، كما يظهر بالمراجعة إلى كتبهم، كالناصريات و النهاية و المراسم و الغنية، بل و الوسيلة، بل هو الظاهر من كل من قيده بالاشتداد، و أما الصدوقان و إن يظهر منهما أن العصير المغلي خمر، لكن قد مر أن الظاهر منهما عدم نجاسة الخمر.

و بالجملة إن المسألة مما لا يمكن تحصيل الشهرة و الإجماع فيها، فان في كثير من عبارات الأصحاب التقييد بالاشتداد. حتى قيل: إن نجاسته إذا غلى و اشتد مشهورة بين الأصحاب، و حكي ذلك عن الذكرى و جامع المقاصد و غيرهما، بل في المجمع و

عن كنز العرفان دعوى الإجماع على نجاسته و حرمته مع الاشتداد، و الظاهر أو المحتمل أن يكون مرادهم من الاشتداد السكر، كما احتمله جمع، منهم النراقي، و تبعهم بعض أهل التتبع و التحقيق و أصرّ عليه، فحينئذ تكون المسألة خارجة عن بحثنا، أى إلحاق العصير المغلي الغير المسكر بالمسكر.

و كيف كان لا بأس قبل الاشتغال بالاستدلال بتحصيل المراد من العصير الوارد في النص و الفتوى، فنقول: لا شبهة في أن المراد منه فيهما هو العصير العنبي، لا لأنه موضوع لخصوصه وضعا جامدا، فإنه غير ثابت، كما أن وضعه لمطلق عصارة الأجسام غير ثابت، و إن يوهمه بعض تعبيرات اللغويين، أو يظهر منه ذلك، ففي القاموس «عصر العنب و نحوه يعصره فهو معصور و عصير- إلى أن قال-: و عصارته و عصارة و عصيرة ما تحلب منه» و في المنجد «العصير و العصيرة و العصار ما تحلب مما عصر، العصير أيضا المعصور».

و المستفاد منهما ظاهرا أنه موضوع له نحو موضوعية العصارة له، لا أنه يطلق عليه نحو إطلاق العنوان الاشتقاقي عليه، نعم في المجمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 197

«عصرت العنب عصرا- من باب ضرب- استخرجت ماؤه، و اسم الماء العصير فعيل بمعنى مفعول» و مراده من اسمه بقرينة قوله: «فعيل بمعنى مفعول» أنه يطلق عليه وصفا.

و لعله منه أخذ بعض أهل التحقيق، حيث ذهب في رسالته المعمولة في عصير العنب إلى أن العصير أطلق على الماء المستخرج من العنب و غيره بالمعنى الوصفي، و من قبيل استعمال فعيل بمعنى مفعول، و وجهه تارة بأن العصر إذا وقع على الشي ء المتضمن للماء فقد وقع على جميع أجزائه التي منها الماء، و

أخرى بأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعول حقيقة لا يختص بما إذا كان مفعولا من غير تقييد، بل يصح إذا كان مفعولا مع تقييد بحرف كالنبيذ و النقيع و المريس، فان النبيذ استعمل في الماء الذي ينبذ فيه التمر، و النقيع فيما نقع فيه الزبيب، و المريس في الماء الذي دلك فيه التمر أو الزبيب، فهي فعيل بمعنى المفعول مع التقييد، و العصير أيضا يستعمل في الماء المستخرج استعمال الفعيل في المفعول المقيد، و قد جعل ذلك دقيقة لغوية.

و قال أيضا في تقريبه: إنه إذا تحقق العصر فالفاعل عاصر، و ذلك الشي ء معصور و الماء معصور منه، و قد يؤدى هذا المعنى بالفعل المجهول، فيقال: عصر هذا من ذاك، و قد يؤدي بصيغة المفعول، فيقال: إنه معصور منه، فالعنب و ماؤه كلاهما معصور منه، لكن كلمة «منه» في الأول نائب الفاعل، و في الثاني الضمير المستتر في المعصور الراجع إلى الماء هو نائب الفاعل، انتهى ملخصا.

و فيه مواقع للنظر: منها ما يدعي أن العصر إذا وقع على العنب وقع على مائه الذي في جوفه، لأن الماء و نحوه من المائعات لا يقع عليها العصر، و لا تصير معصورا حقيقة في العرف و اللغة، فإذا وقع العصر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 198

على شي ء كان في جوفه الماء يقع العصر على ذلك الشي ء، و يفر الماء عن تحت يد العاصر، و ربما يخرج من المعصور، فالماء لا يقبل العصر و لا يقع عليه إلا ببعض الآلات الحديثة مما توجب تكاثفه، و أما الماء في جوف العنب أو الثوب لا يصير معصورا، و إلا لكان العصير صادقا على الماء الذي في جوف العنب

إذا عصر العنب رقيقا بحيث لا يخرج ماؤه. و لكان المعصور و العصير صادقا على الماء في جوف القربة إذا عصرت و هو كما ترى، و السر فيه عدم قبول المائعات العصر.

و منها أن ما جعله دقيقة لغوية في العصير و النبيذ و مثلهما من إطلاق الفعيل بمعنى المفعول مع التقييد يخالف الموازين الأدبية و الدقائق اللغوية و مغالطة نشأت من الخلط بين المفعول الصرفي و المفعول النحوي، فان الفعيل يجي ء بمعنى المفعول الصرفي لا النحوي، و المفعول الصرفي مقابل الفاعل الصرفي لا يصدق حقيقة إلا على ما وقع عليه الفعل، فهل ترى صحة إطلاق الفعيل على المفعول فيه حقيقة، فيقال الجريح على زمان الجرح و مكانه، و على سائر المفاعيل كالمفعول المطلق و المفعول له.

ففي المقام ما وقع عليه العصر هو العنب، و لأجله خرج الماء من جوفه. فالعنب معصور و عصير بمعنى المعصور، و الماء مستخرج منه لا معصور منه، بل لا محصل عند التأمل للمعصور منه إلا أن يراد أنه معصور من قبله، مع أن الماء ليس معصورا لا من قبل العاصر كما عرفت، و لا من قبل العنب، فلو أطلق على الماء المعصور منه يكون المراد أنه مستخرج من العنب بالعصر الواقع عليه لا على الماء، نعم لا مانع من الإطلاق الاستعاري و المجازي.

و منها أن دعواه أن العنب معصور منه و كذا الماء مستشهدا بصدق عصر هذا من ذاك في غير محلها، لأن العنب معصور لا معصور منه،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 199

فان «عصر» متعد، يقال: عصر العنب يعصره فهو عاصر و ذاك معصور و لا معنى لتعديته ب «من» و أما الماء فلا يطلق

عليه أنه معصور منه بمعنى وقع عليه العصر من العاصر. فلا يصح إطلاق العصير عليه، إلا أن يراد أنه يستخرج من العنب عصرا بمعنى وقوعه على العنب لا وقوعه عليه، و كذا الحال في عصر هذا من ذاك يراد به أنه خارج منه عصرا لا أنه معصور منه، فإنه لا يرجع إلى محصل، فما زعمه دقيقة ففي الحقيقة غفلة عن دقيقة.

نعم لا إشكال في أن العصير في الأخبار على كثرتها لم يعهد استعماله في غير الماء المستخرج من العنب. كما أن استعماله فيه شائع كثير الورود فيها، بحيث لا يبقى شبهة للمتتبع فيها في أن العصير فيها ليس إلا الماء المستخرج من العنب، و هذا كاف في حمل المطلقات عليه و لو قلنا بأن استعماله حقيقة في مطلق المعتصر من الأجسام، فضلا عن القول بأنه ليس على نحو الحقيقة، لأن المتيقن منه حينئذ عصير العنب، و إرادة غيره مشكوك فيه.

و الانصاف أنه لا مجال للتشكيك في أن المراد من المطلقات و العمومات هو خصوص العنبي منه.

هذا مع أن جملة من الروايات شاهدة على أن ما هو محط النظر فيها هو خصوص ذلك، كرواية أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها و حرامها و متى اتخذ الخمر؟ فقال. إن آدم لما أهبط من الجنة اشتهى من ثمارها فأنزل اللّٰه عليه قضيبتين من عنب فغرسهما- ثم ساق قضية منازعته مع إبليس إلى أن قال:- فرضيا بينهما بروح القدس، فلما انتهيا اليه قص آدم عليه قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار فرمى به عليهما،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 200

و العنب في أغصانهما،

حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شي ء، و ظن إبليس مثل ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت و قد ذهب منهما ثلثاهما و بقي الثلث، فقال الروح: أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم» «1».

و موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إن نوحا لما هبط من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس الحبلة «2» فجاء إبليس فقلعها- الى أن قال- فجعل له الثلثين، فقال أبو جعفر عليه السلام:

إذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان، و كل و اشرب، فذاك نصيب الشيطان» «3» كذا في الكافي، و قال المجلسي: و في بعض النسخ «النخلة» و نقلها في الوسائل باختلاف ما و ذكر بدل «الحبلة» «النخلة».

أقول: و الأصح الحبلة، لأن الظاهر من المجلسي أن النسخة المشهورة كذلك، مضافا الى أن سائر الروايات قرينة عليها، كموثقة سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن إبليس لعنه اللّٰه نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل، فقال له: إن له حقا فأعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف فلم يرض، فطرح جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين و بقي الثلث، فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح» «4» و في رواية وهب بن منبه ذكر قضية نوح قال: «و كان آخر شي ء أخرج حبلة العنب- ثم ساق

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الحبلة: القضيب من شجر العنب.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 201

القضية فقال-: فما كان فوق

الثلث من طبخها فلإبليس و هو حظه، و ما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح و هو حظه، و ذلك الحلال الطيب يشرب منه» «1».

يظهر من تلك الروايات أن أصل قضية التثليث و النزاع بين إبليس و آدم عليه السلام تارة و بينه و بين نوح عليه السلام أخرى انما هو في الكرم و الحبلة، و العصير هو العنبي المورد للنزاع.

و تدل عليه طوائف أخرى من الروايات منها ما حكي عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «أن الخمر من خمسة: العصير من الكرم و النقيع من الزبيب» إلخ «2».

و منها ما وردت في جواز بيع العصير ممن يعمل خمرا، مثل رواية أبي كهمس قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كل سنة و أجعله في الدنان» إلخ «3» و صحيحة رفاعة بن موسى قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره» «4» الى غير ذلك.

و منها ما سئل فيه عن بيعه فيصير خمرا قبل قبض الثمن «5».

و منها ما حكي فيها لعن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله الخمر و عاصرها و معتصرها إلخ «6».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1 و 3

(3) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 59- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 1.

(6) المروية في الوسائل- الباب- 55- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 3 و 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 202

و منها أخبار متفرقة، كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه قال في الرجل إذا باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا، فقال: إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» «1» و صحيحة عبد العزيز قال: «كتبت الى الرضا عليه السلام جعلت فداك العصير يصير خمرا فيصب عليه الخل» إلخ «2».

وجه دلالة تلك الروايات هو أن الخمر كما عرفت اسم لما يختمر من العنب، و غيره لا يسمى خمرا عرفا و لغة كما هو الظاهر من الروايات أيضا، كما أن الطلاء الوارد في الأخبار كصحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام» «3» هو العصير العنبي، إما المطبوخ منه الى ذهاب الثلثين كما في بعض كتب اللغة، أو أعم من ذلك كما في بعض، ففي الصحاح «الطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه و تسميه العجم الميبختج» و في المجمع و المنجد تفسيره بذلك، و عن النهاية تفسيره بالشراب المطبوخ من عصير العنب، و في دعائم الإسلام «روينا عن علي عليه السلام أنه كان يروق الطلاء، و هو ما طبخ من عصير العنب حتى يصير له قوام» «4» و الظاهر أن التفسير من صاحب الدعائم، و لعل مراده من القوام ذهاب الثلثين.

و كيف كان لا شبهة في أن الطلاء هو العصير العنبي المطبوخ، كما يظهر أيضا من قصة ورود عمر بالشام، و توصيف أهله ما صنعوا من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة-

الحديث 8

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 203

العنب شرابا يشبه العسل، فجعل عمر يرفعه بإصبعه يتمدد كهيئة العسل فقال: كأن هذا طلاء الإبل، و لعل هذا صار سببا لتسميته به، كما أن البختج الوارد في بعض الروايات هو العصير المطبوخ، لا مطلق المطبوخ و هو واضح، و لا المطبوخ من سائر العصارات التي تجعل خمرا، لتعارف الطبخ في العصير دون غيره، و لأن الطبخ على الثلث كما في بعض رواياته هو التثليث المعهود في عصير العنب، و لم يعهد وروده في الروايات في غيره إلا في شاذ غير معتمد عليه، و لتفسيره به، فعن النهاية: «البختج العصير المطبوخ و أصله بالفارسية: مى پخته» و فسره في المجمع أيضا به.

بل قد يقال: إنه مفسر في كلام الكل بالعصير المطبوخ، و قد يقال باتفاق اللغويين على ذلك، و لعل مراده اتفاق المتعرض لتفسيره، و إلا فلم يتعرض الكل لذكره أو تفسيره، نعم الفقهاء المستدلون على نجاسة العصير المغلي بصحيحة معاوية بن عمار الآتية لم يعهد استدلالهم بها على نجاسة سائر العصارات.

فقد تحصل مما مر أن العناوين الثلاثة الواردة في الأخبار حرمتها قبل ذهاب الثلثين أي العصير و الطلاء و البختج هي خصوص العصير العنبي حتى المطلقات و العمومات كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «ذكر أبو عبد اللّٰه عليه السلام أن العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه فهو حلال» «1» و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «2» و غيرهما.

و كيف كان فقد استدل على نجاسة العصير المغلي تارة

بالإجماع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 204

و الشهرة، و قد عرفت حالهما، و أخرى بموثقة معاوية بن عمار أو صحيحته قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعلم أنه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال:

خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم» «1» بتقريب أن الحمل إما حقيقي، كما هو المحكي عن جمع من الفريقين أن الخمر اسم للعصير، و إما تنزيلي، فمقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع أحكامه له.

و الجواب أن الحمل لا يمكن أن يكون حقيقيا، لأن الموضوع هو المغلي المشتبه بين كونه على الثلث أو النصف، و لا يجوز حمل الخمر حقيقة على مشتبه الخمرية فضلا عن العصير المشتبه، مع أن خمرية العصير بمجرد الغليان ممنوعة، لعدم صدق الخمر عليه عرفا و لغة، و سيأتي الكلام في ذلك.

و لا يمكن أن يكون تنزيليا لأن المشتبه لا يكون منزّلا منزلته واقعا بحيث يكون محرما و نجسا واقعا و لو كان مطبوخا على الثلث، بل الظاهر من الرواية صدرا و ذيلا هو السؤال عن الحكم الظاهري، و عن حال شهادة ذي اليد بالتثليث، فالمراد بقوله عليه السلام: «خمر» أي خمر ظاهرا يجب البناء على خمريته للاستصحاب، و هو و إن يكشف عن كون

المغلي قبل التثليث نازلا منزلة الخمر في الجملة، لكن لا يكشف عن إطلاق دليل التنزيل، و بعبارة أخرى إنها ليست في مقام بيان

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 4- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 205

التنزيل و حكم العصير حتى يتمسك بإطلاقها، بل بعد الفراغ عن حكمه كانت بصدد بيان حال الشك، فدعوى إمكان استكشاف دليل مطلق من الحكم الظاهري ممنوعة.

و ليس لأحد أن يقول: إنه لا يمكن أن تكون بصدد أمرين:

أحدهما تنزيل العصير منزلة الخمر و الآخر التعبد ببقاء خمريته، لأن ذلك غير معقول بجعل واحد، بل هو أسوأ حالا من استفادة قاعدة الطهارة و الاستصحاب من مثل قوله عليه السلام: «كل شي ء حلال حتى تعرف أنه حرام» «1» لأن القائل بها إنما قال باستفادة الثاني من الغاية، و المقام ليس كذلك، و أما احتمال أن يكون قوله عليه السلام:

«خمر» خبرا من العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه إفادة للحكم الواقعي بالتنزيل و قوله عليه السلام: «لا تشربه» يكون نهيا عن شرب المشتبه فهو كما ترى لا يستأهل جوابا، و على فرض كونها بصدد التنزيل فإطلاقه أيضا لا يخلو من مناقشة.

ثم أن ذلك مع الغض عما في الرواية من الإشكال، فإنها في الكافي- بل و النسخة من التهذيب التي كانت عند الحر و الكاشاني- خالية عن لفظة «خمر» مع إتقان الكافي و شدة ضبط الكليني، و ما يقال من الاغتشاش و التحريف و الزيادة و النقيصة في التهذيب.

و يؤيد ذلك- مضافا إلى ما قيل من عدم تمسك الفقهاء بها لنجاسته، و أول من تمسك بها الأسترآبادي- أن هذا التعبير غير معهود في أدلة الاستصحاب على كثرتها عموما و

خصوصا، بل التعبير فيها بعدم نقض اليقين بالشك و ما يشبهه، بل الزيادة في مثل الرواية ليست بذلك

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة و الباب- 4- من أبواب ما يكتسب به.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 206

البعد، لأن خمرية عصير العنب لما كانت موردا للبحث و الجدال فربما تنسبق إلى ذهن الراوي أو الناسخ، فيأتي بها ارتكازا كما قلنا نظيره في قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام».

فما يقال من تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة ليس مسلما مطلقا لو سلم في الجملة، و كذا ما أفاد شيخنا الأعظم من أن الظاهر عدم الزيادة حتى من الشيخ الذي يكثر منه الخلل غير موجه إن أراد بالظاهر غير الأصل العقلائي، لعدم الدليل عليه، و قد عرفت عدم ثبوت الأصل العقلائي في مثل المقام، كما أن تأييده وجود لفظ الخمر في الرواية بتعبير والد الصدوق بمضمونها في رسالته إلى ولده التي هي كالروايات المنقولة بالمعنى غير وجيه، لأن تعبير والد الصدوق غير مضمون الرواية، فإنه بصدد بيان حكم العصير العنبي إذا غلى أو نشّ بنفسه، و هي بصدد بيان الحكم الظاهري و أن المشتبه محكوم بحرمة الشرب، فأين أحدهما من الآخر! إلا أن يراد به مجرد اشتماله على لفظة «خمر» و هو كما ترى، أو يراد إن والد الصدوق عثر على رواية بذلك المضمون، و هو كذلك، لأن عبارته عين عبارة الفقه الرضوي لو كان رواية، لكن لا يوجب ذلك تأييد اشتمال الموثقة لها مع اختلافهما في المضمون.

و قد يستدل بصحيحة عمر بن يزيد بناء على كونه بياع السابري كما

لا يبعد، قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يهدي إليّ البختج من غير أصحابنا؟ فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل شربه فاقبله، أو قال: اشربه» «1» احتج بها صاحب الجواهر، و العجب من بعض أهل التتبع من دعوى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 207

عدم وجدان الاحتجاج بها من أحد.

و تقريبه أن المنع عن شرب ما في يد المستحل انما هو لخوف الإسكار، فيظهر منه أن للعصير المطبوخ قسمين: مسكر و غيره، و المستحل لا يأبى عن هدية المسكر منه، فلا يقبل هديته، و ليس المراد من ذكر الاستحلال بيان فسقه جزما، بل ذكر لمناسبة بينهما كما لا يخفى.

و فيه أولا أن غاية ما تدل الرواية عليه وجود قسم مسكر للبختج و هو لا يدل على أن مطلق المغلي قبل التثليث مسكر، و لعل المستحل كان يطبخ عصيرا و يعالجه حتى يصير مسكرا كما كانوا يعالجون النبيذ، و ثانيا أن الإسكار كما هو الظاهر من الروايات و غيرها انما يحصل بالاختمار و الفساد لا بالغليان بالنار و الطبخ المانع منهما. و معه لا خوف من الإسكار إذا كان منشأ الشك طبخه على الثلث أو أزيد.

فلا بد من حمل الرواية على أن المستحل للمسكر لما لا يبالي بالعصير المطبوخ و لا يرى غير الخمر حراما لا يجوز الاعتماد عليه في هديته، بخلاف غير المستحل، مضافا إلى أن المستحل لا يبالي بإبقاء العصير قبل تثليثه للشرب مدة حتى يعرض عليه الاختمار المطلوب لأصحابه.

و أما الاستدلال عليها بالروايات الحاكية لقضيتي آدم و نوح عليهما السلام

مع إبليس بدعوى دلالتها على أن تلك الواقعة منشأ تحريم الخمر و فيها دلالة واضحة على أن عصير العنب إذا غلى بالنار أو نش بنفسه حكمه حكم الخمر إلا أن يذهب ثلثاه أو يصير خلا كما أفاده الشيخ الأعظم ففيه أنه لا دلالة فيها رأسا، فضلا عن وضوح الدلالة.

أما رواية أبي الربيع الشامي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أصل الخمر كيف كان بدء حلالها و حرامها و متى اتخذ

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 208

الخمر؟ فقال: إن آدم لما أهبط من الجنة» «1» ثم ساق القضية في بيان حرمة عصير العنب المغلي قبل ذهاب ثلثيه، ففيها إشعار بأن العصير المغلي خمر حقيقة، حيث تصدى لبيان حرمته عند السؤال عن بدو حرمة الخمر، لكن لما كانت خمرية العصير المغلي خلاف الوجدان و الضرورة و ان فرض مسكريته مع ممنوعيتها أيضا فلا محالة لا يريد بذكر القضية بيان خمريته، بل أراد بيان بدو القضية و مقدماتها حتى انجر إلى حرمة الخمر، فكأن نزاع آدم مع إبليس في الكرم صار موجبا لتحريم الخمر، لا أن محل النزاع هو الخمر، فإنه خلاف الواقع.

و أما احتمال كونه بصدد بيان أن حكم العصير حكم الخمر ففي غاية البعد، لعدم تطابق السؤال و الجواب، فإنه سأل عن بدو حرمة الخمر، فالجواب بأن عصير العنب خمر حكما غير مربوط به، و بالجملة هذه الرواية محمولة على أنه بصدد بيان أن الخمر كان حراما من لدن زمن آدم عليه السلام، كما وردت به روايات، و بدؤ قصتها نزاع آدم (ع) مع إبليس في الكرم و عصيرة، لا بصدد بيان أن العصير خمر أو في حكمه، كما

يظهر بالتأمل في سائر روايات الباب، هذا مع ما فيها من الضعف سندا.

و أما سائر الروايات الواردة في تلك القضية أو قضية نوح عليه السلام فلا إشعار فيها لما ذكره رحمه اللّٰه، و أما الاستدلال عليها بقوله عليه السلام: «فلا خير فيه» «2» و قوله عليه السلام: «فمن هنا طاب الطلاء على الثلث» «3» و قوله عليه السلام: «و ذلك الحلال

______________________________

(1) مرت في ص 199.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 209

الطيب» «1» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «الخمر من خمسة: العصير من الكرم» «2» ففيه ما لا يخفى.

نعم يمكن الاستدلال عليها برواية فقه الرضا (ع) قال: «الخمر حرام بعينها- الى أن قال-: و لها خمسة أسامي، فالعصير من الكرم و هي الخمرة الملعونة» «3» بأن يقال: إن العصير لما لم يكن وجدانا الخمرة الملعونة لا بد من الحمل على التنزيل، و إطلاقه و ان اقتضى كونه بمنزلتها حتى قبل الغليان و بعد التثليث لكنهما خارجان نصا و فتوى و بقي الباقي، و مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع الأحكام له.

و فيه مضافا الى ضعفها أن ظاهرها بقرينة قوله: «و لها خمسة أسامي» و سائر فقرأتها أن المراد بها الخمرة الواقعية لا التنزيلية، كما يشعر به توصيفها بالملعونة، و لما كان العصير قبل غليانه و بعده إذا كان بالنار ليس خمرا حقيقة بلا شبهة فلا محالة يراد بذلك العصير الخاص المختمر.

و يمكن الاستدلال عليها بالفقه الرضوي أيضا. قال فيه: «اعلم أن أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير

أن تصيبه النار فهو خمر، و لا يحل شربه إلا أن يذهب ثلثاه» إلخ «4» و هو بعينه عبارة والد الصدوق رحمهما اللّٰه. بأن يقال: إن حمل الخمر عليه بعد ما لم يكن حقيقيا يحمل على التنزيل، و عمومه يقتضي ترتب جميع الآثار، لكنه غير صالح للاستناد عليه لضعفه، بل عدم ثبوت

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 11.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(3) المستدرك- الباب- 1- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 210

كونه رواية، مع احتمال أن يكون التنزيل في حرمة شربه، كما قيل في موثقة ابن عمار.

و مما جعله صاحب الجواهر مؤكدا لنجاسته قوله: «إنه قد استفاضت الروايات بل كادت تكون متواترة بتعليق الحرمة في النبيذ و غيره على الإسكار و عدمها على عدمه مع استفاضة الروايات بحرمة عصير العنب إذا غلى قبل ذهاب الثلثين، و حملها على التخصيص ليس بأولى من حملها على تحقق الإسكار فيه، بل هو أولى لأصالة عدم التجوز، بل لعله متعين لعدم القرينة، بل قد يقطع به لعدم ظهور شي ء من روايات الحرمة في خروج ذلك عن تلك الكلية، بل و لا إشارة» انتهى.

و هو لا يخلو من غرابة، لعدم ورود رواية في مطلق الأشربة و لا في الخمر أو العصير أو النبيذ بنحو ما ذكره من التعليق فضلا عن استفاضتها نعم وردت روايات كثيرة بأن كل مسكر حرام، و أن المسكر حرام، و في النبيذ روايات بأن المسكر منه حرام.

و أما ورود روايات بأن ما ليس بمسكر فليس بحرام فكلّا، لا بنحو

الإطلاق أو العموم و لا في موضوع خاص، فدوران الأمر بين التخصيص و التخصص لا موضوع له جزما ثم، لو فرض ورود روايات في النبيذ بذلك المضمون فلا ربط له بالعصير العنبي الذي هو عنوان خاص مغاير له، فما معنى تخصيص ما ورد في النبيذ بما ورد في العصير.

مضافا إلى أن أولوية التخصص من التخصيص فيما إذا علم المراد ممنوعة، فإذا علم عدم وجوب إكرام زيد و لم يعلم أنه عالم و خارج عن وجوب إكرام العلماء تخصيصا أو ليس بعالم فخرج تخصصا لا دليل على تقديم الثاني، فأصالة عدم التخصيص كأصالة الحقيقة غير معول عليها مطلقا في نحو المقام، و أما تشبثه بأصالة عدم التجوز فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 211

يخفى ما فيه، و في كلامه موارد أخر للمناقشة.

فتحصل من جميع ما ذكر عدم دليل على نجاسته، فالأصل طهارته من غير فرق بين ما غلى بنفسه أو بالنار و غيرها.

و قد فصل ابن حمزة في الوسيلة بين ما غلى بنفسه فذهب إلى نجاسته و حرمته إلى أن يصير خلا، و بين ما غلى بالنار فذهب إلى حرمته الى ذهاب الثلثين دون نجاسته، و ربما يتوهم أن تفصيله ليس في الحكم الشرعي، بل لإحراز مسكرية ما غلى بنفسه، فحكمه بالنجاسة لمسكريته لا للتفصيل في العصير، و لقد أصرّ على ذلك بعض أهل التتبع، حتى نسب الغفلة إلى أساطين العلم و جهابذة الفن، و أرعد و أبرق في رسالته المعمولة لحكم العصير، و لم يأت بشي ء مربوط بجوهر المسألة الفقهية.

و قد وقع منه فلتأت عجيبة، من جملتها دعوى عدم تفرد ابن حمزة في ذلك التفصيل، و زعم أن مرجع أقوال

عدا من شذ الى هذا القول، و عدّ منهم شيخ الطائفة و الحلي و القاضي صاحب دعائم الإسلام و القاضي ابن البراج في المهذب و الشهيد في الدروس، بل استظهر من رسالة على ابن بابويه و من عبارة فقه الرضا، ثم قال: «إن المحقق و العلامة و الفاضل المقداد كلهم موافقون لما عزي الى ابن حمزة من التفصيل، و أن عدّ قولهم مقابلا لقوله ناش من عدم تدقيق النظر و تحديد البصر فانتظر لهذه الفائدة التي لم يتنبه لها أحد في الحديث و القديم و لا ينبئك مثل الخبير العليم» انتهى.

و أنا أقول: لم أر من وافق ابن حمزة حتى صاحب هذه الرسالة نفسه، و لتوضيح ذلك لا بد من تحرير المسألة حتى يتضح موضع الخلط فنقول: إن محط البحث في هذه المسألة بعد الفراغ عن حكم المسكر و نجاسته في أن العصير العنبي هل هو ملحق بالمسكرات في النجاسة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 212

مطلقا أو لا مطلقا أو ملحق بها إذا غلى بنفسه دون ما إذا غلى بالنار؟

و الأقوال انما تتقابل في المسألة الفقهية إذا كان محط كلامهم العصير الذي لا يسكر، أو لم يحرز إسكاره، و أما إذا ادعي أحد مسكريته فحكم بنجاسته و الآخر عدمها فذهب الى طهارته و المفصل يرى مسكرية قسم منه فلا تتقابل في المسألة الفقهية، و لو فرض اختلاف كلامهم موضوعا فلا تتقابل الأقوال رأسا.

ثم أنه قد وقع خلاف آخر بين الفقهاء في غاية حرمة العصير لا نجاسته، فذهب جمع الى أن غايتها ذهاب الثلثين، و جمع آخر الى التفصيل بين ما غلى بنفسه فغايتها انقلابه خلا، و ما غلى بالنار فذهاب

الثلثين.

إذا عرفت ذلك فاعلم إن ابن حمزة قائل بالتفصيل في المسألتين و لم يوافقه أحد فيما أعلم في المسألة الأولى، و وافقه جملة من الأساطين في الثانية، و الخلط بين المسألتين صار سببا لنسبة التفصيل في المسألة الأولى إليهم، و قلة التأمل في كلام ابن حمزة بل و في المسألة أيضا صارت منشئا لتوهم أن ابن حمزة قائل بنجاسة ما غلى بنفسه لصيرورته مسكرا، كما أن قلة التدبر في كلمات القوم صارت منشئا لزعم موافقتهم مع ابن حمزة في التفصيل بما زعم أنه قائل به، و نحن نحكي كلام ابن حمزة و الشيخ حتى يتضح مورد خلط صاحب الرسالة في كلامهما ثم راجع الى غيرهما من كلمات الأصحاب حتى يتضح لك الأمر.

قال ابن حمزة في الوسيلة بعد ذكر الأشربة التي تؤخذ من الحيوان بهذه العبارة: «و أما ما يؤخذ من الأشربة من غير الحيوان ضربان:

مسكر و غير مسكر، فالمسكر نجس حرام- ثم قال-: و غير المسكر ضربان: ربّ و غيره- ثم قال-: و غير الربّ ضربان إما جعل فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 213

شي ء من المسكرات و يحرم شربه و ينجس بوقوع المسكر فيه أو لم يجعل فيه شي ء منها، فان كان عصيرا لم يخل إما غلى أو لم يغل، فان غلى لم يخل إما غلى من قبل نفسه أو بالنار، فان غلى من قبل نفسه حتى يعود أسفله أعلاه حرم و نجس، إلا أن يصير خلا بنفسه أو بفعل غيره فيعود حلالا طيبا، و إن غلى بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه و نصف سدسه، و لم ينجس أو يخضب الإناء و يعلق به و يحلو»

انتهى.

و ظاهر كلامه كالصريح في أن التفصيل بين المغلي بنفسه و غيره بعد الفراغ عن عدم كونه مسكرا، فإنه من قسم غير المسكر الذي لم يقع فيه مسكر كما هو واضح، فهو مفصل في مسألتنا و قائل بنجاسة العصير الذي غلى بنفسه و لم يكن مسكرا، و جعل غاية النجاسة الانقلاب بالخل كما أنه مفصل في المسألة الثانية بأن غاية الحلية فيما إذا غلى بنفسه صيرورته خلا و فيما إذا غلى بالنار التثليث، و كثير من الأصحاب وافقوه في المسألة الثانية دون الأولى، حتى أن صاحب الرسالة أيضا لم يوافقه فيها و لم يلتزم بالنجاسة لو فرض عدم إسكاره، لكنه مدع لذلك، و سيأتي الكلام فيه.

و قال الشيخ في النهاية: «كل ما أسكر كثيره فالقليل منه حرام لا يجوز استعماله بالشرب و التصرف فيه بالبيع و الهبة، و ينجس ما يحصل فيه خمرا كان أو نبيذا أو تبعا أو نقيعا أو مزرا أو غير ذلك من أجناس المسكرات، و حكم الفقاع و حكم الخمر على السواء في أنه حرام شربه و بيعه و التصرف فيه، و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل، و حدّ الغليان الذي يحرّم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه، فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود الى كونه خلا، و إذا غلى العصير على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 214

النار لم يجز شربه الى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» انتهى.

و أنت خبير بأن الظاهر منه موافقة ابن حمزة في غاية الحلية لا في النجاسة، بل الظاهر منه عدم نجاسة العصير مطلقا، حيث جعله مقابل النجس، و لم يحكم بالتسوية فيه

كما حكم في الفقاع، و إن كانت عبارته في الفقاع لا يخلو من نوع إجمال، و على هذا المنوال أو قريب منه العبارات المحكية عن ابن إدريس و صاحب الدعائم و القاضي ابن البراج و الشهيد، فإنها أيضا بصدد بيان المسألة الثانية لا الأولى، فراجع.

و أعجب من ذلك إرجاع كلمات المحقق و العلامة و الفاضل المقداد إلى ما فصل ابن حمزة، مع أن المتأمل في عباراتهم لا ينبغي أن يشك في خلافه، و أنهم في طرف النقيض منه، قال المحقق في المعتبر: «و في نجاسة العصير بغليانه قبل اشتداده تردد، أما التحريم فعليه إجماع فقهائنا، ثم منهم من أتبع التحريم النجاسة، و الوجه الحكم بالتحريم مع الغليان حتى يذهب الثلثان، و وقوف النجاسة على الاشتداد».

و هو صريح في خلاف ابن حمزة القائل بالنجاسة مع عدم السكر إن أراد بالاشتداد السكر، كما قال به صاحب الرسالة، و نحوه في ذلك كلام العلامة و المحكي من الفاضل المقداد، و أما والد الصدوق فقال في وصيته الى ابنه: «اعلم يا بني أن أصل الخمر من الكرم، إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فيصير أسفله أعلاه فهو خمر لا يحل شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، فان نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلا من ذاته من غير أن تلقي فيه أو ملحا أو غيره حتى يتحول خلا» انتهى.

و هو كما ترى مخالف لابن حمزة و موافقيه في المسألة الثانية: أي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 215

غاية الحلية، و أما قوله: «فان نش» إلخ فمسألة أخرى غير مربوطة بما ذكرها أولا، كما لا يخفى على

المتأمل في قوله: «من غير أن تلقى» إلخ، لكن صاحب الرسالة لم يرتض إلا أن يؤوّل كلامه، و كذا عبارة فقه الرضا الموافقة له بما لا يرضى به صاحبهما و لا منصف متأمل.

فتبين مما مر أن ابن حمزة متفرد في تفصيله في مسألتنا بذهابه إلى النجاسة في المغلي بنفسه مع عدم إسكاره، و عدمها في المغلي بالنار.

ثم أن تفصيله خال عن الوجه، بل لو فصل أحد بعكس ما فصل أي ذهب إلى نجاسة ما يغلى بالنار دون ما يغلى بنفسه لكان أوجه، بدعوى أن عمدة ما يمكن أن يتمسك بها للنجاسة موثقة معاوية بن عمار و صحيحة عمر بن يزيد المتقدمتان، و هما واردتان في البختج، و هو العصير المطبوخ، بل غالب ما يستدل به لها إنما هو في العصير المغلي بالنار.

و كيف كان فالأقوى طهارة العصير، سواء غلى بالنار أو بنفسه، إلا أن يحرز مسكريته، و هو أمر آخر.

ثم أنه لا يلزم علينا دفع الشبهة الموضوعية، و ليس تحقيق مسكرية ما غلى بنفسه شأن الفقيه، لكن لا بأس في البحث عنها على سبيل الاختصار دفعا لتوهم دلالة الروايات عليها، و العجب من صاحب الرسالة أنه لما سمع أن قائلا من معاصريه قال: إن البحث في الشبهة الموضوعية ليس بمهم للفقيه، اعترض عليه و نسبه إلى الغرور و الغفلة و البعد عن تلك المسائل بمراحل، و أنه عدو لما جهله، و قال: «إن الذي لا يهم للفقيه أن يتكلم في موضوع وهمي فرضي، من قبيل اتصاف الشي ء بنقيضه، أو سلب الشي ء عن نفسه، أو يتعرض لحكم الكوسج العريض

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 216

اللحية، أو العنين المستهتر بالجماع» انتهى.

و أنت

خبير بما في كلامه من الوهن، و كيف غفل عن أمر واضح و هو أن تنقيح الموضوعات و إثبات كون شي ء خمرا أو خلا، أو أن الأدوية الكذائية مسكرة أو ليست بمسكرة، أو أن المسافة الكذائية ثمانية فراسخ أو لا، و هكذا ليس من المسائل الفقهية التي للفقيه البحث عنها، و ليس رأى الفقيه فيها حجة على غيره، و إنما شأنه البحث عن الأحكام الكلية و مداركها لا عن موضوعاتها.

و كيف كان فقد زعم أن في المسألة إعضالات لا تنحل إلا بالالتزام بمسكرية العصير المغلي بنفسه.

أحدها: أن الروايات المتضمنة لحرمة العصير المطبوخ كلها مغياة بذهاب الثلثين، و لم يتفق التحديد بذهابهما الا فيما تضمن لفظ الطبخ أو ما يساوقه كالبختج و الطلاء، و أما الروايات الحاكمة بتحريم العصير بالغليان فكلها خالية عن التحديد بهما، فجعل هذا شاهدا على أن العصير المغلي بنفسه مسكر و شاهدا على التفصيل المتقدم، بعد التنبيه على أن الغليان و النشيش إذا أسند إلى الأشياء التي يحدثان فيها تارة بسبب و أخرى باقتضاء نفسها من غير ذكر السبب، كان المراد بهما حصولهما بنفسها لا بالسبب، و بعد دعوى حصول السكر بمجرد الغليان.

و فيه أنه بعد تسليم كون الروايات كما زعمها لا تدل هي إلا على أن غاية الحرمة فيما نش بنفسه ليست التثليث، و هو موافق للتفصيل في المسألة الثانية المشار إليها في صدر البحث، و غير مربوط بالمسألة الأولى و لا هي شاهدة على حصول السكر في المغلي بنفسه، مع أن دعاويه بجميع شعبها ممنوعة أو غير مسلمة.

أما دعوى كون الغليان إذا لم يسند إلى سبب و مؤثر خارجي يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 217

المراد ما حصل بذاته ففيها- مضافا إلى كونها مجردة عن الدليل- ما لا يخفى، فان المتبادر من الغليان عرفا و لغة هو الفوران و القلب بقوة، و لا يبعد أن يكون مأخوذا من الصوت في الأصل ثم اشتق منه.

ففي المجمع: «غلت القدر غليانا إذا اشتد فورانها» و في المنجد:

«غلت القدر: جاشت بقوة الحرارة» و لم يفسره في الصحاح و القاموس لوضوحه عرفا، و معلوم أن الفوران و اشتداده لا يحصل فيما إذا غلى العصير بنفسه، بل ما حصل بنفسه هو النش و الجيش الضعيف، فاذن لأحد أن يقول: إن الغليان و سائر تصاريفه إذا أسند إلى شي ء بلا اضافة الى نفسه يتبادر منه الفوران الشديد بقوة الحرارية النارية و غيرها، و إذا قيل غلى بنفسه يراد منه القلب الضعيف غالبا، و لعل النش المستعمل في الروايات فيما إذا غلى العصير بنفسه عبارة عن الصوت الحاصل من الجيش الضعيف للعصير المغلي بنفسه و إن كان لغة أعم منه.

و كيف كان لا بينة على دعواه، بل على خلافها، و لا أقل من أن يكون الغليان أعم.

و أما دعوى حصول الإسكار بمجرد الغليان فسيأتي الكلام فيها، و مما ذكرنا يظهر حال مستنده، و هو أن كل ما ذكر فيه الغليان لم يذكر فيه الثلثان لإثبات أن الغليان بنفسه موجب للإسكار، مع أن الواقع ليس كما ذكره.

أما صحيحة حماد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «1» فمع الغض عما ذكرناه آنفا- و الغض عن احتمال كون «يغلي» مجهولا من باب التفعيل، و لا دافع له إلا الظن الخارجي الغير الحجة، و الغض عن أن المراد في مقام الذي بصدد بيان الكبرى

______________________________

(1) الوسائل-

الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 218

الكلية- هو مطلق الغليان بنفسه أو بغيره جزما. و لا تعارض بينها و بين ما دل على حرمة العصير المغلي بالنار، و أن الاختصاص موجب لمخالفته للواقع نصا و فتوى، فلا معنى لذكر الثلثين فيها، لأنها بصدد بيان غاية الحلية لا غاية الحرمة كما هو واضح.

و منه يظهر الحال في روايته الأخرى قال: «سألته عن شرب العصير، قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه، قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: القلب» «1» فإنها أيضا بيان غاية الحلية صدرا و ذيلا، فلا معنى لذكر التثليث فيها، و أما موثقة ذريح قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إذا نش العصير أو غلى حرم» «2» فهي كالنص في خلاف دعواه، و لهذا تشبث بدعوى أخرى، و هي أن الرواية في النسخ المصححة من الكافي بالواو، و في التهذيب «أو» بدلها قال: «و الأول أصح لأضبطية الكافي، و أنه لا وجه لجعل النشيش و هو الصوت الحاصل بالغليان مقابلا له، إلا على وجه راجع الى عدم المقابلة» انتهى.

و فيه أن الرواية على ما هو الموجود في كتب الأخبار و الفقه و اللغة كالمرآة و الوسائل و الحدائق و الجواهر و المستند و طهارة الشيخ و مصباح الفقيه و مجمع البحرين انما هي بأو لا بالواو، و لم يشر أحدهم حتى المجلسي إلى اختلاف نسخ الكافي فضلا عن كون النسخ المصححة كذلك، فأضبطية الكافي انما تفيد إذا ثبت كونها كذلك فيه، و أما مع اختلاف نسخه على فرض التسليم و اتفاق نسخ التهذيب بذكر «أو» موافقة للنسخ المشهورة المتداولة من

الكافي، فلا وجه لرجحان ما ذكر.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 219

مع أن الأصح بحسب الاعتبار نسخة التهذيب، لما أشرنا إليه من أن النش كلما أطلق في الأخبار أريد به الجيش بنفسه، و الغليان عند الإطلاق بمناسبة ما ذكرناه هو ما حصل بالنار و لا أقل من كونه أعم، لكن في الرواية بعد عدم معنى لذكر النش و الغليان معا بعد كون أحدهما موضوعا للحكم لا بد و أن يراد بالنش ما ذكرناه، كما في سائر الروايات، و بالغليان ما غلى بغيره، فلا بد من العطف بأو لا الواو لكن صاحب الرسالة لما اغتر بإصابة رأيه فتح باب التأويل و التحريف في الروايات المخالفة له.

و أما دعواه بأن كل ما ورد بلفظ الطبخ أو ما يساوقه فهو مغياة بذهاب الثلثين ففيها إنه إن أراد بذلك أن ما ذكر فيها ذهاب الثلثين منحصر بالمطبوخ كما هو الظاهر منه- و لهذا ادعى أمرا آخر، و هو أن المغلي بنفسه إذا ذهب ثلثاه بالنار يكون حراما، و لا يفيد التثليث إلا في العصير الذي طبخ قبل نشيشه بنفسه- ففيها منع، فان الظاهر من غير واحد من الروايات أن التثليث غاية مطلقا، ففي رواية أبي الربيع الشامي بعد ذكر منازعة آدم عليه السلام و إبليس لعنه اللّٰه قال:

«فرضيا بروح القدس، فلما انتهيا اليه قص آدم عليه السلام عليه قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار فرمى به عليهما (اي على القضيبتين) و العنب في أغصانهما حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شي ء، و ظن إبليس مثل

ذلك، قال: فدخلت النار حيث دخلت، و قد ذهب منهما ثلثاهما و بقي الثلث، فقال الروح: أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، و ما بقي فلك يا آدم» «1» فان الظاهر منها أن التثليث مطلقا موجب للحلية، لأن إخراق نفس القضيبتين انما هو لتعيين حظ آدم و إبليس، و هو غير

______________________________

(1) مرت في ص 199.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 220

مربوط بطبخ عصير العنب و تثليثه بالنار، فبعد تعيين ذلك و تحديد الحدود قال الروح: «أما ما ذهب منهما فحظ إبليس» أي مقدار ما ذهب من القضيبتين و هو الثلثان فحظ إبليس من العصير الذي نش أو غلى بالنار، و انما قيدناه بذلك لقيام الإجماع و الضرورة بعدم حظ لإبليس في نفس العنب و لا في عصيرة قبل الغليان.

فاتضح مما ذكر من فقه الحديث أن مقتضى إطلاقها أن الثلثين من العصير المغلي بنفسه أو بغيره لإبليس، و بعد ذهابهما يتخلص سهم آدم (ع) و يحل ما بقي، و منه يظهر الكلام في موثقة سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «1» و كأن صاحب الرسالة حمل الطبخ في الروايتين و نحوهما على طبخ العصير، فصار ذلك موجبا لدعواه المتقدمة مع أنهما صريحتان في أن الإحراق وقع في نفس القضيبتين و الكرم لتعيين الحظين لا في العصير للتثليث.

و في موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام بعد ذكر معارضة إبليس نوحا عليه السلام في الحبلة «فقال جبرئيل أحسن يا رسول اللّٰه فان منك الإحسان، فعلم نوح أنه قد جعل له عليها سلطان، فجعل له الثلثين، فقال أبو جعفر عليه السلام: فإذا أخذت عصيرا فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان

فكل و اشرب» «2» و هو أيضا ظاهر في

______________________________

(1) قال: «إن إبليس نازع نوحا في الكرم، فأتاه جبرئيل فقال له: «إن له حقا، فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف فلم يرض، فطرح عليه جبرئيل نارا فأحرقت الثلثين و بقي الثلث فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، و ما بقي فهو لك يا نوح حلال» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 221

أن حظ إبليس هو الثلثان، و أما قول أبي جعفر عليه السلام فتفريع على قول نوح لا ينبغي أن يتوهم منه اختصاص الغاية بذهاب الثلثين بالنار، كما لا يتوهم منه اختصاص الحرمة بالغليان بها.

و في حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «كان أبي يقول: إن نوحا حين أمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه، فلما أراد أن يغرس العنب قال: هذه الشجرة لي، فقال نوح: كذبت، فقال إبليس: فما لي منها؟ فقال نوح: لك الثلثان، فمن هناك طاب الطلاء على الثلث» «1» و هي أوضح في تفريع قوله: «فمن هناك» إلخ على كلية هي كون الثلثين من العصير المغلي لإبليس لعنه اللّٰه و الثلث لنوح عليه السلام، و من هنا يظهر حال رواية وهب بن منبه «2».

و في مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلى من ساعته أ يشربه صاحبه؟

فقال: إذا تغير عن حاله و غلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «3» و هي أوضح فيما ذكرناه، فان فاعل «تغير» و «غلى» ضمير

راجع الى العصير، لا هو مع قيد الطبخ و الغليان، و هو واضح، فحينئذ إعراضه عن الموضوع المفروض في السؤال و استيناف الكلام بأنه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 10

(2) و فيها: قال عليه السلام- أي نوح-: «لي الثلث و له الثلثان، فرضي، فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس و هو حظّه، و ما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح عليه السلام و هو حظّه، و ذلك الحلال الطيّب ليشرب منه» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11.

(3) الوسائل- الباب- 2- أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 222

«إذا تغير عن حاله و غلى» لإعطاء قاعدة كلية، و هي أن مطلق التغير عن حاله و الغليان موجب للحرمة إلى ذهاب الثلثين مع أن قوله عليه السلام: «تغير عن حاله» لا يبعد أن يكون ظاهرا في الفساد الذي يحصل من الجيش بنفسه، و كيف كان لا وجه لاختصاصه بالنار.

و في فقه الرضا «اعلم أن أصل الخمر من الكرم، إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر، و لا يحل شربه إلا أن يذهب ثلثاه على النار و بقي ثلثه، فان نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلا من ذاته من غير أن يلقى فيه شي ء» «1».

و هي ظاهرة في أن ما غلى بنفسه يحل إذا ذهب ثلثاه على النار، و أما قوله: «فإذا نش .. فدعه» إلخ فمتعرض لفرع آخر، و هو عدم جواز إلقاء شي ء خارجي فيما يجعل خلا، بل لا بدّ من أن يدعه حتى يصير خلا بذاته من دون إلقاء

شي ء فيه.

و انما قيد ذهاب الثلثين بكونه على النار لأجل أن التثليث بغير النار قلما يتفق، بل العصير إذا غلى بنفسه يصير خلا أو خمرا بعلاج أو بغيره قبل أن يذهب ثلثاه، لا أقول: إنه يصير خمرا أو مسكرا بمجرد الغليان بنفسه، بل أقول قبل ذهاب الثلثين يتبدل إليه أو الى الخل، و لهذا قيده بقوله: «على النار».

و لعله لأجل ما ذكرناه من عدم دخالة النار في الحلية لو اتفق التثليث بغيرها أسقطها على بن بابويه، فقال: لا يحل شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، مع أن كلامه عين ما في فقه الرضا تقريبا، لكن صاحب الرسالة نقل كلام ابن بابويه ثم قال: «و الذي أحصله من هذا الكلام أن عصير الكرم إذا أصابته النار و لم يذهب ثلثاه و ترك

______________________________

(1) مرت في ص 209.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 223

على هذا الحال أو غلى من غير أن يصيبه النار فهو خمر، و إن لم يترك طبخه حتى ذهب ثلثاه كان حلالا، و إن غلى بنفسه كان خمرا لا يفيد فيه التثليث إلا أن ينقلب خلا» انتهى.

و ليت شعري من أين حصل له هذا الأمر المخالف لظاهر الكلام بل صريحه؟ و من أين لفق بالعبارة قوله: «و ترك على هذا الحال» و قوله: «و إن لم يترك طبخه حتى يذهب ثلثاه كان حلالا» حتى وافقت مذهبه بعد مخالفتها له؟ مع أنه على فرض كون مراده ذلك لا يتضح موافقته لمذهبه، لما مر من أن هؤلاء انما يكون كلامهم في مسألة الحلية و الحرمة، لا النجاسة و الطهارة، و لم يتضح أن مراده من كونه خمرا أنه هو تكوينا،

و لعله تبع بعض النصوص في إطلاق الخمر عليه كما هو دأبه، و لم يظهر منه و لا من الفقهاء ملازمة النشيش و الغليان من قبله نفسه مع الإسكار و ان نسب صاحب الرسالة ذلك أيضا إليهم من غير حجة، بل مع الحجة على خلافه كما لعلنا أشرنا إليها من ذي قبل.

الإعضال الثاني: أنه قد ورد في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «1».

هذا التقييد لا يتضح وجهه مع أنه بصدد إعطاء القاعدة، و موضوع الحكم مطلق ما غلى بنفسه أو بالنار، فالتقييد مخل إن قلنا بمفهوم الوصف، و موجب لعدم دلالته على حكم ما غلى بنفسه إن لم نقل به، فالمناسب أو المتعين أن يقول: «كل عصير غلى فهو حرام حتى يذهب ثلثاه» و جعل وجه حله أن الحديث في مقام بيان الحرمة المحدودة بذهاب الثلثين، و ليست إلا في العصير المطبوخ، فالتقييد في موقعه، و الضابطة

______________________________

(1) مرت في ص 202.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 224

تامة، و القاعدة محكمة، انتهى ملخصا.

و فيه أولا أنه بعد تسليم ما ذكره لا تدل إلا على أن غاية الحرمة في المغلي بالنار ذهاب الثلثين لا في المغلي بنفسه، و هو غير مربوط بمدعاه الذي ذكر الاعضالات و الانحلالات المتوهمة لأجله، و هي مسكرية ما غلى بنفسه دون ما غلى بالنار.

و قد عرفت أن مورد البحث و محط كلام الفقهاء في مسألتين:

إحداهما في النجاسة و الطهارة، و الثانية في غاية الحلية، فالرواية على فرض تمامية مدعاه مربوطة بالثانية، و هو يريد الاستدلال بها للأولى على

زعمه في طرح المسألة، و ثانيا انه لا إشكال في أن الصحيحة بصدد بيان حرمة ما أصابته النار لا مطلق العصير المغلي، كما لا إشكال في أن ذهاب الثلثين غاية للحرمة فيه، و أما عدم ذكر العصير المغلي بنفسه مع حرمته بنحو الإطلاق فهو إشكال مشترك لو فرض وروده.

و العذر بأنها بصدد بيان العصير الذي يصير حلالا بذهاب الثلثين تسليم للإشكال لا دافع له، إلا أن يقال: إنها بصدد بيان الغاية فقط، و هو كما ترى. هذا مع عدم ورود الإشكال رأسا، لأن السكوت عن بعض أنواع موضوع بعد عدم المفهوم للقيد هنا جزما غير عزيز، سيما إذا كان المذكور أخفى حكما كما في المقام.

و الظاهر أنه غفل عما التزم به من اختصاص مثل رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا يحرم العصير حتى يغلي» «1» بما يغلي بنفسه، مع أنها بصدد بيان الضابطة و القاعدة الكلية جزما، و الضابطة مع ذلك الاختصاص مخلة بالمقصود جزما، لأن ما غلى بالنار حرام أيضا، و لم يذكر فيها الغاية حتى يتوهم أنها بصدد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 225

بيان ما كانت غايته التخليل، اللهم إلا أن يقول: الذي أحصله منها ذلك، كما قال في عبارة الصدوق، فلا كلام لنا حينئذ.

و ثالثا أنه لقائل أن يقول: إن إطلاق ذيل الصحيحة يقتضي أن يحل ما أصابته النار بذهاب الثلثين و لو بغير النار، و مجرد كون الغليان بالنار لا يوجب صرفه الى كون التثليث بها، و لو توهم الانصراف فهو بدوي، كما أن ندرة الوجود لا توجبه، بل مقتضى إطلاق

صدرها أن ما أصابته النار أعم مما كانت الإصابة بعد النش بنفسه أو لا، و أول مراتب النش ليس بنادر في العصير الذي يتهيأ للطبخ، سيما إذا كان كثيرا و يعصر بتدريج، و سيما إذا كان في المناطق الحارة، و ليس ظهور الصحيحة في حدوث الحرمة بإصابة النار ظهورا يدفع الإطلاق، سيما مع قوة احتمال أن يكون المقصود الأصلي فيها بيان غاية التحريم.

فتكون دالة على خلاف مدعاه من وجهين: أحدهما دعواه بأن ما غلى بنفسه لا يحل و لا يطهر إلا بصيرورته خلا و لا يفيده ذهاب الثلثين بالنار، و هي دالة على خلافها، و ثانيهما دعواه بأن ما غلى بالنار لا يحل إلا بذهاب ثلثيه بها، و هي دالة على خلافها.

الإعضال الثالث أنه قد وقع في موثقة عمار ما لم يهتد الى وجهه و سره أغلب الواقفين عليها قال عمار: «وصف لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا، فقال: تأخذ ربعا من زبيب و تنقيه، ثم تصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء، ثم تنقعه ليلة، فإذا كان أيام الصيف و خشيت أن ينش جعلته في تنور مسجور قليلا حتى لا ينش- إلى أن قال-: ثم تغليه بالنار، فلا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان و يبقى الثلث» «1» فان هذه الفقرة مما تحير الناظر من وجهين:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 226

أحدهما أنه إذا نش خارج التنور فهو بأن ينش فيه أولى، فكيف داواه بما يضاعفه؟ الثاني أنه أمره بعد ذلك بالتثليث، فالنشيش ليس فيه محذور يخاف منه، و لو فرض خوف فيندفع بعد الغليان و

التثليث، ثم حل هذه المعضلة بأنه إذا نش بنفسه حدث فيه الإسكار و بطل المقصود، إذ لا بد من إراقته أو تخليله، بخلاف تعجيل غليانه بالتنور المسجور، فإنه يمنع من تسارع الفساد عليه، انتهى بتلخيص.

و فيه- بعد الغض عن تسميتها موثقة مع ترددها بين موثقة و مرسلة، و بعد الغض عن أن ذلك بعد تسليم المقدمات لا ينتج مقصوده لأن غاية ما يستفاد منها أنه مع النشيش بنفسه لا يحلله التثليث، و هو المسألة الثانية من المسألتين المتقدمتين، و هو استدل بها للأولى- أن هذه الرواية لا يمكن التعويل عليها حتى في حرمة ما ينش بنفسه لو لا دليل آخر، ضرورة أن القيود الكثيرة المأخوذة فيها مما لا دخالة لها في الحلية تمنع عن الاستدلال بها، فمن المحتمل قريبا أن يكون الأمر بجعله في التنور لئلا ينش لأجل أن النشيش بنفسه يوجب الفساد تكوينا فلا يحصل معه المقصود من تحصيل مشروب لذيذ طبي مطبوخ له خواص و آثار «1» لا لما ذكره من لزوم إراقته أو تخليله، إلا أن يقول: الذي أحصله ذلك، و لا كلام معه.

نعم لا إشكال في أن الرواية دالة على أنه بعد ما عمل بدستوره حصل له مطبوخ حلال، و أما لو نش فلم يصر حلالا لإسكاره و لا يحل

______________________________

(1) أي يحتمل أن يكون الدستور طبيا لا شرعيا نظير ما احتمله المستدل جوابا عن استدلال القائلين بالحرمة بهذا الخبر و نحوه من الأخبار الآمرة بإذهاب الثلثين في العصير الزبيبي بإمكان مدخلية ذهاب الثلثين طبيا لا شرعيا راجع ص 125 من كتابه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 227

إلا بالتخليل فلا تدل عليه بوجه، هذا مع أن هذه

الفقرة غير مذكورة في روايته الأخرى الموثقة، مع أن الناظر فيهما يرى أنهما رواية واحدة نقلتا بالمعنى لحكاية قضية واحدة، نعم ترك في الثانية ذيل الأولى، فلو كان النش موجبا لحرمته و عدم حليته بالتثليث كان عليه ذكره، إلا أن يقال بوقوع السقط في الثانية اشتباها، أو بتوهم الساباطي عدم الدخالة، و أولى بالدلالة على عدم الدخالة ما لو كانت الموثقة رواية أخرى.

الإعضال الرابع أنه قد ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «سألته عن نبيذ قد سكن غليانه، قال:

كل مسكر حرام» وجه الاشكال أنه قد دل الجواب سيما مع ترك الاستفصال على أن مطلق الغليان في النبيذ يوجب إسكاره غلى بنفسه أو بالنار، بل يدل على أن اندراجه في موضوع الجواب مفروغ عنه عند السائل، و هو مع مخالفته للوجدان و صريح رواية وفد اليمن يشكل بأنه لو كان الغليان موجبا لإسكاره لم يكن معنى لجعل ذهاب الثلثين محللا، فان تسخين المسكر و تغليظه لا يزيل إسكاره، ثم أجاب عنه بأن المراد من الغليان ما كان بنفسه، فاندراجه تحت الكبرى لما كان مفروغا عنه أجاب بما أجاب.

و فيه بعد إصلاح الرواية- فإن صحيحة ابن مسلم ليست كما نقلها بل هي هكذا: محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن نبيذ سكن غليانه، فقال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كل مسكر حرام» «1» و بعد تسليم اندراج مورد السؤال في موضوع الجواب بل مفروغيته لدى السائل، و الغض عن احتمال أن إلقاء الكبرى لأجل إفادة أن الحرمة دائرة مدار السكر، فان كان ما وصفته مسكرا فهو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب الأشربة المحرمة-

الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 228

حرام، و إلا فلا كما في رواية وفد اليمن، حيث أن فيها قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- بعد توصيفهم ما صنعوا-: «يا هذا قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام» «1»- أن مضمون الرواية غير مرتبط بدعواه التي من أجلها أسس أساس المعضلات المتوهمة، أي مسكرية العصير إذا نش و غلى بنفسه، لو لم نقل أنه ضدها، لا لأنها واردة في النبيذ و كلامنا في العصير، بل لأن موضوع السؤال نبيذ سكن غليانه لأحدث فيه الغليان، فلو فرض كون النبيذ الذي غلى بنفسه و بقي حتى سكن غليانه مسكرا لم يثبت به مسكرية ما غلى في أول غليانه فيه فضلا عن العصير.

بل يمكن أن يقال: إن عدم مسكرية ما غلى بنفسه مفروغ عنه لدى السائل، و انما شبهته فيما سكن غليانه، و هذه الصحيحة نظير جملة أخرى من الروايات التي تمسك بها لإثبات مدعاه بعد عدة مقالات، كرواية إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقلت: يا جارية اسقيني ماء، فقال لها: اسقيه من نبيذي فجائت بنبيذ مريس في قدح من صفر، قلت: لكن أهل الكوفة لا يرضون بهذا، قال: فما نبيذهم؟ قلت يجعلون فيه القعوة، قال:

و ما القعوة؟ قلت الداذي، قال: و ما الداذي؟ قلت: ثفل التمر يفري به الإناء حتى يهدر النبيذ فيغلي ثم يسكب فيشرب، قال: ذاك حرام» «2». و قريب منها رواية إبراهيم بن أبي البلاد عن الرضا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 6 و في الثاني: «الزازى» (اللاذى)- و كذلك: «و يضرى

به الإناء».

(2) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 1 و في الثاني: «الزازى» (اللاذى)- و كذلك: «و يضرى به الإناء».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 229

عليه السلام «1» و في نسخة مرآة العقول: «ثم يسكر» بدل «يسكن» فعليها تدل الرواية على ضد مقصوده، لمكان «ثم».

و كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: «استأذنت لبعض أصحابنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام، فسأله عن النبيذ، فقال: حلال فقال: إنما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر ثم يسكن، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

كل مسكر حرام» «2» و في نسخة المرآة «3» «فيغلي حتى يسكر» فعليها تدل على ضد مقصوده، فان الظاهر منها أنه يغلي إلى أن ينتهي إلى السكر، فتدل على أن السكر بعد الغليان مدة.

و في رواية وفد اليمن في وصف النبيذ: «يؤخذ التمر فينبذ في إناء، ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ، ثم يوقد تحته حتى ينطبخ، فإذا انطبخ أخرجوه فألقوه في إناء آخر، ثم صبوا عليه ماء ثم مرس، ثم صفوه بثوب، ثم ألقي في إناء، ثم صب عليه من عكر ما كان قبله، ثم هدر و غلى ثم سكن على عكره، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

يا هذا قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام» «4».

و هذه الروايات كما ترى تدل على أن النبيذ بعد العلاج و إلقاء العكر فيه و الغليان و السكون بعده صار مسكرا، فتدل على أن الإسكار

______________________________

(1) المروية الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 17- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7 و

فيه: «كل ما أسكر حرام».

(3) و كذلك في الوسائل المطبوع جديدا.

(4) الوسائل- الباب- 24- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 230

انما هو بعد تلك المقدمات لا بمجرده، فتكون دالة على ضد مقصوده، و لو منعت دلالتها على ذلك فلا شبهة في عدم دلالتها بل و لا إشعارها بحصول السكر بمجرد الغليان.

لكن صاحب الرسالة لا يبالي بعدم الدلالة حتى استدل بها على حصول السكر بمجرده، كما استدل عليه بروايات أخر نظيرها في عدم الدلالة، كذيل رواية إبراهيم في باب تحريم العصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ثم أن إبليس ذهب بعد وفاة آدم عليه السلام فبال في أصل الكرم و النخلة، فجرى الماء في عودهما ببول عدو اللّٰه، فمن ثم يختمر العنب و التمر، فحرم اللّٰه على ذرية آدم كل مسكر، لأن الماء جرى ببول عدو اللّٰه في النخلة و العنب و صار كل مختمر خمرا لأن الماء اختمر في النخلة و الكرمة من رائحة بول عدو اللّٰه» «1» و استشهد لإتمام الدلالة بقول ابن الأعرابي: سميت الخمر خمرا لأنها تركت و اختمرت، قال: و اختمارها تغير ريحها.

أقول: أما الرواية فلا دلالة لها على منظورة بوجه، فإن صيرورة الخمر حراما لجريان بول عدو اللّٰه في عود النخلة و الكرم و صيرورة كل مختمر خمرا لاختمار الماء فيهما من رائحة بوله لا تدل على أن العصير بمجرد غليانه بنفسه صار مسكرا أو خمرا، و أي ربط بين تلك الفقرات و دعواه.

إلا أن يقال: إن رائحة الخمر إذا كانت في شي ء تكشف عن بول عدو اللّٰه و اختماره ببوله، و هو حسن لمن أراد الدعابة و المزاح،

مع أن موافقة رائحة الخمر لرائحة العصير إذا نش غير معلومة، بل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3 و فيه: «يختمر العنب و الكرم».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 231

معلومة العدم، و أما التشبث بقول ابن الأعرابي و غيره من أئمة اللغة فمع الغض عن عدم حجية قولهم في غير المعاني اللغوية- و ذكر وجه التسمية غير داخل في فنهم، بل من قبيل الاجتهاد في أصل اللغة- أن العبارة المنقولة منه دالة على أن كل ما تغير ريحها يسمى خمرا، بل تدل على أن الخمر سميت بذلك لهذا الوجه، و الافتراق بينهما ظاهر لا يخفى.

و أما قوله: «اختمارها تغير ريحها» فإن أراد به الاخبار عن حقيقة كيمياوية فهو غير مسموع منه، لعدم كونه داخلا في فنه، إلا أن يدعى التجربة، و هي كما ترى، هذا مضافا الى أن الظاهر من تلك العبارة أن الخمر سميت خمرا لأنها- أي الخمر- تركت و اختمرت و تغيرت حالها، لا أن العصير إذا ترك و تغير حاله يصير خمرا و يسمى بها، فلعل مراده أن وجه تسمية الخمر أنها إذا تركت تتغير في ريحها و تأويل كلامه بما يرجع الى ما أراد المستدل بلا حجة لا داعي به.

و استدل أيضا بما دل على حرمة ما تغير من العصير و غيره إذا نش و غلى بنفسه، و أمر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بإهراق ما تغير و نش و الأمر بغسل الإناء الذي ينبذ فيه لكيلا يغتلم، و بروايات النهي عن الانتباذ في جملة من الأواني، أو مطلق استعمالها كالدباء و المزفت و الحنتم و النقير «1».

و أنت خبير بما في

الاستدلال بها لإثبات مسكرية ما غلى بنفسه من الوهن بعد التأمل فيما مر، و التميز بين المسألتين المتقدمتين أي مسألة حرمة ما نش و غلى و الاختلاف في غايتها و مسألة نجاسة العصير المغلي التي تفرد بالتفصيل فيها ابن حمزة كما مر و مع جعل ذلك نصب عينيك تهتدي الى أن ما تمسك به لمدعاه من الأخبار و كلمات الأصحاب

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 25- من أبواب الأشربة المحرمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 232

إما مخالف لمذهبه أو غير مربوط به، إلا بعض إشعارات في بعض الكلمات، و لو كان الوقت متسعا و الحال مقتضيا و المسألة مهمة لسردت عليك موارد خلطه حتى لا تغتر بعباراته و دعاويه، و اتضح لك وهن اعتراضاته على أئمة الفقه و مهرة الفن، و اللّٰه العاصم.

فاتضح مما مر عدم قيام دليل على نجاسته مطلقا لا ما غلى بنفسه و لا ما غلى بغيره.

ثم أن الاشتداد الواقع في كلام جملة من الأصحاب كالمحقق و العلامة إن كان المراد منه الإسكار فالتعبير بالإلحاق بالمسكر غير مناسب و إن كان المراد الثخانة و الخثورة فلا دليل على اعتباره إلا ما احتمله الشيخ الأعظم من «أن عمدة الدليل على النجاسة لما كانت الموثقة المتقدمة المختصة بما بعد الثخونة المحسوسة و فتوى المشهور المتيقن منها ذلك كان الاقتصار في مخالفة الأصل عليها أولى، و إن كان الإطلاق لا يخلو من قوة» انتهى.

و هو غير وجيه، فإنه على فرض كون المستند هو الموثقة لا يظهر منها الاختصاص، بل الظاهر منها و لو بالقرائن الداخلية و الخارجية هو الإطلاق، مضافا الى أن في كونها مستندهم إشكالا بعد كونها في مقام بيان

الحكم الظاهري كما مر، و بعد ما قيل من عدم معهودية التمسك بها الى زمان الأسترآبادي، و لو قيل باستنادهم الى مثل الرضوي المتقدم و صحيحة عمر بن يزيد المتقدمة كان أولى، و لم يظهر منهما الاختصاص، أما الرضوي فظاهر، و أما الصحيحة فلأن البختج صادق على أول مراتب الطبخ الحاصل بالغليان، و يحتمل أن يكون المراد به الاشتداد في الغليان و إن كان بعيدا، بل غير وجيه.

و كيف كان فبعد بطلان أصل الدعوى لا داعي بالبحث في متفرعاتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 233

و قيودها.

و أما عصير الزبيب فلا ينبغي الإشكال في طهارته و إن قلنا بنجاسة عصير العنب، بل في الحدائق «الظاهر أنه لا خلاف في طهارته و عدم نجاسته بالغليان، فاني لم أقف على قائل بالنجاسة هنا» و حكى ذلك عن الذخيرة أيضا، لكن يظهر من بعضهم وجود قول بها، بل عن أطعمة مجمع البرهان أنه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر و الزبيب، لكن في مفتاح الكرامة ليس لذلك في الذكرى عين و لا أثر قال: «و في الذكرى بعد أن نسب الحكم بالنجاسة الى ابن حمزة و المحقق في المعتبر، و ذكر أن المصنف تردد في النهاية، قال: و لم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة، نعم اختار في الألفية النجاسة» انتهى.

أقول: و لم أر في الوسيلة و المعتبر ما نسب إليهما، إلا أن يقال: إن العصير شامل للأقسام، و هو غير ظاهر، سيما بعد معروفية اختصاصه عند الإطلاق بالعنبي و تسمية غيره بأسماء أخر، و كيف كان فالأصل فيه الطهارة الى أن قام دليل على نجاسته.

و ربما يتمسك لنجاسته بعد البناء على نجاسة العصير

العنبي المغلي بالاستصحاب التعليقي تارة، و بالتنجيزي أخرى، و هو استصحاب سببية غليانه للحرمة و النجاسة أو استصحاب ملازمة لهما.

أقول: إن ظواهر الأدلة المستدل بها لنجاسة العصير مختلفة، و يختلف حال الاستصحاب حسب اختلاف المستند، فان ظاهر موثقة معاوية بن عمار «1» و صحيحة عمر بن يزيد «2» جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ، لأن موضوع السؤال فيهما البختج، و هو العصير المطبوخ

______________________________

(1) مرت في ص 204.

(2) مرت في ص 206.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 234

فقد نزله في الموثقة منزلة الخمر في الآثار فرضا، و منها النجاسة، فكأنه قال: البختج حرام و نجس، و كذا الحال في الصحيحة، فإن الحكم فيها أيضا تنجيزي لا تعليقي.

و أما ظاهر مرسلة محمد بن الهيثم «1» و خبر فقه الرضا «2» بل خبر أبي بصير «3» المستدل بكل منهما لها هو إنشاء قضايا تعليقية، أي إذا تغير العصير و غلى فلا خير فيه، أو إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر، فان المستفاد من مثلهما جعل حكم على العصير معلقا على الغليان، و لا يرجع ذلك الى الحكم التنجيزي مطلقا، لا في الجعل و لا في الاعتبار و لا في الواقع، لا قبل حصول المعلق عليه و لا بعده، لاختلاف موضوعهما اعتبارا و واقعا و كذا حكمهما.

لأن المجعول في القضايا التنجيزية أي مفاد الطائفة الأولى هو الحكم الفعلي المنجز على موضوع مقيد أي العصير المغلي و لو تحليلا، فان البختج هو العصير المغلي أو المطبوخ، و في القضايا التعليقية يكون الموضوع ذات العصير و الغليان واسطة و معلق عليه الحكم، و هو أمر تعليقي يتوقف فعليته على حصول المعلق

عليه.

فقبل حصول المعلق عليه و بعده لا يفترق الموضوع و لا الحكم المجعول فإن القضية لا تنقلب عما هي عليها حصل المعلق عليه أو لم يحصل. نعم

______________________________

(1) مرت في ص 221.

(2) مر في ص 222.

(3) قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام و سئل عن الطلاء فقال: إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير» راجع الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 235

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 235

بعد حصول المعلق عليه يصير الحكم فعليا منجزا على العبد و حجة عليه، لا بانقلاب القضية التعليقية الى التنجيزية أو انقلاب موضوعها الى موضوع آخر، فإنه غير معقول، فالموضوع في القضية التعليقية هو العصير لا العصير المغلي و لو بعد حصول المعلق عليه، فالغليان ليس قيدا له في وعاء من الأوعية و ما قرع الأسماع من أن الجهات التعليلية ترجع إلى التقييدية انما هو في القضايا العقلية لا القضايا العرفية و الظواهر اللفظية، و هو ظاهر لدى التأمل.

ثم أن الظاهر من القضايا التعليقية هو جعل الحكم على الموضوع على تقدير وجود المعلق عليه، ففي المقام جعل النجاسة و الحرمة على تقدير وجود الغليان، و ينتزع منه سببية الغليان لهما أو ملازمتهما معه لا أقول: لا يمكن جعل السببية أو الملازمة ثبوتا، بل أقول: إن الظاهر منها في مقام الإثبات جعل الحكم، لا جعل السببية أو الملازمة، فهما منتزعتان من جعل الحكم عقلا لا مجعولتان

شرعا.

إذا عرفت ذلك فاعلم إنه إن قلنا بأن النجاسة في العصير العنبي مستفادة من القضية التعليقية فإن قلنا بأن المستفاد منها هو سببية الغليان لها أو ملازمته لها فاستصحابهما و إن كان تنجيزيا و السببية و الملازمة شرعية لكن تحقق المسبب بتحقق سببه، و كذا تحقق الملازم بتحقق صاحبه عقلي، فاستصحاب السببية المجعولة لعصير العنب لا يثبت نجاسة عصير الزبيب المغلي إلا بالأصل المثبت، و كذا استصحاب الملازمة فصرف كون السببية أو الملازمة شرعية لا يوجب التخلص عن المثبتية.

و إن قلنا بأن المستفاد منها الحكم التعليقي فيجري استصحابه من غير شبهة المثبتية، لأن حصول الحكم بحصول المعلق عليه شرعي، فكأن الشارع المقدس قال: تعبديا بأنه إذا وجد غليان عصير الزبيب وجدت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 236

النجاسة، أو تعبد بوجودها عند وجوده، فلا إشكال من هذه الجهة، و كذا لو قلنا بأن السببية الشرعية ليست على مثابة السببية التكوينية بل ترجع الى التعبد بوجود المسبب عند وجود سببه يكون استصحابها كاستصحاب الحكم التعليقي جاريا.

لكن قد يستشكل في الاستصحاب تارة بعدم بقاء الموضوع، فان العنب و الزبيب عنوانان مختلفان عرفا و عقلا، و كذا مصاديقهما، و لهذا لا يمكن التمسك بدليل حكم العنب على حكم الزبيب، و فيه أن المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها، لا وحدة المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي.

و لما كان الزبيب في الخارج مسبوقا بالعنبية فحين كان عنبا يقال:

هذا الموجود في الخارج إذا غلى عصيرة ينجس و يحرم، و ذلك بالاستنتاج من كبرى كلية اجتهادية و صغرى وجدانية، فموضوع القضية المتيقنة فيه ليس عنوان العنب الكلي، بل الموجود الخارجي المشار اليه لانطباق الكبرى

عليه.

فإذا جف رطوبته لم يصر موجودا آخر و إن صدق عليه عنوان آخر و سلب عنه عنوانه الأولي، فالرطوبة و اليبوسة فيه نظير الكبر و الصغر و المرض و الصحة في الشخص الخارجي، حيث بقيت شخصيته عرفا و عقلا مع تبادل العناوين و العوارض عليه، فموضوع القضية المتيقنة باق مع العلم بعدم بقاء موضوع الدليل الاجتهادي.

و أخرى بأن الحكم التعليقي و التقديري ليس بشي ء، و لا بد في الاستصحاب من ثبوت حكم وضعي أو تكليفي أو موضوع ذي حكم و الشك في بقائه، و فيه- مضافا إلى أن الحكم التكليفي أو الوضعي المشروط أمر مجعول محقق في وعائه و ليس معدوما و لا شي ء- أنه لا يشترط في الاستصحاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 237

كون المستصحب أمرا موجودا، بل ما يعتبر فيه هو فعليه الشك و اليقين لا فعلية المتيقن و المشكوك فيه، و كون المتعلق ذا أثر قابل للتعبد في زمان الشك.

فلو تعلق اليقين بعدم شي ء و كان له أثر في زمان الشك يجري الاستصحاب بلا شبهة فضلا عن المقام، فان اليقين متعلق بقضية شرعية هي أنه إذا نش العصير أو غلى يحرم، أو إذا أصابته النار فهو خمر، و شك في بقائها بعد انطباقها على العنب الخارجي لأجل صيرورتها زبيبا، و التعبد به ذو أثر في زمان الشك، و هو الحكم بالنجاسة و الحرمة إذا تحقق الغليان.

و أما ما قيل بأن معنى الاستصحاب التعليقي هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئية و تبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر.

ثم استشكل على الاستصحاب التعليقي تارة بأن الحكم المرتب على

الموضوع المركب انما يكون وجوده و تقرره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء و الشرائط لأن الموضوع كالعلة للحكم، و لا يعقل تقدم الحكم عليه، فلا معنى لاستصحاب ما لا وجود له، و تارة بأنه ليس للجزء الموجود من المركب أثرا إلا إذا انضم إليه الغليان، و هذا مما لا شك فيه، فلا معنى لاستصحابه، و تارة بأن هذه القضية التعليقية عقلية، لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب.

فلا ينبغي أن يصغى إليه، بعد خلطه بين القضايا التعليقية التي موضوعها نفس العناوين، و حكمها تعليقي، و المعلق عليه واسطة في ثبوت الحكم للموضوع، و بين القضايا التنجيزية التي موضوعها أمر مركب من جزءين: أي العصير و الغليان، و هو مبنى إشكاله الأول.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 238

و أعجب منه إشكاله الثاني، فإن ما لا شك فيه هو عصير العنب إذا ضم إليه الغليان، لا عصير الزبيب. و أعجب من ذلك إشكاله الثالث، حيث أرجع القضايا التعليقية الواردة في الشرع الى القضايا التنجيزية المركبة الموضوع، ثم قال: إن القضية التعليقية لازمة عقلا بجعل الحكم على الموضوع المركب.

و ثالثه بأن الاستصحاب التعليقي معارض دائما باستصحاب تنجيزي فان العصير الزبيبي المغلي كما هو محكوم بالنجاسة و الحرمة للاستصحاب التعليقي و بعد حصول المعلق عليه كذلك محكوم بالطهارة و الحلية الثابتين له قبل الغليان، فأجابوا عنه بحكومة الأصل التعليقي السببي على التنجيزي المسبي، و ذكروا في وجهها بما لا يخلو عن مناقشة أو مناقشات.

و التحقيق في تقريرها أن يقال: إن الاستصحاب التعليقي جار بلحاظ حال قبل الغليان، و المستصحب فيه هو القضية التعليقية، فإذا شك في بقائها يستصحب، و أما مفاد القضية المستصحبة فهو

أن هذا العصير إذا غلى ينجس و يحرم. و بعد حصول الغليان و ضم الوجدان إلى القضية المستصحبة تصير النتيجة أن هذا العصير نجس و حرام، لا أن العصير المشكوك في نجاسته أو حرمته كذا، لأن الاستصحاب لم يجر في المغلي المشكوك فيه، بل يجري في التعليقي بلحاظ قبل الغليان، فيحرز الدليل الاجتهادي في ظرفه.

و أما استصحاب الحل و الطهارة انما يجري في العصير المغلي المشكوك في حليته و طهارته، فالدليل الاجتهادي المستصحب لسانه نجاسة هذا العصير إذا غلى، و بعد الغليان ينتج نجاسة هذا العصير من غير قيد الشك، و لسان استصحاب الحل و الطهارة الجاري في المغلي أن المشكوك فيه طاهر و حلال، فالأول بلسانه مقدم على الثاني، و هذا هو السر في تقدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 239

الأصل السببي على المسببي في جميع الموارد.

مثلا إذا شك في نجاسة الثوب المغسول بما شك في كريته فاستصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي تعبدا، فينطبق عليه الدليل الاجتهادي، أي أن الكر مطهر لما أصابه و غسل فيه، و ليس مفاده: إذا شككت فيما غسل فيه فهو طاهر، بخلاف مفاد استصحاب نجاسة الثوب، فان مفاده إذا شك في نجاسته فهو باق عليها، فمفاد الأول بعد تطبيق الدليل أن هذا طاهر، و مفاد الثاني إذا شك في نجاسته فهو نجس.

و ان شئت قلت إن استصحاب الكرية في المثال لا يعارض استصحاب النجاسة لتعدد موضوعهما، و إنما التعارض بين مفاد الدليل الاجتهادي المنطبق على المستصحب تعبدا بعد ضم الوجدان و بين مفاد استصحاب نجاسة الثوب، و الأول مقدم بلسانه على الثاني و حاكم عليه و لو كان تنقيحه ببركة التعبد ببقاء الكرية

بالاستصحاب، و كذا الحال في المقام، فتدبر و اغتنم.

و رابعة بأن الحكم انما تعلق بالعصير لا بالعنب حتى يقال ببقاء الموضوع، و هذا الاشكال يقرر بوجهين: أحدهما أن موضوع الدليل الاجتهادي عصير العنب لا نفسه، و هو غير باق، فان الزبيب لما كان مسبوقا بالعنبية صح أن يقال: إن هذا الموجود كان كذا و الآن كما كان لكن عصيرة لم يكن مسبوقا بعصيرية العنب حتى يجي ء فيه ما ذكر، فاسراء الحكم من عصير العنب الى عصيرة إسراء له من موضوع الى موضوع مباين له في المفهوم و الحقيقة و الوجود.

و فيه أنه بعد فرض تعلق الحكم بعصير العنب يصح أن يقال عليه إن عصير هذا الموجود إذا غلى يحرم و ينجس، فإذا يبس و صار زبيبا يقال: إن هذا الموجود كان عصيرة كذا و الآن كما كان.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 240

و ثانيهما أنه ليس للزبيب عصير، فان العنب بعد جفاف ما في جوفه من الماء صار زبيبا، و ما بقي فيه هو الجرم اللزج، و هو ليس بعصير جزما، و موضوع الحكم في العنب هو عصيرة لا نفسه، فإذا صار زبيبا لا يبقى فيه ماء يعتصر و يغلى، و الماء الخارجي الذي يراق فيه لإخراج حلاوته غير العصير العنبي جزما، فالقضية المتيقنة غير القضية المشكوك فيها يقينا، و هذا الاشكال متين، و هو الجواب عن الاستصحاب التعليقي «1».

هذا كله إذا كان المستند للنجاسة و الحرمة هو القضايا التعليقية، و أما إذا كان المستند لهما القضايا التنجيزية كقوله: «البختج خمر»

______________________________

(1) و قد يستشكل عليه بأن موضوع الحكم هو نفس المادة لا العنب و هي موجودة في الزبيب، بل العنبية

و الزبيبية من الحالات، و لذلك لو خلط شي ء من عصير العنب بالماء و غلى نحكم بحرمته، و عليه لا مانع من جريان الاستصحاب، و فيه ما لا يخفى من ان الموضوع هو العصير العنبي، و ما لم يصدق عليه هذا العنوان لا اثر لغليانه مع الماء كما هو واضح.

و قد يقال في وجه عدم جريان الاستصحاب بأن العنب لا يصير زبيبا إلا بعد ذهاب الثلثين فلا يضره الغليان بعد ذلك إذ لا اثر للغليان بعد الغليان، و فيه انه مبنى على دعويين الأولى ان ماء العنب يغلي في جوفه كي ينقلب زبيبا، و الثانية انه بعد ذهاب الثلثين يصير زبيبا، و لا يخفى أن كلتيهما غير ثابتة، فإذا نشك في غليانه الأصل يقتضي عدمه، و كذلك في ذهاب الثلثين لو سلمنا غليانه، على انه لا اثر لغليان ماء العنب و هو في حباته، لعدم صدق العصير على مائه ما دام موجودا فيها، تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 241

أو «لا تشرب البختج من يد مستحل المسكر» فعدم جريان الاستصحاب واضح، لأن الحكم التنجيزي على الموضوع المقيد لا يتحقق إلا بعد تحقق موضوعه بجميع قيوده، و قبله لا وجود له و لو بنحو الاعتبار في الخارج حتى يشك في بقائه و يستصحب.

و توهم إجراء الاستصحاب التعليقي بتقريب أن العنب كان إذا انضم اليه الغليان محكوما بالحرمة و النجاسة، فإذا صار عصيرا يستصحب الحكم التعليقي فاسد، فان هذا التعليق عقلي لا شرعي، لأن المفروض أنه ليس للشارع إلا حكم تنجيزي على العصير المغلي، فالحكم التعليقي غير مجعول بل من اللوازم العقلية، و في مثله لا يجري الاستصحاب، مضافا إلى ورود الإشكال الأخير،

أي عدم بقاء الموضوع عليه أيضا.

فتحصل مما ذكر عدم جريان الأصل، و عدم الدليل على نجاسة العصير الزبيبي، و دعوى صدق العصير عليه قد مرّ جوابها، هذا كله على فرض تسليم نجاسة عصير العنب، و إلا فقد عرفت عدم نجاسته فضلا عن نجاسة عصير الزبيب.

ثم أنه لا بأس بصرف الكلام إلى حكم عصير الزبيب من جهة الحرمة و ان كان خارجا عن محط البحث، لكونه محلا للابتلاء، فنقول المشهور كما في الحدائق حليته، بل في طهارة شيخنا الأعظم عن جماعة دعوى الشهرة عليه، بل عن الرياض كادت تكون إجماعية، و هي مقتضى الأصل السالم عن المعارض.

أما الاستصحاب فقد عرفت الكلام فيه، و أما غيره فعمدة المستند للحرمة رواية زيد النرسي في أصله قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الزبيب يدق و يلقى في القدر ثم يصب عليه الماء و يوقد تحته؟

فقال: لا تأكله حتى يذهب الثلثان و يبقى الثلث، فان النار قد أصابته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 242

قلت: فالزبيب كما هو في القدر و يصب عليه الماء ثم يطبخ و يصفى عنه الماء؟ فقال: كذلك هو سواء، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فصار حلوا بمنزلة العصير ثم نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، و كذلك إذا أصابته النار فأغلاه فسد» «1».

و قد حاول العلامة الطباطبائي تصحيح سندها تبعا للمجلسي (رحمه اللّٰه)، و استند في ذلك تارة على قول النجاشي: «له كتاب يرويه عنه جماعة، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن نوح السيرافي، قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي بكتابه»

و على نص الشيخ رواية ابن أبي عمير كتابه.

و عن البحار و غيره طريق اليه بتوسط ابن أبي عمير، قال: «و روايته لهذا الأصل تدل على صحته و اعتباره و الوثوق بمن رواه، فان المستفاد من تتبع الحديث و كتب الرجال بلوغه الغاية في الثقة و العدالة و الورع و الضبط، و التحذر عن التخليط، و الرواية عن الضعفاء و المجاهيل، و لهذا ترى أن الأصحاب يسكنون الى روايته و يعتمدون على مراسيله، و قد ذكر الشيخ في العدة أنه لا يروي و لا يرسل إلا عمن يوثق به، و هذا توثيق عام لمن روى عنه و لا معارض له هاهنا» ثم ذكر إجماع الكشي على تصحيح ما يصح عنه و أجال القلم حوله.

و أخرى على قول الشيخ: له أصل قال «وعد النرسي من أصحاب الأصول و تسمية كتابه أصلا مما يشهد بحسن حاله و اعتبار كتابه، فإن الأصل في اصطلاح المحدثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر، و ليس بمعنى مطلق الكتاب، فإنه قد يجعل

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 243

مقابلا له فيقال: له كتاب و له أصل».

ثم حكى الكلام المنقول عن المفيد طاب ثراه بأنه «صنفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين عليه السلام الى عهد أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام أربعمائة كتاب تسمى الأصول، قال: و هذا معنى قولهم: له أصل، و معلوم أن مصنفات الإمامية فيما ذكر من المدة تزيد على ذلك بكثير، كما يشهد به تتبع كتب الرجال، فالأصل أخص من الكتاب، و لا يكفي فيه بمجرد عدم انتزاعه

من كتاب آخر و ان لم يكن معتمدا، فإنه يؤخذ في كلام الأصحاب مدحا لصاحبه و وجها للاعتماد على ما تضمنه، و ربما ضعفوا الرواية لعدم وجدان متنها في شي ء من الأصول».

و ثالثة بسكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ و أجلاء الأصحاب، حتى قيل: السالم من رجال الحديث من سلم منه، بل قال: «زيد الزراد و زيد النرسي رويا عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال أبو جعفر بن بابويه: إن كتابهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمان، و غلط أبو جعفر في هذا القول، فإني رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير» انتهى. قال: «و لو لا أن هذا الأصل من الأصول المعتمدة المتلقاة بالقبول بين الطائفة لما سلم من طعنه و من غمزه على ما جرت به عادته في كتابه الموضوع لهذا الغرض» و رابعة بإخراج الكليني في جامعه الكافي- الذي ذكر أنه قد جمع الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام- روايتين منه: إحداهما في باب التقبيل من كتاب الايمان و الكفر، و ثانيتهما في كتاب الصوم في باب صوم العاشوراء، و أخرج الشيخ عنه حديثا في كتاب الوصايا من التهذيب مع إيراده الرواية الأخيرة في كتابي الأخبار بإسناده عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 244

الكليني، فلا تخلو الكتب الأربعة عن أخباره، بل روى جعفر بن قولويه عن علي بن الحسين و غيره بسندهم عن النرسي، و منه يعلم رواية علي بن بابويه والد الصدوق أصل النرسي.

و يظهر منه أن أصل نسبة اعتقاد وضعهما الى الصدوق تبعا لشيخه ضعيف، أو رجف عنه بعد ما ذكره في فهرسته، فان والده شيخ القميين

و فقيههم و ثقتهم- و الذي خاطبه الإمام العسكري عليه السلام بقوله في توقيعه: يا شيخي و معتمدي- يروي الأصل المذكور، و ولده يعتقد كونه موضوعا، هذا مما لا ينبغي نسبته اليه، انتهى ملخصا، و هو تفصيل ما أفاده المجلسي على ما حكي عنه تقريبا.

قال بعد نقل كلمات الجماعة في الأصلين و صاحبيهما: «أقول:

و إن لم يوثقهما أصحاب الرجال لكن أخذ أكابر المحدثين من كتابهما، و اعتمادهم عليهما حتى الصدوق في معاني الأخبار و غيره، و رواية ابن أبي عمير عنهما، و عد الشيخ كتابهما من الأصول لعلها تكفي لجواز الاعتماد عليهما» انتهى، ثم ذكر حال نسخته العتيقة.

أقول: لا بأس بصرف الكلام الى حال ما تشبثا به، سيما إجماع الكشي الذي هو العمدة في المقام و غيره من الموارد الكثيرة المبتلى بها، فعن الكشي في حق فقهاء أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام:

«اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام، و انقادوا لهم بالفقه، فقالوا أفقه الأولين ستة» ثم ساق أسماءهم.

و في فقهاء أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم لما يقولون، و أقروا لهم بالفقه» ثم ساق أسماءهم، و في فقهاء أصحاب أبي إبراهيم و أبي الحسن (ع) «اجتمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 245

أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء و تصديقهم، و أقروا لهم بالفقه و العلم» ثم ذكر أسماءهم.

و يقع الكلام تارة في المفهوم المراد من تلك العبارات، و أخرى في حول كلمات الأصحاب، و فهمهم المعنى المراد منها، و حال دعوى تلقيهم هذا الإجماع بالقبول.

أما

الأول ففيها احتمالات أظهرها أن المراد تصديقهم لما أخبروا عنه، و ليس أخبارهم في الاخبار مع الواسطة إلا الاخبار عن قول الواسطة و تحديثه، فإذا قال محمد بن أبي عمير: حدثني زيد النرسي قال: حدثني علي بن مزيد قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام كذا، لا يكون إخبار ابن أبي عمير إلا تحديث زيد، و هذا فيما ورد في الطبقة الأولى واضح، و كذلك الحال في الطبقتين الأخيرتين، أي الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، لأن ما يصح عنهم ليس متن الحديث في الاخبار مع الواسطة لو لم نقل مطلقا.

فحينئذ إن كان المراد من الموصول مطلق ما صح عنهم يكون لازمة قيام الإجماع على صحة مطلق أخبارهم، سواء كان مع الواسطة أو لا، إلا أنه في الاخبار مع الواسطة لا يفيد تصديقهم و تصحيح ما صح عنهم بالنسبة إلى الوسائط، فلا بد من ملاحظة حالهم و وثاقتهم و عدمها.

و إن كان المراد منه متن الحديث بدعوى أن الصحة و الضعف من صفات المتن و لو بلحاظ سنده فلازمه قيام الإجماع على تصحيح الاخبار بلا واسطة، فإن ما يصح عنهم من المتن هو الذي أخبروا عن نفسه، و أما الاخبار مع الواسطة فليس إخبارهم عن متنه بل عن تحديث الغير ذلك و إن شئت قلت: ما صح عنهم الذي يجب تصحيحه لا بد و أن يكون الاخبار عن واقع حتى يجوز فيه الصدق و الكذب و التصحيح و عدمه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 246

فإذا قال ابن أبي عمير: حدثني النرسي قال: حدثني علي بن مزيد قال الصادق عليه السلام كذا، فما أخبر به ابن أبي عمير و يصح أن يكون

كاذبا فيه و صادقا و يمكن الحكم بصحته و الإجماع على تصحيحه هو إخباره بأن زيدا حدثني، و أما قول النرسي و علي بن مزيد و كذا قول الصادق عليه السلام فليس من إخباره، و لهذا لو كان أخبار النرسي أو علي بن مزيد كاذبا لا يكون ابن أبي عمير كاذبا، و ليس ذلك إلا لعدم إخباره به، و صحة سلبه عنه، و هو واضح جدا.

فهل ترى من نفسك لزوم تصديق الجماعة حتى فيما لا يقولون؟

بل قالوا إنا لم نقله، فإذا كذب علي بن مزيد مثلا على الصادق عليه السلام و نقل ابن أبي عمير قوله، ثم قيل له: لم كذبت على الصادق عليه السلام؟

يصح له أن يقول: إني لم أكذب عليه، بل نقلت عن زيد و هو عن علي بن مزيد و هو كاذب لا أنا و لا زيد، و انما كررنا هذا الأمر الواضح لما هو مورد الاشتباه كثيرا.

فما قد يقال في رد هذا الاحتمال- من أنه لا يخفى ما فيه من الركاكة خصوصا بالنسبة إلى هؤلاء الأعلام، و لو كان المراد ما ذكر اكتفى بقوله أجمعت العصابة على تصديقهم بل هنا دقيقة أخرى و هي أن الصحة و الضعف من أوصاف متن الحديث تعرضه باعتبار اختلاف حالات رجال السند- لا يخفى ما فيه من الغفلة عن أن ذلك من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب، فإنه يلزم منه عدم قيام الإجماع على تصديقهم في الاخبار مع الواسطة، حتى بالنسبة إلى تحديث الوسائط إلا بدعوى تنقيح المناط، نعم لازم تصديقهم وثاقتهم و صداقتهم في النقل، و هو واضح.

و أما دعوى ركاكة دعوى الإجماع على صرف تصديقهم سيما في هؤلاء العظماء ففيها أنه إذا

قام الإجماع على تصديق هؤلاء فأية ركاكة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 247

في نقله؟ كما لا ركاكة في نقل الإجماع على فقاهتهم و الإقرار لهم بالعلم كما نقله أيضا.

و دعوى عدم اختصاص هذا الإجماع بهم بعد تسليمها يمكن أن لا يكون عند الكشي ثابتا في غيرهم، هذا مضافا إلى أن لزوم الركاكة في ظاهر لفظ لا يوجب جواز صرفه عن ظاهره و حمله على ما لا تلزم منه الركاكة كائنا ما كان.

و قوله: لو كان المراد ذلك لاكتفى بقوله: «أجمعت العصابة على تصديقهم» فيه أولا أكتفي به في الطبقة الأولى، و من في الطبقتين الأخيرتين ليسوا بأوثق و أورع ممن في الأولى، و من ذلك يمكن أن يقال: إن مراده في الجميع واحد و حيث لم يرد في الأولى إلا تصديقهم و توثيقهم لم يرد في غيرها إلا ذلك، إلا أن يقال: إن الطبقة الأولى لما لم يكن إخبارهم مع الواسطة لم يحتج إلى دعوى الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم، و هو كذلك نوعا، لكن دعوى الإجماع على تصديقهم لو كانت ركيكة كانت بالنسبة إليهم ركيكة أيضا، بل أشد ركاكة.

و ثانيا لنا أن نقول: لو كان المراد من العبارة ما ذكرتم من تصحيح الرواية مع توثيق ما بعده لكان عليه أن يقول: اجتمعت العصابة على وثاقة من نقل عنه واحد من هؤلاء، أو نحو ذلك من العبارات، حتى لا يشتبه الأمر على الناظر، و ما الداعي إلى ذكر تلك العبارات التي هي ظاهرة في خلاف المقصود؟

و ربما يقال: إن بناء فقهاء أصحاب الأئمة عليهم السلام نقل فتواهم بالرواية، فكل ما روى أحد هؤلاء العظماء كان مضمونها فتواه، فكما صح

من أصحاب الإجماع التحديث بالمعنى الذي تقدم صح منهم الفتوى على مضمون حديثه، و مقتضى تصديقهم و تصحيح ما صح عنهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 248

تصديق التحديث و مضمون الحديث جميعا، فيتم المطلوب.

و فيه- بعد تسليم ذلك و بعد الغض عن أن ذلك الإجماع لو ثبت فإنما قام على تصديقهم في النقل لا الفتوى كما هو الظاهر من معقده- أن ما ينتج لإتمام المطلوب إثباته أن كل ما رووا موافق لفتواهم، و هو مقطوع البطلان، ضرورة وجود رواية المتعارضين من شخص واحد في مروياتنا، و رواية ما هو خلاف المذهب أصولا أو فروعا فيها مما لا يمكن مطابقتها لفتواهم.

و أما إثبات كون فتواهم بنحو الرواية فلا ينتج المطلوب، فإذا علمنا أن بعض ما روى ابن أبي عمير مطابق لفتواه لا ينتج ذلك لزوم الأخذ بجميع رواياته، و كذا لو علمنا أن كل ما أفتى به فهو بنحو الرواية، و هذا مغالطة نشأت من إياهم الانعكاس، مع أن في أصل الدعوى أيضا كلاما.

ثم أنهم ذكروا في وجه حجية هذا الإجماع بعد عدم كونه بالمعنى المصطلح أحد الأمرين: الأول اطلاع العصابة على احتفاف جميع الأخبار التي هي منقولة بتوسطهم بقرائن خارجية يوجب الاطلاع عليها العلم بصحة الخبر.

و هذا غير ممكن عادة، ضرورة عدم حصر تلك الأخبار، و عدم إمكان اطلاع جميع العصابة على القرائن الموجبة لكل ناظر في كل واحد من الأخبار التي لا تحصى.

فهذا محمد بن مسلم أحد الجماعة روى عن الكشي عن حريز عنه أنه قال: ما شجرني رأي قط إلا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، و سألت أبا عبد اللّٰه عليه

السلام عن ستة عشر ألف حديث، و الظاهر أن أحاديث زرارة لم تقصر منها لو لم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 249

تكن أزيد، و من المحال اطلاع جميع الأصحاب على جميع ما روى هؤلاء مع اطلاعهم على قرائن موجبة للقطع، بل من المحال عادة احتفاف جميع أخبارهم بالقرائن الكذائية، فهذا ليس وجه إجماعهم و لا ذاك وجه حجيته.

الثاني- اطلاعهم على جميع مشايخ هؤلاء و من يروون عنهم مسندا و مرسلا، و العلم بوثاقة جميعهم، فحكموا بصحة أحاديثهم لأجل صحة سندها إلى المعصوم عليه السلام، هذا وجه إجماعهم.

و منه يظهر وجه حجيته، و هو و إن كان دون الأول في البطلان، لكنه يتلوه فيه، أما أولا فلأن اطلاع جميع العصابة على جميع الأفراد الذين يروي هؤلاء الجماعة عنهم بلا واسطة و مع الواسطة بعيد في الغاية، بل غير ممكن عادة، مع عدم تدوين كتب الحديث و الرجال في تلك الأعصار بنحو يصل الكل إلى الكل، و بعد وصول أخبار البلاد البعيدة بعضها إلى بعض، و تصوير تهيئة الأسباب جميعا لجميعهم مجرد تصور لا يمكن تصديقه.

و أما ثانيا فلأن مشايخ الجماعة و من يروون عنهم لم يكن كلهم ثقات، بل فيهم من كان كاذبا وضاعا ضعيفا لا يعتني برواياته و بكتبه، هذا ابن أبي عمير و هو أشهر الطائفة في هذه الخاصة يروي عن يونس ابن ظبيان الذي قال النجاشي فيه على ما حكي عنه: «ضعيف جدا لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط» و عن ابن الغضائري «أنه غال وضاع للحديث» و عن الفضل في بعض كتبه «الكذابون المشهورون أبو الخطاب و يونس بن ظبيان و يزيد الصائغ» إلخ. و

قد ورد فيه عن أبي الحسن الرضا عليه السلام اللعن البليغ.

و عن عبد اللّٰه بن القاسم الحضرمي الذي قال فيه ابن الغضائري:

«ضعيف غال متهافت» و قال النجاشي «كذاب غال يروي عن الغلاة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 250

لا خير فيه و لا يعتد بروايته» و قريب منه بل أزيد عن الخلاصة.

و عن علي بن أبي حمزة البطائني الذي قال فيه أبو الحسن على بن الحسن بن الفضال على المحكي «علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون قد رويت عنه أحاديث كثيرة و كتبت عنه تفسير القرآن من أوله إلى آخره إلا أني لا أستحل أن أروى عنه حديثا واحدا» نعم عن صاحب المعالم أن ذلك في حق ابنه الحسن بن علي بن أبي حمزة، و عن ابن الغضائري «أنه لعنه اللّٰه أصل الوقف و أشد الخلق عداوة للمولى يعني الرضا عليه السلام، و نقل عنه نفسه قال لي أبو الحسن موسى عليه السلام:

إنما أنت يا علي و أصحابك أشباه الحمير».

و روى الكشي روايات في ذمه: منها ما رواه بسنده عن يونس ابن عبد الرحمن قال: «مات أبو الحسن و ليس من قوّامه أحد إلا و عنده المال الكثير، و كان ذلك سبب وقفهم و جحودهم موته، و كان عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار» و روى بسنده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام حديثا و فيه: «و سمعته يقول في ابن أبي حمزة: أما استبان لكم كذبه؟» إلى غير ذلك.

و الاعتذار بأن رواية ابن أبي عمير عنه كانت قبل وقفه غير مقبول لظهور ما تقدم و غيره في سوء حاله قبل الوقف، و أن

الوقف لأجل حطام الدنيا، و لهذا لم يستحل علي بن الحسن بن الفضال أن يروي عنه رواية واحدة، فلو كان قبل الوقف صحيح الرواية لم يستحل له ترك روايته بناء على كون ذلك في حقه، كما عن ابن طاوس و العلامة، و عمل الطائفة برواياته لا يوجب توثيقه، مع أنه غير مسلم بعد ما نقل عن المشهور عدم العمل بها، تأمل.

و عن أبي جميلة الذي ضعفه النجاشي، و قال ابن الغضائري

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 251

و العلامة: «إنه ضعيف كذاب يصنع الحديث».

و عن علي بن حديد الذي قال الشيخ في محكي الاستبصار: «إنه ضعيف جدا لا يعوّل على ما ينفرد بنقله» و ضعّفه في محكي التهذيب أيضا.

و عن الحسين بن أحمد المنقري الذي ضعّفه الشيخ و النجاشي و العلامة و غيرهم، الى غير ذلك.

و أما نقله عن غير المعتمد و المجهول و المهمل و من ضعّفه المتأخرون أمثال محمد بن ميمون التميمي و هاشم بن حيان فكثير يظهر للمتتبع.

و أما صفوان بن يحيى فقد روى عن علي بن أبي حمزة، و أبي جميلة المفضل بن صالح المتقدمين، و عن محمد بن سنان الذي ضعّفوه، بل عن المفضل أنه من الكذابين المشهورين، و عن عبد اللّٰه بن خداش الذي قال فيه النجاشي: ضعيف جدا، الى غير ذلك.

و أما البزنطي فروى عن أبي جميلة المتقدم، و أحمد بن زياد الخزاز الضعيف، و الحسن بن على بن أبي حمزة الضعيف المطعون، عن ابن الغضائري «أنه واقفي ابن واقفي ضعيف في نفسه، و أبوه أوثق منه» و قال الحسن بن علي بن الفضال: «اني لأستحيي من اللّٰه أن أروي عن الحسن بن علي»

و قد مر أن ما حكي عن ابن الفضال في علي بن أبي حمزة ذهب صاحب المعالم إلى أنه في ابنه الحسن، و حكى الكشي عن بعضهم أن الحسن بن علي بن أبي حمزة كذاب.

و أما الحسن بن محبوب فروى عن أبي الجارود الضعيف جدا، الوارد فيه عن الصادق عليه السلام أنه كذاب مكذب كافر عليه لعنة اللّٰه و عن محمد بن سنان إنه قال: «أبو الجارود لم يمت حتى شرب المسكر و تولى الكافرين».

و عن صالح بن سهل الهمداني الذي قال ابن الغضائري فيه: «إنه غال كذاب وضاع للحديث، روى عن أبي عبد اللّٰه عليه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 252

السلام لا خير فيه و لا في سائر ما رواه، و قد روي أنه قال بألوهية الصادق عليه السلام».

و عن عمرو بن شمر الذي قال فيه النجاشي: «إنه ضعيف جدا زيّد أحاديث في كتب جابر الجعفي» و غيرهم كعبد العزيز العبدي و أبي جميلة و محمد بن سنان و مقاتل بن سليمان من الضعاف و الموصوفين بالوضع، فقد حكي أنه قيل لأبي حنيفة، قدم مقاتل بن سليمان قال:

«إذا يجيئك بكذب كثير» (فويل لمن).

و أما يونس بن عبد الرحمن فقد روى عن صالح بن سهل، و عمرو ابن جميع، أبي جميلة، و محمد بن سنان، و محمد بن مصادف، الى غير ذلك من الضعفاء.

و كذا حال غيرهم كرواية ابن بكير و ابن مسكان عن محمد بن مصادف و جميل، و أبان بن عثمان عن صالح بن الحكم النيلي، الى غير ذلك. و أما روايتهم عن المجاهيل و غير الموثقين فإلى ما شاء اللّٰه.

و مما ذكرنا يظهر الجواب عن دعوى شيخ

الطائفة قال في محكي العدة: «إذا كان أحد الراويين مسندا و الآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، و لأجل ذلك سوت الطائفة بين ما رواه محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون و لا يرسلون إلا ممن يوثق به و بين ما يسنده غيرهم، و لذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم» انتهى. فان هذا الإجماع المدعى معلل، و نحن إذا وجدنا خلاف ما وجدوا أو ادعوا لا يمكننا التعويل على إجماعهم فضلا عن دعواه.

و ما قيل من عدم منافاة خروج فرد أو فردين بالظن بل الاطمئنان

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 253

بالوثاقة مدفوع بأن الخارج كثير سيما مع انضمام المجهول و المهمل الى الضعيف، و معه كيف يمكن حصول الاطمئنان على ذلك، و الظن لو حصل لا يغني من الحق شيئا، هذا مع عدم إحراز اتكال أصحابنا على دعوى إجماع الكشي و لا على إجماع الشيخ.

و قد يقال باتكالهم على إجماع الكشي، فإن شيخ الطائفة قال في أول كتابه المختار من رجال الكشي بهذه العبارة: «فإن هذه الأخبار اختصرتها من كتاب الرجال لأبي عمر و محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، و اخترنا ما فيها» انتهى. بدعوى ظهورها أو صراحتها في أن ما في الكتاب مختاره و مرضية، و أيضا عبارته المتقدمة المحكية عن العدة إشارة إلى الإجماع المذكور، و أيضا نقل الشهيد في الروضة عنه أن العصابة أجمعت على تصحيح ما

يصح عن عبد اللّٰه بن بكير، و أقروا له بالفقه و الثقة.

و فيه أن ما ذكر في أول الرجال لا إشعار فيه بكون ما فيه مختاره لو لم نقل بإشعاره بخلافه، فضلا عن الظهور أو الصراحة فيه، فان الضمير المؤنث في قوله: «ما فيها» يرجع الى الأخبار المذكورة قبله فيظهر منه أن مختاره بعض الأخبار التي اختصرها من كتابه، و إلا لكان عليه أن يقول: و اخترناها أو اخترنا ما فيه، مع أن الاختيار في مقام التصنيف غير الارتضاء و الاختيار بحسب الرأي، كما هو ظاهر بعد التدبر.

ثم أن رجال الكشي على ما يظهر من مختاره و مختصره مشحون بالروايات و الأحاديث، و انما قال الشيخ إن هذه الأخبار اختصرتها من كتابه، و ظاهره الأخبار المصطلحة، فأي ربط لهذا الكلام مع ما ذكر من اختياره لدعاوي الكشي و سائر ما في الكتاب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 254

مع أن الضرورة قائمة بعدم كون جميع ما في الكتاب الذي اختصره من كتاب الكشي مرضيا له، فان فيها روايات الطعن على زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و بريد بن معاوية من مشايخ أصحاب أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام و غيرهم، و فيها الأخبار المتناقضة، فهل يمكن أن تكون تلك الأخبار مختارا له؟ و لو كان كذلك لزم منه هدم إجماع الكشي.

و أما عبارته المتقدمة فمفادها غير مفاد إجماع الكشي على ما تقدم مستقصى مفاده، إلا أن يقال: إنه أتكل على إجماعه و نقله بالمعنى، و أخطأ في فهم المراد منه، و فيه ما فيه، بل الظاهر عدم اعتماده على إجماع الكشي، و قد طعن على عبد اللّٰه

بن بكير بجواز وضعه الرواية و الكذب على زرارة، نصرة لمذهبه في محكي كتاب الطلاق من التهذيب و الاستبصار.

قال بعد ذكر روايته عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في هدم كل طلاق ما قبله إذا تركت الزوجة حتى تخرج العدة و لو كان مائة مرة بهذه العبارة: «هذه الرواية في طريقها ابن بكير، و قد قدمنا أنه قال حين سئل عن هذه المسألة: هذا مما رزق اللّٰه من الرأي، و لو كان سمع ذلك لكان يقول: نعم رواية زرارة، و يجوز أن يكون أسند إلى زرارة نصرة لمذهبه، لما رأى أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه، و قد وقع منه من اعتقاد الفطحية ما هو أعظم من ذلك» انتهى.

و أنت خبير بأن ما ذكره فيه لا يجتمع مع تصديقه إجماع الكشي لما عرفت أن لازم إجماعه وثاقة الجماعة أو مع من بعدهم على زعم بعضهم، و لا يمكن دعوى احتفاف جميع رواياتهم بالقرائن الموجبة للاطمئنان أو القطع بالصدور سوى هذه الرواية من ابن بكير، هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 255

مع ما يأتي من شواهد أخر على عدم اعتماده على إجماعه.

و أما العبارة المحكية عن الروض- فمع عدم وجودها في كتب الشيخ كما قال بعض أهل التتبع، و احتمال أن يكون النقل بالمعنى من العبارة المتقدمة بزعم كونها إشارة إلى إجماع الكشي، أو زعم أن ما في مختصر الكشي مختاره و مرضية، و منه دعوى الإجماع كما زعمها غيره- فلا يمكن الاتكال عليها في نسبة تصديق الإجماع اليه مع وجود الشواهد على خلافه كما مر و يأتي، هذا حال شيخ الطائفة.

و أما النجاشي الذي هو أبو عذرة هذا الفن،

و سابق حلبته، و مقدم على الكل فيه فلم تر منه اشارة ما الى هذا الإجماع، و لم يظهر منه أدنى اتكال عليه، مع شدة حرصه بتوضيح أحوال الرجال، و الفحص عن وثاقتهم، و عنايته بنقل توثيق الثقات، و لو كان هذا الإجماع صالحا للاتكال عليه لما غفل عنه، بل لما خفي عليه إجماعهم مع تضلعه و كثرة اطلاعه و تقدمه عليه في سعة الباع و الإحاطة و قرب عهده منه، فلو ثبت عنده ما ثبت عند الكشي أو كان نقله معتمدا عنده لما صح منه التوقف في أحد من الجماعة و رجالهم، فضلا عن تضعيف بعض رجالهم.

فعدم التعرض لهذا الإجماع و عدم توثيق بعض أصحابه كأبان بن عثمان و عبد اللّٰه بن بكير و تضعيف بعض رجالهم و رميه بالكذب و الوضع كما تقدم منه كاشف قطعي عن عدم ثبوت الإجماع عنده، و عدم اعتنائه بنقل الكشي، لا لعدم اتكاله على الإجماع المنقول بخبر الواحد، بل لوجدان خلافه مع قربه منه، و كان كتاب الكشي موجودا عنده.

قال في ترجمته: «محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو كان ثقة عينا، و روى عن الضعفاء كثيرا- إلى أن قال-: له كتاب الرجال، كثير العلم، و فيه أغلاط كثيرة، أخبرنا أحمد بن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 256

علي بن نوح و غيره عن جعفر بن محمد عنه بكتابه» انتهى. سيما مع تعرضه في ترجمة ابن أبي عمير بسكون الأصحاب إلى مرسلاته.

فلو كان إجماعه ثابتا أو كان متكلا عليه في ابن أبي عمير لأشار إليه في سائر الرجال المشاركين له فيه، قال في ترجمة ابن أبي عمير:

«و كان حبس في أيام

الرشيد- إلى أن قال-: و قيل: إن أخته دفنت كتبه في حال استتاره و كونه في الحبس أربع سنين، فهلكت الكتب و قيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت، فحدّث من حفظه و مما سلف له في أيدي الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون الى مراسيله» انتهى. و هو واضح الدلالة على أن الأمر ليس كما ذكره الكشي أو نسب اليه، بل هذا خاصة ابن أبي عمير عنده، نعم صرف ضياع الكتب ليس موجبا لعملهم على مراسيله لو كان السكون بمعنى العمل و الاعتماد و فيه كلام، بل لا بد من علمهم أو ثقتهم بأنه لا يرسل إلا عن ثقة، و هو يدل على أن مرسلاته فقط مورد اعتماد أصحابنا دون غيرها، بل المتيقن منها ما إذا أسقط الواسطة و رفع الحديث الى الامام عليه السلام لا ما ذكره بلفظ مبهم كرجل أو بعض أصحابنا، و كون المرسلة في تلك الأزمنة أعم غير واضح عندي عجالتا لا بد من الفحص و التحقيق.

فاتضح بما ذكر أن النجاشي لم يكن مباليا بإجماع الكشي، و كان يرى سكون الأصحاب إلى خصوص مرسلات ابن أبي عمير دون مسنداته و لا بمرسلات غيره و مسنداته، و كذا لم يظهر من ابن الغضائري المعاصر لشيخ الطائفة- بل له نحو شيخوخة و تقدم عليه- ادنى اعتماد على ذلك الإجماع، تأمل. و كذا المفيد و غيره ممن هو في عصر الكشي أو قريب منه و قد ضعّف القميون يونس بن عبد الرحمن و طعنوا فيه، و بهذا يظهر المناقشة في دعوى إجماع شيخ الطائفة في عبارته المتقدمة، هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 257

حال تلك الأعصار.

و أما الأعصار

المتأخرة عنها التي اشتهر هذا الإجماع فيها و كلما مضى الزمان قوى الاشتهار فلا حجية في شهرتهم و إجماعهم لا في مثل المسألة و لا في المسائل الفرعية، لعدم شي ء عندهم غير ما عندنا، و مع ذلك إن المحقق اختلفت كلماته، فربما مال الى حجية مرسلات ابن أبي عمير أو قال بها، و ربما صرح بعدمها، فعن موضع من المعتبر قال:

«الجواب الطعن في السند، لمكان الإرسال، و لو قال قائل: مراسيل ابن أبي عمير تعمل بها الأصحاب منعنا ذلك، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه، فإذا أرسل احتمل ان يكون الراوي أحدهم» انتهى.

هذا بالنسبة الى ابن أبي عمير، فما حال مرسلات غيره كصفوان و البزنطي فضلا عن غيرهما.

و عنه في زكاة المستحقين: «إن في ابان بن عثمان ضعفا» و قريب منه عن العلامة و الفخر و المقداد و الشهيد، و عن الشهيد الثاني «ان ظاهر كلام الأصحاب قبول مرسلات ابن أبي عمير لأجل إحرازه أنه لا يرسل إلا عن ثقة، و دون إثباته خرط القتاد، و قد نازعهم صاحب البشرى في ذلك، و منع تلك الدعوى» انتهى، و مع كون العلامة أتكل كثيرا على الإجماع المذكور حكى عنه فخر الدين قال: «سألت والدي عن أبان بن عثمان قال: الأقرب عدم قبول روايته، لقوله تعالى:

إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ الآية، و لا فسق أعظم من عدم الايمان».

و ردّ ابن طاوس رواية ابن بكير، و ضعّفه المحقق و الفاضل المقداد و الشهيد، و طعنوا في روايات هو في سندها لأجله، و يظهر من ابن طاوس نحو تردد في جميل بن دراج، و الاختلاف في الأسدي و المرادي معروف و لم يتعرض النجاشي لمعروف بن خربوذ، و لم يوثقه

الشيخ و العلامة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 258

و قال الثاني: «روى الكشي فيه مدحا و قدحا» و قال ابن داود:

«و ثقته أصح» و هو ظاهر أو مشعر بوجود الخلاف فيه.

و عن ابن داود في بريد بن معاوية مدحه الكشي ثم ذمه، و يقوى عندي أن ذمه انما هو لإطباق العامة على مدحه و الثناء عليه فساء ظن بعض أصحابنا به، و هو ظاهر في أن الذام غير منحصر بالكشي.

هذا حال أصحاب الإجماع، و قد تقدم حال جملة من رجالهم و مشايخهم، و عليك بالفحص في حال سائرهم حتى يتضح لك حال إجماع الكشي و الشيخ، هذا شطر من الكلام في أول ما تشبث به الطباطبائي في إصلاح حال النرسي و كتابه.

و أما ما تشبث به ثانيا من أنه ذو أصل، و هو في اصطلاح المحدثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر إلى آخر ما تقدم منه فهو ينحلّ إلى دعويين أو دعاو ثلاث إن حاول به إصلاح حال النرسي الراوي له.

الأولى: أن الأصل عبارة عن كتاب معتمد لا مطلق الكتاب، و يرد عليها أولا أنه لا مستند له في ذلك من قول متقدمي أصحابنا إلا قول المفيد المتقدم أي انحصار الأصول بالأربعمائة، مع كون الكتب أكثر من ذلك، و أنت خبير بأن مجرد ذلك لا يدل على مطلوبه، بل يدل على أخصية الأصل من الكتاب، فيمكن أن يكون الأصل عبارة عن كتاب جامع لعدة كتب يكون نسبته إليها كنسبة كتاب الشرائع إلى كتاب الطهارة و الصلاة الى الديات، فتكون تلك الكتب متفرعة عن الكتاب الأصل، و عددها أكثر من الأصل بكثير.

و يمكن أن يكون

الأصل كتابا غير مأخوذ من كتاب آخر من غير قيد الاعتماد فيه، و الكتاب أعم منه، و لا دليل على أكثرية الكتب بلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 259

واسطة من أربعمائة، سيما إذا قلنا بأن الأصل عبارة عن مجموع كتب غير مأخوذ من آخر أي أخذنا فيه القيدين، و سيجي ء احتمال أقرب منها فانتظر، و بالجملة دليله أعم.

و ثانيا يظهر من التصفح في كتاب الرجال خلاف ما أفاده، لأن جعل الاصطلاح على فرضه لا يمكن أن يكون لمحض التفنن لغوا و العياذ باللّٰه، سيما من مثل هؤلاء الأعاظم، بل لا بد أن يكون لتميز من تأخر منهم الكتب المعتمدة من غيرها.

فحينئذ كان عليهم التصريح به في كتبهم الموضوعة في الرجال و الحديث، مع عدم نقله منهم و عدم تصريح أو اشارة اليه فيها، و إلا لما اختلفت كلمة المتأخرين في معنى الأصل هذا الاختلاف، و لكان عليهم عدّ جميع الكتب التي بهذه الخاصية أصلا، مع انه خلاف ما نجد في الفهارست و كتب الرجال، لعدم إطلاقهم الأصل على كتب أصحاب الإجماع في جميع الطبقات غير كتاب جميل بن دراج، فان الشيخ قال: «له أصل» و أثبت النجاشي له كتابا و أصلا، و غير أبان بن عثمان، فأثبت الشيخ له أصلا، و قال النجاشي: «له كتاب» و كذا لا يطلقون الأصل على نوع كتب أصحاب الأئمة أكابرهم و غيرهم، و انما أطلق النجاشي على كتب معدودة منهم لعلها لم تتجاوز عن عدد الأصابع.

و الشيخ و إن أطلقه على كتب جمع منهم كثير نسبة لكن نسبته إلى ما لا يطلق عليه بل أطلق الكتاب عليه كنسبة القطرة إلى البحر، فممن لم يذكر

له أصل من كبار أصحاب الأئمة غير من تقدم من أصحاب الإجماع أبو بصير ليث المرادي، و الحسن بن علي بن فضال، و فضالة ابن أيوب، و عثمان بن عيسى- و هؤلاء من أصحاب الإجماع على نقل بعضهم- و جعفر بن بشير، و صفوان الجمال، و عبد الرحمن بن الحجاج،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 260

و عباس بن معروف، و عبد الرحمن بن أبي نجران، و عبد اللّٰه بن سنان، و محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، و علي بن الحسن بن فضال، و محمد الحلبي، و عبيد اللّٰه الحلبي، و عمار بن موسى الساباطي، و علي بن النعمان، و الحسن بن موسى الخشاب، و حريز بن عبد اللّٰه، و سعد بن سعد، و علي بن يقطين، و الصفار، و الحميري، إلى غير ذلك من المشايخ و أصحاب الكتب المتعددة و الأصول المعول عليها ممن يطول ذكرهم، كثعلبة ابن ميمون، و معاوية بن وهب، و معاوية بن عمار، و معاوية بن حكم، و الحسين بن سعيد، و سعد بن عبد اللّٰه و غيرهم، فهل ترى من نفسك أن هؤلاء المشايخ اصطلحوا على أن الأصل الكتاب المعتمد ثم لم يعدوا كتب جميع المشايخ و الأصحاب، مع كونها معتمدة في الأصول إلا نادرا منها فما عذر هذا الإغراء بالجهل؟.

و ثالثا ربما أطلق الأصل على كتب غير معتمدة من قوم ضعاف بتصريح منهم، كالحسن بن صالح بن الحي، قال الشيخ: «إنه زيدي إليه تنسب الصالحية منهم» و عن التهذيب: «إنه زيدي بتري متروك العمل بما يختص بروايته» و مع ذلك قال في الفهرست: «الحسن الرباطي له أصل، و الحسن بن صالح بن الحي له

أصل، و الرباطي أيضا غير موثق، و سعيد الأعرج له أصل» و قال العلامة: «لا حجة في روايته».

و زكريا بن مؤمن عده الشيخ في ترجمة أحمد بن الحسين المفلس من صاحب الأصول، و قال النجاشي: «حكي عنه ما يدل على أنه كان واقفا، و كان مختلط الأمر في حديثه» و قال الشيخ في أحمد بن عمر الحلال «إنه كوفي رديّ الأصل ثقة» و توقف العلامة في قبول روايته لقوله هذا، و الغرض من ذكره أن الأصل لو كان بحسب اصطلاحهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 261

الكتاب المعتمد لم يتوقف العلامة في ذلك، بل كان يحمل ردىّ الأصل على محامل أخر.

و أثبت الشيخ الأصل لجماعة أخر من الضعاف أو غير الموثقين، كعلي بن أبي حمزة، و سفيان بن صالح، و علي بن بزرج، و شهاب بن عبد ربه، و عبد اللّٰه بن سليمان، و سعدان بن مسلم، و زيد الزراد، و زيد النرسي، و إبراهيم بن عمر اليماني، و إبراهيم بن يحيى الى غير ذلك ممن يطلع عليه المتتبع.

فهل تكون كتب تلك الجماعة المتقدمة غير معتبرة عندهم دون هذه الجماعة من الضعفاء و المردودين، أو اصطلحوا على أمر و خالفوه في غالب الموارد؟ اللهم لا، و لكن ..

و أيضا بعض تعابيرهم تشعر أو تدل على خلاف هذه الدعوى، كقول الشيخ في الساباطي: «له أصل، و كان فطحيا إلا أنه ثقة و أصله معتمد عليه» و كالمحكي عن الشيخ البهائي في مشرق الشمسين في الأمور الموجبة لحكم القدماء بصحة الحديث: «منها وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة المشهورة، أو تكرره في أصل أو أصلين، منها بأسانيد مختلفة متعددة أو وجوده في أصل

رجل واحد من أصحاب الإجماع» انتهى.

و لو كان الأصل هو الكتاب المعتمد عليه لكان وجوده في أصل واحد من أيّ شخص موجبا للحكم بالصحة، و إن كان في كلام البهائي كلام من جهة أخرى.

و كالمحكي عن رواشح المحقق الداماد: «و ليعلم ان الأخذ من الأصول المصححة المعتمدة أحد أركان تصحيح الرواية» و أنت خبير بأن التقييد بالمصححة المعتمدة مع كون الأصل الكتاب المعتمد بشيع مخل بالمقصود.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 262

الدعوى الثانية: أن الأصل هو الكتاب الذي لم ينتزع من كتاب، و فيها- مضافا الى أنه على فرض صحتها لا تنتج المدعى إلا مع ضم الدعوى الأولى إليها، و قد عرفت ما فيها- أولا انها مجرد دعوى خالية عن البينة، و كون كتب أصحابنا أكثر من الأصول المنحصرة بالاربعمائة أعم من مدعاه، كما مر في دعواه الاولى.

و قد يقال: إن الأصل بمعناه اللغوي، و هو مقابل الفرع، فان الكتاب مأخوذا من كتاب آخر يكون ذلك فرع ما أخذ منه و هو أصله و فيه- مضافا الى أنه أيضا دعوى بلا بينة، و التمسك بأصالة عدم النقل كما ترى- انه أعم من المدعى لصحة أن يقال لكتاب كبير مشتمل على كتب كثيرة ككتاب الشرائع المشتمل على عدة كتب: إن هذه فروع و ذاك أصل.

بل يصح إطلاق الأصل حقيقة على كتاب مشتمل على أخبار أصول الدين و المذهب، ككتاب التوحيد و الإمامة مقابل كتب الفروع، كما يصح إطلاق الأصل أو الأصول على مطلق كتب الأخبار في مقابل كتب الفروع المستنبطة منها كالكتب الفقهية كما يظهر من البهائي.

و ثانيا ان المحدثين أطلقوا الأصل على كتاب منتزع من كتب أخر قال الشيخ البهائي في

الوجيزة بعد ذكر الأصول الأربعمائة: «ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر اللّٰه سعيهم بجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مبسوطة مبوّبة و أصولا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة سلام اللّٰه عليهم، كالكافي و كتاب من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار و مدينة العلم و الخصال و الأمالي و عيون اخبار الرضا و غيرها، و لأصول الأربعة الأول هي التي عليها المدار في هذه الأعصار- الى أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 263

قال-: فجمعت في كتاب حبل المتين خلاصة ما تضمنه الأصول الأربعة من الأحاديث الصحاح و الحسان و الموثقات التي منها تستنبط أمهات الأحكام الفقهية، و إليها ترد مهمات المطالب الفرعية» انتهى.

و ظاهر ان الأصول عبارة عن كتاب الاخبار مطلقا مقابل الفروع التي هي الكتب المشتملة على ما يستنبط منها مثل الكتب الفقهية، و قد تكرر من المحدث الكاشاني إطلاق الأصول على الكتب الأربعة في مقدمات الوافي، و قال المحدث المجلسي في أول مرآة العقول: «أن الكافي أضبط الأصول و أجمعها» و عن السيد الجزائري ان هذه الأصول الأربعة لم تستوف الاحكام.

و قال شيخ الطائفة في ترجمة أحمد بن محمد بن زيد: إنه لم يرو عنهم، و قال: روى عنه حميد أصولا كثيرة، و عدّ احمد بن محمد ابن عمار في باب من لم يرو عنهم، و مع ذلك قال في الفهرست: إنه كثير الحديث و الأصول، و صنف كتبا، و عن الحسين بن عبيد اللّٰه انه مات سنة ست و أربعين و ثلاثمائة، و عدّ علي بن بزرج ممن لم يرو عنهم، و قال: روى

عنه حميد كتاب كثيرة من الأصول.

و من البعيد جدا لو لم نقل مقطوع الخلاف ان تكون تلك الأصول الكثيرة من الجماعة روايات بلا واسطة، أو مع الواسطة سماعا لا من كتاب مدوّن قبلهم، مع شدة حرص أصحابنا بضبط أخبار الأئمة عليهم السلام و كتابتها.

و احتمال ان لا تكون تلك الأصول من الجماعة بل من غيرهم في غاية البعد، بل كخلاف الصريح في مثل قوله كثير الحديث و الأصول مضافا إلى ان عدم إنهاء الكتب و الأصول إلى صاحبها و الرواية عن الواسطة خلاف المعهود بينهم و المتعارف كما لا يخفى، و عليه يمكن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 264

الاستدلال لضد مطلوبهم بكل من كان كذلك، كأحمد بن نهيك، و علي ابن إبراهيم الخياط، و غيرهما ممن لم يرووا عنهم و روي عنهم أصول أو أصل.

فتحصل من جميع ما تقدم عدم وجاهة دعوييه بل دعاويه الثلاث لو حاول إثبات وثاقة النرسي أو حسنه.

ثم بعد ما لم يثبت كون الأصل في اصطلاح متقدمي أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد المعول عليه أو ثبت خلافه لا نتيجة معتد بها في التحقيق عن مرادهم من كون الرجل ذا أصل أو له أصول.

لكن لما بلغ الكلام إلى هذا المجال لا بأس بالإشارة إلى احتمالين منقدحين في ذهن القاصر: أحدهما الذي انقدح في ذهني لأجل بعض التعبيرات و القرائن انه عبارة عن كتاب معدّ لتدوين ما هو مرتبط بأصول الدين أو المذهب، كالامامة و العصمة و البداء و الرجعة و بطلان الجبر و التفويض إلى غير ذلك من المطالب الكثيرة الأصلية التي كان التصنيف فيها متعارفا في تلك الأزمنة، كما يظهر من الفهارس و التراجم، و الكتاب أعم

منه.

و الذي اوقعني في هذا الاحتمال إثباتهم الأصل لكثير من أصحابنا المتكلمين كهشام بن الحكم، و هشام بن سالم. و جميل بن دراج، و سعيد ابن غزوان الذي يظهر من ترجمته انه أيضا منهم، روى الكشي بإسناده عن جعفر بن الحكيم الخثعمي قال: «اجتمع هشام بن سالم و هشام ابن الحكم و جميل بن دراج و عبد الرحمن بن الحجاج و محمد بن حمران و سعيد بن غزوان و نحو من خمسة عشر رجلا من أصحابنا فسألوا هشام ابن الحكم ان يناظر هشام بن سالم فيما اختلفوا فيه من التوحيد و صفة اللّٰه عزّ و جل لينظروا أيهما أقوى» و يؤيد هذا الاحتمال قول الشيخ في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 265

الفهرست في ترجمة أبي منصور الصرام: «إنه من جملة المتكلمين من أهل نيسابور، و كان رئيسا مقدما، و له كتب كثيرة: منها كتاب في الأصول سماه بيان الدين».

و قال في ترجمة هشام بن الحكم: «له مباحث كثيرة مع المخالفين في الأصول و غيرها، و له أصل» و عن منتجب الدين في ترجمة أبي الخير بركة بن محمد «إنه فقيه ديّن، قرأ على شيخنا أبي جعفر الطوسي، و له كتاب حقائق الايمان في الأصول، و كتاب الحجج في الإمامة» الى غير ذلك من التعبيرات.

ثم عدلت عن هذا الاحتمال، و قوي في نفسي احتمال آخر لعل المنصف يجزم به بعد الفحص الأكيد، و هو أن لأصحابنا كما يظهر من كلماتهم تعبيرات عن مؤلفات أصحاب الكتب، فقد يعبر عنها بالكتاب فيقال: لفلان كتاب أوله كتب، و هو أكثر تداولا و إطلاقا، و قد يعبر بالأصل، فيقال: له أصل أوله أصول كما مر،

و هو أقل تداولا.

و قد يعبّر بالمصنف، فيقال: له مصنفات أوله من المصنفات كتاب كذا، و قد يعبر بالنوادر، و قد يقال: له روايات أو أخبار، كما أن لأصحاب الأئمة عليهم السلام و من بعدهم و غيرهم كتبا مختلفة، فربما كان الكتاب ممحضا في نقل الرواية لا غيرها، و ربما كان لمقصد آخر كالتاريخ و الأدب و الرجال و التفسير و إثبات المعراج و الرجعة و البداء الى غير ذلك مما شاع تصنيفها في تلك الأعصار، كما يظهر بأدنى مراجعة إلى تراجمهم، و تلك المصنفات و إن عملت لأجل إثبات مقصد لكنها كانت مشحونة بالآيات و الروايات، و كان مصنفوها استشهدوا بها كثيرا.

إذا عرفت ذلك نقول: إن الظاهر المقطوع به أن الكتاب أعم من المصنفات و الأصول، و هما قسمان منه، و كل قسيم الآخر، و الظاهر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 266

أن الأصل عبارة عن كتاب المعمول لنقل الحديث، سواء كان مسموعا عن الامام عليه السلام بلا واسطة أو معها، و سواء كان مأخوذا من كتاب و أصل آخر أو لا، و لا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر.

و المصنف عبارة عن كتاب معمول لأجل مقصد مما تقدم، و إن أطلق أحيانا على مطلق الكتاب، و الشاهد على ما ذكرناه ما عن الشيخ في الفهرست قال: «إني رأيت جماعة من أصحابنا من شيوخ طائفتنا من أصحاب التصانيف عملوا فهرست كتب أصحابنا و ما صنفوه من التصانيف، و رووه من الأصول، فلم أجد أحدا استوفى ذلك إلا أحمد ابن الحسين الغضائري، فإنه عمل كتابين أحدهما ذكر فيه المصنفات، و الآخر فيه الأصول» انتهى.

و هذا كما

ترى ظاهر الدلالة في أن الكتاب أعم من التصانيف و الأصول، و هما مقابلان، بل يمكن أن يقال: إن ظاهر قوله:

«ما صنفوه من التصانيف و رووه من الأصول» إن كلمة «من» في الفقرتين بيانية، فتدل على أن مطلق كتب الرواية أصل.

و يشهد له أيضا ما قال في ترجمة أبان بن عثمان: «و ما عرفت من مصنفاته إلا كتابه الذي يجمع المبدء و المبعث و المغازي و الوفاة و السقيفة و الردة» ثم ذكر طرقه اليه ثم أنهى طريقه الى أصل له الى محسن بن أحمد و ابن أبي نصر.

ترى كيف جعل المعروف من مصنفاته منحصرا في كتابه الكذائي، و أثبت له أصلا و أنهى طريقه اليه، و فيه شهادة على مقابلة التصنيف بالأصل، و على سنخ الكتب المصنفة، و عنه في ترجمة هشام بن الحكم:

«كانت له مباحث كثيرة مع المخالفين في الأصول و غيرها، و كان له

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 267

أصل أخبرنا به جماعة- الى أن قال- و له من المصنفات كتب كثيرة» ثم عدّ ثمانية و عشرين كتابا، انتهى.

و مع الأسف ليس عندي فهرست الشيخ حتى أنظر في تلك الكتب و انما أنقل عنه بواسطة، و على أيّ حال يظهر منه مقابلة المصنف بالأصول، و عنه في ترجمة أحمد بن محمد بن عمار أنه كثير الحديث و الأصول، و صنف كتبا: منها كتاب أخبار آل النبي و فضائلهم و ايمان أبي طالب عليه السلام، و كتاب المبيضة، و هي على ما حكي الفرقة المخالفة لبني العباس في البيعة و الرأي، و عدّ النجاشي من كتبه كتاب الفلك، و كتاب الممدوحين و المذمومين، و يظهر منه مضافا الى

التقابل بين المصنف و الأصل سنخ المصنفات.

و عن المفيد بعد ذكر جماعة من الأصحاب قال: «هم أصحاب الأصول المدونة و المصنفات المشهورة» و قال الشيخ الصدوق في الفقيه بعد ذكر جملة من الكتب: «و رسالة أبي رضي اللّٰه عنه اليّ و غيرها من الأصول و المصنفات» و قال النجاشي في ترجمة أحمد بن عبيد اللّٰه ابن يحيى: «ذكره أصحابنا في المصنفين، و أن له كتابا يصف فيه سيدنا أبا محمد عليه السلام الى غير ذلك، فاتضح مما مر مقابلة التصنيف بالأصل.

ثم أنك لو تصفحت مليا تجد أن التصنيف يطلق غالبا في لسانهم على الكتاب الذي عمل لمقصد غير جمع الأخبار، و إن ذكرت فيه استشهادا بها مثل بيان الفروع، ككتاب علي بن الحسين الى ابنه، أو لغير ذلك، كالرجال و الطب و النجوم و ما يرتبط بأصول المذهب و نحوها فالكتاب أعم من الصنفين.

ثم لا يبعد أن يقال: إن سرّ عدم إطلاق الأصل على كتب من

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 268

في الطبقة الأولى من أصحاب الإجماع و أضرابهم إلا ما استثنى عدم كونهم من المصنفين، و تعارف التصنيف في الطبقات المتأخرة عنهم، و انما أطلق على كتاب أبان بن عثمان لكونه ذا تصنيف، مضافا الى أنه ذو أصل و كذا يظهر من ترجمة جميل بن دراج أن له أصلا و له كتابا هذه جملة حول الأصل و الكتاب، و قد اتضح عدم دلالة قولهم:

إن له أصلا على الاعتماد به أو بصاحبه فضلا عن قولهم: له كتاب.

و أما ما تشبث به ثالثا لإصلاح حال زيد بعدم طعن ابن الغضائري عليه ففيه ما لا يخفى، أما تغليطه الشيخ الصدوق فهو غير

مرتبط بوثاقة النرسي أو صحة أصله، بل غايته أنه غير مجعول و لم يكذب محمد بن موسى الهمداني علي زيد النرسي، ففي الحقيقة هو دفاع عن الهمداني، و أما سكوته فلا يدل على شي ء، و لعله لم يطلع على طعن فيه، و كان عنده من المجاهيل، و هو لا يكفي في الاعتماد عليه.

و أما ما تشبث به رابعا من عدم خلو الكتب الأربعة من أخبار أصل النرسي، فهو عجيب منه، فإنه لو لا هذا الأمر في سلب الوثوق عن أصله لكان كافيا، لأن اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصله على حديثين أو ثلاث أحاديث دليل على عدم اعتمادهم بأصله من حيث هو أصله أو من حيث رواية ابن أبي عمير عنه، فكانت لما نقلوا منه خصوصية خارجية، و إلا فلأي علة تركوا جميع أصله و اقتصروا على روايتين منه، مع كون الأصل عندهم و بمرئي و منظرهم.

بل لو ثبت ان كتابا كان عندهم فتركوا الرواية عنه إلا واحدا أو اثنين مثلا صار ذلك موجبا لعدم الاكتفاء بتوثيق أصحاب الرجال صاحبه في جواز الأخذ بالكتاب، و هذا واضح جدا، و موجب لرفع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 269

اليد عن كتاب النرسي جزما، بل تركهم الرواية عنه مع كون الراوي عنه ابن أبي عمير دليل على عدم تمامية ما قيل في شأن ابن أبي عمير من انه لا يروي إلا عن ثقة، تأمل.

و بما ذكرنا في حال أصل النرسي يظهر الكلام في أصل زيد الزراد فإنهما مشتركان غالبا فيما ذكر، هذا كله مع عدم وصول النسخة التي عند المحدث المجلسي اليه بسند يمكن الاتكال عليه، لجهالة منصور بن الحسن الآبي الذي كانت

النسخة بخطه مؤرخة بأربع و سبعين و ثلاثمائة و هو غير منصور بن الحسين الآبي الذي ترجمه منتجب الدين، و قال:

«فاضل عالم فقيه، و له نظم حسن، قرأ على شيخنا المحقق أبي جعفر الطوسي» انتهى، لتأخره عن كتابة النسخة عصرا بناء على ما ترجمه، و إن صرح بعض بأنه معاصر الصاحب بن عباد، مضافا إلى اختلافهما في الأب. هذا مع عدم ثبوت وثاقة الثاني أيضا، و عدم كفاية ما قال منتجب الدين فيها، هذا مع ما حكي من اشتمال أصله على المناكير و ما يخالف المذهب، تأمل.

أضف الى كل ذلك ان الرواية مغشوشة المتن، فإن المحكي عن جملة من المشايخ كسليمان بن عبد اللّٰه البحراني رحمه اللّٰه و الوحيد البهبهاني و صاحب البرهان و الموجود في الحدائق و الجواهر و طهارة شيخنا الأعظم نقلها بغير المتن الذي نقله المجلسي، و تبعه جملة أخرى من المشايخ.

و العجب من بعض أهل التتبع حيث رأى صراحة الرواية بذلك المتن على خلاف مدعاه الذي قد فرغنا عن فساده أخذ في الاشكال بل الطعن على أكابر المشايخ، فقال: «هذا الذي اتفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكر مثله، و الاستعاذة باللّٰه العاصم عن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 270

الوقوع في شبهه» ثم نقل الرواية على طبق رواية المجلسي من النسخة المتقدمة، و قد سبقه على تذكر هذا الاختلاف المحدث النوري في مستدركة.

ثم ذكر موارد الاختلاف بين المتنين مسميا لما يخالف مذهبه بالتصحيف و الزيادة الباطلة، ثم قال: «و الذي نقلناه مطابق لجميع نسخ أصل زيد المصححة الموجودة في عصرنا المنتشرة في بلاد مختلفة».

ثم قال بعد كلام: و أول من عثرت عليه ممن وقع

في تلك الورطة الموحشة و الهوة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني، فتبعه من تبعه ممن لا يراجع إلى أصل زيد و لا البحار كالذين سميناهم أولا، و سلم منه من راجعه أو البحار كالذين سميناهم أخيرا، ثم ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام تتميما لإشكاله و طعنه».

أقول: لأحد أن يسترجع عند تذكر مثله من مثله من إطالة اللسان على هؤلاء الأكابر من غير دليل وثيق على خطائهم، فان الشيخ الأجل أبا الحسن سليمان بن عبد اللّٰه البحراني كما يظهر من ترجمته و شهدت له الأكابر كان زميلا للمحدث المجلسي و عديلا له عصرا و ثقة و حفظا و إحاطة و علما و خبرا.

فعن المولى الوحيد طه: «العالم العامل و الفاضل الكامل المحقق المدقق الفقيه النبيه نادرة العصر و الزمان المحقق الشيخ سليمان» و عن تلميذه- أي تلميذ الشيخ سليمان- الشيخ عبد اللّٰه بن صالح في إجازاته:

«كان هذا الشيخ أعجوبة في الحفظ و الدقة و سرعة الانتقال في الجواب و المناظرة و طلاقة اللسان لم أر مثله قط، و كان ثقة في النقل ضابطا، إماما في عصره، وحيدا في دهره، أذعنت له جميع العلماء، و أقرت بفضله جميع الحكماء، و كان جامعا لجميع العلوم، علامة في جميع الفنون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 271

حسن التقرير، عجيب التحرير، خطيبا شاعرا، مفوها، و كان أيضا في غاية الانصاف، و كان أعظم علومه الحديث و الرجال و التواريخ» انتهى.

و قريب منهما عن صاحب الحدائق مع ذكر تاريخ وفاته، و هو سنة سبع و ثلاثين و مائة و ألف.

فكان هذا الشيخ معاصرا للمولى المجلسي، و هو يروي هذا الحديث على

ما حكي بمتن روى صاحب الحدائق و غيره، و كيف يمكن تغليطه و نسبة التصحيف و الخطأ إليه بمجرد مخالفة حديثه نسخة المحدث المجلسي.

و هل هذا إلا مثل تغليط المجلسي في رواية روى بعض معاصريه على خلافه و لو من نسخة عتيقة أو غيرها، مع احتمال كون ما روى من نسخة غيرها، سيما مثل هذا الشيخ الذي كان عمدة علومه الحديث و الرجال، كيف يمكن منه رواية حديث و الاستناد إليه من غير اسناد إلى كتاب و نسخة أصل، بل المحدث صاحب الحدائق أيضا مثله في ذلك، و شأن الوحيد البهبهاني و تقدمه في العلوم معلوم لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه، نعم لا يبعد عن صاحب الجواهر و شيخنا المرتضى نقل رواية اتكالا على نقل صاحب الحدائق.

و ليت شعري كيف لغير العالم بالغيب الاطلاع على جميع نسخ كتاب، سيما مثل أصل النرسي حتى يحكم بخطإ هؤلاء الأكابر، و العجب أنه ادعى أن ما نقلناه مطابق لجميع نسخ أصل زيد، إلخ. لا لأن الاطلاع على جميعها بل غالبها غير ممكن سيما لمن لم يخرج من سور بلد، و هل هذه الدعوى إلا من سذوجة النفس و صفاء الضمير، حيث رأي أو سمع كون بعض النسخ كذلك فجزم بمطابقته لجميع النسخ المتفرقة في البلاد.

بل لأن الآلاف من النسخ المصححة إذا انتهت الى نسخة المجلسي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 272

لا تفيد شيئا إلا الجزم بأنها موافقة لما في البحار و عند المجلسي، و أنها فيه بعين هذه الألفاظ، و لا يكشف منها عدم نسخة أخرى عند الشيخ سليمان و غيره، هذا مضافا إلى اختلاف بعض ما حكي عن أصل زيد في

الكافي مع ما هو الموجود عند المجلسي، و هو دليل على اختلاف في النسخ فراجع.

فاتضح من جميع ذلك عدم إمكان الاتكال على أصلي زيدين و ما هو من قبيلهما، و أما مع الغض عنه فالإنصاف أن الخدشة في دلالتها في غير محلها، لظهورها صدرا و ذيلا في حرمة عصير الزبيب إذا غلى بالنار أو بنفسه.

و ما يقال من أن التعبير في ذيلها عن الحكم بالفساد دون التحريم لا يبعد أن يكون الوجه فيه أنه بعد إصابة النار صار معرضا لطروّ الفساد و الإسكار لا لحرمته لا ينبغي الإصغاء إليه، لأن مجرد الاحتمال لا يوجب جواز رفع اليد عن الظاهر المتفاهم عرفا، و إطلاق الفاسد على ما يكون معرضا للإسكار على فرض تسليم دعوى أن إصابة النار توجب تسريع الإسكار و المعرضية له مجازا لا يصار إليه بلا وجه، و لم يظهر و لو إشعارا التفكيك بين ما غلى بنفسه و غيره، بل ظاهرها عدم التفكيك، كما لا يخفى فالعمدة ما مر.

ثم أنه قد يتمسك للتحريم بوجوه مخدوشة كعموم قوله عليه السلام:

«كل عصير أصابته النار فهو حرام» إلخ «1»، و فيه ما مر في أوائل البحث من أن العصير في الروايات هو العنبي منه لا غير، مضافا إلى أن مطلق العصير لا يكون موضوعا للحكم بالضرورة، و لو كان المدعى الأخذ بالعموم بعد خروج ما خرج منه، ففيه أنه من تخصيص الأكثر

______________________________

(1) تقدم في ص 203.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 273

البشيع، فلا بد أن يحمل على عصير معهود، و المتيقن هو العنبي و غيره مشكوك فيه.

مع أن العصير بنفسه ليس موضوع الحكم، فلا محيص عن أن يقال: إن الموضوع عصير

العنب و نحوه، و من الواضح أنه ليس للزبيب و التمر بلا نقع في الماء عصير، و معه يجذب الماء الخارجي، و هو ليس عصير الزبيب، فان المتفاهم من عصير شي ء هو عصيرة بالذات لا بمداخلة شي ء أجنبي فيه و إخراجه منه.

نعم لو دل دليل على أن عصير الزبيب أو التمر إذا غلى يحرم لا يكون بدّ إلا بالحمل على الماء الخارجي المعصور منه بعد نقعه فيه، و هو مفقود، و إطلاق العصير لا يحمل إلا على ما بنفسه عصير الشي ء، فالعصير منحصر بالعنب أو ما يشبهه، مضافا إلى أن الزبيب المنقوع في الماء لا يجذب من الماء ما يمكن أن يعصر منه شي ء معتدّ به، بل دائما يكون المعصور منه مستهلكا في الماء المصبوب فيه، فلا يطلق على المجموع العصير.

و كالروايات الواردة في خصوص الزبيب كمرسلة الساباطي أو موثقته قال: «وصف لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا» إلخ «1» و موثقته عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سئل عن الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟» إلخ «2» فذكر فيهما كيفية طبخه، و أمر بالإغلاء حتى يذهب الثلثان.

و فيه أن الرواية الأولى و إن كانت ظاهرة في أن المفروض لدى الساباطي أن المغلي من الزبيب حرام إلى غاية، و يصير حلالا بما وصف

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3 و فيه: «كيف يحل طبخه».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 274

أبو عبد اللّٰه عليه السلام، لكن لم يظهر منها أن أبا عبد اللّٰه عليه السلام أفتى بحرمته و صيرورته حلالا بالتثليث، بل فيها

توصيف أبي عبد اللّٰه عليه السلام طبخه من غير ذكر الحرمة و الحلية، و لعل الساباطي توهم من ذكر التثليث أن الغليان موجب للحرمة، و التثليث لرفعها، قياسا على عصير العنب المعهود فيه ذلك، مع أنها مرددة بين المرسلة و الموثقة و لا اعتماد عليها.

و الثانية و إن كانت موثقة لكن لا ظهور فيها في المدعى، للفرق الظاهر بين قوله: «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» و بين قوله:

«كيف طبخه حتى يشرب حلالا» لأن المتعارف في طبخ الزبيبة مع تلك التفصيلات و التشريفات المذكورة في الروايتين طبخ مقدار كثير حتى بقي عدة أيام كثيرة، بل إلى شهور أو سنة أو أزيد كما قال في رواية علي بن جعفر الآتية، فيشرب منه السنة، فإذا لم يذهب الثلثان لا يبعد أن يعرض عليه الفساد و الإسكار إذا طال بقاؤه، سيما في تلك الآفاق، فإذا أريد أن يشرب ذاك المشروب حلالا من غير عروض الإسكار عليه لا بد من طبخه حتى يذهب ثلثاه، فيشرب حلالا الى آخر أمده.

و الانصاف أن هذا الاحتمال لو لم يكن ظاهرا فيها فلا أقل من عدم مرجوحيته بالنسبة إلى احتمال آخر يوافق دعوى المدعي، و يشهد لرجحانه بل تعينه ذيل رواية إسماعيل الهاشمي حيث قال بعد وصف النبيذ: «و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء اللّٰه» «1» و لعل

______________________________

(1) الظاهر أنه من كلام السائل لا الامام عليه السلام و إليك نص الرواية: قال: «شكوت الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام قراقر تصيبني في معدتي و قلة استمرائي الطعام، فقال لي: لم لا تتخذ نبيذا؟

- الى أن قال-: فقلت له: صفه لي جعلت فداك، قال: تأخذ صاعا من زبيب فتنقيه من

حبّه و ما فيه، ثم تغسل بالماء غسلا جيدا ثم تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره، ثم تتركه في الشتاء ثلاثة أيام بلياليها و في الصيف يوما و ليلة، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفيته و أخذت صفوته و جعلته في إناء و أخذت مقداره بعود، ثم طبخته طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه- إلى أن قال-: فإذا برد صفيت و أخذت منه على غذائك و عشائك، قال: ففعلت فذهب عني ما كنت أجده، و هو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي إن شاء اللّٰه» راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 275

الطيب مقابل الخبيث الذي أطلق على الخمر و المسكر.

و كذا تشهد له صحيحة علي بن جعفر- بناء على وثاقة سهل بن زياد كما هو الأصح- عن أخيه موسى أبي الحسن عليه السلام قال:

«سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه، ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثم يرفع فيشرب منه السنة، فقال: لا بأس به» «1».

فان الظاهر أن علي بن جعفر لم يكن شكه إلا في أن ماء الزبيب المطبوخ كذلك إذا بقي سنة يحل شربه أو يعرضه الفساد و الإسكار، و إلا فحليته بعد ذهاب الثلثين كانت واضحة، فتصير شاهدة لسائر الروايات أيضا.

و بما ذكرناه يظهر ضعف الاستدلال بها على حرمة عصير الزبيب قبل التثليث بتوهم دلالتها على معهوديتها، و ذلك بما عرفت من أن السؤال لم يكن عن حليته بالتثليث، بل عن بقائه حلالا الى آخر السنة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام

الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 276

لاحتمال عروض الفساد عليه، هذا مضافا الى أن غاية ما تدل عليه هذه الصحيحة بل سائر الروايات معهودية التثليث، و أما كونه لرفع الحرمة فلا، و الظاهر أن تعارفه لأجل عدم عروض الفساد و الإسكار عليه.

و يشهد لذلك مضافا الى ما تقدم ورود التثليث في السفرجل و العسل في رواية خليلان بن هاشم قال: «كتبت الى أبي الحسن عليه السلام جعلت فداك عندنا شراب يسمى الميبة، نعمد الى السفرجل فنقشره و نلقيه في النار، ثم نعمد الى العصير فنطبخه على الثلث، ثم ندقّ ذلك السفرجل و نأخذ ماءه و نعمد الى هذا المثلث و هذا السفرجل فنلقي فيه المسك و الأفاوي و الزعفران و العسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه أ يحل شربه؟ فكتب: لا بأس به ما لم يتغير» «1» مع وضوح عدم حرمة عصير السفرجل و العسل بالغليان بالنار، و وروده في دستور الطبيب أيضا في رواية إسحاق بن عمار «2»، و ليس ذلك ظاهرا إلا لعدم عروض الفساد أو الإسكار عليه بطول المدة.

و ربما يتمسك للحرمة بالروايات الحاكية لمشاجرة إبليس لعنه اللّٰه آدم و نوحا عليهما السلام «3» بدعوى إعطائهما إبليس من ثمرة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(2) قال: «شكوت الى أبي عبد اللّٰه عليه السلام بعض الوجع و قلت له: إن الطبيب وصف لي شرابا آخذ الزبيب و أصبّ عليه الماء للواحد اثنين، ثم أصبّ عليه العسل، ثم أطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث، قال: أ ليس حلوا؟ قلت: بلى، قال: اشربه و لم أخبره كم العسل» راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث

5.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 2- من أبواب الأشربة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 277

الحبلة الثلثين.

و فيه ما لا يخفى، فإن الأخذ بظاهر تلك الروايات مستلزم لمالكية إبليس ثلثي جميع شجرة الكرم كما هو مقتضى بعضها، و لزوم تثليث ماء العنب باغلائه و إخراج حظ إبليس و عدم جواز شربه قبل غليانه، و هو كما ترى، فلا بد من حملها على بيان سرّ حرمة الخمر أو عصير العنب المغلي كما هو المتيقن منها، بل الظاهر من بعضها، و بعبارة أخرى لا يستفاد الإطلاق من هذه الروايات التي هي بصدد بيان سرّ مخفي و حكمة غير معقولة لنا لحرمة شي ء معهود، كما لا يخفى.

و أضعف منه التمسك بموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث: «أنه سأل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، قال: إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب» «1» و نحوها رواية علي بن جعفر عن أخيه «2» لأنها بصدد بيان حكم آخر، فلا إطلاق فيها «3» فتحصل من جميع ذلك حلية عصير الزبيب المغلي و طهارته.

و أما العصير التمري فأولى بهما، لفقد الأصل الذي تمسك به للزبيبي، و عدم دليل على حرمته عدا ما عن دعائم الإسلام عن جعفر ابن محمد عليه السلام أنه قال: «الحلال من النبيذ أن تنبذه و تشربه من يومه و من الغد، فإذا تغير فلا تشربه، و نحن نشربه حلوا قبل أن يغلي» «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(3) مع إمكان دعوى أن الشراب لم يشمل لغير المتخذ من العنب

(4) المستدرك- الباب-

2- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 278

و فيه- مضافا الى ضعف سنده و إرساله، و نقل الإجماع على خلافه و معارضته بما يأتي- أن المراد بالتغير يمكن أن يكون الإسكار لا مطلق التغير أو الغليان، و يمكن الاستشهاد عليه بقوله عليه السلام: «نحن نشربه» إلخ، حيث يشعر بأن عدم الشرب قبل الغليان ليس حكما إلزاميا على الناس، بل أهل البيت عليهم السلام كانوا لا يشربونه.

و نحو هذا التعبير غير عزيز في الروايات، كرواية زرارة قال:

«قلت: في مسح الخفين تقية؟ فقال: ثلاث لا أتقي فيهن أحدا:

شرب المسكر، و مسح الخفين، و متعة الحج، قال زرارة: و لم يقل:

الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا» «1» و ورد نظيره في إتيان أدبار النساء إلى غير ذلك، فحينئذ يكون التغير مقابلا للغليان، فيرجع إلى الاستحالة و صيرورته خمرا و مسكرا، تأمل.

و لا على نجاسته إلا بعض الروايات الشاذة المشعرة بها، كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث «انه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله حتى يذهب ثلثا ماء التمر» «2» و موثقته الأخرى عنه عليه السلام قال:

«سألته عن النضوح، قال: يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه، ثم يمتشطن» «3» مما يجب طرحها على فرض دلالتها، لقيام الشهرة على طهارته، بل حكى شيخنا المرتضى الأنصاري خمسة إجماعات عليها و لو ضم إليها ما حكي على حليته المستلزم للطهارة لزاد عددها.

مع ما في دلالتهما من الإشكال، أما الثانية فواضح، و أما الأولى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب الوضوء- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب الأشربة

المحرمة- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 279

فبعد القطع بأن المراد من الحلية ليس حلية الشرب لكونه من الطيب، بل إما حلية الاستعمال تكليفا أو حلية الصلاة فيه وضعا أن الوصف بالمعتق مشعر أو دال على أن المراد أنه كيف يصنع النضوح أي الطيب الخاص حتى يحل استعماله معتقا.

و بعبارة أخرى كيف يصنع حتى لا يصير مع صيرورته عتيقا فاسدا و مسكرا، فالأمر بإذهاب الثلثين حينئذ لأجل عدم طروّ الفساد عليه «1» و يظهر من الروايات تعارف جعل الخمر أو النبيذ في النضوح في تلك الأزمنة «2».

______________________________

(1) في مجمع البحرين في مادة نضح: «أصل النضح الرش، فشبّه كثرة ما يفوح من طيبه بالرش» و في كلام بعض الأفاضل:

«النضوح طيب مائع ينقعون به التمر و السكر و القرنفل و التفاعل و الزعفران و أشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء، و يشد رأسها و يصبرون أياما حتى ينشر و يتخمر، و هو شائع بين النساء الحرمين الشريفين، و كيفية تطيب المرأة به أن تحط الأزهار بين شعر رأسها ثم ترشرش به الأزهار لتشتد رائحتها، قال: و في أحاديث أصحابنا انهم عليهم السلام نهوا نساءهم عن التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة» انتهى. قوله: «في أحاديث أصحابنا» إشارة إلى رواية عيثمة المروية في الوسائل- الباب- 32- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1 قال: «دخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و عنده نساؤه، قال:

فشم رائحة النضوح، فقال: ما هذا؟ قالوا: نضوح يجعل فيه الضياح قال: فأمر به فأهريق في البالوعة».

(2) «كرواية علي الواسطي قال: دخلت الجويرية- و كانت تحت عيسى

بن موسى- على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و كانت صالحة، فقالت:

إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و اجعله في رأسي، قال: لا بأس» و رواية علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (ع) قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح للمرأة أن تصلي و هو على رأسها؟ قال لا حتى تغتسل منه» راجع الوسائل- الباب- 37 من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2- 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 280

مضافا إلى دلالة بعض الأخبار على أن حرمته و نجاسته تابع لإسكاره كخبر وفد اليمن، و فيها بعد توصيفهم النبيذ من التمر لرسول الهّٰح صلى اللّٰه عليه و آله و تصريحهم بطبخه «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

قد أكثرت عليّ أ فيسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام» يظهر منها أنه مع طبخه و عدم عروض الإسكار عليه ليس بحرام، و لازمة عدم نجاسته. فالمسألة واضحة بحمد اللّٰه.

التاسع: الفقاع،

و لا ريب في نجاسته، و قد حكي الإجماع عليها مستفيضا، كما في الانتصار و الخلاف و محكي الغنية و المنتهى و المهذب البارع و التنقيح و كشف الالتباس و إرشاد الجعفرية و ظاهر المبسوط و التذكرة و الذكرى، و عن المدارك تأمل في نجاسته، حيث قال: «وردت به رواية ضعيفة» أراد رواية الكافي عن أبي جميلة البصري قال: «كنت مع يونس ببغداد و أنا أمشي معه في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه، فقفز «1» فأصاب يونس فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس، فقلت له: يا أبا محمد أ لا تصلي؟ قال: فقال لي: ليس أريد أن أصلي حتى أرجع الى البيت فأغسل هذا الخمر

من ثوبي، فقلت له:

هذا رأي رأيته أو شي ء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول

______________________________

(1) قفز بالقاف ثم الفاء ثم الزاء: وثب (الوافي).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 281

فإذا أصاب ثوبك فاغسله» «1» و لا مجال للتردد في الحكم بعد ذلك الاشتهار و تلك الإجماعات، و لو نوقش في الرواية بضعف السند بل و عدم العلم بالجبر لاشتراطه بإحراز الاستناد و هو ممنوع، لما تصح المناقشة في دلالة الروايات المتظافرة الآتية الحاكمة بأنه خمر بعينها أو من الخمر، أو خمر استصغره الناس، الى غير ذلك، فإنها إما تدل على خمريته و مسكريته واقعا، فقد فرغنا عن نجاسة المسكرات المائعة، و إما تدل على التنزيل منزلته حكما، فلا شبهة في استفادة عموم التنزيل مع هذه التعبيرات و التأكيدات، و لو لا كونه بمنزلته في جميع الآثار لما صح هذا التنزيل بهذا اللسان الأكيد، و الشاهد عليه ثبوت حكم شارب الخمر عليه «2» فلا ينبغي الإشكال في نجاسته و حرمته.

فما في رواية زكريا بن آدم عن أبي الحسن عليه السلام «3» مما يشعر أو يدل على الخلاف لا يعول عليه مع ضعفها سندا بابن المبارك و وهنها متنا باشتمالها على حكم في الدم لا نقول به، و موافقتها للناس، و مخالفتها للإجماع و النصوص.

نعم يأتي الكلام في جهة أخرى، و هي أن الفقاع ليس خمرا حقيقة و لم يسمّ باسمها عرفا و لغة، و الدليل عليه مضافا الى وضوحه وفاق أهل الخلاف في عدم حرمته و نجاسته، مع أن كثيرا منهم من أهل اللسان و علماء العربية و

أئمة الأدب و اللغة، فلو كان الخمر صادقا

______________________________

(1) مرت في ص 175.

(2) إشارة إلى الروايات الدالة عليه كموثقة ابن فضّال قال:

«كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقاع فقال: هو الخمر و فيه حد شارب الخمر» راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2 و 11- و الباب 28 منها- الحديث 1.

(3) مرت في ص 178.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 282

عليه حقيقة لما اتفق بينهم هذا الاتفاق مع حرمتها بنص الكتاب، مضافا إلى استفادة ذلك من الأخبار و كلمات أصحابنا.

أما الأخبار فقد تقدم الكلام فيها من أن الظاهر منها أن الخمر اسم للمادة الخبيثة المأخوذة من العنب، و هي التي حرمها اللّٰه تعالى، و انما حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سائر المسكرات، و في بعضها أن اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها بل حرمها لعاقبتها «1» و هو كالنص في أن الاسم مختص بالمتخذ من العنب، و إطلاقها على غيرها بضرب من التأويل، فراجع.

و أما كلمات الأصحاب فبين ظاهرة في ذلك، لأن مقابلة المسكرات مع الفقاع في كلماتهم في أبواب النجاسات و الأشربة المحرمة و المكاسب المحرمة و الحدود ظاهرة في أنه بعنوانه موضوع الحكم لا لإسكاره، و لا لصدق الخمر عليه، مضافا إلى أنه لم نر استدلالهم على خلاف العامة في حرمته بظاهر القرآن، فقد استدلوا عليه تارة بروايات من طرقهم و أخرى بدليل الاحتياط.

و لو أمكن الاستدلال عليه بظاهر الآية و لو بوجه لاستدلوا عليه، سيما علم الهدى رضي اللّٰه عنه الذي عمل الانتصار لانتصار الحق و إزهاق الباطل جزاه اللّٰه عن الإسلام أفضل جزاء، و من دأبه التشبث بظواهر الآيات عليهم

حيثما أمكن مع أنه من أئمة الأدب و اللسان، و كذا شيخ الطائفة في خلافه، بل و ابن زهرة، و قد تمسك الشيخ في حدود نهايته لإثبات أحكام الخمر له بثبوت سوائيته مع الخمر من أئمة آل محمد عليهم الصلاة و السلام.

و بالجملة يظهر من كلمات أصحابنا عدم كونه خمرا أو مسكرا،

______________________________

(1) مر في ص 191.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 283

و ليست حرمته لهما، ففي النهاية بعد ذكر المسكرات: «و حكم الفقاع حكم الخمر على السواء» و في المراسم: «و الخمر و سائر المسكرات و الفقاع» و في الغنية: «و كل شراب مسكر نجس و كل فقاع نجس» و كذا سائر الكتب و المصنفات على هذا المنوال قديما و حديثا.

و بين ناصّة على عدم مسكريته مطلقا أو قسم منه المتفاهم منه عدم خمريته أيضا، لبعد تسميته خمرا مع عدم الإسكار، ففي الانتصار:

«و قد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة أن قوما من العرب سألوا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن الشراب المتخذ من القمح، فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: يسكر؟ قالوا: نعم، فقال: لا تقربوه و لم يسأل من الشراب المتخذ من الشعير عن الإسكار، بل حرم ذلك على الإطلاق، و حرم الشراب الآخر إذا كان مسكرا- و قال قبل ذلك-:

و مما انفردت به الإمامية القول بتحريم الفقاع و أنه جار مجرى الخمر في جميع الأحكام» و هو كالنص في أنه بمنزلة الخمر لا نفسها.

و في الوسيلة و غير المسكر ضربان: فقاع و غيره، و الفقاع حرام نجس، و عن فقه الرضا: «و اعلم ان كل صنف من صنوف الأشربة التي لا يغير العقل شرب

الكثير منها لا بأس به سوى الفقاع، فإنه منصوص عليه لغير هذه العلة» «1» و عن الأستاذ في حاشية المدارك انهم صرحوا بأن حرمة الفقاع و نجاسته يدوران مع الاسم و الغليان لا للسكر فهو حرام و نجس و إن لم يكن مسكرا، لأن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حكم بالحرمة من دون استفصال، و في المجمع: «الفقاع كرمان: شي ء يشرب، يتخذ من ماء الشعير فقط، ليس بمسكر، و لكن ورد النهي عنه».

______________________________

(1) المستدرك- الباب- 19- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 284

نعم ظاهر المعتبر أنه خمر اسما و إن لم يكن مسكرا، متمسكا بالتسمية الشرعية و أصالة الحقيقة، و هو كما ترى. و بقول أبي هاشم الواسطي المحكي في الانتصار: «الفقاع نبيذ الشعير، فإذا نشّ فهو خمر» و هو أيضا غير وجيه لأن الظاهر أن مراده من كونه خمرا أنه مسكر، لا أنه مسمى بها، مع أن التعويل على قوله مع ما عرفت في غير محله، و لهذا لم يعول عليه علم الهدى، و إلا لأستدل على حرمته بظاهر الكتاب، إلا أن يقال: إن الكتاب منصرف عنه، و هو غير معلوم، بل ممنوع بعد الصدق حقيقة.

ثم أنه بعد العلم بعدم خمريته حقيقة لا بد من حمل الروايات الحاكمة بأنه خمر بعينها «1» أو من الخمر «2» أو خمر استصغره الناس «3» على نحو من التنزيل، فيدور الأمر بين احتمالين: إما البناء على التنزيل باعتبار الحكم، بمعنى أن الأئمة عليهم السلام لما رأوا ثبوت جميع آثار الخمر له أطلقوها عليه ادعاء و مجازا، و إما البناء على

______________________________

(1) كرواية محمد بن سنان قال: «سألت

أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الفقاع فقال: هي الخمر بعينها» راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(2) كرواية حسين القلانسي قال: «كتبت الى أبي الحسن الماضي عليه السلام أسأله عن الفقاع فقال: لا تقربه فإنه من الخمر» و نحوها رواية محمد بن سنان راجع الوسائل- الباب- 27- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6.

(3) كرواية الوشّاء عن أبي الحسن عليه السلام قال: «هي خمرة استصغرها الناس» راجع الوسائل- الباب- 28- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 285

التنزيل باعتبار الخاصية، و أنه لما كان عاقبته عاقبة الخمر و فعله فعلها نزلوه منزلتها.

و الفرق بينهما أنه على الأول يحكم بترتب الأحكام بمجرد صدق الفقاع و ان لم يكن مسكرا، لأن التنزيل ليس بلحاظ إسكاره، و على الثاني يترتب الأحكام على قسم المسكر، لأن التنزيل باعتبار مسكريته.

و لا شبهة في أن مقتضى إطلاق الأخبار البناء على الوجه الأول، و لا وجه لرفع اليد عن إطلاقها بلا دليل مقيد، و دعوى الانصراف الى القسم المسكر ممنوعة، فالأقوى حرمته و نجاسته و ترتب سائر الآثار عليه بمجرد صدق الاسم و لو لم يكن مسكرا كما نص عليه الأصحاب في كلماتهم المتقدمة و أرسلوه إرسال المسلمات.

نعم الظاهر عدم ترتبها قبل الغليان، لصحيحة ابن أبي عمير عن مرازم قال: «كان يعمل لأبي الحسن عليه السلام الفقاع في منزله، قال ابن أبي عمير: و لم يعمل فقاع يغلي» «1» و الظاهر أن ابن أبي عمير كان بصدد دفع توهم عمل الفقاع الحرام، و موثقة عثمان بن عيسى قال «كتب عبد اللّٰه بن محمد الرازي الى أبي جعفر الثاني عليه السلام إن

رأيت أن تفسر لي الفقاع، فإنه قد اشتبه علينا أ مكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب: لا تقرب الفقاع إلا ما لم يضر آنيته أو كان جديدا، فأعاد الكتاب إليه كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني:

اشربه ما كان في إناء جديد، أو غير ضار، و لم أعرف حد الضراوة و الجديد، و سأل أن يفسر ذلك له، و هل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة و الزجاج و الخشب و نحوه من الأواني؟ فكتب عليه السلام: يفعل الفقاع في الزجاج و في الفخار الجديد الى قدر ثلاث عملات، ثم لا يعد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 286

منه بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد و الخشب مثل ذلك» «1».

و الظاهر منها أن النهي عن هذه الظروف لأجل حصول النشيش و الغليان له إذا نبذ فيها، و يمكن أن يكون لحصول الإسكار له، لكن هذا مجرد احتمال لا يمكن رفع اليد به عن إطلاق الأدلة و كلمات الأجلة، و صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: «سألته عن شرب الفقاع الذي يعمل في السوق و يباع و لا أدرى كيف عمل و لا متى عمل أ يحل أن أشربه؟ قال: لا أحبه» «2».

و الظاهر منها وجود قسمين منه: حلال و حرام، و الظاهر من الروايتين المتقدمتين أن الحلال منه قبل غليانه و نشيشه و الحرام بعده، و كذا الأخيرة أيضا لإشعار قوله: «متى عمل» أو ظهوره في شكه في بقائه الى حال التغير و النشيش، و لا يبعد حمل إطلاق كلمات الأصحاب على ما بعده

كما مر ما عن الأستاذ في حاشية المدارك أنهم صرحوا بأن حرمة الفقاع و نجاسته تدوران مع الاسم و الغليان.

بل الظاهر من اللغويين عدم صدقه على ما لم ينش، قال في القاموس «الفقاع كرمان: هذا الذي يشرب، سمي به لما يرتفع في رأسه من الزبد» و نحوه في المنجد و معيار اللغة، و في المجمع: «قيل: سمي فقاعا لما يرتفع في رأسه من الزبد» و يظهر من الشهيد في محكي الروض اعتباره في الصدق.

ثم ان المتيقن منه ما أخذ من الشعير، و الظاهر عدم الكلام فيه و انما الكلام و الاشكال فيما يؤخذ من سائر الأشياء كالقمح و الذرة و الزبيب و غيرها، و قد مر كلام الطريحي في المجمع في انحصاره بما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 39- من أبواب الأشربة المحرمة الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 287

يؤخذ من الشعير، و هو ظاهر السيد في الانتصار حيث استدل على حرمة الفقاع مطلقا بعدم استفصال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فيما يؤخذ من الشعير دون ما يؤخذ من القمح، فما نسب إليه من أخذه من القمح أيضا مخالف لذلك.

نعم حكى هو من طريق الناس عن أم حبيبة زوجة النبي صلى اللّٰه عليه و آله «أن أناسا من أهل اليمن قدموا على رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ليعلمهم الصلاة و السنن و الفرائض، فقالوا: يا رسول اللّٰه إن لنا شرابا نعمله من القمح و الشعير، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم، قال:

لا تطعموه» إلخ، ثم حكى تفسير زيد بن أسلم الغبيراء بالاسكركة، و هي بالفقاع.

و لعل الغبيراء في كلام النبي صلّى اللّٰه

عليه و آله كان مربوطا بالمتخذ من الشعير المتأخر في الذكر في كلام السائل لا منه و من القمح، تأمل و يظهر من السيد اختصاص الغبيراء بما يؤخذ من الشعير، فراجع الانتصار بتعمق.

و عن المدنيات أنه شراب معمول من الشعير، و حكى السيد عن الواسطي أن الفقاع نبيذ الشعير، و إذا نشّ فهو خمر، و عن بعض آخر عدم الاختصاص به، فعن رازيات السيد و الانتصار كان يعمل من الشعير و من القمح، و قد عرفت حال ما في الانتصار، و ليس عندي الرازيات، و عن مقداديات الشهيد: «كان قديما يتخذ من الشعير غالبا، و يحصل «1» حتى يحصل فيه التنشر، و كأنه الآن يتخذ من الزبيب» انتهى. كذا في مفتاح الكرامة، و لعل مراده أنه يبقى حتى ينشّ، و عن أبي عبيدة أن السكركة من الذرة، و عن مخزن الأدوية «أن الفقاع

______________________________

(1) كذا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 288

اسم لنوع من النبيذ مركب طعمه من حلاوة قليلة و حموضة و مرارة، و يصنع من أكثر الحبوب كالشعير و الأرز و الدخن و الذرة و الخبز الحواري و الزبيب و التمر و السكر و العسل، و قد يضيفون اليه الفلفل و سنبل الطيب و القرنفل» انتهى.

و المتحصل من الجميع أن ما يؤخذ من الشعير فقاع بلا ريب، و صدقه على ما عداه مشكوك فيه، و مقتضى الأصل الحلية و الطهارة بعد كون الشك في المفهوم و الوضع، و مجرد إطلاقه في الأزمنة المتأخرة على المأخوذ من غيره لا يفيد، و أصالة عدم النقل و الاشتراك على فرض جريانهما لا تفيد في إثبات الوضع و لو كانت عقلائية.

العاشر: الكافر بجميع أنواعه،

اشارة

ذميا كان أو

غيره، أصليا أو مرتدا، إجماعا كما في الانتصار و الناصريات مع التصريح بالكلية، و في الخلاف دعواه في المشرك الذمي و غيره. و في الغنية ادعى الإجماع المركب، و قال:

«التفرقة بين نجاسة المشرك و غيره خلاف الإجماع» و ادعى الإجماع صريحا في المنتهى، و ظاهرا في التذكرة، و هو المحكي عن السرائر و البحار و الدلائل و شرح الفاضل و ظاهر نهاية الإحكام، و عن التهذيب إجماع المسلمين، و لعل مراده المؤمنين الذين هم المسلمون حقا، و حكى تأويله عن الفاضل الهندي بما هو أبعد مما ذكرناه.

و عن حاشية المدارك أن الحكم بالنجاسة شعار الشيعة يعرفه علماء العامة منهم، بل و عوامهم يعرفون أن هذا مذهب الشيعة، بل و نساؤهم و صبيانهم يعرفون ذلك، و جميع الشيعة يعرفون أن هذا مذهبهم في الأعصار و الأمصار، و عن القديمين القول بعدم نجاسة أسئار اليهودي و النصارى، و كذا عن ظاهر المفيد و عن موضع من النهاية.

لكن عن حاشية المدارك لا يحسن جعل ابن أبي عقيل من المخالفين

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 289

مع تخصيصه عدم النجاسة بأسئارهم. لأنه لا يقول بانفعال الماء القليل، و السؤر هو الماء الملاقي لجسم حيوان، قال: «و الكراهة في كلام المفيد لعله يريد منها المعنى اللغوي» انتهى. و هو حسن، و أما ما نسب إلى نهاية الشيخ ففي غير محله جزما، قال فيها: «و لا يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم، و لا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء، و كل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز أكله، لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه- قال بعد أسطر-: و يكره أن يدعو الإنسان

أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل منه، و إن دعاه فليأمره بغسل يديه» انتهى.

و هو كما ترى محمول كما عن نكتها على الطعام اليابس، كالتمر و الخبز و نحوهما، بقرينة ما تقدم، و الأمر بغسل يدهم لدفع القذارة العرفية، و أما ما عن ابن إدريس بأنه ذكر ذلك إيرادا لا اعتقادا فبعيد و الظاهر استناد الشيخ فيما ذكره إلى صحيحة عيص بن القاسم، فإنها بمضمون ما ذكره ظاهرا «1».

و لم يحضرني كلام ابن الجنيد، و ما نقل عنه غير ظاهر في المخالفة و نسب الى صاحب المدارك و المفاتيح الميل الى طهارتهم، لكن لم يظهر من المدارك ذلك فراجع، و لم يحضرني المفاتيح، نعم قد يظهر من الوافي ذلك، لأنه بعد ذكر الأخبار قال: «و قد مضى في باب طهارة الماء خبر في جواز الشرب من كوز شرب منه اليهودي، و التطهير من مسّهم مما لا ينبغي تركه» و فيه إشعار على رجحان التطهير منه لا لزومه.

و كيف كان فالعمدة هو الإجماعات المتقدمة، و المعروفية بين جميع طبقات الشيعة بحيث صار شعارهم عند الفريقين، كما تقدم عن الأستاذ

______________________________

(1) سيأتي البحث عنها في ص 301.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 290

الوحيد، و لا يمكن أن يقال: إن ذلك لتخلل اجتهاد من الفقهاء و تبعهم العوام، أما أولا فلأن الأخبار كما تأتي جملة منها ظاهرة الدلالة على طهارة أهل الكتاب، و لها جمع عقلائي مقبول مع غيرها لا يمكن خفاؤه على فاضل، فضلا عن جميع الطبقات من أهل الحل و العقد من الطائفة و هو دليل على أن استنادهم إلى بعض الآيات و الأخبار ليس مبنى فتواهم بل المبنى هو المعلومية من

الصدر الأول و أخذ كل طبقة لاحقة عن سابقتها.

و احتمال تخلل الاجتهاد و خطأ جميع طبقات الفقهاء في هذه المسألة الواضحة المأخذ بحسب الرواية مما تبطله الضرورة، و لا تقاس هذه المسألة بمسألة المنزوحات التي اختلفت الآراء و الأخبار فيها بحيث تكون مظنة تخلل الاجتهاد، كما يظهر بالرجوع إليها.

و أما ثانيا فلأن احتمال كون المعروفية عند جميع الطبقات من النساء و الصبيان و الحاضر و البادي من فتوى فقهائهم بعيد جدا، بل غير وجيه، فإن المسائل الاجتهادية التي أجمعت الفقهاء عليها غير عزيزة، مع عدم معروفيتها لدى العامة حتى فيما تكون محل الابتلاء، كحرمة العصير العنبي، و حرمة كثير من أجزاء الذبيحة، هذا مع أن كثيرا ممن يكون الحكم واضحا عندهم لعله لا عهد لهم بالفقهاء و آرائهم.

و بالجملة هذه الشهرة و المعروفية في جميع الطبقات في الأعصار و الأمصار تكشف جزما عن رأي أئمتهم عليهم السلام، و لا يبقى فيها محل تشكيك و ريب، سيما مع مخالفة العامة جميعا، فذهبوا إلى طهارة الكفار مطلقا.

قال السيد: «و مما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كل كافر، و خالف جميع الفقهاء في ذلك، و حكى الطحاوي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 291

عن مالك في سؤر النصراني و المشرك أنه لا يتوضأ به، و وجدت المحصلين من أصحاب مالك يقولون: إن ذلك على سبيل الكراهة لا التحريم، لأجل استحلالهم الخمر و الخنزير، و ليس بمقطوع على نجاسته، فالامامية منفردة بهذا المذهب» انتهى.

هذا أيضا يؤكد البناء على نجاستهم، و على معللية ما دلت على طهارتهم من الأخبار، و قد تكرر منا أنه لا دليل معتد به على حجية خبر

الثقة إلا بناء العقلاء، و التي وردت في هذا المضمار آية و رواية لا يستشعر منها التأسيس، بل كلها أو جلها دالة على إمضاء ما لدى العقلاء و ليس للشارع المقدس طريق خاص و تعبد في ذلك، و لو وجد فيها ما يشعر بخلاف ذلك لم تصل الى حد الدلالة.

و لا شبهة في عدم بناء العقلاء على العمل بمثل الروايات التي أعرض عنها الأصحاب مع كونها بمرئي و منظر منهم، و كونهم متعبدين على العمل بما وصل إليهم من طريق أهل البيت عليهم السلام، فيكون إعراضهم إما موجبا للوهن في سندها، و مع عدم إمكان ذلك لكثرة الروايات و القطع بصدور بعضها فلا محالة يوجب الوهن في جهة صدورها مع اتفاق أهل الخلاف على طهارتهم.

فالقول بأن مجرد وثاقة الراوي يكفي في العمل بالرواية تارة، و بأن احتمال صدورها تقية في المقال في مقام بيان الحكم بعيد عن مساق الأخبار أخرى لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أن القول بحدوث هذه السيرة و المعروفية بعد عصر الأئمة عليهم السلام و لم يكن الحكم معروفا في زمانهم- لشهادة جل الروايات بخلو أذهان السائلين الذين هم من عظماء الشيعة و رواة الأحاديث عن احتمال نجاستهم الذاتية، و أن الذي أوقعهم في الريبة الموجبة للسؤال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 292

عدم تجنبهم عن النجاسات، حتى أن محمد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري الذي كتب إلى صاحب الزمان في عصر الغيبة «1» استشكل في الصلاة في الثياب المتخذة من المجوس، لأجل أنهم كانوا يأكلون الميتة و لا يغتسلون من الجنابة. فيستفاد منه عدم انقداح نجاستهم الذاتية في ذهنه، فيظن منه حدوث المعروفية لدى العلماء للاجتهاد،

و لدى العوام للتقليد- في غاية الضعف.

أما أسئلة الرواة فلا تدل على عدم المعروفية لدى الشيعة، فإن المتتبع في أسئلتهم في المسائل الفقهية يرى أن كثيرا ما لم تكن الأسئلة الصادرة من فقهاء أصحابهم لرفع شبهة، بل كان بناؤهم على السؤال لضبط الجواب عن كل إمام في أصولهم و كتبهم، فمثل مشايخ أصحاب أبي عبد اللّٰه عليه السلام نظير زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و غيرهم ممن أدركوا عصر أبي جعفر عليه السلام و أخذوا المسائل منه سألوا أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن تلك المسائل بعينها، و ربما سألوا عن مسائل واضحة لا يمكن خفاؤها عليهم إلى زمان الصادق عليه السلام، ككيفية غسل الجنابة، و غسل الميت، و الوضوء، و جواز المسح على الخفين بل و عدد الصلوات الفرائض، إلى غير ذلك مما لا تحصى، حيث كان السؤال لمقاصد أخر، كالحفظ في الكتب للبقاء و الوصول إلى الطبقة المتأخرة و كثرة الانتشار و غير ذلك.

و أما دعوى أن جل الروايات شاهدة على خلو أذهان السائلين عن نجاستهم ذاتا ففيها أن الواقع خلاف ذلك، فان جلها خالية عن الاشعار بما ذكر فضلا عن الشهادة به، كما يظهر للمراجع إليها في كتاب الطهارة

______________________________

(1) الرواية مروية في الوسائل- الباب- 73 من أبواب النجاسات الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 293

و الأطعمة، نعم في بعضها إشعار بذلك كرواية الحميري المتقدمة، لكن ليس محط نظره السؤال عن نجاسة المجوس، بل نظره إلى السؤال عن حال الثوب المنسوج بيدهم، و لا يبعد أن يكون بعد الفراغ عن نجاستهم و لهذا خصهم بالذكر، و إنما ذكر أكلهم الميتة و عدم اغتسالهم من

الجنابة لفرض قوة احتمال تنجس الثوب، و أنه مع كونهم نجسا كانوا كذلك و لأجله صار ما بأيديهم أقرب إلى التنجس، و لهذا أضاف إلى أكل الميتة عدم اغتسالهم من الجنابة.

فهي نظير صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثياب السابرية يعملها المجوس و هم أخباث و هم يشربون الخمر و نساؤهم على تلك الحال ألبسها و لا أغسلها» إلخ «1» و الظاهر أن المراد بالأخباث الأنجاس، فان الخبث الباطني النفساني لا يناسب المقام، و ذكر النجاسة العرضية غير مناسب مع قوله بعده: «و هم يشربون الخمر» فالظاهر فرض قوة احتمال تلوث الثياب و تنجسها بفرض نجاسات ذاتا و عرضا فيهم و فيما بأيديهم، و نحوها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «2» حيث فرض فيها إعارة الذمي الثوب و يعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير.

بل الأسئلة الكثيرة في الروايات عن ثياب المجوس و النصارى و اليهود و بواريهم و ما يعملونه و غير ذلك ظاهرة الدلالة على معهودية نجاستهم في ذلك العصر، إلا أن يقال: اختصاصهم بالذكر لكثرة ابتلائهم بها، كما ربما يشهد به بعضها.

ثم أنه قد استدل على نجاستهم بقوله تعالى:

______________________________

(1) الوسائل- الباب 73- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 294

«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» «1» و يمكن تقريبه بنحو لا يرد عليه بعض الإشكالات، و هو أن المستفاد من كلمة الحصر و حمل المصدر أن المشركين ليسوا إلا حقيقة النجاسة بالمعنى المصدري، و هو مبني على الادعاء و التأول، و هو لا يناسب طهارتهم و نظافتهم ظاهرا التي هي بنظر العرف أوضح

مقابل للنجاسة و أظهره، فلا يجوز الحمل على القذارة الباطنية من كفرهم أو جنابتهم، لبشاعة أن يقال: إن الكافر ليس إلا عين القذارة، لكنه طاهر نظيف في ظاهره كسائر الأعيان الطاهرة، بل لو منع من افادة كلمة «إنما» الحصر يكون حمل المصدر الدال على الاتحاد في الوجود موجبا لذلك أيضا، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

نعم لو قارن الكلام بدعوى أخرى هي دعوى أن المشركين ليسوا إلا بواطنهم لكان لإنكار الدلالة وجه، لكنها على فرض صحتها خلاف الأصل. و الحمل على القذارة الصورية العرفية غير جائز، لعدم مطابقته للواقع إن أريد الحقيقة، فلا بد من ارتكاب تجوز، و هو دعوى أنه من هو نظيف بينهم كالعدم، و هي لا تصح إلا إذا كان النظيف بينهم نادرا يلحق بالعدم، و هو غير معلوم، بل معلوم العدم، مع أن المجاز خلاف الأصل، و لا قرينة عليه.

و كذا إن أريد نجاستهم عرضا لا بد من ارتكاب التجوز، و هو أيضا خلاف الأصل لو فرض كثرة ابتلائهم بحد تصحح الدعوى، مضافا إلى أن دعوى كونهم عين النجاسة بالمعنى المصدري أو حاصله أيضا لا تناسب في النجاسة العرضية إلا في بعض الأحيان كما لو تلوث جميع البدن تحقيقا أو تقريبا، و إلا فمع الملاقاة ببعض البدن لا يصح دعوى أنه عين القذارة، و تلوث جميع أفراد المشركين أو أكثرهم بنحو تصح

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 38.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 295

دعوى أن جميعهم نجاسة و نجس بالفتح معلوم العدم، مع أن المجاز خلاف الأصل.

فتحصل مما ذكر أن حمل الآية على إرادة القذارة المعنوية فقط غير صحيح لا يناسب البلاغة، و حملها على القذارة

العرفية حقيقة غير موافق للواقع، و على التأول غير صحيح، و مع فرض الصحة مخالف للأصل، و كذا على القذارة العرضية.

فبقي احتمال أن يكون المراد به النجاسة الجعلية الاعتبارية، فهو إما محمول على الاخبار عن الواقع، فلا بد من مسبوقيته بجعل آخر، و هو بعيد، أو على الاخبار في مقام الإنشاء، فيصح دعوى أنهم عين القذارة و النجاسة بعد كون جميع أبدانهم قذرا، سيما إذا أريد نجاستهم الباطنية أيضا فتكون دعوى انهم عين القذارة بعد كونهم ظاهرا و باطنا ملوثين بالكفر و الخباثة و الجنابة و القذارة في غاية البلاغة، فإبقاء المصدر على ظاهره أبلغ في إفادة المطلوب من حمله على خلاف ظاهره مرادفا للنجس بالكسر، و بما ذكرناه يندفع الإشكال بأنه نمنع كون النجس في زمان صدور الآية حقيقة في المعنى المصطلح، بل المتبادر منه هو المعنى اللغوي الذي هو أعم من الاصطلاحي، لما عرفت من أن الحمل على المعنى الحقيقي أي القذارة العرفية غير ممكن كما تقدم.

و لو قيل إنه يدور الأمر بين حمل النجس على المعنى الحقيقي و التصرف و التأويل في المشركين أو العكس و لا ترجيح يقال: إن الترجيح مع حمل النجس على الجعلي الاعتباري، لمساعدة العرف، مع أن مصحح الادعاء في المشركين غير محقق، لما تقدم.

هذا مضافا إلى ما أشرنا إليه في هذا المختصر بأن ليس للشارع اصطلاح خاص في النجاسة و القذارة مقابل العرف، بل وضع أحكاما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 296

لبعض القذارات العرفية و أخرج بعضها عنها، و ألحق أمورا بها، فالبول و الغائط و نحوهما قذرة عرفا و شرعا، و وضع الشارع لها أحكاما، و أخرج مثل النخامة و القيح

و نحوهما من القذارات العرفية عنها حكما بلسان نفي الموضوع في بعضها، و ألحق مثل الكافر و الخمر و الكلب بها بجعلها نجسا أي اعتبر القذارة لها، ففي الحقيقة أخرج مصاديق من المفاهيم تعبدا و أدخل مصاديق فيه كذلك من غير تصرف في المفهوم، فإن أريد من الاصطلاح الشرعي ذلك فلا كلام، و إن أريد أن مفهوم القذارة عند الشرع و العرف مختلفان فهو ممنوع.

و لا إشكال في أن الأحكام الشرعية كانت مرتبة على قذارات كالأخبثين و غيرهما في عصر الشارع الأقدس، فقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ محمول على النجاسة بمفهومها، لكن لا بمعنى الاخبار عن الواقع، فإنه غير محقق، و مع فرض تحققه لا يكون الاخبار به وظيفة الشارع، بل بمعنى جعل ما ليس بمصداق مصداقا تعبدا، و هو الأقرب بعد قيام القرينة العقلية و العادية، كما عرفت الكلام فيها مستقصى.

فتحصل من ذلك أن دلالة الآية الكريمة بالنسبة إلى المشركين تامة، و أما بالنسبة إلى الذمي فقد يقال بانسلاكه فيهم، لقوله تعالى:

وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ- إلى قوله- سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «1» و فيه أن تلك الآية مسبوقة بأخرى، و هي اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ و المراد باتخاذهم أربابا ليس ما هو ظاهرها، لعدم قولهم بألوهيتهم.

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 31.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 297

ففي مجمع البيان «1» عن الثعلبي عن عدي بن حاتم في حديث قال:

«انتهيت إليه- أي إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- و هو يقرأ سورة البراءة هذه الآية اتَّخَذُوا

أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ حتى فرغ منها، فقلت له: لسنا نعبدهم، فقال: أ ليس يحرمون ما أحل اللّٰه فتحرمونه و يحلون ما حرم اللّٰه فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم» و قريب منها في رواياتنا، فعليه لا يكون الشرك بمعناه الحقيقي.

إلا أن يقول النصارى بأن المسيح اللّٰه كما قال تعالى أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ «2» و قال تعالى في الآية المتقدمة:

و المسيح بن مريم و لم ينفه عدي بن حاتم، بل الظاهر نفى عبادتهم للأحبار و الرهبان، و قال تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ «3» قال في المجمع القائلون بهذه المقالة جمهور النصارى من الملكانية و اليعقوبية و النسطورية، لأنهم يقولون ثلاثة أقانيم» و في مجمع البحرين قيل: «هو رد على النصارى لإثباتهم قدم الأقنون» انتهى.

و قال تعالى «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ- وَ قٰالَ الْمَسِيحُ: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» «4» حيث يظهر منها شركهم، و لعله لقولهم بأن المسيح هو الرب المتجسد في الناسوت، حتى أن صاحب المنجد المسيحي قال: «المسيح: لقب الرب، يسوع ابن اللّٰه المتجسد- و قال-:

المسيحي: المنسوب إلى المسيح الرب» تعالى اللّٰه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

و في مجمع البيان هذا مذهب اليعقوبية منهم، لأنهم قالوا: إن اللّٰه اتحد بالمسيح اتحاد الذات، فصار شيئا واحدا و صار الناسوت لاهوتا،

______________________________

(1) ج 3 ص 23 ط صيدا.

(2) سورة المائدة: 5- الآية 116.

(3) سورة المائدة: 5- الآية 73.

(4) سورة المائدة: 5- الآية 72.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 298

و ذلك قولهم: إنه إلا له.

و

كيف كان لا يمكن لنا إثبات الشرك لجميع طوائفهم، و لا إثباته لليهود مطلقا. و ليس في قول النصارى «ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ» إشعار بأن اليهود قائلون: إنه ثاني اثنين، و مجرد القول بأن عزيزا ابن اللّٰه لا يوجب الشرك و ان لزم منه الكفر، مع أن القائلين بذلك- على ما قيل- طائفة منهم قد انقرضوا.

و أما المجوس فان قالوا بإلهية النور و الظلمة أو يزدان و أهرمن فهم مشركون داخلون في إطلاق الآية الكريمة، مع احتمال أن يكون المراد بالمشركين في الآية هو مشركو العرب أي الوثنيين، كما أن الطبيعيين من الكفار و المنتحلين إلى الإسلام خارجون عن الشرك، فالآية الشريفة غير وافية لإثبات تمام المدعي، أي نجاسة تمام صنوف الكفار.

و استدل المحقق لنجاستهم بقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «1» و هو مشكل مع اشتراكه بين العذاب و اللعنة و غيرهما، و إن حكي عن الشيخ في التهذيب أن الرجس هو النجس بلا خلاف، و قال في المجمع: «ظاهره أنه لا خلاف بين علمائنا في أنه في الآية بمعنى النجس» انتهى.

و لعل دعواه ناشئة من عدم الخلاف في نجاستهم، و إلا فلم يفسره المفسرون به، كما يظهر من المحقق، و لم يحتمله في مجمع البيان، و لم ينقله من أحد، مع أن بناءه على نقل الأقوال.

و استدل على نجاسة أهل الكتاب بروايات مستفيضة و هي على طوائف:

______________________________

(1) سورة الأنعام: 6- الآية 125.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 299

منها- ما وردت في النهي عن مصافحتهم و الأمر بغسل اليد إن صافحهم، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «في رجل صافح رجلا مجوسيا، فقال: يغسل يده

و لا يتوضأ» «1» و صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «سألته عن مؤاكلة المجوس في قصعة واحدة و أرقد معه على فراش واحد و أصافحه، قال: لا». «2» و قريب منها صحيحته الأخرى «3» فإن الأمر بالغسل محمول على ما إذا كان في اليد رطوبة سارية، فهو ظاهر في نجاستهم كالأمر بغسل الثوب عن ملاقاة الكلب.

و فيه أن الأمر كذلك بالنسبة إلى صحيحة ابن مسلم لو لا سائر الروايات، و أما مع ملاحظتها فالظاهر منها أن مصافحة الذمي مرجوح نفسا لأجل ترك المحابة معهم، و الأمر بالغسل محمول على الاستحباب لإظهار التنفر و الانزجار عنهم، سواء كانت اليد مربوطة أو لا.

و الدليل على المرجوحية مطلقا- مضافا الى رواية الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «إنه نهى عن مصافحة الذمي» «4»- صحيحة علي بن جعفر المتقدمة و صحيحته الأخرى الظاهرتان في أن المصافحة معهم مطلقا مرجوح، و حمل النهي فيها على الغيري خلاف الظاهر، سيما في مثل المقام مما يعلم مرجوحية إظهار الموادّة معهم بأيّ نحو كان، و يؤيده بل يدل عليه إرداف النهي عن المصافحة للرقود مع المجوس على فراش واحد، و مع النهي عن إقعاد اليهودي و النصراني على فراشه و مسجده في صحيحته الأخرى.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات الحديث 10.

(4) الوسائل- الباب- 125- من أبواب أحكام العشرة- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 300

و تدل على أن الغسل ليس للتطهير بل لإظهار التنفر-

مضافا الى ما تقدم- رواية خالد القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

ألقى الذمي فيصافحني، قال: امسحها بالتراب أو بالحائط، قلت:

فالناصب، قال: اغسلها» «1» فان الظاهر منها أن الموضوع في الموردين واحد، فيكون المسح بالتراب أو الحائط لإظهار نفرة و انزجار منهم، و هو في الناصب أشد. و يمكن أن يكون الغسل في الناصب للنجاسة و المسح في الذمي لإظهار النفرة، فالرواية دالة على طهارتهم.

و موثقة أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام «في مصافحة المسلم اليهودي و النصراني قال: من وراء الثوب، فان صافحك بيده فاغسل يدك» «2» و الظاهر منها أن غسل اليد ليس للنجاسة، و إلا لكان يأمر بغسل الثوب أيضا بل لأجل التماس مع يدهما و هو نحو انزجار و نفور، و الحمل على عرق اليدين مشترك، و التفكيك كما ترى، فتلك الطائفة أجنبية عن الدلالة على النجاسة.

و منها- ما دلت على النهي عن مؤاكلتهم في قصعة واحدة، كصحيحة علي بن جعفر المتقدمة و صحيحته الأخرى عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن فراش اليهودي و النصراني ينام عليه قال: لا بأس، و لا يصلى في ثيابهما، و لا يأكل المسلم مع المجوس في قصعة واحدة، و لا يقعده على فراشه و لا مسجده و لا يصافحه» إلخ «3» و صحيحة هارون بن خارجة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(3) مرت قريبا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 301

إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم، فقال: لا» «1» و الظاهر منها النهي عن المؤاكلة، فتدل على نجاستهم.

و فيه أنه

لا دلالة لها على النجاسة، لقوة احتمال مرجوحية المؤاكلة معهم مطلقا لا للسراية، كما أنه مقتضى إطلاقها الشامل لليابس سيما مع اشتمالها على النهي عن الإقعاد على الفراش و المسجد و نحوهما و تشهد له حسنة الكاهلي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم رجل مجوسي أ يدعونه الى طعامهم؟ فقال:

أما أنا فلا أواكل المجوس، و أكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم» «2» و المراد من التحريم المنع، و ظاهرها أن الحكم على سبيل التنزه لا الحرمة، كما هو ظاهر هذا التعبير في غير واحد من المقامات.

و صحيحة عيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني و المجوسي، فقال: إن كان من طعامك و توضأ فلا بأس» «3» و صحيحته الأخرى قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني، فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، و سألت عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس» «4» و لعل المراد بالتوضي الاستنجاء بالماء أو غسل يده، و هما ظاهرتا الدلالة في عدم نجاستهم، و النهي عن مؤاكلتهم على سبيل الكراهة مطلقا أو في بعض الصور.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(2) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 53- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 53- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 302

و منها- ما وردت في النهي عن آنيتهم، كصحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قال لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام: لا تأكل ذبائحهم و لا تأكل في آنيتهم-

يعني أهل الكتاب-» «1» و نحوها روايته الأخرى «2» و كذا رواية عبد اللّٰه بن طلحة «3» و صحيحة محمد بن مسلم قال:

«سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمة و المجوس، فقال:

لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الذي يطبخون و لا في آنيتهم الذي يشربون فيه الخمر» «4» بدعوى أن النهي عنه ظاهر في نجاستهم.

و فيها أن هاهنا احتمالين آخرين أقرب مما ذكر: أحدهما احتمال المرجوحية النفسية، لكون الأكل في آنيتهم أيضا نحو عشرة معهم، و الدليل عليه- مضافا إلى أن إطلاقها يقتضي منع الأكل من مطلق أوانيهم سواء كان المأكول يابسا أو لا و الآنية يابسة أو لا- رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في آنية المجوس فقال: «إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء» «5» فان الظاهر منها أن المنع ليس لنجاستهم و إلا لما قيده بالاضطرار، نعم ظاهر الأمر بالغسل نجاسة إنائهم، و إطلاقه يقتضي نجاستهم، و إن أمكن أن يقال: إن إطلاقه يقتضي لزوم غسل إنائهم و لو لم يستعملوها في المائعات أو شك فيه، فيكون الغسل نحو نفور و انزجار عنهم، تأمل.

ثانيهما أن الأمر بالغسل لكونها مستعملة في أكل النجس و شربه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب الذبائح- الحديث 10 و هذه الرواية ضعيفة فإن ابن سنان الواقع في سندها محمد بن سنان لا عبد اللّٰه بن سنان كما في التهذيب ج 9 ص 63 الرقم 269 و الاستبصار ج 4 ص 81 الرقم 302.

(2) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 3.

(4) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 54-

من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 303

و تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير» «1» و صحيحة إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله و لا تتركه، تقول: إنه حرام و لكن تتركه تتنزه (تنزها خ) عنه إن في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير» «2».

و هما مفسرتان لسائر الروايات. و ظاهرتان في طهارتهم، و شاهدتان للجمع بين جميع الروايات لو فرضت دلالتها على النجاسة في نفسها.

و منها- ما وردت في سؤرهم كصحيحة سعيد الأعرج بناء على كونه ابن عبد الرحمن كما هو الظاهر قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن سؤر اليهودي و النصراني، فقال: لا» «3» و مرسلة الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه كره سؤر ولد الزنا. و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك و كل من خالف الإسلام، و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «4» بناء على كون الكراهة الانزجار على نحو الالتزام و فيه مضافا إلى معارضتهما بما هو كالصريح في الطهارة أعني موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي فقال:

نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم» «5»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6

(2) الوسائل-

الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأسئار- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 304

و الظاهر أن المراد بقوله: «على أنه يهودي» أنه على فرض كون الرجل يهوديا. و الحمل على الظن بكونه يهوديا خلاف الظاهر، و صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الجارية النصرانية تخدمك و أنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة، قال: لا بأس، تغسل يديها» «1» و مقتضى الجمع بينهما و بين ما تقدم حمل النهى على الكراهة، لاحتمال النجاسة العرفية، بل الصحيحة الأخيرة شاهدة للجمع بين الروايات المتفرقة كما هو واضح.

يمكن منع دلالتهما، أما الثانية فهي على خلاف المطلوب أدلّ سيما مع اقترانه بولد الزنا، و أما الاولى فلأن استفادة نجاستهم منها انما هي بمدد ارتكاز العقلاء، على أن النهي عن سؤرهم لانفعال الماء منه، كما تستفاد النجاسة في سائر النجاسات من الأمر بالغسل أو النهي عن الصلاة فيها أو نحو ذلك، و هو في المقام ممنوع بعد الاحتمال العقلائي المعوّل عليه بأن الشرب من سؤرهم و فضلهم بما أنهم أعداء اللّٰه كان منهيا عنه و منفورا، سيما مع ورود النهي عن مؤاكلتهم و مصافحتهم و النوم معهم على فراش واحد، و إقعادهم على الفراش و المسجد، فإنها توجب قوة احتمال أن تكون النواهي الواردة فيهم نواهي نفسية لتجنب المسلمين و نفورهم عنهم، لا لنجاستهم العرضية أو الذاتية، بل لمحض كونهم مخالفين للإسلام و أعداء اللّٰه و رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله. و يؤيده

قوله في المرسلة: «و كان أشد ذلك عند سؤر الناصب» و بالجملة لو لم نقل بأن تلك النواهي ظاهرة في ذلك، فلا أقل من الاحتمال الراجح أو المساوي، فلا يستفاد منها نجاستهم بوجه.

و مما ذكرناه يظهر الكلام في روايات أخر. كموثقة عبد اللّٰه بن أبي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 11

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 305

يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و أن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1» فإن استفادة نجاستهم منها لمقارنتهم بالناصب مع تصريحه بأنهم أنجس من الكلب، و هي لم تصل إلى حد الدلالة فضلا عن معارضة غيرها، و لو سلمت دلالتها فمقتضى الجمع بينها و بين ما هو كالصريح في طهارتهم حملها على الكراهة أو على ابتلائهم بالنجاسات، مضافا إلى قيام شواهد على ذلك في روايات المنع عن الاغتسال بغسالة الحمام أو على الحمل على الكراهة كالتعليل بأن فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبع آباء، لمعلومية أن الطهارة فيها غير ما تقابل نجاسة ظاهر أبدانهم.

كرواية محمد بن علي بن جعفر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلا نفسه، فقلت لأبي الحسن: إن أهل المدينة يقولون: إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام و الزاني و الناصب الذي هو شرّهما و كل

من خلق اللّٰه ثم يكون فيه شفاء من العين؟» «2» بناء على أن المراد الغسل من غسالة الحمام.

و عنه عليه السلام في حديث أنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «3» و غيرها مما تشعر أو تدل على الكراهة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الماء المضاف- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 306

هذا إذا كان المراد من الغسالة غير ماء الحمام كما لا يبعد، و أما لو كان المراد ذلك فلا إشكال في كونها محمولة على الكراهة، للمستفيضة الدالة على عدم انفعال ماء الحمام، و أنه كماء النهر، و لا ينجسه شي ء.

فعليها أيضا تحمل صحيحة علي بن جعفر «أنه سأل أخاه موسى ابن جعفر عليه السلام عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام، قال:

إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحده على الحوض، فيغسله ثم يغتسل، و سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال. لا، إلا أن يضطر إليه» «1».

فإن الظاهر منها الاغتسال بماء الحمام لا غسالته المجتمعة في البئر فلا محيص عن الحمل على الكراهة، لعدم انفعاله، مع أن الظاهر من ذيلها طهارتهم، و الحمل على الاضطرار للتقية كما ترى.

و منها- ما وردت فيما يعملون من الثياب أو يستعيرونها «2» فإنها و إن اشتملت على نفي البأس غالبا، لكن يظهر منها معهودية نجاستهم و فيه أنها أعم من الذاتية، كما

تشعر أو تدل على العرضية نفس الروايات، مع أنها لا تقاوم الأدلة الصريحة أو كالصريحة بطهارتهم كما مرت.

فتحصل من جميع ذلك أن لا دليل على نجاسة أهل الكتاب و لا الملحدين ما عدا المشركين، بل مقتضى الأصل طهارتهم، بل قامت الأدلة على طهارة الطائفة الأولى، بل هي مقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على جواز تزويج الكتابية و اتخاذها ظئرا، و تغسيل الكتابي للميت المسلم بعض الأحيان، إلى غير ذلك. و يؤيدها مخالطة الأئمة عليهم السلام

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

(2) راجع الوسائل- الباب- 73 و 74- من أبواب النجاسات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 307

و خواصهم مع العامة الغير المتحرزين عن معاشرتهم.

فالمسألة مع هذه الحال التي تراها لا ينبغي وقوع خطأ عمن له قدم في الصناعة فيها، فضلا عن أكابر أصحاب الفن و مهرة الصناعة، فكيف بجميع طبقاتهم، و من ذلك يعلم أن المسألة معروفة بينهم من الأول، و أخذ كل طائفة من سابقتها، و هكذا إلى عصر الأئمة عليهم السلام و التمسك بالأدلة أحيانا ليس لابتناء الفتوى عليها.

و لقد أجاد العلم المحقق صاحب الجواهر قدس اللّٰه نفسه حيث قال: «فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعد له الملك العلام» و تعريض بعض الأجلة عليه وقع في غير محله، و خروج عن الحد في حق من عجز البيان عن وصفه، و عقم الدهر عن الإتيان بمثله في التحقيق و التدقيق و الكر و الفر و الرتق و الفتق و جودة الذهن و ثقابة الفكر و الإحاطة بأطراف المسائل و الآثار و الدلائل شكر اللّٰه سعيه، و نضر اللّٰه وجهه، و جزاه اللّٰه عنا و عن

الإسلام أفضل الجزاء.

ثم أنه لا فرق في نجاسة الكفار بين ما تحله الحياة و ما لا تحله لا للآية الكريمة المتقدمة الظاهرة في نجاسة المشرك الذي هو الموجود الخارجي بجميع أجزائه كالكلب الذي هو اسم للموجود كذلك و تتميمه بعدم القول بالفصل، و لا لما دل على نجاسة الناصب بعنوانه الشامل لما ذكر و تتميمه بما ذكر، و إن كان لهما وجه.

بل لإطلاق معاقد الإجماعات و إطلاق فتاوى الأصحاب، لعدم تعقل طهارة ما لا تحله الحياة من الكفار، و عدم استثناء الفقهاء مع شمول اللفظ للموجود بجميع أجزائه، و هل هذا إلا الفتوى بغير ما أنزل اللّٰه تعالى؟ و هل ترى أن استثناء ما لا تحل في الميتة وقع من باب الاتفاق كعدم الاستثناء هاهنا؟

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 308

و لو كان اللفظ غير شامل له عندهم و احتمل خطأ الكل في مثل هذا الأمر الواضح فلم استثنوها في الميتة و تركوها هاهنا؟ بل ليس ذلك إلا لعدم كونها مستثناة عندهم، نعم مقتضى كلام السيد في الناصريات و استدلاله في خروج ما لا تحله الحياة في الكلب و الخنزير جريان بحثه هاهنا أيضا، لكنه ضعيف.

و يلحق بالكافر ما تولد من الكافرين، كما عن المبسوط و التذكرة و الإيضاح و كشف الالتباس، و عن الأستاذ أن الصبي الذي يبلغ مجنونا نجس عند الأصحاب، و هو مؤذن بالإجماع، و عن الكفاية أنه مشهور، و قرّبه العلامة، قيل: و هو مؤذن بالخلاف، و هو غير معلوم، و في جهاد الجواهر دعوى الإجماع بقسميه على تبعية الولد لوالديه في النجاسة و الطهارة، و عن جملة من الكتب دعوى الإجماع صريحا على تبعية الولد المسبيّ

مع أبويه لهما في النجاسة.

و الدليل عليها- مضافا إلى ذلك و إلى احتمال صدق اليهودي و النصراني و المجوسي على أولادهم، كما جزم به النراقي حتى في الناصب و إن لا يخلو من نظر بل منع، سيما في الأخير، و إلى صدق العناوين على أطفالهم المميزين المظهرين لدين آبائهم، سيما مع قربهم بأوان التكليف، مع عدم القول بالفصل جزما- السيرة القطعية على معاملة الطائفة الحقة معهم معاملة آبائهم في الاحتراز عنهم، و إلحاقهم بآبائهم، و عدم الافتراق بينهم.

و أما سائر الاستدلالات فغير تام، كالاستصحاب و تنقيح المناط عند أهل الشرع، حيث أنهم يتعدون من نجاسة الأبوين ذاتا إلى أولادهما و هو شي ء مركوز في أذهانهم إن لم يرجع الى ما تقدم من السيرة القطعية

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 309

و كقوله تعالى «وَ لٰا يَلِدُوا إِلّٰا فٰاجِراً كَفّٰاراً» «1» و قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «أبوانه يهودانه» بدعوى أن المراد منه يجعلانه تبعا لهما في التهوّد، و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «2» و غيرها مما وردت في أولاد الكفار، و رواية حفص بن غياث: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك، فقال: إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار، و هم أحرار و ولده و متاعه و رقيقه له، و أما الولد الكبار فهم في ء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك» إلخ «3» لما مر في نظائره من أن الطفل في بطن أمه ليس من أجزائها، و استصحاب الكلي الجامع بين الذاتية و العرضية قد عرفت ما فيه، و تنقيح المناط إن لم يرجع

الى السيرة المتقدمة ممنوع بعد عدم كفر الصغار و عدم نصبهم.

و لا يراد من عدم توليدهم إلا فاجرا كفارا هو كونهم كذلك لدى

______________________________

(1) سورة نوح: 71- الآية 27.

(2) قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث، قال: كفار، و اللّٰه أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم» و قال عليه السلام: «يؤجّج لهم نار فيقال لهم: أدخلوها، فان دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما، و إن أبوا قال لهم اللّٰه عز و جل: هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني، فيأمر اللّٰه عز و جل بهم الى النار» و لا يخفى أنه بصدد بيان حالهم فيما بعد الموت لا حال حياتهم- راجع من لا يحضره الفقيه- ج 3 ص 317 ط نجف- باب حال من يموت من أطفال المشركين و الكفار (151) الحديث 2، و بحار الأنوار ج 5 ص 295 من الطبعة الحديثة.

(3) الوسائل- الباب- 43- من أبواب جهاد العدو- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 310

الولادة، ضرورة عدم كونه فاجرا، بل المراد أنهم يصيرون كذلك بسوء تربيتهم و تلقيناتهم، و هو المراد من تهويد الوالدين، و الروايات المشار إليها مع مخالفتها لأصول العدلية غير مربوطة بعالم التكليف، مضافا الى معارضتها لجملة أخرى من الروايات الدالة على امتحانهم في الآخرة بتأجيج النار و أمرهم بالدخول فيها.

و رواية حفص- مع الغض عن سندها- لا تدل على المقصود، لأن قوله عليه السلام: «إسلامه إسلام» إلخ ليس على وجه الحقيقة بل على نحو التنزيل، و لم يتضح التنزيل من جميع الجهات و إن لا يبعد ثم لو سلم ذلك لا تدل على عمومه للكفر أيضا،

كما لا يخفى.

و أما الاستدلال على طهارتهم بالأصل و قوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا» «1» المفسر بفطرة التوحيد و المعرفة و الإسلام «2» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه» إلخ «3» ففيه ما لا يخفى، لانقطاع الأصل بما تقدم، و عدم كون المراد من فطرة التوحيد أو الإسلام هو كونهم موحدين مسلمين، بل المراد ظاهرا أنهم مولودون على وجه لو لا إضلال الأبوين و تلقيناتهما لاهتدوا بنور فطرتهم الى تصديق الحق و رفض الباطل عند التنبه على آثار التوحيد و أدلة المذهب الحق، و هو المراد من النبوي المعروف.

و لو أسلم أحد الأبوين ألحق به ولده، لا لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله:

______________________________

(1) سورة الروم: 30- الآية 30.

(2) راجع أصول الكافي ج 2 ص 12 من الطبعة الحديثة (باب فطرة الخلق على التوحيد).

(3) راجع المصدر المذكور آنفا- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 311

«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» «1» لمنع دلالته على ذلك، لاحتمال أن يكون المراد منه غلبة حجته على سائر الحجج، أو يكون المراد منه عدم علوّ غير المسلم على المسلم، نظير قوله وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «2» و لا لقوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ إلخ «3» لكونه أجنبيا عما نحن بصدده، و لا للنبوي: «كل مولود» إلخ، لما تقدم، و لا لكون عمدة دليل الحكم بالتبعية الإجماع و السيرة فليقتصر على القدر المتيقن منهما، و هو ثبوت الحكم مع تبعيته لهما، و مقتضى الأصل الطهارة لما يأتي من جريان استصحاب النجاسة فيه

و في المسبي.

بل لعدم نقل الخلاف في المسألة، و دعوى الشيخ الإجماع عليها في لقطة الخلاف، قال: «إذا أسلمت الأم و هي حبلى من مشرك أو كان منه ولد غير بالغ فإنه يحكم للولد و الحمل بالإسلام و يتبعانها- ثم قال-:

دليلنا إجماع الفرقة» و في نسخة «و أخبارهم» و في جهاد الجواهر نفي وجدان الخلاف عنها، كما اعترف به بعضهم، و استدل برواية حفص بن غياث المتقدمة، و لا يبعد دعوى عموم التنزيل فيها متمسكا بإطلاقه.

و أما المسبي فإن انفرد عن أبويه ففي إلحاقه بالسابي المسلم في مطلق الأحكام أو في الطهارة فقط أو عدم الإلحاق مطلقا وجوه: أوجهها الأخير، لاستصحاب نجاسته المتيقنة قبل السبي، و كذا غيرها من الأحكام.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 243- الرقم 778 (باب ميراث أهل الملل- الحديث 3).

(2) سورة النساء: 4- الآية 141.

(3) سورة الطور: 52- الآية 21.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 312

و استشكل الشيخ الأعظم فيه بأن الدليل على ثبوت النجاسة للطفل هو الإجماع، و لم يعلم ثبوتها لنفس الطفل أو الطفل المصاحب للأبوين فلعل لوصف المصاحبة مدخلا في الموضوع الذي يعتبر القطع ببقائه في جريان الاستصحاب.

و إليه يرجع ما في كلام بعض أهل التحقيق في الاشكال على استصحاب نجاسة من أسلم أحد أبويه بتبدل الموضوع و عدم بقائه عرفا، لأن وصف التبعية من مقوّمات الموضوع عرفا في مثل هذه الأحكام الثابتة له بالتبع، و أضاف إليه أن الاستصحاب فيه من قبيل الشك في المقتضي و الجواب عنه ما مرّ مرارا من أن المعتبر في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها من غير مدخلية لبقاء موضوع الدليل الاجتهادي و

عدمه، بل و مع القطع بعدم بقاء ما أخذ في موضوعه، فلو علمنا بأن المأخوذ في الدليل الاجتهادي هو الطفل المصاحب لأبويه لكن كان الدليل قاصرا عن نفي الحكم عما بعد المصاحبة و شككنا في بقاء الحكم لاحتمال أن يكون وصف المصاحبة واسطة في الإثبات و دخيلا في ثبوت الحكم لا في بقائه فلا إشكال في جريانه، لأنا على يقين من أن الطفل الموجود في الخارج كان نجسا ببركة الكبرى الكلية المنضمة إلى الصغرى الوجدانية، فيشار الى الطفل الموجود، و يقال: هذا كان مصاحبا لأبويه الكافرين، و كل طفل كان كذلك كان نجسا و لو لأجل مصاحبته، فهذا كان نجسا، و هو القضية المتيقنة المتحدة مع القضية المشكوك فيها.

و لو قيل: إن القضية المتيقنة ببركة الدليل الاجتهادي لا بد و أن تكون على طبقه، و هو لم يثبت الحكم على نفس الذات بل على الذات الموصوفة، و هي غير باقية، يقال له: إن الذات الموصوفة متحدة الوجود

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 313

في الخارج مع الذات، و لا يعقل حصول القطع بنجاسة الذات الموصوفة الخارجية، و عدم حصول القطع بنجاسة الذات، و التفكيك بين العناوين الكلية لا يستلزم التفكيك في الموجود الخارجي عرفا، فإذا كان زيد عالما في الخارج يحصل القطع بأن ابن عمرو و ابن أخ الخالد عالم لمكان الاتحاد و لو كانت العناوين مختلفة، و بالجملة إنكار العلم بأن الطفل الموجود المسمى بفلان نجس مكابرة.

فالقضية المتيقنة موضوعها الطفل المسمى بكذا، و هو باق بعينه عقلا و عرفا، مع أن ما ذكر مستلزم للبناء على طهارة ما انقطعت عنه هذه المصاحبة و لو بغير السبي، كما لو فرّ الطفل

من حجر أبويه أو مات الأبوان أو أخذه الوالي و سلمه الى دار الرضاعة من غير البناء على عودة إليهما، الى غير ذلك مما لا يمكن الالتزام به.

و دعوى دخالة السبي في الحكم بالطهارة مع خلوها عن الدليل خروج عن محط البحث و فرار عن المبنى، و الاستدلال للتبعية ببعض ما تقدم من النبوي و غيره كما ترى، فالأقوى عدم تبعيته مطلقا إذا سبي منفردا فضلا عمن سبي مع أبويه أو أحدهما.

و أما اللقيط فمقتضى الأصل طهارته، و عدم جريان الأحكام المخالفة للقواعد عليه، نعم لا يبعد جريان حكم المسلم عليه إذا غلب على البلد المسلمون بحيث يكون غيرهم نادرا، و حكم الكافر إذا غلبت الكفار كذلك، لعدم اعتناء العقلاء في أمثال ذلك على الاحتمال، كما في الشبهة الغير المحصورة و نحوها، إلا أن يقال: مجرد الغلبة لا يكون حجة ما لم يحصل العلم العادي و الاطمئنان إلا إذا كان بناء العقلاء على العمل و أحرزنا إمضاء الشارع، و هو مشكل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 314

تنبيه: في تحصيل مفهوم الكفر،

و الظاهر مقابلته مع الإسلام تقابل العدم و الملكة، و الكافر و غير المسلم مساوقان، فمن لم يعتقد بالألوهية و لو لم يعتقد بخلافها و لم ينقدح في ذهنه شي ء من المعارف و مقابلاتها يكون كافرا، و ما ذكرناه هو المرتكز عند المتشرعة، و المستفاد من الأدلة.

فما في بعض الروايات مما يوهم خلاف ذلك لا بد من توجيهه.

كقوله (ع) في رواية عبد الرحيم القصير: «و لا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود و الاستحلال» «1» و في صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا

لم يكفروا» «2» و رواية محمد بن مسلم قال: «كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه إذ دخل أبو بصير، فقال: يا أبا عبد اللّٰه ما تقول فيمن شك في اللّٰه تعالى؟ قال: كافر يا أبا محمد، قال: فشك في رسول اللّٰه؟ فقال: كافر، ثم التفت إلى زرارة فقال. إنما يكفر إذا جحد» «3» و لعل المراد أنه لا يحكم بكفره إلا مع الجحود، و من المحتمل أن يكون «يكفر» من التفعيل مبنيا للمفعول.

بل هو مقتضى الجمع بين صدرها و ذيلها، و مقتضى الجمع بينها

______________________________

(1) راجع أصول الكافي- ج 3 ص 37 (باب أن الإسلام قبل الايمان)

(2) هذه الرواية ضعيفة، لأن في سندها محمد بن سنان على ما في أصول الكافي ج 2 ص 388 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 19)

(3) أصول الكافي ج 2 ص 399 من الطبعة الحديثة (باب الشك- الحديث 3).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 315

و بين غيرها مما حكم فيه بكفر الشاك كصحيحة منصور بن حازم قال:

«قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: من شك في رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قال: كافر، قال: قلت: فمن شك في كفر الشاك فهو كافر؟ فأمسك عني، فرددت عليه ثلاث مرات، فاستنبت في وجهه الغضب» «1» و عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة: «لا ترتابوا فتشكوا، و لا تشكوا فتكفروا» «2» و في صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «من شك في اللّٰه تعالى و في رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله فهو كافر» «3».

و بالجملة لا إشكال بحسب ارتكاز المتشرعة في مقابلة الكفر

و الإسلام و أن الكافر من لم يكن مسلما، و من شأنه ذلك، فلا بد في تحصيل معنى الكفر من تحصيل مفهوم الإسلام حتى يتضح هو بمقابلته.

فنقول: إن المسلم بحسب ارتكاز المتشرعة هو المعتقد باللّٰه تعالى، و وحدانيته، و رسالة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، أو الشهادة بالثلاثة على احتمالين يأتي الكلام فيهما.

و هذه الثلاثة مما لا شبهة و لا خلاف في اعتبارها في معنى الإسلام و يحتمل أن يكون الاعتقاد بالمعاد إجمالا أيضا مأخوذا فيه لدى المتشرعة على تأمل يأتي وجهه.

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 387 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 11).

(2) أصول الكافي ج 2 ص 399 من الطبعة الحديثة (باب الشك- الحديث 2).

(3) أصول الكافي- ج 2 ص 386 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 10).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 316

و أما الاعتقاد بالولاية فلا شبهة في عدم اعتباره فيه، و ينبغي أن يعد ذلك من الواضحات لدى كافة الطائفة الحقة إن أريد بالكفر المقابل له ما يطلق على مثل أهل الذمة من نجاستهم و حرمة ذبيحتهم و مساورتهم و تزويجهم، ضرورة استمرار السيرة من صدر الإسلام إلى زماننا على عشرتهم و مؤاكلتهم و مساورتهم و أكل ذبائحهم و الصلاة في جلودها، و ترتيب آثار سوق المسلمين على أسواقهم من غير أن يكون ذلك لأجل التقية، و ذلك واضح لا يحتاج إلى مزيد تجشم.

لكن اغتر بعض من اختلت طريقته ببعض ظواهر الأخبار و كلمات الأصحاب من غير غور إلى مغزاها، فحكم بنجاستهم و كفرهم، و أطال في التشنيع على المحقق القائل بطهارتهم بما لا ينبغي له و له، غافلا عن أنه حفظ أشياء

هو غافل عنها، فقد تمسك لنجاستهم بأمور:

منها روايات مستفيضة دلت على كفرهم، كموثقة الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إن اللّٰه تعالى نصب عليا علما بينه و بين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، و من جاء بولايته دخل الجنة، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالا، و من نصب معه شيئا كان مشركا، و من جاء بعداوته دخل النار» «1».

و رواية أبي حمزة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

إن عليا باب فتحه اللّٰه تعالى من دخله كان مؤمنا و من خرج منه كان

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 388 من الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 20) و فيه: «فمن عرفه كان مؤمنا و من أنكره كان كافرا-- إلى أن قال-: و من جاء بولايته دخل الجنة و من جاء بعداوته دخل النار».

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 317

كافرا» «1» و نحوهما أخبار كثيرة، و فيه أن كفرهم على فرض تسليمه لا يفيد ما لم يضم إليه كبرى كلية هي: كل كافر نجس، و لا دليل عليها سوى توهم إطلاق معاقد إجماعات نجاسة الكفار.

و هو وهم ظاهر، ضرورة أن المراد من الكفار فيها مقابل المسلمين الأعم من العامة و الخاصة، و لهذا ترى إلحاقهم بعض المنتحلين إلى الإسلام كالخوارج و الغلاة بالكفار، فلو كان مطلق المخالف نجسا عندهم فلا معنى لذلك، بل يمكن دعوى الإجماع أو الضرورة بعدم نجاستهم، و تخيل أن المحقق أول من قال بطهارتهم باطل، لقلة مصرح بنجاستهم قبله أيضا.

نعم قد صرح جمع بكفرهم، منهم المحقق في أوصاف المستحقين من كتاب الزكاة، قال: «و كذا لا يعطى غير الإمامي و إن

اتصف بالإسلام، و نعني بهم كل مخالف في اعتقادهم الحق، كالخوارج و المجسمة و غيرهم من الفرق الذين يخرجهم اعتقادهم عن الايمان- إلى أن قال-:

إن الايمان هو تصديق النبي صلّى اللّٰه عليه و آله في كل ما جاء به، و الكفر جحود ذلك، فمن ليس بمؤمن فهو كافر» انتهى.

و مع ذلك قد صرح بطهارتهم في كتاب الطهارة، فالقول بكفرهم و طهارتهم غير متناقضين، لعدم الدليل على نجاسة مطلق الكفار، و العلامة أيضا- مع ظهور كلامه في محكي شرحه لكتاب فصّ الياقوت تصنيف الشيخ ابن نوبخت في كفرهم بالمعنى المعروف على تأمل- لم يحكم بنجاستهم في طهارة القواعد و التذكرة و المنتهى، بل صرح في التذكرة بطهارة من عدا النواصب منهم، فيظهر منه أن كفرهم لا يلازم نجاستهم.

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 388 الطبعة الحديثة (باب الكفر- الحديث 16).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 318

و من ذلك يعلم عدم استفادة النجاسة من مثل قول ابن نوبخت:

«دافعوا النص كفرة عند جمهور أصحابنا، و من أصحابنا من يفسقهم» و لا من قول ابن إدريس المحكي عن السرائر بعد اختيار عدم جواز الصلاة على المخالف تبعا للمفيد «و هو أظهر، و يعضده القرآن، و هو قوله تعالى وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً «1» يعني الكفار، و المخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا» انتهى.

و لعل السيد المرتضى أيضا حكم بكفرهم دون نجاستهم و إن كان ما نقل عنه خلاف ذلك، و هكذا حال سائر العبارات الموجبة لاغترار الغافل.

و بالجملة لو التزمنا بكفرهم لا يوجب ذلك الالتزام بنجاستهم بعد عدم الدليل عليها و على نجاسة مطلق الكفار الشامل لهم، بل مع قيام

الأدلة على طهارتهم من النصوص المتفرقة في أبواب الصيد و الذباحة و سوق المسلم و غيرها، و توهم أن المراد من المسلم في النصوص و الفتاوى في تلك الأبواب خصوص الشيعة الاثنى عشرية من أفحش التوهمات.

هذا كله لو سلم أنهم كفار، مع أنه غير مسلم، لتطابق النصوص و الفتاوى في الأبواب المتفرقة على إطلاق المسلم عليهم، فلا يراد بذبيحة المسلمين و لا سوقهم و بلادهم إلا ما هو الأعم من الخاصة و العامة لو لم نقل باختصاصها بهم، لعدم السوق في تلك الأعصار للشيعة كما هو ظاهر كما أن المراد من إجماع المسلمين في كتب أصحابنا هو الأعم من الطائفتين. هذا مع ما تقدم من ارتكاز المتشرعة خلفا بعد سلف على إسلامهم.

و أما الأخبار المتقدمة و نظائرها فمحمولة على بعض مراتب الكفر، فإن الإسلام و الايمان و الشرك أطلقت في الكتاب و السنة بمعان مختلفة،

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 84.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 319

و لها مراتب متفاوتة و مدارج متكثرة، كما صرحت بها النصوص، و يظهر من التدبر في الآيات، ففي آية قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا، وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1» و في آية فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً «2» و في آية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ «3» و في آية فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا «4» و في آية فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلٰامِ «5».

و في رواية: «الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها» «6» و في أخرى «و الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه، و التصديق

برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «7» و في ثالثة:

«إن اللّٰه خلق الإسلام فجعل له عرصة، و جعل له نورا، و جعل له حصنا، و جعل له ناصرا» إلخ «8» و في رابعة «الإسلام عريان فلباسه الحياء، و زينته الوفاء، و مروته العمل الصالح، و عماده الورع، و لكل شي ء أساس و أساس الإسلام حبنا أهل البيت» «9» و في خامسة «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي و لا

______________________________

(1) سورة الحجرات: 49- الآية 14.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 319

(2) سورة الجن: 72- الآية 14.

(3) سورة آل عمران: 3- الآية 19.

(4) سورة آل عمران: 3- الآية 20.

(5) سورة الأنعام: 6- الآية 125.

(6) راجع أصول الكافي- ج 2 ص 26 من الطبعة الحديثة (باب أن الايمان لا يشرك الإسلام و الإسلام لا يشرك الايمان- الحديث 5)

(7) راجع المصدر المذكور آنفا ص 25- الحديث 1.

(8) أصول الكافي- ج 2 ص 46 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 3) و في بعض النسخ: «و زينته الوقار»

(9) أصول الكافي- ج 2 ص 46 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 2) و في بعض النسخ: «و زينته الوقار»

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 320

ينسبه أحد بعدي إلا بمثل ذلك. إن الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو العمل، و العمل هو الأداء» إلخ «1».

و كذا للإيمان مراتب لو حاولنا ذكرها خرجنا عما هو مقصدنا الآن، و

بإزاء كل مرتبة من مراتب الإسلام و الايمان مرتبة من مراتب الكفر و الشرك، فراجع أبواب أصول الكافي و غيره: كباب وجوه الكفر و باب وجوه الشرك، و باب أدنى الكفر و الشرك، ترى أنهما أطلقا على غير الإمامي، و على الكافر بالنعمة، و على تارك ما أمر اللّٰه به، و على تارك الصلاة. و على تاركها مع الجهد، و على تارك عمل أقر به، و على من عصى عليا عليه السلام، و على الزاني و شارب الخمر، و من ابتدع رأيا فيحب عليه و يبغض، و من سمع عن ناطق يروي عن الشيطان، و على من قال للنواة إنها حصاة و للحصاة إنها نواة ثم دان به، و قد استفاضت الروايات في إطلاق المشرك على المرائي، بل يستفاد من بعض الروايات أن من لقي اللّٰه و في قلبه غيره تعالى فهو مشرك، إلى غير ذلك.

فهل لصاحب الحدائق و أمثاله أن يقولوا: إن كل من أطلق في الروايات عليه المشرك أو الكافر فهو نجس، و ملحق بالكفار و أهل الكتاب؟ فهلا تنبه بأن الروايات التي تشبث بها لم يرد في واحدة منها أن من عرف عليا عليه السلام فهو مسلم و من جهله فهو كافر، بل قابل في جميعها بين المؤمن و الكافر، و الكافر المقابل للمسلم غير المقابل للمؤمن.

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 45 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 1).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 321

و الانصاف أن سنخ هذه الروايات الواردة في المعارف غير سنخ ما وردت في الفقه، و الخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، و لهذا أن صاحب الوسائل لم يورد تلك الروايات في

أبواب النجاسات في جامعه، لأنها أجنبية عن افادة الحكم الفقهي.

ثم مع الغض عن كل ذلك فقد وردت روايات أخر حاكمة عليها لا يشك معها ناظر في أن إطلاق الكافر عليهم ليس على ما هو موضوع للنجاسة و سائر الآثار الظاهرة، كموثقة سماعة قال: «قلت: لأبي عبد اللّٰه عليه السلام أخبرني عن الإسلام و الايمان انهما مختلفان؟

فقال: إن الايمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الايمان، فقلت:

فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس» إلخ «1».

و حسنة حمران بن أعين أو صحيحته عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب و افضى به الى اللّٰه و صدقه العمل بالطاعة للّٰه، و التسليم لأمر اللّٰه، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء، و عليه جرت المواريث، و جاز النكاح- الى أن قال-: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شي ء من الفضائل و الاحكام و الحدود و غير ذلك؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحد، و لكن للمؤمن فضل على المسلم» إلخ «2». و بعض فقرأت هذا الحديث لا يخلو من

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 25 من الطبعة الحديثة (باب أن الايمان يشركه الإسلام و الإسلام لا يشرك الايمان- الحديث 1).

(2) راجع المصدر المذكور آنفا ص 26- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 322

تشويش فراجع.

و رواية سفيان بن السمط قال: «سأل رجل أبا عبد اللّٰه

عليه السلام عن الإسلام و الايمان ما الفرق بينهما؟ فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، ثم التقيا في الطريق و قد أزف من الرجل الرحيل فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام: كأنه قد أزف منك رحيل؟ فقال: نعم، قال: فالقني في البيت فلقيه، فسأل عن الإسلام و الايمان ما الفرق بينهما؟ فقال:

الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت و صيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، و قال: الايمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقرّ بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما و كان ضالا» «1».

و رواية قاسم الصيرفي قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام:

الإسلام يحقن به الدم، و تؤدى به الامانة، و تستحل به الفروج، و الثواب على الايمان» «2» و قريب منها روايات أخر يظهر منها بنحو حكومة أن الناس مسلمون، و أن الإسلام عبارة عن الشهادتين، و بهما حقنت الدماء، و جرت الأحكام، و إن كان الثواب على الايمان و الفضل له «3».

هذا مع ما مرّ من أن الكفر يقابل الإسلام تقابل العدم و الملكة حسب ارتكاز المتشرعة و أن ما أخذ في ماهية الإسلام ليس إلا الشهادة بالوحدانية و الرسالة و الاعتقاد بالمعاد بلا إشكال في الأولين، و على

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 24 من الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و أن الثواب على الايمان الحديث 4).

(2) أصول الكافي ج 2 ص 24 من الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و أن الثواب على الايمان

الحديث 1).

(3) راجع أصول الكافي- ج 2 ص 24 و 25 و 26 من الطبعة الحديثة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 323

احتمال اعتبار الأخير أيضا و لو بنحو الإجمال، و لا يعتبر فيها سوى ذلك سواء فيه الاعتقاد بالولاية و غيرها، فالإمامة من أصول المذهب لا الدين.

فالعامة العمياء من المسلمين بشهادة جميع الملل مسلما و غيره، و إنكاره إنكار لأمر واضح عند جميع طبقات الناس، فما وردت في أنهم كفار لا يراد به الحقيقة بلا إشكال، و لا التنزيل في الأحكام الظاهرة لأنه مع مخالفته للأخبار المستفيضة بل المتواترة التي مرت جملة منها واضح البطلان، ضرورة معاشرة أهل الحق معهم أنواع العشرة من لدن عصر الأئمة عليهم السلام إلى الحال من غير نكير، و من غير شائبة تقية.

فلا بد من حملها إما على التنزيل في الأحكام الباطنة، كالثواب في الآخرة كما صرحت به رواية الصيرفي أو على بعض المراتب التي هي غير مربوطة بالأحكام الظاهرة، و أما الحمل على أنهم كفار حقيقة لكن يجري عليهم أحكام الإسلام ظاهرا و لو من باب المصالح العالية و عدم التفرقة بين جماعات المسلمين فغير وجيه بعد ما تقدم من أنه لا يعتبر في الإسلام إلا ما مرّ ذكره.

و مما ذكرناه يتضح الجواب عن دعوى صاحب الحدائق بأنهم نصاب و كل ناصب نجس، أما الصغرى فلروايات: منها رواية عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمدا و آل محمد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انكم تتولونا و انكم من شيعتنا» «1» و نحوها

عن المعلى بن خنيس «2»، و منها مكاتبة محمد بن علي بن عيسى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 324

المنقولة عن السرائر قال: «كتبت إليه يعني علي بن محمد عليهما السلام أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب» «1» و أما الكبرى فللإجماع و الأخبار على نجاسة الناصب.

و الجواب بمنع المقدمة الأولى لضعف مستندها، أما الرواية الأولى فمضافا الى ضعف سندها بجميع طرقها في متنها، و هي أما أوّلا فلورود روايات تدل على وجود الناصب لهم أهل البيت عليهم السلام، و حملها على الناصب لشيعتهم بعيد جدا، مع أن الواقع على خلاف ذلك، فكم لهم ناصب و عدو في عصرهم!.

و أما ثانيا فلأن الظاهر منها أن كل من نصب لمن يعلم أنه يتولاهم و شيعتهم فهو ناصب، و لا يمكن الالتزام به، إلا أن يقال: إن من نصب لجميع الشيعة التي تولى الأئمة عليهم السلام مع علمه بذلك فهو ناصب، أي ناصب للشيعة و للموالي بما هم كذلك، لكنه ملازم لعداوتهم، سيما مع ضم توليهم، فان البغض لمن يتولاهم بما هو كذلك يرجع الى البغض لهم، و لعل المراد أن الناصب لم يصرح بعداوتنا، و لو نصب لكم بما أنتم من موالينا يكون ذلك دليلا على نصبه.

و أما الرواية الثانية فمع ضعفها سندا أيضا مخالفة للواقع إن كان المراد أن كل من قدمهما فهو ناصب لهم حقيقة، كيف و كثير منهم

لا يكونون ناصبين لهم و إن قدموا الجبت و الطاغوت، فيحتمل التنزيل بحسب الآثار في يوم القيامة، و أما بحسب الآثار ظاهرا فلا، لما تقدم.

و بمنع المقدمة الثانية، أما دعوى الإجماع على الكلي بحيث يشمل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب ما يجب فيه الخمس- الحديث 14 عن موسى بن محمد بن علي بن عيسى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 325

محل البحث فواضحة الفساد، بل يمكن دعوى الإجماع على خلافها، بل الإجماع العملي من جميع الطبقات على خلافها، و أما الأخبار فصرح في جملة منها بالناصب لنا أهل البيت، و ما اشتملت على الناصب بلا قيد فمحمول عليه، لتبادر الناصب للناصب لهم لا لشيعتهم، بل مع تلك السيرة القطعية و الإجماع العملي لا يمكن العمل برواية على خلافهما لو وردت كذلك فضلا عن فقدانها.

و مما ذكرنا يظهر الحال في غير الاثني عشري من سائر فرق الشيعة كالزيدي و الواقفي، نعم لو كان فيهم من نصب لأهل البيت فمحكوم بحكمه، و سيأتي الكلام فيه، و أما مجرد الزيدية و الواقفية فلا يوجب الكفر المقابل للإسلام و حال الأخبار الواردة فيهم حال ما وردت في الناس، و قد عرفت الكلام فيها.

و من بعض ما ذكر يظهر حال الدعوى الأخرى لصاحب الحدائق و هي أنهم منكرون للضروري من الإسلام، و من كان كذلك فكافر، لكنه خلط بين مطلق العامة و نصابهم من قبيل يزيد و ابن زياد عليهما لعائن اللّٰه، و فيها أولا أن الإمامة بالمعنى الذي عند الإمامية ليست من ضروريات الدين، فإنها عبارة عن أمور واضحة بديهية عند جميع طبقات المسلمين، و لعل الضرورة عند كثير على خلافها فضلا عن كونها ضرورة،

نعم هي من أصول المذهب، و منكرها خارج عنه لا عن الإسلام و أما التمثيل بمثل قاتلي الأئمة عليهم السلام و ناصبيهم غير مربوط بالمدعى.

و ثانيا أن منكر الضروري بوجه يشمل منكر أصل الإمامة لا دليل على نجاسته من إجماع أو غيره، بل الأدلة على خلافها كما تقدم الكلام فيها.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 326

تنبيه آخر: قد اختلفت كلماتهم في كفر منكر الضروري و نجاسته،

فلا بد من تمحيص البحث في منكره بما هو في مقابل منكر الألوهية و النبوة، و أما البحث عن المنكر الذي يرجع إنكاره إلى إنكار اللّٰه تعالى أو النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فهو خارج عن محط البحث، ضرورة أن الموجب للكفر حينئذ هو إنكار الأصلين لا الضروري، و هو بأيّ نحو موجب له نعم أحد مبرزاته إنكار الضروري أحيانا، فالبحث المفيد هاهنا هو أن إنكاره مستقلا موجب للكفر كانكارهما أو لا؟.

ثم أن القائل بأن إنكاره موجب له إذا رجع الى إنكار أحد الأصلين من المنكرين لموجبيته له، فقد استدل الشيخ الأعظم على كفره بوجوه: منها أن الإسلام عرفا و شرعا عبارة عن التدين بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال اللّٰه تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ «1» ثم تمسك بروايات يأتي حالها، ثم قال: و أما ما دل من النصوص و الفتاوى على كفاية الشهادتين في الإسلام فالظاهر أن المراد به حدوث الإسلام ممن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام، إذ يكفي منه الشهادة بالوحدانية و الرسالة المستلزمة للالتزام بجميع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إجمالا فلا ينافي ما ذكرنا من أن عدم التدين ببعض الشريعة أو التدين بخلافه موجب للخروج عن

الإسلام، و كيف كان فلا إشكال في أن عدم التدين بالشريعة كلا أو بعضا مخرج عن الدين و الإسلام.

______________________________

(1) سورة آل عمران: 3- الآية 19.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 327

ثم ذكر أقسام المنكرين و ساق الكلام إلى أن قال في تأييد عموم كلام الفقهاء في نجاسة الخوارج و النواصب للقاصر و المقصر: و يؤيدها ما ذكرنا من أن التارك للتدين ببعض الدين خارج عن الدين، انتهى ملخصا.

و فيه أن لازم دليله من أن الإسلام عبارة عن مجموع الأحكام، و التدين بالمجموع إسلام، و عدم التدين به كفر هو كفر كل من لم يتدين بمجموع ما جاء به النبي واقعا أصلا و فرعا ضروريا و غيره، منجزا على المكلف أولا، لأن عدم التنجز العقلي لا يوجب خروج غير المنجز عن قواعد الإسلام، فلا وجه للتقييد بالمنجز، مع أن هذا التقييد ينافي التأييد في ذيل كلامه، لعدم تنجز التكليف على القاصر.

كما لا ينبغي معه الفرق بين الأمور الاعتقادية و العملية بعد كون الإسلام عبارة عن مجموع ما ذكر، فالتفصيل بين الأمرين كما وقع في خلال كلامه مناف لدليله، و مجرد أن المطلوب في الأحكام العملية ليس إلا العمل لا يوجب خروجها عن ماهيته التي ادعى أنها مجموع هذه الحدود الشرعية، و بترك التدين ببعضها يخرج عن الإسلام، و الانصاف إن كلامه في تقرير هذا المدعى لا يخلو من تدافع و اغتشاش.

و التحقيق أن ما يعتبر في حقيقة الإسلام بحيث يقال للمتدين به إنه مسلم ليس إلا الاعتقاد بالأصول الثلاثة أو الأربعة: أي الألوهية و التوحيد و النبوة و المعاد على احتمال، و سائر القواعد عبارة عن أحكام الإسلام، و لا دخل لها

في ماهيته، سواء عند الحدوث أو البقاء، فإذا فرض الجمع بين الاعتقاد بتلك الأصول و عدم الاعتقاد بغيرها لشبهة بحيث لا يرجع الى إنكارها يكون مسلما.

نعم لا يمكن الجمع بين الاعتقاد بالنبوة مع عدم الاعتقاد بشي ء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 328

من الأحكام، و هذا بخلاف بعضها ضروريا كان أو غيره، لأجل بعض الشبهات و الاعوجاجات، فإذا علم إن فلانا اعتقد بالأصول و التزم بما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إجمالا الذي هو لازم الاعتقاد بنبوته لكن وقع في شبهة من وجوب الصلاة أو الحج و تخيل أنهما كانا واجبين في أول الإسلام مثلا دون الأعصار المتأخرة لا يقال: إنه ليس بمسلم في عرف المتشرعة، و تدل على إسلامه الأدلة المتقدمة الدالة على أن الإسلام هو الشهادتان.

و دعوى أنهما كافيتان في حدوث الإسلام و أما المسلم فيعتبر في إسلامه أمور أخر زائدا عليهما خالية عن الشاهد، بل الشواهد في نفس تلك الروايات على خلافها، كما في حسنة حمران، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء و غيرها مما تقدم ذكرها.

و الانصاف أن دعوى كون الإسلام عبارة عن مجموع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و ترك الالتزام ببعضها بأيّ نحو موجبا للكفر مما لا يمكن تصديقها، و لهذا أن الشيخ الأعظم لم يلتزم به بعد الكرّ و الفرّ.

و مع الإغماض عما تقدم يلزم من دليله كفر كل من أنكر شيئا مما يطلب فيه الاعتقاد و لو لم يكن ضروريا كبعض أحوال القبر و البرزخ و القيامة، و كعصمة الأنبياء و

الأئمة عليهم السلام و نظائرها، و التفكيك بين الضروري و غيره خروج عن التمسك بهذا الدليل.

ثم أن اندراج منكر المعاد أيضا في الكفار حقيقة و دعوى كون الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأركان الأربعة و الاعتقاد بالمعاد داخل في ماهيته أيضا لا يخلو من إشكال، بل منع، لإطلاق الأدلة المتقدمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 329

الشارحة لماهية الإسلام الذي به حقنت الدماء، و قوة احتمال أن يكون الارتكاز المدعى لأجل وضوح عدم الجمع بين الاعتقاد بالنبوة و إنكار المعاد الذي لأجل كمال بداهة كونه من الإسلام عدّ في الأصول.

فدعوى كون الإسلام هو الاعتقاد بالألوهية و التوحيد و النبوة غير بعيدة، و كلامنا ها هنا في مقام الثبوت و الواقع، و إلا فمنكر الضروري سيما مثل المعاد محكوم بالكفر ظاهرا، و يعد منكرا للألوهية أو النبوة بل لا يقبل قوله إذا ادعى الشبهة إلا في بعض أشخاص أو بعض أمور يمكن عادة وقوع الشبهة منه أو فيه، كما أن إنكار البديهيات لدى العقول لا يقبل من متعارف الناس، فلو ادعى أحد أن اعتقاده أن الاثنين أكثر من الألف لا يقبل منه، بل يحمل على أنه خلاف الواقع إلا أن يكون خلاف المتعارف.

و يمكن أن يقال: إن أصل الإمامة كان في الصدر الأول من ضروريات الإسلام، و الطبقة الأولى المنكرين لامامة المولى أمير المؤمنين صلوات اللّٰه و سلامه عليه و لنص رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله على خلافته و وزارته كانوا منكرين للضروري من غير شبهة مقبولة من نوعهم، سيما أصحاب الحل و العقد، و سيأتي الكلام فيهم.

ثم وقعت الشبهة للطبقات المتأخرة لشدة وثوقهم بالطبقة الأولى، و عدم احتمال تخلفهم عمدا

عن قول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و نصه على المولى سلام اللّٰه عليه، و عدم انقداح احتمال السهو و النسيان من هذا الجم الغفير، و لعل ما ذكرناه هو سر ما ورد من ارتداد الناس بعد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلا أربعة أو أقل أو أكثر، و الظاهر عدم ارادة ارتداد جميع الناس سواء كانوا حاضرين في بلد الوحي أو لا، و يحتمل أن يكون المراد من ارتداد الناس نكث عهد الولاية و لو ظاهرا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 330

و تقية لا الارتداد عن الإسلام، و هو أقرب.

و مما استدل به على كفره جملة من الروايات: منها مصححة أبي الصباح عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السلام:

من شهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه كان مؤمنا؟ قال:

فأين فرائض اللّٰه؟ قال: و سمعته يقول: كان علي عليه السلام يقول:

لو كان الايمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة و لا حرام، قال:

قلت لأبي جعفر عليه السلام: إن عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلّا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود، و لم يقطع أيديهم، و ما خلق اللّٰه تعالى خلقا أكرم على اللّٰه من مؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين، و ان جوار اللّٰه تعالى للمؤمنين، و ان الجنة للمؤمنين، و ان الحور العين للمؤمنين، ثم قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافرا؟» «1».

قال الشيخ الأعظم: «فهذه الرواية واضحة الدلالة على ان التشريع بالفرائض مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام كما هو ظاهر السؤال و الجواب، كما لا

يخفى» انتهى.

أقول: بل هي واضحة الدلالة على أن المراد من الايمان فيها هو الايمان الكامل المنافي لترك ما فرضه اللّٰه و لفعل ما يوجب إجراء الحد عليه، و المؤمن الذي هذا صفته و ملائكة اللّٰه خدامه و جوار اللّٰه له هو المؤمن الكامل لا المرادف للمسلم الذي لا ينافي إسلامه ارتكاب المعاصي و إجراء الحدود عليه إلى غير ذلك.

نعم ذيلها يدل على أن جحد الفرائض موجب للكفر، فهو إما محمول بقرينة صدره على أن الجحد موجب للكفر المقابل للإيمان لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 13.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 331

الإسلام، فيكون شاهدا على الحمل في سائر الروايات، فإنها على كثرتها طائفتان.

إحداهما- ما دلت على أن ترك الفرائض أو ترك ما أمر اللّٰه به موجب للكفر، و هي كثيرة جدا، كرواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من اجترى على اللّٰه في المعصية و ارتكاب الكبائر فهو كافر، و من نصب دينا غير دين اللّٰه فهو مشرك» «1».

و رواية حمران بن أعين قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً قال:

إما آخذ فهو شاكر، و إما تارك فهو كافر» «2» و رواية عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قول اللّٰه عز و جل «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» فقال: ترك العمل الذي أقرّ به منه الذي يدع الصلاة متعمدا لا من سكر و لا من علة» «3».

و رواية أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«الكفر في كتاب اللّٰه خمسة أوجه- إلى أن

قال-: و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّٰه عز و جل به، و هو قول اللّٰه عز و جل:

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فكفرهم ترك ما أمر اللّٰه عز و جل به» «4» و في كثير من الروايات ورد كفر تارك الصلاة، و مانع الزكاة، و تارك الحج، إلى غير ذلك.

و ثانيتهما- ما دلت على أن تركها مع الجحود أو الاستكبار أو نفس الجحد موجب له، و هي كثيرة أيضا، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كل شي ء يجره الإقرار

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 21.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 332

و التسليم فهو الايمان، و كل شي ء يجره الإنكار و الجحود فهو الكفر» «1» و رواية داود بن كثير الرقي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

سنن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله- إلى أن قال-: فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها و جحدها كان كافرا» «2».

و رواية عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها: «و لم يخرجه إلى الكفر إلا الجحود و الاستحلال، فإذا قال للحلال: هذا حرام و للحرام هذا حلال و دان بذلك فعندها يكون خارجا من الايمان و الإسلام إلى الكفر» «3».

و رواية زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» «4».

و رواية عبد اللّٰه بن سنان قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام- إلى أن قال-: فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام، و عذّب أشد العذاب، و إن كان معترفا أنه ذنب و مات عليها أخرجه من الايمان و لم يخرجه من الإسلام و كان عذابه أهون من عذاب الأول» «5».

و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في حديث:

«الكفر أقدم من الشرك- ثم ذكر كفر إبليس ثم قال-: فمن اجترى على اللّٰه فأبى الطاعة و قام على الكبائر فهو كافر، يعني مستخف كافر» «6» إلى غير ذلك.

و يمكن الجمع بينها إما بحمل الجميع على مراتب الكفر و الشرك و الايمان و الإسلام، فأول مراتب الإسلام هو ما يحقن به الدماء و يترتب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 18.

(4) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 10.

(6) الوسائل- الباب- 2- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 333

عليه أحكام ظاهرة، و هو شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كما في موثقة سماعة و نحوها، و أكمل مراتبه هو ما عرّفه أمير المؤمنين عليه السلام على ما في مرفوعة البرقي قال: «لأنسبن الإسلام» إلخ «1».

و لعله المراد بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «2» فهذه المرتبة من الإسلام أعلى من كثير من مراتب الايمان، و بين المرتبتين مراتب إلى ما

شاء اللّٰه، و بإزاء كل مرتبة مرتبة من الكفر أو الشرك، و كذا للإيمان درجات و مراتب كثيرة يشهد بها الوجدان و الروايات، و بذلك يجمع بين جميع الروايات الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرقة، و له شواهد كثيرة في نفس الروايات، فخرجت الروايات المستشهد بها لكفر منكر الضروري عن صلاحية الاستشهاد بها، و عن صلاحية تقييد مثل موثقة سماعة المتقدمة و غيرها.

و إما بحمل الطائفة الأولى المتقدمة على الثانية، و حمل الطائفة الثانية على ما إذا جحد حكما علم أنه من الدين، لكن لا لكونه موجبا للكفر بنفسه، بل لكونه مستلزما لإنكار الألوهية أو النبوة و تكذيب النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بدعوى عدم ملاءمة تصديق النبوة مع إنكار ما أعلم أنه جاء به منتسبا إلى اللّٰه، من غير فرق بين الضروري منها و غيره، و هذا أقرب إلى حفظ ظواهرها من حملها على إنكار الضروري بل حملها عليه خال عن الشاهد، بل مخالف لكثير منها، سيما إذا قيل بالتسوية بين الجحد عن علم و غير علم، و إن لم نقل بأن الجحد هو

______________________________

(1) راجع أصول الكافي ج 2 ص 45 من الطبعة الحديثة (باب نسبة الإسلام- الحديث 1).

(2) سورة البقرة: 2- الآية 208.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 334

الإنكار عن علم، و إلا فالأمر أوضح.

و هنا احتمال ثالث بعد حمل المطلقات على المقيدات، و هو حملها على الحكم الظاهري، و أن الجاحد لما علم أنه من الدين محكوم بالكفر لكنه لا يلائم جميع الروايات و إن يلائم بعضها، كما أن الجمع الثاني كذلك و إن كان أقرب من الثالث، و أقرب منهما الجمع الأول.

و كيف كان لا دلالة

لها على كفر منكر الضروري من حيث هو، و الظاهر أن غالب كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة سيما أبواب الحدود ناظر إلى الحكم الظاهري، و بعضها محتمل للوجه الثاني أو محمول عليه. فلا يمكن تحصيل الشهرة أو الإجماع على المدعى.

ففي كتاب المرتد من الخلاف: «من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة كان كافرا يجب قتله بلا خلاف» و في النهاية: «من استحل الميتة و الدم و لحم الخنزير ممن هو مولود على فطرة الإسلام فقد ارتدّ بذلك عن دين الإسلام و وجب عليه القتل بالإجماع».

و في حدود الشرائع: «من شرب الخمر مستحلا استتيب، فان تاب أقيم عليه الحد، و إن امتنع قتل، و قيل يكون حكمه حكم المرتد و هو قوي، و أما سائر المسكرات فلا يقتل مستحلها، لتحقق الخلاف بين المسلمين- و قال-: من استحل شيئا من المحرمات المجمع عليها كالميتة و الدم و لحم الخنزير ممن ولد على الفطرة يقتل».

و يحتمل في هذه العبارات أحد الوجهين، و لهذا قال المحقق في حدود الشرائع: «كلمة الإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدا رسول اللّٰه» نعم صريح بعض و ظاهر جمع حصول الارتداد بإنكار الضروري أو ما يعلم إنه من الدين مطلقا و انه سبب مستقل، كما أن صريح بعض و ظاهر جمع أنه ليس سببا مستقلا، بل هو لأجل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 335

رجوعه إلى إنكار الأصلين، و لم يظهر من قدماء أصحابنا شي ء من الوجهين يمكن الوثوق بمرادهم، فضلا عن تحصيل الشهرة في المسألة.

نعم قد يقال بأن تسالمهم على نجاسة الخوارج و النصاب مع استدلالهم لها بأنهم منكروا الضروري من الدين دليل

على تسالمهم بأن إنكاره مطلقا موجب للكفر، ضرورة أن كثيرا منهم بل غالبهم كانوا يتقربون إلى اللّٰه تعالى بالنصب لهم و الحرب معهم، لجهلهم عما ورد في حقهم من الكتاب و السنة.

و فيه أن التمسك لنجاستهم بانكارهم الضروري انما وقع من بعضهم، و لم يظهر تسالمهم عليه، بل الظاهر أن نجاسة الطائفتين مسلمة عندهم بعنوان النصب و الحرب، و لهذا لم ينقل الخلاف في نجاستهما، مع وقوع الخلاف في منكر الضروري، فالأقوى عدم نجاسة منكر الضروري إلا أن يرجع إلى إنكار الأصلين و لو قلنا بأن الإنكار مطلقا موجب للكفر، لعدم الدليل على نجاسة الكفار بحيث يشمل المرتد بهذا المعنى، أما الآية فواضح، و أما الروايات فقد مرّ الكلام فيها. و أما الإجماع فلم يقم عليها.

بل لا يبعد أن يكون دعوى الشيخ الإجماع على كفر مستحل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ارتداده تارة و دعوى عدم الخلاف في كفر من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة أخرى، مضافا إلى ما تقدم هي ارتداده بحسب بعض الآثار كالقتل و غيره دون النجاسة، تأمل. و كيف كان لا يمكن إثبات نجاسته بالإجماع أو الشهرة.

و أما الطائفتان فالظاهر نجاستهما، كما نقل الإجماع و عدم الخلاف و عدم الكلام فيها من جملة من الأعاظم، و إرسالهم إياها إرسال المسلمات و يمكن الاستدلال عليها بموثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 336

في حديث قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت و هو شرهم فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا

أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1» فإنه بعد ثبوت نجاسة الطوائف الثلاث بما مرّ مستقصى جعل هذه الطائفة الخبيثة قرينة لهم يشعر أو يدل على كونهم نجسة، هذا مع التصريح بأنهم أنجس من الكلب الظاهر بمناسبة الحكم و الموضوع في النجاسة الظاهرية، و مجرد جعلهم أنجس من الكلب لا يوجب رفع اليد عن الظاهر الحجة.

و لا ينافي ذلك ما مرّ منا من الخدشة في الاستدلال عليها لنجاسة الطوائف الثلاث، لأن الاستدلال هناك كان لمقارنتهم مع النصاب، و قلنا إن صرف ذلك لا يدل على المطلوب، و ها هنا بعد ثبوت النجاسة للطوائف يستدل من المقارنة على أن المراد بتلك النجاسة هي النجاسة الظاهرة التي للطوائف و الكلب بالدليل الخارجي، تأمل.

و أما الاستدلال لها برجوع إنكارهم فضائل أهل البيت الواردة من النبي الأكرم صلّى اللّٰه عليه و آله إلى تخطئته و اعتقاد الغفلة و الجهل بعواقب أمورهم في حقه صلّى اللّٰه عليه و آله و هو كفر فغير تام صغرى و كبرى، لمنع عموم المدعى في جميع طبقاتهم، و منع صيرورته موجبا للكفر و النجاسة سيما مع ذهاب بعض أصحابنا كابن الوليد إلى أن نفى السهو عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أول مراتب الغلو، و ظهور بعض الآيات و الروايات في سهوه. و كيف كان لا ينبغي الإشكال في كفر الطائفتين و نجاستهما ثم أن المتيقن من الإجماع هو كفر النواصب و الخوارج أي الطائفتين المعروفتين، و هم الذين نصبوا للأئمة عليهم السلام، أو بعنوان

______________________________

(1) مرت في ص 305.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 337

التدين به، و أن ذلك وظيفة دينية لهم، أو

خرجوا على أحدهم كذلك كالخوارج المعروفة، و الظاهر أن الناصب الوارد في الروايات كموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة أيضا يراد به ذلك، فان النواصب كانوا طائفة معهودة في تلك الأعصار كما يظهر من الموثقة أيضا، حيث نهى فيها عن الاغتسال في غسالة الحمام التي يغتسل فيها الطوائف الثلاث و الناصب، و ليس المراد منه المعنى الاشتقاقي الصادق على كل من نصب بأي عنوان كان، بل المراد هو الطائفة المعروفة و هم النصاب الذين كانوا يتدينون بالنصب، و لعلهم من شعب الخوارج.

و أما سائر الطوائف من النصاب بل الخوارج فلا دليل على نجاستهم و إن كانوا أشد عذابا من الكفار، فلو خرج سلطان على أمير المؤمنين عليه السلام لا بعنوان التدين بل للمعارضة في الملك أو غرض آخر كعائشة و زبير و طلحة و معاوية و أشباههم أو نصب أحد عداوة له أو لأحد من الأئمة عليهم السلام لا بعنوان التدين بل لعداوة قريش أو بني هاشم أو العرب أو لأجل كونه قاتل ولده أو أبيه أو غير ذلك لا يوجب ظاهرا شي ء منها نجاسة ظاهرية. و إن كانوا أخبث من الكلاب و الخنازير لعدم دليل من إجماع أو أخبار عليه.

بل الدليل على خلافه، فان الظاهر أن كثيرا من المسلمين بعد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كأصحاب الجمل و الصفين و أهل الشام و كثير من أهالي الحرمين الشريفين كانوا مبغضين لأمير المؤمنين و أهل بيته الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم و تجاهروا فيه و لم ينقل مجانبة أمير المؤمنين و أولاده المعصومين عليهم السلام و شيعته المنتجبين عن مساورتهم و مؤاكلتهم و سائر أنواع العشرة، و القول بأن الحكم لم يكن معلوما في ذلك

الزمان و انما صار معلوما في عصر الصادقين عليهما السلام كما ترى، مع عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 338

نقل مجانبة الصادقين عليهما السلام و أصحابهما و شيعتهما و كذا سائر الأئمة عليهم السلام المتأخرة عنهما و شيعتهم عن مساورة شيعة بني أمية و بني العباس و لا من خلفاء الجور، و الظاهر أن ذلك لعدم نجاسة مطلق المحارب و الناصب، و أن الطائفتين لعنهما اللّٰه لم تنصبا للأئمة عليهم السلام لاقتضاء تدينهما ذلك، بل لطلب الجاه و الرئاسة، و حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، أعاذنا اللّٰه منه بفضله.

بل المنقول عن بعض خلفاء بني العباس أنه كان شيعيا، و نقل عن المأمون أنه قال: «إني أخذت التشيع من أبي» و مع ذلك كان هو و أبوه على أشدّ عداوة لأبي الحسن موسى بن جعفر و ابنه الرضا عليهما السلام لمّا رأيا توجه النفوس إليهما، فخافا على ملكهما من وجودهما.

و بالجملة لا دليل على نجاسة النصاب و الخوارج إلا الإجماع و بعض الأخبار، و شي ء منهما لا يصلح لإثبات نجاسة مطلق الناصب و الخارج، و إن قلنا بكفرهم مطلقا، بل وجوب قتلهم في بعض الأحيان.

ثم أن المتحصل من جميع ما تقدم أن المحكوم بالنجاسة هو الكافر المنكر للألوهية أو التوحيد أو النبوة و خصوص النواصب و الخوارج بالمعنى المذكور، و سائر الطوائف من المنتحلين إلى الإسلام أو التشيع كالزيدية و الواقفة و الغلاة و المجسمة و المجبرة و المفوضة و غيرهم إن اندرجوا في منكري الأصول أو في إحدى الطائفتين فلا إشكال في نجاستهم كما يقال: إن الواقفة من النصاب لسائر الأئمة من بعد الصادق عليه السلام.

و أما مع

عدم الاندراج فلا دليل على نجاستهم، فان بعض الأخبار الواردة في كفر بعضهم كقوله عليه السلام: «من شبه اللّٰه بخلقه فهو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 339

مشرك، و من نسب اليه ما نهي عنه فهو كافر» «1» و قوله عليه السلام:

«من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك» «2» و قوله عليه السلام:

«و القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك» «3» و غير ذلك فسبيله سبيل الأخبار الكثيرة المتقدمة و غيرها مما لا يحصى مما أطلق فيها الكافر و المشرك على كثير ممن يعلم عدم كفرهم و شركهم في ظاهر الإسلام و قد حملناها على مراتب الشرك و الكفر، كما قامت الشواهد في نفس الروايات عليه.

و الانصاف أن كثرة استعمال اللفظين في غير الكفر و الشرك الظاهريين صارت بحيث لم يبق لهما ظهور يمكن الاتكال عليه لإثبات الكفر و الشرك الموجبين للنجاسة فيمن أطلقا عليه، و لا لإثبات التنزيل في جميع الآثار، و هو واضح جدا لمن تتبع الروايات، و لا دليل آخر من إجماع أو غيره على نجاستهم.

و أما الغلاة فإن قالوا بإلهية أحد الأئمة عليهم السلام مع نفي إله آخر أو إثباته أو قالوا بنبوته فلا إشكال في كفرهم، و أما مع الاعتقاد بألوهيته تعالى و وحدانيته و نبوة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله فلا يوجب شي ء من عقائدهم الفاسدة كفرهم و نجاستهم حتى القول بالاتحاد أو الحلول إن لم يرجع إلى كون اللّٰه تعالى هو هذا الموجود المحسوس- و العياذ باللّٰه- فإنه يرجع الى إنكار اللّٰه تعالى.

بل يراد بهما ما عند بعض الصوفية من فناء العبد في اللّٰه و اتحاده معه نحو فناء الظل في ذيه،

فان تلك الدعاوي لا توجب الكفر و إن كانت فاسدة، و كالاعتقاد بأن اللّٰه تعالى فوض أمر الخلق مطلقا الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 5.

(3) الوسائل- الباب- 10- من أبواب حدّ المرتد الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 340

أمير المؤمنين عليه السلام، فهو بتفويض اللّٰه تعالى اليه خالق ما يرى و ما لا يرى، و رازق من ورى، و أنه محيي و مميت الى غير ذلك من الدعاوي الفاسدة، فإن شيئا منها لا يوجب الكفر، و إن كان غلوا و كان الأئمة عليهم السلام يبرؤون منها و ينهون الناس عن الاعتقاد بها.

و دعوى أن إثبات ما هو مختص باللّٰه تعالى لغيره إنكار للضروري، ممنوعة إن أريد به ضروري الإسلام، فإن تلك الأمور من ضروري العقول لا الإسلام، مع أن منكر الضروري ليس بكافر كما مرّ.

و أما المجسمة فإن التزموا بأنه تعالى جسم حادث كسائر الحوادث فلا إشكال في كفرهم لإنكار ألوهيته تعالى، و لا أظن التزامهم به، و مع عدمه بأن اعتقد بجسميته تعالى بمعنى أن يعتقد أن الإله القديم الذي يعتقده كافة الموحدين جسم لنقص معرفته و عقله فلا يوجب ذلك كفرا و نجاسة.

هذا إن ذهب الى أنه جسم حقيقة، فضلا عما إذا قال بأنه جسم لا كالأجسام، كما نسب الى هشام بن الحكم الثقة الجليل المتكلم، و لقد ذبّ أصحابنا عنه، و قالوا: انما قال ذلك معارضة لطائفة لا اعتقادا و بعض الأخبار و إن ينافي ذلك لكن ساحة مثل هشام مبرّأ عن مثل هذا الاعتقاد السخيف، مع أن مراده غير معلوم على فرض

ثبوت اعتقاده به.

و أما القول بالجبر أو التفويض فلا إشكال في عدم استلزامه الكفر بمعنى نفي الأصول إلا على وجه دقيق يغفل عنه الأعلام فضلا عن عامة الناس، و مع عدم الالتفات الى اللازم لا يوجب الكفر جزما.

و دعوى استلزام الجبر لنفي العقاب و الثواب و ذلك إبطال للنبوات لو فرضت صحتها فلم يلتزم المجبر به، و لا إشكال في أن القائل بهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 341

ليس منكرا للضروري، لعدم كون الأمر بين الأمرين من ضروريات الدين، بل و لا من ضروريات المذهب، و إن كان ثابتا بحسب الأخبار بل البرهان كما حقق في محله.

و الانصاف ان الأمر بين الأمرين بالمعنى المستفاد من الأخبار و القائم عليه البرهان الدقيق لا يمكن تحميل الاعتقاد به الى فضلاء الناس فضلا عن عوامهم و عامتهم، و لهذا ترى أنه قلما يتفق لأحد تحقيق الحق فيه، و سلوك مسلك الأمر بين الأمرين من دون الوقوع في أحد الطرفين أي الجبر و التفويض سيما الثاني.

فتحصل مما ذكر عدم كفر الطوائف المتقدمة، فما عن غير واحد من أن نجاسة الغلاة إجماعية أو لا خلاف و لا كلام فيها، فالقدر المتيقن منه هو الغلو بالمعنى الأول لا بمعنى التجاوز عن الحد مطلقا، و ما عن الشيخ و غيره من نجاسة المجسمة، و عن حاشية المقاصد و الدلائل «لا كلام في نجاستهم» لعل المراد منهم من توجه و التفت الى لازمة، و إلا فلا دليل عليها كما تقدم، و كذا الكلام في المجبرة و المفوّضة.

بقي الكلام في المنافقين الذين يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، فان قلنا بأن الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأصول الثلاثة، و كلمة الشهادتين

طريق إثباته في الظاهر أو أنه عبارة عن الإقرار باللسان و الاعتقاد بالجنان فيكون الموضوع الأحكام مركبا من جزءين و جعل أحدهما طريقا للآخر فلا إشكال في كفرهم واقعا و إن رتبت عليهم أحكام الإسلام ظاهرا ما لم يثبت خلافه، فإذا علمنا بنفاقهم لا يجوز إجراء الأحكام عليهم.

فحينئذ يقع الإشكال في المنافقين الذين كانوا في صدر الإسلام، و كان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الوصي عليه السلام يعاملان معهم معاملة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 342

الإسلام، و طريق دفعه إما بأن يقال: إن مصالح الإسلام اقتضت جعل أحكام ثانوية واقعية نظير باب التقية، فجريان أحكام الإسلام عليهم واقعا لمصلحة تقوية الإسلام في أوائل حدوثه، فإنه مع عدم إجرائها في حال ضعفه و نفوذ المنافقين و قوتهم كان يلزم منه الفساد و التفرقة، فأجرى اللّٰه تعالى أحكامه عليهم واقعا، و أما بعد قوة الإسلام و عدم الخوف منهم و عدم لزوم تلك المفسدة فلا تجري الأحكام عليهم.

و إما بأن يقال: إن ترتيب الآثار كان ظاهر لخوف تفرقة المسلمين، فهم مع كفرهم و عدم محكوميتهم بأحكامه واقعا كان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و وصيه عليه السلام يعاملان معهم معاملة المسلمين ظاهرا حفظا لشوكة الإسلام، و الالتزام بالثاني في غاية الإشكال، بل مقطوع الخلاف بالنسبة إلى بعض الأحكام.

و إما بأن يقال: إن العلم الغير العادي كالعلم من طريق الوحي لم يكن معتبرا، لا بمعنى نفي اعتباره حتى يلزم منه الاشكال، بل بالتزام تقييد في الموضوع، و هو أيضا بعيد.

و إن قلنا بأن الإسلام عبارة عن صرف الإقرار ظاهرا و الشهادة باللسان و هو تمام الموضوع لإجراء الأحكام واقعا

فلا إشكال في طهارتهم و إجراء الأحكام عليهم، و لا يرد الاشكال على معاملة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله معهم معاملة الإسلام، فإنهم مسلمون حقيقة، إلا أن يظهر منهم مخالفة الإسلام، بأن يقال: إن الإسلام عبارة عن التسليم و الانقياد ظاهرا مقابل الجحد و الخروج عن السلم، فمن ترك عبادة الأوثان مثلا و دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين و انقاد لأحكامه كان مسلما منقادا يجري عليه أحكامه واقعا، إلا أن يظهر منه ما يخالف الأصول.

هذا بحسب مقام الثبوت. و أما بحسب مقام الإثبات و التصديق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 343

فقد عرفت في صدر المبحث أن المرتكز في أذهان المتشرعة أن الإسلام عبارة عن الاعتقاد بالأصول الثلاثة، فلو علمنا بأن نصرانيا أظهر الإسلام من غير اعتقاد بل يبقى على اعتقاد التنصر لم يكن في ارتكازهم مسلما.

لكن يظهر من الكتاب و الأخبار خلاف ذلك، قال تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنٰا، وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1» في المجمع «2» «هم قوم من بني أسد أتوا النبي صلى اللّٰه عليه و آله في سنة جدبة و أظهروا الإسلام و لم يكونوا مؤمنين في السر- ثم قال-: قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع و القبول لما أتى به الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله، بذلك يحقن الدم، فان كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق بالقلب فذلك الايمان- إلى أن قال-: و روى أنس عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: الإسلام علانية و الايمان في القلب أشار إلى صدره» انتهى.

و موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: قالت الأعراب: آمنا

قل: لم تؤمنوا و لكن قولوا: أسلمنا» فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب، و من زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب» «3» و في موثقة جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد الهّٰ عليه السلام عن قول اللّٰه تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ: آمَنّٰا قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ فقال لي: أ لا ترى أن

______________________________

(1) سورة الحجرات: 49- الآية 14،

(2) ج 5 ص 138 ط صيدا.

(3) أصول الكافي ج 2 ص 25 الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم- الحديث 5).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 344

الايمان غير الإسلام» «1».

و في حسنة حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب، و أفضى به إلى اللّٰه، و صدقه العمل بالطاعة للّٰه، و التسليم لأمر اللّٰه، و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها، و به حقنت الدماء و عليه جرت المواريث، و جاز النكاح- ثم استشهد بالآية المتقدمة- و قال: فقول اللّٰه أصدق القول» «2».

و تدل عليه أيضا جملة من الروايات الأخر، كموثقة سماعة المتقدمة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها: «فقلت: فصفهما لي فقال:

الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله به حقنت الدماء. و عليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان الهدى، و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، و ما ظهر من العمل به، و الايمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الايمان يشارك الإسلام في الظاهر و الإسلام لا

يشارك الايمان في الباطن، و إن اجتمعا في القول و الصفة» «3» و هي بحسب ذيلها كالصريحة أو الصريحة في المقصود.

و يمكن المناقشة في صدرها بأن يقال: إن الشهادة لا تصدق إلا مع الموافقة للقلوب، و لهذا كذّب اللّٰه تعالى المنافقين مع شهادتهم برسالة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، فقال «وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ»

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 24 الطبعة الحديثة (باب أن الإسلام يحقن به الدم- الحديث 3).

(2) مرتا في ص 321.

(3) مرتا في ص 321.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 345

و الظاهر أن تكذيبهم لعدم موافقة شهادتهم لقلوبهم.

و يمكن دفعها بأن الشهادة صادقة بصرف الشهادة ظاهرا، و لهذا تجعل مقسما للصادقة و الكاذبة بلا تأول، و لعل التكذيب في الآية كان لقرينة على دعواهم موافقة القلوب للظاهر، و كيف كان لا إشكال في دلالتها عليه.

و في صحيحة الفضيل بن يسار قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إن الايمان يشارك الإسلام و لا يشاركه الإسلام، إن الايمان ما وقر في القلوب، و الإسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء» «1».

و في رواية حفص بن خارجة قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام- إلى أن قال-: فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالايمان، و يجري عليه أحكام المؤمنين، و هو عند اللّٰه كافر، و قد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله و عمله» «2» إلى غير ذلك، و حمل تلك الروايات على لزوم جريان الأحكام في الظاهر لو أمكن في بعضها لكن يأبى عنه أكثرها.

ثم أن المشهور على ما حكاه جماعة طهارة ولد الزنا و إسلامه، بل عن الخلاف الإجماع على

طهارته، و لعله مبنيّ على أن فتوى السيد بكفره لا يلازم فتواه بنجاسته، كما أن فتوى الصدوق بعد جواز الوضوء بسؤره لا يستلزم القول بها، و لم يحضرني كلام السيد و لا الحلي، و اختلف النقل عنهما، ففي الجواهر: «في السرائر أن ولد الزنا قد ثبت كفره

______________________________

(1) أصول الكافي- ج 2 ص 26 الطبعة الحديثة

(2) أصول الكافي ج 2 ص 40 الطبعة الحديثة (باب أن الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها- الحديث 8).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 346

بالأدلة بلا خلاف بيننا، بل يظهر منه أنه من المسلمات، كما عن المرتضى الحكم بكفره أيضا» انتهى.

و يظهر ذلك أيضا من الشيخ سليمان البحراني، كما في الحدائق، و هو لا يدل على حكمهما بنجاسته، لعدم الملازمة بينهما بعد قصور الأدلة عن إثبات نجاسة مطلق الكافر، إلا أن يقال: إن السيد قائل بنجاسة كل كافر، كما يظهر من انتصاره و ناصرياته.

و كيف كان تدل على إسلامه الأخبار الشارحة للإسلام الذي عليه المناكح و المواريث، و إطلاقها شامل له بلا شبهة، و دعوى عدم الإطلاق في غاية الضعف، و هي حاكمة على جميع ما ورد في حق ولد الزنا، فإن غاية ما في الباب تصريح الأخبار بكفره، فتكون حالها حال الأخبار التي وردت في كفر كثير من الطوائف و شركهم مما مرّ الكلام فيها، مع عدم دليل عليه أيضا كما سنشير إليه.

ثم أن القائل بكفره إن أراد منه أنه لا يمكن منه الإسلام عقلا أو لا يقع منه خارجا فلا بدّ من طرح إظهاره للشهادتين، للعلم بتخلفه عن الواقع، ففيه- مضافا إلى عدم الدليل على ذلك لو لم نقل: إن الدليل على خلافه- إنه لو

سلم لا يوجب كفره، لما مر من أن الإسلام الذي يجري عليه الأحكام ظاهرا ليس إلا التسليم الظاهري و الانقياد بإظهار الشهادتين، فما لم يظهر منه شي ء مخالف لذلك يكون محكوما بالإسلام و لو علم عدم اعتقاده كما قلنا في المنافقين.

و إن أراد منه أنه محكوم بأحكام الكفر من عدم جواز التزويج و غيره فهو ممكن، لكن يحتاج إلى قيام دليل عليه، و هو مفقود، لأن الأخبار الواردة فيهم الدالة على عدم دخولهم في الجنة فإنها للمطهرين لا تدل على كفرهم، بل فيها ما تدل على صحة إيمانهم، مثل ما دل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 347

على بناء بيت في النار لولد الزنا العارف، و كان منعما فيها و محفوظا عن لهيبها، و هذا دليل على صحة إيمانه.

و لا يجب على اللّٰه تعالى أن يدخله الجنة، فإن ما يحكم به العقل امتناع تعذيب اللّٰه تعالى أحدا من غير كفر أو عصيان، و أما لزوم إدخاله في الجنة بل لزوم جزائه و استحقاقه على اللّٰه تعالى شيئا فلا دليل عليه، بل العقل حاكم على خلافه، نعم لا يمكن تخلف وعده، لكن لو دل دليل على اختصاص وعده بطائفة خاصة لا ينافي حكم العقل.

و كيف كان هذه الطائفة من الأخبار أجنبية عن الأحكام الظاهرية، كأجنبية سائر ما تشبث به في الحدائق، كما وردت في مساواة ديتهم لدية أهل الكتاب مع عدم عمل الطائفة بهذه الأخبار على ما حكي.

و ما وردت من أن حبّ علي عليه السلام علامة طيب الولادة، و بغضه علامة خبثها «1» و ما وردت من أن لبن أهل الكتاب أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا «2» و ما وردت

أن نوحا عليه السلام لم يحمل في السفينة ولد الزنا مع حمله الكلب و الخنزير «3» و ما وردت من عدم قبول شهادته و عدم جواز توليته القضاء و الإمامة «4» إلى غير ذلك مما لا دخل لها بكفره و نجاسته، كما لا يخفى.

نعم ربما يتمسك لنجاسته بأخبار غسالة الحمام، و بكفره بدعوى ملازمتها مع كفره، في المقدمتين إشكال و منع، أما الثانية فلعدم الدليل

______________________________

(1) كتاب الغدير- ج 4 ص 322 و 323.

(2) الوسائل- الباب- 75- من أبواب أحكام الأولاد- الحديث 2 من كتاب النكاح.

(3) البحار- ج 5 ص 287 الطبع الحديث.

(4) راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب الشهادات و الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 348

عليها، و أما الأولى فللاشكال في روايتها سندا و دلالة.

أما رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن عليه السلام قال: «سألته أو سأله غيري عن الحمام قال: أدخله بمئزر. و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم» «1» فمع ضعفها و إرسالها أن الظاهر منها أن اغتسال الجنب بما هو مانع عن الاغتسال بغسالة الحمام لا للنجاسة، و لعله لكون البقية هو الماء المستعمل فلا يمكن الاستدلال بها لنجاسة ولد الزنا و لو كان الناصب نجسا.

و قريب منها رواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام في حديث أنه قال: «لا تغتسل من غسالة الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرهم»

«2» و الظاهر منها أن غسالة الغسل من الزنا بما هي من غسل الزنا مانع، و هو غير نجس بالضرورة، و الحمل على نجاسة عرقه خلاف ظاهرها.

و أما رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر الى سبع آباء» «3» فمع ضعفها و إرسالها تدل على خلاف مطلوبه، ضرورة أن قوله عليه السلام: «لا يطهر إلى سبع آباء» بمنزلة التعليل للمنع، مع قيام الضرورة بعدم نجاسة آباء ولد الزنا أو أبنائه، فيعلم أن ما أوجب النهي عن غسالته، هو خباثته المعنوية لا النجاسة الصورية، و لو كان المراد منه المبالغة فلا تناسب إلا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 11 من أبواب الماء المضاف- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 349

للخباثة المعنوية.

بل هي شاهدة على صرف سائر الروايات على فرض دلالتها، فأخبار هذا الباب ينبغي أن تعدّ من أدلة طهارة ولد الزنا لا نجاسته، فما في الحدائق من دعوى دلالة الأخبار الصحيحة الصريحة الغير القابلة للتأويل على كفره أو نجاسته على فرض ارادتها أيضا في غاية الغرابة بعد ما عرفت من عدم دلالة رواية واحدة على مطلوبه. بل عرفت دلالتها على خلافه، و أغرب منه توهم عدم وقوف علمائنا الأعلام على هذه الأخبار التي خرجت من لديهم، و إليه و إلى مثله، و هو عيال لهم في العثور عليها، و كم له من نظير.

تتميم:
اشارة

يذكر فيه بعض ما هو محل خلاف بين الأصحاب:

منها- عرق الجنب من الحرام،

فعن جملة من المتقدمين كالصدوقين و الشيخين و القاضي و ابن الجنيد القول بالنجاسة، و عن الخلاف الإجماع عليه. و عن الأستاذ دعوى الشهرة العظيمة عليه، و عن الرياض الشهرة العظيمة بين القدماء، و عن المراسم و الغنية نسبته إلى أصحابنا، و عن المبسوط إلى رواية أصحابنا، و عن أمالي الشيخ الصدوق أنه من دين الإمامية.

و استدل عليه بجملة من الروايات، كرواية إدريس بن داود الكفرتوثي «انه كان يقول بالوقف، فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن عليه السلام و أراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أ يصلى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره حرّكه أبو الحسن عليه السلام

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 350

بمقرعة، و قال مبتدئا: إن كان من حلال فصلّ فيه، و إن كان من حرام فلا تصلّ فيه» «1».

و عن إثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي نقل الرواية بتفصيل آخر، و في آخرها «فقال لي: يا إدريس أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي، فقال: إن كان العرق من الحلال فحلال، و إن كان من الحرام فحرام من غير أن أسأله، فقلت به و سلمت لأمره» «2».

و عن البحار: وجدت في كتاب عتيق من مؤلفات قدماء أصحابنا رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطريفي، عن علي بن عبد اللّٰه الميموني عن محمد بن على بن معمر، عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي عن الكاظم عليه السلام مثله، و قال: «إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال، و إن كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام» «3» كذا في

مفتاح الكرامة، و في المستدرك ذكره بعد رواية المناقب نقلا عن البحار و عن مناقب ابن شهرآشوب «أن علي بن مهزيار كان أراد أن يسأل أبا الحسن عليه السلام عن ذلك و هو شاكّ في الإمامة- إلى أن قال-: ثم قلت: أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب؟

فقلت في نفسي: إن كشف عن وجهه فهو الامام، فلما قرب مني كشف وجهه، ثم قال: إن كان عرق الجنب في الثوب و جنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، و إن كان جنابته من حلال فلا بأس، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة» «4».

و عن الفقه الرضوي «إن عرقت في ثوبك و أنت جنب فكانت

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 12

(2) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 7.

(3) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(4) المستدرك- الباب- 20- من أبواب النجاسات الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 351

الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه، و إن كان حراما فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل» «1» نقله في الحدائق و لم ينقله صاحب المستدرك.

و قد يؤيد بما ورد في غسالة الحمام، كرواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من الزنا» «2».

و في الكل نظر، أما الإجماع أو الشهرة فغير ثابت لا بالنسبة إلى النجاسة و لا المانعية، أما الأولى فلأن عبارات القدماء إلا الشاذ منهم خالية عن التصريح بالنجاسة، بل و لا ظهور فيها يمكن الاتكال عليه، ففي الأمالي «3» فيما يملي من دين الإمامية: «و إذا عرق الجنب في ثوبه و

كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة في الثوب، و إن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه».

و في الفقيه: «و متى عرق في ثوبه و هو جنب فليستنشف فيه إذا اغتسل، و إن كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه، و إن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه».

و هما كما ترى ظاهران في المانعية لا النجاسة، بل الظاهر من الثاني الطهارة مع المانعية، لأن الظاهر أن الضمير المجرور في ذيله راجع الى الثوب الذي أجاز التنشيف به، و في الخلاف: «عرق الجنب إذا كان الجنابة من حرام يحرم الصلاة فيه، و إذا كان من حلال فلا بأس بالصلاة فيه- ثم قال-: دليلنا إجماع الفرقة و دليل الاحتياط و الاخبار التي ذكرناها في الكتابين المتقدم ذكرهما».

______________________________

(1) فقه الرضا- ص 4.

(2) مرت في ص 348.

(3) ص 384- 385 ط قم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 352

و هو كما ترى نقل الإجماع على حرمة الصلاة، و هي أعم من النجاسة، كحرمة الصلاة في وبر ما لا يؤكل، و توهم أن مراده النجاسة بقرينة تصريحه في نهايته بنجاسته و تظهر من تهذيبه أيضا في غير محله حتى بالنسبة إلى فتواه، فضلا عن نقل فتوى الفرقة، لاحتمال عدوله عن الفتوى بالنجاسة، كما يظهر من محكي مبسوطة التوقف في الحكم، و في التهذيب في ذيل كلام المفيد حيث قال: «و لا يجب غسل الثوب منه- أي من عرق الجنب- إلا أن تكون الجنابة من حرام، فتغسل ما أصابه من عرق صاحبها من جسد و ثوب، و يعمل في الطهارة بالاحتياط» قال بهذه العبارة: «فأما ما يدل على أن الجنابة من حرام فإنه يغسل الثوب منها احتياطا فهو ما

أخبرني- ثم نقل صحيحة الحلبي- قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل أجنب في ثوبه» إلخ «1».

ثم حمل الرواية على عرق المجنب من حرام، ثم قال: «مع أنه يحتمل أن يكون المعنى فيه أن يكون أصاب الثوب نجاسة فحينئذ يصلي فيه و يعيد» انتهى. فترى أن كلام الشيخين مبني على الاحتياط، نعم يظهر منهما سيما الأول أنه لاحتمال النجاسة، و في المراسم: «و أما غسل الثياب من رزق الدجاج و عرق الجلال و عرق الجنب من الحرام فأصحابنا يوجبون إزالته، و هو عندي ندب» و الظاهر أن المسألة لم تكن إجماعية، لمخالفته صريحا، و ذكر زرق الدجاج، مضافا الى عدم ظهور معتد به لكلامه في النجاسة.

و في الغنية: «و قد ألحق أصحابنا بالنجاسات عرق الإبل الجلالة، و عرق الجنب إذا أجنب من حرام» و هو غير صريح، بل و لا ظاهر في النجاسة، لاحتمال أن يكون مراده الإلحاق الحكمي مطلقا أو في خصوص

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 353

الصلاة، فيمكن تأييد شارح الموجز، فعنه أن القول بالنجاسة للشيخ و هو متروك، بل تصديقه، بل تصديق دعوى الحلي الإجماع على الطهارة بدعوى رجوع الشيخ عن القول بها فضلا عن تصديق دعوى صاحب المختلف و الذكرى و الكفاية و الدلائل الشهرة بها.

و أما الأخبار فلا دلالة لشي ء منها على النجاسة، نعم ظاهرها مانعيته عن الصلاة، و هي أعم منها، نعم ما عن الفقه الرضوي لا يخلو من إشعار عليها، لكن كون هذا الكتاب رواية غير ثابت، فضلا عن اعتباره، فلو ثبت اعتماد الأصحاب على تلك الروايات الدالة على عدم جواز الصلاة فيه لا محيص

عن العمل بها، لكنه أيضا محل إشكال، سيما مع ما في الخلاف كما تقدم، حيث تمسك في الحكم بالأخبار التي في التهذيبين.

فلو كان اعتماده على تلك الأخبار لم يقل ذلك، و لم يكن وجه لترك التمسك بها في الكتابين، و سيما مع نقل الدلائل عن المبسوط نسبة كراهة الصلاة فيه الى الأصحاب، و إن قال صاحب مفتاح الكرامة:

«و لم أجد ذكر ذلك فيه» فان عدم وجدانه أعم.

فإثبات المانعية بتلك الروايات الضعيفة غير المجبورة مشكل بل ممنوع، و الاتكال على نفس الشهرة و الإجماع المنقول في الخلاف و غيره أيضا لا يخلو من إشكال، لإعراض المتأخرين عنه من زمن الحلي، مضافا إلى أن مدعي الإجماع كالشيخ توقف أو مال الى الخلاف على ما في محكي مبسوطة و يظهر من تهذيبه. و الناسب إلى الأصحاب توقف كابن زهرة أو أفتى بالخلاف كأبي يعلى سلار بن عبد العزيز.

و أما ما في الأمالي فالظاهر أن ما أدى اليه نظره عدّه من دين الإمامية، كما يظهر بالرجوع إلى أحكام ذكرها في ذلك المجلس.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 354

هذا مع ما في جملة من الروايات المصرحة بعدم البأس عن عرق الجنب لا يبعد دعوى تحكيم بعضها على تلك الاخبار، مثل ما عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: «سألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن الجنب و الحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما؟ فقال: إن الحيض و الجنابة حيث جعلهما اللّٰه عز و جل ليس في العرق، فلا يغسلان ثوبهما» «1».

و عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «لا يجنب الثوب الرجل، و لا يجنب الرجل الثوب» «2» فلو كان عرق الجنب موجبا للنجاسة أو

المانعية في الجملة لم يعبرا بمثل ما ذكر فيهما، هذا و لكن الاحتياط لا ينبغي أن يترك سيما بالنسبة إلى المانعية.

و منها- عرق الإبل الجلالة،

و الأقوى نجاسته وفاقا للمحكي عن الصدوقين و الشيخين في المقنعة و النهاية و المبسوط و القاضي و العلامة في المنتهى و صاحب كشف اللثام و الحدائق و اللوامع، و عن الرياض أنها الأشهر بين القدماء، و قد تقدم ما في الغنية و المراسم من نسبة إلحاقه بالنجاسات في الأول، و نسبة وجوب إزالته عن الثياب في الثاني إلى الأصحاب.

و ما قلنا في المسألة السابقة: إن المحتمل في الأول الإلحاق الحكمي، و لم يكن الثاني صريحا في النجاسة لدفع تحصيل الشهرة أو الإجماع بإبداء الاحتمال لا ينافي تشبثنا بكلامهما في المقام، للفرق بين المسألتين بأن هناك لم يدل دليل معتمد على النجاسة، بل و لا على المانعية فاحتجنا في إثباتهما إليهما و لو لجبر سند بعض ما تقدم، و المناقشة في تحققهما أو جبر الاسناد بهما بما تقدم كافية فيه.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 9- 5.

(2) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 9- 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 355

و هاهنا تدل الرواية الصحيحة على نجاسته، فلا يجوز رفع اليد عنها إلا بإثبات إعراض الأصحاب عنها، و مع المناقشة فيه باحتمال كون المراد صاحب الغنية و المراسم ذهاب الأصحاب إلى نجاسته تبقى الصحيحة سليمة عن الموهن، و هي صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله» «1» و إطلاق صحيح هشام بن سالم عنه عليه السلام قال: «قال: لا تأكل

اللحوم الجلالة، و إن أصابك من عرقها فاغسله» «2».

و عن الفقيه: «نهى صلّى اللّٰه عليه و آله عن ركوب الجلالات و شرب ألبانها، و إن أصابك من عرقها فاغسله» «3» و خلافا للمراسم و عن الديلمي و الحلي و جمهور المتأخرين بل عن كشف الالتباس و الذكرى و البحار و غيرها نسبته إلى الشهرة من غير تقييد، بل عن كشف الالتباس أن القول بالنجاسة للشيخ و هو متروك.

و قد بالغ المحقق صاحب الجواهر في تشييده و تأييده بما لا مزيد عليه، و لم يأت بشي ء مقنع يتجه معه ترك العمل بالحجة الظاهرة في النجاسة، أما تمسكه بالأصول فمع الإشكال في بعضها فظاهر، كتمسكه بعمومات طهارة الحيوان أو سورة، و كون الجلال طاهر العين، و ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه لعدم الانفكاك غالبا، و استبعاد الفرق بينهما و بين ما حرم أكله أصالة، بل و بين سائر الجلالات، بل و بين سائر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(3) و عن الصدوق في المقنع: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، و إن أصابك شي ء من عرقها فاغسله» راجع المستدرك- الباب- 11- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 356

فضلات نفسه، و ما دل على حلّ أكله بعد الاستبراء من غير ذكر نجاسته، و بفحوى عدم حرمة استعماله في الركوب و حمل الأثقال مع استلزامه للعرق غالبا من غير الأمر بالتجنب.

إذ العمومات على فرض وجودها قابلة للتخصيص، مع أن الظاهر عدم عموم لفظي يدل على طهارة الجلال أو سورة، بل

لو كان شي ء يكون إطلاقا، مع أنه أيضا محل تأمل و مناقشة، و على فرضه قابل للتقييد و قضية ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه على فرضها إنما هي متجهة لورود دليل في خصوص سؤر الجلال، و هو مفقود، و العمومات و الإطلاقات لا تقتضي ما ذكر، مع أنها مخصصة أو مقيدة.

و الاستبعاد المذكور غير معتمد في الأحكام التعبدية، مع عدم بعد في بعض، و عدم إطلاق فيما دل على حل الأكل بعد الاستبراء، لكونها في مقام بيان حكم آخر، و منه يظهر حال الفحوى المدعى الى غير ذلك من مؤيداته.

و أما ما أفاده من أن صحيحة هشام و مرسل الفقيه لا اختصاص فيهما بالإبل، لا قائل غير النزهة بالأعم، و التخصيص الى واحد غير جائز، و الحمل على العهد تكلف، فلا بد من الحمل على غير الوجوب، و إلا لكان الخبر من الشواذ، و مجاز الندب أولى من عموم المجاز، لشيوعه حتى قيل، إنه مساو للحقيقة، فيكون قرينة على ارادة الندب أيضا بالنسبة إلى الإبل في حسنة حفص.

ففيه بعد تسليم جميع المقدمات أنه لا يوجب رفع اليد عن الحسنة، و دعوى قرينية ما ذكر لإرادة الندب فيها ممنوعة، بل هي مخصصة أو مقيدة للصحيح و المرسل، مع أن ما ذكر من المقدمات غير سليمة عن المناقشة بل المنع.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 357

لمنع لزوم الاستهجان لو قلنا بعدم نجاسة غير عرق الإبل، فإن هيئة الأمر على ما ذكرنا في محله لا تدل على الوجوب دلالة لفظية وضعية بل هي موضوعة للبعث و الإغراء، كما أن هيئة النهي موضوعة للزجر، فهي في عالم الألفاظ كالإشارة المغرية أو الزاجرة، نعم مع عدم

قيام دليل على الترخيص تكون حجة على العبد، لحكم العقل و العقلاء على لزوم تبعية إغراء المولى و زجره مع عدم الدليل على الترخيص، كما ترى في الإشارة الاغرائية أو الزاجرة مع عدم وضعها لشي ء.

فحينئذ نقول: إن الترخيص الى واحد لا يوجب الاستهجان مع بقاء أصل البعث بالنسبة إلى سائر الأفراد، فإن الترخيص ليس مخصصا للدليل، بل يكون كاشفا عن عدم الإرادة الإلزامية بالنسبة إلى مورد الترخيص مع بقاء البعث بحاله من غير ارتكاب خلاف ظاهر، نعم لو دل دليل على عدم استحباب غسل عرق سائر الجلالات لا يبعد القول بالاستهجان.

هذا لو لم نقل بأن كثرة ابتلاء أهالي محيط ورود الروايات بالإبل دون سائر الجلالات، فإنها بالنسبة إلى الإبل كانت قليلة بحيث توجب الانصراف أو عدم استهجان التخصيص و إلا فالأمر أوضح.

و الانصاف عدم قيام الحجة بما ذكره لرفع اليد عن الحجة القائمة على النجاسة، فالأقوى نجاسته، كما أن الأقوى طهارة عرق سائر الجلالات، و الأحوط التجنب منه أيضا.

و قد وقع من الشيخ الأعظم هنا أمر ناش عن الاستناد الى حافظته الشريفة و التعجيل في التصنيف، و هو انه نقل حسنة ابن البختري مع إسقاط لفظة «الإبل»، فقال: إن ظاهر الصحيحة الأولى كالحسنة عدم اختصاص الحكم بالإبل، مع ان جميع النسخ الموجودة عندي و كذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 358

الكتب الفرعية التي راجعتها مشتملة عليها، و من هنا لزم على كل باحث أن يراجع المدارك عند التأليف و الفتوى، و لا يكتفي بالكتب الاستدلالية لنقل الرواية و لا يتكل عليها، فضلا عن حفظ نفسه بعد ما رأى وقوع مثله من مثل من هو تالي العصمة و فقيه الأمة، و

اللّٰه العاصم.

ثم إنه قد تقدم الكلام في المسوخ فلا نطيل بالإعادة، و هنا بعض أمور أخر قد ذهب بعض الى نجاسته، و دلّ بعض الأخبار عليها كلبن الجارية و الحديد و أبوال البغال و الحمير و غيرها مما هي ضعيفة المستند بعد كون طهارتها كأمر ضروري، فلا نطيل الى ذكرها.

و الحمد للّٰه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا و قد وقع الفراغ من مبيضة هذه الوريقات في صبيحة العاشر من ذي الحجة الحرام سنة 1373 هج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 359

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه رب العالمين و صلى اللّٰه على محمد و آله أجمعين و لعنة اللّٰه على أعدائهم إلى يوم الدين.

الفصل الثاني في أحكام النجاسات

اشارة

و فيه مطالب:

الأول- المعروف بينهم القول بسراية النجاسة

اشارة

مما هو محكوم بها شرعا إلى ما يلاقيه و هكذا بلغ ما بلغ، فهاهنا جهات من البحث بعد الفراغ عن أن السراية من الأعيان النجسة إلى ملاقياتها تتوقف على الرطوبة السارية كما مرّ الكلام فيه مستقصى.

الأولى: الكلام في سرايتها إلى الملاقيات

مقابل من أنكر ذلك إما مطلقا أو في الجملة، و هو لازم كلام علم الهدى حيث حكي عنه في مقام الاستدلال لجواز استعمال المائعات الطاهرة غير الماء في تطهير الثوب بأن تطهيره ليس إلا إزالة النجاسة عنه، و قد زالت بغير الماء شاهدة، و أوضح منه ما حكي عنه من جواز تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول عنها العين معللا لذلك بزوال العلة، و الظاهر منهما أن الأعيان النجسة لا تؤثر في تنجيس ملاقياتها حكما، و أن الطهارة للأشياء ليست إلا زوال عين النجاسة منها، فإذا زالت العلة و لا يبقى أثر منها تصير طاهرة، إذ ليست النجاسة إلا تلطخها بأعيانها، و هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 360

مساوق للقول بعدم سراية النجاسة من الأعيان إليها.

و عن المحدث الكاشاني «أنه لا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، و أما وجوب غسلها بالماء من كل جسم فلا، فما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهره إلا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء كالثوب و البدن، و من هنا يظهر طهارة البواطن بزوال العين و طهارة أعضاء الحيوان النجسة غير الآدمي به، كما يستفاد من الصحاح» انتهى. و لعمري أن قول السيد أظهر في هذا المقال من قول الكاشاني أو مثله حيث تبعه في ذلك، فلا وجه للطعن عليه بتفرده.

و يمكن أن يستدل على مطلوبهما بطوائف من الأخبار: منها

ما دلت على أن اللّٰه جعل الأرض مسجدا و طهورا، و ورودها في مقام الامتنان يؤكد إطلاقها، فعن الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: فضلت بأربع: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» «1» و في مرسلة أبان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «إن اللّٰه تبارك و تعالى أعطى محمدا صلّى اللّٰه عليه و آله شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى- إلى أن قال-: جعل له الأرض مسجدا و طهورا» إلخ «2» و دعوى عدم إطلاقها فإنه في مقام الاخبار بالتشريع كأنها في غير محلها، فان حكايته انما هي للعمل، لا لنقل قضية كنقل التاريخ، فلو كانت أرض خاصة طهورا لكان عليه البيان، سيّما مع اقتضاء المقام التعميم، كدعوى اختصاصها برفع الحديث لعدم الدليل عليه، و مجرد اشتمال بعضها على ذكر التيمم لا يوجب الاختصاص.

و من هذا القبيل صحيحة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 361

«إن اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «1» سيما إذا أريد التشبيه، و مجرد كون صدرها في مورد التيمم لا يوجب تقييد الكبرى الكلية التي في مقام الامتنان المقتضي للتعميم.

و تقريب الاستدلال بهذه الطائفة للمطلوب بأن يقال: إن الطهارة لدى العرف عبارة عن خلو الأشياء و نقائها عن القذارات، و الأرض كالماء مؤثرة في إزالتها و إرجاعها إلى حالها الأصلية، و زوال العلة، و هي بعينها دعوى السيد، و لازمة عدم سراية القذارات في الأشياء، إذ الأرض لا تؤثر إلا في

زوال الأعيان، و هو بعينه الطهارة عرفا و عقلا.

و بالجملة هذه الطائفة تدل على ما ذهب إليه من عدم اختصاص الطهور بالماء، و يثبت بها لازمة، و شاهدة أيضا على ما لدى العقلاء في ماهية الطهارة و القذارة، فما قد يمكن أن يقال: إن التعبير بالطهور دليل على أن الأشياء تصير قذرة محتاجة إلى المطهر- غاية الأمر كما يكون الماء مطهرا تكون الأرض مطهرة و هو مخالف لمذهب السيد- مدفوع بأن العرف لا يرى الطهارة إلا إزالة النجاسة عن الجسم و إرجاعه إلى حالته الذاتية، و طهورية الأرض كطهورية الماء ليست إلا ذلك، و هي معلومة بالمشاهدة كما قال السيد في كلامه المتقدم.

و منها ما دلت على مطهرية غير الماء لبعض النجاسات، كصحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها، أ ينقض ذلك وضوءه؟ و هل يجب عليه غسلها؟

فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها. و لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها، و يصلي» «2» و لا يخفى قوة دلالتها على مذهب السيد، فإن العذرة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب التيمم- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 362

ظاهرة وضعا أو انصرافا إلى ما للإنسان أو الأعم منها و مما لغير المأكول من السباع كالكلب و السنور، و حملها على عذرة مأكول اللحم خلاف الظاهر جدا، كما أن حمل المسح على المسح بالأرض خلاف ظاهرها، بل الظاهر منها أن كل ما أذهب أثرها كاف، و الميزان فيه ذهاب الأثر بأي طريق كان، و هو عين مدعاه، و لازمة عدم السراية حكما مطلقا.

بل يمكن دعوى حكومة هذه الرواية

على الروايات الواردة في غسل ملاقي القذارات بدعوى أن قوله (ع): «لا يغسلها إلا أن يقذرها» دليل على أن الأمر بالغسل فيها لرفع القذارة العرفية بجميع مراتبها، لا لكون الماء ذا خصوصية شرعا، بل المعتبر لدى الشارع ليس إلا ذهاب الأثر بأي نحو اتفق.

و كموثقة الحلبي أو صحيحته قال: «نزلنا في مكان بيننا و بين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد اللّٰه عليه السلام فقال: أين نزلتم؟

فقلت: في دار فلان، فقال: إن بينكم و بين المسجد زقاقا قذرا، أو قلنا له: إن بيننا و بين المسجد زقاقا قذرا، فقال: لا بأس، إن الأرض يطهر بعضها بعضا» «1» و مقتضى إطلاقها أن الأرض بإزالتها للعين موجبة للتطهر من غير اختصاص بالمشي أو بالرجل و غير ذلك.

و بما ذكرنا من أن الطهارة في الأشياء عرفا و عقلا ليست إلا زوال القذارات عنها، و رجوعها إلى حالتها الأصلية من غير حصول صفة وجودية فيها، يظهر صحة الاستدلال بروايات تدل على مطهرية الشمس أو هي و الريح في بعض ما يذهب أثره باشراق الشمس و تبخيرها «2» و بما هو كالضروري من أن زوال عين النجاسة عن بدن الحيوان بأي نحو موجب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) المروية في الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 363

لطهارته، و بما دل على طهارة بصاق شارب الخمر «1» و ما دل على أنه ليس للاستنجاء حدّ إلا النقاء «2» و بموثق غياث الدال على جواز غسل الدم بالبصاق «3» و بمرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في عجين عجن و خبز ثم علم أن

الماء كانت فيه ميتة، قال: لا بأس أكلت النار ما فيه» «4» و بما دل على طهارة الدن الذي كان فيه الخمر ثم يجفّف و يجعل فيه الخل «5» إلى غير ذلك، فان كل تلك الموارد موافق للقواعد، و ليس للشارع إعمال تعبّد فيها بعد عدم كون الطهارة أمرا مجعولا تعبديا، بل هي بمعنى النظافة، و هي تحصل بإزالة القذارة بأي نحو كان.

و نحوها أو أوضح منها رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الحجامة أ فيها وضوء؟ قال: لا، و لا يغسل مكانها، لأن الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه و لم يكن صبيا صغيرا» «6» فان الظاهر منها أن التنظيف بأي نحو يقع مقام الغسل في تحصيل الطهارة و ليس المراد منه الغسل بالماء جزما، أما أولا فلعدم تعارف غسل الحجام محل الحجامة، بل المتعارف تنظيفه بثوب أو خرقة. فحملها عليه حمل بالفرد النادر أو غير المحقق، و أما ثانيا فلأن تبديل الغسل بالتنظيف و جعله مقابلا له مع أن المناسب ذكر الغسل دليل على مغايرتهما، فهي

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 39- من أبواب النجاسات.

(2) المروية في الوسائل- الباب- 13- من أبواب أحكام الخلوة

(3) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المضاف- الحديث 1

(4) الوسائل- الباب- 14 من أبواب الماء المطلق- الحديث 18

(5) مر في ص 183.

(6) الوسائل- الباب- 56- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 364

دالة على أن الغسل لم يؤمر به إلا للتنظيف، و الحجام إذا كان ينظفه حصل المقصود به، و منه يعرف سر الأمر بالغسل في سائر النجاسات، و هو تحصيل النظافة عرفا.

و من ضمّ تلك الروايات

الكثيرة و غيرها مما لم نذكره يحصل الجزم لو خليت الواقعة عن دليل تعبدي بأن التنظيف عند الشارع ليس إلا ما لدى العقلاء، و أن الأمر بالغسل بالماء فيما ورد انما هو لسهولة تحصيل الطهور به و لو فوره و لكونه مع مجانيته أوقع و أسهل في تحصله، و معه لا يفهم من الأدلة الآمرة بغسل الأشياء بالماء خصوصية تعبدية، و لا يفهم العرف أن التطهير و التنظيف لدى الشارع غير ما لدى العقلاء و أن الطهارة عنده ليست عبارة عن خلو الشي ء عن القذارة العارضة، بل هي أمر آخر ليس للعقلاء إلى فهمه سبيل، فان كل ذلك بعيد عن الافهام، مخالف لتلك الروايات الكثيرة، يحتاج إثباته إلى دليل تعبدي رادع للعقلاء عن ارتكازهم، و لا تصلح الروايات الآمرة بالغسل لذلك لما عرفت.

و منها روايات متفرقة في الأبواب ظاهرة في عدم السراية، كصحيحة حكم بن حكيم قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أبول فلا أصيب الماء، و قد أصاب يدي شي ء من البول فأمسحه بالحائط و بالتراب ثم تعرق يدي فأمسح بها وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي، قال: لا بأس به» «1» و هي أيضا موافقة لما تقدم.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و قد احتمل المحدث الكاشاني فيها احتمالين: أحدهما الظاهر منها أن ما يلاقي اليد برطوبة بعد زوال عين النجاسة عنها بالمسح يلاقي اليد المتنجسة لا عين النجاسة، فالرواية دليل على مدعاه و ثانيهما أن اصابة البول جميع أجزاء اليد و وصول جميع أجزاء اليد الى الوجه أو الجسد أو الثوب و شمول العرق كل اليد كلها غير متيقنة، فاحتمال ملاقاة البول لا يوجب رفع اليد عن

الطهارة المتيقنة سابقا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 365

و نحوها رواية سماعة قال: «قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام إني أبول فأتمسح بالأحجار فيجي ء مني البلل ما يفسد سراويلي، قال:

ليس به بأس» «1».

و رواية زيد الشحام «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل علي، فقال: لا بأس به» «2» و حملها على تطهر الثوب بالمطر كما ترى.

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن الكنيف يصب فيه الماء، فينضح على الثياب ما حاله؟ قال: إذا كان جافا فلا بأس» «3».

و صحيحة أبي أسامة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

تصيبني السماء و عليّ ثوب فتبلّه و أنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أ فأصلي فيه؟ قال: نعم» «4» بناء على أن المراد إصابة الثوب لنفس المني الذي في الجسد لا للجسد الملاقي له.

و رواية علي بن أبي حمزة قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأسا، فقال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 13- من أبواب نواقض الوضوء- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(3) الوسائل- الباب- 60- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(4) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 366

أبو عبد اللّٰه عليه السلام في وجه الرجل، فقال: إن أبيتم فشي ء من ماء فانضحه» «1» و الظاهر أن السؤال عن الثوب الذي فيه أثر الجنابة إذا عرق فيه، و معلوم

أن العرق بالوجه المسئول عنه يوجب ملاقاة البدن للأثر، و الحمل على السؤال عن عرق الجنب كما ترى.

و موثقة أبي أسامة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب الذي فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل عليّ، قال: لا بأس» «2» و توجيهها بأن المطر طهره بعيد، فإن إزالة المني تحتاج إلى الدلك و نحوه.

و أوضح منها صحيحة زرارة قال: «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أ يتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به، إلا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس» «3» و الظاهر أن التفصيل بين الرطبة و غيرها لكون التجفيف بالرطبة موجبا لتلوث البدن بها دون اليابسة التي لا يوجب ذلك معها إلا الملاقاة له بلا تلوث بالنطفة «4» إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع «5»،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) لعلها محمول على عدم العلم بالتسرية تأمل، راجع الوسائل الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(3) الوسائل- الباب- 27- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(4) و لعل التفصيل بين الرطبة و غيرها من أجل أنه إذا كانت رطبة يعلم موضع النجاسة فيه، فلا بد من الاحتراز عنه، بخلاف ما إذا كانت جافة، فإنه ربما لا يعلم موضعها فلا يجب الاحتراز عن كله، تأمل.

(5) كذيل صحيحة العيص المروي في الوسائل- الباب- 6- من أبواب النجاسات- الحديث 2 و موثقة حنان بن سدير المروية في الباب- 13- من أبواب نواقض الوضوء- الحديث 7- و رواية محمد ابن مسلم المروية في الباب- 11- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 2 و كلها لا تخلو عن مناقشة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 367

و

ليس في مقابلها غير الروايات المستفيضة بل المتواترة الآمرة بالغسل بالماء «1» أو بالغسل المنصرف إلى كونه بالماء في أنواع النجاسات، و هي لا تصلح لمعارضتها، أما أولا فلأن المفهوم منها- بعد ما تقدم من أن الطهارة ليست لدى العقلاء إلا إزالة النجاسة- أن الأمر بالغسل بالماء ليس إلا للتطهير و التنظيف من غير خصوصية للماء، و انما خص بالذكر لسهولته و كثرته و أوقعيته للتطهير غالبا، و أما ثانيا فلعدم المفهوم لتلك الروايات، فلا تنافي بينها و بين ما تقدم من جواز التنظيف بغيره كالأرض و التراب و البصاق و نحوها، بل لبعض الأخبار المتقدمة نحو حكومة عليها كما تقدم.

نعم ما دلّ على أن الاستنجاء في محل البول لا بد له من الماء «2»

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 9- 26- 28- 29- 31- 34 من أبواب أحكام الخلوة و الباب- 1- 2- 4- 5- 7- 8- 12- 13 14- 16- 19- 21- 24- 25- 34- 38- 40- 51- 53- 68- من أبواب النجاسات و الباب- 1- 3- من أبواب الأسئار و غيرها.

(2) كرواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:

«يجزى من الغائط المسح بالأحجار، و لا يجزي من البول إلا الماء» و في صحيحة زرارة عنه عليه السلام قال: «و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم، و أما البول فإنه لا بد من غسله» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 6- 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 368

و لا يجوز بغيره مخصوص بمورده، و لا يتعدى منه إلى البول في سائر الموارد

فضلا عن غيره، مع احتمال أن يكون اللابدية اضافية في مقابل التحجر لا سائر المائعات.

و غير ما دلّ على تغسيل ملاقي مثل الكلب و الخنزير و الكافر «1» مما لا يتلوث الملاقي به، و هو دليل على عدم كون النجاسة و الطهارة لدى الشارع ما لدى العرف، و لهذا حكم بنجاسة أمور لا يستقذرها العرف و عدم نجاسة أمور يستقذرها.

و يمكن أن يجاب عنه بأن النجاسات الالحاقية كالكافر و الكلب و غيرها مما لا يستقذرها العقلاء بما هم كذلك ليست نجاستها لكشف قذارة واقعية في ظاهر أجسامها من سنخ القذارات الصورية، لعدم قذارة كذائية فيها، بل الظاهر أن انسلاكها في سلك القذارات بجهات و علل أخرى سياسية أو غيرها، و ليس الحكم بغسل ملاقياتها للسراية كما في سائر النجاسات المستقذرة، بل لأمور أخر و علل شتى غير السراية:

كتجنب المسلمين عن الكفار، و عدم اختلاطهم بهم، و كدفع مضرات لم نطلع بها، فإذا لم تكن الأمر بالغسل للسراية لم تكن تلك الروايات شاهدة على أن سائر النجاسات كذلك، و أن الطهارة و النجاسة مطلقا في عرف الشرع و نظر الشارع المقدس غير ما عند العقلاء.

و بعبارة أخرى مجرد إلحاق أشياء بها و إخراج أشياء منها لا يدل على مخالفة نظره مع العرف في أصل ماهية النجس و الطاهر.

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 12- 13- 14- 26- من أبواب النجاسات و الباب- 1- 3- من أبواب الأسئار.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 369

و غير الأدلة الدالة على انفعال الماء القليل و سائر المائعات «1» و هي تبلغ في الكثرة حد التواتر، و فيه أن تلك مسألة برأسها لا تكون أوضح من هذه المسألة، و

لا ملازمة بينهما كما لا يخفى، هذا غاية ما يمكن لنا ذكره في هذا المختصر لتأييد مذهبهما.

لكن الانصاف عدم خلو كثير من تلك الأخبار من المناقشة إما في السند أو في الدلالة أو الجهة، لو حاولنا ذكرها تفصيلا لطال بنا البحث، كما أن الانصاف خلو بعضها منها، لكن مع ذلك كله لا يمكن الاتكال في تلك المسألة التي عدت من الضروريات على تلك الأخبار المعرض عنها أو عن إطلاقها خلفا عن سلف. و قد مرّ منا مرارا أن دليل حجية أخبار الثقة ليس إلا بناء العقلاء مع إمضاء الشارع، و معلوم أن العقلاء لا يتكلون على أخبار أعرض عنها نقلتها و غيرهم، بل ادعى جمع من الأعاظم الإجماع على تنجيس المتنجس فضلا عن النجس، فهذه المسألة من المسائل التي يقال فيها: إنه كلما ازدادت الأخبار فيها كثرة و صحة ازدادت و هنا و ضعفا، هذا مع تظافر الأخبار بسراية النجاسة من المتنجس كما تأتي، فضلا عن النجس.

الجهة الثانية [سراية النجاسة من المتنجس]

بعد الفراغ عن السراية من الأعيان النجسة يقع الكلام في السراية من المتنجس إلى ملاقيه، إما في الجملة أو مطلقا و لو بلغ ما بلغ، و هي الجهة الثالثة.

و قد نسب الخلاف في أصل السراية إلى ابن إدريس، و اختاره صريحا المحدث الكاشاني، لكن لم يظهر من الحلي الإنكار مطلقا، أي في مطلق المتنجسات، لاحتمال اختصاص كلامه بميت الإنسان، و إن

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق و الباب- 5 من أبواب الماء المضاف.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 370

كان ظاهر تعليله العموم، لكن يظهر منه في بعض الموارد عدم العموم، و لهذا عدّ ذلك من متفردات الكاشاني، نعم لازم كلام

السيد ذلك أيضا كما لا يخفى.

قال الكاشاني في محكي المفاتيح: «انما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة، و أما ما لاقى الملاقي لها بعد ما أزيل عنه بالتمسح و نحوه بحيث لا يبقى فيه شي ء منها فلا يجب غسله، كما يستفاد من المعتبرة، على أنا نحتاج إلى دليل على ذلك» إلخ.

أقول: أما ما ادعى من عدم الدليل ففيه أن الأدلة المتفرقة في الأبواب بلغت حدّ التواتر أو قريب منه إن أراد عدم الدليل حتى بالنسبة إلى المائعات، كما هو مقتضى إطلاقه، و إلا فهي أيضا كثيرة نذكر جملة منها، مع الإشارة إلى مقدار دلالتها بالنسبة إلى الوسائط، حتى يظهر حال الملاقيات مع الوسائط.

منها صحيحة الفضل أبي العباس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة- إلى أن قال-: حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس، لا يتوضأ بفضله، فاصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1» و الظاهر منها أن الماء الملاقي للكلب صار نجسا، و الإناء الملاقي للماء كذلك، و أمر بغسله لسراية النجاسة منه إلى ما يلاقيه بعد ذلك.

و دعوى أن غاية ما يمكن استفادته منها و من مثلها بعد البناء على ظهورها في الوجوب الغيري كما هو المتعين انما هو حرمة استعمالها حال كونها متنجسة في المأكول و المشروب المطلوب فيها النظافة و الطهارة في الجملة و لو بالنسبة إلى المائعات التي يتنفر الطبع من شربها في

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 371

إناء يستقذره، و أما تأثيرها في نجاسة ما فيها فلا.

مدفوعة بأن العرف لا يشك في أن الأمر بغسل الإناء سيما مع تفرعه على قوله عليه السلام:

«رجس نجس» ليس إلا لتأثير الإناء في المائع المصبوب فيه، و لا يشك في الفرق بين الأمر بغسل خارج الإناء الذي لا يلاقي المائع و داخله الملاقي، و هل يكون استقذار العقلاء من المائعات المصبوبة في الإناء غير النظيف دون الجامدات إلا لتأثر الأولى منه دون الثانية، فالاعتراف بتنفر الطباع من الشرب في إناء مستقذر دون أكل الجوامد اعتراف بالسراية عرفا، و بالجملة يظهر من هذه الرواية تنجس الملاقي للنجس و ملاقيه و ملاقي ملاقيه، و من تعليله أن ذلك حكم النجس من غير اختصاص بالكلب و اختصاص كيفية الغسل به بدليل آخر لا يوجب اختصاص سائر الأحكام به.

و منها صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألته عن الكلب يشرب في الإناء، قال: اغسل الإناء» «1» و نحوها ما دل على غسل الإناء من شرب الخنزير كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام «2».

و منها حسنة المعلى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق، فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافيا؟ فقال: أ ليس وراءه شي ء جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس أن الأرض يطهر بعضها بعضا» «3» و هي كالصريح في نجاسة الرجل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 3

(2) في حديث قال: «و سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 372

الملاقي لملاقي النجس.

و منها ما دلت على وجوب غسل آنية اليهود «1» و آنية يشرب فيها الخمر «2» و غسل

أواني الخمر «3» و غسل ما فيه الجرذ ميتا «4» و غسل الفراش و البساط و ما فيه الحشو «5» و غسل لحم القذر الذي قطرت فيه قطرة من الخمر «6» و غسل الثوب الذي لاقى الطين الذي نجسه شي ء بعد المطر «7» و غسل الفخذ الملاقي مع الذكر بعد مسحه بالحجر «8» و ما دل على عدم جواز الصلاة على البواري التي يبل قصبها بماء قذر قبل

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 54- من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث 7.

(2) راجع الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات و الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة.

(3) راجع الوسائل- الباب- 51- من أبواب النجاسات و الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة.

(4) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(5) راجع الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل- الباب- 26- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(7) راجع الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(8) إشارة إلى صدر صحيحة العيص، و لا يخفى أن ذيلها معارض لصدرها، و إليك نصها قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر و قد عرق ذكره و فخذه، قال: يغسل ذكره. و فخذه، و سألته عمن مسح ذكره بيده ثم عرقت يده فأصابه ثوبه يغسل ثوبه؟ قال: لا» أورد صدرها في الوسائل في الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و ذيلها في الباب- 6- من هذه الأبواب- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 373

الجفاف «1».

و منها موثقة الساباطي الآمرة بغسل كل ما أصاب ماء مات فيه الفارة «2» و رواية العيص الآمرة بغسل الثوب الذي أصابه

قطرة من طست فيه وضوء من بول أو قذر «3» و صحيحة معاوية بن عمار الآمرة بغسل الثوب الملاقي للبئر النتن «4» و ما دلت على انفعال الماء القليل ببعض المتنجسات «5» إلى غير ذلك.

نعم لا يظهر من تلك الروايات على كثرتها إلا التنجيس بواسطة أو واسطتين، فلا بد من التماس دليل على تنجس الوسائط الكثيرة، سيما إذا كانت الكثرة معتدا بها، و التشبث بإلقاء الخصوصية من واسطة أو واسطتين إلى الوسائط سيما الكثيرة في غير محله، بعد وضوح الفرق بين الكثرة و القلة في الوسائط.

و غاية ما يمكن الاستدلال على تنجسها بالغة ما بلغت أن يقال:

إن الظاهر من كثير من الروايات أن ملاقي النجس يصير نجسا، و بالملاقاة ينسك الملاقي بالكسر تحت عنوان النجس، كقوله عليه السلام في المستفيضة: «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي ء» «6» فإنه بمفهومه

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 2 و 5

(2) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(3) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المضاف- الحديث 14

(4) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 10

(5) راجع الوسائل- الباب- 8 من أبواب الماء المطلق.

(6) ما وجدته بلفظة «بلغ» بل غير موجود في كتب الحديث و الموجود فيها بلفظة «كان» راجع الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1 و 2 و 5 و 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 374

يدل على أن ملاقاة الماء للنجس موجب لصيرورته نجسا، و قوله عليه السلام: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غيّر لونه» الى آخره «1» و كقوله عليه السلام في الثوب الذي يستعيره الذمي:

«أعرته إياه

و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «2» و قوله عليه السلام في النبيذ: «ما يبل الميل ينجس حبّا من ماء» «3» إلى غير ذلك.

فإذا ضم ذلك إلى التعليل في بعض الروايات المتقدمة لغسل الملاقي بكونه نجسا، و ضم إليه ارتكاز العرف بأن الأمر بغسل الملاقي للسراية ينتج المطلوب، بأن يقال: لو فرضت سلسلة مترتبة من الملاقيات رأسها عين النجس فالملاقي الأول محكوم بأنه نجس، لأن العين نجسته بارتكاز العرف و دلالة الروايات، و بمقتضى التعليل بأن النجس يغسل ملاقيه و بضميمة الارتكاز بأن لزوم الغسل ليس لتعبد محض بل للسراية و صيرورة الملاقي نجسا، و التأييد بالروايات الحاكمة بصيرورته نجسا يحكم بنجاسة ملاقي الملاقي، و هكذا في جميع السلسلة يحكم بلزوم غسل ملاقي كل نجس، بالارتكاز و الروايات المتقدمة يحكم بصيرورة الملاقي نجسا.

و بعبارة أخرى يستفاد من التعليل و الارتكاز و ضميمة الروايات قاعدة كلية: هي أن كل نجس متنجس، أي موجب لتحقق مصداق آخر للنجس، و هو أيضا منجس، و هلم جرّا.

لكن الانصاف عدم خلوه عن إشكال بل منع، بعد ما علمنا اختصاص الحكم المذكور في الرواية الشاملة على العلة بولوغ الكلب و عدم الاسراء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9.

(2) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 375

إلى سائر ملاقياتها، فضلا عن سائر النجاسات، و دعوى أن ورود التقييد أو التخصيص في حكم لا يوجب رفع اليد عن عموم العلة غير وجيهة، فإنه مع اختصاص هذا الحكم الظاهر به لا

يبقى وثوق بعموم التعليل، و لا ظهور له.

مضافا إلى الإشكال في كون قوله عليه السلام: «رجس نجس» تعليلا يمكن الاتكال عليه لإسراء الحكم، نعم فيه إشعار بأن التغليظ في نجاسة الكلب ربما يوجب اختصاص الأحكام به أو بما هو من قبيله، و لا دليل على كون سائر النجاسات مغلظة نحوها، فضلا عن ملاقياتها و لو مع الوسائط المعلوم عدم غلظتها كذلك.

مضافا إلى أن التعليل الآخر في صحيحة أخرى لأبي العباس يورث و هنا فيه قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و ان أصابه جافا فاصبب عليه الماء، قلت: و لم صار بهذه المنزلة؟ قال: لأن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أمر بقتلها» «1» هذا مع أن ما دلت من الروايات على صيرورة الملاقي نجسا انما هو في ملاقي أعيان النجاسات لا ملاقي ملاقيها، و هكذا. و التشبث بارتكاز العرف في الوسائط الكثيرة محل إشكال و منع، فاستفادة نجاستها مما تقدم مشكلة بل ممنوعة.

بقي الكلام في حال الإجماعات المنقولة، فليعلم أن هذه المسألة بهذا الوجه لم تكن معنونة في كتب القدماء من أصحابنا على ما تتبعت الكتب الموجودة عندي، و لم أر النقل منهم فيما هو معدّ لنقل الأقوال، نعم عنون الشيخ في الخلاف مسألتين:

إحداهما مسألة (136): «إذا ولغ الكلب في الإناء نجس الماء الذي فيه، فان وقع ذلك الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب عليه

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 376

غسله- إلى أن قال-: دليلنا أن وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء».

ثانيتهما مسألة (137): «إذا أصاب الماء الذي يغسل به الإناء من ولوغ الكلب ثوب الإنسان

أو جسده لا يجب غسله سواء كان من الدفعة الأولى أو الثانية أو الثالثة- ثم قال-: دليلنا أن الحكم بنجاسة ذلك يحتاج إلى دليل، و ليس في الشرع ما يدل عليه» ثم تمسك بالدليل العقلي المعروف في الغسالة.

أقول: لم يتضح من قوله في المسألة الأولى إلا دعوى الاتفاق على وجوب غسله، و أما التعليل بنجاسة الماء فليس من معقد الاتفاق حتى يتوهم الإجماع، على أن كل نجس يجب غسل ملاقيه، و يضم إليه ارتكازية السراية بالتقريب المتقدم، بل الظاهر من المسألة الثانية أن مسألة تنجيس ملاقي ملاقيه ليس ثابتا بإجماع أو غيره، و هي و إن كانت في الغسالة التي وقعت محل البحث، لكن تعليله بعدم الدليل دليل على عدم قيام الإجماع على الكلية، مع أن الدليل العقلي في الغسالة على فرض صحته انما يجري في الغسلة الأخيرة لا مطلقا، و قد صرح بعدم الفرق بين الغسلات، و من هنا يظهر أن استدلاله بالدليل العقلي لبعض المقصود، و هو الغسلة الأخيرة.

و مما يدل على عدم إجماعية المسألة و عدم وضوحها في تلك الأعصار قوله في كتاب الصلاة في مسألة (222): «الجسم الصقيل مثل السيف و المرآة و القوارير إذا أصابته نجاسة فالظاهر أنه لا يطهر إلا بأن يغسل بالماء، و به قال الشافعي، و في أصحابنا من قال: يطهر بأن يمسح ذلك منه أو يغسل بالماء، اختاره المرتضى، و لست أعرف به أثرا، و به قال أبو حنيفة، دليلنا أنا قد علمنا حصول النجاسة في هذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 377

الجسم و الحكم بزوالها يحتاج إلى شرع، و ليس في الشرع ما يدل على زوال هذا الحكم مما قالوه-

ثم تمسك بدليل الاحتياط-» انتهى.

و قد تقدم أن لازم كلام السيد بل صريح ما نقل عنه في دليل مذهبه أن ملاقي النجس ليس بنجس، فضلا عن ملاقي المتنجس، و مع ذلك قد ترى أن ظاهر كلام الشيخ وجود القائل غير السيد فيها، و عدم إجماع أو دليل آخر على خلافه، و إلا لتمسك به، و لم يقل: و الظاهر كذا مما يظهر منه عدم الجزم بالمسألة، و لم يتمسك بالأصل و الاحتياط و لم يقل: لست أعرف به أثرا، فيظهر منه أن المسألة حتى في ملاقي عين النجس لم تكن إجماعية في عصره، فضلا عن ضروريتها، فضلا عن إجماعية نجاسة الملاقي مع الوسائط بالغة ما بلغت أو ضروريتها.

و ظاهر ابن إدريس أن ملاقي ملاقي النجس لم يحكم بنجاسته لعدم الدليل عليها، و لو كانت المسألة إجماعية لما قال ذلك، نعم قد يقال: إن كلامه مختص بالميت مع الملاقاة بيبوسة، لكن الظاهر من كلامه عدم الاختصاص باليابس، بل يظهر منه أن النجاسات الحكمية مطلقا لا تؤثر في تنجيس الملاقي، و لا يبعد بقرينة المقام أن يكون مراده من الحكميات من قبيل الملاقي الذي لا أثر فيه من الملاقاة مقابل الأعيان النجسة.

كما أن استدلال المحقق في المعتبر في ردّ الحلي بقوله: «لما اجتمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت، و أجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع» انتهى دليل على عدم إجماعية نجاسة الملاقيات و لو بلا واسطة، و إلا لتمسك به من غير احتياج إلى التمسك بالإجماعين على نحو لا يخلو من إشكال و مصادرة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 378

و أما دعاوي متأخري

المتأخرين الإجماع أو الضرورة فجملة منها في مقابل المحدث الكاشاني، كالأستاذ الأكبر و المحقق القمي و النراقي و صاحب الجواهر و الشيخ الأعظم و غيرهم، و البعض منها الظاهر أو المصرح بعدم الخلاف في الوسائط و هلمّ جرا كالطباطبائي صاحب البرهان فلا وثوق بها، بعد ما عرفت من عدم كون المسألة معنونة في كتب القدماء و من غير ذلك مما تقدم ذكره.

و من جملة ثالثة لم يظهر دعوى الإجماع على الوسائط كذلك، كالشهيد في الروض بناء على استفادة الإجماع منه لأجل استثناء ابن إدريس فقط، قال في حكم مس الميت: «فان كان من الرطوبة فهي عينية محضة، فلو لمس اللامس له برطوبة آخر برطوبة نجس أيضا و هلمّ جرا، و خلاف ابن إدريس في ذلك ضعيف» انتهى، فإنه بعد تسليم الاستفادة لا يظهر منه إلا الإجماع في مقابل ابن إدريس القائل بعدم تنجيس المتنجس مطلقا، مع أن في الاستفادة أيضا إشكالا.

نعم لا يبعد ظهور كلام صاحب المعالم في الوسائط قال فيما حكي عنه: «إن كل ما حكم بنجاسته شرعا فهو يؤثر التنجيس في غيره أيضا مع الرطوبة عند جمهور الأصحاب، لا نعرف فيه الخلاف إلا من العلامة و ابن إدريس» بأن يقال: إن التأثير في التنجيس عبارة أخرى من صيرورة الملاقي محكوما بنجاسته شرعا، فلا بد من تأثيره، و هلمّ جرا.

و فيه- مضافا إلى إمكان أن يكون الكلام في مقابل ابن إدريس و العلامة فمن البعيد استفادة الوسائط الكثيرة منه- أن دعوى عدم معرفة الخلاف غير دعوى عدم الخلاف أو الإجماع، هذا مع ما تقدم من عدم كون المسألة إجماعية في الطبقة الأولى، و عدم تعرض تلك الطبقة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 379

بل الطبقة الثانية أيضا للمسألة.

ثم أن هاهنا شواهد داخلية و خارجية على عدم تنجس الملاقيات مع الوسائط المتعددة، أما الأولى فيمكن الاستشهاد عليه بروايات:

منها موثقة عمار الساباطي «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يجد في إنائه فارة و قد توضأ من ذلك الإناء مرارا أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، و قد كانت الفأرة متسلخة، فقال، إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء، و يعيد الوضوء و الصلاة» إلخ «1» فإن الظاهر أن الإناء المسئول عنه هو مثل الحب الذي كان متعارفا في تلك الأمكنة أن يصيب فيه الماء لرفع الحوائج من الوضوء و الغسل و غسل الثياب و غيرها، و قد اتفق رؤية الفارة المتسلخة فيه، و من الواضح أنه لو تنجس يوما يوجب ذلك نجاسة كثير مما في الأيدي لو قلنا بسراية النجاسة من الملاقيات هلمّ جرا فضلا عن تنجسه أياما. كما هو مقتضى ظاهر الرواية أو إطلاقها.

و بالجملة لا شبهة في ابتلاء صاحب الحب بملاقيات الماء و ملاقيات ملاقياته، و هكذا بعد مضي أيام، فلو صار الملاقاة مطلقا موجبا للنجاسة كان على الامام عليه السلام الأمر بغسل ملاقي ملاقي الماء و هكذا، فسكوته عنها مع العلم عادة بالابتلاء و تخصيص التطهير بملاقي ذلك الماء المشعر بعدم لزوم تطهير غيره لو لم نقل بدلالة نحو التعبير عليه دليل على عدم السراية مع الوسائط، فإن الماء تنجس بالفارة، و ملاقي الماء تنجس به، و الأمر بغسل ملاقيه مطلقا الذي منه الأواني و الظروف

دليل على تنجس ملاقي ذلك الملاقي، و أما الملاقي مع ذلك الملاقي الأخير

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 380

فلا يؤثر ذلك في نجاسته، و إلا لأمر بغسلها مع الجزم بالابتلاء عادة، بل كان عليه البيان بعد السؤال عن تكليف الرجل الذي ابتلى بذلك، مع احتمال ابتلائه بملاقي الملاقي للماء فضلا عن الجزم به، فعدم البيان دليل على عدم التنجيس، فضلا عن الاشعار المذكور الموجب للإغراء و العياذ باللّٰه.

و منها رواية بكار بن أبي بكر قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحب في مكان قذر ثم يدخله الحب، قال: يصب من الماء ثلاثة أكف ثم يدلك الكوز» «1» بناء على أن المراد بالمكان القذر المتنجس، لا المكان الذي فيه عين النجس، كما لا يبعد أن يكون منصرفا إليه، و إلا لخرجت عن الاستشهاد بها للمقام، و ينسلك في الأدلة الدالة على كلام المحدث الكاشاني، و هنا احتمال آخر في الرواية: هو أن المراد من قوله:

«ثم يدخله» إرادة إدخاله فيه، و قوله عليه السلام: «يصب» إلخ بيان تطهير الكوز، لكنه بعيد.

و منها الروايات التي تعرضت لاكفاء الماء و إراقته، و السكوت عن حكم الإناء مع اقتضاء المقام بيانه لو تنجس، كصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة، قال: يكفئ الإناء» «2» و صحيحة أبي بصير «3» و غيرهما «4».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 17

(2) الوسائل- الباب- 8 من أبواب الماء المطلق- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 8

من أبواب الماء المطلق- الحديث 11

(4) المروية في الوسائل- الباب- 8- من أبواب الماء المطلق و الباب 43- 44- من أبواب الأطعمة المحرمة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 381

و نظيرها موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «ان عليا عليه السلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فارة، قال:

يهراق المرق و يغسل اللحم و يؤكل» «1».

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فان كان جامدا فألقها و ما يليها، و كل ما بقي، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك» «2» إلى غير ذلك.

و السكوت في مقام سئل عن التكليف في القضية المبتلى بها عن حال الأواني و سائر الملاقيات دليل على عدم تنجسها، سيما في مثل الرواية الأخيرة، فإن الاستصباح بالسمن و الدهن في مدة كثيرة مع كثرتهما لا يتخلف عن الابتلاء بالملاقيات بلا وسط و معه، و دعوى كون الحكم معهودا أو مرتكزا تردها نفس الروايات، كدعوى كونهما في مقام بيان حكم آخر.

و أما الشواهد الخارجية فكثيرة: منها أن فقهاء العامة الذين كانوا مرجعا للناس في تلك الأعصار من زمن الصادقين عليهما السلام إلى زمن الهادي و العسكري عليهما السلام قلما اتفق موافقتهم معنا في أعيان النجاسات و كيفية تطهيرها، فمالك و الشافعي في الجديد خالفانا في نجاسة المني، و أبو حنيفة قال باجزاء فركه إذا كان يابسا، و الشافعي في أحد وجهيه و الزهري ذهبا إلى طهارة الميتة، و مالك و داود و الزهري إلى طهارة الكلب، و داود إلى طهارة الخمر، و أبو حنيفة إلى طهارة المسكرات، و جمهورهم إلى

طهارة الفقاع و حليته و طهارة الكفار.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 43- من أبواب الأطعمة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 382

و قال أبو حنيفة: تطهر جلود الميتة بالدباغ إلا الخنزير، و عن مالك حتى الخنزير، و عن الشافعي الحيوان الطاهر، و قال أبو حنيفة:

لا يجب العدد في النجاسات، و عن داود و مالك و الزهري إناء الولوغ طاهر، و عن كثير منهم كالشافعي في أحد قوليه و مالك في إحدى الروايتين عدم نجاسة الماء القليل إلا بالتغير، و اختلفوا معنا في تحديد الكر أيضا و عن أبي حنيفة جواز إزالة النجاسة بالمضاف، و عن أحمد روايتان، و عنه في إحدى الروايتين عدم تنجس المضاف إن بلغ قلتين، و في الأخرى: ما أصله الماء كالخل التمري فكالماء، و قال أبو حنيفة: لا يجب الاستنجاء من البول و الغائط بالماء و غيره، و هو إحدى الروايتين عن مالك، و قال الشافعي و مالك في الأخرى و أحمد: يكفي في البول الحجر إلى غير ذلك.

فهذه جملة من موارد اختلافهم معنا في أبواب النجاسات و الطهارات فلو كان أمر الملاقي و ملاقي ملاقيه و هلمّ جرا كما ذكر في السراية لما بقي من الناس طاهر، و مع حشر الخاصة معهم في تلك الأعصار صارت حالهم كذلك، و مع ذلك لم يسأل أحد من أصحاب الأئمة عليهم السلام عن حال الملاقيات معهم مطلقا، و لم يكن ذلك إلا لما رأوا أن الأئمة عليهم السلام عاشروا معهم كعشرتهم مع غيرهم.

أضف إلى ذلك ما هو المشاهد من حال أهل البوادي، و عدم احترازهم غالبا عن النجاسات و ملاقياتها،

و كانت تلك الطوائف في زمن الأئمة عليهم السلام مترددين في البلاد سيما الحرمين الشريفين، و لم يعهد من أحد من الأئمة عليهم السلام و أصحابهم و شيعتهم التنزه عنهم أو السؤال من حالهم و من ملاقياتهم.

و هذه الأمور و غيرها مما يوجب الجزم بأن قضية الملاقي ليس كما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 383

ذكر من السراية هلمّ جرا، سيما مع سهولة الملة و سماحتها.

و الانصاف أن الفتوى بالنجاسة سيما مع الوسائط الكثيرة جرأة على المولى، و الأشبه عدم النجاسة مع الوسائط الكثيرة، و الاحتياط سيما فيما علم تفصيلا بالملاقاة و لو مع الوسائط لا ينبغي تركه.

المطلب الثاني [إزالة النجاسة عن الثياب]

اشارة

قالوا: يجب إزالة النجاسة عينية كانت أو حكمية عن الثياب عدا ما استثنى، و عن ظاهر البدن للصلاة واجبة كانت أو مندوبة بالوجوب الشرطي الذي يتبعه الوجوب الشرعي المقدمي عند وجوب ذيها أصلا أو عارضا.

أقول: أما الوجوب الشرعي المقدمي فقد فرغنا عن بطلانه، بل عدم تعقله في محله، و أما الوجوب الشرطي فهو موقوف على كون الشرط للصلاة إزالة النجاسة أو عدم النجاسة، و هو محل بحث و نظر، و لا بأس ببسط الكلام فيه لترتب ثمرات مهمة عليه.

فنقول: يحتمل ثبوتا أن تكون الطهارة شرطا للصلاة أو عدم القذارة شرطا لها أو القذارة مانعة عنها، و الفرق بين الأولين واضح و إن كان في صحة جعل العدم شرطا كلام، و أما الفرق بين الشرطية و المانعية أن الشرط ما هو دخيل في الملاكات الواقعية، إن كان المراد به شرط الماهية كما في المقام الذي لا يحتمل أن يكون الطهور شرطا لوجودها لا دخيلا في ماهيتها.

و بعبارة أخرى أن الشرط لبا من مقومات حمل

الملاك، و الصلاة بلا طهور لا تكون حاملة للملاك بناء على شرطية الطهور، و بناء على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 384

شرطية عدم القذارة أن ماهية الصلاة المجردة عن القذارة حاملة له.

و أما المانع فلا يتصور للماهية، و لا يرجع إلى محصل، بل المانعية مطلقا ترجع إلى مقام الوجود، و منشأها الضدية بين الشيئين، و تصويرها في المقام بأن يقال: إن الملاك الذي في ماهية الصلاة من غير دخالة لعدم القذارة أو وجود الطهارة فيه مضاد لوجود القذارة أو المفسدة الواقعية الحاصلة منه، و هذه المضادة موجبة لمانعية الملاك الأقوى للملاك الأضعف، من غير تقييد وجود أحدهما بعدم الآخر حتى ترجع المانعية إلى الاشتراط بعدم المانع.

و بعبارة أخرى كما أن البياض و السواد مضادان، و يكون وجود كل مانعا عن وجود الآخر من غير اشتراط وجود أحدهما بعدم الآخر و لا مقدمية له بل نفس المضاد موجبة للتمانع، فإذا كان أحدهما أقوى مقتضيا يمنع عن تحقق الآخر، كذلك يتصور ذلك في الملاكات الواقعية فمع تحقق المانع و الملاك المضاد الذي هو أقوى لا يمكن تحقق الممنوع و مع عدم تحققه تقع الصلاة بلا ملاك و باطلة.

و لا يتوهم أن ذلك مستلزم للقول بالاشتغال في الشك في المانع، و هو خلاف مختارك في مباحث البراءة و الاشتغال- قائلا: إن احتمال عدم سقوط الأمر لاحتمال عدم حصول الملاك الواقعي و أخصية الغرض لا يصير حجة على العبد- ضرورة أن ما ذكرناه في مباحث البراءة انما هو في مقام الإثبات و تمامية الحجة، و قلنا أن العقل يحكم بالبراءة مع عدم تمامية حجة المولى، و احتمال بقاء الأمر لأجل احتمال بقاء الملاك لا

يوجب تمامية حجته بعد قيام العبد بما هو حجة عليه، و الكلام هاهنا في الملاكات الواقعية، و تصور المانعية و الشرطية بحسب الثبوت، فلا تناقض بين الكلامين.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 385

ثم أنه بعد تصور المانعية بنحو لا ترجع إلى شرطية العدم لو قام دليل ظاهر في المانعية لا يجوز رفع اليد عنه، و انما نطرح الظاهر إن قلنا بعدم تعقل المانعية، و قد عرفت تعقله.

ثم أن ما ذكرناه من تردد الأمر بين شرطية الطهارة أو عدم القذارة و بين مانعية القذارة الراجعة إلى منع الجمع بينهما انما يصح لو امتنع الجمع بين شرطية الضد و مانعية ضده فيما لا ثالث لهما، و كذا بين شرطية الشي ء و مانعية نقيضه، و إلا لما يبقى مجال للتردد، و لا تتعارض الأدلة لو فرض فيها ما هو ظاهرها الشرطية و ما ظاهرها المانعية، كما لا يخفى.

و التحقيق امتناع ذلك، و عدم إمكان الجمع بين شرطية شي ء و مانعية نقيضه أو ضده الذي لا ثالث له، لأن اشتراط شي ء لماهية المأمور به لا يعقل بحسب الملاكات الواقعية إلا مع دخالته في حاملية الملاك، لئلا يلزم جزافية الإرادة، و كذا لا يمكن تعلق الإرادة بالفاقد مما هو دخيل في تحصيل الملاك، و كذا الحال في تعلق الأمر الواقعي، فحينئذ لو كان عدم النجاسة مثلا شرطا لماهية المأمور به لا يعقل وقوع المانع بين الملاك الواقعي لها مع وجود النجاسة، إذ قد عرفت أن التمانع انما يكون بين الوجودين لا الماهيتين، و أما الشرطية فترجع إلى قيد في الماهية مع عدمه لا تكون حاملة للملاك، و مع عدم الملاك لا يعقل التمانع بين الملاكين.

و بالجملة

الماهية المشروطة بشرط مع فقده لا تكون ذات الملاك و لا متعلقة للإرادة و لا للأمر، و معه لا يعقل التمانع الذي طرفه الوجود بعد تمامية الملاك، هذا كله بحسب التصور و الثبوت.

و أما حال مقام الإثبات و دلالة الأدلة فتتضح بعد التنبيه إلى ما مر

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 386

منا من أن الطهارة الخبثية ليست أمرا وجوديا مضادا للقذارة، بل هي عبارة عن خلو الجسم عن القذارات و نقائها عنها، لا بمعنى دخالة هذا العنوان، بل الطهارة عدم تلوث الجسم الموجود بشي ء من القذارات و كونه على حالته الأصلية، فإن الضرورة قاضية بأنه لم يكن في الجسم غير أوصافه الذاتية و العرضية شي ء وجودي هو الطهارة مقابل القذارة، فالطهارة عبارة أخرى عن عدم القذارة، و كذا النظافة، بل الطهارة عن الأخباث المعنوية و الصفات الخبيثة ليست إلا خلو النفس عنها، و أما حصول كمالات مقابلات لها فهي أمور أخر غير الطهارة عنها كما يظهر بالتأمل، و ما ذكرناه هو الموافق للعرف و اللغة، فما ادعى بعض الأعيان من وضوح كون الطهارة ضدا وجوديا للقذارة الخبثية في غير محله، بل مدعي وضوح خلافه غير مجازف.

فحينئذ نقول: لا يعقل شرطية حيثية العدم للماهية المأمور بها لا بحسب الملاكات الواقعية و لا بحسب تعلق الإرادة الجدية و لا بحسب الأوامر المتعلقة بمتعلقاتها، أما الأولى فلعدم إمكان مؤثرية العدم و لو بنحو جزء الموضوع في شي ء و ما يتوهم ذلك في بعض الأمثلة العرفية ناش من الخلط و قلة التدبر، و إلا فما ليس بشي ء أصلا كيف يمكن تأثيره و دخالته في أمر، فإن التأثر و نحوه من الأمور الوجودية لا يمكن

اتصاف العدم به، و من هنا يظهر امتنان تعلق الإرادة و الأمر به، أي بما هو عدم حقيقة، لا بمفهوم العدم الذي هو وجود بالحمل الشائع.

و ما ذكرناه ليس أمرا دقيقا عقليا خارجا عن فهم العرف حتى يقال: إن الميزان في هذه الأبواب هو الفهم العرفي، و بعد امتناع شرطية العدم لا محيص عن إرجاع ما يظهر منه الشرطية إلى مانعية الوجود التي قد عرفت تعقله، مع أن غالب الأدلة ظاهرة في مانعية النجاسة لا شرطية الطهارة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 387

أو عدم النجاسة، كقوله عليه السلام في مكاتبة خيران الخادم في الخمر:

«لا تصل فيه فإنه رجس» «1» و في رواية أبي يزيد القسمي في جلود الدارش: «لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «2» و مثل ما دلت على نفي البأس عن الدم ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم «3» حيث يظهر منها البأس في مقداره، و هو عين المانعية، و ما دلت على نفي البأس عن القذارة فيما لا تتم فيه الصلاة وحدها «4» و ما دلت على إعادة الصلاة مع إتيانها في النجس في الموارد الخاصة «5» و هي كثيرة، و المتفاهم منها عرفا أن النجس موجب للإعادة، بل ما دلت على وجوب الغسل و الإعادة إذا صلى في النجس «6» و هي كثيرة، بل لك أن تتمسك بقوله (ع):

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) الوسائل- الباب- 71- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(3) كمرسلة جميل بن دراج عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام انهما قالا: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرقا شبه النضح، و إن

كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» راجع لوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(4) كمرسلة حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة فلا بأس» و غيرها من الروايات المروية في الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات.

(5) راجع الوسائل- الباب- 18- 19- 20- 21- 37 40- 41- 42- 43- 44- من أبواب النجاسات.

(6) راجع الوسائل- الباب- 18- 19- 20- 21- 37 40- 41- 42- 43- 44- من أبواب النجاسات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 388

«لا تجوز الصلاة في شي ء من الحديد فإنه نجس ممسوخ» «1» فإنه يظهر منها كراهة الصلاة في النجس الذي صار ممسوخا، و يستأنس منه عدم الجواز في النجس غير الممسوخ، تأمل.

نعم بإزائها روايات ربما تكون ظاهرة في شرطية الطهارة كقوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلا بطهور» «2» بناء على شمولها للطهارة الخبثية أو ظهورها فيها بقرينة ذيلها، و صحيحة زرارة الثانية «3» من أدلة الاستصحاب، و قوله عليه السلام: «الصلاة ثلثها الطهور» «4» و قوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة إلا من خمس- و عدّ منها- الطهور» «5» و ما عدّ الطهور من فروض الصلاة «6» بناء على أعميته من الطهور عن الخبث. و هو محل إشكال في كثير منها، مع أن قوله عليه السلام مثلا: «لا صلاة إلا بطهور»- بناء على ما تقدم من أن الطهور ليس إلا خلو المحل عن القذارة و كونه على حالته الأصلية- معناه لا صلاة إلا بإزالة القذارة و التطهر

منها، و هو غير ظاهر في شرطية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب لباس المصلي- الحديث 6

(2) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1

(3) الحديث طويل و نحن نشير الى قطعاته راجع الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 2- و الباب- 37- من هذه الأبواب- الحديث 1- و الباب- 7- من هذه الأبواب- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الوضوء- الحديث 8.

(6) كصحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة، فقال: الوقت و الطهور و القبلة» إلخ، راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 389

الطهور، بل غير ظاهر في شرطية الإزالة، بل لا يبعد دعوى ظهورها في أن النجاسة لما كانت مانعة عن الصلاة قال: لا صلاة إلا بإزالتها، و لو نوقش في ذلك فرفع اليد عن مثله أولى من رفع اليد عن الأدلة الكثيرة الدالة على مانعية النجاسة لو لم نقل بتعينه بلحاظ ما تقدم.

فالأقرب أن النجاسة مانعة، لا الطهارة أو ازالة النجاسة شرط، فما قيل من أن إزالة النجاسات واجبة شرطا للصلاة لا يخلو من تسامح.

نعم يجب عقلا إزالتها لمانعيتها عن الصلاة من غير فرق بين الواجبة و المندوبة، لإطلاق الأدلة، و من غير فرق بين أنواع النجاسات، للإجماع المنقول عن جملة من الأصحاب، بل لزومها في الجملة من الواضحات، و النصوص في الموارد الخاصة مستفيضة أو متواترة، بحيث لا يبقى للناظر فيها شك في مانعية مطلق النجاسات بإلقاء الخصوصية عن الموارد المنصوصة من غير احتياج إلى دعوى الإجماع المركب.

بل المستفاد من جملة من الروايات عموم

الحكم لمطلق النجاسات كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، فيردّ عليّ فاغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: صل فيه، و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر، و لم تستيقن أنه نجّسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «1» يعلم منها أن غاية جواز الصلاة فيه العلم بتنجسه، و مقتضى الإطلاق ثبوت الحكم لمطلق النجاسات.

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 74- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 390

أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من المني- إلى أن قال-: فان ظننت أنه قد أصابه و لم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت فيه فرأيت فيه، قال: تغسله و لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟

قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا، قلت: فاني قد علمت أنه قد أصابه و لم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» إلخ «1» فإن المستفاد منها أن الطهارة عن جميع القذارات لازمة في الصلاة، بل الظاهر من صدرها أن المذكور فيها من قبيل المثال لمطلق النجاسات، و كيف كان فلا إشكال في استفادة حكم مطلق النجاسات منها، إلى غير ذلك مما سيأتي الكلام في بعضها كرواية خيران الخادم.

و من غير فرق بين الثوب و

البدن، للإجماع المتقدم، و لفحوى ما دلت على لزوم إزالتها عن الثوب «2» و للمستفيضة الدالة على إعادة الصلاة على من نسي غسل البول عن فخذه أو جسده أو ذكره أو نسي الاستنجاء فصلى أو دخل في الصلاة «3» و لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا صلاة إلا بطهور، و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و أما

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 1- و الباب- 7- من هذه الأبواب- الحديث 2.

(2) راجع الوسائل- الباب- 8- 16- 19- 42- من أبواب النجاسات.

(3) المروية في الوسائل- الباب- 18- من أبواب نواقض الوضوء و الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 391

البول فلا بد من غسله» «1» حيث يظهر منها لزوم طهارة البدن بل الثوب عن النجاسات، و سيأتي تتمة لفقه الحديث، و لرواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أ يصلح أن تصلي المرأة و هو في رأسها؟ قال:

لا حتى تغتسل منه» «2» إلى غير ذلك، و يظهر منها عدم الفرق بين الشعر و غيره، كما أن مقتضى إطلاق ما تقدم كصحيحة زرارة عدم الفرق بين الظفر و الشعر و غيرها.

و من غير فرق بين ما صدق عليه اسم الثوب عرفا أولا إذا كان للمصلي نحو تلبس به، كالقطن و الصوف غير المنسوجين الملفوفين بالبدن و الحصير و الحشيش كذلك، لإمكان دعوى أن الثوب الوارد في الأدلة من باب المثال أو لجري العادة عن السؤال عنه، و لرواية خيران الخادم

الحسنة أو الصحيحة قال: «كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه، فان اللّٰه انما حرم شربها، و قال بعضهم: لا تصل فيه، فوقع: لا تصل فيه، فإنه رجس» إلخ «3» يظهر من التعليل عدم جواز الصلاة في الرجس مطلقا.

نعم يقع الكلام في هذه الظرفية هل هي للمصلي، فيكون المعنى:

لا يصلي المصلي و هو في رجس، فلا تصدق في مثل الخاتم و السيف و الخف و الجورب و التكة و غيرها مما لا تتم فيها الصلاة، فتكون خارجة تخصصا ضرورة عدم صدق كون الإنسان في الخاتم و السيف و نحوهما مما ليس

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 37- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3

(3) مرت في ص 387.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 392

لها نحو اشتمال على البدن كالقميص و الرداء و القباء مما هي صادقة فيها عرفا بخلاف ما قبلها، بل التأويل و الادعاء فيها أيضا لا يخلو من اشكال و نحو ركاكة إلا في بعض الأحيان الذي ليس في المقام منه، أو هي للصلاة بالمعنى المصدري أو حاصلة بنحو من الادعاء و التخيل، فيكون المعنى لا تجعل صلاتك في النجس، و هو نحو ادعاء و اعتبار ليس للعرف تشخيص مراده إلا ببيان من المتكلم و اقامة قرينة على مراده؟

و يمكن دعوى أقربية الاحتمال الثاني بالنظر الى الروايات و موارد الاستعمال في خصوص المقام، لشيوع استعمال الظرفية في مثل الخف و النعل و الجورب و الجرموق و التكة و الكمرة و المنديل و القلنسوة و الفص

و السيف و أشباه ذلك، و قد عرفت أن دعوى ظرفية هذه الأمور للمصلي و لو بنحو من التأويل بعيدة. و أما ظرفيتها لفعل الصلاة و حاصله فمبتنية على نحو اعتبار و ادعاء، فلو قامت قرينة على اعتبار ظرفية تلك الأمور له يتبع بمقدار دلالتها.

و الذي يمكن دعواه أن شيوع استعمال الظرفية فيما يتلبس المصلى بنحو تلبس كالتختم و التقلد و التلبس بنحو التكة و الكمرة و أشباهها يوجب حمل ما يستفاد من الرواية المتقدمة، أي «لا تصل في النجس» على الأعم من الثياب و من مثل هذا النحو من المتلبسات، فالاستعمال الشائع الكثير و المتعارف قرينة على إرادة الأعم، فيكون خروج ما لا تتم فيه الصلاة من قبيل الاستثناء.

و أما إلحاق المحمول بها فلا بد من قيام دليل آخر غير ذلك لعدم الظرفية لا للمصلي، و هو واضح، و لا للصلاة لعدم قيام قرينة عليه بعد عدم تشخيص العرف لإناطته على اعتبار المعتبر، و هو يحتاج إلى قيام القرينة.

نعم لو كان استعمال الظرف في المحمول أيضا شائعا كاستعماله في

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 393

الملبوس و ما يتلبس به بنحو ما تقدم كان الإلحاق وجيها، لكن لم يثبت ذلك، بل التعبير في لسان الأدلة سؤالا و جوابا في المحمول و المصاحب خلافه في اللباس و ما يتلبس به.

ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي و هو في جيبه أو ثيابه، فقال: لا بأس بذلك» «1» و نحوها مكاتبة عبد اللّٰه بن جعفر الآتية «2» و في صحيحته الأخرى «سألته عن الرجل يصلي و معه دبة من جلد حمار

أو بغل، قال. لا يصلح أن يصلي و هو معه» «3» و نحوها صحيحته الأخرى «4» و على هذا التعبير ورد في الطير و الدراهم في جملة من الروايات «5» و في المفتاح و السكين «6» إلى غير ذلك.

و أما مرسلة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل و الخفين و ما أشبه ذلك» «7» فلا تدل على استعمال الظرف فيما مع الإنسان أو عليه، بل الظاهر استعمالها فيما يتلبس به المصلي كالأمثلة المذكورة، فإنها مع الإنسان و بعضها عليه، لكن مع نحو من التلبس.

و يشهد له قصر الأمثلة في الملبوسات، فلو كان ما معه مختصا بالمحمول

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1

(2) مرت في ص 95.

(3) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(5) الوسائل- الباب- 60- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1 و الباب- 45- منها- الحديث 3.

(6) راجع الوسائل- الباب- 32- من أبواب لباس المصلي.

(7) الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 394

أو الأعم منه كان عليه ذكر مثال له سيما على الأول.

و أما قوله عليه السلام في موثقة ابن بكير: «الصلاة في وبره و روثه و بوله» إلخ «1» و قوله عليه السلام في رواية فارس عن رزق الدجاج: «يجوز الصلاة فيه» «2» فليس في مورد المحمول، بل فيما تلوث اللباس

بها، فاستعمال الظرف باعتبار الصلاة في الثوب المتلوث بها، فتحصل من جميع ذلك عدم صحة الاستدلال بمثل رواية خيران الخادم لعدم صحة الصلاة في المحمول.

و ربما يستدل على المنع فيه بروايات أجنبية عن المقام كمكاتبة عبد اللّٰه بن جعفر الواردة في فأرة المسك و صحيحة علي بن جعفر الواردة في دبة من جلد الحمار و البغل، فإنهما على فرض دلالتهما غير مربوطتين بالمقام، بل ترجعان إلى مانعية الميتة و أجزائها نعم لو كان المراد بالذكي الطاهر كان له وجه، لكنه خلاف ظاهره، و قد مر الكلام في الرواية في نجاسة الميتة «3».

و كرواية رفاعة و فيها «أ يصلي في حنائه؟ قال: نعم إذا كانت خرقته طاهرة» «4» فإن الخرقة إذا كانت نجسة تسري لا محالة إلى البدن، بل لا يبعد صدق الصلاة فيها و في الحناء مع هذا التلبس نحو التلبس بالكمرة و التكة.

و كرواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليهما السلام «إن عليا عليه السلام قال: السيف بمنزلة الرداء تصلي فيه ما لم تر فيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1

(2) مرت في ص 22 و 23.

(3) راجع ص 95.

(4) الوسائل- الباب- 39- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 395

دما، و القوس بمنزلة الرداء» «1» فإنها أيضا مربوطة بما يتلبس به فان المراد منه السيف المتقلد و الصلاة فيه لا المحمول، و لهذا قال عليه السلام: إنه بمنزلة الرداء، و كذا القوس، و لو لا ضعف سندها لما كانت روايات ما لا تتم فيه الصلاة معارضة معها، لحكومتها عليها بواسطة التنزيل منزلة الرداء. فخرج السيف و القوس عما لا

تتم مع أنها أخص من تلك الروايات.

و كرواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «و سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة فتهب الريح فتسقى عليه من العذرة فيصيب ثوبه و رأسه يصلي فيه قبل أن يغسله، قال: نعم ينفضه و يصلي فلا بأس» «2» فإن الظاهر أنه من قبيل المتلبسات التي يصدق معها الصلاة فيه. فان سفي الريح من العذرة على الثوب و الرأس و صيرورتهما مغيرا بما هو نحو الذر يوجب نحو تلبس بالنجاسة يصدق معه الصلاة فيه، فلا تجوز الصلاة كذلك، فلا يستفاد منها حكم المحمول الذي عرفت عدم صدق الصلاة فيه، هذا مع ضعف سندها.

و قد يقال: لا يدل قوله عليه السلام: «ينفضه» على وجوب النفض لجريانه مجرى العادة. و الرواية بصدد بيان نفي الغسل، و فيه ما لا يخفى، سيما إن قلنا بأن المستفاد من قوله عليه السلام: «فلا بأس» أنه جواب شرط، فكأنه قال: إن ينفضه و يصلي فلا بأس.

و بالجملة رفع اليد عن ظاهر الدليل الموافق لارتكاز مانعية النجاسة و لو في الجملة بمجرد احتمال الجري مجرى العادة مما لا وجه له، فالوجه ما ذكرناه، بل مع احتماله لا تدل الرواية على مطلق المحمول بعد

________________________________________

خمينى، سيد روح الهّٰ موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 395

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 57- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 26- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 396

كون موردها غيره عرفا.

و يمكن الاستدلال عليه بصحيحة زرارة «لا صلاة إلا بطهور» «1» الشاملة للطهور من الخبث

بدعوى شمولها للمحمول بمناسبة الحكم و الموضوع بأن يقال: إن المصلى المناجي لربه القائم بين يدي الجبار لا بد و أن يكون طاهرا نقيا عن الأدناس و الأرجاس مطلقا في بدنه و ثوبه و مصاحباته كما ربما يستأنس به من رواية العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام قال: «إنما أمر بالوضوء و بدء به لأن يكون العبد إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه مطيعا له فيما أمره نقيا عن الأدناس و النجاسة» «2» و مع نجاسة شي ء منها لا تكون الصلاة بطهور ضرورة أن المراد منه مطلق وجود الطهور لا صرف وجوده، و هو لا يتحقق إلا مع كون المصلي طاهرا بجميع ما معه و عليه، هذا.

و لكن الانصاف عدم جواز التعويل على هذه الاستحسانات و الاعتبارات في تعميم الصحيحة للبدن و الثوب فضلا عن المحمول، مع ما نرى من إعمال تعبدات في العبادة بعيدة عن العقول، كجواز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه و لو كان متلطخا بالقذارة، و جوازها في الدم القليل غير الدماء الثلاثة، و إجزاء الأحجار في الغائط دون البول مع أقذريته عرفا، فأمثال ما ذكر و غيرها مما هو وارد في باب التعبديات توجب عدم الاتكال بالاعتبارات و المقايسات العقلية، كمقايسة محضر الربّ الجليل بمحاضر أشراف البشر، و أما رواية العلل فلا تكون بمثابة يمكن التعدي عن موردها الذي هو الطهارة عن الحدث إلى غيره.

و أما دعوى أن المراد من الطهور هو مطلق الوجود الشامل للمحمول

______________________________

(1) مرت في ص 388.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الوضوء- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 397

فخالية عن الشاهد، نعم الظاهر و لو

بمساعدة فهم العرف مطلق وجوده بالنسبة إلى البدن و عدم الاختصاص بمحل النجو، لكن أسراؤه إلى اللباس فضلا عن المحمول محل إشكال.

و إن شئت قلت: إن كان المراد من قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» أن الصلاة لا بد و أن تكون طاهرة فلا تتصف هي بالطهارة مع أن العقول قاصرة عن إدراك كيفية طهارتها، و ان كان المراد غير ذلك كما أن الأمر كذلك فلا بد من تقدير مثل لا صلاة إلا بطهور بدن المصلي، أو نفس المصلي، أو بدنه و لباسه، أو مع ملابساته، أو مع محموله، و لا طريق إلى إثبات شي ء منها إلا بدنه الذي يدل عليه ذيل الصحيحة، و غاية ما يمكن دعواه هو التعميم بالنسبة إلى ما يصلي فيه، فيكون مساوقا لقوله: «لا تصل في النجس» و هو غير شامل للمحمول الذي كالأجنبي عن الصلاة.

و أضعف مما تقدم أو نحوها التمسك بصحيحة زرارة المعروفة في الاستصحاب، و فيها «فاني قد علمت أنه أصابه و لم أدر أين هو فاغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» «1» بأن يقال: إن انتساب الطهارة إليه دال على لزوم طهارته و طهارة جميع ما عليه و فيه و معه، و فيه ما لا يخفى من الوهن، ضرورة أن الانتساب إلى اللابس انما يكون بنحو من التأويل و الدعوى، و هما في اللباس صحيحان، لأن المصحح هو التلبس، فيصح أن يقال مع نجاسة اللباس: اني نجس، و مع طهارته اني طاهر، دون مثل المحمول، فهل يصح لمن يكون في جيبه سكين نجس أن يقول: اني نجس. أو كان بيده سيف نجس يقول ذلك، بل

لا تصح الدعوى في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 398

بعض الألبسة و الملابسات كالخاتم و السيف المتقلد، مضافا إلى أن فرض صحة الدعوى لا يوجب وقوعها.

فلا تدل الرواية إلا على لزوم طهارة الإنسان و لباسه، لا مطلق متلبساته، فضلا عن محمولاته التي لا يصح إطلاق طهارتك حتى مجازا و ادعاء بالنسبة إليها، فمقتضى الأصل جواز الصلاة مع المحمول النجس من غير فرق بين كونه عين النجاسة أو لا.

قال الشيخ في الخلاف في قارورة مشدودة الرأس بالرصاص فيها بول أو نجاسة: «ليس لأصحابنا فيه نص، و الذي يقتضيه المذهب أنه لا ينقض الصلاة به» و هو كذلك للأصل السالم عن الدليل الحاكم، و قوله بعد ذلك: «و لو قلنا إنه يبطل الصلاة لدليل الاحتياط كان قويا» مبني على القول بالاشتغال في الشك في القيود و الموانع، و هو ضعيف، و أما قوله: «و لأن على المسألة الإجماع فإن خلاف ابن أبي هريرة لا يعتد به» فالظاهر منه إجماع القوم بدليل ما تقدم منه، و بدليل استثناء ابن أبي هريرة، و أما احتمال أن يكون مراده الإجماع على القاعدة فبعيد.

بل يمكن الاستدلال على الجواز في عين النجاسة بصحيحة علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام «عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل له أن يقطع الثؤلول و هو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح و يطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، و إن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله» «1» فان اللحم الذي على الجرح أو حوله ليس مثل الثؤلول الذي ترفضه

الطبيعة بإذن اللّٰه تعالى، و قلنا في محله بعدم نجاسته و عدم كونه ميتة أو في حكمها،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 27- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 399

لأن اللحم الفاسد يتبع الجرح مما تحله الحياة، و ذهاب حياته لأجل الفساد لو فرض لا يوجب عدم كونه مما تحله الحياة، فنفي البأس عنه دليل على عدم مانعية المحمول النجس.

و توهم أن قوله عليه السلام: «إن لم يتخوف أن يسيل الدم» كناية عن عدم كونه مما تحله الحياة، و الخوف عن السيلان كناية عما تحله كما ترى، كتوهم عدم صدق المحمول على النتف و الرمي، فإن قلة زمان الحمل لا يوجب نفي الصدق، إلا أن يقال بانصراف الدليل، فيلزم منه الالتزام بعدم مانعية سائر الموانع مع قلته. فيقال بجواز لبس ما لا يؤكل و النجس عمدا و طرحه فورا، و هو كما ترى، مع أن الطرح الذي في لسان السائل ليس به غايته. أي ليس نظره إلى قلة الزمان، بل نظره إلى جواز الأخذ في حال الصلاة، فلا يبعد فهم جوازه و لو مع حفظ القطعة المأخوذة من الرواية، تأمل.

و لك الاستدلال للمطلوب بموثقة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «في الرجل يمسّ أنفه في الصلاة فيرى دما كيف يصنع؟

أ ينصرف؟ قال: إن كان يابسا فليرم به، و لا بأس» «1» بتقريب أن التفصيل بين الرطب و اليابس دليل على أن الدم لو كان رطبا كان مانعا، فالمفروض فيه ما كان بمقدار غير معفو عنه، و مع ذلك نفى البأس عن يابسة.

إلا أن يقال: إن التفصيل لأجل أنه مع عدم يبسه يمكن أن يسري الى اللباس و البدن

فصار زائدا عن المعفو عنه، دون ما إذا كان يابسا، مضافا إلى بعد كون الدم اليابس المأخوذ بمسّ الأنف زائدا عنه، إلا أن يقال: إن التعرض للفرد النادر لا مانع منه، و حملها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 400

على عدم بيان الحكم الشرعي بعيد.

و كيف كان لا فرق بين عين النجاسة و غيرها، و التفصيل ضعيف لعل منشأه رواية الفارة و الدبة «1» و قد عرفت حالهما، و لو قال أحد بالتفصيل بين عينها و غيرها بعكس ما ذهب إليه المفصل و قال بالعفو في العين كان أوجه، لمكان الروايتين المتقدمتين، لكن الوجه عدم التفصيل.

و لا فرق في المحمول بين ما تتم فيه الصلاة و غيره، و لا وجه للافتراق بينهما إلا بتخيل صدق الصلاة فيه في المحمول مطلقا، و قد خرج ما لا تتم بالأدلة الآتية و بقي غيره، و قد عرفت بطلانه، و إلا توهم دلالة مرسلة عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة «2» عليه، بدعوى أن المراد من قوله: «معه» هو المحمول، و قد فصل فيها بين ما تتم الصلاة فيه و غيره، و قد مر ما فيها فراجع.

ثم أنه لا إشكال نصا و فتوى في الجملة في استثناء ما لا تتم فيه الصلاة منفردا، و قد حكي عليه الإجماع أو الاتفاق في الانتصار و الخلاف و عن السرائر و نسبه في التذكرة إلى علمائنا. و عن المختلف و المدارك نسبته إلى الأصحاب، و عن الذخيرة و الكفاية و شرح الأستاذ لا أعلم في أصل الحكم خلافا بين الأصحاب.

و به يجبر ضعف الروايات سندا و دلالة إن كان ضعف

في دلالة ما هي معتبرة الإسناد، فإنه قد يقال إن الروايات في الباب بين ما ضعيفة دلالة مع اعتبار سندها كصحيحة زرارة أو موثقته عن أحدهما عليهما السلام قال:

«كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشي ء.

______________________________

(1) مرتا في ص 393.

(2) مرتا في ص 393.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 401

مثل القلنسوة و التكة و الجورب» «1» فان في قوله عليه السلام: «عليه الشي ء» إجمالا غير معلوم المراد، كما ان كونه عليه غير متضح المقصود، و بين ما هي واضحة الدلالة غير معتبرة الإسناد كمرسلة إبراهيم «2» و ابن سنان «3» و حماد «4» و كرواية زرارة «5» و حفص بن أبي عيسى «6»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس بالصلاة في الشي ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر مثل، القلنسوة و التكة و الجورب» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنه قال: «كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل و الخفين و ما أشبه ذلك» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(4) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة فلا بأس» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(5) قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن قلنسوتي وقعت في

بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صلّيت فقال: لا بأس» راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(6) قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن وطأت على عذرة بخفي و مسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال:

لا بأس» راجع الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 402

و فقه الرضا «1».

لكن الانصاف عدم ورود الإشكال بشي ء مع استفاضة الروايات و عمل الأصحاب بها قديما و حديثا لا في الأسناد و لا في دلالة الموثقة، فإنه لا يشك أحد في أن المراد قذارة المذكورات لا حمل القذر، لعدم التناسب معها، و لا حمل سائر الموانع، و التشكيك فيه وسوسة، و لهذا لم يعهد من أحد الإشكال فيها من هذه الجهة، فالمسألة لا إشكال فيها إجمالا.

كما أن الحكم عام لجميع مصاديق ما لا تتم سواء كانت من المذكورات أو غيرها، فما عن القطب من الحصر ضعيف، بل لا يبعد عدم استفادة الحصر من عبارته المحكية في مفتاح الكرامة، و نسب ذلك إلى أبي الصلاح و سلار، و لعلهم اقتصروا على مورد اتفاق النص و الفتوى بعد الخدشة في الروايات بما مرت منا، تأمل.

فروع:
الأول- [فيما لا تتم الصلاة فيه مع نجاسته]

يحتمل في بادئ النظر أن يكون المراد من قوله عليه السلام:

«كل ما كان لا يجوز فيه الصلاة وحده» أنه كل ما لا تجوز مطلقا و بنحو السلب الكلي في مقابل جوازها في الجملة و بنحو الإيجاب الجزئي بمعنى أن الموضوع للعفو ما لا تتم الصلاة فيه لا من الرجال و لا من النساء و لا من صغير الجثة و لا كبيرها، فإذا صح الصلاة في الجملة يرتفع العفو،

و أن يكون المراد أنه كل ما لا تجوز في الجملة بنحو السلب الجزئي يكون موضوعا للعفو في مقابل الإيجاب الكلي، فإذا لم تصح

______________________________

(1) سيأتي نقلها و البحث عنها في ص 404.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 403

و لو من مكلف يكون معفوا عنه من جميع المكلفين، و لازمة العفو عن كل ثوب لا يصح الصلاة فيه و لو من النساء للرجال و النساء، و أن يكون المراد ما لا تتم بالقياس إلى صنف الرجال و صنف النساء، فيكون مثل المقنعة و القميص غير معفو عنه للرجال، لجواز صلاتهم فيه منفردا و معفوا عنه للنساء، و أن يكون عدم الإتمام بالقياس إلى أشخاص المكلفين فيكون بعض الثياب معفوا عنه عن صغير الجثة لا كبيرها، وجوه:

أوجهها الأول، لا للأمثلة المذكورة في الروايات، فإنها لا توجب التقييد في موضوع الحكم بصرف كونها من قبيله، نعم يمكن تأييد الوجه الآتي بها، بل لا يبعد أن تكون الأمثلة مرجحة له.

بل لأجل أن الظاهر أن الحكم لطبيعة الصلاة، و عدمها بعدم جميع الأفراد عرفا، كما أن وجودها بوجود فرد ما، فما لا تتم الصلاة فيه انما يصدق إذا لم تتم فيه مطلقا، و إلا فيصدق أنه مما تتم فيه، و هو الموافق لفهم العرف.

ثم الثالث بدعوى أن الروايات متعرضة لحال الرجال كنوع الأحكام المشتركة بينهم و بين النساء، كقوله: رجل شك بين كذا و كذا، لكن العرف بإلقاء الخصوصية يفهم أن الحكم أعم و مشترك بين الصنفين، و مقتضى ذلك أن ما لا تتم الصلاة فيه للرجال تصح صلاتهم فيه مع القذارة، و ما لا تتم للنساء تصح صلاتهن فيه، أو يقال: إن العرف لمّا

علم أن ما لا تتم للرجال مغاير لما لا تتم للنساء لا ينقدح في ذهنه إلا أن لكل صنف حكمه، فكل صنف لا تتم صلاته في شي ء تصح صلاته فيه مع القذارة.

و أما الاحتمالان الآخران فضعيفان سيما الأخير، و الأقوى هو الوجه الأول و إن كان الثاني لا يخلو من قوة، و لو شككنا في ترجيح أحد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 404

الوجهين كان المرجع عموم عدم جواز الصلاة في النجس، لإجمال المخصص المنفصل، و المتيقن منه مورد الأمثلة المذكورة و أشباهها.

الثاني- عن الصدوقين عدّ العمامة مما لا تتم الصلاة فيها،

و هو موافق للفقه الرضوي «1» و ربما يحمل كلامهما على العمامة التي تكون كذلك لصغرها، و قد يقال: إن العمامة بالهيئة الفعلية المعهودة لا تتم فيها، و هو الميزان فيما لا تتم، و إلا لأمكن تغيير القلنسوة أيضا بنحو يتم الصلاة فيها.

و التحقيق أن الظاهر من الروايات أن الثياب على نوعين: منها ما يصدق عليها أنها موصوفة بجواز الصلاة فيها وحدها، و منها ما هي بخلاف ذلك، و الموضوع لجواز الصلاة مع القذارة هو الثوب الذي له هذا الوصف العنواني من غير لحاظ كونه على المصلي و لا لحاظ إتيان الصلاة معه فعلا، فالقلنسوة متصفة فعلا بأنها ما لا تجوز الصلاة فيها وحدها، سواء صلى فيها مصل أو لا، و الرداء متصف بجواز الصلاة فيه صلى فيه مصل أو لا، و العمامة من الثياب التي تتصف بالوصف العنواني، أي جواز الصلاة فيها بأية هيئة كانت. كما ان الرداء كذلك

______________________________

(1) عن فقه الرضا عليه السلام: «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكة أو الجورب أو الخف مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه،

و ذلك أن الصلاة لا تتم في شي ء من هذه وحده» المستدرك- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 1، و فيه- مع أنه ضعيف السند بل في كونه رواية كلام- أن ما يظهر من التعليل الوارد في ذيله أن الأشياء المذكورة كانت من مصاديق عنوان ما لا تتم الصلاة فيه وحده، فيحمل قوله: «أو عمامتك» على العمامة التي تكون كذلك.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 405

كان ملفوفا أو لا.

و بالجملة لم يلحظ في الثياب هيئة فعلية، بل الملحوظ نفس الثياب و لا شبهة في أن العمامة كالمئزر في صدق جواز الصلاة فيها.

فما قد يقال: إن الروايات لو لا الأمثلة المذكورة لا يبعد دلالتها على قول الصدوق، لظهورها في أن المدار جواز الصلاة فيها وحده بالفعل لا بالفرض، غير وجيه لأن الظاهر منها النظر إلى ذات الثياب لا هيئاتها فكما أن الرداء بذاته يصدق عليه جواز الصلاة فيه و لو كان ملفوفا كذلك العمامة، فهي قطعة كرباس مثلا يجوز الصلاة فيها، أي يمكن جعلها ساترا، و هو ثابت لها بأية هيئة كانت.

فلو لوحظ فعلية جواز الصلاة فيها حقيقة لا يصدق ذلك على شي ء إلا مع جعله مئزرا بالفعل، و اعتبار ذلك- مع كونه خلاف الضرورة للزوم البناء على العفو عن سائر الألبسة عدا الساتر الفعلي- خلاف المتفاهم من الروايات.

و بالجملة الجواز الفعلي لا يصدق إلا مع فعلية التلبس و التستر به و هو غير مقصود بالبداهة، و الوصف العنواني صادق حتى مع لفّه و كونه على هيئة العمامة، و أما النقض بالقلنسوة بأنه يمكن تغيرها بنحو يجوز الصلاة فيها فهو كما ترى.

الثالث- [الملابس المتنجسة المعفو عنها في الصلاة]

اعتبر العلامة و جمع آخر منهم الشيخ الأعظم أن تكون

الملابس المعفو عنها في محالها مدعيا أنه المتبادر من إطلاق النص و معاقد الإجماعات، فلو شد تكته في وسطه أو حملها على عاتقه لم تجز الصلاة أقول: أما لو أخذها من محالها و حملها من غير تلبس فعدم الجواز مبني على عدم جواز حمل المتنجس، و قد مرّ جوازه، و أما مع التلبس بها في غير محلها فالظاهر أيضا الجواز، لأن الظاهر من الروايات أن ماله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 406

هذا الوصف العنواني لصغره يكون تمام الموضوع لجواز الصلاة فيه من غير دخالة شي ء آخر فيه، و لم يلحظ فيها حال الصلاة و المصلي فعلا حتى يقال: إن المتبادر تلبسه بها في محلها.

و توهم أن الحكم مبني على العفو- كما هو ظاهر تعبير الفقهاء، و هو مناسب لكون تلك الألبسة في محلها، و بالجملة معنى العفو ان المقتضى للمنع موجود لكن مصلحة التسهيل على المكلف أوجبت العفو عنها فيقتصر على ما إذا كانت في محلها- مدفوع أولا بأن لا إشعار في شي ء من روايات الباب بالعفو، و لم يتضح من تعبير بعض الفقهاء بذلك أن يكون مراده وجود الاقتضاء فيها، بل الظاهر جريانه مجرى العادة، و تبعا لذكر دم الجروح و القروح الذي يظهر من نفس الواقعة فيه العفو، فدعوى العفو في المقام بهذا المعنى خالية عن الشاهد، و ثانيا لو فرض العفو لكن لا يلزم منه رفع اليد عن ظاهر الرواية و إطلاقها، و دعوى الانصراف ممنوعة، و إلا فلقائل أن يدعي الانصراف في دليل المنع أيضا فالأقوى عدم الفرق بين كونها في المحال و عدمه.

الرابع- [الفرق بين ما تتم و ما لا تتم فيه الصلاة]

بناء على عدم جواز حمل المتنجس لا فرق بين ما تتم فيه

الصلاة و غيره إن قلنا باستفادة عدم جوازه من غير ما دل على عدم جواز الصلاة في النجس كصحيحة زرارة «1» و غيرها، و منعنا صدق الصلاة فيه بالنسبة إلى المحمول، لأن أدلة التجويز انما أجازت فيما لا تتم الصلاة فيها إذا كانت قذرة، و المحمول خارج عنه فرضا، نعم لو قلنا بصدق الصلاة فيه و قلنا باستفادة حكمه من الكبرى الدالة على عدم جواز الصلاة في النجس فمقتضى أدلة العفو التفصيل في المحمول أيضا كالتفصيل في الملبوس.

______________________________

(1) مرت في ص 388.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 407

الخامس- [لا فرق في العفو عما لا تتم فيه الصلاة بين النجاسات]

قيل مقتضى إطلاق النص و الفتوى عدم الفرق في العفو بين النجاسات التي من فضلات غير مأكول اللحم أو غيرها، و كذا عدم الفرق بين ما يكون ما لا تتم من أعيان النجاسات كالخف المتخذ من جلد الميتة و القلنسوة المنسوجة من شعر الكلب و الخنزير أو غيرها.

أقول: ما هو المناسب بالبحث عنه هاهنا هو حيثية إطلاق نصوص العفو لما ذكر، و أما البحث عن أدلة عدم الجواز فيما لا يؤكل أو في الميتة و نجس العين و مقدار دلالتها و معارضتها فهو موكول إلى محل آخر.

و الظاهر عدم الإطلاق في الأدلة، أما غير «1» موثقة زرارة فلأن الظاهر منه هو العفو من حيث النجاسة لا الموانع الأخر، و لهذا لا يتوهم إطلاقها لما إذا كان ما لا تتم مغصوبا، و بالجملة إطلاق العفو عن النجس حيثي لا يقتضي رفع مانعية أخرى تكون مستقلة في المانعية كغير المأكول و الميتة بناء على مانعيتها من غير جهة النجاسة، و أما الموثقة فلأن قوله عليه السلام: «بأن يكون عليه الشي ء» ليس له إطلاق، بل الظاهر

أنه إشارة إلى شي ء خاص، و إلا لقال: «عليه شي ء» منكرا، و هو إما القذر كما هو الظاهر و لو بقرينة سائر الروايات أو مجمل لا يدل على المقصود.

فصل: لا إشكال نصا و فتوى في العفو عن دم القروح و الجروح

في الجملة و عليه الإجماع في محكي الخلاف و الغنية و غيرهما، لكن عبارات القوم

______________________________

(1) مر في ص 401.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 408

مختلفة في اعتبار الدوام و السيلان و عدمه، و مشقة الإزالة و عدمها، و وجوب التقليل و عدمه، و وجوب إبدال الخرقة مع الإمكان و عدمه. و العفو لو ترشرش عليه من دم غيره و عدمه، و وجوب العصب و عدمه، و أن الغاية هي الاندمال أو قطع الدم، الى غير ذلك.

و قبل الورود في أصل المسألة لا بأس بذكر أمر يبتني عليه بعض فروعها، و يترتب عليه ثمرات في غير المقام، و هو أنه بعد ما فرغنا فيما سلف عن أن النجاسة مانعة عن الصلاة لا أن الطهارة شرط فيها يقع الكلام في المانع و كيفية مانعيته، بمعنى أن المانع هل هو عنوان النجس الجامع بين أنواع النجاسات، فيكون المانع شي ء واحد هو النجس، أو كل نوع من أنواعها مانع مستقل بنحو تمام الموضوع أو بعضه، فيكون المني بعنوانه مانعا، و البول كذلك بناء على تمام الموضوعية، أو المني أو البول النجسين كذلك بناء على جزء الموضوعية؟ و على أي تقدير هل يكون المانع بعنوان صرف الوجود أو الطبيعة السارية.

و لوازم الصور معلومة، فإنه إن كان المانع النجس الجامع بعنوان صرف الوجود لو اضطر المكلف إلى بعض النجاسات في صلاته لا يجب التطهير من سائر الأنواع و لا تقليل ما يضطر إليها، بخلاف ما لو كان

بالوجود الساري فيجب عليه التطهير و التقليل، و كذا الحال بالنسبة إلى كل نوع لو قلنا بمانعيته مستقلا أو بنحو جزء الموضوع، فان قلنا بمانعية كل نوع بنحو صرف الوجود فإذا اضطر الى ارتكاب نوع منها لا يجب تقليله، لكن يجب تطهير سائر الأنواع غير المضطر إليها بخلاف ما إذا كان بنحو الوجود الساري، فإنه يجب عليه التقليل و التطهير، و يمكن أن يكون الاعتبار في بعض الأنواع بنحو صرف الوجود و في بعضها بنحو الوجود الساري، و لوازمه معلومة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 409

هذا بحسب، مقام الثبوت، و أما بحسب مقام الدلالة و الإثبات فيمكن أن يستدل برواية خيران الخادم المتقدمة «1» على أن المانع هو النجاسة بعنوانها بأن يقال: إن قوله عليه السلام: «لا تصل فيه- أي في الثوب الذي أصابه الخمر- فإنه رجس» يدل على أن تمام الموضوع لعدم جواز الصلاة هو الرجس من غير دخالة الخمر فيه، لا بنحو تمام الموضوع و لا جزئه.

و مقتضى عموم العلة أن النجس بعنوانه مانع في جميع أنواع النجاسات، و مع مانعية النجاسة التي هي صفة زائدة على الذات لازمة لها لا يكون المانع ذات العناوين، و إلا نسبت المانعية إليها، لأولوية الانتساب إلى الذات من الانتساب إلى الصفة الزائدة أو تعينه، فالانتساب الى الرجس بعنوانه الظاهر في أنه مانع دليل على أن لا مانعية لذوات العناوين، و لا دخالة لها رأسا.

و تدل عليه صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الثوب الذي يستعيره الذمي، و فيها «و لا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» «2» و يدل عليه أيضا بعض ما ورد

في ما لا تتم الصلاة فيه «3».

و كذا يمكن الاستدلال برواية خيران الخادم على أن المانع هو الطبيعة السارية، بأن يقال: إن النهى إذا تعلق بطبيعة يكون ظاهره الزجر عن تلك الطبيعة، و لازمة العرفي مبغوضيتها بأي وجود تحققت به،

______________________________

(1) مرت في ص 387.

(2) مرت في ص 389.

(3) راجع الوسائل- الباب- 31- من أبواب النجاسات- و الباب- 14- من أبواب لباس المصلي.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 410

بخلاف الأمر كما حقق في محله، هذا في الأوامر و النواهي النفسيتين، و كذا الحال في الارشاديتين مثل المقام، فإن النهي عن الصلاة في النجس و إن كان إرشادا إلى مانعيته، لكن ليس معناه أنه مستعمل في عنوان المانع بحيث يكون معنى لا تصل في النجس أن النجس مانع حتى يتوهم ظهوره في صرف الوجود على تأمل فيه أيضا، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له، أي الزجر عن الصلاة في النجس، لكن المتفاهم العرفي من الزجر الكذائي هو أنه لمانعية النجس، لا للمبغوضية النفسية.

و لا ريب في أن الزجر عن الصلاة في النجس كالزجر عن شرب الخمر لازمة الزجر عن الطبيعة بأي وجود وجدت، و لازمة مانعيتها لجميع أنحاء تحققها.

و تدل عليه في الجملة رواية أبي يزيد القسمي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف، قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «1» و يتم المطلوب بعدم الفصل جزما، بل يمكن أن يقال: إن المتفاهم من التعليل و لو بضميمة الارتكاز أن خرء الكلاب لنجاسته منهي عنه، بل لا ينبغي الشك فيه بعد دلالة الأدلة المتقدمة على أن المانع هو القذارة لا العناوين الذاتية،

فيصير مفادها كرواية خيران.

و منه يعلم الوجه في دلالة موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل» «2» بالتقريب المتقدم، سيما مع إشعار به في نفسها.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب مانعية الطبيعة السارية،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 71- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 411

لكن مع ذلك لا تخلو من إشكال بل منع، لأن الظاهر من تلك الروايات تعلق النهي بطبيعة الصلاة بمعنى أن المنهي عنه هو الصلاة في النجس أو ثوب أصابه الخمر، و لازمة بالتقريب المتقدم النهي عن جميع مصاديق الصلاة في النجس، لا في جميع مصاديق النجس، فقوله عليه السلام: «لا تصل في وبر ما لا يؤكل» على فرض الانحلال أو على التقريب المتقدم هو النهي عن إيجاد المكلف الصلاة مطلقا و بأي مصداق منها في وبر ما لا يؤكل، لا عدم التلبس بأي مصداق من الوبر، ضرورة أن ما يقال في الانحلال أو ما قلنا في لازم النهي انما هو في الطبيعة التي جعلت تلو النهي و صارت منهيا عنها، و هي الصلاة في الوبر على أن يكون ظرفا لها.

فتحصل من ذلك أن المتفاهم من الروايات مانعية النجس عن كل صلاة، لا مانعية كل مصداق منه عن الصلاة، مضافا الى الفرق بين النواهي النفسية و الإرشادية. فإن وقوع جميع مصاديق الطبيعة في الأولى على صفة المبغوضية الفعلية لا مانع منه، بخلاف الثانية، لعدم إمكان اتصاف المصداق الثاني بالمانعية الفعلية مع اتصاف المصداق المتقدم بها فلا بد من الالتزام بالمانعية الشأنية أو

التقديرية، و هو خلاف ظاهر الأدلة، و لا يرد النقض بالموانع الأخر من غير سنخ النجاسة، لأن الأدلة في كل نوع غير ناظرة إلى حال الأدلة الأخرى، فضلا عن حال تقدم بعض المصاديق و تأخرها.

و هذا بخلاف الدليل الواحد الظاهر في النهي الفعلي عن الصلاة في النجس الظاهر في فعلية المانعية، و هي تناسب مانعية صرف الوجود و لهذا يمكن دعوى ظهور الأدلة في مانعية صرف الوجود من النجس لطبيعة الصلاة السارية، و لو نوقش في هذا الأخير فلا أقل من عدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 412

دلالة الروايات على مانعية الوجود الساري بما تقدم.

نعم لرواية أبي يزيد القسمي نوع إشعار به لا يبلغ حدّ الظهور و الدلالة مع ضعف سندها جدا، كالاشعار في صحيحة علي بن جعفر الواردة في الثؤلول و الجرح «1».

و أما صحيحة الحلبي «2» و موثقة ابن سنان «3» الواردتان في كيفية غسل الجرح فلا ينبغي توهم الاشعار فيهما فضلا عن الدلالة، مع انهما غير واردتين في الصلاة، فتحصل مما ذكر عدم الدليل على أن المانع هو الوجود الساري للنجاسة.

بل يمكن الاستدلال بجملة من الروايات على عدم مانعيته، مثل ما وردت في جواز الصلاة في ثوب النجس مع تعذر الإزالة، كصحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره، قال: يصلي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «4» و نحوها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه «5» و غيرها.

و كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم، يصلي فيه أو

يصلي عريانا؟ قال: إن وجد ماء غسله، و إن لم يجد

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 63- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «سألته عن الجرح كيف يصنع به في غسله؟ قال: اغسل ما حوله» و نحوها موثقة ابن سنان، راجع الوسائل- الباب- 24- من أبواب النجاسات الحديث 3.

(3) راجع الوسائل- الباب- 24- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(4) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 413

صلى فيه، و لم يصل عريانا» «1» فان عدم الأمر بفرك المني و الدم عن الثوب مع أن لهما عينا قابلة له، سيما الثوب الذي كله أو نصفه دم دليل على عدم لزوم فركهما و تقليلهما، و لازمة كون المانع صرف الوجود لا الساري منه.

و منها ما وردت في المقام: أي دم القرح و الجرح، كصحيحة أبي بصير قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السلام و هو يصلي، فقال قائدي: إن في ثوبه دما فلما انصرف قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك دما، فقال: إن بي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» «2» و موثقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الجرح يكون في مكان لا يقدر ربطه فيسيل منه الدم و القيح فيصيب ثوبي، فقال: دعه فلا يضرك أن لا تغسله» «3» و صحيحة ليث المرادي قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

الرجل يكون به الدماميل و القروح فجلده و ثيابه مملوءة دما و قيحا و ثيابه بمنزلة جلده، فقال: يصلي في ثيابه و لا

يغسلها، و لا شي ء عليه» «4».

و رواية سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ و ينقطع الدم» «5» إلى غير ذلك، فإن أقرب الاحتمالات فيها هو أنه بعد الابتلاء بالدم زائدا على المقدار المعفو عنه و حرجية غسل الدماميل نوعا أو شخصا لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(2) الوسائل- الباب- 22 من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 5.

(5) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 414

يكون الدم في الثوب و البدن مانعا عن الصلاة.

و أما احتمال حرجية غسل الثوب نوعا أو شخصا فواضح البطلان سيما إلى أن يبرأ القرح و الجرح، ضرورة أن البرء و الاندمال تدريجي التحقق، و قبله يوما أو أزيد لا يكون الدم سائلا و لا تعويض الثوب أو غسله حرجيا لا نوعا و لا شخصا، فعدم لزوم الغسل و التعويض إلى زمان البرء إما للعفو عن المانع بعد فرض مانعية الطبيعة السارية، أو لعدم مانعية الزائد عن صرف وجود الزائد عن مقدار الدرهم بعد الابتلاء به و حرجية غسله، و العفو مع فرض المانعية بلا جهة موجبة له من الحرج نوعا أو شخصا بل مع سهولة التعويض كما هو كذلك نوعا بعيد في نفسه، بل عن سوق الروايات، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «لا يضرّك» و قوله عليه السلام: «لست اغسله حتى تبرأ» لا يبعد أن يكون عدم اقتضائه للمانعية، لا العفو عن المقتضي، بل اقامة الدليل على

أن المانع صرف الوجود غير لازمة، و عدم الدليل على مانعية الطبيعة السارية كاف بعد جريان الأصل أو الأصول.

نعم يمكن ان يستدل لمانعية الطبيعة السارية بموثقة سماعة قال:

«سألته عن الرجل به الجرح و القرح فلا يستطيع ان يربطه و لا يغسل دمه، قال: يصلي، و لا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة واحدة، فإنه لا يستطيع ان يغسل ثوبه كل ساعة» «1».

و رواية محمد بن مسلم عن مستطرفات السرائر قال: «قال:

إن صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبها ربطها و لا حبس دمها يصلي و لا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرة» «2» بدعوى ان الظاهر منهما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات الحديث 4- الطبعة الحديثة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 415

لزوم غسل الثوب مرة في اليوم. و لو لا مانعية الطبيعة السارية لما كان وجه للزومه، بل الظاهر من تعليل الأولى أن عدم لزوم الغسل زائدا على مرة واحدة لعدم استطاعته، و إلا فالمقتضي له محقق، و هو لا يتم إلا مع مانعية الوجود الساري.

و فيه أن دلالتهما على ما ذكر فرع لزوم الغسل في اليوم مرة واحدة و لا يمكن الالتزام به، إما لإعراض الأصحاب عن ظاهرهما و عدم الإفتاء بهما، و إما لأن مقتضى الجمع بينهما و بين ما تقدم حملهما على الاستحباب ضرورة عدم إمكان حمل صحيحة أبي بصير المتقدمة على غسل أبي جعفر عليه السلام ثوبه كل يوم مرة، فإنها ليست من قبيل المطلق القابل للتقييد، بل هو إخبار منه عن عدم غسله إلى زمان البرء، فاللازم حملهما على الاستحباب، فيكون التعليل لأمر استحبابي لا

لزومي، فدلت الأولى على أنه لو كان مستطيعا لكان الراجح عليه الغسل لا اللازم و هو لا يتم إلا بما ذكرناه.

لكن لازم ما ذكرناه أمر لا يمكن الالتزام به لمخالفته لارتكاز المتشرعة، بل من البعيد التزام أحد من الأصحاب به، و هو عدم مانعية سائر النجاسات عن الصلاة بعد ابتلاء المكلف بواحدة منها، فيقال فيما نحن فيه لا يكون البول و المني و غيرهما مانعة، و يجوز للمكلف الصلاة مع التلوث بها عمدا، و الالتزام به في النوع غير المبتلى به غير ممكن، و أما في المبتلى به فليس بذلك البعد، كما هو مورد الروايات المتقدمة في الدم و المني.

و قد التزم به في الجملة بعضهم مدعيا عليه الإجماع، قال في مفتاح الكرامة و في نهاية الإحكام و المنتهى: لو ترشرش عليه من دم غيره فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 416

عفو، و نقله الأستاد الآقا أيده اللّٰه تعالى عن بعض من قرب زمانه، و ردّه بالإجماع على عدم الفرق بين الدمين، و بمطلقات أخبار العفو.

و إليه أشار في المبسوط، حيث قال: «و ما نقص «1» عنه من سائر الحيوان» انتهى، و عن المدارك تقريب ثبوت العفو إن أصاب الدم ماء فأصاب الماء الثوب، و عن الذكرى تقويته، نعم عن شرح الأستاد دعوى الاتفاق على عدم العفو إن أصاب الدم نجاسة خارجية، فالتفصيل بين النوع المبتلى به و غيره غير بعيد، و إن كان الاحتياط سيما في بعض الفروع لازم المراعاة.

إذا عرفت ذلك فالمحتملات في باب دم القرح و الجرح كثيرة، ككون الحكم مطلقا في نفس القروح و الجروح و ما يتلوث بدمهما دائرا مدار الحرج الشخصي، فلا يكون في

الباب تعبد خاص، و يكون مما قال فيه أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه» «2» أو الحرج النوعي، فيكون التعبد في المقام لأجله، أو كون حكم نفس القرح و الجرح دائرا مداره شخصا أو نوعا دون الثياب و ما يتلوث بالدم، فلا يكون فيهما مانعا كما تقدم. أو يكون معفوا عنه على فرض المانعية، أو كون حكم نفسهما العفو مع الاستمرار و اللزوم أو مطلقا مع فرض عدم المانعية في غيرهما أو العفو، أو كون الحكم فيهما و ما يتلوث بدمهما مبينا على العفو إما مطلقا أو مع الاستمرار.

و الاستمرار أينما يعتبر يمكن أن يكون المراد منه الاستمرار الفعلي في جميع الأوقات، أو شأنيته أي تكون له مادة قابلة لدفع

______________________________

(1) في مفتاح الكرامة «نقص» بالقاف و الصاد المهملة، و لعله بالفاء و الضاد المعجمة (منه دام ظله).

(2) راجع الوسائل- الباب- 39- من أبواب الوضوء- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 417

الدم و جريانه، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

ثم أن بعضها مقطوع الفساد بحسب مفاد الأدلة كالاحتمالين الأولين ضرورة عدم حرجية غسل الثياب أو تبديلها إلى زمان البرء لا شخصا و لا نوعا، و بعضها مبني على عدم مانعية الدم بطبيعته السارية، و قد مرّ الكلام فيه، و الأولى عطف الكلام إلى بعض الاحتمالات المعتد بها.

منها أن موضوع العفو هل القرح و الجرح إذا كان غسلهما حرجيا بمعنى أنه مع حرجية غسلهما يعم العفو الثياب و غيرها مما يتلوث به عادة مطلقا حرجيا كان غسلهما أو لا؟ فنقول بناء على مانعية الطبيعة السارية لا بد في رفع اليد عن دليل المانعية من دليل، و

الظاهر قصور الأدلة عن افادة العفو عن مطلق دم القروح و الجروح، و المتيقن منها ما يلزم منه الحرج.

أما صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام فمع كون قضية شخصية و لم يتضح أن دماميله عليه السلام على أية كيفية أن الظاهر أن الدماميل مع كثرتها يعسر عادة غسلها، و يكون تطهيرها حرجيا و لو نوعا سيما في اليدين، بل لا يبعد أن يكون الدمل غير مطلق الجراح عرفا، بل ماله مادة معتد بها، و كيف كان لا يستفاد منها العفو عن مطلق القروح.

و في موثقة سماعة يكون عدم استطاعة الغسل مفروضا، و المراد منه غسل نفس الجرح و القرح، لا غسل الدم عن الثوب، كما يظهر من الجواب، أو غسل جميع الدم الحاصل منهما باعتبار عدم إمكان غسلهما و في موثقة عبد الرحمن كان المفروض سيلان الدم و القيح، و غسل مثله في معرض الضرر، و يكون فيه الحرج و لو نوعا، مع أن قوله

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 418

«لا يقدر على ربطه» دال على احتياجه إلى الربط، و مثله يكون معتدا به، و غسله حرجي نوعا.

و المفروض في صحيحة محمد بن مسلم «1» انها لا تزال تدمى، و غسل مثلها حرجي بلا شبهة، و كذا مورد صحيحة ليث المرادي، و كذا ظاهر «جرح سائل» في رواية سماعة، و رواية عمار مع ضعفها بعلي ابن خالد ظاهرة فيما يكون معتدا به، فان الانفجار لا يصدق إلا مع مادة كثيرة معتد بها، فيكون غسله حرجيا.

فتحصل من ذلك اعتبار الحرج النوعي في غسل نفس الجرح و القرح لكن لا بمعنى دوران الحكم مدار الحرج حتى لزم منه وجوب الغسل

عند قرب الاندمال. لعدم الحرج فيه نوعا، بل بمعنى أن المعتبر كونهما على وجه يكون غسلهما و لو في زمان طغيانهما حرجيا، فحينئذ يكون الدم مطلقا معفوا عنه، و لو في زمان لا يكون الغسل حرجيا و الثوب كذلك، و توهم أن ذلك مستلزم للعفو عن مطلق الجرح و القرح لعدم الفرق بين ما هو قريب بالاندمال و ما هو في رتبته مدفوع بكونه قياسا ممنوعا.

و منها أن الاستمرار هل هو معتبر أم لا؟ لا شبهة في أن الاستمرار الفعلي و عدم الفتور في جميع الأوقات غير معتبر كما هو ظاهر النصوص فان الظاهر من صحيحة أبي بصير أن الغاية لعدم وجوب الغسل هي البرء، و معلوم أنه تدريجي الحصول، و ينقطع الدم و سيلانه قبله بيوم

______________________________

(1) عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمى، كيف يصلي؟ فقال: يصلي و إن كانت الدماء تسيل» راجع الوسائل- الباب- 22- من أبواب النجاسات.

الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 419

أو أيام حسب اختلاف الدماميل.

و أما رواية سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ و ينقطع الدم» «1» فالظاهر أن البرء غاية لا الانقطاع، و ذكره جار مجرى العادة لكونه لازم البرء، فلا يظهر منه القيدية «2» و ليس المراد بقوله عليه السلام: «جرح سائل» السيلان الفعلي في كل زمان، بل المراد الذي له مادة سائلة يسيل منه الدم دفعة بعد دفعة، و إلا فليس في الجروح ما يكون دائم السيلان فعلا الى زمان البرء، هذا مضافا إلى عدم المفهوم للقيد و لا

للشرطية، لكونها محققة للموضوع.

و لا يراد من قوله في صحيحة ابن مسلم: «فلا تزال تدمى» السيلان الدائمي الفعلي، لما عرفت، مع أنه في السؤال لا في كلامه عليه السلام «3» و بالجملة اعتبار السيلان الفعلي ضعيف.

______________________________

(1) مرت في ص 413.

(2) يمكن أن يستشهد عليه بقوله عليه السلام في صحيحة أبي بصير «و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ» حيث اقتصر بذكر البرء من دون تعرض للانقطاع، فإذا كان الانقطاع غاية لا يحسن الاكتفاء بذكر البرء، مع أنه الأعم منه، و عليه فالمراد بالانقطاع هنا البرء، لأنه يلازمه، و بهذا يظهر الجواب عما قيل من أن عطف العام على الخاص يشعر بأن المراد بالخاص هو العام، تأمل.

(3) بل يمكن أن يستفاد من الجواب و هو قوله عليه السلام:

«يصلي و ان كانت الدماء تسيل» عدم اعتبار السيلان، بدعوى أن التعبير بأن الوصيلة يقتضي ذلك، فيكون المفاد هكذا: أن الدم الذي يسيل معفو عنه، فكيف إذا لم يكن كذلك تأمل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 420

نعم المتيقن من مورد الروايات كونهما داميتين، بمعنى ان يكون لهما مادة معتد بها يكون لها شأنية السريان و الإدماء، فتكون صاحبة الدم و المادة، فلا يشمل العفو مطلق الدماميل، و هذا هو المراد من الجرح السائل، و من قوله: «لا تزال تدمى» و لا إطلاق في الباب يشمل غير الداميات و السائلات بالمعنى المتقدم.

أما صحيحة أبي بصير فواضح، لكون القضية شخصية، مع أن خروج الدماميل ملازم نوعا لشأنية السيلان و كونها ذا مادة قابلة له سيما في الأبدان السمينة البدينة، و ظاهر موثقة سماعة ذلك، لأن ما يحتاج الى الربط ملازم لها، و كذا الحال في سائر الروايات حتى

رواية عمار، لأن الانفجار لا يقال إلا في ماله مادة سائلة.

ثم أنه بناء على مانعية النجاسات بطبائعها السائلة لا يكون سائر النجاسات معفوا عنها إذا أصابت الدم المعفو عنه، حتى دم نفسه فضلا عن دم غيره فضلا عن سائر النجاسات، بل الظاهر عدم العفو عن الماء الواصل بهذا الدم فتنجس به، نعم الرطوبات الملازمة للقرح و الجرح كالعرق و القيح و كذا الدواء الموضوع عليهما معفو عنها.

و لو شك في دم أنه من القروح أو لا فالأحوط عدم العفو، و إن كان العفو لا يخلو من وجه، لأن المانع عن الصلاة ليس مطلق الدم، بل الدم المسفوح، و قد خرج منه ما سفح بالجرح و القرح، فصار الموضوع بحسب الواقع و اللّب الدم المسفوح، لا عنهما على نحو القضية المعدولة، أو الدم الذي لا يكون مسفوحا منهما على نعت القضية الموجبة السالبة المحمول، و لا حالة سابقة لهما، و استصحاب العدم الأزلي لإثبات القضية على أحد النحوين مثبت، كاستصحاب عدم خروجه منهما أو استصحاب كون هذا الدم غير خارج منهما أو لم يكن خارجا منهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 421

فان هذه العناوين ليست موضوعة للحكم، بل الموضوع الدم المسفوح بالقيد المتقدم، و تلك الاستصحابات لا تثبته إلا على الأصل المثبت، و التفصيل موكول إلى محله.

فصل: و عفي عن قليل الدم

غير ما استثني يكون في الثوب بلا إشكال، و حكي عليه الإجماع مستفيضا، و هو العمدة في إطلاق الحكم، و إلا فربما يمكن المناقشة في دلالة الروايات و إطلاقها بالنسبة إلى العالم العامد.

أما صحيحة ابن أبي يعفور «1» فموردها الناسي، و دعوى فهم عدم المانعية مطلقا بإلقاء الخصوصية ممنوعة بعد اختلاف الحكم في الناسي

و غيره في موارد، فمن الجائز اختصاص العفو به في الدم القليل.

و أما رواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«في الدم يكون في الثوب: إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، و إن كان أكثر من قدر الدرهم و كان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته، و إن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة» «2» فمع ضعفها سندا أن الظاهر أن مقول قول أبى جعفر عليه السلام قوله:

______________________________

(1) في حديث قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله و يعيد الصلاة» الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 422

«إن كان أقل» إلخ، و لم يذكر الجعفي خصوصيات السؤال، و يظهر من الجواب أن سؤاله كان فيمن صلى مع الدم، و لم يتضح أنه كان مختصا بالناسي أو العامد أو الأعم، و مجرد عدم ذكره لا يدل على الأعم، و احتمال كون قوله: «في الدم يكون في الثوب» من أبي جعفر عليه السلام بعيد، بل غير مناسب لابتداء الكلام.

نعم يمكن أن يقال: إن قوله عليه السلام: «و إن كان أكثر» قرينة على أعمية السؤال و الجواب في الدم الأقل، لكنه محل إشكال و تأمل، بل الظاهر من قوله عليه السلام: «و كان رآه» إلخ أن رؤيته السابقة صارت موجبة للإعادة، و هو مخصوص بالناسي، و بالجملة

في دلالتها على العفو مطلقا تأمل، فتأمل.

كدلالة مرسلة جميل عن أبي جعفر و أبي عبد اللّٰه عليهما السلام أنهما قالا: «لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب و فيه الدم متفرقا شبه النضح، و إن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» «1» فإنه- مع ضعف سندها بعلى بن حديد، و مجرد أن الراوي منه أحمد بن محمد بن عيسى، و هو كان يخرج من «قم» من يروي عن الضعفاء و يعتمد المراسيل لا يوجب وثاقة الراوي و هو ظاهر، و لا موثقية الصدور، لاحتمال اتكاله على أمر لم يكن عندنا معتمدا عليه، كما أن كون المرسل جميلا و هو من أصحاب الإجماع لا يوجب اعتبارها، لعدم دليل مقنع على ما ذكروا في أصحاب الإجماع و قد مرّ شطر من الكلام فيهم في باب العصير- يمكن المناقشة في دلالتها، لاحتمال كون «إن» في قوله عليه السلام: «و إن كان» إلخ وصلية و قوله عليه السلام: «فلا بأس» أعيد للفصل الطويل بينه و بين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 423

سابقه، و للتوطئة للقيد المذكور: أي قوله عليه السلام: «ما لم يكن مجتمعا» إلخ، فيكون التالي للوصلية أخفى الأفراد، و لو كان العفو مطلقا حتى بالنسبة إلى العامد كان حق العبارة غير ما ذكرت.

فعلى الوصلية تدل الرواية على العفو بالنسبة إلى من رأى فنسيه و صلى، و لو قلنا بشرطية «إن» كان الظاهر من الرواية عدم البأس بشبه النضح مطلقا على تأمل، و التفصيل بين قدر الدرهم و أقله في غيره فلا يبعد أن يكون الظاهر

حينئذ أيضا بيان حال الناسي لظهور قوله عليه السلام: «رأى صاحبه قبل ذلك» في أن المقتضى للإعادة رؤيته قبلا، و في العامد يكون المقتضى العلم به فعلا لا سابقا، و كيف كان لا دلالة فيها على العفو مطلقا و لو عن العامد.

و أما صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة، قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك و لا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء، رأيته من قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله و صليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» «1» فالتفصيل فيها بين الثوب المنحصر و غيره، و هو مسألة أخرى.

و احتمال ان قوله عليه السلام: «و ما كان أقل» أمر مستأنف لا من فروع الثوب المنحصر بعيد غايته مع أنه على فرضه يكون مخصوصا بالناسي بمناسبة قوله عليه السلام: «رأيته من قبل أو لم تره» بالتقريب المتقدم.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 424

نعم عن التهذيب «و ما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء» بزيادة الواو و حذف «و ما كان أقل» و عن الاستبصار حذفه بلا زيادة الواو، و في نسخة من التهذيب مقروة على المحدث المجلسي كتبت الواو في ذيل السطر مع علامة النسخة، يظهر منها أن نسخة الأصل بلا واو و في نسخة زيادتها، و ليس

فيها لفظ «من قبل» بعد قوله عليه السلام: «رأيته» فتكون العبارة كذلك «و ما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي ء رأيته أو لم تره» إلخ.

فعلى نسخة زيادة الواو و سقوط «من قبل» تدل الرواية على مذهب المشهور من جهة، أي التفصيل بين القليل و الكثير مطلقا، و جواز الصلاة مع قليله و لو عمدا، لكن الاتكال على هذه النسخة مع مخالفتها للكافي و الفقيه بل و الاستبصار و بعض نسخ التهذيب مشكل، سيما مع مخالفتها لمذهب المشهور من جهة أخرى كما يأتي.

و أما رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه أو أبي جعفر عليهما السلام قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض، فإن قليله و كثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء» «1» فمع ضعف سندها منصرفة عن العمد، لكن الإنصاف أن المناقشة في هذه المسألة المجمع عليها في غير محلها، بل الظاهر أن المناقشة في إطلاق بعض الروايات كرواية الجعفي و بعض آخر كذلك.

بل مقتضى موثقة داود بن سرحان عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «في الرجل يصلى فأبصر في ثوبه دماء قال: يتم» «2» صحة الصلاة في الدم مطلقا، خرج منه الزائد على مقدار العفو إجماعا و نصوصا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 21- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 425

و بقي الباقي، و توهم التفصيل بين أثناء الصلاة و غيره فاسد مخالف للإجماع و كيف كان لا ينبغي الإشكال في المسألة من هذه الجهة، كما لا ينبغي الإشكال في إلحاق البدن بالثوب، لعدم القول بالفرق. بل مقتضى تصريح جمع

و إطلاق آخر الإجماع عليه، و مجرد سكوت جمع عن البدن لا يوجب استظهار الفتوى بالاختصاص، سيما أن مثل الصدوق يوافق لفظ النص في التعبير.

و الشيخ في الخلاف على النسخ المشهورة ألحق البدن به، و يظهر منه الإجماع عليه، و هو قرينة على أن ما في المبسوط ليس مخالفا للخلاف، كما أن دعوى السيد إجماع الإمامية على العفو في البدن دليل على أن رأي أستاده المفيد موافق له، و أما ابن زهرة فكلامه في دم القروح و الجروح، و هو أمر آخر، مع أنه لا يظهر منه الاختصاص، بل مقتضى مجموع كلامه عدمه، و انما ذكر الثوب مثالا، و لهذا ذكره أيضا في الدماء الثلاثة مع القطع بعدم إرادته الخصوصية، و أما سلار فقد عقد البحث رأسا في تطهير الثياب عن النجاسات فلا يظهر منه القيدية.

هذا مضافا إلى إمكان استفادة الإلحاق من رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه أو أبي جعفر عليهما السلام المتقدمة، فإن مقتضى إطلاق صدرها عدم وجوب الإعادة في الدم القليل في الثوب و البدن، و أما ذكر الثوب في التعليل الراجع إلى المستثنى فالمقطوع عدم قيديته، بل ذكر من باب المثال، ضرورة وجوب تطهير البدن كالثوب عن دم الحيض فلا يجوز تقديره في الصدر و دعوى دخالته في الحكم، كما لا تتجه دعوى عدم الإطلاق في الصدر بتوهم أنه بصدد بيان الفرق بين الدمين، أو أن الصدر توطئة لبيان حكم دم الحيض، فان كل ذلك تكلف و تهجس مخالف للظاهر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 426

ثم ان المستفاد منها أصل التفصيل، و أما مقدار المعفو عنه فمستفاد من سائر الروايات بعد الجزم بعدم التفصيل فيه بين

الثوب و البدن، و من صحيحة ابن مسلم المتقدمة، فإن قوله عليه السلام: «و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء» ظاهر في أن القليل منه لأجل قلته ليس بشي ء و لا يكون مانعا، و ان القلة بما هي تمام الموضوع لعدم المانعية و لو كان الثوب دخيلا في الحكم لم يتجه ذلك التعبير.

بل يمكن الاستيناس بعدم دخالة الثوب في الروايات بمقطوعية عدم دخالته في الدم الذي بمقدار الدرهم أو أكثر، مع أنه مذكور فيها أيضا، فالقطع بعدم دخالته في غير المعفو عنه و أنه ذكر تبعا للسائل أو من باب المثال يقرب أن ذكره في المعفو عنه أيضا كذلك. فإن التفرقة بين الفقرات خلاف ظاهر السياق و ارتكاز العرف.

و من رواية مثنى بن عبد السلام عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله و إلا فلا» «1» بعد عدم إمكان التفصيل بين الثوب و البدن في مقدار الدم، و فساد حمل الرواية على عدم نجاسته إذا كان أقل من حمصة، لمخالفته لارتكاز العقلاء و المتشرعة، بل للقطع بفساده، فلا محيص عن حملها على عدم مانعية الأقل منها، و هو يعطي التفصيل بين القليل و الكثير في البدن، و إن كانت في مقداره محمولة على بعض المحامل، تأمل.

و كيف كان لا إشكال في أصل الحكم، و انما الإشكال في أن مقدار الدرهم غاية للرخصة أو للمنع، فالمشهور كما عن كشف الالتباس و المسالك الثاني، بل في الخلاف الإجماع عليه، و ذهب سلار إلى الأول، و ربما

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص:

427

نسب ذلك إلى السيد في انتصاره، و هو خلاف الواقع، فإنه بعد ما صرح بأنه مما انفردت به الإمامية هو جواز الصلاة في ثوب أو بدن أصاب منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم، و نقل عن الشافعي القول بعدم الاعتبار بالدرهم في جميع النجاسات، و عن أبي حنيفة القول باعتبار مقداره في جميعها قال: «فاعتباره في بعضها دون بعض هو التفرد-- ثم قال-: و يمكن القول بأن الشيعة غير متفردة بهذه التفرقة- ثم حكى قول زفر، و قال-: هو نظير قول الإمامية- ثم حكى قول محسن بن صالح، و قال:- هذا مضاهي لقول الإمامية».

و مراده في أصل التفصيل و التفرقة بين الدم و غيره، لا في مقداره ضرورة أن قولهما مختلفان في المقدار، فإن الأول جعل الدرهم معفوا عنه دون الثاني، و أما ما في خلال كلامه في مقام الاستدلال مما يوهم خلاف المشهور فلا بد من حمله على صدر كلامه دفعا للتناقض، بل ليس في خلال البحث بصدد بيان الخصوصيات، بل بصدد بيان أصل التفرقة، فالمخالف هو سلار ظاهرا.

و تدل على المشهور صحيحة ابن أبي يعفور «1» و مرسلة جميل «2» بل و رواية إسماعيل الجعفي «3» فإن الظاهر من قوله: إن كان أقل فكذا، و إن كان أكثر فكذا أن الجملة الثانية بيان لمفهوم الجملة الأولى

______________________________

(1) تقدم الإشارة إليها في ص 421.

(2) مرت في ص 422.

(3) مرت في ص 421.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 428

و انما خص بالذكر بعض المصاديق الشائعة منه، لأن المساوي لمقدار الدرهم قليل الوجود بخلاف الأكثر منه، و لا مفهوم للجملة الثانية التي بصدد بيان مفهوم الأولى عرفا، فتوهم أن مفهوم

الجملتين متعارضان، بل مفهوم الثانية معارض للروايتين المتقدمتين أيضا ضعيف، و أضعف منه توهم كون الجملة الأولى بيان بعض مصاديق مفهوم الجملة الثانية، عكس ما قلناه، ضرورة أنه في غاية الحزازة، و مخالف للمحاورات العرفية نعم يحتمل أن لا يكون لمثل الجملتين مفهوم، فكان مقدار المساوي مسكوتا عنه، لكن الأقرب ما ذكرناه و إن لا يختلف الحكم على هذا الاحتمال، غاية الأمر لا تكون هذه الرواية متعرضة للمقدار المساوي فنأخذ فيه بالروايتين المتقدمتين.

و أما صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة فعلى نسخة الكافي و الفقيه لا يبعد أن يكون مفادها كرواية الجعفي، فإن قوله عليه السلام: «ما لم يزد عليه» من تتمة حكم انحصار الثوب مع رؤية الدم في الأثناء، و هو مسألة أخرى، و الظاهر أن قوله عليه السلام: «و ما كان أقل من ذلك» مسألة أخرى برأسها لا في موضوع الثوب المنحصر حتى يكون تتمة للجملة السابقة، فإن جعله من تتمتها يوجب التكرار في حكم الزائد عن مقدار الدرهم، مضافا إلى أن ظاهر الذيل ينافي كونه في الفرض السابق، فحينئذ تكون الشرطيتان نظير الشرطيتين في رواية الجعفي، و قد عرفت حالهما، فلو فرض كونها من تتمتها فتكون مسألة أخرى هي فرض انحصار الثوب، تأمل.

نعم على نسخة التهذيب تكون معارضة لسائر الروايات، لكن قد عرفت عدم جواز لاعتماد على نسخته، و على فرض التعارض لا يعتمد عليها لمخالفتها للمشهور، و كونها شاذة، و لموافقتها لأبي حنيفة، و مخالفتها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 429

للقواعد و العمومات، فلا إشكال في الحكم.

هذا إن كان الدم مجتمعا قدر الدرهم، و اما ان كان متفرقا فان لم يكن قدره لو اجتمع فلا إشكال بل

لا خلاف كما في الجواهر في مساواته للمجتمع في العفو عنه، لإطلاق الأدلة و خصوص ما تقدم، و إن كان قدره أو زائدا ففيه خلاف، فعن المبسوط و السرائر و النافع و الشرائع و ابن سعيد و الأردبيلي و التلخيص و الكفاية و الذخيرة و الحدائق و بعض من متأخري المتأخرين العفو، و عن الذكرى أنه المشهور، و في المراسم و الوسيلة و عن العلامة في جملة من كتبه و جملة وافرة ممن تأخر عنه عدمه، بل عن بعضهم دعوى الشهرة عليه، و عن جملة نسبته إلى أكثر المتأخرين، و هو ظاهر نهاية الشيخ على تأمل، و عن المحقق في المعتبر القول بالعفو، إلا أن يتفاحش، لكن عبارته فيه على خلاف ما نسب إليه، فراجع.

و منشأ اختلافهم الاختلاف في فهم الروايات، فقد استدل كل من القائل بالعفو و عدمه برواية ابن أبى يعفور، و محتملاتها كثيرة لا يمكن الركون إلى واحد منها، و لا استظهار واحد من القولين منها، لاحتمال أن يكون «مقدار الدرهم» في قوله عليه السلام: «إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا» مرفوعا اسما للفعل الناقص، و خبره «مجتمعا» و أن يكون منصوبا خبرا له، و اسمه الضمير الراجع إلى الدم، «و مجتمعا» خبرا بعد خبر، أو الراجع إلى نقط الدم «و مجتمعا» خبر ثان إما لسهولة أمر التذكير و التأنيث أو لكونها مضافة إلى المذكر الممكن قيامه مقامها، و على التقديرين يمكن أن يكون «مجتمعا» حالا محققة من «مقدار الدرهم» أو من الضمير، و أن يكون حالا مقدرة، و على جميع الاحتمالات تكون ظاهرة في العفو إلا على تقدير كون الحال مقدرة،

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 430

و

قد قيل باتفاق أئمة الأدب على اشتراط كون الحال مقدرة بمخالفة زمان العامل مع الحال و هو مفقود في المقام، فعلى فرض صحة ذلك يكون هذا الاحتمال مرجوحا، و إن كان انقطاع الاستثناء على سائر الاحتمالات مخالف الظاهر أيضا.

لكن الإنصاف أن الاتكال على تلك الرواية مع تلك الاحتمالات الكثيرة لإثبات كل من طرفي الدعوى مشكل، نعم ظاهر مرسلة جميل «1» العفو، فان قوله عليه السلام: «و إن كان قد رآه صاحبه» إلى آخره وصلية، و إلا يلزم التفصيل بين شبه النضح و غيره في العلم به و عدمه، و هو خلاف الواقع، و على الوصلية تكون ظاهرة في العفو، فان قوله عليه السلام: «فلا بأس به» إلخ بيان للجملة المتقدمة، أي لا بأس بالدم ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم فشبه النضح لا بأس به لكن الاتكال عليها مشكل لضعف سندها و عدم جابر له، لأن الأصحاب و إن أفتوا بمضمون روايات الباب لكن لما كانت بينها روايات صحيحة معتمدة لا يظهر منهم الاتكال على تلك المرسلة.

و أما رواية إسماعيل الجعفي «2» و صحيحة محمد بن مسلم «3» فيمكن أن يستدل بهما للطرفين بأن يقال: إن المراد بالدم و الثوب جنسهما، فيكون المعنى إن كان جنس الدم في جنس الثوب أقل من قدر الدرهم فلا يعيد. و إن كان أكثر فيعيد، و إطلاقهما شامل للمتفرق، و أن يقال: إن الحكم على طبيعي الدم و الثوب و هما صادقتان على المصداق الخارجي الفعلي و ليس في الخارج من طبيعة الدم إلا هذا المصداق و ذاك و ذلك، و كذا الثوب. و أما مجموع الدمين و الدماء فليس مصداقا للدم

______________________________

(1) مرت في ص 422.

(2) مرت في

ص 421.

(3) مرت في ص 423.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 431

و لا موجودا في الخارج، و فرض الاجتماع لا يوجب إلا المصداق الفرضي لا الفعلي، و هذا خلاف ظواهر الأدلة، فكل مصداق محقق في الخارج منه أقل من مقدار الدرهم فرضا، و غير ذلك غير موجود خارجا إلا بحسب الفرض و التعليق المخالف للظاهر، فالروايتان دالتان على القول بالعفو إن كان العرف مساعدا لما ذكرناه كما لا يبعد.

و من هنا يمكن الاستدلال عليه برواية أبي بصير المعمول بها عند الأصحاب عن أبي جعفر أو أبى عبد اللّٰه عليهما السلام قال: «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض، فإن قليله و كثيره في الثوب إن رآه و إن لم يره سواء» «1» فان ما في الخارج شبه النضح مصاديق كثيرة يصدق على كل منها أنها دم لا تبصره، و مجموعها ليس إلا مصداقا تخيليا، إلا أن يكون قوله عليه السلام: «لا تبصره» كناية عن الدم القليل المقابل للكثير، و قلنا بأن العرف يرى الدماء التي على شبه النضح كثيرا.

و تدل على العفو صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، و إن كثر فلا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه و لا يغسله» «2» فان الظاهر أن قوله عليه السلام: «ينضحه و لا يغسله» راجع إلى دم البراغيث، لأنه مورد السؤال و الجواب و انما ذكر الرعاف استطرادا و تطفلا، و المنظور الأصلي بيان حكم دم البراغيث، و للمناسبة

______________________________

(1) مرت في ص 424.

(2) الوسائل- الباب- 20- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة

(للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 432

بينه و بين النضح كما هو وارد في بعض موارد أخر نظيره مما لا يكون قذرا كالملاقي مع الكلب يابسا، و للقرينة العقلية على عدم المراد منه دم الرعاف، حيث يوجب النضح تكثير النجس لا تطهيره، فلا شبهة في رجوعهما إلى دم البراغيث، فلا إشكال في الرواية من هذه الحيثية، و أما دلالتها على المطلوب فواضحة، بل تدل على العفو و إن كثر و تفاحش لظهور التشبيه فيه، فلا إشكال في الرواية سندا «1» و لا دلالة.

و تدل عليه إطلاق مرفوعة أبي عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قال: دمك أنظف من دم غيرك، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس، و إن كان دم غيرك قليلا أو كثيرا فاغسله» «2» بعد حمل ذيلها على الاستحباب في الدم القليل و كون المراد بالكثير مقابل النضح، لعدم الفصل في الدماء.

فتحصل مما ذكر قوة القول الأول، و مقتضى إطلاق الروايات عدم الفرق بين المتفاحش و غيره، مضافا إلى ظهور صحيحة الحلبي فيه كما تقدم، و دعوى انصرافها عن المتفاحش في غير محلها، كما أن الاستبعاد في الأحكام التعبدية المجهولة المناط في غير محله، و أما رواية دعائم الإسلام «3» فلا ركون إليها بعد ضعفها سندا و وهنها متنا، لكن الاحتياط حسن على كل حال سيما مع كون الثوب واحدا، و سيما مع التفاحش جدا.

______________________________

(1) هذا بناء على كون المراد من ابن سنان في سندها عبد اللّٰه بن سنان

(2) الوسائل- الباب- 21- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) عن الباقر و الصادق عليهما السلام انهما قالا في الدم يصيب الثوب: «يغسل كما تغسل النجاسات» و

رخصا في النضح اليسير منه و من سائر النجاسات، مثل دم البراغيث و أشباهه قالا: «فإذا تفاحش غسل» المستدرك- الباب- 15- من أبواب النجاسات- الحديث 2

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 433

ثم أنه قد استثني من أدلة العفو موارد: منها- الدماء الثلاثة كما في الوسيلة و المراسم و الغنية و الشرائع، و عن السرائر و كشف الحق و كتب الشهيدين، بل في الغنية الإجماع، و لا يبعد استظهار دعوى الإجماع من الخلاف، و عن السرائر عدم الخلاف فيه، بل عن ظاهر كشف الحق هو من دين الإمامية، و يظهر من الانتصار إلحاق النفاس بالحيض.

هذا مضافا إلى رواية أبي بصير المتقدمة «1» بالنسبة إلى دم الحيض و هي مروية في الوافي عن أبي جعفر أو أبي عبد اللّٰه عليهما السلام، و في التهذيب عن أبي عبد اللّٰه و أبي جعفر عليهما السلام كليهما، و الاشكال فيها بالقطع غير وجيه، مضافا إلى أن قطع مثل أبى بصير لا يضر بعد القطع بأن مثله لا يقول إلا مع السماع عن المعصوم عليه السلام، كما أن تضعيفها بأبي سعيد المكاري في غير محله بعد الجبر بعمل الأصحاب، كما أشار إليه المحقق أيضا، و ظاهرها بل صريحها عدم العفو عن الأقل من الدرهم، فان الاستثناء فيه عن دم لم تبصره و هو أقل من الدرهم، فالمراد بالقليل هو مثل ما في المستثنى منه، و هو واضح.

و أما دم النفاس فمضافا إلى الإجماعات المتقدمة- التي لا يضر بها نسبة الإلحاق في المعتبر إلى الشيخ بحيث يظهر منه اختصاصه به فإنه خلاف الوجدان، لأن كثيرا ممن تقدم على المحقق لم يفترق بين الدماء الثلاثة، بل ادعى الإجماع أو

عدم الخلاف عليه- الإجماعات المدعاة في اتحاد حكم النفاس مع الحيض إلا فيما استثني، و أما دعوى أن النفاس حيض محتبس فقد مر في محله أنه لا دليل عليها.

و أما دم الاستحاضة فمضافا إلى ما تقدم تدل على عدم العفو عنه

______________________________

(1) مرت في ص 424.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 434

الإجماعات المستفيضة المنقولة، و الشهرة المحققة على لزوم تبديل القطنة في أوقات الصلاة في القليلة منها، مع أن الغالب فيها عدم بلوغ الدم بمقدار الدرهم، سيما إذا قلنا بأن مقداره قدر أخمص الراحة، فالشهرة قائمة على وجوب التبديل من غير تفصيل من الصدر الأول، و هي الحجة القاطعة سيما مع ما مر في محله من أن إطلاق الأدلة على خلاف الإجماعات و الشهرات، و معه يزيد الوثوق بها.

و لا شبهة في أن التبديل ليس واجبا تعبديا نفسيا، بل لمانعيته عن الصلاة، كما لا شبهة في أن الظاهر من الأدلة أن المانع هو الدم بما هو من غير دخالة للقطنة و المحل فيه، و لهذا قلنا بلزوم تبديل الخرقة أيضا إن تلوثت به، فيستفاد منها مانعيته في الثوب و البدن قليلا كان أو كثيرا.

بل يمكن الاستدلال عليه بإطلاق بعض ما ورد في المستحاضة المتوسطة على لزوم تبديل القطنة «1» لعدم ملازمة التوسط مع كون الدم بمقدار الدرهم، فان الميزان فيه هو ثقب القطن، و لا يلزم منه أكثريته منه، فلو منع ذلك فيكفي ما تقدم، فالحاقهما بالحيض مع أنه أحوط لا يخلو من قوة.

و منها- دم نجس العين، فقد استثناه العلامة في القواعد و التذكرة و عن سائر كتبه ذلك، بل عن جملة من الأصحاب استثناؤه، و عن الطوسي و الراوندي

استثناء دم الكلب و الخنزير، و ربما ينسب إليهما استثناء مطلق دم نجس العين، و عن ابن إدريس بعد نسبة استثناء دم الكلب و الخنزير إلى الراوندي معللا بأنه دم نجس العين قال: «و هذا خطأ عظيم و زلل فاحش، لأن هذا هدم و خرق لإجماع أصحابنا» انتهى

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 1- من أبواب الاستحاضة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 435

و قد استدل عليه تارة بأن ملاقاة دم نجس العين لسائر أجزائه موجب لطرو نجاسة أخرى عليه منها، و هي غير معفو عنها، و بعبارة أخرى أدلة العفو عن الدم ناظرة إلى العفو عنه لا عنه و عن ملاقيه، كما لو لاقى نجاسة أخرى كالعذرة و البول، و أخرى بأن دم نجس العين منطبق عنوانين: أحدهما كونه دما، و هو مانع، و ثانيهما كونه جزء من نجس العين، و هو مانع آخر، و ما دل على العفو عن الدم قاصر عن الدلالة على العفو عن العنوان الثاني، و ثالثة بأن دم نجس العين من أجزاء غير المأكول، و هو مانع آخر، فالعفو عن الدم لا عنه، و سيأتي الكلام في هذا الأخير.

و أما الوجه الأول ففيه أنه لا دليل على انفعال أجزاء نجس العين بعضها عن بعض، بل و لا انفعال نجس عن مثله، فلا يتنجس بول من بول آخر، و لا بعض أجزاء الكافر بملاقاة بعض آخر من أجزائه، بل لا دليل على تنجس النجاسات بملاقاة بعضها مع بعض حتى فيما إذا كان أحد النجسين أغلظ و أشد، لعدم إطلاق أو عموم في أدلة الانفعال بالملاقاة، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية من الموارد الجزئية، و لهذا لا يبعد القول

بالعفو فيما إذا لاقى الدم المعفو عنه نجاسة أخرى إذا لم تكن أجزاؤها محققة فيه فعلا، بل استهلكت فيه و مع عدم ملاقاتها للجسد، فإنه مع ملاقاته يشكل العفو، و بالجملة لا شبهة في عدم الدليل على تنجس دم نجس العين بملاقاة أجزائه، فلا يكون دمه نجسا ذاتا و عرضا.

و أما الوجه الثاني ففيه أنه لا دليل على مانعية أجزاء نجس العين بما أنه أجزاؤه، بمعنى أن جزء الكلب بما أنه كلب يكون مانعا، بل الظاهر من الأدلة أن المانع النجاسة، فاجزاء الكلب بما أنها نجسة مانعة عن الصلاة لا بما أنها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 436

أجزاؤه، و كذا الدم ليس بعنوانه مانعا، فلا يكون عنوان نجس العين مانعا آخر مغايرا لمانعية النجس.

و منها- دم غير المأكول، فقد استثناه من العفو بعضهم، و عن الأستاد اختياره، و هو مخالف لتضاعف كلمات الفقهاء، حيث اقتصروا على استثناء الدماء الثلاثة أو مع نجس العين، و لإجماع الحلي.

و يدل على العفو إطلاق أدلته. و دعوى الانصراف فاسدة جدا كدعوى معارضتها لموثقة ابن بكير «1» فإنها حاكمة عليها أولا، و يحتمل قريبا عدم شمول الموثقة للدم و المني المانعين عن الصلاة- سواء كانا من مأكول اللحم أو غيره- ثانيا، و مثلها في الضعف دعوى أن أدلة العفو متعرضة لحيثية نجاسة الدم لا لحيثية أخرى منطبقة عليه، و هو كونه من غير المأكول، ضرورة أنه ليس فيها ما يمكن استشمام تعرضها لحيثية نجاسته، بل الموضوع فيها نفس الدم، و مقتضى إطلاقها عدم مانعيته بأي عنوان منطبق عليه ذاتا، فلا قصور فيها لشمول مطلق الدماء من المأكول أو غيره، نجس العين أو غيره، و قد

عرفت حكومتها على موثقة ابن بكير و إن كان بينهما عموم من وجه.

و دعوى قوة إطلاق الموثقة بل صراحتها في الإطلاق كدعوى إبائها عن التقييد مردودة على مدعيها، و أضعف من الجميع استبعاد العفو عن الدم القليل من غير المأكول مع كونه نجسا، و عدم العفو عن سائر أجزائه مع طهارتها، ضرورة عدم طريق للعقول إلى فهم مناطات الأحكام التعبدية، و إلا فأي فارق عند العقول بين الدم و غيره، و بين مقدار الدرهم و أقل منه، و بين دم القروح و الجروح و غيره إلى غير ذلك من التعبديات، فالفقيه كل الفقيه من يقف على التعبديات، و لا يستبعد

______________________________

(1) مرت في ص 25.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 437

شيئا منها بعد ما رأى رواية أبان في الدية «1».

ثم أن البحث في أطراف كون الدرهم هو البغلي أو الوافي و كونهما واحدا أو متعددا و كون وزنه درهما و ثلثا لا فائدة فيه في المقام، و ما هو مفيد: البحث عن تعيين سعته التي هي موضوع الحكم نصا و فتوى، لكن لا طريق لنا إليه، لاختلاف الكلمات في ذلك، و ما نسب إلى الحلي من كونه قريبا من أخمص الراحة ليس على ما ينبغي.

قال في محكي السرائر: «إن الشارع عفى عن ثوب و بدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي المضروب من درهم و ثلث، و بعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي المضروب المنسوب إلى مدينة قديمة يقال لها:

بغل، قرية من بابل، بينهما قريب من فرسخ، متصلة ببلد الجامعين يجد فيها الحفرة دراهم واسعة، شاهدت درهما من تلك الدراهم، و هذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد، يقرب

سعته من سعة أخمص الراحة» انتهى.

و هذا كما ترى بعد الغض عن نحو إجمال فيه ليس شهادة برؤية الدرهم الوافي و ان سعته كذا، بل شهادة برؤية درهم مما وجدها الحفرة من غير تعرض لكون ما شاهده عين الوافي، مع أن الشهادة في ذلك مبني على الحدس و الاجتهاد، و لو فرض رسم فيه يدل على كونه وافيا أو بغليا لاحتمال ضرب الحفرة دراهم على نعت الدراهم القديمة اختلافا لجلب الأنظار و بيعها بثمن غال على طالبي الآثار القديمة كما انه لا اعتماد على مدعي الخبرة في هذا العصر و لا على الدراهم المنقوشة مما يزعم الناظر أنها من الآثار القديمة لكثرة الخدعة و الاختلاق و عدم الوثوق على أقوالهم و ما في أيديهم، فمقتضى القاعدة الاقتصار على الأقل فيما دار الأمر بينه و بين الأقل منه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب ديات الأعضاء- الحديث 1- من كتاب الديات

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 438

المطلب الثالث: و من أحكام النجاسات

عدم جواز إدخالها في المساجد و لو مع عدم التعدي، قال الشيخ في الخلاف: «لا يجوز للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام و لا شي ء من المساجد لا بإذن و لا بغير إذن- ثم تمسك بالآية الشريفة الآتية ثم قال-: و إذا ثبت نجاستهم فلا يجوز أن يدخلوا شيئا من المساجد، لأنه لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات» انتهى.

و عن الحلي في مقام الاستدلال على طهارة ميت الإنسان «و لا خلاف بين الأمة كافة أن المساجد يجب أن تجنب النجاسات العينية، و قد أجمعنا بغير خلاف بيننا أن من غسل ميتا له أن يدخل المسجد و يجلس فيه» انتهى، و قد أنكر المحقق

عليه جواز دخول الغاسل المسجد، و لم ينكر عليه دعواه عدم الخلاف بين الأمة تجنب المساجد، و لأحد أن يقول: إن معقد عدم الخلاف وجوب تجنب المساجد النجاسات، و الظاهر من تجنبها منها أو المتيقن منه هو وجوب تجنبها عن التلوث بالقذارة، لا حرمة إدخال النجاسة غير المتعدية فيها، و لعل استدلالهما على ما ذكراه مبني على اجتهادهما و استظهارهما الإطلاق من معقد الإجماع و هو ليس بحجة.

و منه يظهر النظر فيما عن كشف الحق في توجيه الاستدلال بالآية بأنه لا خلاف في وجوب تجنب المساجد كلها النجاسات بأجمعها، فضلا عما عن المفاتيح من نفي الخلاف عن إزالة النجاسة عنها، فإن الإزالة ظاهرة في رفع تلوث المسجد عنها أو منصرفة إليه، و أما إخراج النجس

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 439

غير المتعدي منها فلا يقال له الإزالة، فالمتيقن من تلك الدعاوي وجوب تنزه المساجد عن التنجس أو حرمة تنجسها أو وجوب إزالتها منها، سيما مع دعوى الحلي عدم الخلاف في جواز دخول من غسل الميت المساجد و الجلوس فيها. و هو و إن استدل به على أمر آخر لكن نحن نأخذ بروايته و نترك درايته كما أشار إليه الشيخ الأعظم.

و استدل على حرمة إدخال مطلق النجاسات فيها و لو مع عدم التعدي بقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ «1» و قد مر في باب نجاسة الكافر تقريب أن المراد بالنجاسة المعنى المعهود، فلا نعيده.

نعم هاهنا مناقشة أخرى في دلالتها، و هي أن النهي قد تعلق بالفعل الاختياري، أي دخول المشركين المسجد، و مقتضى تفريع الحكم على نجاستهم أن كل نجس لا يدخله، فيعم

الحكم سائر طوائف الكفار و أما إدخال النجس فيه فلا، لاحتمال دخالة الفعل الاختياري من نجس العين في الحكم، و هذا الاحتمال سيال في جميع الأوامر و النواهي المتعلقة بالأفعال الاختيارية، إلا أن تقوم القرينة على إلقاء الخصوصية لكنها مدفوعة بأن النهي عن القرب متفرع على النجاسة، فيدل على أن نجاستهم تمام الموضوع لعدم الدخول لا الاختياري منه، فدخالة الاختيارية خلاف الظاهر، مع أن العرف يساعد على إلقاء خصوصية الاختيار، سيما في المقام الذي يؤكده مناسبة الحكم و الموضوع.

نعم هنا أمر آخر، و هو أن حمل المصدر على الذات لا يصح إلا بادعاء و تأول، و هو لا يصح إلا في مقام المبالغة سيما مع المقارنة لكلمة «إنما» المفيد للحصر أو التأكيد، فكأنه قال: لا حيثية للمشركين

______________________________

(1) سورة التوبة: 9- الآية 28.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 440

إلا حيثية القذارة أو المشركون بتمام حقيقتهم عين القذارة.

و هذه الدعوى انما تحسن و تصير بليغة إذا كان المشرك خبيثا في باطنه و نجسا في ظاهره و لا تكون له نقطة طهارة و لو ادعاء، و انما تفرع عدم قرب المسجد الحرام على هذه المرتبة من النجاسة الادعائية، و هي مختصة بالمشرك أو هو و سائر الكفار، و أما سائر النجاسات فلا دليل على إلحاقها بهم ما لم يدعي لها ما ادعى، فالحكم لم يتفرع على النجس بالكسر حتى يتعدى إلى سائر النجاسات، بل على ما بلغ مرتبة يدعى له هذه الدعوى على سبيل المبالغة، و لعل ما ذكرناه هو مراد من قال بغلظة نجاستهم، فلا يرد عليه ما قيل: إن أغلظية نجاسة الكافر من الكلب أو دم الحيض غير معلومة.

و بالجملة إسراء

الحكم من هذه الحقيقة الادعائية المبنية على ما أشرنا إليه إلى غيرها مشكل بل ممنوع، و لا يتوهم أن أعيان النجاسات كلها عين النجس بالفتح، و ذلك أن شيئا منها ليس كذلك. بل لها ذوات و حقائق غير هذا المعنى المصدري أو الحاصل من المصدر، نعم يصدق عليها النجس بالكسر بلا تأول، لكن لم يتفرع عليه الحكم.

ثم أن هاهنا كلاما آخر، و هو أن قوله «فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا» لا يبعد أن يكون كناية عن عدم دخولهم للحج و عمل المناسك بقرينة قوله «بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا» المتفاهم منه عدم قربهم في سائر الأعوام، و مع كون المعهود من شد رحال المشركين في كل سنة الى المسجد الحرام لعمل المناسك لم يبق للآية ظهور في الكناية عن مطلق الدخول، بل لا يبعد أن تكون كناية عن الدخول للعمل أو عمل المناسك المستلزم للدخول.

ففي المجمع و العام الذي أشار إليه هو سنة تسع الذي نادى فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 441

علي عليه السلام بالبراءة، و قال: «لا يحجن بعد هذا العام مشرك» «1» و في البرهان عن العياشي عن حريز عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«إن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعث أبا بكر- إلى أن قال-:

و قال- أي قال علي عليه السلام-: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة و لا مشرك بعد هذا العام» «2» و عنه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «خطب علي عليه السلام بالناس و اخترط سيفه، و قال:

لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يحجن بالبيت مشرك» إلخ «3» و عن الصدوق بسنده عن أبي عبد

اللّٰه عليه السلام في حديث قال: «انما سمي الأكبر- أي الحج- لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون و لم يحج المشركون بعد تلك السنة» «4» و في بعض الروايات فكان ما نادى به «أن لا يطوف بعد هذا العام عريان، و لا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك» «5».

و لا يبعد أن يكون الظاهر من تلك الروايات أن النهي عن القرب لأجل الحج و الطواف و أعمال المناسك لا مطلقا، لكن الظاهر تسالمهم على عدم جواز تمكين الكفار المسجد الحرام.

ثم أن إلحاق سائر المساجد به بعد عدم إلقاء الخصوصية عرفا لما له من العظمة و الأحكام الخاصة، يحتاج إلى دليل، و دعوى عدم القول بالفصل غير مسموعة، بل هو غير حجة ما لم يرجع الى الإجماع على التلازم، و لو سلم عدم القول بالفصل بين تمكينهم سائر المساجد و تمكينهم المسجد الحرام لكن عدم القول بالفصل بين تمكينهم و إدخال النجاسة سائر المساجد لو نوقش في دلالة الآية بما تقدم أو عدم القول بالفصل بين

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(2) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(3) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(4) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

(5) راجع الوسائل- الباب- 53- من أبواب الطواف- و المستدرك- الباب- 37- من هذه الأبواب.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 442

حرمة إدخال النجاسات في المسجد الحرام و بين إدخالها في سائر المساجد على فرض تسليم دلالتها بالنسبة

إلى المسجد الحرام بحيث يرجع إلى الإجماع على التلازم أنى لنا بإثباته.

فالقول بجواز إدخال النجاسات غير المتعدية الغير المستلزمة لهتك حرمة المسجد لا يخلو من قوة، فإن عمدة الدليل على عدم الجواز دعوى الإجماع و الشهرة و دلالة الآية، و قد تقدم الكلام فيهما.

و أما قوله تعالى وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ «1» فهو أجنبي عن إدخال النجاسة غير المتعدية فيها، مع أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام أو هو و إسماعيل عليه السلام كما في آية أخرى «2» و أما ما عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «جنبوا مساجدكم النجاسة» «3» ففي سنده و دلالته إشكال، إذ استنادهم اليه غير ثابتة، و احتمال أن يكون المراد بالمساجد محال السجدة قريب.

هذا مضافا إلى ما دلت على جواز اجتياز الجنب و الحائض المساجد بما لا يمكن حملها على الجواز الحيثي، كصحيحة أبي حمزة قال:

«قال أبو جعفر عليه السلام: إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم، و لا يمر في المسجد إلا متيمما، و لا بأس أن يمر في سائر المساجد، و لا يجلس في شي ء من المساجد» «4» و هي كما ترى ظاهرة في أن الذي احتلم يجوز له الاجتياز، و هو حكم فعلي لا حيثي.

______________________________

(1) سورة الحج: 22- الآية 26.

(2) سورة البقرة: 2- الآية 125.

(3) الوسائل- الباب- 24- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث- 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 443

و قريب منها روايته الأخرى «1» إلا أن فيها «و كذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك، و لا بأس ان يمرا في سائر المساجد، و لا يجلسان

فيها» و هذه بملاحظة ذيلها أوضح دلالة، مضافا إلى انه قلما يتفق كون الحائض طاهرة. بل لعل نوع النساء لا يتجنبن عن بعض النجاسات في أيام الحيض، فتجويز دخولها في المساجد ملازم لتجويز دخول النجاسة.

و تدل عليه ما وردت في المستحاضة من جواز دخولها في المسجد و جواز الطواف لها، و السيرة المستمرة على تمكين الصبيان، بل إدخالهم في المساجد، بل ادعيت السيرة على عدم منع أصحاب القروح و الجروح و من به دم قليل عن الجمعة و الجماعات، و هذه كلها شاهدة على عدم العموم في الآية، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية، و عدم صحة دعوى عدم القول بالفصل بين حرمة تمكين الكفار المسجد الحرام أو مطلق المساجد و بين إدخال سائر النجاسات غير المتعدية، و مما ذكر ظهر عدم حرمة إدخال المتنجس فيها مع عدم السراية.

و أما إدخال النجاسات السارية فالظاهر ان حرمته لا بعنوان إدخالها فيها، بل بعنوان تنجيس المساجد، و هو القدر المتيقن من الإجماعات، بل حرمة التنجيس معروفة لدى المتشرعة، و هما العمدة فيها.

و أما سائر ما استدل لها- كقوله تعالى وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ الى آخره، و رواية الثمالي التي لا يبعد صحتها عن أبي جعفر عليه السلام و فيها: «إن اللّٰه أوحى إلى نبيه أن طهر مسجدك و أخرج من المسجد من يرقد بالليل، و مر بسد أبواب من كان له في مسجدك باب إلا باب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 444

علي عليه السلام و مسكن فاطمة عليها السلام، و لا يمرن فيه جنب» «1» و صحيحة الحلبي الواردة في زقاق قذر بينه و بين

المسجد «2» و رواية علي بن جعفر الواردة في اصابة بول الدابة المسجد أو حائطه «3» إلى غير ذلك- فغير تام إذ الآية الشريفة مع كونها مربوطة بالأمم السالفة لا يبعد أن يكون المراد من التطهير فيها هو التنظيف العرفي و الكنس، لا التطهير من النجاسة بمناسبة قوله لِلطّٰائِفِينَ وَ الْعٰاكِفِينَ إلخ مع أن التعدي من المسجد الحرام يحتاج إلى دليل.

و رواية الثمالي راجعة إلى مسجد النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و التعدي منه إلى غيره يحتاج الى دليل بعد عدم إمكان إلقاء الخصوصية عرفا، و رواية الزقاق أجنبية عن المقام، فان الظاهر منها أن مورد الكلام تنجس الرجل المانع عن الصلاة، و رواية علي بن جعفر لا تدل على المطلوب بعد طهارة أبوال الدواب، فيمكن أن يكون وجه السؤال معهودية كراهة الصلاة مع تلوث المسجد.

و قد يستدل على ذلك بالأخبار المستفيضة الدالة على جواز اتخاذ الكنيف مسجدا بعد تطهيره، مثل صحيحة الحلبي «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام في مسجد يكون في الدار فيبدو لأهله أن يتوسعوا بطائفة منه أو يحولوه عن مكانه، فقال: لا بأس بذلك، قال: فقلت:

أ فيصلح المكان الذي كان حشا زمانا (حشي رمادا خ ل) أن ينظف و يتخذ مسجدا؟ قال: نعم إذا القي عليه من التراب ما يواريه، فإن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 15- من أبواب الجنابة- الحديث 10.

(2) مرت في ص 362.

(3) مرت في ص 24.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 445

ذلك ينظفه و يطهره» «1» و قريب منها رواية أبي الجارود «2» و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان «3».

و مثل رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال.

«سأله عن بيت

كان حشا زمانا هل يصلح أن يجعله مسجدا؟ قال:

إذا نظف و أصلح فلا بأس» «4».

و رواية مسعدة التي لا يبعد أن تكون موثقة عن جعفر بن محمد عليهما السلام «أنه سأل أ يصلح مكان حش أن يتخذ مسجدا؟ فقال إذا القى عليه من التراب ما يواري ذلك و يقطع ريحه فلا بأس، و ذلك لأن التراب يطهره، و به مضت السنة» «5» و استدل بعضهم بها على وجوب تطهير ظاهر المسجد دون باطنه مطلقا أو في خصوص مورد الأخبار، و بعضهم على عدم وجوبه مطلقا.

أقول: لا يبعد أن يكون المساجد في تلك الروايات غير المساجد المعهودة التي محل البحث، بل المراد منها الأمكنة التي اتخذت في البيت مسجدا، كما قد يشهد صدر الروايات الثلاثة المتقدمة و يشعر به قوله:

«يتخذ مسجدا» و يحتمل في بعضها أن يكون المراد من اتخاذ المسجد اتخاذها محلا يسجد عليه، فيكون سؤاله عن جواز السجدة على مكان كان حشا بعد تنظيفه، و اما الحمل على السؤال عن بناء المسجد أو الوقف للمسجدية فبعيد عن سوق الروايات.

______________________________

(1) أورد صدرها في الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 1- و ذيلها في الباب- 11- من هذه الأبواب- الحديث 1.

(2) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 3.

(3) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 4.

(4) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 7.

(5) راجع الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 446

و ربما تشهد لما ذكرناه رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط أو مقبرة»

«1» و لو أريد بها المساجد المعهودة فمقتضى الجمع بينها جواز جعل الكنيف بعد تطهيره و تنظيفه مسجدا، و عليه يحمل المطلق منها، و أما إلقاء التراب فلكمال النظافة لا للتطهير الشرعي، و لهذا أمر به مع فرض السائل تنظيفه، و حمل التنظيف في لسان السائل على الكنس مع بقاء النجاسة لا وجه معتد به له.

و كيف كان لا يمكن التشبث بتلك الروايات على جواز تنجيس بواطن المساجد أو عدم وجوب تطهيرها، نعم ربما يقال: إن المتيقن من معاقد الإجماع و الروايات تطهير ظواهرها، و فيه أن المسجد عنوان معهود و اسم للمعبد المعهود بين المسلمين و المعنى الوضعي منسي، و الإجماع القائم على تجنب المساجد النجاسات يدل على وجوب ما يصدق عليه هذا العنوان، و هو مجموع ما جعلت للمعبدية، أرضها إلى مقدار متعارف و سقفها و جدارها داخلا و خارجا، و ليس المسجد من قبيل المطلق حتى يؤخذ بالقدر المتيقن فيه، بل هو كالعلم اسم لهذه البنية، فالأظهر حرمة تنجيس أجزائه ظاهرا و باطنا، بل لا يبعد استفادة حرمة تنجيس حصيره و فرشه بالمناسبات المغروسة في الأذهان من النبوي و معقد الإجماع بل الظاهر معهوديتها لدى المتشرعة.

ثم انه كما يحرم تنجيسه يجب إزالة النجاسة منه، و لا يبعد أن يكون قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جنبوا مساجدكم» و كذا معاقد الإجماعات ظاهرة في وجوب الإزالة. لكن المتفاهم منها عرفا أن الأمر بها و بتجنب المساجد لمبغوضية تنجيسها حدوثا و بقاء، و منه يعلم أن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 11- من أبواب أحكام المساجد- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 447

وجوب الإزالة فوري عقلا، لاستفادة مبغوضية تلوث المساجد مطلقا

من الأدلة.

و يلحق بالمساجد المصحف الشريف و المشاهد المشرفة و الضرائح المقدسة و التربة الحسينية، سيما المتخذة للتبرك و الاستشفاء و السجدة عليها بلا اشكال مع لزوم الوهن، بل مطلقا على وجه موافق للارتكاز بل لا يبعد أن يكون المناط في نظر المتشرعة و ارتكازهم في وجوب تجنب المساجد النجاسات هو حيثية عظمتها و حرمتها لدى الشارع الأقدس، أو كان التنجيس مطلقا هتكا عنده و لو لم يكن عندنا كذلك.

هذا بالنسبة الى غير الخط من المصحف، و أما هو فلا ينبغي الإشكال في حرمة تنجيسه و وجوب الإزالة عنه، لارتكازية الحكم لدى المتشرعة، و لفحوى قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «1» الظاهر منه مبغوضية مسّ غير الطاهر إياه بأي وجه اتفق، و المفهوم منه الحكم فيما نحن فيه، سيما أن الظاهر من الآية الكريمة أن المناط فيها غاية علو القرآن و عظمته و كرامته.

المطلب الرابع: يعتبر في التطهير بالماء القليل انفصال الغسالة

على النحو المتعارف ففي مثل الأجسام التي لا يرسب فيها النجاسة كالبدن و الجسم الصقيل يكفي صب الماء بنحو ينفصل غسالته عنها، و فيما ترسب النجاسة فيه و تنفذ لا بد من إخراج الغسالة بالعصر أو بغيره بأي نحو يمكن، لا لقيام إجماع أو شهرة عليه كما قد يدعي، فان الظاهر من تعليل

______________________________

(1) سورة الواقعة: 56- الآية 79.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 448

من يدعي الشهرة أو الإجماع أن الاستناد لم يكن إليهما، بل المسألة من التفريعات التي يدخلها الاجتهاد، و في مثلها لا يكون الإجماع حجة فضلا عن الشهرة.

بل الظاهر انه لم يكن للشارع إعمال تعبد في تطهير النجاسات إلا ما استثني مما نص على كيفية تطهيره، و الشاهد عليه أن الروايات الواردة في

باب تطهير أنواع النجاسات على كثرتها لم تزد إلا الأمر بالغسل أو الصب في بعض الموارد من غير تعرض لبيان الكيفية إلا نادرا، و التنصيص في بعض الموارد على التعدد كالبول أو على كيفية خاصة كالولوغ دليل على كونها في مقام البيان في سائر النجاسات أيضا فإطلاق الأمر بالغسل فيها يكشف عن عدم طريقة خاصة في التطهير، فدعوى ورود تعبد خاص زائدا على لزوم الغسل في غير محلها.

و لا لأن الغسل متضمن للعصر لغة أو عرفا، و إن قال المحقق في المعتبر: الغسل يتضمن العصر، و مع عدم العصر يكون صبا ثم قال:

و يجري ذلك- أي قولهم يغسل الثياب و البدن- مجرى قول الشاعر:

«علفتها تبنا و ماء باردا» ثم استشهد برواية الحسين بن أبي العلاء حيث قال: «في الجسد يصب عليه الماء مرتين، و في الثوب اغسله مرتين» «1» فجعل الصب مقابل الغسل، ثم قال: «أما الفرق بين الثوب و البدن فلأن البول يلاقي ظاهر البدن و لا يرسب فيه، فيكفي صب الماء لأنه يزيل ما على ظاهره، و ليس كذلك الثوب لأن النجاسة ترسخ فيه فلا تزول إلا بالعصر» انتهى.

و الظاهر من كلامه أن العصر مأخوذ في مفهوم الغسل. فلا بد في الثياب من الغسل و لا يكفي فيها الصب، لأنه لا يزيل النجاسة التي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 449

رسبت فيها، و سائر كلامه تعقيب لما فهم من معنى الغسل، و لا يبعد أن يكون قوله: «و هو مذهب علمائنا» استشهادا بفهمهم لتضمن الغسل العصر، لا دعوى الإجماع على حكم تعبدي، و انما قلنا لا لذلك لأن الغسل صادق عرفا

و لغة على صب الماء على البدن لإزالة القذارة و غيرها، و قد ورد الأمر بغسل الجسد و البدن و الوجه و اليدين في الكتاب و السنة إلى ما شاء اللّٰه من غير شائبة تجوز و تأول، و سيأتي الكلام في مثل رواية الحسين بن أبي العلاء، و توهم اعتبار العصر في مفهوم غسل الثياب و نحوها دون غيرها فيكون الغسل مشتركا لفظيا في غاية الفساد يرده العرف و اللغة.

و لا لأن خروج الغسالة و انفصالها معتبر في مفهوم الغسل كما يظهر من المحقق القمي على ما يبالي، لمنع ذلك و صدقه مع عدم انفصالها عرفا و لا لأن مفهوم الإزالة مأخوذ في ماهية الغسل كما قال به في مصباح الفقيه، ضرورة صدقه على الفاقد لها أيضا، فيصدق على صب الماء على اليد و لو لم تكن قذرة كالغسلتين في الوضوء.

بل لأن الظاهر من أدلة غسل النجاسات أن الأمر به غيري لإزالة النجاسة، و لا يكون عنوان الغسل بما هو مطلوبا حتى نقتصر في تحققه على أول المصاديق بأي نحو وجد، و لا شبهة في أن إزالة النجاسة و إرجاع الأجسام إلى حالتها الأصلية تختلف باختلاف الأجسام و اختلاف النجاسات، فإذا أمر بغسل الثوب من المني يفهم العرف منه أنه لا بد من الفرك و الدلك و التغميز و نحوها، لا لاعتبارها في مفهوم الغسل، بل لأنه توصلي إلى حصول النظافة للجسم و رجوعه إلى حالته الأصلية، و هو لا يحصل إلا بها، و إذا أمر بغسل اليد من البول الذي لا جرم له لا يفهم منه إلا صب الماء عليه و إخراج غسالته، لأن ملاقاة البول لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

ج 3، ص: 450

يوجب حصول أثر يحتاج الى الدلك و إن احتاج إلى إخراج غسالته لزوال القذارة به.

و بعبارة أخرى ان الغسل بالماء انما يوجب النظافة و رفع القذارة لأنه إذا صب على المحل و غسل به يوجب ذلك انتقال القذارة منه اليه فمع بقاء الغسالة على المحل لا يرتفع القذارة، فلو يبس الثوب المغسول بالماء من غير إخراج غسالته تبقى قذارته عرفا، بخلاف ما لو خرجت منه، فالمعتبر في التطهير ليس العصر بعنوانه، بل المعتبر خروج الغسالة بأي علاج كان، و هو أمر عقلائي متفاهم من الأوامر الواردة في غسل النجاسات.

و هذا بالنسبة إلى القذارات التي يدرك العرف قذارتها لا إشكال فيه و لا في مساعدة العرف له، و إن كانت حكمية بنظر العرف بأن لا يبقى في الملاقي أثر من الملاقي لكن تتنفر الطباع بمجرد ملاقاته، كملاقاته لبدن الميت، أو العذرة اليابسة، أو ملاقاة طعامه لها، فان غسله لرفع النفرة لا يتحقق إلا بانفصال الغسالة.

و أما النجاسات الجعلية الالحاقية كالكافر و الكلب و نحوهما فهي أيضا كذلك، لأن الغسل كما عرفت لإزالة القذارة، و هي تتوقف على إخراج الغسالة بالعصر أو ما يقوم مقامه في القذارات العرفية، فإذا جعل الشارع قذارة لشي ء و أوجد مصداقا من القذارة في عالم التعبد يجب على المكلف ترتيب آثار القذارة العرفية عليه، نعم لما لم يكن التنزيل و الجعل إلا في نفس القذارة لا غير يكون حكمه حكم القذارات غير العينية إذا لم يلصق من أعيانها على الملاقي كالمثال المتقدم، فلا يحتاج في التطهير إلى الدلك و نحوه.

ثم أن ما ذكرناه من لزوم العصر أو ما يقوم مقامه لإخراج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3،

ص: 451

الغسالة ثابت حتى مع القول بعدم انفعال الغسالة، فإن عدم انفعالها لا يلازم إزالة النجاسة عن المحل المتوقفة على إخراج الماء و انفصاله، نعم لو قلنا بأن المحل يصير طاهرا قبل خروج الغسالة و مع بقائها فيه ينفعل ثانيا عنها لكان للتفصيل وجه، لكن المبنى غير صحيح. لأن طهارة المحل و نظافته انما تحصل بمرور الماء على المحل القذر و خروجه عنه، فلو صب الماء في إناء قذر و قلنا بعدم انفعاله فمع بقائه فيه حتى يبس لا يصير طاهرا نظيفا بحكم العقلاء و لو لم ينفعل الماء، فالنظافة موقوفة على إزالة النجاسة و ذهابها بوسيلة مرور الماء على المحل سواء انفعل أم لا.

و بعبارة أخرى أن الماء يزيل القذارة بمروره على المحل و انفصاله عنه لا بانتقال النجاسة إليه محضا، مضافا إلى أن الأقوى انفعال الغسالة و عدم التلازم بين طهارة المحل و طهارتها كما هو المقرر في محله.

ثم أن الأخبار الواردة في غسل البول كصحيحة الحسين بن أبى العلاء على الأصح قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول. قال: اغسله مرتين، و سألته عن الصبي يبول على الثوب، قال: يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره» «1» و صحيحة البزنطي قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب، قال: اغسله مرتين» «2» لا تدل على اعتبار العصر أو نحوه في مفهوم الغسل، و هو واضح، و لا تدل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4 و الباب- 3- من هذه الأبواب- الحديث

1.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 452

على أن الصب ليس بغسل، بل تدل على أن الغسل المطلوب لإزالة القذارة يحصل في مثل البول و الجسد بالصب من غير احتياج إلى الدلك و الغمز.

و لهذا يفهم العرف منه أن الصب بوجه خاص تزال به القذارة مطلوب، لا مطلقه و لو لم يمر على المحل و لم تخرج غسالته، و انما قال في الثوب: «اغسله» لأجل أنه لو قال صب عليه لتوهم منه عدم لزوم إخراج غسالته ردعا لبناء العقلاء في كيفية الغسل، و أمر بالغسل لمعهودية كيفيته إذا كان لإزالة القذارة.

فتحصل مما ذكرناه أن ما يعتبر في التطهير إخراج الغسالة و انفصالها بأي علاج كان، بل لو كان العصر مصرحا به في الروايات لما كان ينقدح منه في الأذهان إلا الطريقية لخروج الغسالة، لا موضوعية عنوانه بحيث لم يقم مقامه ما فعل فعله.

ثم أنه يظهر مما مر من أن عدم انفعال ماء الغسالة لا يلازم عدم لزوم إخراجها في التطهير أنه يعتبر في الغسل بالماء الجاري و الكثير المعتصم خروج الماء المحيط بالثوب، و لو بتغيره و تبدله، و لو في داخل الماء بأي نحو كان من الغمز أو تموج الماء أو قوة حركته و جريانه إلى غير ذلك، فالاكتفاء في التطهير بمطلق اصابة الثوب الكر أو الجاري مشكل لا دليل عليه. و الأخذ بإطلاق أدلة الغسل بعد ما مر من مساعدة العرف في كيفية التطهير لإمرار الماء على المحل لاذهاب القذارة في غير محله.

كما أن التمسك بمرسلة الكاهلي الواردة في المطر، و فيها: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» مع دعوى

عدم القول بالفصل بينه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 453

و بين الجاري بل عدم القول به بينه و بين الكثير، مضافا الى المرسل المحكي عن المنتهى عن أبي جعفر عليه السلام مشيرا الى غدير ماء «ان هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «1» مشكل لضعف المرسلة و لو سلم جبرها بالعمل كما لا يبعد، و سيأتي في محله، فعدم القول بالفصل و الإجماع على التلازم بين المطر و الجاري و الكر غير ثابت، بل مقتضى إطلاق كثير من الأصحاب على ما حكي عدم الفرق في لزوم العصر بين القليل و غيره، و لو لبنائهم على كون العصر مأخوذا في مفهوم الغسل.

و مرسلة المنتهى غير حجة، و اشتهار الحكم بين المتأخرين، بل و استنادهم إليها لا يوجب الجبر مع عدم معلومية الاستناد إليها، فالأحوط لو لم يكن الأقوى لزوم الفرك أو العصر أو التحريك أو نحوها مما يوجب تبدل الماء الداخل في الجملة، و الظاهر تحققه بالغمز في الجاري الذي يكون جريانه محسوسا، سيما إذا كان قويا. بل الظاهر حصول

______________________________

(1) أورده المحدث النوري في مستدركة نقلا عن المختلف و هذا نصه: «العلامة في المختلف عن ابن أبي عقيل قال: ذكر بعض علماء الشيعة أنه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام و كان في طريقه ماء فيه العذرة و الجيف و كان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل به رجله إذا خاضه، فأبصر بي يوما أبو جعفر عليه السلام فقال: ان هذا لا يصيب شيئا إلا طهره فلا تعد منه غسلا» ثم قال بعد كلام

له و قال الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة في كلام له: مضافا الى قوله عليه السلام في بعض الروايات مشيرا الى غدير الماء: إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره، و أراد به هذا الخبر و ليس فيه ذكر للغدير، و هو أعرف بما قال» راجع المستدرك- الباب- 9- من أبواب الماء المطلق- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 454

ذلك في القليل في بعض الأحيان، كما إذا صب من مكان مرتفع بقوة، أو صب على الثوب مستمرا بحيث خرجت الغسالة بورود الماء بعد ورود مستمرا.

ثم أنه يستثنى مما ذكر بول الصبي قبل أن أكل و أطعم، و قد ادعى السيد إجماع الفرقة المحقة على جواز الاقتصار على صب الماء و النضح، ثم تمسك بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «يغسل من بول الجارية، و ينضح من (على خ ل) بول الصبي ما لم يأكل الطعام» «1» و بما روت زينب (لباب خ ل) بنت الجون «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أخذ الحسين بن على عليهما السلام فأجلسه في حجره فبال عليه، قالت: فقلت له: لو أخذت ثوبا و أعطيتني إزارك لأغسله، فقال: انما يغسل من بول الأنثى، و ينضح على بول الذكر» «2» انتهى، و الروايتان من غير طرق أصحابنا، و كذا ادعى الشيخ إجماع الفرقة فيه على كفاية الصب بمقدار ما يغمزه، و عدم وجوب غسله، و عن غير واحد من المتأخرين دعوى عدم الخلاف و أنه مذهب الأصحاب.

و تدل عليه مضافا إلى ذلك صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصب

عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا، و الغلام و الجارية في ذلك شرع سواء» «3» و نحوها عن فقه الرضا عليه السلام «4» و عن الصدوق في معاني الأخبار «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتي بالحسن بن علي عليهما السلام فوضع

______________________________

(1) راجع سنن أبي داود ج 1- ص 154.

(2) راجع سنن أبي داود ج 1- ص 154.

(3) مرت في ص 27.

(4) المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 455

في حجره فبال، فقال: لا تزرموا ابني، ثم دعا بماء فصب عليه» «1» و عن دعائم الإسلام قال الصادق عليه السلام. «في بول الصبي يصب عليه الماء حتى يخرج من الجانب الآخر» «2».

و موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام قال: «لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل أن يطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين» «3» و روي في فقه الرضا عليه السلام نحوها عنه عليه السلام «4» و قريب منها ما عن الجعفريات عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام «5» و عنها عن جعفر بن محمد عن علي عليهم السلام «أن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بال عليه الحسن و الحسين عليهما السلام قبل أن يطعما، فكان لا يغسل بولهما من ثوبه» «6».

و لا منافاة بين ما دل على عدم الغسل من بوله و بين ما دل على وجوب الصب، فإن دلالة الأول على طهارته

و عدم لزوم شي ء بالسكوت في مقام البيان، و هو لا يقاوم التصريح بالصب، بل في كون موثقة السكوني و ما يضمونها في مقام البيان من هذه الجهة منع، فان الظاهر أنها في مقام بيان نكتة الفرق بين بول الغلام و الجارية بعد معهودية أصل الفرق.

______________________________

(1) مرت في ص 28.

(2) المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(3) مرت في ص 29.

(4) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 1.

(5) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 3.

(6) المستدرك- الباب- 2 من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 456

و أما موثقة سماعة قال: «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب فقال: اغسله، قلت: فان لم أجد مكانه، قال: اغسل الثوب كله» «1» فطريق الجمع بينها و بين صحيحة الحلبي تقييدها بها، و يمكن حملها على الاستحباب و كمال النظافة تحكيما لنص رواية السكوني على ظاهرها.

و أما رواية الحسين بن أبي العلاء الصحيحة على الأصح قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن البول يصيب الجسد. قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول، قال:

اغسله مرتين، و سألته عن الصبي يبول على الثوب قال: يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره» «2» فليس المراد من العصر فيها العصر المعهود في غسل الثياب بقرينة مقابلة صب الماء قليلا و العصر مع غسل الثوب في بول غير الصبي، فإنه لو كان المراد منه صب الماء و العصر على النحو المعهود في غسل سائر النجاسات لقال: اغسله، و لو كان الفرق بين بوله و بول غيره بالمرة و المرتين لقال اغسله مرة، فتغيير التعبير دليل على عدم لزوم الغسل،

فلو كان العصر هو المعهود لزم منه وجوب الغسل، و هو ينافي المقابلة «3» سيما مع تقييد الصب بكونه قليلا،

______________________________

(1) مرت في ص 26

(2) مرت في ص 451.

(3) و لا يخفى أن ما استظهره الأستاد دام ظله من الصحيحة مبني على كونها رواية واحدة و أما إذا قلنا بأنها روايات ثلاث و ان راويها جمعها في كتاب أو نقل واحد كما هو الظاهر منها- و يؤيده كون الحسين بن أبي العلاء من أصحاب الكتب بل و عن الشيخ في الفهرست:

«له كتاب يعد في الأصول»- فلا يحسن الاستظهار منها بهذا النحو بل لا بد من بيان آخر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 457

و هو دليل آخر على عدم لزوم الغسل، و على عدم كون العصر لإخراج الغسالة.

بل الظاهر أنه لا يصال الماء الى جوف الثوب، فان من طباع البول لحرارته أن يرسب في الثوب، و من طباع الماء البارد أن لا يرسب عاجلا إلا بالعلاج سيما مع قلته، فلا منافاة بينها و بين صحيحة الحلبي المقتصر فيها على الصب، فإنه أيضا لا يكفي إلا مع الغلبة على البول و وصول الماء إلى جميع ما وصل إليه البول، و لا يكفي الصب على ظاهر الثوب لتطهير باطنه، كما هو الظاهر من رواية الدعائم المتقدمة، فإن الخروج من الجانب الآخر من الثوب لوصوله الى كل ما وصل اليه البول لخروجه من الجانب الآخر في غالب الثياب، فلا تعارض بين الروايات بحمد اللّٰه.

و هل تلحق الصبية بالصبي؟ ظاهر الخلاف بل الناصريات الإجماع على عدم الإلحاق، و عن المختلف الإجماع على اختصاص الحكم بالصبي و عن جمع دعوى الشهرة عليه، و عن الذكرى و في بول

الصبي قول بالمساواة، و لعله استظهره من محكي عبارة الصدوقين، حيث أوردا عبارة الرضوي بعينها «1» و اختاره صاحب الحدائق صريحا.

و الأقوى عدم الإلحاق كما عليه الأصحاب، لاعراضهم عن ذيل الصحيحة، مع معارضتها لموثقة السكوني، حيث انها نفت التفرقة بينهما، و هي صرحت بها و لا جمع عقلائي بينهما «2» و مع التعارض

______________________________

(1) هذا نصها: «و إن كان البول للغلام الرضيع فتصب عليه الماء صبا، و إن كان قد أكل الطعام فاغسله، و الغلام و الجارية سواء» راجع المستدرك- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) و يمكن حمل رواية السكوني على التقية، لموافقة مضمونها لبعض العامة. و أن التصريح بالتسوية في الصحيحة لدفع مثل ما صدر تقية، بل هي ناظرة إليها، مضافا الى ان التفصيل بين لبن الجارية و لبن الغلام يورث فيها الوهن، على أن في سندها النوفلي، و هو لم يوثق، فالتعبير عنها بالموثقة لا يخلو من مسامحة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 458

فإن قلنا بأن الشهرة مرجحة فالترجيح مع الموثقة، و إن قلنا بأنها موهنة لمخالفها فالوهن للصحيحة، و إن قلنا بأن موافقة السنة القطعية مرجحة فالترجيح للموثقة. و إن قلنا بأن العمومات مرجع لدى التعارض فعمومات غسل النجاسات و غسل البول مرتين حاكمة على عدم المساواة ثم أن الظاهر المتفاهم من الأدلة أن الموضوع للحكم هو الصبي الذي لم يطعم أو لم يأكل الطعام، كما هو معقد إجماع الخلاف بل الناصريات، كما يظهر من عنوان البحث فيها، و هو المراد من الرضيع في خلال كلامه، كما هو ظاهر، و هو و مقابله مأخوذان في الروايات المحكية من طرقهم و طرقنا عدا فقه الرضا عليه السلام

الذي لم يثبت كونه رواية و لا شبهة في ان الظاهر من قوله عليه السلام في صحيحة الحلبي: «فإن كان قد أكل فاغسله» أنه إذا كان متغذيا و آكلا بشهوته و إرادته على النحو المعهود بحيث يقال: إنه صار متغذيا، للفرق بين قوله: «إذا أكل فاغسله» و قوله: «فان كان قد أكل» لأن الثاني ظاهر فيما ذكرناه دون الأول، و كذا الحال في قوله عليه السلام في موثقة السكوني:

«قبل أن يطعم» و قوله عليه السلام: «ما لم يأكل الطعام» الى غير ذلك من التعابير.

و ليس الرضيع موضوعا للحكم حتى يقال بانصرافه إلى من لم يبلغ سنتين، و احتمال كون العنوانين كناية عن عدم كونه رضيعا- و في مقابله الرضيع- لا يساعده الظاهر، و لهذا لا يحتمل كون بول المولود

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 459

آن ولادته قبل الرضاع كبول سائر الناس، و لا أظن التزام أحد بذلك، إلا أن يقال بصدق الرضيع عليه بمعنى كونه في سن الرضاع و هو كما ترى مجاز في مجاز.

و مما ذكرناه من كون الموضوع هو الصبي الذي لم يطعم و لم يأكل يتضح ثبوت الحكم للصبي الذي شرب من لبن كافرة أو خنزيرة فضلا عن بقرة و نحوها، بل لا يبعد ثبوته لمن شرب من الألبان الجافة المعمولة في هذه الأعصار على إشكال، سيما إذا كان ممزوجا من بعض الأغذية، بل الأقرب عدم الثبوت في هذا الفرض.

ثم أن ما ذكرناه من ثبوت الحكم للمذكورات انما هو لإطلاق الأدلة، و دعوى انصرافها عنها انما تسمع على تأمل في بعضها إذا كان الموضوع للحكم الرضيع، و الاستيناس أو الاستدلال لوجوب الغسل في بعضها بموثقة السكوني بدعوى

ان مقتضى التعليل فيها وجوبه كما ترى فان التعليل على فرض العمل به تعبدي يناسب استحباب الغسل لا لزومه ضرورة أن اللبن إذا خرج من المثانة لا يوجب ذلك نجاسته لو أريد الملاقاة للنجس في الباطن، و مع ذلك هو غير مربوط بالاغتذاء باللبن النجس كما هو ظاهر.

نعم في إلحاق بول طفل الكافر نوع تردد ناش من أن ملاقاته لجسمه يمكن أن يلحقه الأثر الزائد و إن لم ينجسه، و يأتي ذلك التردد فيما إذا لاقى بوله نجسا آخر و استهلك ذلك النجس فيه، و لو لاقى المحل بعد ملاقاته لبول الصبي نجسا آخر كبول غيره فالظاهر وجوب غسله و عدم الاكتفاء بالصب.

ثم ان الظاهر من الأخبار المعتمدة لزوم الصب، فلا يكفي النضح و الرش، و هو معتمد إجماع الخلاف، و لا يبعد أن يكون عطف

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 460

السيد في الناصريات النضح على الصب انما أراد به ما يصدق عليه الصب كبعض مصاديقه، و لهذا لم يعطفه بأو، إذ من البعيد استناده في الفتوى إلى الروايتين المتقدمتين من طرقهم، و انما استدل بهما اقحاما لهم كما هو دأبه، و كذا دأب شيخ الطائفة و بعض آخر من أصحابنا، كما انهم ربما يستدلون في الأحكام بأمور تشبه القياس إرغاما لهم لا استنادا إليها، و ظن الغافل غير ذلك، و ربما طعن بهم و العياذ باللّٰه.

و كيف كان فالأقوى عدم كفاية الرش، و دعوى إلقاء الخصوصية لو فرضت قاهرية الماء بالرش مع تكرره و إن لا تخلو من وجه لكن الأوجه خلافها، لاحتمال كون الدفعة دخيلا في التطهير، و القاهرية التدريجية غير كافية، بل العرف يساعد ذلك في أبواب

التطهير و إزالة النجاسات.

ثم أن الظاهر من الأخبار أن مجرد صب الماء على بوله موجب لطهارته من غير لزوم خروج الغسالة و جري الماء على المحل، و لازمة عرفا عدم نجاسة ما انفصل منه لو فرض انفصاله بعصر أو غيره.

للفرق الواضح بين غسالته و غسالة سائر النجاسات بحسب اقتضاء الأدلة فإن كيفية تطهير سائرها على ما مر بصب الماء على المحل القذر و إجرائه عليه لإزالة القذارة بذلك، بمعنى أن الماء بإجرائه على المحل و انفصاله يذهب بقذارته، فصار الماء قذرا و المحل طاهرا لانتقال قذارته إلى الماء، و هو أمر يساعد معه العرف و العقلاء في رفع القذارات العرفية كما هو واضح، و لهذا قلنا بنجاسة الغسالة حتى المطهرة.

و أما بول الرضيع الذي بيّن الشارع كيفية تطهيره و أخطأ العرف فيها فلا ينبغي الإشكال في أن المتفاهم من أدلتها أن غلبة الماء عليه مطهرة من غير انفعاله به، و إلا فلا يحكم بجواز بقائه في الثوب حتى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 461

ييبس، و معه كيف يمكن التفكيك عرفا بين الماء الذي في المحل فيقال بطهارته إذا كان فيه و نجاسته إذا انفصل منه، و بالجملة فرق واضح بين الغسلة المزيلة للنجاسة بجريانها و انفصالها و بين الماء المطهر للمحل بنفس اصابته و قاهريته و لو لم يخرج منه، فالقول بالتفكيك كالقياس على الغسالة ضعيف جدا.

ثم أن ما ذكرناه في صدر المبحث من اعتبار حصول الغسل في النجاسات لإزالتها و تطهيرها- و هو يتوقف على قاهرية الماء على المحل و خروج غسالته لتحصيل الإزالة و إذهاب القذارة بمرور الماء و خروجه- هو مقتضى الأدلة الواردة في غسل النجاسات، و

ليس للشارع إلا فيما استثني طريقة خاصة في ذلك و لا اعمال تعبد.

فحينئذ يكون غسل الفرش المحشوة بالصوف أو القطن ممكنا، أما ظاهرها فبإجراء الماء عليه و عصرها، و لا تسري النجاسة من باطنها اليه بمجرد رطوبة متصلة ما لم يلاق مع النجس برطوبة، و ملاقاة أحد الطرفين لا يوجب نجاسة الطرف الآخر كما هو مقتضى صحيحة إبراهيم ابن أبي محمود قال: «قلت للرضا عليه السلام: الطنفسة و الفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما و هو ثخين كثير الحشو؟ قال: يغسل ما ظهر منه في وجهه» «1».

و أما باطنها فلا بد في تطهيره من حصول الغسل بالمعنى المتقدم فيه، و هو يحصل بغمرها في الماء الكثير و تحريكها أو غمزها أو عصرها لخروج الماء الوارد فيها، أو صب الماء القليل عليها حتى قهر على النجاسة ثم إخراج غسالته بوجه من العلاج.

و ربما يتوهم من رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 462

خلاف ذلك و أوسعية الأمر فيها، قال: «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال: يغسل الظاهر، ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر» «1» بدعوى دلالتها على عدم لزوم العصر و إخراج الغسالة و فيه أولا أن الظاهر منها اصابة البول على ظاهر الفراش، للفرق بين قوله عليه السلام: «أصابه البول» و بين قوله: «بال عليه شخص» لأن الظاهر من الأول اصابة ظاهره، و لعل السؤال عنه و القيد بكثرة الصوف لاحتماله لزوم إخراج الصوف منه ثم غسله، و عدم تحقق غسل

ظاهره إلا به، و الأمر بصب الماء عليه بعد غسل ظاهره لعله لاحتمال السراية كالرش الوارد في نظيره، و لهذا أمر بغسل ظاهره أولا ثم صب الماء عليه.

و تشهد لما ذكرناه صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر و عن الفرو و ما فيه من الحشو؟ قال: اغسل ما أصاب منه، و مس الجانب الآخر، فإذا أصبت مس (من خ ل) شي ء منه فاغسله و إلا فانضحه» «2» حيث أمره بالغسل في فرض نفوذ النجاسة إلى الباطن.

و ثانيا أنه من المحتمل أن يكون مراده من خروجه من الجانب الآخر خروج جميعه أو معظمه و لم يذكر العصر أو نحوه لعدم الاحتياج الى الذكر بعد توقفه عليه، تأمل.

و ثالثا يمكن أن يكون الصوف الكثير في باطن الفراش بوجه لا يقبل الماء نوعا، و خرج منه الغسالة بلا علاج، و الانصاف أن رفع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 463

اليد عن إطلاق أدلة الغسل الموافق للقواعد و ارتكاز العقلاء و خصوص صحيحة إبراهيم المتقدمة لا يجوز بمثل هذه الرواية.

هذا كله فيما يمكن فيها الغسل بالمعنى المعتبر في إزالة النجاسة، و أما الأجسام التي لا يمكن فيها ذلك كالصابون و الحبوب و الفواكه و ما يجري مجراها مما لا ينفذ الماء فيها بل تنفذ الرطوبة فيها فالظاهر عدم إمكان تطهير بواطنها لا بالماء الكثير و لا بالقليل، فان تطهيرها يتوقف على مرور الماء المطلق عليها و خروجه منها لإزالة القذارة كما مر مرارا و ليس للشارع

تعبد خاص في تطهير البواطن. و سيأتي في حال بعض الأخبار المتمسك بها لذلك، كما انه ليس في الأدلة ما تدل على قبول كلية الأجسام للتطهير، و ما قيل: إنه يستفاد من تتبع الأخبار و كلمات الأصحاب ان كل متنجس حاله حال الثوب و البدن في قبوله للتطهير و التشكيك في ذلك سفسطة غير وجيه، و لا مستند الى دليل.

نعم لا شبهة في أن تحقق الغسل في كل متنجس موجب للطهارة و أما مع تعذره لأجل عدم إمكان نفوذ الماء فيه أو عدم إمكان إخراج غسالته منه فلا دليل على حصول الطهارة له- و غمض الشارع عن الغسل و الاكتفاء بغيره بدله أو اكتفاؤه بغسل ظاهره لطهارة باطنه تبعا من غير تحقق الغسل- إلا بعض الروايات، كرواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله» «1» و قريب منها خبر السكوني «2».

بدعوى أن مقتضى إطلاقها إمكان غسل اللحم مطلقا سواء كان مما ينفذ

______________________________

(1) مرت في ص 178.

(2) مرت في ص 381.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 464

فيه الماء أو لا، فتدل على جواز غسل مطلق اللحوم بل مطلق أجسام نحوها بماء كثير أو قليل يمر على ظاهرها، و طهارة باطنها بتبعه، و عدم لزوم مرور الماء أو سرايته و نفوذه الى باطنها، فان اللحم الذي يكون رطبا و لزجا و قد رسب فيه الماء المتنجس لا يرسب فيه الماء حتى يتحقق الغسل بالنسبة إلى باطنه، فالأمر بغسله و أكله دليل على أن غسل

ظاهره كاف في طهارته ظاهرا و باطنا.

و فيه أن ما ذكر وجيه لو لم يقبل باطن اللحوم مطلقا غسلا، و أما مع قبول كثير من أفرادها فلا وجه له، لأن الأمر بغسل اللحم و أكله لا يدل على قبول كل لحم ذلك، كما هو واضح. فهل يمكن أن يقال إن قوله: «اغسل ثوبك من البول وصل فيه» يدل على قبول كل ثوب الغسل؟ فلو فرض عدم إمكان غسل باطن ثوب لعارض يكتفى بظاهره و يصلى فيه، بل لأحد أن يقول: إن الروايتين بما أنهما تدلان على توقف جواز الأكل على الغسل الذي أمر عقلائي معهود دالتان على أن ما لا يمكن غسله لا يجوز أكله، فلا يجوز أكل مثل الشحم و بعض أقسام اللحوم الذي لا يرسب فيه الماء و لا يمكن غسله.

مضافا إلى أن في إطلاقهما لصورة العلم بنفوذ النجاسة إلى باطن اللحم مع ندرة حصوله اشكالا، بل لعل الجمع بين افادة لزوم الغسل فيما يمكن غسل باطنه و الاكتفاء بغسل الظاهر عن الباطن و طهارته تبعا بلفظ واحد غير ممكن، و كالجمع بين اللحاظين المختلفين، فتدبر.

و الانصاف ان القول بتبعية الباطن للظاهر التي هي خلاف القواعد المحكمة بمثل هاتين الروايتين اللتين على خلاف المطلوب أدل مما لا يمكن مساعدته، و أضعف منه التمسك بمرسلة الكاهلي، و فيها «كل شي ء يراه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 465

ماء المطر فقد طهر» «1» بدعوى عدم الفصل بينه و بين سائر المياه حتى الماء القليل من هذه الجهة، و مرسلة العلامة في غدير الماء «2» مع الدعوى المذكورة، و ذلك لمنع اصابة ماء المطر و اصابة الكر بواطن الأشياء، بل ما أصابها

هو الرطوبة، و هي غير الماء عرفا، مع ضعف مرسلة العلامة، و عدم الجابر لها. و عدم ثبوت الإجماع على الملازمة، سيما مع القليل.

و أغرب منه التمسك بمرسلة الصدوق الحاكية لوجدان أبى جعفر عليه السلام لقمة خبز في القذر فأخذها و غسلها ليأكلها فأكلها غلامه «3» لأنها قضية شخصية لا يعلم كيفية قذارة الخبز، بل لا يعلم تأثره من القذر فضلا عن العلم بقذارة باطنه، و يتلوه في الضعف التشبث برواية طهارة طين المطر إلى ثلاثة أيام «4» و نحوها مما هي أجنبية عن المقام، مع أن في المطر كلاما ربما يلتزم فيه بما لا يلتزم في غيره.

فتحصل مما ذكر أن في كل جسم من المذكورات تحقق الغسل بما هو معتبر فيه لإزالة النجاسة و لو بجعله مرة أو مرات في الماء العاصم لينفذ الماء المطلق الى باطنها و يخرج منه صار طاهرا، و إلا فمجرد وصول الرطوبة و لو من الماء العاصم اليه لا يوجب الطهارة.

و دعوى وحدة الماء مع الرطوبة التي في الجوف غير مسموعة أولا و غير مفيدة للطهارة ثانيا كما مر، و أوضح منها فسادا دعوى أن المناط في التطهير على صدق نفوذ الكر فيه و وصول الماء المطلق الى باطنه، و لا ملازمة بينه و بين إطلاق اسم الماء عليه، فإنه لو سرت نداوة الماء الى

______________________________

(1) مرت في ص 452.

(2) مرت في ص 453

(3) راجع الوسائل- الباب- 39- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1

(4) راجع الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 466

خارج الإناء يطلق عرفا ان ماءه نفذ فيه و خرج منه إطلاقا حقيقيا، لكن لو لوحظ الأجزاء

المائية السارية فيه بحيالها لا يطلق عليها اسم الماء لاستهلاكها في الظرف، انتهى.

إذ لم يتضح كيف لا يصدق على ما سرى فيه الماء، و مع ذلك صدق نفوذ الماء فيه و وصول الماء المطلق الى باطنه، و أنه غسل باطنه بالماء مع كون الرطوبة غير الماء عرفا، و هل هذا إلا تناقض ظاهر؟! و مجرد لحاظ الأجزاء تارة مستقلا و أخرى تبعا لا يوجب صيرورة الرطوبة ماء و الماء رطوبة، و ليت شعري ما الداعي إلى هذه التكلفات البعيدة عن الواقع و الأذهان لإثبات أمر لا دليل عليه، و أي دليل على قبول كل شي ء التطهير، فالأقوى ما تقدم.

و يظهر مما مر في كيفية غسل المتنجسات أنه لو تنجس الأرض تصير طاهرة بإمرار الماء القليل عليها و إخراج الغسالة، و لا يكفي صبه عليها من غير الإمرار و الإخراج، و رواية أبي هريرة «1»- مع كونها ضعيفة و تسميتها مقبولة غير مقبولة و مجرد تمسك شيخ الطائفة بها إرغاما للقوم لا يوجب مقبوليتها- فيها نقل قضية مجهولة لا يعلم كيفيتها، لاحتمال أن الأعرابي بال عند باب المسجد بحيث صار صب ذنوب من الماء عليه موجبا لخروج غسالته عن المسجد.

المطلب الخامس: يعتبر في تطهير البول

اشارة

- عدا ما استثني- بالماء القليل الغسل مرتان من غير فرق بين الثوب و الجسد، لتظافر الأخبار عليه كصحيحة محمد بن مسلم

______________________________

(1) راجع عمدة القارئ شرح البخاري للعيني ج 1 ص 884.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 467

عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن البول يصيب الثوب، قال: اغسله مرتين» «1» و نحوها صحيحة ابن أبي يعفور «2» و صحيحة الحسين بن أبي العلاء المتقدمة «3».

و صحيحة البزنطي المنقولة عن جامعه

قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين، فإنما هو ماء، و سألته عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله مرتين» «4».

و صحيحة أبي إسحاق النحوي ثعلبة بن ميمون الثقة على الأصح عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن البول يصيب الجسد، قال: صب عليه الماء مرتين» «5».

فالتفصيل بين الثوب و غيره بلزوم المرتين في الأول و الاكتفاء بالمرة في الثاني للخدشة في أسناد ما دل على المرتين في الجسد ضعيف، لصحة الروايات المتقدمة و وثاقة رواتها على الأصح، مع أن الحكم مشهور بين الأصحاب، كما عن البحار و المدارك و الكفاية، و عن المعتبر نسبته إلى علمائنا، و عن الذخيرة أن عليه عمل الطائفة، و ليس لهم مستند غيرها، فأسنادها مجبورة لو فرض ضعفها.

و توهم أن حمل أخبار المرتين على الاستحباب أولى من رفع اليد عن إطلاق الروايات الكثيرة المقتصرة على الأمر بالغسل مؤيدة بما دل على الاكتفاء بالمرة في الاستنجاء بعد عدم الفارق عرفا بينه و بين غيره فاسد، لعدم الإطلاق في الأخبار، لأن كلها أو جلها في مقام بيان أحكام أخر، فلا إطلاق فيها كما تقدم في غسل الفراش، لكونها في مقام بيان كيفية غسل الفراش لا حال البول.

فقوله عليه السلام في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود: «يغسل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

(3) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(4) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

(5) الوسائل- الباب- 1- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 468

ما ظهر منها في وجهه» «1» يراد منه أنه يكتفى

بغسل ظاهره، و لا يجب إخراج حشوه أو غسله، لعدم الاحتياج إليه و عدم الابتلاء إلا بظاهره، فلا إطلاق فيها، و كذا الحال في غيرها.

نعم لا يبعد الإطلاق في صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «2» على إشكال فيه، لاحتمال كونه بصدد الفرق بين بول ما يؤكل و ما لا يؤكل، لا بصدد كيفية الغسل، و لو فرض الإطلاق في بعضها فيقيد بالمستفيضة الدالة على وجوب التعدد، و التأييد بما في باب الاستنجاء في غير محله، فإنه لو التزمنا فيه بكفاية المرة فلا يمكن إلقاء الخصوصية بعد ما نرى فيه من التخفيف ما ليس في غيره.

ثم أن الظاهر منها أن المعتبر في كل غسلة هو إخراج الغسالة على النحو المتقدم، و أما الاكتفاء في الغسلة الأولى بإزالة العين كيف ما اتفقت فخلاف ظاهر الأدلة، حتى بناء على أن قوله: «مرة للإزالة و مرة للإنقاء» من تتمة رواية ابن أبي العلاء المحكية في المعتبر «3» و الذكرى «4» فان الغسل للإزالة بنظر العرف هو بإمرار الماء و إخراج غسالته لا الإزالة كيف ما اتفقت، فالمأمور به الغسل للإزالة لا الإزالة كما لا يكتفى بالإنقاء كيف ما اتفق، فكما أن الغسل للإنقاء لا يقتضي و لو بغير الغسل فكذا للإزالة، سيما مع الارتكاز بأن للماء خصوصية و أن للغسل لإزالة النجاسة لديهم كيفية معهودة.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(3) في أحكام النجاسات ص 162.

(4) في البحث الثالث من أحكام النجاسات ص 15.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 469

هذا

كله مع أن الوثوق حاصل بعدم كون هذا الذيل من تتمة الحديث. بل هو من اجتهاد الناقل، لعدم وجوده في شي ء من كتب الحديث، كما هو المحكي و المشاهد.

هذا كله حال بول غير الصبي، و أما بوله فالظاهر عدم اعتبار تعدد الصب فيه، لإطلاق صحيحة الحسين المتقدمة. سيما بعد وقوع السؤال عن بوله عقيب السؤال عن البول الذي أصاب الجسد و الثوب، و الأمر فيهما بالصب و الغسل مرتين، إذ لا يبقى معه مجال توهم عدم الإطلاق «1».

بل الظاهر إطلاق صحيحة الحلبي أيضا قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن بول الصبي، قال: تصب عليه الماء، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا» «2» فان الظاهر أن سؤاله كان بعد الفراغ عن كيفية غسل بول غير الصبي، و إنما كان شاكا في كيفية غسل بوله، فقوله عليه السلام: «تصب عليه الماء» لبيان كيفيته، و قوله عليه السلام: «فان كان قد أكل» لبيان غاية الحكم في الصبي، لا لبيان غسل بول غيره حتى يقال كما لم يذكر الكيفية في الثاني لعدم كونه في مقام بيانها فكذا بول الصبي.

و بالجملة أن الظاهر كونه في مقام بيان كيفية غسل بول الصبي الذي هو محط السؤال، فيؤخذ بإطلاقه، لا لبيان كيفية غسل بول غيره، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة، فلا ينبغي الإشكال في

______________________________

(1) هذا بناء على أن تكون الصحيحة رواية واحدة، و أما بناء على ما استظهرناه سابقا من أنها روايات ثلاث فللخدشة في إطلاقها مجال.

(2) مرت في ص 454.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 470

كفاية المرة.

هذا حال الغسل بالماء القليل، و أما الجاري فيكفي فيه مرة واحدة بلا خلاف على المحكي،

و تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله في المركن مرتين، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة» «1».

و يمكن الاستدلال بها للاكتفاء بالغسل في الكر بمرة واحدة بأن يقال: لا إشكال في أن قوله عليه السلام: «في المركن» كناية عن الغسل بالماء القليل، و إلا فالكون في المركن لا دخالة له في الحكم، سيما مع مقابلته للجاري، فكأنه قال: اغسله بالقليل مرتين، و لا ريب في أن لقيد القلة دخالة في إيجاب المرتين، و مفهوم القيد و إن لم يكن حجة في غير المقام لكن فيه خصوصية لا بد من الالتزام بحجيته، و هي عدم كون شي ء آخر صالح للقيام مقام القيد في إيجاب المرتين، فان ما يتوهم إمكان قيامه هو الكثير المقابل للجاري و القليل المذكورين، و هو لا يصلح للنيابة، لأن دخالة القلة في ثبوت حكم لا يمكن مع دخالة الكثرة أيضا، و كون الحكم للجامع بينهما يخالف ظاهر الرواية فلا بد من القول بأن القلة علة منحصرة، و مع فقدها لا يجب المرتين و الأكثر منهما مقطوع العدم، فيجب المرة في غير القليل، و هو المطلوب و انما ذكر أحد مصاديق المفهوم و هو الجاري لنكتة خفية علينا.

و قد قلنا سابقا أن لا مفهوم للقضية الشرطية التي ذكرت تصريحا بالمفهوم، و إن قلنا بالمفهوم في سائر الموارد، هذا مع أن الشرطية في المقام سيقت لبيان تحقق الموضوع، و الوصف لا مفهوم له في غير المقام فضلا عن المقام الذي ذكرت القضية الثانية لبيان مفهوم القيد في

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)، ج 3، ص: 471

القضية الأولى.

فتحصل من ذلك حجية مفهوم القيد في الجملة الأولى دون الثانية فلا تعارض بينهما من حيث المفهوم، و انما ذكر الجاري و هو أحد مصاديق المفهوم لنكتة لعلها كثرة وجوده في بلد السائل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الصحيحة لإثبات المطلوب لكنه محل إشكال، و لو سلم كون المركن كناية عن القلة، لإمكان أن يكون النائب مناب القيد الركود لا الكثرة، فلا يأتي فيه ما تقدم من البيان لا يقال: إن الركود مشترك بين القليل و الكر، فإن الجاري القليل حكمه مرة، فلا معنى لنيابته عنه، فإنه يقال: يمكن أن تكون القلة سببا مستقلا و الجريان مانعا عن تأثيره، و الركود سببا آخر، و انما نسب الحكم في القليل بالقلة لكونها كالوصف الذاتي للماء بخلاف الركود المقابل للجريان، فإنه من الأعراض اللاحقة، و الوصف الذاتي أسبق في التأثير.

هذا مع إمكان أن يقال: إن ذكر المركن ليس للاحتراز، بل لمجرد ذكر قسم من الماء، فحينئذ لأحد أن يعكس الأمر و يقول: إن توصيف الماء بالجاري لدخالته في الحكم، و ليس شي ء ينوب منابه، إذ مقابل الجاري الراكد، و هو لا يصلح للنيابة لعين ما تقدم، فيكون للجملة الثانية مفهوم بعد عدم المفهوم للأولى، و انما ذكر المركن لأنه أحد المصاديق، فتدل الرواية بمفهومها على وجوب التعدد في غير الجاري، لكنه أيضا محل إشكال، لأن الراكد و إن لم يصلح للنيابة لكن الكثير يمكن أن ينوب عن الجاري، سيما مع التناسب بينهما، و لكن الإنصاف أن إثبات حكم المرة أو المرتين في الكر بهذه الرواية في غاية الاشكال، و الظاهر سكوتها عن حكم الكر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 472

و أما الاستدلال على الاكتفاء بالمرة بمرسلة العلامة المتقدمة عن أبي جعفر عليه السلام مشيرا إلى غدير: «إن هذا لا يصيب شيئا إلا طهره» «1» بدعوى انجبار سندها بالشهرة، و أقوائية دلالتها مما وردت في غسل البول مرتين لأنها بالعموم و تلك بالإطلاق، بل الإطلاق أيضا صار موهونا بخروج الجاري منها، بل يمكن إنكار دلالتها إلا على القليل لكثرة القليل و قلة الكثير في تلك البلاد، سيما مع مقابلة الغسل للصب فيها و مصبه القليل.

ففيه منع جبر السند بعمل المتأخرين مع عدم ثبوت الاشتهار بالعمل بها حتى منهم، و منع أقوائية دلالتها، لأنها بالإطلاق أيضا لا العموم كما قرر في محله. بل للمنع من أقوائية العموم من الإطلاق مجال و خروج الجاري لا يوجب وهنا في الإطلاق لو لم نقل بإيجابه القوة، و لا مجال لإنكار إطلاقها حتى فيما اشتملت على الصب فضلا عن غيرها و قلة الكثير في بلد السائل كابن مسلم و أبي إسحاق و ابن أبي يعفور الكوفيين كما ترى.

و الاستدلال عليه بروايات ماء الحمام كقوله عليه السلام: «هو بمنزلة الماء الجاري» «2» و قوله: «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» «3» فرع إثبات عموم التنزيل، و هو ممنوع، لأن الناظر في الروايات لا ينبغي أن يشك في أن التنزيل في عدم الانفعال، و تقوي بعضه ببعض آخر، و تطهير المادة الحياض كما هو الظاهر من الأسئلة و الأجوبة، فلا دلالة مع عمومه، سيما مع كون المعهود ذلك.

______________________________

(1) مرت في ص 453.

(2) راجع الوسائل- الباب- 7 من أبواب الماء المطلق الحديث 1.

(3) راجع الوسائل- الباب- 7 من أبواب الماء المطلق الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 473

و دعوى إلقاء الخصوصية عرفا من قوله عليه السلام: «فان غسلته بالماء الجاري فمرة واحدة»- فإن الاكتفاء فيه بها ليس إلا لقاهريته و استهلاك النجاسة فيه، و لا دخالة للمادة و الجريان فيه، بل ربما يدعى القطع بالمساواة- فيها ما لا يخفى، لعدم مجال لإلقائها عرفا بعد ما نرى أن للجاري خصوصية عرفا و لدى العقلاء، و من هنا لا ظنّ بالمساواة فضلا عن القطع به، سيما مع ما في الأحكام من المناطات التي تقصر العقول عن إدراكها.

و لقد أطنب المحقق صاحب الجواهر و أكثر في الاستدلال على الاكتفاء و لم يأت بشي ء مقنع يمكن التشبث به في مقابل الإطلاقات و الأصل.

ثم أن مقتضى الأدلة عدم الفرق بين بول الإنسان و غيره من الحيوانات غير المأكولة، و دعوى الانصراف و عدم الإطلاق ضعيفة، كما لا يتوهم فيما ورد في الدم و غيره مع كونهما من قبيلة أو أسوأ حالا، بل لا يبعد استفادة حكم سائر الأبوال لو فرض السؤال عن بوله الذي أصاب ثوبه، فإنه كما تلقى الخصوصية من الثوب عرفا تلقى من البول، فيقال: إن الحكم لطبيعة البول لا لبول نفسه أو نوعه، تأمل.

مضافا إلى أنه لا قصور في إطلاق صحيحة ابن مسلم و أبي إسحاق و ابن أبي يعفور و غيرها، و الظاهر منها أن الحكم لنفس طبيعته، و قلة الابتلاء ببول غير الإنسان و كثرة الابتلاء ببوله لا توجب الانصراف كما لا تنصرف سائر المطلقات عن الإفراد القليلة الابتلاء بها، مع منع قلة الابتلاء عن بعض الأبوال.

مضافا الى موثقة سماعة قال: «سألته عن أبوال الكلب و السنور و الحمار و الفرس، فقال: كأبوال الإنسان» «1» و مقتضى عموم

التشبيه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 8- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 474

أن حد قذارتها كقذارة بوله، فلا بد من غسلها مرتين، و حمل الحكم في الحمار و الفرس على محمل كالتقية و نحوها لا يوجب رفع اليد عن غيره و الظاهر أن ذكر الكلب و السنور من باب المثال لكل ما لا يؤكل، و لو نوقش فيما ذكر ففي الإطلاقات كفاية، كما أن مقتضى إطلاقها لزوم الغسل مرتين و لو بعد جفاف البول أو زواله بغير الماء، و كذا مقتضاه عدم لزوم كونهما بعد زوال العين إذا فرض زوالها بالغسلة الأولى.

و بالجملة ما يعتبر فيه هو المرتان، سواء كانت عين البول زائلة بشي ء آخر أو زالت بإحداهما فيضم إليها الأخرى و يكتفى بهما و القول بالاكتفاء بالمرة مع زوال العين و لو بالجفاف أو بغير الماء- بدعوى أن الغسلة الأولى للإزالة، فإذا تحققت لا يحتاج إليها، بل يطهر مع مرة كما هو مقتضى ذيل صحيحة الحسين على نقل المحقق و الشهيد- ضعيف لعدم الدليل على كون الأولى لمجرد الإزالة بأي نحو اتفقت، بل لا دليل على كونها لها مطلقا، و قد مر الكلام في حال ذيل الصحيحة، بل قلنا أنه مع فرضه أيضا لا ينتج، فمقتضى إطلاق الأدلة لزومهما جف أولا أزيل بغير الغسل أولا، كما أن القول بكفاية المرتين و لو لم تزل العين بالأولى ضعيف جدا، فان فرض حصول الغسل بالأولى و بقاء عين البول فرض غير واقع أو نادر جدا، و لو فرض تحققه في بعض الأحيان كما إذا تكرر البول في شي ء و رسب و بقي جرمه و رسوبه فيه فلا يطهر إلا

بالدلك و إزالة العين ثم غسله مرتين، و يكفي ضم غسله إلى الغسلة المزيلة.

و قريب منها في الضعف دعوى كفاية التقدير في الغسلتين بمعنى الاكتفاء بالصب المستمر بقدر الغسلتين بدعوى أن الأمر بالمرتين لحصول النظافة، و هي تحصل بالاستمرار، بل ربما يكون ذلك أوقع في التنظيف بل لا دخالة لقطع الماء جزما، و ما هو المزيل و المطهر جريان الماء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 475

و قاهريته، و قد حصلا بالاستمرار، و فيها أن تلك الدعاوي لا توجب رفع اليد عن ظاهر الأخبار المستفيضة، و دعوى الجزم بالمناط في غير محلها في الأحكام التعبدية.

فالأقوى اعتبار التعدد و لو في الكر بناء على اعتباره فيه، و لا يكفي الجري تحت الماء مرتين إلا إذا حصل تعدد الغسل عرفا، كما لا يبعد حصوله بعض الأحيان، تأمل.

فرع: هل يختص اعتبار التعدد بغسل البول

فيكفي في غيره غسله مرة واحدة أم يجري في سائر النجاسات؟ الأقوى الأول كما نسب إلى الأكثر بل المشهور، لا لإطلاق الأدلة، لعدم الإطلاق في جميع الأنواع بل يتطرق الإشكال في كثير من الموارد التي ادعي فيها الإطلاق، نعم لا يبعد في بعضها، لكن كفايته بالنسبة إلى ما لا إطلاق فيه مشكلة، و دعوى عدم القول بالفصل غير متجهة.

و ما يمكن دعوى الإطلاق فيها بالنسبة إلى جميع النجاسات ليست إلا مرسلة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام: «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام، إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله، و إن كان الطريق نظيفا لم تغسله» «1» بدعوى أن قوله عليه السلام: «فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله» يراد

به أنه إذا نجسه شي ء من النجاسات و مقتضى إطلاقها كفاية المرة في مطلق النجاسات إلا ما خرجت بالدليل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 75- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 476

لكنها مشكلة بل ممنوعة، فإنه بعد الغض عن كونها في مقام بيان حكم آخر فلا إطلاق فيها من هذه الجهة أن ظاهرها لزوم الغسل بعد ثلاثة أيام في فرض عدم العلم، و إلا فلا وجه للفرق بين ثلاثة أيام و بعدها، فلا بد من حمل الأمر على الاستحباب بعد المخالفة للقواعد، و الظاهر عدم التزامهم بمضمونها، مع أنها ضعيفة أيضا، و أما غيرها ففي موارد خاصة لا يمكن إلحاق غيرها بها بدعوى إلقاء الخصوصية بعد اعمال التعبد في بعض الموارد كالبول و الولوغ.

و لا لأصالة البراءة عن الغسلة الثانية- بدعوى أن النجاسة في الحكميات انتزاعية من التكليف، فمرجع الشك في زوالها إلى الشك في لزوم المرة أو المرتين، فتدفع الثانية بالأصل و لا يجري الاستصحاب- إذ هي ضعيفة مخالفة لظواهر الأدلة، و لقد قلنا سابقا أنه ليس للشارع المقدس في باب النجاسات اصطلاح خاص، و قد تصرف فيها بالإلحاق و الإخراج، فالقذارة كما لدى العرف و العقلاء أمر قائم بالجسم باق فيه إلى أن تزول بمزيل و لو في المعنوي منها بنظرهم، فكذلك لدى الشارع، و مع الشك في بقائها يجري الاستصحاب، و لا مجال لجريان أصالة البراءة.

و بالجملة للقذارة مصداقان عرفي و جعلي وضعي، و لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب فيها كما في أشباهها.

و لا لقوله عليه السلام: «خلق اللّٰه الماء طهورا لا ينجسه شي ء» «1» ضرورة عدم الإطلاق فيه للمقام، و مثله أجنبي عنه.

بل لأن

الطهور و إزالة النجاسة لما كانا أمرين معلومين لدى العقلاء، و تكون كيفية حصولهما معهودة معروفة لديهم، و لهم طريقة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 477

عقلائية معمولة فيهما، و حصول الطهور و هو إرجاع الأمر المتلوث بالقذارة إلى حالته الأولية و نظافته الذاتية أمر معلوم لدى كل أحد، فلا محالة إذا حكم الشارع بعدم جواز الصلاة في الثوب المستقذر بالمني أو الدم مثلا حتى إذا طهر لا يشك العرف في كيفية رفع قذارته و حصول الطهارة له، فإذا تحقق لا يرى العقلاء بقاء المانع أو عدم حصول الشرائط إلا أن دل دليل على الخلاف.

و إن شئت قلت: إن ذلك نظير بناء العقلاء على العمل بشي ء، فإذا لم يرد منع عنه يكشف عن ارتضاء الشارع به، بل هو أولى من ذلك، فإنه أمر تكويني حاصل بالوجدان، فإذا قال الشارع: إن الثوب النجس بالبول أو الدم لا يجوز الصلاة فيه حتى يتطهر لا يشك العرف في كيفية تطهره و إرجاعه إلى حالته الأولى، إلا أن يرد تعبد خاص من الشارع يردعه عما هو المعلوم عنده، و إن شئت سمّ ذلك بالإطلاق المقامي، بل هو أوضح عنده، و لهذا لم يرد في شي ء من الأدلة إلا فيما فيه تعبد خاص بيان كيفية الغسل إلا نادرا، و ليس ذلك إلا لعدم الاحتياج إليه كعدم الاحتياج إلى بيان سائر الموضوعات المعلومة لدى العرف.

هذا مضافا إلى إمكان الاستدلال للمطلوب بكفاية المرة في ملاقي الكلب، لإطلاق أدلة غسله، كصحيحة الفضل قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، و إن أصابه جافا

فاصبب عليه الماء» «1».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل، قال: يغسل المكان الذي

______________________________

(1) مرت في ص 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 478

أصابه» «1».

و في حديث الأربعمائة عن علي عليه السلام قال: «تنزهوا عن قرب الكلاب فمن أصاب الكلب و هو رطب فليغسله، و إن كان جافا فلينضح ثوبه بالماء» «2» إلى غير ذلك مما لا ينبغي الإشكال في إطلاقها سيما صحيحة ابن مسلم، فان السامع إذا سمع مثل ذلك يفهم منه أن تحقق الغسل كاف في رفع القذارة، سيما مع كون الغسل من القذارات معهودا عندهم.

فإذا ضم إلى ذلك موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها يجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هم شرهم، فان اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و إن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «3» يستفاد منها أن سائر النجاسات التي لا تكون بمثابة نجاسة الكلب تطهر بمرة إلا ما ورد دليل على عدم الاكتفاء بها، فيستكشف منه أقذريته من الكلب، و استثناء شي ء منها موضوعا أو حكما لا مانع منه.

و توهم عدم ملازمة الاقذرية لما ذكر مدفوع بمخالفته لفهم العرف نعم لا يلزم أن يكون ملاقي الأقذر محتاجا إلى مرتين، لإمكان أن تكون المرة مزيلة لتمام مراتب النجاسة.

و لا ينبغي الإشكال في أن النجاسة المذكورة في الرواية هي المعهودة بقرينة صدرها لا القذارة المعنوية، و المراد من غسالة الحمام فيها هي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب

النجاسات- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 11.

(3) مرت في ص 305.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 479

ماء البئر الذي يكون من فضالة ماء الحياض التي لها مادة من المنابع التي في الحمامات، فان الظاهر من مجموع ما وردت في الحمامات أن لها في تلك الأعصار منابع محفوظة لها مزملة، و تحت المزملات حياض صغار متقويات بتلك المنابع بوسيلة المزملات، و كان يغتسل الناس في تلك الحياض و تجري فضالتها إلى محل آخر يقال له البئر.

فما وردت من عدم انفعال ماء الحمام و انه بمنزلة الجاري «1» يراد به ما في الحياض الصغار المتقوية بالمنابع التي يقال لها المادة، و ما بمضمون الموثقة يراد به ماء البئر الذي غير متقو بالمادة، فلا منافاة بينها حتى نحتاج الى حمل هذه الطائفة على الاستحباب كما صنع صاحب الوسائل، و خرجت عن الاستشهاد بها للمقام، و دعوى اختصاص أقذرية الكلب بولوغه أو أنه أقذر بلحاظها مخالفة لظاهر الدليل كما لا يخفى.

و أما الاستدلال للزوم المرتين في سائر النجاسات بقوله عليه السلام في البول: «انما هو ماء» «2» مع لزوم المرتين فيه فإذا وجب الغسل في الأهون مرتان يجب في غيره كالمني الذي شدده و جعله أشد من البول كما في الحديث فضعيف، لأن قوله عليه السلام: «هو ماء» يراد به عدم لزوم الدلك لا أهونية نجاسته، كما يراد بأشدية المني احتياجه إليه لا أقذريته من البول، و لهذا قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام على ما في حديث في إبطال القياس ردا على أبى حنيفة: «أيهما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال: البول، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام فما بال الناس

يغتسلون من الجنابة و لا يغتسلون من البول» «3» و الظاهر أن

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 7- من أبواب الماء المطلق.

(2) مر في ص 467.

(3) الوسائل- الباب- 2- من أبواب الجنابة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 480

أرجسية البول كان متسالما بينهما، و إن احتمل كونها عند أبي حنيفة و ألزمه بما هو مسلم عنده.

ثم أن الظاهر كون المرة في سائر النجاسات غير الغسلة المزيلة لا بمعنى لزوم مرة بعدها، بل بمعنى إمرار الماء على المحل بعد الإزالة و لو باستمرار الغسلة المزيلة، فان التطهير و ازالة القذارة لدى العرف معهودان، و إطلاقات الغسل محمولة على ما هو المعهود، و هما متقدمتان على ما مر بما ذكر فلا مجال للأخذ بإطلاق الأدلة.

و يظهر مما مر آنفا من أن الغسل للإزالة معهود أنه لا عبرة باللون و الريح و نحوهما مما لا تعد لدى العرف من أعيان النجاسات، فغسل الدم من الثوب ليس إلا إزالة عينه بالماء بالطريق المعهود، و اللون ليس بدم عرفا و ليس بنجس، و لا يحتاج في تطهير الدم إلى إزالته، و لا عبرة بحكم العقل البرهاني ببقاء العين حتى في الرائحة، و لا بالآلات المستحدثة المكبرة للاجزاء الصغار حتى يرى بتوسطها الألوان أعيانا، و هذا واضح لا يحتاج إلى تجشم استدلال بعد وضوح كون المشخص لموضوعات الأحكام مفهوما و مصداقا هو العرف العام.

و أما الروايات المستدل بها للمطلوب فلا تخلو دلالتها عن نوع مناقشة، لأن صحيحة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه السلام قال:

«قلت له: إن للاستنجاء حدا، قال: لا حتى ينقى ما ثمة، قلت:

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)،

3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 480

فإنه ينقي ما ثمة و يبقى الريح، قال: الريح لا ينظر اليه» «1».

يحتمل فيها أن يكون الحكم من مختصات الاستنجاء، و لا يجوز إلقاء الخصوصية بعد اختصاصه بالأحكام و تخفيفات لا تعم غيره، نعم لو أراد بقوله عليه السلام: «الريح لا ينظر إليه» أنه ليس بشي ء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 481

يمكن أن يقال باستفادة الحكم الكلي منه. و أما إن أراد منه أنه لا بأس به فالاستفادة مشكلة.

و منه يظهر الكلام في مرسلة الصدوق في الريح الباقي بعد الاستنجاء «1» و أما ما ورد من نفي الشي ء عليه من الشقاق فلعله لكونه من البواطن كباطن الأنف، بل هو أولى منه.

و رواية علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليه السلام قال: «سألته أم ولد لأبيه- إلى أن قال-: قالت أصاب ثوبي دم حيض فغسلته فلم يذهب أثره، فقال: اصبغيه بمشق «2» حتى يختلط و يذهب أثره» «3» فمع ضعفها على خلاف المطلوب أدل، لاحتمال أن يكون بصدد بيان العلاج لرفع الأثر و صيرورته طاهرا، ضرورة أن مجرد الاختلاط لا يذهب بالأثر، بل لا بد من غسله حتى يذهب، و السكوت عنه لمعلوميته، و الحمل على أمر عادي لا حكم شرعي خلاف المعهود من شأن المعصوم عليه السلام.

و عليها يحمل إطلاق قول أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «قل لها تصبغيه بمشق حتى يختلط» «4» و مرفوعة الأشعري قال: «اصبغيه

______________________________

(1) قال: «سئل الرضا عليه السلام عن الرجل يطأ في الحمام و في رجله الشقاق فيطأ البول و النورة فيدخل

الشقاق أثر أسود مما وطأ من القذر و قد غسله كيف يصنع به و برجليه التي وطأ بهما؟

أ يجزيه الغسل أم يخلل أظفاره (بأظفاره) و يستنجي فيجد الريح من أظفاره و لا يرى شيئا؟ فقال: لا شي ء عليه من الريح و الشقاق بعد غسله» راجع الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 6

(2) المشق: الطين الأحمر.

(3) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 482

بمشق، فان الاختلاط بغير الغسل بعده لا يذهب بالأثر» «1».

فالاستدلال بتلك الروايات لإثبات عدم العبرة مشكل، و لإثبات العبرة بها أشكل بعد ضعف أسنادها و مخالفتها للسيرة القطعية في تطهير الأشياء و معهودية كيفية التطهير، و أشكل منها الاستدلال بضعيفة القسمي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «أنه سأل عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف قال: لا تصل فيها، فإنها تدبغ بخرء الكلاب» «2» لأن الظاهر النهي عنها لنجاستها الحاصلة من ملاقاة الخرء كقوله: «لا تصل في الثوب الكذائي، لأنه أصابتها الخمر» فلا تدل على عدم تطهرها بالغسل بالماء، مع أن ظاهرها النهي عن الصلاة في الخف، و هو مما لا تتم فيه الصلاة، و احتمال كون السؤال عن أثواب أخر غير الخفاف خلاف الظاهر منها، تأمل.

(فصل) في كيفية تطهير الأواني
اشارة

و فيها مسائل:

الأولى: اختلفت كلمات الأصحاب في كيفية تطهيرها من ولوغ الكلب،
اشارة

فعن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 25- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) مرت في ص 410.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 483

المشهور يغسل ثلاث مرات أولاهن بالتراب. و في الناصريات «الصحيح عندنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات أولاهن بالتراب- ثم قال بعد كلام- لا خلاف بين الأصحاب في التحديد بوجوب الثلاث» و الظاهر منه عدم الخلاف في الثلاث على الكيفية المتقدمة، سيما مع قوله: «الصحيح عندنا» و ادعى الإجماع عليها في الغنية.

و على ما في الناصريات يحمل ما في الانتصار، و هو قوله:

«مما انفردت الإمامية إيجابهم غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات إحداهن بالتراب» و كذا ما في الخلاف «أي ثلاث مرات إحداهن بالتراب» بقرينة قوله في النهاية: «إحداهن- و هي الأولى- بالتراب» فهي مفسرة لما في الخلاف، بل يمكن رفع الإجمال عنه بإجماع الناصريات، إذ من البعيد أن يكون مراد الشيخ الإجماع على عنوان إحداهن في مقابل دعوى السيد، كما أنه من البعيد دعوى ابن زهرة الإجماع على أن أولاهن بالتراب مقابل دعوى الشيخ الإجماع على الإطلاق.

فلا ينبغي الإشكال في أن مراد الجميع حتى الصدوقين واحد، و هو كون الأولى بالتراب، كما تدل عليه صحيحة البقباق الآتية، كما لا إشكال في اعتبار العدد، للإجماع المتقدم، و عدم نقل خلاف من أحد منا، فيقيد به إطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء» «1» لو فرض لها إطلاق مع إمكان الخدشة فيه، بأن يقال: إنها بصدد بيان أصل نجاسة الكلب لا كيفية الغسل، و انما أمر به إرشادا لنجاسته، تأمل.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12-

من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 484

و إطلاق صحيحة الفضل أبي العباس عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال في الكلب: «رجس نجس لا يتوضأ بفضله، و اصبب ذلك الماء، و أغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1» و يحتمل بعيدا عدم الإطلاق فيها بدعوى كونها بصدد بيان الترتيب بين الغسل بالتراب و الغسل بالماء، فلا إطلاق لها من جهة العدد، هذا مع أنها منقولة في الخلاف في أول مسائل الولوغ مع زيادة «مرتين» بعد قوله: «ثم بالماء» و إن نقلها في مواضع أخر منه و كذا في التهذيب بغير الزيادة، و في المعتبر و المنتهى مع الزيادة، و عن المختلف بلا زيادة، و عليه لا وثوق بإطلاقها، بل يمكن كشف الزيادة من شهرة القول بالعدد بين قدماء أصحابنا، بل استدل الشيخ في التهذيب و الخلاف بها على لزوم الثلاث، و إن تشبث في الأول عليه بما لا دلالة فيه، و لو لا استدلاله بغيرها لم يبق شك في كون النقيصة من النساخ.

هذا مع ما اشتهر بينهم من تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة. و إن كان للتأمل في أصله مجال، فضلا عن مثل المقام الذي تكرر الحديث بلا زيادة في كتب الأصول و الفروع.

و أما ما قال الشيخ البهائي ردا على من قال بأن الزيادة من قلم النساخ-: «إن المحقق مصدق فيما نقله، و عدم اطلاعنا عليها في الأصول المتداولة في هذا الزمان غير قادح، فان كلامه في أوائل المعتبر يعطي أنه نقل بعض الأحاديث المذكورة فيه عن كتب ليس في أيدي أهل زماننا هذا إلا أسماؤها، ككتب الحسن بن محبوب، و

محمد بن أبي نصر البزنطي «2» و الحسين بن سعيد، و الفضل بن شاذان و غيرهم،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 12- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) هكذا في حبل المتين، و كذا في نسخة غير نقية من المعتبر و الصحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر (منه دام ظله).

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 485

فلعله طاب ثراه نقل هذه الزيادة من بعض تلك الكتب» انتهى- فغير وجيه، لأن الظاهر من الفصل الرابع من مقدمات المعتبر أنه اقتصر في النقل فيه عن كتب المتقدمين على ما نقله الحسين بن محبوب و أحمد ابن محمد بن أبي نصر و الحسين بن سعيد و الفضل بن شاذان و يونس بن عبد الرحمن، و عن المتأخرين على كتب الصدوقين و الكليني و الشيخ و عدة أخرى سماهم، و ليس أبو العباس الفضل منهم. فلم ينقل منه إلا بتوسط الجوامع المتأخرة لا من أصل آخر.

هذا مع أنه لم ينقل لأبي العباس إلا كتاب واحد نقله سعد بن عبد اللّٰه و النجاشي، فلا معنى لنقل المحقق روايته عن أصل آخر غير كتابه، فهو إما ناقل عن كتابه أو من كتاب آخر ناقل عنه أو من التهذيب الناقل عنه، و على أي حال يدور الأمر بين الزيادة و النقيصة في كتاب أبي العباس أو فيما نقل عنه.

و الظاهر أنه حكاها عن التهذيب و الشاهد عليه ان العلامة في المنتهى نقلها مع الزيادة عن الشيخ، فيظهر منه اختلاف نسخ التهذيب بل من البعيد أن يكون كتاب أبي العباس عند المحقق، و كانت الرواية فيها مع الزيادة، و لم يطلع عليها العلامة مع تلمذه عليه، و نقلها بتوسط الشيخ.

و على أي حال

فالاعتماد في الحكم على الإجماع و الشهرة قديما و حديثا في مثل هذه المسألة التعبدية سيما لو كانت الرواية خالية عنها و سيما مع إطلاقها و البناء على إطلاق صحيحة ابن مسلم المتقدمة، فإن ترك أصحابنا إطلاق الصحيحتين و الفتوى بلزوم العدد يوجب الجزم بكون الحكم معروفا بين السلف و الخلف و مأخوذا عن أئمة أهل البيت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 486

عليهم السلام.

و يظهر مما مر ضعف قول ابن الجنيد من لزوم السبعة إحداهن أو أولاهن بالتراب وفاقا للشافعي، و إن أمكن الاستدلال عليه بعد عدم ثبوت الزيادة المتقدمة في صحيحة أبي العباس بتقييد إطلاقها بموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الإناء يشرب فيه النبيذ، قال:

تغسله سبع مرات، و كذا الكلب» «1» و تقييد الغسلات في الموثقة بكون الأولى منها بالتراب، و كذا الكلب بالولوغ، و إن كانت التقييدات سيما الأخيرتان بعيدة.

و كيف كان لا ينبغي التأمل في ضعف ما ذهب اليه بعد عدم موافق له، فالمتيقن حمل الموثقة على الاستحباب، و يتلوه في الضعف قول المفيد، و هو وجوب الثلاث وسطهن بالتراب، و إن قال في الوسيلة به رواية، إذ هي غير ثابتة، و مع ثبوتها شاذة بلا إشكال، فالأقوى ما عليه المشهور.

تنبيهات::
الأول- [اختصاص التعفير بالولوغ]

ظاهر الأصحاب قديما و حديثا عدا شاذ منهم كالصدوقين و المحكي عن المفيد من القدماء، و كالمحكي عن الكركي و صاحبي المدارك و الحدائق من المتأخرين اختصاص الحكم بالولوغ، و هو شربه من الإناء بأطراف لسانه على ما هو المعهود من شربه، و يظهر من اللغة، و هو معقد إجماع السيد و الشيخ و ابن زهرة، و ألحق جمع اللطع بالولوغ، و

ادعى شيخنا المرتضى الشهرة عليه، و هو غير ثابتة، بل الظاهر من قدماء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 487

أصحابنا الاختصاص، و التعدي من بعض المتأخرين، و ألحق الصدوق الوقوع بالولوغ، و هو المحكي عن أبيه موافقا للرضوي.

و الأصل في الحكم صحيحة أبي العباس المتقدمة «1» ففي صدرها «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن فضل الهرة و الشاة- إلى أن قال-: حتى انتهيت الى الكلب فقال: رجس نجس» إلخ، و احتمل بحسب التصور أن يكون «رجس نجس» علة للحكم، فتعمم الى كل رجس و لو كان غير الكلب، و أن يكون علة لكون فضله محكوما بالحكم، فيتعدى الى فضل كل نجس كالخنزير و الكافر، و أن تكون نجاسة الكلب علة فيتعدى من ولوغه إلى مباشرة سائر أجزائه، و أن تكون نجاسته علة لكون فضله محكوما بالحكم، فيختص بالولوغ.

و الحق عدم استفادة العلية منها بحيث يدور الحكم مدارها كائنة ما كانت، بل هو خلاف المقطوع به و ضرورة الفقه، نعم الحكم متفرع على كون الكلب رجسا نجسا، و من المحتمل بل المعلوم أن لمرتبة نجاسته دخالة في ذلك، فاحتمال أن الحكم لمطلق النجس أو لفضل مطلق نجس العين ضعيف، و إن قال الشيخ و بعض من تأخر عنه: إن الخنزير كالكلب، بل في الخلاف هو مذهب جميع الفقهاء، لكن ظاهره فقهاء العامة، و لهذا لم يستدل عليه بالإجماع، بل تشبث بأمرين ضعيفين، فراجع.

فانحصر الاحتمال بالآخرين، و أقواهما الثاني، لعدم فهم العلية بنحو توجب التعدي من فضله إلى مباشرة سائر أجزائه، و عدم إمكان إلقاء الخصوصية عن الفضل لخصوصية ظاهرة في ولوغه ليست

في غيره حتى في لطعه، فان لشربه بأطراف لسانه بكيفية معهودة موجبة لرجوع

______________________________

(1) مرت في ص 484.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 488

المشروب إلى الإناء كرارا قذارة ليست في سائر ملاقياته حتى لطعه بل و لا لعابه، فمن المحتمل أن يكون للشرب كذلك دخالة في الحكم، فلا تلقى الخصوصية عرفا.

فما يقال في اللطع: إنه مساو للولوغ، و لا يفقد شيئا مما يتضمنه من الأمور المناسبة للتنجيس، و في اللعاب: إن المقصود قلعه من غير اعتبار السبب ممنوع، لوضوح الفرق بين الولوغ و مجرد اللطع، فإن الثاني يفقد بعض الخصوصيات المناسبة لشدة الاستقذار مما يتضمنها الأول، كما مرت الإشارة اليه، و عدم الدليل على أن المقصود قلع اللعاب، بل في شربه خصوصية خاصة به.

فالتحقيق قصور الرواية عن إثبات الحكم لما عدا ولوغه، بل لو شرب بغير النحو المتعارف لعلة كقطع لسانه بحيث لم يسم ولوغا لا يلحقه الحكم، و توهم أن الحكم متعلق بالفضل و هو أيضا فضله في غير محله بعد معهودية نحو شربه الموجبة لانصراف الدليل اليه، سيما مع الخصوصية التي في شربه المعهود، و لهذا أخذ الولوغ خاصة في معاقد الإجماعات و ظواهر الفتاوى، مع أن الأصل في الحكم صحيحة أبي العباس و لكن الاحتياط سيما في الأخير و في وقوع اللعاب لا ينبغي تركه.

نعم لا إشكال في أن العرف لا يرى لخصوصية الماء دخالة، بل الظاهر المتفاهم من الدليل أن الشرب الكذائي تمام الموضوع للحكم، فلو كان المشروب لبنا أو غيره من المائعات يلحقه الحكم.

و أما فضله من غير المائعات كاللحم الفاضل منه في الإناء مع ملاقاته له فلا يلحقه الحكم، لقصور الدليل عن إثباته، فهل يلحق

غير الإناء مما يمكن تعفيره بالإناء؟ بأن يقال: إن الإناء غير مذكور في النص، و لو فرض فهمه منه لكن لا يفرق العرف بينه و بين حجر مثلا لو اجتمع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 489

على سطحه الماء و ولغ فيه الكلب، فان الحكم عرفا للولوغ من غير دخالة للمحل فيه، لكن الأقوى الاختصاص كما هو ظاهر الفقهاء و ظاهر معاقد الإجماعات، لأن في الأواني التي مورد استعمال الأكل و الشرب غالبا خصوصية ليست في غيرها، و النظافة المطلوبة فيها ليست مطلوبة في غيرها و لهذا ترى أن الشارع الأقدس اعتبر في كيفية تطهيرها ما لا يعتبر في غيرها، كالغسل ثلاثا من مطلق النجاسات و سبعا من بعضها، فالأقوى اختصاص الحكم بولوغ الكلب في الأواني و نحوها كما هو ظاهر الأصحاب و المتيقن من النص، و طريق الاحتياط واضح.

الثاني- [ما يعفر به الإناء]

هل يعتبر مزج التراب بالماء مع بقاء مسمى التراب، أو يتعين عدم مزجه، أو يعتبر المزج بما يخرجه عن مسماه، أو بمقدار حصول الميعان، أو يعتبر الغسل بالماء مع مزجه بالتراب بما لا يخرجه عن الإطلاق، أو بما يخرجه عنه، أو يجب الجمع بين الأولين، أو هما مع الثالث، أو هي مع ما قبل الأخير، أو يتخير بينها؟ وجوه، بل في بعضها قول، لم يتعرض النص و لا الفتوى في الطبقة الأولى من الفقهاء كالصدوقين و السيد و الشيخين و من في تلك الطبقة أو قريب منها لكيفية الغسل بالتراب، بل اقتصروا بما في النص أي غسله بالتراب.

و عن الحلي و الراوندي لزوم المزج، و لم يظهر من الاستدلال المحكي عن الأول أنه قائل بأي نحو من الامتزاج، قال: «إن الغسل

بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه و من الماء لا يفرد أحدهما عن الآخر، إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا، لأن حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول، و التراب وحده غير جار» انتهى، و لا يبعد إرادته المزج بمقدار حصول الميعان، و يظهر من التذكرة أنه عند القائل بالامتزاج الاكتفاء بامتزاج لا يخرج الماء عن إطلاقه مسلم قال: «التاسع إن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 490

قلنا بمزج الماء بالتراب فهل يجزى لو صار مضافا؟ إشكال».

ثم أن أردأ الوجوه الوجه الثالث و ما هو نظيره بحسب ظاهر النص، لأنه موجب لرفع اليد عن مفهوم الغسل و مفهوم التراب و مفهوم الغسل بالتراب جميعا، و دعوى كونه موافقا لفهم العرف من اضافة الغسل الى التراب فاسدة، كما يأتي الإشارة إليه، ثم الوجه الخامس لأنه و إن كان موجبا لحفظ ظهور الغسل لكن موجب لرفع اليد عن ظهور التراب و ظهور الظرف في اللغوية و تعلقه بالغسل، و عن ظهور المقابلة بين الغسل بالتراب و الغسل بالماء في المغايرة و صرف كون أحد الماءين خالصا و الآخر مخلوطا بما لا يخرجه عن الإطلاق لا يوجب مقابلته للغسل بالماء، بل في مثله لا بد من مقابلة القراح بالمخلوط، و ظاهر النص خلافه، فحفظ ظهور الغسل موجب لارتكاب مخالفات للظواهر المتقدمة و أما الاحتياط بالجمع بين الاثنين فما زاد فلزومه يتوقف على التوقف في فهم النص. و الظاهر المتفاهم منه عرفا بالمناسبات المغروسة في الأذهان- من كون الغسل بالتراب لقلع اللزوجة الحاصلة للإناء من لعاب الكلب الخارجة من فمه بواسطة الولوغ، أو لأجل رفع القذارة الشديدة التي حصلت به- أن المراد من ذلك التعفير، و وضع

التراب في الإناء، و دلكه عنيفا حتى يقلع الأثر أو يدفع الاستقذار منه و هذا هو الموافق لفهم العرف في محاوراتهم و مقاولاتهم.

و بعبارة أخرى كانت الظهورات المتقدمة محكمة لدى العرف على ظهور الغسل لو سلم ظهوره، بل تكون إضافته إلى التراب موجبة لظهوره فيما قلناه.

نعم مقتضى إطلاق الرواية عدم الفرق بين التراب اليابس أو مع المزج بمقدار لا يخرجه عن مسمى التراب، و كما أن العرف يرى أن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 491

التراب مع مزج ما موجب لقلع القذارة كذلك يرى هذه الخاصة للتراب بلا مزج، كما يشاهد أن دلك التراب أو نحوه يابسا على الأواني موجب لنظافتها جدا، بل لعله أبلغ فيها من الممزوج بالماء، فالأقوى هو التخيير بينهما أخذا بإطلاق النص و معاقد الإجماعات.

ثم أن طريق الاحتياط التام الموجب للعمل بقول جميع الأصحاب أن يغسله أولا بالماء ثم أربع مرات بالتراب أي يابسة و ممزوجة مع بقاء اسمه و ممزوجة مع ميعانه و مزجه بالماء مع بقاء إطلاقه ثم ستة بالماء عملا بقول ابن الجنيد.

و أما ما أفاده الشيخ الأعظم من لزوم العشرة إذا روعي مذهب المفيد مع احتمالات أربعة ثمانية بالتراب بينها غسلة و بعدها غسلة، و إذا روعي مذهب الإسكافي بالسبع صارت الغسلات المتأخرة خمسا فيصير أربعة عشر، انتهى. فيحتاج إلى مزيد تأمل، و إلا فيرد على ظاهره إشكالات.

الثالث- [ما يقوم مقام التراب و التعفير]

حكي عن أبي علي الغسل بالتراب أو ما يقوم مقامه من غير قيد بفقده، و عن التحرير احتمال القيام مطلقا، و عن الشيخ في المبسوط و العلامة في جملة من كتبه قيام ما يشبهه كالأشنان و الصابون و الجص و نظائرها مقامه عند فقده، و

عن الشيخ و جمع آخر أنه مع تعذر التراب سقط اعتباره، و طهر الإناء بغسله مرتين، و لو لا مخافة مخالفة ظاهر الأصحاب و الاحتياط لكان قول أبى علي قويا في النفس، فان النص و ان اقتصر على التراب و كذا ظاهر كلمات الأصحاب لزوم الغسل بالتراب لكن ليس باب غسل القذارات كباب التيمم من الأمور التعبدية التي ليس للعرف طريق الى فهم الملاك منها فإنه أمر معهود معلوم الملاك بل طريق تطهير جملة من الأمور لدى العرف الغسل بالتراب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 492

كالأواني المتلوثة بالدسومات و نحوها مما فيها لزوجة بل استقذار شديد و لم يقتصروا فيها على الغمس في الماء أو الدلك باليد، و مع هذا و ذاك لا ينقدح في ذهن العرف من قوله: «اغسله بالتراب مرة» إلا أن ذكره من باب المثال لكل قالع نحوه، و انما ذكره لكونه كثير الوجود و المتعارف في التعفير، فلو أمر بعض أهل العرف بعضا بغسل إناء دسم بالتراب لا ينقدح في ذهنه أن للتراب خصوصية لا يحصل التنظيف إلا به، و أنه لو غسله بالرماد أو الرمل أو النورة أو الجص و نحوها تخلف عن الإتيان بالمراد.

و توهم أن نجاسة الولوغ أمر معنوي معقول لا يصل إليها العقول و الغسل بخصوص التراب موجب لحصول النظافة عنه بكشف الشارع فاسد و إن كانت نجاسة الكلب بجعل من الشارع، لكن لم تكن إلا كسائر النجاسات الشديدة التي كان لنظافتها طريق معهود.

و بالجملة لما كان التطهير في ارتكاز العقلاء عبارة عن استرجاع الأجسام و الملاقيات للقذارات الى حالتها الأصلية الأولية، و هو يحصل بقلع المادة القذرة بكيفية معهودة عندهم من

التغسيل بالماء في جملة منها و التعفير ثم التغسيل في جملة أخرى لا ينقدح في ذهنهم من قوله:

«اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء مرتين» إلا ما هو المعهود بينهم في التعفير و الغسل فيما يحتاج إليهما، و إلا كان لازم الاقتصار و الجمود على النص وجوب غسله بالتراب الخالص، و عدم كفاية التراب الممزوج بالتبن أو الرمل أو الحصاة في الجملة مثلا، كما أن الأمر كذلك في التيمم بالتراب، فيعتبر أن يكون خالصا من الأجزاء غير الأرضية إلا إذا استهلك فيها، و لا أظن التزامهم به في المقام، و ليس ذلك إلا لما ذكرناه من الارتكاز.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 493

و بالجملة لا ينقدح في الأذهان الخالية عن الدقائق العلمية و الفارغة عن الشبهات المخرجة للنفوس عن السذاجة لفهم المطالب العرفية أن للتراب خصوصية ليست لغيرها، فكما لا يفهم العقلاء من قوله: «رجل شك بين الثلاث و الأربع» أن للرجل خصوصية فلا يكون إسراء الحكم إلى المرأة قياسا كذلك الأمر فيما نحن فيه.

و لو لا مخافة مخالفتهم لقلنا بقيام كل قالع مقامه، لكن الخروج عما قالوا مشكل، بل الخروج عن مورد النص كذلك، فالاقتصار على مورده لو لم يكن أقوى فهو أحوط، سيما في هذه النجاسة المجعولة من قبل الشارع.

و أما سقوط التعفير مطلقا مع فقد التراب و الاقتصار على الغسلتين فغير وجيه جدا، فهو نظير الالتزام بسقوط إحدى الغسلتين إذا فقد الماء إلا لمرة أو سقوطهما مع فقده. كما ان قيام غير التراب مقامه حال الفقدان و العذر كذلك، لأن خصوصية التراب إما معتبرة، فلا تتحقق الطهارة إلا به، و العذر و الفقدان لا يوجبان مطهرية غير المطهر، و

دليل الميسور مع عدم ثبوت جابر له و عدم كون مثل المورد مصبه لا يدل على حصول الطهارة بالميسور، و لهذا لو فقد الماء بمقدار الغسلتين لا يقوم المرة مقام المرتين بدليله.

كما أن مثل المورد ليس مجرى دليل الحرج و الضرر، و لا يكون دليلهما مشرعا، و لهذا لو فقد الماء و التراب لا يمكن أن يقال بطهارة الإناء، و هو واضح، فالأوجه من تلك الأقوال قول أبي علي، و إن كان الوقوف على ظاهر النص و كلمات الأصحاب أحوط أو أوجه.

الرابع- لو لم يمكن التعفير،

فهو إما لضيق المجري بحيث لا يمكن معه ذلك و لو بآلة كخشبة رقيقة أو ميل كذلك تجعل رأسهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 494

خرقة ليعفر بها، أو لعدم قابلية المحل ككون الإناء من القرطاس و نحوه أو يلزم منه فساده كآنية منقوشة لو غسلت بالتراب زالت النقوش و فسدت لا شبهة في أن الأخيرة لا تطهر إلا بالتعفير، و زوال النقوش به لا يوجب طهارتها بلا مطهر معتبر، كما لو فرض زوالها بالغسل، فإنه لا يوجب طهارتها بلا غسل، و قد مر ما في التمسك بدليل الحرج و الضرر و أما الأولتان فيمكن القول بقصور دليل التعفير عن إثباته لنحوها أما الأولى فلأن تحقق الولوغ فيها غير معلوم أو معلوم العدم، لأنه عبارة عن شرب الكلب من الإناء بأطراف لسانه بالنحو المعهود، و هو لا يحصل في مثل قارورة ضيقة الفم جدا بحيث لا يمكن إدخال ميل فيه، نعم لو فرض تحققه كما لو كان رأسها وسيعة و عنقها ضيق فالظاهر بقاؤها على النجاسة، و كون تعطيلها حرجا أو ضررا قد مر الكلام فيه و أما الثانية

فلأن سوق الرواية في إناء يمكن تعفيره، فالدليل منصرف عما لا يمكن تعفيره لفقد القابلية، و لهذا اقتصر الفقهاء قديما و حديثا على الأواني، مع أن مورد النص فضل الكلب، و هو صادق فيما إذا ولغ في ثوب اجتمع فيه الماء كعمامة أو قلنسوة، لكن لما لم يكن التعفير و نحوها في الأثواب و نظائرها متعارفا لدى العرف بل لم تكن قابلة له عرفا لم يفهم من النص غير الأواني القابلة له.

فالأقوى في مثل الآنية غير القابلة ذاتا للتعفير عدم لزومه، و طهارته بغيره، أخذا بإطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام.

قال: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال: اغسل الإناء» «1» لقصور صحيحة البقباق «2» عن تقييدها في مثل المورد.

و لو استشكل في إطلاقها أو قيل بوهنها للزوم تقييدها بصحيحة

______________________________

(1) مرت في ص 483

(2) مرت في ص 484.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 495

البقباق في الأواني الممكنة الغسل بقاء الفرد النادر تحتها و هو مستهجن حتى في المطلقات يمكن التمسك بموثقة عمار الساباطي عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل؟

و كم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات: يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ ذلك الماء، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه، فقد طهر» «1» بعد تقييدها بصحيحة البقباق في إناء يمكن تعفيره، و لا يلزم فيه استهجان كما لا يخفى.

فالأقوى في الموارد التي كانت خارجة عن مصب الصحيحة الغسل ثلاثا، و الاكتفاء بالواحد غير جائز، لما عرفت من الإشكال في إطلاق

صحيحة ابن مسلم، بل لقرب احتمال عدم الإطلاق فيها، بل لعله مقطوع الخلاف، لما يأتي من لزوم غسل الأواني من مطلق النجاسات ثلاث مرات، مع كون الكلب أنجس من سائر المخلوقات، و كون المتنجس بولوغه أشد رجسا من سائر أجزائه، كما يظهر من الروايات و منه يظهر أن الاكتفاء بالمرتين بدعوى أن التعفير ساقط و الغسلتان مطهرتان بعد سقوطه أخذا بصحيحة البقباق في المرتين ضعيف، لأن مصبها أن الغسلتين مطهرتان فيما إذا سبقهما التعفير المؤثر في تخفيف النجاسة بالقلع و رفع الأثر، و لو لا موثقة عمار المتقدمة لأمكن القول ببقاء تلك الأواني على النجاسة أخذا بالاستصحاب.

الخامس- هل يسقط التعفير بالغسل بالماء الكثير و الجاري و المطر

و ما بحكمها، و كذا العدد، فيكتفى بمرة واحدة، أو يسقط العدد دون التعفير، أو يسقط العدد أيضا؟ وجوه:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 496

قال في الحدائق: «المشهور بين الأصحاب سقوط التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في الماء الكثير، و كذا كل نجس يحتاج الى العدد، إلا أنه لا بد من تقديم التعفير في إناء الولوغ» انتهى، و فيما ادعى من الشهرة سيما في الطبقة المتقدمة من فقهاء أصحابنا إشكال و منع، بل مقتضى إطلاقهم و إطلاق معاقد الإجماعات المدعاة عدم الفرق بين القليل و الكثير و سائر أقسام المياه، و يؤكد الإطلاق تصريح شيخ الطائفة بلزوم العدد في الكثير، فيظهر منه أنه أراد بلزوم الغسل بالماء مرتين مطلق المياه، فتمسكه بالإجماع و صحيحة أبي العباس يكون في الأعم من القليل.

و كيف كان الأقوى عدم سقوط التعفير، و كذا العدد، أما الأول فلأن المتفاهم من قوله عليه السلام: «اغسله بالتراب» أن التعفير به لقلع الأثر

لا التطهير، و مرسلة الكاهلي في المطر «1» و مرسلة العلامة في الكثير «2» مع الغض عن إرسالهما إنما تدلان على قيام المطر و الكثير مقام العدد في المطهر المعتبر فيه العدد، لا في القالع للأثر لظهورهما في كونهما مطهرين و قائمين مقام المطهر لا القالع، و ليس القالع مطهرا، و لهذا أن الأقوى عدم اعتبار الطهارة في التراب، لإطلاق الصحيحة، و منع الانصراف الى الطاهر فيما لا يكون إلا للقلع الحاصل به مطلقا، و إن شئت قلت: إن الروايتين منصرفتان عن القيام مقامه.

و أما القيام مقام العدد فقد يقال في تقريبه بأنه إذا سلمنا وجود المرتين في رواية البقباق و مقتضى إطلاقها لزومهما حتى في غير القليل لكن تقييدها بما إذا كان الغسل بالقليل أولى في مقام الجمع من تخصيص

______________________________

(1) مرت في ص 452

(2) مرت في ص 453.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 497

الخبرين بها، فان ظهور المطلق أضعف من ظهور العامين في العموم بالنسبة إلى مورد الاجتماع، بل قد يدعى انصراف المطلق في حد ذاته إلى إرادة الغسل بالماء القليل، لكونه هو الغالب في مكان صدور المطلق.

و لا يخفى ما فيه، فان الأمر لا يدور بين التخصيص و التقييد حتى يقال فيه بالترجيح مع إشكال فيه أيضا، بل يدور بين التقييدين، فان لقوله عليه السلام: «كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» عموما أفراديا بالنسبة إلى المتنجسات، و إطلاقا لازمة الاكتفاء بمجرد الرؤية و عدم لزوم العدد، فلو خرج المتنجس بالولوغ عنه تخصيصا يلزم منه عدم مطهرية المطر له، سواء أصابه مرة أو دفعات، و هو كما ترى، و أما لو قيل بلزوم العدد فليس ذلك تخصيصا

للأفراد، بل تقييد لإطلاق الرؤية كما أن لزوم التعفير أيضا تقييد لو فرض إطلاقها من هذه الجهة و غض البصر عما تقدم.

فحينئذ الأرجح في النظر العرفي تقديم إطلاق الصحيحة على إطلاق المرسلة، لأن العرف يرى أن للولوغ خصوصية موجبة لشدة نجاسة الإناء به، بحيث لا يكتفي فيه بالماء فقط و لا بالمرة، فلا ينقدح في الأذهان إلا إخراج الإناء الذي ولغ فيه الكلب من سائر النجاسات لمزيد خصوصية فيه، و إن شئت قلت أن الأظهر تحكيم الصحيحة على المرسلة.

و أضعف منه دعوى الانصراف الى القليل، فان مجرد ذلك لا يوجبه مع أن السائل من الكوفيين، و المجيب يراعي حال السائل و بلده و هو محل وفور الجاري و الكثير، و مما ذكرناه، يظهر حال مرسلة العلامة مع أن فيها ضعفا غير مجبور، نعم الظاهر كون سند الأولى مجبورا بالعمل.

______________________________

(1) مر في ص 452.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 498

المسألة الثانية: اختلفوا في إناء شرب منه الخنزير،

فالشيخ في الخلاف ألحقه بولوغ الكلب متمسكا بوجهين غير وجيهين، و ألحقه المحقق بسائر النجاسات و اكتفى بمرة، و حكيت الشهرة بين المتأخرين على وجوب السبع أخذا بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: «سألته عن خنزير يشرب من الإناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» «1» و قد حملها المحقق على الاستحباب، قيل لقلة العامل بها.

و هو كذلك لأن الظاهر من قدماء أصحابنا كالمفيد و السيد و الشيخ و ابن حمزة و سلار بل الصدوق و من بعدهم كالحلي و ابن زهرة عدم وجوب السبع، بل ظاهر الخلاف على عدم وجوب الزيادة على الثلاث في النجاسات سوى الولوغ، و معه لا يبقى وثوق بها مع كونها بمرئي و

منظر لهم، رواه الكليني و الشيخ، و مع عدم معارض لها، فتقييد موثقة عمار الآتية بها مشكل، و طريق الاحتياط واضح.

و أما الخمر فذهب جملة من الأصحاب إلى وجوب غسل الإناء منها سبعا، و ذهب جمع الى الثلاث، و هو مقتضى الجمع بين الروايات فان منها ما تدل على السبع، كموثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الإناء يشرب فيه النبيذ، قال: تغسله سبع مرات، و كذلك الكلب» «2» و الظاهر إلقاء الخصوصية و فهم حكم الخمر منها، و لهذا استدلوا بها لها.

______________________________

(1) مرت في ص 160.

(2) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 499

و منها ما تدل على الثلاث كموثقته الأخرى عنه عليه السلام قال:

«سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس، و قال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرات، و سأل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟

قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده، و يغسله ثلاث مرات» «1» فتحمل الأولى على الاستحباب جمعا سيما مع عطف الكلب به، و يحمل إطلاق الغسل في الدن و الإبريق على المقيد، لكن هو في المقام لا يخلو من اشكال، لقوة ظهور الصدر في الإطلاق، لمقابلته مع الأمر بالثلاث في القدح و الإناء، و احتمال الفرق بين الأواني المستعملة في الشرب و غيرها لكن الأقوى التقييد، لأن من المحتمل بل الظاهر أن عمار جمع في النقل بين

روايات مستقلة لا أنها كانت واحدة، و معه لا قوة في الإطلاق، مع أن ذلك التفصيل مخالف لفهم العقلاء، و لهذا لم ينقل من أحد حتى احتماله، بل لا يبعد إنكار إطلاق الصدر رأسا لاحتمال أن تكون شبهة السائل عدم جواز جعل الخل في ظرف الخمر و لو بعد الغسل فأجاب بجوازه بعده، فلا يكون في مقام بيان كيفية الغسل.

و أما ما مات فيه الجرذ فقد ورد عن عمار في الموثقة الغسل سبعا «2» و مقتضى الجمود هو الأخذ بها مع كونها موثقة، و لا معارض لها، فيقيد بها موثقته الأخرى الآتية في مطلق القذارات الآمرة بالثلاث، لكن في النفس وسوسة، و هي أن السبع في الكلب و الخمر و الخنزير بعد ما كان محمولا على الاستحباب و اكتفي فيها بالثلاث و كذا في جميع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 500

النجاسات يشكل الالتزام بوجوب السبع من بين جميع النجاسات بميتة الجرذ، مع أن الكلب بحسب النص أنجس من جميع المخلوقات، و ورد في الخمر ما يظهر منه شدة قذارته، مضافا الى دعوى الشيخ الإجماع على طهارة النجاسات سوى الولوغ بالثلاث.

و الانصاف أن حمل الموثقة على الاستحباب مع ما نرى من حمل نظائرها عليه في الباب أهون من تقييد الموثقة الآمرة بالثلاث، مع قوة إطلاقها، كما يظهر بالتأمل فيها، لكن رفع اليد عن ظاهر الأمر بالسبع مع دعوى اشتهاره و فتوى جمع من قدماء أصحابنا جرأة على المولى، فالسبع أشبه مع كونه أحوط. و ان بقيت الوسوسة في النفس، إلا أن يقال أو يحتمل

كون الغسل سبعا لشي ء آخر غير محض القذارة

المسألة الثالثة [التعدد في غسل الأواني]

مقتضى موثقة عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام وجوب غسل الأواني عن سائر النجاسات ثلاثا قال: «سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل؟ و كم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ ذلك الماء، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه و قد طهر» «1» و هو المحكي عن أبي علي و الشيخ في غير المبسوط، و الشهيد في الذكرى و الدروس، و الكركي في جامع المقاصد و تعليق النافع، و جعلها في الشرائع و محكي المبسوط و النافع و الإصباح أحوط.

و اختار في المعتبر مرة، و قال: «و الذي يقوى عندي الاقتصار

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 53- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 501

في اعتبار العدد على الولوغ، و فيما عداه على إزالة النجاسة و غسل الإناء بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة» انتهى. و تقريب ما ذكره أن النجاسة و الطهارة ليستا من الأمور المعنوية التي لم يصلها العقول، بل هما من الأمور الواضحة و المفاهيم الظاهرة عنوانا و مصداقا فإذا علم من الشارع لزوم تطهير الأواني أو غيرها و عدم جواز استعمالها إلا مع طهارتها لا يحتاج العقلاء في تحصيل الطهارة إلى بيان من الشارع كما لا يحتاجون في بيان سائر المصاديق العرفية و العناوين الكذائية اليه و احتمال أن الطهارة أمر غير ما يدركها العقلاء كاحتمال لزوم الغسل تعبدا من غير نظر الى التطهير و إرجاع الشي ء إلى حالته الأصلية ضعيف

مخالف لظواهر الأدلة و فهم العقلاء منها، و لهذا لا ينقدح في ذهن العقلاء من الأمر بغسل الأواني ثلاثا إلا أنه لغرض تنظيفها، فإذا حصلت النظافة بمرة إذا بالغ في تنظيفها فقد حصل الغرض.

و بهذا الوجه يمكن الاستدلال على جواز الاكتفاء بمرة في الغسل بماء جار أو كثير إذا حصل الغرض من الغمس فيهما، بل يتسع نطاق البيان الى جميع أنواع النجاسات كالبول و الولوغ أيضا، بدعوى عدم إعمال تعبد من الشرع في باب النجاسات و الطهارات إلا بجعل مصداق نجسا أو سلب النجاسة عن قذر عرفي، فالطهارة أمر واضح يدركه العقلاء، و الأمر بالغسل و الدلك و التعفير و التعدد لأجل حصولها من غير إعمال تعبد في ماهيتها، فإذا علم حصولها و لو بنحو مغاير لما في الأوامر الشرعية التوصلية تسقط الأوامر لحصول الغرض.

هذا غاية تقريب كلام المحقق رحمه اللّٰه، و به قال العلامة، و حمل الروايات الآمرة بالعدد على الغالب لا على المقدر، قال في جملة من كلامه في الخمر: و الأقرب عندي عدم اعتبار العدد، بل الواجب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 502

الإنقاء، لنا محل نجس فوجب تطهيره بصيرورته الى الحال الأول، و ذلك انما يحصل بالنقاء، فيجب الإنقاء، لكن الغالب أنه لا يحصل إلا مع الثلاث، فيجب لا باعتبار أنه مقدر» انتهى.

و هو متين، لكن مع ذلك يشكل الخروج عن مقتضى موثقة عمار سيما مع ما نرى من إعمال التعبد في أبواب النجاسات الى ما شاء اللّٰه كالاكتفاء في محل النجو بالأحجار و نحوها دون محل البول مع أشدية قذارة الأول عرفا، و كالاكتفاء بالأرض في تطهير بعض الأمور خاصة، مثل تحت الأقدام. و كالاكتفاء بتطهير

الشمس في بعض الأمور: أي غير المنقول، و كزوال عين النجاسة في الحيوان الصامت بأي نحو كان، الى غير ذلك.

و معه كيف يمكن دعوى عدم إعمال تعبد من قبله من أبوابهما، فلا محيص عن الوقوف على النصوص، و عليه لا فرق ظاهرا بين القليل و الكثير و الجاري و المطر، لأن الظاهر من موثقة عمار أنه عليه السلام سئل عن كيفية الغسل و عن كميته فأجاب عن الثانية بقوله عليه السلام:

«يغسل ثلاث مرات» و عن الأولى بقوله: «يصب فيه الماء» إلخ «1» و إطلاق الجواب الأول يقتضي عدم الفرق بين القليل و غيره، و الجملة الثانية لا تكون قرينة على أن المراد بالأولى الغسل بالقليل، لان بيان الكيفية انما يحتاج إليه في القليل دون الكر و الجاري، فإن كيفية غسله فيهما واضحة، و أما الغسل بالقليل فلما كان في نظر العرف أن صب الماء في الإناء يوجب تنجيسه فلا يمكن التطهير به إلا بنحو يجري الماء من غير أن يجتمع فيه كان بيانه لازما و رافعا للتحير، فلا يصير الذيل قرينة على الصدر و لا مقيدا له، فتكون الموثقة مقدمة على مرسلة الكاهلي

______________________________

(1) مرت في ص 500.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 503

الواردة في المطر، و على مرسلة العلامة في الكثير، لما مر سابقا من تحكيم مثلها عليهما، هذا مع ضعف الثانية بلا جبر، فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبار التعدد مطلقا.

فائدة استطرادية:

اشارة

جرت عادتهم باستطراد أحكام الأواني و الجلود في المقام،

و فيها مسائل:
الأولى: لا يجوز الأكل و الشرب و كذا سائر الاستعمالات من آنية الذهب و الفضة،

و هو في الجملة ثابت، ادعي عليه الإجماع و عدم الخلاف و سيأتي الكلام فيه.

و تدل على الأول جملة من الروايات من طرق الناس كالمروي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، و لا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة» «1» و عنه صلّى اللّٰه عليه و آله «نهى عن الشرب في آنية الفضة» «2» و عنه صلى اللّٰه عليه و آله «من يشرب في آنية الفضة في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة» «3» و عنه صلّى اللّٰه عليه و آله «الذي يشرب في آنية الفضة

______________________________

(1) راجع كنز العمال ج 8- ص 16- الرقم 362.

(2) المستدرك- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(3) المستدرك- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 504

انما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1».

و من طرقنا صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا تأكل من آنية الذهب و الفضة» «2» و صحيحته الأخرى على الأصح عنه عليه السلام «أنه نهى عن آنية الذهب و الفضة» «3» و رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تأكل في آنية الذهب و الفضة» «4» و في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله عن الشرب في آنية الذهب و الفضة» «5» و رواية مسعدة ابن صدقة الموثقة ظاهرا عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام «أن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهاهم عن سبع: منها

الشرب في آنية الذهب و الفضة» «6».

لكن بإزائها روايات ربما يكون مقتضى الجمع العقلائي بينها و بين الأولى الحكم على الكراهة لو لا الجهات الخارجية كموثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب و الفضة» «7» و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه كره

______________________________

(1) نقله في المستدرك عن البحار هكذا «قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للشارب في آنية الذهب و الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» و عن عوالي اللئالي عنه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم «الذين يشربون في آنية الفضة يجرجر في بطونهم نار جهنم» راجع المصدر المذكور الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 4- 7.

(2) الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 7 و فيه: «لا تأكل في آنية ذهب و لا فضة».

(3) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 3.

(4) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 2.

(5) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 9.

(6) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 11.

(7) الوسائل- الباب- 65- من النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 505

آنية الذهب و الفضة و الآنية المفضضة» «1» و ظاهرها ان الكراهة في الفضة و المفضضة سواء، فتكون الكراهة ظاهرة في الاصطلاحية.

و لو قيل: إن الكراهة عن أصل الآنية لا تنافي حرمة الشرب منها يقال: الظاهر أن المراد من كراهتهما كراهة الأكل و الشرب، كما تشهد به روايته الأخرى «2» عنه عليه السلام قال: «لا تأكل في آنية من فضة و لا آنية مفضضة».

و لعل الرواية الأولى نقل بالمعنى للثانية، و انما فهم الحلبي من النهي

الكراهة بقرينة ذكر المفضضة، و هو جيد، لأن الظاهر من الثاني أن المفضضة كالفضة، فإذا ضم إليها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا بأس، أن يشرب الرجل في القدح المفضض، و اعزل فمك عن موضع الفضة» «3» يستفاد منها الكراهة، و كون الأولى في الأكل و الثانية في الشرب لا يقدح في ذلك لإلقاء الخصوصية عرفا، و عدم الفصل جزما.

و موثقة بريد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه كره الشرب في الفضة و في القدح المفضض، و كذلك أن يدهن في مدهن مفضض و المشطة كذلك» «4» و هي ظاهرة الدلالة في الكراهة الاصطلاحية بعد عطف المفضض و المشطة عليها.

و صحيحة ابن بزيع قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 10

(2) أي صحيحته الأخرى، راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(4) راجع الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 506

عن آنية الذهب و الفضة فكرههما، فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن عليه السلام مرآة ملبسة فضة. قال: لا و الحمد للّٰه، و انما كانت لها حلقة من فضة نحوا من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن عليه السلام فكسر» «1» و هي أيضا بلحاظ ذيلها و نحو تعبيرها ظاهر في الكراهة مقابل الحرمة.

و رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه السلام قال: «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا يوقنون» «2» و هي أيضا مشعرة بالكراهة أو ظاهرة فيها.

و الانصاف أن الجمع بين

الطائفتين من أهون التصرفات العقلائية نعم لو كانت الروايات التي من طرقهم معتبرة عندنا كان الجمع بينهما مشكلا، لكنها غير معول عليها.

هذا حال الأكل و الشرب، و منه يظهر حال سائر الاستعمالات فان ما يمكن الاستشهاد بها على حرمة سائرها ليست إلا صحيحة محمد ابن مسلم الثانية لكن لما لا يمكن أن يتعلق النهي بماهية آنية الذهب و الفضة لا بد و أن يتعلق بمحذوف كالأكل و الشرب أو الاستعمال أو الاقتناء، و ليس المقام مما يقال فيه: إن حذف المتعلق دليل العموم، لأن محمد بن مسلم حكى عن أنه عليه السلام نهى عنها، و لم يحك نحو النهي الذي في كلامه و لا متعلقه، و المتيقن بل الظاهر هو النهي عن

______________________________

(1) في الوسائل بعد قوله: «من فضة»: «و هي عندي» ثم قال: «ان العباس حين عذر عمل له قضيت ملبس من فضة من نحو ما يعمله للصبيان تكون فضة نحوا من عشرة دراهم» إلخ، راجع الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 65- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 507

الأكل و الشرب لا كل شي ء، كما تشهد به سائر الروايات.

و قياس المورد بقوله عليه السلام: «نهى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله عن الغرر» حيث يستفاد منه الغرر في كل معاملة مع الفارق، لأن الغرر مصدر يمكن تعلق النهي به دون آنية الذهب، بل الظاهر أن هذه الرواية نقل بالمعنى عن روايته الأخرى عنه عليه السلام قال: «لا تأكل من آنية الذهب و الفضة».

و بالجملة لو سمع ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام هذا النهي يجوز له أن يقول: «نهى أبو جعفر

عليه السلام عن آنية الذهب و الفضة» و توهم أن الصادر عن أبي جعفر عليه السلام بتوسط ابن مسلم روايتان إحداهما منقولة بلفظها و الأخرى بمعناها و لا بد أن يكون النهي عن عنوان عام حتى يصح له أن يحكي عنه عليه السلام بقوله: «نهى عن الآنية» كما ترى، و الحاصل أنه لا يمكن إثبات نهي عن مطلق الاستعمال بحكايته النهى عن الآنية، مع صحة الحكاية إن لم يصدر عن أبي جعفر عليه السلام إلا روايته الأخرى المتقدمة.

و أما سائر الروايات التي يمكن استفادة حكم مطلق الاستعمال منها فظاهرة في الكراهة، كرواية موسى بن بكر، و صحيحة ابن بزيع و صحيحة الحلبي مع إشكال فيها تقدم ذكره، و هو أنها عين صحيحته الأخرى منقولة بالمعنى، و رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة من فضة؟ قال: نعم، انما يكره استعمال ما يشرب فيه» «1» بناء على أن المراد كراهة مطلق استعمال إناء يشرب فيه أي يكون

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 67- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 508

معدا للشرب.

و هذه أيضا ظاهرة الدلالة على الكراهة المصطلحة، بل لو فرض ظهور في صحيحة ابن مسلم في حرمة مطلق الاستعمال تكون هذه الرواية حاكمة عليها موجبة لصرفها عنه، فتحصل مما ذكر عدم دليل لفظي على حرمة استعمال الأواني بنحو الإطلاق و لا الأكل و الشرب منها.

ثم لو فرض دلالة الأدلة على حرمة الأكل و الشرب و كذا حرمة الاستعمال هل تنصرف إلى حرمة الشرب و الأكل في آنية يتعارف الأكل و الشرب منها و كذا

تنصرف إلى الأكل و الشرب المتعارفين أو تعم غير المتعارفين في البابين؟ وجهان، لا يبعد القول بالتعميم، لأجل ارتكاز العقلاء بعدم دخالة كيفية الأكل و الشرب و لا تعارف الإناء فيهما، نعم الظاهر أن استعمال الإناء منصرف الى استعمال يكون من شأن الأواني لا مثل قتل الحية و دق الباب بها، فلو ورد دليل على أن استعمال الأواني محرم كمرسلة الخلاف روي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «أنه نهى عن استعمال أواني الذهب الفضة» «1» لا يعم إلا ما يكون الاستعمال نحو استعمال الأواني.

و لو استعمل ما للشرب في الأكل أو بالعكس أو استعمل ما ليس لهما فيهما فشرب من القنديل و غلاف السيف يكون محرما على اشكال في مثل الأخير، دون ما لو استعمل الإناء فيما لا يكون شأن الأواني بما هي، كاستعمالها في ضرب الدابة، و وضعها و الجلوس عليها، كما أن الظاهر عدم التعميم لمثل الوضع على الرفوف للتزيين إلا ما كان

______________________________

(1) نقله في المستدرك عن الأحسائي، في درر اللئالي عنه صلى اللّٰه عليه و آله و سلم، راجع الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 9.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 509

نحو استعمالها كذلك بناء على عموم حرمة الاستعمال، و أولى بعدم الحرمة اقتناؤها.

نعم لو استفيد من صحيحة ابن بزيع الحرمة لا يبعد أن يقال:

إنها متعلقة بذات الآنية، فيكون وجودها مبغوضا لا يجوز اقتناؤها، بل يجب كسرها كما أمر أبو الحسن عليه السلام بكسر قضيب يلبس بالفضة على ما فيها «1» لكنها ظاهرة في الكراهة أو غير دالة على الحرمة كما أنه لو فرض استفادة الحرمة من قوله عليه السلام: «آنية الذهب و الفضة متاع

الذين لا يوقنون» «2» يكون دالا على حرمة مطلق الانتفاع و التمتع بها مما هو من شأن الأواني، نعم لا يشمل مثل الاقتناء فإنه تعطل عن الانتفاع لا انتفاع بها.

هذا كله حال الأدلة اللفظية، و قد عرفت عدم نهوضها لإثبات حرمة الأكل و الشرب فضلا عن سائر الاستعمالات، نعم قد تكرر و استفاض نقل الإجماع من عصر العلامة إلى عصرنا على حرمة الأكل و الشرب في جملة من الكتب، و عن الذكرى و المجمع للأردبيلي و المدارك و غيرها على حرمة سائر الاستعمالات أيضا، و عن المدارك و كشف الرموز لا خلاف فيه، و نسبه في محكي الكفاية إلى المشهور، و عن الصدوق و المفيد و سلار و الشيخ في النهاية الاقتصار على الأكل و الشرب، و عن المدارك و الكفاية أن تحريم اتخاذها لغير الاستعمال هو المشهور، و عن المجمع هو مذهب الأكثر، و هو المحكي عن الشيخ و المحقق و اليوسفي و العلامة و الفخر و الكركي و ظاهر الشهيد، و عن الحلي و العلامة في المختلف تقريب الجواز. و عن المدارك استحسانه، و عن شيخه الأردبيلي الميل اليه هذا.

______________________________

(1) مرتا في ص 506.

(2) مرتا في ص 506.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 510

و الذي يوجب وسوسة في النفس أمران: أحدهما احتمال تخلل الاجتهاد في الحكم، و أن الفقهاء إنما أفتوا بالحرمة في الأكل و الشرب و سائر الاستعمالات اتكالا على الروايات، سيما مع استدلال الشيخ و المفيد و من بعدهما كالمحقق و العلامة و أمثالهما من عمد أصحاب الفتوى و أئمة الفن بها.

و معه كيف يمكن القطع بأن عندهم غير تلك الروايات أمرا آخرا و يكون الحكم معروفا

من لدن زمن الأئمة عليهم السلام، و انما ذكروا الروايات إيرادا لا استنادا و اعتمادا، أو أعرضوا عن الروايات الحاكمة عليها، لا رجحوا مفاد ما دلت على التحريم عليها بالتقريبات التي ذكرها المتأخرون.

و الحاصل أنه مع الظن الراجح على استنادهم الى الروايات كيف يمكن القطع بكشف الإجماع عن الدليل المعتبر غيرها، أو عن أخذهم الحكم خلفا عن سلف من غير تخلل اجتهاد.

و ثانيهما عبارة الشيخ في الخلاف قال في مسألة (15) من كتاب الطهارة: «يكره استعمال أواني الذهب و الفضة، و كذلك المفضض منها، و قال الشافعي: لا يجوز استعمال أواني الذهب و الفضة، و به قال أبو حنيفة في الشرب و الأكل و التطيب على كل حال، و قال الشافعي يكره المفضض، و قال أبو حنيفة: لا يكره، و هو مذهب داود، دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا روى الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «لا تأكل في آنية من فضة و لا في آنية مفضضة» و روى ابن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه نهى عن آنية الذهب و الفضة» و روي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله «أنه نهى عن استعمال أواني الذهب و الفضة» انتهى.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 511

و هذه كما ترى ظاهرة في الكراهة المصطلحة غير ممكن التأويل بغيرها من وجوه. و إن كان مقتضى تمسكه بالروايات الظاهرة في الحرمة أن يكون مدعاه التحريم، لكن نصوصية الصدر حاكمة على الذيل، سيما مع أن رواية الحلبي محمولة على الكراهة بقرينة عطف المفضضة على آنية الفضة، و النص قائم على عدم البأس بها، و هو صحيحة

عبد اللّٰه بن سنان المتقدمة «1».

و لعل استناد الشيخ إليها على الكراهة كذلك، كما أن الحلبي الناقل لها عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال في موضع آخر: «إنه كره آنية الذهب و الفضة، و الآنية المفضضة» «2».

و أما فتواه في زكاة الخلاف بحرمة الاتخاذ و الاستعمال مستدلا على النبويين المتقدمين، و كذا فتواه في النهاية بحرمة الأكل و الشرب فلا يصيران قرينة على أن مراده في المقام الحرمة أو الجامع بينهما و بين الكراهة، فإن التصرف في عبارة الخلاف كطرح النص لا تأويل الظاهر أو المجمل، نعم لأحد أن يقول بتصحيف نسخة الخلاف، و هو كما ترى فإذا كان الأمر كذلك و المسألة على هذه المنوال كيف يمكن الاتكال على دعوى إجماع العلامة و من تأخر عنه، سيما في مطلق الاستعمال، مع أن جمعا من المتقدمين اقتصروا على الأكل و الشرب كما تقدم.

فالمسألة قوية الاشكال، و لكن الخروج عن الإجماعات المنقولة في الأكل و الشرب و الاستعمالات المتعارفة المتيقنة أشكل، للوهن الحاصل منها في الروايات المقابلة للنواهى الواردة عن الأكل و الشرب، أو حصول الوثوق بأن المراد من الكراهة في الروايات غير معناها الاصطلاحي

______________________________

(1) تقدمت في ص 505.

(2) مرت في ص 504.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 512

و على أي حال غاية ما يمكن الاتكال عليها في ذاك و ذلك هي حرمة الأكل و الشرب و الاستعمالات المتعارفة دون غير المتعارفة أو غير المتوقعة من الأواني فلا سيما الثانية، فضلا عما لا يكون استعمالا أو شك فيه كالوضع على الرفوف للتزيين و الاقتناء و نحوهما.

فالأقوى حلية غير الأكل و الشرب و الاستعمالات المتوقعة عن الأواني، و إن لا يخلو

عن تأمل فيما لا يتعارف فيها، كالشرب من غلاف السيف لو قلنا بأنه آنية أو جعل الكوز و الكأس محلا للمداد لأجل الكتابة و نظائرها.

و قد ظهر من بعض ما تقدم عدم حرمة المفضض، و هل يحرم الشرب من موضع الفضة أو يكره؟ ظاهر ذيل صحيحة ابن سنان المتقدمة «1» الأول، و به قال جملة من الأصحاب قديما و حديثا، بل عن الكفاية نقل الشهرة عليه، و في المدارك نسبته إلى عامة المتأخرين، و اختار المحقق في المعتبر الاستحباب، و استحسنه صاحب المدارك، لإطلاق صحيحة معاوية بن وهب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة، قال: لا بأس إلا أن يكره الفضة فينزعها» «2».

و مقتضى الجمود على قواعد الفن و إن كان تقييد هذا الإطلاق لكن لا يبعد أقربية حمل الصحيحة على استحباب العزل أو كراهة الشرب من المحل عنه، لقوة الإطلاق سيما إذا كانت الضبة بمعنى الشعب التي يزين بها الإناء، فان الابتلاء بها في الشرب كثير، فعدم النهي عنها و التذييل بقوله عليه السلام: «إلا أن يكره الفضة فينزعها» و المناسبات

______________________________

(1) مرت في ص 505.

(2) الوسائل- الباب- 66- من أبواب النجاسات الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 513

المغروسة في الذهن ربما توجب ترجيح الحمل على الكراهة على التقييد، لكن مع ذلك رفع اليد عن ظهور الصحيحة مشكل، فالأحوط العزل كما أن الأحوط إلحاق المذهب بالمفضض، بل لا يخلو من قوة.

الثانية: يحتمل بحسب التصور حرمة الأكل و الشرب من الآنيتين،

و كذا سائر العناوين التي نظيرهما في استلزام الاستعمال، كالوضوء و التدهين و التطيب و التدخين و هكذا، بمعنى أن المنهي عنه ذات تلك العناوين، فكل منها محرم بعنوانه،

و يحتمل حرمة عنوان استعمالهما سواء كان في الأكل أو الشرب أو غيرهما من المقاصد، بحيث يكون نفس الاستعمال بما هو محرما لا العناوين المتقدمة، و يحتمل أن يكون الأكل و الشرب بعنوانهما محرما دون سائر العناوين، بل هي بعنوان الاستعمال محرمة.

ظاهر شيخ الطائفة في عبارته المتقدمة عن موضعين من الخلاف ثاني الاحتمالات، و هو ظاهر المحقق في المعتبر و النافع، حيث قال في الأول: «لا يجوز استعمال أواني الذهب و الفضة في الأكل و الشرب و غيرهما» و الظاهر منه حرمة نفس الاستعمال لا عنوان الشرب و الأكل و هكذا، و يشهد له ما قال بعد ذلك: «لا يحرم المأكول و المشروب فيهما و إن كان الاستعمال محرما، لأن النهي عن الاستعمال لا يتناول المستعمل» و يؤيده ما قال في رد من قال ببطلان الوضوء من آنية الذهب و الفضة: «لنا أن انتزاع الماء ليس جزء من الطهارة، بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده» انتهى، تأمل تعرف.

بل لا يبعد رجوع عبارة الشرائع إليه، قال: «لا يجوز الأكل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 514

و الشرب في آنية من ذهب أو فضة و لا استعمالها في غير ذلك» بأن يقال: إن الأكل و الشرب المذكورين مثال لأنحاء الاستعمال المذكور في الذيل، فكأنه قال: «لا يجوز استعمالها في الأكل و الشرب و غير ذلك، سيما مع قرينية ما في المعتبر و النافع عليه.

و هو ظاهر القواعد و التذكرة، قال في الثاني: «و يحرم استعمال المتخذ من الذهب و الفضة في أكل و شرب و غيرهما عند علمائنا أجمع- ثم قال-: فروع: الأول لا فرق في تحريم الاستعمال بين الأكل و الشرب

و غيرهما كالبخور و الاكتحال منه و الطهارة و شبهه و جميع وجوه الاستعمال، لأن في تحريم الأكل و الشرب تنبيها على منع غيرهما» انتهى. فيظهر منه البناء على إلقاء الخصوصية من الأكل و الشرب الواردين في النصوص، و لو لا ذهابه إلى صحة الوضوء و الغسل في آنيتهما و استدلاله بما استدل به المحقق لكان المحتمل في عبارته أن مراده من سائر الاستعمالات غير الأكل و الشرب عناوين أخر نظيرهما كالوضوء و الغسل حتى يكون موافقا للاحتمال الأول من الاحتمالات المتقدمة، لكن ما ذكره أخيرا كالنص في أن النهي لم يتعلق بالعناوين، فيكون قرينة على أن مراده من كون الأكل و الشرب تنبيها على منع غيرهما، انهما مثال لمطلق الاستعمال، فهو محرم منطبق على سائر العناوين، و هو قرينة على ما في المنتهى.

و كيف كان ظاهرهم حرمة الاستعمال و التناول، كما نسب إلى المشهور، و ما ذكروه هو الأقرب، لأن مقتضى الجمود على ظاهر النواهي المتعلقة بعنوان الأكل و الشرب و إن كان موضوعيتهما، و أن المحرم نفس عنوانهما لا الاستعمالات التي مقدمات لهما، فلا بد من الاقتصار عليهما لو لا دليل آخر، لكن بعد ثبوت حرمة مطلق الاستعمالات إما للإجماع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 515

أو بعض الأدلة المتقدمة و بعد كون الشرب و الأكل فيها نحو استعمال لها عرفا لا يبقى ظهور في موضوعية العنوانين.

ألا ترى أنه لو ورد دليل بعدم جواز استعمال الأواني مطلقا ثم ورد النهي عن الاغتراف عنها لا ينقدح في الذهن إلا أن النهي عنه لكونه استعمالا لا لخصوصية في عنوانه، و إن شئت قلت: إن ملازمة الأكل و الشرب للاستعمال- و كونهما

من الأفراد الشائعة في استعمال الأواني، و بعد حرمة العنوانين مستقلا في مقابل الاستعمال المطلق، و بعد كون الشرب من الآنية محرما من حيث الشرب و من حيث الاستعمال، فيكون وضع الفم على الآنية و جذب الماء منها محرما و بلعه و ازدراده محرما آخر، و بعد عدم حرمة التناول و الاستعمال في الأكل و الشرب، فيكون المحرم مطلق الاستعمالات إلا ما كانت مقدمة لهما- توجب رفع اليد عن موضوعية عنوان الأكل و الشرب.

بل بعد التنبيه على تلك المقدمات لا ينقدح في الذهن من قوله:

«لا تأكل من آنية الذهب و الفضة» إلا ما يفهم من قوله: «لا تحج مع الدابة المغصوبة» و قوله: «لا ترفع على السطح مع المدرج المغصوب» حيث يرى العرف أن المبغوض هو التصرف في المال المغصوب لا الحج أو الكون على السطح.

نعم لو لم يكن في المقام إلا قوله: «لا تشرب من آنية الذهب أو «لا تأكل منها» كان الظاهر حرمة عنوانهما بخلاف باب الغصب في المثالين، للقرينة العرفية فيهما، لكن بعد ما ذكرناه من الشواهد لا يبقى مجال لدعوى الظهور في حرمة نفس العنوانين، بل المستفاد عرفا منه أن المحرم هو الاستعمال مطلقا، و لهذا ترى أن الشيخ قد استدل على حرمة مطلق الاستعمالات بالروايات الناهية عن الأكل و الشرب، و كذا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 516

المحقق، بعد الوثوق بأن استدلالهما بروايات الناس ليس استنادا و اعتمادا بل جدلا في مقابلهم.

الثالثة: لو فرضنا حرمة العنوانين فهل تسري إلى المأكول و المشروب؟

فعن المفيد نعم، و عن الذكرى «و هو يلوح من كلام أبي الصلاح» و رده المحقق بأن النهي عن الاستعمال لا يتناول المستعمل، و هو موافق للتحقيق و لو كان المراد من الاستعمال

عنوان الشرب و الأكل، لأن ما تعلق به النهي هو الشرب عن الآنية من غير لحاظ إضافته إلى مشروب أصلا، و لزوم المتعلق بمشروب ما محقق عنوان الشرب لا جزء موضوع المحرم.

و إن شئت قلت: إن هاهنا عناوين يمكن بحسب الثبوت أن يتعلق النهي بكل منها: أحدها الشرب المطلق مقابل الأكل و المشي و نحوهما، فيكون المبغوض أصل الشرب لا الشرب المتعلق بمائع و إن كان في تحققه يتوقف على تعلق ما، لكنه خارج عن الموضوع المنهي عنه و ثانيها شرب الخمر مقابل شرب الماء، فيكون المنهي عنه شرب هذا العنوان الخاص، و هو بذاته مبغوض، و منه شرب المتنجس أو أكل لحم الموطوء، فإن النهي إذا تعلق بالعنوان الخاص كشرب المتنجس يكون بذاته مبغوضا، نعم إذا تعلق بمائع إذا تنجس يكون المائع مبغوضا بالعرض.

و الثالث شرب المائع مطلقا، و الفرق بينه و بين الأول بأن المائع هاهنا أخذ جزء الموضوع بخلافه هناك.

و الرابع شرب الخمر من آنية كذائية أو في مكان كذا بحيث يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 517

عنوان الخمر جزء الموضوع و الإضافة إلى الآنية أو المكان جزء آخر له.

و الخامس شرب المائع المطلق من آنية كذائية أو مكان كذا.

و السادس الشرب في آنية أو من آنية كذائية بحيث تكون نفس طبيعة الشرب بلا تعلق بمتعلق إذا كانت من آنية كذائية أو فيها مبغوضة فيكون الشرب في آنية كذائية متعلق النهي، فيكون الشرب المطلق من حيث المتعلق جزء من الموضوع، و الإضافة إلى الآنية جزءا آخر منه، فالمتعلق في هذه الصورة محتاج إليه في وجوده من غير أن يكون مقوما للموضوع المنهي عنه.

و المقام من قبيل الأخير،

فإن قوله: «لا تشرب في آنية الذهب و الفضة و لا تأكل فيها» يكون من حيث المتعلق ساقط الإضافة، فلا يكون المائع بنحو الإطلاق و لا العناوين الخاصة كالماء و اللبن جزءا للموضوع المنهي عنه، و لا متعلقا للنهي و لا مبغوضا، و هذا مرادنا من أن النهى عن الشرب لا يتناول المشروب، و لعله مراد المحقق أيضا و إن استظهرنا من كلامه أن المحرم هو الاستعمال و التناول من الآنيتين و مما ذكرناه يظهر ضعف الاستدلال للسراية بقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «إن الذي يشرب في آنية الذهب و الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1» فان ظاهره أن نفس الشرب منها توجب الجرجرة لا المشروب، بل المناسب للجرجرة هو الشرب، لانه سببها لا المشروب.

و كيف كان يتضح مما ذكرناه ضعف توجيه صاحب الحدائق كلام المفيد بأن المأكول صار حراما بالعرض، و يرجع النهي ثانيا و بالعرض إلى المأكول، فيكون حراما متى أكل بهذه الكيفية، و ظاهر النصوص يساعده، انتهى. أقول: بل لا يساعده شي ء من النصوص، فإن النهي

______________________________

(1) راجع ص 503- 504.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 518

فيها انما تعلق بالشرب من الآنية لا بالمشروب، و أضعف منه تنظيره بما أخذ الحق الشرعي بحكم حاكم الجور، لوضوح الفارق، فان الدليل هناك و هو مقبولة عمر بن حنظلة «1» دال على أن ما أخذه بحكمه سحت، فالحرمة تعلقت بما أخذ، بخلاف المقام، فإن النهي لم يتعلق بما شرب.

و يتلوه في الضعف قول بعض أهل النظر بأن «أضافه الحرمة إلى الذوات انما هي بلحاظ الفعل المتعلق بها، فالمراد بحرمة المأكول ما دام في الآنية ليس إلا حرمة أكله

فيها، فالاعتراض عليه بأن النهي عن الأكل لا يتعدى الى المأكول ليس على ما ينبغي- ثم ذكر المناقشة التي أوردوها في الاستدلال بحديث الجرجرة، و أجاب عنها بأن- المتبادر منه كون الشرب بنفسه سببا لجرجرة النار في البطن لا مقدمته التي هي أجنبية عن البطن، فالمتبادر الى الذهن من التشبيه ليس إلا حرمة المأكول التي مآلها إلى حرمة الأكل، كما أن هذا هو المتبادر من الأخبار الناهية، فهذا هو الأقوى» انتهى.

و أنت خبير بما فيه، فان المراد من عدم حرمة المأكول ليس عدم حرمة الذات بما هي حتى يقال: إن الذات لا يتعلق بها النهي إلا بلحاظ الفعل، بل المراد ان المنهي عنه هو الاستعمال أو الشرب و الأكل من الآنية أو فيها، لا شرب المائع فيها أو شرب الماء و اللبن و سائر العناوين، فلا تسري الحرمة من الشرب الى متعلقه أي الماء، فلا يكون شرب الماء من الآنية حراما، بل الشرب منها حرام بلا اضافة الى متعلق، و انما هو دخيل في تحقق عنوان المحرم لا جزء لموضوعه.

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 11- من أبواب صفات القاضي الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 519

فالمفيد رحمه اللّٰه قائل بأن المأكول حرام كحرمة الخمر أو حرمة المال الذي أخذ بحكم حاكم الجور أو حرمة لحم الموطوء أو العين المنذور عدم أكلها، و كل ذلك يرجع الى حرمة أكل هذه العناوين ذاتا أو عرضا بالمعنى الذي أشرنا اليه على تأمل في المثال الأخير، قد أشرنا إليه في بعض مسفوراتنا.

و المحقق رحمه اللّٰه منكر لذلك إما لأن المحرم التناول و الاستعمال كما قدمنا تقريبه و تقويته، و إما لأن المحرم الشرب و

الأكل من الإناء لا شرب المائع أو الماء كما تقدم، و قد تقدم الكلام في حديث الجرجرة و انما ارتكبنا في المقام التطويل الممل مع وضوح المطلب بنظر القاصر لما وقع الخلط من بعض أهل التحقيق، و حمله كلام المحقق على غير مرضية.

الرابعة [الغسل و الوضوء بآنية الذهب و الفضة]

إن قلنا بأن المنهي عنه استعمال الأواني فالأقوى صحة الوضوء و الغسل بها، سواء كانا بالاغتراف أو الارتماس، و سواء كان الماء منحصرا و لم يمكن إفراغه في غيرها أم لا.

أما في صورة عدم الانحصار و إتيانه بالاغتراف فواضح، و أما مع الانحصار و الإتيان بالاغتراف فلأن غاية ما يقال في وجه البطلان: عدم الأمر بهما أو عدم تنجز التكليف بهما، و فيه أن صحتهما لا تتوقف على الأمر، و لا على تنجزه، و كفى فيها عباديتهما و مطلوبيتهما الذاتية و المفروض ان النهى لم يتعلق بهما، و التبديل بالتيمم ليس لمبغوضيتهما في هذه الحالة، بل لمبغوضية استعمال الإناء.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 520

و بالجملة ان المقام من قبيل تزاحم المطلوب الأعلى مع المبغوض، فاكتفاء الشارع بالمطلوب الأدنى بلحاظ عدم الابتلاء باستعمال المبغوض لا بلحاظ عدم الاقتضاء في المحبوب الأعلى أو مبغوضيته، فلو تخلف المكلف و أتى بالمطلوب الأعلى صح وضوؤه و إن عصى باستعمال الآنية، مع أن لنا الالتزام بتعلق الأمر الاستحبابي النفسي بالوضوء و الغسل بناء على ما حققناه من أن عباديتهما غير متقومة بالأمر الوجوبي الغيري، بل انما تتوقف على الأمر الاستحبابي بناء على توقفها على الأمر، و ذلك لأن الأوامر متعلقة بنفس الطبائع من غير لحاظ حال التزاحم، و في صورة التزاحم لا يسقط الأمر، بل يرجح العقل أو الشرع المزاحم الأقوى على

الأضعف، فالوضوء فيما نحن فيه متعلق لأمر استحبابي فعلى، لكن الشارع رجح جانب حرمة الاستعمال على الوضوء الاستحبابي الذي مقدمة و شرط للصلاة الواجبة، و يتضح مما ذكر حال ما لو قلنا بتقوم العبادية بالأمر الغيري، فتدبر.

و بالجملة لا وجه معتد به لبطلان الوضوء و الغسل في صورة الانحصار لأن الأمر بالتيمم لا يوجب النهي عن الوضوء و لا مبغوضيته، بل و لا عدم الأمر على ما حققناه في تصويره، و كذا يصح الوضوء و الغسل ارتماسا لما قلنا في باب اجتماع الأمر و النهى من صحة العبادة المتحدة في الوجود مع المنهي عنه، و حديث أن المبعد لا يمكن أن يصير مقربا قد فرغنا عن حله.

بل لو قلنا بأن المستفاد من الأدلة النهي عن العناوين الخاصة فكأنه قال: «لا تتوضأ من الآنيتين» يمكن تقريب الصحة بأن يقال:

إن المنهي عنه في أمثال المقام هو إيجاد الطبيعة بتلك الإضافة، فالنهي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 521

في قوله عليه السلام: «لا تصل في الحمام» «1» انما تعلق بأمر خارج و هو تمكين الصلاة المطلوبة في المكان الكذائي.

و هكذا الحال في المقام، فإن النهي تعلق بالإضافة الخارجية أو نحوها، و هي كون الوضوء من آنية الذهب، لا بنفس طبيعة الوضوء فالمسألة في هذه الصورة بحسب حكم العقل محل نظر و إشكال، و إن كان العرف لا يساعد على هذا التحليل، و يكون قوله: «لا تتوضأ من آنية الذهب» من قبيل النهي في العبادة عرفا، فالأوجه في هذه الصورة البطلان.

ثم أن المرجع في تشخيص الإناء و الآنية و الأواني المذكورة في النصوص هو العرف، كما عن كثير من اللغويين إيكاله إليه، و التفسير بالوعاء

و الأوعية في غير محله، لإطلاق الوعاء على ما لا تكون آنية جزما من غير تأويل، قال تعالى في قضية يوسف على نبينا و آله و عليه السلام:

«فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعٰاءِ أَخِيهِ» «2» و معلوم أن أوعيتهم لم تكن من الأواني، بل كانت من الجواليق و ما يشبهها، و أما ما عن كاشف الغطاء في تشخيص الموضوع- من اعتبار الظرفية، و كون المظروف معرضا للرفع و الوضع، احترازا عن موضع فص الخاتم و عكوز الرمح و نحوها، و أن تكون موضوعة على صورة متاع البيت الذي يعتاد استعماله عند أهله في أكل أو شرب أو طبخ أو غسل أو نحوها، احترازا عن كوز الغليان و رأسها و رأس الشطب و قراب السيف و نحوه و بيت السهام و بيت المكحلة و المرآة و الصندوق و قوطي النشوق و العطر و نحوها، و أن يكون لها أسفل يمسك ما يوضع فيه، و حواشي

______________________________

(1) راجع الوسائل- الباب- 34- من أبواب مكان المصلي.

(2) سورة يوسف: 76 الآية 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 522

كذلك، احترازا عن القناديل و المشبكات و المخرمات و الطبق- فلا يخلو من إشكال و إن كان كلامه ذلك مع كونه من أهل اللسان يوجب لنا الشك في صدقها على كثير مما ذكره، و معه مقتضى الأصل الإباحة، و الانصاف أن المتيقن منها ما ذكره و إن كان الاحتياط في مثل كوز الغليان لا ينبغي تركه، بل لا يترك.

و أما ما عدّ صاحب الجواهر منها كرأس الغليان و رأس الشطب و ما يجعل موضعا له و قراب السيف و الخنجر و السكين و بيت السهام و ظروف الغالية و الكحل

و العنبر و القير و المعجون و التتن و التنباك و الأفيون و المشكاة و المجامر و المحابر و نحوها فكثير منها محل إشكال أو منع، سيما مع جزم الأستاذ على خلافه، و هو يوجب الشك لنا مع عدم إمكان إحرازها أو إحراز كثير منها من العرف و اللغة، بعد ما كان الإناء في عصرنا قليل الاستعمال أو عديمه، على ما شهد به صاحب الجواهر و غيره من أهل اللسان.

و دعوى استفادة إنائية كثير منها أو جميعها من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع- قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن آنية الذهب و الفضة فكرهها، فقلت: قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن عليه السلام مرآة ملبسه فضة، فقال: لا و الحمد للّٰه، انما كانت لها حلقة من فضة، و هي عندي- ثم قال-: إن العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس فضة من نحو ما يعمل للصبيان، تكون فضة نحوا من عشرة دراهم، فأمر به أبو الحسن عليه السلام فكسر» «1» بدعوى أن الظاهر أن الراوي نقض عليه فعل أبى الحسن عليه السلام فأنكره شديدا، و حكى أمره بكسر القضيب الملبس، و هو دليل على صدقها في جميع تلك الموارد حتى فيما لا يقول به صاحب الجواهر كالمثال-

______________________________

(1) مرت في ص 506.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 523

ضعيفة، لمنع كون كلام الراوي نقضا بالنسبة إلى المرآة بدعوى صدق الآنية عليها، بل من المحتمل قريبا أنه فهم من كراهة أبي الحسن الرضا عليه السلام أن استعمال مطلق الذهب و الفضة مكروه، فقال ما قال، و إلا فالظاهر عدم صدق الآنية على المرآة الملبس و لا على لباس المرآة.

و كذا لا يصدق على القضيب أو لباسه. و الظاهر من قوله عليه السلام: «تكون فضة نحوا من عشرة دراهم» أن ادخار الفضة حتى بهذا المقدار كان مكروها لدى أبى الحسن عليه السلام فضلا عن ادخار الملبسة بها.

و الانصاف ان دعوى تشخيص الآنية من الرواية في غاية السقوط بعد عدم صدقها على ما فيها، و أضعف منه دعوى كون الموضوع الشرعي أعم، بدعوى أن للآنية حقيقة شرعية، و هو كما ترى، نعم لا يبعد استفادة كراهة مطلق استعمال الآلات المعمولة من الفضة و الذهب من هذه الرواية و بعض روايات أخر واردة فيها و في الذهب، و الأمر سهل.

الخامسة [استعمال الجلود]

لا يجوز استعمال شي ء من الجلود إذا كانت من ذوات الأنفس فيما يشترط فيه الطهارة- إلا إذا كانت من حيوان وردت عليه تذكية شرعية بالشروط المقررة- و لو دبغت سبعين مرة، إذ هي بدون التذكية نجسة ميتة لا تحل الصلاة فيها، و هذا لا اشكال فيه نصا و فتوى إلا من ابن الجنيد القائل بطهارتها بالدباغة، و إن قال بعدم جواز الصلاة فيها.

و الذي ينبغي بسط الكلام فيه أنه هل يعتبر في جواز استعمالها، و كذا في حلية اللحوم من الحيوانات المحللة الأكل، و كذا في صحة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 524

الصلاة فيما تجوز فيها مع التذكية إحرازها بالعلم أو بأمارة شرعية معتبرة، و مع عدمه يحكم بنجاستها و حرمة الانتفاع بها و عدم جواز الصلاة فيها أو عدم التذكية يحتاج الى دليل، و مع عدمه يحكم بطهارتها و جواز الصلاة فيها، و حلية أكل اللحم أو تفصيل بين الطهارة و غيرها؟

قد استقر آراؤهم على جريان أصالة عدم التذكية في

الجملة و إن فصّل بعضهم بين ما إذا رتبت الأحكام على مجرد عدم التذكية بنحو السالبة المحصلة و بين ما إذا كان الموضوع بنحو الإيجاب العدولي، كما لعله الظاهر من الشيخ الأعظم، و فصّل آخر بين كون المذكى و مقابله من قبيل الضدين فلا تجري و بين كونهما من قبيل العدم و الملكة فتجري و تترتب عليها الأحكام، بدعوى كون الموضوع في هذه الصورة من قبيل الموضوعات المركبة أو المقيدة المشكوك فيها بقيدها أو جزئها فيحرز بالأصل، و هو ظاهر المحقق الخراساني.

و ثالث بين الآثار التي رتبت على عدم كون الحيوان مذكى كعدم الحلية و عدم جواز الصلاة و عدم الطهارة من الأحكام العدمية المنتزعة من الوجوديات التي تكون التذكية شرطا في ثبوتها، فيقال الأصل عدم تعلق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحل أكله و لا الصلاة فيه و لا استعماله فيما يشترط بالطهارة و بين الآثار المترتبة على كونه غير المذكى، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات، كحرمة أكله و نجاسته و تنجيس ملاقيه و نحوها، بدعوى ان الحلية و سائر الأحكام الوجودية المترتبة على سبب حادث تصير منتفية بانتفاء سببها، فالموت المقرون بالشرائط أمر مركب سبب للأحكام، و هو أمر حادث مسبوق بالعدم، فأصالة عدمه مما يترتب عليها عدم الحلية و الطهارة و جواز الصلاة فيها، فعدم حلية اللحم من آثار عدم حدوث ما يؤثر في حليته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 525

بعد الموت لا من آثار كون الموت فاقدا للشرائط حتى لا يمكن إحرازه بالأصل، و هو صريح المولى الهمداني تبعا لظاهر الشيخ الأعظم، و لعله يرجع الى التفصيل الأول أو قريب منه.

و نحن قد استقصينا

البحث في أطراف أصالة عدم التذكية و ما هي نحوها بما لا مزيد عليه مع مقدمات مفيدة في المقام و سائر المقامات في الأصول، و تذكارها و نقلها هاهنا موجب للتطويل المخالف لوضع هذا المختصر، و لهذا نشير الى لمحة منها احترازا عن الحوالة، فنقول:

لا شبهة في أن التذكية عبارة عن أمر وجودي هو إزهاق الروح بكيفية خاصة معتبرة في الشرع: أي فري المسلم الأوداج الأربعة متوجها للحيوان إلى القبلة ذاكرا عليه اسم اللّٰه مع قابلية الحيوان لها، و هو الموضوع للأحكام المتقدمة، أي الطهارة و حلية الأكل و جواز الصلاة في أجزائه و غيرها و مقابل هذا العنوان الذي يكون موضوعا لأحكام أخر أي الحرمة و النجاسة أو عدم الحلية و عدم الطهارة و عدم جواز الصلاة فيه يمكن أن يكون عنوانا وجوديا هو إزهاق الروح بكيفية أخرى ضد الكيفية المأخوذة في التذكية، و يمكن أن يكون ازهاقه لا بالكيفية المذكورة على نعت الإيجاب العدولي، أو إزهاقه الذي لم يكن بالكيفية الخاصة على نعت الموجبة السالبة المحمول، أو إزهاقه مسلوبا عنه الكيفية الخاصة على نعت سلب محصل بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع، و يمكن أن يكون أمرا سلبيا بالسلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع، و يمكن أن يكون مركبا من إزهاق الروح و عدم تحقق الكيفية الخاصة بنحو العدم المحمولي.

هذا بحسب التصور و الاحتمال البدوي، لكن لا شبهة في أن الموضوع للأحكام ليس عدم إزهاق الروح بالكيفية الخاصة بنحو السالبة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 526

المحصلة الأعم من سلب الموضوع، ضرورة عدم إمكان موضوعية عدم محض للأحكام ثبوتا و عدم مساعدة الأدلة لها إثباتا.

و منه يظهر بطلان الصورة

الأخيرة، لعدم تعقل كون جزء الموضوع للأحكام شيئا أعم من الوجود، بل يلزم من جزئيته له التناقض، لأن فرض إزهاق الروح الذي هو صفة لأمر وجودي و فرض سلب الكيفية بالسلب البسيط الأعم فرض كون المتناقضين موضوع الحكم، فبقيت الاعتبارات الأخر و في شي ء منها لا مصير لجريان أصالة عدم التذكية لإثبات الحكم، أما في صورة الضدية فواضح، ضرورة أن سلب الضد على فرض جريان الأصل لا يثبت تحقق الضد الآخر إلا بالأصل المثبت و لو مع فرض عدم الثالث لهما، و أما صورة اعتبار الإيجاب العدولي و الموجبة السالبة المحمولي و السالبة المحصلة مع فرض وجود الموضوع و كون السلب عنه فليس لشي ء منها بعنوانه حالة سابقة يقينية.

و استصحاب السلب البسيط التحصيلي الجامع بين سلب الحيوان و سلب الزهوق و سلب الكيفية لا يثبت الحكم المترتب على مصداقه المنحصر إلا بالأصل المثبت، فان موضوع الحكم إذا كان بأحد الاعتبارات الثلاثة لا يكون السلب التحصيلي موضوعا له، بل هو أي السلب المطلق كلى جامع منطبق على السلب الأزلي بسلب الحيوان و سلب الإزهاق مع وجود الحيوان و إزهاق روحه بغير الكيفية الخاصة، و موضوع الحكم هو الأخير، و استصحاب الجامع و إثبات الفرد و أحكامه مثبت كما هو ظاهر.

و منه يتضح بطلان ما يمكن أن يقال: إن الحيوان في حالة حياته يصدق عليه أنه غير زاهق الروح بالكيفية الخاصة أو مسلوب عنه الزهوق الكذائي، و هذا العنوان و إن لم يكن موضوعا للحكم في حال اليقين لكنه موضوع له في حال الشك، و هو كاف في الاستصحاب، و ذلك لأن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 527

موضوعه ليس عنوان عدم زهوق

الروح القابل للصدق على الحيوان الحي و لو بنحو الإيجاب العدولي مع موضوعية الحيوان، بل الموضوع زهوقه بلا كيفية خاصة، فاستصحاب أن الحيوان غير زاهق الروح بالكيفية الخاصة لترتب الاحكام عليه غير صحيح، لان هذا العنوان المستصحب ليس موضوع الحكم، بل الموضوع عنوان آخر منطبق هذا العنوان، و استصحاب العنوان الأعم لا يثبت أحكام الأخص.

و ما ذكره المولى الهمداني فهو غفلة عن دقيقة، و هي أن سلب السبب الموجب لأحكام وجودية بالسلب المطلق لازمة سلب الأحكام الوجودية القابل للانطباق على عدم التشريع رأسا لا ثبوت حكم آخر سلبي أو ثبوتي، فاستصحاب عدم تحقق السبب لإثبات حكم من الشارع كعدم الحلية و نحوه من المثبتات لو لم نقل بأن سلب السبب لإثبات سلب المسبب أيضا من المثبتات، فأصالة الحل و الطهارة محكمة ما لم يدل دليل على خلافها، هذا إجمال مما فصلناه في الأصول، و لا بد أن يطلب التحقيق من هناك.

و الاولى في المقام صرف الكلام الى حال الروايات، فنقول: قد وردت جملة من الاخبار في باب الصيد و الذباحة يستفاد منها توقف حلية الأكل على إحراز الذبح الشرعي، كصحيحة الحذاء قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يسرح كلبه المعلم و يسمي إذا سرحه قال: يأكل مما أمسك عليه، فإذا أدركه قبل قتله ذكاه، و إن وجد معه كلبا غير معلم فلا يأكل منه» «1».

و رواية أبي بصير عنه عليه السلام قال: «سألته عن قوم أرسلوا كلابهم و هي معلمة كلها، و قد سموا عليها، فلما أن مضت الكلاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب الصيد- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 528

دخل فيها كلب غريب لا

يعرفون له صاحبا، و أشركت جميعا في الصيد فقال: لا يؤكل منه، لأنك لا تدري أخذه معلم أم لا» «1».

و صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من جرح صيدا بسلاح و ذكر اسم اللّٰه عليه ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه سبع، و قد علم أن سلاحه هو الذي قتله، فليأكل منه إن شاء» «2» و بمضمونها عدة روايات.

و صحيحته الأخرى عنه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام في صيد وجد فيه سهم و هو ميت لا يدري من قتله قال:

لا تطعمه» «3».

و حسنة حمران عنه عليه السلام «أنه سأله عن الذبح فقال: إن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكله و لا تطعم. فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» «4» الى غير ذلك، و يستفاد من التعليل فيها و في رواية أبي بصير و لو بالمناسبات و إلقاء الخصوصيات عرفا أنه مع الشك في وقوع التذكية الشرعية على الحيوان لا يجوز الأكل منه، فجواز الأكل موقوف على إحراز التذكية الشرعية.

و بإزائها موثقة السكوني عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام «إن أمير المؤمنين (ع) سئل عن سفرة وجدت في الطريق- الى أن قال-: قيل له: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسي، فقال:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 5- من أبواب الصيد- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 16- من أبواب الصيد- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 19- من أبواب الصيد- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 3- من أبواب الذبائح- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 529

هم في سعة حتى يعلموا» «1» و مقتضى إطلاقها و إن كان جواز الأكل حتى مع الشك

في التذكية، لكنها مقيدة بالروايات المتقدمة، فتحمل على جواز الأكل إذا كانت الشبهة في الطهارة و النجاسة.

نعم لو كان بدل المجوسي اليهودي لكان الحمل مشكلا، لان اليهود لا يأكلون من ذبائح المسلمين، و نقل عن بعضهم إن أكل ذبائح المسلمين علامة الخروج عن التهود أو كالخروج منه، لكن الظاهر أن المجوس ليسوا كذلك، فلا مانع من هذا الجمع.

انما الكلام في أنه هل يستفاد من تلك الروايات أنه مع عدم إحراز التذكية يحكم بأنه غير مذكى في جميع الاحكام، فهو محكوم بالنجاسة، و لا تصح الصلاة في اجزائه مع قطع النظر عن الروايات الواردة في الصلاة إما بدعوى أن الظاهر منها أن هذا الحكم انما هو للاتكال على الاستصحاب فيكشف منها جريان استصحاب عدم التذكية كما جعلها بعضهم شاهدة على جريانه، و إما بدعوى إلقاء الخصوصية عرفا بين عدم جواز الأكل و سائر أحكام غير المذكى، و إما بدعوى أن التعليل في الروايتين دليل على أن تمام العلة للحكم بعدم جواز الأكل هو الجهل بالتذكية، و معه يكون محكوما بعدمها، و إما بدعوى أن النهي عن الأكل ليس إلا للشك في عدم التذكية، فما شك في تذكيته محكوم بعدمها، و الحكم بالحرمة متفرع على ذلك سيما مع ما يأتي من الروايات الدالة على لزوم إحراز التذكية الشرعية في صحة الصلاة، فإذا ضم تلك الروايات إلى هذه يستفاد منها استفادة قطعية بأن المشكوك فيه في حكم غير المذكى مطلقا، و أن الحكم بعدم جواز الصلاة فيه و عدم جواز الأكل منه متفرعان على ترجيح احتمال عدم التذكية على الاحتمال المقابل.

و للإشكال في جميع الدعاوي مجال واسع، فان الاتكال على الاستصحاب لم يظهر في شي ء منها، بل الظاهر

منها أن مجرد عدم الدراية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب الذبائح- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 530

موضوع للحكم بالحرمة، لا إحراز عدم التذكية بالأصل، مع أن لازمة حجية الاستصحاب في المثبتات بعد ما عرفت أن الأصل المذكور مثبت، و هذا و إن لم يكن محذورا لو دل الدليل عليه لكن التزامهم به مشكل مع أن الشأن في قيام الدليل عليه و هو ممنوع مخالف للظواهر.

و دعوى إلقاء الخصوصية عرفا ممنوعة، مع الاحتمال القريب في أن لأكل الميتة خصوصية لا يرضى الشارع بارتكابه بمجرد الشك و أصل الحل، بل لا بد فيه من إحراز التذكية و الحلية بأمارة معتبرة، فدعوى إلقاء الخصوصية من حرمة الأكل و من عدم صحة الصلاة و الحكم بترتب سائر الأحكام كالنجاسة و حرمة سائر الانتفاعات غير وجيهة.

و أضعف منها دعوى الاستفادة من التعليل، فإنه و إن يعم لكن لا الى موضوع أجنبي أو حكم كذلك، فأي تناسب بين قوله عليه السلام «لا تأكله، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» و بين نجاسة الحيوان المذبوح أو عدم جواز الصلاة في اجزائه و النهي عن الأكل و إن كان للشك في تذكيته، لكن لا ينتج أن كل ما شك في تذكيته محكوم بعدمها في جميع الأحكام، و حكم حرمة الأكل متفرع على التعبد بعدمها مطلقا إذ لا شاهد عليها، و انما هي مجرد دعوى بلا بينة، كدعوى ترجيح جانب احتمال عدم التذكية.

و الحاصل أن المشكوك فيه ليس غير المذكى واقعا، فلا بد من قيام دليل على التعبد بعدم التذكية مطلقا، و لم يظهر من تلك الروايات و لا الروايات الآتية إشعار بأن المشكوك فيه محكوم

بعدمها، فضلا عن الدلالة، فضلا عن عموم التنزيل و التعبد، و التفكيك في الأحكام تعبدا بين الملازمات غير عزيز.

نعم دعوى حصول الظن من جميع ما ذكر بعدم التفكيك وجيهة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 531

لكنه لا يغني من الحق شيئا، فمقتضى قصور الأخبار عن إثبات عدم التذكية مطلقا تعبدا البناء على الطهارة و جواز لبسها و سائر الانتفاعات بها إلا الأكل. و أما جواز الصلاة في أجزائها فمع عدم جريان أصالة عدم التذكية و البناء على البراءة في الأقل و الأكثر هو ذلك مع قطع النظر عن الأخبار، فلا بد من التماس دليل على المنع، و في كل مورد قصرت الأدلة عن إثبات المنع يحكم بالجواز على طبق القواعد.

ثم أن الأخبار في المقام على طوائف:

منها- ما تدل على عدم جواز الصلاة فيها إلا بعد العلم بالتذكية كموثقة ابن بكير قال: «سأل زرارة أبا عبد الهّٰخ عليه السلام عن الصلاة في الثعالب- الى أن قال-: فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي و قد ذكاه الذبح» «1».

و منها- ما تدل على الجواز مطلقا حتى يعلم أنها ميتة. كصحيحة جعفر بن محمد بن يونس «أن أباه كتب الى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الفرو و الخف ألبسه و أصلي فيه و لا أعلم أنه ذكي، فكتب لا بأس به» «2» و موثقة سماعة «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام في تقليد السيف في الصلاة و فيه الفراء و الكيمخت، فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» «3» و رواية علي بن

أبي حمزة «أن رجلا سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده عن الرجل يتقلد السيف و يصلي فيه قال: نعم، فقال الرجل: إن فيه الكيمخت، قال: و ما الكيمخت؟

______________________________

(1) مرت في ص 25.

(2) الوسائل- الباب- 55- من أبواب لباس المصلي- الحديث 4

(3) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 12.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 532

فقال: جلود دواب منه ما يكون ذكيا و منه ما يكون ميتة، فقال:

ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه» «1».

و منها- ما دلت على جوازها في موارد: كمورد السؤال عن الاشتراء من السوق، و هي صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال: اشتر و صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» «2» و قريب منها صحيحته الأخرى «3» و صحيحة البزنطي قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أ ذكية هي أم غير ذكية أ يصلي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك» «4» و قريب منها صحيحته الأخرى عن الرضا عليه السلام «5» و رواية الحسن بن الجهم قال: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: اعترض السوق فاشتري خفا لا أدري أ ذكي أم لا؟ قال: صل فيه، قلت: فالنعل، قال: مثل ذلك، قلت: إني أضيق من هذا، قال: أ ترغب عما كان أبو الحسن عليه السلام يفعله» «6».

و مثل مورد الضمان، و هي رواية محمد بن الحسين الأشعري قال:

«كتب بعض أصحابنا الى أبي جعفر الثاني عليه السلام ما تقول في الفرو يشترى من

السوق؟ فقال: إذا كان مضمونا فلا بأس» «7».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 4

(2) الوسائل الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2

(3) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(4) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(5) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 6

(6) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(7) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 10

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 533

و مورد المصنوع في أرض الإسلام، و هي موثقة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السلام «أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «1».

و مورد صلاتهم فيها كرواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال:

عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» «2».

و منها- ما فصلّت بين النعل و الخفاف في المشتري في أرض غير المسلمين و غيرهما، كموثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن لباس الجلود و الخفاف و النعال و الصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المسلمين (المصلين خ ل) فقال: أما النعل و الخفاف فلا بأس بهما» «3».

و منها- ما يظهر منها التفصيل بين ما صنع في أرض يستحل أهلها الميتة بدباغتها و غيرها، كرواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن

الصلاة في الفراء، فقال: كان علي بن الحسين عليه السلام رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز، لأن دباغها بالقرظ، فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال: إن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(2) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 534

أهل العراق يستحلون لباس جلود الميت و يزعمون أن دباغه ذكاته» «1» و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «تكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة» «2».

و قد جمعوا بين الروايات بحمل المطلقات من الطرفين على الموارد الخاصة، فصارت النتيجة عدم جواز الصلاة فيها إلا إذا علم تذكيته، أو قامت امارة عليها، كسوق المسلمين، أو الصنع في أرضهم، أو يد المسلم مطلقا، أو مع معاملته معه معاملة المذكى، أو إخباره بالتذكية.

و هذا الجمع لا يخلو من إشكال، أما في مثل الطائفة الأولى من الطائفة الثالثة التي لم يرد القيد في كلام المعصوم عليه السلام كصحيحتي الحلبي و ما بعدهما فلأن فهم القيدية فيهما مشكل، فان قوله: «الرجل يأتي السوق فيشتري» أو قوله: «اعترض السوق فاشتري خفا» بل و كذا قوله: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق» انما يجري مجرى العادة، كقوله: «أدخل السوق و اشتر كذا» و ليست العناية بالاشتراء منه بخصوصه و السؤال عن حاله حتى يقال: إنه بصدد بيان أمارية السوق للتذكية، بل الظاهر من قوله عليه السلام:

«صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» أن الموضوع لجواز الصلاة عدم العلم لا الامارة على التذكية.

فهل ترى من نفسك فيما إذا قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «كل شي ء نظيف حتى تعلم أنه قذر» «3» ثم سئل عنه منفصلا «أني اعترض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب لباس المصلي- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 61- من أبواب لباس المصلي- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 37- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 535

السوق فاشرب من المياه التي فيه، فقال: اشرب منها حتى تعلم أنها قذرة» تقييد الرواية الأولى بالثانية؟ فيقال: لا يجوز الشرب إلا مع قيام أمارة- و هي سوق المسلمين- على الطهارة.

فهل المقام إلا نظيره؟ إذ قال عليه السلام في مورد: «لا بأس به ما لم تعلم أنه ميتة» و سئل في مورد «أنى اعترض السوق فاشتري الخف و أصلي فيه فقال: صل حتى تعلم أنه ميتة» فهل الذهن الخالي عن شبهة جريان أصالة عدم التذكية و أنه لا بد من قيام أمارة يدفع بها الأصل ينقدح فيه غير ما ينقدح فيه من المثال المتقدم، فكما لا يتوهم منه أمارية السوق كذلك فيما نحن فيه، سيما مع ما تقدم من عدم جريان أصالة عدم التذكية.

إن قلت: نعم و لكن إلقاء الخصوصية و فهم الإطلاق أشكل، قلت: انما المراد عدم صالحية تلك الروايات لتقييد المطلقات لا التمسك بإطلاقها، مع أن الانصاف أن عدّ تلك الروايات في عداد المطلقات أقرب الى الفهم العرفي من عدها في المقيدات و البناء على أمارية سوق المسلمين، سيما إن قلنا: إن إحراز عدم التذكية يحتاج إلى أمارة، لا جواز الصلاة و نحوه.

و أما سائر

الروايات ما عدا موثقة ابن بكير و موثقة الهاشمي فالجمع بينها بالحمل على مراتب الفضل في التنزه عن المشكوك فيه أقرب من تقييد المطلقات أو حملها على مورد قيام الامارة، فان الظاهر من قوله عليه السلام: «صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» و ما هو نظيره أن تمام الموضوع لجواز الصلاة هو عدم العلم بكونه ميتة، و عدم اعتبار قيام الأمارة على التذكية في الجواز، و إرجاع مثله الى مورد قيام الأمارة بعيد عن الأذهان.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 536

و دعوى الانصراف الى ما يشترى من سوق المسلمين و إن لم تكن بعيدة ذلك البعد، لكن حملها على مراتب الفضل في التنزه أو مراتب الكراهة في الارتكاب لعله أقرب، بأن يقال: إن ما شك في تذكيته تصح الصلاة فيه إلى أن يعلم كونه ميتة أو قامت أمارة عليه، لكن يكره ارتكابه، و ترتفع كراهته بمراتبها إذا علم وجدانا تذكيته أو صنع في مثل أرض الحجاز. كما هو ظاهر صحيحة الحلبي الأخيرة.

و عليه يحمل فعل زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام و تنزهه عما صنع في أرض العراق، و فعل أبي جعفر عليه السلام على ما في رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: أهديت لأبي جبة فرو من العراق، و كان إذا أراد أن يصلي نزعها فطرحها» «1» فان اشتراؤه و قبول هديته و لبسه و عدم التنزه عنه إلا في الصلاة دليل على أنه على سبيل الفضل.

و كذا ترتفع ببعض مراتبها أو جميعها إذا اشترى من سوق المسلمين من مسلم ضمن تذكيته، و هو ظاهر رواية الأشعري. فان الاشتراء من السوق

منصرف الى الاشتراء من سوق المسلمين، و الظاهر من قوله عليه السلام: «إذا كان مضمونا» أن الضامن البائع المسلم لا الكافر، فإنه في غاية البعد، فمع قيام امارة أو أمارتين- أي سوق المسلم و بيعه على التذكية- لا يكون اعتبار الضمان إلا على الفضل و ترتفع ببعض مراتبها فيما إذا صنع في أرض الإسلام أو أرض كان الغالب عليها المسلمون أو صلى فيه المسلم أو كان في سوق المسلمين و الحمل المذكور قريب جدا. لكن المانع منه موثقة ابن بكير المتقدمة حيث أن ظاهرها أن الصلاة في الجلود مع عدم العلم بتذكيتها فاسدة،

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب لباس المصلي- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 537

و أن الجواز موقوف على العلم بالتذكية، و حملها على الجواز بلا كراهية مع العلم بها بعيد غايته، سيما مع التصريح بالفساد في صدرها و ذيلها الموجب لقوة ظهور كون الجواز مقابل الفساد.

فالأقرب بالنظر الى الموثقة حمل الروايات المتقدمة التي ترك فيها الاستفصال على كون الكيمخت و غيره كان في أرض المسلمين و سوقهم لا الكفار، فان المظنون إن ما كان مورد السؤال الأشياء التي اشتريت من الأسواق، و كانت هي من المسلمين أو كان الغالب على أهلها الإسلام، فتحصل من ذلك أن الجمع الذي صنعه أهل التحقيق لا محيص عنه.

نعم يبقى الكلام في موثقة الهاشمي، و لا يبعد أن يكون التفصيل فيها بين ما تتم و ما لا تتم في غير المذكى لا في مشتبه التذكية كما فصل بينهما في النجس، و يشهد له أن الظاهر منها قيام الأمارة العقلائية على عدم التذكية، فإن قوله: «في غير أرض المسلمين» أو «المصلين» يراد به

أنه من أرض الكفار، و الحمل على مشتبه الحال أو الأعم فاسد. فاتضح أنها بصدد بيان مسألة غير ما نحن بصددها.

ثم أن السوق منصرف الى سوق المسلمين، سيما بالنظر الى موثقة إسحاق بن عمار، و هو واضح، و لا فرق بين سوق المستحلين و غيرهم، لما قدمنا من ظهور رواية أبي بصير الحاكية عن فعل علي بن الحسين عليهما السلام في أن جلود العراق أيضا محكومة بالتذكية و إلا لما اشتراها و لما لبسها، و لما قبل أبو جعفر عليه السلام هديتها، و انما ألقاها لفضل التنزه منها، فهي و نحوها ظاهرة في عدم الفرق بين السوقين، فتوهم تقييد إطلاق الأدلة بها فاسد.

و يشهد للتعميم موثقة إسحاق بن عمار حيث نفى فيها البأس عن الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام، و مقتضى المقابلة بينهما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 538

جواز الصلاة فيما صنع في أرض غير المستحلين كاليمن و المستحلين، و حملها على سائر المستحلين بعيد، فلها إطلاق قوي في قوة التصريح، و يشهد له أيضا كون السائلين فقهاء العراق كالحلبي و ابن أبي نصر و إسحاق بن عمار، و من البعيد جدا استثناء سوق العراق، و عدم جواز الصلاة فيما يشترى من أرضه، و عدم التنبه للعراقيين مع ابتلائهم به، و لعل سوق العراق القدر المتيقن من الروايات.

ثم أن مقتضى إطلاق الأدلة اعتبار سوق المسلمين و أماريته للتذكية مطلقا و لو كان الكافر بايعا في سوقهم فضلا عن مجهول الحال، بل لموثقة إسحاق بن عمار قوة إطلاق بالنسبة إلى الأخذ من الكافر، بل قوله: «فان كان فيها غير أهل الإسلام، قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا

بأس» لا يبعد أن يراد به الاشتراء من غير المسلم بعد كون يد المسلم أمارة بنفسها، بل الظاهر منها أن غلبة المسلمين في بلد أمارة على أن المصنوع من صنعهم لا صنع الصنف الذي في الأقلية و الحاصل أن مقتضى الإطلاق اعتبار سوق المسلمين و أرضهم، فهما أمارة على وقوع التذكية الشرعية، و إن شئت قلت: أمارة على إجراء يد المسلمين عليه، و كون المصنوع منهم و لو كان بيد الكافر، إلا أن يعلم عدم اجراء يد المسلم عليه، و الظاهر أن الأمر كذلك لدى العقلاء أيضا، فإن السوق إذا كان للمسلمين و يكون متاع متاع تجارتهم و كان فيهم بعض أهل ملة أخرى و كانت تحت يده من ذلك المتاع يكون احتمال كونه من غير بلد المسلمين و اشتراؤه من غير أهل هذا السوق احتمالا بعيدا لا يعتني به العقلاء.

و لو استشكل في هذا البناء أو حجيته لكن لا إشكال في أن ذلك الارتكاز موجب لفهم العرف من الروايات أن سوق المسلمين و غلبتهم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 539

صار سببا لحكم الشارع جواز الصلاة فيما يشترى منه أو مما صنع في أرضهم.

نعم ربما يقال: إن رواية إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف، قال:

عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» «1» دلت على أن يد الكافر أمارة على عدم التذكية.

و فيه مع ضعف الرواية أن الظاهر منها أن الفراء إذا كان من المتاع الذي يبيعه

المشركون و كان له نحو اختصاص بهم في التجارة و كانوا هم الذين يبيعونه لا يجوز الصلاة فيه، و يجب السؤال عنه، و هو غير أمارية يد الكافر، فكما أن سوق المسلمين أمارة على التذكية بما قدمناه كذلك سوق الكفار، و كون المتاع منهم و من مال تجارتهم يكون أمارة على عدمها.

و بالجملة فرق بين قوله: «إذا كان المشركون يبيعون ذلك» و بين قوله: «إذا اشتريت من مشرك أو من المشركين» فالمفهوم من العبارة الأولى أن للمتاع نحو اختصاص بهم في التجارة دون الثانية، و لا أقل من مساواة هذا الاحتمال للاحتمال الآخر، فلا يجوز معه رفع اليد عن إطلاق أدلة اعتبار السوق الموافق لارتكاز العقلاء، نعم سوق الكفار أو كون المتاع من أمتعتهم أمارة على عدم التذكية ما لم تقم أمارة أقوى عليها، كترتيب المسلم آثار التذكية عليها.

و لعله الظاهر من ذيل رواية إسماعيل، و هو قوله عليه السلام:

______________________________

(1) مرت في ص 533.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 540

«و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» فان المفهوم منه أن ما رأيتم المشركين يبيعونه يجب السؤال عنه إلا إذا رأيتم المسلمين يصلون فيه، أي في ذلك المتاع الذي يبيعه المشركون، و ليس المراد من قوله: «يصلون فيه» أن جميع المسلمين يصلون فيه، فلا محالة يراد به جواز الصلاة إذا رتب المسلم آثار التذكية عليه، و لا اختصاص بالصلاة فيه، بل الظاهر أن ترتيب مطلق آثارها موجب لذلك، و سيأتي إشكال فيه.

ثم اعلم أنا و إن قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية لكن بمقتضى موثقة ابن بكير التي علق فيها جواز الصلاة على العلم بالتذكية نحكم بعدم الجواز إلا مع قيام

الأمارة عليها، أو دل دليل على جواز معاملة المذكى معه، و لا شبهة عندهم في أن سوق المسلمين و الصنع في أرضهم أمارة عليها لا بمعنى اعتبار مفهوم السوق، بل الظاهر أن ما هو الموضوع للحكم هو اجتماع المسلمين و كون المتاع في مجتمعهم و مورد تجارتهم، سواء كان في السوق أو غيره، كما أن المراد بما صنع في أرض الإسلام أن المصنوع من مصنوعات مجتمعهم و لو لم تكن الأرض لهم، فلو اجتمع المسلمون في أرض غيرهم و كان المتاع الفلاني كالفراء من مصنوعات ذلك المجتمع و كان صنع غيرهم له مشكوكا فيه أو نادرا يحكم عليه بالتذكية.

و الحاصل أن الامارة على التذكية كون الجلد في مجتمعهم سوقا أو غيره و كونه صنع مجتمعهم و مستقرهم كان الأرض ملكا لهم أو لا، و هذا لا ريب فيه ظاهرا، و احتمال خصوصية السوق و نحوه من العناوين ضعيف ملقى بنظر العرف، ضرورة أنهم لا يرون لخصوصية السقف و الجدار دخالة في الحكم. و كذا لمملوكية الأرض، و كون النكتة للجعل دفع الحرج مشتركة بين السوق و غيره مع أن كونها ذلك غير معلوم.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 541

ثم أنه لا ثمرة مهمة في البحث عن أن عنوان السوق و عنوان الصنع في أرض المسلمين أو الفراء اليماني أو الحجازي مما ورد في النصوص يرجع الى عنوان واحد هو كون الشي ء في مجتمعهم أو عناوين مستقلة.

نعم الظاهر بناء على الأمارية أن عنوان السوق و غيره أمارة على التذكية بلا وسط، لا امارة على الامارة عليها، و ما هي أمارة بلا وسط يد المسلم أو يده مع ترتيبه أثر التذكية على ما

في اليد، أو نفس ترتيب المسلم أثرها و لو لم يكن تحت يده، مثل عدم احترازه عن ملاقاته و الصلاة في ملاقيه، لأن ظاهر الأدلة أن السوق بنفسه أمارة عليها لا بوسط، و لا دليل على الوسطية، بل لا إشعار في الروايات عليها.

فحينئذ يقع الكلام في أن يد المسلم مطلقا أو مع ترتيب أثر التذكية أو نفس ترتيبه الأثر أمارة عليها، فان كان شي ء تحت يده أو عامل معه معاملة المذكى في غير سوق المسلمين و أرضهم يحكم عليه بالتذكية؟ الظاهر ذلك، لا لكون الأدلة الواردة في المقام ظاهرة في أمارية يده عليها أصالة، لما عرفت.

و لا لرواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة بدعوى أن الظاهر منها عدم لزوم السؤال عما كان بائعه مسلما غير عارف فضلا عن العارف، لقصرها لزوم السؤال على ما إذا كان المشركون يبيعونه، فكأنه قال لا يجب السؤال إذا كان المسلم يبيعه، و بدعوى أن دلالة ذيلها على أن ترتيب المسلم أثر التذكية أمارة كما تقدم، فتدل على اعتبار يد المسلم و ترتيبه الأثر و إن كانت يده مسبوقة بيد الكافر، كما يظهر من ذيلها بالتقريب السابق، و ذلك لأن في الرواية احتمالا آخر مساويا له أو

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 542

أقرب منه، و هو أن قوله عليه السلام: «عليكم أنتم أن تسألوا عنه» أي عليكم أن تسألوا عما يبيعه المسلم غير العارف إذا كان المتاع مما يبيعه المشركون، فيكون المراد أن المبيع إذا كان من متاع المشركين و مورد تجارتهم نوعا يجب السؤال عنه و إن باعه مسلم ترجيحا للغلبة.

و قوله عليه السلام: «و إذا رأيتهم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» معناه أن ما

كان من متاع تجارة المشركين و كان له نحو اختصاص بهم لا يجوز الصلاة فيه، إلا أن يكون المسلمون يصلون فيه، لا بمعنى صلاة جميع المسلمين فيه، بل بمعنى بناء المسلمين على الصلاة فيه، و حاصل فقه الحديث على هذا الاحتمال أن البائع إذا كان مسلما و باع المتاع الذي كان يبيعه المشركون نوعا بحيث ينسب المتجر إليهم يجب السؤال عنه لترجيح غلبة الكفار على فرد من المسلمين، نعم إن كان بناء المسلمين الصلاة فيه يجوز الصلاة فيه بلا سؤال ترجيحا لعمل المسلمين على سوق الكفار.

و هذا الاحتمال لو لم يكن ظاهر الرواية فلا أقل من مساواته للاحتمال المتقدم، فتدل الرواية حينئذ على عدم اعتبار يد المسلم في مثل الواقعة، نعم لا تدل على نفي الاعتبار مطلقا و لا على الاعتبار و لو في الجملة، هذا بعد تسليم أن السوق المسئول عنه أعم من سوق المسلمين في خصوص الرواية لقرينة.

و لا للروايات الواردة في باب سوق الهدي، كصحيحة حفص بن البختري قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدق به عليه، قال: ينحره و يكتب كتابا يضعه عليه ليعلم من مر به أنه صدقة» «1» و قريب منها روايات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبح الحديث 1- من كتاب الحج.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 543

أخر «1» و ذلك لأن في مورد تلك الروايات يكون النحر وجدانيا، و كونه بيد مسلم مجزوما به بالأمارات كالنحر و الكتابة و كونه في طريق الحج و انما الشك في حصول التذكية الشرعية، و هي محرزة بأصالة الصحة.

و لا كلام في جريانها فيما إذا

أحرز عمل المسلم و شك في صحته، و هو غير ما نحن بصدده من إحراز التذكية من غير إحراز الذبح و النحر فضلا عن كونهما بيد المسلم، فتلك الروايات أجنبية عن المدعى.

و لا لأولوية اعتبار يد المسلم من يد مجهول الحال في سوق المسلمين و ذلك لأن المعتبر في المفروض سوق المسلمين لا يد مجهول الحال، و لو لا مخافة مخالفة الأصحاب لقلنا باعتبار سوق المسلمين و لو كان الشي ء في يد الكافر، لا لكون يده معتبرة، بل لكون السوق كذلك.

و لا لأصالة الصحة، لأن إثباتها لتلك المثبتات محل إشكال، مضافا الى مبنى أصالة الصحة عند العقلاء، أن العاقل إذا أتى بعمل يعتبر في صحته أمور لا يتركها عمدا و لا يأتي بها فاسدا، لمنافاة الترك عمدا لقصد فراغ الذمة و قصد تحقق المأتي به، و الترك من غير عمد مخالف للأصل، و هذا غير جار في المستحل، و لا تجري أصالة الصحة مع احتمال التصادف للواقع من باب الاتفاق كما قرر في محله، مع أن الصحة في بعض الأحيان و الأعمال لا تلازم التذكية، كما لو صلى في شي ء لإمكان كون صلاته فيه لعذر، و لا يحرز بأصالة الصحة عدم العذر و لا لكون ترتيب آثار التذكية بمنزلة الاخبار عنها، فكما أن إخبار ذي اليد حجة عند العقلاء كذلك ما هو بمنزلته، و ذلك لمنع كونه بمنزلته، سيما في المستحل ذبيحة أهل الكتاب و مستحل الصلاة في جلد الميتة مع دباغه، و سيما مع اختلاف الناس معنا في بعض شرائط

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الذبح من كتاب الحج

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 544

التذكية كالتسمية و فري الأوداج

و غيرهما، بل لا يلازم بعض الأعمال من غير المستحل أيضا للتذكية كما تقدم، فلا يكون مطلق ترتيب الآثار بمنزلة الاخبار.

بل لبناء المتشرعة على ترتيب آثار الملكية على ما في يد المسلمين من غير نكير، و هو كاشف عن التذكية، و إن شئت قلت: سيرة المتشرعة على ترتيب آثار الملكية و التذكية على ما في يدهم من غير تفرقة بين المستحل و غيره، سواء كان في سوق المسلمين أم لا، مضافا إلى أن البناء العملي على التذكية فيما في يد غير المستحل مع ترتيبه آثارها كأنه إجماعي لم ينقل الخلاف فيه من أحد.

و الانصاف أن الخدش في كل واحد مما ذكر و إن أمكن لكن لا يبعد دعوى الوثوق من مجموعها، على أنه يعمل مع ما في أيدي المسلمين معاملة المذكى، سيما مع كون ذبيحة المسلمين محللة علينا، و قد اختلفوا معنا في شرائط الذبح مع مناسبة الحكم لسهولة الملة و سمحتها.

مضافا الى أن سوق المسلمين في تلك الأعصار و البلاد كان لغير الطائفة المحقة، و لم يكن لهذه الطائفة سوق في تلك البلاد، و هم مختلفون مع الطائفة في كثير من الشرائط، كفري الأوداج، و استقبال القبلة، و التسمية، و مورد النحر و الذبح، و آلة الذبح، و في الصيد أيضا في صائده و شرائطه، و في استحلال ذبيحة أهل الكتاب مع كثرتهم في ذلك العصر، كما يظهر من الأسئلة و الأجوبة في الروايات الواردة في ذبيحتهم و أوانيهم و أثوابهم، و معه يمكن أن يقال: إن حكم تحليل ما يشترى من السوق لأجل التوسعة على العباد، لا لكاشفيته و أماريته عن التذكية، ضرورة أنه مع هذا الاختلاف الفاحش بين الفرقتين و أقلية الفرقة

الحقة لم يكن سوق المسلمين و لا يدهم أمارة عقلائية على

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 545

التذكية الشرعية، فخصوصية السوق ليست لكاشفيته عن التذكية الشرعية بل لأجل أنه يعمل مع المأخوذ من يد المسلمين الذين لا يراعون شرائط التذكية معاملة المذكى توسعة على العباد، كما أنه يعمل مع ما في سوقهم و ما صنع في أرضهم معاملته، كل ذلك للتوسعة.

و تشهد لما ذكرناه- مضافا الى عدم صالحية مثل هذا السوق و تلك اليد للأمارية- الروايات الواردة في الباب الظاهرة فيما ذكرناه، و ليس فيها بكثرتها ما تشعر بالامارية، بل لسانها لسان أدلة الأصول، كقوله عليه السلام: «هم في سعة حتى يعلموا» و قوله عليه السلام: «إن الدين أوسع من ذلك» و قوله عليه السلام: «لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» و قوله عليه السلام: «صل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه».

و ما ظهر لي بعد التأمل في الأخبار و النظر في حال سوق المسلمين في تلك الأعصار الذي كان منحصرا بالعامة أمران: أحدهما أن منشأ سؤال السائلين احتمال عدم مراعاة القصابين شرائط التذكية، و الثاني أن الحكم على سبيل التوسعة لا للأمارية العقلائية و لا الجعلية الشرعية لو سلم إمكانها، كما تشهد لهما صحيحة الفضلاء «أنهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدرى ما صنع القصابون؟

فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه» «1».

فكان منشأ سؤال فقهاء أصحاب أبي جعفر عليه السلام اطلاعهم على فتاوى أبي حنيفة و مالك و اختلافها معنا، و قوله عليه السلام:

«كل» إلخ لا يدل إلا على جواز الأكل عما كان في سوق المسلمين لا

لاماريته على التذكية الشرعية بالشرائط المقررة عند الفرقة المحقة ضرورة عدم اماريته لها كما مر، و لا لأصالة الصحة، فإنها غير جارية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب الذبائح- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 546

في مثل المقام الذي يحتمل الانطباق من باب الاتفاق و لا لأمارية اليد الكذائية لعين ما ذكر، بل للتوسعة على العباد كما تدل عليه الروايات المتقدمة.

و إن شئت قلت: هذه الرواية لا تدل إلا على جواز الأكل بلا سؤال، و سائر الروايات ظاهرة في أن الحكم على نحو التوسعة لا الأمارية فلا تنافي بينهما، بل يمكن أن يقال: إن تجويز الأكل و ترك السؤال في موضوع لا يقوم عليه أمارة عند العقلاء ظاهر في التوسعة.

و تشهد أيضا لما ذكرناه رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام، و فيها «و اللّٰه اني لأعترض على السوق فاشتري اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظن كلهم يسمون: هذه البربر و هذه السودان» «1» فلو كان السوق امارة على التذكية لكان المناسب أن يقول عليه السلام:

أن ما يشترى منه مذكى، و لا يناسب هذا التعبير مع إلقاء احتمال الخلاف في الأمارات.

و يشهد له خبر عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني أدخل السوق أعنى هذا الخلق الذي يدعون السلام، فاشتري منهم الفراء للتجارة، و أقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية: فيقول:

بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول قد شرط الذي اشتريتها منه أنها ذكية، قلت:

ما أفسد ذلك، قال استحلال أهل العراق الميتة» «2» حيث يظهر منها جواز البيع و

الشراء مطلقا و عدم جواز الاخبار بتذكيته حتى مع إخبار صاحبها. لاستحلال أهل العراق الميتة، فلو كان سوق المسلمين

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 61- من أبواب الأطعمة المباحة- الحديث 5

(2) راجع الوسائل- الباب- 61- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 547

امارة على التذكية جاز الاخبار بها و لو لم يخبر صاحبه بها، و ليس هذا إلا لكون جواز ترتيب أثر التذكية عملا انما هو للتوسعة على العباد، لا أن السوق أو اليد امارة عليها.

فظهر من جميع ذلك جواز معاملة المذكى مع ما في سوق المسلمين و ما صنع في أرضهم و ما في أيدي المستحل و غيره، بل مورد الروايات هو ما في أيدي المستحلين للميتة و لو لاستحلال ذبيحة أهل الكتاب أو استحلال ما لا يكون مذكى شرعا عند الفرق الناجية، و مقتضى إطلاق الروايات جواز الشراء من يد مجهول الحال، بل لعل سوق المسلمين و أرضهم أمارة على أن مجهول الحال مسلم.

و أما المأخوذ من يد الكافر فمع كون الحكم بعدم التذكية مظنة الإجماع يمكن دعوى قصور الروايات عن شموله بالتقريب الأخير، فإنها سؤالا و جوابا بصدد بيان حال المأخوذ من سوق العامة و أيديهم، و المسألة بجميع جوانبها تحتاج الى مزيد تدبّر.

المطلب الخامس: طريق ثبوت النجاسة و الطهارة

و غيرهما من الموضوعات الخارجية العلم و ما قام مقامه من الأمارات الشرعية و بعض الأصول.

و قيل بثبوتها بمطلق الظن، فان الشرعيات كلها ظنية، و العمل بالمرجوح في مقابل الراجح قبيح، و هو منقول عن أبي الصلاح الحلبي و فيه منع اعتبار الظن المطلق في الشرعيات، و لو فرض اعتباره في الأحكام فإلحاق الموضوعات بها قياس، و منع كون عدم العمل بالظن من

باب ترجيح المرجوح عليه، بل لعدم الدليل على اعتباره و العمل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 548

بالأصول المعتبرة في مقابل الظن عمل بالراجح.

و عن ابن البراج أن طريق ثبوتها العلم فقط، قائلا: إن الطهارة ثابتة بالعلم، و البينة لا تفيد إلا الظن، و فيه منع ثبوت الطهارة بالعلم إلا في بعض الأحيان، و منع الملازمة بين ثبوتها بالعلم و ثبوت النجاسة به، لعدم الدليل على أن الشي ء إذا ثبت بالعلم لا بد و أن يثبت ضده به أيضا، و أما الاستدلال له بنحو قوله عليه السلام: «كل شي ء نظيف حتى تعلم أنه قذر» «1» فلا يخفى ما فيه بعد تحكيم أدلة اعتبارات الأمارات عليه لو سلم أن المراد بالعلم هو العلم الوجداني، و إلا فهو أيضا محل منع أشرنا إلى وجهه في بعض المقامات.

فالأولى صرف الكلام الى ما يثبت به النجاسة غير العلم، لا ينبغي الإشكال في ثبوتها بالبينة كما عن المشهور، فإن الأدلة الواردة في ثبوت المعظمات بها كما يوجب القتل مثل الزندقة و عبادة الأوثان و اللواط أو القطع كالسرقة أو الحد كشرب الخمر و نحوها مما يعثر عليه المتتبع و كذا في موارد حقوق الناس و غيرها من الموارد الكثيرة المختلفة موجبة لإلقاء الخصوصية عرفا، لأن العرف يرى أن ثبوت تلك الأحكام كالقطع و القتل و الحد انما هو لثبوت موضوعاتها بالبينة من غير دخالة لخصوصية الموضوع أو الحكم في ذلك، بل دعوى الجزم باعتبارها في مثل النجاسة و الطهارة من غير المعظمات بعد ثبوت تلك المعظمات بها غير جذاف.

هذا مضافا الى موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «كل شي ء هو لك

حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك يكون عندك و لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة

______________________________

(1) مرت في ص 534

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 549

تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» «1».

و في الرواية احتمالان: أحدهما ما فهموا منها، و هو أن كل شي ء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه سواء كان من قبيل الأمثلة مما قامت امارة عقلائية و شرعية على حليتها أم لا، فإن الأمارة لا توجب العلم الوجداني على الحلية، فيصح انسلاك موردها فيما لا يعلم، و ذكر خصوص تلك الأمثلة انما هو من باب الاتفاق ثم عقبها بقاعدة كلية شاملة لمواردها و غيرها. هي قوله عليه السلام: «و الأشياء كلها على ذلك» إلخ.

و المراد بالاستبانة المقابلة للبينة إن كان خصوص العلم الوجداني فاختصاصهما بالذكر لكونهما أوضح مصاديق ما يثبت به الموضوع، فلا ينافي ثبوته بغيرهما كاخبار ذي اليد و الاستصحاب، و إن كان المراد بها مطلق الأمارات و الأصول المحرزة فاختصاص البينة بالذكر لكونها أوضح مصاديق ما جعله الشارع حجة.

و المراد من قيام البينة قيامها على السرقة و الحرية و الأختية و نحوها من الموضوعات التي تقوم عليها البينة عادة، و توهم أن المراد قيامها على الحكم فاسد جدا، مخالف لظاهر الرواية و للمعهود من قيامها على الموضوعات فتترتب عليها الأحكام لا عليها.

و لا شبهة في عدم فهم خصوصية للموضوعات التي تترتب عليها الحرمة حتى يقال لا دلالة لها على حجية البينة

فيما يترتب عليه حكم وجوبي، لأن المستفاد منها أن تمام الملاك لثبوت الموضوع قيام البينة، سيما مع كونها امارة عقلائية مضاعفة فإن خبر الثقة أيضا امارة عقلائية.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب ما يكتسب به- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 550

و بالجملة لما كانت للبينة حيثية الأمارية فلا يفهم العرف من قاطعيتها للحلية إلا لاماريتها على الواقع و ثبوته بها من غير خصوصية للموضوعات أو الأحكام المترتبة عليها خصوصا مع جعلها عدلا للاستبانة و الاحتمال الثاني الذي يمكن أن يكون ثقيلا على الأسماع ابتداء و ليس بعيدا بعد التنبه لخصوصيات الرواية هو أن المراد بقوله عليه السلام: «كل شي ء هو لك حلال» أن ما هو لك بحسب ظاهر الشرع حلال فيكون قوله عليه السلام: «هو لك» من قيود الشي ء «و حلال» خبره، و تشهد لهذا أمور:

منها ذكر «هو» في خلال الكلام، و هو غير مناسب لبيان حلية المجهول، كما هو غير مذكور في الروايات التي سيقت لبيان حليته، فنكتة ذكر الضمير لعلها لإفادة خصوصية زائدة هي تقييد الشي ء بكونه لك.

و منها قوله: و ذلك مثل كذا و كذا، فان الظاهر منه أن له عناية خاصة بالأمثلة التي ذكرها، و لها نحو اختصاص بالحكم.

و منها ذكر الأمثلة التي كلها من قبيل ما تقدم من كون الموضوع مما يختص به بحسب أمارة شرعية كاليد، أو أصالة الصحة أو الاستصحاب فذكر خصوص تلك الأمثلة التي ليست واحدة منها من مورد كون الشك موجبا للحلية يؤكد ما ذكرناه، بل يدل عليه.

و منها أن لسان الرواية بناء على الاحتمال الأول لسان الأصل، و هو لا يناسب الأمثلة المذكورة، و أما بناء على الاحتمال الثاني

فليس المنظور جعل الحكم الظاهري حتى لا يناسبها، بل أمر آخر يأتي بيانه.

و منها اختصاص العلم الوجداني و البينة بالذكر، فان الظاهر من الاستبانة في مقابل البينة هو العلم الوجداني فحملها على الأعم خلاف الظاهر المتفاهم منها، فعليه تكون الرواية بصدد بيان أن ما هو لك

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 551

بحسب الأمارات الشرعية و نحوها لا تنقطع حليته إلا بالعلم الوجداني و خصوص البينة من بين الأمارات، و ليست بصدد بيان الحكم الظاهري.

ففقه الحديث على هذا أن ما هو بحسب ظاهر الشرع لك و مختص بك- كالثوب الذي اشتريته و احتمل أن يكون سرقة، و المملوك الذي تحت يدك و محكوم بملكيتك و احتمل حريته، و الامرأة التي تحتك و احتمل كونها أختك أو رضيعتك، مع ان اليد و أصالة الصحة بل و الاستصحاب الموضوعي في الرضيعة بل في الأخت على فرض جريانه في الأعدام الأزلية كل يقتضي كونها زوجتك- هو حلال لك لا تنقطع حليته إلا بأمرين: العلم الوجداني و البينة دون سائر الأمارات، و هذا الاحتمال و إن كان بعيدا ابتداء، لأنس الأذهان بأن مثل العبارة سيقت في سائر الروايات لبيان الحكم الظاهري، لكن بعد التأمل في الجهات المتقدمة لا يبعد أن يكون أظهر من الأول، و لا أقل من مساواته له مع رفع الاشكال به عن الرواية، فيكون حينئذ المراد من قوله عليه السلام: «و الأشياء كلها على هذا» أن كل شي ء من قبيل الأمثلة لا جميع الأشياء.

و كيف كان تثبت على هذا الاحتمال أيضا حجية البينة مطلقا، ضرورة ان جعلها عدلا للعلم في قطع الأصول و الأمارات العقلائية و الشرعية المخالفة لها موجب لاستظهار كونها

أقوى الأمارات في إثبات الموضوعات، و احتمال دخالة خصوصية قيام الامارة على خلافها في حجيتها مدفوع بالقطع و مخالفته لفهم العقلاء، فالمستفاد منها ان البينة عدل العلم في إثبات الموضوعات حتى مع قيام الأمارات على خلافها.

و تدل على ثبوتها بها أيضا رواية عبد اللّٰه بن سليمان قال: «كل

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 552

شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» «1».

و هل يثبت النجاسة بل سائر الموضوعات بخبر الثقة؟ قيل: نعم متمسكا باستقرار سيرة العقلاء على العمل به، و لم يثبت الردع من الشارع، بل ثبت الإنفاذ في أخذ الاحكام و الاخبار من الثقات، و الظاهر من الاخبار الواردة في هذا المضمار أن الشارع لم يؤسس حكما، بل أنفذ ما لدى العقلاء من الأخذ عن الثقات، و لا فرق في نظر العقل و العقلاء بين الاحكام و موضوعاتها، نعم ورد الردع في بعض الموارد كأبواب الخصومات.

بل يمكن الاستدلال للمطلوب بموثقة مسعدة المتقدمة بدعوى أن الاستبانة أعم من العلم و غيره كخبر الثقة، و انما خصت البينة بالذكر لكونها أوضح الطرق الشرعية لا لخصوصية فيها.

و تشهد له أيضا الأخبار الواردة في أبواب مختلفة. مثل صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، و فيها «قلت: فان الوكيل أمضى الأمر قبل ان يعلم العزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم، قلت له: فان بلغه العزل قبل ان يمضي الأمر ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي ء؟ قال:

نعم، إن الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، و الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو

يشافه بالعزل عن الوكالة» «2».

و موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن رجل كانت له عندي دنانير و كان مريضا فقال لي: إن

______________________________

(1) مرت في ص 104

(2) الوسائل- الباب- 2- من كتاب الوكالة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 553

حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا، و أعط أخي بقية الدنانير فمات و لم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين، و لم يعلم أخوه أن عندي شيئا فقال: ارى أن تصدق منها بعشرة دنانير» «1».

و موثقة سماعة قال: «سألته عن رجل تزوج امرأة أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة، فقال: إن هذه امرأتي و ليست لي بينة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل» «2».

و الأخبار الدالة على جواز الاعتماد على أذان الثقة «3» و ما دلت على جواز و طي الأمة بغير استبراء إذا كان البائع ثقة أمينا «4».

و صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت ثم مسح تلك اللمعة بيده» «5».

أقول: و في الجميع نظر، أما استقرار سيرة العقلاء فمسلم، لكن مع ما نرى من اعتبار البينة في موارد كثيرة لا تحصى، لا يبقى وثوق بها، فإنها بنفسها ليست بحجة، و مع ورود الردع في تلك الموارد لا يمكن استكشاف عدمه في الموارد المشكوك فيها.

إلا أن يقال:

إن للموارد المردوعة خصوصيات كباب الخصومات

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 97- من كتاب الوصايا- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 23- من أبواب عقد النكاح- الحديث 2

(3) المروية في الوسائل- الباب- 3- من أبواب الأذان و الإقامة.

(4) الوسائل- الباب- 5- من أبواب نكاح العبيد و الإماء- الحديث 1

(5) الوسائل- الباب- 41- من أبواب الجنابة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 554

فان غالب مواردها قامت أمارة شرعية على أمر يراد دفعها، فلا بد و أن تكون الأمارة الدافعة أقوى منها، و لهذا اعتبرت فيها البينة لقطعها، و في موارد الحدود و نحوها يكون للشارع الأقدس مزيد عناية بعدم ثبوتها و محفوظية عرض المسلم و دمه، و لهذا تدرأ بالشبهات، و لا يعتنى في بعض الموارد بإقرار المرتكب مرة أو مرتين أو أزيد، فردع الشارع في تلك الموارد المهمة لا يدل على ردعه في سائر الموارد.

لكن نقل الشهرة على عدم اعتبار خبر الثقة فيما نحن فيه، و كذا نقلها بل نقل الإجماع في الموارد التي وردت فيها الخبر بالخصوص باعتبار خبر الثقة على عدم الثبوت به- كمورد عزل الوكيل و مورد الوصية و مورد أذان الثقة مما تأتي الإشارة إليه- ربما توجب الوثوق بمعهودية عدم اعتباره في الموضوعات.

هذا مع أن موثقة مسعدة ظاهرة في الردع عنه بناء على ما هو المعروف في معناها أي الاحتمال الأول من الاحتمالين المتقدمين، فان الظاهر أن الغاية للحل مطلقا البينة، فلو كان خبر الثقة مثبتا للموضوع كان اعتبار البينة بلا وجه، فان معنى اعتبارها أن يكون كل واحد من الشاهدين جزء الموضوع للإثبات، و مقتضى ثبوته بخبر الثقة أنه تمام الموضوع، فلا يمكن الجمع بينهما في الجعل، فالقول بأن

الاستبانة أعم من العلم و خبر الثقة ضعيف غايته، ضرورة لغوية جعل البينة حينئذ غاية.

فإن قلت: المراد بالبينة شاهدا عدل و لو لم يكونا ثقتين من غير جهة الكذب بل من جهته أيضا فإن ظهور الصلاح كاشف تعبدي عن العدالة، فحينئذ يكون خبر الثقة في مقابل البينة، لا جزئها حتى يرد الإشكال العقلي، فالبينة إحدى طرق الإثبات، و هي شاهدا عدل ثبت

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 555

عدالتهما بظهور الصلاح و لو لم نثق بهما من جهة الاحتراز عن الكذب أو من جهة الغفلة و الخطأ، و خبر الثقة و لو لم يكن عدلا طريق آخر له مباين لها لا مداخل فيها، نعم لو قلنا باعتبار خبر واحد عدل لتطرق الاشكال المتقدم.

قلت: نمنع عدم اعتبار الوثوق من جهة احتمال الغفلة و الخطأ في البينة، فإن الشاهدين إذا كانا من متعارف الناس تجري فيهما أصالة عدم الخطأ و الغفلة لدى العقلاء، و إن لم يكونا كذلك و كان الغالب عليهما الاشتباه و الخطأ أو كانا بحيث لم يتكل عليهما العقلاء و لم تجر في حقهما الأصول العقلائية لا تعتبر شهادتهما، و تكون أدلة اعتبار البينة منصرفة عن مثلهما.

و الظاهر ملازمة ظهور الصلاح بالمعنى المعتبر في الكاشف للوثوق النوعي بالاحتراز عن الكذب، و الوثوق الشخصي غير معتبر لا في البينة و لا في خبر الثقة، و مع عدم حصول الوثوق النوعي لجهة من الجهات في الشاهدين فلا محالة تكون تلك الجهة منافية لظهور الصلاح، مضافا الى أن إطلاق الموثقة يقتضي اعتبار التعدد و لو كان الشاهدان موثقين، و حملها على خصوص غير الموثق مع كون العدلين موثوقا بهما نوعا كما ترى.

فتحصل مما

ذكرناه أن الموثقة رادعة عن العمل بخبر الثقة في الموضوعات، و من هنا ظهر ضعف التمسك بها لإثبات اعتبار خبر الثقة كما هو واضح، نعم بناء على الاحتمال الثاني لا تكون الموثقة رادعة إلا عن الموارد التي قامت أمارة على إحراز موضوع و يراد إثبات خلافها نظير الأمثلة المتقدمة.

و أما الروايات المستشهد بها فمع كونها في موارد خاصة لا يمكن

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 556

إثبات سائر الموارد بها، سيما مع البناء على كون الموثقة رادعة، و سيما مع قلة العامل بها على الظاهر، كما حكي عن التذكرة و جامع المقاصد الإجماع على عدم ثبوت العزل بخبر العدل، و ظهور الكتاب و السنة في عدم ثبوت الوصية إلا بشاهدين عدلين، بل أرسل الأصحاب إرسال المسلمات عدم ثبوت شي ء من الوصية باخبار رجل عدل، و إن ثبت الربع منها باخبار مرأة و الربعين بمرأتين و ثلاثة أرباع بثلاث للنص «1» فضلا عن ثبوت التمام به، و عدم عمل المشهور بالأخبار الواردة في أذان الثقة في حال إمكان العلم و مع عدمه يكون مطلق الظن حجة يثبت به الوقت.

ان المحتمل في خبر عزل الوكيل أن العزل المحقق واقعا إذا بلغ بثقة ينعزل الوكيل به لا لأجل ثبوت العزل به بل لبلوغه، ففرق بين ثبوت العزل به عند الشك فيه و بين بلوغ العزل المحقق بثقة، فالأول محط البحث هاهنا، و الثاني مورد دلالة الخبر.

و بعبارة اخرى أن العزل الواقعي لا يكون موضوع حكم حتى يكون خبر الثقة مثبتا له، بل الموضوع للحكم بلوغ العزل بثقة على أن يكون كل من العزل و البلوغ جزء للموضوع، و هو أجنبي عما نحن بصدده، و

لا دليل على أن أحد الجزءين مثبت للجزء الآخر، و بهذا اللحاظ يكون موضوعا له، فتدبر تعرف.

و المحتمل في خبر الوصية أن الوصي لم تكن شبهته في ثبوت الوصاية بخبر الثقة، بل الظاهر فرض حصول الاطمئنان بها، حيث فرض كون المخبر صادقا مع انه أخبر عن واقعة شخصية كانت بينه و بين الموصي، و معه تطمئن النفس بصدقه، سيما في أمر لا داعي له

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 22- من كتاب الوصايا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 557

أن يكذب فيه، بل كانت شبهته في أن تبديل الوصية بوصية أخرى جائز، و معه هل يجب على الموصي العمل بالأولى أو الثانية؟ تأمل.

و موثقة سماعة محمولة على الاستحباب، ضرورة عدم اعتبار قول المدعي و لو كان ثقة، و قد ورد في موردها ما يدل على عدم سماع دعواه إلا بالبينة «1».

و خبر قبول الاستبراء من البائع فمن أخبار ذي اليد، و هو أمر آخر غير مربوط بالمقام.

و لم يظهر من خبر اللمعة العمل بخبر الثقة، بل لعله كان مشتغلا بالعمل فصار خبره موجبا للشك حال الاشتغال، أو كانت اللمعة في طرف الأيسر بناء على اعتبار الشك فيه و لو بعد الفراغ، أو كان من باب الاحتياط.

فالمسألة محل إشكال من جهة الإشكال في معنى موثقة مسعدة، و من جهة عدم العثور على مورد عمل الأصحاب بخبر الثقة في الموضوعات كما عملوا به في الأحكام، و من هنا يشكل الاعتماد على السيرة و الوثوق بعدم الردع، فالأحوط عدم الثبوت بخبر الثقة لو لم يكن الأقوى.

و أما إخبار ذي اليد أي من كان له نحو استيلاء و تصرف في الشي ء و لو كان غاصبا و فاسقا فضلا

عمن كان مالكا أو أمينا كالمستأجر و المستودع بل و الخادم و غيرهم فلا ينبغي الإشكال في اعتبار قوله في ثبوت النجاسة و الطهارة، بل و غيرهما إلا ما استثني.

و الدليل عليه السيرة المستمرة، و بناء العقلاء، و نقل الشهرة، و الاتفاق على قبول قوله، و يدل على اعتباره في الجملة الأخبار المختلفة في موارد لا يبعد إلقاء الخصوصية منها عرفا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب عقد النكاح- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 558

منها روايات قبول خبر غير العارف و غير معروف الحال في البختج إن لم يكن مستحلا كصحيحة عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل فاشربه» «1» و صحيحة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث، و أنا أعرف أنه يشربه على النصف، فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال:

نعم» «2».

دلتا على أنه مع كون الرجل غير متهم و لا مكذب عمله قوله يقبل منه إخباره و لو كان إخبارا عمليا، سواء كان من أهل المعرفة أو لا، معلوم الحال أو لا، و إطلاقهما يقتضي قبول قول الفاسق في مذهبه.

نعم في بعض الروايات «3» اعتبار كون المخبر مسلما ورعا مؤمنا أو

مسلما عارفا أو اعتبار كون البختج حلوا يخضب الإناء مضافا الى إخبار صاحبه، و الأوليان محمولتان على الاستحباب حملا على النص، و الثالثة محمولة على ما إذا كانت الامارة على خلاف قوله، فان عدم الاختضاب

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(3) المرأة في الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 6 و 7 و 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 559

دليل على عدم التثليث، بل لعله دليل قطعي على عدمه، و أما الاختضاب فأعم من حصول التثليث، فاعتباره لأجل حصول الشك فيه لا قيام الأمارة عليه.

نعم إطلاق صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام و فيها «إذا كان يخضب الإناء فاشربه» «1» يقتضي أمارية الاختضاب على التثليث، لكنها محمولة على صحيحة معاوية بن وهب «2» التي اعتبر فيها مضافا الى ذلك أخبار ذي اليد حملا للمطلق على المقيد.

و منها بعض الروايات الواردة في الجبن، كرواية بكر بن حبيب قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الجبن و أنه توضع فيه الانفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي ء» «3» و نحوها في عدم لزوم السؤال رواية حماد بن عيسى «4» و هذه الروايات و إن صدرت تقية لأن الإنفحة من الميتة طاهرة عندنا لكن يظهر منها أنه لا بأس بالاشتراء و الأكل من سوق المسلمين، و لا يلزم السؤال، لكن لو سأل و أجاب صاحب اليد بكون الميتة فيه لا يجوز الأكل، فيظهر منهما أن هذا الحكم كان معهودا في ذلك العصر.

و

منها ما وردت في قبول قول البائع الأمين الثقة في استبراء الأمة «5» و اعتبار الامانة و الثقة لكون أمر الفروج مهما كما يظهر من

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

(2) الوسائل- الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(3) مرت في ص 104.

(4) الوسائل- الباب- 50- من أبواب النجاسات- الحديث 8

(5) مرت في ص 553.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 560

تلك الروايات.

و منها رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أني أدخل السوق أعني هذا الخلق الذي يدعون الإسلام فاشتري منهم الفراء للتجارة و أقول لصاحبها: أ ليس هي ذكية؟ فيقول:

بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، و لكن لا بأس أن تبيعها و تقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية، قلت: ما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق الميتة» «1».

و قد مرّ في المسألة السابقة أن الظاهر منها و من سائر الروايات أن سوق المسلمين- أي هذا الخلق- ليس امارة على التذكية، و إن جاز لنا ترتيب آثارها توسعة، و أما جواز الاخبار بها فهو من آثار ثبوتها لدى المخبر، و انما نهي عن الاخبار بها مع إخبار ذي اليد لاستحلال أهل العراق الميتة، فيظهر منه أنه لو لا ذلك لجاز الاتكال على إخباره و قول عبد الرحمن: «ما أفسد ذلك؟» دليل على معروفية الاتكال على قول صاحب اليد، فسأل عن وجه عدم الجواز، فأجابه عليه السلام بذلك.

إن قلت: مع عدم استحلاله تكون يده امارة قلت المراد بالاستحلال استحلال الميتة بالدباغ، و لهذا نسبه الى أهل العراق، فحينئذ مع عدم الاستحلال أيضا لا يكون

سوقهم امارة و لا يدهم، لاختلافهم معنا في معظم شرائط التذكية، تأمل.

و يمكن أن تعد من الشواهد أو الأدلة الروايات الواردة في سياق الهدي، كصحيح حفص بن البختري قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل ساق الهدي فعطب في موضع لا يقدر على من يتصدق به

______________________________

(1) مرت في ص 546.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 561

عليه، قال: ينحره و يكتب كتابا يضعه عليه، ليعلم من مرّ به أنه صدقة» «1» بدعوى دلالتها على معروفية قبول قول صاحب اليد بأنها صدقة الى غير ذلك من الموارد التي يعلم- بإلقاء الخصوصية عنها عرفا- أن قول صاحب اليد معتبر عند الشارع، كما هو معتبر عند العرف، سيما مع قبوله في المهمات.

المطلب السادس: مقتضى إطلاق أدلة شرطية الطهارة

اشارة

أو مانعية النجاسة- كقوله عليه السلام في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلا بطهور» «2» المتيقن منها بقرينة ذيلها الطهور من الخبث، و قوله عليه السلام: «لا تعاد الصلاة» إلخ «3» بناء على أن الطهور في المستثنى أعم من الخبث- بطلان الصلاة التي يؤتى بها في النجس مطلقا، سواء كان عن عمد أو جهل بالحكم أو الموضوع أو النسيان أو غيرها من الأعذار، فلا بد من التماس دليل على صحة الصلاة المأتي بها في النجس.

و قد يقال: إن الأدلة قاصرة عن إثبات الحكم للجاهل، لقبح تعلق التكليف بالغافل، و عليه يكون المأتي به مع النجاسة مجز، لأنه صلاة تامة في حقه بعد عدم الدليل على إثبات المانعية أو الشرطية في حقه.

و فيه ما حقق في الأصول من عدم قصور الأدلة عن إثبات التكليف لمطلق المكلفين، و لا مانع من تعلقه بالعناوين الكلية الشاملة لعامة

______________________________

(1) مرت في ص 542.

(2) مرتا في ص

388.

(3) مرتا في ص 388.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 562

المكلفين، و إن كان التارك عن عذر معذورا في أدائه، و السر فيه عدم انحلال الخطاب المتعلق بالعناوين كالناس و المؤمنين إلى خطابات جزئية بعدد النفوس أو العناوين الطارية، و لهذا يكون العصاة مكلفين، مع أن العاصي الذي يعلم المولى طغيانه لا يمكن تكليفه جدا لغرض الانبعاث لامتناع انقداح إرادة التكليف جدا بمن لا يطيع.

هذا مع أن ما ذكر لا يتأتى في الوضعيات، كقوله عليه السلام:

«لا صلاة إلا بطهور» و لا شبهة في إطلاقه بالنسبة الى كل صلاة من دون اشكال.

نعم لا فرق في الاشكال بين الأوامر النفسية و ما هي للإرشاد إلى الشرطية، كقوله «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» إلخ «1» فإنها و ان كانت للإرشاد لكنها لم تنسلخ عن البعث و التكليف، و لم تستعمل في الاشتراط، بل يفهم العرف من البعث الى تحصيل الطهور للصلاة اشتراطها بها، فان قبح أو امتنع تعلق التكليف بالغافل لا يمكن انتزاع الاشتراط مطلقا منها بحيث يشمل الغافل، فما قد يقال في الجواب عنه: إن الأوامر الإرشادية لا اشكال فيها كأنه في غير محله.

هذا مع اقتضاء بعض الأدلة الخاصة في المقام بطلان الصلاة في النجاسة، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم، قال: إن كان علم أنه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلي ثم صلى فيه و لم يغسله فعليه أن يعيد ما صلى» «2» و غيرها مما تشمل بإطلاقها للعالم و غيره.

و أما الجاهل بالموضوع ففيه أقوال: عدم الإعادة مطلقا، و الإعادة

______________________________

(1) سورة المائدة: 5- الآية 6

(2) الوسائل-

الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 563

كذلك كما حكي عن بعض، و التفصيل بين التذكر في الوقت و خارجه، فيعيد في الأول، و التفصيل بين المتذكر الذي لم يتفحص و غيره، فيعيد الأول.

و قد يقال: إن مقتضى الجمع بين الروايات التفصيل الأول، لأن منها ما تدل على عدم الإعادة مطلقا كموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يصلي و في ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب أ يعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد» «1» و نحوها روايات «2».

و منها ما تدل على الإعادة مطلقا، كصحيحة وهب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في الجنابة تصيب الثوب و لا يعلم به صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك، قال: يعيد إذا لم يكن علم» «3» و رواية أبي بصير الصحيحة بناء على كون وهب بن حفص هو الجريري الثقة عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن رجل صلى و في ثوبه بول أو جنابة، فقال: علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم» «4».

و منها ما تدل على عدم وجوب القضاء كصحيحة العيص بن القاسم قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل صلى في ثوب رجل أياما، ثم أن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلي فيه، قال: لا يعيد شيئا من صلاته» «5» و رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(2) المروية في الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات.

(3) الرسائل- الباب- 40- من

أبواب النجاسات الحديث 8.

(4) الرسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات الحديث 9.

(5) الرسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 564

عليه السلام قال: «سألته عن الرجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال: إذا كان رآه فلم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، و لا ينقص منه شي ء، و إن كان رآه و قد صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله» «1».

و طريق الجمع بينها بتقييد صحيحة ابن عبد ربه و رواية أبي بصير بالروايتين الأخيرتين، فيصير مفادهما بعده الإعادة في الوقت دون خارجه فتقيد بهما الطائفة الأولى الدالة على عدم الإعادة مطلقا، فتصير النتيجة التفصيل بين الوقت و خارجه.

و فيه- مضافا الى منع كون الأخيرتين مختصتين بالقضاء. أما صحيحة العيص فظاهر، ضرورة أن ترك الاستفصال في وقت إخبار صاحب اليد دليل على عموم الحكم لما إذا أخبره في الوقت و قد صلى في ثوبه و بقي وقت الإعادة، و الرواية الثانية و ان كان صدرها متعرضا للقضاء لكن ذيلها مطلق يشمل الفرض المتقدم، و مجرد تعرض الصدر للقضاء لا يوجب الانصراف أو تقييد الإطلاق.

ان المتفاهم العرفي من نفي القضاء هو الإرشاد إلى صحة الصلاة المأتي بها، فيفهم العرف من نفي القضاء نفي الإعادة، كما أنه يفهم من نفي الإعادة نفي القضاء، و ذلك لأن نفي كل منهما دليل عرفا على صحة الصلاة، و إرشاد إليها، و احتمال أن تكون النجاسة المحرزة في جزء من أجزاء الوقت مانعة منها- و بعبارة أخرى تعقبها بالاحراز في الوقت و لو بعد الصلاة مانعة- بعيد عن فهم العرف

غايته.

نعم لو ورد دليل على التفصيل بين الإعادة في الوقت و عدم القضاء خارجه كان هذا التصوير العقلي موجبا لعدم جواز طرحه و عدم العمل به

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 10.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 565

أما إن كانت الواقعة مثل المقام من عدم الدليل على التفصيل و انما أردنا البناء عليه بدليل نفي القضاء و التقييد المشار اليه فلا يساعده العرف فان ما يدل على نفى القضاء يدل على صحة الصلاة لدى العرف فيعارض ما دل على الإعادة.

هذا مع التأمل في أن هذا النحو من التقييد و انقلاب النسبة جمع مقبول عقلائي، بل كأنه أمر صناعي عقلي، لا جمع عرفي، و الميزان في جمع الأدلة هو الثاني، و هو محل اشكال سيما في المقام الذي يأبى جل الروايات عن الحمل على ما بعد الوقت، كما لا يخفى على المتأمل فيها، فبقيت صحيحة ابن عبد ربه و رواية أبي بصير معارضتين لسائر الروايات.

و يمكن أن يجاب عن الأولى بأن الشرطية المذكورة فيها ظاهرة في دخالتها في الحكم، فيكون موضوع الإعادة النجاسة غير المعلومة، و هذا غير البناء على المفهوم كما هو المقرر في محله، فإذا قطعنا بعدم دخالتها في الحكم بل كان ذكرها مخلا بالمقصود أو لغوا يجب تنزيه ساحة القائل عنهما يدور الأمر بين زيادة الشرطية و ما بعدها و نقصان كلمة «لا» قبل «يعيد» أو كون اداة الاستفهام غير مذكورة فيكون الاستفهام إنكاريا و لا ترجيح لواحد منها.

و بعبارة أخرى إن العمل بالظواهر ليس أمرا تعبديا، بل أمر عقلائي يتوقف على جريان الأصول العقلائية، كأصالة عدم الخطأ و النسيان و الغفلة في صدورها حتى يجوز

الاتكال عليها، و في مثل المورد الذي كان القيد الزائد بلا وجه لا يعتد العقلاء بالأصول المتقدمة، سيما مع معارضتها بالروايات المستفيضة المصرحة بأنه لا يعيد إذا لم يعلم، و الانصاف أن دعوى الجزم بوجود خلل فيها غير بعيدة.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 566

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 566

و أوضح منه الجواب عن الثانية، فإنه بعد الغض عن عدم الدليل عن أن وهب بن حفص هو الجريري الثقة أن صحة الشرطية فيها أيضا تحتاج الى التوجيه و التأويل، و إلا فبعد قوله عليه السلام: «علم به» الظاهر في أنه علم به حين الصلاة لا وجه للتقييد بأنه إذا علم فلا بد من أن يقال: سواء علم به فنسي أو لم يعلم فعليه الإعادة إذا علم بالخلل «1» و هو تأويل فيها بلا دليل، و لا ترجيح لهذا الاحتمال على الاحتمال الآخر، و هو الحمل، على أن قوله عليه السلام: «علم به أو لم يعلم» استفسار عن الواقعة، و أن الشرطية لإفادة أن في شق منهما يعيد دون الآخر، و عليه تكون الرواية من أدلة القول المشهور.

و الانصاف عدم إمكان التعويل عليهما في مقابل تلك الروايات الظاهرة الدلالة الواضحة المراد السليمة عن المناقشة في الاسناد و المتون و الحمل على الاستحباب لا يخلو من بعد و إشكال، سيما في المقام الذي يكون الأمر بالإعادة لدى العرف إرشادا إلى الفساد، كما أن النهي عنها إرشاد إلى الصحة، و لم ينقدح في الأذهان منهما النفسية وجوبا كان أو استحبابا، كما أنه مع تصديق

التعارض بين الأخبار يشكل ترجيح الروايات النافية للإعادة عليهما بعد ما قرر في محله أن كثرة الرواية ليست من المرجحات، و ليس في المقام شهرة فتوائية موهنة لمقابلها بحيث يكون المقابل شاذا نادرا، بعد عمل عمد الفقهاء بها كالشيخ و ابن زهرة و المحقق و العلامة و ثاني المحققين و الشهيدين و غيرهم على ما حكي عنهم، و موافقتهما لأدلة الاشتراط، مثل «لا صلاة إلا بطهور» و «لا تعاد» بناء على أن الطهور أعم، و غيرهما من أدلة

______________________________

(1) أضف الى ذلك أن التعبير بالعلم في صورة النسيان غير مناسب بل المناسب التعبير بتذكر.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 567

اعتبار الطهارة أو مانعية النجاسة، فالتفصيل المتقدم ضعيف لا لما ذكر آنفا، بل لما تقدم من الوجه.

و أضعف منه التفصيل الثاني، لعدم دليل عليه سوى رواية ميمون الصيقل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت له: رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، فقال:

الحمد للّٰه الذي لم يدع شيئا إلا و له حد، إن كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا إعادة عليه، و إن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة» «1» كذا في نسخة الوسائل و مرآة العقول، و في الوافي عن الكافي و التهذيب بزيادة «و صلى» بعد «فاغتسل» و في هامش الوافي «هذا الخبر أورده في التهذيب مرتين، و ليس في أحدهما قوله عليه السلام: «حين» الأول إلى «حين» الثاني (منه)» انتهى.

و في الوسائل بعد نقله عن الكافي كما تقدم قال: «و رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب، و رواه أيضا بإسناده عن الصفار عن الحسن بن علي بن عبد

اللّٰه، و رواه أيضا مثله الى قوله عليه السلام:

فلا إعادة عليه» و في نسخة من التهذيب مقروة على المحدث المجلسي كما تقدم عن الوسائل، لكن بزيادة «إلى الصلاة» بعد قوله عليه السلام: «حين قام» الأول، و قد اختلف نقلها في الكتب الاستدلالية أيضا.

فهذه الرواية مع هذا السند الضعيف بل المغشوش كما يظهر بالرجوع الى كتب الحديث و هذا المتن المشوش لا يمكن الاتكال عليها، سيما مع عدم تحقق عامل بها، مع أنه على نسخة الوسائل التي ليس فيها قوله: «و صلى» لم يتضح أن الإعادة إعادة الصلاة، و لعلها اعادة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 568

الغسل، و لزوم فساد المتن على هذا الفرض لا يوجب العلم بكون المقدر فيها الصلاة إلا أن يكون ذلك موجبا لترجيح النسخة الأخرى.

و على النسخة التي ليس فيها جملة «و إن كان حين قام لم ينظر» الى آخره لا تدل على المقصود إلا بتوهم أن المفهوم لها أنه إذا لم ينظر .. إلخ، و هو غير معلوم، لأن أخذ النظر و غيره من العناوين التي لها طريقية الى الواقع في موضوع لا يكون ظاهرا في الموضوعية، و لعل قوله عليه السلام: «نظر فلم ير» أخذ امارة على عدم الجنابة فيه واقعا، و مقابلها وجودها واقعا فيه، و معارضة هذا المفهوم للأدلّة المتقدمة لا توجب ظهورا فيها.

و أما دعوى تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة على فرض تسليمها لا تسلم في المقام، فان المحتمل فيه أن تكون الزيادة عن عمد نقلا بالمعنى و تفصيلا لما أجمل في الرواية، و هو ليس بممنوع حتى ينافي العدالة، فيدور

الأمر بين النقيصة السهوية أو العمدية بلا وجه، و بين الزيادة السهوية أو العمدية مع الوجه، إلا أن يقال:

يحتمل في النقيصة أن تكون عن عمد في المقام أيضا، لاحتمال اكتفاء الراوي بالمنطوق و إيكال فهم المفهوم على السامع، لكنه بعيد، بل ما ذكرناه أيضا كذلك.

فالأوجه في الجواب عنها الطعن في السند و الهجر في العمل، و بالأخير يجاب عن سائر الروايات التي استدل بها للمقصود لو سلمت دلالتها لكنها غير مسلمة، لأن الظاهر من صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني فشدده و جعله أشد من البول، ثم قال:

إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 569

إعادة عليك، و كذلك البول» «1» أن الجملة الثانية مفهوم الشرطية للأولى، و ليست جملة مستقلة غير مربوطة بها، فيكون المراد عدم رؤية المني في الثوب، و قد مر منا أن الجملة المذكورة لبيان المفهوم لا مفهوم لها.

و أما مرسلة الصدوق «2» فهي على الظاهر عين الرواية المتقدمة، و رواية ميسر «3» أجنبية عن المقام.

و لو رأى النجاسة في أثناء الصلاة فإن علم بسبقها و ان بعض صلاته وقع مع النجاسة بطلت صلاته مع سعة الوقت، لبطلان المشروط مع فقد شرطه، و لجملة من الروايات الآتية عن قريب.

و قد يقال: إن مقتضى الروايات الواردة في حدوث الدم في أثناء الصلاة كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سألته عن الرعاف أ ينقض الوضوء؟ قال: لو أن رجلا رعف في صلاته

و كان عنده ماء أو من يشير اليه بماء فتناوله فقال: برأسه

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) هكذا نصها: قال: «و قد روي في المني أنه ان كان الرجل حيث قام نظر و طلب فلم يجد شيئا فلا شي ء عليه، فان كان لم ينظر و لم يطلب فعليه أن يغسله و يعيد صلاته» راجع الوسائل- الباب- 41- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: «آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله، فأصلي فيه فإذا هو يابس، قال:

أعد صلاتك، أما أنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي ء» راجع الوسائل- الباب- 18- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 570

فغسله فليبن على صلاته و لا يقطعها» «1» و نحوها جملة من الصحاح «2» و غيرها، و الروايات الواردة في صحتها لو علم بالنجاسة بعدها صحة صلاته في الفرض، فان الجهل إذا كان في جميعها عذرا يكون في بعضها بالأولوية و إلقاء الخصوصية عرفا، فصحت صلاته الى حين الالتفات، و في حاله و الاشتغال بالتطهير يكون معذورا بمقتضى الروايات المتقدمة في الرعاف، و العرف لا يفرق بين الحدوث و العلم بالوجود، لأن المانع للصلاة النجاسة لا حدوثها.

و بالجملة تصح صلاته هذه بعضها بدليل معذورية الجاهل، و بعضها بما دل على معذوريته حال الاشتغال بالتطهير، و بعضها بوجدانها للشرط و فيه منع الأولوية المدعاة، أما إن قلنا بالعفو فلأن العفو في الجميع ربما يكون تخفيفا على المكلف و عدم إرادة اعادة جميع الصلاة دون بعضها، و إن قلنا بعدم المانعية فكذلك، لإمكان أن يكون للجهل في جميع الصلاة

دخالة فيه، فلا قطع بالمناط، و هو واضح سيما مع وقوع نظائره في الشرع.

و لا يمكن دعوى إلقاء الخصوصية، لمنع فهم العرف من الأدلة ذكر بعد الصلاة من باب المثال مثلا بعد ما يرى أن لتمام الصلاة خصوصية و أحكام في الشرع ليست لبعضها.

و منع القطع بعدم الفارق بين حدوث الدم و حدوث الالتفات اليه لاحتمال أن يكون للحدوث القهري خصوصية لم تكن لغيره، بل لو كان الدليل في الباب منحصرا بأدلة الرعاف لا يمكن لنا التعدي منها الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة- الحديث 11

(2) المروية في الوسائل- الباب- 76- من أبواب نواقض الوضوء- و الباب- 2- من أبواب قواطع الصلاة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 571

سائر النجاسات بعد ثبوت التخفيف في الدم بما لا يكون في غيره كالتخفيف في دم القروح و الجروح كائنا ما كان، و كالأقل من الدرهم، لكن سيأتي ما يستفاد منه العموم لسائر النجاسات.

و قد يقال لتصحيح العبادة في الفرض و سائر الفروض في المقام:

إنه لا دليل على مانعية النجاسة في جميع الصلاة أفعالا و أكوانا، لقصور أدلة الاشتراط أو المانعية عن شمول الأكوان، و مع الشك مقتضى الأصل البراءة، فتكون الصلاة صحيحة إلى حين الالتفات بأدلة الجهل كما تقدم و في حينه و حين الاشتغال بالتطهير بأصالة البراءة.

و فيه ما مر من عدم الدليل على معذورية الجاهل مع الالتفات في أثناء الصلاة و منع فقدان الدليل على اعتبار الطهارة أو عدم النجاسة في الأكوان لعدم قصور صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«لا صلاة إلا بطهور، و يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنة عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه

عليه و آله، و أما البول فإنه لا بد من غسله» «1» عن إفادته ذلك، لأن الظاهر منها أن الصلاة باطلة مع فقد الطهور، فإذا فقدت الطهور في بعضها لم تكن هي بطهور، و بالجملة الظاهر منها اعتباره في جميعها.

إن قلت: نعم لكن الأكوان ليست بصلاة، بل هي عبارة عن التكبير الى التسليم أى الأجزاء الوجودية من الأذكار و غيرها، و السكوتات المتخللات بينها ليست من الصلاة.

قلت: مضافا الى إمكان أن يقال: إن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا يخلو من التلبس بفعل من أفعال الصلاة كالقيام و القعود و الركوع و السجود، بل يمكن أن يقال: إن النهوض للقيام و الهوي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 9- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 572

للسجود أيضا من أجزائها لا من مقدماتها فاجزاء الصلاة متصلة إلى آخرها، تأمل:

ان المرتكز لدى المتشرعة أن المصلي إذا كبر يكون في الصلاة الى ان خرج عنها بالسلام، فتكون الصلاة عندهم أمرا ممتدا يكون المكلف متلبسا بها في جميع الحالات أكوانا أو أفعالا، و دعوى أن الأكوان خارجة عنها مخالفة لارتكازهم، مع ان التعبير بالقاطع في جملة من الموارد يدل على أنها أمر ممتد في الاعتبار يقطعها بعض القواطع.

و القول بأن التعبير بالقاطع لأجل إبطاله الأجزاء السابقة و سلب صلوح اتصالها بالأجزاء اللاحقة خلاف ظاهر القطع و القاطع، مع أن اعتبار الطهور و سائر ما يعتبر في الصلاة في جميع الأجزاء و الأكوان مما لا ينبغي الشك و الترديد فيه، و من هنا لا يجوز الإتيان بالموانع عمدا في الأكوان و رفعها للأفعال، و هو كالضروري، و ليس إلا لبعض ما تقدم فتحصل

مما ذكر أن مقتضى القاعدة بطلان الصلاة في صورة العلم بسبق العروض، سواء علم بسبقه عن الدخول في الصلاة أو سبقه عن الرؤية مع إتيان بعض الصلاة مع النجس.

هذا مضافا الى دلالة صحيحة زرارة الطويلة عليه قال: «قلت له:

أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني فعلمت أثره- الى أن قال-: قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة، قال: تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، و ان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي ء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» «1» و لا ريب في أنه يستفاد منها حكم مطلق النجاسات، ضرورة أن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 44- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 573

ذكر الدم و المني من باب المثال، كما يظهر مضافا الى وضوحه من سائر فقرأتها، كما لا شبهة في أن المراد بالفرع الأول من الفرعين مورد العلم بسبق النجاسة على زمان الرؤية، و قوله عليه السلام: «إذا شككت في موضع منه ثم رأيته» لتنقيح موضوع الاطمئنان بكون ما رآه هو المشكوك فيه قبلا، كما يظهر ذلك من تقييد المرئي في الفقرة الثانية بكونه رطبا، فإنه مع فرض اليبوسة يعلم بسبقه، و يؤيده بل يشهد عليه قوله عليه السلام: «لأنك لا تدري لعله شي ء أوقع عليك» فإنه لإلقاء الشبهة بحدوث النجاسة.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في ظهورها في أنه مع العلم بوجود النجاسة قبل الرؤية تبطل الصلاة، و مع الشك لا تبطل، و حمل الفقرة الأولى على مورد العلم الإجمالي مخالف للظاهر من

وجوه.

فيبقى سؤال الفارق بين الفرعين، حيث تمسك في الثانية بالاستصحاب دون الأول، مع أن جريان الأصل انما يفيد الحال الجهل لا الالتفات بوجود النجاسة، و في الفرع الأول أيضا كان المصلي شاكا في عروضها، و تبين الخلاف غير مضر به، كما أجراه في صدر الصحيحة بالنسبة الى من صلى في الثوب ثم علم بالنجاسة، و بالجملة كما انه في الفرع الثاني يجري الاستصحاب و يفيد بالنسبة الى حال قبل الالتفات كذا في الأول بالنسبة اليه، و لا بد في تصحيح حال الالتفات و العلم من دليل آخر غير الاستصحاب.

و الجواب عنه ما ذكرناه من احتمال عدم العفو عن النجاسة الموجودة قبل حال الرؤية في حالها، لقصور الأدلة الدالة على حدوث الرعاف بين الصلاة عن إثباته، و هذه الصحيحة شاهدة على ما ذكرناه من اقتضاء القواعد، و انما تمسك في الفرع الثاني بالاستصحاب لإصلاح

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 574

حال الجهل لا حال الالتفات، و أما في حال العلم فلما شك في وقوعها من الأول أو حدوثها في الآن يشك في حدوث المانع، فأصالة البراءة عقلا و شرعا جارية، و مع التطهير تصح صلاته ببركة الاستصحاب و أصالة البراءة و الطهارة الواقعية.

هذا إذا كان المراد من الاستصحاب في الرواية استصحاب عدم عروض النجاسة، و انما تمسكنا بأصالة البراءة دون أدلة الرعاف، فان استصحاب عدم عروض النجاسة إلى زمان الرؤية لا يثبت حدوثها في الحال حتى ينقح به موضوع الأدلة الاجتهادية، فالأصل لإثبات الحدوث مثبت، و أما إن أريد استصحاب عدم عروض المانع أو استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية للصلاة على فرض جريانهما فالأمر واضح.

و أما الفرع الأول فلا يمكن تصحيحه بالاستصحاب، لأنه

مع انكشاف أن النجس عرض سابقا يحرز عدم اندراج المورد في أدلة العفو الظاهرة في حدوث النجاسة لدى الرؤية، فتبقى أدلة اعتبار الطهور في الصلاة بلا مقيد.

و تدل على المطلوب أيضا صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به، قال:

عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: و سألته عن رجل يصلى و في ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال: مضت صلاته و لا شي ء عليه» «1».

و احتمال أن يكون المراد فرض نسيان النجاسة في غاية البعد لو لم نقل مقطوع الخلاف، سيما بملاحظة ذيلها الذي لا شبهة في أن المراد منه الجهل لا النسيان.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 575

و احتمال أن الفقرة الثانية كانت رواية أخرى مستقلة ذكرت في ذيلها تلفيقا بعيد لا يصار اليه، و بالجملة لا ينبغي الإشكال في دلالتها على المطلوب.

و تدل عليه أيضا إطلاق صدر صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ذكر المني فشدده و جعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و ان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه و صليت فيه ثم رأيته بعد ذلك فلا إعادة عليك، و كذلك البول» «1» و لو نقش فيها بدعوى ظهورها بمناسبة الإعادة و غيرها فيما لو صلى و أتمها بعد رؤية الدم ففي ما عداها كفاية و ان أمكن إنكار المناقشة.

و ربما يقال بأن الإعادة مختصة بما إذا لم يكن نزع الثوب أو تطهيره، و مع

إمكان ذلك فعله و أتمها جمعا بين الروايات بشهادة صحيحة محمد بن مسلم قال: «قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ و أنا في الصلاة، قال: إن رأيته و عليك ثوب غيره فاطرحه و صل، و إن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك، و لا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، و ما كان أقل من ذلك فليس بشي ء رأيته من قبل أو لم تره، و إذا كنت قد رأيته و هو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله و صليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه» «2».

و فيه- بعد الغض عن اغتشاش متنها و نقلها كما مر في باب العفو عن الدم القليل، و الغض عن ان ظاهرها بيان احكام لموضوعات ثلاثة: الدم المساوي للدرهم الدم و الأقل منه، و الأكثر منه، فان ما لم

______________________________

(1) مرت في ص 568.

(2) مرت في ص 423.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 576

يزد إذا وقع في مقابل الزائد و القليل يتعين أن يكون بمقداره، و هو تفصيل لم يقل به أحد- أن الاستدلال بها لما ذكر موقوف على أن المراد بالشرطية الأولى الدم الكثير و بالثانية طبيعة الدم، و إرجاع القيد إلى الثانية فقط، و هو خلاف الظاهر، فان الظاهر أن قوله عليه السلام «و ان لم يكن عليك ثوب غيره» بيان مفهوم الشرطية الأولى، فحينئذ يكون القيد راجعا إليهما، فيكون الأمر بالطرح محمولا على الاستحباب إن أريد بما لم يزد الدم الأقل، و إلا كانت الشرطية الثانية خلاف الإجماع و الأخبار.

و الانصاف أن رفع اليد عن القواعد و التصرف في الاخبار بهذه الرواية غير ممكن.

و اما الناسي بأن

علم بالنجاسة فنسيها و صلى فعليه الإعادة في الوقت و خارجه على المشهور أو مذهب الأكثر، كما عن المعتبر و كشف الالتباس و الروض و غيرها، و عن كشف الرموز نسبته الى الشيخ و المفيد و علم الهدى و أتباعهم، و عن التنقيح أنه مذهب الثلاثة و اتباعهم، و عليه الفتوى، و عن ابن زهرة و الحلي و ظاهر شرح القاضي الإجماع عليه، و لم ينسب الخلاف إلى متقدمي أصحابنا إلا الشيخ في الاستبصار الذي لم يعد للفتوى، بل لرفع التنافي بين الاخبار، فلا ينبغي عده مخالفا، نعم عن التذكرة نسبة عدم وجوب الإعادة مطلقا إليه في بعض أقواله و على أي تقدير الشهرة محققة في الطبقة الأولى من أصحابنا.

و قبل التكلم في مفاد الأخبار الخاصة لا بأس بالتكلم في مقتضى القواعد، فنقول: مقتضى أدلة اشتراط الطهور أو مانعية النجس سيما مثل قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» هو بطلانها مع فقده نسيانا، و قد فرغنا عن رفع إشكال الأردبيلي و من تبعه في المسألة المتقدمة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 577

و أما حديث «لا تعاد الصلاة» إلخ فإن قلنا بأن الطهور في المستثنى أعم من الطهور عن الخبث كما هو الأظهر يكون مقتضاه موافقا لأدلة الاشتراط، و إن قلنا باختصاصه بالطهور عن الحدث فيكون الطهور عن الخبث في العقد المستثنى منه تكون النسبة بينه و بين «لا صلاة إلا بطهور» أعم من وجه، سواء كان الحديث مخصوصا بالنسيان كما حكى عن المشهور، أو كان الأعم منه و من الجهل بالحكم و الموضوع و من نسيان الحكم، و يكون الخارج منه العالم العامد للانصراف عنه لا للإشكال العقلي كما

قيل.

و كيف كان يكون «لا صلاة إلا بطهور» حاكما عليه، لأن الصحيحة تنفي موضوع الحديث بلسانها، و هو الصلاة المأخوذة في موضوعه فوزان الصحيحة معه وزان «لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو» مع أدلة السهو، و ما قد يقال من حكومة حديث لا تعاد على أدلة اعتبار الأجزاء و الشرائط ممنوع على إطلاقه، نعم هو حاكم على نحو قوله:

«لا تصل في النجس» لا مثل الصحيحة التي تتصرف في عقد وضع الحديث، بل و لا على ما دلت على الإعادة بعنوانها، فإنها معارضة معه أو مخصصة إياه.

فتحصل مما ذكر أن حديث لا تعاد إما معاضد للصحيحة أو محكوم لها، فتصير النتيجة بطلان الصلاة مع نسيان الطهور.

و أما حال حديث «لا تعاد» مع حديث الرفع فان قلنا باختصاص لا تعاد بالنسيان و شمول المستثنى للطهور عن الخبث فيكون مخصصا لحديث الرفع، لأخصيته عنه و يقدم عليه، و لو فرض تحكيم لسان حديث الرفع فان التحكيم انما يفيد في الجمع العرفي فيما كانت نتيجته التخصيص لا فيما كانت النتيجة سقوط الدليل في جميع مفاده، فالخاص و المقيد

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 578

مقدمان على العام و المطلق، و لو كان لسانهما الحكومة.

نعم لو كان «لا تعاد» أعم من النسيان و شاملا لغير العامد العالم تكون النسبة بينه و بين حديث الرفع العموم من وجه، و يمكن أن يقال: بتقدم حديث الرفع عليه، فان المستثنى في «لا تعاد» إن كان إرشادا إلى اشتراط الصلاة بالخمسة في جميع الأحوال فحديث الرفع حاكم عليه، لأنه ناظر إلى أدلة الاشتراط بالرفع حال النسيان، و إن كان متعرضا لعدم التقبل في المستثنى و التقبل في المستثنى منه

فالمفروض فيه الاشتراط حال العمل، و لسان الرفع مقدم عليه على تأمل، لكن لا يمكن تحكيم حديث الرفع عليه، لأن لا تعاد و ان كان شاملا لغير العامد لكن حديث الرفع أيضا بفقراته مستغرق لجميع مفاد «لا تعاد» في العقد المستثنى، فيقع التعارض بينهما كما قرر في محله، فيكون المرجع أو المرجح أدلة الاشتراط.

و أما حال حديث الرفع و قوله عليه السلام في صحيحة زرارة:

«لا صلاة إلا بطهور» مع الغض عن «لا تعاد» فلا يبعد أن يقال بتحكيمه على حديث الرفع، فان الحديث يرفع الشرط و الجزء بعد مفروغية كون المأتي به صلاة، و الصحيحة ترفع الموضوع، و مع عدمه لا معنى لرفع الجزء و الشرط، تأمل. فتحصل من ذلك أن مقتضى القواعد بطلانها مع فقد الطهور نسيانا.

و تدل عليه مضافا الى ذلك روايات مستفيضة، كصحيحة زرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منى فعلمت أثره الى أن أصيب له الماء، و حضرت الصلاة، و نسيت أن بثوبي شيئا و صليت، ثم أني ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصلاة و تغسله، قلت: فإني لم أكن رأيت موضعه و علمت أنه أصابه فطلبته

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 579

فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال: تغسله و تعيد» إلخ «1» و صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه و هو لا يعلم، فلا اعادة عليه، و إن هو علم قبل أن يصلي فنسي و صلى فيه فعليه الإعادة» «2».

و موثقة سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى

أن يغسله حتى يصلي، قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشي ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه» «3» الى غير ذلك مما وردت في البول و الدم و الاستنجاء كموثقة سماعة قال: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة فلم تهرق الماء، ثم توضأت و نسيت أن تستنجي فذكرت بعد ما صليت فعليك الإعادة، فإن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتى صليت فعليك إعادة الوضوء و الصلاة و غسل ذكرك، لأن البول مثل البراز» «4» و قريب منها غيرها «5».

و بإزائها روايات: منها صحيحة العلاء عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي ء ينجسه، فينسى أن يغسله فيصلي فيه، ثم يذكر أنه لم يكن غسله أ يعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 2

(2) الوسائل- الباب- 40- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(3) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 5

(4) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5

(5) المروية في الوسائل- الباب- 18- من أبواب نواقض الوضوء- و الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 580

قد مضت الصلاة و كتبت له» «1».

و منها موثقة عمار بن موسى قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: لو أن رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة» «2» و نحوها غيرها و لو لا روايات الاستنجاء أو أمكن الالتزام باختلاف حكمه مع غيره كما قيل لأمكن الجمع بين روايات الباب بالتفصيل بين نسيان الغسل عن أعيان النجاسات كالدم و المني و غيرهما فيقال فيه بالإعادة، و بين نسيان غسل

المتنجس بها فيقال بعدمها، فان مورد روايات إيجاب الإعادة نسيان الأعيان و مورد صحيحة العلاء تنجس الثوب بها، لكن مضافا الى بعد ذلك جدا ان هذا التفصيل لم ينقل من أحد و لو احتمالا.

و يمكن الجمع بين الروايات بحمل ما دلت على عدم الإعادة على الحكم الحيثى، بقرينة موثقة سماعة الأولى، فإن ظاهرها أن إيجاب الإعادة انما هو لعقوبة الناسي و عدم اهتمامه، فتحمل روايات إيجابها على كونه للعقوبة لا جبرا لبطلانها، و اخبار نفيها على انها لا تعاد لأجل فسادها، و قد مضت صلاته و كتبت له، لكن تجب الإعادة لكي يهتم بالشي ء.

و هذا الجمع و ان كان أقرب من حمل روايات الإعادة على الاستحباب لإباء بعضها عنه، سيما مع ما أشرنا إليه من أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى فساد الصلاة، كما ان النهي عنها إرشاد إلى صحتها، و الحمل على الاستحباب النفسي بعيد في الغاية و غير مقبول عرفا، لكنه أيضا بعيد عن مذاق العرف، و ليس جمعا عقلائيا مقبولا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 581

و أبعد منه التفصيل بين الوقت و خارجه بشهادة صحيحة علي بن مهزيار قال: «كتب اليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل، و أنه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه أصابه و لم يره، و أنه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، و تمسح بدهن فمسح به كفه و وجهه و رأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى، فأجابه بجواب قرأته بخطه أما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشي ء إلا ما

تحقق، فان حققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، و ما فات وقتها فلا اعادة عليك لها من قبل أن الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت و ان كان جنبا أو صلى على غير وضوء، فعليه اعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأن الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء اللّٰه» «1» و أنت خبير بأن الروايات آبية عن هذا التفصيل، و لو سلمت هذه الصحيحة عن الخدشة فكيف يمكن حمل موثقة الساباطي المتقدمة على نفى القضاء، و كذا الحال في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل ذكر و هو في صلاته أنه لم يستنج من الخلاء، قال: ينصرف و يستنجي من الخلاء، و يعيد الصلاة، و ان ذكر و قد فرغ من صلاته فقد أجزأه ذلك و لا إعادة» «2» فضلا عن أنه لم تسلم عنها سندا لاضمارها، و ان كان المظنون كون المسئول عنه أبو الحسن الرضا أو أحد الإمامين بعده عليهم السلام، و متنا، و هو واضح.

و المظنون أن فيها سقطا بعد قوله عليه السلام: «و ما فات وقتها»

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 42- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) الوسائل- الباب- 10- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 582

و لا يبعد أن يكون السقط نحو هذه العبارة «و إن كان ثوبك نجسا» و يكون قوله: «و ما فات وقتها» عطفا على سابقه لا استينافا «1» و يكون المراد من قوله: «إن الثوب خلاف الجسد» ان النجاسة خلاف

الحدث الذي محله الجسد.

و كيف كان لا يمكن الاتكال على مثل هذه الرواية و التصرف بها في سائر الروايات و تخصيص القواعد بها.

و الانصاف ان الروايات متعارضة، و الترجيح لروايات إيجاب الإعادة، بل الظاهر عدم عمل متقدمي أصحابنا بروايات نفي الإعادة و أعرضوا عنها، فلا تصلح للحجية، لما ذكرنا أن العمل بالاخبار لبناء العقلاء و إمضاء الشارع، و في مثل تلك الروايات التي لم يعمل بها رواتها لا يتكل العقلاء عليها، فهي ساقطة عن الحجية، لا مرجوحة بعد الفراغ عن حجيتها.

و مع الغض عنه فالترجيح مع أخبار الإعادة، لموافقة مقابلاتها للعامة كأبي حنيفة و الشافعي في القديم و الأوزاعي، حيث ذهبوا على ما حكي عنهم الى عدم وجوب الإعادة في الناسي و غيره، بل ذهب أبو حنيفة إلى استحباب الاستنجاء من الغائط، فتحمل موثقة عمار على التقية، و رواية هشام بن سالم ضعيفة، مع أن اخبار وجوب الإعادة موافقة لقواعد السنة القطعية، و لعلها تكون مرجحة كموافقة الكتاب،

______________________________

(1) و لا يخفى لو قلنا بأنه استيناف يقع التهافت بين صدرها و ذيلها، إذ الظاهر من صدرها أن الإعادة لأجل فساد الوضوء و أن مقتضى الاستيناف الفرق بين ما كان في الوقت و خارجه، و هو لا يلائم قوله في ذيلها: «أو صلى على غير وضوء فعليه الإعادة» إلخ الظاهر في عدم الفرق بين ما كان في الوقت و خارجه.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 583

فالأقوى وجوب الإعادة وقتا و خارجا، هذا حال الناسي.

و أما إذا صلى فيه عالما عامدا فعليه الإعادة بلا اشكال نصا و فتوى، نعم يستثنى منه موارد قد تقدم بعضها.

و منها- المرأة المربية لمولود إذا تنجس ببوله قميصها مع

وحدته، فإنها تغسل ثوبها في اليوم مرة واحدة و تجزيها عن الغسل في بقيته، و الأصل فيه رواية أبي حفص عن أبى عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«سئل عن امرأة ليس لها إلا قميص واحد و لها مولود فيبول عليها كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في اليوم مرة» «1» و لا ينبغي الإشكال في سندها بعد عمل الأصحاب بها قديما و حديثا، فأصل الحكم لا اشكال فيه، و انما الكلام في بعض الفروع، و لا بد من الخروج عن القواعد بمقدار دلالتها.

فنقول: إلحاق الرجل المربي بالمرأة محل إشكال، لأن النص مخصوص بها، و لها خصوصية، و هي كونها ضعيفة بحسب النوع جسما و روحا، فيمكن أن يكون التخفيف عليها دون الرجال. فان غسل الثوب في كل يوم كرارا ربما يكون موجبا لمعرضية فساده، و هو مشقة على النساء نوعا دون الرجال، فإلقاء الخصوصية منها أو القطع بالملاك ممنوعان «2».

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 4- من أبواب النجاسات- الحديث 1

(2) يمكن ان يقال: ان السؤال عن المرأة لا يوجب اختصاص الحكم بها، بل العرف يرى أن السؤال عنها في هذا المورد من باب التغليب، و غير خفي أن غسل الثوب على الرجال مشقة دون النساء، نعم إن الجمود على اللفظ يقتضي الفرق بينهما، و هكذا بين القميص و غيره، و اختصاص الحكم بقميص واحد و بما ولد منها، مع انهم لم يلتزموا بذلك، و الذي يشكل الأمر ذهاب جل الفقهاء الى الفرق بين المربي و المربية كما ذهب إليه الأستاذ دام ظله.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 584

و الظاهر عدم الفرق بين القميص و غيره كالسربال، لا نحو المقنعة التي لا يبول عليها عادة، و

ذلك لإلقاء الخصوصية عرفا، نعم لا يجوز التعدي إلى البدن لعسر الغسل في الثوب دون البدن لاحتياج الأول في تجفيفه الى زمان معتد به دون الثاني، فلا يمكن التعدي.

و هل الحكم مختص بقميص واحد كما هو مورد النص أو يتعدى الى المتعدد مع الاحتياج إليه في اللبس بحيث لا يمكنها الاكتفاء بغيره؟

الظاهر ذلك، لمساعدة العرف في الفهم من النص بإلقاء الخصوصية.

كما أن الحكم لا يختص بما ولد منها فيتعدى إلى المؤجرة و المتبرعة و المربية بغير رضاع، لأن العرف يرى أن الحكم جعل تخفيفا على المرأة المتصدية للطفل من غير دخالة للولادة في ذلك، و انما ذكر المولود مثالا و من باب الغلبة.

كما أنه شامل للذكر و الأنثى «1» و الواحد و المتعدد، و لو قيل باختصاصه بالأولين منهما لا يختص الحكم بهما، لأن المفهوم من النص أن ذلك تخفيف بالنسبة إلى المرأة من غير دخالة لخصوصية الولد، و لا لكونه واحدا، فتوهم أن بول الصبي و الواحد أخف من الصبية و المتعدد فيمكن الاختصاص بهما في غير محله، بعد ما يتفاهم منه أن الحكم جعل للتخفيف على المرأة لا لتخفيف البول.

و الظاهر ان الحكم مختص بالبول لخصوصية فيه دون الغائط فضلا عن سائر نجاساته، و هي كثرة الابتلاء به دون غيره، فلا يمكن التعدي من ظاهر النص، نعم الظاهر ان ملاقي بوله في حكمه.

______________________________

(1) و لا يخفى أن لفظ المولود بحسب اللغة يطلق على الذكر و الأنثى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 585

و الظاهر أن المراد بالغسل في النص ليس إلا ما كان تكليفها في تطهير بول المولود، فان كان ذكرا فبالصب، و إن كان أنثى فبالغسل، فتوهم أن الغسل

في خصوص المورد واجب حتى في مورد جواز الصب ضعيف، و إن شئت قلت: إن الرواية ليست بصدد بيان حال الغسل و كيفيته حتى يقال: أراد بالغسل عنوانه مطلقا، بل بصدد بيان الاجتزاء بتطهير واحد عن الكثير، بل لا إشكال في أنها بصدد تخفيف ما كان عليها، لا تبديل الحكم بحكم آخر فضلا عن التضييق عليها.

و الظاهر أن المراد من اليوم اليوم بليلته، بمعنى كفاية غسل واحد للصلوات النهارية و الليلية، و لا دخالة لبياض اليوم في الحكم، و اختصاص التخفيف باليوم و التضييق في الليل مع أنها أولى بالتخفيف مخالف لفهم العرف من الرواية.

و هل يجب وقوع الغسل في النهار و لا يكفي الغسل في الليل عنه؟

مقتضى الجمود على اللفظ ذلك، لكن الظاهر المتفاهم من الرواية أن اليوم فيها في مقابل اليومين و الثلاثة، و كذا في مقام ردع لزومه لكل صلاة، فلا عناية فيه بحيثية وقوع الغسل فيه، سيما أن السائل إنما سأل عن تكليفها في صلواتها الخمس. و أنه مع الابتلاء بالبول كيف تصنع؟ فترك ذكر الليل و أنه لو ابتليت فيها لا بد من غسله لكل صلاة يدل على أن الغسل مرة واحدة عند الابتلاء به و إرادة الصلاة كاف و لو وقع في الليل، و تكون تلك النجاسة معفوة في سائر الصلوات، و البناء على الشرط المتأخر كما ترى.

و بالجملة لا يفهم العرف لليوم خصوصية و إن كان الغسل فيه أسهل، بل الظاهر المتفاهم أن الغسل الواحد المحتاج إليه كاف لجميع الصلوات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 586

و الظاهر أن المقصود بالغسل في اليوم مرة هو وقوع صلاة منها مع الطهارة و العفو عن البقية، فالغسل

في غير موقع الصلاة و إتيان جميع الصلوات مع النجس غير مراد جزما، و بعبارة أخرى أن الغسل لما كان لأجل الصلاة و لا نفسية له لا ينقدح في الذهن إطلاق في الرواية لوقوعه في أي قطعة من اليوم، بل لا بد من إيقاعه قبل صلاة من الصلوات اليومية، لتقع بعضها مع الطهور.

نعم لا يجب عليها الجمع بين الصلوات بل و لا الصلاتين، لإطلاق الرواية، فلو كان عليها الجمع لكان عليه التنبيه عليه، سيما ان بناءهم في الصدر الأول على تفريق الصلوات، و كانوا يصلون صلاة الظهر أول الزوال و العصر في موقعه، و هكذا في المغرب و العشاء، كما ورد في أخبار المستحاضة من الأمر بتأخير الظهر و تقديم العصر و كذا في العشاءين «1» فيظهر منها أن بناء النساء أيضا كان على التفريق بينها، و مع هذا البناء و العادة لو كان الواجب عليها الجمع بين الصلاتين لوجب عليه التنبيه عليه.

و توهم عدم الإطلاق لها فإنها بصدد بيان الاجتزاء بغسل واحد مقابل الغسل لكل صلاة في غاية الفساد، لأنه سأل عن تكليفها و أنها كيف تصنع مع هذا الابتلاء فلو كان أمر آخر غير الغسل دخيلا فيه لنبّه عليه.

ثم أن الظاهر من الرواية ان الغسل انما هو لتحصيل شرط الصلاة على وزان سائر المكلفين و إن عفي عن الشرط في بعضها، لا أن الشرط المجعول لسائر المكلفين سقط عنها، و جعل لها شرط آخر متأخر، إذا أوقعت الطهارة آخر النهار بعد الصلوات اليومية و الليلية السابقة

______________________________

(1) المروية في الوسائل- الباب- 1- من أبواب الاستحاضة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 587

أو بعد العشاء على احتمال، و متقدم إذا أوقعت

قبلها، و متقدم و متأخر إن أوقعت في خلالها، فان كل ذلك خلاف الواقع و المتفاهم من الدليل، و مع القول بالعفو أيضا لا ينقدح في الأذهان هذا النحو من العفو بأن يكون موقوفا على أمر متأخر تارة و متقدم أخرى و هما معا ثالثة.

فدعوى الإطلاق بالنسبة إلى ساعات النهار ممنوعة، و كذا بالنسبة إلى الصلوات أيضا بأن تكون مخيرة في إيقاعه قبل صلاة من صلواتها الخمس بحيث تصح المتقدمة و المتأخرة بغسلها المتخلل، فإنه أيضا مستلزم لتغير شرط الصلاة بالنسبة إليها من بين سائر المكلفين، و هو مقطوع الفساد.

كما انه لا إطلاق لها يشمل ما إذا غسلت ثوبها للصلاة فبال عليه قبل إتيان الصلاة، فإن الأمر بالغسل في المقام ليس إلا كالأمر به في سائر المقامات، و الفرق بينه و بينها أن الشارع الأقدس خفف عليها إذا غسل ثوبها و صلى فيه مع الطهارة في أول الدورة بالنسبة إلى سائر الصلوات في هذه الدورة.

و الحاصل أن الظاهر منها أنه إذا تنجس ثوبها ببول الصبي غسلته و صلت فيه، فإذا ابتلت به بعدها يكون معفوا عنه، و تصح صلاتها في ذلك اليوم و ليلته، و لا يجوز عليها إتيان الصلاة في النجس في أول الابتلاء و الغسل لسائرها، فإذا ابتلت في الصبح غسلته و صلت بطهور و عفي عن سائر صلواتها الى العشاء، و يجب عليها الغسل ليوم آخر، و إذا ابتلت في الظهر صلت الظهر بطهور و عفي عما بعدها الى العشاء و هكذا، و التلفيق و ان كان محتملا لكن خلاف ظاهر الدليل.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 588

فرع: لو كان مع المصلي ثوبان أحدهما نجس و لا يعلمه

بعينه و تعذر غسل أحدهما ليصلي فيه بطهارة صلى في

كل منهما تحصيلا للقطع بفراغ الذمة على المشهور نقلا و تحصيلا، بل لا نعرف فيه خلافا إلا من ابني إدريس و سعيد كما في الجواهر، و عن الشيخ في الخلاف حكاية الخلاف عن قوم من أصحابنا، فأوجبوا الصلاة عاريا، و هو ضعيف مخالف للنص و الفتوى.

ففي صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام أنه كتب إليه يسأله عن الرجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول و لم يدر أيهما هو و قد حضرت الصلاة و خاف فوتها و ليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال: يصلي فيهما جميعا» «1».

و عن الحلي الاستدلال على ما ذهب إليه بأمرين: أحدهما أنه يجب عليه عند افتتاح كل فريضة القطع بطهارة ثوبه، فإن المؤثرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخرا عنها، و المسألة خلافية، و دليل الإجماع فيها مفقود، و الاحتياط يوجب ما قلناه، ثانيهما أن كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة، و كيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعدها و من شأن المؤثر في وجوه الأفعال أن يكون مقارنا لها لا يتأخر عنها.

و الظاهر أنهما يرجعان الى عدم إمكان الجزم بالنية المعتبر في العبادات، و فيه أنه على فرض تسليم اعتبار الجزم لا يتم مطلوبه لعدم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 64- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 589

القطع بكون الصلاة عاريا مأمورا بها، و لا يدل عليه دليل شرعي، و لهذا تمسك هو بفقد الإجماع، و تشبث بدليل الاحتياط، و معه كيف يمكن الجزم بأن المأتي به هو الواجب الشرعي، و الفرض أن الوجوب وجه للواجب يجب العلم به مقارنا للإتيان، بل الإتيان عاريا

أسوأ حالا من الإتيان فيهما، فإنه مع الإتيان فيهما يعلم بإتيان المأمور به الواقعي و إن ترك نية الوجه، و مع الإتيان عاريا لا يعلم بإتيانه بعد الصلاة و لا مقارنا لها، تأمل.

و ليت شعري أنه كيف بنى على تحقق الجزم في الصلاة عاريا مع تمسكه في الواقعة بالاحتياط، هذا مع ما في مبناه من الضعف، لعدم الدليل على اعتباره، و لا يمكن كشف الحكم الشرعي عن الإجماع المنقول فيه، لأن المسألة عقلية كلامية، و لهذا نقل عليها الإجماع في الكتب الكلامية.

و أما ما أجاب عنه صاحب الجواهر من إمكان الجزم في النية في المقام، لأن كل واحد منهما واجب و ان كان أحدهما أصليا و الآخر مقدميا ففيه ما لا يخفى، لأن التحقيق عدم وجوب المقدمات الوجودية فضلا عن المقدمة العلمية، و لا يستفاد من الصحيحة المتقدمة وجوبهما شرعا بعد كون الحكم موافقا للعقل و وضوح عدم تغيير التكليف الشرعي في المورد، فلا يفهم منها إلا الإرشاد إلى حكم العقل، فدعوى كونهما صلاة شرعية متمسكا بها في غير محلها.

ثم على فرض تسليم اعتبار الجزم في النية و حصوله بالصلاة عاريا لا يرد عليه أنه مع الدوران بين سقوط هذا و غيره من الأمور المعتبرة في الماهية لتعين سقوط هذا الشرط المتأخر عن غيره في الرتبة، ضرورة أن القائل باعتباره في العبادات انما يدعي انها بلا نية جازمة لم تقع

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 590

عبادة، فالجزم كالنية مقوم لعبادية العبادة، إذ وقوعها على صفة الطاعة للمولى متوقف على انبعاثه ببعثه، و مع عدم الجزم لا يمكن ذلك، فلا تقع ما فعل عبادة، فدار الأمر بين ترك أصلها أو ترك

شرطها أو جزئها، مع أن مجرد التأخر الرتبي لا يوجب أولوية السقوط، بل هي تابعة للأهمية، و القائل يمكنه أن يقول بأهمية النية و ما بحكمها، لتقوم لعبادة بها دون سائر الشروط.

فالتحقيق في الجواب تضعيف المبنى و فساد ما بنى عليه، هذا مع ما تقدم من النص الصحيح الصريح المعمول به.

و لو كانت الثياب كثيرة و أمكن الإتيان بصلاة في ثوب طاهر بتكرارها يجب عليه ذلك حتى يعلم الإتيان بصلاة صحيحة على قاعدة العلم الإجمالي، بل يستفاد حكمها من الصحيحة المتقدمة بإلقاء الخصوصية عرفا.

و لو لم يمكنه إلا صلاة واحدة لضيق أو غيره هل يجب عليه نزع الثوب و الصلاة عاريا أو يصلي في أحدهما أو يتخير بينهما؟ وجوه، و يقع الكلام هاهنا بعد الفراغ عن وجوبها عاريا مع انحصار الثوب النجس كما يأتي في المسألة الآتية، و أما إن قلنا في تلك المسألة بوجوبها في النجس فلا إشكال في وجوبها في محتمل النجاسة في المقام، ضرورة أنه على أي تقدير يجب الصلاة فيه، و كذا إن قلنا فيها بالتخيير بين الصلاة فيه أو عاريا، فإن الإتيان فيه حينئذ مسقط يقيني، لأن الثوب إما طاهر يتعين الصلاة فيه، أو نجس يتخير بين الصلاة فيه أو عاريا و أما إن صلى عاريا فلا يحصل له اليقين بالبراءة، لاحتمال كونه طاهرا يجب الصلاة فيه، ففي مورد دوران الأمر بين التعيين و التخيير يحكم العقل بالتعيين، سيما في مقام إبراء الذمة و الفراغ عن الاشتغال

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 591

اليقيني.

فمع وجوبها عاريا في تلك المسألة قد يقال بوجوبها فيه في هذه المسألة، لدوران الأمر بين المخالفة القطعية لدليل الستر و المخالفة الاحتمالية

لدليل مانعية النجس، و قد يجاب عنه باحتمال أن يكون أهمية المانع بحد يقدم مخالفته الاحتمالية على المخالفة القطعية لشرطية الستر، و لازمة التخيير بينهما.

و التحقيق أن يقال: إن كون المورد من قبيل الدوران بين المخالفة القطعية و الاحتمالية يتوقف على استفادة شرطية الستر للصلاة مطلقا بحيث يكون مطلوبا و لو مع النجاسة، و تكون النجاسة أيضا مانعة مطلقا فيكون المورد من قبيل المتزاحمين. و ان قدم الشارع أحدهما و هو المانع على الآخر، و ذلك يتوقف على إطلاق أدلة الستر، و هو مفقود، فان دليله الإجماع الذي لا إطلاق فيه و بعض الأخبار التي في مقام بيان حكم آخر و لا إطلاق فيها.

فحينئذ يحتمل أن يكون الستر الطاهر مطلوبا واحدا فيكون المورد من الدوران بين الموافقتين الاحتماليتين، فان إتيان الصلاة في الثوب لا يكون موافقة قطعية للشرط، كما أن ترك الصلاة في أحد الثوبين ليس مخالفة قطعية في خصوص المقام الذي لا يمكنه إلا صلاة واحدة، فحينئذ يمكن أن يقال: إن الأوجه وجوب الصلاة عاريا، لأن أهمية مراعاة المانع كما أوجبت الصلاة عاريا مع النجس المحرز توجب تقديم الموافقة الاحتمالية فيه على الموافقة الاحتمالية في الستر عقلا في مقام الامتثال، فيجب الصلاة عاريا، إلا أن يقال: إنه مع احتمال تعدد المطلوب يأتي احتمال أهمية الستر من المانع كما يحتمل العكس فالقاعدة التخيير، لكن يمكن أن يقال: إنه مع الشك في اعتبار

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 592

الستر مع نجاسته يكون إطلاق دليل مانعية النجس محكما، هذا مضافا الى جريان البراءة الشرعية عن الستر في حال نجاسته، و هو كاف في وجه التقديم في المقام، فتدبر جيدا و تأمل فإنه

لا يخلو منه.

و هل العمل على طبق حكم العقل يوجب سقوط القضاء بدعوى كشف التكليف الشرعي من حكم العقل بتقديم محتمل الأهمية، و مع إحرازه يحكم بسقوط الأمر، فلا إعادة عليه و لا قضاء، مضافا الى أن إثبات القضاء يتوقف على إحراز الفوت، و هو لا يحرز بالأصل، أو لا يوجبه بدعوى ان كشف الحكم الشرعي يتوقف على إحراز وحدة المطلوب في الستر الطاهر، و أما مع احتمال التعدد فلا يمكن ذلك، و هذا لا ينافي ما تقدم من تقدم محتمل الأهمية، تأمل. مضافا الى أن تقديم محتمل الأهمية على غيره بحكم العقل لا يكشف عن حكم الشرع، فلا دليل على سقوط القضاء.

و أما دعوى أن القضاء مترتب على الفوت، و هو عنوان لا يمكن إحرازه بالأصل ممنوعة، لأن الأمر بالقضاء و ان علق على الفوت في غالب الأخبار، لكن علق على عدم الإتيان و الترك في بعضها، فلا يبعد دعوى عدم دخالة هذا العنوان الوجودي فيه، و موضوعه صرف عدم الإتيان بها في الوقت، أي عدم إتيانها إلى خارج الوقت، و معه لا مانع من إحرازه بالأصل.

و قد يقال بأنه لا شك في الخارج في المورد، لأن ما أتى بها هي الصلاة عاريا و ما لم يأت بها هي مع الثوب، فالمقام نظير الشك في كون الغروب سقوط الشمس أو ذهاب الحمرة مما لا يجري فيه الاستصحاب و فيه ما لا يخفى و لو سلم عدم الجريان في مورد النقض، لأنا لا نريد إثبات حكم للصلاة المتحققة في الخارج، بل الموضوع لوجوب القضاء

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 593

عدم إتيان المكلف بالصلاة المأمور بها الى بعد الوقت، و الآتي

بها عاريا يشك في إتيانه للمأمور به شرعا، لاحتمال أن يكون الثوب طاهرا و كان تكليفه إتيانها فيه، فيجري استصحاب عدم الإتيان بالمأمور به، فيجب عليه القضاء، فالأحوط لو لم يكن أقوى إتيانها عاريا و قضاؤها خارج الوقت.

فرع: لو لم يجد إلا ثوبا نجسا

يجب أن يلقيه و يصلي عريانا إذا لم يتمكن من غسله و لم يضطر الى لبسه لضرورة عرفية أو شرعية، كما عن جل المتقدمين بل كلهم عدا ابن الجنيد، فإن المحكي عنه التخيير بين الصلاة فيه و الصلاة عريانا، و لم ينقل ذلك عن غيره الى عصر المحقق نعم حكي عن الشيخ احتماله، لكن ادعى في الخلاف الإجماع على الأول و عن الدروس و المسالك و الروض و الدلائل و المدارك نقل الشهرة فيه، و عن المحقق في المعتبر و العلامة في بعض كتبه و بعض من تأخر عنهما القول بالتخيير، و لم يحك من أحد القول بتعين الصلاة فيه، و انما هو أمر حادث بين بعض متأخر المتأخرين ممن قارب عصرنا.

فالمسألة لدى القدماء ذات قول واحد حقيقة، و لدى المتأخرين ذات قولين الى الأعصار القريبة منا، فحدث قول ثالث فيها.

ثم أنه حكي عن المنتهى أنه لو صلى عاريا فلا إعادة قولا واحدا و عن الذخيرة و الكفاية حكاية الشهرة على أنه لو صلى بالثوب لم يعد، و لعل مرادهما فيما لا يمكن نزعه، أو حكاية الشهرة بين المتأخرين.

و اختلفت آراء العامة فيها، فعن الشافعي يصلي عريانا و لا اعادة

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 594

عليه، و عن مالك و محمد بن الحسن و المزني يصلي فيه و لا اعادة عليه، و عن أبي حنيفة إن كان أكثره طاهرا لزمه أن يصلي

فيه و لا اعادة عليه و إن كان أكثره نجسا فهو بالخيار بين أن يصلي فيه و بين أن يصلي عريانا و كيف كان ما صلى فلا اعادة عليه، و منشأ الاختلاف بيننا اختلاف الأخبار فمما تدل على الصلاة فيه صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل أجنب في ثوبه و ليس معه ثوب غيره، قال:

يصلي فيه، فإذا وجد الماء غسله» «1» و قريب منها صحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّٰه عنه عليه السلام «2» و موثقته «3» و هما رواية واحدة و يحتمل في هذه الروايات أن يكون السؤال عن عرق المجنب، كما سئل عنه في روايات عديدة، و حمل شيخ الطائفة رواية الحلبي علي عرق المجنب من الحرام، و ما ذكرناه و إن كان خلاف المظنون لكنه ظنّ خارجي لا دليل على حجيته، تأمل.

و أما موثقة الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه سأل عن رجل ليس معه إلا ثوب، و لا تحل الصلاة فيه و ليس يجد ماء يغسله، كيف يصنع؟ قال يتيمم و يصلي، فإذا أصاب ماء غسله و أعاد الصلاة» «4» فلا يظهر منها بأنه يصلي فيه، سيما مع قوله:

«و لا تحل الصلاة فيه» فيمكن أن أقره على عدم الصحة و أراد بالصلاة الصلاة عريانا، و الظن الخارجي بأن المراد الصلاة فيه قد مر حاله.

و أما صحيحة الحلبي الأخرى أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام «عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله قال:

يصلي فيه» «5» من المحتمل قريبا وقوع التقطيع فيها، فإن الحلبي روى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 45- من أبواب

النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

(4) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

(5) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 595

ثلاث روايات إحداها ما تقدمت، و هي متعرضة لحكم الثوب الذي أجنب فيه، و الثانية متعرضة لحكم البول، و هي أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل .. إلخ التي تقدمت آنفا، و الثالثة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره قال: يصلي فيه إذا اضطر اليه» «1».

فيحتمل أن تكون الثالثة هي الأصل، و الأوليان تقطيع منها، إذ من البعيد أن يسأل الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام تارة عن الثوب الذي أجنب فيه و أخرى عن الثوب الذي أصابه البول، و ثالثة عن كليهما، فقيد الاضطرار غير مذكور للتقطيع، و هذا و إن كان غير مرضي في غير الباب، لكن يوجب فيه نحو وهن فيها لخصوصية فيه، و الرواية الثالثة إما ظاهرة في الاضطرار في اللبس لبرد أو ناظر محترم أو محتملة له، لا يمكن معه استفادة الإطلاق منها.

فبقيت صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال:

«سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا؟ قال: إن وجد ماء غسله و إن لم يجد ماء صلى فيه، و لم يصل عريانا» «2» فهي صريحة الدلالة و صحيحة السند، لكن ربما يمكن الخدشة فيها بأن الظاهر من إصابة الثوب أنه وجده مطروحا كاللقطة، فكيف أجاز التصرف و الصلاة فيه، و هو

نحو وهن فيها.

و لو نوقش في الخدشات بضعف الاحتمالات المتطرقة و ظهورها في صحة الصلاة في الثوب النجس كما هو الصواب يمكن أن يقال: إن

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 7

(2) الوسائل- الباب- 45- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 596

وجه الجمع بينها و بين موثقة سماعة قال: «سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و ليس معه إلا ثوب فأجنب فيه، و ليس يجد الماء، قال: يتيمم و يصلي عريانا قائما يومئ إيماء» «1» و نحوها روايته الأخرى «2» إلا أن فيها: «و يصلي قاعدا» و عن الكليني و الشيخ رواية الموثقة أيضا كذلك، و مصححة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في رجل أصابته جنابة و هو بالفلاة، و ليس عليه إلا ثوب واحد و أصاب ثوبه مني، قال: يتيمم و يطرح ثوبه فيجلس مجتمعا فيصلي فيومئ إيماء» «3» بحمل الأخبار المتقدمة على حال وجود الناظر المحترم بدعوى أن قوله:

«و هو في الفلاة» لإفادة فقدان الناظر المحترم فتكون أخص مطلقا منها فتقيد بها.

و تشهد له رواية الحلبي المتقدمة، و حملها على اضطرار اللبس للصلاة تأكيد، و التأسيس خير منه و أظهر، و لو نوقش في ذلك بأن ذكر الفلاة توطئة لبيان عدم اصابة ثوب آخر و عدم اصابة الماء.

و بمنع ظهور رواية الحلبي في الاضطرار التكويني بعد كون الصلاة عند المسلمين من الضروريات التي يصدق معها الاضطرار، فصارت الروايات متعارضة، فلا ينبغي الإشكال في ترجيح الروايات الحاكمة بالصلاة عاريا على معارضاتها بل لا تصلح هي للحجية، لإعراض الطبقة الأولى من أصحابنا عنها، و الميزان في وهن الرواية هو إعراض تلك

الطبقة المتقدمة.

و الظاهر أن المحامل التي تراها من شيخ الطائفة مما هي مقطوع

______________________________

(1) و لعل التعبير بالمضمرة أولى، راجع الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

(2) الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 46- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 597

الخلاف، و لا يليق بجنابة- كحمل صحيحة علي بن جعفر على الدم المعفو عنه، و حمل الأخبار الأخر على صلاة الجنازة- انما هي بعد مفروغية عدم صلوحها للعمل، لا أن اتكاله على هذا الجمع في الفتوى.

فترك الروايات المتكثرة الصحيحة الظاهرة الدلالة لأجل روايتين ربما يخدش في سندهما بالقطع، و بأحمد بن محمد بن يحيى، و محمد ابن عبد الحميد، و سيف بن عميرة إلى عصر المحقق، و عدم طرح أحد من أصحابنا هاتين الروايتين حتى صاحب المدارك الذي دأبه الاشكال و الخدشة في الروايات، فإنه لم يردهما بل جعل الأخذ بالروايات الأولى أولى.

يدفعنا عن الاستبداد بالرأي اغترارا بصحة تلك الروايات و كثرتها ففي مثل المقام يقال: كلما ازدادت الروايات صحة و كثرة ازدادت ضعفا و وهنا، هذا مع موافقتها لمالك و غيره ممن تقدم ذكره و لأبي حنيفة غالبا، و الروايتان الآمرتان بالصلاة عاريا مخالفتان لأبي حنيفة و مالك و هما من عمد الفقهاء من أهل الخلاف في عصر صدور الروايات، و لم يكن الشافعي موجودا فيه، بل لعله لم يكن معتمدا في زمن أبي الحسن عليه السلام، فإنه كان شابا في عصره، فلا ينبغي الإشكال في تعين الصلاة عاريا.

فما قد يقال: من أن أصل الستر أولى بالرعاية من وصفه أو أنه مع إلقائه يلزم ترك السجود و الركوع الاختياري اجتهاد في

مقابل النص المعمول به.

ثم أنه مع عدم تمكنه من النزع لعذر عقلي أو شرعي صلى فيه بلا إشكال، لعدم سقوط الصلاة بحال، و تكون صحيحة مجزية لا تجب إعادتها كما عن المشهور، و هو الموافق للقواعد، و ما في موثقة الساباطي

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 598

من الأمر بالإعادة فمع اشتمالها على التيمم محمول على الاستحباب.

خاتمة في باقي المطهرات: و هو أمور:

اشارة

-

الأول: المطر،

و مطهريته كطهارته من الواضحات التي لا ينبغي التكلم فيها، كيف و هو من أقسام الماء المطلق الذي خلقه اللّٰه طهورا، و نزل فيه قوله تعالى وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1» و قوله:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «2» إلخ، و لهذا لم يعنون في كلمات القوم أصل طهوريته أو طهارته، و انما أفردوه بالذكر لبيان حكمين آخرين:

أحدهما عدم انفعاله بملاقاة النجس حال تقاطره، مع أنه من أقسام الماء القليل، فكان معتصما حين نزوله، سواء فيه القطرات النازلة المعتصمة بعضها بالبعض كالماء الجاري و الكر المعتصم بالمادة و الكثرة، أو ما اجتمع منه بعد النزول و كان قليلا بشرط تمطير السماء فعلا و عدم الانقطاع و ارتباط بينهما، و ثانيهما كيفية التطهير به، و أن مجرد اصابته للمحل المتنجس موجب لطهارته بشرط قابليته لها.

ثم اعلم انا لو التزمنا باعتبار الكرية في الماء الجاري أو قلنا باعتبار العصر فيه في مثل الثياب أو التعدد في الأواني لا يوجب ذلك التزامنا باعتبارها في المطر، لعدم دليل على مشاركته للجاري في الأحكام و الشروط، و انما حكي الشهرة على أن ماء المطر كالجاري في عدم الانفعال

______________________________

(1) سورة الفرقان: 25- الآية 51.

(2) سورة الأنفال: 8- الآية 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 599

و تطهير ما اصابه بعد الفراغ عن عدم اعتبار ما تقدم، أي الكرية و العصر و التعدد في الجاري، فمع سقوط تلك القيود نزلوا المطر منزلته لا لقيام دليل على التنزيل، فالمتبع في ماء المطر الأدلة الخاصة.

فنقول: تدل على الحكمين- مضافا الى الشهرة المنقولة و اعتراف بعض الأعيان بعدم معرفة الخلاف بين الأصحاب، بل عن الذخيرة الظاهر

عدم الخلاف في أنه لو أصاب حال تقاطره متنجسا غير الماء طهر مطلقا، اللازم منه عدم انفعاله- مرسلة عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت: أمرّ في الطريق فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أن الناس يتوضئون، قال: ليس به بأس لا تسأل عنه، قلت: يسيل على من ماء المطر أرى فيه التغير، و أرى فيه آثار القذر. فتقطر القطرات عليّ و ينتضح عليّ منه، و البيت يتوضأ على سطحه، فيكف على ثيابنا، قال: ما بذا بأس، لا تغسله، كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1».

و الظاهر جبر سندها بالشهرة، لنقل جمع من الأعيان الشهرة على الحكم الثاني من الحكمين المتقدمين، و ليس في المسألة دليل صالح للاتكال عليه إلا المرسلة، و لهذا لم يرمها صاحب المدارك بالضعف، و قال الأردبيلي بعد الإشكال في طريقها «و قد يقال: ينجبر بالشهرة، و فيه تأمل» و الظاهر تأمله في الانجبار بالشهرة لا في تحققها، و لعله استشكل في أصل الانجبار بها أو ثبوت اتكالهم عليها.

أقول: في مثل هذا الحكم المخالف للقواعد المفقود فيه الدليل إلا المرسلة و المرسلة الآتية على إشكال فيها يطمئن النفس بأن اتكالهم كان عليها، و هذا يكفي في الجبر.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 600

و لا إشكال في دلالتها على مطهريته بمجرد الإصابة من غير لزوم خروج الغسالة أو شرط آخر فيما يعتبر في الغسل بالماء القليل، و لازمة عدم انفعاله، إذ لو انفعل لما يمكن التطهير به مع بقاء الغسالة، فتدل على الحكمين.

ثم أن قوله: «أمرّ في الطريق» إلخ في صدرها سؤال

عن مورد يظن بكون ما سال من الميزاب نجسا، فان المراد بتوضي الناس إما استنجاؤهم أو الوضوء لكنهم كانوا يتوضئون في محل يبولون فيه و يستنجون، فأجابه بما أجاب، ثم سأل عن سيلان المطر مع فرض العلم بملاقاته للنجاسة برؤية آثارها فيه، و رؤية تغيير فيه، و هذا التعبير لا يدل على كون ماء المطر متغيرا، و لو فرض أن المراد التغيير بالنجاسة فإن الظاهر من رؤية التغيير فيه أن فيه آثار القذارة بأن يكون بعض الماء الذي يسيل متغيرا، فقوله: «و أرى فيه آثار القذر» على هذا يكون بيانا للجملة المتقدمة.

و بالجملة الظاهر منه عدم تغير جميع الماء، بل رأى تغيرا و آثارا من القذارة فيه، فأجاب بأنه لا بأس به، و علله بأن كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر.

لا يقال: التعليل لا يناسب هذا الحكم، لأن المناسب أن يقول:

ماء المطر لا ينفعل، لا أنه مطهر لما يراه، لعدم التنافي بين مطهريته و تنجسه به كغسالة ماء القليل، فإنه يقال: يحتمل أن يكون المراد تطبيق الكبرى على الماء الذي يسيل و يرى فيه آثار القذر، فأفاد أن هذا الماء الذي يسيل حال تقاطر المطر يطهر ما أصابه فكيف يتنجس به، بل كيف يمكن انفعاله، فان الماء المتنجس لا يكون مطهرا، فأفاد المراد بلازمه بنحو بليغ.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 601

و يحتمل أن يكون المراد تطبيقها على الماء حال وصوله الى المحل القذر قبل جريانه، بأن يقال: إن ماء المطر ليس كسائر المياه القليلة لأنه بمجرد الإصابة مطهر، و ما من شأنه ذلك لا بد و أن لا ينفعل بملاقاة النجس و لو بمثل الأعيان النجسة، لعدم الفرق في

التنجس بينها و بين ما تنجس بها، تأمل.

و كيف كان لا إشكال في إفادتها الحكمين المتقدمين.

و تدل عليهما أيضا مرسلة محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السلام «في طين المطر أنه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام إلا أن يعلم أنه قد نجسه شي ء بعد المطر، فإن أصابه بعد ثلاثة أيام فاغسله، و ان كان الطريق نظيفا فلا تغسله» «1» و مقتضى إطلاقها أن طينه طاهر و لو نجسه شي ء قبل المطر، سيما مع تعقبه بقوله عليه السلام: «إلا أن يعلم» إلخ المتفاهم منه أن العلم بنجاسته قبل المطر لا يوجب التحرز، و لعل الأمر بالغسل بعد ثلاثة أيام للاستحباب، و على أي تقدير يظهر منها طهارة المتنجس، و لازمها عدم انفعال ماء المطر، لعدم خروج الغسالة و اختلاط المطر بالطين.

و تدل على الحكم الأول من الحكمين المتقدمين جملة من الروايات:

كصحيحة هشام بن سالم «أنه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب، فقال: لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه» «2».

و صحيحة هشام بن الحكم عنه عليه السلام «في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضره

______________________________

(1) مرت في ص 475.

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 602

ذلك» «1» الى غير ذلك.

و يمكن أن يستدل بها للحكم الثاني في الجملة بأن يقال: إنه بعد عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجس إذا أصاب المتنجس و غلب عليه يصير طاهرا، لصدق الغسل و عدم لزوم إخراج غسالته، و انما اعتبر إخراجها في

الغسل بالماء القليل لانفعاله بالملاقاة، فلا بد في الغسل به من صب الماء عليه و إخراج غسالته لإزالة النجاسة بعد انتقال القذارة من المتنجس الى الماء، كما مر تقريبه في بابه.

و أما ماء المطر فلما لم ينفعل بحكم تلك الروايات فلا يحتاج في التطهير به الى إخراجه من المحل المتنجس، و لازمة تطهيره باصابته و غلبته عليه.

هذا بناء على عدم لزوم العصر في الكثير و الجاري بدعوى صدق الغسل بمجرد نفوذ الماء في المحل، و أما لو بني على عدم صدقه أو شك فيه إلا بعد العصر أو التحريك في الماء حتى ينتقل الماء الداخل في الجملة كما تقدم احتماله أو اختياره فلا تدل تلك الروايات على الحكم الثاني، و على الفرض الأول أيضا لا تدل على تمام المطلوب أي الكفاية عما يحتاج الى التعدد كالبول و الأواني، بخلاف مرسلة الكاهلي المتقدمة، فهي الأصل في إثبات الحكم على نحو الإطلاق.

ثم أن مقتضى إطلاق المرسلتين و صحيحة هشام بن سالم و ذيل صحيحة علي بن جعفر الآتية و رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكنيف يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر عليّ القطرة قال: ليس به بأس» «2» ثبوت الحكم بمجرد صدق المطر من غير اعتبار الجريان على الأرض فضلا عن كونه بحد يجرى من الميزاب، كما لعله

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 4.

(2) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 603

مراد الشيخ و ابن سعيد، ضرورة فساد توهم أن مرادهما من الجريان منه دخالة الجريان منه في الحكم بحيث لو لم يجر منه بالفعل لفقدانه أو

كون محل التمطير كالصحاري و البراري لم يحكم بمطهريته، فالنقض عليهما بمثل ذلك غير صحيح، فان ذكر الميزاب لبيان تعيين حد الجريان لا اعتبار ذاك الخشب و الجريان منه.

كما أن الظاهر من ابن حمزة أن الحد جريانه من الشعب، قال في بيان ما هو بحكم الماء الجاري: «و حكم الماء الجاري من الشعب من ماء المطر كذلك» و الشعب بكسر الأول: الطريق في الجبل، و مسيل الماء في بطن الأرض، فيرجع كلامه الى اعتبار الجريان بمقدار يسيل من مسيل الجبل المنحدر.

و هو يوافق الجريان من الميزاب الذي ظاهر الشيخ، قال في التهذيب: «قال محمد بن الحسن: الوجه في هذين الخبرين- أي خبر هشام بن الحكم و خبر محمد بن مروان الواردين في ميزابين- أن ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجسه شي ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته، و يدل على ذلك ما رواه على بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن البيت يبال على ظهره و يغتسل فيه من الجنابة ثم يصيبه المطر أ يؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: إذا جرى فلا بأس» «1» انتهى.

و لا يبعد أن يكون مراده مطلق الجريان، و انما ذكر في ذيل الخبرين الواردين في ميزابين وجه عدم الانفعال في موردهما لا تقييد أصل الحكم بقرينة تمسكه برواية علي بن جعفر، فالقول باشتراطه الجريان من خصوص الميزاب فاسد جدا.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 604

نعم لا يبعد اعتباره ذلك بحد جرى من الميزاب، لكن الأقرب أنه اشترط أصل الجريان على تأمل فيه أيضا ناش

من أن كتاب التهذيب لم يعمل للفتيا، بل عمل لتأويل الروايات المختلفة، و توجيهها لحفظ القلوب الضعيفة التي ثقل عليها الاختلاف فيها، كما يظهر من أوله، و لم يحضرني كتاب المبسوط.

و كيف كان فالمشهور على ما حكي عدم اعتبار الجريان شهرة عظيمة بل عن الروض أنه جعل المخالف الشيخ، و عن المصابيح بعد نسبته الى فتوى الأصحاب «أنه لم يثبت مخالف ناص» و هو كذلك بالنسبة إلى الشيخ في تهذيبه، على ما تقدم، لكن ظاهر ابن حمزة اعتباره بنحو ما تقدم، و مستند أصل الجريان صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، فتقيد بها المطلقات.

و لا يخفى ما فيه، فان الظاهر من قوله: «البيت يبال على ظهره» إن ظهره معد لذلك، و الظاهر أنه كان متعارفا في تلك الأمكنة و الأزمنة، كما يظهر من سائر الروايات، فحينئذ يكون اشتراط الجريان لخصوصية المورد، لعدم غلبة المطر على النجاسة بلا جريان في مثله مما يكون مبالا، كما أن السؤال عن الاغتسال من الجنابة يؤيده، فيكون اعتبار الجريان للغلبة على النجاسة.

و يحتمل ان يكون المراد من الأخذ من مائه أخذ ما جرى خارج المحل، فإنه إذا كان الماء فيه و كان معدا للبول لم يذهب بالمطر عين النجاسة، و مع بقائها فيه و الأخذ منه لا محالة يبتلي المكلف بها إذا أخذ منه، فيكون القيد للإرشاد إلى الأخذ من المحل الخارج لئلا يبتلى بها، و لهذا لم يذكر الجريان في ذيلها، و هو هكذا «قال: و سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 605

قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه

و لا رجله و يصلي فيه و لا بأس به» «1».

هذا مضافا الى احتمال أن يكون المراد من جريانه فعلية تمطير السماء، فالشرط لأجل أن المحل المعد للبول لا يرتفع جرم البول المتراكم فيه بالمطر، فمع قطع الجريان ينفعل ماؤه كسائر المياه القليلة و الانصاف أنه لا يجوز رفع اليد عن الإطلاقات سيما مثل قوله عليه السلام: «ما أصابه من الماء أكثر» «2» بمثل هذه الرواية.

و أما رواية الحميري بإسناده عن علي بن جعفر «و سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أ يصلى فيه قبل أن تغسل؟ قال: إذا جرى من ماء المطر فلا بأس» «3» فظاهرها أن ما يكف إن كان من ماء المطر فلا بأس في مقابل ما كان من البول أو ماء الكنيف، فهي في الحقيقة من أدلة عدم اعتبار الجريان فيه أولا أقل من عدم دلالتها على اعتباره.

كما أن ما في كتاب علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب أ يصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا جرى فيه المطر فلا بأس» «4» لا ظهور فيه في القيدية بعد مسبوقيته بفرض جريانه في المكان، فكأنه قال: على هذا الفرض لا بأس به، مضافا الى ان الظاهر أن المفروض

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 2

(2) مرت في ص 601.

(3) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 3

(4) الوسائل- الباب- 6- من أبواب الماء المطلق- الحديث 9 و فيه: «إذا جرى به المطر» و لعل بين التعبيرين فرق.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 606

جريان ماء المطر الى

محل فيه العذرة، و لم يكن ذلك المكان مورد اصابة المطر، فالسؤال عن تمطير السماء في مكان و إجراء مائه في مكان آخر فيه العذرة، فلا يدل على القيدية في مورد البحث، مع أن الشرطية لبيان تحقق الموضوع، فان مفهومها إذا لم يجر فيه المطر لا إذا تحقق المطر و لم يكن جاريا، فالأقوى ما عليه القوم من عدم اعتبار الجريان نعم لا عبرة بالقطرات اليسيرة لانصراف الأدلة عنها، بل لا يبعد عدم صدق المطر عليها عرفا، بل و لغة.

ثم أن التطهير بالمطر متوقف على صدق رؤية مائه للشي ء النجس أي المحل الذي تنجس فإذا تقاطر على بعض الجسم النجس طهر موضع التقاطر لا غير، هذا في غير المائعات.

و أما فيها فلا إشكال في عدم طهارة غير الماء منها به، لعدم إمكان رؤيته جميع أجزائها، و ما وصل إليه أيضا لا يطهر للسراية، ففي مثله لا يمكن حصول الطهارة، و إن شئت قلت: إن قوله عليه السلام:

«كل شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «1» لا يشمل مثل المائعات، فإنها غير قابلة للتطهير كالأعيان النجسة، فان رؤية المطر جميع أجزائها غير ممكن، و بعضها المتصل بالنجس غير قابل له، فلا يشمله الدليل، و من ذلك يعلم الحال في الماء أيضا.

و دعوى صدق رؤيته إياه بتقطير قطرات بل قطرة عليه غير وجيهة لأن المراد من صدقها إن كان صدق الرؤية لهذا الجسم بملاحظة كونه موجودا واحدا، فإذا صدق رؤيته لجزء منه صدق رؤيته له، فلازمه طهارة جميع الأرض إذا تقاطر على نقطة منها المطر، لصدق رؤيته إياها.

و الحل أن الظاهر من قوله عليه السلام: «كل شي ء يراه» إلخ

______________________________

(1) مرت في ص 599.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط

- القديمة)، ج 3، ص: 607

بمناسبة الحكم و الموضوع أن الطهارة مخصوصة بموضع الملاقاة دون غيره و هو واضح، و لو قيل: إن مقتضى إطلاق الرؤية طهارة الجزء الذي رآه المطر، و لازمة طهارة جميع الماء للإجماع على عدم محكومية الماء الواحد بحكمين يقال له: بعد تسليم ثبوت الإجماع المذكور أنا نمنع إطلاقها لمثل المورد، لعدم إمكان قبوله للتطهير كسائر المائعات، فإن الجزء المائع المتصل للنجس اللازم الانفعال منه لا يصير طاهرا بورود المطهر عليه.

بل لو لا الإجماع على قبول المياه للطهارة و دلالة بعض الأخبار عليه كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الواردة في ماء البئر «1» و ما وردت في ماء الحمام «2» لكان الحكم بقبوله لها مشكلا، و المتيقن من الإجماع طهارته بعد الامتزاج، كما أن مورد الروايات المتقدمة ذلك فالأقوى عدم طهارة الماء المتنجس إلا بالامتزاج بالمعتصم.

و قد يقال بدلالة مرسلة الكاهلي على طهارته بالتقاطر عليه على بعض نسخ الكافي كما نقل في الوافي «و يسيل على الماء المطر» بتعريف «الماء» و جره بعلى و كون «المطر» فاعل «يسيل» قال في الوافي:

«و الغرض من السؤال الثاني أن المطر يسيل على الماء المتغير بالقذر فيثب من الماء القطرات و ينتضح عليّ، و البيت يتوضأ على سطحه سؤال آخر» انتهى بدعوى إن كل شي ء يراه .. إلخ بعد تعقبه بذلك يدل على المطلوب.

و فيه مع عدم ثبوت صحة هذه النسخة- و لهذا لم يشر إليها المحدث المجلسي في مرآته و لا الحر في جامعه و الاستشهاد على صحتها بمنافاة

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 1

(2) المروية في الوسائل- الباب- 7- من أبواب الماء المطلق.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط -

القديمة)، ج 3، ص: 608

فرض السيلان عليه على النسخة المعروفة مع فرض ورود القطرات عليه غير تام، لإمكان رفع التنافي بأن يقال: إن فرض ورود القطرات قرينة على أن المراد من سيلانه عليه سيلانه من فوق رأسه، فكأنه قال: يسيل عليّ الميزاب فيقطر عليّ منه القطرات- ان سيلان المطر على الماء بناء على هذه النسخة ملازم لامتزاجه به، و لعله مع الامتزاج صدق الرؤية عرفا بنحو من التسامح، مع أن لنا أن نقول: إن تطبيق الكبرى على المورد دليل على صحة النسخة المشهورة لو منع الصدق العرفي مع الامتزاج.

و كيف كان لا يمكن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد و الارتكاز العرفي بهذه النسخة غير الثابتة.

الثاني: [في مطهرية الشمس]

الشمس إذا جففت باشراقها البول و غيره من النجاسات و المتنجسات التي لا يبقى جرمها بعد الجفاف بالتبخير عن الأرض و غيرها مما لا ينقل كالنباتات و الأشجار و أثمارها الموصولة بها و الأبنية و ما يتعلق بها من الأبواب و الأخشاب و المسامير و غيرها، بل عن البواري و الحصر من المنقولات على الأظهر الأقوى في جميع المذكورات.

و قد خالف في أصل الحكم المحدث الكاشاني، فاختار في الوافي عدم مطهريتها، بل عدم العفو حتى عن السجدة عليها، قال في ذيل رواية ابن أبي عمير قال «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أصلي على الشاذ كونة و قد أصابتها الجنابة، قال: لا بأس» «1» بهذه العبارة:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 609

«و الوجه في ذلك عدم اشتراط الطهارة في مواضع الصلاة إلا بقدر ما يسجد عليه، نعم يشترط أن لا يكون فيها- إذا كانت نجسة- رطوبة يتعدى بها

النجاسة إلى ثوب المصلي أو بدنه، و بناء الأخبار الآتية على هذا الأصل، إلا أن جماعة من أصحابنا اشتبه ذلك عليهم، فزعموا أن الشمس تطهر الأرض و البواري» ثم ذكر في ذيل بعض الأحاديث مؤيدات لما اختاره، و حمل صحيحة زرارة الآتية و رواية أبي بكر الحضرمي على المعنى اللغوي، أي عدم سراية القذر، كقوله عليه السلام: «كل يابس زكي» «1» ليوافق سائر الأخبار.

و عن جملة من الأصحاب القول بصحة السجود عليها و بقائها على النجاسة، فيكون البناء على العفو في خصوص هذا الحكم، و المشهور البناء على الطهارة، بل عن جملة منهم دعوى الإجماع عليها.

ففي الخلاف الإجماع على طهارة الأرض و الحصر و البواري من البول، و عن السرائر الإجماع على التطهير بالشمس، و عن كشف الحق ذهب الإمامية الى أن الأرض لو أصابها البول و جفت بالشمس طهرت و جاز التيمم منها، و عن جملة منهم دعوى الشهرة عليها.

و أيضا يظهر من بعضهم اختصاص الحكم بالبول، و عن جملة منهم دعوى الشهرة على التطهير من سائر النجاسات المائعة، و ظاهر بعضهم اختصاص الحكم بالأرض و الحصر و البواري، و عن جملة منهم نقل الشهرة عليها و على كل ما لا ينقل كالنباتات و الأبنية و غيرهما.

و الأقوى في المقامات الثلاثة ما حكي عن المشهور، أي حصول الطهارة و عموم الحكم لكل مائع متنجس أو نجس، نظير البول مما يتبخر باشراق الشمس، و عمومه لكل ما لا ينقل و للحصر و البواري.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 5.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 610

و تدل على المطلوب في المقامات الثلاثة صحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه

السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلى فيه فقال: إذا جففته الشمس فصل عليه فهو طاهر» «1» أما دلالتها على الطهارة فلا ينبغي الإشكال فيها.

و توهم أن الطهارة فيها بمعنى عدم السراية كقوله عليه السلام:

«كل يابس زكي» خلاف الظاهر بل الصريح لا يذهب إليه إلا مع قيام قرينة، و سيأتي حال بعض ما يتوهم قرينيته، بل الظاهر من قوله عليه السلام: «فصل عليه» ان شرط الصلاة عليه حاصل.

و معلوم أن المتعارف في تلك الأعصار السجود على المكان الذي كانوا يصلون فيه، نعم من كان على مذهب الحق كان لا محالة يراعي كون المكان مما تصح السجدة عليه، و أما وضع شي ء كتراب قبر مولانا الحسين سلام اللّٰه عليه أو حجر أو خشب فلم يكن معهودا و متعارفا، سيما مع شدة التقية، فسؤال زرارة عن البول في المكان الذي يصلى فيه انما هو عن صحة الصلاة و السجود عليه مع جفاف البول، ضرورة عدم تعقل السؤال عن البول الرطب الساري، فقوله عليه السلام في مقام الجواب:

«إذا جففته الشمس فصل عليه» يدل على حصول شرط السجود، و الحمل على العفو مع بقاء النجاسة خلاف الظاهر المتفاهم، فهل ترى من نفسك بعد معهودية اشتراط الطهارة في ثوب المصلي انقداح احتمال العفو و بقاء النجاسة من قوله مثلا: «إن أصابه المطر صل فيه» و ليس ذلك إلا أن تجويز الصلاة فيه دليل على حصول شرطه.

فيستفاد من الصحيحة مع الغض عن قوله عليه السلام: «فهو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 611

طاهر» حصول شرط السجدة مع الجفاف بالشمس، فاحتمال التجفيف مخالف للظاهر، فضلا عن

احتمال ارتكبه الكاشاني، فإنه بناء على ما ذكره يكون ذكر الشمس و التعليق عليها في غير محله، إذ لو كان الموضوع هو التجفيف فلا معنى للتقييد، و كون الشمس أسرع في التجفيف لا يوجب تعليقه عليها من غير دخالة لها.

هذا مع أن الطاهر في مقابل القذر عرفا و شرعا، و ليس للشارع اصطلاح خاص فيهما، كما مر مرارا، و حملها على عدم السراية مع الجفاف من قبيل توضيح الواضحات بعد وضوحه لدى العرف، و بالجملة لا شبهة في دلالتها و صراحتها على المطلوب و تدل عليه أيضا رواية الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«كل ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر» «1» و في رواية أخرى عنه عليه السلام «ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر» «2» و الظاهر أنهما رواية واحدة، و السند و إن كان ضعيفا بعثمان بن عبد الملك، بل في الحضرمي تأمل، لكن رواية أحمد بن محمد بن عيسى إياها مع ما هو المعروف من طريقته لا يبعد أن تكون نحو توثيق لهما أو دالة على قرينة على صدورها.

و أما صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألته عن الأرض و السطح يصيبه البول و ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟

قال: كيف يطهر من غير ماء؟!» «3» فالظاهر منها أن الشمس تطهر مع الماء سيما لو كان «يطهر» في الذيل من التفعيل و ضميره رجع الى

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 6- و لا يخفى أن إطلاقها يقيد بالصحيحة أو بها و بالإجماع

(2) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 5- و لا يخفى أن إطلاقها يقيد بالصحيحة أو بها و بالإجماع

(3) الوسائل- الباب- 29- من أبواب

النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 612

الشمس، كما هو المناسب للسؤال، و في نسخة الوافي «تطهر» بالتاء و الظاهر منها كونه من التفعيل لا من باب المجرد، فتكون الرواية دالة على المطلوب، فدعوى الكاشاني بأنها صريحة في عدم التطهر بالشمس غير وجيهة.

و من بعض ما ذكرناه يظهر إمكان الاستدلال للمطلوب- أى حصول الطهارة- بصحيحة زرارة و حديد الأزدي قالا: «قلنا لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلى في ذلك المكان؟

فقال: إن تصيبه الشمس و الريح و كان جافا فلا بأس به إلا أن يكون يتخذ مبالا» «1» فان التفصيل بين ما يتخذ مبالا فلا يجوز فيه الصلاة مع جفافه و بين غيره فيجوز كالصريح في مخالفة مختار الكاشاني، و مع معهودية اشتراط الطهور في محل سجدة المصلي و كون المتعارف عدم وضع شي ء للسجود تدل الرواية على حصول الشرط، أي الطهور، فدعوى أن تجويز الصلاة فيه و نفي البأس لا يدلان على حصول الطهارة لإمكان كونهما مبنيا على العفو خلاف فهم العرف و ظهور الرواية.

نعم فيها مناقشة ناشئة من ضم الريح الى الشمس، و مناقشة أخرى و هي دعوى كون قوله عليه السلام: «و كان جافا» ظاهرا في أن الجفاف موضوع الحكم و لو لم يحصل بالشمس.

و هما ضعيفتان، فان ذكر الريح بعد قيام الإجماع و ظهور الأدلة في عدم دخالته لعله لدفع توهم أن دخالته الجزئية مضرة بتطهير الشمس و من المعلوم أن الشمس إذا أشرقت على موضع و هبّ الريح عليه يكون التأثير في التجفيف مستندا إلى إشراقها، و إن كان للريح أيضا تأثير ضعيف، فلا يكون هذا التأثير مضرا، لا أنه

جزء الموضوع بحيث ينتفي

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 613

الحكم بانتفائه.

و أما قوله عليه السلام: «و كان جافا» فلا ظهور فيه لما ادعي، نعم لا ظهور فيه بأن الجفاف حصل بالشمس فقط، و إن لا يبعد ظهوره العرفي فيه، و لو كان فيه إجمال يرفع بسائر الروايات فلا إشكال فيها.

و أما موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس و لكنه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يصلي، و أعلم موضعه حتى تغسله، و عن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطبا فلا يجوز الصلاة حتى ييبس، و إن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع حتى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز ذلك» «1».

كذا في الوسائل، و ليس في الوافي «حتى ييبس» بعد قوله عليه السلام: «ذلك الموضع» و يكون بدل «غير الشمس» «عين الشمس» و بدل «أصابه» «أصابته» و في نسخة من التهذيب مقروة على المولى المجلسي رواها نحو الوافي، إلا أنه جعل فيها لفظ «غير» فوق «عين» مع علامة نسخة، و نقل «أصابه» مذكرا.

و في حبل المتين «ربما يوجد في بعض نسخ التهذيب بدل «عين الشمس» بالعين المهملة و النون «غير الشمس» بالغين المعجمة و الراء و الصحيح

الموجود في النسخ الموثوق بها هو الأول» انتهى.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 29- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 614

و في المنتهى رواها نحو ما في الوسائل، و صرح في ذيلها بأن رواية عمار فرقت بين اليبوسة بالشمس و غيرها، و في هامش حبل المتين «و قد ظفرنا في النسخ الصحيحة المعتمد عليها جدا على لفظة «غير» أيضا نسخة، و الظاهر أن الهامش لمصحح الكتاب».

و كيف كان فالموثقة متعرضة لأحكام:

منها- انه إن يبس الموضع بغير الشمس لا يجوز الصلاة عليه حتى يغسل، و وجهه لزوم كون محل السجدة طاهرا، فالمراد من النهي عنها اما عن خصوص السجود، أو عن الصلاة بجميع أجزائها التي منها السجود، لما ذكرناه من عدم تعارف وضع شي ء للسجدة عليه، فلا محالة يكون السؤال عن الصلاة على موضع قذر شاملا للسجود عليه.

و منها- أنه إذا كان الموضع قذرا ببول أو غيره فيبس بالشمس يجوز الصلاة عليه، و التفصيل بين الجفاف بالشمس و غيرها كالنص على ردّ الكاشاني، و ليس المراد من قوله عليه السلام: «ثم يبس» اليبوسة و لو بغير الشمس، بل المراد الجفاف بها، و تخلل لفظة «ثم» لكون الجفاف يحصل بتدريج، فيكون متأخرا عن حدوث إصابتها، و لو كان فيه نوع إجمال يرفع بصحيحة زرارة المتقدمة و بالإجماع، على أن الجفاف بغير الشمس غير مفيد، كما أنه لو كان له إطلاق يقيد بهما.

و التقريب فيها لحصول الطهارة بنحو ما تقدم من أن العرف بعد ما رأى أن الطهارة في محل السجدة معتبرة لا ينقدح في ذهنه من تجويز الصلاة إلا حصول الشرط، و العفو لا ينقدح في الأذهان غير المشوشة بالعلميات «1».

______________________________

(1) أضف

الى ذلك أن الراوي سأل عن مطهرية الشمس و أن مقتضى ارتباط الجواب بالسؤال أن يكون الحكم بتجويز الصلاة عليه كناية عن طهارة الموضع التي هي معتبرة في مسجد الجبهة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 615

و منها- أنه إن أصابته الشمس فلم ييبس و كان رطبا لا يجوز الصلاة عليه حتى ييبس، و الظاهر أن هذه الفقرة مفهوم الفقرة المتقدمة، و قوله عليه السلام: «حتى ييبس» تأكيد لها، و لو فرض الإجمال أو الإطلاق فيها يرفع أو يقيد كما تقدم.

و منها- أنه مع رطوبة الأعضاء لا يجوز الصلاة عليه حتى ييبس و المراد اليبوسة بالشمس بقرينة الفقرة الآتية، أي «و إن كان غير الشمس أصابه» إلخ، و المراد من الفقرتين التفصيل في الصلاة عليه مع رطوبة الأعضاء بين الجفاف بالشمس و غيرها، فتدل على حصول الطهارة بالأول دون الثاني.

هذا على نسخة الوسائل الموافقة لمنتهى العلامة و للنصوص و الفتاوى و المناسب لتذكير الضمير كما في التهذيب و الوسائل، و لعل البهائي و الكاشاني تصرفا في النسخة بعد ترجيح «عين» على «غير» فجعلا الضمير مؤنثا كما يظهر من حبل المتين، حيث جعل «أصابته» بالتأنيث في المتن، و التذكير فوق السطر مع علامة التهذيب، مع أن الرواية من التهذيب فكان نسخه كذلك، و تصرف فيها تصحيحا.

و أما على النسخة الأخرى و هي هكذا «و إن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع و إن كان عين الشمس أصابه حتى ييبس، فإنه لا يجوز ذلك» ففيه احتمالان: أحدهما أن المراد بذلك الموضع هو الموضع القذر الرطب أي لا تصل مع رطوبة

الأعضاء على ذلك الموضع و إن كان عين الشمس أصابته إلا أن يبس بالشمس، فيجوز حينئذ الصلاة عليه مع رطوبتها، فكان المقصود بهذه الفقرة إثبات طهارة ما

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 616

أصابته الشمس، فتكون مخالفة للقول بالعفو دون الطهارة.

فعلى هذا الاحتمال تكون الفقرة السابقة على هذه الفقرة متعرضة لعدم جواز الصلاة على الموضع حتى ييبس، و هذه الفقرة لجواز الصلاة مع رطوبة الأعضاء فيما إذا يبس الموضع بالشمس، فيكون التعرض لعدم الجواز حتى ييبس توطئة لهذا الحكم، فتدل على طهارة الموضع بالتجفيف بالشمس، و على هذا الاحتمال يكون «حتى ييبس» غاية لعدم جواز الصلاة، نعم يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: «أصابه» فتدل على عدم الطهارة.

و ثانيهما أن المراد الموضع القذر بعد اليبوسة أي لا تصل مع رطوبة الأعضاء على الموضع الذي يبس و إن كان أصابه عين الشمس و يبس بها، فتدل على نجاسة ما يبس بالشمس، و لا ترجيح لهذا الاحتمال على الاحتمال الأول، بل الترجيح معه سيما مع كونه موافقا لسائر الروايات الدالة على الطهارة صريحا، فدعوى الكاشاني بأن الرواية على هذه النسخة صريحة في عدم الطهارة غير وجيهة، بل لا ظهور لها فيه، بل الأرجح دلالتها على الطهارة على هذه النسخة أيضا.

و استدل على عدم الطهارة بها بصحيحة ابن بزيع قال: «سألته عن الأرض و السطح يصيبه البول و ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال: كيف يطهر من غير ماء؟» «1» بدعوى أن المراد من السؤال أن الشمس مطهرة في قبال الماء، و من الجواب أنه كيف يطهر بالشمس؟! بل لا بد من الغسل بالماء.

و فيها أن هاهنا احتمالا آخر أقرب منه بلفظ

الرواية، و هو أن الشمس في تطهيرها تحتاج الى ماء أو يطهر المحل بصرف إشراقها عليه؟

______________________________

(1) مرت في ص 611.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 617

فتعجب من ذلك، و قال: كيف تطهر من غير ماء؟! أي تحتاج في التطهير الى التبخير و التجفيف، و هما لا يتمان إلا بماء، و لعل المراد بالماء مطلق المائع القابل للتبخير، و لهذا نكره، و لو نوقش في ذلك يجب تقييد إطلاقها بصحيحة زرارة.

و انما قلنا هذا الاحتمال أقرب لأن الرواية مشعرة بأن مطهرية الشمس كانت مفروضة، و انما سئل عن كيفيتها، و ان الإشراق بلا ماء كاف أولا، و قوله عليه السلام: «كيف يطهر» معناه كيف يطهر المحل بالشمس فقط من دون ماء سيما على نسخة الوافي، فإن فيها «تطهر» بالتاء المثناة، و الظاهر انه من التفعيل بمناسبة السؤال، و سيما مع تنكير «ماء» فإنه مشعر بأن المراد ليس التطهير بالماء على النحو المعهود، بل لا بد فيه من ماء يتبخر بالشمس.

و مع تساوي الاحتمالين لا يجوز رفع اليد عن صحيحة زرارة و غيرها الناصة على الطهارة بمثلها، بل مع فرض أرجحية الاحتمال الأول صارت معارضة لها، و الترجيح معها لموافقتها مع الشهرة و الإجماعات المنقولة، و الانصاف أن طرح الصحيحة الصريحة بمثل هذه المضمرة المجملة غير جائز «1».

و أما الروايات الواردة في الشاذكونة و غيرها مما تدل على جواز الصلاة عليها مع الجفاف بلا تقييد بالشمس- و هي التي صارت موجبة لاغترار الكاشاني و ارتكابه للتأويل البعيد في صحيحة زرارة و غيرها- فهي مطلقات يمكن تقييدها بتلك الروايات، و مع المناقشة فيه فالتصرف

______________________________

(1) و يمكن حملها على التقية إذ أكثر أهل العامة

يخالفونا في هذا الحكم، و لذا قيل: إن ما يظهر من كلام العلامة ان هذا الحكم مختص بالطائفة الحقة.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 618

فيها بحملها على جواز الصلاة فيها أو عليها إذا كان موضع السجدة طاهرا بتقييدها بالإجماع على لزوم طهارته أولى من التصرف في صحيحة زرارة و نحوها الموافقة للشهرة و الإجماعات المنقولة، هذا حال إحدى المقامات الثلاثة.

و أما دلالة صحيحة زرارة على تعميم الموضوع و عدم الاختصاص بالسطح و المكان الذي يصلي فيه فبالقاء الخصوصية عرفا، بل لدلالة الشرطية على أن تمام العلة للتطهير هو تجفيف الشمس من غير دخالة القابل فيه و المقام، لا يقصر عن سائر المقامات التي يدعي فيها إلقاء الخصوصية عرفا.

و بالجملة لا ينقدح في ذهن العرف من هذا الكلام أن السطح بما هو مكان خاص أو مكان المصلي بما هو كذلك دخيل في تطهيره بالشمس، بل يرى أن التأثير للشمس و إشراقها و التجفيف بها، من غير دخالة الأرض و السطح و مكان المصلي فيه، نعم لو كان الحكم من قبيل العفو لكان لدعوى الخصوصية وجه.

لكن بعد البناء على حصول الطهارة لا ينقدح في الأذهان الخصوصية سيما مع وقوع المكان الخاص في كلام السائل فلو كان يدل هذه الشرطية قوله: «إذا أصابه المطر صل عليه و هو طاهر» هل يختلج في الذهن أن المطر مطهر السطح أو مكان المصلى بحيث يكون للجدار تحت السطح أو لصلاة المصلي دخالة فيه؟ و المقام من قبيله، و عدم معهودية كون الشمس مطهرة لا يوجب فهم الخصوصية بعد دلالة الدليل على أصل الحكم.

و بالجملة أن الظاهر المتفاهم من الشرطية أن السبب الوحيد للتطهير تجفيف الشمس كما هو

المتفاهم في غير المقام، نعم يستثنى المنقولات ما عدا الحصر و البواري عنها بالإجماع و دلالة بعض الأدلة، أو بدعوى

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 619

عدم إلقاء الخصوصية بالنسبة إليها بملاحظة الأخبار الواردة في كيفية تطهير الأواني و الثياب و أمثالهما، تأمل.

و يدل على التعميم رواية أبي بكر الحضرمي المتقدمة «1» بعد تقييدها بحصول الجفاف لو لم نقل بانصرافها عما قبله، بعد عدم إمكان كون إشراقها مطهرا مع بقاء عين النجس أو الرطوبة المتنجسة، فلا ينقدح في الأذهان من قوله عليه السلام: «ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر» إلا إذهاب الإشراق عين النجس أو الرطوبة المتنجسة بالتبخير، لكن يجب تقييدها بالمنقولات بالإجماع.

و توهم انصرافها الى غير المنقول الذي من شأنه الثبات و إشراق الشمس عليه كما ترى، إلا أن يدعى الانصراف بملاحظة ما وردت في كيفية تطهير الأواني و الثياب، و هو أيضا لا يخلو من تأمل، و يشهد على التعميم حكاية جمع من الأعاظم الشهرة عليه.

و مما تقدم يظهر الحال في الأمور التي يشك في كونها منقولا أولا لعدم دليل على هذا العنوان، بل ما دل على الاستثناء هو الإجماع، و الواجب الأخذ بالمتيقن منه و هو غير المذكورات و تدل على تعميم الحكم بالنسبة الى غير البول مما هو نظيره في رقته و تبخيره صحيحة زرارة بعد إلقاء الخصوصية منه عرفا، سيما مع كون البول أشد نجاسة من المائعات المتنجسة بسائر النجاسات، بل من كثير من النجاسات.

و يدل عليه أيضا مضافا الى الشهرة المنقولة بتوسط كثير من الأعيان إطلاق رواية الحضرمي و موثقة الساباطي و صحيحة ابن بزيع بناء على أحد الاحتمالين.

______________________________

(1) مرت في ص 611.

كتاب الطهارة (للإمام

الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 620

ثم أن المراد من الجفاف في صحيحة زرارة و غيرها هو حصول اليبوسة كما في موثقة عمار، ضرورة أنه مع بقاء رطوبة عين البول و كذا سائر المائعات النجسة أو المتنجسة لا يطهر المحل، و هو واضح، و الميزان حصول اليبوسة، و عدم بقاء أثر النجس، و لو كان للبول و غيره بواسطة التكرار على المحل جرم لا يتبخر باشراق الشمس لم يطهر، و هذا هو المراد من استثناء المحل المتخذ مبالا في صحيحة زرارة و حديد و لعله مراد الشيخ من استثناء الخمر.

و الظاهر من النصوص أن يكون الجفاف و اليبس حاصلا باشراقها استقلالا، فلو اشترك معه غيره و لو بتنشيف المحل بحيث لا يبقى من الرطوبة السارية شي ء أو أعينت الشمس في فعلها بحرارة و نحوها لا يطهر المحل، و كون الشمس متأخرة في التأثير في بعض الصور لا يوجب استقلالها في حصوله، نعم لا يضر تقليل العين و الرطوبة عنه مع بقاء شي ء من الرطوبة السارية للصدق العرفي.

لا يقال: إطلاق موثقة عمار أي قوله عليه السلام: «إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة» يقتضي طهارته و لو مع نداوة غير سارية فاللازم استقلال الشمس في تحصيل اليبوسة، و هو حاصل و لو كان الوصول الى حد الرطوبة غير السارية بفاعل آخر، بل و لو لم يبق للمحل إلا نداوة ضعيفة جدا، لصدق أن المحل كان قذرا بالبول و يبس بالشمس فإنه يقال: إطلاقها محل تأمل، لأن اليبوسة فيها في مقابل الرطب المذكور في الفقرة الثانية، و هو لا يصدق على النداوة الضعيفة غير السارية،

فان المتفاهم من كون الشي ء رطبا و لو بالانصراف هو كونه ذا نداوة سارية، و لا يلزم أن تكون الرطوبة أيضا كذلك، أي لا تصدق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 621

إلا على السارية، لاختلاف المشتقات بعضها مع بعض أحيانا و لو للانصراف كجري الماء و الماء الجاري، ألا ترى أن الظاهر من قوله عليه السلام في الفقرة الأخرى منها: «إن كانت رجلك رطبة» إلخ كونها ذا نداوة سارية مع إمكان أن يقال: إنها بصدد بيان حكم آخر، و هو حصول اليبس بالشمس تارة و بغيرها أخرى، لا بصدد بيان كيفية التطهير بها مضافا الى أن صحيحة محمد بن إسماعيل على الاحتمال الراجع تقيد الإطلاق لو كان.

هذا مع أن في صحيحة زرارة التي هي الأصل في المسألة علق الحكم على التجفيف، و هو لا يصدق على ما ذكر، و لا يلزم منه كفاية حصول الجفاف مع بقاء رطوبة غير سارية في التطهير، للقرينة العقلية على أن المراد حصول الجفاف الى حد اليبوسة، فلا بد من حفظ مفهوم الجفاف غير الصادق على حصول اليبس من النداوة غير السارية، و التقييد بانتهائه إلى حد اليبوسة.

فالأحوط بل الأقوى عدم الطهارة إلا مع نداوة سارية للمحل، و لو جف بغير الشمس و يراد تطهيره يرش عليه الماء، فإذا جففته الشمس طهر، لعدم الفرق بين النجس و المتنجس.

الثالث: النار،
اشارة

و الكلام فيها يقع في مقامين:

أحدهما- في أنها هل مطهرة كمطهرية الشمس،

فكما أن الثانية مطهرة باشراقها على المحل و تبخير النجس أو المتنجس كذلك الأولى إذا أصابت شيئا طهرته؟ يظهر من الشيخ في مياه نهايته و محكي استبصاره

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 622

ذلك في الجملة، قال في النهاية: «فإن استعمل شي ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به و يخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز، لأن النار قد طهرته» نعم عدل عنه في أطعمتها فقال: «لم يجز أكل ذلك الخبز، و قد رويت رخصة في جواز أكله، و ذكر أن النار طهرته».

و يظهر من المقنع ذلك أيضا، حيث أجاز الأكل من خبز عجين عجن بماء البئر الواقع فيه الفارة و غيرها و ماتت فيها، بناء على انفعال ماء البئر عنده.

و عن خلاف الشيخ و مبسوطة و جمع آخر القول بطهارة الخزف و الآجر مع نجاسة طينهما، و ادعى الشيخ الإجماع عليه، و استدل على الطهارة بصحيحة ابن محبوب الآتية، و الظاهر منهم مطهريتها مع عدم تبدل الموضوع سيما مع الاستدلال بالصحيحة، و قد أفتى الشيخ في أطعمة النهاية بمضمون رواية زكريا بن آدم الظاهر منها أن النار إذا أكلت الدم طهر المرق فكانت مطهريتها فوق سائر المطهرات حتى الماء.

و كيف كان فما يمكن أن يستدل على مطلوبهم روايات.

منها- صحيحة الحسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة و عظام الموتى ثم يجصص به المسجد أ يسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطه أن الماء و النار قد طهراه» «1».

بدعوى أن السؤال عن الجص الملاقي للعذرة و العظام الموقدتين عليه و هما ملازمتان للرطوبة، سيما الثانية التي لا تنفك

غالبا عن دسومة سارية في أول الإيقاد، فسئل عن النجاسة العارضة للجص، فأجاب عليه السلام بأن الماء و النار طهراه، و معلوم أنهما لم يقعا عليه دفعة، بل النار أصابته أولا للطبخ و الماء بعدها للتجصيص، و بعد عدم مطهرية

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 81- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 623

الماء المخلوط بالجص جزما و إجماعا، و عدم كونه جزء المطهر أيضا كالمرة الثانية في الماء المطهر للبول، فلا محالة تكون المطهرية مستندة الى النار حقيقة، و للماء أيضا نحو تأثير في رفع القذارة العرفية، و لا يلزم منه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي لما مر مرارا من أن الطهارة و القذارة في اصطلاح الشارع ليستا إلا بالمعنى العرفي و اللغوي مع أن الاستعمال في الجامع بعد قيام القرينة لا مانع منه، بل لا يمتنع الاستعمال في المعنيين كما قرر في محله.

فتحصل من ذلك أن الجص النجس بملاقاة النجاسة صار طاهرا بايقاد النار عليه.

و فيه- أن في الرواية احتمالات أخر لعل بعضها أقرب مما ذكر كاحتمال كون السؤال عن الجص الموقد عليه ما ذكر لأجل اختلاطه برمادهما و عدم إمكان تفكيكه عنه، فعليه يكون المراد من التطهير بالنار استحالتهما، و بالماء رفع القذارة العرفية، و التطهير بالاستحالة و تبدل الموضوع غير ما هو المطلوب في المقام.

و كاحتمال كون السؤال لتوهم ان الطبخ بالعذرة و عظام الموتى مناف لاحترام المسجد و السجود فسئل عن جوازه فأجاب بعدم المنافاة لرفع القذارة العرفية بالنار و الماء.

و كاحتمال أن يكون المراد أن إيقادهما عليه معرض لعروض النجاسة فيكون مظنة لذلك، فأجاب بما ذكر، و المراد بالتطهير رفع القذارة المظنونة

أو المحتملة كما ورد الرش في موارد الشبهات في الأخبار.

و الانصاف أن إثبات هذا الحكم المخالف للقواعد بمثل هذه الرواية غير ممكن، جمع أن الظاهر منها أن النار جزء الموضوع للتطهير، و الحمل المتقدم بعيد جدا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 624

و منها- مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «في عجين عجن و خبز ثم علم ان الماء كانت فيه ميتة، قال: لا بأس أكلت النار ما فيه» «1».

و فيه- مضافا الى أنه لم يصرح فيها بأن العجين عجن بالماء النجس بل الظاهر منها أنه بعد العجن علم أن في الماء الذي أخذ ماء العجين منه كانت ميتة، فلو فرض أن المأخوذ منه لم يكن بئرا لكن لم يعلم أن الميتة كانت فيه حين أخذ الماء منه أو وقعت فيه بعده فكانت الشبهة موضوعية، و قوله عليه السلام: «أكلت النار ما فيه» لدفع القذارة المحتملة كرش الماء في مثله، و لم يتضح حال من أرسل عنه ابن أبي عمير فلعله كان رجلا مبتلى بوسواس، فأراد أبو عبد اللّٰه عليه السلام دفعها كما نقل عن الشيخ الأعظم أنه يرى رجلا مبتلى بالوسواس يتحرز عن بخار الحمام لكونه بخار الماء النجس، فقال له: إن هذا البخار متصل بالخزانة و هي كر فلا ينفعل، و بالجملة أن الشبهة ظاهرا كانت موضوعية تأمل- أنها معارضة بما هو أوضح سندا و متنا.

و هو مرسلته الأخرى بالسند المتقدم عن بعض أصحابنا و ما أحسبه إلا عن حفص بن البختري قال: «قيل لأبي عبد اللّٰه عليه السلام في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة» «2» و

بالإسناد عنه عن بعض أصحابه عنه عليه السلام قال: «يدفن و لا يباع» «3».

و حمل الثانية على الاستحباب كما ترى، فان دفن المال المحترم

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 14- من أبواب الماء المطلق- الحديث 18

(2) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الأسئار- الحديث 1.

(3) الوسائل- الباب- 11- من أبواب الأسئار- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 625

تبذير، و لا يبعد حملها على النهي عن بيعه على المسلم، فيجوز البيع على المستحل، و مع عدمه أو عدم اشترائه كما هو الغالب يدفن، فهذه نص في العجين بالماء النجس و الأولى محتمل للأمرين، فتحمل على مورد الشبهة هذا مع عدم نقل عامل بها يعتد به، فان الشيخ قد رجع عن القول به في أطعمة النهاية، و الاستبصار ليس كتاب الفتوى.

و منها- رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله قلت: فإنه قطر فيه الدم، قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّٰه، قلت:

فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم، قال: فقال: فسد، قلت: أبيعه من اليهودي و النصراني و أبيّن لهم؟ قال: نعم، فإنهم يستحلون شربه» إلخ «1».

و فيه أنها- مع ضعفها سندا و مناقضة صدرها و ذيلها في الدم و مخالفتها لقاعدة انفعال المضاف و تفصيلها بين الدم و غيره و هو كما ترى و ظهور ذيلها في كراهة أكل ما قطر فيه الفقاع- لا تصلح لإثبات هذا الحكم المخالف للقواعد، بل الظاهر منها أن أكل النار الدم موجب لطهارة المرق أيضا،

و هو غير معهود في شي ء من المطهرات.

هذا مضافا الى أن الدم المستهلك في المرق لا تأكله النار بالتبخير أو لا يمكن العلم به إلا بعد تبخير جميع المرق، بل المستهلك ليس بشي ء عرفا حتى تأكله النار، فتحصل مما ذكر عدم كون النار مطهرة مطلقا.

و المقام الثاني- في تطهيرها كل ما أحالته دخانا أو رمادا،

و هذا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 38- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 626

الحكم ليس من مختصات النار، و ليست الاستحالة مطهرة، بل هي من قبيل تبديل موضوع بموضوع آخر، كما أن الأمر كذلك في بعض آخر مما يعدّ مطهرا.

و الميزان الكلي في الحكم بالطهارة بالاستحالة تبدل موضوع النجس أو المتنجس بآخر طاهر بنحو لا يصدق عليه عنوان موضوع الدليل الاجتهادي المثبت للحكم على الموضوع الأول، و لم يبق موضوع القضية المتيقنة عرفا حتى يستصحب، فان فرض حصول التغير للموضوع الأول لكن بنحو لم يخرج عن صدق عنوانه عليه أو فرض حصوله بنحو بقي عرفا موضوع القضية المتيقنة المعتبر في الاستصحاب يحكم عليه بالنجاسة و خرج عن موضوع الاستحالة و لو ظاهرا.

نعم قد يتفق حصول التغير على النحو الأول دون الثاني، فيكون المورد مجرى الاستصحاب، لكن قام دليل لفظي اجتهادي أو إجماع أو سيرة على طهارته، فيحكم بها تحكيما للدليل على الأصل.

ثم أن الاختلافات التي وقعت في المقام كالاختلاف في التفرقة بين النجاسات و المتنجسات و عدمها، و كالاختلاف في الآجر و الخزف المعمولين من الطين النجس، و كالاختلاف في الفحم، و في بخار الماء النجس أو المائع النجس، و دخان الدهن المتنجس و غيرها كلها موضوعية، فالقائل بالنجاسة يرى الموضوع الاستصحابي باق، و القائل بالطهارة ينكره أو يشك فيه، و ليست الاختلافات

فيها فقهية و إن يظهر من بعض استدلالاتهم كونها في بعض الموارد كذلك.

ثم أن الانتقال من الاستحالة لو فرض إيجابه لتعدد الموضوع بحيث لا يبقى موضوع الدليل الاجتهادي و لا القضية المتيقنة و ذلك مثل ما إذا انتقل الى النبات و تبدل إلى الرطوبة التي جزء له و خرج عن مسماه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 627

أو شرب حيوان دم إنسان، فتبدل بتصرف جهاز هضمه إلى أجزائه كالدم و غيره، و أما لو لم يتبدل بل انتقل الى المنتقل اليه و بقي على حقيقته فلا يخلو إما أن صدق عليه أنه من المنتقل منه و لم يصدق أنه من المنتقل إليه، أو على عكسه، أو صدقا عليه، أو لم يصدق شي ء منهما عليه، أو صدق أحدهما و يشك في صدق الآخر، أو شك في صدق كل منهما عليه.

و على أي تقدير فاما كان لدليل المنتقل منه إطلاق يشمله، أو للمنتقل اليه، أو لدليلهما، أو لا إطلاق لهما، فمع إطلاق دليل أحدهما و إحراز موضوعه و لو بالأصل دون الآخر يحكم به، فلو أحرز أن الدم من الإنسان كدم مصه العلق و كان لدليل نجاسته إطلاق حكم بها له، و كذا لو شك في تبديل الإضافة لتنقيح موضوع الدليل بالاستصحاب.

و لو كان لدليل طهارة دم المنتقل إليه إطلاق دون المنتقل منه و أحرز كونه من المنتقل اليه يحكم عليه بالطهارة، و لو شك فيه يحكم بالنجاسة للاستصحاب الحكمي.

و لو كان لدليلهما إطلاق و أحرز كونه لهما لو فرض صحة ذلك يقع التعارض بين الدليلين، فيؤخذ بالأرجح لو قلنا بالترجيح في مثل المقام، و مع عدمه يحكم بالنجاسة لو قلنا بسقوطهما في

مثله، بل و كذلك لو شك في كونه مضافا الى المنتقل منه سواء أحرز كونه من المنتقل إليه أم شك فيه، كل ذلك للاستصحاب على تأمل في بعض الصور، و منه يظهر حال الفروض الأخر.

هذا بحسب القاعدة، لكن لا يبعد الحكم بطهارة دم البق و البرغوث و لو مع العلم بأن الدم الذي فيهما من الإنسان لقيام السيرة على عدم الاحتراز منه، و لإطلاق صحيحة ابن أبي يعفور قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 628

عليه السلام: ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس، قلت أنه يكثر و يتفاحش، قال: و ان كثر» «1».

و رواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن دم البراغيث في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال: لا» «2».

و رواية غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «3».

و مكاتبة محمد بن ريان قال: «كتبت الى الرجل عليه السلام هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ و هل يجوز لأحد أن يقيس دم البق على البراغيث فيصلي فيه، و أن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟

فوقّع يجوز الصلاة، و الطهر منه أفضل» «4».

و تلك الروايات و إن وردت في الدم المضاف إليهما، لكن ما يضاف إليهما سيما الى البق هو ما اجتمع في جوفهما من دم الإنسان و أما بعد هضمه فلا يتبدل بالدم عرفا، و لهذا لا يرى للبق دم إلا ما امتصه من الإنسان، و لعل البرغوث أيضا كذلك، و لو كان له دم أيضا لا شبهة في شمول الروايات للدم الذي في جوفه و امتصه من

الإنسان، فالأقوى ما ذكر، و إن كان الأحوط الاجتناب عن الدم الذي امتصه من الإنسان و لم يستقر في جوفه زمانا.

كما أن الأقوى نجاسة الدم الذي امتصه العلق، للاستصحاب، بل لإطلاق الدليل على احتمال، و عدم سيرة أو دليل آخر على طهارته نعم لو صار جزء بدنه و تبدل الى موضوع آخر و لو كان دما طهر.

و اما انقلاب الخمر خلا فلا يكون استحالة للتبدل في الصفة عرفا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 4.

(3) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 23- من أبواب النجاسات- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 629

فبقي موضوع الاستصحاب، و جرى الاستصحاب الحكمي فيه، بل مع الغض عنه يحكم بنجاسته، لملاقاته مع الإناء المتنجس بالخمر، فلا بد في الحكم بطهارته من قيام دليل مخرج عن الأصل و إطلاق الدليل، و هو النصوص المستفيضة، مضافا الى الإجماع المنقول مستفيضا فيما ينقلب خلا بنفسه، و إطلاق بعض معاقده فيما ينقلب بالعلاج، و عن جمع دعوى الشهرة عليه.

مثل موثقة زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا قال: لا بأس» «1».

و موثقة عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلا قال: لا بأس» «2».

و موثقته الأخرى عنه عليه السلام أنه قال: «في الرجل إذا باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا قال:

إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس» «3».

و الظاهر منها جعلها خلا بالعلاج، فان الخمر بنفسها و لو بقيت طويلا لا تصير خلا، فالمراد من جعلها

خلا هو علاجها حتى صارت كذلك، بأن يوضع فيها شي ء كالخل و الملح.

هذا مع تصريح بعض الروايات به، مثل ما عن ابن إدريس نقلا عن جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام «أنه سئل عن الخمر تعالج بالملح و غيره لتحول خلا قال: لا بأس بمعالجتها» إلخ «4» و صحيحة عبد العزيز بن المهتدي على الأصح قال: «كتبت الى الرضا عليه السلام جعلت فداك العصير يصير خمرا فيصب عليه الخل

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 1.

(2) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 3.

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 5.

(4) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 11.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 630

و شي ء يغيره حتى يصير خلا، قال: لا بأس به» «1».

فما في بعض الروايات الشاذة من المنع مطروح أو مؤول و محمول على الكراهة، مثل ما عن العيون عن على عليه السلام «كلوا من الخمر ما انفسد، و لا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم» «2».

و رواية أبي بصير- و لا يبعد أن تكون صحيحة- عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «سئل عن الخمر يجعل فيها الخل فقال: لا إلا ما جاء من قبل نفسه» «3» مع ما في الأولى من الإجمال، بل الثانية لا تخلو منه أيضا.

و أما موثقة أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر تجعل خلا قال: لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها» «4» ففي الوسائل و الكافي «يغلبها» بالغين المعجمة، و في بعض كتب الاستدلال «يقلبها» بالقاف، و الظاهر أنها موافقة لمضمون روايته الأخرى عنه قال:

«سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخمر يضع فيها شي ء حتى تحمض، قال: إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس به» «5».

فهي مؤيدة لصحة نسخة الكافي و الوسائل، و فيها نحو إجمال يرفع بما في النسختين، فيكون المراد من الروايتين النهي عن غلبة ما يعالج به الخمر لتصير خلا، فلا يجوز صب مقدار منها في خل كثير، و لا تطهر و لو مع العلم بصيرورتها خلا لأنه صار نجسا بصبها فيه، و لا

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 8

(2) راجع عيون أخبار الرضا عليه السلام- الباب- 31- الحديث 127

(3) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 7.

(4) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 4.

(5) الوسائل- الباب- 31- من أبواب الأشربة المحرمة- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 631

دليل على صيرورته طاهرا بالتبع، فان ما طهر بالتبع هو شي ء يصب للعلاج بحسب المتعارف كمقدار من الملح أو الخل مما يتعارف صبه فيها للانقلاب.

فما عن الشيخ من القول بطهارة الخمر القليلة الملقاة في خل كثير إذا مضى عليها زمان يعلم عادة باستحالتها ضعيف، لا لما قيل بأن صب المائع حتى للعلاج محل اشكال فضلا عن غيره، فان الخل الوارد في الأدلة من المائعات مضافا الى أن مقتضى إطلاق الأدلة عدم الفرق بل منشأ الاشكال أن المستفاد من الأدلة هو طهارة ما يعمل علاجا و يتعارف استعماله فيه دون غيره، فإلقاء الأجسام الأجنبية فيها سواء كانت من المائعات أو الجامدات لتصير طاهرة بالتبع محل إشكال و منع، بل الإشكال في الجامدات أشد إذا كانت المائعات بمقدار يستهلك فيها و

إن زاد عن المتعارف، بل مع الاستهلاك يكون للقول بالطهارة وجه نعم يمكن أن يقال: إن مقتضى موثقتي أبي بصير جواز جعل الخل و غيره فيها إذا لم يغلبها و ان زاد عن المتعارف، لكن الاتكال عليهما مع اختلاف نسخة الأولى و الإجمال في الثانية لا يخلو من اشكال، فالأحوط عدم التجاوز عن المقدار المتعارف للعلاج.

و أما ذهاب الثلثين فلا موجب للبحث عنه بعد ما تقدم من عدم نجاسة العصير بغليانه، و لو فرض حصول الإسكار في بعض الأحيان و صار خمرا فلا يطهر إلا بالانقلاب.

و أما الإسلام فموجب لارتفاع نجاسة الكفر، و هو نظير الانقلاب من تبدل عنوان بالآخر دلت الأدلة على طهارة المعنون به.

نعم إن قلنا بطهارة رطوباته المتصلة به كعرقه و بصاقه و وسخه و ثوبه المتنجس بها كما ادعي عليها السيرة و عدم معهودية الأمر بتطهيره

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 632

بعد الإسلام مع ملازمته لها يكون الإسلام مطهرا لها، و أما بناء على ما قيل من تبدل النسبة و صيرورتها من المسلم يكون من الانقلاب، لكنه كما ترى سيما في بعضها.

و كيف كان فالحكم بطهارة المسلم من الكفر الأصلي إجماعي بل ضروري، كما ادعاه الأعلام، و هو كذلك، و هو متسالم عليه فيمن أسلم عن ارتداد ملي، و حكي عليه الاتفاق.

و تدل عليه مضافا الى أولوية قبول إسلامه و توبته من الفطري الذي يأتي قوة قبوله منه آنفا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: «سألته عن مسلم تنصر، قال: يقتل و لا يستتاب قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد، قال: يستتاب فان رجع و إلا قتل» «1».

و بها يقيد إطلاق نحو

صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرتد، فقال: من رغب عن الإسلام و كفر بما انزل على محمد بعد إسلامه فلا توبة له، و قد وجب قتله، و بانت منه امرأته، و يقسم ما ترك على ولده» «2» و المراد من قوله عليه السلام: «بعد إسلامه»: بعد كونه مسلما لا بعد دخوله في الإسلام جمعا بينها و بين صحيحة على بن جعفر المصرحة باستتابته.

و أما المرتد الفطري فالظاهر قبول توبته أيضا، أما باطنا فيمكن دعوى القطع به، لعموم رحمته تعالى و فضله على العباد، و عدم إمكان من رجع اليه و تاب و أسلم و آمن أن رده من بابه، و عذبه عذاب الكفار بل لعله مخالف لأصول العدلية.

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 1- من أبواب حد المرتد- الحديث 5- من كتاب الحدود و التعزيرات.

(2) الوسائل- الباب- 1- من أبواب حد المرتد- الحديث 2- من كتاب الحدود و التعزيرات.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 633

و أما ظاهرا بمعنى صحة إسلامه فقد يقال بعدم قبوله، و على فرض قبوله و صيرورته مسلما فلا دليل على صيرورته طاهرا، لعدم عموم على طهارة كل مسلم يشمل مثله، فمقتضى الاستصحاب نجاسته، و قد يستدل على عدم قبوله بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة.

و فيه- مضافا إلى عدم الملازمة بين عدم قبول توبته و عدم صحة إسلامه لإمكان أن يكون المرتد الذي عصى ربه و استوجب القتل في الدنيا و العذاب في الآخرة لا تقبل توبته من هذا العصيان و إن صار مسلما فمقتضى الجمع بين الصحيحة و بين ما دلت على أن الإسلام عبارة عن الشهادتين أن يصح إسلامه و يترتب عليه أحكام

الإسلام من الطهارة و غيرها، لكن لا يصير إسلامه موجبا لقبول توبته من عصيانه السابق فيستحق العقوبة في الآخرة لا نحو عقوبة الكفار من الجلود، و في الدنيا تترتب عليه أحكام المرتد- أن الصحيحة قاصرة عن إثبات عدم قبول توبته باطنا و ظاهرا فيما هو راجع إلى الأحكام الثابتة له بالارتداد كوجوب قتله و بينونة زوجته و تقسيم ماله و ما لا يرجع إليه، لأن الظاهر من قوله عليه السلام: «و قد وجب قتله و بانت امرأته و يقسم ما ترك على ولده» أن الجمل حالية.

فحاصل الصحيحة أن الأحكام الثلاثة بعد ثبوتها بحدوث الارتداد لا ترفع بالتوبة، فلا توبة له، و الحال أن القتل صار ثابتا، و الامرأة بائنة، و المال منتقلا إلى الورثة، فيمكن دعوى ظهورها أو إشعارها بأن لا توبة لها بالنسبة إلى ما ثبت عليه و مضى، و هي الأحكام الثلاثة دون ما سيأتي من الأحكام كطهارته و غيرها.

بل الظاهر أن الصحيحة نظير غيرها من الروايات الواردة في الباب الدالة على أن المرتد الملي يستتاب و لا يقتل، و الفطري لا يستتاب

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 634

و على الامام أن يقتله بلا استتابة، فلا إطلاق فيها.

و بالجملة لا يصح إثبات هذا الحكم المخالف للعقول في قبول توبته باطنا و للأدلّة في قبول إسلامه و تحققه منه بتلك الرواية، و لا يبعد رجوع كلمات الفقهاء إلى ما تقدم، فلا يمكن الاعتماد على الشهرة المحكية في الباب.

و أما احتمال بقاء نجاسته بعد صحة إسلامه فلا ينبغي التفوه به بعد وضوح طهارة كل مسلم لدى المتشرعة، بل لو أنكر أحد نجاسة هذا المرتد الراجع عن ارتداده كان أقرب الى

الصواب من إنكار طهارة هذا المسلم الذي إسلامه كسائر المسلمين.

مضافا الى أن الروايات الواردة في تشريح حقيقة الإسلام ظاهرة في أن جميع أحكام الإسلام مترتبة على من أقر بالشهادتين، كموثقة سماعة قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أخبرني عن الإسلام- الى أن قال-: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّٰه و التصديق برسول اللّٰه به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث، و على ظاهره جماعة الناس» «1» و نحوها صحيحة حمران بن أعين «2».

و معلوم أن تلك الأمثلة لإفادة أن جميع الأحكام الظاهرة من المعاشرات و المناكحات و غيرها مترتبة على الشهادتين، فتوهم أن الطهارة التي هي من أوضح ما يحتاج إليها الناس في عشرتهم لا تترتب عليها في غاية السقوط.

نعم لأحد أن يقول: إن الروايات في هذا المضمار انما هي لبيان الإسلام المقابل للإيمان و لا إطلاق لها بالنسبة إلى المرتد عن الإسلام إذا رجع و أظهر الشهادتين، لكنه وهم، فان المنساق من الروايات أن

______________________________

(1) مرتا في ص 321.

(2) مرتا في ص 321.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 635

الشهادتين تمام حقيقة الإسلام، و تمام الموضوع لترتب الآثار الظاهرة على مظهرها، فالتشكيك في طهارة المسلم سيما المؤمن بجميع ما جاء به النبي صلّى اللّٰه عليه و آله الذي أعز من الكبريت الأحمر و يكون من أولياء اللّٰه تعالى الى غير ذلك من الأوصاف التي ذكرت له في الروايات كالتشكيك في البديهي.

و أما الاستدلال عليها بأنه مكلف بالإسلام و شرائعه، فلا بد من صحتها منه و إلا فلا يعقل تكليفه بها جدا، و الصحة متوقفة على قبول إسلامه و على طهارته فغير وجيه، إذ غاية ما يدل عليه

هذا الوجه هو قبول إسلامه الذي هو شرط في قبول عمله و لا يمكن التخصيص في دليله و أما اشتراط الطهارة فيمكن أن يقال: بسقوطه منه، فالعلم بصحة العبادات منه ملازم للعلم بصحة إسلامه لا العلم بطهارته.

و منه يظهر أن الاستدلال عليها برواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام فيمن كان مؤمنا فحج و عمل في إيمانه ثم أصابته في إيمانه فتنة فكفر ثم تاب و آمن، قال: يحسب له كل عمل صالح في إيمانه، و لا يبطل منه شي ء» «1» غير وجيه، لأنها تدل على قبول اعماله الصالحة، و هو لا يلازم طهارة بدنه، نعم يلازم صحة عباداته و لو مع إسقاط شرطية الطهارة.

الرابع: الأرض،

و لا ينبغي الإشكال في مطهريتها إجمالا، و عن جامع

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب مقدمة العبادات- الحديث 1- و فيه: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 636

المقاصد الإجماع عليها في باطن النعل و أسفل القدم و الخف و القبقاب و نحوه، و عن المدارك أن هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب، و ظاهرهم الاتفاق عليه، و عن الدلائل هو مقطوع به في كلام الأصحاب و نقل بعضهم الإجماع عليه، و عن المعالم و الذخيرة لا يعرف فيه خلاف بين الأصحاب.

و ربما يظهر من الشيخ في الخلاف خلاف في ذلك على اشكال في ظهور كلامه، و على فرضه لا بد من تأويله، و تدل عليها الكبرى الواردة في الروايات بأن الأرض يظهر بعضها بعضا تارة في وطء العذرة، كصحيحة محمد بن مسلم قال: «كنت مع أبي جعفر عليه السلام إذ مرّ على عذرة يابسة فوطأ عليها

فأصابت ثوبه، فقلت: جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك، فقال: أ ليس هي يابسة؟ فقلت:

بلى، قال: لا بأس إن الأرض تطهر بعضها بعضا» «1».

و لعل المراد أنه لا بأس بإصابة الثوب لكونها يابسة، و لا يوطئها الملازم لصحابة اجزائها للرجل أو النعل، لأن الأرض يزيلها، و على هذا يكون مفادها غير مفاد ما تأتي في سائر الروايات.

و يحتمل بعيدا أن يراد بنفي البأس إذا كانت يابسة نفيه عن اصابة الثوب، و ذكر الكبرى لأجل التنبيه على أنها لو كانت رطبة و تلوثت بها الرجل تطهر بالأرض فضلا عما كانت يابسة، و عليه يكون مفادها كغيرها، و احتمل بعضهم وقوع سقط فيها.

و أخرى في مورد التنجس بملاقي الخنزير، كحسنة المعلى بن خنيس قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمرّ على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافيا فقال: أ ليس وراه شي ء

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 2.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 637

جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا» «1» و ثالثة في مورد التنجس بالبول، كحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قلت له: إن طريقي الى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه و ليس عليّ حذاء فليلصق برجلي من نداوته، فقال: أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال:

فلا بأس إن الأرض يطهر بعضها بعضا» إلخ «2».

و رابعة في مورد التنجس بمطلق القذر، كموثقة الحلبي «3» لو

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 3

(2) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 9

(3) الوسائل- الباب- 32-

من أبواب النجاسات- الحديث 4- و سندها في الوسائل هكذا: محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، عن محمد الحلبي، و ظني أن محمد بن إسماعيل هذا هو محمد بن إسماعيل البندقي النيشابوري الذي يذكر أحوال الفضل بن شاذان بلا واسطة، و يؤيده رواية الكشي عنه عند ترجمة الفضل بن شاذان، و أيضا روايته عنه عن الفضل بن شاذان عند ترجمة أبي ذر الغفاري، و محمد بن إسماعيل البندقي النيشابوري لم يوثق.

و ما قيل من أن محمد بن إسماعيل الذي يروى عنه الكليني مردد بين أن يكون محمد بن إسماعيل بن بزيع، أو محمد بن إسماعيل ابن أحمد بن بشير البرمكي المعروف بصاحب الصومعة، أو محمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني و كلهم ثقات غير وجيه، لأنهم لقوا أصحاب الصادق عليه السلام كما يظهر من ترجمتهم، و من البعيد جدا أن روى الكليني عن الصادق عليه السلام بواسطتين.

على أن الكليني يروي عن ابن البزيع بواسطتين، لأنه يروى عن علي بن إبراهيم عن أبيه عنه، أو عن محمد بن يحيى عن احمد ابن محمد عنه، هذا مع أن الفضل بن شاذان ممن روى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع كما صرح به الكشي، و أن الكليني روى عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، و بالجملة أن محمد بن إسماعيل مشترك بين الموثق و غير الموثق، فالتعبير عن رواية الحلبي هذه بالموثقة أو بالصحيحة كما عن بعض لا يخلو من اشكال.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 638

كانت القضية غير ما في الحسنة، و إلا كان المراد من القذر البول كما صرح

به في الأولى.

و كيف كان يظهر من تلك الكبرى أن الأرض مطهرة للرجل و لو فرض أن فيها إجمالا. فإن صدورها لإفادة طهارتها و جواز الدخول معها في المسجد، و الدخول في الصلاة كما لعله المنساق منها مما لا ينبغي الإشكال فيه، و انما الإشكال في كيفية إفادتها طهارة الرجل، و لا يبعد أن يكون المتفاهم منها أن الأرض يظهر بعضها ما يتنجس ببعضها أو يكون المراد بالبعض الثاني نفس النجاسات الحالة في الأرض بنحو من التأويل فإنها صارت كالجزء لها، و المراد بتطهيرها تطهير آثارها من الملاقي كقوله:

«الماء يطهر الدم».

نعم ما احتمله الكاشاني غير بعيد بالنسبة إلى صحيحة ابن مسلم المتقدمة، و الظاهر أن مراده توجيه هذه الرواية دون غيرها.

بل يمكن استفادة الطهارة من سائر الروايات أيضا فإن اشتراط طهارة البدن لما كان معهودا لدى السائل و المسئول عنه فلا يفهم من تجويز الصلاة مع رجل ساخت في العذرة بعد مسحها و ذهاب أثرها و لا من نفي البأس إذا مشى نحو خمسة عشر ذراعا إلا حصول شرط

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 639

الصلاة و الطهارة، و أما رفع اليد عنه و العفو فشي ء لا يفهمه العرف، فلا ينبغي التأمل في حصولها.

نعم الاستدلال عليها بمثل قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا» «1» أو قوله عليه السلام: «إن اللّٰه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا» «2» ضعيف، لأن الظاهر منهما سيما الثانية كونهما إشارة إلى آية التيمم، و إلا فالأخذ بإطلاقهما خلاف الإجماع بل الضرورة، و تقييدهما موجب للاستهجان.

ثم أن مقتضى إطلاق بعض الروايات كالكبرى المتقدمة و صحيحة الأحول عن أبي عبد اللّٰه

عليه السلام قال: «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا، قال: لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك» «3» بل و موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث أنه سأله «عن رجل يتوضأ و يمشي حافيا و رجله رطبة، قال: إن كانت أرضكم مبلطة أجزأكم المشي عليها» إلخ «4» عموم الحكم لجميع النجاسات من غير فرق بين العذرة و البول و غيرهما.

و هل يعم الحكم حصولها بأي نحو كان أو يختص بحصولها من الأرض بمشي و نحوه لا النجاسة الخارجية كأن قطرت على باطن القدم قطرة دم أو غيره؟ قد يقال: إن مورد جل الروايات أو كلها و إن كان ما حصل التلوث من الأرض بل قد يستشعر من قوله عليه السلام:

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 7- من أبواب التيمم- الحديث 2 و 3 و 4

(2) مرت في ص 361.

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 1.

(4) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 8.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 640

«الأرض يطهر بعضها بعضا» ذلك.

لكن استبعاد مدخلية مثل هذه الخصوصية في موضوع الحكم مانع عن أن يقف الذهن دونها، و لهذا لم يفهم الأصحاب منها الاختصاص، و حاصل كلامه يرجع الى إلقاء الخصوصية عرفا.

و يمكن أن يستدل له بإطلاق صحيحة الأحول، فان الموضع الذي ليس بنظيف أعم من الأرض، كأن وطأ على فراش و نحوه، و يتم في غيره بعدم الفصل جزما، لكن الحكم بالتعميم في المقام لا يخلو من إشكال، لأن الكبرى المتقدمة لما كانت في مقام بيان الضابط لا بد من أخذ القيود التي فيها، و

لا يجوز إلقاؤها إذا كانت في مورد إعطاء القاعدة و لا يبعد أن يكون أظهر الاحتمالات فيها أحد الاحتمالين المتقدمين فيفهم منها دخالة خصوصية حصول النجاسة من الأرض، و إلا لم يأخذها في مقام إعطاء الضابط.

و احتمال أن يكون المراد من البعض الثاني الأرض، و يكون المراد من تطهيرها إزالة أثرها أو استحالتها و تبديل موضوعها و يكون الاستدلال بهذه القضية لطهارة الرجل و الخف مبنيا على تنزيلهما منزلة الأرض بعلاقة المجاورة بعيد مخالف للمتفاهم العرفي، بل لعله من أبعد الاحتمالات.

كما أن في إطلاق صحيحة الأحول إشكالا، سيما مع أن المراد من المكان النظيف الذي بعده هو الأرض كما يأتي الكلام فيه، و التفكيك بينهما بدعوى إطلاق الموضع الذي ليس بنظيف لكل موضع، لمساعدة العرف مع عدم الفرق بين أسباب حصول النجاسة، و عدم إطلاق قوله:

«مكانا نظيفا» بعيد، سيما مع الكبرى المتقدمة، بل يمكن تقييد إطلاقه بها لو فرض الإطلاق بعد ما عرفت ظهورها و أن القيد فيها

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 641

ظاهر في القيدية، بل و ظهور النبويين العاميين في الاختصاص، فان قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «إذا وطأ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» «1» و قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «إذا وطأ أحدكم بنعليه الأذى فان التراب له طهور» «2» ظاهر أو مشعر بالاختصاص، و معه يشكل إلقاء الخصوصية.

و أما عدم ذكر الأصحاب هذا القيد بل مقتضى إطلاق كلامهم عدم القيدية ليس إلا لاجتهادهم في تلك الروايات، للجزم بعدم أمر آخر عندهم وراؤها، و معه ليست الشهرة بحجة، إلا أن يقال: إن عدم دخالة الخصوصية عرفا يستكشف من فهم الأصحاب، فإنهم أيضا من العرف، و

هو مشكل بعد عدم استفادتنا إلقاء الخصوصية بالشواهد المتقدمة، فالأحوط لو لم يكن أقوى اعتبار كون النجاسة من الأرض.

نعم لا يلزم أن يكون التنجس بملاقاة الأرض المتنجسة، بل أعم منه و من ملاقاة عين النجس الملقاة فيها، كما تدل عليه صحيحة زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أ ينقض ذلك وضوءه؟ و هل يجب عليه غسلها؟ فقال: لا يغسلها إلا أن يقذرها، و لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها و يصلي» «3» كما تدل على ثبوت الحكم لملاقاة الأرض المتنجسة حسنة المعلى و إطلاق بعض الروايات.

ثم أنه لا ينبغي الإشكال في ثبوت الحكم لأسفل القدم لإطلاق بعض الروايات، كصحيحة الأحول و إحدى روايتي الحلبي، و صراحة جملة منها كحسنتي المعلى و الحلبي و صحيحة زرارة و موثقة عمار، و لم

______________________________

(1) راجع كنز العمال- ج 5- ص 88- الرقم 1878

(2) راجع كنز العمال- ج 5- ص 88- الرقم 1879

(3) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 7.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 642

يتضح مع ذلك وجه إشكال العلامة في محكي التحرير، و توقفه في محكي المنتهى فيه.

و أما باطن النعل و الخف فمضافا إلى حكاية الشهرة و الإجماع و عدم الخلاف فيه يدل عليه إطلاق الكبرى المتقدمة و إطلاق صحيحة الأحول و صحيحة ابن مسلم، فان من المعلوم عدم كون أبي جعفر عليه السلام بلا حذاء، و رواية حفص بن أبي عيسى قال: «قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إني وطأت على عذرة بخفي و مسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال: لا بأس» «1» إذا الظاهر أن سؤاله

عن طهارته بالمسح، و إلا فصلاته صحيحة مع نجاسته أيضا.

و يلحق بهما مثل القبقاب و ظاهر القدم و النعل إذا كان المشي به لنقص في الخلقة على الأقوى، لإطلاق بعض الأخبار، و في إلحاق الركبتين و اليدين ممن يمشي عليهما تأمل، و ان لا يخلو من وجه، للتعليل المتقدم بل لا يبعد صدق الوطء عليهما على تأمل سيما في اليدين.

و في إلحاق عصى الأعرج و خشبة الأقطع إشكال، لاحتمال انصراف الأدلة عنهما، و أشكل منهما نعل الدواب و أسفل العكاز و كعب الرمح و من الكل أسفل العربات و الدبابات و نحوها.

و احتمال إلحاق الجميع لإطلاق الكبرى المتقدمة غير وجيه، لعدم إمكان الأخذ بإطلاقها، إذ مقتضى ذلك أن كل ما تنجس بالأرض تطهر بها، و هو مقطوع البطلان، فلا بد من اختصاصها بأنحاء ما وقع السؤال عنها، و عدم التعدي عن إطلاق بعض الأدلة، مثل صحيحة الأحول و بالجملة بعد وضوح بطلان الأخذ بإطلاق الكبرى المتقدمة للزوم التعدي الى كل ما تنجس بالأرض حتى الثياب و الأواني لا يبقى لإطلاقها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 32- من أبواب النجاسات- الحديث 6.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 643

في المذكورات وثوق، بل يوهن ذلك الإطلاق، و يشكل التعدي عن موردها أي القدم و النعل.

نعم لا فرق بين أنحاء النعال، بل لا يبعد إلحاق الجورب إذا خيط في أسفله جلد الدابة- كما قد يعمل- على تأمل فيه، و أما الجورب المعمول من القطن و الصوف أو غيرهما فالأقوى عدم الإلحاق، لانصراف صحيحة الأحول عنه، و عدم دليل آخر عليه.

ثم أنه يعتبر في المطهر أن يكون أرضا، و عن ابن الجنيد كفاية المسح بكل قالع، و عن

النهاية احتماله، و اختار النراقي الاجتزاء بالمشي في غير الأرض كالحصير و النبات و الخشب.

و الدليل على الاعتبار الكبرى الملقاة في مقام الضابط، حيث لا بد من الأخذ بقيودها و الحكم بدخالتها، فلو كان مطلق القالع أو المشي على مطلقه مجزيا لما كان اختصاص الأرض بالذكر في مقام ذكر الضابط مناسبا، سيما مع قوله عليه السلام في حسنة الحلبي: «أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟» و هي المراد بقوله عليه السلام: «أ ليس وراه شي ء جاف؟» في حسنة المعلى بقرينة ذكر الكبرى بعده، و هما يؤكدان خصوصية الأرض، و يؤيد الاعتبار بل يدل عليه موثقة عمار و يؤيده النبويان المتقدمان، بل كون الأرض بخصوصها مطهرة للحدث لا يخلو من تأييد.

و بكل ذلك يقيد إطلاق صحيحتي الأحول و زرارة و رواية حفص المتقدمات، و ذيل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله و يجوز أن يمسح رجليه و لا يغسلهما» «1» على فرض تسليم إطلاقها

______________________________

(1) الوسائل- الباب- 30- من أبواب أحكام الخلوة- الحديث 3.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 644

مع إمكان إنكاره بدعوى أن صحيحة الأحول منصرفة إلى الأرض كما عن صاحب الحدائق، و هو غير بعيد، سيما مع أن الوطء مع الرجل القذر بمثل الفراش بعيد خصوصا عمدا، و ان غير الأرض في محل الصدور نادر، و دعوى أن صحيحة زرارة في مقام بيان عدم وجوب الغسل و كفاية المسح، و ليست بصدد بيان ما يمسح به و شرائطه، مع أن المتعارف في مسح ما يقذر بالعذرة هو المسح على الأرض، سيما في تلك البلاد

و ذلك العصر، و منه يظهر الحال في رواية حفص، و الصحيحة الأخيرة مع عدم وضوح المراد منها يأتي فيها ما ذكر.

و أما دعوى كون المقام نظير باب الاستنجاء بل هو منه، فكما يكفي فيه مطلق القالع كذلك في المقام، ففيه ما لا يخفى، فالأقوى اعتبار كون القالع أرضا.

نعم لا فرق بين أجزاء الأرض كالتراب و الحجر و الحصى و الرمل و الجص و النورة، بل و الآجر و الخزف، لصدق الأرض عليها، و لجريان استصحاب كونها مطهرة في بعضها، و لا يضر بالحكم اختلاط غير الأرض بها بما لا يضر بالصدق العرفي، كالتبن القليل و نحوه، لابتلاء الأراضي نوعا به، فمقتضى الإطلاق عدم الإضرار، و إلا لوجب التنبه عليه.

و من بعض ما تقدم يظهر اعتبار الجفاف و اليبوسة في الأرض، لأن ذكر الجاف في حسنة المعلى و اليابس في حسنة الحلبي دليل عليه، سيما في مقام بيان الضابط، و دعوى أن الجاف في الأولى في مقابل الماء السائل من الخنزير و اليابسة في الثانية في مقابل نداوة البول كما ترى، فإنه إن أريد مقابلتهما للنداوة و الرطوبة مطلقا فمسلم، لكن يستفاد منهما التقييد.

و إن أريد مقابلتهما لنداوة البول و ما سال من الخنزير أى يكون

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 645

جافا من هذه الرطوبة و النداوة حتى لا ينافي كونه رطبا بغيرها بل وحلا فهو ممنوع جدا، لعدم صدق الجفاف و اليبوسة عليه كما لا يخفى، مع أن للمسح على الجاف و اليابس دخالة في قلع القذارة لدى العرف، فان مسح شي ء رطب رطوبة سارية أو شي ء نحو الوحل يوجب انتشار القذارة، بل صيرورة المحل أقذر لا قلعها، و

لهذا يناسب الجفاف و اليبس للقلع بارتكاز العرف، فيفهم منهما القيدية، و بهما يقيد إطلاق لو كان نعم لا يبعد أن يقال: إن الرطوبة الضعيفة غير السارية غير مضرة، لصدق الجاف بل و اليابس على الأرض إذا كانت كذلك سيما بعض مراتبها، و لو كانت الجفاف أعم من اليبوسة و كان الثانية غير صادقة على الأرض التي لها رطوبة غير سارية فلا يبعد أيضا القول بكفاية الجفاف، بدعوى أن ذكر اليبوسة لكونها أحد المصاديق الحاصلة به التطهير، فيكون كل من الجافة، و اليابسة مطهرة و إن كانت الثانية أسرع في القلع و أوقع، و بعبارة أخرى تقييد حسنة المعلى بحسنة الحلبي أبعد من البناء على ما ذكر، و أما تأييد كفاية الرطوبة السارية بل الوحل بأن الملة سمحة سهلة و بحصول الحرج في فصل الشتاء فهو كما ترى و تعتبر طهارة الأرض، لأن الظاهر من قوله عليه السلام: «إن الأرض يطهر بعضها بعضا» التقابل بين الأرض التي تنجس به القدم و الأرض المطهرة، فيفهم منه أن الأرض الطاهرة ترفع النجاسة الحاصلة من الأرض القذرة، تأمل.

مضافا الى أن التناسب بين طهارة الشي ء و مطهريته يوجب صرف الذهن الى ذلك، و لهذه المناسبة قابل الأحول في روايته بين الموضع الذي ليس بنظيف و المكان النظيف، فيمكن أن يستدل على اعتبارها بالرواية للارتكاز المذكور.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 646

و لهذا لو قيل إن العذرة اليابسة مطهرة للنجاسة إذا ذهب بالمسح بها أثرها عد عند العرف مستنكرا، فلا ينقدح في الأذهان من الأدلة إطلاق يشمل الأرض النجس، فلو كانت الأرض نجسا بالبول و كانت رطوبة البول موجودة غير سارية و قلنا باجتزاء الجفاف فهل

ترى من نفسك أن المشي في رطوبة البول صار مطهرا لنداوته.

و الانصاف أن الأدلة منصرفة عن الأرض النجسة، فلا وجه للتمسك بإطلاقها لنفي الاعتبار، و توهم أن ترك هذا القيد في الأخبار على كثرتها دليل على عدم الاعتبار مدفوع بأن الترك للاتكال على الارتكاز العقلائي، و لهذا لم يرد هذا القيد في مطهرية الماء، لعدم الاحتياج الى ذكره لا لعدم الاعتبار.

ثم أنه لا فرق بين المشي و المسح في حصول الطهارة، كما تدل على كل منهما الروايات المتقدمة، و لا يتقدر المشي بمقدار معين، بل المعتبر زوال عين النجاسة، و لا تصلح صحيحة الأحول لتقييد الإطلاقات، سيما مثل قوله عليه السلام: «إن الأرض يطهر بعضها بعضا» خصوصا بعد قوله عليه السلام: «أ ليس وراه شي ء جاف؟» أو «أ ليس يمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟».

مضافا الى أن الظاهر من قوله عليه السلام في صحيحة زرارة:

«لكنه يمسحها حتى يذهب أثرها» أن المسح و نحوه انما هو لاذهاب الأثر، فلها نحو حكومة على سائر الأخبار، فيفسر المقصود من مشي خمسة عشر ذراعا بأنه ليس إلا للقلع، و لهذا لا يشك أحد في أنه مع عدم القلع بهذا المقدار لا يصير طاهرا، مع أن قوله (ع) في الصحيحة:

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)؛ ج 3، ص: 646

«أو نحو ذلك» دليل على أن التحديد ليس تعبديا، بل لحصول الغاية بها نوعا.

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 647

و احتمال أن يكون في التطهير بالمشي إعمال تعبد، و هو المقدار الذي في الصحيحة دون المسح، فإذا مسح كانت الغاية زوال الأثر

دون ما إذا مشى في غاية السقوط، ضرورة عدم انقداح النفسية في أمثال المقامات في الأذهان.

بل يمكن أن يقال: بأن لا خفاء لمفهوم التطهير عند العرف، فإذا قال الشارع: إن الأرض تطهر كذا يستفاد منه أن التطهير بها عبارة عن رفع القذارة عن الشي ء بها، و هو بقلع عين النجس عنه، كما إذا قال أحد من أهل العرف لصاحبه: نظف قدمك بالتراب يفهم منه إزالة القذارة منها بمسحها به أو المشي عليه، فظاهر قوله عليه السلام: «الأرض يطهر بعضها بعضا» أن تطهيره عبارة عن ازالة قذارته، فلا يختلج في الأذهان بعد هذا الارتكاز إعمال تعبد خاص في مقدار المشي، نعم لا مانع من إعمال التعبد، لكن يحتاج الى بيان غير ما في الصحيحة، و هل يتعين المسح على الأرض أو يجتزى بمسح التراب أو الحجر على الموضع حتى يذهب أثره؟ ظاهر الكبرى المتقدمة هو الأول، لعدم صدق بعض الأرض على الجزء المنفصل عنها صدقا حقيقيا، و انما يصدق عليه حال الاتصال، و لو نوقش فيه فالظاهر من الكبرى و لو بقرينة سابقها هو المشي على الأرض، و لما كانت الكبرى في مقام بيان الضابط لا بد من الحكم بدخالة الخصوصية فيه.

و لا يجوز في المقام الاتكال على ارتكاز العرف، فإنه يوجب اتساع الخرق كما تقدم، فبها يقيد إطلاق صحيحة زرارة و حفص على فرض تسليم إطلاقهما.

و قد يقال: إن الظاهر منهما أن الرجل و الخف ممسوحتان لا

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 648

ماسحتان، و فيه أن المتعلق غير مذكور، فان كان التقدير يمسحها على الأرض تكون الرجل ماسحة، و إن كان يمسحها بالتراب مثلا تكون ممسوحة، و مع عدم الذكر

لو فرض أن مقتضاه الاجتزاء بكل منهما نظير الإطلاق لكن مقتضى الكبرى عدم الاجتزاء الا بالمسح على الأرض فيقدم عليه، و لو قيل: إن بين الصحيحة و الكبرى عموما من وجه قلنا: ان الترجيح مع الكبرى، لأظهريتها و موافقتها للشهرة ظاهرا.

ثم أن التطهير حاصل بذهاب عين النجاسة و أثرها بمعنى الاجزاء الصغار التي يعد أثرا لدى العرف، و لا يلزم رفع الآثار كالرائحة و اللون و اما احتمال أن الأرض مطهرة للأجزاء الصغار التي يراها العرف الأعيان النجسة فلا ينبغي التفوه به فضلا عن اختياره، لعدم معنى طهارة عين النجاسة، نعم لو كانت الإزالة بالأرض من قبيل العفو لا التطهير لكان لاحتمال العفو عن الاجزاء الصغار سبيل، و ان كان أيضا خلاف الأدلة، لكن مع البناء على الطهارة فلا سبيل اليه، و بناء الحكم على السهولة لا يوجب طهارة النجس ذاتا.

و أما الاجزاء الصغار التي لا يراها العرف أعيانا فلا يعتنى بها، بل الألوان و الروائح من بقايا الأعيان واقعا بحسب البرهان أو كشف الآلات الحديثة المكبرة، لكن الميزان في التشخيص العرف العام، فلا يعبأ بمثلها.

و هل يتعين أن يكون السبب لذهاب عين النجاسة المشي أو المسح أولا، فلو ذهبت بغيرهما يطهر المحل بالمشي أو المسح، و بالجملة كما أنهما موجبان للطهارة بإذهاب العين موجبان لها عن ملاقي الأعيان؟

الأقوى الثاني، لإطلاق الكبرى المتقدمة و صحيحة الأحول، بل إطلاق بعض روايات أخر، و لا ينافيها صحيحة زرارة و رواية حفص، لعدم

كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، ج 3، ص: 649

ظهورهما في القيدية، بل فرض فيهما وجود العين، فقوله عليه السلام:

«يمسحها حتى يذهب أثرها» لبيان حال قضية مفروضة، فيكون بيانا عاديا لا يستفاد منه دخالة

وجود العين في طهارة المحل، و لا ينقدح في الأذهان منه بقاء النجاسة على المحل لو زالت العين بغير الأرض و لو مشى بعده ما مشى.

و بالجملة لا تصلح الصحيحة و نحوها لتقييد إطلاق الكبرى و غيرها مع أن تطهير المحل الخالي من العين أولى من المشغول بها في نظر العرف فالأقوى عدم اعتبار وجودها أو أثرها في المحل، و مع عدمهما يكفي مجرد المسح أو المشي دون المس، لعدم الدليل عليها إلا دعوى إطلاق الكبرى، و هو مشكل، سيما مع سبقها في حسنة الحلبي بقوله عليه السلام:

«أ ليس يمشي بعد ذلك؟» إلخ، و تبادر المشي من موارد غيرها، و هو و إن لا يصلح لتقييد إطلاق لو كان لكن يوهن توهم الإطلاق، فإن الأظهر عدم إطلاقها لصرف المماسة، لأن التطهير به خلاف ارتكاز العقلاء في باب التنظيف بالأرض دون التمسح الذي موافق له، و دون المشي الذي دل عليه الدليل، مع إمكان أن يقال. إنه كالمسح في رفع الأثر، هذا مع إمكان تقييد إطلاقها لو فرض بموثقة عمار بن موسى، تأمل.

و كيف كان فالأحوط لو لم يكن أقوى عدم الاجتزاء بمجرد المماسة و الحمد للّٰه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين.

و قد وقع الفراغ من هذه الوجيزة يوم الثامن و العشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة 1377.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (للإمام الخميني، ط - القديمة)، 3 جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.