النور الساطع في الفقه النافع المجلد 1

اشارة

نام كتاب: النور الساطع في الفقه النافع

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى

تاريخ وفات مؤلف: 1411 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 2

ناشر: مطبعة الآداب

تاريخ نشر: 1381 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: نجف اشرف- عراق

الجزء الأول

[خطبة الكتاب و الموضوع الذي يبحث فيه]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و به نستعين

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين

(و بعد): فيقول المفتقر الى اللّه عز و جل علي بن المرحوم الشيخ محمد رضا بن المرحوم الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء: قد ساعدني التوفيق الرباني على وضع كتاب في علم الفقه الجعفري سميته ب (النور الساطع في الفقه النافع) قد شرحت به المسائل الفقهية شرحا وافيا يتضح به معانيها و يتجلى فيه مداركها و مبانيها سائلا المولى عز و جل أن يوفقنا لإتمامه و نيل الثواب الجزيل في إنجازه و قد وضعت له مقدمة في طرق امتثال التكليف تشتمل على مباحث الاحتياط و الاجتهاد و التقليد، و من اللّه تعالى نستمد العون و التوفيق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 4

الطرق لامتثال التكاليف

اشارة

(الاحتياط، و الاجتهاد، و التقليد) قال الفقهاء رضوان اللّه عليهم: يجب على المكلف أن يكون محتاطا أو مجتهدا أو مقلدا، و مرادهم بالوجوب هو الوجوب العقلي الإرشادي إذا كان دليلهم على ذلك هو قاعدة الاشتغال أو وجوب شكر المنعم كما سيجي ء توضيح ذلك إن شاء اللّه لأن الوجوب فيهما وجوب عقلي لدفع العقاب المحتمل، و اما إذا قلنا ان الدليل عليه هو مقتضى الجمع بين الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الاحتياط و وجوب التفقه و وجوب التقليد فيمكن أن يقال ان الوجوب يكون وجوبا شرعيا كما يمكن أن يكون أعم من الشرعي و العقلي و سيجي ء إن شاء اللّه بيان ذلك مفصلا في الأدلة على هذه القاعدة، و اما التخيير بين هذه الأمور الثلاثة فهو تابع للوجوب فان كان الوجوب عقليا فالتخيير كذلك و هكذا إن كان شرعيا أو

أعم من الشرعي و العقلي لأن التخيير تنويع للوجوب تابع للحاكم بالوجوب و المراد بالمكلف هو البالغ العاقل لأنه الذي وضع عليه قلم التكليف و أريد منه امتثاله، و المراد بالاحتياط و الاجتهاد و التقليد هو الصحيح منها عند المكلف بمعنى ما يراه صحيحا إذ ان الذي يراه فاسدا و إن كان صحيحا في الواقع لا يكون مؤمّنا للعبد من العقاب المحتمل على مخالفة الواقع، و إنما قدمنا الاحتياط في الذكر لحصول الموافقة للواقع القطعية به بخلاف الاجتهاد و التقليد فإن الذي يحصل بها هو الموافقة للواقع الاحتمالية المعتبرة ثمَّ قدمنا الاجتهاد على التقليد لأن الاجتهاد مأخوذ في موضوعه إذ التقليد إنما يكون للمجتهد، هذا غاية ما يمكن من توضيح القاعدة المذكورة.

[الأدلة على قاعدة: يجب على المكلف الاحتياط و الاجتهاد و التقليد]

و اما الدليل عليها فما يمكن أن يستدل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 5

به أو استدل به عليها فوجوه:

(الأول) ان العبد عند بلوغه حد التكليف يعلم إجمالا بتوجه تكاليف عليه من الشارع المقدس يستحق على مخالفتها العقاب و إلا لزم إهمال الشارع لعباده فيحكم عقله بوجوب الخروج عن عهدة تلك التكاليف فرارا عن العقاب المذكور و لا يحصل له الخروج عن عهدتها إلا بأحد الأمور المذكورة من الاحتياط فيها أو الاجتهاد فيها أو التقليد فيها. و على هذا التقرير يكون الدليل على القاعدة المذكورة هو قاعدة الاشتغال التي مرجعها الى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

(الثاني) ان شكر المنعم واجب بحكم العقل خوفا من سلب نعمته و قطع فيوضاته بترك شكره، و المنعم هو المشرع للتكاليف الدينية، و شكره إنما يكون بتنفيذ مئاربه و امتثال أوامره و إطاعة نواهيه و هي إنما تكون بأحد هذه الطرق المذكورة من

الاحتياط و الاجتهاد و التقليد، و على هذا فالوجوب المذكور في القاعدة يكون أيضا وجوبا عقليا من باب وجوب شكر المنعم الذي هو وجوب عقلي.

(الثالث) ان مقتضى الجمع بين أدلة التفقه كقوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ و أدلة الامارات و الأصول الآمرة بالرجوع إليها و بين أدلة الاحتياط كقوله عليه السّلام: «احتط لدينك»، و بين أدلة التقليد كقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* هو التخير الشرعي بين هذه الطرق الثلاثة، و على هذا يكون الوجوب شرعيا طريقيا و لكن هذا يتم إذا قلنا بأن أدلة وجوب الاحتياط و التقليد تثبت وجوبهما الشرعي و هو في غاية الإشكال لأن الظاهر ان أدلة الاحتياط إرشادية و الذي ذهب اليه الكثير من علمائنا ان وجوب التقليد عقلي و وجوب الاجتهاد أيضا عقلي و لو فرضنا ان بعضها عقلي و بعضها شرعي كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 6

المراد بالوجوب في القاعدة أعم من الوجوب الشرعي و العقلي.

[الدليل على الحصر بالأمور الثلاثة من الاحتياط و الاجتهاد و التقليد]

و اما الدليل على الحصر بهذه الأمور الثلاثة فهو أن يقال ان التكليف في مقام امتثاله اما أن يأتي العبد بسائر محتملاته أولا و الأول هو الاحتياط و الثاني اما أن يرجع الى رأيه أو الى غيره و الأول هو الاجتهاد و الثاني هو التقليد، و لكن هذا الدليل على الحصر لا يتم إلا بضميمة الاستقراء أو بدعوى الإجماع، إلا ان الاستقراء و الإجماع لو تما فكل واحد منهما دليل مستقل على الحصر و لا يحتاج الى الدليل المذكور، هذا غاية ما يمكن من تقريب القاعدة المذكورة و توضيحها

[الإيرادات على القاعدة المذكورة]

و الذي يمكن أن يورد عليها أو أورد عليها به أمور:

(أحدها) ان هذا التخيير منهم ان كان لبيان وظيفة العبد و ان وظيفة العبد في مقام العبودية لا تخلو من أحد هذه الأمور الثلاثة بحكم العقل فهو غير صحيح لأن وظيفة العبد هو الرجوع لعقله في كيفية الإطاعة فما أدى اليه عقله فهو المتبع فلو أدى عقله الى العمل بالظن كفاه ذلك و لو أدى عقله الى العمل بالاحتياط تعين عليه ذلك و لا يجوز أن يعدل عنه الى التقليد أو الاجتهاد فالواجب على العبد بحكم العقل الاجتهاد بتعيين وظيفته من تقليد أو احتياط أو اجتهاد و ان كان هذا التخيير منهم لبيان التقسيم الواقعي بمعنى ان العبد في مقام العبودية في الواقع لا يخلو من هذه الأمور فهو مع انه خلاف وظيفة الفقيه غير صحيح لأن الكثير من العوام يفعل بعض الأحكام كالمعاملات بل و حتى بعض العبادات بدون هذه الأمور الثلاثة خصوصا إن كان مرادهم بها الاحتياط الصحيح و التقليد الصحيح و الاجتهاد الصحيح لوضوح ان أغلب العوام في أوائل بلوغهم ليس في

أعمالهم عندهم من ذلك شيئا فالأولى أن يقال: انه يجب على المكلف أن يرجع لعقله في تعيين ما هو وظيفته و طريقه في امتثال التكاليف الشرعية إلا اللهم أن يقال ان ذلك هو مقتضى الجمع بين الأدلة كما تقدم في الدليل الثالث أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 7

مقتضى الاستقراء أو الإجماع، و لا يخفى ما فيه فان العقل من جملة الأدلة و هو قد يرى طريقا غيرها أو تعيين واحد منها، و الاستقراء و الإجماع غير مسلمين.

(و ثانيها) ان العلم الإجمالي بالتكاليف منحل بالعلم التفصيلي بها ضرورة ان كل أحد يعلم بوجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و حلية البيع و نحو ذلك و حينئذ فما عدى ذلك من التكاليف يرجع فيها إلى أصالة البراءة.

و جوابه ان العلم الإجمالي لم ينحل بذلك بل في باقي الموارد يكون أيضا علم إجمالي بوجود التكاليف فيها سلمنا لكن لا مجال لجريان أصل البراءة في باقي التكاليف إذ أن أصل البراءة في الأحكام لا يجري إلا بعد الفحص و لا أقل من احتمال عدم جريانه فلا يستقل العقل بالبراءة بل يستقل العقل بالاشتغال و الاحتياط لعدم المؤمن له من مخالفة التكليف.

(ثالثها) ان القاعدة المذكورة لا دليل عليها في المعاملات إذ لا تكليف فيها يحتمل على مخالفته العقاب فلا يحكم العقل بتعيين الوظيفة لها لعدم استحقاقه العقاب فيها.

و جوابه ان العقل إنما يحكم في المعاملات بالقاعدة المذكورة فرارا عما يترتب على المعاملات من التكاليف فاذا شك في صحة المعاملة احتمل حرمة تصرفه بالمال الذي انتقل اليه بالبيع و غير ذلك.

(رابعها) ان القاعدة المذكورة لا دليل عليها في الوقائع التي تكاليفها غير منجزة عليه لكونها

غير ملتفت إليها أو ليست بمحل ابتلائه إذا فسرنا المكلف بالبالغ العاقل كما هو المعروف عندهم و اما إذا فسرناه بمعناه الوصفي و هو من كان مكلفا فعليا فلا يرد عليها بالوقائع الخارجة عن محل الابتلاء. و هكذا لا دليل على القاعدة المذكورة في الوقائع التي يعلم بأن تكاليفها غير إلزامية عليه لعدم احتمال العقاب في ذلك و هكذا لا دليل عليها في التكاليف اليقينية لاستقلال العقل بوجوب متابعة اليقين و القطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 8

فالواجب تقييد القاعدة بذلك إلا اللهم إذا احتمل أنه بترك التقليد أو الاجتهاد في ذلك عقاب عليه بحيث يعاقب على نفس ترك ذلك و إن لم يخالف الواقع و لم يعص المولى.

(خامسها) انهم ذكروا أنه لا بد في الاحتياط من أن يكون مجتهدا أو مقلدا لأن مسألة جواز الاحتياط خلافية. و عليه فالقسمة ينبغي أن تكون ثنائية لا ثلاثية بأن يقال أن المكلف اما مجتهد أو مقلد (على رأيهم) و إن كان الحق أن الاحتياط جوازه عقلي فطري.

ما يستثنى من القاعدة

قد عرفت في الإيراد الرابع على القاعدة المذكورة أنه ينبغي أن يستثنى من قاعدة (أن المكلف لا بد أن يكون مجتهدا أو محتاطا أو مقلدا) الوقائع التي تكون أحكامها معلومة بالضرورة أو باليقين لحصول المؤمن له عقلا من العقاب فلا يحتاج إلى الاجتهاد و لا التقليد بل لا يصلحه الرجوع إلى التقليد و لا إلى سائر الأمارات المجعولة لأنها إنما جعلها الشارع للشاك لا للعالم بالواقع و لم يبق موضوع للاحتياط لانكشاف الواقع عنده و الاحتياط يكون مع الجهل بالواقع، و قد يستثنى من القاعدة المذكورة في مقابل ذلك الوقائع المجمع عليها و لكن الإجماع أن كان

دليلا اجتهاديا لمن حصل عنده فهو مجتهد و إن لم يكن دليلا اجتهاديا كما لو حصل للعامي فإن حصل له اليقين بالمسألة اجتزى به لحصول المؤمن له من العقاب و الوقوع في خلاف الواقع فتكون من الوقائع التي أحكامها معلومة و إلا فلا يصح له العمل بالإجماع لعدم المؤمن له من العقاب لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 9

عمل العامي بدون الأمور الثلاثة إذ طابق الواقع أجزأه أو مبحث معذورية الجاهل

اشارة

عمل الجاهل بدون احتياط و لا تقليد و لا اجتهاد ليس بمؤمن له من العقوبة لاحتمال مخالفته للواقع و إذا اتفق مطابقته للواقع كان مجزيا له سواء كان قاصرا بأن لم يلتفت الى لزوم امتثال التكاليف بالطرق المعتبرة أو مقصرا بأن كان ملتفتا الى ذلك و لم يمتثل كذلك خلافا للسيد (ره) في عروته فإنه أفتى ببطلان عمل الجاهل المقصر و ان طابق الواقع كما في مسألة (16) و لعل فتوى السيد بذلك ناظرة للعبادات من جهة عدم تأتي قصد القربة من الملتفت كما يظهر من كلماته و لا يخفى ما فيه من الاشكال لعدم المانع من التقرب لاحتمال الموافقة للواقع فالعامد التارك للتقليد و الاجتهاد و الاحتياط لما كان يحتمل أن يكون ما يأتي به موافقا للواقع يتمكن من الإتيان به برجاء الواقع فكما انه مع عدم التمكن من معرفة الواقع يحصل التقرب بالإتيان برجاء الواقع فكذا مع التمكن لعدم تأثير التمكن و عدمه في ذلك لعدم مدخلية الجزم بالأمر في الطاعة. نعم المتمكن ليس له الاكتفاء بهذا النحو من الإتيان لعدم حصول الأمن له من العقوبة و لو اكتفى به كان عليه وزر التجري لكن ذلك لا دخل له في الصحة على تقدير المطابقة.

إن قلت: ان الموارد التي

كان مقتضى الأصول الشرعية عدم الصحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 10

و عدم المطابقة للواقع يكون الشرع قد عبّدنا بعدم كون المأتي به موافقا للمأمور به و حينئذ يمتنع التقرب به لكونه غير مراد له.

قلنا: لو سلمنا جريان هذه الأصول فهو إنما يتم بالنسبة إلى الملتفت الى هذا الأصل الجازم بثبوته من الشرع و إلا فإن احتمل عدمه أمكنه التقرب برجاء عدم صدور هذا الأصل من الشرع أو عدم كون المورد من مصاديقه فان باب الإطاعة واسع.

إن قلت: لو كان رجاء الواقع هو الداعي للعمل لأتى بباقي المحتملات فعدم إتيانه بالباقي يعلم منه انه لم يكن هو الباعث له و إنما الباعث شي ء آخر.

قلنا: يمكن أن يكون هو الباعث له و لكن لم يأتي بالباقي لأسباب أخر كالعجز و عدم الرغبة.

و الحاصل ان السيد (ره) لو ألغى التفصيل بين الالتفات و عدمه و قال:

«ان تأتي منه قصد القربة صح ان طابق الواقع و إلا فلا» كان أحسن. و كيف كان فالأصحاب قد اختلفوا في معذورية الجاهل على أقوال فقول بعدم معذوريته مطلقا سواء طابق الواقع أم لا مع القصور أو التقصير و قول بمعذورية الجاهل مطلقا حتى مع عدم المطابقة و مع التقصير، و نسبه صاحب الحدائق إلى السيد نعمة اللّه الجزائري و قول بالمعذورية عند المطابقة للواقع و عدم المعذورية مع عدمها ينسب للأردبيلي (ره) و قول بالمعذورية مع القصور دون التقصير و هو المحكي عن الوحيد البهبهاني (ره) و ينسب للمحقق الثالث.

[المراد بالجاهل القاصر و الجاهل المقصر]

و المراد بالقاصر هو الذي لم يتمكن من تعلم المسائل لا تقليدا و لا اجتهادا اما لغفلته عن المسألة أصلا كمن غفل عن كون القهقهة مبطلة للصلاة أو

لعدم التفاته الى وجوب أخذ المسائل و تعلمها أو التفت و لكن لم تصل يده الى مجتهد و لم يتمكن من الاجتهاد كالمحبوس و ما عدى ذلك فهو مقصر و هو من تمكن من تعلم المسائل اجتهادا أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 11

تقليدا و إن زال تمكنه بعد ذلك لأن عدم تمكنه كان بسوء اختياره و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، كما ان محل الكلام إنما هو في صحة عمله و اجزائه عن الواقع أو فساده و ليس محل الكلام هو ترتب الإثم على عمله و عدمه فإنه لا اشكال مع قصوره لا إثم عليه مع عدم التمكن من الاحتياط لعدم القدرة و يأثم مع مخالفة الواقع و تمكنه من الاحتياط و لم يحتاط و ليس له معذّر كما ان المقصر مع المطابقة للواقع لا إثم عليه و سيجي ء إن شاء اللّه ان وجوب التعلم لا توجب مخالفته العقاب كما لا ينبغي الإشكال في استحقاقه العقاب مع المخالفة للواقع و إنما محل الكلام ان العامي بدون الأمور الثلاثة إن تأتي منه قصد القربة و أتى بالعبادة ثمَّ انكشف له موافقتها للواقع هل يجزيه أم لا؟ التحقيق انه يجزيه و لا يجب عليه الإعادة و لا القضاء لأنه قد أتى بما هو متعلق لأمره الواقعي و الاجزاء أمر قهري لأن إتيان متعلق الأمر موجب لسقوطه و المفروض تحقق شرائط امتثاله و هكذا المعاملات فاذن لا وجه للقول بأن عمل العامي بلا احتياط و لا تقليد باطل كما عن بعضهم بل اللازم تقييده بالعبادات و لم يتمش منه قصد القربة إلا اللهم ان يريد بالبطلان عدم الأمان من مخالفة الواقع و اما لو

أراد به الفساد فيتعين التقييد بعدم تمشي قصد القربة و من اضافة بدون احتياط إذ مع الاحتياط يكون عمله ليس بباطل إلا أن يلتزم بأن الاحتياط لا بد من الاجتهاد أو التقليد في جوازه، و قد عرفت انه غير لازم مضافا الى ان التقليد لا بد من الاجتهاد في جوازه فلو كان نظره الى ذلك لكان عليه أن يقول عمل العامي بدون اجتهاد باطل، و يحتمل أن يكون مراده ان عمل العامي إذا خالف الواقع و كان بلا تقليد و لا اجتهاد فهو باطل لأنه لم يمتثل الأمر الواقعي و لا الظاهري و اما لو خالف الواقع و كان عن تقليد أو اجتهاد فهو غير باطل لاجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي فتلخص ان البطلان اما أن يحمل على عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 12

الأمن من العقاب أو على صورة المخالفة للواقع.

و الحاصل ان عمل العامي بدون الأمور الثلاثة ان كان عن يقين فلا يجب عليه شي ء من الأمور الثلاثة كما عرفت لحصول المؤمن له، و اما ان كان عن ظن معتبر فهو لا يخلو اما أن يرجع للاجتهاد و هو ليس محل كلامنا أو التقليد و هو أيضا ليس محل كلامنا، و اما إن كان عن ظن غير معتبر كما لو حصل له الظن من متابعة الآباء و الأمهات أو من كلام معلم أو مشاهدة أصدقائه و رفقائه أو قراءة كتاب من متون الفقه كما هو الغالب في العوام و النساء أو كان أمرا كيفيا تباعا لهواه فاذا طابق عمله الواقع كان صحيحا اما في المعاملات فواضح و اما في العبادات فبشرط تأتّي قصد القربة منه لأنه قد أتى بما هو

مطلوب الشارع و اما عدم تعبده بالطريق فلا يوجب عقابا عليه و لا فسادا لعمله، لأن الأمر بالطريق اجتهادا أو تقليدا لحصول الواقع فاذا حصل الغرض و هو حصول الواقع سقط الأمر الغيري بالطريق مع ان العامي قد يكون غافلا عن وجوب الطريق عليه فيكون معذورا في عدم سلوكه.

و استدل صاحب العناوين على ذلك أولا: بالأخبار الكثيرة المنتشرة في أبواب الفقه المشتملة على السؤال عن إتيان العمل بكيفية اختيارها السائل بدون دليل و جواب الامام (ع) له بالصحة، مثلا يقول: أجريت المعاملة الفلانية بهذه الكيفية، و الامام (ع) يجيبه بالصحة، أو يقول: صليت بدون كذا أو مع كذا، فيجيبه الامام بلا بأس فلو كان العمل بدون الطريق المعتبر فاسدا لاستفسر الامام (ع) عن كيفية عمله من انها مع الطريق المعتبر أو بدونه لا أن يجيبه بالصحة، مع أن الظاهر انه كان العمل بدون طريق معتبر إذ لو كان مع الطريق المعتبر لما سئل الإمام (ع) عن الصحة.

و ثانيا ان نوع المسلمين على ذلك فلو كان يجب الإعادة أو القضاء للعبادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 13

أو عدم ترتيب الأثر على المعاملة لأمر هم الأئمة (ع) بذلك و لاشتهر ذلك لعموم البلوى و قل ما يتفق لشخص أن يعمل بالتقليد أو الاجتهاد أوائل بلوغه مع انه لم نجد عينا و لا أثرا في الأخبار ما يدل على لزوم الإعادة، و يؤيد ذلك ما روي عن ان عمار أصابته جنابة فتمعك في التراب فقال له رسول اللّه (ص): كذلك يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا، فعلمه (ص) التيمم. فان قوله (ص): أ فلا صنعت، يدل على أن عمار لو فعل كذا لكان صحيحا مع

جهله بالحكم من دون تقصير لأن ظاهر حال عمار عدم التقصير، فصدر الرواية يدل على بطلان العمل مع المخالفة للواقع و ذيلها يدل على صحة عمل القاصر مع المطابقة للواقع.

[حجة المشهور القائلين بعدم معذرية الجاهل مطلقا]
اشارة

حجة المشهور القائلين باعتبار كون العمل مستندا لأحد الطرق المعتبرة و ان الجاهل غير معذور مطلقا قاصرا كان أو مقصرا مطابقا عمله للواقع أم لا وجوه:

(الأول) أصالة الاشتغال

المقتضية لاشتراط صحة العبادة بتعلم مسائلها الواجبة و قضية ذلك فساد عبادة الجاهل مطلقا و إن كان قاصرا و ان طابق عمله الواقع لفقدان شرط الصحة و هو تعلم المسائل الواجبة فيكون عبادته باطلة يجب إعادتها في الوقت و قضائها خارج الوقت.

و جوابه: ان الأصل مقطوع بما أثبتناه بالأدلة الاجتهادية من أن التعلم ليس بشرط للصحة و سيجي ء إن شاء اللّه عما قريب، و قد يجاب عنه بأنه غير جار بالنسبة إلى القاصر على مذهب العدلية لكونه غير مكلف بالعلم لعدم قدرته عليه فاذا أتى بالعمل على طبق الواقع فقد أجزأه. و فيه انه للخصم أن يدعي بأن العمل إذا كان مشروطا بالعلم و هو لم يأت به مع شرطه فلو تمكن بعد ذلك من تحصيل الشرط وجب عليه إعادة العمل إلا إذا قلنا بأن الميسور يجزي عن المعسور.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 14

(الثاني) من أدلتهم ان الجاهل مأمور بتحصيل المسائل الواجبة

كما مر و الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده أو عدم الأمر بضده، و عبادته ضد لتحصيل الأمر فعلى التقديرين تكون عبادته فاسدة اما على الأول لتعليق النهي بالعبادة و هو فيها موجب للفساد و اما على الثاني فلأن صحة العبادة تتوقف على بقاء الأمر بها و بعد تعلق الأمر بتحصيل المسائل ارتفع الأمر بالعبادة فإن الأمر بالتحصيل دل على عدم الأمر بالعبادة فتكون عبادته فاسدة.

و الجواب عنه أولا: ان الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص و لا عدم الأمر به كما هو المختار. و ثانيا: انه لا يتم في القاصر لعدم تعلق الأمر بالتحصيل في حقه و إلا لزم التكليف بما لا يطاق، فلم يكن هناك أمر بشي ء حتى يدل على النهي عن ضده أو

عدم الأمر به. و ثالثا: ان العبادة قد لا تكون ضدا لتحصيل المسائل كما في التروك التي تجتمع و تجامع كل فعل فلو قصد الصوم و شرع في تحصيل مسائل الصوم أو لم يشرع فيها لا يدل الأمر بالتحصيل على النهي عن الصوم و لا على عدم الأمر به لعدم كونه ضدا له كما لا يخفى.

(الثالث) من أدلتهم: ان قصد القربة شرط في صحة كل عبادة

و هو لا يحصل مع الجهل بالمأمور به إذ لا يتمكن الجاهل من قصد القربة إذ القربة هو الامتثال للأمر و لا يدري الجاهل ان ما يريد إتيانه هو المأمور به أم لا فلا يحصل منه قصد القربة لا سيما إذا كان عالما بلزوم تحصيل المسائل اجتهادا أو تقليدا و قصر في ذلك فيكون عمله باطلا لعدم تحقق الامتثال العرفي للزوم الجزم بالإطاعة و مع العلم بوجوب التحصيل و الأخذ عن المجتهد لا يبقى له اطمينان بظنه و تقليده فيصير ما يعتقد كونه مأمورا به موهوما فلا يحصل الامتثال العرفي لأنه لا يحصل إلا بقصد الامتثال و قصد الامتثال. بالفعل لا يحصل إلا بمعرفة ان هذا الفعل هو نفس المأمور به و المفروض ان الجاهل لا يعلم ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 15

و الجواب عنه ان قصد القربة يحصل للجاهل مطلقا اما في القاصر الذي يعتقد ان ما سمعه من أبيه أو أمه أو معلمة هو المأمور به الواقعي فتحقق قصد القربة في حقه من الواضحات و منكره مكابر، و اما المقصر الذي علم وجوب تحصيل الاحكام و أخذها من المجتهد و قصر في ذلك فيتحقق قصد القربة في حقه أيضا لأن ما يأتي به مع التقصير في أخذ مسائله يحتمل أن يكون مطلوبا و انه

عين ما أمر بإتيانه. و يكفي في تحقق قصد القربة في الفعل احتمال كون ذلك الفعل هو المأمور به، و قولك ان قصد الامتثال لا يحصل إلا بمعرفة ان هذا الفعل هو نفس المأمور به ممنوع نعم ما ينافي قصد القربة هو الجزم بعدم كونه مأمورا به بل يكفي في تحقق قصد القربة احتمال كون الفعل مأمورا به كما يتحقق قصد القربة في فعل يحتمل مطلوبيته و دل على استحبابه دليل غير معتبر و كذلك العمل بالاحتياط حيث يأتي بالمشكوك باحتمال كونه مأمورا به و لا ريب ان المحتاط و الفاعل للمستحب الذي دل عليه دليل غير معتبر يقصدان القربة لاحتمال كون فعلهما مأمورا به.

فان قلت: ان المحتاط أو المتسامح يقطعان بكون فعلهما مأمورا به لقوله عليه السلام: خذ الحائطة لدينك، احتط لدينك. و قوله (ع): من بلغه ثواب على عمل فهما يقصدان القربة بهذا الأمر الثاني المقطوع به لهما.

قلت: أولا- لو سلمنا ذلك فإنهما كما يقصدان القربة بامتثال الأمر الظاهري من خطاب احتط لدينك و ائت بما يحتمل ندبيته كذلك يقصدان القربة بالأمر الواقعي.

و ثانيا- لا يتم ذلك في من يأتي بفرد استحبابا و يقصد القربة به باحتمال كونه فردا للكلي الذي دل على استحبابه دليل غير معتبر كما لو أخبره فاسق بأن في التختم بالعقيق اليماني ثواب عظيم و فاسق آخر بأن هذا الفص عقيق يماني فيقصد القربة بالتختم به مع ان (من بلغه ثواب) دل على جواز التسامح في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 16

المستحبات من حيث الاحكام لا الموضوعات، مضافا الى ان المقصر إذا عصى بالتقصير الى آخر الوقت فأمره دائر بين الترك عن أصل و بين أن

يعمل بما يحتمل كونه مأمورا به و لا ريب ان مقتضى الاحتياط هو الأخير فيتحقق قصد القربة في حقه لقطعه بأن عمله هذا مأمورا به لقوله: (ع) خذ الحائطة لدينك.

و ثالثا- بناء العقلاء، ألا ترى انه لو أمر المولى باصطياد غزال و أمره بتحصيل معرفة الغزال من الشخص الخاص و قصر و لم يتعلم منه الى آخر الوقت فأخبره صبي بأن هذا الحيوان الذي تراه يركض هو الغزال لبادر الى اصطياده امتثالا لأمر المولى باصطياده و إن علم كونه عاصيا من جهة ترك الأمر بالتعلم و الأخذ عمن عينه المولى فهو يقصد الامتثال بصيده مع انه لم يجزم بكونه غزالا بل يحتمل ذلك عنده.

و بالجملة لا يشترط في تحقق قصد القربة الجزم بكون الفعل هو المأمور به كما يشهد به الوجدان السليم و الطبع المستقيم.

(الرابع) من أدلتهم قولهم: الناس صنفان اما مجتهد و اما مقلد

، و الظاهر إجماعهم عليه و هو ظاهر في بطلان عمل غيرهما كما هو صريح بعضهم و ان عبادة الثالث فاسدة و المفروض ان الجاهل مطلقا ليس بمجتهد و لا بمقلد فتكون عبادته فاسدة بالإجماع المستفاد من قولهم.

و الجواب عنه أولا: انه ليس بحديث أصلا بل هو كلام الشهيد و من تبعه، و ثانيا: سلمنا كونه كلام جماعة كثيرة ممن تقدم على الشهيد و تأخر عنه لكنه لم يبلغ حد الإجماع، و ثالثا: انه منزل على الأغلب و إلا فلا ريب في وجود صنف ثالث خارج عن الصنفين و هو المحتاط و لم يقل أحد ببطلان عمله لكونه غير داخل في الصنفين بل المحكي انه صرح بعضهم كالسيد بحر العلوم في المنظومة بصحة عباداته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 17

نعم لا بد للمحتاط في كثير من المسائل أن

يجتهد أو يقلد كدوران الأمر بين المتباينين و بين الوجوب و الحرمة فيدخل في أحد الصنفين و إن كان بالنسبة إلى المسائل التي يمكن له الاحتياط غير داخل في أحد الصنفين فلما لم يكن حصرهم الناس في الصنفين تاما لوجود المحتاط ينبغي أن ينزل كلامهم هذا على ان العمل الغير المطابق للواقع لا يثمر للعامل إلا إذا كان على سبيل الاجتهاد أو التقليد و لا يصح و لا يصير سببا لسقوط القضاء و الاجزاء إلا أن يأتيه بأحد الطريقين و اما المطابق للواقع فصحته لا يلازم أن يكون على أحد الطريقين. و رابعا:

اتفاقهم في المعاملات على ان المدار فيها على الواقع و معاملة الخارج عن الصنفين أي الجاهل صحيحة في صورة المطابقة فليس كلامهم هذا باق على عمومه و إطلاقه

(الخامس) من أدلتهم: الآيات الدالة على وجوب التعلم

و تحصيل العلم و الأخبار الواردة في ذلك كقوله عليه السّلام: الناس اما عالم أو متعلم و الناس كلهم هالكون إلا العالمون. و ما روي في الفقيه ان القضاة أربعة و الناجي منهم واحد و الباقي في النار، و مثل: بني الإسلام على خمس إلخ الدالة على انه لا تنفع الطاعة إلا أن تكون بولاية ولي اللّه و بأن يكون جميع أعماله بدلالته اليه، و مثل ما ورد انه لا عمل إلا بالفقه و المعرفة و بالعلم و بإصابة السنة، و ما رواه في الكافي في الصحيح قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين في شي ء سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون.

و الجواب عنها ما سيجي ء إن شاء اللّه في وجوب التعلم و المعرفة و انهما غير واجبين بالذات مع ان بعضها ظاهر في الرد على أهل الرأي و القياس مع

ان ما ورد في ان الجاهل هالك بترك السؤال فنحن أيضا نقول به لأنه بترك السؤال و عدم بنائه على أخذ الأحكام عن الطريق المعتبر اجتهادا أو تقليدا في معرض الهلاك إذ ربما لا يصادف عمله الواقع فتكون أعماله باطلة و وجب عليه قضاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 18

عباداته الفاسدة في سبعين سنة و يعسر عليه ذلك فيتركها فيهلك بذلك.

(السادس) من أدلتهم: ان التفصيل بين الجاهل

الذي طابق عمله للواقع فالحكم بصحة عمله و بين الجاهل الذي لم يطابق عمله للواقع، فالحكم بعدم صحة عمله و أثابه الأول دون الثاني مع كونهما متساويين في الأعمال البدنية و الحركات و السكنات الاختيارية يستلزم مخالفة القواعد العدلية لأن مصادفة الواقع في الأول أمر غير اختياري بل هو حاصل بضرب من الاتفاق، فاذا فرضنا قاصرين أو مقصرين في أول الوقت صليا بصلاة مع تساويهما في الجد و الجهد و العمل فاتفق مطابقة صلاة أحدهما للواقع دون الآخر فالحكم للأول بعدم وجوب الإعادة و القضاء و إعطاء الثواب دون الثاني مع كون المفروض تساويهما في الحركات و السكنات الاختيارية يستلزم الظلم للثاني لأن المصادفة للواقع لم يكن باختياره هكذا ينسب للفاضل القمي و لكن التحقيق ان هذا الاستدلال مستفاد من إيراد السبزواري في شرحه على الإرشاد فإنه بعد ما نقل شطرا من كلام المولى الأردبيلي حيث قال في بحث الوقت: و بالجملة فكل من فعل ما هو في نفس الأمر و ان لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل حتى لو أخذ المسائل من غير أهلها بل و لو لم يأخذ من أحد و ظنها كذلك و فعل فإنه يصح فعله، الى أن قال: و كذا يفهم

من كلام منسوب الى المحقق نصير الدين الطوسي قال- أي السبزواري: ان ما ذكره منظور فيه مخالف للقواعد المقررة العدلية و ليس المقام محل تفصيل. ثمَّ قال السبزواري:

(أقول) إجمالا ان أحد الجاهلين إن صلى في الوقت و الآخر في غير الوقت فلا يخلو اما أن يستحقا العقاب أو لم يستحقا أصلا أو يستحق أحدهما دون الآخر و على الأول يثبت المطلوب و على الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا و على الثالث يلزم خلاف قواعد العدل لاستوائهما في الحركات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 19

الاختيارية الموجبة للمدح و الذم و إنما حصل مصادفة الوقت و عدمه بضرب من الاتفاق من غير أن يكون لأحدهما فيه ضرب من التعمد أو السعي، و تجويز مدخلية الاتفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح و الذم مما هدم بنيانه البرهان و عليه إطباق العدلية في كل زمان انتهى.

و الجواب عنه ان المصادفة لما كانت ترجع الى الاختيار لكون مقدماتها باختياره صح الثواب عليها بخلاف من لم يصادف فإنه لم يتحقق العمل الموجب للثواب منه حتى يستحق الثواب. و لقد تصدى لدفع هذا الإيراد عن المولى الأردبيلي جمع من الأصحاب منهم الشيخ المحدث يوسف البحراني في كتابه المسمى بدرر النجفية ص 9 طبع إيران قال فيه: (أولا) بعد اختيار الشق الثالث الذي هو محل النزاع انه متى قام الدليل من خارج على معذورية الجاهل و صحة عباداته إذا طابقت الواقع، فهذا الاستبعاد العقلي لا يسمع و إن اشتهر بينهم ترجيح الدليل العقلي على النقلي إلا ان ما نحن فيه ليس منه.

و (ثانيا) ان المدح و الذم على هذه الحركات الاختيارية إن كان من اللّه تعالى، فاستواؤهما

فيه ممنوع إذ إيجاب الحركات للمدح و الذم ليس لذاتها و إنما هو لموافقة الأمر و عدمها تعمدا أو اتفاقا و حينئذ فمقتضى ما قلنا من قيام الدليل على صحة عبادة الجاهل إذا صادفت الواقع فإنه تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت و تكون حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف فإنها تكون موجبة للذم لعدم المصادفة.

و (ثالثا) ان الغرض من التكليف الإتيان بما كلف به حسب الأمر و من صادفت صلاته الوقت يصدق عليه انه أتى بالمأمور به و امتثال الأمر يقتضي الاجزاء و (رابعا) انه منقوض بما وقع الاتفاق عليه نصا و فتوى من صحة صلاة الجاهل بوجوب التقصير فصلى تماما مع كونها غير مطابقة للواقع فاذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 20

كان الجهل عذرا مع عدم المطابقة فبالأولى أن يكون عذرا معها.

و (خامسا) بأنه معارض بما صرح به الأصحاب كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية من أن من صلى في النجاسة جاهلا بها و ان صحت صلاته ظاهرا إلا انها غير صحيحة و لا مقبولة واقعا فإن للقائل أن يقول فيها أيضا انه يلزم خلاف العدل لاستواء حركات هذا المصلي مع حركات من اتفق كون صلاته في طاهر واقعا في المدح و الذم فكيف تقبل إحداهما دون الأخرى إذ كل منهما قد بنى على ظاهر الطهارة في نظره و إنما حصلت الطهارة الواقعية في أحدهما دون الآخر بضرب من الاتفاق الخارج الذي لا مدخل له و مثل ذلك أيضا في من توضأ بماء نجس واقعا مع كونه طاهرا في الظاهر فان بطلان طهارته و عبادته دون من توضأ بماء طاهر ظاهرا و واقعا مع اشتراكهما فيما

ذكر من الحركات و السكنات و كون الطهارة و النجاسة واقعا بنوع من الاتفاق دون التعمد خلاف العدل أيضا و الأصحاب لا يقولون به.

و (سادسا) لو كان الاتفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه لما أجزأ صوم آخر يوم من شعبان عن أول شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك و يسقط القضاء عمن أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية ثمَّ ظهرت الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا على الخلاف في ذلك و لوجب الحد على من زنى بامرأة ثمَّ ظهر كونها زوجته و لصح شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثمَّ ظهر كونه غصبا و لوجب القضاء و الكفارة على من أفطر يوم الثلاثين من شهر رمضان ثمَّ ظهر كونه من شوال و لوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا ثمَّ ظهر كونه ممن قتله قودا و لوجب العوض على من غصب ما لا و تصرف فيه ثمَّ ظهر كونه له، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع و اللوازم كلها باطلة اتفاقا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 21

ثمَّ اعترض على نفسه بقوله: فان قيل: ان الأحكام المعترف بها هنا إنما صير إليها لقيام الدليل عليها.

و أجاب بتوضيح و تنقيح منا: بأن قيام الدليل عليها دليل على ان الدليل العقلي الدال على ان الاتفاق واقعا مما لا مدخل له في الذم و المدح و الصحة و الفساد كما هو المدعى ليس دليلا صحيحا لعدم إمكان التخصيص في الدليل العقلي، فالتخصيص بما ذكر و خروج المذكورات عن هذا الحكم دليل على بطلان هذا الحكم و إلا لامتنع خروجها عن الحكم-

انتهى كلامه مع توضيح منا. مضافا الى أن الجاهلين أما أن يكونان قاصرين أم مقصرين أم مختلفين فعلي الأول نختار الشق الثاني و هو عدم العقاب على شي ء منهما من حيث الحكم التكليفي و إلا لزم التكليف بما لا يطاق بل هما مثابان لاتيانهما بما فهماه و لزوم الإعادة أو القضاء على من صلى خارج الوقت دون من صلى فيه و هذا لا يستلزم الظلم على الأول لحصول فوت العبادة الواقعية عنه دون الثاني، و إن كانا مقصرين نختار الشق الأول و هو استحقاقهما العقاب على ترك تحصيل المسائل الواجبة عن الطريق المعتبر عند الشارع بناء على وجوب التعلم مولويا ذاتيا و لزوم الإعادة و القضاء على من صلى خارج الوقت لما فات عنه من الصلاة المطلوبة في الوقت و لا ظلم أيضا كما لا ظلم في المكلفين اللذين صليا بالطهارة المستصحبة ثمَّ قبل خروج الوقت أو بعده تبين بطلان طهارة أحدهما دون الآخر فيجب الإعادة و القضاء على الأول دون الثاني من دون أن يلزم ظلم على الأول، و إن كانا مختلفين فان كان المصلي في الوقت قاصرا و الآخر مقصرا اخترنا الشق الثالث و حكمنا باستحقاق المقصر الذي عمله لم يطابق الواقع العقاب لمكان تقصيره بالفرض دون الآخر و بوجوب الإعادة و القضاء عليه دون القاصر الذي عمله مطابق للواقع و إن كان المصلي في الوقت مقصرا و المصلي في خارج الوقت قاصرا حكمنا باستحقاق المقصر للعقاب لمكان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 22

تقصيره في تحصيل الأحكام دون القاصر و بوجوب الإعادة و القضاء على القاصر لعدم مطابقة صلاته للواقع دون المقصر الذي طابق عمله للواقع.

و بالجملة الحكم باستحقاق العقاب

و عدمه دائر مدار التقصير و عدمه سواء طابق الواقع أم لا إلا أن المقصر له عقابان إن لم يطابق عمله للواقع أحدهما لترك تحصيل الأحكام الواجبة و الآخر لعدم إتيانه بالمأمور به الواقعي و إن طابق عمله للواقع له عقاب واحد لأجل ترك تعلم الأحكام.

فان قيل: ان تحصيل العلم بالأحكام واجب مقدمي غيري لأجل العمل و لا عقاب في ترك المقدمات و التارك للمقدمة و ذيها لا يستحق عقابين و إنما يستحق عقابا واحدا على ترك ذي المقدمة.

قلنا: فرض كلامنا مع البناء على وجوب التعلم مولويا ذاتيا أو نبني على التفصيل بين المقدمة التي تركها يستلزم ترك ذيها فيعاقب على تركها و بين ما لم يستلزم ذلك فلا عقاب على تركها و ما نحن فيه من قبيل الأول، و لا ريب ان هذا الحكم غير مناف للعدل، كما انا نقول: ان الحكم بوجوب الإعادة و القضاء و عدمه دائر مدار مخالفة العمل للواقع و مطابقته للواقع، و هذا الحكم أيضا لا ينافي العدل و لا يستلزم الظلم كما لا يخفى.

(السابع) من أدلتهم: الجاهل بالعبادة مأمور بطلب العلم

و تحصيل المعرفة بالعبادات فعمله الذي أتى به عن جهل عمل بما وراء العلم و العمل بما وراء العلم حرام للعمومات الناهية و إذا كانت عباداته محرمة منهيا عنها كانت فاسدة، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد فتكون عبادة الجاهل و ان طابقت الواقع فاسدة و الجواب عنه: (أولا) بأن النهي عن العمل بما وراء العلم حرام مقدمي غيري لإفضائه إلى خلاف الواقع و إتيانه بما ليس بمأمور به لأن العمل بما وراء العلم غالبا غير مصيب للواقع و غير موصل اليه فنهى الشارع عنه لئلا يقع عباده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 23

في خلاف الواقع و لذا في بعض الأخبار (محق الدين).

و الحاصل ان النهي عن العمل بما وراء العلم نظير الأمر بتعلم المسائل عن الطريق المعتبر لاصابة الواقع فاذا أتى بذي المقدمة و هو المأمور به الواقعي فلا دليل على وجوب الإعادة و القضاء عليه، و النهي المقدمي لا يقتضي الفساد.

و (ثانيا) هذا يتم لو قلنا: ان العمومات الناهية مثل «لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» و غيرها معناه النهي عن الشروع في العمل، و إلا فلو قلنا: انها دالة على حرمة الاكتفاء بما وراء العلم فمعنى الآية الشريفة مثلا لا تكتف بما ليس لك به علم، فلم يكن في المقام نهيا مقدميا أيضا، فإن معناها حينئذ انه إذا أتيت بعمل من غير علم لا تكتف به بل تفحص في العمل الصادر عنك جهلا فان كان غير مطابق للواقع فأعده و إلا فلا، فتدبر فإنه تعالى العالم.

(الثامن) من أدلتهم: الأدلة الدالة على حرمة إتباع الهوى و الرأي.

و جوابه أنها ناظرة إلى لزوم تحصيل الواقع فهي إرشاد اليه، و لو سلمنا فغايتها هو حرمة اتباع الهوى و الظن و لا يقتضي ذلك فساد العمل و بطلانه، هذا مع انه يمكن أن يجاب عن الجميع بما تقدم من الأدلة على صحة العمل بدون المعرفة فتكون مخصصة و حاكمة على هذه الأدلة.

[حجة القول بالتفصيل بين القاصر و المقصر فالمعذورية في الأول دون الثاني]

اما حجة القول بالتفصيل بين القاصر و المقصر فالمعذورية في الأول و عدم المعذورية في الثاني هو الوجوه المذكورة للمشهور لكنها مختصة بالمقصر لأن القاصر لمكان جهله و قصوره و غفلته لا يجري فيه الأدلة المذكورة إذ هو مكلف بما فهمه و إلا لزم التكليف بما لا يطاق و قد أتى به و الأمر يقتضي الاجزاء فلا يجب عليه الإعادة و لا القضاء لأنه بفرض جديد و الفرض الجديد متوجه الى من فات عنه فريضة و القاصر لم يفت منه شي ء.

و يظهر الجواب عنها مما مر بأن لزوم التكليف بما لا يطلق لا يرفع إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 24

الإثم و العقاب، و نحن نقول: بأن القاصر مطلقا غير آثم و لا معاقب، إلا انه بعد ما تفطن بوجوب تحصيل الأحكام و أخذها عن المجتهد الجامع للشرائط فإن ظهر له المطابقة لرأيه فلا شي ء عليه وضعا كما لا شي ء عليه تكليفا. و إلا وجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء خارج الوقت و هو غير مستلزم للتكليف بما لا يطاق فان التكليف بالقضاء كما في المقصر ليس تكليفا بما لا يطاق كذلك في القاصر و اما أصالة عدم وجوب القضاء فهي مقطوعة بالأدلة الواردة مثل:

«من فاتته فريضة فليقضها» و غيره. و دعوى عدم صدق الفوات في القاصر لأنه

لم يفت منه ما كان مكلفا به عرفا. غير سديدة لأنه إنما خرج عن عهدة التكليف الظاهري اما تكليفه الواقعي فلم يأت منه شيئا فإن القاصر في زمان جهله كان مكلفا بإتيان الصلاة الواقعية فإذا التفت في أثناء الوقت توجه الأمر بها نحوه لعدم سقوطه عنه و إن التفت خارج الوقت توجه نحوه الأمر بقضائها لصدق موضوع القضاء و هو الفوت، هذا و قد نسب للمحقق الثالث (ره) صحة عمل الجاهل القاصر و سقوط الإعادة و القضاء عنه و إن كان عمله غير مطابق للواقع و استدل على ذلك بوجوه:

(الأول) ان الأمر يقتضي الاجزاء فلا يجب عليه الإعادة و القضاء.

(الثاني) ان التكاليف إنما تثبت على حسب أفهام المكلفين و لذلك لا يشترط في صحة صلاة المجتهد موافقتها للواقع.

(الثالث) ان الجاهل القاصر لو كان مكلفا بالإتيان بالعبادات الواقعية و بما يوافق الواقع لزم التكليف بالمحال.

(الرابع) انه لا معنى محصل لموافقة نفس الأمر و لم يظهر ان المراد منه هو حكم اللّه الواقعي الذي لا يطلع عليه أحد إلا اللّه أو ما وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد أو أحد المجتهدين و ما المبين و المميز له و حكم المجتهد بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 25

اطلاعه بالموافقة و عدم الموافقة أي فائدة فيه لما فعله قبل ذلك و قال: اللهم إلا أن يقال المراد الحكم بلزوم القضاء و عدمه فيتبع ذلك أي المجتهد الذي يقلده بعد المعرفة فيحكم بأنه فات منه الصلاة أو لم يفت، و أنت خبير بأن الحكم بالفوات و عدم الفوات تابع لكون المكلف حينئذ مكلفا بشي ء ثمَّ فات منه و هو أول الكلام، و منه صدق الفوات في

الحق الجاهل الغافل إذ لا تكليف عليه بغير معتقده حتى يصدق في حقه الفوات، و ثبوت القضاء في حق النائم و الناسي إنما ثبت بالنص و إلا فمقتضى القاعدة عدم لزوم القضاء عليهما.

(الخامس) عموم الأخبار الدالة على أصل البراءة و عدم التكليف فيما لا يعلمه المكلف كما ذكرنا جملة منها- انتهى.

و الجواب عن الأول فبأن الأمر إنما يقتضي الاجزاء إذا اتى المكلف بالمأمور به على وجهه، ضرورة ان المكلف بالصلاة الواقعة لا يجزيه بالنسبة الى هذا التكليف إلا الإتيان بالصلاة الواقعية أو ما جعله الشارع بدلا عنها، و لا ريب ان إتيانه بما يعتقد أنها صلاة واقعية إنما يقتضي الاجزاء عنه ظاهرا إذا لم ينكشف له الخلاف و لم يتفطن بوجوب معرفة الاحكام و لم يتمكن منها الى زمان موته اما بعد التفطن و التمكن صار تكليفه بالعبادات الواقعية تنجيزيا ففي صورة عدم الموافقة لا يكون ما أتى به معتقدا أنه صلاة مجزيا عن الصلاة الواقعية و عن الثاني: ان المسلم هو كون التكاليف الظاهرية تابعة لإفهام المكلفين و انها تتبع إفهامهم و تثبت بحسب إدراكهم، و اما التكاليف الواقعية لا تتبع أفهام المكلفين قطعا و إلا لزم القول بالتصويب و هو باطل بإجماع الفرقة و أخبارهم فيتجه وجوب الإعادة و القضاء حين ثبوت التكليف بالواقع مع انكشاف الخلاف لعدم الخروج عن عهدة الأمر الواقعي فلم يرتفع التكليف الواقعي بما أتى به مع مغايرته له و عدم مطابقته لما جعله الشارع بدلا عنه و لا فرق في ذلك بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 26

القاطع بالحكم و غيره فكما ان الجاهل القاصر الظان بعدم جزئية الركوع في الصلاة و أتى بها من

غير ركوع ثمَّ علم ان الركوع ركن و تركه عمدا أو سهوا أو جهلا مبطل وجب عليه الإعادة أو القضاء فكذلك لو قطع بذلك فصلى من غير ركوع ثمَّ تبين له الحال وجب عليه الإعادة أو القضاء.

نعم قد استدل على عدم وجوب الإعادة أو القضاء في صورة ما إذا قام الظن المعتبر على صحة عبادة على كيفية و أتى بها مكيفة بتلك الكيفية بالإجماع و بأنه لم يعلم بمخالفة مؤدى ظنه الأول للواقع، و سيجي ء ان شاء اللّه التعرض لذلك في تبدل رأي المجتهد تفصيلا و تحقيقا.

و عن الثالث: ان تكليف الجاهل القاصر بالواقع إذا كان مطلقا و منجزا مستلزم للتكليف بالمحال و نحن لا نقول به، و اما إذا كان تنجيزه معلقا على الشعور و زوال غفلته كما هو الشأن في جميع التكاليف الواقعية فلا يستلزم التكليف بالمحال فهي بعد الشعور و زوال الغفلة تصير منجزة فاذا لم يكن مطابقا لها و لم يأت بها على وجه أمرها وجب عليه الإعادة أو القضاء.

و عن الرابع: بأن المراد بالواقع و إن كان ما ثبت في اللوح المحفوظ و نزل به الروح الأمين على خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أن الشارع جعل له طرقا كواشفا عنه مثل العلم الشرعي الحاصل من الاجتهاد و التقليد المعتبرين فاذا أتى المكلف بعمل من طريق غير معتبر لجهله بالطرق المعتبرة أو عدم تمكنه منها لم يكن آثما لكن بعد التفطن و التمكن يجب عليه الرجوع الى الطريق المعتبر ليتمسك عند ربه في براءته و خروجه عن عهدة التكليف بحجة صحيحة و طريقة معتبرة (و الحاصل) انه عند انكشاف بطلان الطريق الذي عول عليه في الإتيان

بالعمل يجب عليه أولا الرجوع الى العلم الوجداني أو ما جعله الشارع حجة له حتى عند التمكن من العلم فان لم يتمكن منهما وجب عليه المراجعة إلى العلم الشرعي الحاصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 27

من الاجتهاد الصحيح و ان لم يتمكن من ذلك أيضا وجب عليه الرجوع الى التقليد الصحيح فان وجد عمله الذي أخذه من طريق غير معتبر موافقا للطريق المتعين في حقه فقد خرج عن عهدة التكليف لإتيانه بالواقع و إن كان بطريق غير معتبر، غاية ما في الباب انه لو فرض تقصيره في تحصيل الطريق المعتبر و إتيانه بالعمل منه كان متجريا فاذا قلنا بعقاب المتجري كان قد أثم و استحق العقاب لإتيانه بالعمل بطريق غير معتبر و إن كان مثابا و مأجورا و خارجا عن عهدة التكليف لإتيانه بالمأمور به الواقعي و إذا وجده مخالفا للطريق المعتبر المتعين له وجب عليه التدارك من الإعادة في الوقت و قضائه خارج الوقت ليخرج عن عهدة التكليف بالواقع لما مر من الأدلة التي أقمناها على وجوب الإعادة عند عدم مطابقة عمل الجاهل للواقع و الفرق بين الجاهل الذي لم يطابق عمله للواقع لا سيما مع عدم التقصير و بين النائم و الناسي غير واضح. نعم في صورة التقصير يكون آثما و لا إثم على النائم و الناسي مع انه ربما يمكن أن يقال: ان النائم و الناسي أيضا آثمان معاقبان كما لو أوجد مقدمات النوم الذي لا يمكن معه الإتيان بالصلاة أو أكل دواء موجبا للنسيان لأن ينسى عن الصلاة أو سائر التكاليف.

و عن الخامس بأن الأخبار الدالة على البراءة مثل ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم،

و كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي، و رفع عن أمتي تسعة و منها ما لا يعلمون و غيرها إنما تدل على عدم تعلق التكليف بالواقع تكليفا فعليا على وجه التنجيز فالجاهل الغافل غير منجز عليه الواقع ما دام جاهلا و ما برح علم اللّه تعالى عنه محجوبا فلا يكون مفادها منافيا لكون الجاهل مكلفا بالواقع تكليفا معلقا تنجيزه على الفهم و الشعور و زوال الجهل و إلا لكان مفادها سقوط التكاليف عن الجاهل بها و هو مع كونه فاسدا في نفسه للزوم التصويب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 28

غير مستفاد من الاخبار و لا يفهم منها من له أدنى دراية.

[حجة القول بمعذورية الجاهل مطلقا قاصرا أو مقصرا. طابق عمله الواقع أم لا]

حجة القول بمعذورية الجاهل التارك للطرق الثلاثة مطلقا قاصرا أو مقصرا سواء طابق عمله الواقع أم لا و هو و ان لم نجد به قائلا صريحا لكن حكاه الشيخ المحدث البحراني في درره عن جمع من الأخباريين منهم السيد نعمة اللّه الجزائري و المولى الأمين الأسترآبادي و الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني و المحدث الكاشاني و حكاه أيضا عن المولى الأردبيلي و السيد محمد صاحب المدارك إلا انه اعترف بأن المولى الأردبيلي كلامه ظاهر في التفصيل بين المطابق للواقع و عدمه و بأن تلميذه صاحب المدارك بعد ما نقل شطرا من كلام استفاده قال و هو في غاية الجودة، ثمَّ قال: و المفهوم من كلام السيد نعمة اللّه طاب ثراه هو المعذورية و ان لم يطابق بمعنى أن يخل ببعض الواجبات أو يرتكب بعض المنهيات جهلا، ثمَّ انه بعد حكاية القول بالمعذورية مطلقا عنهم قال: و هو الحق الحقيق بالاتباع (أقول) الأظهر هو الخطأ في النقل و لا قائل

بهذا القول في من وجدنا كلماته في هذا المقام عند التأمل حتى يظهر من استدلال الناقل- بأي صاحب الحدائق- التفصيل بين القاصر و المقصر، و كذا يظهر ذلك عن السيد نعمة اللّه الجزائري و كأن هؤلاء الاعلام جعلوا محل النزاع هو الجاهل القاصر، و لذا اختاروا القول بالمعذورية مطلقا و نقله صاحب الحدائق عنهم. و كيف ما كان فالدليل على القول بالمعذورية مطلقا وجوه:

(الأول) ما حكاه صاحب الحدائق في الدرر النجفية عن السيد نعمة اللّه الجزائري انه قال في شرح كتاب غوالي اللئالي بعد نقل ذلك- أي بطلان عبادة الجاهل- عن الشهيدين: و يلزم على هذا بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار و ما قاربها و ذلك ان وجود المجتهد في كل صقع و بلد متعذر لأن صروف الليالي أذهبت العلماء و لا بقي من يرجع الى قوله إلا القليل في بلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 29

من البلدان أو صقع من الأصقاع فكأنما برق تألق بالحمى ثمَّ انثنى فكأنه لم يطلع و إذا كان العامي في أقاصي البلدان كيف يتمكن من الوصول الى المجتهد في أكثر أوقاته فيلزم الحرج على الخلق- الى أن قال-: و الناس في الأعصار السابقة و اللاحقة كانوا يتعلمون العبادات و أحكامها من الواجبات و السنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد و لا تقليد و العوام في جميع الأعصار حتى في أعصار الأئمة عليهم السلام كانوا يصلون و يصومون على ما أخذوا من الآباء و من حضرهم من العلماء و ان لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد على ان الصلاة المأمور بها شرعا ما كان يتفق إلا من آحاد العلماء ألا ترى الى حماد كيف

كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة فلما صلى بحضور الامام الصادق عليه السّلام قال: يا حماد لا تحسن أن تصلي، فقام عليه السّلام فصلى ركعتين تعليما له. هذا و حماد من أجل أهل الرواية و من أصحاب الأئمة (ع) فما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم (ع) على ان الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب و كانت مأخوذة من أهل الإيمان فما السبب في بطلانها، و شي ء آخر و هو انهم صرحوا بأنه لا فرق بين تارك الصلاة و بين من أوقعها على غير الوجه المطلوب و لو بالإخلال بحرف من القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود أو غير ذلك مما حرروه في كتبهم و أنت إذا اتبعت عبادات عوام المذهب لا سيما في الصلاة ما تجد أحدا منهم إلا و الخلل في عباداته خصوصا الصلاة و لا سيما القراءة مما يوجب بطلانها بكثير فيلزم بطلان صلاتهم كلها فيكونون معتمدين في ترك الصلاة مدة أعمارهم بل مستحلين تركها لأنهم يرون ان الصلاة المشروعة هي ما أتوا به و قد حكمتم ببطلانه فهذه هي الداهية العظمى و المصيبة الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثرهم و وفورهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 30

فان قلت: فما المخلص من هذه البلية العامة؟

قلت: قد استفاض في الاخبار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام: الناس في سعة ما لم يعلموا فمن كان جاهلا للأصل أو للحكم يكون داخلا تحت عموم الخبر فيعذر في جهله حتى يعرف الحكم فيطلبه و حينئذ فيكون الاولى أن يحصل الضابط هكذا: الجاهل معذور إلا ما قام الدليل عليه و الأكثر عكسوا الكلية و قالوا:

الجاهل كالعامد إلا ما خرج بالدليل، فلزم ما تقدم من الضيق و الحرج و للنظر الى ما حررناه وردت الاخبار المتضمنة لقولهم (ع):

ما أخذ اللّه على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا- الى أن قال-: و الحاصل ان الجهال معذورون حتى تأتي إليهم علوم الاحكام و المعرفة بها من علماء الدين- انتهى كلامه.

(أقول) و للنظر في مواضع من كلامه مجال لكن لا مجال لنا ببيانه ثمَّ انه بناء على ان قوله: الجهال معذورون، بعمومه يشمل القاصر و المقصر و صريح كلماته السابقة في ان الجهال معذورون سواء طابق عملهم للواقع أم لا، فحاصل دليله هذا انه لو لم يكن الجاهل مطلقا معذورا لزم الضيق و الحرج.

و الجواب عنه أولا بمنع العسر و الحرج في معرفة الاحكام و تحصيلها عن الطريق المعتبر و لو بالتقليد الصحيح و لا يشترط فيه مشافهة المفتي بل يكفي الأخذ عن كتابه أو عن واسطة عدل، هذا إذا أراد ان تحصيل الاحكام مستلزم لذلك، اما إذا أراد ان الحكم بالقضاء على الجاهل عليه عسر شديد. ففيه أولا: انه ليس بعسر إلا في بعض الموارد و الحالات التي تكاد أن تكون بحكم العدم لندرتها و ليس هناك حرج نوعي يوجب رفع التكليف من أصله و إنما هو حرج شخصي في بعض الحالات و الأوضاع كما في الجاهل الهرم إذا رجع آخر عمره فوجد ان ما اتبع به أباه و معلمة مخالفا للواقع. و ثانيا: ان نفس العسر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 31

و الحرج ليس مما يستقل بثبوته العقل و إلا امتنع وقوعه مع ان التكاليف العسيرة كانت في الأمم السابقة و توجد في شريعتنا كالجهاد

بل إنما ثبت نفيه بالظواهر و العمومات و هي موهونة جدا باعراض المشهور القائلين بعدم المعذورية عنها. و ثالثا: ان هذا التكليف المعسور في المقصر مسبب من سوء اختياره فهو أقدم على تحمل هذا العسر، و ما دل على نفي العسر دل انه تعالى لم يجعل حكما ابتداء معسورا مثل «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فلا منافاة، و اما في القاصر فيندفع بالحكم بلزوم الإتيان بالقضاء على حسب وسعه أي إلى حد لم ينجر الى العسر لقوله (ص): «الميسور لا يسقط بالمعسور» و قوله (ص):

«إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم» و قوله (ع): «ما لا يدرك كله لا يترك كله» و ما بقي عليه يوصي بقضائه فتدبر.

الثاني من أدلة القول بالمعذورية مطلقا الأخبار الكثيرة (منها) ما رواه صاحب الحدائق عن عبد الصمد بن بشير عن أبى عبد اللّه (ع) قال: جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام و هو يلبي و عليه قميصه فوثب اليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شق قميصك و أخرجه من رجليك فان عليك بدنة و عليك الحج من قابل و حجك فاسد، فطلع أبو عبد اللّه (ع) فقام على باب المسجد فكبّر و استقبل الكعبة فدنا الرجل من ابى عبد اللّه (ع) و هو ينتف شعره و يضرب وجهه فقال له أبو عبد اللّه: اسكن يا عبد اللّه، فلما كلمه و كان الرجل أعجميا فقال له أبو عبد اللّه (ع): ما تقول؟ قال: كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شي ء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي و انزعه من قبل رجلي و ان حجي فاسد و ان عليّ

بدنة، فقال (ع):

متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبي، قال: فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة و ليس عليك الحج من قابل أي رجل ركب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 32

أمرا بجهالة فلا شي ء عليه طف بالبيت سبعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم واسع بين الصفا و المروة و قصر من شعرك فاذا كان يوم التروية فاغتسل و أهل بالحج و اصنع كما يصنع الناس.

(و منها): صحيحة زرارة عن ابى جعفر (ع) قال: من لبس ثوبا لا ينبغي لبسه و هو محرم ففعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو جاهلا فلا شي ء عليه و من فعله متعمدا فعليه دم.

(و منها) مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل و قد شهد المناسك كلها و طاف و سعى، قال: تجزيه نيته إذا كان قد نوى ذلك فقد تمَّ حجه و ان لم يهل و نظير هذه روايات واردة في اعمال الحج بحيث لا تكاد ان تحصى.

(و منها) صحيحة الحلبي عن ابى عبد اللّه (ع) قال: قلت له: رجل صام في السفر فقال: ان كان بلغه ان رسول اللّه (ص) نهى عن ذلك فعليه القضاء و ان لم يكن بلغه فلا شي ء عليه و بمضمونها بالنسبة إلى الصيام في السفر بجهالة صحيحة العيص و صحيحة أبي بصير و صحيحة عبد الرحمن.

(و منها) ما ورد في النكاح في العدة كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أ هي ممن لا تحل له ابدا، قال: لا، اما إذا كان بجهالة فيتزوجها بعد ما

تنقضي عدتها و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين أعذر:

بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم بجهالته انها في عدة، فقال: احدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن اللّه حرم عليه ذلك، و ذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: هو في الأخرى معذور؟ فقال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في ان يتزوجها. و بمضمونها روايات عديدة رواها صاحب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 33

الوسائل في أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

و (منها) ما ورد في الحدود كموثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل شرب الخمر على عهد أبي بكر و عمر و اعتذر بجهله بالتحريم فسألا أمير المؤمنين (ع) فأمر بأن يدار به على مجالس المهاجرين و الأنصار و قال من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله، و بمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة الى غير ذلك من الأخبار التي ذكرها دليلا على المقام فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع كتاب الدرر النجفية.

و الجواب عنها مضافا الى ان بعضها ظاهر في الغفلة لا مطلق الجهل و الغافل قاصر فهو معذور، ان هذه الأخبار (أولا) معارضة بالروايات الدالة على عقاب الجاهل كالمروي في الكافي عن زرارة و محمد بن مسلم و بريد العجلي ان أبا عبد اللّه قال: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، الى غير ذلك من الأخبار التي هي بمضمونها فلا بد من الجمع بينها بحمل هذه على الجاهل المقصر الذي خالف عمله للواقع و حمل تلك على القاصر كما تشعر بذلك صحيحة ابن الحجاج المتقدمة.

و (ثانيا) ان

تلك الأخبار لا بد من الاقتصار فيها على موردها للزوم كثرة التخصيص بالأخبار الدالة على القضاء و الإعادة عند مخالفة الواقع جهلا.

و (ثالثا) بأنه لو كان الجاهل مطلقا معذورا حتى المقصر لزم تضييع الأحكام الدينية إذ لا موجب للبحث عنها و لا داعي لمعرفتها.

الثالث مما استدلوا به: صعوبة معرفة الأحكام الشرعية بالطرق المعتبرة لأنه اما من طريق الاجتهاد و هو مبني على عدالة الوسائط أو بالتقليد و هو مبني على عدالة المجتهد و معرفة العدالة صعبة جدا لأنها لا تحصل غالبا إلا بمعرفة المحرمات و الواجبات، و هم بعد لم يحصلوا شيئا منها لأن الفرض انهم لم يقلدوا و لم يجتهدوا و هكذا لا يمكنهم معرفتها بالشياع أو شهادة العدلين إذ ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 34

معلوم لهم حجيتهما، قال بعض الأخباريين: ان جماعة من الشيوخ و النساء و سكان القرى و الصحاري و من في طبقتهم لو كلفوا بأحد الطريقين لزم منه التكليف بما لا يطاق، و حجج اللّه ما كانوا يأخذون الجهال بأمثال ذلك.

و جوابه انه ان أريد بذلك خصوص الجاهل القاصر عن إدراك ذلك أو الغافل غير المتفطن كما هو ظاهر الاستدلال بصعوبة المعرفة فلا كلام لنا معهم، و إن أرادوا مطلق الجهال كذلك سواء كانوا قاصرين أم مقصرين فهو غير صحيح إذ طرق معرفة العدالة كثيرة و سهلة، منها ان من رأى شخصا مواظبا على صلاته في أوقاتها و يكثر الاستغفار يحصل له اليقين العادي بعدالته، و منها الشياع المفيد للعلم بالعدالة، و منها ان نوع الواجبات و المحرمات بديهية فلا تحتاج إلى المعرفة بالاجتهاد و لا التقليد فإذا رأى الإنسان مطيعا لمولاه فيها علم بعدالته علما

عاديا، و سيجي ء ان شاء اللّه بيان طرق معرفة العدالة.

وظيفة العامي إذا التفت الى ان عمله بدون الأمور الثلاثة

اشارة

إذا كان عمل العامي بدون الأمور الثلاثة المذكورة- أي بدون الاحتياط و الاجتهاد و التقليد- فلا يخلو إما أن يكون غافلا و غير ملتفت الى بطلان الطريق الذي سلكه حتى يموت فلا ريب في عدم وجوب شي ء عليه و لا عقاب عليه حتى لو كان مخالفا عمله للواقع لكونه جاهلا قاصرا. نعم سيجي ء ان شاء اللّه في محله انه هل يجب على وليه القضاء لو كان عمله مخالفا للواقع أم لا، و اما أن يلتفت الى عدم صحة الطريق الذي سلكه بحيث حصل له التزلزل في صحة الاعتماد عليه فيجب عليه عقلا بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة تحصيل العلم أو الاجتهاد أو التقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 35

أو يحتاط خوفا من العقاب و دفعا لاحتمال الضرر الأخروي و بهذا الملاك يجب عليه أن يحصل المعرفة بمطابقة أعماله السابقة للواقع اما بالعلم أو بالاجتهاد أو بالتقليد أو يحتاط بنحو يعلم بفراغ ذمته منها و عدم العقاب عليها، و يمكن أن يقال بجريان أصالة الصحة فيها فلا يجب عليه تحصيل العلم بالمطابقة للواقع كما سيجي ء ان شاء اللّه عما قريب، لكن لما كان يجب عليه بالنسبة للأعمال اللاحقة الاحتياط أو الاجتهاد أو التقليد، فلو اجتهد أو قلد في الوقائع التي تكون من نوع تلك الوقائع الماضية فحينئذ يظهر له بحسب اجتهاده أو تقليده ان تلك الوقائع الماضية إما مطابقة للواقع أو مخالفة له أو يشك في ذلك لنسيانه لكيفيتها، فان وجد أعماله الماضية مطابقة للواقع بحسب علمه أو اجتهاده أو تقليده فلا يجب عليه اعادتها و لا قضاؤها. و ان وجدها مخالفة للواقع بحسب

علمه أو اجتهاده أو تقليده فيجب عليه إعادتها أو قضائها لعدم إتيانه بالواقع بحسب ما عنده من الدليل، و ان شك في أنها مطابقة للواقع أو مخالفة له من جهة نسيانه للكيفية التي أتى بها لعمله، فقد يقال ان الظاهر في العبادات ان كان في الوقت هو وجوب الإعادة لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و للاستصحاب و ان كان خارج الوقت فالأصل البراءة من القضاء لأنه لا يعلم صدق الفوت عليه، و قد يقال بوجوب القضاء عليه من جهة ان استصحاب عدم الإتيان في الوقت يحرز به موضوع وجوب القضاء لأن موضوعه هو الفوت، و الفوت ليس إلا عبارة عن عدم الإتيان أو من جهة ان وجوب القضاء بالأمر الأول لأن تقييده بالوقت من باب تعدد المطلوب و لا أقل من الشك في ذلك فيستصحب التكليف. و قد يقال بوجوب الإعادة في التكاليف الغير الموقتة كالزكاة و الخمس و كالنذور المطلقة و الحج و نحوها دون التكاليف الموقتة لعدم العلم بتحقق موضوع القضاء فيها لان الفوت ليس عبارة عن محض عدم الإتيان.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 36

و الظاهر من الأستاذ كا «ره» «1» انه يذهب إلى وجوب الإعادة و القضاء لقاعدة الاشتغال و الاستصحاب

[التحقيق في أصالة الصحة.]

، و لكن التحقيق انه لا اعادة و لا قضاء للأعمال الماضية المشكوك صحتها من دون فرق بين العبادات و المعاملات لجريان قاعدة الصحة و الفراغ، لشمول قوله (ع) في موثقة ابن أبي يعفور:

«إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه»، و قوله (ع) في موثقة سماعة: «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو»، و لقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة فإن التحقيق ان

المسلم كما يحمل فعل غيره على الصحة كذلك يحمل فعل نفسه على الصحة، و المراد بالصحة الصحة الواقعية و مقتضى ذلك هو عدم وجوب الإعادة و القضاء، و قد حكي عن صاحب الفصول تمسكه بالقاعدة المذكورة في عبادة الجاهل.

إن قلت ان قاعدة الفراغ و الصحة موردهما هو صورة معرفة الواقع يقينا أو بطريق معتبر حين العمل مع عدم الالتفات إلى ان العمل الصادر مطابق له أم لا، فهما مختصان بصورة عدم الشك عند فرض الالتفات، ألا ترى الى التعليل لقاعدة الفراغ الواقع في بعض أدلتها بقوله (ع): «انه حين يتوضأ اذكر» فإنه ظاهر في ان لغوية الشك بعد الفراغ بمناط الاذكرية حين العمل، و عليه فلا يلغى بها إلا الشك في الصحة المستند إلى الغفلة و النسيان لكيفية العمل مع معرفة الواقع حين العمل دون الشك المستند إلى عدم معرفة الواقع حين العمل كما فيما نحن فيه، و قد علل غير واحد من الاعلام أن الحكم بالصحة في قاعدة الفراغ من جهة ظهور الحال من حيث أن العاقل الكامل لا ينصرف عن العمل إلا بعد إكماله و هذا يقتضي أن يكون عارفا بالواقع حين العمل و شكه إنما كان

______________________________

(1) اشارة لاستاذنا المعظم آية اللّه الشيخ محمد كاظم الشيرازي قدس سره.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 37

في العمل باعتبار احتماله أن يكون قد غفل أو نسي بعض خصوصياته و مقوماته و هذا بخلاف ما نحن فيه فإنه لا ظهور لحال فعل الجاهل بالواقع في صحة عمله، و لذا لم يعتمدوا على قاعدة الفراغ و التجاوز في الطهارة فيما إذا علم بأنه لم يحرك خاتمه حين الغسل و كان يصل الماء تحته تارة و

لا يصل أخرى و لم يعتمدوا عليها فيما إذا توضأ بأحد طرفي الشبهة غفلة و احتمل انه صادف الواقع و ما نحن فيه يشبه هذا لكون الجاهل يعلم إجمالا بالتكليف و قد أتى بأحد أفراده، و عليه فمقتضى القاعدة هو الاشتغال، و اما أصالة الصحة فهي على التحقيق ترجع لقاعدة الفراغ و ليست بأصل آخر غيرها.

قلنا: ذكر المرحوم صاحب القوانين و الحاج آقا رضا الهمداني (ره) و غيرهما ما حاصله: ان ليس مدرك الحكم بالصحة منحصرا بالأدلة اللفظية حتى يدعى الانصراف أو يؤخذ بمفهوم العلة على تقدير استفادة العلية و يقيد به عموم الموثقين المذكورتين، بل العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلف نفسه أو مكلف آخر على الصحيح إنما هو الإجماع و السيرة القطعية فإنه لو لا الحمل على الصحة لاختل نظام المعاش و المعاد و لم يقم للمسلمين سوق فضلا عن لزوم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة إذ ما من أحد إلا إذا التفت إلى إعماله الماضية من عباداته و معاملاته إلا و يشك في أكثرها لأجل الجهل بأحكامها أو اقترانها بأمور توجب الشك فيها كما انه لو التفت إلى إعمال غيره يشك في صحتها غالبا فلو بنى على الاعتناء بشكه لضاق عليه العيش كما لا يخفى، و لو كان الوجه في الحمل على الصحة هو ظاهر الحال لاختص الحمل بفعل من عرف أحكامه دون الجاهل مع أن من المعلوم من سيرة الأئمة (ع) و أصحابهم انهم كانوا يعاملون مع العامة في معاملاتهم الفاسدة و تطهيراتهم الخبثية معاملة الصحيح مع ابتناء مذهبهم الفاسد على جواز مباشرة أعيان بعض النجاسات و عدم التحرز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 38

عنها

كيف و السيرة قائمة على حمل أعمال أهل السواد على الصحيح مع انهم لا يعرفون أحكامهم الشرعية غالبا.

هذا كله مع أن ظاهر الأخبار هو الحمل على الصحة مطلقا و لا وجه لتقييدها أو تخصيصها بالتعليل في خبر بكير بن أعين (هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك) لاحتمال أنه تعلل لقاعدة أخرى و ليس بتعليل لقاعدة الفراغ فان الخبر المذكورة يختص بالوضوء لأن الإمام إنما قال ذلك في (الرجل يشك بعد ما يتوضأ) و مجرد قوله (ع) في هذا المورد لا يدل على أنه تعليل لقاعدة الفراغ، بل لعله لبيان قاعدة أخرى جارية في المقام كقاعدة ظهور الحال و نحوها فالأقوى جريان قاعدة الفراغ في جميع موارد الشك، و اما ما ذكره من مسألة الخاتم و الوضوء بأحد أطراف الشبهة فجوابه ما ذكره الحاج آقا رضا (ره) من جريان القاعدة في جميع موارد الشك و لذا لم يستثن أحد من الأعلام من مجراها شيئا من هذه الصور المشكلة، و احتمال غفلتهم عنها مع عموم البلوى بها في غاية البعد ا ه. و يؤكد ذلك رواية الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الخاتم إذا اغتسلت، قال: حوله من مكانه، و قال في الوضوء، تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة، فإن الظاهر أن نفي الإعادة من جهة قاعدة الفراغ و الصحة.

هذا و لكن لا يخفى أن قاعدة الصحة و الفراغ و قاعدة الشك بعد خروج الوقت و قاعدة التجاوز إنما تجري إذا كان الشك بعد حدوث العمل لا في حين العمل لظهور أدلتها في الشك بعد وقوع العمل، و عليه فلا يصح للجاهل أن يتمسك بها

في صحة أجزاء العمل الماضية إذا كان في أثناء العمل، هذا مضافا إلى انه يمكن تصحيح الصلاة بحديث: «لا تعاد الصلاة» و سيجي ء ان شاء اللّه في مبحث الصلاة وجه التمسك بهذا الحديث.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 39

انكشاف الواقع للعامي بالتقليد هل يكون بمطابقة العمل لرأي المجتهد حين العمل أو حين الالتفات

لا يخفى ان عمل الجاهل الذي انكشف له الواقع و لو ظاهرا إذا لم يطابق قول مقلده أو الذي ينبغي أن يقلده فهو باطل و لا يكفي موافقته لأحد الأقوال في المسألة لعدم وجود الحجة الشرعية على صحته، و اما إذا لم يطابق قول مقلده الفعلي أو لم يطابق قول من كان ينبغي له أن يقلده حين العمل ففي صحته إشكال و توضيح الحال و تنقيحه: ان العامي إذا التفت الى ان له أعمال سابقة قد وقعت بدون اجتهاد أو تقليد أو احتياط و لكنها حسب فتوى مقلده الفعلي صحيحة و حسب فتوى المجتهد في حين صدورها باطلة فهل العبرة بفتوى مقلده الفعلي أو بفتوى المجتهد في حين العمل يعني المجتهد الذي كان وظيفته الرجوع اليه حين العمل أو المجتهد الذي رجع اليه حين الالتفات؟ صريح العروة هو الثاني و مبنى الوجهين انه إن قلنا بأن عند عدم العمل بالطريق للواقعيات فالمطلوب هو الواقع.

و المخالفة للطرق و الامارات تكون تجريا محضا إذا كان قد حصل الواقع فالواجب مطابقة المجتهد الثاني لكونه هو الحجة الفعلية على الواقع و الكاشفة عنه دون الأول نظير العلم فعلا بالواقع أو الاجتهاد الفعلي بالواقع. و اما إن قلنا بأن المطلوب هو مؤديات الامارات و الأصول فالواجب هو مطابقة المجتهد الأول لأن مؤدى رأيه هو مؤدى الإمارة في ذلك الوقت فيكون هو المطلوب منه في ذلك الوقت، و يمكن القول

بالاكتفاء بموافقة أحدهما اما لو وافق الأول فقد وافق الحكم الظاهري فإن فتوى المجتهد الأول حكما ظاهريا بالنسبة إليه، فبناء على ان موافقة الحكم الظاهري تجزيه عن الواقع كان ذلك مجزيا عن الواقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 40

و اما لو وافق المجتهد الثاني فقد كان قد أتى بالواقع و هو لا إشكال في إجزائه و لكن التحقيق هو لزوم موافقة رأي المجتهد الثاني لأن المطلوب منه و المعاقب على مخالفته هو الواقع لا مؤدى الامارة و لذا في صورة ما إذا كان العامي المذكور اجتهد أو علم بالواقع يكون المناط هو المعلوم و مؤدى اجتهاده لا رأي المجتهد حين العمل فلو كان هو المطلوب للزم في هاتين الصورتين موافقة رأى المجتهد حين العمل مع انه لم يقل به أحد خصوصا إذا قلنا باعتبار الأخذ و الاستناد لرأي المجتهد في حجية فتواه فالحكم الظاهري لم يكن متحققا بفتوى المجتهد حين العمل و لم يكن رأيه حجة على العامي لأن العامي لم يتحقق منه الأخذ و الاستناد للمجتهد.

إن قلت: ان الدليل على صحة عمله فتوى المجتهد حين العمل لأنها هي التي كانت حجة عليه حين العمل دون غيرها كما هو الفرض، و فتوى المجتهد الثاني إنما كانت حجة عليه بعد العمل، نعم له أن يفتي بأن عملك لما كان موافقا لمجتهد عصرك كنبي العصر أو إمامه يكون صحيحا. كذا ذكره بعضهم.

قلنا: حجية الفتوى و لو في الحال لكنها لما كانت تثبت الواقع فهي تقتضي ثبوته حتى في الزمان الماضي كما هو شأن الامارات و ليست حجيتها مقتصرة على الأعمال المستقبلة و اما عصر النبي فهو ينسخ الحكم فيه و اما الامام فالقول فيه

كالقول في الفتوى فإنه يعمل بما سمعه من إمامه فيما يتعلق بما مضى من أعماله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 41

إذا لم يعلم العامي المقدار من الأعمال المخالفة للواقع

إذا علم المكلف صدور أعمال مخالفة للواقع يقينا أو اجتهادا أو تقليدا و لكن لا يدري مقدارها مثلا يدري انه صدر منه صلاة بلا ركوع و لكن لا يدري انها أربع سنين أو خمس فالواجب عليه القضاء للأقل لدوران الأمر بين الأقل و الأكثر و الأصل البراءة من وجوب الأكثر و هذا يتصور على نحوين (أحدهما) أن يعلم بأن خمس سنين صلى بلا ركوع و لكن يشك في الواجب منها انه أربع أو خمس للشك في بلوغه مثلا أو كان يشتغل بالقضاء استحبابا.

(ثانيهما) أنه يدري ما صلاه كان واجبا و لكن يشك في مقداره إنه أربع أو خمس سنين فهو يدري بأن ما صدر منه من الصلاة المخالفة للواقع كان واجبا عليه و لكن لا يعلم مقدارها ففي كلا الصورتين يجري أصل البراءة من وجوب الزائد عليه لدوران الأمر بين الأقل و الأكثر فإن القضاء على التحقيق انه بأمر جديد و استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت الذي هو موضوع القضاء.

خصوصا و الشك بعد خروج الوقت في الصلاة.

إذا عرض على العامي في أثناء العبادة مسألة لا يعرف حكمها

لا يخفى ان ما يتفق للعامي أثناء قيامه بالعبادة من الشكوك اما أن يحتمل أن يكون ما عرض عليه مبطلا للعبادة كأن خرج منه مذي أو ودي و لا يعلم انه مفسد لصلاته أم لا، فان كان قاصرا في ترك التعلم جاز له رفع اليد عن العبادة لعدم العلم بكون رفع اليد إبطالا للعمل و الأصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 42

البراءة منه أو نقول ان حرمة القطع لا دليل عليها إلا الإجماع و القدر المتيقن منه هو صورة ما إذا أحرز ان إتمامه يكون إتماما للعمل على وجه الصحة كما يجوز له عدم

رفع اليد عن العمل بإتمامه بالبناء على أحد الطرفين برجاء إدراك الواقع و السؤال عن حكمه بعد الصلاة فإن كان مطابقا للواقع صح عمله و أجزأه لأنه قد أتى بالعمل على الوجه المطلوب منه، و القربة المعتبرة في العبادة تتحقق بمجرد احتمال المطلوبية و إلا أعاد العمل. و هذا إذا كان قاصرا في التعلم. و اما إذا كان مقصرا وجب عليه المضي في عمله لأنه معاقب على إبطال العمل على تقدير كونه إبطالا كما هو القاعدة في كل جهل عن تقصير لعدم كونه عذرا عند مخالفة الواقع و لا يجري معه أصل البراءة كما تقدم ذلك في الجاهل المقصر هذا كله إذا عرض عليه في أثناء العبادة ما احتمل كونه مبطلا للعبادة، و اما إذا عرض عليه في أثناء العبادة ما يعلم انه ليس بمبطل لها كما لو شك في القراءة و هو في المحل و لم يعلم الوظيفة عليه ما هي ففي هذه الصورة سواء كان قاصرا في ترك التعلم أو مقصرا يحرم عليه رفع اليد عن العمل و لا بد له من البناء على أحد الطرفين و إتمام العمل للعلم بأن رفع اليد عنه إبطال للعمل فيحرم و عند الفراغ من العمل يرجع لمقلده ليعرف صحة ما أتى به أو فساده. هذا إذا لم يكن أحد الطرفين موافقا للاحتياط، و اما إذا كان موافقا للاحتياط كما إذا شك في وجوب القنوت عليه مع العلم بأنه لا يضر بصحة الصلاة وجب عليه الاحتياط لاحتمال انه بتركه يكون إبطالا للعمل الذي هو محرم إلا إذا كان قاصرا و قلنا بجريان أصل البراءة. و بهذا يظهر لك ما في عروة السيد (ره) و كلام بعض المعلقين

عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 43

وجوب تعلم الأحكام الشرعية على الجاهل

اشارة

قد عرفت فيما تقدم صحة عمل الجاهل إذا طابق الواقع، و فساده عند عدمها يقينا أو اجتهادا أو تقليدا، و اما وجوب تعلمه للاحكام يقينا أو اجتهادا أو تقليدا فقد يقال من باب حكم العقل بالوجوب لدفع الضرر المحتمل لأنه بترك التعلم يحتمل أن يقع في خلاف الواقع بسوء اختياره بمعنى انه يحتمل أن يرتكب المحرم أو يترك الواجب بسوء اختياره فيستحق العقاب و الذم، فوجوب التعلم يكون من باب وجوب الإطاعة و لتحصيل براءة الذمة و الفراغ، و على هذا المبنى يترتب أمور (أحدها) ان الجاهل القاصر الذي لم يلتفت الى وجود واجبات و محرمات عليه كأوائل البلوغ أو التفت و لكن لم يلتفت الى وجود معرفة الواقع عليه بنحو اليقين به أو الاجتهاد فيه أو التقليد للغير أو التفت و لكنه لم يتمكن من التعلم للواقع بأحد الأنحاء الثلاثة فلا إشكال و لا ريب في عدم وجوب تعلمه عقلا للأحكام الشرعية و متعلقاتها لأنه تكليف بغير المقدور و لا يستحق العقاب عند مخالفته للواقع و إنما وجوب التعلم يثبت للمقصر و هو الملتفت الى وجود واجبات و محرمات عليه فهو إذا لم يحتاط في امتثالها اما تشهيا أو للحرج عليه أو لعدم القدرة على ذلك يجب عليه التعلم للأحكام الشرعية يقينا أو اجتهادا أو تقليدا لدفع الضرر المحتمل الذي هو العقاب.

(ثانيها) ان الواجب عليه التعلم بمقدار ما هو محل ابتلائه و لا يمكن التخلص منه كما لو أمكن التوكيل فيه كالزواج و التجارة فإنه لا يجب عليه التعلم لإمكان أن يوكل غيره عنه إذ ما ليس محل ابتلائه لا يحتمل بترك تعلمه أن يقع

في خلاف الواقع فلا يحتمل العقاب و هكذا ما أمكنه التخلص منه، و أما ما شك في انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 44

محل ابتلائه، فقد يقال بوجوب التعلم لأنه باحتمال الابتلاء به يحتمل العقاب على مخالفته، و قد يقال بجريان استصحاب عدم ابتلائه به حتى يرتفع وجوب التعلم له عليه، و دعوى ان الاستصحاب لا يجري في المقام لأن الابتلاء بالشي ء أمر مستقبل و الاستصحاب إنما يجرى في الأمور الحالية فاسدة لأن الاستصحاب يجري في الأمور الحالية و المستقبلة كمن يجرى استصحاب عدم صوم الغد ليرفع وجوب الغسل عليه فعلا، و أورد على هذا الاستصحاب المرحوم النائيني بأن عدم الابتلاء ليس بأثر شرعي و لا ذا أثر شرعي حتى يستصحب عدمه، و اما وجوب التعلم فهو أثر عقلي كما عرفت، و لا يخفى ما فيه فان عدم الابتلاء يرجع الى عدم الحكم الفعلي عليه و هذا بنفسه أثر شرعي كما يستصحب إعدام سائر الأحكام الشرعية عند الشك فيها، فالأولى أن يقال ان هذا الاستصحاب لو أجريناه لزم تفويت أغلب الواجبات بترك التعلم و هذا يقطع بعدم إرادة الشارع له فهو غير جاري. نظير ما يقال من أن أصل العدم غير جاري في القدرة للزوم عدم امتثال الواجبات، إلا اللهم أن يقال لا نسلم وجود الكثرة في محتملات الابتلاء بهذا الحد و ان نوع التكاليف معلوم الابتلاء بها أو عدمه.

و قد يجاب عن الاستصحاب المذكور بأنه محكوم بإطلاق الأدلة الدالة على وجوب التعلم فإنها تشمل صورة القطع بالابتلاء و صورة احتمال الابتلاء، و لكن لا يخفى انها كما عرفت ان وجوبها إرشادي لحكم العقل فلا إطلاق لها و قد (يجاب) عنه بوجود

العلم الإجمالي بالابتلاء ببعض المسائل مدة حياته، فاستصحاب عدم الابتلاء في كل واقعة يحتمل الابتلاء بها معارض في الأخرى و لا يخفى ما فيه فان الوقائع المحتمل الابتلاء بها فعلا ليس عندنا علم إجمالي بالابتلاء بأحدها فعلا. نعم لو وجد حصل التعارض في خصوص ذلك المورد و مجرد العلم الإجمالي بالمخالفة على سبيل التدريج لا يضر بجريان الأصل كما في أصالة الطهارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 45

وجوب تعلم مسائل الشك و السهو
اشارة

و من هنا يتوجه الاشكال على وجوب تعلم مسائل الشك و السهو قبل حصول الشك و السهو مع انه نسب الى المشهور وجوب تعلمها قبل حصولها حتى نسب الى الشيخ الأنصاري (ره) فسق من لم يتعلم مسائل الشك و السهو العامة البلوى، و أيضا يتوجه الاشكال على وجوب تعلم الواجب المشروط أو الموقت قبل حصول شرطه أو وقته مع ذهاب جل العلماء الى وجوب ذلك.

و جوابه: انا لا نسلم ان المشهور يذهبون الى وجوب التعلم مطلقا و إنما يقولون به فيما إذا لم يمكن الامتثال و لو بنحو الاحتياط عند الابتلاء بالتكليف و لا يمكنه التعلم عند الابتلاء به لأن مقدار حكم العقل بوجوب التعلم لأوامر المولى و نواهيه هو فيما إذا كان في معرض الابتلاء به و لو بأن يحتمل أنه يبتلي به و لكن بشرط أن يعلم أو يقوم عنده ما يقوم مقام العلم انه حين الابتلاء به لا يمكنه امتثاله إذا لم يتعلم، و اما إذا احتمل ذلك بأن احتمل انه حين الابتلاء به يمكنه التخلص منه بتعلمه كما في مسائل المواريث أو يمكنه الاحتياط حين الابتلاء به كما في مسائل الطهارة و القصر و التمام أو التوكيل و النيابة عنه

كما في مسائل البيع فالعقل لا يحكم بوجوب التعلم عليه لوجود العذر له بأن يعتذر إني كنت أحتمل التمكن من الواقع، فهذا هو مقدار حكم العقل لا أزيد منه و لا أنقص.

و (الحاصل) ان العلم لما كان ليس بشرط للتكليف، و الجهل ليس بمانع من التكليف، و لذا التكليف مشترك بين العالم و الجاهل، و إنما الجهل يكون عذرا عن امتثال التكليف و مقدار حكم العقل بمعذريّته إنما هو فيما إذا لم يلتفت الى التكليف أصلا أو التفت اليه و لكنه لم يعلم و لم تقم عنده أمارة معتبرة بأنه لا يمكنه التخلص منه إذا لم يتعلم. أما إذا التفت الى التكليف مع قيام العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 46

أو الامارة المعتبرة على الوقوع في خلاف الواقع بالجهل فالعقل يلزمه بالتعلم سواء كان وقت التكليف حضر أم لا و سواء كان مبتلي به فعلا أو قبل الابتلاء به لصحة عقابه على المخالفة عند ما يبتلي به لكون الجهل حينئذ ليس بمعذّر له عن مخالفة الواقع. و لذا لو قال السيد لعبده سافر غدا عند الصباح و كان سفره يتوقف على استعلام الطريق فأخر العبد الاستعلام الى الصباح حتى أوجب تأخره عن السفر عند الصباح استحق عند العقلاء العقاب على تركه السفر في الوقت المعين المستند لترك التعلم الذي تمكن منه قبل الوقت.

و (بعبارة أخرى) ان وجوب التعلم إنما يحكم به العقل حيث لا يكون الجهل عذرا. إن قلت ان التعلم من قبيل المقدمات المفوتة للتكليف قبل تحققه و قد تحقق في محله ان المقدمات المفوتة لا تجب فكذا التعلم ليس بواجب.

قلنا: ان المقدمات المفوتة لما كانت لها دخل في القدرة على

الواجب بحيث بتركها لا قدرة على الواجب فلا تكليف بخلاف ما نحن فيه فان التعلم للتكليف و متعلقه ليس له دخل في القدرة عليه حتى يرتفع الواجب عند عدمه، و لو فرض ان التعلم قد توقفت القدرة عليه كما قيل في تعلم الأعجمي للقراءة فيكون حكمه حكم المقدمة المفوتة، و لا يهمنا تحقيق صغريات الموضوع بعد اتضاح كبرياته. و عليه فيتضح الحال في وجه ما نسب إلى المشهور من وجوب تعلم مسائل الشك و السهو قبل حصول الشك و السهو حتى نسب إلى الشيخ الأنصاري (ره) فسق من لم يتعلمها إذا كانت عامة البلوى و هكذا وجوب تعلم الواجب المشروط و الموقت قبل حصول الوقت و الشرط حتى نسبه بعضهم الى جل العلماء فإنه إنما يجب ذلك إذا احتمل ابتلائه بها و انه عند الابتلاء لا يمكنه الاحتياط و التخلص من مخالفة الواقع كالوقوع في حرمة إبطال العمل، اما إذا لم يلتفت فلا يجب عليه ذلك كما انه لو التفت و لكن لم يحتمل ابتلائه بها ككثير الشك أو كان يمكنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 47

الاحتياط كالشك بين القصر و الإتمام فلا يجب التعلم.

(ثالثها) ان مقتضى ذلك وجوب التعلم فيما لم يحتاط فيه إذ مع الاحتياط قد حصل الواقع فبرئت ذمته فلا يحتمل العقاب على مخالفة الواقع.

(رابعها) ان مقتضى ذلك وجوب التعلم فيما احتمل وجوبه أو حرمته دون ما يقطع بكونه ليس بواجب و لا حرام كشرب ماء الرمان.

(خامسها) ان مقتضى ذلك هو وجوب التعلم للمتفطن و الملتفت الى ذلك إذ مع عدم الالتفات يكون معذورا في مخالفة التكليف.

(سادسها) لا فرق في وجوب التعلم بين الاحكام و متعلقاتها و لا بين

الأحكام التكليفية و لا الوضعية كالجزئية و الشرطية و المانعية. نعم المتعلق إذا كان مرددا بين أمور أحدها خارج عن محل ابتلائه فلا يجب التعلم لا للتكليف و لا لمتعلقاته حيث لا يكون التكليف منجزا عليه.

(سابعها) هو صحة العمل و ان لم يتعلم إذا طاب عمله الواقع فان التعلم على هذا ليس بشرط للعمل خلافا لما سيجي ء ان شاء اللّه من بعضهم من جعله شرطا لصحة العمل.

[أدلة وجوب تعلم الأحكام الشرعية من باب حكم الشرع بوجوبه نفسيا.]

و قد يجعل وجوب التعلم من باب حكم الشرع بوجوبه وجوبا نفسيا كما هو المحكي عن المرحوم الأردبيلي (ره) لقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* فإن الأمر حقيقة في الوجوب، و لما روي في الكافي عن يونس عن بعض أصحابه قال سئل أبو الحسن (ع) هل يسع الناس ترك المسئلة عما يحتاجون فقال لا، و لما روي في الكافي عن زرارة و محمد ابن مسلم و بريد العجلي قالوا جميعا قال أبو عبد اللّه (ع) لحمران بن أعين في شي ء سئله انما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، و لما روي في الكافي عن يونس عمن ذكره عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده و يسأل عن دينه، و لما روي في الكافي عن الصادق (ع) عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 48

رسول اللّه (ص) انه قال طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة، و لما روي في الكافي عن الصادق (ع) انه قال وددت ان أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقهوا، و لما روي في الكافي عن أمير المؤمنين (ع) ان كمال الدين طلب العلم و العمل

به ألا و ان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال و العلم مخزون عند أهله و قد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه، و في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لم يزك له عملا، و لما روي في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة و لا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلت المعرفة على العمل و من لم يعمل فلا معرفة له، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يمكن دعوى تواترها بالمعنى على وجوب تعلم الأحكام الشرعية و التفقه في الدين وجوبا نفسيا شرعيا.

و يمكن المناقشة في دلالتها على ذلك بأن وجوب التعلم لو كان شرعيا لكان وجوب تعلم وجوب التعلم شرعيا أيضا لأنه من سنخه و هلم جرا فيلزم التسلسل في الوجوبات الشرعية نظير ما قيل في وجوب الطاعة فلا بد ان يكون وجوبا عقليا و هذه الاخبار إرشاد إليه. مضافا الى أنه خلاف ما حكي من الاتفاق على ان الجاهل المقصر يعاقب على ترك الواجبات و فعل المحرمات لا على ترك التعلم من حيث هو إلا أن يلتزم صاحب هذا القول بأنه وجوب شرعي تهيئي نظير ما قيل في وجوب الغسل قبل الصوم. مضافا الى لزوم العسر و الحرج بل التكليف بما لا يطاق إذ أحد لا يطيق تعلم سائر الأحكام الشرعية فلو كان ذلك واجبا على الناس و لو بنحو التقليد للزم ترك الناس اشغالهم و أعمالهم لتعلمها إلا ان يلتزم بتخصيصها بمقدار لا يوجب العسر و الحرج مضافا الى وجود القرينة العقلية على ان المراد من تلك الأخبار الإرشاد إلى

حكم العقل و هي بداهة ان العلم انما هو طريق للواقع و انما يراد لتحصيل الواقع. و يؤيد ذلك ما في الكافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 49

عن أبي عبد اللّه (ع) في قوله تعالى إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ قال (ع) يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، و من لم يصدق فعله قوله، فليس بعالم. و يؤيده أيضا ما في الكافي ان أبا عبد اللّه (ع) قال: العامل على، غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا.

و يؤيده أيضا ما رواه الكافي عن الصيقلي قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة و لا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلت المعرفة على العمل و من لم يعمل فلا معرفة له، فان ظاهره ان طلب المعرفة لأجل العمل بقرينة التعليل بقوله: (فمن عرف). و يؤيده أيضا ما رواه الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح. و يؤيده أيضا ما رواه في الكافي عن أبي عبد اللّه العلم مقرون الى العمل فمن علم عمل و من عمل علم و العلم يهتف بالعمل فإن اجابه و إلا ارتحل. و قد يناقش في الوجوب الشرعي للتعلم بأن العلم أمر وجداني فهو ليس بمقدار.

و جوابه ما قرره علماء الكلام من انه مقدور بالواسطة بالرجوع إلى الأدلة أو تقليد الغير.

[أدلة القول بأن معرفة الاحكام الشرعية شرط لصحة العمل.]

و قد يجعل وجوب التعلم للأحكام الشرعية شرطا لصحة العمل عند الشارع فتكون عبادة الجاهل بل و معاملته باطلة حتى لو فرض ان عمله مطابق للواقع على سبيل الاتفاق لانتفاء الشرط المذكور أعني

العلم بالأحكام و استدلوا على ذلك بالروايات الدالة على أنه لا عمل إلا بالمعرفة و لا عمل إلا بدلالة ولي اللّه فإنها ظاهرة في شرطية العلم للعمل مطلقا عبادة كان أو معاملة. و فيه ما لا يخفى فإن الأخبار من أول الفقه الى آخره يسأل فيها عن صحة العمل الصادر من السائل و يجيب الامام (ع) بالصحة فلو كان العلم شرطا للصحة لإجابة الإمام (ع) بالبطلان مضافا الى اتفاقهم على صحة المعاملة المطابقة للواقع من الجاهل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 50

[أدلة القول بأن وجوب المعرفة للأحكام الشرعية من جهة قبح تعجيز العبد نفسه.]

و قد يجعل وجوبها كما في شرح العروة لبعضهم من جهة قبح تعجيز العبد نفسه عن القيام بالواجب في نظر العقل بلا فرق بين المطلق و المشروط و لا بين ما قبل الشرط أو بعده. و لا يخفى انا لو سلمنا حكم العقل بقبح تعجيز العبد نفسه قبل الوجوب مع انه قابل للمنع خصوصا إذا كان لغرض عقلائي كمن قطع يده لمرض فلا نسلم ان ترك التعلم تعجيز للعبد لعدم توقف القدرة على التعلم و إلا لزم عدم اشتراك الجاهل مع العالم لعجزه عن التكليف. و لان ترك التعلم ليس بتعجيز لأن التعجيز هو عبارة عن سلب القدرة على العمل و ليس فيما نحن فيه كانت قدرة على العمل ثمَّ بترك التعلم قد ذهبت عنه حتى يكون تعجيزا و انما هو عجزه السابق ظل مستمرا فتأمل.

[أدلة القول بوجوب المعرفة للاحكام من جهة حفظ غرض المولى.]

و قد يجعل وجوبها من جهة حفظ غرض المولى فإنه يجب عقلا إحراز تحصيل غرض المولى من غير فرق بين المطلق و المشروط بعد الشرط أو قبله كما يظهر من استاذنا المشكيني (ره)، و فيه ما لا يخفى فإنه لا يحكم العقل بوجوب تحصيل غرض المولى قبل تحقق وجوبه عليه.

[أدلة القول بوجوب المعرفة للاحكام من باب وجوب المقدمة.]

و قد يجعل وجوبها من باب وجوب المقدمة و يلتزم في الواجب المشروط و الموقت أو في المقدمة بأحد أمور، اما بالوجوب المعلق فتكون واجبة قبل مجي ء وقت ذيها.

و فيه ان كون التعلم مقدمة وجودية للواجب غير صحيح خصوصا تعلم الحكم فان تعلم الشي ء لا يتوقف وجوده عليه و إنما يتوقف العلم بحصوله عليه بداهة عدم سلب القدرة على الواجب بترك معرفة حكمه و ماهيته و لذا قد يصدر من الجاهل، هذا مع إنه لا يتم عند من ينكر الواجب المعلق.

أو يلتزم بوجوب المقدمة المفوتة، فقد قيل ان المقدمة و إن لم تكن واجبة قبل الوقت و الشرط من حيث كونها مقدمة لكن قد يكون عدم الإتيان بها قبل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 51

ذلك مفوتا للتكليف الآتي في المستقبل، و تفويت التكليف و جعل الإنسان نفسه غير قابل لأمر المولى قبيح عقلا و شرعا، اما عقلا فلما سبق من ذم العقلاء للعبد المأمور بالمسافرة في صباح غد مع عدم تهيئته لمقدمات سفره من الليل، و اما شرعا فلما ورد عن أبي عبد اللّه (ع) في رجل يجنب في السفر فلا يجد إلا الثلج، انه لا يرى له أن يعود الى هذه الأرض. و لما ورد عن أحدهما (ع) في الرجل الذي يقيم بالبلاد في أشهر ليس فيها ماء لأجل المرعى و

إصلاح الإبل انه قال (ع): لا، الى غير ذلك مما يدل على وجوب إبقاء القدرة و عدم جواز فعل ما يخرجه عن أهلية التكليف. و المعرفة و التعلم من هذا القبيل.

و لا يخفى ما فيه لما ذكره صاحب البدائع من أن هذا القبح لو سلم فإنما هو قبح فاعلى لا فعلي إذ لم يصدر منه فعل يذم عليه و يعاقب عليه و العقاب بلا تكليف و معصية لا يصح عند العقلاء و اما الاخبار فهي غير معمول بها في موردها على وجه التحريم بل هي محمولة على الكراهة فكيف يصح الاعتماد عليها في غير موردها لا سيما في خصوص المقام و نحوه من المسائل العقلية.

أو يلتزم بالوجوب التهيئي، فقد قيل انه قد يوجب المولى شيئا لا بالوجوب النفسي الثابت لمصلحة في نفسه و لا بوجوب غيري مترشح من الواجب بل بوجوب أصلي ثابت بدليل مستقل و لكن لمصلحة واجب آخر يسمى بالوجوب التهيئي و ليس هو بوجوب نفسي كما هو واضح لعدم المصلحة في متعلقه و لا يعاقب على مخالفته و لا بوجوب غيري لأنه يجب قبل وجوب الواجب الآخر و لا يتولد منه بل هو نظير الغسل للصوم، و المعرفة و التعلم من هذا القبيل.

و فيه ما لا يخفى فان هذا إنما يتم فيما لو ثبت الوجوب شرعا، و قد عرفت ان الأخبار كلها للإرشاد لحكم العقل و قرائن الأحوال إنما تثبت وجوب المعرفة عقلا لا شرعا كما تقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 52

مبحث الاحتياط

اشارة

و بعد أن انتهى الكلام فيما يلزم من العمل في امتثال التكاليف و حكم من لم يسلك أحد الطرق الثلاثة المذكورة من الاحتياط و الاجتهاد و التقليد

فلا بد لنا من الكلام في كل واحد منها و في صحة الاجتزاء به في امتثال التكليف و ما يتبع ذلك و قدمنا الكلام في الاحتياط لحصول الموافقة القطعية به ثمَّ الاجتهاد لحصول الموافقة الاحتمالية المعتبرة به ثمَّ التقليد لأن الاجتهاد مأخوذ في موضوعه إذ التقليد إنما يكون للمجتهد فنقول:

تعريف الاحتياط:

الاحتياط و يسمى بالموافقة أو الإطاعة الإجمالية القطعية هو ما يحصل به القطع بامتثال التكليف و اليقين بحصول الواقع المطلوب منه من دون استناد الى حجة شرعية كآية قرآنية أو قول معصوم أو فتوى مجتهد أو نحو ذلك في تعيين الواقع.

البرهان على جواز العمل بالاحتياط

اشارة

يجوز العمل بالاحتياط حتى مع التمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بامتثال التكليف من دون فرق بين أن يستلزم الاحتياط تكرار العمل كما لو دار الأمر بين المتباينين كالظهر و الجمعة أو لا يستلزم كما لو كان الشك في الأجزاء و الشرائط مع عدم احتمال المانعية و إلا لزم التكرار و سواء كان العمل عباديا أم لا، مثل ما لو علم إجمالا بأن صيغة النكاح واحدة و لكن تردد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 53

أن لفظ (التزويج) متعد للمفعول الثاني بنفسه أو بالباء و ان لفظ (النكاح) متعد الى المفعول الثاني بنفسه أو بمن، فإنه يجوز له الاحتياط بإتيان جميع الصور و ان تمكن من تحصيل العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بالصيغة الصحيحة. و كذا يجوز له الاحتياط بإتيان الظهر و الجمعة و ان تمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بالواجب الواقعي منهما، و الدليل على جواز الاحتياط و الاكتفاء به هو حكم العقل بأن غرض المولي هو حصول الواقع و إتيان مطلوبه و بالاحتياط يحصل الواقع و مطلوب المولى قطعا، فهو نوع من أنواع الإطاعة التي لا يمكن جعل عدم الإطاعة به مع بقاء المأمور به على مطلوبيته. و على هذا فسند المانع عن الاحتياط لا بد و أن يرجع اما الى عدم حصول الإطاعة به في نظر العقل كما يستفاد من كلام بعضهم من ان الاحتياط

لعب بأمر المولى في نظر العقل أو الى دعوى التقييد في مرادات الشارع بخصوصية غير حاصلة في حال الاحتياط من قبيل القربة التفصيلية، و إلا فلا يعقل المنع عن الإطاعة بالاحتياط بعد تسليم تحقق المطلوب به في نظر العقل بمنع كونه طاعة شرعية أو بمنع كفاية الطاعة الحاصلة به، و لا يعتبر شرط في العمل به إذا تحقق موضوعه و هو ما به يحرز الواقع المشكوك فيه. نعم مع قيام الحجة الشرعية يكون الاحتياط غير واجب لا انه غير مجزي. كما انه لا يرتفع موضوعه إلا مع العلم التفصيلي بالواقع كما انه عند الالتفات الى وقوع الخلاف في جوازه و حرمته كالاحتياط في تكرار العبادة لا بد له من الاجتهاد أو التقليد في جوازه للأمان من العقوبة عليه، و لكن ذلك لا يمنع من حكم العقل بسقوط التكليف به إذا أحرز به الواقع.

نعم قد يكون في تكرار العبادة لا يحرز إسقاط التكليف به لاحتماله اعتبار قصد القربة التفصيلية فيها، و لكن في الحقيقة لا يكون هذا احتياطا لعدم إحراز تحقق الواقع به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 54

[الإيرادات على الاحتياط و هي تبلغ ثلاثة عشر إيرادا.]
[الإيراد الأول على جواز الاحتياط]

و قد يورد أولا على جواز الاحتياط حتى مع التمكن من تحصيل الحجة المعتبرة ان الواجب عليه شي ء واحد، فالإتيان بالعمل مكررا تشريع محرم.

و جوابه ان التشريع هو إدخال ما ليس من الدين أو ما يشك في كونه من الدين في الدين و بالاحتياط لم يصنع ذلك بل إنما أتى بالعمل لاحتمال كونه من الدين لتحصيل الواقع فهو لم يدخل في الدين شيئا بل إنما أراد تحصيل الدين و المحافظة على تحقق ما أراده الشارع منه.

[الإيراد الثاني على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثانيا ما اشتهر بين المتقدمين و أصر عليه بعض المتأخرين في العبادات من أن المعتبر في الطاعة و قصد القربة أن يكون العمل بداعي الأمر بأن يكون انبعاثه الفاعل نحو العمل العبادي عن أمر المولى و في الاحتياط يكون انبعاثه عن احتمال الأمر لا عن نفس الأمر، فإن الذي يعلم بأن هنا أسد ينبعث فراره عن الأسد، و اما من احتمل وجود الأسد فيكون فراره عن الخوف من الأسد لا عن نفس الأسد، و لا أقل من الشك في حصول الامتثال بذلك و الشك في الامتثال يوجب الاشتغال لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

و قد أجاب عنه بعضهم بأن حسن الاحتياط لما كان معلوما فيستكشف الأمر الشرعي بالاحتياط لان كل ما حكم به العقل حكم به الشرع و حينئذ فيكون الأمر معلوما و مجزوما به و يكون الانبعاث عن هذا الأمر فيأتي بالظهر و الجمعة امتثالا للأمر بالاحتياط.

و لا يخفى ما فيه لان حسن الاحتياط من باب حسن الطاعة و لا يستكشف منه أمر شرعي و إلا لزم التسلسل في الأوامر الشرعية، مضافا الى لزوم الدور لأن الأمر بالاحتياط في المقام موقوف على

حسنه فيه، و حسنه فيه موقوف على تحققه فيه، و تحققه فيه موقوف على الأمر به، فتوقف الأمر به على الأمر به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 55

و هو دور باطل و بهذا ظهر فساد ما أجاب به بعضهم عن الإيراد المذكور من وجود أمر شرعي بالاحتياط لقوله (ص): «احتط لدينك». لما عرفت ان الأمر به من قبيل الأمر بالإطاعة فيكون للإرشاد مع انه لا يمكن تصحيح الاحتياط بهذا الأمر إلا على وجه محال، لأن الأمر بالاحتياط فيما نحن فيه موقوف على إمكان الاحتياط فيه و إمكان الاحتياط فيه موقوف على الأمر به لتوقف قصد القربة على الأمر به فيما نحن فيه فيتوقف الأمر على نفسه.

كما ظهر فساد ما أجاب به أيضا بعضهم عن الإيراد المذكور بأن اخبار من بلغ باعتبار دلالتها على استحباب كل واحد من الجمعة و الظهر أو القصر و التمام لبلوغ الثواب بها باعتبار العلم الإجمالي بالتكليف بينها فيكون الأمر الاستحبابي بكل واحد منها مجزوما به فيأتي بالعمل بداعيه.

و وجه الفساد ان هذه الاخبار إنما تدل على استحباب إتيان العمل برجاء إدراك الواقع و فيما نحن فيه الواقع يعلم بعدم إدراكه عند الخصم لاعتبار قصد القربة الجزمي فيه و هو غير مقدور لعدم الجزم بالأمر و لا يعقل أن يكون هو (أمر من بلغ) لأن أمر من بلغ موقوف على التمكن من إدراك الواقع فلو كان ادراك الواقع موقوفا على (أمر من بلغ) لزم توقف الشي ء على نفسه.

و قد أجاب عن الإيراد المذكور أيضا المرحوم آغا ضياء في تقريراته و تبعه بعض المعلقين على العروة أن الداعي في صورة الاحتمال هو نفس الأمر لا احتمال الأمر كما في

صورة العلم فإن الداعي هو نفس الأمر لا العلم به.

و لا يخفى ما في هذا الجواب فإنه لا يعقل أن يدعو شي ء إلى أمر ما لم يكن ذلك الشي ء موجودا فان الداعوية هي الاقتضاء و البعث من المقتضي و مع عدم المقتضي لا اقتضاء يعقل و لا بعث يتصور ففي صورة العلم بالأمر يكون الأمر موجودا و متحققا في النفس فيؤثّر الداعوية و الاقتضاء و البعث، و اما في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 56

صورة الاحتمال لما لم يكن موجودا في النفس فلا يعقل أن يؤثر الاقتضاء فيها و إنما الموجود فيها هو احتماله فيكون نفس الاحتمال هو الداعي.

و الحق في الجواب عن الإيراد المذكور أن اعتبار القربة في العبادات ان كان من الشرع فليس في الشرع عين و لا أثر لاعتبار الجزم به و ان كان من جهة العقل فالعقل يستكفي في مقام الإطاعة بالاحتمال لأن العمل المنبعث عن احتمال الأمر يحكم العقل بصلته بالآمر و القرب به من ساحة المولى بل هو أقوى في الإطاعة فإن من يهرب من احتمال القتل يحكم العقل بأنه أجبن ممن يهرب من نفس القتل و هكذا ترتيب الأثر على احتمال الشي ء يكون أبلغ من ترتيبه على نفس ذلك الشي ء بحكم العقل.

و دعوى انه لا أقل من الشك في امتثال التكليف بذلك و هو يقتضي عدم سقوطه مدفوعة بأنه لا يحتاج سقوط الأمر إلى أزيد من إتيان متعلقه إذ لو بقي مع حصول متعلقه لزم تحصيل الحاصل. نعم لو فرض العلم بعدم حصول الغرض من الأمر بإتيان المأمور به يحدث أمرا آخرا لوجود مناطه و مع الشك فالأصل عدم حدوث الأمر الآخر و لا مجال

لاستصحاب بقاء الغرض لإثبات الأمر لأنه أصل مثبت.

[الإيراد الثالث على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط في العبادات ثالثا ان الاحتياط ينافي نية الوجه توصيفا أو غاية و ينافي قصد التمييز فإن العبادة لا بد و أن يأتي بها بوصف كونها واجبة أو مستحبة أو لوجوبها أو استحبابها كما لا بد أن يميزها و يشخصها عن غيرها مما لم يكن مأمورا به و مع الاحتياط لا يتمكن من ذلك إذ يحتمل كون المأتي به غير واجب و الواجب هو ما أتى به أو يأتي به لاحقا.

و جوابه ما تقدم من جواب الإيراد الثاني من عدم الدليل على اعتباره و العقل حاكم بعدم اعتبار أزيد من قصد القربة في العمل مع ان الإطلاق السكوتي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 57

كاف في نفي اعتبار قصد الوجه عند الشارع، و توضيح ذلك ان الأمور التي لا يلتفت إليها أغلب العامة و ان احتمل العقل الدقيق اعتبارها إلا ان العامة لا يلتفتون إليها، فسكوت المولى عن بيانها دليل على عدم اعتبارها فإنه لو كان يريدها لبيّنها كما بيّن كثيرا من الواجبات التي يحكم بها العقل الدقيق لغفلة العامة عنها، فعدم تعرضه لها مع غفلة العامة عنها لا ينقص عن سكوته عن أصل التكاليف لو كانت مرادة له و لها دخل في حصول الغرض.

[الإيراد الرابع على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط في المعاملات رابعا ان مع الشك في ترتب الأثر على الصيغة لا يكاد يتأتى منه قصد الإنشاء في العقود و الإيقاعات إذ كيف يقصد شيئا من شي ء مع عدم إحراز حصوله به.

و جوابه ان الشك لا يمنع من قصد الإنشاء فإن المتكلم ما دام غير لاغ فهو قاصد لمضمونها و هو قصد الإنشاء، اما ترتب الأثر عليها

فهو وراء ذلك بل حتى مع العلم بعدم ترتب الأثر قد يقصد الإنشاء بالصيغة كما في بيعه للمغصوب

[الإيراد الخامس على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط خامسا ما نقل من الإجماع على عدم جواز الاحتياط و بطلان عمل تارك الاجتهاد و التقليد، و لا أقل من ان ذلك منشأ للشك الملزم بأن الاحتياط في ترك الاحتياط.

و جوابه ما تقدم في مبحث معذورية العامي من أن الإجماع المنقول ليس بحجة و الإجماع المحصل غير حاصل لمخالفة جملة من العلماء كصاحب المدارك (ره) و العلامة الطباطبائي (ره) و جدي كاشف الغطاء (ره) مع انه يحتمل ان مدركه ما ذكر من الوجوه أو ما سيجي ء ان شاء اللّه تعالى من الوجوه. و دعوى ان نقل الإجماع مورث للشك في صحة الإطاعة بالاحتياط فاسدة لما عرفت من حكم العقل بصحة الإطاعة به من باب حكمه بصحة اطاعة كل أمر و ليس ذلك بحكم شرعي و إلا لزم التسلسل في أحكام الشرع. نعم لو كان بحكم الشرع كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 58

نقل الإجماع مورثا للشك.

[الإيراد السادس على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط سادسا استمرار السيرة على عدمه مع التمكن من الحجة الشرعية.

و جوابه ان السيرة إجماع عملي، و لو سلمنا وجودها لكان الجواب عنها هو الجواب عن دعوى الإجماع المتقدم.

[الإيراد السابع على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط سابعا ان أدلة وجوب رجوع المجتهد الى الطرق الشرعية و أدلة وجوب رجوع المقلد للمجتهد تقتضي اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق عند التمكن منها، و ذلك يقتضي بطلان الاحتياط مع التمكن منها، و بعبارة أخرى تقتضي ان المطلوب للشارع هو الواقع من هذه الأدلة، كما ان أدلة الطرق الشرعية للمجتهد تقتضي اشتراط كون الواقع مأخوذا منها لا من التقليد عند التمكن منها، و الحاصل ان المكلف به الفعلي هو مؤدى الطرق لا الواقع بما هو واقع بأن يكون التكليف الواقعي مقيدا بقيام الطرق عليه في مرتبة الواقع أو في مرتبة الفعلية كما ينسب ذلك لصاحب الفصول و أخيه صاحب الحاشية.

و جوابه ان أدلة الطرق كما هو الظاهر منها لبيان الطرق الشرعية للواقع لا لبيان أن مؤداها هو الواقع و لا ان الواقع مقيد بقيامها عليه، مع أنه ان كان المراد انعدام الحكم الواقعي بدون قيام الطرق عليه بحيث يكون الحكم بواقعيته مقيدا بقيام الطرق عليه فهو محال للزوم تقدم الشي ء على نفسه لأن الطرق تتعلق بالواقع فهي متأخرة رتبة عنه تأخر العارض عن معروضه فلو أخذت في متعلقها لزم تقدمها على نفسها و هو محال لوجودها قبل نفسها، مضافا الى لزوم عدم اشتراك الجاهل و العالم في الحكم مع ان الإجماع قائم على وجود حكم واقعي مشترك بينهما أصابه من أصابه و أخطأه من أخطأه. و ان كان المراد ان

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 1، ص: 59

الحكم في مرتبة فعليته و توجهه نحو المكلف مقيد بقيام الطرق عليه بمعنى أن الحكم لم يبلغ إلى درجة الفعلية و التوجه نحو المكلفين إلا بقيام الطرق على واقعه فاذا لم يقم طريق على واقعه لم يبلغ درجة الفعلية و التوجه نحو المكلف فلازم ذلك إهمال ما لم يؤدي إليه الطرق لأن التكليف الموجود فيه غير متوجه للجاهل فلا يكون الحكم مشتركا بين الجاهل و العالم و هو خلاف ما قامت عليه ضرورة المذهب من اشتراكهما، مضافا الى احتياج ذلك الى دليلين دليل يجعل الامارة طريقا للواقع و دليل يجعلها قيدا للحكم الشرعي و مأخوذة في موضوعه مع انه لا دليل عندنا إلا دليل جعلها امارة و طريقا كاشفا عن الواقع، و ان كان المراد ان الحكم في مرتبة تنجزه و حكم العقل باستحقاق العقاب على عصيانه مقيد بكونه مؤدى الطرق فهو صحيح و لكن لا ينفع الخصم، إذ على هذا يكون الحكم متوجها نحو العبد على تقدير وجوده في الواقع فاذا لم يطلع عليه و احتاط سقط عنه لأنه قد أتى به. و أما أدلة الطرق الشرعية للمجتهد لا تقتضي الاشتراط الذي ذكره الخصم. و أدلة التقليد لا يصح القياس عليها لأنها ليست بحجة مع التمكن من الرجوع للطرق الشرعية نظير الأصول العملية فإنها لا يعمل بها مع التمكن من الرجوع للطرق الشرعية.

[الإيراد الثامن أول على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثامنا ان أدلة جواز الاحتياط مقيدة بعدم التمكن من الطرق الشرعية كالامارات المعتبرة و كالتقليد، فمع التمكن منها لم يكن الاحتياط جائزا نظير أدلة جواز الرجوع للأصول العملية فإنها مقيدة بعدم التمكن من الرجوع للأمارات المعتبرة.

و جوابه ان دليل العقل

على الاحتياط غير مقيد بشي ء فكل ما أوجب إحراز الواقع يحكم العقل بإسقاطه للتكليف من دون تقييد لذلك بشي ء من الأشياء.

نعم من الممكن أن يكون محرما عليه ارتكابه لاضراره بالنفس، لكن ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 60

لا يمنع من سقوط التكليف به إذا أحرز به الواقع.

[الإيراد التاسع على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط تاسعا ما ذكره صاحب الفصول و بنى عليه الشيخ الأنصاري في رسائله ان الاحتياط إذا استلزم تكرار العمل مع التمكن من الواقع يعد عند المتشرعة و العرف عابثا و لاعبا بأمر المولى غير مطيع له فان من تردد في القبلة و عنده خمسة أثواب يعلم بطهارة واحد منها و خمسة أشياء يعلم بصحة السجود على واحد منها فيصلي مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة فإن ذلك يعد سفيها و لاعبا بأمر المولى و الفرق بين الصلاة الكثيرة و الصلاتين لا يرجع الى محصل و لأن حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و جوابه ان المستشكل قد جعل المحكّم في اللعبية بأمر المولى و العبثية هو حكم المتشرعة و العرف فإن أراد انهم يحكمون بذلك في جميع الموارد فهو باطل لما نرى من كثير من الموارد يحكم بها العقل و العقلاء و المتشرعة بحسن الاحتياط كما في الدماء و الفروج و الأموال و الاحتياط الخفيف المؤنة و عدم كونه عبثا و لعبا بأمر المولى. و إن أراد انهم يحكمون في بعض الموارد كالمثال الذي ذكره فهو صحيح إلا ان كلامنا في نفس الاحتياط من دون طرو عنوان آخر عليه ثانوي ككونه فيه ضرر محرم أو موجبا للنفرة من الدين الإسلامي أو اختلال النظام أو قتل نفس محترمة أو

ألعب أو نحو ذلك، مع ان مجرد العبثية لا تضر بالطاعة بحيث توجب ارتفاعها و خروجها عن كونها طاعة فإن الشي ء قد يكون عبثا إتيانه و لكنه يحصل المقصود منه كاحترام من لا يستحق الاحترام. و اما دعوى ان حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد فهو قاعدة غير مسلمة و إنما ذكرها علماء العربية و هي ترجع للقياس التمثيلي و قد بينا بطلانه في المنطق.

و اما ما أجاب به الآخوند (ره) و تبعه بعض المعلقين على العروة و بعض المعاصرين في تقريراته من أن الاحتياط لو كان عبثا و لعبا فإنما يكون عبثا و لعبا في كيفية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 61

الإطاعة لا في نفس الإطاعة فان الإطاعة تتحقق بواحد من الأفراد و الباقي يكون عبثا و لعبا، و الحاصل ان العبثية و اللعبية تكون فيما عداه، فلا يخفى ما فيه فان العبثية و اللعبية تتحقق بالمجموع الذي صار بمجموعه عمل واحد و الجميع أجزاؤه بحيث لا يستغني عن بعضه في هذه الحال أعني حال تحصيل البراءة اليقينية بالاحتياط فلا يصح التقرب به و لا بواحد من أجزائه، هذا إذا سلمنا ان العبثية و اللعبية بأمر المولى لا توجب النهي و اما إذا كانت توجب النهي فلا إشكال في انه لا يصح الإتيان لا بالمجموع و لا بأجزائه لأنها حال الانضمام منهي عنها و حال الانفراد لم يتحقق الاحتياط. و اما ما أجاب به الآخوند (ره) أيضا من ان الاحتياط قد يكون ناشئا من غرض عقلائي و لا أقل من جهة العناء في الفحص و الاجتهاد فلا يخفى ما فيه فإنه يرجع الى عروض عنوان ثانوي، و نحن

كلامنا في الاحتياط من حيث هو إلا اللهم أن يرجع الى ما أجبنا عنه.

[الإيراد العاشر على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط عاشرا ان سقوط الأمر مبني على حصول غرض المولى و مع احتمال أن يكون غرضه باقيا يجب الإتيان به على وجه يسقط به الغرض، و نحن نحتمل بعد الاحتياط أن يكون الامتثال التفصيلي مسقطا لغرض المولى دون الإجمالي.

و جوابه انه لا يحتاج سقوط الأمر إلى أزيد من إتيان متعلقه، إذ لو بقي مع حصول متعلقه لزم تحصيل الحاصل، نعم لو علم بعدم حصول الغرض من الأمر يحدث أمرا آخرا لوجود مناطه و مع الشك في بقاء الغرض فاستصحاب بقاء الغرض لإثبات الأمر أصل مثبت لأنه لازم عقلي له و حينئذ فتجري أصالة عدم حدوث أمر جديد و يجزي الاحتياط.

[الإيراد الحادي عشر على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط حادي عشر أن الأخبار الدالة على الصوم للرؤية و الإفطار للرؤية تقتضي عدم جواز الاحتياط بإتيان الصوم لاحتمال وجوبه في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 62

اليوم المشكوك أنه من شعبان أو من رمضان و حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و جوابه ان المراد عدم جواز الصوم بعنوان كونه من رمضان لا لاحتمال وجوبه، و لو سلمناه فهذا يقتضي المنع عنه في خصوص هذا المورد و لعله لحدوث مفسدة فيه اللّه أعلم بها.

[الإيراد الثاني عشر أول على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط ثاني عشر ان الاخبار الدالة على وجوب التعلم تقتضي وجوب معرفة الواقع اجتهادا أو تقليدا أو يقينا و قد تقدم نقل قسم منها في مبحث عدم معذورية الجاهل و لازم ذلك عدم كفاية الاحتياط.

و جوابه ان الظاهر من تلك الروايات ليس هو الوجوب الشرعي بل للإرشاد الى ما حكم به العقل من لزوم المعرفة لأجل عدم إهمال التكاليف بقرينة قوله تعالى أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ و قوله: «هلا تعلمت» فهي لا تنافي حكم العقل بحسن الاحتياط لعدم إهمال التكاليف معه، على ان المعرفة و لو بنحو التقليد تجتمع مع الاحتياط فالإلزام بها لا يتنافى مع الاحتياط. نعم معرفة التكليف على سبيل اليقين يرتفع معها موضوع الاحتياط.

[الإيراد الثالث عشر على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثالث عشر بما في مقبولة عمر بن حنظلة انظروا الى رجل قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا. إلخ و بما في مشهورة أبي خديجة: انظروا الى رجل يعلم شيئا من قضايانا. إلخ فإنه يفهم منها النهي عن العمل بدون الاجتهاد أو التقليد.

و جوابه انها ظاهرة في النهي عن أخذ الأحكام من غير المجتهد لا في النهي عن امتثالها على نحو اليقين.

و ينبغي هنا التنبيه على أمور:

اشارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 63

جواز العمل بالاحتياط إذا لم يتيقن به مشروط بكونه مجتهدا أو مقلدا

(أحدها) انه لا ريب ان الاحتياط كما عرفت يجوز للمقلد و المجتهد و اما القاطع بالحكم فلا يتحقق منه الاحتياط، ثمَّ انه هل يلزم على العامل بالاحتياط الاجتهاد في جوازه أو التقليد، التحقيق انه لا يلزم ذلك لأن جوازه أمر فطري بديهي فإنه عند إحراز تحققه تقتضيه النفوس بصرف طباعها، نعم لو فرض انه قد حدث لأحد الشك في جوازه و لو من جهة وقوع الخلاف في جوازه فإذا أراد العمل به فلا بد أن يكون مجتهدا بجوازه أو مقلدا إذ ليس جوازه حينئذ يكون من الضروريات عنده و لا من اليقينيات لديه، ثمَّ إذا بعد هذا حكم عقله بجوازه لكونه موجبا لليقين بحصول الواقع و غرض المولى بحيث يأمن من العقاب معه كان مجتهدا في جوازه و لم يحتج الى اجتهاد و لا الى تقليد في جوازه كما انه لو كان عنده من الضروريات أو اليقينيات. و من هذا ظهر لك انه يشترط في جواز الاحتياط تشخيص موارده و ان يعرف العامل بالاحتياط كيفية الاحتياط اما يقينا أو اجتهادا أو تقليدا ليقطع بحصول الواقع بالاحتياط إذ بدونه لم يكن احتياطه احتياطا و لا يأمن به من الوقوع في مخالفة الواقع.

إن قلت: مع الشك في جواز الاحتياط إذا عمل على طبقه بدون أن يحصل عند العمل به اليقين به أو الاجتهاد فيه أو التقليد فيه فإنه يجزي لو انكشف انه أتي بالواقع فأي وجه للزوم ذلك؟

قلنا: إنما يجب ذلك بحكم العقل لأجل المؤمن له من العقاب فاذا عمل بالاحتياط مع شكه في جوازه أو كونه احتياطا صحيحا محصلا للواقع لم يكن له مؤمن من العقاب ما

دام لم ينكشف مطابقته للواقع فالوجوب عقلي لا مولوي شرعي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 64

الاحتياط في جزئية شي ء أو شرطيته

(ثانيها) لا بد من الاحتياط في جزئية شي ء أو شرطيته الإتيان به مع ذلك الشي ء، فمن شك في جزئية القنوت للصلاة اكتفى في الاحتياط الإتيان به مع الصلاة في المحل الذي احتمل اعتباره فيها. و لكن لا بد من عدم احتمال مانعيته و إلا لو احتمل ذلك لوجب عليه لو أراد الاحتياط أن يأتي بصلاتين إحداهما بدون القنوت و الأخرى مع القنوت.

انكشاف الواقع في أثناء الاحتياط

(ثالثها) لا إشكال في عدم صحة ترتب آثار الواقع لو أتي ببعض المحتملات قبل انكشاف الواقع، و اما لو أتي ببعض الاحتمالات و انكشف مطابقتها للواقع اما علما أو اجتهادا أو تقليدا أجزأ ذلك و صح له ترتيب آثار الواقع عليه و لا يلزمه الإتيان بباقي الاحتمالات لحصول الواقع عنده.

و قد يورد على ذلك أن الطرق الظاهرية إنما تكون طرقا في حق المجتهد بعد الأخذ بها و العمل بها، و كذا فتوى المجتهد إنما تكون طريقا لمقلده بعد أخذ المقلد لها و بنائه عليها، و المفروض في المقام انه حين العمل لم يكن مجتهدا و لا مقلدا فلم تحصل مطابقة عمله لأحدهما و بعد اجتهاده أو تقليده قد مضي العمل و خرج عن محل ابتلائه فلا يكونان حجة عليه، و بعبارة أخرى ان هذا العمل لم تقم حجة على الاجتزاء به لأنه قبل العمل و حين العمل لم يكن عنده حجة و بعد العمل خرج العمل عن محل ابتلائه و الفرض ان حجية الطرق مقيدة بالأخذ بها حين العمل.

و جوابه مضافا الى عدم تقييد أدلة حجيتها بالأخذ بها بحسب مداليلها اللفظية انه لا يعقل أن تكون الطرق الشرعية حجيتها مقيدة بذلك للزوم الدور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 65

لأن حجيتها

حينئذ تكون متوقفة على الأخذ بها و الأخذ بها لا يصح إلا إذا كانت حجة فيكون موقوفا على حجيتها، فاذن لا فرق في انكشاف الواقع بين أن يكون بالقطع و بين أن يكون بالطرق الشرعية، و انقضاء العمل و خروجه عن محل الابتلاء لا يوجب عدم ترتب آثاره عليه و لا عدم سقوط التكليف بإعادته أو قضائه. نعم من اعتبر قصد القربة و الوجه على نحو اليقين و ادعى في صورة الاحتياط يمكن قصد ذلك بمجموع العملين بأن ينوي الإتيان بهما لتحصيل الفعل المتصف بالوجه، نظير من يصلي مع الضمائم المستحبة بقصد تحصيل الواجب في ضمنها، فتكون عنده الاستدامة على هذا العمل بهذا القصد مستلزمة لمقارنة المأمور به الواقعي لقصد وجهه فإنه على هذا لو أتى ببعض المحتملات و انكشف له الواقع اجتهادا أو تقليدا لم يكن قد أتى بالعمل بقصد الوجه فعليه أن يأتي بباقي المحتملات و لا يجتزي ببعضها لأن ما تحقق منه لم يقع بقصد الوجه على نحو اليقين.

الاحتياط مع الفتوى و بدونها

(رابعها) الاحتياط إذا كان معه الفتوى من المجتهد الذي أمر به سواء كان مسبوقا بالفتوى أو ملحوقا بها كان استحبابيا لأن المطلوب من العامي العمل بالفتوى و لا يجوز للعامي أن يرجع لغيره إذا كان قد قلده فيها. نعم لو كانت فتوى الغير موافقة للاحتياط جاز الرجوع لغيره من باب الاحتياط لا من باب التقليد و لا من باب انه حكم الواقعة في حقه إذ يكون ذلك تشريعا محرما، بل مع الإفتاء لو أمره بأن لا يترك الاحتياط لا يجب عليه متابعته إلا أن يكون ذلك منه رجوعا، و اما إذا لم يكن الاحتياط معه فتوى و يسمى بالاحتياط المطلق فيجوز للمقلد العمل

به أو الرجوع لغيره من المجتهدين و إن كان المحتاط أعلم منهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 66

و قلنا بوجوب تقليد الأعلم. نعم هناك احتياط بنحو الفتوى كالصلاة إلى الجهات الأربعة عند اشتباه القبلة أو وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي فإنه في هذه الصورة لا يجوز الرجوع لغيره إذا كان المفتي أعلم و قلنا بوجوب تقليد الأعلم بخلاف الاحتياط المطلق الذي لا فتوى معه و يفرق بينهما في التعبير ان الاحتياط المطلق كأن يقول المجتهد (الأحوط هو كذا) بخلاف هذا الاحتياط بنحو الفتوى فإنه يقول المجتهد (صل الى الجهات الأربعة عند الاشتباه في القبلة أو اجتنب الإنائين عند العلم بنجاسة أحدهما) أو نحو ذلك من التعابير التي تدل على ان حكم الواقعة هو الاحتياط لا ان حكمها مجهول لديه و الاحتياط طريق لتحصيله.

(مبحث الاجتهاد)

اشارة

تعريفه، شروطه، تقسيمه، أحكامه

[تعاريف الاجتهاد]

[66 تعريف الاجتهاد عند المتقدمين.]
اشارة

قد عرفت ان القوم قدموا البحث عن الاجتهاد على التقليد لأن التقليد تابع له فان الاجتهاد مأخوذ في موضوعه و لا بد لنا من تعريفه لأنه مأخوذ في موضوع الدليل و هو الإجماع و لبيان ما هو موضع النزاع بين الأصوليين و الأخباريين فلا وجه لما ذكره بعضهم من عدم الحاجة لتعريفه لعدم وجود الاجتهاد في موضوع الأدلة، و كيف كان فالاجتهاد في اللغة بذل الجهد و استفراغ الوسع كما في المحكي عن الصحاح و القاموس و المجمع، فتفسيره بتحمل الجهد كما عن شرح العضدي و المعالم تفسير بلازم المعنى، و (الجهد) بضم الجيم هو المشقة و الوسع و الطاقة كما هو المحكي عن الصحاح و القاموس، (و بالفتح) معناه المشقة فيقال: اجتهد في حمل طاق الرحى، و لا يقال: اجتهد في حمل النواة. و ربما جاء الجهد بالفتح أو الضم بمعنى الاجتهاد. و في الاصطلاح على ما عرفه المتقدمون من الأصوليين كابن الحاجب و العلامة الحلي: «استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 67

الظن بالحكم الشرعي» و عليه فيكون المعنى الاصطلاحي منقولا من الاجتهاد بمعنى بذل الجهد بالضم لأنه يكون من نقل الأعم إلى الأخص الذي هو الغالب في المنقولات بخلافه بمعنى بذل الجهد بالفتح فإنه يكون من نقل اللازم الى الملزوم إذ لازم استفراغ الفقيه وسعه هو بذل المشقة. و الشي ء يحمل على الأعم الأغلب، و المراد باستفراغ الوسع هو بذل الطاقة بمقدار اللازم، و المراد بالظن هو الظن المعتبر الذي يكون حجة و إلا فالظن الغير المعتبر بمنزلة العدم و التقييد به لإخراج الضروريات و اليقينيات، و تقييد الحكم بالشرعي لإخراج

الأحكام الغير الشرعية كالعقلية.

[67 الإيرادات على تعريف الاجتهاد عند المتقدمين.]

و يرد عليه أولا: ان الفقيه هو العالم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و هو لا يتحقق إلا بالاجتهاد فتكون معرفة الفقيه متوقفة على الاجتهاد و قد أخذ الفقيه في تعريف الاجتهاد فلزم الدور.

و جوابه ان الفقيه وجوده مستلزم للاجتهاد لا ان تصوره و إدراكه موقوف على إدراك الاجتهاد، و الذي يلزم منه الدور هو الثاني لا الأول، على ان الفقيه قد يأخذ الحكم من الامام (ع) بدون اجتهاد.

و يرد عليه ثانيا: ان مقتضى هذا التعريف أن يكون الاجتهاد متوقفا على كون الشخص فقيها لأخذه في حقيقته مع ان الفقيه متوقف على الاجتهاد لأن الشخص لا يكون فقيها إلا إذا كان عنده اجتهاد بأن يستنبط الحكم الشرعي عن دليله باجتهاد اما بدون اجتهاد فلا يكون استنباطه صحيحا و لا يسمى معه فقيها فيلزم الدور بحسب الوجود.

و جوابه ان المراد بالفقيه في تعريف الاجتهاد هو من عنده القدرة على الاستنباط بمعرفته علم الأصول و نحوه مما يتوقف عليه الاستنباط من العلوم و لا شك ان الاجتهاد موقوف على هذه الملكة و القدرة لأنها في الحقيقة هي ملكة الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 68

و القدرة عليه، و من المحال أن يحصل الشي ء من شخص قبل قدرته عليه، و من المعلوم ان هذه القدرة لا يتوقف حصولها على الاجتهاد لأن الاجتهاد من فروعها و مرتب عليها فلا دور بين الاجتهاد و الفقه بهذا المعنى بحسب الوجود، مع انه يمكن أن يقال ان لفظ (الفقيه) في التعريف عنوان اشارة لا انه مأخوذ في موضوع الاجتهاد بمعنى ان المراد ان الاستفراغ الذي يوجد عند الفقيه هو الاجتهاد نظير ما يقال ان النجارة

هي ملكة النجار فإنه لا يقتضي أن تكون الملكة موقوفة على النجارة بحسب الوجود مع انها سابقة عليها بحسب الوجود.

نعم إنما يقتضي الملازمة معها و ان كانت هي أسبق رتبه في الوجود.

و يرد عليه ثالثا: ان لا وجه للتقييد بالظن لأن استفراغ الوسع لتحصيل القطع في الأحكام القطعية أيضا من الفقه و استنباطها من أدلتها يسمى اجتهادا و جوابه أنه لا يسمى في الاصطلاح اجتهادا، و لذا ما قام عليه الإجماع لا يسمى اجتهادا و ان سمي فقه، و لذا عرف الاجتهاد في محكي الذريعة بأنه استنباط الأحكام الشرعية بغير النصوص بل بما طريقه الامارات و الظنون و الى ذلك نظر البهائي (ره) حيث قال: القطعيات ليست فقها إذ لا اجتهاد فيها، ظنا منه ان الفقه منحصر بالاجتهاد، و حيث كان لا اجتهاد فيها فليست بفقه، و أنت إذا تتبعت حدود القوم للاجتهاد يتبين لك ان المعتبر في أصله النازل منزلة فصله هو الظن و ان من لم يأخذ الظن في تعريفه أخذ ما يجري مجراه من الاستنباط أو الترجيح أو نحوهما، و قد صرح في الفصول ان مصطلح القوم على تخصيص الاجتهاد بالظنيات ناسبا ذلك الى الأكثر مع ان جملة من مباحثهم مختصة بذلك كبحثهم عن حجية الاجتهاد و تجزئته مع ان القطعي لا يبحث عن حجيته و المتجزي قطعه حجة في حقه، بل لعله لهذا حكم الأخباريون ببطلان الاجتهاد بقول مطلق، و لو سلمنا انه اجتهاد فالتعريف يشمله لأنه معه قد استفرغ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 69

وسعه لتحصيل الظن، غاية الأمر قد حصل له القطع، و كيف كان فملكة الاجتهاد موجودة عنده بالنسبة لما حصل القطع عليه و اما

الاجتهاد فلم يحصل له و إنما حصل له القطع بالحكم.

و يرد عليه رابعا: انه يشمل تحصيل الظن الغير المعتبر.

و جوابه ان الظاهر من إطلاقهم هو الظن المعتبر، أعني الحاصل من الأدلة المعتبرة بقرينة ان ما يستفرغ الفقيه لتحصيله هو الظن المعتبر و إلا فالظن الغير المعتبر في حكم العدم فلا يستفرغ الفقيه وسعه لتحصيله.

و يرد عليه خامسا: انه يدخل فيه الاجتهاد لتحصيل الأحكام الشرعية الأصولية سواء كانت من أصول الدين كوجوب معرفة المعاد أو من أصول الفقه كوجوب التعبد بالخبر فكان عليهم أن يقيدوا الأحكام بالفرعية ليخرج ذلك حيث انه ليس باجتهاد في اصطلاحهم.

و جوابه ان التقييد بالفقيه يقتضي ذلك لان الفقه مأخوذ فيه الحكم الشرعي الفرعي. لكن على هذا لا حاجة لأخذ (الشرعي) في التعريف إلا للتوضيح.

و يرد عليه سادسا: ان هذا التعريف ان كان تعريفا للاجتهاد الصحيح فهو غير صحيح لاحتياجه الى قيود أخرى ككونه له ملكة قدسية و نحو ذلك و ان كان للأعم فقيد (الفقيه) لا حاجة له لتحققه بدونه.

و جوابه انه تعريف للصحيح كما هو شأن سائر التعاريف و لا يحتاج الى قيد زائد، لأن المراد به استفراغ الفقيه وسعه على الوجه المعتبر بقرينة (مناسبة الحكم للموضوع) و هو لا يكون بدون الملكة و أخذ الفقيه للاحتراز عن تفريغ العامي وسعه لتحصيل الحكم الشرعي، و إن شئت قلت ان الشروط المذكورة للاجتهاد ما كان منها شرطا لجواز العمل به فلا وجه لأخذه في حقيقته و ما كان شرطا لوجوده فهو مأخوذ في التعريف، على أن الملكة القدسية مأخوذة في التعريف بأخذ لفظ الفقيه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 70

و يرد عليه سابعا: ان كثيرا من المسائل ما تحصل

بأدنى نظر لظهور مدركها فلا تحتاج الى تفريغ وسع فان منها ما يرجع فيه لنفس الامام (ع).

و جوابه انه إن كان يحصل اليقين من مدركها فهو كما عرفت ليس باجتهاد و إن كان مدركها يفيد الظن فلا يعقل أن يحصل ذلك بأدنى نظر فإنه لا أقل من البحث عن وجود معارض لذلك المدرك أو مخصص له أو مقيد، نعم الاستفراغ قد يحتاج في بعض الاحكام الى كثرة الفحص و بعضها الى قلته حسبما يقتضيه مدرك الحكم من الظهور و الخفاء. و الرجوع لنفس الامام (ع) لا يسمى اجتهادا و لذا لا يسمى الرواة عن الأئمة (ع) مجتهدين لأن معرفتهم بالأحكام تحصل بمجرد السماع من الامام شفاها من دون اعمال قوة نظرية في تحصيلها، نعم في زمان الغيبة لا يمكن تحصيل المعرفة بأحكامهم (ع) إلا باعمال النظر، و لذلك لا يسمى النبي (ص) و نفس الأئمة (ع) مجتهدين لأنهم يعلمون بالأحكام و علمهم من دون اعمال قوة نظر بل بالوحي و الانكشاف للواقع.

و يرد عليه ثامنا: ان بعض الأدلة طرق تعبدية لا تفيد الظن كأصل البراءة و الاستصحاب.

و جوابه ان المعتبر في الاجتهاد بذل الوسع لتحصيل الظن و لا يلزم من ذلك أن يحصل الظن فهو نظير الفحص عن الشي ء و نظير السعي لتحصيل شي ء فإنه لا يلزم في تحققها حصول ذلك الشي ء و الاجتهاد كذلك فإنه لا يلزم في حصوله أن يحصل الظن، و لا ريب إنما يكون الرجوع الى الأصول بعد بذل الوسع لتحصيل الظن المعتبر بالحكم الشرعي فقد حصل الاجتهاد عند الرجوع إليها.

و يرد عليه تاسعا: ان الفقيه قد يبذل وسعه و لا يحصل شيئا بل يتوقف في المسألة أو يحتاط. و جوابه

ما سبق في جواب الإيراد الثامن.

و يرد عليه عاشرا: ان المجتهد قد يجتهد ليحصل الظن بالموضوعات لا بالحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 71

الشرعي كمعرفة ماهية الصلاة و كمعرفة الظهر و القبلة.

و جوابه ان اجتهاده في الموضوعات إن كان يرجع الى الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي كالاجتهاد في معرفة ماهية الصلاة فإنه يرجع الى معرفة ما يجب عليه من أجزائها و شرائطها فلا إشكال في دخوله في التعريف و ان كان لا يرجع الى ذلك فلا نسلم انه يسمى اجتهادا عند الأصوليين فإن من قامت عنده البينة على أن هذا المال لزيد لا يسمي ذلك اجتهادا عندهم.

و يرد عليه حادي عشر: ان الاجتهاد إنما يطلق على خصوص تحصيل الظن من غير الكتاب و السنة و التعريف المذكور غير مخصوص بذلك كما في خبر معاذ حين بعثه النبي (ص) قاضيا على اليمن فقال (ص): بما تحكم؟ قال: بما في كتاب اللّه تعالى، قال (ص): فان لم تجد؟ قال: فبما في السنة، قال: فان لم تجد؟ قال:

أجتهد برأيي- الخبر.

و جوابه ان الاجتهاد له إطلاقات (الأول) ما كان في الصدر الأول فإنه كان يطلق على تحصيل الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية كاجتهادات أبي حنيفة و عليه يحمل ما ذكره علماء الرجال من أن بعض أصحابنا صنف كتابا في الرد على الاجتهاد، و عليه يحمل ما عن الذريعة و السرائر من بطلان الاجتهاد عند أصحابنا، و ما ورد عن أئمتنا (ع) من المنع بالعمل بالرأي و الاجتهاد كما كان عمل علماء السنة في قبال الأئمة (ع)، (الثاني) ما عرفته و هو المصطلح في علم الأصول (الثالث) ما هو المعروف في كلام المتشرعة من أصحابنا من

إطلاقه على تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الفرعي سواء كانت علمية أو ظنية و عليه فتندرج القطعيات في الاجتهاد و يتساوى الاجتهاد و الفقه بحسب الوجود و عليه يحمل تعريف الشيخ الأنصاري (ره) بأنه اعمال النظر في تحصيل الحكم الشرعي كما يظهر لمن تتبع كلامه، (الرابع) إطلاقه على ما يعم المتعلق بالمسائل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 72

الأصولية عملية أو اعتقادية، و منه قولهم: هل يجوز التقليد في أصول الدين؟

(الخامس) قد يطلق على كل تحري و احتياط حتى في الموضوعات كما يقال:

اجتهد في القبلة، (السادس) إطلاقه على الملكة التي يقتدر أن يستنبط بها الحكم الشرعي الفرعي من الأصل كما ذكره البهائي (ره) حيث عرّف الاجتهاد بذلك و سيجي ء الكلام منا في هذا المعني للاجتهاد عند الكلام في تعريف البهائي (ره) للاجتهاد ان شاء اللّه تعالى.

و يرد عليه ثاني عشر: ان الفقيه قد يستفرغ وسعه للظن بعدم الحكم و جوابه انه على هذا قد تحقق منه استفراغ الوسع للظن بالحكم الشرعي غاية الأمر لم يحصل عنده، على ان المراد بالحكم وجودا أو عدما.

و يرد عليه ثالث عشر: ان الظاهر من هذا التعريف انه يجب على الفقيه قصد تحصيل الظن من أول الأمر و ليس كذلك بل لا بد له أولا من قصد تحصيل العلم و مع تعذر العلم أو تعسره يكفي تحصيل الظن و لا أقل من أن يكون قاصدا لتحصيل الاعتقاد.

و جوابه ان هذا بيان لحقيقة الاجتهاد عند الأصوليين و ليس لبيان واجب الفقيه.

و يرد عليه رابع عشر: ان المراد باستفراغ الوسع ان كان طول العمر فلا تتحقق رتبة الاجتهاد إلا عند الوفاة و إن أريد في وقت التكليف و الحاجة الى

المسألة فإن كانت شرائط الاجتهاد غير موجودة فهو لا يصح اجتهاده و إن كانت موجودة فهي لا بد و أن تكون على سبيل الاجتهاد و الاجتهاد مراتبه متفاوتة فهو يحتمل عدم الكفاية و لا يصح أن يعتمد على ظنه.

و جوابه انا نريد استفراغ الوسع بالمقدار المتعارف الذي تطمئن به النفس و هذا يكون قبل الحاجة الى المسألة و اما عند الحاجة إليها فإن كان تمكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 73

من استفراغ الوسع المذكور فهو و إلا قلد فيها، و اما استجماعه للشرائط فهو أمر وجداني فان آنس من نفسه ذلك اجتهد و إلا فلا.

و يرد عليه خامس عشر: ما في الفصول من صدق التعريف على استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بفتوى غيره باعمال القوانين اللفظية في استنباط مرامه، إذ يصدق على فتوى المفتي انه حكم شرعي و لو في الجملة، و لا ريب ان الاستفراغ المذكور لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح و كان الواجب أن يزاد في التعريف عن أدلته التفصيلية.

و جوابه ان المراد من الحكم الشرعي بمناسبة الحكم و الموضوع هو حكم المستفرغ و مقلديه لا حكم غيره و غير مقلديه، إلا اللهم أن يقال بانسداد باب العلم و حجية فتوى المجتهد إذا أفادت الظن بالحكم فحينئذ يكون استفراغ الوسع المذكور من الاجتهاد.

تعريف المتأخرين للاجتهاد
اشارة

هذا غاية الكلام في تعريف المتقدمين من الأصوليين للاجتهاد، و اما المتأخرون فالكثير منهم قد تابعوا المرحوم الشيخ البهائي (ره) في تعريفه ب (الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن الأصل فعلا أو قوة قريبة) و المراد بالملكة بحسب الظاهر أعم من أن تكون عامة كملكة المجتهد المطلق أو خاصة كملكة المجتهد المتجزي

التي صارت له في بعض أبواب الفقه كالصلاة و نحوها دون بعض كالمواريث و نحوها، كما ان المراد بها بحسب الظاهر أعم من الملكة العلمية التي يحصل بها العلم بالحكم أو الظنية التي يحصل بها الظن بالحكم، كما ان المراد بها بحسب الظاهر أعم من الملكة لتحصيل الحكم الظاهري أو الواقعي، و جعل الاجتهاد عبارة عن الملكة يقتضي خروج من كان يستنبط الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 74

الشرعي الفرعي عن أدلته اتفاقا أو تلقينا فإنه يسمى (حالا) لا ملكة فان العوارض الصادرة من الإنسان إذا لم تكن مستندة للغريزة أو الاستعداد الموجود عنده يسمى في الاصطلاح بالحال، و لذا البخيل لو أكرم يسمى كرمه كرما حاليا فكذا في المثال المذكور يسمى اجتهادا حاليا إذا لم يؤخذ في الاجتهاد قيد (الفقيه) و إلا فهو عارض حالي كسائر العوارض لا اجتهاد حالي. و عبر بقوله (يقتدر) دون يقدر لأنه مأخوذ من الاقتدار الذي هو القدرة التامة. و عبر (بالاستنباط) دون الإثبات لأن الاجتهاد يكون في الظنيات و ليس فيها إثبات. و خرج بقوله (عن الأصل) الضروري كالصلاة. و قوله (فعلا أو قوة) قيد للاستنباط لا للملكة و إلا لزم دخول من ليس بمجتهد ممن كان له تهيؤ و استعداد لأن تصير عنده الملكة المذكورة. و المراد بهما ان الاستنباط قد يكون فعليا كمن يعمل فعلا لاستخراج الحكم الشرعي من أدلته و قد يكون بالقوة و هو من لم يستنبط بالفعل لمشغوليته بعمل آخر أو لعدم حضور الأدلة عنده فعلا مع وجود الملكة المذكورة لديه و خرج بقوله (القوة القريبة) من كان عنده ملكة الاستنباط بالقوة البعيدة كبعض الفلاسفة، و قد تخيل استاذنا المشكيني

(ره) تبعا لجمع من الأفاضل ان تعريف البهائي (ره) تعريف للاجتهاد بالملكة، و ان تعريف المتقدمين تعريف للاجتهاد بالفعل حتى سمى بعضهم تعريف البهائي (ره) بالتعريف الملكي للاجتهاد، و التعريف المتقدم بالتعريف الحالي أو الفعلي للاجتهاد. و لا يخفي ما فيه بدليل ان ملكة الشي ء هي الملكة على فعليته فلو كان المراد تعريف الاجتهاد بالملكة لقالوا ملكة يقتدر بها على (الاستفراغ) المذكور في تعريف المتقدمين.

نعم هذه الملكة المذكورة يمكن أن يقال انها مستلزمة للملكة التي يقتدر بها على (الاستفراغ) المذكور في تعريف المتقدمين، كيف و الظاهر من كلمات المتأخرين ان هذا التعريف لبيان المعنى الاصطلاحي في مقابل ما ذكره المتقدمون في بيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 75

معناه الاصطلاحي فيكون عند المتأخرين الاجتهاد بالفعل هو تلك الملكة.

[الإيرادات على تعريفهم للاجتهاد.]

و كيف كان فيرد على هذا التعريف أولا: ان الذي دعا المعرّفين به إلى ذلك هو إشاعة صدق (المجتهد) عند الأصوليين على من عنده ملكة الاجتهاد و إن لم يكن قائما بعملية الاجتهاد، فيقال للمرجع الديني (مجتهد) و إن كان نائما، و لكن التحقيق ان كلامنا في نفس المصدر- أعني الاجتهاد- لأنه هو محل البحث عند الأصوليين و هو لم يعهد إطلاقه بنحو الحقيقة على الملكة أصلا فلا يقال للملكة المذكورة عند المرجع الديني (اجتهاد) لا عند الأصوليين و لا عند غيرهم، و صدق المشتق لا يلزم منه صدق مصدره، لأن المشتق قد يصدق على من تلبس بالمصدر فعلا أو شأنا، ألا ترى ان لفظ النجار يطلق على من صنعته النجارة و إن كان نائما مع عدم صدق النجارة على ما عنده من الملكة، و بهذا ظهر لك ما في الفصول و كفاية الآخوند و

غيرهما من ظهور لفظ الاجتهاد في الملكة المذكورة، و لعل الذي دعاهم إلى ذلك مضافا الى ما ذكرناه هو تقسيمهم الاجتهاد إلى مطلق و متجزي مع انه كما سيجي ء إن شاء اللّه انه تقسيم للاجتهاد بمعنى الملكة.

و يرد عليه ثانيا: بلزوم حصر إطلاق الاجتهاد على الملكة المذكورة دون الاستفراغ المذكور لأنه على رأيهم انها هي معناه و هو خلاف ما ذكره الأكثرون. و خلاف المتبادر من إطلاقه و يرد عليه ثالثا: بزيادة قيد فعلا لأن ذلك مأخوذ في معنى الاستنباط.

و يرد عليه رابعا: ان من كان مراهقا للاجتهاد و عنده قوة قريبة منه، فان تلك القوة يصدق عليها التعريف المذكور مع انها ليست باجتهاد و لا صاحبها يسمى بمجتهد.

(تعريف صاحب الكفاية للاجتهاد)

و قد عرّفه صاحب الكفاية بتعريف المتقدمين السابق بتبديل الظن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 76

بالحجة و يرد عليه (أولا) ما سيجي ء ان شاء اللّه ان هذا المعنى لم يكن محطا للنفي و الإثبات و (ثانيا) شموله لصورة حصول القطع فإنه ليس باجتهاد عندهم و ان كان ذلك لا ينافي وجود ملكة الاجتهاد عنده بالنسبة لما قطع به كما سيجي ء ان شاء اللّه. و (ثالثا) ما ذكره بعض المحشين ان الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الحكم لا لتحصيل الحجة فتحصيل الحكم من الحجة اجتهاد لا تحصيل الحجة القطعية للحكم- انتهى. و لا يخفى ما في جعله الاجتهاد تحصيلا للحكم من الحجة فإنه يلزم في صورة عدم تحصيله من الحجة أن لا يكون اجتهادا كما لو حصل باستفراغه الجهل المركب بالحكم فإنه لم يحصل الحكم الواقعي و لا الفعلي من الحجة التي هي العلم إلا أن يلتزم بما ذكرناه في الجواب عن الإيراد الثامن

على تعريف الاجتهاد للمتقدمين. و (رابعا) شموله لصورة حصول العلم بالحكم من الطرق الغير المتعارفة، كما لو حصله بالجفر أو الرمل أو الكشف أو استحضار الأرواح فإن العلم حجة عليه و لكن لا يسمى مجتهدا و مما ذكرنا يظهر لك ما في تعريف المرحوم آغا ضياء من أن الاجتهاد هو اعمال القواعد لاستخراج الأحكام. مع انه لا بد أن يكون مراده القواعد الأصولية لاستخراج الأحكام الشرعية الفرعية سواء كانت واقعية أو ظاهرية مع انه لم يقيد بذلك.

و ينبغي التنبيه على أمرين:
الدليل الاجتهادي و الدليل الفقاهتي

(أحدهما) انه قد تعارف في ألسنة الفقهاء خصوصا في العصور المتأخرة أن يسمّوا الدليل على الحكم الظاهري كالأصول الأربعة بدليل فقاهتي باعتبار ان الفقه هو العلم بالأحكام و هذه تفيد العلم بالحكم الظاهري، و أن يسمّوا الدليل الدال على الحكم الواقعي كالكتاب و الامارة المعتبرة و غير ذلك مما يفيد الظن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 77

بالحكم الواقعي بدليل اجتهادي باعتبار أن الاجتهاد لتحصيل الظن بالواقع و هذه تفيد الظن بالحكم الواقعي.

الفرق بين المجتهد و الفقيه و القاضي و المفتي و الحاكم و الزعيم الديني

(ثانيهما) ان الفرق بين هذه العناوين الخمسة ان الشخص باعتبار استفراغ وسعه لتحصيل الظن بالحكم الشرعي يسمى مجتهدا لأن الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي، و باعتبار علمه بالحكم الشرعي الفرعي الواقعي أو الظاهري عن دليله يسمى فقيها لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، و باعتبار قضائه لرفع المنازعات يسمى قاضيا و حاكما لأن القضاء هو الفصل بين الخصومات. و باعتبار إخباره عن حكم الواقعة و فتواه به يسمى مفتي، و باعتبار انه له الولاية على الأنام و موكول له تدبير النظام و يحتل مركز الامام و يتولى شؤون المسلمين في أمور الدنيا و الدين. يسمى إماما و زعيما دينيا و هذا العنوان الأخير لا يتحقق بدون أن تتوفر فيه العناوين المذكورة كما هو واضح بخلاف البقية فإنه قد يتحقق بعضها دون بعض، فلو قلنا بأن الفسق مانع من القضاء فيتحقق المجتهد بدون عنوان القاضي فيما إذا كان المجتهد فاسقا، و كذا قد يتحقق القاضي بدون المجتهد لو قلنا بأن للمجتهد نصب العامي قاضيا، و اعلم ان لكل من هذه العناوين أحكاما فهو باعتبار انه مجتهد له أن يعمل بما أدى اليه نظره و يجوز

للعامي تقليده و لا يجوز له أن يقلد الغير، نعم ربما يجوز أن يستند الى قول مجتهد آخر من باب التأييد لرأيه و الترجيح بالمرجحات الاجتهادية كما سيجئ إن شاء اللّه كما أنه باعتبار أنه قاض يحل الخصومات و يحكم في الموضوعات المشتبهة كالهلال و نحوه و باعتباره أنه إمام و رئيس ديني يتولى شؤون القصر و مال الغائبين و غير ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 78

شروط الاجتهاد

اشارة

و حيث قد انتهى بنا المطاف من تعريف الاجتهاد شرعنا في بيان شروطه جريا على المتعارف عند القوم من ذكر شروط الاجتهاد بعد تعريفه، و مرادهم بها الأمور التي يتوقف على حصولها الاجتهاد سواء كان الاجتهاد المطلق أو المتجزي و لا يصح بدونها. و هي نوعان: نوع شرائط لتحققه، و نوع شرائط لصحته، كما ان منها ما هي شرائط للاجتهاد الملكي، و ما هي شرائط للاجتهاد الحالي و لا بد من إحراز المجتهد لها بالنسبة إلى إفتائه و حكومته، و هل يلزم ذلك بالنسبة إلى رجوع الغير إليه في الأخذ بفتواه؟ بمعنى ان المجتهد إذا كان شاكا في وجود الشرائط فيه و كان الغير عالما بتحققها فيه، فهل يجوز للغير الرجوع إليه أم لا؟ وجهان من وجوب الاقتصار على المتيقن و هو تقليد العالم بوجود شرائط الاجتهاد عنده و من عموم أدلة الرجوع، و يتصور ذلك في الأخذ برأيه فيما إذا لم يكن في مقام الفتوى بأن كان في مقام التدريس أو التحرير أو كان في مقام الترجيح و الاستدلال لا في مقام الفتوى إذ أنه لو كان في مقام الإفتاء فلا يجوز الرجوع إليه، لأنه ذلك قادح في العدالة التي هي من شرائط جواز

الرجوع اليه، ثمَّ انها هل هي شروط لعمل نفسه برأيه؟ التحقيق ان عمل المكلف برأيه تابع لقناعته فيجوز له في العمل بالمسألة أن يأخذ مقدماتها باجتهاد و يأخذ بعض مقدماتها عن تقليد صحيح في نظره فمثلا قلد في حجية الخبر لمن يرى صحة تقليده في ذلك و اجتهد في حجية الظهور فاستنتج الحكم الشرعي فإنه في هذه الصورة يصح العمل برأيه لنفسه لحصول الدليل المعتبر عليه في نظره، و لكن لا يجوز له الفتوى للغير بذلك لأنه ليس مجتهدا بهذه المسألة لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات فيكون مقلدا في هذه المسألة و جاهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 79

بها، و كيف كان فللاجتهاد شروط ذكرها القوم:

(الشرط الأول- معرفة العربية):
اشارة

بأن يعرف اللغة العربية مادة و المتكفل لذلك علم متن اللغة لأنه يبين معاني الألفاظ العربية، و بأن يعرف اللغة العربية هيئة و تركيبا و المتكفل لذلك علم النحو و الصرف و يدخل في ذلك معرفة المعاني العرفية الثابتة في زمان النبي (ص) و الأئمة (ع) و اصطلاحات الفقهاء. و اما علم المعاني و البيان و البديع فسيجي ء الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى فيما يتوهم اعتباره في الاجتهاد، و الدليل على ذلك ان اللازم على المجتهد تحصيل الاحكام من مداركها، و لا ريب ان من مداركها الكتاب و السنة و هي واردة باللغة العربية كما عليه أن يراجع كلمات الفقهاء لمعرفة الإجماعات و الشهرة و أدلة الخصم و هي أيضا نوعها باللغة العربية فما لم يعرفها الإنسان بموادها و هيئتها لم يكن يفهم الكتاب و لا السنة و لا كلمات الأصحاب.

و ربما أورد على هذا بأن معرفة ما ذكر ليس بشرط مطلقا إذ يمكن أن

يعرف الاحكام بالكشف و الجفر و الرؤيا و الرمل و النجوم و نحو ذلك.

و جوابه أن كلامنا حسب المتعارف و العادة و ما ذكره هو خلاف المتعارف و العادة مضافا إلى أنها لا تفيد إلا الظن و لا دليل على حجية الظن الحاصل منها و ربما أورد أيضا بأنه يمكن استخراج الحكم الشرعي من الكتاب و السنة بالكشف و الرمل و الجفر و نحوه و لا حاجة للعلوم المذكورة.

و جوابه كما تقدم من أن كلامنا على حسب المتعارف، فالعلوم المذكورة شروط بحسب جريان العادة مضافا إلى أن مثل الجفر و نحوه إن أوجب العلم بالدلالة فلا كلام لنا فيه و إن أوجب الظن أو الظهور للفظ في المعنى فلا دليل لنا على حجية هذا الظن و الظهور، و ينبغي هنا التعرض لجهات:

(إحداها): انه يكفي في الأمور المذكورة الذوق السليم

و الطبع المستقيم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 80

لعدم الدليل على لابدية تعلم تلك العلوم و إنما هي مقدمة لمعرفة الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب و هي قد تحصل بالجبلة و الفطرة و النشأة العربية كما كان لأصحابنا السابقين، نعم في هذا العصر لما كان حصول ذلك يكاد أن يكون محالا فلا جرم كان معرفة العلوم المذكورة شرطا.

(ثانيها) [حجية قول اللغوي و تحرير محل النزاع فيه.]
اشارة

انه هل يكفي في معرفة تلك العلوم التقليد أم لا بد من الاجتهاد أو كلاهما جائزان أم لا بد له من العلم العادي من التواتر أو الاستقراء أو نحو ذلك. و هذه هي المسألة المعنونة في كتب الأصول بحجية قول اللغوي، فإن محل النزاع فيها هو ثبوت الأوضاع اللغوية بقول علماء اللغة سواء كان لمفردات اللغة أو لتراكيبها مع الغض عن خصوص الكتاب و السنة، فان الكلام في إثبات اللغة من حيث هي و إن لم يكن شرع أصلا كما يشهد لذلك عنوانهم لهذا البحث و عبائرهم و أدلتهم. نعم يندرج فيه البحث عن ألفاظ الكتاب و السنة و التراكيب الموجودة فيها لكونه من جزئيات هذه المسألة، بل بعضهم عمم النزاع لسائر المباحث اللفظية و قواعد اللغة سواء كان الوضع شخصيا أو نوعيا و سواء كان الواضع أهل اللغة أو الشرع أو أهل الاصطلاح. و ليعلم ان محل النزاع إنما هو في صورة عدم العلم بالمعارض لقول اللغوي بالنفي و الإثبات لا ما إذا أمكن الجمع بالحمل على الاشتراك اللفظي أو المعنوي بشاهد خارجي أو داخلي، كما ان محل النزاع أيضا هو صورة سلامته من الاستشهاد بما لا يدل على دعواه و عدم العلم ببنائه في استفادته المعاني الحقيقية على أصل فاسد و

عدم العلم بتعمده للكذب و المسامحة و عدم المبالاة فإن ذلك مما يوجب الوهن في نقله و بناء العقلاء على عدم الأخذ بقوله، كما ان محل النزاع أيضا هو صورة ما إذا استفيد من قوله ان هذا معنى حقيقي للفظ و ذاك معنى مجازي له و إلا لا يعقل ان أحدا يلتزم بكون قول اللغوي هذا اللفظ من معانيه كذا، ان هذا المعنى هو المعنى الحقيقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 81

للفظ مع فرض ان قول اللغوي لا دلالة له على ذلك فإن حجية قول اللغوي عند الجميع بنحو الكاشفية، و لذا يشكل التمييز بين المعاني الحقيقية و المجازية في بعض الكتب اللغوية التي لم تأخذ على عاتقها التمييز. نعم قد يستفاد من بعض الكتب المعنى الحقيقي للفظ إذا عبر بقوله هذا اللفظ لكذا، و قد يستفاد المعنى المجازي إذا عبر ب (يقال) أو (يطلق) أو (جاء) أو (يجي ء)، و قد يستفاد انه حقيقة بذكره له أول المعاني باعتبار ان المجاز لا يقدم على المعنى الحقيقي، كما ان محل النزاع هو صورة عدم استفادة القطع بالمعنى إذ مع القطع لا إشكال في الحجية.

[الأدلة على حجية قول اللغوي]
اشارة

و كيف كان فقد استدلوا على حجية قول اللغوي و إن لم يفد العلم بأمور:

(الأول) الإجماع العملي و هو المسمى بالسيرة

و هو اتفاق العلماء و سائر العقلاء في جميع الأمصار و الأعصار على الرجوع الى اللغويين في استعلام اللغات و الاستشهاد بأقوالهم في مقام المحاجات من دون توقف و لا إنكار، ألا ترى الى المفسرين و المحدثين و الفقهاء و الأصوليين و الأدباء و غيرهم على كثرتهم و اختلاف فنونهم و علومهم لم يزالوا في وضع اللغات و تعيين معاني الألفاظ يتمسكون بأقوال أهل اللغة و يرجعون الى الكتب المدونة فيها و إن كان مصنفوها من الفسقة و ليسوا بعدول و لا بررة، و قد حكي هذا الإجماع عن جدي كاشف الغطاء و السيد محسن الكاظمي و السيد المرتضى و العلامة و السبزواري و الطباطبائي و غيرهم. و الأئمة (ع) قد أمضوا هذه السيرة فإنها كانت في زمانهم، فان الخليل بن أحمد كان في زمانهم و هو مرجع من مراجع أهل اللغة و قد ألف كتاب العين في اللغة و هكذا كان مثل سيبويه و الكسائي و أضرابهم من علماء اللغة في عصرهم عليهم السلام، و أمير المؤمنين (ع) هو علّم أبا الأسود الدئلي النحو و أمره أن يعلّم الناس، و لعل عصور الأئمة المتأخرة من أعظم عصور ازدهار علوم اللغة العربية، و لا ينكر معروفيتها في زمانهم (ع) و الرجوع الى أربابها في أيامهم إلا مكابر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 82

لا اطلاع له بحقائق التاريخ و مسلماته و لم يحصل الردع منهم (ع)، و هذا أدل دليل على تقريرهم لحجية قول اللغوي و إمضائهم له. و الغريب من بعضهم من أهل العصر في شرحه على

الكفاية منع من ثبوت إمضاء الشارع لهذه السيرة، و ان الثابت هو العدم.

و قد أورد على هذا الاستدلال المرحوم الشيخ الأنصاري و غيره بأن المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع الى اللغويين مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا، ألا ترى ان أكثر علمائنا على اعتبار العدالة في من يرجع اليه من أهل الرجال و بعضهم على اعتبار التعدد، و الظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد و العدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم و غيرها.

و جوابه انه قد عرفت ان هذه المسألة لا ربط لها بالشرعيات حتى يكون الثبوت فيها من باب الشهادة، و لذا لم يلتفت أحد إلى اعتبار شروط الشهادة فيها و أما مسألة علم الرجال و أهل الخبرة فلا ربط له بمسألتنا هذه حيث ان لهما جهة شرعية بخلاف مسألتنا، و لذا أكثر من ذهب في المسألتين إلى التعدد و العدالة لم يشترط ذلك في مسألتنا، كما انه لا نمنع من باب التقليد الأخذ بقول واحد من علماء الرجال لكن لما كان لا يجوز للمجتهد التقليد في مقدمات الاجتهاد كان لا بد له من قيام الحجة عنده على صحة الراوي.

(الثاني) من أدلتهم ان قول اللغوي من الخبر الواحد

، و قد قامت الأدلة على حجية الخبر الواحد.

و فيه ان أدلة حجية الخبر الواحد إنما دلت على قبوله في الأحكام الشرعية المنقولة عن المعصوم (ع) لا في الموضوعات الخارجية كما قررناه في مباحث الأصول.

(الثالث) من أدلتهم هو عموم البلوى باستعمال اللغات و انسداد باب العلم فيها

غالبا لأنها من الأمور النقلية التي لا مجال للعقل فيها فلا طريق لمعرفتها إلا بالمراجعة لكتب اللغة و الأخذ بقول اللغويين في معرفتها لأنه أقرب طرق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 83

الإيصال لمعرفتها. و ربما يقرر هذا الدليل بالنسبة لحجية قول اللغوي في ألفاظ الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب بدعوى انه لا طريق إلى معرفة تلك الألفاظ إلا قول اللغوي مع وجود العلم الإجمالي بالتكاليف في مواردها فلو لم يكن حجة فاما أن نحتاط و هو عسر أو نرجع إلى الأصول العملية فيلزم طرح العلم الإجمالي بالتكاليف المتعلقة بتلك الموضوعات فحينئذ لا محيص عن العمل بقول اللغوي لأنه أقرب الطرق.

و جوابه انا لا نسلم انسداد باب العلم فيها لحصول تظافر النقل للمعاني من أهل اللغة، بل الظاهر كما أفيد عدم الحاجة الى نقله. ضرورة انك لو نظرت من أول الفقه الى آخره لا ترى لفظا يتوقف معرفة معناه على حجية قوله لأنها بين ما هي واضحة المعنى و هو الأكثر و بين ما صار بكثرة النص عليه مقطوعا بمعناه كلفظ الصعيد و الطهور و ما أشبهها و بين ما لم يوقف له على معنى بتمامه فاقتصر على القدر المتيقن منه كلفظ الغني و ما أشبهه، و اما ما عدا متن اللغة فهو واضح المعنى مع انا لا نسلم الحرج في الاحتياط فيما لم نعرف معناه و لا طرح العلم الإجمالي بالرجوع للأصول لقلة ذلك مع ان

قول اللغوي ليس بأقرب الطرق و إنما الظن هو أقرب الطرق فيكون العمل عليه و لو حصل من طيران الغراب.

(الرابع) من أدلتهم انه من أهل الخبرة و أهل المعرفة

، فالرجوع اليه يكون من باب الرجوع الى أهل الخبرة و من باب رجوع الجاهل الى العالم و قد قامت السيرة العملية على صحة الرجوع لأهل الخبرة في كل فن و علم من دون حاجة لتعدد الشهادة، و لا اعتبار العدالة.

و دعوى أن اللغوي لا يكون من أهل الخبرة كما صدر ذلك عن المرحوم الآخوند في كفايته، و استدل لهذه الدعوى بعض أساتذة العصر في تقريراته بأن إخباره عن حس لا عن حدس و إعمال رأى و نظر. و الرجوع لأهل الخبرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 84

يكون في الثاني، و اما الأول فبابه باب الشهادة، غير صحيحة فإن علماء اللغة خصوصا المتقدمين منهم قد جدوا و اجتهدوا في معرفة مداليل الألفاظ و تركيبها، و لاحظوا حتى شواذ اللغة، و أخرجوا تلك القواعد و المعاني للغتهم بسهر الليالي و تعب الأيام باعمال نظرهم و حدسهم إذ هم لم يروا الواضع و لم يسمعوا منه و إنما استنتجوا ذلك بالآثار و العلامات. على أن الاخبار عن حس لا يخرج المخبر عن كونها أهل خبرة، فان الصيدلي الذي يخبر عن الدواء يخبر عن حس مع انه من أهل الخبرة، و هكذا الرجل العارف بالطرق و المنازل أو مواقع العبادة في المساجد كمسجد الكوفة يخبر عن حس مع انه يرجع اليه باعتبار انه من أهل الخبرة.

الأدلة على عدم حجية قول اللغوي
اشارة

و قد استدل من قال بعدم حجية قول اللغوي بأمور:

(الأول) انه لا يؤمن من علماء أهل اللغة تعمد الكذب لتحاسدهم

و تنافرهم من جهة قرب الأمراء، كما تشهد بذلك قصة سيبويه و الكسائي و قصة الأصمعي في معنى الخنفشار ورد صاحب القاموس على الصحاح ورد الجاسوس على القاموس، كما يحتمل في حقهم السهو و التقصير في التتبع و البناء على القياس و قد نقل عن المازني ان ما قيس على كلام العرب فهو منهم. و نقل عن بعضهم زيادة الألفاظ في اللغة. و حكي عن ابن جني ان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فتشاغلت العرب عنه بالجهاد فلما رجعوا عنه راجعوا الشعر و قد هلك أكثر العرب و لا كتاب هناك يرجع اليه. و عن يونس و أبي عمر: ان ما انتهى إلينا ليس مما قالت العرب إلا أقله. و قيل: أجل ما صنف في اللغة كتاب العين مع ان جمهور اللغويين أكثروا من القدح فيه.

و جوابه ان هذا إنما يرفع حصول العلم بقوله لا أن يرفع حجيته الثابتة بالإجماع و برجوع الجاهل الى العالم و لأهل الخبرة. على ان النقل المذكور لا دليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 85

على صحته حتى يعتمد عليه.

(الثاني) من الأمور التي استدلوا بها على عدم حجية قول اللغوي

انه يشترط في حجية ما كان حجة من باب الطريقية عدم العلم الإجمالي بكذب بعض مصاديقه إذ حينئذ يقع التعارض و تسقط أطرافه من الحجية، و نحن نعلم إجمالا في الألفاظ التي ذكروا لها معاني متعددة بعضها من قبيل المجاز و بعضها من قبيل الاشتراك المعنوي و بعضها ليست بمعاني أصلا.

و جوابه ان هذا العلم الإجمالي موجود في سائر الطرق الظنية حتى في الاخبار، فلو كان مضرا بالحجية لكان مضرا في الجميع، فان بناء العقلاء و السيرة قد وقع مع هذا العلم الإجمالي الكبير

فلا بد من عدم منافاته للحجية مضافا لخروج أغلب أطرافه عن محل الابتلاء.

(الثالث) من أدلتهم انه لا يميز بين الحقيقة و المجاز

بل كتبهم مشحونة بالمعاني الحقيقية و المجازية لألفاظ اللغة فكيف يصح الاعتماد عليه في معرفة المعنى للفظ.

و جوابه مضافا الى ان هذا إنما يختص بالرجوع لبعض كتب أهل اللغة و لا يتوجه للغوي الذي يميز بين المعاني الحقيقية و المجازية كما ينقل عن الزمخشري في أساس اللغة انه ميز بين المعنى الحقيقي للفظ و بين المجازي له، و مضافا الى انه يختص بعلم متن اللغة دون علم النحو و الصرف و المعاني و البيان فإنهم لا يذكرون للهيئة المعنى المجازي. و مضافا الى انه لا نسلم ذلك في الأوضاع المتجددة كالاعلام الشخصية و الاصطلاحات العرفية فإنهم لا يذكرون إلا المعاني الحقيقية لها أنه خروج عن محل البحث إذ كلامنا فيما لو نقلوا المعنى الحقيقي لا فيما كان بناؤهم على استقصاء المعاني الحقيقية و المجازية. نعم قد يستفاد من أهل اللغة ممن كان بناؤه على استقصاء المعاني الحقيقية و المجازية من تعبيره بأن اللفظ لكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 86

انه موضوع له، و من قولهم: يقال لكذا و يطلق على كذا و يجي ء لكذا، انه مجاز فيه، كما انه يستفاد منهم ان المعنى الأول الذي يذكرونه للفظ هو معنى حقيقي، إذ يستبعد أن يذكرون المعنى المجازي مقدما على الحقيقي، كما انه يمكن بمعونة القرائن الخارجية أن يميز المعاني الحقيقية من المجازية التي يذكرونها كما انه قد يستفاد منهم كون المعاني المذكورة في كلماتهم من أفراد حقيقة واحدة باعتبار لزوم الاشتراك اللفظي المرجوح.

(الرابع) من أدلتهم: إن اللغوي مستند في دعواه الى مقدمتين:

إحداهما حسية و هي مشاهدته استعمال اللفظ في المعنى، و الثانية إجراء أصالة الحقيقة كما صنع بعضهم في إثبات كون صيغة افعل حقيقة في الوجوب و الندب و المقدمة الثانية

باطلة لأن أصالة الحقيقة لا تثبت كون الاستعمال على نحو الحقيقة و إنما تثبت ان المراد هو المعنى الحقيقي.

و جوابه ما ذكره استاذنا المشكيني (ره) في ان المعلوم من ديدن أهل اللغة هو الرجوع الى مشاهدة الاستعمال و اجراء علامات الحقيقة و قد وقعت السيرة على الأخذ بقولهم و استنتاجاتهم شأن سائر العلماء في سائر العلوم.

و مجرد احتمال ذلك في أهل اللغة لا يسقط حجية كلامهم فإنه مثل احتمال خطأهم.

(الخامس) من أدلتهم: إن الآيات الناهية عن اتباع الظن

و غير العلم تكون رادعة للسيرة و بناء العقلاء على الأخذ بقول اللغوي.

و جوابه ان التمسك بعموم تلك الآيات و الأخبار يلزمه إسقاط سائر السير القائمة في الموارد الخاصة مع ان التمسك بها يكون على وجه دائر لأن المنع من العمل بالسيرة على الأخذ بقول اللغوي بتلك الآيات مبني على ردعها عن كل سيرة و ردعها عن كل سيرة لازمه الردع عن السيرة على حجية الظهور و الردع عن السيرة على حجية الظهور لازمه عدم حجية ظهور تلك الآيات و الروايات إذ لا دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 87

حجية ظهورها إلا السيرة و إذا لم تكن حجية لظهورها فلا دلالة لها على المنع من حجية السيرة على حجية قول اللغوي إذ لا دلالة لها حينئذ معتبرة على ذلك.

التحقيق في المقام

(انه لا يجوز للمجتهد أن يأخذ بقول اللغوي و يجوز للعامي ذلك) قد ظهر لك حجية قول اللغوي مع سلامته عن الاستشهاد أو البناء على ما لا يدل على دعواه و عدم العلم بوجود معارض له و عدم العلم بتعمده على الكذب و المسامحة. مع الاستفادة من قوله كون اللفظ موضوعا للمعنى كما قدمنا ذلك ص 81 إلا ان الظاهر ان حجيته من باب التقليد فإنه نظير ما إذا رجع الإنسان للعالم بالجواهر أو الصناعة أو الطبيب و عمل بقوله فإنه لا يكون بذلك مجتهدا في علم الجواهر و الصناعة و الطب و إنما يكون مقلدا لهم، لأن التقليد هو المتابعة للغير و الأخذ بقول الغير، و لذا لا يصح متابعة من أخذ بقولهم ما لم يكن عالما بالفن. و لا الأخذ بقول الفيلسوف في العقيدة مع انه من أهل الخبرة لأنه

تقليد و التقليد لا يجوز في العقائد.

إذا عرفت ذلك فيجوز للعامي أن يرجع لقول اللغوي في معرفة فتوى مقلده و لا يجوز للمجتهد الأخذ بقول اللغوي عند استنتاج الحكم الشرعي لأنه تكون من مقدمات الاستنتاج مقدمة تقليدية و النتيجة تتبع أخس المقدمات كيف و لو صح ذلك لصح للمجتهد أن يقلد الأصولي في مسائله لأنه يكون الرجوع اليه رجوع لأهل الخبرة و لا يتكلف عناية البحث و الجدل و هكذا في باقي العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد، و هكذا لا ينفعه الاجتهاد لتحصيل المعنى اللغوي إذ لم يحصل العلم العادي بذلك، إذ لا دليل على اعتبار الاجتهاد المذكور و لا دليل على حجية الظن الحاصل بواسطته بل لا بد له من حصول العلم العادي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 88

بوضع المادة أو الهيئة للمعنى اما بنقل جماعة من علماء اللغة يحصل له العلم العادي كما يحصل العلم العادي بالمسألة الفقهية من إرسال جماعة لها إرسال مسلمات أو برجوعه للشواهد أو للعرف أو تتبع موارد الاستعمال و استقرائها مع أصالة عدم النقل الى غير ذلك.

و الحاصل انه لا يجوز للمجتهد الاعتماد على قول اللغوي في فتواه لأنه يكون مقلدا. قال الوحيد البهبهاني (ره): ان استناد المجتهد الى قول علماء الرجال و اللغة و أمثالهما ليس تقليدا لأنه لا يستند بمجرد قولهم حتى يكون تقليدا بل يبذل الجهد في ان له معارض أم لا فاذا وجد المعارض يبذل جهده في الترجيح و الجمع و يبذل جهده في معرفة كون الترجيح و الجمع حجه أم لا و بعد معرفة الحجية يبني عليها و إذا لم يجد المعارض يبني على أصل العدم و الظاهر. و كونهما

حجة و كذا كون الاستناد إلى أقوال هؤلاء حجة فاذا علم حجية الكل يعمل فهذا ليس بتقليد له- انتهى. و الذي يسهل الخطب ما عرفته ص 83 سابقا من عدم الحاجة الماسة إلى البحث في اللغة لعدم الاحتياج إليها في سائر الموارد إلا ما قل و ما يحتاج اليه الفقيه قد أشبع فيه الكلام علماء الفقه كلفظ الغني و الصعيد أو الأصولي كصيغة افعل أو مثل الاستثناء المتعقب للجمل بل العلماء رحمهم اللّه حاولوا في كل استنتاج يتوقف على معرفة معنى اللفظ أو على قاعدة نحو أو صرف أو معاني أو بيان ان يتعرضوا لها مفصلا على نحو يحصل العلم العادي بها نفيا أو إثباتا.

(ثالث الجهات) التي يتعرض لها هنا انه يكفى معرفة مقدار الحاجة من العلوم العربية في الاجتهاد

و لا يلزم معرفة جميع مسائل العلوم العربية لأن تعلم العلوم العربية كان لأجل الاجتهاد و من باب المقدمة له فما لم يتوقف عليه الاجتهاد لم يكن مقدمة له فيكون أجنبيا عن الاجتهاد.

(رابع الجهات) التي يتعرض لها هنا انه لا يشترط في معرفة مقدار الحاجة من علوم العربية أن تكون معرفته فعلية و حالية

بل يكفي ان تكون له قوة قريبة على تحصيل معرفته بحيث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 89

متى احتاج الى شي ء من العلوم المذكورة استخرج حكمه و لو بالرجوع الى الكتب المعتبرة، لأن المناط في الاحتياج لا يقتضي أزيد من ذلك، فإنه لو احتاج في آية إلى معرفة لفظ أو تركيب و رجع الى الكتب في معرفته و حصل له ما يتوقف عليه الاجتهاد في المسألة صح اجتهاده. و جزى اللّه تعالى الأصوليين و الفقهاء حيث انهم لم يتركوا شيئا مما يحتاج اليه المجتهد العربي في اللغة إلا و تعرضوا له. نعم الغير العربي يحتاج لمعرفة اللغة العربية و قواعدها ليستطيع معرفة الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب.

(الشرط الثاني للاجتهاد) تعلم العلوم العقلية

، كعلم المنطق و علم الكلام لتوقف الاجتهاد عليها لتمييز الدليل الصحيح عن غيره بعلم المنطق و توقف استنباطات بعض الأحكام الشرعية على بعض قواعده كاستنباط طهارة الغسالة فيما لو ثبت: «كل نجس ينجس ملاقيه» على قاعدة عكس النقيض و كرد القول ببقاء الجواز بعد نسخ الوجوب باستحالة بقاء الجنس بعد زوال الفصل و دعوى ان بعض مطالب المنطق كسبية و إلا لما احتاج أحد اليه و هذه المطالب الكسبية عرفت من غير علم المنطق و إلا للزم التسلسل فلا بد انها عرفت بالاستدلال الصحيح من دون توقف على المنطق، فكذلك الأحكام تعرف من غير حاجة الى المنطق، فاسدة، فإن علماء المنطق قالوا ان مطالبة الكسبية تؤخذ من مطالبه البدهية فهي تعرف من المنطق.

و اما علم الكلام فتوقف الاجتهاد عليه من جهة توقف استنباطات بعض الأحكام على بعض قواعد علم الكلام من قبح التكليف بما لا يطاق و أن اللّه لا يفعل القبيح فلا يخاطب

بماله ظاهر و يريد خلافه و ابتناء بعض مسائل الفقه على ابطال الدور و التسلسل و قاعدة اللطف و ترجيح المرجوح على الراجح و الترجيح بلا مرجح و الواحد لا يصدر منه إلا الواحد و غير ذلك مما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 90

مذكور في علم الأصول، و كما سيجي ء في مسألة تجزي الاجتهاد من توقفها على مسألة ان الملكة من العوارض النفسانية الغير القابلة للتجزي، بل الحق ان الاجتهاد يتوقف حتى على الاعتقاد بوجود الصانع و وحدانيته و بالنبوة و بصدق اللّه تعالى و رسوله، بمعنى انهما محفوظان من الكذب عمدا و سهوا، بل يتوقف حتى على الإقرار بإمامة الأئمة (ع) و صدقهم، و ذلك لأن الاجتهاد هو تحصيل الظن بالوظيفة الإلهية، و لا ريب ان معرفة أن هذا وظيفة إلهية متوقف على التصديق بوجوده، و كونها إلزامية متوقف على نفى الشريك الذي يزاحمه في عقاب العاصي. و استفادة الأحكام حيث يكون بعضها من الكتاب لزم معرفة نسبته للّه تعالى و هو موقوف على صدق النبي (ص). كما ان السنة حيث كانت استفادة جل الأحكام منها و أغلبها عن الأئمة (ع) كانت موقوفة على التصديق بإمامتهم و عدم كذبهم (ع)، فاذا لم يصدق بذلك كيف يحصل له الظن بذلك.

و دعوى انه يمكن للكافر استنباط الأحكام من الأدلة بالقواعد المقررة على تقدير صحة هذا الدين، و يقال لو كان هذا الدين حقا فحكمه كذا حتى لو اعتقد بالبطلان فلو آمن و تاب و كان مستفرغا وسعه لصح عمله برأيه و تقليد الغير إياه، فاسدة، إذ لا يمكنه أن يحصل الظن المعتبر بكون هذا حكم اللّه تعالى إلا مما هو حجة عنده،

فان الدليل ما لم تثبت دليلته لم تكن له نتيجة و المفروض عدم تصديق الكافر بتلك الأدلة و إنما ذلك يكون فهما فرضيا لا فهما حقيقيا لحكم شرعي و دعوى انه يمكن عدم الإقرار بالإمامة للأئمة (ع) مع الاعتقاد بصدقهم في إسنادهم الحكم للرسول (ص)، كما ان الكثير من العامة لا سيما الشافعية منهم يعتقد بصدق الأئمة (ع) و ولايتهم دون إمامتهم، فاسدة، إذ يمكن أن يتعارض قولهم (ع) مع قول أحد الخلفاء الثلاثة فعلي مذهب العامة يقدم قول الخلفاء بلا كلام. و على مذهبنا بالعكس.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 91

إن قلت: ان هذا إنما يثبت انه شرط للاجتهاد المطلق الفعلي الحالي دون الاجتهاد الملكي لإمكان حصول القوة بدون الاعتقاد بذلك.

قلنا: الاجتهاد الملكي على تفسيرنا الذي سيجي ء ان شاء اللّه في مسألة تجزي الاجتهاد من انه ملكة يقتدر بها على استفراغ الوسع لتحصيل الفقيه الظن بالحكم الشرعي، فأيضا يكون شرطا له إذ الظن المعتبر بأن هذا حكم إلهي لا يحصل للكافر المنكر للصانع. نعم هو ليس بشرط للاجتهاد الملكي على تفسير القوم من انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي فإن الدهري المنكر للصانع يمكن أن تكون له هذه الملكة التي يقتدر بها أن يستنبط الاحكام في تلك الشريعة كما يمكن أن يكون لعلمائنا ملكة يستنبط بها الحكم في شريعة اليهود أو النصارى أو عند العامة.

ثمَّ لا يخفى ان ما ذكرناه من الجهات الأربعة في الشرط الأول للاجتهاد جار هاهنا، و المختار هناك هو المختار هاهنا.

(الشرط الثالث) معرفة علم الحديث
اشارة

من حيث الاسناد و الإرسال و الصحة و الضعف و غير ذلك مما بين في علم الدراية و معرفة الراوي من حيث انه عادل أو

فاسق ثقة أو مجروح، و نحو ذلك مما يتكفل بيانه علم الرجال. ضرورة ان أخبارنا المدونة في الكتب الأربعة و غيرها ليست بأسرها معتبرة يصح الأخذ بها فيتوقف تمييز ما يعتبر منها عن غيره على ذلك، و كذا يتوقف تمييز ما هو أرجح سندا عند التعارض على ذلك، خصوصا مع العلم الإجمالي بأن كثيرا من الرواة نقل في حقهم انهم كذابون و لا يمكن تمييزهم عن غيرهم إلا بعلم الرجال و لو كان علم الرجال مستغن عنه لكان المتقدمون أشد الناس استغناء عنه الأقدم فالأقدم لمكان القرب من ظهور القرائن مع انا وجدنا صدور التأليف منهم بذلك في عصور الأئمة الأطهار ففي المحكي عن النجاشي: ان أبا محمد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 92

عبد اللّه بن جبلة الكناني صنف كتاب الرجال و قد مات سنة 219 و هو من الشيعة و تلاه من المتقدمين العياشي و الكشي و حمدويه و ابن نوح، بين من كان في زمن ظهور الأئمة (ع) و بين من كان في زمن الغيبة الصغرى.

و توضيح ذلك و تحقيقه ان حجية الاخبار ان كانت من باب حجية الخبر الواحد العدل فنحن نحتاج الى علم الرجال لتمييز الراوي العادل عن غيره و الضابط عن غيره و المؤمن عن غيره و لتمييز المراد بالاسم المشترك عن غيره الذي هو من أصعب مطالب علم الرجال، و لترجيح أحد الخبرين على الآخر عند التعارض بأعدلية الراوي و نحوها.

(إن قلت): ان علم الرجال لا يثبت الصفات للرواة لأنه ليس من باب الشهادة إذ ليس تتوفر فيه شروط الشهادة كما سيجي ء بيان ذلك ان شاء اللّه في الإيراد الأول على الاحتياج الى علم الرجال و

ليس من باب حجية الخبر الواحد إذ هو ليس من الاخبار بالأمور الحسية و إنما علم الرجال يفيد الظن و الظن ليس بحجة.

(قلنا): المطلوب حصول العلم العادي بصفات الراوي من علم الرجال. نعم الرجوع الى علماء الرجال من باب الرجوع الى أهل الخبرة يكون من التقليد إلا انه لا يجوز للمجتهد بالحكم الشرعي أن يعتمد عليه في مقام الفتوى بالحكم الشرعي لمقلديه للزوم التقليد في فتواه لان النتيجة تتبع أخس المقدمات.

هذا إذا كانت حجية الاخبار من باب حجية الخبر العدل، و اما إن كانت من باب حجية الظن المطلق فان العامل بالظن لا بد له من تحصيل أسباب الظن و أكثر أسباب الظن تعرف بمعرفة الرواة، فإن الخبر بملاحظة حال رواته قد يفيد الظن و قد لا يفيده، فخبر العادل الضابط الإمامي يفيد الظن، و خبر الفاسق الكذاب المفتري لا يورث الظن، و هكذا خبر غير الضابط و إن كان إماميا عادلا فإنه نوعا لا يفيد الظن، فاذن لا بد من ملاحظة حال الرواة لتمييز أحد القسمين عن الآخر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 93

و إن كانت حجية الاخبار من باب إفادتها القطع بأن كان الحجة منها خصوص المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع كما هو المنسوب للسيد المرتضى و ابن زهرة و ابن إدريس (ره)، فالقرائن لا تفيد القطع غالبا إلا بملاحظة حال الرواة و رجال السند و كونهم محترزين عن الكذب، سلمنا لكن لا أقل من احتياج المجتهد لعلم الرجال حال التعارض بين الاخبار للزوم الأخذ بالاعدل و الأورع من مخبري الخبرين المتعارضين إلا إذا قيل بتساقطهما و هو خلاف ما قامت عليه الأدلة.

و إن كانت حجية الأخبار من جهة الاطمئنان بالصدور عن

المعصوم و هو يحصل بعمل المشهور بها كما هو الظاهر من البهبهاني (ره) في حاشيته على المدارك فيحتاج الى علم الرجال في الخبرين المتعارضين إذا كان كل منهما مشهورا هذا مضافا الى ان فتوى المشهور إنما تنفع من جهة كونها توجب الوثوق بالصدور و هي إنما توجب ذلك لو علم استناد المشهور الى الخبر، و في كثير من الموارد لا يعلم استنادهم الى الخبر و لا اعراضهم عنه، فلا بد أن يرجع لعلم الرجال لتحصيل الوثوق بالصدور، و هكذا المسألة الغير المعروفة إذا كانت فيها رواية لزم في تحصيل الوثوق بصدور تلك الرواية من مراجعة علم الرجال لعدم عمل المشهور بذلك و لا يصح الطرح. و قد نسب إلى طوائف، المخالفة في الاحتياج لعلم الرجال و إنكارهم الحاجة إليه (منهم) الحشوية القائلون بحجية كل خبر فإنهم لا يحتاجون الى علم الرجال، لأن كل حديث عندهم معتبر، و لكن مع هذا عند التعارض يحتاجون لعلم الرجال في الترجيح بالأعدلية و الأورعية و الأضبطية، إلا اللهم أن يلتزموا عند التعارض بالتساقط أو التخيير أو الترجيح بغير صفات الراوي من الأعدلية و نحوها، فحينئذ لا يحتاجون الى علم الرجال أصلا و يكون الجواب عنهم أن لا وجه لهذا القول مع ما تواتر عن المعصومين (ع) انه قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 94

دس في أخبارهم و كذب عليهم القالة فلا بد من تمييز الرواة الكذابة عن غيرهم و هو لا يحصل إلا بعلم الرجال.

و (منهم) القائلون بعدم حجية الخبر الواحد بدعوى قطعية الأحكام من الكتاب و الإجماع و الأخبار المتواترة أو المقترنة بالقرائن المفيدة للقطع و هو المذهب المنسوب للسيد المرتضى و ابن زهرة و

ابن إدريس، و قد عرفت ص 93 احتياج أهل هذا الرأي إلى علم الرجال.

و (منهم) الأخباريون المدعون لقطعية الصدور في كتب الأخبار المعتبر أصحابها أو خصوص الكتب الأربعة المعروفة الكافي و من لا يحضره الفقيه و الاستبصار و التهذيب للمحمدين الثلاثة بل ادعي غير واحد من علمائهم (ره) كالاستر ابادي و غيره في المحكي عنهم قطعية الأخبار سندا و دلالة و تنزل بعض مؤلفيهم و من يميل إليهم كالفاضل التوني في الوافية و غيره بعدم القطعية من حيث السند و الدلالة و ادعى قطعية الاعتبار و قال لا حاجة لمعرفة علم الرجال فيما لا معارض له و ان كنا محتاجين اليه عند التعارض، و سيجي ء إنشاء اللّه تقرير ذلك مفصلا و تحقيق الحق فيه عند الكلام في جواز العمل بالاجتهاد.

و (منهم) المكتفون بتصحيح الغير للخبر أو توثيقه أو ضعفه بأن تقوم البينة على صحة الخبر أو توثيقه كما لو شهد عالمان من علماء الفقه بأن هذا الخبر صحيح أو ضعيف، و لعل جملة من علمائنا المتأخرين اكتفوا بذلك عن مراجعة علم الرجال إلا انه في الحقيقة ان هذا رجوع الى علم الرجال لأن ذلك منهم بيان لحال رواه الخبر على سبيل الاجمال.

و (منهم) القائلون بحجية الخبر المجبور بالشهرة أو المرجحة له فإنه لا يرجعون الى علم الرجال، حتى إن الخبر لو كان صحيحا و أعرض عنه المشهور لا يعملون به، و لو فرض ان الخبر ضعيف و عمل به المشهور صار حجة كما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 95

ديدن الوحيد البهبهاني (ره) في حاشيته على المدارك في العمل بروايات عمل بها المشهور قائلا: ان ضعفها منجبر بالشهرة، ردا على صاحب المدارك

المسقط للرواية بمحض ضعف سندها بحسب القواعد الرجالية مستندا في ذلك على أصله من حجية الخبر المصحح المزكي بتزكية عدلين، و قد تقدم ص 93 وجه الاحتياج لعلم الرجال على هذا المبني.

ما يورد على الاحتياج لعلم الرجال
اشارة

و لقد أورد على احتياج المجتهد لعلم الرجال من غير نظر للطوائف المذكورة بايرادات:

(الإيراد الأول) هو وقوع الاختلاف في معنى العدالة

و عدد الكبائر النافية للعدالة و كفاية الواحد في مقام التزكية، و نحن لا نعلم من أهل كتب الرجال انهم في مقام التعديل على أي معنى فسروا العدالة و هل اكتفوا بتزكية الواحد فزكوا الراوي و هل ارتكاب بعض الأشياء التي هي من الكبائر عندنا ليست عندهم من الكبائر فإن الكبائر قد وقع الاختلاف في عددها. و الحاصل انهم في مقام التعديل أو الجرح لا نعلم انهم بنوا على الآراء الفاسدة في نظرنا أم الصحيحة، فكيف يصح الاعتماد على قولهم في مقام التزكية، هذا مع ان تعديلهم للراوي أخذوه من كتب غيرهم و شهادة الفرع غير مسموعة على أن غيرهم الذي أخذوا منه ذلك لم يعلم عدالته حتى نعلم صحة اعتمادهم عليه، بل قد اعتمدوا على أناس فاسدي المذهب كابن عقدة، فإنه كان زيديا جاروديا على ما نصوا عليه و كعلي بن الحسن بن فضال فإنه كان فطحيا فاسد المذهب، فان علماء الرجال كثيرا ما يعتمدون على أقوالهم في أحوال الرجال، مع ان لازم فساد مذهبهم عدم الاعتماد عليهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 96

هذا مضافا الى ان تعديلات علماء الرجال للرواة و تضعيفهم لهم مبنية أغلبها على اجتهاداتهم و ترجيحاتهم لأن العدالة لا تعرف إلا بالآثار و لا يجوز للمجتهد أن يبني على اجتهاد غيره.

و الجواب عنه: انا لو سلمنا ان ذلك يمنع من قبول شهادتهم في حين حصول القطع لهم بالعدالة. فنجيب بما ذكره علماء الرجال و على رأسهم المرحوم المامقاني (ره) من ان المقصود من علم الرجال هو التثبت و التبين و حصول الوثوق، و لا

ريب ان البحث عن حال الراوي فيه نوع من التثبت، و التعديل له يوجب الوثوق بقوله، و ليس المقصود من علم الرجال تحصيل الشهادة حتى يعتبر في تزكيتهم للراوي ما يعتبر في الشهادة من كونها أصل و من كونها مشافهة و نحو ذلك و لا يعتبر فيه ما يعتبر في حجية الخبر الواحد. و لكن هذا الجواب إنما ينفع على القول بحجية الخبر من باب الظن و الوثوق، و اما إذا قلنا من باب التعبد بخبر العدل، فعلم الرجال لا يثبت صفات الراوي من كونه عدلا أو ضابطا، إذ لا دليل على حجية الظن الحاصل من قول العالم بالرجال، إذ هو ليس بشهادة كما عرفت، و لا تشمله أدلة حجية الخبر الواحد لأنها مختصة بخبر الواحد في الأحكام دون الموضوعات. و العدالة و الضبط من الموضوعات، و لا يجوز للمجتهد أن يرجع لقول الرجالي من باب رجوع الجاهل الى أهل الخبرة لأنه يلزم أن يكون مقلدا في مقدمات اجتهاده. نعم إنما ينفع الرجوع الى أقوال الرجاليين لو حصل لنا العلم العادي منها.

ثمَّ لا يخفى ان اشكال تفسير العدالة يتم لو كان علماء الرجال يقتصرون على قولهم: فلان ثقة أو عدل أو فاسق. و ليس الأمر كذلك بل هم يذكرون أحوال الشخص و دأبه و سيرته و أقواله و أفعاله و أعماله و ينقلون الأحاديث الواردة في حقه فالناظر في ذلك يستطيع أن يستنبط ما يوافق مذهبه. على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 97

أن المعروف عندنا ان الكبائر ما توعد اللّه تعالى عليه بالعقاب في كتابه المجيد و المحكي عن صاحب الكفاية انه لم يجد قولا آخرا لأصحابنا غير ذلك.

الإيراد الثاني: إنا لم نحرز تقارن زمان رواية الراوي مع زمان عدالته

من الرواة ممن

كان على خلاف المذهب ثمَّ رجع و بالعكس، و الكثير منهم لا نحرز انهم على العدالة من زمان بلوغهم الى زمان وفاتهم، فلعله كانت الرواية منهم زمان عدم عدالتهم و كثير منهم كانوا فاسدي العقيدة كبني الفضال، و كانوا يعتمدون عليهم، و كعلي بن أسباط و الحسين بن يسار فإنهم كانوا من غير الإمامية ثمَّ تابوا و علي بن محمد بن رياح الواقفي. (و جوابه) ان ظاهر حال علماء الرجال إذا وصفوا شخصا بالعدالة أو الفسق أو جهل الحال إنما نظرهم الى زمن روايته لا الى زمن آخر و هو كاف في حصول الوثوق بالرواية. و الفاسدي العقيدة إذا كانوا ممن يوثق بهم صح الاعتماد عليهم، مع ان الشيعة كانوا يتجنبون من رجع عن مذهب التشيع و يسمون الواقفية بالكلاب الممطورة، و الأئمة عليهم السّلام نهوا عن معاشرتهم، و حينئذ إذا روى أحد الشيعة عن أحدهم فلا يرويه عنه إلا على وجه الصحة أما بالسماع منه قبل عدوله أو بعد توبته، و لا ينقل عن كتابه إلا الكتاب الذي ألفه قبل العدول أو بعد التوبة، و قد قبل المحقق (ره) في المعتبر رواية علي بن حمزة الواقفي عن الصادق عليه السّلام معللا ذلك بأن تغيره إنما كان في زمن الكاظم عليه السّلام، و قبل العلامة (ره) حديث إسحاق بن حريز الواقفي عن الصادق عليه السّلام لأن انحرافه لم يكن في زمن تأليفه لكتابة.

الإيراد الثالث: ان ملكة العدالة أمر باطني فلا تثبت بالخبر

و لا الشهادة (و جوابه) إن الأمور الباطنية تعرف بآثارها. مضافا الى ما عرفت في جواب الإيراد الأول من ان الأخذ بأقوال علم الرجال ليس من باب الخبر و لا الشهادة مضافا الى أن القول بكون العدالة ملكة، إنما هو للعلامة (ره)

و من تأخر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 98

عنه دون المتقدمين عليه.

الإيراد الرابع: ان علم الرجال علم محرم

لأنه فيه تجسس على أحوال الناس و هو منهي عنه، و هكذا فيه اغتياب بعض المؤمنين و هو محرّم، فليس بمطلوب في الاجتهاد. (و جوابه) ان الأمر بالتثبت يكون مخصصا لأدلة النهي عن التجسس. و الاغتياب. نظير جواز الجرح و التعديل في مقام المرافعات فإنه مستثنى من حرمة الغيبة، مضافا الى أن الأئمة عليهم السّلام جرحوا بعض الرواة و وثقوا البعض الآخر و هذا أدل دليل على جواز ذلك.

الإيراد الخامس: وقوع الاشتباه في أسماء الرواة و كناهم

و آبائهم و ألقابهم، و الغفلة في الأسانيد بسقوط راوي أو اثنين كما حكي عن الشيخ (ره) ان كثيرا مما رواه عن موسى بن القاسم العجلي قد أخذه من كتابه و هو أيضا يأخذ من كتب جماعة فينقل عنهم من غير ذكر الوسائط اتكالا على ذكرها في أول كتابه فينقل الشيخ (ره) عن أحد الجماعة من غير إشارة للواسطة فيظن الاتصال مع ان الواقع كان هو الإرسال و مع هذا الاحتمال فلا أثر لتوثيق الرواة المذكورين في السند لاحتمال سقوط ما هو ليس بعادل و لا ثقة، و في المحكي ان صاحب منتقى الجمان (ره) قد أوضح ذلك و حققه. (و جوابه) ان هذا الاحتمال ينفيه ظاهر اللفظ فان الظاهر هو النقل عن نفس الشخص من دون واسطة فلا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلا بالقرينة اللفظية أو المقالية كما ان احتمال السهو و الغفلة منفي ببناء العقلاء في محاوراتهم على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

الإيراد السادس: هو اشتراك أسماء الرواة بين العدل و الممدوح

و غيره فإنه مانع عن العلم بالثقة. (و جوابه) ان هذا أمر قليل و غالبا يحصل التمييز بالمميزات و الطبقات و قرائن الأحوال و مع عدم حصول هذا لا يحصل التوثيق في خصوص ذلك المورد لا انه يسقط بواسطة هذا المورد علم الرجال.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 99

الإيراد السابع: دعوى الإجماع على حجية جميع ما في الكتب الأربعة

و أضرابها من الخصال و العيون و العلل و نحوها ممن كان أصحابها من عدول الإمامية، و عليه فلا حاجة لعلم الرجال. (و جوابه) ان هذا الإجماع غير ثابت لرد قسم من أخبارها و عدم العمل بها و مخالفة قسم منها للإجماع و الكتاب ورد جملة من أصحابنا بعض أخبارها حيث لا يعمل إلا بالصحيح ورد جملة منهم ما لم يعمل به المشهور و غير ذلك. نعم هي معتبرة بمعنى ان ما فيها صحيح النسبة لراوي سند الخبر، و ان رواية مؤلفها عن الراوي لسند الخبر ثابتة و إن نسبة الكتب لمؤلفيها ثابتة و ليس معنى ذلك ان الخبر الذي سنده ضعيف يكون معتبرا.

الإيراد الثامن: ان الاحتياج لعلم الرجال إما لاعتبار صفة في الراوي

من الإسلام و الايمان أو عدالة أو ضابطية أو نحو ذلك كما لو بنينا على حجية خبر العدل الضابط، فهو غير صحيح لما قد عرفت إن قول الرجالي ليس بحجة لا من باب الشهادة كما تقدم في الإيراد الأول، و لا من باب حجية خبر الواحد لأنه إنما يكون حجة في الأحكام دون الموضوعات، و لا ريب ان الاخبار بصفات الراوي من الاخبار بالموضوعات، نعم ربما يكون حجة من باب كونه من أهل الخبرة و لكن لا يجوز للمجتهد أن يعتمد في فتواه عليه لأن الرجوع لأهل الخبرة تقليد، و لا ريب انه لا يجوز أن يكون التقليد من مقدمات الاجتهاد و الفتوى لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات. و اما ان يكون الاحتياج الى علم الرجال من جهة تحصيل الظن و الوثوق بالصدور كما لو بنينا على حجية الخبر الواحد المظنون صدوره أو الموثوق صدوره فهو غير صحيح كما ذكره صاحب مناهج الأصول لأنه إنما يتم لو لم يكن يحصل من

غير علم الرجال الظن أو الوثوق بالصدور. و الأخبار المأخوذة من الكتب المعتبرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 100

لما كانت معلومة الانتساب لمؤلفيها و كان مؤلفوها من أهل الايمان و التقوى و المعرفة بصحة الخبر و سقمه و التمكن من تمييز الخبر الصحيح عن غيره مثل الكتب الأربعة و كتاب الخصال و علل الشرائع و العيون و الاحتجاج كانت الأخبار الموجودة فيها موثوقا صدورها لكون أربابها ممن سهروا الليالي و أفنوا الأيام في تمييز الأخبار الصحيحة عن غيرها فاثبتوا فيها ما صح عندهم بعد ان هذبها المتقدمون على المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على الثلاثمائة سنة و ضبطوها خوفا من تطرق النسيان، و قد عرضوا بعض الكتب على الصادق عليه السّلام ككتاب عبد اللّه بن علي الحلبي فاستحسنه، و على العسكري عليه السّلام ككتاب يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان فأثنى عليهما و كانوا عليهم السّلام يوقفون شيعتهم على الكذابين و يأمرونهم بمجانبتهم، و بالجملة من اطلع على اهتمام أصحابنا بالأحاديث يحصل له الظن أو الوثوق بما دونوه مع ملاحظة أن أصحاب هذه الكتب المعتبرة كلهم عدول ضابطون و كانوا في زمان يكثر فيه القرائن بل يمكن تحصيل القطع لهم غالبا لما بأيديهم من الكتب المعروفة على الأئمة عليهم السّلام و يريدون أن تكون كتبهم مرجعا للناس و دستورا يعمل به مع قرب زمانهم من زمان الحجة عليه السّلام فقد كان الكليني (ره) مخالطا للسفراء عشرين سنة و كان متمكنا من استعلام حال الروايات من الحجة عليه السّلام بل من العسكري عليه السّلام كما قيل فحينئذ يحصل للإنسان بملاحظة ما ذكرنا الوثوق بصدور ما في الكتب المعتبرة أزيد من شهادة

علماء الرجال بالعدول. لا سيما إذا ضممنا الى ذلك دعوى الإجماع من الشيخ الطوسي (ره) و غيره على العمل بهذه الأخبار، ففي المحكي عنه: إني وجدت الفرقة مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دونوها في أصولهم و في المحكي عن شيخنا الشهيد الثاني (ره) في شرح الدراية: ان الإمامية استقرت على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم فتداعت الحال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 101

الى ذهاب معظمها و لخصها جماعة في كتب خاصة، و أحسن ما جمع منها الكافي و التهذيب و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه. و قال البهائي في المحكي عنه: ان قدماءنا قد جمعوا أربعمائة كتاب تسمى أصولا، ثمَّ تصدى جماعة من المتأخرين لجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهيلا على طالبي تلك الأخبار فألفوا كتبا مضبوطة مشتملة علي الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة كالكافي و من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار و مدينة العلم و الخصال و الأمالي و عيون الأخبار و غيرها.

و دعوى عدم حصول الظن و الوثوق بصدور روايات كتب مشايخنا لأن فيها ما يعارض البعض بعضا، أو مخالف للإجماع أو الكتاب أو لم يعمل به أحد و كذا نرى بعض المشايخ لم يعمل بما في كتاب آخر أو يرده. فاسدة لأن ما ذكر لا يمنع من الصدور إذ الدواعي للأئمة عليهم السّلام لصدور الأخبار المنافية كثيرة. على أن لبعض الأحاديث معاني و تأويلات قد لا تصل إليها أفهامنا كما ان عدم العمل قد يكون من جهة الدلالة أو العثور على معارض أرجح في نظره.

و دعوى ان من أحاديث تلك الكتب المعتبرة ما قد صرح مؤلفه بوهنه

و ضعفه فكيف يكون الجميع صحيحا، و قد صرح المحدث البحراني (قده) فيما يزيد على أربعين موردا من كتابه بأن الصدوق لم يلتزم في أثناء الكتاب بما وعد به في أوله من أنه لا يورد في هذا الكتاب إلا ما يحكم بصحته. فان من لاحظ هذا الكتاب يرى كثيرا ما يورد الصدوق خبرا و يفتي بخلافه. فاسدة لأن مرادنا من صحة الجميع هو صحة جميع ما فيها إذا لم يكن دليل من الراوي على ضعفه، و إلا فالأمر فيه واضح بل تصريحهم في بعض المواضع ببعض نواحي ضعف الحديث قرينة على خلو ما لم يصرحوا به عنها، نعم المتقدمون على زمن تأليف تلك الكتب المعتبرة يحتاجون الى علم الرجال لمعرفة حال الرواة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 102

و لكثرة الكذابين في زمانهم.

فتلخص ان من نظر إلى الكتب المعتبرة و زمانها و تورع أصحابها و الإجماعات المتقدمة يحصل له الوثوق بصدور ما فيها من الأخبار أزيد من ملاحظة علم الرجال. فكيف يعقل أن يكون قول الكشي فلان عدل يوجب الوثوق بالصدور، و قول الكليني (ره) بأن الخبر صحيح أو حجة بيني و بين اللّه لا يوجب ذلك. هذا إذا كان احتياج علم الرجال من جهة تحصيل الظن أو الوثوق بالخبر. و أما إذا كان احتياج علم الرجال من جهة الترجيح في مقام التعارض بالأعدلية، و الأوثقية، و الأصدقية فهو أيضا باطل، إذ كما عرفت أن قول الرجالي ليس بحجة شرعية حتى يثبت به ذلك. على انه لم يكن الترجيح بالأعدلية و الأوثقية و غيرهما من صفات الراوي إلا لروايتين إحداهما لا دخل لها بعلاج تعارض الخبرين و إنما هي لتعارض الحاكمين و الأخرى

لا حجية لها كما ذكر ذلك في مبحث التعارض.

و الجواب عن هذا الإيراد أنا نختار حجية خبر العدل، و علم الرجال إنما يفيد القطع العادي بصفات الراوي نظير ما ذكرناه في حجية قول اللغوي.

و أنا نختار حجية خبر الواحد من باب الظن أو الوثوق، و لكن مجرد وجود أمارات الصحة لمؤلفي الكتب المعتبرة لا توجب الظن لنا بصدور ما رووه في كتبهم فإن معرفة صحة الحديث كمعرفة صحة الفتوى من المسائل الاجتهادية، فكما إن فتوى أحد الفقهاء مستندة الى رواية لا يوجب الظن بصدور هذه الرواية مع اعتماد ذلك الفقيه عليها كذلك وجودها في تلك الكتب، كيف و قد رد بعضهم على بعض، فقد رد الشيخ الطوسي (ره) في التهذيب بعض أحاديث الكافي و رماها بالضعف و جهل حال الراوي كما في باب المحتلم الخائف على نفسه من البرد و ناهيك في ذلك طعنه (ره) على اخبار عدد أيام شهر رمضان مع رواية الكليني (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 103

و الصدوق لها، و قد طعن الشيخ المفيد (ره) في رسالته فيها برمي بعض رواتها كمحمد بن سنان و غيره بالضعف و الحاصل ان رد الصدوق (ره) على الكليني ورد الشيخ المفيد (ره) و الطوسي (ره) عليهما مع قرب العهد بينهم مما يدل على عدم حصول الوثوق بمجرد الرواية في كتبهم و لو كان تكفي الصحة عند صاحب الكتاب لما صح طرح شي ء من الأخبار المروية فيه و انك لتجد في كتاب التهذيب من الطرح و التضعيف لروايات الكتب ما شاء اللّه، ففي ج 1 ص 220 من طبع إيران ضعف رواية الكافي في باب زكاة الحنطة و الشعير حيث قال: فان هذين

الخبرين الأصل فيهما سماعة الى أن قال: و هذا الاضطراب في الحديث مما يضعف الاحتجاج به، و فيه أيضا ج 1 ص 268 طبع إيران المنع من الاحتجاج برواية الكافي. و قال الصدوق (ره) في كتاب الفقيه ج 4 ص 151 طبع النجف في باب الرجلين يوصي إليهما فينفرد كل واحد منهما بنصف التركة ما هذا لفظه: و في كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن أحمد بن محمد الى أن قال:

و لست افتي بهذا الحديث بل افتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليهما السّلام. نعم لو استند جماعة من الفقهاء إلى الرواية أو نقلها غير واحد من الكتب المعتبرة حصل الوثوق بصدورها. و عليه إذا كانت الرواية في الكتب المعتبرة قد أفتى بها بعضهم و أعرض عنها آخرون لضعف في سندها و عدم حصول وثوق بها كان على الفقيه مراجعة علم الرجال لمعرفة سندها و التأكد منه، على ان قسما من الروايات منقولة من كتب خاصة ليست بأيدينا لم نعلم أن أصحابها كانوا يروون ما يعتقدون صحته أم لا. نعم لنا وثوق بنقل أرباب الكتب المعتبرة عمن روى لهم ذلك لا بصدور الرواية عن المعصوم عليه السّلام، على ان العلم الإجمالي بوجود روايات مكذوبة على الأئمة عليهم السّلام أو وقوع السهو فيها و الاشتباه، بين هذه الروايات في الكتب المعتبرة لا ينحل إلا باعتبار تحصيل الظن بالصدور من غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 104

جهة رواية الكتب المعتبرة لها إذ من هذه الجهة متساوية في الظن بالصدور فيسقط اعتباره. على انا نقول: ان الوثوق و الظن لا يحصل بمجرد رواية الكتب المعتبرة للخبر لأنا رأيناهم يعتمدون على كثير من المراسيل و

الروايات الضعاف و روايات بعض المخالفين للمذهب و روايات التجسيم و قدم العالم و وقوف الأرض على قرن الثور، فكل رواية لم نطلع على رجالها و نعرفهم انهم محل ثقة لم يحصل لنا الظن بصدورها و لا الوثوق بها. على ان كثيرا من الروايات لم توجد في الكتب المعتبرة بل توجد في كتب أخرى.

و أما الاحتياج الى علم الرجال في مسألة التعارض، فلما أثبتناه فيها من الترجيح بالأعدلية و الأوثقية و نحو ذلك.

(و المقدار المطلوب معرفته من علم الرجال)

هو ما ذكرناه في الجهات الأربعة في الشرط الأول للاجتهاد فإنه جار هاهنا فيكفي معرفة الرجال في الاجتهاد و لو من غير كتب الرجال، و لا يكفي التقليد بتصحيح السند ما لم يحصل العلم العادي بصحته فيما لو بنينا على حجية خبر الراوي الجامع للصفات و ما لم يحصل الوثوق به فيما لو بنينا على حجية خبر الواحد من باب الوثوق بالصدور، و يكفي في معرفة علم الرجال معرفة المقدار المحتاج اليه الفقيه و يكفي في المعرفة هو القدرة القريبة عليها بحيث متى احتاج تمكن من المعرفة و لا يلزم المعرفة الفعلية.

(الشرط الرابع للاجتهاد) معرفة علم الأصول
اشارة

و ذلك لأن الاجتهاد كما عرفت استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي، و من المعلوم ان علم الأصول هو القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي من دليله، فهل يعقل ان يستطيع من يريد ان يستفرغ الوسع لتحصيل الظن ان يستغني عن تلك القواعد، و هل هو إلا كالداخل للحرب بلا سلاح إلا اللهم ان يكون الوحي ينزل عليه و هذا خارج عن محل البحث، كيف و علم الأصول يعرف به الظن المعتبر بالحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 105

الشرعي الذي يجب على المجتهد تحصيله دون غيره من المظنون و يعرف ما هي الوظيفة عند عدم تحصيله، فهل يعقل ان يستغني المجتهد عن هذا العلم الذي يرتكز عليه الاجتهاد. و كفى دليلا على احتياج المجتهد اليه هو ابتناء نوع مسائل الفقه عليه، فإنك لو راجعت الفقه لرأيت أغلب مسائله مبنية على مسألة أو أكثر في علم الأصول.

و قد تمسك إخواننا الأخباريون في منع اعتبار علم الأصول في استنباط الأحكام الشرعية بأمور:
(أحدها) إن العلوم العربية تغني عن علم الأصول

لتكفلها لبيان مقدمات الاستنباط كمباحث الأمر و النهي و نظائرها، و ما يزيد على ذلك من المباحث المذكورة في علم الأصول لا ربط لها بالاستنباط و ليس صرف الوقت فيه إلا تضييعا للعمر الشريف.

و الجواب عنه واضح ضرورة ان أكثر مباحث علم الأصول لا ربط لها بالعلوم العربية مثل مباحث حجية الأدلة نفيا أو إثباتا و احكام تعارضها و تعادلها و المباحث العقلية كمبحث مقدمة الواجب و اقتضاء الأمر للاجزاء و كون القضاء بأمر جديد، و اجتماع الأمر و النهي و جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط و تحرير مجاري الأصول و غير ذلك من المباحث المهمة. مضافا الى عدم تنقيح علماء العربية للمباحث الأصولية المذكورة فيها و عدم التعارض لمواردها الموجودة في الكتاب و السنة

مع شدة حاجة المجتهد إليها.

(ثانيها) انه لو ترك العبد الامتثال للتكاليف معتذرا بجهله لعلم الأصول

ذمه العقلاء و عاقبه المولى، فليس علم الأصول شرطا لوجوب معرفة الاحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و الا لما صح الذم لأن المقدمة الوجوبية ليست بواجبة. و جوابه ان هذا لو دل على عدم وجوب تعلم علم الأصول لدل على عدم وجوب مراجعة النبي و الأئمة (ع) في تعلم الاحكام لأنه لو ترك العبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 106

الامتثال للتكاليف معتذرا بعدم مراجعته للرسل المبعوثين و الأئمة المعصومين ذمة العقلاء و عاقبه المولى، مضافا الى أن ذلك من قبيل مقدمة الواجب بالنسبة لمعرفة الأحكام الشرعية و إن كان من قبيل مقدمة الوجوب للاجتهاد مضافا الي أن الدعوى إن الاجتهاد لا تحصل طبيعته إلا بمعرفة علم الأصول فيكون وجوب معرفة علم الأصول تابعا لوجوب الاجتهاد أو عدم وجوبه.

(ثالثها) ان هذا العلم مما أحدثه العامة فتسرى منهم إلى أصحابنا الإمامية

في زمن الغيبة و لم يكن يعرفه أصحاب الأئمة (ع) بل كان المعصوم يحدث أصحابه فيفهمون من قوله (ع) حكم اللّه تعالى من غير توقف لاحتمال معارض أو مخصص أو مقيد، و كان هذا ديدنهم الى زمان العماني (ره) و الإسكافي (ره) و بعد ذلك حدث تدوين الأصول بين الشيعة، فلو لا انه من البدع المستحدثة و الطرق المخترعة الممنوع عنها في الشريعة، لما أهمل بيانه أصحاب الأئمة (ع). و جوابه ان في المحكي عن كتاب النجاشي ان هشام بن الحكم و هو من أشهر أصحاب أبي جعفر الصادق (ع) صنف كتاب الألفاظ و مباحثها و هو من أهم مباحث علم الأصول و ان يونس بن عبد الرحمن صنف كتاب مباحث اختلاف الحديث و مسائله و هو مباحث التعادل و التراجيح. و رواه عن موسى الكاظم (ع) كيف و الأئمة (ع) قد سئلوا عن

احكام التعارض و خبر الواحد و تعيين من له أهلية الفتوى و التقليد، و عن أحكام الشبهات و مجاريها و لقنهم الأئمة (ع) أجوبتها و إنما لم يحتج أصحاب الأئمة (ع) الى كثير من مباحث الأصول خصوصا مباحث الألفاظ لقرب العهد و توفر القرائن و هم من أهل اللغة و المحاورة ثمَّ ان المشافة لها مدخلية في فهم الكلام لا تحتاج إلى إعمال قواعد و لو وقع فيها خفاء أمكن السؤال و لا يقع فيها إضمار و لا إرسال و لا تقطيع و لا تصحيف و لا تشكيك في انها حجة أم لا. ثمَّ عدم تدوين العلم لا يدل على عدم وجوده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 107

رأسا فإن المسائل لكل علم قضايا واقعية تظفر بها العقول فتدون و قد كان أغلب مسائل علم الأصول مركوزا في أذهان المتقدمين و كانوا عليها معولين و بها متمسكين و إن لم تكن مدونة و لا مبوبة. و يستفاد أكثر هذه المسائل من الآيات و الروايات، و قد أتعب نفسه بعض علمائنا السيد عبد اللّه بن السيد محمد رضا الحسيني في كتابه المصباح بجميع جملة من الروايات الدالة على المسائل الأصولية فليراجعه من أراد.

(و المقدار المطلوب معرفته من علم الأصول)

هو ما ذكرناه في الجهات الأربعة في الشرط الأول فإنه المقدار المطلوب هنا فما ذكرناه هناك جار هاهنا فيكفي معرفة علم الأصول و لو من غير كتب الأصول كما يذكر في الكتب الفقهية الاستدلالية المطولة، و لا يجوز التقليد فيها بل لا بد من تحصيل الدليل المعتبر عليها لما عرفته غير مرة من ان التقليد في مقدمات الاجتهاد موجب للتقليد في الفتوى لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات كما انه في كل

مسألة من مسائل الفقه يكفي معرفة ما يحتاجه الفقيه من الأصول كما يكفي القدرة القريبة على المعرفة بحيث متى احتاج تمكن من المعرفة و لا يلزم المعرفة الفعلية. نعم لو أراد أن يجتهد في مسألة فقهية و كانت متوقفة على مسألة أصولية وجب عليه أن يحصل المعرفة الفعلية بتلك المسألة الأصولية ثمَّ يستنبط الحكم من مدركه.

(الشرط الخامس للاجتهاد) التمكن من الرجوع للأدلة على الأحكام الشرعية الفرعية

بأن يقدر قدرة قريبة على معرفة الأدلة المتعلقة بالمسألة التي يريد أن يستنبط حكمها فيستطيع أن يعرف أن هناك آية أو رواية أو إجماع أو دليل عقل يدل على حكمها أم لا، حتى لو كان في غير بابها إلا انه للّه الحمد قد تصدى علماؤنا (ره) الى جمع ما في القرآن الشريف من آيات الأحكام البالغة خمسمائة تقريبا في كتب خاصة مبوبة على أبواب الفقه منها كتاب آيات الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 108

للجزائري، و آيات الأحكام للأردبيلي، و للراوندي، و كفقه القرآن و كنز العرفان و زبدة البيان و غيرها مما قد جمعوا فيها آيات الأحكام فسهل على الإنسان معرفة ما يتعلق بالمسألة من الآيات و هكذا تصدى علماؤنا إلى جمع الروايات المتضمنة للأحكام في كتب الحديث المعروفة، و قد دونوها على أبواب سهل بذلك على الإنسان معرفة كل ما يتعلق بالمسألة من الروايات. و أما الإجماع و العقل فيعرفان بالمراجعة للكتب الاستدلالية الفقهية بل يمكن معرفة ذلك كله من مراجعة الكتب الاستدلالية الفقهية المطولة فقد أغنانا، أربابها رحمهم اللّه عن إتعاب النفس في المراجعة لغيرها شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

(الشرط السادس للاجتهاد) الملكة القدسية:
اشارة

و قد عبر عنها الكثير من الأصوليين بقوة رد الفروع إلى الأصول بمعنى معرفة ما اندرج في إطلاق الموضوع أو عمومه مما يخفى اندراجه ككون الملفق من المائين النجسين كرا و كون القادر على دفع العدو بالمال مستطيعا للحج و الاغتسال بما يقرب من الدهن غسلا و المسح بالكف و الماء يتقاطر منها مسحا و من يراوح رجليه في الصلاة مستقرا و ابتلاع النخامة أو الحصاة أكلا فيكون مفطرا و المعاطاة بيعا و نحو ذلك لا سيما تمييز موارد الأصول

بعضها عن بعض. و قال عنها آخرون: هي استخراج الجزئيات من الكليات بمعنى تناول الفروع من مداركها خطابا أو إجماعا أو عقلا. و الظاهر من هذا ان مرادهم بها هو: (الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي عن الأصل) التي تقدم تفسير المتأخرين للاجتهاد بها و إلا فرد الجزئيات الحقيقية الخارجية إلى القواعد الفقهية كمعرفة ان هذا الماء المخصوص كرا للحكم بعدم انفعاله و معرفة ان هذه الجهة قبلة للحكم بجواز الصلاة إليها ليس من وظيفة المجتهد. و الذي يظهر من كلام الفاضل الجواد (ره) في شرح الزبدة هو ذلك، أعني ان المراد بالملكة القدسية هو الملكة المذكورة كما هو ظاهر من عبر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 109

عنها بالقوة الاستنباطية و عليه فيكون مرادهم بشرطية هذه الملكة للاجتهاد هو الاجتهاد الفعلي أعني استفراغ الوسع، و لكن المتأمل في كلماتهم (ره) يظهر له أن مرادهم بالملكة القدسية غير ذلك، لأن الكثير منهم ذكرها شرطا للاجتهاد بالمعنى المذكور أعني بمعنى الملكة فيلزم اتحاد الشرط و المشروط سلمنا انها ليست بشرط للاجتهاد بالمعنى المذكور و إنها شرط للاجتهاد الفعلي إلا انه لا وجه لعدها شرطا للاجتهاد الفعلي في مقابل تعلم العلوم المذكورة فإنها إنما تحصل بحصول العلوم المذكورة التي يتوقف على معرفتها الاجتهاد الفعلي.

فالتحقيق أن يقال: ان ملكة الاجتهاد و القوة عليه القريبة تنحل الى قوتين:

(إحداهما) المكتسبة من معرفة العلوم المذكورة.

(و الثانية) عبارة عن قوة الفهم و شدة الإدراك و مزيد فطنة بضم القواعد بعضها الى بعض و تطبيقها على صغرياتها لاستفادة الحكم الشرعي منها فان نوع الأحكام الشرعية تحتاج في استفادتها من أدلتها إلى معرفة تركيب تلك القواعد تركيبا صحيحا ليستطيع أن

يدرك الحكم الشرعي منها، فمثلا آية (أقيموا الصلاة) يحتاج في استفادة وجوب الصلاة للظهر منها إلى القوة و القدرة على معرفة ان هذه صيغة الأمر لأن الأمر من أقام (أقم) و الخطاب للجمع أقيموا، و إن صيغة الأمر تدل على الوجوب إذا لم يكن معها قرينة على الخلاف و ان هذه الآية من صغريات هذه القاعدة، و إن لفظ الصلاة ليس مستعملا في معناه اللغوي و هو الدعاء، و إن لها إطلاق بالنسبة إلى الظهر و ليس للآية ما ينسخها و لا ما يقيدها بغير الظهر، فهذه أبسط المسائل الفقهية كان استفادتها من هذه الآية الكريمة الواضحة يحتاج الى هذا المقدار من الفطنة و الذكاء و الفهم و الجمع، فكيف بباقي الأحكام الفقهية التي ليس عليها الأدلة لواضحة و البراهين الجلية، فلذا كان المجتهد في الفقه لا بد له من قوة في الفهم و شدة في الإدراك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 110

و مزيد من الفطنة يتناول فيها الفروع من الأصول و الجمع عند التعارض حيث يمكن الجمع الدلالي و الترجيح عند عدمه، و رد الجزئيات الى كلياتها لا سيما الخفية كما تقدم أمثلتها و اجراء قواعد الأصول في الخطابات كقواعد الأمر و النهى، و العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد، و استفادة الاحكام من الملازمات كباب المقدمة و مسألة الضد و المفاهيم و التعريض و التلويح و الكناية و غير ذلك فهذه تحتاج الى مزيد فطنة و حسن ادراك و هي موهبة إلهية، و لذا وصفوها بالقوة القدسية إذ ليست هي حاصلة لكل أحد. و في المحكي عن الشهيد الثاني (ره) ان هذه القوة هي العمدة في هذا الباب و

الا فتحصيل تلك المقدمات قد صار في زماننا في غاية السهولة لكثرة ما حققه العلماء، و أما تلك القوة فبيد اللّه تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمه و مراده. و لكثرة التوسل باللّه و المجاهدة في ذات اللّه مدخل عظيم في تحصيلها فان من جاهدوا في اللّه تعالى يهديهم سبلهم و اللّه مع المحسنين. و لعل ما في الرواية من اعتبار مخالفة الهوى في مرجع التقليد لأجل تحصيل هذه القوة القدسية، و أما توهم ان المراد بالملكة القدسية هي القوة المكتسبة من شدة الممارسة للاستنباط كملكات الطب و النجارة و نحوهما من الحرف و الصنائع و المكتسبة من ممارسة الأعمال، فهو باطل لصحة الاجتهاد لأول مرة، كيف و هذه مرتبة تحصل بعد تحقق الاجتهاد، فلا يعقل أن تكون شرطا له.

و يورد على اعتبار هذه الملكة (أولا) انه لا شك في اختلاف المجتهدين المعتبرين في المسائل الفقهية و لا بد من أن يكون واحد منهم مصيبا و الباقون مخطئين و لا بد في كون المخطئين فاقدين للملكة القدسية في المسائل التي اخطأوا فيها فيلزم أن يكون المجتهد هو المصيب فقط و الباقون ليسوا بمجتهدين لفقدهم للملكة القدسية التي هي شرط الاجتهاد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 111

و الجواب عنه ان المعتبر هو قوة الفهم و ليس المعتبر مطابقة الفهم للواقع فخطأ المجتهد في المسألة لا يوجب سلب الملكة القدسية عنه كما ذكره بعضهم على ان الاختلاف بين المجتهدين غالبا ينشأ من الاختلاف في المبني.

(و يرد ثانيا) ان اعتبارها ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية لأن المكلف إما أن لا تكون له تلك الملكة فلا يجب عليه الاجتهاد لعدم تمكنه منه،

و إما أن تكون له الملكة و هو لا يعلم بحصولها عنده و هي شرط وجوب لا شرط وجود لعدم قدرة المكلف عليها لكونها موهبة من اللّه تعالى، و مع عدم العلم بالشرط لا يجب المشروط لعدم إحراز التمكن منه.

و جوابه- مضافا الى أن الكثير من الناس من يحرزها عنده- إن الشك في القدرة على العمل و التمكن منه لا يعتني به إذ ما من واجب إلا و المكلف لا يعلم قبل الإتيان به بتمكنه منه واقعا لاحتمال طرو العجز في الأثناء أو عدم القدرة عليه. و لذا أصالة عدم القدرة على العمل عند الإتيان به أو عدم العقل غير جارية، و بناء العقلاء على وجوب العمل مع هذه الاحتمالات.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 111

(و يرد ثالثا) ان اعتبار الملكة القدسية تنافي وجوب التقليد على العامي إذ لا طريق له إلى إحرازها في المدعي للاجتهاد.

و جوابه انها نظير العدالة و معرفة العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد فإنها تعرف بالرجوع لأهل الخبرة و شهادتهم على ذلك، و قد تعرف بالاختبار و المخالطة فان العامي قد يحصل له الاطمئنان بقدرة الشخص على ذلك إذا رأى فيه قوة الذكاء في باقي الأمور.

(و يرد رابعا) ان الاحكام الشرعية اما ان تستنبط من قواعد شرعية كقاعدة الحل و الطهارة، و عدم نقض اليقين بالشك فلا تحتاج إلى الملكة المذكورة و لذا كل عامي يتمسك بها في الشبهات الموضوعية و لم تكن لكل واحد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 112

من

العوام تلك الملكة إذ لو كانت موجودة في الجميع لما كانت شرطا يختص بها بعض الناس، و إما أن تستنبط من الاخبار، و لا يحتاج استفادة الأحكام منها الى تلك الملكة بدليل تقرير المعصومين (ع) معاصريهم من العالم و العامي على العمل بأخبارهم (ع) بمجرد السماع لمن فهمها من دون توقف على حصول شرط آخر و هو الملكة القدسية بل و لا على حصول غيرها.

و جوابه أن استفادة الأحكام من القواعد الشرعية في الشبهات الحكمية تحتاج الى مزيد ذكاء و فطنة ليفحص الأدلة و يحرز دلالتها أو عدم دلالتها على المسألة و هكذا استفادة الاحكام من الاخبار في هذا العصر فإنه يحتاج الى مزيد فهم و فطنة و بصيرة لتعارضها و تخصيصها و تقييدها و تخصصها و إعمال الأصول اللفظية فلا يستغني الإنسان عن الملكة، و هذا بخلاف الملقي للعامي من الامام (ع) فإن العامي إذا القى اليه الإمام (ع) الحكم في مسألته يعلم انه هو حكم مسألته لعدم اختلاف الوارد مع المورد من المعصوم فهو نظير إلقاء الفتوى من المجتهد لمقلده.

(و يرد خامسا)- كما ذكره بعضهم- بأن مصنفي الكتب الأربعة مصرحون بجواز العمل بالأحاديث من دون توقف على ملكة أو غيرها سوى فهم الحديث أما تصريحهم فلقول الصدوق (ره) في من لا يحضره الفقيه بأن وضع هذا الكتاب إنما هو لان يرجع اليه و يعمل بما فيه من لم يكن الفقيه عنده و لتصريح صاحب الكافي بأنه كتاب يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين و العمل به، و لتصريح الشيخ الطوسي (ره) أن تهذيبه يصلح أن يكون مذخورا يرجع إليه المبتدي في تفقهه و المنتهي في تذكره و المتوسط في

تبحره.

و جوابه إنما يلزم جواز الرجوع إليها لمن كان يفهم الأحاديث و مستجمعا لشرائط الاستنباط، فلا يلزم من كلامهم (ره) عدم اعتبار شرائط الاجتهاد التي منها الملكة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 113

ما يعتبر في الملكة القدسية

إن تحقق هذه الملكة و جواز الاعتماد عليها يستدعي أمورا تعرض لها الوحيد البهبهاني (ره):

(الأول) أن لا يكون معوج السليقة و الفهم، فان اعوجاج السليقة آفة للحاسة الباطنة كما ان الحاسة الظاهرة ربما تصير مؤوفة كما تكون بالعين آفة تدرك الأشياء بغير ما هي عليه، أو بالذائقة أو غيرهما كذلك. و الاعوجاج ذاتي كما ذكر، و كسبي باعتبار العوارض مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته، و نظيره نظير الذائقة التي تأثرت بالمرارة فكل شي ء تذوقه تجده مرا و قس عليها سائر الحواس.

أقول: و يناسب ذكره شاهدا على ذلك ما روي: أن في زمان الباقر عليه السّلام كان رجل يسرق و يتصدق به محتجا بقوله تعالى مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا، وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلٰا يُجْزىٰ إِلّٰا مِثْلَهٰا. معتقدا أن عشر حسناته بإزاء سيئة سرقاته، و يبقى له تسعة أعشارها و هي تنفعه و كان يكابر مع الامام عليه السّلام و لا ينتهي بقوله و نهيه. و كذا الرجل الذي في زمان الصادق عليه السّلام يوجب غسل دبره بخروج الريح و منشأ خياله ظاهر و قد بلغ اعوجاج السليقة ببعضهم بدعواه طهارة المني لقوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ. و يحكى أن بعض القضاة حكم بدفن رجل حي شهد الشهود بموته في زمن غيبته و ثبت عنده موته و حكم به زاعما انه ميت شرعا و الميت يجب دفنه شرعا.

و طريق معرفة الاعوجاج هو العرض على افهام الفقهاء

و اجتهاداتهم، فان وجد فهمه و اجتهاده وافق طريقة الفقهاء، فليحمد اللّه و يشكره و ان يجد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 114

مخالفتها فليتهم نفسه، كما ان من ذاق شيئا فوجده مرا فقال له أهل الذوق انه ليس بمر يجزم بأن ذائقته مؤوفة مغشوشة.

لكن ربما يلقي الشيطان في قلبه ان موافقة الفقهاء تقليد و نقص فضيلة فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهدا فاضلا، و لا يدري أن هذا غرور من الشيطان و إن حاله حينئذ حال ذي الذائقة المؤوفة حين ما قالوا انه ليس هاهنا مرارة فيقول: أنا أراه مرا و لا اقلدكم و تكونون أفضل مني.

(الثاني) أن لا يكون رجلا في قلبه محبة الاعتراض و الميل اليه بحيث متى ما سمعت شيئا يشتهي أن يعترض عليه أما حبا لإظهار الفضيلة أو أنه مرض قلبي و مثل هذا لا يكاد يهتدى و لا يعرف الحق من الباطل، بل ربما رأينا بعض الفضلاء الزاهدين البالغين أعلى درجة الفضل و الزهد فسد عليه بعض أصول دينه فضلا عن الفروع بسبب هذه الخصلة الذميمة. و قد شبه المرحوم البهبهاني هذا البعض بالكلب العقور.

(الثالث) أن لا يكون لجوجا عنودا فانا نرى كثيرا من الناس انهم إذا حكموا بحكم في بادئ نظرهم، أو تكلموا بكلام غفلة أو تقليدا أو لشبهة سبقت إليهم يلحون و يكابرون لإثباتها من قبيل الغريق (يتشبث بكل حشيش) للتتميم و التصحيح، و ليس همهم متابعة الحق بل جعلوا الحق تابعا لقولهم، و هؤلاء أيضا كسابقيهم لا يهتدون بل ربما ينكرون البدهي و يدعون خلافه، فاذا كان هذا حالهم في البدهيات فما ظنك بالنظريات القطعية فضلا عن الظنية فإن الظن قريب من

الشك و الوهم و بأدنى قصور أو تقصير يزول، لا سيما الظنيات التي وقع فيها الاختلال من وجوه متعددة يحتاج رفعها و علاجها إلى شرائط كثيرة.

(الرابع) أن لا يكون في حال قصوره مستبدا برأيه فإنا نرى كثيرا من طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع و فقدان الاطلاع و مع ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 115

هم مستبدون برأيهم القاصر فإذا رأوا كلام المجتهدين و لم يفهموا مرامهم لقصورهم و فقدان اطلاعهم يشرعون في الطعن عليهم بأن ما ذكرتم من أين؟

بل كل ما لا يفهمونه ينكرونه و يشنعون عليه و لا يتأملون ان الإنسان في أول أمره قاصر عن كل علم و كذا عن كل صنعة، و انه ما لم يكد و بجد في الطلب و التعب في تحصيل ذلك لم يحصل له فكيف يتوقع درك الأمور المشكلة العظيمة و الوصول إلى مرتبة المجتهدين، و لم يدر ان من طلب شيئا و جدّ وجد، و من قرع بابا ولج ولج.

(الخامس) أن لا يكون له حدة ذهب زائدة بحيث لا يقف و لا يجزم بشي ء مثل أصحاب الجربزة. و اعلم ان الجربزة يراد بها غاية سرعة الذهن و سرعة الانتقال بحيث لا يثبت على ما يرجحه من شدة سرعة خاطره فينتقل ذهنه الى وجه يرجح ضد ما رجحه أولا و لا يقف ذهنه من شدة سرعته على شي ء و الجربزة هو جانب إفراط الجودة كما ان البلادة جانب تفريطها فالجودة واسطة معتدلة و هي من المكملات كالشجاعة، و لا ضير في تجدد الرأي مع تجدد النظر أحيانا.

(السادس) أن لا يكون بليدا قاصر النظر، قليل الإدراك، لا يتفطن للمشكلات و الدقائق و

يقبل كلما يسمع و يميل مع كل قائل بل لا بد فيه من حذاقة و فطنة يعرف الحق من الباطل ورد الفروع إلى الأصول و يدري في كل فرع يوجد و يبتلي به انه من أي أصل يؤخذ و يجري مسائل أصول الفقه في الآيات و الأخبار و غيرهما في مجاريها و مواضيعها بمقداره و كيفيته.

(السابع) أن لا يكون مدة عمره متوغلا في الكلام أو الرياضي أو الأصول أو النحو أو غير ذلك مما هو طريقته غير طريقة الفقه ثمَّ يشرع بعد ذلك في الفقه فإنه يخرب الفقه بسبب انس ذهنه بغير طريقته و ألفه بطريقة غيره كما شاهدنا كثيرا من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 116

الماهرين في العلوم من أصحاب الأذهان الدقيقة السليمة انهم خربوا الفقه من الجهة التي ذكرناها. قال الوحيد البهبهاني (ره): انه قد يحدث من شدة الأنس بها و الاستناد إليها و الاعتماد عليها الغفلة عن قرائن الحديث مثل ما حقق في علم الأصول من عدم حجية مفهوم الوصف فإنه في كثير من الأحاديث يظهر اعتبار المفهوم باعتبار خصوصية المقام فيعترض عليها بأن مفهوم الوصف ليس بحجة مثل ما ورد في صحيحة الفضل في خيار الحيوان فإنه قال: قلت ما الشرط في الحيوان؟ فقال: ثلاثة أيام للمشتري. قلت فما الشرط في غير الحيوان؟

قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، و هذا كالصريح في تخصيصه بالمشتري و مع ذلك يعترض بأن مفهوم الوصف ليس بحجة.

(الثامن) ان لا يأنس بالتوجيه و التأويل في الآية و الحديث الى حد تصير المعاني المأولة من جملة المحتملة المساوية للظاهر المانعة عن الاطمئنان به كما شاهدنا من بعضهم ذلك، و لا يعوّد نفسه بتكثير الاحتمال

في التوجيه فإنه أيضا ربما يفسد الذهن.

(التاسع) أن لا يكون جريئا غاية الجرأة في الفتوى كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة فإنهم يقتلون كثيرا بخلاف المحتاطين منهم و قد قيل ان الجري ء في الفتوى ربما يكون من قبيل قاطع الطريق الى اللّه تعالى.

(العاشر) أن لا يكون مفرطا في الاحتياط فإنه أيضا ربما يخرب الفقه كما شاهدنا ذلك في الكثير ممن أفرط في الاحتياط بل كل من أفرط فيه لم نر له فقها لا في مقام العمل لنفسه و لا في مقام الفتوى لغيره. هذا ما استفدناه من المحقق البهبهاني (ره) و تبعه غير واحد على ذلك و لكن التحقيق ان هذه الأمور المذكورة ترجع كلها الى اعتبار اعتدال السليقة، و استقامة الطبيعة، و حسن الفطنة دون بلادة في الذهن، و شذوذ في التفكير، و اعوجاج في الفهم. و لعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 117

ذلك إنما يحصل بالتوجه نحو اللّه تعالى و التوسل بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله الأطهار فإن العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء كما ان دراسة أحد الكتب الفقهية الاستدلالية الموسعة و الحضور على يد أحد الاساتذة المهرة و المذاكرة في المسائل لها أبلغ الأثر في القوة على الاستنباط و الاطمئنان بحصول الملكة القدسية و القدرة الكاملة على الاستنتاج.

ما يتوهم من العلوم أنها من شرائط الاجتهاد

(منها) علم المعاني و البيان كما هو المحكي عن السيد المرتضى (ره) في الذريعة، و عن الشهيد الثاني في آداب العالم و المتعلم، و عن أحمد بن المتوج البحراني في كفاية الطالب، و علم البديع أيضا كما هو المحكي عن الشهيد الثاني، و الشيخ أحمد بن المتوج البحراني فإن أرادوا بعض مباحثها

كبعض مباحث القصر و الإنشاء و الخبر و الحقيقة و المجاز و أقسام الدلالة و نحوها مما ينفع في الاستنباط فهو حق إلا أن الظاهر ان علم الأصول متكفل لبيان جميع ما يتعلق بالاجتهاد من هذه العلوم و بعبارة أخرى ان هذه العلوم الثلاثة يبحث فيها عن الزائد على أصل المراد فإن المعاني يبحث عن الأحوال التي يطابق بها الكلام لمقتضى الحال كأحوال الاسناد و متعلقات الفعل و القصر و الإنشاء و الفصل و الوصل و الإيجاز و الاطناب و المساواة و ما يتعلق من هذه المباحث في الفقه ذكروه في علم الأصول، و أما علم البيان فإنه يبحث عن إيراد المعنى بطرق مختلفة كالحقيقة و المجاز و ما يتعلق من ذلك بالفقه مذكور في علم الأصول، و علم البديع علم يعرف به وجوه محسنات الكلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 118

و ليس في شي ء من مباحثه شي ء يتوقف عليه الفقه كعلم العروض و التجويد و نحوها و إن أرادوا أن بهذه العلوم يرجح أحد المتعارضين على الآخر بالفصاحة و الأفصحية فهو موقوف على صحة الترجيح بالفصيح على غيره، و الأفصح على الفصيح و هو غير صحيح لما قرره غير واحد من أن بناء الأئمة عليهم السّلام لم يكن في محاوراتهم على التكلم بالأفصح بل كانوا يتكلمون مع الناس على قدر عقولهم و إفهامهم مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس من امبر امصيام في امسفر. و قول علي عليه السّلام في جواب السائل: عن طمش طاح فغادر شبلا عن النشب.

و بالجملة من معجزاتهم إنك إذا تأملت في كل حديث من أحاديثهم ظننت بأن كلام السائل و المسؤول كلام

لشخص واحد و هذا من أقصى درجات البلاغة و الفصاحة فكونهم معصومين لا يستلزم عدم صدور غير الفصيح منهم عليهم السّلام فلا يحصل الظن بصدور الفصيح دون غير الفصيح عنهم عليهم السّلام كما لا يحصل بصدور الأفصح دون الفصيح. فلا يمكن ترجيح أحد الحديثين بسبب فصاحة أو أفصحية (نعم مراتب الفصاحة و البلاغة) متعددة أعلاها البالغ حد الاعجاز و هو مختص بالكتاب الكريم و أنزل من ذلك مرتبة ثانية لا تصدر من غير المعصوم كبعض خطب نهج البلاغة و بعض من أدعية الصحيفة العلوية و الصحيفة السجادية، فاذا تعارض الحديث البالغ لهذه المرتبة من البلاغة مع غيره مما لم يبلغ تلك المرتبة نقدم الأول، كما أن غير الفصيح له مراتب بعضها مما يظن بعدم صدوره من المعصوم، فاذا تعارض هذا الحديث الذي هو في أدنى مراتب غير الفصاحة مع الحديث الفصيح أو الأفصح نقدم الأخير للظن بعدم صدور الأول بناء على الترجيح بمطلق ما يوجب ظن الصدور، أما إذا تعارض إحدى المراتب المتوسطة بين أعلى الفصاحة و أدناها مع مرتبة اخرى هي أيضا غير الأعلى و الأدنى المزبورين لا يمكن ترجيح المرتبة الفائقة على المرتبة النازلة مطلقا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 119

(و أنت خبير) بأن أعلى المراتب في الفصاحة قل ما يوجد في الأحكام الفرعية و محله غالبا في الخطب و الأدعية و كذا المرتبة الدانية من غير الفصيح قل ما توجد في الأحاديث فيمكن أن يقال بعدم توقف الاجتهاد على معرفة العلوم الثلاث فلا تكون معرفتها شرطا للاجتهاد لقلة المرتبة الفصيحة الراجحة المفيدة للظن بالصدور في الأحاديث الواردة في الأحكام و قلة المرتبة الغير الفصيحة المرجوحة المفيدة للظن بعدم صدورها.

مضافا الى انه لو وجد شي ء من المرتبتين في الأحاديث يفهمه كل أحد و إن لم يكن عالما بالعلوم الثلاثة. نعم لا شك في مكملية هذه العلوم للمجتهد لا انها شرط للاجتهاد.

(و منها) علم الهيئة و الحساب و الطب و الهندسة لتوقف بعض مسائل الفقه عليها كمسألة الأهلة المتوقفة على معرفة تقارب مطالع البلدان و تباعدها المترتب عليها معرفة كون أول الشهر في بلد غير ما هو في آخر، و معرفة كون الشهر ثمانية و عشرين لبعض الأشخاص، و كذلك معرفة القبلة المتوقفة على معرفة عرض البلاد و طولها، و كذلك معرفة الزوال المتوقفة على معرفة نصف النهار الى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم الهيئة التي يتوقف عليها الأحكام الشرعية، و كمعرفة العيوب من القرن و نحوه. و معرفة المرض المبيح للإفطار على علم الطب، و كمعرفة المواريث و الوصايا و الأقارير على علم الحساب. و لا يخفى أن هذه العلوم إنما تنفع في تشخيص الموضوعات الخارجية الصرفة للأحكام الشرعية و هو ليس من شأن الفقيه و إنما يرجع فيها لأهل الخبرة بل لا يجوز تقليد الفقيه فيها و الرجوع اليه فيها كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث التقليد إلا من باب الرجوع الى أهل الخبرة إن كان منهم. فعلى الفقيه أن يفتي بالصلاة إلى القبلة. اما ان القبلة من أي جهة في هذه البلدة فليس من وظيفته و شأنه، و عليه أن يقول السدس للأم، اما ان مقدار السدس ما هو؟

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 120

فليس بيانه من وظيفته و إنما يرجع لأهل الخبرة.

(و منها) علم الفقه على ما ينسب لجدنا كاشف الغطاء (ره) من أن الاجتهاد

يتوقف على العلم بجملة من الأحكام الفقهية يعتد بها بحيث يعد في العرف فقيها لأن الاجتهاد يتوقف على صدق الفقهية لأخذ الفقهية في تعريفه كما تقدم. و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى الجواب عن ذلك في بحث احكام الاجتهاد في الحكم الأول منها.

(و منها علم التفسير) فقد ذهب بعضهم انه لا بد للفقيه من معرفة هذا العلم لحجية القرآن و وجود الآيات الكثيرة فيه المتعلقة بالأحكام الشرعية و عليه فلا يجب إلا معرفة ما يتعلق بالأحكام الشرعية الفرعية منه و لا يجب معرفة الآيات الدالة على البعث و النشور و القصص و أحوال القرون الماضية و الأمثال الكريمة و للّه الحمد قد ضبط الفقهاء تلك الآيات الكريمة المتعلقة بالفروع و أفردوها بالشرح و البيان في مصنفاتهم المشهورة كآيات الأحكام للجزائري (ره)، و للراوندي (ره)، و الأردبيلي (ره) و فقه القرآن، و كنز العرفان، و زبدة البيان و غيرها من الكتب الموضوعة بهذا الشأن. و لكن التحقيق ان الفقهاء قد أغنوا المجتهدين عن ذلك بواسطة ان كتبهم الاستدلالية قد استوفت جميع الآيات و ذكرتها في مواردها فإنه ليس الواجب حفظها على ظهر القلب، و إنما الواجب التمكن من الرجوع إليها في كل مورد من مواردها و قد تكفل بذلك علماؤنا (ره) في كل مسألة من مسائل الفقه. هذه هي الأمور المعتبرة في تحقق الاجتهاد و عنوان المجتهد و جواز عمله برأيه، و أما الأمور المعتبرة في تحقق عنوان المفتي و المقلد (بالفتح) و جواز الرجوع إليه فسيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام فيها في مبحث التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 121

تقسيم الاجتهاد

التقسيم الأول إلى مطلق و متجزي
اشارة

قد عرفت ان الاجتهاد هو عملية استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل الظن

بالحكم الشرعي و يسمى عند الأصوليين بالاجتهاد الفعلي كما ان الملكة و القدرة عند الفقيه على ذلك تسمى في اصطلاح الأصوليين بالاجتهاد الملكي، و من هنا جعلوا تعريف الشيخ البهائي (ره) للاجتهاد المتقدم ص 73 تعريفا للاجتهاد الملكي. إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قسموا الاجتهاد الى قسمين: مطلق و هو الاجتهاد في جميع المسائل. و متجزي و هو الاجتهاد في بعضها دون بعض و قد اختلف القوم فيما بينهم أن هذا التقسيم للاجتهاد الفعلي أو الملكي، فإن منهم ما يظهر منه كونه للاجتهاد الفعلي، و منهم ما يظهر منه كونه للملكي و هم الأكثر، لكن الحق أن إرجاع التقسيم إلى الفعلي مما لا وجه له لوجوه:

(أحدها) انه لو ارجع الى الاجتهاد الفعلي لزم أن لا يوجد مجتهد مطلق لعدم وجود شخص اجتهد من أول الفقه لآخره في تمام مسائل الفقه لعدم تناهي مسائل كل علم و عدم إحاطة القوة البشرية بها، خصوصا الفقه الذي تجدد له في كل عصر مواضيع لم يعلم بها من ذي قبل فلا بد من استخراج أحكامها من القواعد الفقهية العامة كالقهوة و التتن و الراديو و التلفزيون و نحو ذلك.

و دعوى إنما يتم ذلك لو أريد بإطلاق الفعلية هو إطلاقها بالنسبة الى ما يمكن تصويره من المسائل، أما لو أريد به المسائل المعروفة المدونة حسب المتعارف فان العالم بهذا المقدار يسمي مجتهدا مطلقا بل يصدق بما دون ذلك فيما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 122

إذا كان عالما بقدر يعتد به.

مدفوعة بأن القوم ليس لهم اصطلاح خاص في المطلق. و التقسيم الى المطلق و التجزي ناظر للحقيقة الواقعية لا انه مبني على المسامحات العرفية.

و دعوى انه يمكن العلم

بالمسائل الفقهية بأجمعها على سبيل الاجمال و الاندراج تحت القواعد العامة المعلومة فيمكن وجود المجتهد المطلق بالاجتهاد الفعلي إلا أنه على سبيل الاجمال لا على سبيل التفصيل.

مدفوعة بأن العلم بالمسألة الفقهية على سبيل الاجمال ليس باجتهاد فيها إذ الاجتهاد فيها هو تفريغ الوسع فيها لتحصيل الظن بحكمها. و لذا قلنا: إن من الاجتهاد أخذ الفروع من الأصول.

(و ثانيها) انه يلزم القائل بعدم التجزي أن لا يعمل المجتهد بمجتهداته قبل أن يجتهد اجتهادا فعليا في تمام الفقه و إن كان عنده الاجتهاد الملكي المطلق و هذا لا يلتزم به القائل بعدم التجزي لأن كل مجتهد تكون اجتهاداته الفعلية تدريجية، بل بعد إتمام النظر و الاجتهاد في تمام الفقه أيضا لا يجوز له العمل بمجتهداته لوقوعها في زمان عدم تحقق اجتهاده لعدم كونه مجتهدا ما لم يجتهد في جميع المسائل فلا بد له من اجتهاد ثاني حتى يجوز عمله، و القائل بعدم التجزي لا يلتزم بذلك.

(و ثالثها) إن مثل المحقق و العلامة و الشهيدين و أضرابهم قد ترددوا في بعض مسائل الفقه، مع ان أحدا لم يستشكل في كون اجتهادهم مطلق و ليس ذلك إلا من جهة حصول الاجتهاد الملكي المطلق عندهم، و حصول المانع من اجتهادهم الفعلي في تلك المسائل لتعارض النص أو لفقده أو لغير ذلك.

(رابعها) انه لو كان التقسيم راجعا للفعلي لزم أن يكون عوام المسلمين بأجمعهم مجتهدين بالاجتهاد المتجزي لعلمهم بكثير من الأحكام بالإجماع و الضرورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 123

كوجوب الصلاة و الزكاة و نحو ذلك لكن لو جعلناه راجعا للملكي لم يلزم ذلك لعدم وجود ملكة الاجتهاد عندهم. و لكن لا يخفى ما فيه فان ذلك لا

يسمى اجتهادا لما عرفت ان الاحكام المذكورة لم يكن فيها اجتهاد لأنه قد أخذ في تعريف الاجتهاد استفراغ وسع الفقيه و هذا العامي لم يستفرغ وسعه في تلك الاحكام.

و قد أورد في الفصول على إرجاعه للاجتهاد الملكي بأن المجتهد المطلق قد يحصل له القطع بالحكم فحينئذ لم تحصل له ملكة الظن بالحكم في جميع الاحكام و فيه ما لا يخفى فان ملكة الاجتهاد لا بد و ان يكون متعلقها الاجتهاد و المفروض ان الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن سواء حصل الظن أم لا فحينئذ معنى ملكة الاجتهاد هو كون الشخص أهلا لاستفراغ الوسع بأن كان ذا قوة على إعمال الأدلة و التأمل في مداليلها و استخراج الفرع منها و رفع معارضاتها و علاج تعارضها باعمال القواعد المقررة لذلك حتى يحصل له الظن بالحكم الفرعي الشرعي و إلا فالمحكم هو الأصول، فليس حصول الظن المذكور في تعريف الاجتهاد داخلا في قوام الاجتهاد و انما هو فائدة تترتب عليه و كان أخذه فيه لتحديد المرتبة من القدرة المعتبر وجودها في الاجتهاد بحيث لو حصل الأدنى منها لم يحصل الاجتهاد، فاذا حصل الاستفراغ المذكور و ترتب عليه القطع فقد حصل الاجتهاد.

و قد يورد أيضا على إرجاع التقسيم للاجتهاد الملكي بأن المجتهد قد يتردد في الحكم كتردد المحقق في شرائعه مع انه لا إشكال في انه مجتهد مطلق فكيف يقال ان المطلق من له القدرة على الاجتهاد في تمام الفقه. و جوابه ما عرفته ان الاجتهاد هو نفس استفراغ الوسع و ملكته هي القدرة على ذلك فكونه قادرا على استفراغ الوسع على تحصيل الظن بالحكم المذكور لا ينافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 124

انه بعد

الاستفراغ لم يحصل له الظن.

[التعرض لكلام المرحوم الآخند صاحب الكفاية في تجزي الاجتهاد.]

و قد عرف صاحب الكفاية قدس سره الاجتهاد المطلق بما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبرة، و الاجتهاد المتجزي بما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام، و الظاهر ان مراده (ره) «بما يقتدر» هو الملكة فإنها هي التي يقتدر بها على ذلك.

و يرد عليه أولا ان المطلق و المتجزي تقسيم للاجتهاد فيجب ان يكون المقسم محفوظا بينهما لأن التقسيم ضم قيود مختلفة لشي ء واحد و هو المقسم، فاذا كان هذا تقسيما للاجتهاد الفعلي كان عليه ان يقول: الاستفراغ في تمام الفقه اجتهاد مطلق و في بعضه اجتهاد متجزي، و إذا كان تقسيما للاجتهاد بالملكة كان عليه ان يقول: ملكة الاستفراغ في تمام الفقه اجتهاد مطلق. و في بعضه اجتهاد متجزي اما الملكة على الاستنباط فهي غير الملكة على الاستفراغ فإن الأولى ملكة الفقه، و الثانية ملكة الاجتهاد، و لعل نظره الشريف الى ان التعريف لفظي كما بني عليه في سائر المقامات و أن كنا قد خالفناه في هذا المبني لأنها لو كانت كذلك لما رد بعضهم على بعض من عدم كون التعريف جامعا أو مانعا فلا بد ان يكون نظرهم للتعريف الحقيقي لا اللفظي.

و يرد عليه ثانيا، إن من كان يحصل له القطع كالمرتضى و ابن إدريس في الأحكام ليس عنده ما يقتدر به على الاستنباط من الأمارة أو الأصل فليس بمجتهد مطلق مع انه قطعا مجتهد مطلق، لكن بخلاف ما إذا قلنا ملكة الاستفراغ فإنه توجد عنده ملكة الاستفراغ لتحصيل الظن و إن كان يحصل باستفراغه القطع.

و يرد عليه ثالثا: إن الاجتهاد إنما اعتبر بالنسبة للأحكام الواقعية، و لذا أخذ في تعريفه الظن

بالحكم فكيف يجعل (ره) القدرة على الحكم الفعلي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 125

هو ميزان إطلاق الاجتهاد بل كان عليه ان يجعل الميزان هو القدرة على الحكم الواقعي.

و يرد عليه رابعا إن من كان عاجزا عن تحصيل الأمارة أو الأصل مع أنه عنده قدرة على الاستفراغ لكنه لو استفراغ لا يستطيع تحصيل الأصل و لا الامارة فهذا يلزم أن يكون متجزيا مع انه مطلق كما يتفق ذلك لفطاحل أهل العلم كما في مسائل الوديعة التي يلجأون فيها الى الصلح، و مسائل النكاح التي يلجأون فيها الى الطلاق.

إمكان التجزي في الاجتهاد
اشارة

هذا و قد وقع النزاع بين العلماء في إمكان التجزي في الاجتهاد بمعنى حصول الملكة الاجتهاد للشخص بالنسبة لبعض مسائل الفقه دون بعض كما هو شأن أغلب العلوم و الصنائع. و بعبارة أخرى: أنه هل يمكن أن تحصل لشخص ملكة اجتهاد في بعض مسائل الفقه دون بعض على النحو الذي يحصل للمجتهد المطلق بحيث يكون قادرا على استخراج قسم من الأحكام من أدلتها كما يكون ذلك للمجتهد المطلق. و قد استدل على إمكانه بأن مدارك مسائل الفقه مختلفة، فبعضها مدركها النقل و بعضها مدركها العقل، و بعضها سهلة المدرك، و بعضها صعبة المدرك، فيمكن للشخص أن يكون قد حصّل مدارك المسائل النقلية كحجية الكتاب و الخبر، و حجية الظهور، و الجمع بين الظواهر كالعام و الخاص، و اعمال قواعد المعارضة. و مقدار الفحص اللازم لنفي المعارض، ورد الفروع إلى الأصول فحينئذ تحصل له ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهية النقلية التي لا علاقة لها بالعقل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 126

كاستحباب القنوت في الصلاة أو أحكام الشك في أجزائها و شرائطها و لم

تحصل له مدارك المسائل العقلية كمسألة اجتماع الأمر و النهي، و اقتضاء الأمر للنهي عن ضده و اقتضاء النهي للفساد و أجزاء الأمر الاضطراري و قواعد العلم الإجمالي و نحو ذلك. و كيف لا يكون ذلك ممكنا و كثيرا ما تكون المسألة الفقهية مبتنية على مسألة أصولية كمسألة بطلان الصلاة في المكان المغصوب المبتنية على مسألة عدم جواز اجتماع الأمر و النهي في محل واحد و تقدم جانب النهي فالشخص لو عرف تلك المسألة الأصولية بأدلتها كانت له ملكة الاجتهاد في تلك المسألة الفقهية (و بعبارة أخرى) ان ملكة الاجتهاد هي القوة القريبة من فعلية الاجتهاد، إما القوة البعيدة فهي حاصلة لكل إنسان و لكنها إنما تصير قوة قريبة بواسطة حصول المقدمات التي يتوقف عليها الاجتهاد الفعلي من العلوم و الانس بكلمات الفقهاء و العلم بالمدارك و ملكة تفريع الفروع على الأصول و لا شك ان هذا المعنى قد يحصل بالنسبة إلى قسم خاص من الفقه دون قسم آخر.

حجة القائلين بإمكان التجزي

و قد يستدل على إمكان التجزي بقاعدة الإمكان لأنه قد برهن في الحكمة على ان كل شي ء ممكن ما لم يقم البرهان على امتناعه و لأن الامتناع كالوجوب يحتاج إلى أمر زائد و الممكن هو ما تساوى طرفاه، و الأصل عدم الأمر الزائد.

و فيه ان المنكر للتجزي قد أقام البرهان على امتناعه و أما قوله: (و لأن الامتناع) فجوابه: إن الامتناع من الأمور الذاتية و هي لا تحتاج لأمر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 127

زائد على الذات فإن الشي ء إذا كان ممتنعا كان ممتنعا من الأزل و إلا فلا، و حينئذ فلا معنى لأصالة عدمه مع ان محل الكلام هو الإمكان الوقوعي و

لذا لم يتكلموا بعد إمكان التجزي عن وقوعه، و إنما تكلموا عن حجيته، و الوقوع محتاج لأمر زائد و الأصل عدمه. و قد يستدل بأن الغالب هو الإمكان و الشي ء يلحق بالأعم الأغلب، و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم ان الأشياء الأغلب فيها هو الإمكان الوقوعي مع ان ذلك لا يفيد إلا الظن، و لا دليل على حجيته و قد يستدل عليه بأنه لو لم يمكن التجزي يلزم أن يتوقف إمكان الاجتهاد في بعض المسائل على إمكانه في جميعها مع ان إمكانه في جميعها متوقف على إمكانه في بعضها ضرورة توقف الكل على أجزائه. و جوابه: ان الخصم يدعي حصول الكل دفعة واحدة لا تدريجا و ان القوة الحاصلة له في بعض المسائل هي ليست باجتهاد، فالاجتهاد المطلق ليس اجزاؤه الاجتهادات في بعض المسائل و إنما هي قوى خاصة.

حجج المانعين من تجزي الاجتهاد الملكي
اشارة

قد منع جماعة عن تجزي ملكة الاجتهاد بوجوه:

(أحدها) ان ملكة الاجتهاد أمر واحد بسيط، و البسيط لا يتجزأ

و جوابه: ان مسائل الفقه لو كانت تنتهي إلى سنخ واحد من الأدلة و المدارك فحينئذ لا يمكن التجزي لأن ملكة الاجتهاد في الجميع واحدة فإذا حصلت قوة الاجتهاد في بعضها حصلت في الجميع، لكن مئاخذ المسائل الفقهية و مداركها مختلفة فكانت ملكاتها مختلفة، و من مجموعها تحصل ملكة واحدة بسيطة في جميع المسائل الفقهية تنطوي فيها تلك الملكات المتعددة انطواء الكثرة في الوحدة نظير العلوم الجزئية الحاصلة بالاستقراء التي تنطوي في العلوم الكلية،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 128

و نظير ملكات صناعة التجارة المتعلقة بأنواعها المنطوية في الملكة على جميع أقسام التجارة، فالمتجزئ يحصل له احدى تلك الملكات دون تلك الملكة المطلقة فتلك الملكات عين تلك الملكة وجودا، و لا ينافي ذلك بساطتها نظير انطواء العلم بالجزئيات في العلم بالكليات مع انه عينه. و إن أبيت عن ذلك فنقول: إن التجزي لم يكن في الملكة و إنما هو في متعلقاتها، فتارة تكون الملكة البسيطة متعلقة ببعض المسائل، و أخرى بجميعها كما أن ملكة الصناعات قد تتعلق ببعض أفراد الصناعة و قد تتعلق بجميع أفراد تلك الصناعة، بل يمكن أن يقال ان الملكة على جميع المسائل الفقهية لا يعقل أن تحصل دفعة واحدة بحسب جريان العادة إلا بعد حصول تلك الملكات على سبيل التدريج، و عليه فلا يعقل أن يصير الشخص مجتهدا مطلقا ما لم يكن أولا متجزيا.

(ثانيها) الإيراد المعروف و هو انه لا يمكن لأحد أن تحصل له الملكة في بعض المسائل

لوجود المانع و هو احتمال وجود المعارض أو جهة أخرى مخفية عليه فيما لم يكن عنده ملكة فيه و حينئذ فلا يمكنه أن يجتهد في تلك المسألة. و جوابه: انه منقوض بالمجتهد المطلق لما عرفت من انه لا يكون مجتهدا بالفعل في جميع المسائل فجاز

أن يكون فيما لم يجتهد فيه شي ء له تعلق بالحكم المذكور أو معارض للحكم المذكور. و جوابه بالحل: ان هذا الاحتمال إنما يوجب عليه الفحص بمقدار اللازم كالمجتهد المطلق عند ما يحتمل وجود المعارض و هو ملاحظة مظان الأدلة المعارضة و هو مما يمكن حصوله للمتجزي مع أن مسائل الفقه بعد تحريرها بهذا النحو من التحرير الواسع المبسوط يحصل له القطع أو الاطمئنان بعدم المعارض. هذا كله مع إمكان حصول الملكة له في النقليات فقد يحصل له عام غير قابل للتخصيص، أو مطلق غير قابل للتقييد.

و هكذا يمكن أن تحصل له ملكة في مباحث الإجماع، و لما استفرغ وسعه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 129

في تحصيل حكم شرب التتن تحقق عنده الإجماع و لازم ذلك أن يقطع بعدم المعارض و لا يجب حينئذ عليه الفحص كما انه يمكن أن يكون قد تفحص الكتب الفقهية من البداية إلى النهاية فلم يجد معارض لما حكم به، فان عدم وجود الملكة في بعض المسائل لا يمنع من معرفة وجود دليل يتعلق بما اجتهد فيه أو عدمه نعم إنما يمنع من استنباطها، كما ان التحقيق أن هذا الإيراد إنما يصلح أن يكون إيرادا على هذا المقام لو أريد بملكة المتجزي هي ملكة تحصيل الظن كما هو المنسوب لغير واحد، إذ لا يمكن مع التجويز المذكور أن يحصل له الظن فلا تكون له ملكة على الظن، لا من جهة ما قيل من أن انتفاء المسبب و هو الظن يوجب انتفاء السبب و هو الملكة فإنه طالما ينتفي المسبب مع بقاء السبب لوجود المانع إذ ليس هو علة تامة، و في المقام المانع من حصول الظن هو الاحتمال

المذكور، فالأولى أن يقال انه لا توجد ملكة الظن مع الاحتمال المذكور من جهة ان ملكة الظن هي ما يتمكن بها من الظن و يكون مقدورا لو أعملها بدون مانع أصلا، كما هو الشأن في سائر ملكات العلوم، و مع هذا الاحتمال لا يتمكن من تحصيله فلا تكون له ملكة عليه، و أما لو أريد بها ملكة استفراغ الوسع كما تقدم ذلك منا، فهذا الإيراد لا يناسب هذا المقام لأن عدم مقدورية حصول الظن لا تمنع من مقدورية استفراغ الوسع الذي تعلق به الملكة، و لذا قلنا ان ملكة الاجتهاد توجد حتى مع عدم التمكن من الظن بالحكم.

(ثالثها) إن مقتضي كون المتجزي أحد قسمي المجتهد

هو اعتبار جميع ما اعتبر في تحقق ماهية الاجتهاد فيه من الشرائط المتقدمة من تمكنه من الاستنباط الحاصل بمعرفة علوم اللغة العربية و معرفة ما يبتني عليه صورة الاستدلال من علم الميزان، و معرفة علم الأصول، و الأدلة الشرعية من الإجماع و العقل، و الكتاب، و السنة، و علم الرجال، و كونه ذا قوة قدسية الى غير ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 130

من الشرائط المتقدمة.

و بالجملة يعتبر أن يكون واجدا لجميع ما يعتبر في تحقق ماهية الاجتهاد من غير فرق بينه و بين المطلق، إذ لو لا ذلك لما كان مجتهدا، بل مقلدا، لأن الفاقد لبعضها ليس مجتهدا، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه لا انه مجتهد متجزي و إذا كانت الشروط واحدة و هي كما تقدم موجبة لحصول الاجتهاد في سائر المسائل الفقهية، و من قبيل العلة التامة لحصول الملكة عليها كان المتجزي الحاصلة عنده تلك الشروط لا محالة مجتهدا مطلقا و ليس بمتجزي لحصول الملكة المطلقة عنده و جوابه: إن ما ذكر من

الشروط إنما هو شرط لحصول الاجتهاد في مطلق المسائل الفقهية، إذ بعض المسائل لا تتوقف على ما ذكر من الشروط فان المسائل الفقهية العقلية لا تتوقف على معرفة العلوم العربية، فيمكن معرفة تلك المسائل بدون حصول شرط الاجتهاد الذي هو معرفة العلوم العربية، و هكذا في المسائل النقلية لا يلزم في حصول شرط الاجتهاد فيها معرفة علم الميزان مضافا الى أن الملكة القدسية قد تحصل في بعض المسائل دون مسائل أخرى.

(رابعها) إن كون العلم علما واحدا مفسرا بالملكة

إذا كان ذا موضوع واحد يؤخذ من دليل واحد فلو كان ذا ملكات متعددة كان علوما متعددة و هو أمر غير معهود. و جوابه: انه لا يعتبر في وحدة العلم أخذه من دليل واحد و إنما المعتبر في وحدته هو وحدة الموضوع أو وحدة الغاية على الاختلاف في أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات أو الغايات، و كونه ذا ملكات لا يوجب كونه علوما متعددة مع وحدة الموضوع لها، أو وحدة الغاية المترتبة عليها كما نشاهد في علم الطب و نحوه من علوم الصنائع.

(خامسها) إن ملكة الاجتهاد ليست إلا مثل ملكة العدالة

، أي قوة التجنب عن المعاصي، فكما أنها شي ء واحد لا تتكثر بتكثر المعاصي، و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 131

تختلف باختلافها شدة و ضعفا، فكذلك ملكة الاجتهاد لا تتكثر بتكثر متعلقاتها فان الملكة على الشي ء لا تتجزأ بتجزء ذلك الشي ء، و إلا خرجت عن كونها ملكة، و لزم كون المتعلقة بكل جزء من أجزاء ذلك الشي ء ملكة غير المتعلقة بالآخر و هو خلاف الفرض من كونها ملكة واحدة فملكة استفراغ الوسع في تحصيل الظن بمعنى قوة ذلك و أهليته بالنسبة إلى سائر موارد الاستفراغ على حد سواء بمعنى أنها هي هي في كل مسألة من الفقه لا أنها غيرها أو جزؤها، نعم غاية الأمر ان هذه الملكة قد تؤثر في بعض المسائل، و قد لا تؤثر لحصول التعارض و نحوه من العوارض لا أنها تكون الملكة منعدمة فيها، و المحكم حينئذ فيه الأصول العملية.

و جوابه ان ملكة العدالة تنطوي فيها عدة ملكات بالنسبة إلى المعاصي انطواء الكثرة في الوحدة نظير العلوم الجزئية المنطوية في العلوم الكلية فلا مانع من حصول ملكة على اجتناب الزنا و الخمر و

اللواط دون الغناء و النظر إلى الأجنبية أما تسمية ذلك عدالة أم لا فهو أمر راجع للغة أو الاصطلاح، ثمَّ أن كثيرا من المجتهدين يتوقف في بعض المسائل لعدم اقتداره و قصور باعه و عدم إتقانه للدليل كما لو كان لا يعرف مسألة النهي عن الضد أو مسألة اجتماع الأمر و النهي و نحو ذلك من المسائل الغامضة فلا يقدر على استنباط فروعها و من كان كذلك فهو متجزي في ملكة الاجتهاد.

(سادسها) إن جواز تجزي الاجتهاد ينافي جعل الفقه عبارة عن العلم بالأحكام

لأن معناه أن الفقه هو العلم بجميع الأحكام الشرعية و لو استغراقا عرفيا. و جوابه: ان هذه مناقشة لفظية في أن التجزي المذكور هل يسمى تجزى في الاجتهاد في الفقه أم لا، على انه لا مانع من التسمية حتى لو التزمنا بذلك و قلنا ان الفقه عبارة عن العلم بجميع المسائل نظير قولنا جلس زيد في الدار مع انه جالس في بعضها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 132

هذا تمام الكلام في إمكان التجزي في الاجتهاد، و أما الكلام في حجية اجتهاده بالنسبة لنفسه و لغيره بمعنى انه يعمل باجتهاده و يجوز للغير تقليده فيما اجتهد فيه فسيجي ء إن شاء اللّه الكلام فيه مفصلا في أحكام الاجتهاد.

التقسيم الثاني إلى (الاجتهاد في الفتوى و الاجتهاد في الحكم)
اشارة

و ثمرة هذا البحث ان المجتهد عند ما يصدر رأيه في المسألة يستطيع أن يعرف أن ما يصدر منه فتوى أو حكم حتى يصدر منه قاصدا ذلك و حتى يجوز نقضه أو العدول إلى الأعلم منه لو كان فتوى دون ما إذا كان حكما و هكذا يصح في مورد التداعي بدون إقامة البينة لو كان فتوى و لا يجوز ذلك منه لو كان حكما كما انه بالنسبة إلى المعصومين عليهم السّلام انه لو كان نقلا للحكم الشرعي و فتوى جاز التعدي من مورده الى غيره، و لو كان حكما لم يجز التعدي من مورده لأنه مختص بمحله.

و أما عند الشك في انه فتوى أو حكم، فبالنسبة إلى المجتهدين الأصل يقتضي كونه فتوى لما سيجي ء إن شاء اللّه من ان الحكم إلزام بحكم اللّه في الواقعة، و الأصل عدم الإلزام كما ان الأصل جواز العمل بخلافه و الحكم بضده و عدم رفعه للخصومة و عدم تحقق شرائط الحكم

الى غير ذلك من الأصول الفقاهتية.

و أما بالنسبة إلى كلام المعصومين عليهم السّلام فعند الشك كما في قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 133

في قضية زوجة أبي سفيان لما جاءته و قالت: زوجي شحيح لا يعطيني من المال ما يكفيني و ولدي. فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لها: خذي لك و لولدك ما يكفيك. فان قوله صلّى اللّه عليه و آله خذي يحتمل أن يكون حكما لعلمه صلّى اللّه عليه و آله بصدقها فلا يتعدى من مورده، و يحتمل أن يكون فتوى و بيانا لحكم اللّه تعالى، و الحاصل إنه عند الشك لا تجرى هذه الأصول الفقاهتية المذكورة لوجود أصل اجتهادي واحد و هو الغلبة، فإن الغالب في كلمات المعصومين عليهم السّلام هو الفتوى و الاخبار بحكم اللّه تعالى حتى أوجب ذلك ظهور كلماتهم عليهم السّلام في ذلك إلا اللهم أن يقال إن الغالب في كلماتهم الصادرة عنهم عليهم السّلام في دعوى الماليات و مقام الخصومات هو الحكم لا الفتوى و الغلبة الأخيرة صنفية مقدمة على الاولي لكونها نوعية. هذا كلام وقع في البين،

[الفرق بين الفتوى و الحكم.]

فلنعد الى محل البحث و هو تقسيم الاجتهاد الى ذلك و هو مبني على بيان الفرق بين الحكم و الفتوى. فنقول: ذكر صاحب الضوابط و غيره. و نسبوه الى اصطلاح الفقهاء ان الفتوى اخبار عن حكم اللّه تعالى و لو بلفظ الإنشاء مثل اجتنب عن الماء القليل الملاقي للنجس أو لا تشرب الخمر إذ لا يتفاوت الحال بينه و بين الاخبار عنه بقوله: الماء القليل الملاقي للنجس نجس و شرب الخمر حرام، و إن الحكم عبارة عن

رفع المجتهد بمقتضى رأيه و اجتهاده في الأحكام الشرعية الخصومة بين الناس فيما يتعلق بأمر معاشهم في الأموال و الاعراض و الأنساب و الحقوق و الجنايات و غيرها بإنشاء كلام كاشف عن ذلك بصيغة أخبار، كقوله: حكمت بكذا أو ألزمت أو أمضيت أو أنفذت أو قضيت أو بصيغة إنشاء. مثل قوله: تصرف في هذه العين للمدعي، أو قوله: خذ مالك منه. أو قوله للمرأة: تزوجي سواء كانت الخصومة فعلية كما لو وقع التنازع بين البالغة البكر الرشيدة و بين أبيها في ولاية العقد فترافعا عند الحاكم فحكم لواحد منهما، أو كانت الخصومة شأنية كما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 134

لو بادرت البنت الباكر المذكورة إلى الحاكم الشرعي و استأذنته في تزويج نفسها فقال الحاكم: لك ذلك قاصدا بذلك إنشاء رفع الخصومة الشأنية الحاصلة بالقوة و التي يتوقع حصولها بينها و بين أبيها. فهذا أمر الحاكم عند ما قصد به رفع هذه الخصومة كان حكما فيكون الفرق بين الفتوى و الحكم بالقصد، فان قصد رفع الخصومة الفعلية أو التقديرية كان حكما، و إن قصد الاخبار عن حكم اللّه كان فتوى.

و يرد على هذا التعريف للحكم (أولا) بما لو أمر الحاكم بإجراء حد الشرب على أحد بواسطة الشهادة عليه بشرب الخمر، و كذا يخرج مثل أمر الحاكم بالصيام أو الإفطار في غد إذا ثبت عنده الهلال. فيقال: إن الحاكم قد حكم بإجراء الحد على فلان، و انه حكم بالهلال الليلة أو بصيام الغد مع انه لا يصدق عليه تعريف الحكم المذكور لعدم الخصومة حتى يقصد رفعها فليس التعريف جامعا لجميع أفراد المعرف.

و قد أجيب عن ذلك بتكلف إدراجهما في الخصومة، فيقال: ان حكمه رافع

للخصومة الفعلية الواقعة بين الشهود و المشهود عليه بشرب الخمر في تصديقهما و تكذيبهما، و يكون حكمه رافعا للخصومة الشأنية إذا حكم الحاكم بعلمه بدون خصومة و هكذا حكمه بالهلال رافع للخصومة بالقوة في انقضاء العدد و حلول أجل الديون المعلقة على أول الشهر و الخيارات الثابتة في الشهر المتقدم. و لا يخفى ما فيه، فان رفع الخصومة لو عمم لمثل الشهود و المشهود عليه لدخل أكثر الفتاوى في الحكم مضافا الى عدم الخصومة في صورة الإقرار على نفسه بشرب الخمر على أن الميزان رفع الخصومة و لم يقصد الحاكم بذلك رفع الخصومة، و إنما المقصود هو ثبوت الحد عليه لا تصديق أحد الطرفين أو تكذيبه.

و يرد عليه (ثانيا) سلمنا وجود الخصومة الشأنية، فإنه يلزم ان الحاكم إذا لم يتفطن لرفع الخصومة فلم يقصد بحكمه رفع الخصومة فلا يكون ما صدر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 135

منه حكما، و عليه فيجوز نقضه مع انه لا يجوز نقض حكم الحاكم في تلك الأمثلة حتى لو علم بعدم قصده لرفع الخصومة. و الحاصل ان المقصود هنا تشخيص معنى الحكم و الفتوى على مصطلح القوم، و الاستقراء يدل على خلاف ما شخص.

و بعضهم عرف الحكم بما يسمي حكما عند الفقهاء من غير تكلف كما ان الغسل ما يسمي غسلا. و لا يخفى ما فيه فإنه لا يبين معناه حتى يعرف المجتهد عنده إصدار رأيه أنه بنحو الحكم أو بنحو الفتوى.

و في قواعد الشهيد قدس سره في القاعدة (120) ان الفرق بين الفتوى و الحكم مع ان كلا منهما اخبار عن حكم اللّه تعالى أن الفتوى مجرد اخبار عن اللّه تعالى بأن حكمه في هذه القضية

كذا و الحكم هو إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية و غيرها مع تقارب المدارك فيها مما تنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش، (فبالإنشاء) يخرج الفتوى لأنها اخبار عن حكم اللّه تعالى (و الإطلاق و الإلزام) نوعان للحكم. و مثّل (ره) للإطلاق بالحكم بإطلاق المسجون لعدم ثبوت الحق عليه و بالحكم بإطلاق الحر من يد مدعي رقيته بدون بينة (و مراده رحمه اللّه بتقارب المدارك) ما لا يبعد عن الطباع المتعارفة حجيته و إن أنكر بعضهم اعتباره كخبر الواحد الذي أنكر حجيته السيد (ره) و يخرج بهذا القيد ما ضعف مدركه جدا كالحكم بالعول و التعصيب فإنه لو حكم به الحاكم وجب نقضه (و بمصالح المعاش) تخرج العبادات فإنه لا مدخل لحكم الحاكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك و إلا فهي فاسدة، و كذلك الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه و مال الميراث لا خمس فيه، فان الحكم به لا يرفع الخلاف بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك، نعم لو اقترن بالفتوى المذكورة أخذ الحاكم ممن حكم عليه بوجوب الزكاة و الخمس لم يجز نقضه فالحكم بوجوب الزكاة و الخمس المجرد عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 136

اقتران الأخذ للفقراء يكون اخبارا عن حكم اللّه تعالى كالفتوى و أخذه للفقراء و السادات حكم باستحقاقهم فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد. و لو اشتملت الواقعة على أمرين أحدهما من مصالح المعاد و الآخر من مصالح المعاش كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر و كان نائبا فإنه لا أثر له في براءة ذمة النائب في

نفس الأمر و لكن يؤثر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة ثمَّ ذكر (ره) في مقام آخر الفرق بين الثبوت و الحكم، إن الثبوت هو نهوض الحجة كالبينة و شبهها السالمة عن المطاعن. و الحكم إنشاء كلام هو إلزام أو إطلاق يترتب على هذا الثبوت و بينهما عموم من وجه لوجود الثبوت بدون الحكم في نهوض الحجة قبل إنشاء الحكم، و كثبوت هلال شوال، و طهارة الماء، و ثبوت التحريم بين الزوجين برضاع و نحوه، و يوجد الحكم بدون الثبوت كالحكم على الشي ء بواسطة الاجتهاد و يوجدان معا في نهوض الحجة و الحكم بعدها- انتهى ملخصا و موضحا منا. و الذي يظهر منه (ره) ان الفرق الجوهري بين الفتوى و الحكم، إن حكم المسألة إذا حكي عن اللّه تعالى كان فتوى و إذا حكم به في مورد بنحو الإنشاء من الحاكم سمي حكما نظير المحاكم المدنية فإنه تارة يكون الحكم في القضية بنحو الحكاية للقانون و عند ذا يسمى مادة و قانونا و تارة بنحو الصدور من الحاكم و الإنشاء منه و عند ذا يسمي حكما.

و (الحاصل) ان الصادر من الحاكم الشرعي إن كان هو الوظيفة و القرار في المسألة سمى حكما، و أما إن كان الصادر منه هو الحكاية للوظيفة و للقرار من الشارع يسمى فتوى و كيف كان فيرد عليه.

(أولا) إن قيد (التقارب) لا وجه له لأنه إن أراد تعريف الحكم الصحيح النافذ الذي لا ينقض كان عليه أن يزيد قيودا أخرى ككونه جامعا لشرائط القضاء، و كمطالبة المحكوم له. و ان أراد تعريف مطلق الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 137

أعم من الصحيح و الفاسد، كان عليه ترك القيد المذكور

لعدم تقوم ماهية الحكم به.

(و ثانيا) خروج الحكم على الغائب و للمدعي بلا معارض، و للمقر له على المقر من دون نزاع بينهما و خروج مثل حكم الحاكم بالهلال لمجرد الإفطار أو الصيام إلا اللهم أن يراد بالتنازع أعم من الفعلي و التقديري.

(و ثالثا) ان الحكم قد يكون إنشاء و قد يكون بالفعل و العمل كما هو اعترف به (ره) حيث جعل أخذ الحاكم الزكاة من مال التجارة حكما، و كما إذا أطلق الحاكم المحبوس بيده أو أطلق بيده الحر من يد من يدعي رقيته بلا بينة أو عقد على الباكر بغير إذن أبيها لنفسه أو لغيره، فان ذلك كله حكم عندهم فقصر الشهيد (ره) الحكم بالإنشاء إخراج لها.

(رابعا) ان الحكم قد يكون في الأمور المعاشية و قد يكون في المعادية كالحكم بغرة رمضان و الفطر، و كالحدود و التعزيرات على مخالفة الواجبات الإلهية العبادية، فالتقييد بمصالح المعاش لا وجه له إلا أن يوجه ذلك برجوعه إلى المحافظة على المصالح و دفع المفاسد إلا أنا لو التزمنا بذلك لم تكن فائدة للقيد المذكور لكون الأحكام كلها تابعة للمصالح و المفاسد.

(و خامسا) ان الحكم بصحة صلاة زيد أو فسادها عند استنابته في العبادات لرفع الخصومة بينه و بين من أنابه يسمي حكما دون الحكم بمجرد الصحة و الفساد فإنه لا يسمي حكما. فالمائز هو القصد، فان قصد مجرد الحكم بالصحة و الفساد لم يسمي حكما في الاصطلاح، و إن قصد به رفع الخصومة يسمي حكما و لكن الشهيد (ره) تنبه بعد هذا لذلك بقوله: كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر و كان نائبا.

(و سادسا) إن اشتراطه تقارب المدرك يقتضي ان الحاكم إذا كان

أهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 138

للحكومة، واجدا لشرائط نفوذ الحكم، و كان مدركه ضعيفا و ليس معلوم الفساد بل كان مظنون الفساد أن يجوز نقضه، و لا يسمى حكما. مع انه يسمى حكما.

و الكثير من أصحابنا لا يجوز نقضه إلا إذا علم بفساد مدركه.

و قد يعرف الحكم كما هو الظاهر من صاحب القوانين (ره) و غيره بأنه إلزام خاص أو إطلاق خاص في واقعة خاصة متعلقة بأمر المعاش فيما يقع فيه الخصومة بين العباد مطابقا لحكم اللّه تعالى في نظر المجتهد. و كأن نظره (ره) إلى أن الحكم مورده الواقعة الجزئية لا الكلية، و الإلزام و الإطلاق اللذان هما نوعا الحكم مختصان بتلك الواقعة لا يتعدان لغيرها. بخلاف الفتوى، فان موردها و إن كان خاصا إلا أن حكمها كلي و الحاصل ان الفتوى عبارة عن أن كل ما كان مثل هذه الواقعة فهو محكوم بهذا الحكم بخلاف الحكم.

و يعرف ما فيه مما أوردناه على الشهيد (ره) مضافا إلى أن الفتوى قد تكون بنحو الإنشاء في مورد خاص و حكم مخصوص كما لو أمر المجتهد بإراقة ما في قدح خاص من الماء بملاقاته للنجاسة.

و قد يفسر الحكم بالإلزام الصادر من الحاكم فالإلزام يعم الإطلاق، لأن الإطلاق اما أمر بالإخراج كإطلاق المسجون، أو بالخروج كإطلاق الحر ممن يدعي ملكيته.

و أيضا يعم الإلزام بالإنشاء و الإلزام بالعمل، إذ الإلزام قد يكون بالفعل و العمل كما إذا أطلق الحاكم بيده المحبوس أو الحر ممن يدعي رقيته بلا بينة أو عقد على الباكرة الرشيدة بغير إذن أبيها لنفسه أو لغيره إلى غير ذلك، فان ذلك كله حكم و قد يكون بالقول كما هو واضح.

و أيضا يعم

ما فيه خصومة كما لو ادعى أحد مالا في يد حاضر أو غائب أو صغير، فحكم الحاكم به له و ما لا خصومة فيه كعقده الباكرة من غير سبق تنازع أوامره بذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 139

و أيضا يعم ما إذا كان إلزاما في الشبهة الموضوعية كما هو الغالب بأن تنازعا في مال بيد أحدهما فيدعي الخارج شراءه أو غصبه منه أو كان إلزاما في الشبهة الحكمية كما إذا تنازعا الزوجان المتراضعان بعشر رضعات في صحة الازدواج الواقع بينهما و فساده، فحكم بينهما بأحدهما.

و أيضا يعم ما لو كان مورد الإلزام يضم الأمور الاجتهادية المختلف فيها و غيرها كالحكم على الطريقة المجمع عليها في القضية الشخصية المتنازع فيها بسبب ادعاء كل منهما الاستحقاق شرعا، فيقول الحاكم المدعي يملك ما في يد المنكر بالبينة المقبولة.

و أيضا يعم ما لو كان مورده من الأمور المعاشية أو المعادية كالحكم بيوم الفطر و غرة شهر رمضان للتجنب عن الصوم و التحرز عن الإفطار و نحو ذلك من موارد ثبوت الهلال، و إن كان قد يترتب عليه صلاح المعاش مثل حلول الآجال.

و أيضا يعم ما لو كان مورده حقا آدميا أو حقا إلهيا كالحكم بالزنا أو الشرب للخمر أو غير ذلك من حقوق اللّه، و يشهد لإطلاق الحكم على ذلك هو ما ذكره القوم من الفرق في مسألة حكم الحاكم بعلمه بين حقوق اللّه، فالجواز و بين حقوق الناس، فالمنع و استدلالهم للجواز بقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا و السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا و التتميم بالإجماع المركب.

و قوله صادر من الحاكم احترازا من حكم ما لا حكومة له شرعا لظهور الحاكم فيمن

له الحكومة الشرعية، و عن حكم الحاكم بحكم لا مدخلية له في الحكومة الشرعية كالالزام في العاديات من أمر عبيده بما يتعلق بصالح معاشه أو معاده أو غير ذلك. و ذلك لظهور الوصف في نظائر المقام في اعتبار الحيثية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 140

و اشعار التعليق به بالعلية، فالمراد إلزام الحاكم من حيث انه حاكم و يخرج بذلك فتواه بشي ء و لو كانت الفتوى بعبارة الإنشاء لأنه ليس فيها إلزام باعتبار انه حاكم، و لا يخفى ما فيه، فان أخذ الحاكم في تعريف الحكم يلزم منه الدور لأن معرفة الحاكم موقوفة على معرفة الحكم. (و التحقيق) أن يقال إن الفتوى و الحكم يختلفان بالذات، فالأولى يقصد منها الأخبار بحكم اللّه تعالى في الواقعة سواء كانت بصيغة الإنشاء أو بصيغة الاخبار، و سواء كانت في واقعة جزئية مخصوصة، أو في واقعة عامة كلية. و الحكم عبارة عن الإلزام ممن له الفتوى لا من اللّه تعالى بل بإجراء القوانين الشرعية و الفتاوى الدينية على واقعة خاصة و إنفاذها فيها لإثبات حق أو استيفاء حق، أو في المصالح العامة كالهلال و الحكم بالجهاد و الدفاع و نحو ذلك مما يرجع لنظم البلاد أو رفع الفساد فالحكم يتضمن الفتوى دون العكس، فالفرق بينهما جوهري و ذاتي من وجوه:

(الأول) إن الفتوى اخبار عن حكم اللّه تعالى. و الحكم فعل صادر من الحاكم اما إنشاء أو عمل.

(الثاني) إن الحكم الشرعي في الفتوى ينسب للّه تعالى. و في الحكم الاصطلاحي للحاكم.

(الثالث) الفتوى هي الملزم بها و المنفذة، و الحكم هو الإلزام بها.

(الرابع) إن الفتوى يجوز نقضها للمجتهد الآخر في صورة ما إذا خالفه في المبني و المستند، و

للمقلد بالرجوع للغير بخلاف الحكم، فإنه ماضي في حقهما ما لم ينكشف الخلاف. فللمجتهد الآخر الأخذ بالحكم و لا يجب عليه الفحص عن صحة مستند الحكم، و كذلك للمقلد الأخذ بالحكم من دون الفحص عن الأعلمية بخلاف الفتوى فإنه لا يجوز للمجتهد الآخر الأخذ بها ما لم يفحص عن مستندها و يكون صحيحا لديه و لا المقلد ما لم تكن من الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 141

أحكام الاجتهاد و المجتهد و وظائفه

(أحدها) (جواز العمل بالاجتهاد و حجيته)
اشارة

و حيث قد انتهى بنا الكلام من معرفة معنى الاجتهاد و شرائطه و اقسامه فلنشرع في أحكامه (أحدها) هو جواز العمل بالظن بالحكم الشرعي الحاصل من الاجتهاد بحيث يكون حجة في حقه و حق مقلديه.

و قد خالف في ذلك فريقان:
(الفريق الأول): العامة في القرون المتأخرة فانسدّ عليهم باب الاجتهاد
اشارة

في الأحكام الشرعية. ففي القرن السابع الهجري أفتى الفقهاء منهم بوجوب اتباع المذاهب الأربعة الحنفي و المالكي و الشافعي و الحنبلي و تحريم ما عداها و صارت هذه المذاهب الأربعة أصول الملكة عندهم، و جرى الخلاف بين المتمسكين بها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية، و الأدلة الفقهية حتى انه لم يولّ قاضي و لا تقبل شهادة أحد و لا يقدم للخطابة و الإمامة للجماعة و التدريس ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب الأربعة، فكتب لهذه المذاهب الأربعة البقاء من سنة 665 ه في سلطنة الظاهر (ولي پرس) و التغلب على غيرها من المذاهب التي كانت عندهم كمذهب سفيان الثوري بالكوفة. و مالك بالمدينة. و الشافعي بمكة. و الليث بن سعد بمصر. و الأوزاعي بالشام و الأندلس. و الحسن البصري بالبصرة. و ابن جرير الطبري ببغداد. و داود الظاهري في كثير من البلدان الذي عد في القرن الرابع رابع المذاهب بدل الحنبلي. الى غير ذلك من المذاهب و حجتهم في ذلك هو إجماع الأمة على هذه المذاهب الأربعة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 142

ثمَّ ما زال فقهاؤهم إلى يومنا هذا يفتون بوجوب اتباعها، و تحريم ما عداها، و للإنسان أن يجتهد في أحد هذه المذاهب بأن يبني على أصوله و يستنبط من اجتهاداته، و يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه، و يسمى عندهم بالاجتهاد في المذهب كالمزني، و دونه في المرتبة عندهم الاجتهاد في الفتيا و

هو المتبحر في مذهبه، المتمكن من ترجيح قول له على آخر، أطلقهما أو وجه على آخر و قد عدوا من المجتهدين في الفتيا من علمائهم النووي: و قد حكي عن الشيخين و سبقهما إلى القول بمثله الرازي. إن الناس اليوم كالمجمعين على انه لا مجتهد. و نقل ابن حجر عن بعض الأصوليين انه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد، أي مستقل. و هذا السيوطي مع سعة اطلاعه في العلوم ادعى الاجتهاد النسبي لا الاستقلالي فلم يسلم له و قد تجاوزت مؤلفاته الخمسمائة، و قد منع بعضهم حتى من الاجتهاد في المذهب. هذا و لم تبق من العقيدة عندهم إلا عقيدة الأشعري لتقدم السلطان صلاح القائم سنة 564 ه بحمل كافة المسلمين عليها.

[الرد على العامة بغلق باب الاجتهاد.]

و يرد عليهم:

(أولا) بعدم وجود الإجماع لوجود مذاهب إسلامية أخرى كالتشيع و نحوه في تلك العصور! و لو سلم فالإجماع إنما يكون حجة إذا كشف عن دليل قاطع على الحكم، و إلا فهو ليس له موضوعية و لذا استدلوا على حجيته بأن العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع بالحكم إلا عن دليل بلغهم في ذلك كما عن امام الحرمين. و المذاهب الأربعة لم تكن موجودة في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يستكشف من الإجماع عليها وجود دليل من الشرع عليها و على نفي ما عداها. و ما حكي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان أمتي لا تجتمع على ضلالة، و ما هو بمعناه مع ضعفه سندا لا يعلم شموله لما عدا عصره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى للمواضيع المخترعة.

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 143

(و ثانيا) إن المسلمين بأجمعهم حتى أصحاب المذاهب الأربعة كانوا مجمعين على جواز الاجتهاد، فلا وجه لمخالفتهم بالمنع من الاجتهاد.

(و ثالثا) مخالفة ذلك لصريح القرآن لأمره بالتفقه في الدين على سبيل الوجوب الكفائي.

(و رابعا) ان العقل لا يرى صحة ترك الاجتهاد في الكتاب و السنة و الانصراف عنه الى الاجتهاد في كلمات المذاهب الأربعة مع احتمال الخطأ فيها.

(و خامسا) انه طالما يوجد من الموضوعات المستحدثة التي لم تكن من ذي قبل بحسب مرور الزمن و تطوره فلو لم يفتح باب الاجتهاد فيها لزم الاحتياط و فيه من العسر الذي لا تقتضيه سعادة البشر. و لعل لهذا و نحوه عدل أكبار علمائهم و جهابذة رجالهم عن هذا الرأي في مؤتمر الدراسات الإسلامية المنعقد في لاهور سنة 1377 ه و قرروا وجوب فتح باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية.

(و الفريق الثاني): الذي خالف في جواز الاجتهاد هم الأخباريون
اشارة

فحرموا العمل به، و قد زعم أمينهم الأسترآبادي أنه مذهب الأقدمين من الإمامية

[رجوع مخالفة الأخباريين للأصوليين في أمور ستة.]
اشارة

و ترجع مخالفتهم في ذلك إلى أمور ستة:

«الأول» في صحة نفس الاجتهاد من حيث هو اجتهاد فإنهم يقولون ببطلانه و أنه ورد الذم و الطعن عليه من الأئمة عليهم السّلام.

«الثاني» حرمة العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد و انه ليس بحجة في الأحكام الشرعية لأن باب العلم بالأحكام الشرعية مفتوح لوجود الأدلة القطعية عليها من دون فرق في أدلتها بين الأخبار المتواترة و بين اخبار الآحاد المودعة في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة لأنها عندهم محفوفة بقرائن تفيد القطع بصدورها و دلالتها ككون الراوي ثقة. و كتعاضد بعضها لبعض. و كنقل العالم الورع للرواية في كتابه الذي ألفه ليكون مرجعا للشيعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 144

و ككونها في أحد الكتب الأربعة لشهادة أصحابها على صحة أحاديثها و ككون الراوي ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح منه أو ممن وثقهم الأئمة عليهم السّلام من غير فرق عندهم في قطعية الأخبار بين الأخبار المتعلقة بعقائد الإسلام أو بفروعه. و يقولون: انه بناء على مذهب العامة المنقطع عنهم الطرق القطعية بالأحكام الشرعية من عدم رجوعهم للأئمة عليهم السّلام لا مناص لهم من العمل بالظن الاجتهادي و لذا عملوا به في زمن حضور الأئمة عليهم السّلام فضلا عن زمن الغيبة.

[صلح الآخند «ره» بين الأصوليين و الأخباريين.]

ثمَّ ان الآخوند صاحب الكفاية (ره) أراد أن يوقع الصلح بين الأصوليين و الأخباريين في هذين الأمرين بتبديله الظن بالحكم في تعريف الاجتهاد بالحجة على الحكم و جعل النزاع في المصاديق لا في صحة الاجتهاد مدعيا انه لا وجه لتأبى الأخبارى عن الاجتهاد بهذا المعنى فإنه لا محيص عنه غاية الأمر أنه ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره. و لا يخفي فساد

هذه المصالحة فإن الاجتهاد عند القوم كما عرفت ص 68 في جواب الإيراد الثالث على تعريف الاجتهاد انه مأخوذ فيه الظن لا مطلق الحجة حتى العلم بالحكم. و الاخبارى يمنع من العمل به لدعواه وجود العلم بالأحكام و لا يكتفي في الأحكام الشرعية بمطلق الحجة بل لا بد عنده من العلم بها بل و إن الاجتهاد عنده بقول مطلق مذموم و باطل و مشروعيته تنافي وجوب الاقتصار على العلم في إثبات الأحكام. بل هذا كمن يرجع النزاع في حجية الخبر العدل أو الموثق أو المشهور الى الصلح بينهم بدعوى أن الكل متفقون على حجية الخبر الذي ثبت التعبد به غاية الأمر اختلفوا في مصاديقه. و قد وجدت في كتاب لسان الخواص للقزويني ان من ادعى من المتأخرين مائلا إلى حقية الاجتهاد عارفا بفساد إتباع الظن، إن المجتهد لا يلزمه أن يتبع الظن من حيث هو ظن، بل من حيث موافقته لشي ء من الأدلة على الحكم كظاهر الكتاب أو الأخبار السالمة عن المعارض مثلا فقد سمى غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 145

الاجتهاد اجتهادا و لا مشاحة في الاصطلاح.

«الثالث» مخالفتهم في توقف الاستنباط للأحكام الشرعية على العلوم التي اعتبرها الأصوليون في الاجتهاد من العلوم الأدبية و المنطق و علم الرجال و الأصول فإنهم لا يقولون بالتوقف عليها.

«الرابع» مخالفتهم في توقف الاجتهاد على الملكة القدسية، فإنهم لا يقولون باعتبارها في الاجتهاد.

«الخامس» مخالفتهم في حجية الأدلة ما عدا الكتاب و السنة، بل ما عدا السنة عند الكثير منهم، فحصر الكثير منهم مستند الأحكام في السنة. و بعضهم أضاف إليها الكتاب، و أنكروا حجية الإجماع و العقل.

«السادس» إن بعضهم اعترف بصحة الاجتهاد و حجية ظن المجتهد

في حقه لكنهم أنكروا حجيته في حق مقلده فحكموا بوجوب الاجتهاد عينا و حرمة التقليد على المكلف، و إن على العامي أن يرجع الى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم الشرعي الفرعي من الكتاب و السنة، فان كان عربيا فهو و إلا يترجم له معانيهما بالمرادف من لغته و مع تعارض الأدلة يبين له طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ، و العام على الخاص، و المطلق على المقيد و مع تعذر الجمع يذكر له أخبار العلاج، و إذا احتاج إلى معرفة الراوي يذكر له حاله، و سيجي ء إن شاء اللّه التعرض لهذا القول في مبحث وجوب الاجتهاد كفائيا. إذا عرفت ذلك فيكون الكلام معهم هنا في المقامين: الأول و الثاني، و أما المقام الثالث و الرابع فقد تقدم منا الكلام عليها عند الكلام فيما يتوقف عليه الاجتهاد، و أما المقام الخامس فالكلام معهم فيه في علم الأصول عند التكلم في حجية ظواهر الكتاب و العقل و الإجماع. و أما المقام السادس فسيجي ء إن شاء اللّه الكلام فيه عند الكلام في التقليد، و حيث تبين لك أن الكلام مع الأخباريين هنا في المقام الأول و الثاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 146

فنقول إنه لما كان الكلام في أحد المقامين يقتضيه الآخر تكلمنا فيهما معا دون أن نفرد كلا منهما بالبحث

[الأدلة على حجية ظن المجتهد.]
اشارة

و إليك ما استدل به القوم أو يمكن الاستدلال به على جواز الاجتهاد و حجية ظن المجتهد

«أحدها» ما أقامه الأصوليون من الأدلة علي حجية الظنون الخاصة

و من جملتها أخبار الآحاد أو حجية مطلق الظن عند من انسد عنده باب العلم و العلمي فإن ذلك يرجع الى القطع بحجية تلك الظنون و اعتبارها عند الشارع. و لا نعني بظن المجتهد الا ذلك و دعوى كما عن الأخباريين أن عمدة ما عند الأصوليين حجية أخبار الاحاد و هي تفيد العلم بالحكم الشرعي كالأخبار المتواترة لاقترانها بالقرائن المفيدة للقطع بالحكم الشرعي بحسب الدلالة و الصدور لموافقتها لعمومات الكتاب، و عمومات السنة و مطلقاتها، و القواعد الشرعية، و تعاضد بعضها ببعض، و كون المتكلم حكيما و هو في مقام البيان و التفهيم. و كمطابقتها لحكم العقل و إجماع المسلمين أو الشيعة و كون الراوي ثقة و عدلا. أو قام الإجماع على تصحيح ما يصح منه. و شهادة أصحاب الكتب الأربعة المحمدين الثلاثة بصحة ما أوردوه فيها من الأخبار، و توثيق الامام عليه السّلام بعض الرواة و الأمر بالرجوع إليهم.

فاسدة لأن ذلك إنكار للضرورة و الوجدان أما بحسب الدلالة فهي نوعا ظنية لا صريحة لاحتمال التجوز فيها و كانت القرينة حالية أو مقالية لم ينقلها الراوي أو سقطت من قلم الكاتب أو لم يسمعها الراوي أو أخفاها الإمام عليه السّلام أو الراوي للتقية أو احتمال النقل في الألفاظ بأن كانت في صدر الإسلام أو وقت نطق الامام حقيقة في معنى و الآن نقلت لغيره مع احتمال التخصيص أو التقييد أو الإضمار و احتمال التحريف و الزيادة و النقصان كما في رواية الصدوق في الخصال في باب وجوب خمس المال المختلط بالحرام، فإن النسخة المطبوعة منه لم يذكر

فيها الحلال المختلط بالحرام. و هكذا في البحار فإنه نقل الرواية عن الخصال و لم يذكر فيها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 147

الحلال المختلط بالحرام. و لكن في الوسائل قد نقل نفس الرواية و ذكر فيها الغنيمة و الحلال المختلط بالحرام. و هكذا في اخبار تحديد الكر بالأشبار. فإن رواية الحسن بن صالح الثوري رواها جماعة بدون ذكر الطول. و المحكي عن الاستبصار في باب أحكام الآبار وجود التحديد بالطول فيها. و (الحاصل) انه مع توهم أحد هذه الأمور فضلا عن احتماله لم يحصل القطع بالدلالة. و قد يريدون بيان مطلب فيروونه بخلافه سهوا مثلا يريد أن يقول إن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو حيض، و إن خرج من الأيسر فهو قرحة، فقال سهوا إن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو حيض، و إن خرج من الأيمن فهو قرحة.

و لعل الظاهر إن الاختلاف الذي وقع في الرواية المتضمنة لهذا الحكم كان سببه ذلك و قد يكون النسخ موجبا لعدم وضوح الدلالة كما في حديث «من جدد قبرا أو مثل مثالا» الحديث فإنه بالجيم عند الصفار، و بالحاء الغير المعجمة عند سعد بن عبد اللّه، و بالخاء المعجمة عند المفيد، و بالجيم و الثاء عند البرقي. و قد تختلف القراءة كما في خبر جواز الوضوء من (ماء الورد) فان السيد المرتضى قرأها بفتح الواو فجوز الوضوء بالماء المقطر من الورد المعروف، و غيره قرأها بالكسر. و قال: المراد الماء الذي ترد منه الماشية. و قد ورد عن الصادق عليه السّلام «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»، فإنه يدل على عدم قطعية الدلالة و روي أيضا: حديث تدريه خير من عشرين خبر

ترويه، إن لكل حق حقيقة و لكل صواب نور. و أما بحسب الصدور فقد قال جدى كاشف الغطاء (ره) ما حاصله: أنه كيف يجوز العقلاء حصول العلم بصدور جميع الروايات الواردة في الكتب الأربعة لواحد من العلماء فضلا عن جميعهم مع أنه مبني على مقدمات يعلم الخلاف في كلها أو جلها منها معرفة المروي عنه انه الإمام عليه السّلام دون غيره و ربما اشتبه الراوي بغير الإمام لكتابة تشبه كتابته أو لوجود مشارك في اسمه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 148

أو لقبه أو كنيته و مع عدم ذلك لا بد من سلامة الروايات عن المعصومين عليهم السّلام في جميع الطبقات من مدة تقرب من ألف و مائتين عام من خلل ينشأ من جهة الكتاب الذي أخذ منه الراوي بزعمه إنه كتاب شخص معتمد و الواقع خلافه، أو إنه سالم من الغلط و الواقع خلافه، أو إن الرواية حفظت من كتاب غير معتبر فنسي روايتها، و زعمها من معتبر أو من جهة الراوي لاشتراك اسمه أو لقبه أو كنيته أو صفته أو نسبه أو مكانه حيث يعبّر بها عنه أو لاشتباهه في إسلامه أو إيمانه أو عدالته أو ضبطه أو نقله، أو لتجدد إسلامه و إيمانه و عدالته. و قد روى عنه قبلها فزعم انه روى بعدها، أو في سند يقطع، أو إرسال أو إضمار أو نحوها، أو لاحتمال روايته عن خوف أو لتجويز النقل بالمعنى و في متن الرواية نقص أو تبديل أو تفسير أو نحو ذلك، فمتى وقع احتمال شي ء من ذلك و لو على طريق الوهم في زمان من الأزمنة، أو في واحد من السلسلة اختل طريق القطع. ثمَّ ان

حصول العلم للاخباريين لا يستلزم حصول العلم لنا- انتهى. نعم لو بلغ الرواة في كل طبقة حد التواتر أو تكون قرائن علمية في جميع الطبقات كان العلم يحصل بصدورها، لكن دون ذلك خرط القتاد. فان الروايات في أغلبها يكون الراوي في كل طبقة واحدا و لا قرينة علمية على صدقه مع كثرة التصحيفات و التحريفات مع ان ما ذكروه من القرائن من وثاقة الراوي و نحوها لا توجب القطع و إنما توجب عدم تعمد الكذب لأنها لا توجب رفع احتمال السهو و الخطأ و النسيان فإن الوثاقة و العدالة في الراوي لا تبلغ درجة العصمة حتى لا يحتمل معها الغفلة أو النسيان أو السهو مع ما صرحت به الأخبار حتى كاد أن يكون ضروريا، من أن المغيرة و أبا الخطاب لعنهما اللّه تعالى دسوا الأخبار الكاذبة في أخبارهم و اشتبه الأمر على الناس، و إن لكل إمام رجل يكذب عليه، و الغريب أن الأخباريين إنما عملوا بهذه الأخبار التي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 149

بأيدينا من حيث انها تفيد القطع لا من حيث قيام القطع على حجيتها و تركوا العمل بالإجماع مع افادته للقطع و لكن نحن عملنا من حيث قيام الأدلة القطعية عليها لا من جهة إفادتها الظن، و عملنا بالإجماع لإفادته القطع: و أما كون المتكلم حكيما فهو إنما يوجب القطع لمن يسمع من المعصوم عليه السّلام و لا يحتمل الاشتباه في سماعه. مع أن كتب الذين سمعوا من المعصوم عليه السّلام لم نعلم بوصولها لأصحاب الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة بل إنما وصلت إليهم بواسطة النقلة و فيهم: الفطحي، و الواقفي، و وضاع الحديث. و قد اختلفوا

في نقل بعض الروايات. ففي المحكي عن النجاشي إن نوادر ابن أبي عمير مختلفة باختلاف الرواة، و إن محمد بن عذافر له كتاب تختلف الرواة فيه، و إن لمحمد بن الحسن ابن الجهم، و حسن بن صالح الأحول، و حسين بن علوان مثل ذلك. و أما دعوى التعاضد و المطابقة لحكم العقل و الإجماع فهي في الأخبار قليلة جدا. و أما توثيق الامام عليه السّلام لبعض الرواة فهو لو أفاد القطع فإنما يفيده لمن سمع منهم لا لمن كان بينه و بينهم عدة وسائط كزماننا هذا. مع انه لم يتحقق التوثيق إلا في النادر من الرواة، و أما كون بعض الرواة قام الإجماع على تصحيح ما يصح منهم فليس ذلك موجبا للقطع بروايتهم، فهو إنما يوجب اعتبار ما يصح عنهم لا القطع بروايتهم، إذ أن قيام الإجماع على الاعتبار امارة لا يوجب حصول القطع من تلك الامارة بمؤداها، فإنه كقيام الإجماع على اعتبار الشهادة. و أما شهادة أصحاب الكتب الأربعة و غيرهم من أهل الكتب المعتبرة علي صحة ما في كتبهم ليس معناه انها مقطوعة عندهم، فإنهم إنما شهدوا بصحتها لا بقطعيتها عندهم.

و تفسير الصحة بالقطع بالصدور لا دليل عليه إذ لعل المراد بالصحة ما يريده المتأخرون من لفظ الصحة من الاعتماد عليها كما يشهد بذلك ما عن البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين من أن المتعارف عند القدماء إطلاق الصحيح على كل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 150

حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه و اقترن بما يوجب الوثوق به و الركون اليه.

و يشهد لذلك أيضا قولهم تصحيح ما يصح فان لفظ التصحيح لم يريدوا به القطع و أيضا يشهد لذلك المحكي

عن الصدوق من أنه صرح في صوم كتاب من لا يحضره الفقيه حيث استضعف رواية موسى الهمداني إنه يعتمد على شيخه الحسن بن الوليد في تصحيح الروايات، و كلما لم يصححه فهو متروك. و لا ريب ان مجرد تصحيحه لا يجعل الحديث قطعيا، و قد اعتمد الصدوق (ره) على كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن يحيى مع أن المحكي عن القميين الطعن بهذا الكتاب بأن مؤلفه محمد بن أحمد يروي عن الضعاف و المراسيل، مع ان الشيخ (ره) في أول الاستبصار و في العدة صرح بأنه يعتمد على الأحاديث الظنية و يفتي بها و ادعى ان الشيعة كانوا يعتمدون عليها.

(ثانيها) ما دل من الأخبار على الرجوع الى المرجحات

من الأوثقية و الأعدلية و مخالفة العامة و غير ذلك كموافقة الكتاب، فإن إرجاع الإمام عليه السّلام في مقام التعارض الذي هو أعظم أنواع الاجتهاد المبحوث عنه الى هذه الأمور التي لا تفيد العلم بالصدور و الدلالة دليل على حجية ظن المجتهد في هذا المقام و يثبت في غيره بالإجماع المركب علي أن الموجبة الجزئية تنفع في رفع السلب الكلي.

(ثالثها) اطباق الأمة قولا و عملا على جواز الاجتهاد

، و حجية ظن المجتهد المذكور، و كتب الفتاوى من صدر الإسلام مشحونة بالاجتهاد بل على ذلك جميع أرباب الشرائع و الأديان حيث يرجع علماؤهم في أخذ أحكامهم من كتب أنبيائهم، و أخبار أوصيائهم عاملين بالظواهر و العمومات و المطلقات و عند التعارض الى المرجحات بل على هذا سائر علماء القانون في الدول و الحكومات و لم يخالف في ذلك إلا فئة خاصة من الأخباريين، و الظاهر انه مذهب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 151

جديد أحدثه مولاهم الأمين الأسترآبادي زعما انه مذهب الأقدمين من الإمامية فلا تضر مخالفتهم بالإجماع. و دعوى ان العمل بالاجتهاد لم يكن معروفا ليسأل الإمام عليه السّلام عن جوازه فيحكم بالجواز و يشتهر حكمه بين الأصحاب كي يتفقوا عليه و يتحقق الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

فاسدة فإن حجية الإجماع لا تتوقف على صدور نص من المعصوم في المجمع عليه بل يتوقف على كشفه عن موافقة رأي المعصوم على ذلك و لا ريب ان المجتهدين في أيامهم عليه السّلام كانوا موجودين و الاجتهاد معروف عندهم، إلا انه كان خفيف المؤنة بل كان الكثير من أصحاب الأئمة عليهم السّلام عندهم الاجتهاد، و قد أمر الإمام عليه السّلام أبان بالجلوس في المسجد و الإفتاء، و ليس الإفتاء إلا إصدار

الأحكام اجتهادا و إلقائها إلى المستفتي. و قول بعض الأخباريين: إنما أراد نقل الأخبار خلاف الظاهر. ثمَّ هل تجد من نفسك ان الامام عليه السّلام كان يمنع مثل أبان أن يعمل بما اجتهد فيه و يوجب عليه حكاية اللفظ، و يأمره بالجمود عليه و هو عليه السّلام يقول: إن الرجل من أصحابي لا يكون فقيها حتى يلحن له بالخطاب فيعرف ما ذا أريد.

و دعوى حصول العلم بالحكم من الأدلة فلا اجتهاد حتى يدعى الإجماع عليه.

فاسدة بالضرورة و الوجدان كما تقدم ذلك ص 146.

و دعوى ان العلامة الحلي (ره) في النهاية، و شارح المواقف في آخرها، و الشهرستاني في الملل و النحل. و غيرهم في غيرها ذكروا ان علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان ينقسمون الى أصوليين و اخباريين، و هذا أدل دليل على وجود الخلاف في ذلك بينهم فكيفي يدعى الإجماع عليه.

فاسدة فإن مرادهم من الاخباري كما هو ظاهر اللفظ، هو ما لا سعة لباعه في التفريعات الفقهية، و لا قوة لنظره في تشييد القواعد الكلية، و لا نظر له في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 152

الأصول الاعتقادية، بل كان قانعا بنقل متون الأخبار مقتصرا في الحكم و الاعتقاد على موارد النصوص و مضامين الآثار، يفتي بمتون الأخبار من غير تعرض لما لا نص فيه. و لعل ذلك لعدم كمال شروط الاجتهاد عنده في نفسه أو لكونه في عصر الأئمة عليهم السّلام و تمكنه من أخذ الأحكام بأسرها بالنص و الصراحة، فلم يقنع بالاجتهاد و هذا لا يقتضي عدم جوازه عنده كمن يعمل بالاحتياط مع تمكنه من الاجتهاد و هو حجة عنده. و مرادهم من الأصولي من هو أهل النظر، و الاستدلال،

و التحقيق، و التدقيق، و التعمق، و التفكر، و تشييد القواعد الكلية، و تأسيس الأصول الشرعية، و التفريع و الاستخراج منها كابن أبي عقيل العماني، و ابن جنيد العاملي، و المفيد، و المرتضى، و شيخ الطائفة و من يحذو حذوهم. فالفرق بين الفريقين ليس إلا بالرتبة و الاستعداد، و لذا اقتصر الأولون على متون الآثار، و ظواهر الاخبار و تعدى الآخرون الى المفاهيم و الفحاوى و المداليل الالتزامية و الاقتضائية.

و دعوى ان ما ذكرته من الإجماع على العمل بالاجتهاد ينافي ما صرح به علماؤنا المتقدمون من بطلان الاجتهاد، ففي المحكي عن ذريعة السيد (ره) قال:

عندنا ان الاجتهاد باطل، و إن الإمامية لا يجوزون العمل بالظن، و لا الرأي و لا القياس، و لا الاجتهاد. و عن عدة الشيخ (ره) ان القياس و الاجتهاد ليسا بدليلين عندنا. و عن سرائر الحلي عند تعارض البينتين قال: القياس و الاستحسان و الاجتهاد باطل عندنا. و في المعتبر للمحقق الحلي: و اعلم انك مخبر في حال فتواك عن رأيك، فما أسعدك إن أخذت بالجزم، و ما أخيبك إن أخذت بالوهم، و قد صنف جماعة من أصحابنا القدماء كتبا في رد الاجتهاد و عدم جواز الأخذ به ككتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد من مصنفات الشيخ الجليل إسماعيل النوبختي. و كتاب الاستفادة في الطعن على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 153

أصحاب الاجتهاد و القياس لمؤلفه عبد اللّه بن عبد الرحمن التبريزي، و كتاب النقض على ابن جنيد في اجتهاد الرأي من مؤلفات الشيخ المفيد. و الفضل و هو من قدماء الإمامية قد بسط الكلام في إبطال الاجتهاد في الإيضاح و هو من أجلة الإمامية. و

قد ترحم عليه أبو محمد مرات.

فاسدة فإن التأمل في ذلك كله يعطي أن مرادهم بالاجتهاد في ألسنتهم هو الاجتهاد بالمعنى الأول المتقدم ص 71 من الأخذ بالظنون العقلية التي لا دليل على اعتبارها كالقياس و الاستحسان في مقابل النصوص الشرعية كما هو كان ديدن العامة في عصر الأئمة عليهم السّلام و هذا نحن نقول ببطلانه و عدم حجيته و الذي نقول به هو الأخذ بالعقول القطعية و ظواهر الكتاب و السنة و ما يستفاد منها بالدلالات المعتبرة كالمطابقة و التضمن و الالتزام و المفاهيم و الاقتضاء و نحو ذلك فان ذلك ليس أخذا بخلاف النصوص الشرعية بل يكون أخذا بها. و كيف يظن بأن السيد المرتضى و غيره ممن ذكره الخصم ينكرون العمل بالاجتهاد بالمعنى الذي هو محل البحث مع أن كتبهم الفقهية و أجوبة مسائلهم الشرعية مشحونة به خصوصا مثل الشيخ (ره)، و المحقق، و ابن إدريس في سرائره (و الحاصل) ان مرادهم بالاجتهاد الممنوع منه هو الأخذ بالظن الذي لم تقم الحجة على اعتباره و الاستحسانات و التخريجات الغير المنتهية إلى القطع بالجعل الشرعي لها و التي اعتمد عليها العامة في مقابل النصوص الشرعية، و أما الأخذ بظواهر الكتاب و الأخبار الثابت حجيتها على سبيل القطع كما هو المراد بالاجتهاد عند أصحابنا ليس إلا الأخذ بالكتاب و السنة الصحيحة.

(رابعها) حكم العقل فإنه لا ريب في بقاء التكاليف.

و لا يمكن الإتيان بها إلا بمعرفتها و لا تتحقق معرفتها إلا بالعلم أو الظن المعتبر. و ليست بديهية فلا بد من الفحص عن الطريق الموصل لها و لا بد من الفحص عن الدليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 154

اعتباره ثمَّ بعد حصول القطع بأنه موصل لها و انه حجة

معتبرة عليها فلا ريب ان استنباط الأحكام من ذلك الموصل لها و الحجة عليها مع عدم حضور الأئمة عليهم السّلام ليس بمقدور لكل أحد لكثرة الشبهات، و تعارض الأخبار، و اختلاف الأقوال، و تفاوت الدلالات، و اختلاط السقيم من الأخبار بالصحيح فلا يقدر على استخراج الأحكام و فروعها إلا المتفطن العارف بأساليب الكلام المميز للصحيح من السقيم و المتقن فيه من غيره. و لذا نرى أكثر الفقهاء مع ما عندهم من المعرفة يحتاطون في مقام الإفتاء فيقولون الأقرب كذا، و الأظهر كذا، و الأحوط كذا و طالما يظهرون التردد، هذا مع وجود نص في المسألة و أما عند فقد النص فلا بد من الرجوع الى الأصل و ليس يعرفه إلا من بذل جهده مع إحاطته بالطرق الشرعية ليعرف خلو المقام منها، و لا نريد من الاجتهاد إلا ذلك. و يعجبني ما ذكره صاحب المناهج في هذا المقام فإنه قال: إذا سمع حديث هكذا إذا أفطرت عمدا في نهار شهر رمضان فأعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكينا، أو صم شهرين متتابعين. فاستفادة الحكم الشرعي من هذا الحديث تحتاج أولا إلى معرفة حجية خبر الواحد، و إن هذا الخبر من النوع الذي هو حجة. ثمَّ هل يجوز العمل به قبل الفحص أو بعده؟ ثمَّ هل خطاب المشافهة يثبت به الحكم أم لا؟

ثمَّ على تقدير ثبوته به هل أن (إذا) تفيد العموم؟ و هل الأمر بالإعتاق يفيد الوجوب؟ ثمَّ المراد بالرقبة مطلقا أو خصوص المؤمنة. و المراد بالمسكين ما هو؟ و المراد بالشهرين هلالية أو ستون يوما؟ و ما المراد بالتتابع و الإطعام و قدر الإطعام و شرائط الصوم و مفسداته الى غير ذلك فكيف يمكن لشخص لم

يجتهد في تلك الأمور أن يعمل بهذا الخبر، و هل يكون إلا كحاطب ليل.

(خامسها) أن أغلب الموضوعات التي يتطلب معرفة حكمها الشرعي

لا يحصل القطع بحكمها حتى بعد البحث و التنقيب و بذل الوسع التام و إنما الذي يحصل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 155

الظن الذي قامت الحجة على اعتباره و هو الظن الاجتهادي، فلو لم يكن حجة مع علمنا بوجود التكليف فيها لزم اما الاحتياط و فيه العسر و الحرج أو اختلال النظام أو إهمال التكاليف و الجميع باطل.

و دعوى أنه بأيدينا من الأدلة الشرعية ما يفيد القطع و هو الإجماع و العقل و الكتاب و السنة المتواترة و المقرونة بالقرائن القطعية و سائر الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة. فقد أجاب عنها صاحب الحاشية بأن الإجماع و العقل لم يقوما إلا في قليل من الأحكام و مع ذلك لا يفيد ان التفصيل غالبا، و أما الكتاب فهو ظني الدلالة و لا يستفاد منه إلا أمور إجمالية غالبا. و أما السنة المتواترة و الخبر المحفوف بالقرائن القطعية، فكذلك من جهة قلة الوجود و إجمالية دلالة الموجود. و أما الأخبار في الكتب المعتبرة فهي ظنية بحسب الصدور و المتن لكثرة الاحتمالات فيها و لو سلمنا قطعيتها فهي لا تفي ببيان جميع الفروع المتجددة بتجدد الظروف و الأحوال فلا بد من التأمل في إدراجها فيما يناسبها من القواعد المقررة في تلك الأخبار و الظن باندراجها في خصوص كل من القواعد لكثرة القواعد و اختلاف الأنظار و عدم إمكان تحصيل اليقين في ذلك.

(سادسها) [ظنية تفريع الفروع على الأصول أو أخذ الجزئيات من الكليات]

ما رواه زرارة و أبو بصير في الصحيح عن الباقر عليه السلام و الصادق عليه السّلام، و رواه البزنطي عن الرضا عليه السّلام، و في جامعه عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام من أن عليهم عليهم السّلام إلقاء الأصول و علينا

التفريع عليها. ضرورة ان تفريع الفروع على الأصول و أخذ الجزئيات من الكليات يكون على سبيل الظن غالبا لأن أدلة العمومات و المطلقات على كل واحد من جزئياتها ظنية لقوة احتمال التخصيص و التقييد و هذا هو الاجتهاد.

و دعوى أن المراد به التفريعات اليقينية لا الظنية. فاسدة لأن الخطاب ظاهر في التفريعات عند العرف و هي أعم من الظنية و اليقينية مضافا الى أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 156

التفريعات اليقينية لا يحتاج أن يأمرنا الإمام عليه السّلام بها فلا بد أن يكون نظره للتفريعات الظنية مضافا الى أن الأدلة الشرعية أغلبها مشتملة على العمومات و المطلقات و أغلبها ظنية الدلالة على أفرادها، بل و هكذا دلالة المنطوقات على المفاهيم أغلبها ظنية.

و ما ورد في جواز الإفتاء للناس كقول أبي جعفر عليه السّلام لأبان ابن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك. و ما روى عن الصادق عليه السّلام ان في حديثنا محكما و متشابها، فردوا متشابهه إلى محكمه. و قوله عليه السّلام: خبر تدريه خير من خبر ترويه الى أن قال عليه السّلام: و اللّه لا يعد الرجل من شيعتا فقيها حتى يلحن له فيعرف اللحن.

و إذا كان الأمر كذلك فلا ريب أن الجمع بين الاخبار ورد متشابهها الى محكمها و درك الصحيح من السقيم فيها يحتاج الى بذل الجد و الاجتهاد و صرف الهمة بعد وجود الملكة القدسية لحصول الرشاد و السداد.

[أدلة الأخباريين على حرمة الاجتهاد و عدم حجية ظن المجتهد و الجواب عنها]
اشارة

و قد استدل الأخباريون على حرمة الاجتهاد و الذم عليه و عدم حجية الظن الحاصل منه بوجوه:

(أولها) [منع الأئمة ع عن العمل بالرأي و الاجتهاد]

ما رواه علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال: حدثني جعفر عن أبيه عليهما السّلام من دان اللّه تعالى بالرأي لم يزل دهره في ارتماس و في كتاب المحاسن عنه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم ان قوما من أصحابنا قد تفقهوا و أصابوا علما و رووا أحاديث فيرد عليهم الشي ء فيقولون برأيهم. فقال عليه السّلام: لا. و هل هلك من مضى إلا بهذا و أشباهه. الى غير ذلك مما ورد عن الأئمة عليه السّلام من المنع عن العمل بالرأي و الاجتهاد. و جوابه (أولا) خلو المذكور من الاخبار عن الاجتهاد، و إنما كان المذكور فيها العمل بالرأي و باطل عندنا كالعمل بالاستحسان، (و ثانيا) لو سلمنا وجود الاجتهاد فيها فالمراد منه هو استنباط الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية كما لو استنبط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 157

حكما شرعيا بالقياس أو الاستحسان أو الرأي أو المصالح المرسلة في مقابل الأئمة عليهم السّلام و يدل على ذلك ما رواه ابن مسكان عن حبيب قال: قال لنا أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إن الناس سلكوا سبل شتى فمنهم من أخذ بهواه، و منهم من أخذ برأيه و إنكم أخذتم بما له أصل يعني بالكتاب و السنة. و قوله عليه السّلام: إياكم و أصحاب الرأي فإنهم أغنتهم عن السنن أن يحفظوها. و قوله عليه السّلام: في أصحاب الرأي استغنوا بجهلهم و تدابيرهم من علم اللّه تعالى و اكتفوا بذلك دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم و القوّام بأمره، و قالوا لا شي ء إلا ما أدركته عقولنا. فان هذه الأحاديث تدل على الأخذ بما له أصل ليس أخذا بالرأي و لا عملا بالظن بل هو أخذ بالكتاب و السنة. و الحاصل إن العمل بظواهر الكتاب و السنة ليس إلا أخذا بالكتاب و السنة كما هو الشأن في كل من يأخذ بكتاب أو بقول فإن أخذه له هو العمل بظاهره. نعم الاستحسانات و القياسات و التخريجات الغير المنتهية للعلم يكون طرحا للكتاب و السنة. و بعبارة أخرى انه يوجد نوعان من الاجتهاد أحدهما أخذ الأحكام الشرعية من غير الأدلة الشرعية كالقياس و نحوه، و الثاني اجتهاد في أخذ الحكم من الأدلة الشرعية و المنظور في التحريم هو الأول و هو الذي أجمع علماء الإمامية على بطلانه و يحمل عليه تصريح الشيخ المفيد في المجالس و الشيخ في العدة، و المرتضى في الذريعة، و الشافي و ابن قبة و غيرهم لأنه هو الذي كان في قبال الأدلة الشرعية دون الثاني فإنه عمل بالأدلة الشرعية و لذا تراهم في رده يقولون: إنه اجتهاد في مقابل النص و يقرنونه بالقياس و قد يعبرون عنه بالرأي

ثانيها [المنع عن أخذ الأحكام من غير المعصومين ع]

ما ذكروه من أنه وردت أخبار كثيرة دالة على وجوب الاقتصار في أخذ الأحكام عن المعصومين عليهم السّلام و المنع عن الأخذ من غيرهم، و لا ريب ان أخذ الأحكام من الاجتهاد، و أخذ العامي من المجتهد أخذ من غير حجج اللّه تعالى. و جوابه كما ذكره النراقي (ره) أنه لا ينافي توقف أخذ الأحكام من كلامهم عليهم السّلام على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 158

العلم بالمقدمات التي يتمكن بها من الاستنباط من حديث

آل محمد عليه السّلام. و حديثهم صعب مستصعب لا يحتمله كل أحد، و فيه عام و خاص، و مطلق و مقيد، و محكم و متشابه و تقية. فهذه الاخبار لا تدل على أن أخذ الأحكام من اخبارهم عليهم السّلام لا يتوقف على شي ء، نعم تصلح هذه الأخبار للرد على اجتهاد العامة لأخذهم الأحكام من مقدمات عقلية و قياسية و استحسانية من غير توسط الكتاب و السنة، و أما اجتهادنا فغير خارج عن أخذ الأحكام عن الكتاب و السنة غاية الأمر قد استنبطها الماهرون المجتهدون من ظواهر الكتاب و السنة بصريح الدلالة أو فحواها أو بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو الإيماء أو الإشارة أو المفهوم أو المنطوق أو بالأولوية أو النص على العلة أو الملازمة العقلية.

(ثالثها) وجود الآيات الناهية عن العمل بالظن

منها قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و منها قوله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ*.

و منها إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً*. و غيرها من الآيات و الروايات التي نستفيد منها القطع بالمنع عن العمل بالظن. و جوابه ان هذه مخصصة بالأدلة القطعية التي قامت على حجية الظن في الأحكام الشرعية حتى دليل الانسداد فإنه أخص نظير تخصيصها بالأدلة التي قامت على حجية البينة و اليد و سوق المسلمين.

رابعها أن العمل بالظن قبيح عقلا

لمخالفته للواقع غالبا فلا يعقل جعل الشارع له حجة للملازمة بين العقل و الشرع. و جوابه انه إن كان المراد به انه قبيح مع عدم جعل حجيته فهو مسلم، و إن كان المراد انه قبيح مع جعله حجة فهذا خلاف الوجدان لحكم العقل بحسن العمل بالحجة المجعولة من قبل المشرع للحكم فان بناء العقلاء و حكم العقل بجواز العمل بما يجعله المولي طريقا للواقع و إن كان المراد عدم إمكان جعله حجة كما نسب ذلك الى ابن قبة. فقد بين الأصوليون بطلانه في مباحث حجية الظن على انه مخالف لما ذهب اليه الخصم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 159

من جعل الظن حجة في الموضوعات كقيم المتلفات، و أرش الجنايات، و إضرار الصوم بالمريض، و عدد الركعات، و تعيين جهة القبلة. و دعوى انه لو لا جعل الظن في المذكورات للزم الحرج بخلاف ما نحن فيه.

فاسدة فإن الحرج أيضا لازم علينا لو لم يجعل الظن في الأحكام حجة علينا لعدم حصول العلم لنا من الاخبار و الكتاب و إن فرض حصوله منها للخصم. مضافا الى ان الحرج لا يرفع محالية الجعل و يقلبها إلى إمكان الجعل و فعليته.

خامسها [عدم الدليل على حجية الظن]

ان العلم حجة باتفاق الفريقين و الظن لم يقم دليل على حجيته و جوابه إن أدلة حجية الظنون قد تعرض لها في علم الأصول مفصلا. و كون العلم حجة عند الفريقين لا يوجب عدم حجية غيره و إنما الذي يوجب عدم حجية الغير هو عدم قيام الدليل عليها. و نحن إنما نقول بحجية ظن المجتهد الذي قام الدليل على اعتباره.

سادسها عن الرضا عليه السّلام ان لكلامنا حقيقة و عليه نور

فما لا حقيقة له و لا نور عليه فذلك للشيطان. و قد حكي تواتر ذلك عن المعصومين عليهم السّلام و المراد بالنور هو العلم لما اشتهر ان العلم نور يقذفه اللّه تعالى في قلب من يشاء.

و جوابه كما في كتاب جدي كاشف الغطاء (ره) انه لو كان المراد كما فهمه الخصم فلما ذا كان أصحاب الأئمة عليهم السّلام يعرضون الروايات على الكتاب و السنة فان النور لا يخفى على احد، إلا اللهم ان يكون النور يظهر للاخباريين دون غيرهم و عليه فلا بد لغيرهم من الرجوع للظن إذ لا طريق لهم للتكاليف سوى الظن و لعل المراد ان لبعض كلماتهم دلالة على انها لهم كآيات الكتاب الشريف الدالة على انها منه.

سابعها [نقد الأخبار و تهذيبها بعد عرضها على الأئمة ع]

ان الروايات قد عرض الكثير منها على الأئمة عليهم السّلام، و كذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 160

الكتب ككتاب عبد اللّه الحلبي الذي عرض على الصادق عليه السّلام، و ككتابي يونس ابن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه السّلام و الأصحاب قد نقدوا الاخبار و هذبوها، فلو كان الظن حجة لما صنعوا ذلك و لعملوا بكل خبر لأنه يفيد الظن فلا بد ان يكون عملهم هذا لتمييز ما يفيد العلم من الاخبار عن غيره. و جوابه ان هذا العرض و النقد و التهذيب لتمييزها هو مفيد للظن المعتبر عن غيره و خوفا من الخطأ فيها لا لتمييز ما يفيد العلم عن غيره كما هو الحال في هذا الزمان.

ثامنها [منافاة أبدية الحل الحرمة لقابلية الحكم الاجتهادي للتغيير]

انه قد تواتر «ان حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلال ليوم القيامة، و حرامه حرام ليوم القيامة». و لو جعلنا الظن حجة لم يكن الأمر كذلك لتبدل الظن و تغييره فقد يظن المجتهد بحرمة شي ء ثمَّ يتبدل ظنه بحليته و قد يعكس الحال فلم يكن الحلال حلالا إلى الأبد، و لا الحرام حراما إلى الأبد. و من هنا يتولد عندنا شكل أول على بطلان العمل بالظن الاجتهادي و هو ان كل حكم اجتهادي قابل للتغيير و كل قابل للتغيير مناف للشريعة إسلامية الأبدية، فكل حكم اجتهادي مناف للشريعة الإسلامية الأبدية. و جوابه بالنقض عليهم إذا عملوا بالعام الدال على الإباحة ثمَّ وجدوا بعد ذلك المخصص له أو فهموا من الخير شيئا ثمَّ عدلوا عن ذلك لفهمهم خلافه، (بالحل) بأن المراد به الأحكام الواقعية، فإنها هي حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حرامه

الذي لا يتغير بتغيير الزمن خلافا للقائلين بالتصويب. و اما الأحكام الظاهرية فلا مناص من اختلافها بحسب اختلاف الآراء و الأحوال و العلم و الجهل، كما إذا وجد المسلم شيئا في سوق المسلمين فحكم بحليته ثمَّ بعد ذلك ظهر حرمته أو أخذ لما من يد مسلم فحكم بأنه حلال ثمَّ ظهر حرمته أو أجرى أصالة الطهارة في شي ء ثمَّ بان نجاسته.

(تاسعها) [عدم صحة ابتناء الشريعة الإسلامية السهلة على استنباطات صعبة]

أن الشريعة الإسلامية قد ثبت أنها سهلة سمحة فكيف تكون مبتنية على استنباطات صعبة مضطربة. و جوابه كما ذكره جدى كاشف الغطاء (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 161

إن سهولة الشريعة لا تجوز طلب العلم و القطع بها كما يرومه الخصم لعسر ذلك من جهة قدم العهد بالأئمة الأحد عشر عليهم السّلام و حصول الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر روحي له الفداء، بل حتى في أيام الأئمة السابقين بعد أمير المؤمنين عليه السّلام لأنهم في حكم الغائبين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ثمَّ أى حرج و ضيق في ترتيب الأحكام على الظنون بل الحرج و العسر يكون بالإلزام بتحصيل العلم بالأحكام الشرعية لاختلاف الروايات و ضعف القرائن و غير ذلك ما يوجب عدم إمكان القطع بالأحكام.

(عاشرها) إن جواز الأخذ بالظن يؤدى الى تسهيل العذر لليهود و النصارى

و نحوهم بدعواهم حصول الظن لهم بملتهم. و جوابه إنا لو جوزنا العمل بالظن في الأصول أمكن الإيراد المذكور لكن نحن نقول به في الفروع و إنا نقول بالتعذيب على التقصير في تحصيل العلم بأصول الدين.

(الحادي عشر منها) انه يلزم من جواز العمل بالظن اثارة الفتن

، و اقامة الحروب، و سفك الدماء، و قتل النفوس كما هو المشاهد. قال ابن ابى الحديد في مقام الاعتذار عن الحروب و الفتن الواقعة بين الصحابة، ان السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام اللّه تعالى. و جوابه إنا لا نرى في اجتهاد المجتهدين مع كثرته عندنا ما يترتب عليه ذلك الى زماننا هذا فكيف يدعي انه من المشاهد له ذلك. و لعل نظر المستدل إلى العامة في حربهم أهل الردة و أخذهم فدك و قتلهم بعض الصحابة، و قتل الحسين عليه السّلام، و لكن هؤلاء إنما عملوا حبا للرئاسة و الملك، و لو سلمنا انه عمل بالاجتهاد و حاشا ذلك، فهو اجتهاد باطل لأنه لم يكن مستندا لدليل و لا لتبصر و تأمل و تفحص في الحكم الشرعي فلا يكون قدحا في الاجتهاد الصحيح كما ان الأعمال القبيحة الصادرة عن العلم الباطل لا تكون قدحا في العلم الصحيح كيف و الاجتهاد المذكور كان منهم في مقابل النص و القطع، و نحن كلامنا في الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 162

في معرفة النص و الدليل الصحيح.

(الثاني عشر منها) إن الظن الاجتهادي يختلف باختلاف الآراء

و الأذهان و الأحوال و مداركه غير منضبطة، و كثيرا ما يقع فيه التعارض و اضطراب الأنفس فإنه قد رجع كثير من فحول العلماء عما افتى به فهو لا يصلح أن يجعله اللّه تعالى مناطا لأحكامه المشتركة بين الأمة إلى يوم القيامة. و جوابه ان العلم أيضا كذلك، فإنه يختلف باختلاف الآراء و الأذهان و مداركه غير منضبطة على ان المدارك للظن الاجتهادي عندنا منضبطة و هي الأدلة الأربعة الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، ثمَّ بعد قيام الحجة على العمل به من المشرع الأعظم

أي محذور في ذلك خصوصا مع عدم تمكننا من العلم بالواقع فتكون شبهة في مقابل البداهة.

(الثالث عشر منها) إن الظن الحاصل بالاجتهاد مبني على حصول الملكة

القدسية التي اعتبروها في معنى الفقيه و المجتهد، و أيضا اعتبروا في الاجتهاد بذل الوسع بقدر مخصوص، و لا يخفى على اللبيب أن الملكة المذكورة و القدر المشار اليه من بذل الوسع أمر ان مخفيان غير منضبطين فلا يصلحان أن يكونا مناطا للأحكام. و جوابه كما ذكره المرحوم السيد نور الدين إنها تعرف بآثار التصرف و تكرار مواردها و صحة لوازمها الموجبة لشهادة أهل العلم و هي قريبة من ملكة العدالة. قال جدي كاشف الغطاء (ره): و لا خفاء فيها لدلالة الآثار عليها و إلا لم يميز الكريم من البخيل، و لا الشجاع من الجبان، و لا الذكي من البليد. و الحاصل انه إن أريد الخفاء على المجتهد فممنوع، و إن أريد الخفاء على المقلدين فلا مانع لأن المقلد لا يجب عليه إلا معرفة أن هذا مجتهد و لو بنحو الإجمال بالبينة و نحوها.

(الرابع عشر منها) إنه لو جاز العمل بالظن الاجتهادي

في حين انه يستلزم جواز الخطأ لم تجب عصمة الامام عليه السّلام لأن وجوبها مبني على انه يجب على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 163

اللّه تعالى إيصال العبد إلى الأحكام الواقعية.

و بعبارة أخرى إن اعتبار العصمة في الإمام عليه السّلام لأجل تحصيل الواقع و الأمن من الوقوع في خلافه لينقطع به العذر للأنام و هو يقتضي عدم جواز الأخذ بالظنون الاجتهادية لعدم تحصيل الواقع بها و لا يأمن من مخالفتها للواقع، و إن شئت قلت: ان دليل العصمة القبح من الحكيم أن يوجب على كافة الخلق الرجوع إلى من يجوز عليه الخطأ، و تجويز الشارع الرجوع إلى الظن معناه تجويز الحكيم الرجوع إلى ما فيه الخطأ، و هذا الإيراد أورده رئيس المشككين الفخر الرازي على الإمامية، و ذكره

صاحب الفوائد المدنية و جوابه إن بالعلم أيضا يقع الخطأ فالإشكال مشترك الورود، و بالحل ان الامام له مقام يقتضي العصمة دون المجتهد فإنه ليس له هذا المقام إذ الإمام يخبر عن اللّه تعالى و رسوله من دون واسطة، فلا بد من العصمة ليعلم بعدم خطئه و اشتباهه و إلا لاحتاج إلى إمام آخر يرشده و هلم جرا، فيلزم التسلسل بخلاف المجتهد، فإنه يأخذ من الأدلة المعتبرة عنده علما أو ظنا و هي ممكنة المخالفة للواقع حتى القطعي منها.

(الخامس عشر منها) [منافاة اقتضاء قاعدة اللطف بتحصيل العلم بالحكم الشرعي مع التكليف بالظن]

إن قاعدة اللطف و هي الوجوب على اللّه تعالى أن يصنع ما يقرب العبد للطاعة و يبعده عن المعصية تقتضي أن يفتح اللّه تعالى باب العلم بالأحكام الشرعية كما تقتضي بعث الأنبياء و نصب الأوصياء، فلا بد على اللّه تعالى أن يدل على الأحكام الواقعية و أن يحفظ الأدلة عليها من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع كالخطإ، و النسيان، و الضياع، و الدس فيها فبواسطة قاعدة اللطف يحصل لنا العلم بالأحكام الشرعية من الأدلة، أو يقال ان التكليف بتحصيل العلم بالحكم الشرعي لطف، و التكليف بالظن خلافه فيجب على اللّه تعالى الأمر بتحصيل العلم. و جوابه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 164

(أولا) بالنقض بأن الأخباريين نفسهم قد يختلفون في الأحكام الشرعية كالصدوق (ره) فإنه جوّز القنوت بالفارسية، كما في المحكي عن الفقيه مستدلا عليه بكل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي، و بصحيح ابن مهزيار قال: سألته عن الرجل يتكلم في صلاة الفريضة بكل شي ء يناجي به ربه؟ قال عليه السّلام: نعم و خالفه في ذلك جملة من الأخباريين و منهم صاحب الحدائق مدعيا أن معنى الحديث هو جواز الدعاء بكل

شي ء من المطالب لا باعتبار اللغات المختلفة إلى غير ذلك من الاختلافات بينهم يجدها من يرجع لكتبهم. فلو كانت الأدلة محفوظة من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع لما وقع بينهم هذا الاختلاف في الأحكام الشرعية.

(و ثانيا) بالحل بأن قاعدة اللطف إنما تقتضي أن يكون ما يرجع أمره إلى اللّه تعالى من الدلالة على الواقع ان يصنعه، من إرسال الرسل و نصب الأوصياء و إظهار المعاجز الموجبة للعلم بصدق مقالتهم و عصمتهم عن الخطأ و الخطيئة و ليس عليه أن يرفع ما يحدثه العباد من الموانع لعدم اطلاعهم على الواقع من قتلهم الأئمة عليهم السّلام و عدم رجوعهم إليهم، و الافتراء عليهم، و الدس في أحاديثهم، و أخطائهم و سهوهم في نقلها.

و بعبارة أخرى إن قاعدة اللطف إنما تقتضي على اللّه تعالى أن يفعل بعض الأمور التي تقرب العبد للطاعة لا مطلقا و إلا لوجب على اللّه تعالى ان يجعل في العباد الإرادة لامتثال التكاليف و صرفهم عن المعاصي و إنما يجب عليه من تلك الأمور خصوص ما يرجع أمره اليه، و لا يتمكن العباد عليه، أما الأمور التي تقرب العبد للطاعة و البعد عن المعصية التي يتمكن العباد منها فلا يجب على اللّه تعالى فعلها كجبر العباد تكوينا على الرجوع إلى الرسل و الأئمة عليهم السّلام، و سلب قدرة العباد على قتلهم عليهم السّلام، و تشريدهم عليهم السّلام، و اخراس العباد عن الكذب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 165

عليهم عليهم السّلام، و جعل العصمة في العباد عن الخطأ في نقل الأدلة على التكاليف فان هذه الأمور لا تقتضيها قاعدة اللطف كما يشهد بذلك الوجدان و البرهان، فان على اللّه تعالى

الإحسان و ما عليه لو أوقعنا أنفسنا في الحرمان و قد أوضحنا ذلك في كتب الكلام.

و دعوى ان إيجاب تحصيل العلم من اللطف. فاسدة لأن إيجاب تحصيل العلم بالأحكام في هذا العصر يوجب تضييع أغلب الأحكام لعدم تيسر العلم بها.

(السابع عشر منها) إن المجتهدين قد يعملون بالقياس

و نحوه و يتركون العمل بكثير من أخبار الأئمة عليهم السّلام و جوابه إن هذا افتراء عليهم و قد منعوا أشد المنع من العمل بالظن الغير المعتبر فكيف يعملون بالقياس الذي قام الدليل القطعي من الأئمة (ع) على المنع منه أشد المنع.

(الثامن عشر منها) إن مذهب الأخباريين أوفق بالاحتياط

لأنه أخذ، بالعلم و اليقين. و جوابه إنهم إن أرادوا أن الأخذ بالقطع أرجح من الأخذ بالظن الغير المعتبر مع التمكن من العلم، فهو مما لا نزاع فيه و إن أرادوا أن ذلك أرجح مع عدم التمكن من العلم بحيث ان الإنسان في هذه الصورة لا يأخذ بالظن أيضا فهو باطل لأنه مستلزم لأحد أمرين اما تكليف ما لا يطاق و هو التكليف بتحصيل العلم، و اما ارتفاع التكاليف عنه، و إن أرادوا أن ذلك أرجح مع الظن المعتبر فهو غير مسلم، فان المشرع إذا كان بنفسه اكتفى بالظن عن العلم فأي رجحان إلزامي للعلم على الظن المذكور، على أن الأوفق بالاحتياط هو حكم من لا يأخذ بالرواية إلا بعد الفحص عن المعارض و المقيد و البحث عن السند و الترجيح بالمرجحات لا من يعمل بالرواية من دون فحص عن المعارض و الموافقة للعامة و عمل المشهور بها و نحو ذلك كما قال جدي كاشف الغطاء (ره):

إن الآخذين بالاحتياط هم المتأملون المتدبرون فيما يصلهم من الاخبار و لا يعولون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 166

عليها إلا بعد أن ينقدوها نقد الدرهم و الدينار و لا يسمعون كل ناطق و هم المجتهدون الذين أشغلوا أنفسهم في الليل و النهار و صرفوا الأعمار في معرفة الصحيح من الأخبار و عرضها على كتاب اللّه و سنة النبي المختار و لم يقلدوا في نقدها

المحمدين الثلاثة محمد بن يعقوب الكليني (ره)، و محمد بن علي بن بابويه القمي (ره)، و محمد بن الحسن الطوسي (ره) و نحوهم.

(التاسع عشر منها) [لا وجه للعمل بالظن لوضوح ان ما من واقعة إلا و قد جاء فيها حكم كتابا أو سنة]

ما روي حتى كاد أن يكون متواترا عنهم عليهم السّلام انه ليس شي ء من أحكام اللّه إلا و قد جاء به كتاب أو سنة، في الكافي عن عمر ابن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سمعته يقول: إن اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج اليه الناس إلا و قد جاء فيه كتاب و سنة. و كفى قول اللّه تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ». و عليه فلا وجه للعمل بالظن الاجتهادي لأن محل الاجتهاد ما لم يكن دلالة قطعية على الحكم، و قد دلت هذه الروايات على أن لكل واقعة تحتاج إليها الأمة دلالات من أهل العصمة و بعد ذلك فأي حاجة إلى بذل الجهد في استنباط الأحكام و تحصيل المقدمات. و جوابه نعم و لكن نحن بأعمالنا و سوء تصرفاتنا ضيعنا ذلك. و قد ورد عن أبي الحسن: إن اللّه لم يقبض نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أكمل له دينه و إنه مخفي عند أهل بيته. و عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب أو سنة و لكن لا تبلغه عقول الرجال، هذا مضافا إلى عدم المنافاة بين وجود الأحكام في الكتاب و السنة و بين اختصاص فهمها بشخص معين و هو من اجتهد فيها، ألا ترى إن اللّه تعالى يقول لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ مع انه لا يفهم ذلك إلا الراسخون في العلم.

(العشرون منها) إن الاجتهاد موافق للعامة و مخالف لطريقة الأئمة

الخاصة، و قد تواتر أن الرشد في خلافهم. و جوابه ان الاجتهاد بمعنى التعويل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 167

على القياسات و الاستحسانات

و الاعتبارات فهو مما ندين اللّه تعالى ببطلانه اما الاجتهاد بمعنى أخذ الأحكام عن أدلتها المعتبرة على النهج الصحيح فهو ما يريده الأئمة و أمرونا به كما عرفت من انهم عليهم السّلام قالوا: علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع عليها، كيف و الاجتهاد بالبحث عن المعارض أو المخصص أو الناسخ أو الموافق للكتاب أو للعامة و عن حقيقة اللفظ و معانيه لازم للأخذ بكلامهم عليهم السّلام

(الواحد و العشرون منها) [عمل أصحاب النبي ص وفقا لما يفهمونه من الخطابات الشرعية بلا فحص و لا مقدمات]

إن الطريقة المستمرة بين أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام إنهم إذا سمعوا آية أو رواية يعملون بها من غير تأمل أو فحص و لا قراءة علوم أخر، و هكذا كان الأمر إلى زمان الصادق عليه السّلام فكان بعض أصحابه يجمعون بعض الأخبار المتعلقة ببعض الأحكام يسمونه بالأصل فكان الجامع و من عنده يعملون به من دون فحص أو تحصيل مقدمات. كيف و خطابات الشارع مثل الخطابات العرفية فإن العرف إذا خاطبهم أحد يعمل بمقتضى ما فهمه من الخطاب من دون توقف علي فحص أو مقدمات و اجتهاد. و جوابه انه بالنسبة إلى أصحابهم تكون خطابات شفاهية لا تحتاج إلى إثبات حجية صدورها و وضوح دلالتها و لو وقع في دلالتها شك أمكن السؤال، فلذا لا يحتاجون في معرفة الأحكام منها إلى مقدمات و لا إلى فحص بخلاف ما نحن فيه فإنه لبعد الزمن بيننا و بينهم و كثرة القالة عليهم و وقوع التقطيع و التصحيف في كلماتهم و كثرة المخصص و المعارض لخطاباتهم مع اختلاف العرف بيننا و بينهم، و خفاء القرائن الحالية و المقالية علينا في كلماتهم كل ذلك يوجب الفحص و تحصيل المقدمات لمعرفة المراد من كلامهم عليهم

السّلام و قد تقدم في الدليل الخامس على حجية الاجتهاد ضرب المثل لك في الاحتياج إلى المقدمات راجع ص 154.

(الثاني و العشرون منها) إنه لو كان أخذ الأحكام موقوفا على السعي و الاجتهاد و المقدمات

لبينها الأئمة عليهم السّلام بل الأخبار الدالة على وجوب العمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 168

بأحاديثهم من غير اشتراط شي ء يدل على عدمه. و جوابه ان الأخذ لما كان لا يحصل إلا بذلك فهو مقدمة وجود له نظير مقدمات الواجبات، فكما ان المعصومين (ع) اعتمدوا على العقل في لزوم الإتيان بمقدمات الواجبات الوجودية فكذا ما نحن فيه. هذا مضافا إلى أن الأخذ في زمانهم (ع) لم يحتاج إلى تلك المقدمات الموجودة في زماننا حتى يذكرونها في زمانهم فأوكلوا مقدمات الاجتهاد في كل زمان إلى عقولهم لأنها لا تخطأ في ذلك.

و يلحق بهذا المقام مطلبان:
المطلب الأول جواز العمل بالاجتهاد في نفس مسألة جواز الاجتهاد

ثمَّ إن مسألة جواز العمل بالظن الاجتهادي لا يصح العمل بالظن الاجتهادي فيها و الا لزم الدور بل لا بد من تحصيل اليقين بجواز العمل بالظن الاجتهادي و مع عدم التمكن من تحصيل اليقين بذلك و الشك فالقاعدة تقتضي عدم جوازه لأنه الشك في الحجية كما تقرر في محله موجب لعدم جواز العمل بالمشكوك نعم يجوز له تقليد الغير في ذلك إن كان عاميا في تلك المسألة و كان التقليد حجة عنده في ذلك و إن كان هذا الفرض بعيدا جدا لكن على تقدير تقليده فيها لا يجوز للغير الرجوع له في مستنبطاته حيث أنها ترجع إلى التقليد أيضا لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات، هذا و لكن التحقيق أن المجتهد المطلق لما كانت ظنونه تنتهي إلى العلم بحجيتها و القطع بذلك و إلا لما صح له العمل بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 169

فهو عالم و قاطع بجواز عمله بظنونه فلا يحتاج إلى الاجتهاد في حجيتها أو إلى تقليد الغير في حجيتها، نعم بناء على انسداد باب العلم و

العلمي عليه. و قلنا بأن نتيجة دليل الانسداد مهملة ربما يقال باحتياجه لإثبات حجية ظنونه بالنسبة اليه إلا انه قد يقال انه على تقدير الإهمال، فالقدر المتقن دخول ظنونه في النتيجة. و كيف كان فلا بد له من تحصيل اليقين بجواز عمله بالاجتهاد و قد تقدم الكلام في لزوم التقليد أو الاجتهاد في مسألة الاحتياط ص 63 فراجعه ينفعك هنا.

المطلب الثاني ان مسألة جواز الاجتهاد و التقليد أصولية أم لا

اختلف القوم فيما بينهم في كون مسألة جواز الاجتهاد و التقليد من المسائل الفقهية أو الأصولية أو الكلامية، و الثمرة في ذلك إنها لو كانت من الفقهية عمل فيها بمطلق الظن بناء على حجية مطلق الظن فيه كما هو مذهب الانسداديين، و إن كانت من الأصول عمل فيها بالظنون الخاصة دون المطلقة و ان كانت كلامية لا يعمل فيها بالظن حتى الظن الخاص إذا عرفت ذلك فنقول:

قيل انها من المسائل الفقهية لأن مرجعها إلى الجواز و عدم الجواز، و لأنها يبحث فيها عن أحوال فعل المكلفين، و قيل أنها من المسائل الأصولية لأن بناء العلماء على ذكرها في علم الأصول، و قيل أنها من الكلامية لأن مسائلها تشبه مسألة حجية قول الامام و تجري مجرى وجوب اطاعته إذ لا مناص من وجوب معرفة ان الحجة بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 170

غيبته عليه السّلام من هو و لا دخل لها في الفقه لأنه إنما يبحث عن الأحكام الفرعية المتعلقة بكيفية العمل بلا واسطة و لا في أصول الفقه فإنه الباحث عن عوارض الأدلة، و ليس ذلك منها (و الحاصل) إن الرجوع للعالم بأحكام الشرع من مسائل أصول الدين التي تثبت بالعقل أو النقل مثل المعاد و وجود الامام، فكما لا بد للمكلف

من الاعتقاد بوجود الامام لا بد له من الاعتقاد بوجوب متابعة العالم بعد غيبته عليه السّلام، اما بالعقل أو النقل. أما العقل فلأن كل من يدخل في الدين يعلم بأن عليه أحكاما كثيرة على سبيل الاجمال و إن التكليف بها لم ينقطع و لا بد في أخذها من الرجوع للعلماء بها. و أما النقل فمن جهة ما ورد من الأمر بالسؤال من أهل الذكر و الرجوع لأصحابهم (ع).

و يمكن أن يقال عليه ان كلا من الاجتهاد و التقليد و رجوع العامي للعالم لا دخل له بالاعتقاد بل كالرجوع لأهل الخبرة و وجوب الاعتقاد بوجوب الاجتهاد أو التقليد ليس إلا من قبيل وجوب الاعتقاد بوجوب الصلاة وجوب تبعي مأخوذ من وجوب العمل بالاجتهاد أو التقليد و ليس وجوب الاعتقاد بذلك من حيث هو مطلوب كالاعتقاد بالإمام عليه السّلام و لا يعاقب المكلف على عدمه زائدا على عقابه على عدم امتثال التكاليف. و ليس معرفة الحجة بعد الغيبة كمعرفة الإمام عليه السّلام، لأن وجوب معرفة الإمام وجوب أصلي ثابت بالعقل و النقل فيعاقب على مخالفته بخلاف معرفة الحجة بعد الغيبة ليس مكلف به الإنسان و لم يدل عليه دليل، و لذا لو امكنه الاحتياط و احتاط في تكاليفه لم تجب عليه المعرفة.

و لكن لا يخفى ان هذا يتم لو قلنا بوجوب معرفة المرجع الديني في زمن الغيبة و لكن كلامنا في وجوب الرجوع اليه نظير الكلام في مسألة وجوب الرجوع للإمام عليه السّلام فإنها مما ترجع للمبدء و المعاد فتكون من علم الكلام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 171

(الثاني من الأحكام) جواز الفتوى له بل وجوبها عليه

من احكام المجتهد انه يجوز له الفتوى بما ادى اليه رأيه و ذلك لقول الباقر عليه

السّلام لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس. بل الأدلة الدالة على جواز تقليد العامي للمجتهد تدل بالاقتضاء على جواز الفتوى له.

مضافا الى السيرة العملية. بل يجب عليه الإفتاء عند السؤال منه عن حكم الواقعة التي هي محل ابتلاء السائل و يحتاج لمعرفة حكمها كسؤاله عن الواجبات و المحرمات عليه أو عما يدفع الضرر الحاصل به عن نفسه كما إذا سئل عن خيار الغبن بعد البيع بما فيه غبن دون ما إذا سئل عن المستحب قال النراقي (ره): كلما يجب فيه على المستفتي السؤال يجب على المفتي الجواب، فان وجب على الأول السؤال عن ذلك عينا يجب عليه الجواب كذلك و ما يجب عليه السؤال عن أحد الفقيهين يجب عليه الجواب كفاية. و كذا ما يتضرر المستفتي بجهله يجب عليه الجواب إما عينا أو كفاية و لا يجب في غير ذلك قال (ره): و دليل الكل الإجماع و الكتاب لقوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ». و المروي في الصافي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار. و رواه في إحقاق الحق أيضا هكذا من علم علما و كتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من النار. و ما رواه في الكافي بإسناده عن ابي عبد اللّه (ع) إنه قال: قرأت في كتاب على (ع) إن اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال. و الأخيرة مخصوصة بالواجبات لأنها التي أخذ العهد

على الجهال بطلبها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 172

و اما ما تقدمها و إن كانت عامة إلا ان صدق الكتمان في الآية الشريفة على سكوت الفقيه عن رأيه في مستحب أو مباح أو معاملة غير معلوم لا سيما بعد انتشار الجميع في كتب الأحاديث و الفقه من العربية و الفارسية، فإن المنهي عنه الكتمان المطلق دون الكتمان عن شخص خاص. و الروايتان اللاحقتان ضعيفتان غير معلوم انجبارهما بعمومهما، و مع ذلك روي في الكافي بإسناده عن ابي الحسن موسى (ع) قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل قال: ما هذا؟ فقيل: علامة، قال: و ما العلامة؟ قال: اعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها و أيام الجاهلية و الاشعار العربية. قال: فقال: النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك علم لا يضر من جهله، و لا ينفع من علمه. ثمَّ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنما العلم ثلاثة آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة. و فسرت (الآية المحكمة) بأصول العقائد التي براهينها الآيات المحكمات. و (الفريضة العادلة) بفضائل الأخلاق و عدالتها كناية عن توسطها. و (السنة القائمة) بتشريع الأحكام و مسائل الحلال و الحرام. و روى أيضا بإسناده عن ابي عبد اللّه (ع) يقول:

وجدت العلم كله في أربع (أولها) ان تعرف ربك. (و الثاني) ان تعرف ما صنع بك. (و الثالث) ان تعرف ما أراد منك. (و الرابع) ان تعرف ما يخرجك عن دينك، و المراد من الأول واضح، و من الثاني علم النفس الإنسانية و صفاتها و ما يعود اليه من النشأة الآخرة و

ما يوجب شكر المنعم، و من الثالث الفضائل النفسانية و الأوامر الشرعية، و من الرابع الرذائل و النواهي و يخرج من هاتين الروايتين كثير مما يعمه الروايتان المرسلتان المتقدمتان بل يمكن ان يقال بعدم خلو معاني الثلاثة المذكورة في الرواية الأولى عن إجمال و لأجله يدخل الإجمال في العمومات أيضا فلا تكون العمومات المذكورة صالحة للاستدلال بها إذ معه يحصل الاجمال فيها فتأمل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 173

(الثالث من الأحكام) حرمة تقليد المجتهد لغيره و جواز تقليد الغير له
اشارة

الكلام يقع (أولا) في المجتهد المطلق، (و ثانيا) في المتجزي. أما المجتهد المطلق و هو من كان له ملكة الاجتهاد في تمام الفقه فله صور أربعة:

(الأولى) ان يستنبط جميع مسائل الفقه و هذا لا إشكال في جواز عمله باجتهاده و حرمة رجوعه للغير لأن الأدلة الدالة على الرجوع للغير إنما هي ظاهرة أو منصرفة لمن لم يتمكن من معرفة الحكم الشرعي أو كان في معرفته له حرج عليه و هذا حسب الفرض عالم به كما انه يجوز رجوع العامي له كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث التقليد إلا ان هذه الصورة قد عرفت عدم تحققها.

(الثانية) أن يستنبط معظم الأحكام الفقهية مع تمكنه من استنباط باقي الأحكام الشرعية، فهذا أيضا يجوز له العمل باجتهاده، و يحرم عليه ان يقلد الغير في الأحكام التي لم يستنبطها لأن أدلة التقليد و جواز الرجوع إلى الغير القدر المتيقن منها هو رجوع الجاهل الغير القادر على الاستنباط أو من كان عليه حرج في استنباطها و هذا حسب الفرض قادر على ذلك، و لا حرج عليه.

إن قلت: كيف كان العوام يرجعون لأصحاب الأئمة (ع) مع تمكنهم من الرجوع للأئمة عليهم السّلام و تحصيل الحكم الشرعي منهم (ع).

قلنا: لم يرجعوا

لهم في الفتوى و إنما يرجعون لهم في الرواية إلا مع عدم تمكنهم من الاجتهاد أو تعسره عليهم و اما جواز رجوع العامي له فسيجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 174

إنشاء اللّه تعالى معرفة ذلك من الكلام في الصورة الرابعة الآتية.

(و الثالثة) ان تكون عنده الملكة التامة و لكنه لم يستنبط حتى الآن كما في صورة أوائل حدوثها و هذه الصورة يعلم الحال فيها من جواز رجوعه إلى الغير أم لا من الصورة التي بعدها.

(الرابعة) ان تكون عنده الملكة التامة و قد استنبط بعض الأحكام الشرعية و لكنه لم يتمكن من استنباط بعض الأحكام الشرعية الأخرى لتعارض النص أو فقدانه أو مخالفته للمشهور فيها فهل يجوز له ان يقلد الغير في تلك الموارد التي لم يتمكن من استنباط الحكم الشرعي لأنه جاهل بالحكم الشرعي فيها و الغير عالم به فيها أو يرجع إلى الأصول العملية أو إلى الظن الانسدادي إذا كانت مقدماته تامة عنده التحقيق انه لا يجوز له الرجوع للغير لعدم إحرازه أعلمية الغير منه في معرفة مدرك الحكم أزيد منه، بل يحتمل أن الغير مساو له أو أدنى منه في معرفة المدرك و إنه اشتبه في استنباط هذا الحكم فلم يحرز أعلميته بالمدرك منه بخلاف العامي فإنه يحرز أعلمية المجتهد منه و لو فرض إحرازه ذلك فهو ليس بجاهل بالمدرك حتى يرجع للغير بل هو عالم بالمدرك و لكنه لم يستفد الحكم منه. نعم لو احتمل وجود مدرك عنده غير ما أطلع عليه و هو متمكن من تحصيله و لا عشر عليه، و لم يكن متفحصا بمقدار اللازم لزمه أن يرجع للغير في معرفة ما عنده من المدرك نظير ما

لو احتمل وجود المدرك في بعض الكتب التي لا عسر في مراجعتها.

و الحاصل ان البالغ ملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد في المسائل التي اجتهد فيها إجماعا محكيا عن الشيخ الأنصاري و غيره و السيرة على ذلك من غير فرق ظاهرا بين من استنبط الحكم الواقعي و بين من توقف بالمسألة لتعارض النص أو لعدم النص، فان وظيفته الرجوع إلى الأصول دون التقليد لعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 175

جريان أدلة التقليد في حقه لظهورها في الجاهل الغير المتمكن من مراجعة الأدلة لا من راجع و لم يجد دليلا أو اعتقد بخطإ من يدعي الدليل هذا بالنسبة إلى عمل نفسه، و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث التقليد في مسألة من لا يجوز له التقليد الكلام في ذلك أيضا.

و أما بالنسبة إلى تقليد الغير له في تلك المسائل فقد منع جدي كاشف الغطاء (ره) في المحكي عنه عن اعتبار ظنه بالنسبة لنفسه و لغيره إذا علم ببعض الأحكام القليلة و إن كانت عنده ملكة مطلقة و منع، الآخوند (ره) في كفايته من جواز تقليده في المسائل التي رجع فيها لمطلق الظن من باب الانسداد أو للأصول العملية عند الانفتاح،

[وجه منع صاحب الكفاية تقليد المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي.]
اشارة

أما وجه منع الآخوند (ره) في صورة الانسداد فلأمرين:

(أحدهما) ان رجوعه اليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم الذي عرف حلالهم و حرامهم بل هو رجوع إلى الجاهل لعدم وصوله إلى حكم من الأحكام و إنما كان معذورا فيما يعمل بأنه بحسب حكم العقل. و أدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع الجاهل إلى العالم العارف بالأحكام، و لا يخفى أن هذا الوجه الأول مبني على الحكومة أي على تقرير مقدمات الانسداد

بنحو تفيد حكم العقل بلزوم العمل بالظن لا بنحو يستكشف منها حجية الظن عند الشارع لأنه عليها لم يكن المنسد عنده باب العلم عالما بالحكم الفعلي الفرعي الشرعي لا الواقعي و لا الظاهري، و هكذا لم يكن عالما بالحكم الأصولي الشرعي لأن عمله بالظن عنده اما من جهة انه حجة عقلية كالقطع حال الانفتاح أو من جهة لزوم الامتثال الظني عليه من باب الاحتياط. و كيف كان فهو ليس بعالم بحكم شرعي لا أصولي و لا فرعي حتى يقلده الجاهل فيه.

(و ثانيهما) انه على تقدير انسداد باب العلم و العلمي، فمقتضى مقدمات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 176

الانسداد على تقرير الحكومة أو على تقرير الكشف هو اختصاص الحكم الشرعي بالمجتهد لأنه يرجع إلى الحكم بجواز العمل بالظن، و جواز العمل بالظن إنما يثبت للذي جرت في حقه مقدمات الانسداد من العلم الإجمالي بالتكاليف و غيرها نظير من اختص حجية قطعة به من جهة حصوله من الطرق الغير المتعارفة كالرمل و الحساب و الجفر فتكون الأحكام المستفادة من الظن الانسدادي مختصة بالمجتهد لوجود موضوعها و هو الظن الانسدادي بمقدماته عنده دون غيره من العوام، و أدلة التقليد إنما تثبت رجوع الجاهل إلى العالم في الأحكام المشتركة لا الأحكام المختصة. فان المقلد الحاضر لا يرجع إلى المجتهد المسافر في وجوب قصر الصلاة.

[وجه منع صاحب الكفاية تقليد المجتهد العامل بالأصول العقلية.]
اشارة

و أما في صورة الانفتاح و عمل المجتهد بالأصول العملية العقلية، فأيضا لا يجوز تقليده في الأحكام المستفادة منها لأن جواز العمل بها مختص بالمجتهد ضرورة أن موضوعها و هو الشك البدوي كما في البراءة أو الشك مع العلم بالحالة السابقة كما في الاستصحاب أو العلم الإجمالي بالتكليف كما في الاحتياط أو

دوران الأمر بين المحذورين كما في التخير لا يوجد في العامي حتى يجوز له العمل بها كما تقدم من عدم جواز رجوع العامي للمجتهد بالظن الانسدادي.

و أيضا إن موارد الأصول العملية العقلية لا يعلم المجتهد فيها لا بالحكم الفرعي الشرعي و لا بالحكم الأصولي الشرعي فكيف يرجع اليه الجاهل لمعرفة ذلك كما قررناه في الوجه الأول على عدم جواز رجوع العامي للمجتهد بالظن الانسدادي، و حاصل هذين الوجهين ان المجتهد المذكور ليس بعالم بالحكم الشرعي و لو سلمنا انه عالم، فالحكم مختص بالمجتهد المذكور ليس بعالم بالحكم الشرعي و لو سلمنا انه عالم، فالحكم مختص بالمجتهد لوجود موضوعه عنده دون العامي.

[الجواب عن الوجوه التي اعتمد عليها الآخند «ره» في منع تقليد المجتهد الانسدادى و العامل بالأصول العقلية.]
[أولا الجواب النقضي]

و لكن التحقيق خلاف ذلك و جواز رجوع العامي للمجتهد المذكور لأنه لو تمَّ ما ذكره لزم عدم الرجوع إلى المجتهد العامل بالأمارات الظنية كالخبر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 177

الواحد و نحوه، لأن الأحكام الموجودة عنده ترجع لجواز العمل بالأمارة و جواز العمل بالأمارة مختص بالمجتهد دون العامي لعين ما ذكره الخصم في الظن الانسدادي لوضوح أن موضوع جواز العمل بالأمارة موجود عند المجتهد دون العامي فإن موضوع جواز العمل بها لمن عرف حجية الظهور و عدم المعارض و صحة السند نظير ما ذكره الخصم في الظن المطلق الانسدادي من عدم وجود موضوع جواز العمل به عند العامي.

و أيضا إن العامل بالأمارة بناء على مسلك الخصم من أن جعل الحجية عبارة عن جعل الطريقة المحضة لم يثبت بها حكم شرعي أصلا لا الواقعي و لا الظاهري، و إنما الامارة تنجز الواقع عليه لو صادفت الواقع و تكون عذرا لو خالفت فلم يكن المجتهد يعلم بالحكم الشرعي من الأمارة أصلا.

إن قلت:

إن المجتهد يعلم بالحكم الأصولي الشرعي و هو قيام الامارة على هذا المورد و عدم قيامها، فالعامي يقلده في ذلك، ففي مورد قيام الامارة يؤخذ به، و في مورد عدمها يرجع العامي إلى ما يحكم به عقله كما أفاده الآخوند (ره) في كفايته.

قلنا: الحكم الأصولي لا يجوز التقليد فيه كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مباحث التقليد في مسألة (ما لا يجوز التقليد فيه). و لو سلمنا جوازه فقيام الامارة على مورد خاص أمر يحكم به العقل و ليس بحكم فرعي شرعي كما هو واضح، و لا بحكم أصولي شرعي لأن الحكم الأصولي الشرعي هو نفس حجية الامارة لا قيامها على مورد خاص و تطبيقها على موضوع معين، فلو جاز رجوع العامي للمجتهد في قيام الامارة على مورد خاص و هو أمر عقلي لكان يجوز له أن يرجع إلى المجتهد في الأصول العقلية كالبراءة العقلية، هذا مضافا إلى انه لم يعهد في أحد من العلماء حوالة مقلديه إلى ما يحكم به عقله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 178

إن قلت. إن الأمارات حجة على الكل، و المجتهد يكون له خصوصية الظفر بها، فلا قصور من هذه الحيثية لأدلة التقليد في شمولها لمثله بخلاف الظن فإنه حجة على من تحقق له الظن و هو المجتهد.

قلنا: الظن كالامارة في ظفر المجتهد به دون العامي، و أيضا الظن في نظر المجتهد حجة على الكل كالامارات.

و هكذا يرد على الخصم صورة عمل المجتهد بالأصول النقلية فإنه ظاهر كلام الخصم جواز تقليده في الأحكام المستفادة منها مع ان حالها حال الأصول العقلية في كون موضوعها مختص بالمجتهد بعين ما ذكره (أعلى اللّه مقامه) في اختصاص موضوع الأصول العقلية بالمجتهد.

و

هكذا يرد على الخصم إن اختصاص الحجية بالمجتهد لو كان موجبا لاختصاص الحكم لكان في صورة القطع بالحكم لا يجوز تقليده لأن القطع مختصة حجيته بالقاطع لكونه قائما به لا بالعامي. هذا هو الجواب النقضي على الوجهين المذكورين الذين تمسك الخصم (ره) بهما على المنع من التقليد.

[ثانيا الجواب الحلي]

و اما الجواب الحلي عنهما فقد أجاب استاذنا المشكيني (ره) عن الوجه الأول و هو عدم علمية المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي أو الذي رجع للأصول العقلية في مواردها بما حاصله بتوضيح منا بأنه لو كان المدرك لحجية التقليد هو الإجماع فالإشكال مسلم لأن القدر المتيقن منه هو المجتهد المنفتح عليه باب العلم أو العلمي و الذي لم يكن مستنده الأصول العملية العقلية. و اما إن كان المدرك هو العقل، فالعقل يرى ان الميزان هو الخبروية في المرجع، و لا شك ان المجتهد المذكور يكون من أهل الخبرة بالأحكام الشرعية. و إن كان المدرك هو النقل، فموضوع أدلته هو الرجوع للعالم أو لأهل الذكر أو للفقيه و هذه العناوين لا إشكال في صدقها على المجتهد المذكور.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 179

و لا يخفى ما فيه فان المجتهد في الموارد التي انسد عليه باب العلم و العلمي أو رجع فيها إلى الأصول العقلية لم يكن يراه العقلاء و لا العقل انه من أهل الخبرة في تلك المسائل في معرفة الحكم الشرعي و إنما هو من أهل الخبرة بمعرفة الحكم العقلي في موردها كما ان عنوان العالم و أهل الذكر لا تصدق على المجتهد المذكور لكونه ليس بعالم بالأحكام الشرعية و لا من أهل الذكر فيها فكان عليه (ره) ان يثبت جواز رجوع العامي للمجتهد

حتى في الوظائف العقلية باعتبار ان المجتهد عالم بها و العامي جاهل بها. و أجاب عن الإشكال الثاني و هو اختصاص الموضوع للظن الانسدادي و الموضوع للأصول العقلية بالمجتهد.

بما حاصله ان ثبوت الموضوع لحكم في مورد و عدم ثبوته في مورد آخر يتصور على أنحاء ثلاثة:

(الأول) ان يكون عدم تحققه بما هو هو كما في حرمة دخول المسجد للحائض.

(الثاني) أن يكون لعدم الالتفات منه اليه لكن مع كون الواجد و الفاقد في مرتبة واحدة كالمجتهدين الذين يرى أحدهما الانسداد و الآخر الانفتاح و لا إشكال في عدم ثبوت الحكم لغير موضوعه.

(الثالث) الصورة مع كون الواجد بدلا تنزيليا عن الفاقد كما في المجتهد بالنسبة إلى مقلديه فحينئذ يثبت الحكم للفاقد له و بهذا الاعتبار يصح للمجتهد الذي من أهل الانفتاح الفتوى على طبق الامارات مع ان حجيتها فعلا موقوفة على العلم بحجيتها إنشاء و هو غير حاصل في المقلد. و لا يخفى ما فيه فانا لو سلمنا دعوى نيابة المجتهد عن المقلد فهي إنما تسلم في غير ما كان موضوعه مختصا به فان المجتهد لو علم بالحكم من الرمل و الجفر لا يصح ان يقلده غيره فيه و المقلد إنما يرجع للمجتهد في موارد الأمارات المعتبرة شرعا لا من جهة النيابة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 180

بل من جهة الأدلة الدالة على رجوع الجاهل إلى العالم، و المجتهد عالم بموارد قيام الحجة الشرعية فيكون رجوعه اليه من باب رجوع الجاهل للعالم. و دعوى ان أدلة الإفتاء و التقليد تدل على نيابة المجتهد عن العامي. لا تنفع مدعيها لأنها إن سلمت فلا تقتضي نيابته في موضوع مختص به و إنما تدل على رجوع العامي

للمجتهد في معرفة الوظيفة فقط من دون نظر للنيابة نظير رجوع المريض للطبيب و قد أجاب المرحوم الأصفهاني في حاشيته على الكفاية عن الإشكال الأول و هو عدم علمية المنسد عليه باب العلم و العلمي أو الذي رجع للأصول العقلية.

بما حاصله ان المراد بالمعرفة و العلم بأحكامهم عليهم السّلام التي هي موضوع أدلة التقليد هو قيام الحجة على أحكامهم عليه السّلام شرعا أو عرفا أو عقلا عند المجتهد بدليل انهم عليهم السّلام أطلقوا المعرفة على مجرد الاستعلام من الظواهر في قولهم عليهم السّلام يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه تعالى و قوله عليه السّلام: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إذ ليس المعرفة من الكتاب و المعرفة لمعاني الكلام إلا من ظواهره مع أن حجية الظواهر من باب بناء العرف و ليست بجعل حكم مماثل حتى تتحقق المعرفة الحقيقية بالحكم الشرعي بل بمعنى تنجز الواقع بها و صحة المؤاخذة على مخالفتها لو صادفت الواقع. و الحاصل إن المراد بقوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة، و عرف أحكامنا بعد قوله روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا هو المعرفة بالأحكام باعتبار قيام الحجة عليها عنده المنجزة لها لو صادفت، و هكذا المراد من قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ*. فإن السؤال إنما يوجب العلم باعتبار قيام الحجة القاطعة للعذر على السائل سواء كانت حجة من قبلهم عليهم السّلام أو من قبل العرف أو من العقلاء، و ليس المراد العلم بموارد قيام الحجة كما توهمه الخصم لأن ظاهر المقبولة و شبهها معرفة الأحكام لا معرفة موارد قيام الحجة عليها. و لا يخفى ما فيه فإنه بعد تسليم أن المقبولة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 181

تدل على حجية الفتوى و تسليم ان المعرفة فيها مع إضافتها لنفس الاحكام و سبقها بتلك الفقرات هي عين المعرفة الموجودة في تلك الروايات، انه يمكن للخصم أن يدعي إن ما ذكره (ره) انه إنما يقتضي معرفة الحجة الشرعية على الحكم لا معرفة نفس الحكم الشرعي إذ ليس كل أحد يعرف معاني كلامهم و يحصل القطع منه و إنما الذي يعرفه الفقيه و يحصل القطع به هو قيام الحجة على أن معنى كلامهم هو ذلك و هو إنما يكون بالظاهر، و لا ريب ان الظاهر من كلام اللّه و كلام المعصومين حجة شرعية أمضاها الشارع. و المقبولة ظاهرة في ذلك أيضا حيث رتب المعرفة على رواية الحديث و هي أيضا حجية شرعية، و الآية الظاهر منها هو الذكر للحجة الشرعية لا أهل الذكر و لو من غير الحجة الشرعية، و الحاصل ان ظاهر الآيات و الروايات هو أن المراد بالعلم و المعرفة للحكم هو العلم و المعرفة بقيام حجة شرعية عليه لا العلم و المعرفة لنفس الحكم، فيرجع هذا الجواب لكلام الخصم من عدم علم المجتهد بالحكم عند قيام الحجة العقلية عنده و انما يعلم لو قامت عنده الحجة الشرعية هذا مضافا إلى أن هذا لا يتم فيمن يعمل بالاحتياط فإنه لا يصدق عليه انه عالم بالحكم الشرعي بقيام الحجة عليه لعدم قيام الحجة عنده لا بالحكم الواقعي و لا الظاهري لأن الحاكم بالاحتياط هو العقل، و هكذا على تقدير القول بالظن الانسدادي من باب الحكومة من جهة الاحتياط.

و أجاب (ره) عن الإشكال الثاني بما أجاب به المشكيني (ره) و قد عرفت ما فيه. و الحق في

الجواب عن الإشكال الأول ان الجهال إنما يرجعون إلى العلماء لفراغ ذمتهم و رفع العقاب عنهم و حصول الثواب لهم و عدم الخروج عن ربقة الإسلام و هذا لا يقتضي أزيد من علم المجتهد بوظيفة الجاهل الموجبة لذلك أعني لتخلصه من العقاب و نيله للثواب و الفوز بالسعادة و ليس غرض العامي متعلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 182

بنفس معرفة الاحكام الشرعية بخصوصها، و لذا قد يعملون بالاحتياط و لا اشكال أن المجتهد المنسد عليه باب العلم بحسب نظره يعلم بالوظيفة التي تبرء ذمة العامي بها و يخلص بها من العقاب و يفوز بالثواب، و إنها هي ما قام الظن عليه مطلقا أو من طرق خاصة. و هكذا المجتهد الذي يرجع للأصول العملية، و لا ريب أن أدلة التقليد إنما تدل على ذلك لا على خصوص الرجوع لمعرفة الحكم الشرعي لأن دليله أما العقل أو بناء العقلاء و هو واضح، فإن السيرة على هذا ألا ترى إلى العامي الذي يرجع إلى الطبيب مع علمه بأن الطبيب يعمل بظنه و حدسه الذي قد لا يصيب الواقع إنما يرجع إليه في معرفة الوظيفة التي يلزم الطبيب بها المريض الموجبة لشفائه و برئه بحسب نظره. نعم لو رجع العامي للمجتهد لمعرفة الحكم الشرعي وجب على المجتهد أن لا يفتي له إلا بما قطع بأنه الحكم الشرعي، و لا يجوز له أن يفتي له حتى بما قام الخبر المعتبر عليه بناء على الطريقية، و هكذا لو رجع إليه لمعرفة الحكم الواقعي الشرعي لا يجوز له أن يفتي له إلا بما قطع انه حكم شرعي واقعي لا ظاهري شرعي فإنه لو أفتي له حينئذ بالوظيفة مع عدم

علمه بالحكم الشرعي يكون كمن قلد الطبيب في مرضه فأفتى له بما يصلح مزاجه، نعم لو قلد الطبيب بما يصلح مزاجه صح له أن يفتي له بما يصلح مزاجه و لكن العوام إنما يريدون معرفة ما ينجيهم من العقاب و ينالون به الثواب في نظر المجتهد، و لذا تراهم يفتون لهم بالوظائف التي يرون أنها تحصّل لهم ذلك في كل مورد، فقد يفتون لهم بالاحتياط في العبادات، و قد يفتون لهم بالمصالحة في المعاملات و بالطلاق في العقد على المرأة الغير المعينة، و قد يفتون لهم بعدم الحكم و الوظيفة و قد يفتون لهم بحكم التقية و ليس غرض العوام معرفة نفس الأحكام الشرعية بحصوصها إذ لا فائدة لهم بذلك، و أما أدلة التقليد النقلية فهي مؤكدة و مقررة للأدلة الغير النقلية لا أنها لتأسيس حكم جديد و إن شئت قلت: ان المستفاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 183

من جميع أدلة التقليد هو الرجوع إلى العالم بأعمال كيفية النظر لتحصيل الوظيفة المؤمنة للعامي من العقاب في نظر ذلك العالم فما حصله بأعمال نظره للغير يصح للغير أن يعمل به.

نعم قد يشكل برجوع العامي للمجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي إذا كان ظانا بالحكم الشرعي لكون العامي المذكور لا يجري في حقه مقدمات دليل الانسداد لأن باب العلمي منفتح له بواسطة التقليد للغير فهو غير منسد عليه باب العامي. و جوابه إن مقدمات دليل الانسداد بالنسبة إلى العامي لو قلنا بجريانها في حقه فهي تثبت حجية قول كل مجتهد بالنسبة إليه في بيان الوظيفة التي يراها ذلك المجتهد في حق العامي فتمكنه من الرجوع لغير ذلك المجتهد لا يقتضي انفتاح باب العامي

له في مقابل رجوعه لذلك المجتهد بل يكون الكل بالنسبة إليه في مرتبة واحدة و إن شئت قلت انفتاح باب العلم لمرجعه لا يوجب انفتاح باب العلم بالنسبة اليه.

و أما الجواب عن الإشكال الثاني فلأن ما ذكر لا يراه المجتهد دخيلا في موضوع الحكم و الوظيفة و إلا لما رأى ذلك الحكم حكما للعامي و لا تلك الوظيفة وظيفة للعامي، و سره إن ما ذكره كان دخيلا في موضوع الطريق لمعرفة الوظيفة لا في موضوع نفس الوظيفة. فإن القصر و التمام موضوعان لنفس الوظيفة، و أما الشك و اليقين السابق موضوعان للدليل على الوظيفة.

و إن شئت قلت: إن العامي عليه أن يرجع للمجتهد في الوظيفة التي علم المجتهد أنها وظيفة للعامي و تخلصه من العقاب. و المجتهد لما كان يرى و لو بواسطة الاستصحاب و بواسطة فحصه و خبرته العلمية ان الوظيفة للعامي التي تخلصه من العقاب هي هذه الوظيفة بالنسبة لهذا المورد جاز للعامي العمل بها أو يرجع للاحتياط و هذا نظير الوحي فإنه و إن كان مختصا بالموحى له لكن مدلوله لما كان حكما للغير كان الغير يرجع للموحي له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 184

و الحاصل انهم كانوا عليهم أن يعالجوا المقلد فيه، إنه إن كان الحكم الشرعي فقطعا لا يجوز تقليد المجتهد المذكور، و أما إن كان الوظيفة فهو لا اشكال فيها لا من جهة العلم بها و لا من جهة موضوعها لا أن يعالجوا أدلة التقليد من حيث العلم بالحكم الشرعي و معناه. و لذا لو كانت الطرق التي قامت عند المجتهد تفيد العلم لكن يجزم العامي بفسادها كالقياس لم يجز له الرجوع اليه.

[وجه ما نسب لجدنا كاشف الغطاء «ره» من منع تقليد العامي لمن اجتهد ببعض الأحكام دون بعض و ان كان عنده ملكة تامة من أول الفقه لآخره.]

و أما وجه ما

نسب لجدي كاشف الغطاء (ره) من منع تقليد العامي لمن اجتهد ببعض الأحكام دون بعض، و إن كان عنده ملكة تامة من أول الفقه لآخره ما لم يكن مستنبطا لقدر معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها و عارفا بحلال أهل بيت العصمة و حرامهم، و انه من أهل الذكر بل المحكي عنه (ره) إنه منع من حجية ظنه حتى بالنسبة لعمل نفسه. فيمكن أن يكون هو ما دل على أن الناس صنفان فقيه و غير فقيه، و الثاني وظيفته الرجوع إلى الأول و لأن الاجتهاد مأخوذ فيه عنوان الفقيه كما تقدم. و التفقه مأخوذ في آية النفر و هي قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ الآية. و هكذا مأخوذ في رواية الاحتجاج عن العسكري عليه السّلام في قوله: «من كان من الفقهاء حافظا» الخبر. و هكذا مأخوذ عنوان الفقيه في معاقد الإجماعات المحكية على جواز تقليد العامي لغيره. و لأن المذكور في مقبولة ابن حنظلة، و رواية أبي خديجة اعتبار المعرفة بأحكامهم عليهم السّلام و لا ريب في إفادة الجمع المضاف العموم و أقله العرفي، و لا ريب في عدم صدق الفقيه و المعرفة بأحكامهم بمجرد عموم الملكة من أول الفقه لآخره ما لم يكن عارفا بمقدار يعتقد به من الأحكام الشرعية. و هكذا عنوان راوي الحديث و عنوان الناظر في الحلال و الحرام، بل المروي في الكشي عن محمد بن سعد الكشي و محمد بن أبي عوف البخاري عن محمد بن أحمد بن حماد الروزي رفعه إلى الصادق عليه السّلام إنه قال: اعرفوا منازل شيعتنا بقدر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 185

ما يحسنون من رواياتهم عنا فانا لا

نعد الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدثا.

إن قلت: ان ما ذكر إنما يقتضي عدم حجية ظنه بالنسبة إلى الغير و ذلك لا يستلزم عدم حجية ظنه بالنسبة إلى نفسه. قلنا: لو كان ظنه معتبرا لكان بالنسبة إلى الجميع من دون فرق و إن لم يكن معتبرا فأيضا بالنسبة إلى الجميع فالتفصيل بين حجية ظنه خروج عن الطريقة. بل زاد بعضهم بأن ملكة الاجتهاد لا تحصل إلا بالممارسة المستلزمة للفعلية المذكورة، أعني العلم بجملة من الأحكام الشرعية يعتد بها بحيث يصدق عليه انه فقيه، و هكذا علمه بحصول ملكة الاجتهاد عنده لا يحصل إلا بالممارسة المذكورة.

و (جوابه) أولا: ان الأدلة المذكورة ليس لها مفهوم يقتضي الحصر بذلك فهي لا تعارض أدلة التقليد الدالة عليه مما لم يؤخذ فيه تلك العناوين خصوصا دليل الفطرة و العقل.

و (ثانيا) ان الأدلة المذكورة إنما تقتضي عدم حجيته بالنسبة إلى الغير فقط لا إلى نفسه. و الملازمة بين عدم حجية ظنه بالنسبة إلى نفسه و غيره لا دليل عليها بل الدليل قد قام على عدمها، فان المجتهد الفاسق ظنه حجة بالنسبة لنفسه دون غيره و هكذا المفضول مع وجود الأفضل عند المشهور.

و (ثالثا) ان عنوان الفقيه يصدق بمجرد وجود الملكة كما هو شأن سائر العناوين لسائر العلوم الصناعية كالنجارة و نحوها.

و (رابعا) أنه بقرينة مناسبة الحكم للموضوع انه يعتبر أن يكون المفتي فقيها فيما يرجع اليه فيه. و لا ريب انه حين الرجوع اليه لا بد و أن يعرف المسألة التي رجع الهى فيها و ذلك لعدم مدخلية معرفة غيرها كما لا فائدة فيما لو عرف غيرها و لم يعرف ما يرجع فيه اليه و يرشدك إلى ذلك رواية أبي خديجة

المحكية عن الكافي و التهذيب عن الصادق (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 186

الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه حكما فإني قد جعلته قاضيا تحاكموا اليه و من هنا يظهر ان المراد بالعارف بأحكامهم (ع) في المقبولة هو معرفة ما يرجع اليه فيه من الأحكام لا معرفة أحكام كثيرة.

و (خامسا) ان مستنبطاته إذا لم تكن حجة عليه ما لم يصدق عليه انه عارف بأحكامهم و انه فقيه لزم عليه أن يقلد الغير فيها و حينئذ لا ينفعه إذا استنبط البقية لأن كثرة معلوماته لا توجب صدق ذلك عليه لكون الاولي منها ليست بحجة و البقية التي حصلت بعدها أيضا لا تكون حجة لعدم صدق العنوان بها في حد ذاتها فيكون مجموع ما حصل عنده ليس بحجة و تكون معلوماته نظير معلومات العامي المقلد، فلا بد من القول بحجية أول مستنبطاته.

و (سادسا) ان الأدلة الدالة على حجية الظن تشمل ظنون هذا الشخص و إن لم يسمى فقيها أو عارفا بأحكامهم (ع). و اما ما ذكره بعضهم من توقف حصول ملكة الاجتهاد على العلم بجملة معتد بها من الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية فهو دور، لأن العلم بتلك الجملة إن كان لا بنحو الاستنباط فهو ليس من الفقه، و إن كان بنحو الاستنباط فهو موقوف على الملكة فلا يعقل توقف الملكة عليه و تقدم ص 110 و سيجي ء ان شاء اللّه في الشرط الخامس للمستفتي ما ينفعك في المقام.

و من الغريب ان بعض أساتذة العصر اعتبر استنباط الحكم بالفعل، و استدل على ذلك بأغلب الأدلة السابقة الذكر مع انه لا ينكر

أحد اعتبار ذلك إذ كيف يرجع العامي للمجتهد في شي ء لم يكن المجتهد يستحضره فضلا عن أنه لم يستنبطه، و إنما محل الكلام هو ما ذكرناه و هو لزوم أن يستنبط فعلا معظم الأحكام غير الذي يرجع اليه فيها. هذا و لكني حتى الآن لم أطلع على صحة هذه النسبة لجدي المرحوم كاشف الغطاء. (و الحاصل) ان المجتهد المطلق قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 187

منع من جواز تقليده في هذا المقام في صور ثلاثة: أحدها صورة عمله بالظن الانسدادي، و ثانيها رجوعه للأصول العملية العقلية، و ثالثها إذا لم يكن عارفا بمقدار من الأحكام الشرعية بحيث يصدق عليه انه فقيه و انه ممن عرف حلالنا.

و قد عرفت جواز تقليده مطلقا كما يجوز عمله بظنونه المعتبرة عنده مطلقا.

اعتبار اجتهاد المتجزي

هذا كله في المجتهد المطلق و اما المتجزي فالكلام في اعتبار اجتهاده بالنسبة لنفسه تارة و اخرى بالنسبة لغيره، اما الكلام في الجهة الاولي و هي اعتبار اجتهاده بالنسبة لنفسه بمعنى انه على فرض وقوع التجزي فهل يجب عليه فيما له ملكة الاجتهاد فيه أن يبذل وسعه و يعمل بما اجتهد فيه و مع عدمه يرجع للأصول العملية أن يجب عليه أن يقلد الغير في ذلك أو يجب عليه الاحتياط في ذلك أو يكون مخيرا في ذلك بين الاجتهاد و التقليد و الاحتياط. إن قلت: ان الكلام و النزاع لا وجه له في ذلك لأن المتجزي اما أن يحصل له القطع بالحكم الشرعي فلا إشكال في اعتباره أو يحصل له الظن المنتهي إلى العلم فكذلك أيضا أو الغير المنتهي للعلم فهو راجع إلى الشك و لا إشكال في عدم اعتباره.

قلنا: ان البحث و الكلام

في حجية مستنبطاته المستندة إلى الأصول العملية عند الشك و الظن الغير المعتبر و مستنبطاته المستندة إلى الظن المعتبر من جهة تجزيه و إن التجزي مانع من اعتبارها بمعنى ان الظنون الخاصة أو الظنون المعتبرة من باب الانسداد هي معتبرة بالنسبة إلى المتجزي كما هي معتبرة بالنسبة إلى المجتهد المطلق أم لا بل يمكن أن ينجر النزاع حتى إلى مستنبطاته المستندة إلى القطع بناء على إمكان المنع من اعتبار القطع كما إذا حصل من غير الأسباب العادية كقطع القطاع و ينبغي التنبيه على أمرين قبل الدخول في بيان ما هو الحق في المقام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 188

وجوب تحصيل العلم في مسألة جواز التجزي

(أحدها) ان النزاع في هذا المقام هل يمكن أن يرجع فيه إلى التقليد بأن يقلد شخصا يقول بحجية اجتهاد المتجزي و فتواه كما يقلد الإنسان المجتهد في البقاء على تقليد الميت أو في تقليد شخص حي في احتياطاته أو لا بد له من الاجتهاد في ذلك بأن يجتهد في ان ظنه حجة عليه و ان التجزي لا يمنع من اعتبار الظن بالنسبة اليه أو هو مخير بين الاجتهاد في ذلك أو التقليد.

و التحقيق كما سيجي ء ان شاء اللّه في جواب الإيراد الثالث على اعتبار اجتهاد المتجزي انه لا وجه للرجوع إلى الاجتهاد في هذه المسألة بل لا بد له من تحصيل اليقين بها و إلا فرجوعه للاجتهاد فيها من قبيل الرجوع للخبر الواحد في حجية خبر الواحد و الرجوع إلى الظن في عدم حجية الظن فإنه لا يكون إلا على وجه دائر إلا إذا كان الاجتهاد فيها متيقن حجيته و اما التقليد فيها فهو غير جائز مع التمكن من العلم كما سيجي ء ان شاء

اللّه، و من هنا ظهر لك انه لم يكن في البين قدر متيقن. كما يظهر من بعضهم (من ان الاجتهاد في هذه المسألة قدر متيقن) و كيف كان فعليه تحصيل العلم بها أو الاجتهاد فيها المتيقن حجيته فاذا عجز عن العلم بها تعين عليه التقليد فيها إلا انه إذا قلد فيها و أفتى له مجتهده بحجية ظنه عمل بظنه و لكن لا يجوز له أن يفتي للغير بذلك و لا يجوز للغير أن يرجع له لأن يكون في الحقيقة مقلدا للغير فإن النتيجة تتبع أخس المقدمات.

و كيف كان فلا بد من حصول القطع بها أو بصحة اجتهاده من الأدلة التي تقام على صحته و لا يكفي حصول الظن منها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 189

التجزي في أصول الفقه

(ثانيها) ان التجزي كما يتصور في الأحكام الفرعية كذلك يتصور في الأصولية، و المعروف عنهم دعوى الوفاق على جواز التجزي في المسائل الأصولية بأن يجتهد ببعض دون بعض، و ان الاختلاف إنما وقع بينهم في الفروع.

و قد يورد عليهم أن لازم جواز التجزي في الأصول جوازه في الفروع لأن معناه جواز إعمال المسائل الأصولية التي اجتهد فيها و حجيتها بالنسبة إلى الفروع الفقهية المرتبة عليها فيكون متجزي بالنسبة لهذه الفروع الفقهية دون غيرها مما ترتب على المسائل الأصولية التي لم يجتهد فيها كما ان نفي جواز التجزي في الفروع يستدعي نفيه في الأصول إذ لو كان اجتهاده في بعض الأصول حجة للزم اعتبار استخراجه للفروع المترتبة عليها في حقه و حق مقلديه. و جوابه: انا لا نسلم وقوع الوفاق بل حالها حال الفروع الفقهية، و لو سلمناه فالظاهر وقوع الوفاق على جواز التجزي في المسائل الأصولية التي لا

يستلزم التجزي فيها التجزي في الفروع كمسألة جواز تقليد الميت و وجوب تقليد الأعلم و لزوم تجديد النظر للمجتهد و نحو ذلك مما لا يستلزم الاجتهاد فيها تجزء في الفروع، هذا مع إمكان أن يقال ان الاجتهاد في بعض مسائل الأصول و حجيتها لا يستلزم استخراج الفروع منها فان الاجتهاد في الحجية لشي ء لا يوجب إعمالها في الفروع الفقهية لاحتمال أن التجزي في الفقه مانع من اعمالها.

اعتبار اجتهاد المتجزي في الفروع
اشارة

هذا كله كلام وقع في البين فلنعد الى ما نحن فيه فنقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 190

ان الحق هو اعتبار اجتهاد المتجزي بالنسبة لنفسه بحيث يجب عليه أن يبذل وسعه في تحصيل الظن المعتبر في المسائل التي له ملكة فيها، و إذا لم يحصل له العلم و لا الظن المذكور وجب عليه الرجوع إلى الأصول العملية،

[الأدلة على اعتبار اجتهاد المتجزي في الفروع.]
اشارة

و الدليل على ذلك

(أولا) هو ان المتجزي ينتهي أمره إلى القطع بحجية ما عنده

من المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية التي عنده ملكة الاجتهاد عليها، فلو كان عنده ملكة الاجتهاد في النقليات مثلا فلا بد أن تكون حجية الخبر مقطوعة عنده أو منتهية إلى القطع بها و هكذا حجية الظهور و هكذا حجية أحد المتعارضين و هكذا اعتبار الأصل العملي و حينئذ فيرجع عمله إلى القطع الذي هو حجة بنفسه نظير المجتهد المطلق في كون عمله بظنونه ينتهي إلى القطع باعتبارها و يكون المسوغ للمجتهد المطلق في عمله بالنسبة إلى تلك الموارد هو بعينه موجود للمتجزي في اجتهاده فيها. (و بعبارة اخرى) ان المتجزي اما ان يقطع بالحكم الشرعي الفرعي فلا إشكال في صحة عمله بقطعه لحكم عقله بذلك، و اما إذا حصل له الظن المعتبر بالحكم الشرعي فلا بد له من العمل به لانتهاء ظنه إلى القطع باعتباره فيجب عليه العمل به و إلا خالف قطعه، و اما إذا لم يحصل له الظن المعتبر فان كان مجتهدا في الأصول العملية بأن كانت معتبرة عنده فلا بد أن ينتهي اعتبارها إلى قطعه بجعلها في مثل تلك الموارد فيلزمه أن يرجع إليها و يعمل بها و إلا قلد الغير في المسألة لعدم اجتهاده فيها لفقدانه ملكة الاجتهاد فيها.

إن قلت: الكلام في اعتبار المآخذ و المدارك بالنسبة إلى المتجزي بمعنى ان حجيتها مختصة بالمجتهد المطلق أو تعم المتجزى. قلنا: أدلة اعتبارها تفيد القطع بالنسبة إلى كل من يعرف العمل بها و ليس مأخوذ فيها المجتهد أو العامي أو المتجزي و إنما اعتبر المجتهد في اعتبارها لعدم قدرة العامي على الاستفادة منها و عدم معرفة حجيتها و تشخيص شرائطها و مواردها. و الفرض ان المتجزي قادر على

ذلك و عارف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 191

بحجيتها و لذا لا تراهم يقيدون أصالة الظهور بغير المتجزى و لا حجية الخبر بغير المتجزى. و الحاصل ان اعتبار هذه الأمور ترجع للقطع باعتبارها بالنسبة إليه فالذي يلاحظ أدلة حجية الخبر يراها تفيد القطع بحجيته بالنسبة اليه، و هكذا أصالة الظهور و هكذا الاستصحاب، و لو سلمنا ان النزاع في ذلك فلا بد للمتجزي من تحصيله القطع باعتبار تلك المدارك و المآخذ بالنسبة اليه و إلا فليس عنده ملكة الاجتهاد أو لا يجوز له العمل بها و لا شك انه كل من رجع إلى أدلة اعتبار تلك المدارك ينتهي أمرها إلى القطع.

و يستدل ثانيا على اعتبار اجتهاد المتجزى بظواهر عدة من الاخبار
اشارة

(منها) رواية ابي خديجة المشهورة المحكي روايتها عن المحدثين الثلاثة (ره) بأسانيدهم عن ابى خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع): إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه. و هذه الرواية واضحة الدلالة على كفاية العلم ببعض الاحكام في مرجعية الغير للعالم بها. إن قلت: انها تدل على خصوص القضاء. قلنا: ان القضاء قد يكون في مورد النزاع في الشبهة الحكمية و اخرى في الشبهة الموضوعية ألا ترى ان النزاع قد يكون من جهة عدم معرفة الحكم الشرعي كوجوب النفقة للمتمتع بها و قد يكون من جهة الموضوع الخارجي كالملكية فإرجاع الإمام (ع) إلى العالم ببعض الأحكام من دون تقيد بأحد الصورتين يقتضي جواز الرجوع إليه في كليهما، و لا ريب ان الرجوع في الأحكام الشرعية للغير عبارة عن التقليد له و إذا ثبت جواز رجوع الغير

إليه في الأحكام الشرعية ثبت جواز عمله بها بطريق أولى.

[المناقشة في رواية ابي خديجة.]

و قد أورد على الاستدلال بهذه الرواية بوجوه:

(أحدها) ضعف سندها بمعلى بن محمد و في المحكي عن النجاشي انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 192

مضطرب الحديث و المذهب و بابي خديجة فإنه و ان وثقه داود مكررا إلا ان الظاهر اشتباهه بظن انه سالم بن مكرم الذي وثقه النجاشي كذلك، و الحال انه مشترك بين سالم بن مكرم المذكور و سالم بن سلمة و هو ضعيف مع ان الشهرة الفتوائية على خلاف مضمونها لأن المشهور اعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي فتسقط عن الاعتبار حتى لو كانت معتبرة في نفسها، و جوابه ان ضعف سندها منجر بالشهرة العظيمة لروايتها حتى ان الأصحاب سموها بمشهورة ابي خديجة مع ما حكي عن المسالك من الاتفاق على العمل بمضمونها مضافا إلى المحكي عن المحمدين الثلاثة من شهادتهم بصحة ما أوردوه في كتبهم مع ذكرهم لهذه الرواية فيها و قد سماها في الجواهر بالمقبولة مضافا إلى أنه رواها في من لا يحضره الفقيه عن احمد بن عائد عن ابي خديجة و الرواة الواقعين في سلسلة رواية الصدوق عن أحمد المذكور كلهم من الثقات الأجلاء عند الطائفة غير الحسن ابن الوشاء و هو لدى التحقيق أيضا كان من وجوه هذه الطائفة و ممدوح فيها كما هو المحكي عن النجاشي.

(ثانيها) ان مسألة تجزي الاجتهاد مسألة أصولية و لا ينفع في المسألة الأصولية إلا القطع و الرواية لا يستفاد منها إلا الظن. و جوابه ان التزام القطع في المسألة الأصولية لا دليل عليه.

(ثالثها) ان المذكور في الرواية هو الرجوع إلى العلم لقوله (ع) فيها إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا»

و لا إشكال في رجوع المتجزى إلى علمه و إنما الإشكال في رجوع المتجزى إلى ظنه الاجتهادي. و جوابه: انك قد عرفت ان المراد بالعلم و المعرفة في كلماتهم (ع) هو قيام الحجة كما تقدم ص 181 و يرشدك إلى ذلك ان الأصحاب استدلوا في كتاب القضاء بهذه الرواية و مقبولة ابن حنظلة على جواز القضاء و الإفتاء في زمن الغيبة فلو كان المراد بالعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 193

و المعرفة فيهما المعنى الحقيقي فلا يصح الاستدلال بهما لأن القضاء و الإفتاء أغلبه من باب الظن و قيام الحجة.

و (رابعها) ان العلم ببعض الأحكام لا ينافي وجود الملكة في جميع أبواب الفقه، فالرواية لا تدل على جواز عمل المتجزى باجتهاده و إنما تدل على جواز عمل المجتهد المطلق الذي له الملكة التامة إذا علم ببعض الأحكام الشرعية. و جوابه ان الرواية مطلقة تشمل صورة العلم بالبعض مع وجود الملكة في الجميع، و صورة العلم بالبعض مع وجود الملكة بالنسبة إلى ذلك البعض فتقيدها بالصورة الاولى لا وجه له. و بعبارة اخرى ان هذه الرواية تدل على ان الملكة في الجميع ليست بشرط في القضاء و إنما الميزان هو العلم بالبعض كما هو المطلوب. بل يمكن أن يقال ان مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ظهور هذه الرواية في كفاية معرفة شي ء من الأحكام التي تخص المستفتي أو المترافعين. إن قلت: ان ظاهر مقبولة ابن حنظلة ان معرفة جميع الاحكام شرط في القضاء و رواية أبي خديجة مطلقة و المطلق يحمل على المقيد. قلنا: ان المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان بينهما منافاة في الحكم و مقبولة ابن حنظلة إنما تدل على ان

من حصل له معرفة جميع الأحكام فله القضاء بين الناس، و رواية أبي خديجة تدل على ان من حصل له معرفة البعض فله القضاء فلا منافاة بينهما لما تقرر في محله من ان السبب الشرعي يجوز تعدده لمسبب واحد. مع انه سيجي ء إنشاء اللّه ان المقبولة ظاهرة في إرادة الجنس و (خامسها) ان الرواية المذكورة إنما تدل على جواز التحاكم إلى المتجزي و المطلوب الأعم من ذلك. و جوابه ما عرفته ص 191.

و (سادسها) ان الخصم يدعي ان العلم ببعض الأحكام لا ينفك عن الملكة المطلقة لامتناع التجزي في ملكة الاجتهاد عنده. و جوابه ما عرفته من فساد هذا المبنى في رد من قال بعدم تجزي الاجتهاد بمعنى الملكة و قد تقدم تفصيل ذلك فراجعه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 194

و (سابعها) ان (من) في قوله (ع): «من قضايانا» بيانية للشي ء لا تبعيضه فيكون المعنى يعلم شيئا عبارة عن قضايانا لا شيئا آخر غيرها و حينئذ فتكون الرواية دالة على اعتبار العلم بالأحكام الشرعية لأن إضافة الجمع تفيد العموم و لا تدل على اعتبار التجزي. و جوابه ان هذا خلاف الظاهر و سوق الكلام فان المفرد إذا وقعت بعده (من) مضافة للجمع تفيد التبعيض كما لو قيل همني أمر من مطالب زيد. على ان كونها بيانية إنما يقتضي كون ما بعدها جنس لما قبلها كما سيجي ء إنشاء اللّه.

(ثامنها) ما جزم به بعض أساتذة أهل العصر من ان كلمة شي ء و ان كانت ظاهرة في القلة في غير المقام إلا انها كناية عن الكثرة في المقام باعتبار انه لوحظت قلته بالنسبة لعلوم الأئمة (ع) فلا بد أن يكون كثيرا في نفسه و إلا

لا يعد شيئا من علومهم (ع) فان علومهم بمنزلة بحر محيط و شي ء منه لا يكون إلا كثيرا في نفسه كما هو المتعارف فإنه إذا قيل فلان عنده شي ء من الثروة يراد منه ما يكون كثيرا في نفسه و قليل بالنسبة إلى مجموع الأموال و الثروة الموجودة في الدنيا. و جوابه ان نظير هذا الاستعمال وقع في القرآن الشريف و لم يكن فيه كناية عن الكثرة فإن قوله تعالى وَ لٰا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ لا يفهم منه ان المراد لا يحيطون بالكثير من العلم في نفسه. و دعوى ان علومهم (ع) بمنزلة البحر المحيط و شي ء منه لا يكون إلا كثيرا. غريبة فإن القطرة من البحر يصدق عليها أنها شي ء من البحر و الاستشهاد بشي ء من الثروة. أغرب فإن لفظ الشي ء إذا أطلق إنما يراد به القليل من أحد مصاديق ما بعده من المجرور (بمن) فاذا قيل شي ء من الحديد. لا بد من صدق الحديد على ذلك الشي ء و لذا عد المنطقيون (لا شي ء) من سور السالبة الكلية فإذا قيل فلان عنده شي ء من الثروة لا بد من صدق الثروة على ذلك الشي ء و إلا لما صح أن يقال ذلك. و لا ريب ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 195

ما يصدق عليه الثروة لا بد و أن يكون كثيرا في نفسه. و عليه فالمراد بشي ء في الرواية هو المقدار القليل الذي يصدق عليه انه من قضاياهم و هو المتبادر منه.

(تاسعها) ان معرفة شي ء من الأحكام عن دليله و لو آية أو رواية كانت ثابتة لأكثر أهل تلك الأزمان و لم يكن من عرف هذا القدر الذي هو أقل مراتب التجزي بعزيز

الوجود حتى يجعله الامام قاضيا على أصحابه و يأمرهم بالتحاكم اليه، ألا ترى ان عبد العزيز بن المهتدي مع كونه وكيلا للإمام الرضا (ع) و من خواصه و خير قمي بشهادة الفضل بن شاذان كان متجزيا في اجتهاده قطعا لأنه قد سأل الإمام الرضا (ع) عمن يأخذ معالم دينه إذا لم يلقاه فأمره بأخذها من (يونس) فإنه يستفاد من ذلك ان المرجع في الفتوى لا بد و أن يكون مجتهدا مطلقا حتى يرجع إليه المتجزي، و لا خفاء في أشدية القضاء من الفتوى و جوابه: ان معرفة ما يخص القضاء من الأدلة و تطبيقه على القضية المتنازع فيها ليس بحاصل لأكثر الناس كما تخيله المشكل سلمنا لكن أي مانع من نصب قضاة كثيرين لتسهيل أمر الشيعة من جهة تفرقهم في البلدان و صعوبة وصولهم للإمام و شدة التقية، و اما إرجاع عبد العزيز إلى يونس فإنما أرجعه في الأمور التي لم يعرفها، نعم لو أرجعه في الأمور التي عرفها إلى يونس أمكن استفادة عدم اعتبار اجتهاد المنجزي.

(عاشرها) ما ذكره بعض المعاصرين ان الظاهر من السياق أن الامام (ع) كان في مقام نصب القاضي نصبا عاما، و الظاهر انه لا يناسب منصب القضاء العلم بحكم واحد و بقضية واحدة لعدم اقتضاء مناسبة الحكم و الموضوع. و لا المنصب و لا يناسبه ما ورد «ان مجلس القضاء لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي» ضرورة ان العالم بحكم واحد من الاحكام لا يليق بهذا المنصب مضافا إلى ان الجمود على لفظة (شي ء) يقتضي العلم بشي ء أي شي ء كان و قضية أي قضية كانت فالمناسب أن تكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 196

من بيانية و

يكفي احتمال إرادة البيانية منها في صيرورة هذا الخبر مجملا فتكون مقبولة ابن حنظلة مبينة له و رافعة لإجماله لأنها صريحة في إرادة العموم فلا مجال لجعلها معارضة له. و جوابه: ان دعواه عدم مناسبة منصب القضاء للعلم بحكم واحد و قضية واحدة، لا يخفى ما فيها فإن المتجزي عند القضاء فيما اجتهد فيه لا بد و أن يكون عارفا بأحكام متعددة من حكم المسألة و شؤون القضاء و شرائطه و من هو المدعي و من هو المنكر فلا يعقل أن يكون عالما بحكم واحد، على ان العقلاء غالبا يحكمون العارف بخصوص مورد النزاع في شؤونهم و ان لم يعرف شيئا آخرا فكيف يدعي الخصم عدم مناسبة القضاء للعلم بحكم واحد لمسألة واحدة على ان مقتضى كثرة ابتلاء الناس بهذا الموضوع يقتضي التوسع في الجعل كما سبق في جواب الإيراد التاسع، و إما ما ورد من ان «مجلس القضاء لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي» فالمراد به بيان لزوم العدالة و معرفة ما يتعلق بحكم المسألة المتنازع فيها، و اما دعواه ان لفظة (من) تكون بيانية ففيها ان ذلك لو نلتزم به في كل مورد وقعت بعد مبهم كقولهم (خاتم من حديد) فهو لا يبطل المدعي لأنا إنما استفدنا القلة من لفظ (شي ء) لا من جهة (من) فإن الشي ء ظاهر في الفرد و الجزئي مما بعد (من) فالرواية ظاهرة في القلة و لكنها من نوع قضاياهم (ع) فكون من بيانية لا تقتضي أن يكون متعلق المعرفة عموم قضاياهم بل إنما تقتضي أن يكون متعلق المعرفة من نوع قضاياهم، و اما دعواه ان المقبولة ظاهرة في العموم فيمكن المناقشة فيها بأن قرينة السياق تدل على

ارادة الجنس فيها لأن الفقرات المذكورة فيها من قوله (ع): «روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا» ظاهرة في في الجنس لأنها من المفرد المضاف، و الحاصل ان سياق المقبولة يدل على إرادة الجنس لا العموم.

(الحادي عشر منها) ان الرواية غير معمول بها. و جوابه: انا لا نسلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 197

ذلك و قد عمل بها الأردبيلي (ره) و غيره و قد حكي عن المسالك الاتفاق على العمل بمضمونها.

و (من الاخبار التي يستدل بها) على اعتبار اجتهاد المتجزي مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى الحجة (ع) و فيها «و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه» فان ظاهرها يشمل المتجزي الصادق عليه انه راوي لحديثهم و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

و (من الاخبار التي يستدل بها أيضا) المحكي عن الكشي من مكاتبة ابن ماجيلويه و أخيه إلى أبي الحسن الثالث (ع) حيث سألاه عمن يأخذا معالم دينهما فكتب (ع): فاعتمدوا على كل مسن في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهم كافوكما. فان ظاهرها يشمل المتجزي المسن في حبهم (ع) و كثير القدم في أمرهم (ع) و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

(و من الاخبار التي يستدل بها أيضا) المحكي عن تفسير العسكري (ع) (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) فإنها تشمل المتجزي الذي يصدق عليه ذلك و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

(و يستدل ثالثا) على اعتبار اجتهاد المتجزي بالسيرة

و تقريرها ان معاصري النبي (ص) و الأئمة الأطهار (ع) كانوا يأخذون بأقوالهم و أخبارهم و الجمع بينها بحمل العام و المطلق على المخصص و

المقيد و ترجيح الأقوى و الأخذ بالناسخ من غير فرق بين أعلمهم و عالمهم و مطلقهم اجتهادا و متجزيهم و لم ينكر عليهم ذلك و كان الرواة يلقون الروايات إلى عامة الناس و الناس يأخذون بها و أكثرهم بل كلهم لم يتصفوا بالاجتهاد المطلق و قد ذكر بعضهم ان من راجع كتب الرجال علم بأن بعضهم عنده أصل واحد أو أصول متعددة تختص ببعض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 198

أبواب الفقه كالطهارة و الصلاة و الصوم فقط مع انهم كانوا بانين على العمل بها من غير استنكار لذلك منهم فكان ذلك إجماعا منهم كاشفا عن تقرير الأئمة (ع) لهم و نحن مشاركون لتلك العصور بأدلة الاشتراك فيجري فينا ذلك كما جرى فيهم. و قد أورد على هذا الاستدلال (أولا) بالنقض فإنه لو تمَّ ذلك لاقتضى جواز الأخذ بمن ظفر برواية من دون بحث عن المعارض لها و لا يخفى ما فيه فان العصور السالفة إنما يعملون بما عندهم لإطمئنانهم بعدم المعارض و فيها نحن فيه إذا كان العائر بالرواية يفهم معناها و يطمأن بعدم المعارض أيضا نلتزم بجواز عمله بها على حد العصور السابقة و العمل بقول الامام (ع) لمن سمعه منه من جهة اطمئنانه بأنه هو حكم اللّه تعالى في حقه و عدم المعارض له.

و أورد على الاستدلال المذكور (ثانيا) بالحل بالفرق بين عصور الأئمة (ع) و ما قاربها و بين عصورنا فان الاجتهاد في زماننا يحتاج لمعرفة الراوي و حجية قول اللغوي و أعمال أصالة عدم النقل و تمييز الأخبار الواردة على سبيل التقية بخلاف المتجزي في زمانهم (ع) فإن الأخبار التي عنده أو سمعها من الامام مقطوعة الصدور عنده

واضحة الدلالة لديه مطمئن بعدم المعارض لها عارف بلزوم عمله بها حتى لو كانت تقية لوجود التقية في زمانهم و إذا أشكل عليهم شيئا استوضحوه من الأئمة (ع) و ليس هذا من التجزي في الاجتهاد في شي ء كيف و لا خلاف في جواز العمل بما يأخذه المكلف عن الامام (ع) بالمشافهة و ان كان حكما واحدا فلو كان ذلك من التجزي لما كان التجزي محل خلاف بيننا (و فيه) ان هذا لو سلمناه فهو إنما يثبت اجتهاده بالنسبة إلى النقليات في الأبواب التي عنده فيها الاخبار دون الاجتهاد في العقليات و هذا هو التجزي و التفاوت في سهولة الاجتهاد لهم لا توجب كون ذلك ليس باجتهاد أو انه اجتهاد مطلق و ليس بمتجزي فان الاجتهاد قد يكون في مقطوع الصدور باعتبار ان دلالته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 199

غير قطعية فإن القرآن الكريم باعتبار عدم صراحة دلالته يحتاج الى الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعي منه و هكذا من سمع مشافهة من الامام فإنه قد يحتاج إلى فهم المراد إلى الاجتهاد. و دعوى ان الاتفاق على جواز العمل بما سمع من الامام و لو حكما واحدا يقتضي عدم كونه من الاجتهاد في شي ء و إلا لما وقع الخلاف في التجزي. مدفوعة بأنهم لم يلتفتوا إلى ان هذا قد يكون فيه اجتهاد في الدلالة باستخراج الفروع مما سمعه من الامام (ع).

(و يستدل رابعا) على اعتبار [اجتهاد المتجزي بأنه عالم

بالإضافة إلى ما استنبطه من الحكم فلا تشمله أدلة جواز التقليد فإنها إنما تدل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع العالم إلي مثله. و فيه ما لا يخفى فان الخصم ينكر علميته و يدعي ان تجزيه مانع من حجية ظنونه بل

و قطعه كما تقدم ص 187 فكان المهم بيان كونه عالما بالحكم.

حجج المانعين من اعتبار تجزي الاجتهاد الفعلي

يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي أولا: ان المتجزي ناقص عن المطلق لاطلاع المطلق على ما لم يطلع عليه المتجزي و إذا كان ناقصا لم يكن اجتهاده معتبرا. و جوابه: ان تفاوت المراتب في الاجتهاد لا وجوب عدم الحجية فإن العالم مع وجود الأعلم يكون اجتهاده معتبر.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي ثانيا: انه لا دليل على اعتبار اجتهاد المجتهد إلا الإجماع و الضرورة و القدر المتيقن منهما هو المجتهد المطلق لتحقق الخلاف في اعتبار اجتهاد المتجزي. و جوابه ما قد عرفته من أدلة الاجتهاد ص 146 فان فيها ما عدى الإجماع و الضرورة دال على اعتبار اجتهاد المتجزي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 200

فان عمدتها هو انتهاء اجتهادي إلى القطع باعتبار ما عنده من المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية و المتجزى كذلك.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى ثالثا: الدور المعروف و هو حصول علم المتجزى بكون اجتهاده معتبرا موقوف على حصول علمه بأن اجتهاد المتجزي معتبر إذ لو لا ذلك لما أحرز صحة اجتهاده فيكون توقفه من قبيل توقف الخاص على وجود العام فإنه من المحال أن ينفك الخاص بحسب الوجود الخارجي عن وجود العام و إلا لزم عدم عمومية العام، و لا ريب ان حصول علمه بصحة اجتهاد المتجزى موقوف على علمه بصحة اجتهاده لأنه لو لم يحرز صحة اجتهاده لم يحصل عنده العلم بصحة اجتهاد المتجزي فيلزم الدور. و إن شئت أن تقرر ذلك بنحو التسلسل فنقول ان حكمه بصحة اجتهاده الذي هو اجتهاد متجزي موقوف على الاجتهاد في هذا الحكم و الاجتهاد في نفس هذا الحكم موقوف

على حكمه بصحة هذا الاجتهاد و حكمه بصحة هذا الاجتهاد موقوف على الاجتهاد فيه و الاجتهاد فيه موقوف على حكمه بصحة هذا الاجتهاد أعني بصحة اجتهاده في صحة هذا الاجتهاد الثاني و هلم جرا فيلزم من ذلك التسلسل في الحكم (و دعوى) ان صحة اجتهاده في صحة اجتهاد المتجزي مسألة أصولية و المسائل الأصولية حكي البهائي (ره) الإجماع على جواز التجزي فيها، و عليه يجوز الاجتهاد فيها فلا دور، (فاسدة) لعدم ثبوت هذا الإجماع و على تقديره لم يكن كاشفا، و دعوى أن المتجزي يرجع في ذلك للمجتهد المطلق بأن يقلد المجتهد المطلق في صحة اجتهاده الذي هو متجزي، فاسدة أيضا لأن هذا إلحاق له بالمجتهد المطلق ثانيا و المقصود جعله مستقلا غير مقلد لشخص.

و يمكن الجواب عن هذا الإيراد (أولا) بالنقض بالمجتهد المطلق فان حكمه بصحة اجتهاده في الفقه موقوف على حكمه بصحة اجتهاده بالاجتهاد المطلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 201

(و ثانيا) بالحل بأن الباحث في مسألة اعتبار اجتهاد المتجزي أما المجتهد المطلق أو المتجزي و الأول لا دخل له بحكاية الدور و التسلسل كما هو واضح، و الثاني أما أن يحصل له القطع بذلك أم لا؟ و على الأول لا اشكال فيه إذ ليس وراء القطع شي ء، و على الثاني فحكمه بصحة اجتهاده في ذلك موقوف على حكمه بصحة ما عنده من الأدلة و المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية المنتهي إلى القطع لا على صحة اجتهاده في ذلك. نعم لو لم يتمكن من الاجتهاد بصحة اجتهاد المتجزي بأن كانت عنده من المسائل التي لا يقدر على تحصيل العلم فيها فلا مناص من الرجوع للمجتهد المطلق لأجل أن يعرف حكمه

من العمل بمستنبطاته أو تقليد الغير فإن أفتي له بجواز التجزي فله الاجتهاد في سائر المسائل التي له ملكة الاستنباط فيها و إن أفتي له بالمنع تعين عليه التقليد لعدم قيام الحجة عنده على مستنبطاته فلا فرق حينئذ بينه و بين العامي المراهق للاجتهاد. و أما لو فرض انه تردد أمره و لم يجزم بصحة التقليد للغير و احتمل انه ليس بحجة في حقه مع وجود الأدلة عنده فالمتعين عليه حينئذ الاحتياط كالمجتهد المطلق في زمان الفحص و الاستفراغ فيحتاط في خصوص ما خالف اجتهاده اجتهاد مجتهده ما لم يوجب العسر و الحرج عليه.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي رابعا استصحاب وجوب التقليد عليه أو استصحاب صحة تقليده للغير أو يستصحب ما كان عليه سابقا في المسألة الفرعية كوجوب غسل الجمعة مثلا نظير ما يقال في استصحاب البقاء على تقليد الميت فكذا ما نحن فيه يستصحب البقاء على تقليد الغير و نظير استصحاب المراهق للاجتهاد إذا شك في اجتهاد نفسه فإنه يستصحب البقاء على تقليد الغير و (دعوى) ان هذا الاستصحاب لا يتم فيمن بلغ درجة التكليف و هو متجزي إذ لم يكن حالته السابقة وجوب التقليد فاسدة بأنه يتم فيمن بلغ كذلك بالقول بعدم الفصل. و جوابه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 202

بالنقض بمن كان مجتهدا مطلقا ثمَّ تسافل أمره حتى صار متجزيا فإنه مقتضى الاستصحاب عدم جواز تقليده للغير و يتم في الباقي بالقول بعدم الفصل. مع ان القول بعدم الفصل إنما يجري في الأحكام الواقعية لا الأحكام الظاهرية كما حقق في محله. مع إمكان أن يقال إن ثبوت وجوب التقليد في حقه إنما كان لكونه عاميا و هو الآن

يشك في كونه عاميا و من شرط الاستصحاب بقاء موضوع المستصحب عند العرف. مع ان الاستصحاب لا مجال له لما عرفت من أن المتجزي غير شاك لكون مستنبطاته تنتهي إلى مئاخذ و مدارك و أدلة مقطوعة الاعتبار كالمجتهد المطلق. مع ان أدلة التقليد عمدتها حكم العقل و الإجماع و النقل، أما العقل فهو يحكم من جهة أقربية التقليد للواقع و المتجزي لا يرى ذلك، و إنما يرى أن ظنه بعد بذل وسعه أقرب للواقع و يخطأ المجتهد الذي يخالفه في الرأي و الإجماع إنما هو في العامي لاختلافهم في جواز تقليد المتجزي لغيره. و النقل لا عموم فيه للمتجزي و القدر المتيقن منه هو عنوان العامي و هو مشكوك تحققه في المتجزي مضافا إلى أنه إرشاد لما حكم به العقل. مع أن المتجزي لا يسعه التمسك بهذا الاستصحاب لأن تمسكه بالاستصحاب مبني على جواز عمله باجتهاده و جواز عمله باجتهاده يمنعه من الأخذ باستصحاب جواز تقليده للغير.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي خامسا إن الأدلة قد دلت على حرمة العمل بغير العلم خرج عنها اجتهاد المجتهد المطلق و التقليد لقيام الإجماع و الضرورة على ذلك فبقي غيرهما كاجتهاد المتجزي و نحوه تحت أدلة حرمة العمل بغير العلم و جوابه ما عرفته من الأدلة التي أقمناها على اعتبار اجتهاد المتجزى فإنها مخصصة للأدلة الدالة على حرمة العمل بغير العلم.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى سادسا إن الأدلة قد دلت على عدم اعتبار الظن ما لم يقم دليل قاطع على اعتباره أو انتهائه إلى اليقين و حيث لم يقم دليل قاطع على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 203

اعتبار ظن المجتهد المتجزى لم يصح له

أن يعمل بظنه فيكون جاهلا بتكليفه فيما حصل له ظن بالحكم من المسائل التي اجتهد فيها فيجب الرجوع لغيره لما دل على رجوع الجاهل لغيره. و جوابه ما قدمناه من الأدلة القاطعة على اعتبار ظن المتجزى فلا يكون جاهلا بوظيفته بل و لا وظيفته مقلده.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى سابعا إن قوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن الصادق عليه السّلام في رجلين متنازعين (ينظر ان إلي من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فان قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد) هو ظاهر في اعتبار معرفة عموم الأحكام كما تقدم تقريب ذلك في ص 184 من أن الجمع و هو (احكام) حيث أضيف فهو يفيد العموم و في المقام و إن كان لا يمكن إرادة العموم الاستغراقي فلا بد من حمله على الاستغراق العرفي و المتجزى ليس كذلك، و قد أجيب عنه بإرادة الجنس بقرينة رواية أبي خديجة المتقدمة ص 191 و بقرينة الفقرات المذكورة في نفس الرواية المتقدمة عليها و هي قوله:

(روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا) فإنها من المفرد المضاف و هو ظاهر في الجنس، فسياق الرواية يدل على إرادة الجنس. و لو سلم دلالتها على الاستغراق فهي إنما تدل على اعتبار اجتهاد المجتهد المطلق. و أما اجتهاد المتجزى فهي ساكنة عنه لا تدل على إثباته و لا على نفيه، فلا تنفع الخصم و قد تقدم ص 185 ما ينفعك هنا.

و يرد على اعتبار اجتهاده ثامنا أن آية (فاسئلوا أهل الذكر) تدل على الرجوع إلى

العالم بجملة من الأحكام الشرعية حتى يصدق عليه أهل الذكر.

و جوابه مضافا إلى ما تقدم من ان مناسبة الحكم للموضوع تقتضي أن المراد بها أهل الذكر في المسؤول عنه و مضافا إلى انا نفرض المتجزي كان عالما بجملة من الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 204

الشرعية الكثيرة مضافا إلى ذلك كله نقول: انا لو سلمنا دلالتها على اعتبار اجتهاد المجتهد المطلق لكنها ساكتة عن اعتبار اجتهاد المتجزي لا انها مانعة عنه.

و يرد عليه تاسعا ان ما عن العسكري من قوله: (من كان من الفقهاء) و الفقيه لا يصدق إلا على من علم بجملة معتد بها من الأحكام. و جوابه كالجواب عن الإيراد الثامن و التاسع مضافا لما تقدم ص 184 و ص 185 مما ينفعك في المقام.

للعامي جواز تقليد المتجزي

هذا كله في جواز عمل المجتهد المتجزي باجتهاده بالنسبة لنفسه، و أما الكلام بالنسبة للغير بمعنى انه يجوز للعامي أن يرجع إلى المتجزي فيعمل بمستنبطاته الشرعية بمعنى يقلده فيما اجتهد فيه و تكون فتواه حجة عليه و إن كان يجب على العامي فيما عدا المسائل التي اجتهد المتجزي فيها أن يقلد غير المتجزي أو يحتاط لأن المتجزي عامي بالنسبة إليها فلا يجوز الرجوع اليه فيها و الدليل على ذلك هو عموم أدلة التقليد النقلية و جواز الرجوع إلى العالم و مشهورة أبي خديجة المتقدمة ص 191 و الروايات المتقدمة ص 197 نعم لو رجع المتجزي للمجتهد المطلق و قلده في جواز العمل بمستنبطاته فلا يجوز الرجوع إليه لأنه على هذا يكون مقلدا لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات، هذا كله مع عدم وجود المجتهد المطلق واضح، و أما مع وجوده فقد يقال: إن الأصل يقتضي الرجوع

إلى المجتهد المطلق لدوران الأمر بين التعيين و التخيير و لكن لا يخفى إن مقتضى عموم أدلة التقليد و جواز رجوع العالم و مشهورة أبي خديجة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 205

و الروايات المذكورة هو جواز رجوع العامي للمتجزي حتى مع وجود المجتهد المطلق، فلا مجال للأصل مع الأدلة اللفظية على ذلك مع إن المتجزي قد يكون أعلم من المطلق لما سيأتي من أن المدار في الأعلمية هو القوة لا كثرة الاستنباط نعم العامي الذي لا يتمكن من الرجوع للأدلة اللفظية إذا تردد في جواز الرجوع للمتجزي و دار أمره بين الرجوع للمجتهد المطلق و بين الرجوع للمتجزي و كانا متساويين من جميع الجهات في الفضل و العدالة، إلا أنه يحتمل تعين الرجوع للمطلق لمزيته بالإطلاق وجب عليه أن يرجع للمطلق لدوران الأمر عنده بين التعيين و التخيير، أما لو لم يحتمل التعيين أو كان في المتجزى أمر يحتمل معه تعيين الرجوع اليه كما لو كان المتجزى أعلم أو أعدل كان مخيرا. و قد تقدمت حج المانعين من اعتبار اجتهاد المتجزى ص 199 و هي قابلة للورود و الجواب على هذا المقام إن لم يكن كلها فلا أقل أغلبها فراجعها و قد أورد على جواز تقليده أيضا.

أولا: إن أدلة التقليد لا إطلاق فيها و عدم إحراز بناء العقلاء على الرجوع لمثله. و جوابه إن أدلة التقليد يوجد فيها العموم كما سيجي ء شطر منها في مبحث التقليد و السيرة العملية و بناء العقلاء على ذلك كما في سائر المهن و الصنائع على انا في غني عن ذلك لدلالة مشهورة أبي خديجة على ذلك. و قد تقدم تقرير السيرة على ذلك ص 197.

و قد

أورد ثانيا: على جواز تقليده بعض أساتذة العصر بما حاصله ان السيرة العقلائية و إن كانت تقتضي جواز الرجوع إلى المتجزى، فان العقلاء لا يفرقون في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من يكون له خبرة في غير الأمر المرجوع اليه فيه أم لا، فان الطبيب الحاذق في مرض العين يرجع في معالجة مرض العين سواء كان له خبرة بباقي الأمراض أم لا و لكن مجرد قيام السيرة لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء من الشارع و أدلة الإمضاء إنما هو العارف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 206

بالأحكام و الفقيه و أهل الذكر، و الظاهر عدم صدق هذه العناوين إلا على العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها فلا تشمل المتجزى. و جوابه أولا: إن السيرة دليل ما لم يردع الشارع عنها فان مجرد سكوته عنها يكون إمضاء لها، فعدم شمول أدلة الإمضاء ليس موجبا للمنع منها و عدم الإمضاء لها. و قد عرفت ص 185، إن الأدلة الدالة على الرجوع لصاحب تلك العناوين لا تمنع من الرجوع لغيره و إنما هي ساكتة عن ذلك.

و ثانيا: إن المتجزي قد يكون عالما بجملة من الأحكام النقلية بحيث يصدق عليه تلك العناوين و يتم في الباقي بالقول بعدم الفصل.

و ثالثا: قد عرفت دلالة مشهورة أبي خديجة على جواز الرجوع إلى المتجزي و دفع ما ذكره المورد و غيره عنها ص 191.

(الرابع- من أحكام المجتهد و الاجتهاد). أنه يقلد عند عدم التمكن من المعرفة

إن المجتهد إذا لم يتمكن من الاستنباط لمانع من ضيق الوقت أو فقد شرط أو عدم تيسر الأدلة لديه فهل يجب عليه الاحتياط أو يجوز له تقليد الغير.

الظاهر جواز التقليد له لشمول أدلة التقليد له في هذه الحالة بل ادعى صاحب المستند (ره)

الإجماع و الدليل العقلي على ذلك و إن كان لم يذكر الدليل العقلي و لعله يريد به الدليل العقلي على جواز التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 207

(الخامس- من أحكام المجتهد و الاجتهاد) تخطئة المجتهد و تصويبه
اشارة

قد وقع النزاع بين الإمامية و بين غيرهم في تخطئة المجتهد في اجتهاده و تصويبه و حاصله ان المجتهدين المختلفين في الرأي هل كلهم يصيبون أم المصيب واحد و الباقون مخطئون. و عرف هذا المبحث بمبحث التخطئة و التصويب. و المعروف عن الإمامية القول بالتخطئة و إن المصيب واحد فيما لو كانت آرائهم مختلفة يعلم إجمالا بإصابة واحد منها و إلا فيحتمل خطأ الجميع و تحرير محل البحث على نحو يتضح به حقيقة الحال هو أن يقال: أن الكلام إما أن يقع في الموضوعات الصرفة ككون هذا المائع خمرا و كون هذه الجهة قبلة و كون ماء الورد مطلقا أو مضافا أو الليلة طلوع الهلال أو في العقائد الإلهية كالتوحيد و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد الجسماني و المعراج الجسماني و جواز رؤية اللّه تعالى و خلق القرآن و غيرها من العقائد الواجبة و غير الواجبة. أو يقع الكلام في الأحكام الفرعية و الأخير إما ان يكون مما يستقل بحكمها العقل كحرمة الظلم و العدوان و وجوب رد الوديعة و أداء الدين و حسن الإحسان، و اما ان لا يستقل العقل بحكمها فاما ان تقوم الضرورة عليه كوجوب الصلاة و الزكاة أولا تقوم عليه الضرورة سواء قام عليه دليل قطعي أم لا، فالبحث في المقام يقع في مواضع خمسة و إنما خصصنا الدليل بالضرورة دون القطعي لينطبق على جميع الأقوال و لأن الدليل القطعي الذي هو ليس بضرورى يختلف فيها آراء المجتهدين فقد

يرى مجتهد ان دليل المسألة قطعي و قد يراه انه ظني كالاخباريين الذين يرون الأخبار تفيد القطع و لا يرى غيرهم ذلك. فلا وجه لما صدر من صاحب القوانين من أخذ الدليل القطعي في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 208

المقام هو المقسّم. مضافا إلى ما في ذلك من التنافي بين كلامه (ره) حيث انه (ره) بعد ما خصص النزاع في الفرعيات فيما لم يكن دليل قطعي ذكر ان القائلين بالتخطئة من العامة منهم من يقول بوجود دليل قطعي على الحكم الشرعي، و من المعلوم ان هذا ينافي تخصيص النزاع بما لا دليل قطعي عليه هذا هو المتحصل من كلمات القوم في تحرير محل النزاع. و لكن هذا يتنافى مع أخذهم عنوان المجتهد في موضع النزاع بعد تعريفهم الاجتهاد باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي فإن مقتضى ذلك هو خروج البحث عن العقائد و الأحكام الضرورية و الموضوعات الصرفة عن البحث لعدم تحقق الاجتهاد فيها بل خروج القطعيات و هي ما كان دليل قطعي فيها يظفر به كل احد قد طلب الدليل لا ما حصل به القطع أحيانا فإنه من الاجتهاديات إلا (اللهم) ان يكون القوم قد أرادوا بالمجتهد مطلق الطالب للمعرفة خلافا لاصطلاحهم، أو انهم عمموا البحث ليتضح مورد النزاع في المقام كما انه لا وجه لما صدر من الآخند (ره) و تبعه بعض أساتذة العصر من نفي النزاع في العقليات و إن القول بالتخطئة فيها متفق عليه و ذلك لما سيجي ء من وجود النزاع فيها خصوصا في العقلية الشرعية الفرعية الغير الضرورية لجريان الاجتهاد فيها و سيجئ ان شاء اللّه تعالى التعرض لخلاف عبد اللّه بن الحسن العنبري البصري في

العقائد و إن المجتهدين فيها مصيبون و إن كانوا مختلفي الرأي. كما لا وجه لجعلهما محل النزاع الشرعيات بإطلاقها فإن ما قام عليه الضرورة من الشرعيات ليس محلا للنزاع على غرار العقليات الضرورية فكان الأولى لهم ان يجعلوا محل الاتفاق هي الضروريات و يجعلون في مقابلها محل الخلاف الشرعيات الغير الضرورية كما أنهما أهملا التعرض للموضوعات الصرفة. و كيف كان فينبغي التكلم في التخطئة و التصويب في مواضع خمسة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 209

الموضع الأول في الموضوعات الصرفة

إذا عرفت ذلك فنقول ان الموضع الأول من المواضع الخمسة هو الموضوعات الصرفة فإنه يظهر دخولها في موضوع النزاع من المحكي عن الشهيد الثاني (ره) في تمهيد القواعد و الشيخ البهائي (ره) و الفاضل القمي (ره) حيث جعلوا من فروع مسئلة التصويب و التخطئة ما لو ظهر للمجتهد في القبلة خطأه فعلى القول بالتصويب لا قضاء عليه لأنه أتى بالصلاة الواقعية مع الشرط الواقعي و على القول بالتخطئة يجب عليه القضاء لأن عمل المجتهد انما كان بمؤدى ظنه الذي هو حكمه الظاهري. و بدلية الحكم الظاهري. عن الحكم الواقعي الذي هو مكلف به و المقصود بالذات مشروطة بعدم العلم بالمخالفة للحكم الواقعي و بعد انكشاف المخالفة يجب التدارك و الإتيان بالمأمور به الواقعي، و لكن لا يخفى ما فيه لأنه مضاف إلى ان عنوان كلامهم في الأحكام الفرعية أنه لا مجال لتحرير النزاع في الموضوعات الصرفة فإنه لازم التصويب فيها لزوم تبعية الأمور الخارجية لرأي المجتهد فيها فتكون القبلة في الواقع تابعة لرأي المجتهد فتتحول بتبدل رأيه مع انه يلزم اجتماع النقيضين في المجتهدين المختلفين في القبلة إذ لازمه أن تكون الكعبة في جهتين مختلفتين في آن واحد

فلا يعقل أن يذهب عاقل إلى دعوى التصويب فيها لوضوح الحال فيها و جلائه فيها فإن الأمور البدهية الضرورية لا تكون محلا للبحث بين العلماء بخلاف التصويب في الأحكام الشرعية فإن بطلانه ليس من الوضوح بهذه المثابة، و لعل الشهيد (ره) و البهائي (ره) نظرهم إلى ان الحكم الشرعي المتولد تخيله من الاشتباه في القبلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 210

يكون مطابقا للواقع بمعنى يكون في الواقع هو المطلوب و ليس المطلوب الصلاة لجهة القبلة و يكون هذا تصويبا في الاحكام لا تصويبا في الموضوعات و كيف كان فيمكن ان يستدل للتصويب في الموضوعات الصرفة بأمرين.

أحدهما: كما ذكره بعضهم من ان الألفاظ موضوعة للصور الذهنية فتتعدد الموضوعات باختلاف أذهان المجتهدين فيها فيلزم التصويب في الموضوعات الصرفة لأن الكعبة إذا كانت موضوعة للأمر الذهني كانت تتعدد بتعدد أذهان المجتهدين فيها فتكون في ذهن زيد غيرها في ذهن عمرو و يكون المصلي قد صلي للقبلة المطلوبة للشارع واقعا. و فيه ما لا يخفى فإنه مضاف إلى التزام نوع العلماء بالوضع للأمور الخارجية أو النفس الأمرية دون الذهنية. ان التحقيق في القول بوضع الألفاظ للصور الذهنية هو وضعها للصور المطابقة للواقع و أما غير المطابقة فهي ليست بصورة ذهنية للشي ء فالجهة انما تكون صورة ذهنية لجهة الكعبة إذا كانت مطابقة لواقع جهة الكعبة و إلا فهي صورة لضد جهة الكعبة.

ثانيهما: ما تخيله بعضهم من الأجزاء فإنا نرى كثيرا من الموارد التي كان الاشتباه فيها في الموضوع ثمَّ ظهر الخلاف قد حكم الفقهاء فيها بالاجزاء فلو لا اصابة الواقع باجتهاد المكلف لما حكم الفقهاء بالأجزاء لأنه على التخطئة يكون المطلوب هو الواقع و هو لم يأتي

به فلا بد ان حكمهم بالاجزاء هو من جهة الإصابة للواقع، و لا يخفى ما فيه فان التصويب غير الاجزاء لأن التصويب هو مطابقة الواقع و الاجزاء هو الاكتفاء بغير الواقع عن الواقع مثل ما لو الشارع اكتفى بالصلاة لمظنون القبلة عن الصلاة للقبلة الواقعية. و لذا الاجزاء يكون في البدل عن الواقع و التصويب إنما يكون بالمطابقة للواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 211

الموضع الثاني في العقائد الدينية
اشارة

الموضع الثاني من الكلام في التخطئة و التصويب هو العقائد الإلهية سواء كانت واجبة كالتوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد و العصمة أو غير واجبة ككون صفات اللّه تعالى عين ذاته أم لا و أحوال الصراط و نحو ذلك بل بعضهم عمم الكلام لمطلق العقليات سواء تعلقت بالشرعية أم لا. و كيف كان فجمهور المسلمين على ان المجتهدين المختلفين في الرأي في العقائد ليسوا كلهم مصيبين بمعنى عدم مطابقة آرائهم جميعا للواقع بل هم مخطئون ما عدى واحدا منهم فإنه مصيب إذا كان موافقا للواقع. و إلا فيمكن أن يكون الجميع مخطئين و خالف في ذلك عبد اللّه بن الحسن العنبري البصري فذهب إلى أن الجميع مصيبون.

و الحق مع جمهور المسلمين و لعله لا يوجد مخالف في هذه المسئلة إلا عبد اللّه المذكور لوضوح لزوم اجتماع النقيضين في عالم التكوين و الخارج عند اختلاف المجتهدين فيها كما ذكرناه في الموضوعات، و يمكن أن يتصور النزاع فيها بمعنى المطلوب الواقعي فيكون المجتهد الذي توصل إلى أن المعاد جسماني المطلوب منه واقعا الاعتقاد بذلك و المجتهد الذي توصل لكون المعاد روحاني المطلوب منه الاعتقاد بذلك لا انه في الواقع يكون المعاد جسماني و روحاني فيكون التصويب في حكم الاعتقاد

لا في نفس الاعتقاد و لعل عبد اللّه بن الحسن البصري نظره إلى ذلك نظير ما ذكرناه في الموضوعات، و كيف كان فلا يعقل و يتصور التصويب في نفس الاعتقاد و إلا لزم اجتماع المتنافيات و المتناقضات في عالم التكوين فلو قلنا بالتصويب فيها لزم أن يكون اللّه واحدا بواسطة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 212

مجتهد الإسلام و ثلاثة بواسطة مجتهد النصارى و يكون العالم في الواقع حادثا بواسطة مجتهد المتكلمين و قديما بواسطة مجتهدى الفلاسفة (و العياذ باللّه).

المخطئ في العقائد الواجبة هل هو آثم أم لا؟ و هل يوجد القاصر فيها أم لا؟
اشارة

و يلحق بهذا الموضع مطلبان أحدهما أن المخطئ في العقائد الواجبة الاعتقاد بواقعها هل هو آثم يستحق العقاب أم ليس بآثم و لا يعاقب و ان كان يرتب في الدنيا عليه أحكام الكفر من النجاسة و نحوها و أما العقائد الغير الواجبة كأصالة الماهية أو الوجود و تفاصيل لحشر و النشر فلا إشكال في عدم أثم المخطئ فيها لعدم وجوب الاعتقاد بواقعها، و كيف كان فقد نسب القول بالتأثيم الشيخ (ره) و جميع المتكلمين من علمائنا و الشيخ المفيد و السيد المرتضى و نسب القول بعدم التأثيم للجاحظ.

و الحق هو التفصيل و هو ان المخطئ في العقائد الواجبة آثم ان كان عن تقصير لأنه لو لم يستحق الإثم لزم أن لا يكون مكلفا و هو خلاف الفرض و اما ان كان عن قصور فلا اثم عليه إذ القاصر عن معرفة الواقع معذور بحكم العقل بقبح عقابه على عدم معرفته للواقع فلا يستحق العقاب على اعتقاده بغير الواقع أو تشكيكه بالواقع و الظاهر ان هذا لا اشكال فيه على ما هو مذهب الحق من مذهب العدلية من قبح عقاب الجاهل القاصر و انما الإشكال

عندهم في هذا المقام في الصغرى و هو أنه هل يمكن أن يوجد في العقائد الواجبة القاصر الغير المتمكن من معرفة الواقع سواء كان لقصر عقله أو لكثرة الشبه عنده أو لعدم تمكنه من تحصيل الاستدلال أو نحو ذلك أم لا يمكن ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 213

يوجد ذلك بحيث يكون كل مخطئ فيها مقصرا فيكون آثما يستحق العقاب فذهب إلى الأول الكثير من المتأخرين و ذهب الى الثاني جملة من العلماء المحققين و الأصل هو الإمكان عند الشك في وجود القاصر لما تقرر في محله من أن الأصل هو الإمكان عند الشك في إمكان شي ء أو امتناعه للغلبة و بناء العقلاء و لذا يكتفون في إثبات الإمكان بإبطال أدلة الامتناع.

[الأدلة على عدم وجود القاصر في العقائد الدينية.]
اشارة

و كيف كان فقد استدل على عدم وجود القاصر في العقائد الدينية.

أولا: بالإجماع على تقصير المخطئ في العقائد الواجبة

المنقول عن العامة و الخاصة كالشيخ و الشهيد الثاني و ابن الحاجب على ما يستفاد من كلامهم.

و فيه ان الإجماع غير محقق و على تقدير تحققه فالمسئلة كلامية عقلية و لا دليل على حجية الإجماع في المسائل العقلية: بل المسئلة حسية فإن كثيرا من الكفار قاصرون كالأولاد و النساء أوائل البلوغ في العصور المظلمة.

و ثانيا: الآية الشريفة

و هي قوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ، و المروي في الصحيح عن زرارة في كتاب التوحيد عن أبي جعفر عليه السّلام انه قال عليه السّلام فطرهم على المعرفة، و المروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل مولود يولد على الفطرة فإن ذلك يدل على قابلية كل أحد من البالغين العاقلين للمعرفة و ذلك ينفي وجود القاصر فيهم. و جوابه ان ذلك: انما يدل على القابلية و لكن لا ينافي ذلك ان يوجد فيهم بعض الموانع عن المعرفة توجب قصورهم عنها.

و ثالثا: الآية الشريفة و هي قوله تعالى وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا فإنها ظاهرة في وعد اللّه تعالى للمجتهد في العقائد بالهداية للحق و اصابة الواقع و من المحال الكذب في وعده فلا بد أن يكون المخطئ فيها قد قصر في الاجتهاد و إلا لزم أخلاف الوعد من اللّه تعالى و إذا ثبت تقصيره ثبت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 214

استحقاقه للإثم. و أجيب عنه بالنقض بالفروع فإنها أيضا سبيل الى اللّه تعالى مع ان المجتهدين فيها مختلفون كما ذكره صاحب المناهج. و بالحل ان الظاهر من الآية المجاهدة مع الكفار أو المجاهدة مع الشيطان لأن المجاهدة من المفاعلة و هي من الهيئات الظاهرة في

الوقوع بين الطرفين و المدافعة بينهما كالمجاهدة مع الكفار أو الشيطان و معنى (فينا) في حقنا بخلاف الجد و الاجتهاد في الاحكام و العقائد فإنه ليس فيه طرفان يقع بينهما المدافعة و المجاهدة. و يحتمل أن يكون المراد بها المجاهدة مع النفس المسمى بالموت الإرادي بالعبادة و قطع العلائق بالدنيا و الرياضات الصعبة الشرعية و تصفية الباطن و تهذيب الأخلاق مع الابتهال و التضرع له تعالى فإنها توصل إلى الحق تعالى إذا تحققت بشرائطها المقررة من صاحب الشريعة مع موهبة من اللّه تعالى. فان قلت: فعلى هذا يكون كل مخطئ آثما لتمكنه من الوصول إلى الحق بهذه المجاهدة.

قلنا: لسنا مكلفين بذلك قطعا و انما نحن مكلفون بالمعرفة بالطرق المتعارفة من الأدلة و البراهين كيف و لو كلفنا بها للزم اختلال النظام. سلمنا لكن الآية إنما دلت على ان الاجتهاد موصل للحق لكن لا تدل على أن الاجتهاد الموصل للحق يتمكن منه كل أحد في كل زمان لما نراه من اختلاف نفوس الناس و استعدادهم بحيث بعضهم غير قابل للاجتهاد و التربية أصلا و بعبارة أخرى تدل الآية على الملازمة بين الجهاد و الهداية لكنها لا تقتضي إمكان الجهاد لكل أحد كما هو شأن القضايا الشرطية.

و ثالثا: عموم ما دل على تعذيب الكفار

مثل قوله تعالى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ و قوله تعالى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على تعذيب جميع الكفار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 215

فلو كان في الكفار قاصر امتنع تعذيبهم جميعا لكونه غير مكلف فتعذيبه تعذيب لغير المكلف و هو ظلم

حاشا صدوره من اللّه تعالى. و فيه ما لا يخفى فان العالم يخصص بحكم العقل و هذه الآيات يخصص عمومها بغير القاصر منهم بحكم العقل بقبح عقاب القاصر بعد أن نرى الكثير منهم قاصرا لا يصلح تكليفه بالعقائد كالصبيان أوائل بلوغهم و نسائهم القاصرات العقول التي هي في مجاهل العالم ممن لا يحتملون صحة دين عندهم غير ما في عقولهم، و غير ذلك من المعاذير التي يحكم العقل بقبح العقاب معها، و يرشد الى ذلك قوله عليه السّلام: ما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر، و الأخبار الدالة على ان اللّه لا يعذب إلا بعد البيان.

و دعوى العلم بخروج بعض الكفار كالنساء و الأولاد أوائل بلوغهم من عموم الآيات و انما نشك في خروج بعض المخطئين من مجتهدى الكفار لكونهم قاصرين فيكون شك في زيادة التخصيص و الأصل عدمها فيثبت عدم تخصيص الآيات بالنسبة للمجتهدين منهم و لازمه كون كل مجتهد مخطئ منهم آثما و مقصرا. فاسدة فإن التخصيص ليس بتخصيص أفراد حتى إذا شك في كثرة الخروج و قلته يكون الأصل قلة الخروج بل التخصيص هنا نوعي أو صنفي و هو القاصر و المجتهد القاصر منه. و لو سلمنا ذلك فالعقل يحكم بخروجه منها لقبح عقاب غير المتمكن من الاعتقاد بالواقع.

و رابعا: انفتاح باب العلم في العقائد الدينية

لكون أدلتها واضحة جلية كما يظهر من صاحب الفصول. و فيه انه لا نسلم ذلك خصوصا فيما بعد عصر الأئمة عليهم السّلام خصوصا بعد ما كثرت الشبهات في كتب الاستدلال و طغت عوامل الإلحاد على المعنويات هذا بالنسبة للمجتهد فيها و أما ما كان في أوائل بلوغهم من الأولاد و النساء أو كان في أقصى أنحاء العالم في العصور المظلمة و هو لم

يسمع بالإسلام فإن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 216

هؤلاء لم يحتمل غير دينه حقا فكيف يكون باب العلم منفتحا بالنسبة اليه.

و خامسا: قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ

بتقريب ان المفسرين متفقون على ان المراد بالعبادة المعرفة فتدل الآية على ان المعرفة غاية لخلق كل احد منهم و لا تختلف الغاية عن المغيى للعالم بالغيب، فلو وجد القاصر لزم التخلف لعدم تحقق المعرفة منه، و الحديث القدسي كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي اعرف. فلو كان بعض المكلفين قاصرا و عاجزا عن المعرفة لزم كون خلقه له عبثا و لغوا. و أجيب بأن ذلك غاية لخلق النوع لا لكل فرد بدليل ان الصبيان و المجانين لو ماتوا على هذه الحالة لم تتحقق فيهم الغاية و منه يظهر الجواب عن الحديث القدسي.

و سادسا: ان اللّه تعالى كلف العباد بوجوب العلم بالعقائد الواجبة

كقوله تعالى: في سورة محمد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ و قوله تعالى في البقرة وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، و قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ، و قوله تعالى في سورة الفتح وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَعِيراً الى غير ذلك من الآيات الشريفة الآمرة بوجوب العلم بالعقائد الدينية و لا يصح هذا التكليف منه تعالى إلا بعد ان نصب الأدلة لكل أحد يطلب المعرفة بتلك العقائد و إلا لكان تكليفا بما لا يطاق و هو قبيح على اللّه تعالى فمن لم يجد تلك الأدلة لا بد و أن يكون مقصرا. و الحاصل انه لا اشكال ان اللّه تعالى كلفنا بتلك العقائد و أوجب علمنا بها و لازم ذلك أن يكون قد جعل أدلة عليها و إلا كان تكليفه بها تكليفا بما لا يطاق فيثبت ان كل من طلب تلك العقائد وجد تلك الأدلة عليها و يثبت بعكس النقيض ان كل من لم يجدها لم يطلبها فيكون مقصرا آثما

و هو المطلوب. و أجيب عنه بأن التكليف بالعلم إنما هو للمتمكن منه على حد سائر التكاليف الشرعية فلا يلزم نصب الأدلة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 217

العقائد بحيث كل أحد طلبها وجدها نظير سائر التكاليف فإنه لا يلزم على اللّه تعالى أن يجعل لكل أحد القدرة عليها و انما هي للمتمكن منها و حاصل هذا الجواب انما هو منع الكلية القائلة كل من طلب العقائد وجد الدليل على واقعها.

و سابعا: انه أطبق القوم على وجوب اللطف على اللّه تعالى

و لا شك ان نصب الامارة القطعية على المعارف الإلهية من اللطف إذ أن معرفتها من أقوى أسباب القرب الى اللّه تعالى و البعد عن معصيته و لو لا وجوب اللطف لما أمكن إثبات وجوب إرسال الرسل و نصب الأوصياء. و جوابه ان مقتضى اللطف ان ينصب اللّه الأدلة على العقائد و التكاليف حتى الفرعية و يرفع الموانع التي من قبله تعالى لكل من كلفه بذلك كنقصان العقل أو عدم وصول الدعوة أو الغفلة عن مراد اللّه تعالى و لذا الشخص المتصف بتلك الموانع لم يكن اللّه تعالى بمكلف له لا بالعقائد و لا بالفروع كما دلت الأدلة على ذلك. و اما الموانع من قبل المكلفين فلا يجب على اللّه تعالى رفعها لأن قاعدة اللطف كما قرر في محله لا تقتضي أزيد من فعل أو ترك الأمور العائدة إليه تعالى نعم ان كانت من جانب غير الطالب للمعرفة كإلقاء شبهة في ذهنه لا يمكنه رفعها أو الحيلولة دون إمامه أو لحبسه كان الطالب معذورا في عدم معرفته للواقع و ان كانت من جانب الطالب بان كان مقصرا لم يعذره اللّه تعالى و لا فرق في ذلك بين الأصول و الفروع.

و ثامنا: الإجماع على قتل الكفار بأصول الدين

و أسرهم و تسريهم و الحكم بنجاستهم و بيعهم و الجزية عليهم من غير فحص عنهم و فرق بينهم. و لو كان يوجد فيهم القاصر لما كان وجه لقتله و أسره لعدم تمكنه من معرفة الواقع و لوجب الفحص عن القاصر و المقصر في ترتيب الأحكام لحكم العقل بقبح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 218

عقوبة القاصر. و ما أجاب به صاحب القوانين من ان هذه أحكام دنيوية و ضعيفة و ليست الأحكام

الدنيوية مربوطة بالتقصير و العصيان كالكلب و الخنزير يحكم بنجاستهما مع أنهما أبعد عن التقصير من الكافر، و كالحيوانات، المأكولة اللحم كالغنم و نحوه يحكم بقتلها مع أنها أبعد عن التقصير من الكافر، فاسد فان جواز القتل و ان كان من الأحكام الدنيوية إلا انه عقاب دنيوي لا يصح ترتبه إلا على الإنسان العاصي لأنه ظلم، و لا فرق في قبح الظلم بين أن يكون في الدنيا أو في الآخرة كما هو مقتضي العقل و النقل.

و أما الحكم بنجاسة الكلب و الخنزير و قتل الحيوانات فلا وجه للقياس به حيث ان عالمهم غير عالمنا.

و يمكن الجواب عنه أن الجهاد انما يجوز إذا كان بدعوة من سلطان حق و مع وجود سلطان الحق كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكون الكفار مقصرا لإمكانه الرجوع الى معرفة العقيدة الواجبة منه فعدم رجوعه مقتضي لتقصيره.

و التاريخ يشهد أن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يرد طالب الحق و لا يقتله، على انه يمكن أن يقال ان هذه الأحكام الدنيوية مرتبة على إظهار الكفر و عدم الاعتراف بالإسلام أو المساعدة للكفار فان ذلك أمر اختياري للكافر يمكنه تركه نظير عقابه على ترك الواجبات و فعل المحرمات في الآخرة لأنه أمر اختياري له و ليس ذلك عقاب على عدم اعتقاده الناشئ عن القصور، هذا كله مع ان قتلهم قد يكون على وفق المصلحة و الحكمة لحفظ بيضة الإسلام و شوكته و تقليل سواد الكفر و تحقيره كقتل المسلمين لو تترس الكفار بهم.

(المطلب الثاني) [المخطئ في العقائد الواجبة هل يرتب عليه آثار الكفر الدنيوية من النجاسة و نحوها.]

ان المخطئ مطلقا أو خصوص القاصر إذا كان ليس بآثم فهل يحكم بكفره و يرتب عليه آثار الكفر الدنيوية من النجاسة و

نحوها و يعلم ذلك من تحقيق معنى الكفر و قد تعرض لذلك القوم في مبحث النجاسات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 219

من كتاب الطهارة فظهر ان الكلام في هذا الموضع في ثلاثة مقامات في التخطئة و التصويب و الإثم و عدمه و الكفر و عدمه.

الموضع الثالث في الأحكام الفرعية العقلية

الموضع الثالث من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية التي يستقل بها العقل سواء كانت عقلية محضة كقبح الظلم و العدوان و حسن العدل و الإحسان و نظم اليتيم و إنقاذ الغريق و إطفاء الحريق و وجوب رد الوديعة و أداء الدين أو لم تكن محضة و هي التي تكون احدى مقدماتها النقل كوجوب مقدمة الواجب و النهي عن الضد. و الظاهر وقوع الكلام في التخطئة و التصويب بالنسبة إليها فيما عدى الضروري منها، فإنه يعلم الحال فيه عند الكلام في الموضوع الرابع في الضروريات فان الظاهر من كلمات القوم القائلين بالتصويب ان العقليات الغير الضرورية كوجوب المقدمة و النهي عن الضد و كحرمة الكذب الغير الضار و رد الوديعة للظالم أو المحارب يكون المجتهدون فيها مصيبين بأجمعهم عند اختلافهم فيها و لذا التزموا بالتصويب في مثل القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة مع انها كلها عقلية و لم يستثنوا من حريم النزاع إلا ما قام عليه الإجماع أو النص الجلي الغير المعارض الذي هو عبارة عن الضروريات فلا وجه لما في (الكفاية) و غيرها من دعوى الاتفاق على التخطئة في العقليات و توضيح الحال ان العقليات مطلقا ان كانت من العقائد فحكمها قد عرفته سابقا في الموضع الثاني: فما قيل هناك جاري هنا حرفا بحرف و ان كانت من الأحكام الفرعية الضرورية فالكلام

فيها يعرف من الكلام في الموضع الرابع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 220

الذي سيجي ء إنشاء اللّه. و ان كانت من الأحكام الفرعية الغير الضرورية كوجوب المقدمة و حرمة الكذب الغير الضار فيعرف من الكلام في الموضع الخامس الذي يتكلم فيه في الأحكام الشرعية الغير الضرورية هذا هو حقيقة الحال في هذا الموضع. و لكن بعض أساتذة العصر و المحقق السيد إبراهيم القزويني (ره) و سبقهم صاحب الفصول استدلوا على امتناع التصويب في الأحكام العقلية بلزوم اجتماع النقيضين. و لا يخفى ما فيه لأن الأحكام الفرعية العقلية الغير الضرورية يكون تعدد الحكم فيها على طبق آراء المجتهدين نظير تعدده في الأحكام الفرعية الغير الضرورية و حاله حالها فكما لم يستدلوا هناك باجتماع النقيضين فكذلك هنا و انما يلزم تعدد التشريع فقط في المقامين فإنهما من وادي واحد و باب واحدة فإن اجتماع النقيضين الذي جعلوه محذورا للتصويب في الموضوعات و العقائد هو اجتماعهما في نفس الأمور الخارجية التكوينية من دون نظر الى الحكم الشرعي و فيما نحن فيه أعني الأحكام الشرعية العقلية الفرعية لا يلزم إلا اجتماع الحكمين في واقعة واحدة من دون أن يجتمع أمران متنافيان في الأمور الخارجية تكوينا فاذا جوزنا ذلك في الأحكام الشرعية النقلية لا محالة جاز في العقلية المذكورة. و يمكن أن يستدل على عدم جريان النزاع في العقليات الفرعية ان الحكم الفرعي الشرعي تابع لحكم العقل. و العقل لا يتبع في حكمه آراء المجتهدين فلا يعقل تصور التصويب فيها. و يمكن الجواب عنه ان المراد بالعقليات هي الأحكام التي قام عليها دليل العقل و ليست ما حكم به العقل لأن الأشاعرة القائلين بالتصويب ينكرون حكم العقل فلا

بد أن نأخذ الموضوع ما هو المتسالم بين الطرفين، و من المعلوم ان ما قام عليه الدليل العقلي هو الحكم الشرعي و هو يكون تابعا لآراء المجتهدين عند الخصم لا حكم العقل حتى يقال ان العقل لا يتبع في حكمه آراء المجتهدين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 221

الموضع الرابع في الأحكام الفرعية الضرورية
اشارة

الموضع الرابع من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية الضرورية عبادة كانت كوجوب الصلاة و الصوم أو معاملة كحلية البيع و حرمة شرب الخمر. وضعية كانت كصحة النكاح و الطلاق و جزئية الركوع و شرطية الطهارة للصلاة أو تكليفية كوجب الزكاة و الحج. و الظاهر وقوع الاتفاق من الفريقين على عدم تصويب المجتهدين المختلفين فيها و ان المصيب واحد و ان الباقين مخطئون فيها و لعل الوجه في ذلك هو ان اللّه تعالى قد أوضح حكمه فيها و لم يجعله منوطا بنظر المجتهد فكل أحد يعرفه بدون الاجتهاد بخلاف غير الضروري فإنه قد يتخيل انه إذا لم يكن اللّه قد أظهره فلا بد أن يجعله دائر مدار رأي من اجتهد فيه و حصله و سيجي ء تحقيق ذلك ان شاء اللّه تعالى.

كفر المخطئ في الضروريات

ثمَّ ان المخطئ في الضروري المنكر له هل انه كافر من حيث انه منكر للضروري أو انه كافر من حيث استلزام إنكاره للضروري إنكار أصل من أصول الإسلام أو استلزامه لتكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يمكن أن يكون قاصرا أو لا بد أن يكون مقصرا و هل انه يكون كافرا مطلقا بحيث يجرى عليه جميع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 222

أحكام الكفر في الدنيا مطلقا أو في خصوص ما إذا كان إنكاره عن تقصير بحيث لو كان عن قصور أو عن شبهة فهو ليس بكافر. ثمَّ على تقدير عدم كفره لو كان إنكاره عن شبهة أو قصور فهل يجب الفحص عن إنكاره انه كان لشبهة في ترتيب آثار الكفر عليه أم لا. ادعي غير واحد ترتيب آثار الكفر عليه و لا يجب

الفحص و قد تمسك بعضهم بدعوى الإجماع و بان غالب المنكرين لهذه الضروريات مقصرون قطعا و الظن يلحق الشي ء بالأعم الأغلب، و ان الظن الحاصل من هذه الغلبة حجة قطعا. و للزوم الهرج و المرج لو لم يرتب عليه ذلك بمجرد الاحتمال. و لتكفيرهم الخوارج و النواصب و الغلاة لإنكارهم ما هو ضروري و هو خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام إذ النزاع في الخلافة في الأسبقية لا في أصلها و هذه المباحث قد تعرض لها الفقهاء في كتاب الطهارة في مبحث النجاسات فمن أراد معرفة ذلك فليراجعها.

الموضع الخامس في الأحكام الفرعية غير الضرورية
اشارة

الموضع الخامس من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية الغير الضرورية عبادية كانت أو غيرها وضعية كانت أو تكليفية. فقد اختلفوا القوم في هذا المقام في تصويب جميع المجتهدين المتخالفين في الواقعة الواحدة و عدم تصويبهم فالقائلون بتصويب المجتهدين في فتاواهم و مطابقتها للواقع في الواقعة الواحدة هم أكثر الأشاعرة منهم أبو الحسن الأشعري و القاضي أبو بكر الباقلاني و بعض المعتزلة منهم أبو الهذيل العلاف و أبو هاشم و اتباعهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 223

[الوجوه الخمسة في تصوير التصويب.]

و يتصور كلامهم بوجوه خمسة.

أحدها: و هو المعروف بل نقل ان المصوبة ليس لهم قول بغيره و هو انه لا حكم له تعالى في الواقع قبل الاجتهاد بل حكمه الواقعي تابع لرأي المجتهد و حادث بحدوثه فهم في الحقيقة يقولون لا شي ء هناك قبل الاجتهاد حتى يكلف المجتهد بالوصول اليه بل هو مكلف بالاجتهاد في مناسبات الحكم أي في الأمور التي يناسبها كون الحكم كذا و هي الأدلة النقلية و غيرها فينجعل المظنون حكما للمجتهد و مقلده.

و ثانيها: ان اللّه تعالى جعل أحكاما متعددة في الواقع للواقعة الواحدة ثمَّ يقهر و يجبر المجتهدين في تلك الواقعة على تأدية اجتهادهم إليها فتكون مطابقة آراء المجتهدين للواقع قهرية.

ثالثها: نفس الوجه الثاني إلا ان اللّه تعالى لم يجبر المجتهد على المطابقة و إنما كانت المطابقة و الموافقة لتلك الأحكام المجعولة من باب الاتفاق و المصادفة أعني من باب القضايا الاتفاقية.

رابعها: ان اللّه تعالى لما علم ان آراء المجتهدين في كل مسألة فقهية قبل اجتهادهم فيها فجعل أحكاما للواقعة على طبق الآراء قبل حدوث الآراء فبعد حدوثها طابقتها.

خامسها: أن يكون في الواقعة حكم شرعي واحد إلا

انه بعد ان صار رأى المجتهد بخلافه يزول ذلك الحكم الواقعي و يتغير التكليف و يصير مأمورا بمقتضى ظنه لإحداث الاجتهاد عنوانا هو كون المظنون ذا مصلحة فائقة على مصلحة الواقع فيكون الاجتهاد مغيرا لحكم الواقع و منوعا للواقع و هذا هو الذي يحكي ظهوره من (يه) في تعريف الفقه في جواب ابن قبة و لا وجه لعد هذا القول في أقوال المخطئة ضرورة ان الحكم الذي أدى له اجتهاد المجتهد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 224

عرض الحكم الواقعي و يكون للشي ء حكمان باعتبار وصف الظن و عدمه كما للصلاة حكمان باعتبار السفر و عدمه بل ينبغي ان يجعل من الحكم الواقعي الثانوي و أما القائلون بالتخطئة فيقولون بأن للّه تعالى في كل واقعة حكم واحد واقعي فالمصيب عندهم من كانت فتواه على طبقه و الباقي مخطئون غير آثمين إذا لم يكونوا مقصرين و هو الذي عليه علماء الإمامية و وافقهم أكثر المخالفين كالحاجي و العضدي و ابي بكر الأصم و بشر المريسي و في المحكي عن النهاية ان القول بالتخطئة منسوب إلى الشافعي و أبي حنيفة و عن الفاضل الجواد نسبة القول بالتخطئة للأربعة.

[اختلاف المخطئة.]

و قد اختلف القائلون بالتخطئة في انه هل نصب اللّه تعالى لحكمه الواقعي دليلا أم لم ينصب عليه دليل بل هو كالشي ء المدفون في مكان لا علامة عليه و انما يعثر عليه اتفاقا و قد حكي عن العلامة (ره) نسبة هذا القول الثاني في النهاية إلى جماعة من الفقهاء و المتكلمين.

و أما القائلون بأن له دليلا فاختلفوا فبعضهم ادعى انه ظني و بعضهم ادعى انه قطعي ثمَّ اختلف القائلون بأنه ظني فبعضهم قال ان المجتهد لم

يكلف بإصابة ذلك الدليل الظني لخفائه و غموضه و يعذر المخطئ و يؤجر على اجتهاده و انما هو مكلف بإصابة الواقع قدر جهده و قد حكي عن العلامة (ره) في النهاية نسبة هذا القول للفقهاء كافة و الى الشافعي و أبي حنيفة. و الباقون منهم قالوا بأنه مأمور بطلبه ابتداء فإن أخطأ و غلب على ظنه شي ء آخر تغير التكليف و صار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه و لا اثم عليه. و قد عرفت منا ان هذا يرجع للقول بالتصويب كما بيناه في الوجه الخامس من وجوه التصويب. و أما القائلون بأن عليه دليلا قطعيا متفقون على ان المجتهد مأمور بطلب ذلك الدليل القطعي إلا انهم اختلفوا في موضعين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 225

الأول ان المخطئ هل يستحق الإثم فذهب بشر المريسي إلى انه يستحق الإثم و نفاه الباقون كما في المحكي عن النهاية لكن المحكي عن العضدي نسبة استحقاق الإثم اليه و الى ابي بكر الأصم.

الثاني هل ينقض قضاء القاضي فيه أم لا فذهب أبو بكر الأصم إلى انه ينقض و الباقون إلى انه لا ينقض و لا يخفي عليك ان هذه الاختلافات المذكورة انما هي من المخطئة العامة.

و اما علمائنا قدس اللّه أسرارهم فالظاهر انهم يقولون بأن في كل واقعة حكما معينا مودوع عند أهل العصمة عليه السّلام قد يكون عليه دليل ظني و قد يكون عليه دليل قطعي و المجتهد ان أدركه فقد أصابه و إلا فقد أخطأ و انه غير آثم في خطأه بعد بذل وسعه و عدم الظفر به و لو كان الدليل قاطعا إذ لا إشكال في ان بعض الأحكام الواقعية لا دليل عليها و انه يرجع

فيها إلى الأصول العملية لكن يظهر الخلاف في ذلك من المحكي عن النهاية حيث قال ان للّه تعالى في كل واقعة حكما معينا و ان عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا و ان المخطئ فيه معذور و ان قضاء القاضي لا ينقض به انتهى. و لعل المراد بالدليل ما يعم الأصول العملية كما ان نفيه قطعية الدليل لعله من جهة إرادة الضروري منه و إلا فالأدلة القطعية على الأحكام الشرعية أكثر من ان تحصى و هكذا يظهر الخلاف من المحكي عن العدة للشيخ (ره) حيث قال و الذي أذهب اليه و هو مذهب جمع من شيوخنا المتكلمين المتقدمين و المتأخرين و هو الذي اختاره المرتضى (ره) و اليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه ان الحق في واحد و ان عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا فجعل المخطئ و من لم يصب الحكم الواقعي فاسقا و قد حمل القوم حكمه (ره) بفسق المخطئ على إرادة صورة التقصير في الاجتهاد و عدم استفراغ المجتهد الوسع بقدر الواجب. أو يحمل على إرادة صورة العمل بمثل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 226

القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و غيرها من الظنون التي يقطع بعدم اعتبارها و ردوا هذا التوجيه بأن المجتهد في كل من الصورتين معاقب فاسق سواء أصاب الواقع أم أخطأ فلا وجه في تخصيصه (ره) الحكم بالفسق في كل من الصورتين بالمخطئ فان المصيب أيضا معاقب و لا نحب ان نطيل الكلام في صحة هذين التوجيهين أو سقمهما أو صحة ردهم عليهما أم لا إذ لا يشك في أحد لا سيما مثل الشيخ (ره) في انه يذهب الى ان المجتهد الغير المقصر إذا

أخطأ ليس بفاسق و لا معاقب لحكم العقل بقبح عقاب القاصر لعدم قدرته على تحصيل الواقع كما انه من المحتمل ان يكون مراد الشيخ (ره) بعبارته المتقدمة ان من خالف الدليل يكون مخطئا فاسقا على ان يكون مرجع الضمير في قوله (خالفه) هو الدليل و لا ريب ان من خالف الطريق الذي جعله الشارع دليلا لتحصيل الحق و أفتى من دون دليلا يكون مخطئا لعدم عمله بالدليل على الحكم و فاسقا لأنه أفتى من دون علم و بصيرة بالواقع فهو مخطئ و فاسق حتى لو أصاب الواقع بل حتى لو تمسك بدليل لم يعتبره الشارع أو نهاه عن سلوكه كالقياس و نحوه فهو مخطئ لعدم سلوكه ما أمره الشارع بسلوكه و فاسق لكونه خالف أمر الشارع بسلوكه ما لم يعتبره الشارع، و منشأ إشكال القوم على عبارة الشيخ هو توهم عود الضمير في (خالفه) إلى الحق فأوردوا عليه من ان مخالف الحق لا يكون فاسقا إلا إذا كان مقصرا.

تحرير محل النزاع في المقام و تشخيصه
اشارة

ثمَّ قبل الخوض في تحرير أدلة الطرفين في المقام لا بد من تحرير محل النزاع و تشخيصه فنقول

ان القوم أخرجوا عن محل النزاع أمور ثلاثة:
أحدها: مدلولات الخطاب

و ذلك لان النزاع هنا ليس في مدلولات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 227

الخطابات الشرعية و وحدتها بان يقال ان النزاع في المراد من اللفظ المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو حكم واحد أو أحكام متعددة على ان يكون مذهب المصوبة هو ان مثل مدلول (حرم عليكم الخمر) هو الأحكام المتعددة بتعدد آراء المجتهدين و يكون مذهب المخطئة ان مدلوله حكم واحد واقعي فإن هذا لا يتصور من جاهل فضلا عن عالم عاقل فان الجميع متفقون على ان المراد من الخطابات المنزلة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكم واحد لا متعدد حتى لو قلنا بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لأن الخطابات ليست من الألفاظ المشتركة و لو وجد فيها الألفاظ المشتركة فإن عليها قرينة على تعين المراد و لذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم بحكم الواقعة المنزل عليه. و الحاصل ان الكل متفقون على ان الحكم المراد من اللفظ واحد و ارادة غيره خطأ فالكل متفقون في هذا المقام اعني مقام الخطاب على التخطئة و انما نزاعهم في تعدد الحكم المجعول للّه تعالى بالذات المقصود بالأصالة في الواقعة الواحدة فالمصوبة يقولون انه متعدد بتعدد آراء المجتهدين و واحد منها هو المراد من ذلك الخطاب و الزائد عليه أيضا مقصود بالأصالة مجعول بالذات للّه تعالى اراده من الأسباب التي صارت موجبة لظنون المجتهدين بها. و المخطئة يقولون بان الحكم المقصود بالأصالة و المجعول بالذات هو واحد و من

هنا ظهر لك فساد ما استدل به بعض أساتذة العصر العصر على بطلان التصويب من ان نفس إطلاقات أدلة الأحكام تدل على بطلان التصويب فان مقتضي إطلاق ما يدل على وجوب شي ء أو حرمته ثبوته في حق من قامت عنده الامارة على الخلاف أيضا و قد سبقه الى ذلك أستاذه العلامة آقا ضياء العراقي (ره) و وجه الفساد ان الخصم ينكر إطلاقها و أنها انما تقتضي ثبوت الحكم عند خصوص من قامت عنده لا ثبوته في حق الجاهل ثمَّ كيف يتصور ان مقام الإثبات ينافي مقام الثبوت فكان عليه أولا أن يبطل ما أقامه الخصم من الأدلة العقلية و النقلية على التصويب فاذا فرض عدم ما يفيد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 228

القطع به يرجع إذ ذاك الى التمسك بالإطلاق. هذا مع ان الإطلاق بالنسبة إلى العلم و الجهل غير صحيح لأن الدليل لا يمكن تقيده بالعلم أو الجهل و الإطلاق إنما يتصور في مقام يمكن فيه التقيد. على انه لو كانت الإطلاقات تقتضي التخطئة لكانت إطلاق أدلة الأصول كالاستصحاب تقتضي التخطئة فمثلا من قال بأن دليل الاستصحاب يقتضي ثبوته في مطلق الشك في المقتضي و الرافع و الآخر قال في خصوص الشك في الرافع و كان المورد مورد الشك في المقتضى بحيث كل من الطرفين شاك في المقتضى فيقتضي أن يكون إطلاق دليل الاستصحاب يوجب تخطئة من أجرى البراءة العقلية في الشك في المقتضى مع ان المعاصر المذكور يعترف بعدم التخطئة في مثل ذلك كما ذكره.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 228

خروج الأحكام الظاهرية
اشارة

(ثاني الموارد) التي أخرجها القوم عن محل النزاع هو الأحكام الظاهرية فإنه لا نزاع بينهم أيضا في تعدد الأحكام الظاهرية بتعدد آراء المجتهدين فلو كان في الواقعة الواحدة أقوال خمسة كان الحكم الظاهري فيها خمسة لإجماع الكل على لزوم العمل بالأحكام الظاهرية لمن ثبت عنده و ان ظن المجتهد حجة عليها فلو كان فيها خطأ لما أجمعوا على لزوم العمل بها و لو كان النزاع في هذه الاحكام لكان لازم الكل التصويب هكذا ذكره القوم. و الاولى أن يقال ان في عالم الظاهر لا يوجد حكم غير ما أدى اليه نظر المجتهد حتى يتصور مخالفته و عدم اصابته فلذا لا نزاع بينهم في عالم الظاهر و الكل متفقون ان كل مجتهد مصيب لحكمه الظاهري و إلا لم يكن حكما ظاهريا و المفروض القطع بكونه حكما ظاهريا بالنسبة له و لمقلديه إذا لم يكن مقصرا مضافا الى انه لو قلنا ان ما أدى اليه اجتهاده يحتمل ان يحتمل غيره لزم عدم حجية رأيه مع أن فرض الكلام حجية رأي المجتهد و انما النزاع كما عرفت في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 229

الحكم الأصلي المجعول من اللّه تعالى بالذات في الواقعة الواحدة مع قطع النظر عن الخطابات و الأدلة و ان شئت قلت ان النزاع في الأحكام الظاهرية العملية في الواقعة الواحدة هل هي كلها مقصودة بالذات و مجعولة بالأصالة كما عليه المصوبة لأنها كلها تكون أحكاما واقعية عندهم كما هي أحكام ظاهرية أم ان المقصود بالذات منها حكم واحد هو يكون واقعيا و ظاهريا لمن أصابه و الباقي أحكاما ظاهرية فقط.

المراد بالحكم الظاهري الذي لا خطأ فيه

و المراد بالحكم الظاهري الذي لا نزاع بينهم في ان المجتهد الغير

المقصر مصيب فيه بالنسبة للظاهر و عالم التنجز و البعث هو الحكم الذي أدى اجتهاده اليه من أمارة شرعية أو أصل عملي أو دليل قطعي لأنه هو حكمه في الظاهر الذي يلزمه العمل به و المشي على مقتضاه بحسب الظاهر و يستحيل على الشارع ان يعاقبه على غيره لاستحالة التكليف بما لا يطاق فيسمى بالحكم الظاهري لأنه ليس مكلفا تكليفا فعليا منجزا بغيره، و هذا الحكم الظاهري قد يكون واقعه حكما واقعيا أوليا كما لو أدى نظره الى حرمة الخمر و قد يكون واقعه حكما واقعيا ثانويا كما لو أدى نظره الى وجوب التيمم و قد يكون حكما ظاهريا أصوليا كما لو أدى نظره الى الاستصحاب في مورد الاستصحاب كما ان هذا الحكم الظاهري عند المخطئة قد يخالف الحكم الواقعي الاولي كما هو واضح و قد يخالف الحكم الثانوي كما لو ادى نظره الى وجوب الوضوء في مورد التيمم و قد يكون مخالفا للحكم الظاهر الأصولي كما لو ادى نظره الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 230

البراءة في مورد الاستصحاب و بهذا ظهر لك ان المراد بالحكم الظاهري هنا غير الحكم الظاهري في باب الأصول العملية للمخالفة بينهما كما ظهر لك فساد ما يتراءى من بعض المعاصرين حفظه اللّه في تقريراته من اختلاط الأمر عليه حيث اشتبه عليه الحال في الحكم الظاهري في باب الأصول بالحكم الظاهري في باب التصويب فإنه بعد ما جزم بعدم تصور الخطأ في الأحكام الظاهرية تبعا للقوم و انه لا بد من التصويب فيها أورد على نفسه بأن الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعية لا تكون آراء المجتهدين فيها مصيبة فإنه لو بنى أحد في مورد التخيير على البراءة

و بني الآخر على التخيير كان المصيب فيهما واحد و الآخر مخطئ في الحكم الظاهري و هكذا لو بنى احد على البراءة عند الشك في المقتضي و الآخر بني على الاستصحاب كان أحدهما مخطئ لا محالة في الحكم الظاهري. و أجاب عن الاشكال بما يرجع الى ان الاحكام الظاهرية يقع فيها الخطأ كالحكم المجعول على ذوات الافعال قد يصل اليه المجتهد و قد لا يصل و ليس المراد بالتصويب فيها انه لا يمكن وقوع الخطأ فيها من المجتهد بل المراد ان اختلاف المجتهدين في الأحكام الظاهرية انما هو من جهة الاختلاف في موضوعاتها و لا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة فمن اعتقد ان أدلة البراءة الشرعية لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين لاعتقاده تقديم الشارع جانب الحرمة على الوجوب لا تكون أدلة البراءة شاملة له لعدم موضوعها و هو الشك في الحكم و من لا يعتقد بذلك فلا محالة يكون شاكا في الحكم الواقعي و معه يرجع الى البراءة و بذلك يظهر الحال في المثال الثاني و بقية الموارد فان من بني على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي لم تكن أدلة البراءة معذرة له في العمل لعدم تحقق موضوع البراءة في حقه، و أما من بني على عدم حجيته في تلك الموارد فيرجع للبراءة لأنه شاك في الحكم و لم تقم حجة عنده حسب الفرض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 231

انتهى ملخصا. و أنت خبير بأن أصل الإشكال غير وارد لأن الحكم الظاهري الذي هو مؤدى رأي المجتهد لم يكن خطأ فيه بالنسبة إلى عالم الظاهر لأنه هو الذي يثبت و يلزم به في عالم الظاهر و يعاقب

على مخالفته على تقدير ثبوته في الواقع نعم انما يتصور الخطأ فيه بالنسبة إلى الواقع إذا خالف الواقع ففي الأمثلة المذكورة الحكم الظاهري بالنسبة إلى عالم الظاهر لا خطأ فيه و انما يتصور الخطأ فيه بالنسبة إلى الواقع و قد عرفت ان واقع الحكم الظاهري المذكور قد يكون أصلا عمليا كمن أفتى بالبراءة في الشك في الرافع مع ان الواقع هو الاستصحاب فالخصم تخيل ان الأصل العملي هو الحكم الظاهري المقصود في باب التصويب فأورد الإشكال عليه بأن الحكم الظاهري قد يخالف الأصل العملي الثابت واقعا في هذا المورد و ما درى أن الحكم الظاهري الذي أثبت التصويب فيه كما يقتضيه الاعتبار و نطقت به كلمات القوم هو ما أدى اليه رأي المجتهد سواء كان أصلا عمليا أو غيره و إذا خالف رأي المجتهد الأصل العملي المجعول واقعا يكون عندهم من مخالفة الحكم الظاهري لواقعة في هذا الباب لا من مخالفة الحكم الظاهري للحكم الظاهري و التصويب الذي اتفق عليه القوم في الحكم الظاهري هو بالنسبة إلى عالم الظاهر لاستحالة ان يلزم العبد بغيره بالنسبة إلى الظاهر لا بالنسبة لواقعة و من هنا ظهر لك فساد ما ذكره في جوابه من انه ليس المراد بالتصويب في الأحكام الظاهرية انه لا يمكن الخطأ انتهى حيث قد عرفت ان المراد منه هو ذلك و انه لا يمكن الخطأ فيها بالنسبة لعالم الظاهر و عالم التنجز و مخالفتها للأصل العملي في بعض المواطن انما هي من من قبيل المخالفة للواقع لا المخالفة للظاهر فإن الأصل العملي المجعول واقعا لهذا المورد يكون واقعا للحكم الظاهري لا انه حكم ظاهري في مرتبة الحكم الظاهري الذي أدى اليه نظر المجتهد.

ثمَّ انا

لو سلمنا ما ذكره في الجواب فما يصنع في صورة ما إذا أدى رأي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 232

المجتهد للبراءة عند الشك في المقتضى و في الواقع هو مجرى الاستصحاب فإنه يكون الموضوع للاستصحاب و هو الشك في المقتضي موجودا عند المجتهد مع اجراه المجتهد للبراءة فكيف يدعي انه لا يتصور الخطأ من جهة اختلاف الموضوع نعم لو عكس الحال بأن أدى نظر المجتهد في الشك في المقتضى الى الاستصحاب لم يكن موضوع البراءة موجودا و هكذا الكلام في المثال الآخر و هو صورة دوران الأمر بين المحذورين فإنه لو أدى رأي المجتهد الى البراءة و في الواقع يقدم جانب الحرمة فإن الموضوع لتقديم جانب الحرمة موجود مع حكم المجتهد فيه بالبراءة فأذن على مبناه يكون الخطأ في الحكم الظاهري مع عدم اختلاف الموضوع نعم لو عكس الحال بأن أدى رأي المجتهد لتقديم جانب الحرمة كان موضوع البراءة غير موجود. هذا و يمكن أن يقال ان مخالفة الحكم الظاهري للحكم الظاهري الواقعي إنما تتصور إذا قلنا بأن الأحكام الظاهرية ثابتة في موارد الأصول من حيث هي و لو قبل شك المجتهد و قبل تفحصه و مراجعته ففي المورد الذي يكون له حالة سابقة و ليس على خلافها دليل يكون الاستصحاب هو الثابت المشترك بين المجتهد و المقلد (و الحاصل) أنه يكون للاحكام الظاهرية نوع ثبوت واقعي و لا يعتبر الشك الفعلي في أصل ثبوتها و تحققها بل انما يكون الشك الفعلي معتبر في فعليتها و تنجزها و على هذا فتكون مثل الأحكام الواقعية ثابتة في حد نفسها و المجتهد يبحث عنها فمرة يصيب و مرة يخطئ، و اما إذا قلنا بأن

الأحكام الظاهرية سواء كانت مؤديات الأصول أول الطرق المخالفة للواقع ليس لها وجود واقعي و انما تحدث حيث العلم أو الظن أو الشك الفعليين و ان شركتها بين المجتهد و المقلد ليست مثل الأحكام الواقعية بل انها تثبت أولا للمجتهد ثمَّ يشترك معه المقلد لأن المدار فيها الشك الفعلي و هو مختص بالمجتهد بعد الفحص فليس في الواقع حكم ظاهري مشترك بحيث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 233

يكون الواجب على المجتهد الاجتهاد في تحصيله و على المقلد تقليده فيه بل إنما يكون كل منهما مكلفا بالواقع الأصلي، ألا ترى ان مؤديات القطع و الأدلة الظنية مع المخالفة للواقع مع جميعها لشرائط الحجية قبل حصولها يكون التكليف متعلقا بالواقع فقط و تحصيل المعرفة واجب لتحصيل الواقع لا لأجل تحصيل تلك المؤديات إذ شرط حدوثها حصول تلك الامارات المخالفة للواقع أو القطع المخالف للواقع و لا وجود لها قبل ذلك حتى يجب تحصيلها و إنما بعد حدوث تلك الأمور يحدث التكليف و تحصل الشركة و يجي ء وجوب التقليد، و عليه فلا يتصور بالنسبة إليها الإصابة و الخطأ و لكن قد تقدم ما يظهر لك حقيقة الحال.

الموضوعات الصرفة

(ثالث الموارد) التي أخرجها القوم من محل النزاع الموضوعات الصرفة فإنها ليست من محل النزاع في شي ء و ان المختلفين فيها ليسوا بمصيبين فيها و إلا لزم اختلاف الأمور التكوينية باختلاف آراء المجتهدين فيها، و قد تقدم منا الكلام في ذلك ص 209. إذا عرفت ذلك فنقول: ان الحق مع المخطئة و لا بد قبل الخوض في أدلة الطرفين من تحرير الأصل في المقام.

الأصل في التخطئة و التصويب
اشارة

فنقول: ذهب جماعة من الأصحاب منهم العلامة (ره) في النهاية إلى أن الأصل في المسألة مع قطع النظر عن الأدلة هو عدم التصويب، و قد قرروا هذا الأصل بوجوه:

[التقرير الأول الأصل] أصالة عدم تعدد الأحكام الواقعية

كما ذهب الى ذلك سلطان العلماء و المحقق القمي (ره) و أورد عليه بعضهم انه لا ريب في تعدد الأحكام بتعدد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 234

آراء المجتهدين و إنما الشك في ان تلك الأحكام المتعددة كما هي ظاهرية هل هي أحكام واقعية أيضا أم لا، فوجود التعدد في الأحكام قطعي و إنما الشك في وصفها بالواقعية و عدمه. و الأصل المذكور لا يرفع الشك المذكور لأنه وصف ذاتي يوجد بوجود الحكم. إن قلت: ان المصوبة يقولون بإنشاء أحكام متعددة من اللّه تعالى بعد الاجتهاد أو قبله أو لأجل تعدد الاعتقاد أو لا، فهم يقولون بتعدد جعل الشارع للواقعة و المخطئة يقولون بوحدة الجعل فالأصل مع المخطئة.

قلنا: انه لا إشكال في ان الحكم الذي أدى اليه رأي المجتهد مجعول من الشارع و لكنه هل بجعل ظاهري بمعنى لزوم العمل به و عدم العذر عند المخالفة للواقع أم بجعل واقعي فقط، فتعدد الجعل لازم على كل حال. نعم في القطعيات و الظنيات بناء على الحكومة في باب الانسداد حيث لا جعل من الشارع في الظاهر فالأصل مع المخطئة و لكن الأصل الذي يقرر للمسألة يجب أن يكون عاما لسائر مواردها، و بهذا ظهر لك انه لا وجه للتمسك بأصالة عدم الجعل لا زيد من حكم واحد. و من هنا يتجه أن يقال ان الأصل يكون مع المصوبة حيث ان المخطئة يقولون بجعل حكم واقعي زائد على جعل الأحكام الظاهرية، و اما المصوبة فهم لا

يقولون إلا بجعل الأحكام الواقعية فقط و ليس عندهم إلا جعل ما أدى اليه آراء المجتهدين فقط و المخطئة يكون عندهم جعل ما أدى اليه آراء المجتهدين و زائد عليه جعل الحكم في الواقع. نعم الأصل مع المخطئة في الطرق الغير المجعولة كالقطع و نحوه كما تقدم، و سيجي ء ان شاء اللّه في جواب التقرير الثالث لهذا الأصل ما ينفعك في المقام من ان هذا إنما يتم بناء على جعل أحكام ظاهرية من الشارع على طبق مؤدى الامارات، و اما بناء على جعل الحجية للأمارات فقط أو عدم الجعل لها و إيكال الامتثال الى العرف، فأصالة عدم جعل الزائد على الواحد و أصالة عدد التعدد جارية في المقام و يكون الأصل مع المخطئة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 235

(ثاني التقريرين) للأصل المذكور هو أصالة عدم اصابة المجتهد للحكم الواقعي

فإنه قبل الاجتهاد لم يكن مصيبا للحكم الواقعي قطعا و بعد اجتهاده نشك في إصابته للواقع أم لا، و الأصل عدم اصابته.

و يرد عليه أولا: انا نعلم بالإجمال اصابة واحد منهم فيكون أصالة عدم الإصابة في كل واحد متعارضة فتسقط من البين. و يمكن الجواب عنه ان الأصل المذكور كل مجتهد يجريه فيما عدى رأيه نظير أصالة الطهارة في واجدي المني في الثوب المشترك. نعم شخص آخر لا يصح له أن يجريه في آراء المجتهدين في صورة ما إذا كان يعلم بإصابة أحدهم للواقع و إلا لو احتمل عدم اصابة الجميع صح له إجرائه. نعم يمكن أن يقال ان المطلوب في الأصل الجاري في المسألة أن يجري في سائر الموارد لا في بعضها، و هذا لو تمَّ إنما يجرى في بعضها.

و يرد عليه ثانيا: ان الإصابة للحكم قطعا تحققت و لكن لا نعلم انها

للظاهرى الواقعي أم للظاهرى فقط، و هذا نظير من يعلم بدخول حيوان للدار لكنه يشك في انه إنسان أم غيره فيستصحب عدم الإنسانية، فإنه لا يصح ذلك إلا بناء على صحة استصحاب العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامة.

(ثالث التقريرات) للأصل المذكور هو أن يقال ان الاحكام الظاهرية ليست بأحكام حقيقية

بل هي أحكام في أنظار المجتهدين من باب لزوم العمل بالمعتقد و هو حكم سار في جميع الاحكام المعتقد بها، فالمخطئة يقولون بأن الحكم المتعلق بالشي ء مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعتقد واحد لا يختلف باختلاف الآراء و لا يتعدد بتعددها، و المصوبة يقولون بتعدد الحكم المتعلق بذلك الشي ء في الواقع، و لا ريب ان الأصل عدم التعدد فمثلا ان المخطئة يقولون بأن للخمر حكما واقعيا و هو واحد و حكما ظاهريا و هو لزوم العمل بالمعتقد عندنا، و المصوبة يقولون للخمر أحكاما واقعية متعددة، فالشك إنما هو في تعدد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 236

الأحكام و اتحادها لا في ظاهريتها و واقعيتها لأن الأحكام الظاهرية ليست بأحكام، و لا يخفى ان هذا لا يتم بناء على جعل أحكاما ظاهرية شرعية على طبق مؤدى الطرق و الأمارات فإنها أحكام شرعية مجعولة متعلقة بنفس الشي ء على طبق آراء المجتهدين. نعم بناء على عدم ذلك سواء بنينا على جعل الشارع وجوب متابعة الامارات بأن يكون المجعول نفس الحجية و الطريقية فقط أو قلنا ان الشارع لم يجعل شيئا أصلا بل أحال ذلك الى المتداول عند العرف في مقام الامتثال كالقطع فإنه يكون أصالة عدم تعدد الأحكام الشرعية و أصالة عدم جعل الزائد على الواحد جارية في المقام و يثبت بها مذهب المخطئة لأن المصوبة تكون الأحكام الشرعية الفرعية متعددة عندهم بخلاف المخطئة على هذا

المبني فإنه يكون الحكم الفرعي الشرعي عندهم واحد و ما عداه ليس بمجعول أصلا و إنما المجعول هو الحجية و الطريقية و هي ليست بحكم شرعي فرعي أو ليست بمجعولة كما في القطع و الظن بناء على الحكومة من باب الانسداد. و المصوبة لا ينكرون جعل الحجية في بعض الامارات.

أدلة المخطئة
اشارة

إذا عرفت ذلك فالحق مع المخطئة و بطلان التصويب، و الذي استدل به المخطئة أمور:

(الأول) ان العلم لا يمكن أخذه في متعلقه

كأن يجعل العلم بالشي ء موجبا لتحقق ذلك الشي ء كالعلم بالوجوب موجبا لتحقق الوجوب و العلم بالحرمة موجبا لتحقق الحرمة و العلم بالقبح موجبا لتحقق القبح أو العلم بالحسن موجبا لتحقق الحسن للزوم الدور لأنه لو كان الأمر كذلك لكان تحقق الشي ء في نفسه موقوفا على العلم به و العلم به موقوف على تحققه في حد نفسه و إلا لتعلق العلم بغيره و صار جهلا مركبا ففي المثال المذكور يكون تحقق الوجوب في نفسه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 237

موقوفا على العلم به لفرض توقفه على العلم به و العلم به موقوف على تحققه في نفسه إذ لو لا تحققه في نفسه لكان العلم بغيره فصار الوجوب موقوفا على نفسه و هكذا يقرر بالنسبة إلى الظن فيقال ان تحقق الوجوب موقوف على الظن به و الظن به موقوف على تحققه في حد ذاته و إلا فكيف يمكن الظن به و إنما يصير ظنا بغيره فصار إمكان تحققه موقوفا على إمكان تحققه، و قد (يقرر الدور بوجه آخر) و هو ان العلم أو الظن أو الدليل موقوف على متعلقه، فلو كان متعلقه موقوفا عليه لزم توقف العلم على نفسه بل لا نحتاج الى ذلك كله و نقول ان سمة العلم و الظن و الوهم و غيرها من الكيفيات النفسانية بالنسبة لمتعلقاتها سمة العارض لمعروضه و متأخرة عن متعلقاتها في مرتبة تعلقها بها و إلا لما تعلقت بها بذاتها فلو كانت متعلقاتها موقوفة عليها لزم تقدم الشي ء على نفسه رتبة، و هكذا الأدلة بالنسبة لمتعلقاتها فإنها إنما تكون أدلة على

متعلقاتها بعد فرض إمكان وجود متعلقاتها في حد ذاتها و إلا لكانت في مرتبة تعلقها متعلقة بغيرها فلو كانت متعلقاتها موقوفة عليها لزم تقدم الشي ء على نفسه. و قد (يقرر الدور بوجه ثالث) و هو ان الاجتهاد في الواقعة و التفحص عن حكمها و طلبه موقوف على وجود الحكم و إلا كان تفحصا و طلبا لأمر معدوم و طلب المعدوم محال فلو كان وجود الحكم لتلك الواقعة موقوفا على الاجتهاد فيها و التفحص عن حكمها لزم توقف الاجتهاد على نفسه، و لا يخفى ما في هذا التقرير فان طلب المعدوم ليس محال بل المحل طلب الموجود كيف و الإنسان يطلب بدوائه الصحة و بأكله الشبع، فهذا التقرير إذا لم يرجع الى ما ذكرناه واضح الفساد. و كيف كان فتقرير الدور بالوجوه المذكورة لا يرد على المصوبة إلا على تقدير أن يذهبوا الى الاحتمال الأول، اما لو ذهبوا الى ما عداه من احتمالات التصويب المتقدمة ص 223 فلا يرد عليهم ذلك، و قد تكلمنا في هذا الدور و لزوم تقدم الشي ء على نفسه في مواضع كثيرة و حققنا ذلك فراجعها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 238

(الدليل الثاني) للمخطئة ما ذكره القدماء و هو انه لو أصاب كل مجتهد لزم الجمع بين المتنافيين

و هو قطع المجتهد بالحكم ما دام ظانا بالحكم لان المجتهد بعد قيام الظن عنده على الحكم يقطع به لإصابته الواقع فيكون بعد الاجتهاد ظانا بالحكم قاطعا به فإنه ما لم يحصل له الظن الاجتهادي بالحكم لم يقطع بالحكم و إنما يقطع به عند حصول الظن به و الظن و القطع متنافيان لا يتواردان على محل واحد، على انه يلزم القطع و عدم القطع بالحكم و هو جمع بين المتناقضين و لا يرد ذلك على المخطئة لأن مورد

القطع الحكم الظاهري و مورد الظن الحكم الواقعي و هما متغايران، و بعبارة اخرى انه عند المخطئة يكون الظن تعلق بأن هذا حكم اللّه تعالى الواقعي و القطع تعلق بوجوب اتباع هذا الظن كما ذكر ذلك جملة من المحققين.

و يمكن الجواب عنه بأن المجتهد عند حصول الظن له من الاجتهاد بالحكم ينقلب ظنه الى القطع فحدوث الظن موجب لانقلابه الى القطع فلا يجتمعان أصلا.

و دعوى ان القطع تابع للظن و متفرع عليه فلا يعقل وجود القطع بدون الظن فاسدة فإنه متفرع عليه حدوثا لا بقاءا. و قد أجاب عن أصل الدليل صاحب الفصول بقوله و يمكن دفعه بعد المنع عن عموم وروده لاختصاصه بالقاطع بالتصويب المتذكر له حال الاجتهاد بأن المعتبر في الاجتهاد على هذا التقدير ليس فعلية الظن بل ما كان ظنا مع الإغماض عن أدلة التصويب، انتهى. و لا يخفى ما فيه فان ما يستلزم المحال لا يقع و لو كان استلزامه له بنحو الموجبة الجزئية. و قد يقرر هذا الدليل بوجه آخر بأن يقال ان الامارة أماريتها على الحكم ظنية مع انه يحصل القطع باماريتها عليه على التصويب للقطع بالحكم بواسطتها، و قد أجابوا عنه بما حاصله: ان الخصم إنما يقول بالتصويب في المسائل الفرعية و كون الدليل دليلا إنما يكون من الأحكام الشرعية الوضعية الأصولية فليس الظن به موجبا للقطع به. و الاولى أن يقال: ان أمارية الامارة قطعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 239

حتى عند المخطئة و لكن استفادة الحكم منها ظنية فهي موجبة للظن بالحكم، لكن عند المصوبة يحصل القطع بالحكم منها و لا مانع من انقلاب الظن الى القطع بعد الالتفات الى حصول سببه.

(الدليل الثالث) للمخطئة: ان الاحكام تابعة للحسن و القبح العقليين

سواء

قلنا ان الحسن و القبح بالذات أم هما بالوصف اللازم أم بالوجوه و الاعتبارات أم قلنا بأن الموارد مختلفة فقد تكون بالذات و قد تكون بالوصف اللازم و قد تكون بالوجوه و الاعتبارات فإنه على كل تقدير يكون للّه تعالى في كل واقعة حكم واحد معين لأن الشي ء اما أن يكون حسنا فيتعلق به الأمر و اما أن يكون قبيحا فيتعلق به النهي و ان لم يكن أحدهما أكثر من الآخر تعلق به الإباحة، فلو فرض ان شرب الخمر قبيح واقعا اما لذاته أو لإسكاره أو بالوجوه و الاعتبارات فيكون قبحه موجبا لتعلق نهي الشارع به في الواقع و يصير حراما واقعا و لا يكون واجبا لعدم حسنه بدون القبح و لا مباحا لعدم تساوي حسنه و قبحه.

ان قلت ان الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات مع مدخلية العلم و الجهل و يكون العلم و الجهل من الوجوه المغيرة و المبدلة للحسن و القبح بأن يكون العلم بحسن الشي ء موجبا لحسنه و العلم بقبحه موجبا لقبحه و العلم بعدم حسنه و قبحه موجبا لعدمها، فاذا علم أحد المجتهدين قبح شرب الخمر يصير قبيحا و حراما في حقه، و إذا علم المجتهد الآخر بحسن شرب الخمر يصير حسنا و واجبا في حقه، و إذا علم الثالث بعدم كونه حسنا أو قبيحا فيصير مما لا حسن فيه و لا قبح فيكون مباحا في حقه فيكون لشرب الخمر باعتبار العلم و الجهل أحكاما متعددة في الواقع لاختلاف الحسن و القبح باعتبار العلم و الجهل. قلنا قد عرفت بطلان أخذ العلم و توابعه في قوام متعلقه ص 236 فلا يعقل أن يكون العلم و الجهل مغيرين للحسن و القبح،

نعم هذا الدليل لا يرد على من قال بعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 240

تبعية الأحكام للحسن و القبح. و الحاصل ان أقوال مسألة تبعية الأحكام للحسن و القبح على ثلاثة:

أحدها: قول الأشاعرة بعدم التبعية و هذا القول لا يلازم القول بالتخطئة و لا التصويب.

ثانيها: ما يلازم القول بالتخطئة و هو القول بالتبعية مع عدم مدخلية العلم و الجهل.

ثالثها: ما يلازم التصويب و هو القول بالتبعية مع مدخلية العلم و الجهل.

(الدليل الرابع للمخطئة) [عدم إرادة الله تعالى من خطاباته إلا حكما واحدا]

انه اتفق الجميع على ان الخطابات بالتكاليف التي وجهها اللّه تعالى لرسوله الكريم لم يرد تعالى منها إلا حكما واحدا كما تقدم ص 227 فلو كان في الواقع أحكاما متعددة مقصودة بالذات مجعولة بالأصالة على حد سواء كان ارادة واحد منها من الخطاب دون غيره ترجيحا بلا مرجح و هو قبيح من الحكيم فلا بد ان يكون المراد من الخطاب هو الحكم الواقعي و ما عداه حكم ظاهري. ان قلت: انها جميعها مرادة من الخطاب و يكون استعماله فيها من قبيل استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد أو من قبيل استعمال اللفظ في الحقيقة و المجاز فمتى ظن المجتهد حكما كان مرادا للّه تعالى من الخطاب في حقه فاذا ظن مجتهد آخر حكما آخرا فهو أيضا في حقه مراد له تعالى من الخطاب و هكذا.

قلنا: ان الاستعمال في أكثر من معنى واحد كما قرر في محله ممنوع، مضافا الى ان المصوبة يلتزمون بأن المراد من الخطاب هو حكم واحد، و لذا الرسول الأعظم لم يفهم منه إلا حكما واحدا، و تعليل بعضهم بأنه لو كان المراد من الخطابات الإلهية أحكاما متعددة عند المصوبة للزم أن لا يتمسكوا بظاهر الكتاب ابدا

لإجماله لعدم ظن المجتهد بحكم من اللفظ لعلمه بأن مراد اللّه تعالى من الخطاب متعدد، فاسد لأن ما انعقد عليه ظهور اللفظ في حد ذاته في نظر المجتهد فهو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 241

حكم اللّه تعالى في حقه إذ لهم أن يلتزموا بأن إرادة الاحكام من الخطاب ليس على سبيل منع الجمع فالأولى التعليل بما ذكرناه من انه بعد ما ثبت ان المصوبة ملتزمون بإرادة حكم واحد من الخطابات المنزلة على الرسول (ص)، فارادة ذلك الحكم فقط منها إذا لم يكن هو الواقعي وحده ترجيح بلا مرجح، و لكن لا يخفى ما فيه فإنه من المصوبة الأشاعرة و ليس عندهم قبح الترجيح بلا مرجح مضافا الى انه يحتمل أن يكون هناك مرجح لإرادة أحدها ككونه أفضل نظير أفضل أفراد الواجب التخييري الذي يراد من الخطاب و يحتمل شي ء آخر و لكنا لم نطلع عليه إذ ليس يلزم على اللّه تعالى أن يطلعنا على المرجح لإرادته.

(الدليل الخامس للمخطئة) [وجوب فحص الخطابات الشرعية على المجتهدين و استنباط مراد الشارع منها]

ان الكل حتى المصوبة متفقون على وجوب الفحص من الخطابات الشرعية على المجتهدين و اتفقوا على استنباط مراد الشارع من أعمال القواعد اللفظية و غيرها في الخطابات الشرعية و هذا كاشف عن انحصار الحكم الشرعي الواقعي في المراد من الخطاب إذ لو كان غيره حكما واقعيا لما وجب الفحص عن المراد من اللفظ فقط إذ كما يحتمل أن يكون الحكم الواقعي هو المراد من الخطاب يحتمل أن يكون الحكم الواقعي للمجتهد غيره فلا معنى لتعين الفحص عندهم عن أحدها و الاعراض عن باقي الأدلة إلا إذا فقد الخطاب و لا يخفى ما فيه فإنه للخصم أن لا يسلم انحصار الفحص بالأدلة اللفظية بل فحصهم يكون عن

مطلق الدليل لفظيا أو لبيا. و لو سلم ذلك فله أن يقول ان الفحص عن الأدلة اللفظية من جهة أنهم يرون عدم حجية غيرها مع وجودها فاذا وجدوها و اختلفوا في المراد منها كان رأي كل منهم في المراد منها موجبا لإنشاء حكم من الشارع على طبقه في الواقع، ففحصهم إنما كان عن المراد من اللفظ لا عن المراد الثابت في الواقع إنشائه.

الدليل السادس للمخطئة ان هو ان لازم التصويب

تعدد مداليل الأدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 242

اللفظية حسب تعدد ظنون المجتهدين، و فيه مضافا الى عدم تماميته في الأدلة اللبية أنه لا يلزم ذلك إذ أنهم متفقون على ارادة واحد منها و الباقي ليس بمراد و إنما ظن المجتهد ارادته أوجب إنشاء الشارع حكما واقعيا على طبقه.

(الدليل السابع للمخطئة) [الإجماع نقلا و تحصيلا على ثبوت التخطئة]

الإجماع المحصل و المنقول نقلا مستفيضا البالغ نقله حد التواتر على ثبوت التخطئة، و قد استدل بهذا عدة من أصحابنا و لكن لا يخفى ما فيه لأن هذا لا يمكن أن يلزم به المصوبة لأن الإجماع إنما هو عند المخطئة

(الدليل الثامن للمخطئة) ظاهر الآيات الثلاثة في سورة المائدة

و هي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و في الثانية هُمُ الْفٰاسِقُونَ و في الثالثة «هُمُ الْكٰافِرُونَ» و وجه الاستدلال بها هو دلالتها على ان الحكم المطلوب للّه تعالى هو ما أنزله و الحكم الذي أنزله هو عبارة عما خاطب به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد عرفت ص 240 ان خطاب اللّه تعالى للرسول يشتمل على تكليف واحد لا متعدد هذا غاية ما يمكن في تقريب الاستدلال بهذه الآيات. و لكن لا يخفى ما فيه فان المراد بما أنزل لو كان خصوص الأحكام التي بلغ اللّه تعالى بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للزم أن يكون كل مجتهد في نظر الآخر حتى عند المخطئة فاسق و ظالم و كافر لأنه بحسب نظره انه خلاف ما أنزل اللّه تعالى مع انه خلاف ما تقتضيه ضرورة المذهب فلا بد أن يكون المراد بما أنزل اللّه تعالى هو الحكم الذي تقتضيه أصول الدين و قواعده و قوانينه التي أمر الشارع باتباعها و انزل على النبي العمل بها لا جميع الاحكام التي بلغ الرسول بها و لا شك ان الاحكام التي أنزلها اللّه تعالى بهذا المعنى متعددة بتعدد آراء المجتهدين، فالمخطئة بنائهم على ان ما عدى الواحد منهم مخطئ و حكمه حكم ظاهري و المصوبة بنائهم على ان الجميع مصيبون و كما هي أحكام ظاهرية

تكون أحكاما واقعية، قال صاحب الفصول (ره): انه تعالى حيث انزل مدارك المجتهد كان حكمه بحسب تلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 243

المدارك حكما بما انزل اللّه تعالى إذ لا يعتبر نزول الحكم من حيث الخصوصية بل يكفي نزوله و لو بعنوان عام و لا يقدح وقوع الخطأ فيها باعتبار الإيصال إلى الواقع كما لا يقدح وقوع الخطأ في الشهادة و نحوها مع انه تعالى قد انزل وجوب الحكم بمقتضاها. و بالجملة أنزل اللّه تعالى أحكاما واقعية و ظاهرية فالحاكم بأحدها حاكم بما انزل اللّه تعالى، سلمنا لكن عموم الآية معارض بما دل على حجية مدارك المجتهد فيجب تخصيص الآيات بما عداها ا ه.

(الدليل التاسع للمخطئة) النص النبوي المشهور

الذي تلقاه الخاصة و العامة بالقبول و هو قوله (ص): إذا اجتهد الحاكم فإن أصاب فله أجران و ان أخطأ فله أجر واحد. فإنه صريح في ان من المجتهدين من يصيب و منهم من يخطئ. و دعوى ان المراد الإصابة للحكم المنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالخطإ هو عدم اصابة الحكم المنزل لا عدم اصابة الواقع فلا يكون هذا الحديث ردا على المصوبة لاعترافهم بأن الحكم المنزل واحد. قد أجابوا عنها بأنه الحكم الغير المنزل لو كان مقصودا بالذات و واقعيا كالحكم المنزل لكانت اصابة كل منهما على حد سواء، فترجيح اصابة المنزل على غيره دليل على انه هو الواقعي دون غيره و إلا لزم الترجيح بلا مرجح، و لكن لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى ما عرفت من ان الأشاعرة القائلين بالتصويب يلتزمون بجواز الترجيح بلا مرجح أنه لعل اختصاصه بزيادة الأجر لأفضليته أو لوجه آخر هو الذي دعى إلى

اختصاصه بالنزول على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره من باقي الاحكام، و الاولي ان يقال:

ان التعبير بالخطإ ظاهر بل نص في ان المجتهدين يخالفوا بآرائهم الواقع و إلا فمجرد المخالفة للحكم المنزل مع المطابقة للواقع لا تصحح نسبة الخطأ للحاكم، و دعوى ان هذا الحديث يطرح لمخالفته لقاعدة العدل لأن المراد بالمخطئ فيه غير المقصر في الاجتهاد و إلا لكان آثما، و عليه فيكون التفاوت بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 244

المصيب و المخطئ بالإصابة و هي ليست باختيارية فإعطاء المصيب اجرين و المخطئ اجرا واحدا مع تساويهما بالأفعال الاختيارية مناف لقاعدة العدل، فاسدة فإن الإصابة لما كانت مقدماتها باختياره كانت واقعة باختياره و لو سلمنا فزيادة الثواب تفضل من اللّه تعالى فله ان يخص بها أحدا دون الآخر كما ورد جملة من الاخبار في ان من سن سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها فان عمل الغير اختياره ليس تحت اختاره مع جعل اللّه الثواب له عليه. نعم يمكن أن يناقش الاستدلال بهذا الخبر بأنه لا يدل على وجود الخطأ للمجتهدين في الأحكام فإنه قد أخذ في موضوعه الحاكم، و الحاكم قد يجتهد في الموضوعات مثل كون هذا ملك لزيد أو ان هذا سارق أو في طلوع الهلال أو الوقف، و قد عرفت ان الاجتهاد في الموضوعات يقع فيه الخطأ بالاتفاق فلعل الخبر ناظر لذلك. إن قلت: ان الخبر مطلق يشمل اجتهاد الحاكم في الموضوعات و الأحكام الشرعية فيدل بإطلاقه على وقوع الخطأ في الأحكام الشرعية من المجتهدين. قلنا: لا وجه لذلك لأن التقسيم إذا وجد أحد أقسامه في بعض أفراد المقسم و القسم

الآخر في البعض الآخر صح التقسيم مع إطلاق المقسم، فاذا قلنا: الحيوان ناطق و غير ناطق، لا يلزم منه أن يكون الصاهل منه أيضا ينقسم الى ناطق و غير ناطق، فهكذا ما نحن فيه إذا قلنا: ان الحاكم أو المجتهد مصيب و مخطئ، فمعناه ان بعض أفراده مصيب و البعض الآخر مخطئ و ليس يلزم منه ان المجتهد في الأحكام يكون على قسمين مخطئ و مصيب، و المجتهد في الموضوعات مخطئ و مصيب، بل المراد ان بعض أفراده مخطئ و البعض الآخر مصيب فمن قال بالإصابة في الأحكام جعل ذلك البعض المصيب هو المجتهد في الأحكام مطلقا، و من قال بالخطإ جعل المصيب هو خصوص ما وافق حكمه الحكم الواقعي المنزل على الرسول الأعظم، فالحديث قابل للانطباق على كلا المذهبين. و ان شئت قلت: هذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 245

نظير قولنا: كل إنسان يجب عليه أن يختن ولده، فان معناه من كان عنده ولد يجب عليه ان يختنه، و ما نحن فيه هكذا فان معنى الخبر ان المجتهد في مورد الإصابة و الخطأ ان أصاب استحق الأجرين و إن أخطأ استحق أجرا واحدا، و المصوبة يقولون ان مورد الإصابة و الخطأ هو الموضوعات فقط، و المخطئة يقولون هو الموضوعات و الاحكام.

(الدليل العاشر للمخطئة) [ما من واقعة إلا و لله فيها حكم]

النصوص الدالة على ان له تعالى في كل واقعة حكما حتى أرش الخدش و لا يبعد تواترها، و قد قرب القوم وجه الدلالة فيها ان قوله (حكما) ان تنوينه للتنكير الدال على الوحدة لا التمكن فيكون المعنى ان كل واقعة فيها حكم واحد. و دعوى أن المصوبة يقولون أيضا بأن كل واقعة فيها حكم واحد و لكن الحكم يتعدد بتعدد

الوقائع بآراء المجتهدين فان الواقعة الواحدة بالنسبة لآراء المجتهدين تتكثر فان شرب الخمر الذي أدى رأي المجتهد الى حرمته واقعة، و الذي أدى رأي المجتهد الى حليته واقعة اخرى، و الذي أدى رأي المجتهد الى كراهته واقعة ثالثة. و إن شئت قلت: ان الواقعة الواحدة تتعدد بتعدد العلم و الجهل و حينئذ فالرواية تنطبق على مذهبهم، فاسدة، لأن الظاهر من تلك النصوص إرادة الواقعة من حيث هي مع قطع النظر من آراء المجتهدين و من العلم و الجهل لا سيما بقرينة التمثيل بأرش الخدش، هذا غاية ما يقرب به هذا الدليل، و لا يخفى ما فيه فان التنوين في (الحكم) هو تنوين التمكن. و تنوين التنكير إنما يدخل على الإعلام المختومة بويه كسيبويه قياسا، و على اسم الفعل و اسم الصوت سماعا. سلمنا انه للتنكير فان التنكير لا يدل على الوحدة فإنه لو قال (في الدار رجل) لا يستلزم ان يكون واحدا بل يجوز ان يكون متعددا سلمنا انه يدل على الواحد فان الظاهر من تلك النصوص انه لا بد في كل الواقعة من الحكم الواحد من باب أقل الموجود و هو لا ينافي تعدد الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 246

في بعض الوقائع و هذا النحو من الاستعمال في لغة العرب أكثر من أن يحصى بل لا يتبادر غيره كما يقال لا بد لكل إنسان من شذوذ ما عدى المعصوم، و فيما نحن فيه المصوبة يقولون بلا بدية الحكم الواحد في الوقائع غاية الأمر تارة يكون منفردا كما في الوقائع التي قام الضرورة و الإجماع على حكمها، و تارة يكون متعددا كما في الوقائع التي اختلفت فيها آراء المجتهدين فتكون هذه

الروايات غير مخالفة لهم لأنهم أيضا ليتزمون بأن له في كل واقعة حكما. نعم تكون هذه النصوص ردا على المصوبة الذين يقولون بأن الواقعة قبل آراء المجتهدين خالية عن الحكم و حكم اللّه تعالى يجعل بعد رأي المجتهد فإنه يلزم عليهم في الوقائع التي لم يفتي بها المجتهدون أو قبل افتائهم فيها أن لا يكون فيها حكم شرعي مع ان تلك الروايات صريحة في وجود الحكم الشرعي.

(الدليل الحادي عشر للمخطئة) [ذم أمير المؤمنين (ع) القضاة في اختلاف الفتيا]

الحديث المنقول عن نهج البلاغة و الاحتجاج من انه روي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه ثمَّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثمَّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا و إلههم واحد و نبيهم واحد و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم فعصوه أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا و عليه ان يرضي أم أنزل اللّه سبحانه دينا تاما فعصى الرسول عن تبليغه و أدائه و اللّه سبحانه يقول (مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ و فيه تبيان كل شي ء) الحديث. و هو صريح في بطلان التصويب حيث و بخ (ع) الامام على تصويبه للقضاة. و لا يخفى ما فيه فإنه يدل على توبيخه المجتهدين لاختلافهم في القضية الواحدة و لا بد من حمله على المجتهدين بالاجتهاد بالرأي و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 247

أو عن غير مستند أو عن تقصير و إلا فالمجتهدون المختلفون بالاجتهاد الصحيح لا يستحقون التوبيخ بل يستحقون الأجر و

الثواب لما تقدم من ان للمخطئ أجرا واحدا، فأمير المؤمنين (ع) يوبخ المصوب لهم من جهة عدم صحة اجتهادهم فان الحكم لا يتعدد بتعدد آرائهم فهذا الحديث لا ينافي قول المصوبة.

(الدليل الثاني عشر للمخطئة) ان صحة التصويب تقتضي فساده

و ما هو كذلك فهو باطل. بيان اللزوم ان من المجتهدين ما ادى اجتهادهم الى فساد التصويب فأما ان يكونوا مصيبين في اجتهادهم فيلزم ان يكون التصويب فاسدا و هو المطلوب، و اما ان يكونوا مخطئين في اجتهادهم فيلزم خطأ المجتهدين في اجتهادهم في هذه المسألة و إذا جاز خطأهم في هذه المسألة فيجوز في باقي المسائل لأن حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد و إن شئت قلت ان التصويب إذا كان صحيحا فاجتهاد المذكورين يكون مصيبا و لازم اصابته للواقع هو فساد التصويب. و قد أجيب عنه (أولا) بأن محل النزاع إنما هو الأحكام الشرعية الفرعية و ما عداها محل اتفاق في وقوع الخطأ فيها و لا ريب ان مسألة التخطئة و التصويب ليست من مسائل الاحكام الفرعية بل من المسائل الأصولية و العقلية و (ثانيا) انه على التصويب رأي كل مجتهد واقع له لا لكل مجتهد فاذا اجتهد بحلية الخمر كانت حلية الخمر واقعا لرأيه فقط دون رأي المجتهد الذي اجتهد بحرمته ففيها نحن فيه القائلون بالتصويب يلتزمون بأن التخطئة متحققة واقعا بالنسبة للقائلين بها فقط و ليست بمتحققة واقعا بالنسبة لهم و قد أورد على هذا الجواب الثاني بأنه لا يتصور ان تكون التخطئة و التصويب واقعا لأحد دون الآخر إذ ليس ذلك من قبيل الاحكام بل من الأمور العقلية الواقعية كقدم العالم و حدوثه فلا يكون قديما بالنسبة لأحد و حادثا بالنسبة لآخر. و (ثالثا) ان للخصم

ان يلتزم بخروج هذه المسألة عن القاعدة لقيام الدليل عنده على ثبوت التخطئة فيها و لا دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 248

قاعدة حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد بعد قيام الدليل عنده على التصويب و خروج هذه المسألة عن ذلك.

(الدليل الثالث عشر للمخطئة) [سيرة الصحابة]

ان الصحابة قد شاع فيما بينهم إطلاق الخطأ في الاجتهاد، فمن ذلك ما روي قول أبو بكر إني افتى في الكلالة برأى فان كان صوابا فمن اللّه و ان يكون خطأ فمني. و من ذلك قول أمير المؤمنين (ع) في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت (اي القت ما في بطنها) فقال له عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان إنما أنت مؤدب لا ترى عليك شيئا فقال أمير المؤمنين (ع) ان كانا قد اجتهدا فقد أخطئا و ان لم يجتهدا فقد غشاك و عليك الدية، و قال عمر لكاتبه اكتب هذا ما أراه فإن يك صوابا فمن اللّه و ان يك خطأ فمن عمر. و قد أجيب عنه ان للخصم ان يقول انما يخطئون في الاجتهاد لمن لا يستكمل شرائط الاجتهاد أو لتقصيره و لا؟؟؟؟ يخطئون من استكمل الشروط و لم يقصر. و قد أوردوا على هذا الجواب ان اجتهاد مثل هؤلاء الجماعة عند المصوبة كامل و لا تقصير فيه. و لا يخفى ان يمكن للمصوبة ان يجيبوا عن أصل الدليل بأن هذا الدليل انما يثبت ان بعض الصحابة مخطئة و لا يثبت انهم متفقون على التخطئة فلعل الباقين على التصويب.

(الدليل الرابع عشر للمخطئة) [استلزام مسلك التصويب الجمع بين المتناقضين و هو محال]

ما ذكره القدماء من ان المجتهدين المختلفين بالرأي ان كانا هما أو أحدهما بلا دليل فواضح يكون أحدهما مخطئا غير مطابق رايه للواقع و ان كانا بدليلين فاما ان يتساويا و اما ان يترجح احد الدليل على الآخر عند أحدهما فإن تساويا كان الحكم هو التوقف أو التخيير و لا وجه لاختلافهما في الرأي و ان ترجح عند كل واحد منهما الدليل فمن ترجح عنده الدليل يعتقد ان الحكم قوما طابق دليله و

ان الآخر مخطئ فيكون رايه مركبا من شيئين من كون الحكم هو ما ادى اليه الدليل الراجح في نظره و خطأ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 249

الدليل الآخر فلو قلنا بالإصابة كان في الواقع ان الحكم هو ما ادى اليه نظره و ان الدليل الآخر خطأ. و المجتهد الآخر يرى بعكسه فيكون رايه أيضا مركبا من أمرين: ان الدليل الذي عنده ليس بخطإ و الحكم هو ما طابقه و ان دليل ذلك المجتهد هو الخطأ فيكون بناء على التصويب كل من الدليلين خطأ و ليس بخطإ في الواقع. و نفس الأمر و هو جمع بين المتناقضين حيث يكون دليل كل منهما خطأ و غير خطأ في متن الواقع، هذا غاية ما أمكنني في توجيه هذا الدليل.

و لكن يمكن الجواب عنه بأن القائل بالتصويب إنما يقول به في الأحكام الشرعية لا في خطإ الدليل و صحته سلمنا لكن لا نسلم ان ترجيح أحد الدليلين عنده مستلزم لخطأ الآخر إذ بناء على التصويب يكون الرجحان موجبا للأخذ به دون المرجوح لا ان المرجوح منه يكون خطأ في الواقع كيفما كان حتى لو أخذ به أحد المجتهدين بتخيل رجحانه و لذا هو لا يخطئ المجتهد الآخر.

(الدليل الخامس عشر للمخطئة) [انتفاء فائدة المناظرة بناء على مسلك التصويب]

ذكره العضدي ان الأمة أجمعوا على شرع المناظرة و لا يتصور لها فائدة إلا تبين الصواب من الخطأ و تصويب الجميع ينفي ذلك.

و أجاب عنه: انا لا نسلم ان ليس له فائدة إلا ذلك فان من فوائده ترجيح أحد الأمارتين على الأخرى في نظرهما ليرجعا إليها أو تساويهما حتى يتساقطا و يرجع لدليل آخر و منها التمرين و حصول ملكة الوقوف على المآخذ ورد الشبه.

(الدليل السادس عشر للمخطئة) [انتفاء غرض المجتهد بناء على منهج التصويب]

أن المجتهد طالب فله مطلوب فاذا لم يكن حكما موجودا فأي شي ء يطلبه، و بعبارة أخرى ان مطلب (أي) بعد مطلب (هل) فما لم يعلم وجود حكم فكيف يطلب تعيينه؟ بل فيما نحن فيه نعتقد بعدم وجود المطلوب قبل الطلب و جوابه ان المطلوب يجب أن يكون معدوما و الا لزم طلب الحاصل و نحن نطلب بأكلها الشبع و هو ليس بموجود، فالمصوبة يطلبون أصل الحكم و المخطئة يطلبون تعيينه و كل منهما لم يكن موجودا قبل الطلب و مطلب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 250

أي انما يكون بعد مطلب هل معناه انه يحرز وجود الماهية في حد ذاتها ثمَّ يطلب تمييزها و هو أجنبي عن المقام الذي يطلب فيه وجود الماهية، و قد تقدم الكلام في ذلك في الدليل الأول للمخطئة.

(الدليل السابع عشر للمخطئة) ان تصويب الكل مستلزم للمحال

في بعض المقامات و ما يستلزم المحال و لو بنحو الموجبة الجزئية يكون محالا و ذلك في الفروع التي تستلزم اجتماع حكمين متضادين في مورد واحد مثل ما إذا كان الزوج مجتهدا و يرى جواز نكاح البكر من دون إذن أبيها و قد عقد عليها بدون إذن أبيها ثمَّ مجتهد آخر يرى بطلان العقد على البكر من دون إذن أبيها فيرى ان عقد ذلك المجتهد باطل فيعقد عليها بإذن أبيها فيلزم بناء على التصويب حل نكاحها واقعا لكلا المجتهدين و هو خلاف ما تقتضيه ضرورة المذهب و نحو ذلك في البيع و نحوه، و أجيب عنه بأن هذا الاشكال وارد على كلا المذهبين فإنه بناء على التخطئة يعلم إجمالا بفساد أحد العقدين، و تحقيق ذلك سيجي ء إنشاء اللّه، و ان العقد الثاني فاسد إن كانت المرأة مقلدة للمجتهد الأول و

الأول فاسد ان كانت مقلدة للثاني و ان كانت المرأة مجتهدة و قلنا بإمضاء المعاملات السابقة فهي حتى لو عدلت عن اجتهادها الأول لا يجوز لها فسخ النكاح منه.

أدلة المصوبة
اشارة

استدل المصوبة على التصويب في الاجتهاد بأدلة:

(الأول منها) ان المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى اليه اجتهاده

و ظنه بالإجماع فلو جوزنا عليه الخطأ ففي صورة الخطأ اما أن يبقي الحكم الواقعي في حقه و حق مقلديه فيلزم التكليف بالواقع و هو محال لعدم تمكنه من تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 251

الواقع و أيضا يلزم اجتماع الضدين في موضوع واحد لثبوت الحكم الواقعي و الظاهري في حقه، و قد تقرر في محله ثبوت التضاد بين الأحكام الشرعية أو لا يبقى الحكم الواقعي عند الخطأ فيلزم أن يكون العمل بالحكم الخطئي واجبا و بالواقعي حراما، و يلزم أيضا لنسخ لزوال الحكم الواقعي عن محله و يلزم أيضا أن تكون مخالفة حكم اللّه تعالى واجبة بالعمل بحكم آخر و يلزم تفويت المصلحة و الإلقاء بالمفسدة. و أجابوا المخطئة و تبعهم صاحب الفصول عن ذلك (أولا) بالنقض بما لو أخطأ في الأحكام الشرعية التي قام الدليل القاطع عليها و لم يقف عليه بعد الفحص و التتبع فإنه يجب على المجتهد مخالفة الواقع مع الاتفاق على انه مخطئ فما يذكرونه في الجواب المصوبة هنا يكون جوابا لهم عن دليلهم المذكور. و لا يخفي ما فيه فان الذي يظهر من كلماتهم من ان المراد بالدليل القاطع هو الدليل الذي يقف عليه كل مجتهد غير مقصر في الفحص لأنه الذي ينقطع به العذر و تتم به الحجة لكل أحد دون مطلق القاطع و لذا نحن فسرناه بالضرورة و فسره آخرون بالإجماع و النص الواضح الجلي فاذا أخطأ فيه المجتهد فاما أن يكون عن تقصير و عليه يكون مكلفا بالواقع فقط دون الظاهر إذ لا تكليف بما أدى اليه رأيه عن تقصير و اما أن يكون الدليل ليس

بقاطع إذ لو كان قاطعا لما اشتبه فيه المجتهد الغير المقصر لما عرفت ان القاطع من يقطع عذر كل أحد في مخالفة الواقع و أجابوا (ثانيا) بالحل و تبعهم على ذلك صاحب الفصول (ره) فقد قال في الجواب الحلي للدليل المذكور ان حسن متابعة الصواب أو قبح مخالفته أو قبح متابعة الخطأ أو حسن مخالفته ليس من لواحق الصواب و الخطأ الذاتية بل تختلف بالوجوه و الاعتبار كالعلم و الجهل فقد يقبح الحسن في حق من اعتقد قبحه و يحسن القبيح في حق من اعتقد حسنه فيصح في المقام أن يحسن العمل بالخطإ عند الجهل بكونه خطأ و يقبح العمل بالصواب عند الجهل بكونه صوابا فيصح الحكم في الأول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 252

بوجوب العمل و في الثاني بحرمته ا ه. و لا يخفى ما فيه فان هذا مبني على ان الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات مع مدخلية العلم و الجهل و يكون العلم و الجهل من الوجوه المغيرة و المبدلة للحسن و القبح، و قد عرفت فساد ذلك ص 236 و ان لازم ذلك هو التصويب. فالتحقيق في الجواب أن يقال ان الحكم الواقعي عند الخطأ باق في حق المجتهد و حق مقلده لا يزول و لا يلزم شي ء من المحاذير المذكورة كما قررناه في مبحث اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي.

(الدليل الثاني للمصوبة) انه لو كان له تعالى في الواقعة حكم معين و لم يتبدل بآراء المجتهدين

لكان المجتهد المخطئ الذي أدى رأيه إلى خلافه فاسقا كافرا ظالما لقوله تعالى (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ)* الآيات الثلاثة. و أجيب (أولا) بالنقض بخطإ المجتهد في صورة قيام الدليل القاطع كما تقدم ص 251 و جوابه كما تقدم هناك، و (ثانيا) بالحل كما ذكرناه ص

242.

(الدليل الثالث للمصوبة) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

فإنه لو كان بعضهم مخطئا في اجتهاده لما حصل الاهتداء به إذ العمل بغير حكم اللّه تعالى ضلال. و أجيب انه بعد تسليم صحة الرواية و ارادة مطلق المجتهدين من الأصحاب إن الاهتداء عبارة عن الأخذ بالوظائف الدينية سواء كانت ظاهرية أو واقعية، و لا ريب ان من جملة تلك الوظائف المقررة الظنون التي هي حجة شرعية كالتقليد للمجتهد العادل فالأخذ بمقتضاها اهتداء لا ضلال

(الدليل الرابع للمصوبة) قوله تعالى لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا

و الحكم الواقعي عند خطأ المجتهد الفاحص لم يكن قد آتاه اللّه تعالى له فليس مكلفا به. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع عن أمتي ما لا يعلمون و الحكم الواقعي ليس بمعلوم فهو مرفوع عنهم. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. لا تكليف إلا بعد البيان. و الحكم الواقعي لا بيان عليه عند فحص المجتهد و عدم اصابته له فهو ليس مكلف به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 253

و الجواب مضافا الى ان أدلة التخطئة تكون مخصصة لهذه الأدلة بالحكم الظاهري، ان الظاهر من هذه الأدلة انها واردة في مقام الامتنان و لا منة في رفع الحكم الواقعي و إنما المنة في رفع الحكم في مرتبة الظاهر.

(الدليل الخامس للمصوبة) [لغوية التكليف على تقدير الخطأ في جعل الحكم الواقعي]

ان التكليف الواقعي أمر جعلي و فعل اختياري فلا يصدر من الحكيم المتعالي إلا إذا ترتبت عليه الفائدة، و فائدة التكليف إنما هي الحث على الفعل أو على الترك أو الاختبار و لا يتصور شي ء من ذلك في جعل الحكم الواقعي على تقدير الخطأ فلا فائدة في الجعل على هذا التقدير.

و جوابه ان فائدته هو تنجزه عند علمه به أو عند العالم به أو الذي قامت الأمارة أو الأصل عنده عليه شأن سائر القوانين المنشأة و هذا كاف في صحة وجود التكليف في الواقع، و ربما يقال انه قد حقق في محله ان المخطئ و الناسي و الساهي لا يمكن توجه الخطاب إليهم برفع التكليف عنهم بالخصوص، و قد حققنا هذا المقال في شرح الرسائل للشيخ الأنصاري (ره).

(الدليل السادس للمصوبة) ان التكليف عند العدلية مشروط بالقدرة على الامتثال

و في صورة الخطأ لا قدرة على امتثال التكليف الواقعي فيكون منفيا لما قرر في محله من انتفاء التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط. و جوابه انا لا نسلم شرطية ذلك و لو سلمناها فإنما هو شرط لمرتبة تنجزه و التكليف الواقعي مرتفع في مرتبة تنجزه عند الخطأ.

(الدليل السابع للمصوبة) ان العلم شرط للتكليف و هو منتفي

، و قد تقرر في محله انتفاء التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط. و جوابه ان العلم شرط لتنجيز التكليف، و نحن لا ننكر ارتفاع التكليف المجهول في مرتبة تنجزه عند الخطأ.

(الدليل الثامن للمصوبة) ما رووه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال:

(ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّٰه حسن) و هو مضافا الى ضعف الرواية ان الحسن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 254

غير الحكم الشرعي، فكون الشي ء إذا رآه العقلاء حسنا و يكون صوره عند اللّٰه حسنا لا يوجب أن يغير حكمه الواقعي، فهذا الحديث من باب (من؟؟؟ ثواب عمل) و (ان الاعمال بالنيات).

ثمرات القول بالتخطئة أو التصويب
اشارة

قد حكي ان الشهيد الثاني (ره) ذكر في تمهيد القواعد-؟؟؟ التخطئة و التصويب ثمرات و تبعه في بعضها البهائي (ره)،

(الثمرة الاولى) ان المجتهد في القبلة إذا ظهر خطأه

هل يجب عليه القضاء أم لا؟ فان قلنا بالإصابة فلا يجب عليه القضاء لأنه أتى بالواقع، و ان قلنا بالتخطئة وجبت الإعادة إلا ان يأتي دليل من الشارع على عدم الإعادة، و قد أورد على هذه الثمرة (أولا) بأنها مبنية على التصويب في الموضوعات و القوم قد اتفقوا على التخطئة فيها و قد عرفت توضيح المقال و تحقيق الحال في الموضع الأول ص 209. و أورد عليها (ثانيا) انه على القول بالتخطئة لا تجب لإعادة أيضا بناء على الاجزاء. و جوابه ان المشهور إنما ذهبوا الى الاجزاء، في مجعولات الشرعية التي هي بدل الواقع دون الإبدال العقلية. و ان شئت قلت ان القول بالاجزاء في العقليات ينافي القول بالتخطئة إذ الحسن و القبح عنده إنما يتعلق بالواقع و هو واحد عندهم. و الحسن مقطوع الانتفاء في المثال المذكور فلا اجزاء (ثالثا) انا نلتزم بالثمرة على القول بعدم الاجزاء و هو كافي.

(الثمرة الثانية) [توقف صحة صلاة المأموم أو بطلانها على التخطئة أو التصويب عند اختلافه مع الإمام في شي ء منها]

ان اختلاف الامام و المأموم في شي ء برى أحدهما لزومه في الصلاة و الآخر يرى وجوبه كقول آمين مثلا و هكذا كل اختلاف للمأموم و الامام اجتهادا أو تقليدا في شي ء اعتبر في الصلاة عند المأموم دون الامام كمن صلي خلف من لا يرى وجوب السورة أو التسليم أو نحو ذات و لم يأتي بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 255

الإمام في حين ان المأموم يرى وجوبها في الصلاة فعلى التصويب تصح صلاة المأموم لأنه صلى خلف من كانت صلاته صحيحة عند ذلك المأموم للقول بالتصويب بخلاف ما إذا قلنا بالتخطئة فيكون قد صلى خلف من صلاته باطلة عنده و مقتضى القاعدة عدم الصحة ما لم يقم دليل على الصحة من

إجماع أو غيره و بهذا التقريب يرتفع ما أشكل على هذه الثمرة. ثمَّ لا يخفى ان هذه المسألة سيالة في كل مورد قائم بين مكلفين يختلفان فيه اجتهادا أو تقليدا أو في أحدهما. في أنه أحدهما يبني على مذهب الآخر أم لا؟ مثل جواز اجارة من يرى الغسل بماء الورد لكنس المسجد و قد اغتسل به لمن يرى خلاف ذلك و جواز التصرف فيما اشتراه بالمعاطاة لمن يرى فساد المعاطاة و جواز أكل ذبيحة من يرى فرى الودج كافي في ذكاتها و قد ذبحها كذلك لمن يرى عدم كفاية ذلك و صحة الاستنابة في العبادة التي يرى النائب فسادها و نحو ذلك من الفروع فإنه على التصويب لا إشكال في الصحة، و اما على التخطئة فمقتضى القاعدة البطلان.

نعم لو جعل المعيار في الصحة هو الصحة في نظر الفاعل و القائم بالعمل لم يبتني ذلك على مسألة التخطئة و التصويب و اما لو جعل على الصحة واقعا أو في نظر الطرف الآخر ابتني ذلك على مسألة التخطئة و التصويب و تحقيق الحال و توضيحه يجي ء ان شاء اللّٰه تعالى منا في تحرير المسألة الخامسة و الخمسين أسأله تعالى بجاه من لذنا بجواره أمير المؤمنين (ع) و الأئمة ان يوقفنا لانجاز هذا الكتاب بأحسن وجه و يعم به النفع.

(الثمرة الثالثة) هو جواز إنفاذ حكم الحاكم المخالف له في الرأي و عدمه

فعلي التصويب يجوز للحاكم إنفاذ حكم الحاكم الآخر و ان خالفه في الرأي لأن الحكم الذي حكم به الحاكم يكون حكم اللّٰه تعالى واقعا، و اما على التخطئة فمقتضى القاعدة ان لا يجوز إنفاذه لأنه ليس بحكم اللّٰه تعالى عنده و بهذا التقريب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 256

يظهر لك فساد ما أورد على هذه

الثمرة من قيام الإجماع على وجوب الإنفاذ إذا لم يعلم فساد حكم الحاكم و اما إذا علم بالفساد لزم عليه الحكم بالخلاف و عدم الإنفاذ و وجه فساد هذا الإيراد إن الكلام في المقام مع قطع النظر عند دليل الإنفاذ و عدمه.

(السادس من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الاجتهاد كفائيا

اشارة

لا إشكال في أصل وجوب الاجتهاد في المسائل الفرعية ضرورة بقاء التكاليف و لزوم الإتيان بها و لا يمكن ذلك إلا بمعرفة أحكام اللّٰه تعالى من الطرق الصحيحة و استنباطها منها و ليس ذلك بأمر سهل التناول لكل وارد لتلاطم أمواج الشبهات حيث ان الاخبار متدافعة و الأقوال متعارضة اختلط السقيم بالصحيح و عند فقدها لا بد من الرجوع الى الأصول العملية و إذا كان كذلك فالجمع و التوفيق و طرح السقيم و معرفة التقية و المراد يحتاج الى بذل الجهد بعد قوة قدسية لاستنباط الحكم من طرقه المعتبرة، و لكن الكلام في وجوبه بنحو العينية أو الكفائية فقد اختلف العلماء في ان الاجتهاد في المسائل الفرعية واجب كفائي أو عيني على أقوال:

(الأول) انه واجب كفائي و يكون قيام من به الكفاية موجبا لسقوط الوجوب عن غيره و هو المشهور بين المسلمين من الخاصة و العامة.

(القول الثاني) و هو المنسوب الى فقهاء حلب و بعض قدماء الأصحاب و ابن زهرة في المحكي عن الغنية انه واجب عيني على كل مكلف من الرجال و النساء الاجتهاد في المسائل الفرعية و لكن لا بالطريق المتعارف بين المجتهدين من بذل تمام الطاقة البشرية في تحصيل الأحكام الشرعية بل اكتفوا بمعرفة الإجماع عند الحاجة الى الوقائع الحاصل من مناقشة العلماء. أو النصوص المقطوعة دلالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 257

و سندا و مع فقد

ذلك فيرجع لأصالة الإباحة في المنافع و لأصالة الحرمة في المضار و قد أورد عليهم القوم بأن ذلك مستلزم للخروج عن الدين لقلة الإجماع و النصوص المقطوعة سندا و دلالة مضافا الى لزوم العسر و الحرج.

القول الثالث و هو المنسوب الى معتزلة بغداد و ذهب اليه بعض الأخباريين انه يجب على الكل الاجتهاد و لكن بالنسبة إلى البعض يجب بالطريق المتعارف بين المجتهدين و بالنسبة إلى الباقين يجب أن يرجع الى المجتهد العادل و المجتهد يذكر له أدلة المسألة فإن فهمها العامي و إلا ترجمها المجتهد بالمرادف من لغته و إذا كانت أدلة المسألة متعارضة ذكر له المتعارضين و نبهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ و العام على الخاص أو نحو ذلك من الجمع الدلالي و مع تعذر الجمع المذكور يذكر هل أخبار باب التعارض و لو احتاج الى معرفة ما يتعلق بالمسألة من كل علم ذكره للعامي فلو كان أحد المتعارضين أرجح من حيث الرواة ذكر له صفات رواه ذلك الخبر فان ترجح الخبر عند العامي و إلا فيذكر المجتهد له الوظيفة عند عدم الترجيح، و قد تقدم الكلام فيه ص 145 في الاختلاف السادس بين الأصوليين و الأخباريين، و أورد عليه بأن العامي إذا كان لا يجوز له التقليد في الفروع فكيف يجوز له التقليد في الأصول في حجية الخبر و التعارض و الأصول اللفظية مضافا الى عدم استعداد أغلب العوام لذلك مضافا الى انه ليس له دليل على حجية هذا الظن لعدم معرفته لعلم الأصول بخلاف المجتهد، و سيجي ء ان شاء اللّٰه في مبحث التقليد ما ينفع في المقام لأن جواز التقليد يستلزم كون وجوب الاجتهاد كفائيا.

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 258

تأسيس الأصل في وجوب الاجتهاد

و لا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحق في مسألة كفائية وجوب الاجتهاد أو عينيته من بيان مقتضى الأصل في كل واجب إذا شك في كون وجوبه كفائيا أو عينيا فنقول: ان الدليل الدال على وجوبه ان كان هو اللفظ يحكم بكون وجوبه عينا لا للأصل العملي بل للأصل اللفظي و هو الظهور لأن الظاهر من اللفظ هو الوجوب العيني و اما إذا كان الدليل على الوجوب هو اللب كالإجماع أو اللفظ المجمل فالأصل العملي يقتضي العينية لأن ما به الاجتماع بين العينية و الكفائية شيئان: (أحدهما) تعلق التكليف بالجميع و (ثانيهما) استحقاق العقاب للجميع لو لم يأت به أحد و يفترقان بشي ء واحد و هو سقوط الكفائي عن بعض بفعل بعض فاذا شك في الواجب كونه كفائيا أو عينيا يكون شكا في سقوط ذمة من لم يأتي به بإتيان ما عداه له و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و لا حاجة لاستصحاب بقاء التكليف في حقهم. و دعوى ان المجانين إذا عقلوا و الصبيان إذا بلغوا و وجدوا ان البعض قد أدى هذا التكليف المشكوك كفائيته فحينئذ يكون شكهم في أصل توجه التكليف إليهم فيستصحب عدمه، مدفوعة انهم بعد بلوغهم و عقلهم قطعا خوطبوا بكلي. هذا التكليف لكن لا يدرون على نحو يسقط بفعل الغير أم لا. هذا كله مع انه في خصوص المقام أعني الاجتهاد أصل آخر يقتضي العينية و هو الشك في حجية التقليد و ان التقليد مبرئ للذمة أم لا، و لا ريب في ان الشك في حجية شي ء يقتضي عدم حجيته.

لكن هذا الأصل لا يثبت وجوب الاجتهاد عينا إلا إذا قام الدليل على انحصار

الطريق بالاجتهاد و التقليد دون الاحتياط و القطع بالأحكام. هذا تمام الكلام بالنسبة الى الأصل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 259

تحقيق الحق في المقام

و اما تحقيق المقام فنقول: ان مقتضى الأصل و ان كان هو الوجوب العيني للاجتهاد لكن الدليل قد قام على وجوب الاجتهاد كفائيا، و هو (أولا) السيرة المفيدة للقطع حيث ان المسلمين خلفا عن سلف لم يلتزموا بالاجتهاد و كانوا عوامهم يقلدون العلماء و لم يردع عن ذلك الأئمة الأطهار. ان قلت: ان عمومات النهي عن العمل بالظن هو الرادع. قلنا: انها لا تكفي في الردع عن ذلك ما لم يكن نص عليه كالقياس لأن شمولها للمقام بالعموم أو الإطلاق و هو أيضا ظن فتكون عمومات النهي تمنع من العمل بنفسها في هذه المسألة.

و (ثانيا) قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فان هذه الآية الشريفة تدل على وجوب الاجتهاد لا على سائر الافراد من كل فرقة بل على بعضها و بقرينة مناسبة الحكم للموضوع يقتضي وجوبه على المقدار الذي به الكفاية.

و (ثالثا) لزوم العسر و الحرج الشديد بل التكليف بما لا يطاق بل اختلال نظام العالم و صعوبة العيش على بني آدم.

و (رابعا) آية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* على ما هو التحقيق ان المراد بها مطلق أهل العلم مضافا الى ما سيجي ء ان شاء اللّٰه من الأدلة على جواز التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 260

(السابع من أحكام الاجتهاد و المجتهد) لزوم وجود المجتهدين بمقدار الكفاية

لا بد أن يوجد من المجتهدين قدر ما تقوم به الكفاية للفتوى و باقي الشؤون و الوظائف التي تخص المجتهد، اما الفتوى فالظاهر كفاية الواحد أو الاثنين و لكن الأمور التي تتوقف على المجتهد كالمرافعة و نحوها بناء على لزوم المجتهد فيها فباعتبار شدة احتياج الناس لها فلا بد

لكل بلد بعيدة عن الأخرى من مجتهد للزوم العسر و الحرج عليهم بالانتقال من بلد الى آخر تبعد عنهم، و على هذا فمع قلة المجتهدين و عدم كفايتهم فلا بد أن يكون القادرون عليه كلهم مقصرين و آثمين

(الثامن من احكام الاجتهاد و المجتهد) فيما يترتب على وجوب الفتوى على المجتهد

اشارة

انه لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد فان جواز التقليد يلزمه جواز الإفتاء لمن يصح تقليده بل يجوز الإفتاء لمن يرى نفسه جامعا للشرائط، للأدلة الأربعة: الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، و لكن الكلام هل يجب ذلك في زمان الغيبة إذ زمان الحضور لا ثمرة لنا في الكلام فيه و قد ذهب جل الفقهاء الى وجوب الإفتاء إذا أمن المجتهد الضرر و لم يخاف على نفسه أو على أحد من المؤمنين فإن خاف على احد منهم لم يجز له التعرض كما هو المحكي عن التحرير و التذكرة و المنتهى و الدروس، و في المسالك ان وجوب الإفتاء كفائيا إذا لم يخف على نفسه أو على احد من المؤمنين و إلا لم يجز التعرض اليه بحال و قد ادعى الاتفاق صاحب المفاتيح على وجوب الفتوى و كونه كفائيا، و يدل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 261

ذلك توقف النوع الإنساني الديني عليه، و لأدلة الأمر بالمعروف و النهي عن عن المنكر. و لقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* الآية، و لقوله تعالى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ الآية و قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية.

[الفروع المترتبة على هذا الحكم الثامن.]

(الأول) لو امتنع الغير عن الإفتاء وجب على الباقين لأن الواجب الكفائي لا يسقط إلا بقيام الغير به (الثاني) لو انحصر الإفتاء بواحد و امتنع و قلنا ان الامتناع كبيرة أو صغيرة قد أصر عليها فسق المجتهد و خرج عن أهلية الفتوى و يكون العامي إذ ذاك بمنزلة الفاقد للمجتهد الحي إلا ان المجتهد مع ذلك لا يسقط عنه الوجوب لأنه قادر على تحصيل الشرط بالتوبة كما ان الصلاة لا تسقط عن

المحدث بامتناعه عن الطهارة (الثالث) انه بمجرد رجوع العامي للمجتهد لا يكون وجوب الإفتاء عينا عليه إلا إذا امتنع الغير من الفتوى به أو كان المقلد العامي لا يرى صلاحية غيره للفتوى فإنه عند ذاك يجب عليه عينا أن يفتي له لأنه هو الحجة عليه دون غيره، ثمَّ انه هل يصدق العامي إذا أخبر عن نفسه بأنه لم ير مجتهدا غير هذا الذي يرجع إليه أم لا؟ الظاهر تصديقه لانسداد باب العلم فيه و لقبول خبر ما لا يعلم إلا من قبله بناء على حجية قوله فلو أخبر عن نفسه بذلك قبل قوله بناء على ذلك و لو ظن بكذبه، (الرابع) إذا كان العامي غير محتاج للتقليد في المسألة كما لو تمكن من العمل بالاحتياط أو كانت المسألة في أمر مستحب أو مكروه فهل يجب على المجتهد إذا رجع إليه العامي أن يفتي له أو يختص وجوب الإفتاء فقط بصورة الإلزاميات ظاهر عبارة القوم هو الوجوب مطلقا و من إطلاق قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* و قوله تعالى:

الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ و في المفاتيح إمكان دلالة ما ذكر على الوجوب و أصالة البراءة عنه و ان احتمال عدم الوجوب قوى للغاية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 262

(الخامس) إذا سأل المقلد ما لا يحتاج اليه كما لو سأل عن الزكاة و هو ليس عنده مال زكوي فهل يجب الجواب و لو كفاية مقتضى إطلاقات تلك الأدلة الوجوب و ان كان ذهب صاحب المفاتيح الى عدم الوجوب و لعل الظاهر هو ذلك لعدم مخاطبة السائل بالحكم المسؤول عنه و عدم تنجزه عليه فغير واجب عليه معرفته، و ظاهر الأدلة

إنما يقتضي وجوب البيان لم يجب عليه المعرفة إلا أن يدعي انصراف الأدلة لغير ذلك، و هكذا الكلام إذا علم ان غرض السائل مجرد الاطلاع على مذهب المجتهد أو نحو ذلك و ليس غرضه العمل بالفتوى و بناء على عدم وجوب الإفتاء فلو شك المجتهد في ان غرض السائل هو العمل بالفتوى أو غير ذلك أو انها محل ابتلائه أم لا فالظاهر الوجوب، إذ الظاهر من السؤال هو كونه للعمل و انه محل ابتلائه و هل يصدق السائل في دعوى الغرض أو لا يصدق الظاهر تصديقه في مثل هذه الأمور لانسداد باب العلم فيها و لقبول قول ما لا يعلم إلا من قبله بناء على حجية قوله.

(السادس) من الفروع انه هل الواجب الإفتاء على المجتهد مطلقا بحيث إذا كانت عنده ملكة الاجتهاد وجب عليه تحصيل جميع مقدمات الفتوى فيكون وجوبه كالصلاة بالنسبة لمقدماتها من الطهارة. بمعنى انه يجب عليه الاجتهاد الفعلي فيما لم يعمل استنباطه فيه من الأحكام أو ان الإفتاء واجب مشروط كالحج بالنسبة للاستطاعة فلا يجب الإفتاء و تحصيل مقدماته فيما لم يستنبط الحكم الشرعي ظاهر الأدلة التي أقيمت على وجوب الإفتاء هو الأول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 263

(التاسع من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب اعلام المجتهد عن نفسه

بصلاحيته للفتوى و المرجعية في التقليد قال استاذنا المرحوم آقا ضياء: ان المجتهد مهما يرى شخصه مرجعا للتقليد بأن رأى انحصار الأمر به لاعتقاده أعلميته من أقرانه بضميمة وجوب تقليد الأعلم أو انحصار الاجتهاد بشخصه فلا اشكال ظاهرا في وجوب إظهار فتواه و ترغيب الناس بتقليده لما دل على وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام الكلية المستفادة من أمثال آية النفر و السؤال و الكتمان، و يومي اليه ظاهر كلماتهم في وجوب

اعلام المجتهد مقلديه إذا رجع عن اجتهاده. و لقد صنف بعض الأعاظم رسالة في وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام الكلية و من صغرياتها مسألتنا و اما مع علمه بعدم انحصار المرجعية في حقه فلا يجب لعدم مساعدة أدلة وجوب الإرشاد لمثل هذه الصورة و فتواه لا تتعين حجيتها في حق غيره إلا في ظرف اختيار المقلد له و ليس عليه تحصيل هذا الشرط كي تكون فتواه حجة في حق غيره لينتهي الى وجوب إرشاد الجاهل، و اما إذا شك في وجود جامع للشرائط غيره أو رأى اعتماد الناس على بعض و شك في صلاحيته فالأقرب عدم وجوب الاعلام لعدم إحراز شرط وجوب الاعلام و إذا صلح للإفتاء جماعة فهل يجب على الجميع الاعلام عن أنفسهم أو يكفي اعلام بعضهم عن نفسه الظاهر هو الأخير ان حصل ما به الكفاية و إلا وجب الاعلام بمقدارها و هل يستحب للجميع الإعلام أو لا، ذهب الى الاستحباب صاحب المفاتيح.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 264

(العاشر من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب تجديد النظر على المجتهد

اختلف الأصوليون في وجوب تجديد النظر على المجتهد عند تجدد الواقعة التي اجتهد في حكمها سابقا إذا احتمل أنه يتبدل رأيه فيها إذا جدد نظره اما مع عدم هذا الاحتمال و القطع بعدم تبدل رأيه فلا معنى لأن يجدد نظره لأنه يكون أمرا عبثا عنده و القطع حجة عليه، و في المسألة أقوال:

(أحدها) انه يجب عليه تجديد النظر في المسألة فإن وافق ما اختاره في السابق فهو و إلا يجب ان يعمل بما اجتهد به ثانيا سواء كان ذاكرا لدليل المسألة أم ناسيا و سواء زادت قوته الاستنباطية أم نقصت عن قوته السابقة أم ساوتها، و ينسب هذا القول للشهرستاني.

(ثانيها) انه

لا يجب التجديد مطلقا ما لم يتغير رأيه بل يكفيه الاجتهاد الأول في الوقائع المتجددة من غير حاجة الى اجتهاد آخر و يفتي على طبق اجتهاده الأول و ان نسي الدليل و زادت قوته و هذا القول هو المنسوب لمشهور الأصوليين من أصحابنا و العامة.

(ثالثها) التفصيل بين ما إذا كان ذاكرا لدليل المسألة فلا يجب عليه تجديد النظر و بين ما إذا لم يكن ذاكرا لدليل المسألة فيجب عليه تجديد النظر و هو المحكي عن المحقق و السيد العميدي و الرازي و الآمدي و النووي و قال العلامة في قواعده انه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهية.

(رابعها) التفصيل بين ما إذا زادت قوته الاستنباطية فيجب تجديد النظر و بين عدمها فلا يجب التجديد، و قد حكي نفي البعد عنه عن الزبدة و ميل الفاضل الجواد له في شرحها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 265

(خامسها) التفصيل بين ما إذا علم بفساد الدليل أو تردد في صحة الدليل تفصيلا بأن التفت الى دليل الاجتهاد و تردد في صحته تفصيلا لا انه نسي الدليل و تردد في صحته و بين صورة ما إذا لم يتردد في الدليل تفصيلا ففي الأول يجب الاجتهاد ثانيا، و في الثانية لا يجب و هو مذهب صاحب الضوابط.

و التحقيق ان المجتهد إذا لم يعتقد بطلان دليله الأول فلا يجب عليه تجديد النظر سواء تردد في صحة الدليل تفصيلا بأن التفت الى الدليل تفصيلا و تردد في صحته أو إجمالا بأن نسي الدليل و تردد في صحته و حجيته و سواء احتمل بتجديد نظره يتجدد له الرأي أم لا و سواء نسي الدليل أو كان ذاكرا له و سواء زادت قوته أم

لم تزدد، و ذلك لأن الاجتهاد ليس إلا رجوع للأدلة مع ضم بعض الأصول كأصالة عدم المعارض و المخصص مع الفحص المعتبر فيها و هذه الأدلة مع تلك الأصول و الفحص المذكور حجة على الحكم للواقعة في الزمان الأول و غيره من الأزمنة لأن أدلة حجيتها كمالها عموم أفرادي له إطلاق زماني فإن ما دل على حجية الخبر كما يدل على حجية خبر زرارة و يونس و غيرهم كذلك يدل على حجية خبر زرارة في كل زمان و آن فلا بد في رفع اليد عنها من رافع و ليس لنا رافع عنها، إلا احتمال الاطلاع على ما لم يطلع عليه سابقا، و هذا الاحتمال ملغى لقيام الدليل على عدم اعتباره لأن أصالة عدم المعارض و عدم المخصص و عدم المقيد مع الفحص بالمقدار المعتد به تدل على إلغائه و هي حجة على نفيه. نعم لو علم بفساد دليله الأول سقط دليله عن الحجية فلا يجوز ان يعتمد عليه، و من هنا لو ظفر بما يصلح للمعارضة و نحو ذلك كالتخصيص سقطت أصالة عدم المعارض أو المخصص عن الحجية ففسد اجتهاده الأول و وجب عليه تجديد النظر في خصوص هذه الناحية اعني ناحية ما ظفر به، مضافا الى استصحاب الحكم الفرعي الثابت في الواقعة الاولى و استصحاب الحكم التكليفي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 266

في المسألة الأصولية و هو بقاء جواز العمل بما أدى اليه اجتهاده و استصحاب الحكم الوضعي أعني صحة العمل بالاجتهاد السابق بناء على صحة الاستصحاب في الأحكام الوضعية و استصحاب عدم وجوب تجديد النظر فان هذه الاستصحابات تقتضي الحكم بعدم لزوم تجديد النظر، و اما استصحاب صحة الاجتهاد أو

حجيته فهو فاسد لأنه يكون الشك في الاجتهاد شك سار فلا يبقى يقين سابق بصحة الاجتهاد، و هكذا ربما يقال في صحة العمل إلا اللهم إذا كان شكه من جهة طرو ما يحتمل معه فساد اجتهاده فيصح الاستصحاب. و قد يناقش في الاستصحاب أولا، ان هذا لا يتم فيمن كان اجتهاده لا يجوز له العمل به كالكافر إذا كان مجتهدا ثمَّ استبصر فإنه في زمان كفره لم يصح له العمل باجتهاده و كان حراما فيستصحب عدم جواز العمل و لازمه وجوب تجديد النظر، و جوابه انه لا دليل على حرمة عمل الكافر باجتهاده لو كان جامعا لشروط الصحة بل يجب عليه العمل به و لو سلمنا صحة الاستصحاب فنخرج هذه الصورة من حكم المقام، و قد يناقش فيه ثانيا ان عند ظهور فساد المدرك يجرى استصحاب الحكم الفرعي لأنه لم يقطع بعدمه و انما قطع بفساد مدركه مع انه لا يجوز البناء عليه كما اعترفتم به، و جوابه عند ظهور فساد المدرك لم يبق يقين سابق بالحكم و انما يحتمل وجوده إذ اليقين السابق كان بواسطة مدركه و قد زال فلم يبق يقين سابقا به و لهذا نحن لم نجوز استصحابه في هذه الصورة، و قد نوقش في الاستصحاب.

ثالثا: بأن مقتضى العمومات الناهية عن العمل بالظن هو المنع مطلقا خرج منه الظن الحاصل بالاجتهاد الأول في الواقعة الأولى قطعا و بقي الباقي داخلا تحت عموم المنع و منه الظن الحاصل بالاجتهاد الأول بالنسبة للواقعة الثانية و لم يعلم خروجه من تحت عمومات المنع من الظن و الاستصحاب لا يعارض العموم و جوابه أن أدلة حجية الاستصحاب تكون مخصصة لأدلة عموم المنع من الظن

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 267

و هي مقدمة عليها فلا تشمل المقام لما قد تقرر في محله ان حكم الخاص يستصحب و يقدم على عموم العام فان العالم إذا خرج فرد منه و لو في زمان يجري الاستصحاب في ذلك الفرد في باقي الأزمنة اللاحقة بل يمكن ان يقال لا يصح التمسك بالعموم في تلك الأزمنة اللاحقة إذ دخوله تحت العام مرة ثانية خلاف الأصل ففيما نحن فيه حيث فرض حجية ظن المجتهد في الواقعة في الزمن الأول كان ذلك موجبا لخروج الظن فيها عن العمومات الناهية في الواقعة فيجري الاستصحاب بدون معارضة للعمومات لعدم شمولها له بالنسبة لباقي الأزمنة اللاحقة إذ دخوله مرة ثانية تحتها تنفيه أصالة عدم الدخول. و قد ذكرنا في محله ما هو الحق من ان الفرد من العام باعتبار حالاته و أزمنة وجوده يكون فردا واحدا أو إفرادا متعددة باعتبار حالاته و أزمنة وجوده و احتجوا للقول الأول و هو وجوب تجديد النظر: بأن احتمال تجدد الرأي بتجدد النظر يوجب زوال الظن الاجتهادي في الواقعة في الزمان الثاني فيجب أن يجدد النظر ثانيا لدفع هذا الاحتمال و أجيب (أولا) بالنقض بقيام هذا الاحتمال في الواقعة في الزمان الأول فلو كان هذا الاحتمال مؤثرا لوجب تجديد النظر بالنسبة للزمان الأول الى أن يحصل القطع و هو خلاف الضرورة و إجماع العلماء. (و ثانيا) بالمنع من زوال الظن و الحجية بذلك الاحتمال.

(حجة القول الثالث) عموم أدلة النهي عن العمل بالظن لغير صورة تذكر الدليل مع انه إذا لم يذكر الدليل ليكون حكمه في المسألة بلا دليل و هو باطل، و أجيب عنها بما مر من كفاية إحراز حجية ظن اجتهاده في

الواقعة في الزمن الأول و ان الحكم في الواقعة في الأزمنة اللاحقة مستند اليه أو الى الاستصحاب و هما نعم الدليل.

(حجة القول الرابع) ان مزيد القوة قاضي بقوة احتمال اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولا فليبقى له الظن بصحة ما حكم به أولا مع ان صاحب القوة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 268

القوية أقرب اصابة للواقع من غيره فيكون ظنه الثاني هو الحجة في حقه دون الأول فلو قدم الأول كان كما يقدم المفضول على الفاضل. و جوابه ان زيادة القوة ليست بموجبه لخروج الاجتهاد في الزمن الأول عن الحجية، و قد عرفت ان حجيته في الزمان الأول تقتضي حجيته في باقي الأزمنة للاستصحاب و للأدلة الاجتهاد الأول.

(حجة القول الخامس) هو الإجماع و الشهرة العظيمة على لزوم تجديد النظر مع الالتفات الى الدليل و العلم بفساده أو التردد فيه. و جوابها انه مسلم مع العلم بالفساد و لكن مع التردد غير مسلم. مع ما عرفت من الخلاف ثمَّ أي فرق بين صورة نسيان الدليل و التردد فيه و بين الالتفات اليه و التردد فيه فان التردد لو كان مانعا لكان مانعا في الجميع لا في بعض دون بعض.

(الحادي عشر من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب تجديد النظر في الاجتهاد في الموضوعات

ما تقدم كان لبيان حال الاجتهاد في الحكم الشرعي، و اما الاجتهاد في الموضوعات كما لو اجتهد في طلب القبلة للصلاة أو طلب الماء للتيمم أو تزكية الشاهد بالشهود فهل يجب عليه ان يجدد نظره و يجتهد مرة ثانية إذا ابتلى بالواقعة مرة أخرى كأن في الأمثلة المتقدمة وجبت عليه الصلاة في ذلك المكان مرة ثانية أو احتاج للطهارة مرة ثانية أو استمع للشاهد مرة ثانية. و الحق انه لا يحتاج الى الاجتهاد

مرة ثانية لما قدمناه من الأدلة على عدم وجوب تجديد الاجتهاد في الاحكام إلا اللهم إذا قام دليل خاص على لزوم تجديد الاجتهاد في المورد فلا بد من ملاحظة الأدلة في موارد الموضوعات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 269

(الثاني عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) جواز تجديد النظر للمجتهد

انه قد علمت ان وظيفة المجتهد عند عدم علمه بفساد اجتهاده هو العمل على طبقه و لو تردد في صحته و لكن له أن يجدد نظره لا انه واجب عليه إذ لا دليل على حرمة تجديد النظر للمجتهد فأصالة الحل تقتضي ذلك.

(الثالث عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وظيفة المجتهد عند العلم بفساد اجتهاده

وظيفة المجتهد عند علمه بفساد اجتهاده هو تجديد النظر و يعمل بما أدى اليه نظره مرة ثانية سواء كان بواسطة الأمارة أو بواسطة الأصل العملي ان كان له قوة على التجديد و إلا احتاط أو قلد في المسألة هذا في سعة الوقت و أما ان كان الوقت ضيقا و لا يسعه تجديد النظر فهو مخير أيضا بين الاحتياط و التقليد اما الاحتياط فواضح لحصول العلم بالفراغ اليقيني به، و أما جواز التقليد فلأنه جاهل غير متمكن في حال الحاجة الى العمل من الاجتهاد فتجري أدلة رجوع الجاهل الى العالم في حقه إلا إذا قلنا بأن القدرة على الاستنباط مانعة من التقليد و حينئذ يتعين عليه الاحتياط، و أما تفرقة بعضهم بين صورة ما إذا كان مجتهدا قبل هذا الاجتهاد الذي أعتقد بفساده و بين صورة ما إذا لم يكن مجتهدا إلا بهذا الاجتهاد الذي علم بفساده ففي الصورة الأولى يعمل باجتهاده الأول و في الثانية يرجع للاحتياط أو التقليد. ففاسدة لأن الاجتهاد الأول قد بطل بالاجتهاد الثاني فكيف يرجع اليه إلا إذا كان مطابقا للاحتياط و يكون الرجوع اليه من باب الاحتياط و كيف كان فهو لا يجوز له أن يعمل باجتهاده الأول لفساده في نظره.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 270

(الرابع عشر و من أحكام المجتهد و الاجتهاد) يجب على المجتهد اعلام مقلديه (عند تبدل رأيه)

يجب على المجتهد إذا تبدل رأيه اعلام مقلديه بل إذا أخطأ في بيان فتواه يجب الاعلام بل كل شخص إذا نقل الفتوى ثمَّ ظهر له الخطأ و ان الفتوى ليست كذلك وجب عليه اعلام من تعلم منه بمقدار الإمكان إذ الاعلام زائد على قدر الإمكان لا يعقل وجوبه بل بمقدار لا يلزم منه العسر و الحرج المنفيان في الشريعة كما انه

لا ريب انه يجب الاعلام إذا رجع المقلد للمجتهد أو استفسر عن رأيه و فتواه لوجوب إظهار المجتهد رأيه عند الاستفسار عنه ما لم تكن تقية بالإجماع و لآية الكتمان (و الحاصل) ان محل الكلام في وجوب الاعلام مع عدم الاستفسار و عدم لزوم الحرج و قد اختلف القوم في ذلك فبعضهم ذهب الى وجوبه مطلقا كما هو المحكي عن كتب العلامة و ذهب بعضهم الى عدم وجوبه و هو المحكي عن ظاهر المحقق و العميدي و اليه ذهب المحقق القمي (ره) و فصل بعضهم كالسيد كاظم (ره) في العروة بين ما إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فلا يجب الاعلام و بين ما إذا كانت مخالفة للاحتياط فالأحوط عنده بل الأقوى الاعلام و وافقه على هذا التفصيل الكثير من المعلقين على العروة. احتجوا للقول بوجوب الاعلام بوجوه.

(أحدها) ان المقلد انما عمل في المسألة برأي المجتهد و المفروض رجوعه عنه فلو استمر لبقي عاملا بالحكم من غير دليل و لا فتوى، و أجيب عنه كما في حاشية المعالم للشيخ محمد تقي بأن المفروض كونه أخذ الحكم من فتوى المجتهد بانيا على الاستمرار اما للاستصحاب أو لفتوى المجتهد بالاستمرار أو الحكم عقله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 271

بالاستمرار. و عليه فلا يكون أخذه بالحكم خاليا عن مستنده و لذا يحكم بصحة أعماله انتهى و لو سلمنا انه عامل من دون دليل و لا فتوى فما الدليل على وجوب إعلامه إذا كان معذورا في عمله غير معاقب عليه من اللّه تعالى و لذا لا يجب على المجتهد الذي يعلم بخطإ المجتهد الآخر و فساد دليله ان يعلمه مع انه في نظره عامل بالحكم من

غير دليل لكنه لما كان معذورا و غير معاقب لم يجب على المجتهد اعلامه بذلك.

(ثاني ما استدل به): ان إيقاع المقلد فيما يخالف الواقع علما أو ظنا انما كان من جهة المجتهد بواسطة فتواه السابقة فلا بد من تنبيهه و إرجاعه عن ذلك لأنه بتركه التنبيه يكون قد سبب وقوعه في خلاف الواقع في الأحكام الشرعية و هو لا إشكال في حرمته واقعا، و بعبارة اخرى ان التسبيب لما كان محرما واقعا و لكن حين صدوره كان معذورا للجهل فبعد المعرفة يجب الاعلام لرفع استمرار هذا التسبيب نظير من أظهر خلاف الواقع تقية فإنه بعد التقية يجب عليه إظهار الواقع لأن الاستمرار يكون مستندا اليه و هو محرم عليه و انما يتحقق تركه بإعلامه لمقلديه (و دعوى) ان حكم المقلد حكم ظاهري تكليفي الى ان يعلم عدول المجتهد عنه فلا يكون مجرد عدول المجتهد موجبا لرجوع المقلد و لا سببا لإيقاعه في خلاف الواقع في حقه لأنه يكون ذلك الحكم الظاهري هو حكمه التكليفي الثابت في حقه الى وقت العلم بالعدول و هو حتى الآن لم يعلم بالعدول (فاسدة) فإن المطلوب بحسب الواقع هو أمر واحد و الطريق اليه فتوى المجتهد فيكون مؤدى دليل المجتهد حكما ظاهريا في حقه و حق مقلديه، و أما بعد عدوله فلم يكن حكما ظاهريا في حقهما لعدم الدليل عليه لان الدليل عليه كان رأي المجتهد و قد زال هذا الرأي عنه فمن حين عدول المجتهد يصبح الحكم ليس حكما ظاهريا للمقلد فعدم اعلامه يوجب وقوعه في خلاف الواقع في حقه سلمنا انه حكم ظاهري في حق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 272

المقلد لكن الحكم الظاهري لما

كان خلاف الواقع في نظر المجتهد فقد كان المجتهد هو الموقع له في خلاف الواقع فالمقلد و ان كان معذورا لكن المجتهد غير معذور فيه و دعوى ان التسبيب للإيقاع بخلاف الواقع في الأحكام الشرعية و ان كان حراما واقعا إلا انه في المقام لم يستند استمرار التسبيب للمجتهد.

بل انما استند الى استصحاب المقلد للفتوى السابقة لا الى قوله فعلا بالاستمرار و إذا لم يستند إليه فأي دليل على وجوب رفعه بالإعلام. فاسدة لأن استصحاب الفتوى السابقة و الرأي السابق يكون الاستناد فيه الى الفتوى و الرأي المستصحب و هو رأي المجتهد فاستمرار الوقوع في خلاف الواقع يكون مستندا له فهو محرم عليه و لا يمكن ترك هذا المحرم إلا بإعلامه لمقلديه. و دعوى عدم تسليم حرمة التسبيب الى الحرام و عليه فلا يكون تسبيب الفتوى للوقوع في خلاف الواقع استمرارا حراما. فاسدة فإنه لا إشكال في الأحكام الشرعية يكون حراما و ان قلنا بعدم حرمته في باقي المحرمات لاهتمام الشارع بالأحكام الشرعية و عدم رضائه باندراسها و عدم جواز تغيرها و تبديلها. و عليه فلا فرق في ذلك بين أن تكون الفتوى السابقة موافقة للاحتياط أم لا، سواء كانت تختلف مع الثانية في الأحكام الغير الإلزامية كالإباحة و الاستحباب و الكراهة أو تختلف الثانية مع الاولى في الأحكام الإلزامية بأن كانت الثانية إلزامية كالوجوب و الحرمة فإنه في الجميع يكون الاستمرار في الاعتقاد بخلاف الواقع في الأحكام الشرعية مستندا لفتوى المجتهد فمع انكشاف الخلاف يكون المجتهد غير معذور في اعتقاد مقلده خلاف الواقع لاستناده لقوله. نعم اعلام ذلك لغير مقلديه غير واجب عليه لعدم استناد اعتقادهم بخلاف الواقع الى فتواه فحاصل هذا الدليل مبني

على حرمة الإيقاع في خلاف الواقع في الأحكام الشرعية و لو بنحو الاستمرار و ان هذه الحرمة ترتفع بالإعلام لأنه مع الاعلام يزول استمرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 273

الإيقاع في خلاف الواقع.

(ثالث ما استدل به لوجوب الاعلام) ان الإبقاء على الخطأ كإيقاعه في القبح، و فيه ان لا دليل على ذلك خصوصا و ان الباقي على الخطأ كان معذورا شرعا إلا أن يرجع لما ذكرناه.

(رابع ما استدل به على وجوب الاعلام) قوله تعالى وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ في آية النفر. و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ. و ان ترك إعلامهم إغراء لهم بالجهل. و فيه انه لو تمَّ ذلك فهي لا تخص المجتهد مع انه لا يلتزم به المستدل و التحقيق انها ظاهرة في لزوم إرشاد الجاهل الغير المعذور و اما المعذور فالأدلة قامت على عدم وجوب إرشاده و لذا لا يجب إرشاد المجتهد للمجتهد الآخر و المجتهد للمقلدين للآخر.

(خامس ما استدل به على ذلك) ان العقل يستقل بقبح تفويت المصالح الواقعية على الغير أو إيقاعه في مفاسدها و هو من افراد الظلم القبيح، و جوابه ان ذلك انما يستقل بقبحه مع التعمد اما مع حسن النية فلا يكون ظلما إلا إذا قلنا بأن بقائه على ذلك يستند اليه و هو من افراد الظلم القبيح فيجب عليه رفع بقائه بإعلامه كما تقدم في الوجه الثاني.

(سادس ما استدل به على ذلك) وجوب تبليغ الاحكام و وجوب إرشاد الجاهل و انه يجب على الحاضر اعلام الغائب كما في رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ان اللّه أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، و

فيه انه انما يجب إذا لم يكن عنده دليل يعذر به و إلا لوجب على كل مجتهد ان يرشد من خالفه بالفتوى و ما نحن فيه المقلد عنده دليل يعذر فيه.

(سابع ما استدل به على ذلك) ان النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف يقتضي اعلام المجتهد مقلده لأنه يعمل منكرا فيجب ردعه، و تنبيهه على الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 274

الثانية لأنه معروف. و فيه انه ليس المقلد. بعامل للمنكر ما دام لم يعلم بتبدل رأي المجتهد لأنه يعمل عن دليل يعذر فيه و هو الاستصحاب فهو عامل بالمعروف.

(ثامن ما استدل به) قوله تعالى وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ و سكوت المجتهد اعانة على مخالفة المقلد للواقع و هي اثم. و فيه ان المقلد الجاهل بالرجوع لا اثم عليه في مخالفة الواقع لأنه معذور فلا يكون سكوت المجتهد اعانة على الإثم.

(تاسع ما استدل به) ما دل على ان من أفتى الناس بغير علم لحقه وزر من عمل بفتواه و هذا المجتهد قد أفتى الناس بغير علم فإنه تخيل انه علم و لكن ظهر له انه جهل. و فيه انه ظاهر في صورة تعمد ذلك إلا أن يرجع الاستدلال به الى الوجه الثاني المتقدم. و اما ما استدل به للقول بعدم وجوب الإعلام فأمور.

(أحدها) أصل البراءة و فيه انه بعد قيام الدليل على وجوب الاعلام.

لا مجال لجريانه.

(ثانيها) السيرة على ترك الاعلام و فيه عدم ثبوتها.

(ثالثها) العسر و الحرج. و فيه ما عرفته من أن وجوب الاعلام انما هو بنحو لا يلزم منه العسر و الحرج. ثمَّ لا يخفي ان ما ذكرناه كله بالنسبة الى غير ما علم من الشارع انه لا يريد

وقوعه في الخارج نظير هتك الاعراض و تلف الأنفس و بعض مراتب الأموال فإنه في مثل ذلك يجب على كل أحد تسبيب عدم وقوعه في الخارج. كما انه لا يخفى ان القول بعدم وجوب الاعلام لا ينافي الحكم بضمان الخاطي في النقل ان كان متعلقه من الأموال أو غيرها مما يستعقب ضمانا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 275

(الخامس عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الاعلام عند تبدل الرأي في الموضوعات الخارجية

اشارة

إذا تبدل رأي المجتهد في الموضوعات الخارجية كما لو قال ان القبلة من هنا ثمَّ ظهر له انها من جهة أخرى أو قال ان هذا المائع خلا فتبدل رأيه إلى انه خمر بل هذا جار حتى في غير المجتهد فهل يجب الإعلام أم لا الظاهر انه يجب الإعلام لأنه إغراء بالجهل و هو قبيح نعم لا يجب الاعلام ابتداء كما لو رأى في ثوبه نجاسة لكن لو أخبره بأن في الثوب ليس نجاسة ثمَّ تبدل رأيه كان يجب عليه الإعلام لأنه أغراه بالجهل الذي هو من أفراد الظلم القبيح عقلا من دون فرق بين الموضوعات الواقعية كالخمر و نحوه أو العلمية كعدالة المجتهد و القبلة

و يلحق بهذين الحكمين التنبيه على أمور.
وظيفة المقلد عند العلم برجوع المجتهد عن رأيه

(أحدها) انه لا يخفى ان وظيفة المقلد مع عدم اطلاعه على رجوع المجتهد عن رأيه هو البقاء و عدم جواز الرجوع عنه للاستصحاب و السيرة و اما إذا اطلع على رجوع المجتهد عن فتواه السابقة الذي قلده فيها فيحرم عليه العمل بها و وجب الرجوع عنها من غير فرق بين رجوع المجتهد من الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 276

القطعي الى الظني أو بالعكس أو عن كل دليل الى مثله أو عن الدليل الدال على الحكم الواقعي إلى الدال على الحكم الظاهري أو بالعكس أو الى مثله ففي جميع هذه الصور يجب على المقلد العدول عن فتوى المجتهد إذا اطلع على عدول المجتهد عنها و يتخير بين تقليده في فتواه الثانية و بين الرجوع الى غيره ممن يصح الرجوع اليه فهنا دعويان.

(إحداهما) عدم جواز العمل للمقلد بالفتوى السابقة و قد نقل عليها الإجماع غير واحد. مضافا لبناء العقلاء فإن بنائهم فيما يقلدون الغير فيه العدول عند

عدول المجتهد عن رأيه فيه. مضافا الى أن مع عدول المجتهد لم يصبح الرأي الذي عدل عنه رأيا له حتى يقلده فيه فعلا لانكشاف خطأه لديه فيكون الرجوع إليه في رأيه السابق ليس برجوع له في رأيه. و أدلة جواز التقليد انما تثبت جواز الرجوع للمجتهد في رأيه فظهر بهذا عدم جواز الرجوع لرأيه السابق سواء تبدل برأى آخر عنده أو توقف و تردد فيه فإنه لا يجوز للعامي الرجوع إليه في رأيه السابق لأنه ليس برأى له لانكشاف خطأه عنده بحسب الدليل و ان لم ينكشف خطأه واقعا، ان قلت: ان مقتضي الاستصحاب لزوم بقاء المقلد على الرأي السابق و عدم جواز العدول عنه، قلنا: لا مجال للاستصحاب للأدلة التي أقمناها على وجوب الرجوع مضافا الى إمكان القول بعدم اليقين السابق و ان يقينه السابق قد زال لفساد الدليل فيكون من الشك الساري.

(ثاني الدعويين) ان للعامي المقلد التخيير في الرجوع لمجتهده في فتواه الثانية و رأيه الثاني أو الرجوع لغيره حتى لو كان موافقا لفتوى مجتهده الأولى إذ لا دليل على وجوب تقليده في رأيه الثاني فالأصل البراءة منه، و أدلة حرمة العدول الى الغير انما تدل على حرمة العدول في غير صورة تبدل رأى المجتهد،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 277

و ان شئت قلت: ان المقلد قبل تقليده كان مخيرا بين الرجوع لهذا المجتهد و لغيره و بعد فساد تقليده له صار تقليده له في رأيه الثاني تقليدا له ابتدائيا و هو في التقليد الابتدائي مخير بينه و بين غيره قطعا. و أما ما استدل به بعضهم من استصحاب التخير بينه و بين غيره باعتبار أن قبل تقليده كان مخيرا فيستصحب

فهو باطل لانتقاض الحالة السابقة بحرمة تقليد غيره عند ما قلده في رأيه الأول، و قد استدلوا على وجوب الرجوع للمجتهد في رأيه الثاني (أولا) أن تقليد مجتهده في رأيه الثاني هو القدر المتيقن لأن الأمر يدور بين التعيين و التخيير إذ من قال بالتخيير فهو يقول بصحة تقليد مجتهده في رأيه الثاني و من قال بالتعيين فإنما يقول بوجوب الرجوع لمجتهده في رأيه الثاني. و فيه ان هذا حكم المقلد إذا كان ليس عنده طريق لمعرفة الصحيح من القولين من وجوب تقليد المجتهد الأول و من التخير بينه و بين الثاني و له أن يقلد شخصا يصح أن يرجع إليه في نفس هذه المسألة أعني مسألة تعيين البقاء على تقليد الأول أو التخيير أما حكم المسألة في حد ذاتها فهو ما ذكرناه للأدلة التي أقمناها على صحة القول بالتخير هذا مضافا لما في هذا الأصل من المناقشة التي ستجي ء ان شاء اللّه في الاستدلال به على تقليد الأعلم و تقليد الحي فراجعها فان فيها كثير الفائدة.

(ثانيا) ان اختيار المقلد قول هذا المجتهد قد أحدث أمرين و أوجب تكليفين أحدهما وجوب العمل بمقتضى هذا القول و الثاني حرمة تقليد الغير:

و رجوع هذا المجتهد عن هذا القول أوجب رفع التكليف الأول و هو وجوب العمل بذلك القول لما تقدم من الإجماع و غيره و أما رافعيته للتكليف الثاني و هو حرمة تقليد الغير فغير معلوم فيستصحب حرمة تقليده للغير. و جوابه ان حرمة تقليد الغير انما كان موضوعها تقليد هذا المجتهد في رأيه الأول و فتواه الاولى و قد ارتفع موضوعها فترتفع هي أيضا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 278

وظيفة المقلد إذا علم برجوع مجتهده عن احدى فتاويه بنحو الاجمال

(ثانيها) ان ما تقدم

صورة ما إذا علم المقلد برجوع مجتهده عن فتوى معلومة له بالتفصيل كأن يعلم برجوعه عن طهارة الغسالة مثلا و اما صورة ما إذا علم المقلد إجمالا برجوع مجتهده عن بعض فتاويه التي قلده فيها فيجب البقاء على جميع ما قلده إذا كانت الشبهة غير محصورة أو كانت من اشتباه القليل في محصور كثير بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في ذلك و تجرى الاستصحابات المذكورة في جميع فتاويه، و أما لو كانت الشبهة من قبيل الكثير في الكثير كأن قلده في مائة مسألة و علم إجمالا برجوعه في ثلاثين أو كانت من قبيل الاشتباه بالقليل كأن قلده في عشرة و علم إجمالا برجوعه عن ثلاثة فإن تمكن من الرجوع للمجتهد لمعرفة الحال وجب عليه ذلك من باب المقدمة لأنه يجب عليه البقاء على ما لم يعدل عنه و الحرمة فيما عدل عنه و لا يمكنه ذلك إلا بالرجوع الى المجتهد و ان لم يتمكن فقد يقال بالتخيير بين الرجوع للغير في تلك المسائل و بين البقاء على تقليده فيها لدوران الأمر في العمل بكل فتوى منها بين محذورين و هو وجوب العمل بها لاحتمال انها فتوى مجتهده التي لم يعدل عنها و حرمة العمل بها لاحتمال انها الفتوى التي عدل عنها فيكون مخيرا بين العمل بها و بين عدمه و الرجوع لغيره و ان كان أدنى منه و لكن التحقيق انه يجب عليه الرجوع الى الغير لسقوطها عن الحجية لأن الامارات و الطرق متى احتمل عدم حجيتها سقطت عن الاعتبار ثمَّ هذا كله فيما إذا حصل العلم الإجمالي بعد التقليد، و أما لو حصل للعامي العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 279

الإجمالي برجوع المجتهد عن بعض فتاويه في رسالته قبل التقليد فلا يجوز له تقليده للعلم الإجمالي بحرمة تقليده بما في رسالته فلا يجوز الرجوع له في فتاويه المشتملة عليها تلك الرسالة ما لم يعلم تفصيلا بما عدل عنه و ما لم يعدل عنه. و مما تقدم ظهر لك حكم ما لو سهى المجتهد عن رأيه فأفتى بغيره أو سها المقلد فأخذ بغير الفتوى أو اشتبه الناقل فظهر كذبه أو اشتبه المقلد في فهم الرسالة الى غير ذلك فان الحكم في ذلك كله حكم رجوع المجتهد عن رأيه لعين ما تقدم بل بالأولوية القطعية ضرورة كون السهو عذرا عقليا و ليس بطريق شرعي.

الاعمال الصادرة على طبق الرأي المتبدل
اشارة

(ثالثها) انه قد عرفت ان المجتهد بعد رجوعه عن المسألة و تبدل رأيه فيها يجب عليه في الأعمال اللاحقة المستقبلة العمل بمقتضى اجتهاده الثاني و كذا عرفت ان الحق ان مقلده لا يجوز له أن يعمل في الأعمال اللاحقة بالاجتهاد الأول لمجتهده و انه مخير بين العمل برأيه الثاني أو الرجوع لغيره، و أما الأعمال الصادرة من المجتهد بل و من مقلده على طبق الفتوى السابقة فهل يحكم بصحتها أو فسادها فقد ذهب المحقق الايرواني (ره) الى أن هذه المسألة من صغريات مسألة الأجزاء. و يظهر من المرحوم الأصفهاني في حاشيته على الكفاية العكس أعني ان مسألة الأجزاء من صغريات هذه المسألة لأن هذه المسألة تعم التكليفيات و الوضعيات و المعاملات و غيرها و مسألة الاجزاء تخص الواجبات. و لكن الحق مع استاذنا المشكيني (ره) من كون بين المسألتين عموم من وجه لجريان مسألة الأجزاء في إتيان الأمر الواقعي و إتيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 280

الأمر الاضطراري دون مسألتنا

و جريان مسألتنا دون مسألة الأجزاء في المعاملات كما انه يظهر من بعضهم ان مسألة الأجزاء مختصة بانكشاف الخلاف بالقطع و مسألتنا و هي مسألة تبدل رأي المجتهد مختصة بانكشاف الخلاف بطريق معتبر. و كيف كان فالتحقيق في المقام يقع في مقامين الأول في الأعمال التي صدرت عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها و الثاني في الأعمال التي لم يلحقها حكم الحاكم فنقول ان الأعمال التي صدرت عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها هي صحيحة و يرتب عليها آثارها و لو كان قد عدل الى غيره أو مات مجتهده و قلد غيره أو كان مقلدا ثمَّ صار مجتهدا و بنى على خلاف فتوى مقلده لأن عدم ترتب آثارها عليها يكون ردا لحكم الحاكم و هو حرام بل ظاهر المقبولة ان حكم الحاكم له الحكومة على سائر الطرق و الامارات نعم سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث قضاء المجتهد الموارد التي ينتقض بها حكم الحاكم و أنه إذا انتقض حكم الحاكم فسد ما ترتب عليه أو يترتب عليه من الآثار السابقة أو اللاحقة و ان الموارد التي ينقض بها حكم الحاكم يكون الحكم فيها من أصله باطلا لا أن النقض يكون من قبيل النسخ نعم سيجي ء إنشاء اللّه ان الحكم ان تضمن فتوى فلا يجوز إبطال الأعمال الواقعة على طبقه حتى لو تبدل رأي نفس الحاكم و انما لا يجوز العمل على طبقه بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة و ان لم يتضمن فتوى فيجوز ذلك هذا كله في الأعمال الصادرة عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها. و اما الأعمال و التروك التي صدرت عن المجتهد أو

مقلده بمجرد مطابقة الفتوى و لم يلحقها حكم الحاكم ثمَّ تبدل رأى المجتهد فتلك الاعمال و التروك تارة لا يترتب على مطابقتها للواقع و عدم مطابقتها اثر فعلا أى عند الفتوى الثانية كما في صورة ما لو أفتى المجتهد بعدم وجوب اطاعة والده في المستحبات فكان يذهب للزيارة من دون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 281

رضاء والده أو أفتى بحرمة العصير العنبي ثمَّ عدل المجتهد عن فتواه فإن الأعمال الماضية لا يترتب عليها أثر في الأزمنة اللاحقة ففي هذه الصورة لا يجوز للمجتهد و لا لمقلده العمل بالفتوى السابقة كما تقدم و اما الأعمال الماضية فحيث لا يترتب اثر على فسادها و لم تكن صادرة عنه عن تعمد فلا يترتب عليها أي أثر في فعلها بل لا يعقل في مثل ذلك انتقاض الفتوى بالنسبة إليها لعدم إمكان التدارك و تارة يترتب على مطابقتها للواقع اثر فعلا و على تقدير عدم مطابقتها عدم الأثر أو الإعادة لها أو القضاء لها فيما كان له قضاء أو اعادة كما في صورة ما لو افتى المجتهد بالوضوء بماء الورد فتوضأ به ثمَّ تبدل رأى المجتهد قبل ان يحدث فأفتى بعدم صحة الوضوء بالماء المضاف مطلقا حتى ماء الورد فإنه على تقدير مطابقة الوضوء بماء الورد للواقع تجوز الصلاة به و سائر الآثار المرتبة على الطهارة و على تقدير عدم المطابقة لا تجوز الصلاة به و لا سائر الآثار المرتبة على الطهارة و هكذا لو قلد من قال بالصوم الى استتار القرص ثمَّ عدل الى ذهاب الحمرة و هكذا لو قلد مجتهدا في كفاية فرى ودج واحد في حلية المذبوح فصنع كذلك ثمَّ قبل اكله عدل المجتهد

الى لزوم فرى و دجين و هكذا لو قلد مجتهدا في صحة العقد بالفارسية فعقد على زوجته بالفارسية ثمَّ قبل موت زوجته عدل المجتهد عن هذه الفتوى و اعتبر العقد بالعربية و نحو ذلك كما لو عمل برأي المجتهد في صحة البيع بالمعاطاة و التزويج بالمرتضعة معه عشرة رضعات و بنى المسجد بالحجارة المصنوعة من الطين النجس تقليدا لمن يقول بأن صيرورة الطين حجارة يكون من نوع الاستحالة المطهرة أو ان النار من المطهرات و نحو ذلك من المسائل الخلافية ثمَّ تبدل رأي ذلك المجتهد الى الفساد فلا اشكال كما عرفت سابقا عدم جواز العمل بالفتوى فيما يستقبل من مواردها مرة ثانية فلا يصلح فيما ذكرناه من الأمثلة الوضوء بماء الورد مرة ثانية و لا العقد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 282

بالفارسية مرة ثانية و هكذا الكلام في باقي الأمثلة المتقدمة و انما الكلام في أن آثار تلك الأعمال الصادرة على طبق الفتوى الأولى تترتب عليها بعد تبدل رأى المجتهد الى فسادها فيصلي بذلك الوضوء و لا يقضي الصوم المذكور و يؤكل ذلك الحيوان المفري ودج واحد منه و ينكح زوجته المعقودة بالعقد الفارسي و لا يجدد عقدها و يرتب ملكية المبيع بالمعاطاة و يبقى على زوجته المرتضعة عشرا الى غير ذلك بحيث يكون تبدل رأي المجتهد بمنزلة النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخرة و بقاء آثار موارده المتقدمة ان كان لها آثار أو انه لا يرتب عليها بعد تبدل رأى المجتهد فلا يصلي بذلك الوضوء و يعيد الصوم المذكور و لا يؤكل ذلك الحيوان و لا ينكح تلك الزوجة و يرجع المبيع بالمعاطاة و تحرم عليه زوجته المرتضعة عشرا

بل يعيد تلك الأعمال أو يقضيها ان كان لها اعادة أو قضاء كما لو صلى بلا سورة تقليدا لمجتهده ثمَّ تبدل رأيه إلى فسادها فإنه يترتب على فسادها إعادتها في الوقت و قضائها خارج الوقت و هكذا لو صلي بالوضوء بماء الورد ثمَّ انه لا إشكال بالنسبة للمقلد فإنه يرجع في ذلك لمقلده في حكمه من ترتيب الآثار و عدمها و القضاء أو الإعادة أو عدمها و انما الكلام في المجتهد إذا عدل أو ما يفتي به لمقلده إذا رجع إليه في معرفة حكمه في هذه المسألة أو المقلد إذا اجتهد و ظهر له الخلاف (و بعبارة أخرى) الكلام في نفس الحكم الشرعي للمسألة. و كيف كان فقد يقال بالأول بمعنى ان الآثار لتلك الأعمال الصادرة على طبق الفتوى الأولي تترتب عليها و لا اعادة و لا قضاء لتلك الأعمال سواء كان تبدل رأي المجتهد من حكم قطعي إلى دليل قطعي أو من ظني الى ظني أو من قطعي الى ظني أو بالعكس.

و استدلوا على ذلك بأدلة.
الأول: لزوم هتك الشريعة

و تقريره انا لو لم نبني على صحتها و لا نرتب الآثار عليها لزم هتك الشريعة و اللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله بيان الملازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 283

ان الشارع لو حكم بشي ء بعد بذل المكلف جهده و استفراغ وسعه و أتى بذلك الشي ء على طبق ما أدى اليه رأيه ثمَّ حكم بالإعادة و عدم ترتيب الآثار عليه لارتفع وثوق العقلاء بالشرع بل هم يذمون الشرع و يهتكون حرمته و يطعنون عليه بأنه كان عليه اقامة حكم كلي لا يستلزم الرجوع و الإتيان بالعمل مرة ثانية. و يمكن المناقشة في انه أي لزوم في ذلك فإنه نظير الاحتياط

لتحصيل الواقع و أي ذنب للشرع حتى يحصل هتكه إذا كان شخص قد تصدى لبيان أحكامه فأخطأ فيها و هل هناك هتك للقانون المدني لو أخطأ بعض دراسة في معرفة بعض موارده بنحو الشذوذ و القلة و لو سلمنا لزوم الهتك للشريعة فإنما يلزم في بعض الموارد لبعض الأشخاص في بعض الأحوال لا مطلقا ففي مورد لزوم الهتك نبي على الصحة و نرتب الآثار و إلا فلا. و الحاصل انه لا يلزم الهتك لندرة ذلك كما في حكم الحاكم فإنه قد يرد في بعض الموارد و لا يلزم الهتك لندرة تلك المواضع.

الدليل الثاني: ان نصب الشارع المجتهد للفتوى

و أمره بأخذ الأحكام منه و العمل بقوله يقتضي عدم إعادة الأعمال السابقة أو قضائها و عدم انتقاض آثارها بتبدل رأي المجتهد إذ لو لا ذلك لم يبق وثوق بقوله و لا اعتماد على رأيه و لم يعتني أحد بالمجتهد و لا المجتهد بنفسه لاحتمال تبدل رأيه، و جوابه ان نصبه لأغلبية مطابقة قوله و احتمال المخالفة لا يضر بذلك كما في الحاكم فان نصبه لأغلبية مطابقة قوله مع انه قد ينقض حكمه.

الدليل الثالث: الإجماع العملي و السيرة

المستمرة من المجتهدين و المقلدين و عمل السلف و الخلف على ترتب الآثار و عدم الإعادة و القضاء عند تبدل الرأي فإنه لم نر أحدا بعد تبدل رأيه أعاد أعماله و لم نر أحدا توقف عن ما اشتراه أهل بلد من الأملاك و البيوت و الحيوانات بعد موت مجتهدهم و الرجوع الى مجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 284

غيره أو بعد تبدل رأيه و الرجوع لرأي غيره بل الواجب لو كانت الآثار لا تترتب عندهم هو الفحص لاحتمال تبدل رأي المجتهد و تغيره إذ لا معاملة إلا و فيها خلاف من جهات شتى. و الحمل على الصحة لا يفيد لأن البناء على اجتهاد من تقدم صحيح و احتمال الموافقة غالبا لا يثمر مضافا الى نقل الإجماع من الكثيرين على ذلك، فقد حكى المامقاني (ره) في تقريراته للسيد حسين الترك عن صاحب الهداية الإجماع على العمل بالأمارة الأولي و عدم العمل بالأمارة الثانية. إن قلت:

قد حكى عن العلامة الحلي (ره) انه أعاد عباداته بأجمعها سبع مرات لأنه اجتهد في تمام الفقه سبع مرات و صنف في كل مرة كتابا التحرير و القواعد و التذكرة و المنتهى و الإرشاد و التبصرة،

قلنا: لم نعلم صحة هذه الحكاية و على تسليمها فلم يعلم انها كانت تلك الاعادات على سبيل الوجوب منه بل يحتمل انها كانت على سبيل الاحتياط، و جوابه انا لا نسلم الإجماع المذكور فإنه لو تبدل الرأي و وقت العمل موجود و لا عسر في إعادته يعاد العمل نعم قد كثر نقل الإجماع على عدم لزوم الفضاء مضافا الى عدم كشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام اما في زمان الأئمة عليهم السّلام لم يعلم وقوع تبدل الرأي و أما بعده و ان علم وقوع تبدل الرأي إلا أن الإجماع لعله كان من جهة الأدلة المتقدمة أو غيرها مما سيجي ء فلا يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه السّلام هذا مضافا الى ان نقل الإجماع على ذلك معارض بنقل الإجماع عن العلامة و السيد عميد الدين على العمل بالأمارة الثانية و هو مقدم على الإجماع الذي نقله صاحب الهداية لسبقهما عليه. و لكن الإنصاف ان الاختلاف في الفتوى كان موجودا من عصر الأئمة عليهم السّلام لكثرة اختلاف الروايات بل ان العام قد يصدر من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الخاص من العسكري عليه السّلام و هكذا الحقيقة أو المطلق قد يصدران من المعصوم المتقدم و المجاز و المقيد من المعصوم المتأخر و لم يأمروا بالإعادة و هكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 285

في الاخبار المتعارضة فلو كان تبدل الرأي موجبا للإعادة لكان له أثر في الاخبار و ردع لترتيب الآثار خصوصا مع كثرة ابتلاء الناس بذلك بل و لو لم يكن في عصرهم (ع) اختلاف وجب عليهم البيان من جهة علمهم (ع) بحصول المجتهدين في الأزمنة الآتية و اختلافهم في

الأحكام الشرعية ثمَّ انهم (ع) قد بينوا أحكام الخدش فكيف يسكتوا عن هذه المسألة المهمة بل في الاخبار حد الاستفاضة عن الأئمة (ع) انه قد يحكم الامام حكما بخلاف ابنه أو جده علي (ع) و لم يأمرهم الامام بالإعادة أو القضاء و قد نقل المحقق الشيخ عبد النبي العراقي عن جدنا كاشف الغطاء انه لو كان الأمر كذلك لكان يذكر في المنابر و المساجد و المدارس و المحافل و الخطابات فعدم وجود ذلك يعرف منهم ان بنائهم في الفقه على الاجزاء.

الدليل الرابع: ان الأدلة الشرعية التي دلت على لزوم الاجتهاد

عند عدم التمكن من تحصيل العلم و وجوب العمل بمؤدى الاجتهاد و كذا الأدلة الشرعية التي دلت على جواز التقليد مثل قوله (ع) خذوا معالم دينكم عن زرارة أو يونس الظاهر من الأدلة اللفظية منها ان الاعمال التي تقع على طبق الاجتهاد و التقليد بدليات جعلية عن الواقع و لا شك ان البدل الجعلي نظير البدل الاضطراري يقتضي الصحة و ترتيب الآثار الواقع عليه فان تلك الأدلة ظاهرة في الكفاية عن الواقع في مقام الإطاعة و ترتيب الأثر و لا أقل من ظهور جعل حجيتها في ترتيب آثار الواقع عليها و عدم إيجاب الإعادة و القضاء فان العرف يفهم الاجزاء من جعل الشارع لشي ء حكما و يفهم حكومة أدلته على أدلة الأحكام الواقعية حتى قيل انه يرفع به الإطلاق الذاتي للحكم الواقعي و يحمل على الإنشاء المحض فان المتبادر منها ان المكلف بعد إتيانه بالحكم الظاهري قد أدى وظيفته لا انه عمل عملا يكون لغوا و يكون الحكم الواقعي باقيا في ذمته و الحاصل ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 286

ظاهر أدلة الاعتبار للأمارات و الأصول هو قناعة الشارع بما أتى

به عن الواقع و لا فرق في ذلك بين أن نقول بالسببية أو الطريقية في حجية الامارات و لعل هذا مراد (جدنا كاشف الغطاء) مما نسبه إليه المامقاني في تقريراته للسيد حسين الترك من أن الواقعة لا تتحمل اجتهادين و (دعوى) أن تكليفه بالعمل بظنه لا يراد منه الأخذ به إلا من حيث كشفه عن الواقع لا من حيث ذاته و لو مع المخالفة للواقع فقبل الانكشاف محكوم في الشرع بأنه الواقع فيكون مجزيا و بعد الانكشاف لا يمكن الحكم بأداء الواجب و حينئذ يجب عليه الإعادة أو القضاء فيما يجب فيه القضاء (مدفوعة) بأن الأمر و ان كان كذلك لكن العرف يفهم الاكتفاء به عن الواقع كالاكتفاء بالتيمم، (و دعوى) ان إيجاب العمل على طبقها لأجل التحفظ على الواقع و كشفه بها و هذا يناقض الاكتفاء بمؤداها عند انكشاف المخالفة للواقع. (فاسدة) فإن أغلب الأحكام الشرعية تكون المصالح المرتبة عليها نوعية و غالبية فاذا تخلفت عنها فليس يلزم عدم الاكتفاء بها بل لو فرض اعتبارها كذلك مع لزوم تخلفه عنها في بعض الأحيان فلازمه الاكتفاء بمؤداها عند المخالفة إذ لو كان الاكتفاء بها بنحو التقييد بعدم المخالفة للواقع لزم العمل بها في صورة إحراز مطابقتها للواقع و هو يلازم عدم الاستفادة بجعل حجيتها. بل يلزم من وجودها عند المستدل عدمها، و لكن لا يخفي ان هذا الدليل انما يتم فيما لو تبدل الرأي بقيام حجة مقام حجة كما لو قام عند المجتهد الأصل الجامع لشرائط الحجية على وجوب الجمعة ثمَّ تبدل رأيه بأن ظفر بخبر واحد معتبر على وجوب الظهر و عدم كفاية الجمعة و هكذا لو قام خبر جامع للشرائط عنده ثمَّ علم

بخلافه و هكذا لو كان مقلدا لشخص ثمَّ عدل عنه لأنه مات أو صار من هو أعلم منه أو جن أو نحو ذلك. و أما لو تبدل رأيه من جهة ظهور فساد الحجة على الرأي الأول كما لو ظهر له ضعف الرواية أو اعتمد على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 287

القياس و ظهر له عدم حجيته أو تخيل الدلالة و ظهر عدمها فإنه في هذه الصور لم يكن الشارع قد جعل شيئا حتى يستفاد من جعله البدلية بل ظهر عدم الجعل إلا اللهم إذا قلنا بحجية اجتهاد المجتهد من باب التعبد به بخصوصه لا من جهة استناده إلى الحجة الشرعية كما هو مفاد الدليل الرابع الذي أقمناه على حجية ما أدى اليه رأي المجتهد و عليه فاذا أدى رأي المجتهد إلى شي ء كان حجة و معتبرا عند الشارع و لو كان عن اشتباه أو قطع، أو نقول ان الحجية لا تتحقق إلا بالوصول الى المكلف. فالدليل الذي اعتمد عليه المجتهد في الزمان الأول لعدم العثور على ما كان مقدما عليه يكون متصفا بالحجية حقيقة فإذا ظفر بالعام و لم يظفر بالخاص مع الفحص كان العام حجة حقيقة و الخاص ليس بحجة حقيقة في هذه الحال إلى أن يظفر به فيكون حجة من حين الظفر به إذ لا معنى لكون الشي ء طريقا و حجة فعلية مع عدم الوصول إليه لأن الطريقية انما تكون لمحرزيته للواقع و محرزيته تتوقف على وصوله للمكلف فامارية الامارة موقوفة على العلم بها و ان لم يكن إنشاء حجيتها موقوفا على العلم بها و إلا لزم الدور لكن واجديتها لصفة الطريقية و المحرزية و كونها طريقا فعلا يتوقف على

العلم بها إذ لا معنى لطريقية طريق لم يعلم به المكلف أو نقول أن العام شرط حجيته عدم الظفر بمخصصه بالفحص بمقدار اللازم و هكذا الخبر يكون شرط حجيته عدم الظفر بالمعارض بالمقدار اللازم فاذا ظفر بعد ذلك بهما كان أمد حجيتهما قد انتهى فيكون الحكم الظاهري ثابت الى حين الظفر بهما و بعد الظفر بهما يتبدل الحكم الظاهري بالحكم الظاهري على طبق المخصص و المعارض (و قد أجيب) عن هذا الدليل ان أدلة الأحكام الظاهرية انما تقتضي ترتيب آثار الواقع في زمن الشك و الجهل بالواقع ما لم ينكشف الخلاف دون أن ينقلب الواقع بها و ليست بحاكمة على دليله و لا مخصصة و لا مقيدة لأن الحكم الظاهري متأخر عن الواقعي بمرتبتين لتأخر الحكم الظاهري عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 288

الشك لأنه موضوعه و تأخر الشك عن متعلقه و هو الحكم الواقعي و لازم عدم حكومتها و عدم تقيدها و عدم تخصيصها لدليل الحكم الواقعي ان يكون الحكم الواقعي محفوظا في جميع المراتب بإطلاقه الذاتي و لازم ذلك هو ترتيب الآثار على المؤدي الظاهري ما لم ينكشف الواقع فاذا انكشف الواقع اتي به إذ الفرض بقائه على ما هو عليه. و فيه انه بعد ظهور أدلة الأحكام الظاهرية في الاكتفاء بها تكون رافعة لإطلاق أدلة الأحكام الواقعية للظاهر و حملها على الإنشائية و الحكم بسقوط التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر و (دعوى) ان الظاهر ان حصل به الملاك فيجب الأمر به في عرض الواقع و ان لم يحصل الملاك فبانكشاف الخلاف ينكشف عدم حصول الملاك الملزم و فوته من المكلف فيجب الإعادة أو القضاء (فاسدة) يظهر جوابها مما ذكرناه

في وجه جعل الحكم الظاهري من انه لم يف بملاك الواقع و لكن ظاهر الدليل الاكتفاء به عن الواقع أما لعدم إمكان تحصيل الواقع معه أو لمصلحة رفع العسر و الحرج عن العبد أو نحو ذلك.

(الدليل الخامس) لزوم العسر و الحرج

المنفيين في الشريعة السهلة السمحة و لزوم الهرج و المرج ضرورة انه ربما يتبدل رأي المجتهد عدة مرات في مسألة واحدة، فلو كان في كل مرة تنتقض الآثار لزم الهرج و المرج و لزم على كل أحد قضاء عباداته المبنية على رأي المجتهد لتبدله أو تغيره ورد ما اشتراه و استرداد ما باعه و تنجس الناس فيما بنى على طهارته، و قد نسبه المامقاني في تقريراته للسيد حسين الترك لجدنا كاشف الغطاء (ره)، و جوابه ان تبدل الرأي نادر و لو وقع فحكم الحاكم بعد التنازع هو الفاصل فلا هرج مضافا الى أن ذلك انما يلزم في بعض الوقائع لبعض الأشخاص في بعض الأحوال ففي مورد اللزوم يمنع منه و إلا فلا فإن الأدلة النافية للحرج و الهرج ظاهره في نفي الشخصي منهما لا النوعي ان قلت: انها ظاهرة في نفي الحرج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 289

النوعي بواسطة ما نراه من الأحكام المنفية من جهة لزوم الحرج في نوعها كما هو المعروف في نجاسة الحديد فإنها منفية للزوم الحرج النوعي في ذلك فان نوع أفراد الحديد لو حكم بنجاسته لكان فيه حرج. و هكذا جواز الشفعة من جهة لزوم الحرج النوعي في عدمه فمن هذا نستفيد ان كل حكم لزم في نوعه الحرج يكون منفيا حتى عن الشخص الذي لا حرج عليه فيه. قلنا لا وجه لذلك لكون أغلب الأحكام الشرعية يلزم في نوعها الحرج

و لذا أدلة نفي الحرج حملت نفي الحرج الشخصي. و ما ذكر من الأمثلة لا نسلم فيه ذلك و لذا لو ورد في الشرع حكم منفي من جهة الحرج حمل على حكمة التشريع لا علته و لو سلمنا أنها لنفي الحرج النوعي فكثرة التخصيص موجبة لوهنها فلا يصلح التمسك بعمومها إلا في مورد يقوى عمومها كما لو تمسك به جل الأصحاب أو الإمام عليه السّلام في ذلك المورد.

(الدليل السادس) انه كما ان الأمر الاضطراري يجزي عن الواقع كذلك الأمر الظاهري

إذ كل منهما مشتمل على المصلحة المجزية عن الواقع.

و جوابه انه عند الاضطرار لا تكليف بالواقع و حينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار يشك في حدوث التكليف بالواقع فيستصحب عدمه و اما في الأمر الظاهري فعند الجهل لا يرتفع التكليف بالواقع فاذا ارتفع الجهل و شك في سقوط التكليف الواقعي يستصحب بقائه فالشك بعد ارتفاع الاضطرار شك في حدوث التكليف بخلاف الشك بعد ارتفاع الجهل فإنه شك في بقاء التكليف و في المسقط له.

(الدليل السابع) ما حكي عن صاحب الفصول من ان الواقعة لا تتحمل اجتهادين

و قد حكى المامقاني (ره) في تقريراته عن سيد حسين الترك نسبتها لجدنا كاشف الغطاء (ره) و قد اختلف العلماء في توجيه ذلك و تفسيره حتى حكى بعضهم ان الشيخ الأنصاري (ره) أرسل السيد علي الشوشتري لكربلاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 290

لصاحب الفصول للاستيضاح عن هذه العبارة فلم يجبه بما هو المحصل.

(الدليل الثامن) ان الاعمال الماضية ليست بمورد للفتوى الثانية

لأنها ليست بموجودة و لا قابلة للوجود لكونها قد مضت بمضي وقتها و إذا لم تكن موردا لها فلا تدل على فسادها و لا تقتضي عدم ترتب آثارها عليها. و الحاصل ان الأعمال الماضية حين صدورها كانت صحيحة مستتبعة لآثارها ما لم يطرأ عليها الفساد و بعد تبدل الرأي لا يصح الحكم عليها بالفساد لعدم طروه عليها اما في السابق فواضح و اما في اللاحق فلعدم إمكان وجودها بنفسها و شخصها فمحال توجه التكليف إليها و أيضا لم يحدث في اللاحق إلا الفتوى بأنها لو وقعت في المستقبل لم يرتب عليها الأثر و هذا لا يوجب ارتفاع آثارها المرتبة عليها في الزمن السابق فاذا نكح باكرة بسبب الفتوى بجوازه فلا يبطل نكاحها بتغير الرأي بل يرتب على هذا النكاح آثاره من حلية البضع و وجوب الاتفاق و التمكين و غير ذلك. و هذه الآثار للنكاح الجائز بالفتوى لم يقم الدليل على نفيها و ان قام الدليل و هو الفتوى الثانية على نفيها عن مثله في الزمان اللاحق و ذلك لأن الحجة اللاحقة انما تؤثر في الأعمال المستقبلة دون الماضية حيث لا دليل على حجيتها إلا بالنسبة إلى الوقائع المتجددة بعد قيامها فإنها إنما تنجز حين قيامها و هي انما يتحقق قيامها بالنسبة للأعمال الآتية بخلاف الأعمال الماضية فإنه لم

يتحقق قيامها عليها حتى تكون منجزة بالنسبة إليها حيث لا يعقل منجزية أمر متأخر لأمر متقدم و إلا لزم تأثير المتأخر بالمتقدم فالحجية مقصورة على الوقائع المتجددة. و يظهر من صاحب الحاشية (ره) ذلك حيث قال انه لا دليل على حجية الظن الثاني إلا بالنسبة الى ما بعد حصوله و أما بالنظر الى الفعل الواقع قبل حصوله فلا انتهى.

و جوابه أولا انه بعد اضمحلال الاجتهاد الأول لم يبق دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 291

صحتها و ترتيب الأثر عليها فهي لم يطرء عليها الفساد و انما زال ما يدل على صحتها.

و ثانيا: ان الاجتهاد الثاني يقتضي ان المطلوب الواقعي هو ما طابق الفتوى الثانية من دون اعتبار سبق أو لحوق و لازمه فساد ما طابق الاجتهاد الأول لعدم القول بالتصويب.

و ثالثا: ان الاجتهاد الثاني انما ينجز فعلا الواقع و لسانه كون هذا الشي ء هو الواقع من دون اختصاص بزمان دون زمان فهو منجز لمضمونه و حجة عليه مطلقا و ان كان حصول هذا التنجيز حين قيامه و لازم تنجيز الواقع هو الإعادة أو القضاء و ليس في ذلك ترتيب الآثار على ما مضي و بعبارة أخرى ان لازم ثبوت الواقع فعلا هو الإتيان به في الوقت و قضائه بعد خروجه و عدم ترتيب الأثر على غيره فالامارة على وجوب الظهر في يوم الجمعة تقتضي وجوبه مطلقا من دون اختصاص بالمستقبل أو الماضي فهي حجة على مضمونها و منجزة له من حين قيامها و لازم ذلك اعادته و قضائه إذا لم يكن قد أتى به و بعد كتابتي لهذه الاسطر اطلعت على ما قاله الأستاذ الأصفهاني (ره) و حاصله ان دعوى ان

الامارة حجة على مضمونه بالنسبة للوقائع المتجددة دون الماضية ان كان من جهة قصور مضمونه فهو خلف و ان كان لعدم معقولية تنجيز أمر متأخر لحكم متقدم فهو غير لازم هنا لأنا لا ندعي تنجيز المضمون و هو الصلاة قبل قيام الخبر بل نقول انها تنجز فعلا مضمون الخبر و هو الصلاة في الماضي و الحاضر و المستقبل و أثره وجوب إعادتها أو قضائها. و عليه فلا وجه لقصر الحجية على الوقائع المتجددة. و كيف لا تؤثر الفتوى في السابق مع انه يمكن أن يقال ان السيرة قامت على تأثيرها ألا ترى ان المجتهدين إذا استفتوا في الوقائع قبل اجتهادهم فيها يؤخرون الجواب ثمَّ بعد النظر في المسألة و اجتهادهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 292

فيها يفتون في الحادثة السابقة بما أدى رأيهم فيها كيف و في الأعمال السابقة إذا كانت بغير اجتهاد أو تقليد ثمَّ قامت الامارة عليها أثرت الامارة فيها بحسب مؤداها صحة و فسادا فيجب إعادتها أو قضائها أو عدم ترتب الأثر عليها لو دلت على فسادها كما انه يرتب عليها الأثر و لا يجب إعادتها أو قضائها لو دلت على صحتها.

(الدليل التاسع) انه يحتمل ان يكون ما اتى به مشتملا على المصلحة الواقعية

في هذه الحال أو أن المصلحة لا يمكن تداركها معه فلا وجه للإعادة و لا القضاء لأصل البراءة منهما و لا يصح أن يتمسك بإطلاق دليل الواقع و لا إطلاق دليل القضاء لحكم العقل بعدم وجوب الإعادة و القضاء مع تدارك مصلحة الواقع أو عدم التمكن من تحصيلها. و عليه فيكون التمسك بدليل الواقع أو دليل القضاء من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيكون المرجع هو أصل البراءة منهما. و جوابه ان التمسك بهما و ان

كان من باب التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية إلا أنه يصلح في هذا المقام لكون المقيد لبي إذ الحاكم بالتقييد في صورة تدارك المصلحة هو العقل.

(الدليل العاشر) ما يظهر من صاحب القوانين من الاستصحاب

بتقريب انا نقطع في السابق بترتب هذه الآثار على تلك الاعمال و انها تستتبع لها و بعد تجدد الرأي نشك في أن استتباع الآثار لها قد زال فيستصحب بقائه، و هكذا نستصحب في الأمثلة المذكورة بقاء الطهارة و بقاء الزوجية بل نستصحب الحكم الثابت قبل تبدل الرأي سواء كان حكما تكليفيا أو غيره أو يقال في تقرير الاستصحاب ان عند الرأي الأول لا تكليف بالواقع فعليا و بعد انكشاف الواقع نستصحب عدم التكليف به فعلا أي نستصحب عدم فعلية التكليف فيترتب عليه الأثر و هو عدم الإتيان به كما في استصحاب عدم التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 293

في كون الأثر هو عدم الإتيان به أو يستصحب حجية الامارة السابقة. و فيه ما لا يخفى فان الظن الثاني يوجب عدم ثبوت مدلول الظن الأول من أصله لا من حيث قيامه فليس عندنا يقين سابق حتى يستصحب فالمقام من قبيل الشك الساري لا انه يقين سابق و شك لا حق. و اما الاستصحاب الثاني أعني استصحاب عدم التكليف بالواقع فعلا فهو فاسد فإنه بناء على الطريقية أو السببية بمعنى المصلحة في السلوك فالواقع فعلي بالنسبة إلينا غاية الأمر انه غير منجز فلم يحرز عدم فعلية التكليف بالواقع حتى يستصحب العدم و لو سلمنا عدم فعليته و انه شأني كما هو على القول بالسببية الذي هو عبارة عن القول بإنشاء حكم فعلي على طبق المؤدى فالاستصحاب التعليقي ثابت و هو انه وجوب الواقع لو انكشف الخلاف فانا على

يقين في ذلك فنستصحبه الى ما بعد انكشاف الخلاف فيجب الواقع إلا أن يقال ان الاستصحاب المنجز لعدم التكليف الفعلي مقدم عليه. نعم لو ثبتت البدلية المطلقة عن الواقع لم يكن مجال للاستصحاب لليقين بالاجزاء و اما استصحاب حجية الامارة السابقة و فهو لا وجه له لقيام حجة ثانية أبطلت الأولي و لذا عدل بها عن الاولي. هذا و قد يجعل الجاري في المقام هو استصحاب بقاء التكليف الواقعي السابق الى زمان كشف الخلاف و اثر ذلك هو فعليته و تنجزه عند انكشاف الخلاف فان التكليف الواقعي ينشأ بداعي البعث عند وصوله فاذا وصل بالاستصحاب صار باعثا للعبد فلا يتوهم ان التكليف الواقعي لا أثر له فلا يستصحب و (دعوى) جريان استصحاب عدم الفعلية للتكليف الواقعي (فاسدة) لأنه باستصحاب التكليف الواقعي قد كان التكليف و أصلا إلينا فتكون فعليته بعد الانكشاف مقطوعا بها لا انها مشكوك فيها كما في صورة الجهل المحض بالتكليف. و لا يخفي ما فيه فان الشك في الفعلية و التنجز تارة يكون من جهة الشك في الوصول و تارة من جهة الشك في اكتفاء الشارع بما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 294

أتي به عن الواقع فاستصحاب التكليف الواقعي في الصورة الأولى يرتب عليه أثر الفعلية و التنجز. و اما في الصورة الثانية فلا يرتب عليه ذلك لأن الشك في الفعلية ليس من جهة الوصول و فيما نحن فيه انما نشك في الفعلية بعد انكشاف الواقع من جهة احتمال اكتفاء الشارع بما أتي به و اجتزائه بفعل المأمور به الظاهري كما اكتفي بالبدل الاضطراري عن الواقع.

(الدليل الحادي عشر) [عدم ظهور الخطأ بمخالفة الاجتهاد الثاني للأول]

و هو المحكي عن المحقق الثاني الشيخ على في بحث القبلة من شرح

القواعد بأن الخطأ و هو عدم مطابقة الواقع لم يظهر بمخالفة الاجتهاد الثاني للأول لإمكان كون الخطأ هو الثاني و وجوب العمل بالثاني انما هو وجوب تعبدي لا يقتضي صحته في نفس الأمر و يقرب منه ما ذكره بعضهم بتقريب منا ان قول المجتهد سبب لحصول الحكم الظاهري و التقليد انما يتعلق بالحكم الظاهري دون سبب الحكم. و لا يخفي ان العلم بانعدام السبب لا يستلزم العلم بانعدام المسبب إلا في صورة العلم بكون الباقي محتاجا في بقائه إلى علة الحدوث و ليس فيما نحن فيه كذلك لأنا لا نعلم ان علة الحدوث هي علة البقاء فظهر ان الحكم الظاهري لم يعلم ارتفاعه بتبدل رأى المجتهد و يقرب منه ما في العناوين ان الظن السابق كان طريقا اليه و قد عمل به و لم ينكشف كونه على خلاف الواقع حتى يعلم صدق الفوت الذي هو موضوع القضاء لأن الظن الثاني أيضا يحتمل الخلاف فيحتمل في حال الظن الثاني كون الظن الأول مطابقا للواقع فلا يقطع بالفوت. و الشارع أناط القضاء بالفوت النفسي الأمري و طريقه العلم و ليس الظن بالفوت حجة في ذلك نعم لو حصل تبدل الرأي بالقطع فحينئذ يحصل العلم بالفوت فيجب القضاء، ان قلت ان ظن المجتهد الثاني بعد قيام الدليل على حجيته يكون بمنزلة القطع بالفوت شرعا فيكون نظير تبدل الرأي بالقطع، قلت: نعم و لكن بالنسبة إلى لزوم العمل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 295

لا في جميع ما له تعلق بالعلم و طريق معرفة الفوت الواقعي هو العلم. و كون الظن الثاني بمنزلة العلم لا يوجب القطع بالفوت الواقعي إذ الظن معتبر بالنسبة الى ما بعده

و لا ربط له بما قبله و لعل الى هذا يشير ما ينسب لجدنا (كاشف الغطاء) من ان العمل بالظن الثاني في الواقعة الماضية ترجيح بلا مرجح. و فيه ما لا يخفي فان العدول انما يكون بواسطة كون الظن الثاني حجة و لازمه كون المطلوب الواقعي هو ما طابق مؤداه دون ما طابق مؤدى الثاني لعدم القول بالتصويب فيكون الفوت ثابتا شرعا لأن الامارة حجة في لوازمها و الحجة قد قامت عليه و ذلك كافي في ترتب القضاء عليه و لا يعتبر حصول العلم به. (و بعبارة أخرى) ان الحجة قد قامت على أن الواقع هو الثاني دون الأول فلا بد من ترتيب الآثار عليه. و الحاصل ان الاجتهاد الأول قد بطل بالاجتهاد الثاني لأنه قد انكشف به فساده و لذا عدل به عن الأول.

(الدليل الثاني عشر) ان الفتوى كالحكم فكما ان الحكم لا ينقض الحكم السابق عليه فكذلك الفتوى

، و فيه ان هذا قياس باطل في الشريعة، مع ان الفارق موجود لقيام الأدلة على عدم النقض من الإجماع و الروايات هذا على مسلك القوم و اما على ما بنينا عليه كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى من جواز نقض الحكم من نفس الحاكم فلا فرق بين الفتوى الثانية من نفس المفتي و الحكم الثاني من نفس الحاكم في جواز النقض.

(الدليل الثالث عشر) انه لا ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول

بعد ما كان كل منهما مستندا الى الطرق الشرعية الظنية و جوابه ان الاجتهاد الأول قد زال بالاجتهاد الثاني لظهور فساد ما اعتمد عليه فيه فلا أثر للحجة السابقة و لذا قد عدل عنها.

(الدليل الرابع عشر) ان التقليد و ان تعلق في الظاهر بالقول الأول للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 296

إلا انه لدى الحقيقة يرجع الى اتباع مستند القول و المستند لا يزول بتبدل رأى المجتهد و لا بوفاته ولدا اعترض الأخباريون على المجتهدين في مسألة تقليد الميت حيث قال المجتهدون ان (قول الميت يفني بفناء صاحبه) فرد عليهم الأخباريون بأن قول المجتهد حجة إذا كان من دليل شرعي فيجوز تقليده حيا و ميتا لأن المستند لا يموت و إلا فليس بالحجة لا حيا و لا ميتا. و جوابه ان المستند انما يكون مستندا للعامي باعتبار انه مستند لمجتهده و بعد عدم كونه مستندا لمجتهده زال صحة استناد العامي له.

(الدليل الخامس عشر) ان تعلق الأمر بالقضاء تابع لتعلق الأمر بالأداء

على نحو التنجيز و وجوب القضاء على النائم و المغمي عليه و نحوهما لدليل خاص. و لا ريب ان الأمر بالأداء لم يتحقق فيما نحن فيه اما بعد الوقت فواضح لخروج الوقت و اما في الوقت فلعدم طريق اليه يعرفه بل قام الطريق على خلافه فلم يكن التكليف بالأداء إلا شأنيا مضافا الى ان القضاء بأمر جديد و مأخوذ في موضوعه الفوت و الفوت أمر وجودي لأنه عبارة عن ذهاب شي ء من المكلف مع ترقب حصوله منه لكونه فرضا فعليا أو ذا ملاك لزومي فهو عنوان وجودي يقابل وجود المأمور به تقابل العدم و الملكة فلا ينتزع من عدم الفعل المحض في الوقت لأن المفاهيم الثبوتية يستحيل انتزاعها من العدم و العدمي فلا ينفع استصحاب عدم الفعل المحض في الوقت لأنه لا يلازم الفوت فضلا عن انه ليس عينه فيكون الأصل مثبتا بالنسبة إليه فالأصل الجاري هو أصالة عدم الفوت. و لا يخفي ما فيه فإنه إن تمَّ فهو انما يتم في العبادات عند انقضاء وقتها دون

المعاملات التي ليست مقيدة بالوقت، مضافا الى ما تقدم من ان الميزان هو تحقق الفوت و بالحجة الثانية يكون الفوت للواجب قد تحقق و ليس بلازم ان يكون الأمر بالأداء منجزا و إلا لاختص القضاء بالمقصر و سقط عن القاصر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 297

(السادس عشر) ان كل أحد متعبد بظنه و المطلوب هو ما قام عليه ظنه

فإذا أمر الشارع بصلاة الجمعة فالمطلوب منه الإتيان بما ظن أنه صلاة الجمعة فاذا أتي بالمظنون فقد أتي بالمأمور به و الإتيان بالمأمور به يقتضي الأجزاء، و يقرب منه ما يقال من أن متعلقات التكاليف هي الأمور المعلومة و لو بالطرق المعتبرة فمعنى (صلي) افعل ما علمت أنه صلاة و المفروض انه قد اتي بما هو معلوم لديه أنه صلاة و لا تكرار في الأمر فلا يجب عليه الإعادة، و لا يخفي ما فيه فان مقتضي ذلك هو التصويب في الموضوعات و هو خلاف ما اتفقت عليه كلمة المسلمين، كيف و المطلوب هو الواقع فإن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية كما تقدم ص 21.

(السابع عشر) ما دل على ان المخالف و الكافر أعماله ماضية إذا استبصر

إلا ما استثني ففي رواية زرارة و بكير و الفضيل و محمد بن مسلم و بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام انهما قالا ليس عليه إعادة شي ء من ذلك غير الزكاة و ما دل على (ان لكل قوم نكاح) مع انه باستبصاره ينكشف له فساد ما عمله و لا يعقل أن يكون المؤمن أسوء حالا منهم إذ لا يعقل أن يكون المعذور أسوء حالا من غير المعذور. (و دعوى) انه انما يجزيه من الأعمال ما كان واقعا عندهم و في مذهبهم لا مثل هذه الأعمال التي انكشف انها على خلاف الواقع (فاسدة) لأنها انما كانت صحيحة بحسب معتقده ثمَّ انكشف فسادها و فيما نحن فيه أيضا كانت صحيحة بحسب معتقده و ما أدى اليه نظره ثمَّ انكشف فسادها فاذا كان فاسد العقيدة عمله صحيح فبالطريق الاولي ما نحن فيه ممن هو صحيح العقيدة، ان قلت انه قد التزمت بنقض حكم الحاكم مع تبدل رأيه و

الحكم أقوى من الفتوى. قلت: هذا قياس فان هذه أمور تعبدية على ان أقوائيته لا تستدعي ذلك على انه يمكن ان نقول ان كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 298

الحكم يرجع الى الفتوى فلا ينقض للدليل المذكور و ان كان لا يرجع فاذا جمع شرائط النقض جاز نقضه و إلا فلا.

(الثامن عشر) انه من الفتوى ما يستلزم الدوام كالفتوى في العقود

و الإيقاعات فاذا أفتي المفتي بجواز عقد الباكر بدون إذن أبيها فالعقد يقتضي الدوام أما دائما كما في الدائم أو الى أمد معين كما في المنقطع و قطع هذا الاستمرار يحتاج الى ما جعله الشارع قاطعا له كالطلاق و الارتداد أو انقضاء المدة أو هبتها أو حصول الرضاع اللاحق و نحو ذلك و لم يثبت ان تجدد الرأي من القواطع و اما الفتوى التي لا تستدعي الدوام كالفتوى بالنجاسة فبالإجماع المركب يثبت فيها المطلوب و جوابه ان الفتوى في الأمور الاستمرارية انما تقتضي الاستمرار إذا كانت صحيحة اما لو انكشف خطأها فلا الأبناء على التصويب أو القول بالسببية فالقواطع الشرعية لا حاجة لها. و الحاصل انه عند انكشاف خطأها هي تزول بنفسها من دون حاجة لرافع لها و قاطع إياها.

(التاسع عشر) [اقتضاء الأدلة الظاهرية الإجزاء و إن انكشف الخلاف]

ما أشار إليه بعضهم من ان الأدلة الظاهرية لو قامت على بيان ما هو معتبر في متعلقات الأحكام الواقعية شرطا أو جزء ثمَّ انكشف الخلاف اقتضت الاجزاء و لا تجب الإعادة و لا القضاء إذ تكون الأدلة الظاهرية حاكمة على أدلة الواقع و موسعة لما اعتبر في الواقع شرطا أو جزءا تارة و مضيقة له أخرى فقوله: (كل شي ء طاهر) مبين إن مشكوك الطهارة طاهر و يوسع الطهارة المعتبرة في الصلاة و انها أعم من الطهارة الواقعية أو الظاهرية فتكون الصلاة في مشكوك الطهارة صحيحة و الآتي بها ممتثل للأمر الواقعي و واجدة للشرط الواقعي فإذا انكشف الخلاف لم تجب الإعادة بل ليس هناك كشف للخلاف لأن ضم غير الواقع الى الواقع لم ينكشف خلافه و هكذا أصل البراءة عن الاجزاء و الشرائط لحكومة أدلة الرفع على أدلة الاجزاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 299

و الشرائط و الموانع فان مقتضي أدلة الرفع هو مرفوعية المشكوك ظاهرا و جواز ترتيب آثار الواقع عليه و من الآثار إتيان العبادة فيكون ذلك رخصة من الشارع في ترك المشكوك و اكتفاء منه بإتيانها بباقي الاجزاء و موجبا لامتثال أمر العبادة بالإتيان بما عدى المشكوك. و قد حكي الاتفاق و تسالم الفقهاء على ثبوت الاجزاء في ذلك الى زمن الشيخ الأنصاري (ره) و انما وقع الخلاف فيه من زمنه حتى ادعي بعضهم استحالة الإجزاء، نعم الامارات بناء على الكشف فهي لا تقتضي الاجزاء لأنه إذا انكشف الخلاف ينكشف عدم الواقع مع عدم جعل بدل عنه. و قد أورد عليه استاذنا كا (ره) بتوضيح منا انه ان كان الدليل الظاهري الحاكم بطهارة المشكوك ناظرا الى غير الحكم الصلاتي فواضح إذ لا ربط له به و ان كان يعلم الحكم الصلاتي و ناظرا له فالمراد بحكومته ان كان كشفه عن إرادة الأعم من الطهور واقعي و الظاهري من الطهور الواقع في دليل الشرط للحكم الصلاتي فلازمه عموم دليل الشرط للشرط الواقعي و الظاهري و هو باطل لاستلزامه تنزيل حكم و هو شرطية الطهارة الظاهرية منزلة حكم آخر و هو شرطية الطهارة الواقعية في ظرف جعل شرطية الطهارة الواقعية للصلاة مع انه مرتب عليه و متفرع عليه لأن الحكم الظاهري متفرع عن الواقعي لأن جعل الحكم الواقعي متقدم عليه بمراتب أولا بأن يجعل الطهارة الواقعية شرطا ثمَّ يجعل الطهارة في الظاهر ثمَّ يجعل الطهارة الظاهرية شرطا كالواقعية فكيف يجعلان بجعل واحد و ان كان المراد بحكومته ان المجعول بقاعدة الطهارة هو نفس الطهارة في مرحلة الظاهر فيرتب عليها آثار الواقع و من جملتها الصلاة بها

فهذا ليس من الحكومة في شي ء مع انه لا يوجب الاجزاء و الاكتفاء بها عند انكشاف الواقع لعدم إتيان الصلاة مع شرطها المعتبر فيها في الواقع كما هو الشأن في كل حكم ظاهري بالنسبة للواقع كما في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 300

الامارات، و (دعوى) ان الحكم الظاهري بالطهارة يكون حكما حقيقيا لا عذريا و لا طريقيا و انما هو حكم تنزيلي و ذلك يقتضي ترتب آثار الواقع عليه فتكون الصلاة معه صلاة مع الشرط الواقعي لأن الطهارة مجعولة حقيقة فلا يضر انكشاف الخلاف بخلاف ما إذا قامت الامارة على الطهارة فإن معنى تصديقها البناء على وجودها واقعا فاذا انكشف عدمها انكشف وقوع الصلاة بلا شرطها لعدم جعل الطهارة حقيقة به و انما جعل لحفظ الواقع و تحصيله و قد ظهر عدم حصوله (فاسدة) فإن هذه الطهارة المجعولة غير الطهارة الواقعية و المأخوذ شرطا هو الواقعية لا المجعولة حقيقة فإذا انكشف الخلاف ظهر ان الصلاة كانت بدون شرطها و هو الطهارة الواقعية. نعم لو دل دليل آخر غير الدليل المتكفل للحكم الظاهري بالطهارة على ان الطهارة الظاهرية شرط واقعي للصلاة كما ورد في الصلاة مع جهل النجاسة لم يكن فيه محذور. و جوابه ما قد عرفت ان ظاهر الأدلة هو الاكتفاء بما قام على الجزء و الشرط مع انه لو لا الاكتفاء به لما كان وجه لجعله لأنه ان كان جعله للمعذورية فبمجرد الجهل قد حصلت المعذورية و ان كان جعله لتنجز الواقع فالواقع منجز بالعلم بأصل التكليف و ان كان للتسهيل فليس من التسهيل الجعل في الظاهر. ثمَّ الإعادة بعدها فمقتضى القاعدة هو الاكتفاء إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

(العشرون) [اقتضاء جعل الأمارات و الأصول بنحو السببية كون مؤداها حكما فعليا مشتملا على مصلحة ملزمة]

ان

التحقيق ان جعل الامارات و الأصول بنحو السببية لا الطريقية و مقتضي ذلك هو ان قيامها موجب لحدوث مصلحة ملزمة فيما قامت عليه توجب حكما فعليا على طبقه فلا محالة يكون الحكم الواقعي إنشائيا صرفا فلا يجب الإعادة و لا القضاء عند انكشاف الخلاف لاستصحاب عدم الفعلية و ان شئت قلت: انه على هذا يكون مؤدى الامارة حكما حقيقيا ينتهي أمده بقيام حجة أخرى لا أنه ينكشف خلافه، و بعبارة أخرى انه بعد العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 301

بكون مؤدى الامارة حكما فعليا مشتملا على المصلحة الملزمة فبعد إتيان المؤدى إذا انكشف الخلاف يشك في حدوث حكم فعلي آخر فالأصل عدمه و مجرد العلم بالحكم الإنشائي لا يوجب فعليته مع احتمال عدمها و جوابه انا لو سلمنا ذلك فعند انكشاف الخلاف يظهر ان تلك الامارة لم تكن مجعولة و ذلك الأصل لم يكن مجعولا حتى يكون قيامه مسببا لحدوث مصلحة و لو سلمنا ذلك و التزمنا بوقوعه كما التزمنا به في التقليد عند وفاة المقلد فنقول لا نسلم ذلك إلا إذا قلنا ان دليل الامارة يدل على البدلية المطلقة حتى عند انكشاف الخلاف أو قلنا بان دليل الحكم الواقعي لا إطلاق له بالنسبة الى حال الإتيان بالمأمور به الظاهري و هذا لا فرق فيه بين القول بالطريقية و بين القول بالسببية فلا وجه لتخصيص الكلام بالسببية ثمَّ ان السببية انما تنفع لو كانت المصلحة الحادثة بمقدار مصلحة الواقع أو لا يمكن تدارك ما تبقى من المصلحة معها و إلا لو كانت أقل و أمكن التدارك لما تبقى من المصلحة الملزمة وجب الإعادة و حيث انا نشك في ذلك و لم نحرزه

فالأصل هو الاشتغال لاشتغال الذمة بتحصيل مصلحة الواقع و نشك في حصولها بذلك فلا بد من الإتيان بالواقع اعادة أو قضاء لاحتمال حصولها بذلك. و لكن يمكن أن يقال انه بناء على السببية يحصل مقدار من المصلحة و يشك في وجوب الزائد عليها و الأصل البراءة منه فلا يجب تحصيل ذلك الزائد بإتيان الواقع.

(الحادي و العشرون) السكوت في مقام البيان

فان سكوت المولي و عدم تعرضه للإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف بعد إتيان ما أمر به ظاهرا يقتضي الاجزاء و عدم إتيان الواقع المنكشف و يسمى هذا بالإطلاق السكوتي و قد أجيب عنه انه يكفي في التنبيه على وجوب الإعادة عند خطأ الحجة نفس أدلة الأحكام الشاملة بفعليتها للعالم و الجاهل و فيه ان ذلك غير كافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 302

لأن إطلاقها حتى لصورة إتيان البدل غير مسلم نعم لها إطلاق ذاتي بالنسبة للجاهل قبل إتيانه البدل فان الدليل على الواقع لا يشمل صورة إتيان البدل لكونه بمرتبة متأخرة عنه و لا أقل من الشك في ذلك فيكون الإطلاق السكوتي هو المحكم مع ان دليل الواقع قد لا يكون فيه إطلاق.

حجة المانعين من صحة الأعمال السابقة
اشارة

احتج المانعون من صحة الأعمال السابقة و هم الذين يقولون بوجوب إعادتها في الوقت و قضائها فيما له القضاء و عدم ترتيب الآثار على المعاملات فيما لو عدل المجتهد عن رأيه السابق و استدلوا على ذلك.

(أولا) ما يظهر من ابن إدريس (ره) في محكي سرائره انه إذا تبدل رأي المجتهد و ظهر خطأه و الوقت باقي

فالفعل يجب عليه اعادته لكون الأمر قد توجه اليه لدخوله في موضوعه و عدم الدليل على التقييد بغير من اتي به بنحو الفساد، و الحاصل ان حكم الأمر باقي في ذمته و ما فعله غير مأمور به لا يسقط عنه الفرض فيجب ان يفعل ثانيا ما دام الوقت باقيا لقدرته عليه قال الأستاذ كما (ره) و يدل عليه الأدلة على الأحكام الواقعية المقتضية للامتثال من غير تقييد فالمدعي لسقوطها يحتاج الى دليل، ان قلت انا نستصحب عدم بلوغها إلى المرتبة الفعلية فإنه قبل ظهور دليل الواقع لم يكن الواقع فعليا للجهل به و بعد ظهوره نشك في ان الواقع صار فعليا أو باقيا على عدم فعليته فنستصحب عدم فعليته فلا يجب امتثاله. قلنا لا نسلم عدم فعلية الواقع حين الجهل و انما هو ليس بمنجز من جهة الجهل به و مع ارتفاع الجهل يكون قد تنجز لزوال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 303

المانع من تنجزه مع انا انما نشك في أن ما أتينا به سابقا مسقط له أم لا فالشك في المسقط للتكليف الواقعي لا في فعليته و من الواضح ان الأصل عدم المسقط له مع ان قاعدة الاشتغال تقتضي الإتيان بهذا الواقع في صورة التبدل في الرأي في الأجزاء و الشرائط لأن العلم قد حصل بالتكليف بالصلاة مع الطهارة و لم يدرى بأنه يسقط بالصلاة بالطهارة الظاهرية أو لم يسقط فالفراغ اليقيني من هذا التكليف

المعلوم انما يحصل بإتيان الصلاة مع الطهارة الواقعية فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين وجوب الكلي و العام و بين وجوب الجزئي و الخاص و مقتضي القاعدة الاشتغال و لزوم الإتيان بالخاص هذا بالنسبة إلى الإعادة. و اما بالنسبة إلى القضاء اما بناء على كونه بالأمر الأول فظاهر و هكذا بناء على ان موضوعه عبارة عن عدم الإتيان لأنه يحرز باستصحاب عدم الإتيان و هكذا لو كان الفوت أمرا وجوديا لأن استصحاب عدم الإتيان يثبته بناء على خفاء الواسطة أو حجية الأصل المثبت سلمنا لكنه بناء على كونه بالأمر الجديد فلصدق الفوت لو كان المراد به فوت المصلحة فإن المصلحة الواقعية قد فاتت منه و اما لو كان المراد به فوت الفريضة فالأمر أسهل لكون فريضة الوقت الواقعية قد فاتت منه، هذا كله بالنسبة للأمر الظاهري و اما الأمر الخيالي الحادث بالجهل أو الغفلة أو النسيان فهو لا يوجب الأجزاء و يجب على المجتهد عند انكشاف الحال الإعادة أو القضاء بمقتضى القاعدة حيث لم يصدر من الشارع شيئا يحتمل بدليته عن الواقع ان قلت: انه يحتمل اشتماله على تمام مصلحة الواقع أو على المقدار اللازم منها أو لا يمكن تدارك مصلحة الواقع معه فلا يلزم الإتيان بالواقع و يكتفي بما أتى به قلنا لما لم يوجد كاشف لنا على ان ما اتى به كذلك فمقتضى الاشتغال اليقيني بالتكليف الواقعي و الشك في الفراغ منه هو الإتيان به لا بشي ء يحتمل بدليته عن الواقع ثمَّ ان ما ذكر من عدم الإجزاء فإنما بمقتضى القاعدة الأولية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 304

و لا ينافيه ثبوت الدليل على الاجزاء في بعض الموارد بالإجماع أو

السيرة أو غيرهما كما في نسيان الاجزاء الغير الركنية و الجاهل بحكم القصر و الإتمام و الجهر و الإخفات فإن ذلك لا ينافي كون مقتضى القاعدة الأولية فيها العدم هذا حاصل الدليل الأول لهم على وجوب الإعادة و القضاء عند تبدل رأي المجتهد و هو يرجع الى التمسك بإطلاق دليل الحكم الواقعي بالنسبة الى حال الإتيان بالمأمور به الظاهري عند تبدل الرأي أو التمسك بالأصل و جوابه ان جعل الإعادة من جهة الأدلة الواقعية لا وجه له لأن الدليل على الواقع لا يمكن أن يكون له إطلاق بالنسبة الى ما جعل في الظاهر للاختلاف معه في المرتبة كما تقدم في جواب الحجة التاسع عشر للقائلين بالاجزاء فلا يكون له تقييد و إذا لم يكن له ذلك فليس له نظر لما جعل في الظاهر حتى ينفي إجزائه عن الواقع مع أن دليل الحكم الظاهري للرأي الأول يستفاد منه البدلية المطلقة فيكون حاكما على دليل الواقع نظير البدل الاضطراري كالتيمم، و أما قاعدة الاشتغال و استصحاب الفعلية للتكاليف الواقعية فإنما تنفع لو لم يقم دليل على الاجزاء و البدلية و الأدلة السابقة قد قامت على ذلك و اما الأمر الخيالي فقد ظهر الجواب عنه في الحجة السابعة عشر للقائلين بالاجزاء و أما القضاء فلعدم إحراز صدق الفوت إذ لعل المراد به هو فوت الوظيفة الظاهرية و هذا لم يفته ذلك فالأصل عدم الفوت.

(الحجة الثانية للمانعين) ان سقوط الأمر بالواقع بمجرد امتثال الأمر الظاهري

ان كان مع بقاء الغرض الذي أوجب الأمر بالواقع فلا يعقل إذ يلزم انفكاك العلة عن معلولها و ان كان لعدم القابلية لتحصيل الغرض فهذا لا دليل عليه فيكون موجبا لاحتمال السقوط و لا ريب ان احتمال السقوط بعد العلم بالثبوت موجب للاشتغال. و

جوابها انه قد تقدم الدليل على عدم وجوب استيفاء الغرض الواقعي و الاكتفاء بما أتى به، على أن الاشتغال انما يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 305

فيما لو علم بتنجز التكليف و شك في سقوطه و فيما نحن فيه لم نعلم بتنجز التكليف بالواقع.

(الحجة الثالثة للمانعين) ان القوم التزموا في الموضوعات الخارجية إذا تبدل الرأي فيها بنقض الآثار

فلو قامت أصالة الطهارة على طهارة أرض ثمَّ قامت عنده البينة على نجاستها التزموا بالعمل بالأمارة الثانية فإذا حكموا بالموضوعات بذلك فيقتضي أن يحكموا بالأحكام كذلك عند تبدل رأيه لعدم الفرق بينهما. و لاقتضى ذلك صحة الوضوء و الصلاة عند تبين كون المائع الذي توضأ به خمرا أو بولا بعد قيام الامارة على كونه ماء طاهرا و هو كما ترى لا يلتزم به ذو مسكة. (و جوابها) انه ان كان المراد ان القوم التزموا بالنسبة لما مضى من الآثار فهو غير مسلم و ان كان المراد بالنسبة لما يتجدد من الوقائع فهو صحيح و لا يضرنا. و سيجي ء إنشاء اللّه في جواب الحجة الرابعة ما ينفعك هنا.

(الحجة الرابعة للمانعين) انه لو كان بتبدل الرأي لا تعاد الاعمال الماضية

و يكتفي الشارع بها فلا بد من ترتيب جميع آثار الواقع عليها و ذلك يلزم منه فقها جديدا لأنه عليه إذا جرى أصل الطهارة في شي ء يجب أن يرتب عليه جميع آثار الواقع فلا يحكم بنجاسة ملاقيه واقعا و لو بعد انكشاف الخلاف و أيضا يلزم صحة الوضوء و الغسل فيما إذا كان بماء نجس واقعا طاهر ظاهرا و لو بعد ما انكشفت نجاسته و هذا لا يلتزم به فقيه. و الحاصل انه لو كان الثابت أحكام الطهارة الواقعية للطهارة الظاهرية فلا بد من الالتزام بترتيب جميع آثار الطهارة الواقعية عليها و كذا الالتزام بترتيب جميع آثار الملكية و الزوجية الواقعية على الملكية و الزوجية الثابتة بالدليل، (و جوابها) انا انما نقول بترتيب الآثار المجعولة وضعية كانت أو تكليفية دون أن تتبدل الموضوعات الخارجية ففي الماء المذكور بحسب مقتضى القاعدة هو صحة الصلاة و اما الماء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 306

و ملاقيه فهما نجسان

لأن النجاسة أمر خارجي قد حصل العلم به و هكذا نلتزم بترتيب جميع الاثار لذلك العقد الذي وقع بالفارسية للبيع أو الزوجية لأنها أمر مجعول نعم في صورة ما لو عقد على رضيعته باستصحاب عدم الرضاعة ثمَّ ظهر له انهار ضيعته حرم عليه المقاربة لكون ذلك موضوعا خارجيا و هو لم يتبدل بالاستصحاب و هكذا لو بنى على أن الرضعات العشر غير محرمة ثمَّ ظهر أنها محرمة ففي ما يأتي من الازمان يمتنع عنها لأنه موضوع خارجي بالعلم به تترتب عليه الآثار المستقبلة و اما الآثار الشرعية الماضية فهي نافذة.

(الحجة الخامسة للمانعين) و هي التي قد تستفاد من كلام المرحوم النائيني (ره) من ان القول بالاجزاء يلازم القول بالتصويب

حيث انه لا يمكن القول بالاجزاء إلا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلق الامارة عند قيام الامارة عليه و إنشاء حكم على طبق الامارة على خلاف الحكم الواقعي المجعول الاولي بحيث يوجب تقييد الأحكام الأولية أو صرفها إلى مؤديات الامارات و هذا كما ترى مخالفا لمسلك الإمامية المخطئة إذ مسلكهم ان ليس هناك أحكام إلا الأحكام الواقعية المجعولة الأولية من غير تقييدها بالعلم أو الظن أو الشك و لا بقيام امارة على الوفاق أو الخلاف و ليس هناك تقييد أو صرف إلى مؤديات الطرق و الامارات فليس شأن الطرق إلا التنجيز عند الموافقة و العذر عند المخالفة و ان المجعول فيها ليس إلا الطريقية و الحجية و الوسطية في الإثبات من دون أن توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلق بل المتعلق باقي على حاله قبل قيام الامارة كما هو الحال عند قيام العلم غاية الأمر ان العلم طريق عقلي و الطريقية ذاتية له. و الامارات طرق شرعية مجعولة بجعل الشارع فكما ان الطريق العقلي لا يوجب الاجزاء فكذلك الطريق الشرعي، (و توهم) أن السببية

التي ذهب إليها بعض الإمامية في الطرق و الامارات تلازم القول بالاجزاء (فاسد)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 307

فان مرادهم بالسببية هو اقتضاء جعل الأمارة للمصلحة السلوكية و هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (قده) للتصويب في أول حجية الظن حيث ذكر للتصويب وجوها ثلاثة:

(الأول) التصويب الأشعري و هو أن لا يكون في الواقع حكم إلا مؤدى الامارات و الأصول.

(الثاني) التصويب المعتزلي و هو أن يكون في الواقع حكم يشترك فيه العالم و الجاهل إلا انه بواسطة قيام الأمارة أو الأصل على خلافه تحدث مصلحة غالبة على مصلحة الواقع تقتضي جعل حكم فعلي في الواقع على طبق مؤدى الأمارة أو الأصل.

(الثالث) التصويب الإمامي و هو عند قيام الأمارة أو الأصل تحدث مصلحة سلوكية و ليس مراد الإمامية بالسببية هو الوجه الثاني للتصويب بأن يكون قيام الامارة سببا لحدوث مصلحة في المتعلق يقع التزاحم بينها و بين المصلحة الواقعية و تكون غالبة على المصلحة الواقعية فينشأ حكم فعلي على طبقها بحيث يكون هناك انشائان لحكمين أحدهما متعلق بالواقع الاولي و الثاني متعلق بمؤدى الطريق و الأصل و يكون في الحقيقة حكما واقعيا ثانويا فان هذا لا يقول به الإمامية و انما هو قول المعتزلة في التصويب كما عرفت (و دعوى) انه على هذا لم يبق حكما ظاهريا عند الإمامية (فاسدة) فإن المراد من الحكم الظاهري عندهم هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق أو الأصول و ليس هناك حكمان و يكون الشارع قد أنشأ انشائين و جعلين بل ليس إلا الحكم الأزلي الواقعي و الحكم الظاهري عبارة عن إحرازه بالطرق و الأصول و تسميته ظاهريا لمكان احتمال مخالفة الطريق أو الأصل

للواقع سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو من غيرها فظهر انه ليس على السببية إلا المصلحة السلوكية و لا ريب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 308

أن المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء عند انكشاف الخلاف فإن المصلحة السلوكية على القول بها انما هي لتدارك فوت مصلحة الواقع و هذا مع انكشاف الخلاف و إمكان تحصيل المصلحة الواقعية لا يتحقق لأن تدارك الواقع انما يكون بالمقدار الذي يستند فوته لسلوك الامارة مع كونها قائمة عنده فلو فرض انه قامت الإمارة في أول الوقت على وجوب الجمعة فصلاها ثمَّ بعد انقضاء فضيلة الوقت تبين مخالفة الامارة للواقع و ان الواجب هو الظهر فالذي فات من المكلف هو فضيلة أول الوقت ليس إلا و اما فضيلة الوقت و نفس الصلاة لم تفت لإمكان تحصيلها و هكذا الكلام لو انكشف الخلاف بعد الوقت فإنه بالنسبة للقضاء لم يفت فالمصلحة السلوكية تدور مدار البناء على مقدار الأخذ بالأمارة و مقدار فوت الواقع (فتلخص) ان حال ما قام عليه الطرق و الأصول حال ما قام عليه العلم من حيث عدم إيجاب شي ء من المصلحة أو المفسدة في المتعلق فيكون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء عند تبدلها كما هو مقتضى القاعدة عدم الاجزاء عند تبدل العلم، (و جوابها) ما ظهر مما سبق من أن ظاهر جعل الامارة و الطريق و الأصل هو الاكتفاء بإتيان مؤداها عن الواقع و تنزيله منزلة الواقع فهو بخلاف العلم الذي لم يجعله الشارع و مع هذا الظهور لا يؤثر القطع بعدم حصول المصلحة الواقعية إذ لعل الشارع اكتفى بذلك لعدم تمكن العبد من تحصيلها أو تسهيلا عليه و اما مسألة التصويب فقد تقدم منا الكلام

فيها مفصلا و انه لدى الحقيقة لا يوجد قول بالتصويب إلا بالوجه الأول، و اما ما ذكره في السببية فسيجي ء إنشاء اللّه تعالى ان هذا يرجع الى إنكار السببية و القول بالطريقية فإن القول بالطريقية يستلزم المصلحة في سلوكها و لو للتسهيل على العباد لما تقرر من مسلك العدلية من أن أفعال اللّه تعالى تابعة للمصالح و المفاسد و ان جعله للاحكام تابع للمصالح و المفاسد و انما القول بالسببية الذي ذهب اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 309

بعض الإمامية و بيناه في الأصول هو إنشاء تكليف فعلي على طبق مؤدى الأمارة أو الأصل بسبب وجود مصلحة في المؤدى تقتضي ذلك إلا أن موضوعه الجهل بالواقع. اما كون هذا الرأي صحيحا أم فاسدا فهو مطلب آخر فان الكلام في الاجزاء انما يكون على تقدير صحته.

(الحجة السادسة للمانعين) و هي المستفادة من كلام المرحوم آقا ضياء
اشارة

(قدس سره) و هي و ان كانت تظهر مما سبق إلا انها في الأسلوب و الإيضاح أحسن و حاصلها ان الكلام تارة يجري في الامارات و أخرى في الأصول و على كلا التقديرين فاما أن يكون ذلك مع انكشاف الخلاف يقينا أو بحجة معتبرة

فالكلام يقع في مسائل.
(الأولى) في الأمارات مع انكشاف الخلاف يقينا

و هي اما أن تجري في نفس الحكم كما لو قامت الامارة على صلاة الجمعة ثمَّ انكشف يقينا وجوب الظهر ففي هذه الصورة لا وجه للاجزاء بناء على الطريقية لأن المكلف به هو العمل الواقعي و المطلوب بالتكليف الواقعي هو حصول مصلحته الواقعية و على تقدير خطأ الامارة و الإتيان بمؤداها لا يكون المكلف ممتثلا للتكليف الفعلي المتوجه اليه، إن قلت طريقية الامارة على القول بالطريقية و ان لم تستلزم حدوث مصلحة في مؤداها إلا أن جعل الامارة طريقا الى الواقع بنفسه يستلزم وجود مصلحة فيه يحتمل العقل كونها وافية بمصلحة الواقع فاذا كان دليل جعل الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيكون له ظهور بكون مصلحة الجعل وافية بمصلحة الواقع فيستلزم الاجزاء. نعم إذا كان بلسان تتميم الكشف أو وجوب العمل على طبق المؤدى فلا ظهور له في ذلك لأن لزوم كون الجعل ذا مصلحة لا يستلزم كون تلك المصلحة وافية بمصلحة الواقع، قلت: ان مصلحة جعل الامارة طريقا حسبما يظهر من دليله ليست إلا التسهيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 310

على المكلفين في الوصول إلى الأحكام الشرعية و لا ريب أن مصلحة التسهيل مباينة لمصالح الأحكام الواقعية و معه لا يتصور وفاء تلك بهذه و لو سلمنا ان جعل الامارة بلسان تنزيل المؤدى بمنزلة الواقع فلا يستلزم وفاء مصلحة الجعل بمصلحة الواقع (نعم لو كان

الشارع يقول) اني قد نزلت مؤدى الأمارة منزلة الواقع لكان تنزيله هذا مستلزما لوفاء المؤدى بمصلحة الواقع فإنه يكون التنزيل صادرا من الشارع نفسه لا انه آمر بالتنزيل لأنه حينئذ يكون حكما واقعيا في حال الشك. ان قلت لو سلم عدم إمكان استفادة الاجزاء بملاك الوفاء لأمكن استفادته بملاك التفويت كما في التيمم بتقريب ان جعل الشارع الامارة طريقا الى الواقع مع علمه بخطئها فيه أحيانا، و عدم وفاء مصلحة جعلها بمصلحة الواقع يكشف ذلك عن ترخيصه بتفويت الواقع الذي يستلزمه سلوكها كما ان عدم أمره بالإعادة بعد انكشاف الخطأ يكشف عن عدم إمكان التدارك للواقع الفائت و هذا يقتضي الإجزاء بملاك عدم الاستيفاء. قلت اما كشف ما ذكرت عن الترخيص بتفويت الواقع فهو مسلم و لكنه ما دام الجهل بالخلاف باقيا و اما عدم أمره بالإعادة بعد انكشاف الخلاف فلاستغنائه عن الأمر بالإعادة بإطلاق دليل الحكم الواقعي. هذا حال الامارة على الطريقية التي تجري في الحكم.

و اما الأمارة التي تستعمل في استكشاف موضوع الحكم بناء على الطريقية فهي (تارة) يكون مؤداها حكما شرعيا قد اعتبره الشارع موضوعا لحكم من الأحكام التكليفية كطهارة الماء و حلية الأكل في الحيوان و (اخرى) يكون مؤداها نفس الأمر الخارجي الواقعي الذي لا تناله يد الجعل الشرعي كالماء و التراب و الغنم و على كل حال فلا يكون التعبد بمؤداها إلا تعبدا بنفس الحكم الشرعي أما القسم الأول فواضح و اما الثاني فحيث انه لا تناله يد الجعل الشرعي فلا محالة تكون التعبدية به عبارة أخرى عن التعبد بحكمه الذي تناله يد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 311

الجعل الشرعي كما هو واضح، و العلة التي تقدمت

في عدم الاجزاء في الأمارات التي مؤداها أحكام شرعية جارية هنا حرفا بحرف، ان قلت ان الأمارات التي تجري في الموضوعات تقتضي الإجزاء لأنها توجب توسعة، الاجزاء و الشرائط قلت ان مفاد دليل حجية الامارة اما ان يكون جعل الحكم في مرتبة الظاهر فلا وجه للاجزاء لأن الظاهر من أدلة الشروط و الاجزاء هو كون الشرط هو الواقع الحقيقي لا الظاهري فاذا أتى بالعمل مع الشرط الظاهري لم يكن قد أتى به مع شرطه المجعول له و هو الشرط الواقعي، و اما ان يكون مفاد دليل حجية الأمارة هو تتميم كشفها فلا شبهة في عدم الاجزاء مع انكشاف الخلاف ضرورة ان حال الامارة على ذلك حال القطع الحقيقي فكما ان العمل على طبق القطع لا يوجب الاجزاء مع انكشاف الخلاف فكذلك ما كان بمنزلته و سر ذلك ان مفاد الامارة هو ان الشرط الواقعي حاصل فاذا انكشف الخلاف ظهر انه لم يحصل الشرط الواقعي فلا موجب للاجزاء، و أما ان يكون مفاد دليل حجية الامارة الأمر بتنزيل المؤدى منزلة الواقع، أو الإلزام بترتيب آثار الواقع على مؤدى الامارة تعبدا حال الشك أو الإلزام بالجري على طبق مؤداها ففي كل ذلك لا تقتضي الاجزاء لعدم الدلالة على ان العمل على طبق المؤدى فيه مصلحة تفي بمصلحة الواقع على تقدير الخطأ مضافا الى ان الظاهر من دليل التنزيل ان لا مصلحة فيه غير التسهيل، نعم بناء على التنزيل المذكور ص 310 بأن يقول الشارع قد نزلت مؤدى الأمارة منزلة الواقع يثبت الاجزاء و ان انكشف الخلاف لأن التنزيل و ان لم يكن بلسان أن المؤدى هو الواقع إلا ان تنزيله يقتضي ترتيب آثار الواقع على المؤدى عملا

و يوجب الاجزاء، هذا كله بناء على الطريقية. و اما على السببية فأيضا التحقيق عدم الاجزاء مطلقا سواء كان مؤدى الامارة حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي و ذلك لأن السببية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 312

تطلق على ثلاثة معاني:

(أحدها) ان يكون مؤدى الأمارة هو الحكم الواقعي و ان الواقع يدور مداره و لا ريب في الاجزاء بناء على السببية بهذا المعنى إلا انه لا ريب في فسادها بهذا المعنى عقلا و نقلا.

و (ثانيها) انه بقيام الامارة تحدث في المؤدى مصلحة تجبر ما فات من مصلحة الواقع مثل مصلحة أو الوقت في الصلاة بوضوء قامت الامارة على طهارة مائة مع انكشاف الخلاف في الوقت أو مصلحة تمام الوقت في المثال المزبور مع انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت و لا ريب في عدم الاجزاء على هذا المعنى من السببية.

و (ثالثها) انه بقيام الامارة تحدث في المؤدى مصلحة غالبة على مصلحة الواقع الموجبة لعدم فعلية الواقع. مثلا إذا قامت الامارة على طهارة ماء نجس بعينه فتوضأ به و صلى فإنه بقيام الامارة على طهارته تحدث في الوضوء به مصلحة غالبة على مصلحة الوضوء بماء ظاهر و هذا المعنى من السببية و ان كان خلاف ظاهر أدلة اعتبار الأمارات لأن الظاهر من أدلتها هو اعتبارها بنحو الطريقية إلا انه لا يتوجه عليه اشكال عقلا و لم يقم إجماع على بطلانه و الظاهر ان محل النزاع في الاجزاء على السببية هو هذا المعنى الثالث و كيف كان فإن غاية ما يتوهم سندا للاجزاء هو ان قيام الامارة يوجب مصلحة في مؤداها و بإطلاق دليل اعتبارها و حجيتها يثبت كون تلك المصلحة وافية بمصلحة الواقع أو بمقدار

منها بنحو لا يمكن مع استيفائه استيفاء الواقع و عليه لا محالة يتحقق الاجزاء و لكن فيه ان الاجزاء اما ان يكون بملاك الوفاء فهو غير معقول إذ هو لا يتصور إلا باحداث مصلحة في المؤدى مسانخة مع مصلحة الواقع و لازم المسانخة انقلاب الإرادة الواقعية إلى إرادة أخرى متوجهة إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 313

مؤدى الامارة و هذا أحد أنحاء التصويب الباطل عقلا و اما ان يكون الاجزاء بملاك التفويت و الاستيفاء و هو غير ثابت بل الثابت غيره لأن غاية ما يمكن ان يستدل به على ذلك هو الإطلاق و هو اما كلامي أو مقامي و الكلامي لا يتصور هنا لأنه انما يتحقق بعدم تقييد الكلام بذكر عدل للتخيير أو بالجمع بين العمل على طبق الامارة و العمل على طبق الواقع كما لو قال في الأول أعمل على طبق الأمارة أو على طبق الواقع و كما لو قال في الثاني أعمل على طبق الامارة و الواقع معا و هذا التقييد غير معقول لعدم إمكان الأخذ به في حال الجهل بالواقع و إذا كان هذا التقييد غير معقول فإطلاقه اللحاظي من ناحية ذلك القيد غير تام. و الإطلاق المقامي في المقام و ان كان متصورا و كافيا في إثبات المدعي لأنه يمكن للمولى إذا كان في مقام البيان ان يقول اعمل على طبق الامارة و إذا انكشف، لك الخلاف فاعمل على طبق الواقع فاذا سكت و هو في مقام البيان عن ذكر الحكم بعد انكشاف الخلاف كشف سكوته عن اجزاء العمل على طبق الامارة إلا ان هذا النحو من الإطلاق غير ثابت لكفاية إطلاقات الأحكام الواقعية بيانا لحكم العمل على

طبق الواقع بعد انكشاف الخلاف.

(المسألة الثانية في الأصول) مع انكشاف الخلاف يقينا

و لا يخفى أن الأصول على ثلاثة أقسام:

(الأول) الأصول المحرزة كالاستصحاب و قاعدتي التجاوز و الفراغ.

(الثاني) الأصول الغير المحرزة التي يرى البعض انها وظيفة عملية مهدها الشارع للمكلف ليرجع إليها عند الشك و يرى آخرون انها أحكام ظاهرية جعلها الشارع للشاك كقاعدة الطهارة و قاعدة الحل على المشهور و كإيجاب الاحتياط شرعا و هذان القسمان من الأصول يسميان بالأصول الوجودية.

(الثالث) الأصول العدمية كقاعدة الرفع و نحوها و هذه الأصول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 314

سواء كان متعلقها حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي فالتحقيق عدم الاجزاء بعد انكشاف الواقع اما في الأصول المحرزة فلأن متعلق الأصل ان كان حكما فهو على فرض الطريقية فالاجزاء كما تقدم في الأمارات مبني على وفاء مصلحة الجعل بمصلحة الواقع و على فرض السببية فالاجزاء مبني على وفاء المصلحة الحادثة في متعلق الأصل بمصلحة الواقع، و ان كان متعلق الأصل موضوعا لحكم شرعي فالأصل المحرز ان قلنا ان مفاد دليله هو تنزيل الشك منزلة اليقين فواضح عدم الاجزاء لأنه يكون حاله حال اليقين فلا يزيد عليه فكما عند انكشاف الخلاف في اليقين لا يجزى ما اتي به كذلك الحال في الشك المنزل منزلته و ان قلنا ان مفاد دليله هو الأمر بترتيب آثار الواقع في حال الشك فأيضا عدم الاجزاء واضح فان ذلك لا يستلزم تحقق الواقع و لا تحقق ما يفي بمصلحة الواقع بل يكون ذلك من قبيل الأوامر الطريقية التي يقصد بها المحافظة على الواقع حال الشك و بعد انكشاف الخلاف يكون التكليف الواقعي داعيا الى متعلقه لعدم ما يوجب سقوطه، نعم لو كان المجعول في الأصول المحرزة حكما واقعيا

في حال الشك كما لو كان التنزيل صادرا من الشارع نفسه لا أنه آمر بالتنزيل كان للاجزاء وجه كما تقدم إلا أن ذلك خلاف ظاهر دليل الأصل، و اما ان كان الأصل غير محرز أعني به القسم الثاني من الأصول، فإن قلنا بلزوم الاقتصار على ظاهر أدلة الشروط و الاجزاء فلا يجوز العمل على طبق الأصل حال الشك سواء قلنا بأن الأصل وظيفة عملية مجعولة للشاك في حال الشك أو قلنا بأنه حكم واقعي حال الشك لأن الأصل على هذا غير محرز للواقع بكلا تفسيريه و غير ناظر للواقع حتى حال الشك حتى يؤخذ به في حال الشك بخلاف الأصول المحرزة إذ يحرز بها الواقع و تكون ناظرة اليه و ان كان قد عرفت عدم الاجزاء فيها أيضا نعم ان قلنا بأن المستفاد من ضم دليل الأصل إلى أدلة الشروط و الاجزاء هو كون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 315

الشرط و الجزء أعم من الواقع و متعلق الأصل لحكومة دليل الأصل على أدلة الاجزاء و الشرائط فللاجزاء وجه وجيه لأن دليل المحكوم قد تكفل بإثبات ان الحلية مثلا شرط في صحة الصلاة. و الدليل الحاكم تكفل بإثبات ان الشي ء المشكوك حليته حلال فينتج من الجمع بين هذين الدليلين ان الشي ء المشكوك حليته من أفراد الشرط، و لكن لا يخفى ان المجعول في الأصول الغير المحرز كقاعدة الطهارة و الحل هو الأمر بترتيب آثار الواقع في ظرف الشك لا جعل نفس الطهارة و الحلية فيكون مقتضي قاعدة الطهارة، هو جواز الدخول في الصلاة و نحوها من الأعمال المشروطة بالطهارة لا جعل الطهارة و لازم ذلك عدم الاجزاء بعد انكشاف الخلاف. و اما الأصول

العدمية أعني بها القسم الثالث فعدم الاجزاء معها من جهة ان نفي التكليف بالجزء أو الشرط بها أو رفع المانع بها لا يوجب ان يثبت بها ان الباقي هو المكلف به لأن أدلتها لا إطلاق لها من هذه الجهة و لذا لا يتمسك الفقهاء في باب الأقل و الأكثر بإطلاق أدلة الأقل لنفي التكليف بالأكثر، و عليه فلا محيص من إثبات وجوب الباقي بتلك الأصول بأمرين.

(أحدهما) أن تكون الأصول المزبورة ناظرة إلى تزيل عدم المشكوك فيه منزلة العدم في ترتيب آثار العدم عليه لا حلية الترك في مرحلة الظاهر إذ عليه لا يسوغ الاكتفاء بالباقي لمكان الارتباطية بين الاجزاء و الشرائط و قد قررنا ان نفي التكليف بالجزء أو الشرط بدليل ثانوي كالحرج و الاضطرار يكون على نحوين:

(الأول) نفيه بلا نظر الى نفيه في الواقع و عليه فلا يجوز الاكتفاء بالباقي لمكان إرتباطية المصلحة.

(الثاني) أن يكون نفيه ناظرا الى نفيه في الواقع و مقتضى ذلك جواز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 316

الاكتفاء بالواقع.

(ثانيهما) أن يكون وجوب الباقي من الآثار الشرعية لنفي المشكوك فيه ليرتب على نفيه وجوب الباقي و لكن يمكن منع كلا الأمرين.

(أما الأول) فلأن الظاهر من دليل اعتبار تلك الأصول العدمية انها وظيفة شرعت في ظرف الجهل و لا تكون ناظرة إلى نفي التكليف في مرحلة الواقع.

(و أما الثاني) فلأن أصل وجوب الأكثر و ان كان مجعولا شرعيا و لكن تحديده بالأقل لازم عقلي لنفي جزئية المشكوك أو شرطيته فترتب وجوب الأقل على نفي المشكوك من الأصل المثبت إلا أن يتشبث بخفاء الواسطة أو بوجه آخر و هو الذي بني عليه أستاذ الاساتذة في حديث الرفع، ثمَّ انه بعد تمام

الأمرين المذكورين و جواز الاكتفاء بالباقي ببركة القاعدة تصل النوبة إلى مسألة الاجزاء و عدمه بعد انكشاف الخلاف و قد عرفت مما سبق ان الظاهر من أدلة الأصول العدمية هو التنزيل تعبدا و ترتيب الأثر في مرحلة الظاهر لا ارادة ترتيب أثر الواقع واقعا و لا أقل من الشك فالنتيجة عدم الأجزاء هذا كله لو انكشف الخلاف يقينا و علما.

(المسألة الثالثة) فيما لو أخذ المكلف بأمارة أو أصل ثمَّ انكشف الخلاف

بظن معتبر و الكلام تارة في مقتضى القواعد الأولية و أخرى في مقتضي الأدلة الثانوية، أما على الأول فالتحقيق عدم الاجزاء، بيان ذلك ان الاختلاف اما ان يكون من جهة اختلاف الرأي في الظهور اللفظي أو من جهة العثور على مخصص، أو من جهة العثور على معارض أقوى و في جميع ذلك لا يجزي ما أتى به على طبق الرأي الأول لأنه ينكشف للمكلف عدم تمام الحجة الأولي و انه كان يتخيل وجودها على الرأي الأول فيرى المكلف انه يلزمه عقلا تدارك الواقع الذي وصل إليه بالحجة الثانية كما في صورة انتقاض القطع بالقطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 317

و عليه فلا وجه للقول بالاجزاء في الأعمال السابقة إلا توهم تدارك مصلحة الواقع بمصلحة جعل الطريق أو المؤدى و قد عرفت فساد هذا الوهم و لو سلمنا ذلك فبتبدل الرأي ينكشف عدم تحقق الطريق المجعول على الرأي الأول فلم يكن في البين ما يوهم التدارك ليقال بالاجزاء هذا مقتضي الأدلة الأولية، و أما مقتضي الأدلة الثانوية فالظاهر تحقق الإجماع على عدم وجوب الإعادة و القضاء في الصلاة و قد ادعي بعضهم الإجماع على الاجزاء مطلقا و لكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها كما انه قد يتمسك لعدم وجوب الإعادة أو القضاء في

الصلاة بحديث (لا تعاد) بتقريب ان الحديث يشمل الخلل الواقع في الصلاة جهلا بالموضوع أو الحكم أو نسيانا لهما سواء كان الجهل بسيطا أو مركبا و لكن هذا الحديث غير ناظر لصورة الجهل البسيط فيما يحتمل قبل الدخول ان الشي ء الذي يتركه جزء أو شرط إذ لو كان ناظرا إليه في هذه الحال لزم ترخيصه بتركه فيكون حينئذ مخصصا لأدلة الاجزاء و الشرائط في مقام الجعل و هذا خلاف ظاهر الحديث إلا اللهم ان يفرق بين صورة ما إذا كان لا حجة له على العمل الذي جاء به ناقصا و بين ما إذا كان مع الحجة على حكم العمل الذي عمله فيمكن أن يقال بشمول حديث (لا تعاد) للصورة الثانية لأنه قد دخل في العمل بحجة سوغت له مخالفة احتمال وجوب غير ما قامت عليه الامارة و يكون قيام الحجة بعد ذلك عليه من قبيل الالتفات بعد النسيان.

(المسألة الرابعة) لا ينبغي الإشكال في عدم الاجزاء فيما لو عمل ناقصا

لعذر عقلي كالقطع بعدم وجوبه أو نسيانه أو استند الى البراءة العقلية في الترك لعدم ما يوجب توهم الأجزاء إلا إذا كان المنسي من أجزاء الصلاة لحديث (لا تعاد)، و يقرب من هذه الحجة باختلاف يسير ما ذكره المرحوم الأصفهاني (ره) ما حاصله ان مؤدى الاجتهاد السابق إذا كان قد قامت عليه الأمارة الشرعية كالخبر فان قلنا بحجة الامارات من باب الطريقية فيجب نقض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 318

الآثار السابقة لأن حجيتها على هذا الوجه اما ان لا تتضمن إنشاء طلبيا كما إذا كان المجعول هو المنجزية للواقع و الكاشفية له و اما ان تتضمن إنشاء طلبيا كما إذا كان المجعول وجوب العمل على طبقها و هذا الإنشاء اما ان يكون بداعي تنجز

الواقع فهو كالأول لا شأن له إلا تنجيز الواقع عند المصادفة و اما ان يكون بداعي جعل الداعي بعنوان الإيصال للواقع فلا محالة يكون مقصورا هذا الإنشاء على صورة مصادفة الواقع فعلى أى تقدير لا حكم حقيقي في صورة المخالفة حتى توجد موافقة تكليف فعلي ظاهري. و اما ان قلنا بالسببية و الموضوعية فمقتضاها اشتمال الفعل بعنوانه الثانوي أعني بعنوان أنه مؤدى الامارة على المصلحة المغايرة لمصلحة الواقع موجبة لإنشاء حكم فعلي على طبق المؤدى و هذه المصلحة اما تكون مسانخة لمصلحة الواقع و بدلا عنه فلا محالة تقتضي الاجزاء و صحة الأعمال السابقة. و اما ان تكون مغايرة لمصلحة الواقع فهي لا تقتضي الاجزاء إذ لا موجب لسقوط الحكم الواقعي لعدم امتثاله و لا إتيان ملاكه أو ما يقوم مقامه و حيث ان الأمر بناء على السببية لم يكن إنشائه بداعي تنجيز الواقع و انما كان بداع جعل الداعي لمؤدي الامارة و انه بما هو هو مطلوب لا بما هو معرف للواقع لم تكن فيه دلالة على ان الحكم المنشأ منبعث عن مصلحة هي بدل عن مصلحة الواقع و انما يقتضي أنها مصلحة مغايرة لمصلحة الواقع فقط و (دعوى) لزوم كون المصلحة بدلا عن مصلحة الواقع لئلا تفوت مصلحة الواقع من دون تدارك لها (مدفوعة) بأنها مشتركة الورود على الطريقية و السببية مضافا الى ما تقرر في محله من عدم لزوم كون المؤدى ذا مصلحة فضلا عن كونها بدلا عن الواقع إذ ربما يكون إيكال العبد الى الطرق القطعية موجبا لفوات الواقعيات عليه أكثر من العمل بالأمارات و موجبا لوقوعه في مفسدة أعظم من فوات مصلحة الواقع أحيانا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 319

مضافا الى ان تفويت مصلحة بإيصال مصلحة أخرى مساوية لها أو أقوى لا قبح فيه و ان لم تكن مسانخة و (دعوى) انه لا بد ان تكون المصلحة بدلا عن مصلحة الواقع و مسانخة لها إذ لو لم تكن كذلك للزم الأمر بتحصيلهما معا تعيينا إذا أمكن اجتماعهما فيأمر بتحصيل الواقع بتحصيل الطرق العلمية أو الاحتياط لئلا تفوت مصلحة الواقع و يأمر بتحصيل مؤدى الامارة لئلا تفوت مصلحة المؤدى و ذلك خلاف الإجماع بل ضرورة الدين إذ لم يذهب أحد الى ذلك و اما إذا لم يمكن اجتماعهما أمر بتحصيلهما على سبيل التخيير و هذا خلاف ظاهر الأمر بالواقع فإنه ظاهر في التعيين و خلاف ظاهر الأمر الطريقي فإنه ظاهر في التعيين أيضا فلا بد ان تكون المصلحتان متسانختين و إحداهما بدل الأخرى فيتعين الاجزاء (فاسدة) لأن المصلحتين قابلتان للاجتماع إلا ان المصلحة الواقعية لا يجب تحصيلها الى حد بحيث يجب عليه ان يحصلها بالطرق القطعية بل وجوب تحصيلها عليه لو وصل لها عادة و مع عدم الوصول العادي إليها و قيام الامارة لا يجب تحصيلها و انما يجب تحصيل مؤدى الامارة كما انه مع الوصول الى الواقع لا موقع للتعبد بمؤدى الامارة فالمصلحتان تعينيتان في ذاتهما من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواقع و المؤدى من قبيل المتباينين كالظهر و الجمعة أو الأقل و الأكثر (نعم) بناء على السببية فرق بين الواجبات و بين العقود و الإيقاعات فإن مصالح الواجبات استيفائية فيمكن بقاء مصلحة الواجب الواقعي على حالها فلا بد من استيفائها بعد كشف الخلاف بخلاف مصالح جعل العقود و الإيقاعات فإنها غير استيفائه و غير قابلة للتدارك فبناء على

السببية تكون المصلحة في جعل الملكية بالعقد الفارسي فيكون العقد الفارسي سببا حقيقة للملكية بواسطة المصلحة القائمة في المؤدى لفرض حجية الامارة على نحو السببية. و عليه فيكون العقد الفارسي القائم عليه الامارة كالعقد العربي في سببيته للملكية و ليس له كشف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 320

الخلاف و انما عند قيام الحجة من العلم أو العلمي بأن العقد الفارسي ليس بصحيح يكون قد انتهى أمد سببيته للملكية نظير النسخ و لكن هذا انما يتم بناء على السببية لا بناء على الطريقية إذ على الطريقية لا يكون هناك جعلا للملكية بالعقد الفارسي و حيث ان الحق في باب التعبد بالخبر الذي هو العمدة في باب الامارات هو الطريقية فالحق لزوم النقض للآثار السابقة بالاجتهاد الثاني إلا ما قام الدليل عليه هذا حال الامارات و اما (حال الأصول) فالاستصحاب بناء على كون مفاد دليله منجزية اليقين السابق أو معذريته في اللاحق كما هو ظاهره فحاله حال الامارة على الطريقية المحضة التي لا تقتضي إنشاء طلبيا أصلا و بناء على كون مفاد دليله جعل الحكم على طبق مؤداه بعنوان الإيصال للحكم الواقعي في اللاحق فحاله أيضا حال جعل الحكم على طبق مؤدى الامارة بعنوان الإيصال إلى الواقع فلا يقتضي الاجزاء كما تقدم في جعل الامارة على الطريقية من أنه يكون هذا الإنشاء مقصورا على صورة مصادفة الواقع فعلي أي تقدير مع كشف الخلاف لا حكم حقيقي حتى يوجد مجال لتوهم الاجزاء و اما بناء على أن مفاد دليله جعل الحكم على طبق مؤداه على أي تقدير حتى على تقدير مخالفة الواقع فهو و ان كان يقتضي انبعاث هذا الحكم عن مصلحة في المؤدى إلا

أن حاله حال الامارات بناء على السببية في عدم اقتضائه لكون المصلحة مسانخة لمصلحة الواقع أو بدل عنه حتى تجزى عن الواقع، و منه تعرف حال البراءة الشرعية فانا و ان قلنا مقتضاها نفي الحكم حقيقة فعلا و يجعل فيها عدم الوجوب و عدم الجزئية و الشرطية دون جعل المعذورية إلا ان فعلية الأمر بما عداه لا تقتضي إلا كون الأمر بالباقي ناشئا عن مصلحة إذ لا يعقل الأمر حقيقة إلا كذلك لكنه لا تتعين تلك المصلحة ان تكون بدلا عن الواقع حتى يتعين الاجزاء و (دعوى) ان عدم الجزئية تارة بعدم جعل منشأ انتزاعها، و مقتضاه تعلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 321

الأمر بالباقي فلا يكشف عن مصلحة بدلية فيه و أخرى بجعل منشأ انتزاع عدم الجزئية. و مقتضاه جعل عدم وجوب المجموع المركب من المشكوك و من الباقي لا مجرد المعذورية و يكشف عن عدم المصلحة الملزمة في المجموع المركب و ذلك يقتضي الاجزاء مع ان تعلق الأمر الفعلي بما عدى المشكوك محقق و لا أمر به إلا بعنوان نفس المركب فلا محالة يكشف عن المصلحة البدلية لأنه يكشف عن الغرض المرتب على الصلاة بما هي صلاة و منه تعرف الفرق بين ما يدل من الأصل و الامارة على نفي الجزئية و الشرطية و بين ما يدل على ثبوتهما فإن منشأ انتزاعهما ثبوتا هو الأمر الفعلي بالمركب من المشكوك بعنوان آخر فلا يكشف إلا عن مصلحة فيه لا عن المصلحة المرتبة على الصلاة بما هي (فاسدة) لأن كشف جعل عدم الوجوب للمركب عن عدم المصلحة الملزمة انما هو يكشف عن عدم كون المصلحة في المركب بحد لا بد من إتيانها

و لو بتحصيل الطرق العلمية لا عن عدم المصلحة الملزمة في المركب رأسا و إلا لزم الخلف من تعلق الأمر الواقعي بها. و اما كشف الأمر بالباقي فعلا عن ترتب الغرض من الصلاة عليه فغايته ترتب مرتبة من الغرض لا بتمامه و إلا لزم مساواة الأكثر و الأقل في المصلحة و محصلية غرض واحد فلا بد في دعوى الاجزاء من دليل على مصلحة بدلية أو عدم إمكان استيفاء الباقي من المصلحة. و الجواب عن ذلك كله يظهر مما سبق من ظهور الأدلة في الاكتفاء بما أتي به و السيرة بل و الإجماع على ذلك فانا لم نر أحدا أمر مقلديه عند تبدل رأيه بإعادة أعمالهم أو قضائها أو عدم ترتيب الأثر عليها و قد تقدم ذلك مفصلا كما ان النقاش في بعض كلماتهم تظهر في كتبنا في الأصول و اللّه العالم.

(الحجة السابعة للمانعين) [عدم كون العمل بالقول الأول للمجتهد عند تبدله اتباعا له و تقليدا]

ان التقليد بأي معنى فسر من الأخذ بقول الغير من غير دليل أو قبوله كذلك أو العمل به أو ما يقرب من هذه المعاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 322

يكون من الأمور التي تتعلق برأى الغير و التابعية له. و لا يخفى ان هذا العنوان منتف في المقام عند تبدل الرأي ففي حال التبدل لم يكن العمل بقوله الأول فيه اتباع له فلا يكون تقليدا و جوابه انه يكون اتباعا له في ذلك الزمان نظير البقاء على تقليد الميت.

(الحجة الثامنة) التي تظهر من كلمات استاذنا كا (قدس اللّه سره) ان عدم صحة الأعمال السابقة مقتضى الجمع بين أمور:

(منها) كون الامارات طرقا الى الواقعيات من دون أن يكون لها موضوعية و نحو مصلحة توجب قلبها.

و (منها) انا كما نقول بالتخطئة في الأحكام نقول بالتخطئة في الموضوعات و (منها) ان مقتضى القاعدة ان يكون الموضوع للآثار هو السبب الواقعي دون الاعتقادي بالنسبة إلى المباشر يعني ما يترتب عليه النقل و الانتقال و الحلية و الحرمة هو السبب الصحيح في الواقع دون الاعتقاد. نعم الطريق الى الصحيح الواقعي هو اعتقاد المجتهد بالنسبة اليه و الى مقلديه دون اعتقاد غيرهم و ان كان قد يكون السبب هو الصحيح بحسب اعتقاد الغير لا الصحيح في الواقع كما في صحة صلاة الإمام بالنسبة إلى صلاة المأموم عند بعض إلا ان القاعدة تقتضي ما ذكرنا.

و (منها) ان الامارة الثانية القائمة عند المجتهد حجة بالنسبة إلى الوقائع السابقة و انها لا تختص حجيتها بواقعة دون أخرى، نعم لا معنى لحجيتها بالنسبة الى ما لم يكن له اثر حال قيام الامارة.

و (منها) عدم المعارضة بين الامارات السابقة و اللاحقة بعد فساد السابقة و تبين الخطأ فيها بل لعل لدليل اللاحقة نحو حكومة بالنسبة إلى السابقة فلا يتوهم التعارض بينهما

فضلا عن تقديم السابقة على اللاحقة، مضافا الى ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 323

المعارضة لا تنفع في الأجزاء، ثمَّ بعد الجمع بين هذه الأمور لا ينبغي التأمل في اقتضاء القاعدة عدم الأجزاء في سائر الموارد. و يمكن التمسك في باب الصلاة بقاعدة الفراغ و أصالة الصحة بل و يجرى ذلك في مطلق العبادات بل و غيرها من المعاملات حتى بالنسبة إلى الصادر من الغير أيضا لعموم أدلة البناء على الصحة لكنه و ان كان غير بعيد بناء على ظاهر إطلاقاتها إلا ان قصر حجيتها في خصوص الشبهات الموضوعية دون الحكمية و ظهورها و لو انصرافا أو نظرا إلى الحكمة المشار إليها في بعض الاخبار في مورد لم تكن صورة العمل محفوظة بل و في سوقها سوق إلغاء احتمال السهو و النسيان يبعد الاعتماد على هذا الإطلاق و لذا لم يحضرني من تمسك بها نعم في خصوص الصلاة إذا لم يوجب الاختلاف زيادة ركن أو نقصه يمكن التمسك بلا تعاد و لا وجه للتعدي إلى غيرها، و مع ذلك فالمسألة في نهاية الإشكال إلا ان يثبت الدليل على أن العمل الواقع صحيحا باجتهاد أو تقليد صحيح يرتب عليه آثار الصحة و لو بعد بطلان الطريق فيكون حال طريقه بعد اختلاف رأيه حال العمل الصادر من مجتهد بالنسبة لمجتهد آخر فإن الأخر يرتب آثار الصحة على موضوع صدر باجتهاد مجتهد غيره و ان كان مخالفا له في الرأي ألا ترى أنه يجوز له التصرف بالبيع و الشراء منه فيما اشتراه بالعقد الفارسي و تحرم عليه امرأة زوجها به. كذلك يكون حال نفسه بالنسبة إلى زمان الاجتهادين و الانصاف انه ليس ببعيد. و الجواب

عن ذلك قد عرفته مما تقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 324

(السادس عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص وظيفة المجتهد (بالنسبة لإعمال غيره المخالف له في الرأي)

أن المجتهد بالنسبة لإعمال غيره بل و المقلد كذلك يتصور على صور أربعة:

(إحداها) أن يكون شاكا في مخالفة الغير له في حكم عمله. و في هذه الصورة يحمل عمله على الصحة لما تقدم ص 36 من ثبوت هذا الأصل و صحته. فإذا رأى شخصا قد بني مسجدا و شك في أنه بناء بالآجر المعمول من الطين النجس أو عقد على امرأة و شك في انه عقد عليها بالفارسية الذي هو في نظره فاسد حتى يصح له أخذها بنى على الصحة و حرم عليه أخذها.

(ثانيها) ان يعلم بمخالفته له اجتهادا أو تقليدا كما إذا كان المجتهد يفتي بجواز العقد بالفارسية أو جواز البيع بالمعاطاة و قد عقد هو أو أحد مقلديه بالفارسية أو باعوا بالمعاطاة فهل يجب على المجتهد الآخر المخالف له في الرأي أو مقلديه ترتيب آثار النقل و الانتقال على ذلك البيع بالمعاطاة و ترتيب آثار الزوجية على ذلك العقد بالفارسية أو عدم جوازه لاعتقاده الفساد مقتضى القاعدة عدم الجواز فلا يرتب آثار الزوجية و لا آثار الملكية لأنه يكون ما أتى به في نظر الغير خلاف الواقع. إلا ان الظاهر ان ما كان منها موضوعا للأثر إذا كان صحيحا عند فاعله فلا إشكال في وجوب الترتيب عليه كما يقال ان الطلاق الصحيح عند فاعله يرتب عليه أثر المفارقة و عدم الزوجية حتى ممن يرى فساده عنده و كما يقال في الائتمام بصلاة الجماعة بالنسبة للمأموم الذي خالفه الامام فيما يعتبر في الصلاة فإنه قيل يصح ائتمامه به لأن المعتبر في إمام الجماعة ان تكون صلاته صحيحة في نظره و

لا يلزم ان تكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 325

صحيحة في نظر المأموم. و اما ما كان منها ليس كذلك فالظاهر هو وجوب الترتيب أيضا لقيام الإجماع و لما ذكرناه في الدليل السابع عشر ص 297 من انه لا إشكال في ان يرتب آثار تلك العقود الفاسدة في المذاهب الأخرى مع انهم مكلفون بالواقع فبالطريق الأولى ان يرتب ذلك على آراء أهل المذهب الصحيح المخالفة للواقع.

و قد استدل هل أولا: بأن مؤدى الدليل قد أخذه الشارع ما دام ثابتا في حق من قام عنده و لم ينكشف له خلافه موضوعا لترتيب الآثار عليه ممن له تعلق بتلك الواقعة و لو كان رأيه مخالفا لمن قام عنده ذلك الدليل. و هذا ليس بعزيز في الشريعة بل له نظائر كثيرة كما في تقسيم الحاكم الدار الذي تداعيا فيها متداعيان مع ثبوت يدهما معا أو خروجها كذلك و تعارض بينتهما أو عجزهما عن البينة حيث يجوز للحاكم و غيره ترتيب آثار ملكيتهما و الشراء منهما معا مع العلم بعدم ملك أحدهما للنصف، و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم ذلك بل هو عين الدعوى، ان قلت ان الأدلة على اعتبار الظن مطلقة تقتضي أن يرتب آثار الواقع على مؤداها سواء كان من قام عنده الظن أو من لم يقم عنده الظن، قلنا لو سلمنا ذلك فهو لا ينفعنا في المقام لأن المجتهد الآخر لا يرى ان هذا الظن مما قام الدليل على اعتباره حتى يرتب عليه الآثار.

و قد يستدل له ثانيا ان حجية الامارة لما كانت بنحو السببية فتقتضي ثبوت الحكم في حق من قامت عنده و لازمه ترتيب الآثار عليها، و فيه مضافا

الى عدم تسليم هذا المبنى. ان من يقول بالسببية انما يقول بكون الامارة سببا لحدوث المصلحة في مؤداها بالنسبة لخصوص من قامت عنده دون غيره جبرا لما فاته من مصلحة الواقع و لو سلمنا ذلك فلا نسلم أن المصلحة الحادثة بسبب قيام الامارة وافية بمصلحة الواقع الفائت فلا وجه لمن انكشف عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 326

الواقع ان يرتب الأثر على غير الواقع الثابت بالأمارة عند الغير.

و قد يستدل له ثالثا: بأن الأصل هو حمل فعل المسلم على الصحة فإن المراد هو ترتيب آثار الصحيح عند الحامل و إلا فأي فائدة للحمل على الصحة عند الفاعل مع عدم ترتيب الآثار للصحة عند الحامل مع انا نراهم عند الاختلاف في الرأي اجتهادا أو تقليدا يحملون على الصحة من دون ملاحظة للاختلاف في الرأي ألا ترى ان العقود و الإيقاعات قد وقع فيها الخلاف بكثرة و مع ذلك فبناء العلماء و العوام على ترتيب آثار الصحة عليها من دون تفحص عن ذلك فلا بد ان يكون ذلك من جهة ما ذكرناه من ثبوت الصحة بالنسبة للحامل في الواقعة التي قد وقعت من المخالف له في الرأي و ان كان نفس الحامل لا يجوز له ان تصدر منه تلك الواقعة بهذا النحو لترتيب الأثر عليها، و فيه ان الحمل على الصحة انما هو في صورة الشك لا في صورة العلم بالمخالفة و لعل الشارع في تلك الصورة أمر بالحمل على الصحة من باب التخفيف على العباد أو لشي ء آخر فلا وجه لاستفادة ترتب الصحة في صورة العلم بالمخالفة (و يتفرع على ذلك) انه لو أخذ حق الامام عليه السّلام و الغير يرى انه يجب

إلقائه بالبحر فهل يجوز للغير معاملة الملك له و مثله إذا ذبح شخص ذبيحة بتقليد مجتهد فهل يجوز لمن خالفه الأكل منها أم لا و مثله ما لو بني المسجد من آجر معمول من الطين النجس اجتهادا أو تقليدا لمن يرى ان استحالته الى الآجر مطهرة له فهل يجب على الغير الذي لا يرى هذا الرأي قلع الحجارة و تخريب المسجد و عدم مسه برطوبة و عدم السجود عليه ممن يرى جواز السجود على الآجر و نظير ذلك من بنى على طهارة الغسالة اجتهادا أو تقليدا أو كفاية المرة في التطهير و خالفه الآخر اجتهادا أو تقليدا فبني على نجاسة الغسالة و عدم كفاية المرة فهل يجب على المخالف له بالرأي اجتنابه و هكذا لو عقد الابن على المرأة بالفارسية اجتهادا و تقليدا ثمَّ طلقها قبل الدخول بها و كان الأب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 327

يرى عدم صحة العقد بالفارسية اجتهادا أو تقليدا فبناء على ترتيب آثار الصحة لا يجوز للأب التزويج بها و بناء على العدم جاز التزويج بها و نحو ذلك و هذه الفروع و أمثالها ان كان الاختلاف فيها في المجعولات الشرعية فالحق كما ذكرناه من ترتيب آثار الصحة و ان كان الاختلاف فيها في الأمور الخارجية فلا وجه له لعدم وفاء الأدلة المذكورة بذلك و منه يعلم ان الطهارة و النجاسة ان كانت من المجعولات الشرعية بنى على الصحة و إلا فلا وجه له.

(ثالث الصور) ان يعلم مخالفته له و لكنه لا يدري ان عمله عن جهل أو تقليد أو اجتهاد أو عن غفلة كما لو رأى الذي يذهب الى فساد البيع بالمعاطاة ان زيدا قد اشترى

بالمعاطاة و لكنه قد شك في ان زيد اشترى بالمعاطاة عن جهل أو تقليد لمن يقول بصحتها أو اجتهاد بصحتها، و التحقيق انه إذا قلنا بالصحة في الصورة الثانية نبني على الصحة و نرتب آثار الصحة على ذلك لثبوت أصالة الحمل على الصحة و الالتفات للوظيفة فان العقلاء بانين على ذلك.

(رابع الصور) ان يعلم بمخالفته له و لكنه يعلم بأنه جاهل أو غافل و ليس بمجتهد و لا مقلد في عمله هذا كما لو عقد على زوجته بالفارسية جهلا أو غفلة و في هذه الصورة لا يجوز لمن يرى بطلان العقد بالفارسية ترتيب آثار الصحة على ذلك و ان كان عمل ذلك الجاهل مطابقا لأحد الأقوال في المسألة حيث ان مقتضى القاعدة هو عدم ترتيب الآثار لفساد المعاملة في نظره و ما تقدم من الدليل الدال على ترتيب الآثار على عمل المخالف هو الاعمال الصادرة منه عن وجه صحيح عنده لا مطلق الاعمال و هذا ليس عمله بصحيح عنده.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 328

(السابع عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص وظيفة المجتهد في الأمور (التي يقوم بها عن الغير المخالف له في الرأي)

ان الذي يقوم بعمل عن الغير اما ان يكون وكيلا عنه كما لو وكله في إجراء عقد أو إيقاع أو إعطاء زكاة أو خمس أو كفارة أو نحو ذلك فيجب ان يعمل بمقتضى رأى الموكل اجتهادا بل أو تقليدا لا بمقتضى رأيه اجتهادا أو تقليدا لأن وظيفة الوكيل إتيان ما كان فعليا من الواقع بالنسبة إلى موكله. و الفعلي. من الواقع بالنسبة إليه هو ما كان مؤدى لطريقة فإن الغرض من التوكيل للموكل هو ترتيب الآثار بحسب التكاليف المتوجهة إليه كبيع الدار و تزويج المرأة و أداء الزكاة و لا شك ان ذلك مرتب على ما كان من

الواقع فعليا بالنسبة اليه و ليس ذلك إلا ما أدت اليه حجته لا حجة الوكيل و الحاصل ان الوكيل بمنزلة الآلة الموصلة و لذا يصح إسناد المعاملة إلى الموكل و يكون هو المخاطب بترتيب آثارها و لان تصرف الوكيل انما هو بالاذن لا بالملك و الولاية فيلزم اقتصار المأذون على ما اذن فيه و من المعلوم انما اذن له فيما كان يراه مطلوبا منه فتكون وظيفة الوكيل إتيان ما هو مطلوب من موكله و المطلوب من موكله هو مؤديات الطرق و الأمارات الواصلة إليه دون الواصلة إلى الوكيل عنه (ان قلت) ان الواقع بالنسبة إليهما واحد و تكليف الوكيل هو إتيان الواقع بدل الموكل و طريق إحراز ذلك هو ما أدت الطرق و الأمارات الواصلة إليه فيجب ان يراعي ما هو طريق بالنسبة اليه و لو كان العمل للغير (قلنا) الوكيل انما هو وكيل عن الموكل في تحصيل الواقع بالنسبة للموكل لأنه المكلف بالعمل به ممن يريد شراء دار له و تزويج امرأة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 329

أو دفع زكاة يريد تحصيل ذلك على وجه جائز له فاذا وكل وكيلا في ذلك فهو انما وكله و أنا به عنه في هذا العمل بهذه الكيفية لا في عمل آخر أو كيفية أخرى فإنه لم يوكله في ذلك فيكون إتيانه بالعمل مخالفا لموكله إتيانا بغير ما هو وكيل فيه، نعم إذا جعل العهدة إليه بحيث يخرج عنها بمجرد إيصال المال اليه نظير إقباضه المجتهد بما هو ولي المستحق فيخرج من عليه الحق بمجرد إيصال المال اليه عن العهدة لكن هذا الفرض خارج عما نحن فيه فان كلامنا فيمن يؤدي ما يؤدي بعنوان الوكالة

لا بعنوان الولاية على مستحقه (ان قلت) أن الوكيل لا يتمشى منه قصد القربة في العبادات كالوكيل في إعطاء الزكاة أو الخمس أو الكفارة إذ لا يتمكن من قصد القربة بعمل قام الدليل عليه عنده بعدم كونه عباديا، (قلنا) تمشي القربة منه من هذه الجهة ليس بأشكل من تقربه بأمر الموكل مع ان بعضهم كأستاذنا كا (ره) كان يمنع من وجوب قصدها على الوكيل فلا يجب على الوكيل في أداء الزكاة و الخمس قصد القربة:

هذا مع علم الوكيل بالمخالفة للموكل. و اما مع شكه في المخالفة فالظاهر عدم وجوب الفحص و جواز إتيان العمل على طبق رأيه للسيرة القائمة على ذلك، (نعم) لو كان الموكل وكل الوكيل على العمل على طبق رأي الوكيل أو فوض الأمر لاختياره اتى بالعمل على طبق رأيه لا رأي الموكل، و اما ان يكون وصيا عن الميت فيمكن ان يقال كما هو رأي استاذنا كا (ره) و ابن عمنا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ره) بوجوب رعاية رأيه اجتهادا أو تقليدا لا رعاية رأى الميت لأن الميت لا يقصد بوصايته له إلا رفع الوزر و العقاب عنه و تحصيل الثواب له فإنه لا ريب ان من يوصي باستئجار من يصلي عنه ليس غرضه من ذلك، إلا رفع ما توجه عليه من استحقاق العقاب و من المعلوم أن العقاب المتوجه اليه ليس إلا على الواقع الفائت عنه لا على مخالفة الطريق و الوصي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 330

يرى ان الواقع هو ما قامت الحجة عنده عليه لا ما قامت الحجة عند الميت عليه.

و لذا نحن نلتزم حتى في الوكالة في انه لو وكله على تحصيل الثواب له

و رفع العقاب عنه كان على الوكيل ان يأتي بالأعمال على طبق رأيه لا على طبق رأى الموكل ان قلت ان الوصية استنابة في التصرف بعد الموت و الميت انما يستنبط في العمل الذي يراه مفرغا لذمته و الذي يراه مفرغا لذمته هو ما طابق رأيه لا رأى الوصي، مضافا لما ذكره بعض المتأخرين من دعوى انصراف الوصية عرفا الى ما يراه الميت مفرغا لذمته كالوكالة. قلنا قد عرفت انه انما يستنيبه في فراغ ذمته من استحقاق العقاب و تحصيل الثواب و لا نسلم انصراف الوصية الى ذلك بل انما تنصرف الى ما ذكرناه من انها ارفع استحقاق العقاب و تحصيل الثواب (ثمَّ) انه لو أوصى الميت بالعمل على ما يوافق اجتهاده أو تقليده دون اجتهاد الوصي أو تقليده فهل على الوصي العمل إذا خالف رأيه و هل يجوز للأخير النيابة عن الميت في عمل يراه باطلا ذهب استاذنا كا (ره) الى ان خلافه للميت ان كان بالدليل الظني جاز ذلك و لا يجوز لو كان خلافه له بالدليل القطعي:

هذا كله مع معرفة الخلاف و مع الشك في ذلك فالظاهر عدم وجوب الفحص و صحة عمل الوصي برأيه للسيرة على ذلك، و اما ان يكون متبرعا عن الغير فهو يعمل بما يراه صحيحا عنده لا عند الغير لأنه إنما يتبرع لنيل الثواب للغير أو دفع العقاب عنه و هما انما يكونان مرتبين على الواقع و الواقع في نظر المتبرع هو ما قامت الحجة عنده عليه لا ما قامت الحجة عند الغير عليه و (الحاصل) انه انما يتبرع عنه فيما هو صحيح و مفيد عنده لا فيما هو باطل لديه و اما ان يكون وليا على

الغير كالولي على الغائب أو على الميت بقضاء العبادة عنه فالمتبع أيضا رأيه لا رأى الغير لأن الواجب هو إبراء ذمته و هو انما يكون مرتبا على تحصيل الواقع منه و الواقع انما يحصل منه بإتيان ما قامت الحجة عليه عنده فإنه هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 331

الواقع عنده. و اما ان يكون أجيرا عن الغير فهو يتبع رأى مؤجرة لأن المؤجر يجب عليه ان يأتي بما أوجر عليه فلو آجره على الحج عنه أو الزيارة عنه أتى بما هو رأي المؤجر و هكذا الوصي أو المتبرع أو الولي لو آجره عن الميت فإنه يأتي بالعمل على طبق رأى المؤجر لا رأى من استأجر عنه و هو الميت و ذلك لأن المؤجر يجب عليه أن يعمل بما آجره عليه و المؤجر ان كان آجره بما هو وصي فقد عرفت ان المتبع هو رأيه و ان كان هو المتبرع فالمتبع كما عرفت أيضا رأيه و ان كان الولي فالمتبع أيضا رأيه نعم لو كان المؤجر هو الوكيل فالمتبع هو رأى الموكل.

(الثامن عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص الأمور المتقومة بالطرفين (فيما إذا أراد فعلها مع الغير المخالف له في الرأي)

اشارة

إذا كان العمل متقوما بطرفين و كان أحدهما يخالف الآخر في الرأي اجتهادا بل أو تقليدا

[و فيه مقامان]
اشارة

فالكلام يتصور في مقامين أحدهما في المعاملات و الآخر في العبادات

[المقام الأول في المعاملات]

(اما الكلام في المعاملات) فنقول:

المتعاملان إذا اختلفا في شروط المعاملة كما إذا كان البائع يرى صحة المعاطاة مثلا اجتهادا أو تقليدا و المشتري يرى بطلانها اجتهادا أو تقليدا فذهب بعضهم كالسيد (ره) في عروته الى بطلان البيع حتى بالنسبة للبائع و ذهب جملة من الأصحاب إلى صحته بالنسبة لمن يراه صحيحا و بطلانه بالنسبة لمن يراه باطلا ففي المثال المذكور يكون صحيحا بالنسبة إلى البائع و باطلا بالنسبة للمشتري نظير سائر الموضوعات الخارجية التي يختلف فيها اجتهادا و تقليدا كماء الغسالة فإنه بالنسبة لمن يقول بطهارته طاهر و بالنسبة لمن يقول بنجاسته نجس و هكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 332

الكثير من الموضوعات المختلف فيها و قد نقل هذا القول جدي الهادي (ره) عن الشيخ الأنصاري (ره) في تعليقته على بغية الطالب و بعضهم ذهب الى الصحة بالنسبة للجميع، و بعضهم احتمل التفصيل في المقام بين صورة ما إذا كان العقد فاسدا على مذهبهما أو مجمعا على فساده لعدم القائل بصحة هذا العقد كما لو اعتبر أحدهما العربية دون إلحان و الآخر اعتبر عدم الالحان دون العربية فأتى الأول بالعربي الملحن و الثاني بغير العربي الغير الملحن فان العقد يكون فاسدا على كلا المذهبين اما الأول فلعدم العربية في القبول و اما الثاني فللالحان في الإيجاب ففي هذه الصورة يحكم بفساد العقد بالنسبة للجميع و هكذا في صورة ما إذا كان العقد لم يقل بصحته أحد كما لو فرضنا انه لم يقل أحد بصحة العقد الفارسي الذي يقدم فيه القبول على الإيجاب و كان أحدهما يذهب الى جواز تقديم القبول

و الآخر الى جواز العقد بالفارسية فالذي يذهب الى جواز التقديم للقبول قدم القبول و الذي يذهب الى جواز الفارسية نطق بالفارسية في الإيجاب فصار العقد مقدما بالقبول مع وقوع الإيجاب بالفارسية و هو لم يقل أحد بصحة مثله، و إن ما عدى ذلك فهو صحيح. (اما القول الأول) الذي ذهب اليه السيد (ره) من بطلان العقد بالنسبة لكل منهما.

(فقد أستدل له أولا) بأن العقد متقوم بالطرفين فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين فلا يجوز لأحدهما الأكل إلا بعد صحته من الطرفين فمع اعتقاد أحدهما بطلانه و لو ببطلان أحد جزئية لا يجوز له ترتيب الأثر و انما يتم ما ذكره الخصم من الصحة بالنسبة للبائع لو كان المؤثر في حق البائع لجواز الأكل الإيجاب الصحيح و بالنسبة للمشتري القبول الصحيح و ليس كذلك إذ المؤثر المجموع و هو فعل كل واحد منهما و (بالجملة) البيع فعل واحد تشريكي و لا بد من كونه صحيحا في مذهب كل منهما ليمكن ترتيب الأثر عليه، و لا يخفى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 333

ما فيه فانا نقول بانا نسلم بأنه يلزم ان يكون صحيحا من الطرفين و هو في نظر البائع كذلك فإنه في نظره صحيح من الطرفين نعم في نظر المشترى ليس كذلك فللبائع أن يرتب آثار الصحة و قوله انما يتم ما ذكره الخصم من الصحة بالنسبة إلخ. لا يخفى ما فيه فان المؤثر لجواز الأكل في حق البائع هو صحة العقد من الطرفين في رأيه اجتهادا أو تقليدا و ان كان الطرف الآخر لا يراه صحيحا في مذهبه و قوله و بالجملة إلخ. لا يخفي ما فيه فان كون البيع فعلا

تشريكيا لا يلزم منه ان يكون صحيحا على مذهب كل من الطرفين و انما يلزم ان يكون صحيح الإيجاب و القبول فلو كان صحيحهما عند كلا الطرفين رتب كل منهما آثار الصحة و لو كان صحيحهما عند أحدهما رتب ذلك الصحة.

(و قد يستدل له ثانيا) بما حاصله ان العقد مركب من الإيجاب و القبول بنظر الشارع فهو عند الشارع أمر واحد مركب منهما قد رتب عليه الأثر و هو النقل و الانتقال و جواز الأكل فعند بطلان أحد جزئية لا محالة يبطل الكل لأن الكل متقوم باجزائه فينتفي بانتفاء أحد أجزائه فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين حتى يتحقق الكل، و لا يخفى ما فيه فانا نسلم ذلك و لكنا نقول ان البائع يرى ان الكل الذي رتب عليه الشارع قد تحقق و انه كان صحيحا من الطرفين في رأيه. نعم الطرف الآخر لا يرى ذلك.

(و قد يستدل له ثالثا) بما حاصله ان العقد ان كان في الواقع صحيحا وجب ترتيب الأثر عليه من الطرفين و يكون صحيحا من الطرفين و ان كان في الواقع فاسدا حرم ترتيب الأثر عليه من الطرفين و يكون فاسدا من كل منهما فلا يعقل ان يكون فاسدا بالنسبة لأحدهما و صحيحا بالنسبة إلى الآخر، و جوابه قد عرفته مما سبق من انه بالنسبة إلى الحكم الواقعي كذلك و لكن في الظاهر يجوز ذلك فان ذلك غير عزيز في الموضوعات الخارجية فالماء قد يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 334

طاهرا بالنسبة إلى شخص بواسطة قاعدة الطهارة و نجس بالنسبة لآخر بواسطة الاستصحاب و عليه فمن يرى العقد صحيحا تصرف فيما انتقل اليه و من رآه فاسدا امتنع

عن ذلك و مع التنازع يرجع للقضاء.

(و أما القول الثاني) و هو الصحة بالنسبة لمن يراه صحيحا و الفساد بالنسبة لمن يراه فاسدا فقد ذهب اليه المرحوم الشيخ الأنصاري كما يظهر ذلك من جدي الهادي في تعليقته على المكاسب حيث نقل عن تعليقة المرحوم الأنصاري على بغية الطالب انه قال ان المعاملة المذكورة صحيحة بالنسبة إلى المقلد في صحتها فاسدة بالنسبة إلى الآخر و لا تبعيض في العقد بل هو من تعدد الحكم الظاهري بالنسبة إلى مكلفين مختلفين في التقليد و نظيره شائع انتهى كما انه قد ذهب اليه جل المتأخرين و يمكن أن يستدل له بأن الأدلة الدالة على وجوب ترتيب الأثر في العقود اللازمة أو جواز ترتيبه في العقود الجائزة تكون في نظر من يراه صحيحا من أحد الطرفين شاملة لهذا العقد فيكون بحسب الأدلة المال المنتقل اليه ملكا له و يجوز له التصرف فيه و المال المنتقل عنه يحرم عليه التصرف به لخروجه عن ملكه، و اما الطرف الثاني فهو يرى ان تلك الأدلة غير شاملة لهذا العقد فهو غير صحيح و ان المال لم ينتقل اليه و انه يحرم تصرفه فيه و مع التنازع يرجع لحاكم الشرع فيعمل بحكمه و رأيه و ان كان مخالفا لرأي أحدهما:

و قد أورد على هذا القول: أولا: بأنه يلزم منه ان تكون المعاملة الواحد صحيحة بالنسبة الى أحد طرفيها فاسدة بالنسبة إلى الطرف الآخر مع انها في الواقع اما فاسدة أو صحيحة فلا يعقل التفكيك بين الطرفين في الصحة و الفساد و قد أجاب عنه الشيخ الأنصاري (ره) في ما هو المحكي عن تعليقته على بغية الطالب بما حاصله انه تفكيك في الحكم الظاهري دون

الواقعي فهي في الواقع كما ذكره الخصم لكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 335

في الحكم الظاهري تكون صحيحة بالنسبة لأحد الجانبين ظاهرا لقيام الأدلة على صحتها عنده و فاسدة بالنسبة للجانب الآخر ظاهرا لعدم قيام الأدلة على صحتها عنده و هذا يوجد بكثرة في الموضوعات الخارجية التي هي محل اختلاف بين العلماء.

و أورد على هذا القول ثانيا: بأن مع الاختلاف في الرأي بين المتعاملين لا يتحقق الإنشاء من الآخر فاذا كان المشتري يرى بطلان العقد بالفارسية و البائع قد أوقعه بالفارسية فكيف يعقل ان ينشأ المشتري القبول لهذا الإيجاب الباطل الغير المؤثر في النقل في نظره و عقيدته فتكون المعاملة فاسدة لعدم تحقق إنشاء القبول. و هكذا لو قدم القبول من يرى جواز تقديمه فلا يعقل أن ينشأ الإيجاب بعده من يرى فساد ذلك و عدم تأثيره و جوابه ان العلم بالفساد لا ينافي الإنشاء فإن الربا يعلم بفساده مع انه يتحقق الإنشاء و هكذا بيع الخمر و نحو ذلك، سلمنا لكن نفرض ان البائع يرى اشتراط العربية فإنشاء بالعربية و المشتري لا يرى ذلك فإنشاء بالفارسية فالعقد يكون صحيحا في نظر المشتري لتحقق الإنشاء الجدي من كليهما مع ان البائع لا يراه صحيحا لوقوع أحد جزئي العقد بغير العربية.

و قد يورد عليه ثالثا: انه بناء على السببية يكون الإيجاب الفارسي ممن اعتقد صحته من الأدلة سببا ظاهريا مؤثرا حقيقة في النقل و الانتقال في مرحلة الظاهر بحسب جعل الشارع و يكون قيام الامارة على ذلك في حكم الإيجاب الصحيح واقعا فان مبنى السببية في الأمارات هو ذلك. و حينئذ فيصح للقابل أن يكتفي بذلك و يصدر منه القبول و ان كان

في نظره ليس بصحيح لأنه بناء على السببية يكون الشارع قد جعل الإيجاب مؤثرا جعلا حقيقيا غاية الأمر انه كان جعلا ظاهريا فيكون قيام الامارة بمنزلة وجود ملاك فيه يقتضي كونه مؤثرا نظير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 336

تأثير الإيجاب الصحيح فالقابل حينئذ يراه سببا مؤثرا صحيحا غاية الأمر أنه بحسب الظاهر بواسطة جعل الشارع له مؤثرا نظير جعل الشارع لحكم الحاكم مؤثرا حتى لمن خالفه في الفتوى فللقابل ان يكتفي به و يصدر منه القبول نظير ما يكتفي بالإيجاب الصحيح عنده فيكون اعتقاد أحد الطرفين بصحة ما يصدر منه بواسطة قيام الامارة يؤثر في صحة العقد من كل منهما. و عليه فيكون العقد صحيحا عند الطرفين و يرتب عليه الأثر من كل منهما و من كل احد غيرهما لأنه عقد صحيح عند كل منهما.

نعم لو لم نقل بالسببية و قلنا ان قيام الامارة لا يوجب إلا العذر و عدم استحقاق العقاب عند المخالفة فليس للطرف الثاني الاكتفاء به لأن قيام الامارة لا يوجب إلا معذوريته في ترتيب اثر الواقع و لا يوجب جعل المؤثرية للنقل و الانتقال فلا يصح من الطرف الآخر أن يكتفي به لعدم معذوريته لقيام الدليل عنده على فساده. و لا يخفى ما فيه فانا لو قلنا بالسببيّة في الامارات و الأصول فإنما نقول بها بالنسبة الى من قامت عنده فالشارع انما يجعل المؤثرية بالنسبة الى من قامت عنده الامارة و لم يجعلها حتى بالنسبة لمن لم تقم عنده الامارة إلا إذا دل الدليل على ان موضوع تكاليف الآخرين هو تكليفه.

و يرد عليه رابعا: ان الصحة في نظر الفاعل تكفي في المعاملات و العبادات كما يكفي في صحة

الجماعة الصحة في نظر الإمام فإذا كان الموجب يرى إيجابه صحيحا كفى ذلك في صحة العقد و صح للطرف الآخر ان يرتب عليه القبول و ان كان في نظره ان الإيجاب فاسد و ذلك للسيرة العملية فإنه مع كثرة الاختلاف في المعاملات لا تجد المسلمين في مقام المعاملة يتفحصون عن مخالفة الطرف الآخر لهم في الرأي و يبني كل منهم على صحتها مع سكوت الأئمة عليهم السّلام عن ردعهم، و جوابه انا لا نسلم تحقق السيرة على ذلك كيف و المعاملات المتداولة نوعها معلوم صحته عند الطرفين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 337

و في مقام الشك يحتاطون.

و اما القول الثالث فقد ظهر دليله و جوابه من الإيراد الثالث و الرابع على القول الثاني.

و اما القول الرابع فدليله هو ان في الصورة الأولى يعلم كل من الطرفين بالفساد و في الصورة الثانية يكون الإجماع قائما على فساد العقد. و جوابه انه في الصورة الأولى مسلم إلا إذا قلنا بالسببية كما ذهب اليه الخصم في الإيراد الثالث على القول الثاني كان العقد صحيحا لأنه قد صدر من كل منهما ما هو صحيح في نظره فيكون العقد صحيحا من الجانبين.

و اما الصورة الثانية فلما ذكره جماعة من ان الاتفاق على الفساد الناشئ من اجتماع عناوين على شي ء واحد كل أفتي بعنوان غير العنوان الذي أفتى به صاحبه و بتصادق تلك العناوين على ذلك الشي ء صار ذلك الشي ء موردا للاتفاق فان هذا الاتفاق لا يعتد به عندهم لتخطئة كل من المفتين صاحبه في الفتوى نظير اتفاق من يعتبر الفقاهة مثلا في الإمام دون العدالة و من يعتبر العدالة دون الفقاهة و من يعتبر الهاشمية دون العدالة

و الفقاهة فإنهم يتفقون في فساد امامة الفاقد لهذه العناوين الثلاثة هذا كله في المعاملات الواقعة بين الطرفين المختلفين في الرأي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 338

[المقام الثاني] (العبادة الواقعة) بين المختلفين في الرأي

(أما الكلام في العبادات الواقعة بين الطرفين المختلفين في الرأي) كما لو ائتم أحد المجتهدين بالآخر الذي يرى صلاته باطلة أو مقلد أحدهما بالآخر كما لو تستر الامام بالسنجاب و نحوه مما يرى المأموم عدم جوازه و كما لو غسل أحد المجتهدين يد الآخر للوضوء بما يصح عنده دون ذلك الآخر أو يممه كذلك بناء على جواز ذلك أو دفع له مال الزكاة أو الخمس لأنه في نظره يجوز له الدفع له و المدفوع له لا يرى صحة ذلك أو اشترك معه في ذبح الهدى فذبحه بنحو لا يرى الآخر صحته بأن فرى ودجا واحدا منه الى غير ذلك من الأمثلة و مقتضى القاعدة عدم الصحة من الطرف الذي لم تصح عنده لما تقدم في المعاملات و لكن في الصلاة جماعة قد تكلم القوم في صور ثلاثة:

(الأولى) صورة ما إذا علم المأموم بفساد صلاة الإمام بعد انتهاء الصلاة فالظاهر الصحة بل ظاهر كثير الإجماع على الصحة لو تبين كفر إمام الجماعة بعد انتهاء الصلاة و فيه الحجة على الصحة لو تبين غيره من الموانع مضافا الى الاخبار الصحاح الدالة على صحة صلاة من أمهم شخص ثمَّ تبين بعد ذلك انه يهودي أو نصراني أو على غير طهر أو الى غير القبلة و لا يصغي لما يعارضها من ضعاف الأخبار أو الدلالة.

(الثانية) صورة ما لو تبين للمأموم ذلك في أثناء الصلاة فالمنسوب للمشهور جواز الانفراد عنه دون الاستئناف لأن كل ما دل على صحة صلاة

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 339

المأموم إذا تبين له ذلك بعد الفراغ يدل على صحة ما أوقعه مع الامام من اجزاء الصلاة لأن ما لا يمنع من صحة الكل أولى بأن لا يمنع من صحة الجزء فيتمها منفردا و لصحيح جميل عن الصادق عليه السّلام في رجل أم قوما فذكر انه على غير وضوء فانصرف و قدم رجلا و لم يدر المقدم ما صلى الامام قبله قال (ع) يذكره من خلفه. و رواية زرارة عن أحدهما عليه السّلام في رجل صلي بقوم ركعتين فأخبرهم انه لم يكن على وضوء قال عليه السّلام يتم القوم صلاتهم فإنه ليس على الامام ضمان.

(الصورة الثالثة) ان تكون صلاة الإمام في نظر المأموم فاسدة قبل الشروع في الصلاة فالمحكي عن الجواهر نفي البعد عن جواز ائتمام المجتهد أو مقلده بالمخالف له في الفروع مع استعماله محل الخلاف في الصلاة كما لو تستر الامام بسنجاب و نحوه مما يرى المأموم عدم جوازه، و قد يفصل بين ما لو ثبت خطأ الإمام بدليل علمي و بين ما لو كان بدليل ظني فلا يجوز في الأول للقطع بطلان صلاته دون الثاني فإنه يحتمل صحة صلاته في الواقع فيحملها على الصحيح لأصالة الصحة في فعل الغير. و كون ظن المأموم حجة انما هو فيما يتعلق بعمل نفسه لا بعمل الغير لعدم الدليل عليه فبالنسبة إلى عمل الغير يعمل على حسب ما تقتضيه أصالة الصحة، و قد يفصل بين ما إذا بني على ان الحكم الظاهري هو تكليف واقعي ثانوي كتكليف فاقد الماء بالطهارة الترابية أو تكليف عذري طريقي لمجرد التسهيل فعلى الأول يصح الائتمام به لأنه يكون الامام قد أتى بالصلاة المطلوبة منه

واقعا فيصح الائتمام به كما يصح الائتمام بالمتيمم و على الثاني لا يصح ذلك لأنه يكون في نظر المأموم ما أتى به ليس بصلاة في الواقع و الاقتداء لم يشرع إلا بالمصلي و هو ليس بمصلي في الواقع في نظر المأموم و (دعوى) ان المأموم إنما يرى صلاة الإمام باطلة بواسطة الامارة و الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 340

انما هي حجة بالنسبة لعمل نفسه لا عمل غيره فهي لا تدل على فساد صلاة الإمام (باطلة) فإن الامارات حجة لمن قامت عنده على العمل سواء كان صادرا منه أو من غيره و (التحقيق) ان يقال ان الميزان ان تكون صلاة الإمام عند المأموم صحيحة واقعا و لو بأصالة الصحة فمثلا إذا كان المأموم قد رأى الامام انه قد ترك شرطا أو جزء في نظر ذلك المأموم انه شرط علمي لا يضر بالصلاة لو ترك سهوا كما لو جهر الامام سهوا في موضع الإخفات أو بالعكس أو كان المأموم يرى ان التكليف الظاهري تكليف واقعي ثانوي فإنه حينئذ يكون المأموم يرى ان الامام يأتي بالصلاة الواقعية في حقه فتكون الصلاة صحيحة و إلا فهي باطلة لأنه يرى نفسه قد اقتدى به في عمل ليس هو بصلاة عنده إلا أن يقوم دليل على المنع في مورد خاص كائتمام القائم بالقاعد و نحوه ان قلت: ان الصلاة واحدة مشتركة بين الامام و المأموم و يكون المأموم بمنزلة من أخل بواجب في الصلاة عمدا لا لعذر كما عن الإيضاح قلنا:

لا نسلم ذلك بل هما صلاتان لا اشتراك بينهما إلا فيما يتحمله الامام من القراءة فاذا كان إخلال الإمام عائدا لمحل الاشتراك لعذر لا يوجد في المأموم

بطل الائتمام و إلا فلا.

(التاسع عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) الولاية العامة له

اشارة

الولاية بالكسر هي الامارة و السلطنة و هي تارة تكون على جهة خاصة و هي السلطنة على التصرف بالشي ء بنحو خاص كالمتولي على التصرف بمال القصير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 341

بنحو الإيجار و الاستيجار فقط و تسمى هذه بالولاية الخاصة و تارة تكون على جهة العموم و هو السلطنة على التصرف بالشي ء بأنحاء التصرفات المشروعة كما لو جعل له الولاية على التصرف بمال القصير بما فيه المصلحة للمولّى عليه من البيع و الإجارة و الصلح و نحو ذلك و تسمى هذه بالولاية العامة و لا يهمنا اطالة البحث في ذلك و انما المهم انه وقع النزاع بين الفقهاء في أن الولاية المجعولة للفقيه الجامع لشرائط المرجعية هي الولاية الخاصة في موارد مخصوصة كالرجوع إليه في الفتيا و قطع الخصومات و كل مورد قام الدليل على ولاية الفقيه فيه بحيث لو شك في مورد انه له الولاية فالأصل عدمها أو ان المجعول للفقيه الولاية العامة بمعنى ان المجعول له هو الولاية العامة المجعولة للإمام بحيث تكون الولاية ثابتة له في كل مورد إلا إذا قام الدليل على عدمها و لا نحتاج في ثبوتها للفقيه في موارد الشك في ثبوتها الى دليل خاص فيكون الأصل هو ثبوتها في كل مورد شك في ثبوتها فيه إلا إذا كانت الشبهة مصداقية كما سيجي ء إنشاء اللّه، و الحق هو الثاني و ان الفقيه الجامع للشرائط قد جعل اللّه له من الولاية ما جعله للإمام عليه السّلام فيثبت للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة المقدار الثابت للإمام عليه السّلام من السلطة الدينية و السلطنة الزمنية و الولاية العامة لأمور الناس و الرئاسة

المطلقة و الزعامة الشاملة فيما يخص تدبير شؤون المسلمين العامة الداخلية و الخارجية الدينية و الدنيوية و ما يرجع لمصالحهم و ما يتوقف عليه نظم البلاد و انتظام العباد و رفع الفساد بالنحو الذي هو ثابت للإمام ففي الموارد التي يكون للإمام الإذن فيها يكون للفقيه الاذن فيها و في الموارد التي يكون للإمام التصرف فيها يكون للفقيه ذلك، و (الحاصل) انه قد جعل اللّه تعالى للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى كلما جعله تعالى للإمام عليه السّلام بما هو امام يرجع إليه في شؤون تدبير الملة دينا و دنيا لا بما هو مبلغ لأحكام اللّه تعالى فإنه بالصفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 342

الثانية لا بد من إظهار المعجزة لصدقه. و العصمة لعدم خطأه. و ازالة حب الدنيا عن نفسه لرفع التهمة عنه في التبليغ. و لا بما يرجع لتعظيمه و احترامه و محض إكرامه و انما جعل اللّه تعالى للفقيه كلما جعله للإمام عليه السّلام من حيث رئاسته على كافة الأنام و سلطنته على سائر العباد و إدارته لأمور الملة و إمامته لقيادة الأمة لتنفيذ القوانين الدينية و تدبير الشؤون الحيوية و الفقهاء (ره) عبروا عن هذه الحيثية للإمام عليه السّلام بالولاية. و هي التي من آثارها الإفتاء و القضاء و قبض ما يعود لمصالح المسلمين كأموال الخراج و المقاسمة و الأوقاف العامة و النذور و الجزية و الصدقات و مجهول المالك و اللقطة قبل التعريف، و قبض ما يعود للإمام (ع) من الأموال كحق الامام و الأنفال و أرث من لا وارث له.

و الولي للوصايا مع فقد الوصي و للأوقاف مع فقد المتولي، و حفظ أموال الغائبين و

اليتامى و المجانين و السفهاء و التصرف بما فيه المصلحة لهم حفظا أو إجارة أو بيعا أو نحو ذلك: و جعل بيت المال و نصب الولاة على الأمصار و الوكلاء و النواب و العمال المعبر عنهم في لسان الفقهاء بالأمناء. و تجنيد الجنود و الشرطة للجهاد و لحفظ الثغور و منع التعديات و حماية الدين و اقامة الحدود على المعاصي و التعزيرات على المخالفات. و اعاشتهم و تقدير أرزاقهم و تعيين رواتبهم و نصب القضاة لرفع الخصومات، و حمل الناس على مصالحهم الدينية و الدنيوية كمنع الغش و التدليس في المعايش و المكاييل و الموازين و كمنع المضايقات في الطرقات و منع أهل الوسائط من تحميلها أكثر من قابليتها و الحكم على المباني المتداعية بهدمها أو ازالة ما يتوقع من ظررها على السابلة و ضرب السكة و امامة الصلاة و إجبار الممتنع عن أداء الحقوق الخالقية و المخلوقية و قيامه مقامه في أدائها. و إجبار المحتكر و الراهن على الأداء و البيع. و إجبار الشريك على القسمة و إجبار الممتنع عن حضور مجلس الترافع و الخصومة و تسير الحج و تعيين يوم طلوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 343

الأهلة و الجهاد في سبيل اللّه و إصلاح الجسور. و فتح الطرق و حفر الترع و صنع المستشفيات و سياسة الرعية و إعطاء الراية و العلم و اللواء. و تقسيم الغنيمة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قد أعطى جدي كاشف الغطاء (ره) الأذان للسلطان (فتح علي شاه) في أخذ ما يتوقف عليه تدبير المملكة من الحقوق الشرعية و الأخذ من الأموال للدفع عن بلاد الإسلام كما أمر بوجوب طاعته و عدم

مخالفته في الجهاد لأعداء الرحمن و قد جعله نائبا عنه في إدارة شؤون مملكة إيران و أوجب على الشعب الايراني إطاعته في جهاده الاعداء و أذن له الأخذ من الزكاة و الخراج في تدبير جنوده و عساكره و ان لم تفي أخذ من أموالهم بقدر ما يدفع به العدو عن أعراضهم و دمائهم

و الدليل على ثبوت الولاية للمجتهد الجامع للشرائط أمور:
(الأول) العقل:

حيث ان العقل الحاكم بوجوب نصب اللّه الامام لحفظ البلاد و انتظام أمر العباد من حيث الأمور الدينية و الدنيوية يحكم بوجوب نصب من يقوم مقامه عند غيبته و عدم تمكن وصول الملة اليه و عدم تيسر مراجعة الناس في شؤونهم لديه ليكون مرجعا للعباد و رافعا للظلم و الفساد إذ لو لا النصب لاختل نظام العباد و استولي الظلم و الفساد كما يحكم بوجوب نصب من ينوب عنه (ع) في البلاد النائية و الأمصار البعيدة التي يتعسر أو يتعذر مراجعتها في كل شؤونها له في زمن حضوره و ظهوره، و كما ان العقل حاكم بوجوب ان يكون الإمام أفضل الرعية معرفة بالأمور الدينية و ابصرهم بتدبير شؤونهم الدنيوية مع تلبس بتقوى و ايمان يمنعانه عن الخروج عن حدوده الدينية و يستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل زمانه في ذلك أنه منصوب للإمامة عليهم، كذلك يحكم العقل بوجوب أن يكون الشخص النائب مناب الامام و الساد مسده و القائم مقامه عند غيبتة أفضل الرعية معرفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 344

بالأمور الدينية و أبصرهم تدبيرا بالشؤون الدنيوية مع تقوى و ايمان يمنعانه عن الخروج عن الحدود الدينية و يستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل الرعية في ذلك أنه المنصوب و النائب عن الامام (ع) عند غيبته

و انقطاعه عن الناس. و الحاصل انه لا ريب في ولايته في تدبير الشؤون الكلية الداخلية و الخارجية الدينية و الدنيوية التي تكون وظيفة من له الرئاسة و الزعامة العامة و اما الأمور الجزئية الخاصة المتعلقة بالأشخاص و لا تعلق لها بذلك كبيع دار و تزويج امرأة و غير ذلك من التصرفات فلا يدل العقل على ولايته على التصرف فيها. نعم لو كانت تتعلق بها المصلحة العامة كما لو فرض أن المصلحة العامة اقتضت أخذ دار زيد لجعلها مركزا للدفاع عن المسلمين كان له الولاية على ذلك. ان قلت ان الدليل المذكور يثبت ان الفقيه الجامع للشرائط منصوب من اللّه تعالى مع أن من قال بنصبه قال بنصبه من قبل الامام (ع) مضافا الى ان الوارد عن الامام (ع) انهم حجتي عليكم. قلنا ان الامام لا يجعل شيئا بدون جعل اللّه تعالى له و انما نسب نصبه الى الامام (ع) باعتبار نيابته عنه و ان الامام هو الواسطة في جعله كما ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الواسطة في جعل الامام (ع). فكون الامام خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نائبا عنه و وصيه لا ينافي ان هذه الخلافة و النيابة و الوصاية تكون من اللّه تعالى للإمام. و نظير ذلك جعل الإمام للإمام بعده، ان قلت ان ذلك لا يصح من الفقيه لما دل من الآيات و الروايات على نفوذ تصرف البالغين في نفوسهم و أموالهم و ثبوت السلطنة لهم و أما ما دل على أولوية الإمام بالمؤمنين من أنفسهم فمن جهة الرأفة بهم و الرحمة عليهم، قلنا ان الدليل العقلي مخصص لتلك الأدلة و

إلا لزم الهرج و المرج لعدم من يقوم بأمور المسلمين على وجه به ينتظم معاشهم و معادهم، و الامام الغائب لا يمكن الرجوع له في ذلك فيتعين الرجوع الى الفقيه للإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 345

بل ضرورة المذهب على عدم الرجوع لغير الفقيه و لأن غير الفقيه غير عالم بالأمور الدينية و المسائل الشرعية التي تتجدد موضوعاتها بتطور الزمن. مضافا الى أن هناك أمورا يريد الشارع إيجادها في الخارج و لا يمكن حصولها إلا بمراجعة الرئيس فلو لم ينصب لنا رئيسا لزم نقض الغرض لفرض مطلوبية تلك الأمور منا، و يرشد لهذا الدليل ما عن العلل بسنده عن أبي الفضل بن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا (ع) في حديث قال فيه فان قال فلم وجب عليهم معرفة الرسل و الإقرار بهم و الإذعان لهم بالطاعة قيل له لأنه لما لم يكن في خلقهم و قولهم ما يكملون به مصالحهم و كان الصانع متعاليا عن أن يرى و كان ضعفهم و عجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بدا بينه و بينهم معصوم يؤدي إليهم أمره و نهيه و أدبه و يوقفهم على ما يكون فيه إحراز منافعهم و دفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به و ما يحتاجون اليه من منافعهم و مضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته و طاعته لم يكن في مجي ء الرسول منفعة و لا سد حاجة و لكان إثباته عبثا بغير منفعة و لا صلاح و ليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شي ء فان قال فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم فقل لعلل كثيرة منها ان الخلق لما وقفوا على محدود

و أمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي و الدخول فيما حضر عليهم لأنه ان لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته و منفعته لفساد غيره فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الاحكام و منها انا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملة من الملل عاشوا و بقوا إلا بقيم و رئيس لما لا بد لهم من أمر الدين و الدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لا بد لهم و لا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمتنع ظالمهم من مظلومهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 346

و منها أنه لو لم يجعل لهم اماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة و ذهب الدين و غيرت السنة و الاحكام و الزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبهوا ذلك على المسلمين لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفسدوا على نحو ما بينا و غيرت الشرائع و السنن و الأحكام و الايمان و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين، و قد أشار الى ذلك أيضا أمير المؤمنين عليه السّلام فيما روي عنه انه لا بد من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يتمتع فيها الكافر و يقاتل بها

العدو و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به و يستراح من فاجر، فإنه إذا ثبت لابدية ذلك فلا بد أن يجعله اللّه تعالى و جعله انما يكون للبر لا للفاجر و للفقيه المستجمع لشرائط الزعامة الدينية و الدنيوية دون غيره لحسن خبرته بالدين و لعدم تعديه على حقوق الآخرين، و يرشد أيضا لذلك ما روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ما زالت الأرض إلا و للّه فيها الحجة يعرف الحلال و الحرام و يدعوا الى سبيل اللّه، و المروي عن إكمال الدين عنه عليه السّلام انه قال انه تبارك و تعالى لم يدع الأرض إلا و فيها عالم يعلم الزيادة و النقصان و لو لا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم، و الحجة و العالم في هذين الروايتين لا يحملان على الإمام الغائب (ع) لأنه في وقت غيبته لا تعرف الناس مسائلهم و لا يدعوهم إلى أحكامهم و لا يبين لهم أمورهم.

الثاني الذي استدل به على الولاية العامة للمجتهد الكتاب

و الذي استدل به منه آيتان: (إحداهما) و قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإنها بمقتضى عموم الخطاب فيها لكل زمان حتى زماننا ان يكون في زماننا وليا للأمر و ليس في زماننا هذا غير الفقيه الجامع للشرائط يصلح ان يكون وليا للأمر لأنه الذي له الأهلية لأن ترجع الناس إليه في أمورهم المعادية و المعاشية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 347

لا سيما الأمور المتجددة الحادثة و لعدم القائل بغيره. و أما دعوى ان الحجة عليه السّلام هو ولي الأمر في هذا الوقت فهي مسلمة و لكن لا يمكن الرجوع اليه و إطاعته في الأمور الحادثة المتجددة، هذا

مضافا، الى أن ما في التوقيع الشريف الذي سيجي ء إنشاء اللّه تعالى من قوله عليه السّلام: (و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا) يدل على ان الفقهاء ولاة الأمر في هذا العصر فاذا ضممنا ذلك الى الآية الشريفة بأخذ الصغرى من التوقيع و الكبرى من الآية ظهر لك وجوب اطاعة الفقهاء في هذا العصر و هو ملازم لولايتهم بل لدى الحقيقة انا لا نقصد من البحث عن الولاية لهم إلا إثبات وجوب إطاعتهم. و (ان شئت قلت) ان التوقيع الشريف يثبت وجوب الرجوع للفقهاء في هذا العصر و الآية الكريمة تثبت وجوب الإطاعة لولاة الأمر فلا بد ان يكون الفقهاء ولاة الأمر و إلا لما وجب الرجوع إليهم. هذا و لكن التوقيع لو كان ثابتا أغنانا عن ذلك كله و سيجي ء إنشاء اللّه التعرض له في الاخبار الدالة على الولاية و (كيف كان) فالاستدلال بهذه الآية الشريفة مبني على ان تفسير أولي الأمر بالمعصومين عليهم السّلام في الروايات من باب بيان المصداق في عصر تفسيرها نظير ما قلناه في تفسير أهل الذكر في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)* بالأئمة عليهم السّلام.

و (ثانيهما) قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ بتقريب منا: و هو انه لا يعقل ان يكون كل مؤمن وليا على كل مؤمن و إلا لكان كل واحد من المؤمنين وليا و مولّى عليه. على ان ذلك يذهب الاستفادة من جعل الولاية فلا بد من ارادة ولاية المؤمن الذي يصلح للمرجعية و الزعامة عليهم و ليس عندنا غير الفقيه العادل الجامع للشرائط. و يمكن المناقشة.

أولا: بأن ظاهر التعبير هو الولاية بمعنى الحب التي مقتضاها الرأفة و الرحمة كما هو ظاهر النسبة

للعموم إذ لو كان أراد الرئاسة لكان التعبير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 348

بغير هذا النحو.

و ثانيا: بأن المراد بها الولاية في الأمور الحسبية: و فيه انه لو كان المراد بها ذلك لقيدها بالأمور الحسبية فحذف المتعلق يدل على ارادة المطلق.

و ثالثا: ان ظاهرها الولاية من جهة الايمان بقرينة أخذ الايمان في العنوان و لا ريب ان الولاية من جهة الايمان لا تقتضي إلا الرأفة بينهم و الإحسان. و المقصود لنا هو إثبات الولاية من جهة الحكومة و الزعامة و الآية لا تثبت ذلك. و فيه ان المقصود هو إثبات الولاية من أي جهة كانت سواء كانت من جهة الايمان أو من جهة الفقاهة أو غير ذلك و إذا كانت الآية الشريفة تثبت الولاية المطلقة من دون تقييدها بشي ء كان من آثارها الحكومة و الرأفة و الإحسان.

الثالث: الذي استدل به على الولاية العامة الإجماع

بقسميه المنقول و المحصل أما المنقول فقد نقل الكثير الإجماع على ثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع لشرائط المرجعية كالشيخ ملا كتاب (ره) و في البلغة ان حكاية الإجماع على ذلك فوق حد الإحصاء و هكذا في العوائد حيث ذكر انه نص عليه كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات و عن المحقق الكركي انه قال اتفق أصحابنا على ان الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السّلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل و ربما استثنى بعض الأصحاب القتل و الحدود و لعل مقصوده ببعض الأصحاب ابني زهرة و إدريس على ما يحكى عنهم. و اما المحصل فيمكن استفادته من من فتاوى الفقهاء بثبوت الولاية للفقيه في عدة مواضع معللين

ذلك بثبوت عموم الولاية له كما في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد وصوله الى بلده الى الفقيه و في وجوب دفع الزكاة ابتدأ أو بعد الطلب اليه. و تخيره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 349

في أخذ خمس أرض الذمي أو منفعتها. و ولايته على مال الامام و ميراث من لا وارث له. و في توقف إخراج الودعي الحقوق على اذنه. و ولايته في إجراء الحدود و في أداء دين الممتنع من ماله، و توقف حلف الغريم على اذنه.

و في القبض في الوقف على الجهات العامة. و في نظارته لذلك، و توقف التقاص من مال الغائب على اذنه، و من الحاضر في وجه، و في بيع الوقف حيث يجوز و لا ولي له، و في قبض الثمن إذا امتنع البائع و قبضه عن كل ممتنع عن قبض حقه، و في الدين المأيوس عن صاحبه. و بيع الرهن المتسارع اليه الفساد بإذنه و تولية اجارة الرهن لو امتنعا و تعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا، و تعيينه ما يباع به الرهن مع تعدد النقد، و في باب الحجر على المفلس، أو السفيه في قول، و ولايته على الذي حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع وجود أبيه أو جده أو الوصي عنهما على المشهور، و في قبض وديعة الغائب لو احتيج إلى الأخذ، و في إجبار الوصيين على الاجتماع أو الاستبدال بهما، و في ضم المعين إلى الوصي العاجز، و في عزل الخائن على القول بعدم انعزاله بنفسه و في إقامة الوصي فيمن لا وصي له، أو مات وصيه أو كان و انعزل. و في تزويج المجنون

و السفيهة البالغة، و في فرض المهر لمفوضة البضع و ضرب أجل العنين، و بعث الحكمين من أهل الزوجين و إجبار الممتنع على أداء النفقة و في طلاق زوجة المفقود و في إجبار المظاهر على أحد الأمرين و في إجبار المولى كذلك و احتياج إنفاق الملتقط على اللقيط على اذنه و نحو ذلك من المقامات الأخر الكثيرة التي لا تخفى على من تتبع الفقه فإنهم يقولون بثبوت ولاية الفقيه في هذه الأمور و ليس لكلها أو جلها دليل بخصوصه بل من جهة عموم ولاية الفقيه و هو كاشف قطعي عن الاتفاق على ثبوت الولاية العامة للفقيه نظير استكشاف بعضهم الإجماع على حرمة بيع النجس من التمسك بحرمة بيع النجس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 350

في حرمة بيع النجاسة التي لا دليل على حرمة بيعها و لعل نيابة الفقيه عن الامام عليه السّلام أمر مرتكز في أذهان الإمامية و لذا تجد عوامهم يصفون الفقيه الذي هو المرجع الديني لهم بالنيابة. و هو يكشف عن وجود حجة شرعية على ذلك قال المرحوم ملا كتاب و ان وقع التشكيك في بعض الأحوال فهو تشكيك في ثبوت ولاية الإمام عليه لا في شمول نيابة الفقيه عن الامام بعد ثبوتها له و لكن لا يخفى ما فيه لمخالفة كثير من الفقهاء في تلك الموارد كما يظهر لمن راجع كتب الفقه الاستدلالية في تلك المواضع مضافا الى ذهاب الكثير من علمائنا إلى المناقشة في ثبوت الولاية العامة للفقيه. إلا انه لدى الحقيقة تجد هؤلاء المناقشين في ثبوتها تطفح على عبارتهم الاعتراف بها في موارد أخرى فمثلا في مقام وجوب دفع الزكاة للمجتهد في زمن الغيبة نجد الكثير منهم

يبني ذلك على ثبوت الولاية العامة له في زمن الغيبة ثمَّ يجي ء في كتاب البيع أو التحجير أو الفحص عن الغائب يثبتها له و لعل بحسب الاستقراء يحصل للإنسان الجزم بالفتوى بها حتى من المنكرين لها في مطاوي كلماتهم.

الرابع: الذي استدل به على الولاية العامة للمجتهد الأخبار الكثيرة
اشارة

القاضية بالعموم

و هي على طوائف.
الطائفة الأولى: ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء

و الكلام يقع تارة في سندها و أخرى في دلالتها.

(أما الأول) فهو لا اشكال فيه لكثرتها و شهرة روايتها الموجبة للوثوق بها بل و صحة سند بعضها كصحيحة أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انه قال العلماء ورثة الأنبياء.

(و اما الثاني) فلأنه لا إشكال في عدم إرادة الإرث بمعناه الحقيقي إذ لا نسب موجب لانتقال المال من الأنبياء إلى العلماء فلا بد أن يكون المراد المعنى المجازي و أقرب المجازات هو انتقال ما هو ثابت لهم من المقامات و المنازل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 351

للعلماء إلا ما أخرجه الدليل و لا ريب انه كان للأنبياء الولاية و السلطة على الرعية مطلقا فينبغي ثبوت ذلك للعلماء و هو المدعي، و يرشدك الى ذلك انه في مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح عليه السّلام انه ذكر فيها ان نصف الخمس لولي الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وارثه. مع ان وارثه هو سيدة النساء فاطمة عليها السّلام و زوجاته و ولي الأمر هو الامام المرتضى فلا بد أن يكون المراد بوارثه هو الوارث لمقامه و ولايته لشؤون المسلمين و لذا عبر فيها بالوالي. و قد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة.

أولا: ان المراد بالعلماء هم الأوصياء لأن إضافة الإرث إلى الأنبياء تقتضي أن يكون المورّث بلا واسطة هو النبي و الذي يرث النبي بلا واسطة هو الوصي لا العالم فان العالم يرث من الوصي و الوصي من النبي فالعالم ليس بوارث للنبي فلا بد من حمل لفظ العلماء على الأوصياء فإن لكل نبي وصي و بعبارة أخرى ان الأمر هنا يدور بين المجاز

بأن نحمل الإرث مجازا على الأعم من الإرث بلا واسطة أو مع الواسطة و نبقي العلماء على عمومها و بين ان نخصص العلماء بالأوصياء و قد تقرر في محله تقديم التخصيص على المجاز. و قد أكد هذا الاشكال صاحب البلغة و لم يجب عنه و جوابه ان الظاهر من الخبر العموم و الأوصياء داخلون في عموم العلماء فتكون نسبة الوارثية للمجموع فلا يلزم مجاز و لا تخصيص بل ان بعضها يأبى حملها على الأئمة لاشتمال بعضها على أمور لا تناسب جلالة شأنهم مثل قوله عليه السّلام ما لم يدخلوا في الدنيا و نحوه. هذا مع ان في بعضها التعبير (بالفقهاء) و يأبى عن الحمل على الأوصياء أيضا كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لولده محمد تفقه في الدين فان الفقهاء ورثة الأنبياء. فإن مورده محمد و هو ليس بوصي مضافا الى ان تخصيصه بالأوصياء لعله من التخصيص المستهجن لكثرة الخارج و قلة الداخل إلا ان يحمل على العهد و هو خلاف الظاهر. مضافا الى ان المجازية لازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 352

في التوريث إذ ليس المراد به الإرث الحقيقي الذي هو انتقال المال فلا بد من حمله على المجاز المذكور و هو يشمل التوريث مع الواسطة.

و أورد على الاستدلال بها ثانيا: بأن المراد بالإرث العلم لأن المتبادر من كون العالم يرث النبي هو الإرث في العلم خصوصا بمناسبة الحكم للموضوع و أخذ عنوان العالم في مورد البيان. و لا بحث لنا في ذلك إذ ليس العلم إلا عند العلماء دون غيرهم ان قلت: ان هذا لا يحتاج الى بيان بهذه الكثرة من الاخبار لبداهة هذا الأمر، قلنا

الغرض منه بيان شرف العلم و انه من صفات الأنبياء، و يرشدك الى ان المراد منها التوريث في العلم ما ورد في ذيل بعض تلك الاخبار كما في رواية الصدوق في أماليه و في مقدمة المعالم ان الأنبياء لا يورثون دينارا و لا درهما و انما يورثون علما و في بعضها كما في رواية مكاسب الشيخ الأنصاري (ره) لا يورثون دينارا و لا درهما و لكن ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي ء منها أخذ بحظ وافر، و في رواية الكراجكي عن أمير المؤمنين عليه السّلام ان العلم ميراث الأنبياء. و جوابه ان الإرث مطلق فتقيده بالعلم لا وجه له. و مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ثبوت الإرث في جميع المقامات و المنازل و أخذ العلم في العنوان انما يقتضي كونه سببا لثبوت تلك المنازل و المقامات المعروفة للعلماء، و تقييد بعض أخبار الإرث بالعلم لا يوجب تقيد باقيها، على انها ظاهرة في التقية فإن الأنبياء يورثون الأموال كما احتجت بذلك سيدة النساء فاطمة عليها السّلام إلا ان يحمل ذلك فيها على أن الأنبياء ليس بشأنهم ذلك أو بمعنى انهم لم يقصدوا و لم يسعوا الى توريث المال و انما يقصدوا و يهتموا لتوريث العلم كما هو ظاهر مادة (ورث) فلا ينافي ذلك توريثهم المال. و اما رواية الكراجكي فهو انما تدل على ان العلم يورّثه الأنبياء و هو لا يقتضي عدم توريثهم غير العلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 353

و أورد على الاستدلال بها ثالثا ان الظاهر ان المراد بها ان علماء أمة كل نبي ورثة ذلك النبي فيكون علماء هذه الأمة ورثة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقتضى

كونهم ورّاثه أن يكون كل منهم أخذ بحصة من الميراث كما هو شأن الورثة المتعددين لمورّث واحد فتكون الولاية منقسمة عليهم لا انها ثابتة بأجمعها لكل واحد منهم مع ان المقصود هو الثاني فلا بد أن يكون المراد بالعلماء الأوصياء لأن لكل نبي وصي واحد. و جوابه ان ذلك في إرث المال لا في إرث الأمور المعنوية فإن القسمة فيها غير حقيقية. فالمتبع هو ظاهر لفظ الحديث. و ظاهره ان كل واحد من العلماء يرث ما كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المنازل و المقامات المجعولة له.

و يرد على الاستدلال بها رابعا هو تفسير العلماء في بعض الأخبار بالأئمة الأطهار عليهم السّلام كما في رواية يونس عن الصادق عليه السّلام الناس على ثلاثة عالم و متعلم و غثاء فنحن العلماء و شيعتنا المتعلمون و سائر الناس غثاء. و جوابه انه تفسير بحسب المصداق في ذلك العصر فإنه في عصرهم ليس غيرهم أكمل في العلمية.

و إن شئت فقل إن المراد بمثل تلك الأخبار هو بيان الفرد الكامل و إلا فلا إشكال في كون غيرهم أيضا علماء. بل الظاهر من تلك الأخبار هو بيان من يقوم مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عصرهم و انهم هم لا غيرهم لأنهم أكمل في العلمية و المؤهلية للنيابة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يرد عليها خامسا كما ذكره المرحوم الايرواني من أن القضية فيها ليست مسوقة في مقام البيان بل هي مهملة و المتيقن ما ذكرناه أي ان المراد بها توريث العلم و لعله أخذه من المرحوم مير فتاح صاحب العناوين حيث ذكر أن مساق هذه الأخبار و غيرها

في مقام فضل العلماء و ليس في مقام إثبات الولاية لهم على الناس.

و جوابه انه لا إشكال انها في مقام بيان عظمة شأن العلماء و مقتضى ذلك هو كون القضية المذكورة فيها و هي (العلماء ورثة الأنبياء) في مقام البيان لذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 354

و مقتضاه الإرث لسائر مقاماتهم و منازلهم إلا ما قام الدليل على عدمه.

و يرد عليها سادسا ان التعبير (بالعلماء) هو اعتبار العلم في ذلك. و مدار المجتهدين على الظنون فلا وجه لادراجهم في هذه الأخبار. و جوابه ان ظنونهم لما كانت منتهية للعلم صاروا مندرجين تحت عنوان العلماء مضافا الى شيوع إطلاق العلماء على الأعم ممن عندهم اليقين و الظن المعتبر على أن هناك قرينة على ذلك و هو ان العلماء بنحو اليقين لا يوجدون إلا في زمان الحضور فلو كان المراد بهم ذلك لم يبق لها مورد في مثل زماننا هذا مع انها مسوقة لبيان حكم هذا الزمان إذ لا حاجة إليهم يعتد بها في زمن الحضور فتأمل فإنه يمكن أن يقال ان الحاجة كانت ماسة لهم أيضا في زمن الحضور لعدم تيسر وصول الشيعة للأئمة عليهم السّلام و أخذ الأحكام منهم و لذا كثرت الرواة عنهم عليهم السّلام.

(الطائفة الثانية) ما ورد (من أن العلماء أمناء)

و في بعضها الفقهاء أمناء الرسل و بعض آخر المؤمنون الفقهاء حصون الإسلام. و تقريب الاستدلال بها ان الأمين هو الذي يعتمد عليه في حفظ مال الغير و لا إشكال انه لا يراد به هذا المعنى هنا فلا بد أن يراد به بقرينة الحال و المقال الاعتماد عليه في حفظ ما كان على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفظه و مسؤولا عنه من

الأحكام الشرعية و الأمور العائدة للرعية و ادارة شؤونهم و مصالحهم و رفع الفساد عنهم. و هذا لازمه رجوع أمر الرعية اليه و جعل الولاية العامة له. و هكذا معنى حصون الإسلام. و قد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة بما ذكره صاحب العناوين و صاحب البلغة بما حاصله ان متعلق الامانة هو خصوص الدين و أحكام شريعة سيد المرسلين بمعنى ان ما جاء به الرسل من الاحكام فهو محفوظ و مؤمن عند الفقهاء فيرجع لهم فيه لان هذا المعنى هو المنصرف له من تلك المطلقات كما يعطي تصريح بعضها بالأمناء على الحلال و الحرام و كذلك كونهم حصون الإسلام معناه كونهم حفظة أحكام الإسلام من الضياع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 355

و جوابه ان إطلاق الامانة و إطلاق الحصن من دون ذكر متعلقه يقتضي العموم لكل ما على الرسل حفظه و تحصينه من التلف كحفظ النظام و ادارة الشؤون و المصالح التي تتعلق بالنفوس و الاعراض و الأموال (و دعوى) ان إطلاقات هذه الاخبار مهملة من هذه الجهة و غير مسوقة لبيانها (فاسدة) لأنها دعوى بلا برهان و الأصل يقتضي كونها في مقام البيان و تقييد بعضها بالحلال و الحرام لا يقتضي تقييد جميعها و بهذا ظهر لك ما في كلام المرحوم المحقق الايرواني (ره) حيث قال: الامانة تكون في الودائع و الوديعة المستودعة عند العلماء هي الأحكام فتختص الرواية بمقام الفتوى دون إعطاء سائر مناصب الرسل، ا ه. و وجه الظهور ان هذا إنما يتصور في الأمانة بمعناها الحقيقي لا في الأمانة بمعناها المجازي فإنه يصح نسبتها لكل أمر يوكل أمره للغير من الأحكام و حفظ النظام و ادارة شؤون المسلمين و

الإسلام. و قد أورد عليها أيضا بأن المراد بها الأئمة عليهم السّلام.

و جوابه ان هذا ينافي ما في بعضها كرواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل:

يا رسول اللّه: و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم.

(الطائفة الثالثة) ما دل على أن العلماء خلفاء رسول اللّه (ص)

كمرسلة الفقيه عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول اللّه (ص) انه قال: اللهم ارحم خلفائي قيل: و من خلفائك يا رسول اللّه؟ قال: الذين يأتون من بعدي و يروون حديثي و سنتي. و وجه الاستدلال بهذه الطائفة واضح فإن إطلاق الخليفة عرفا حتى في زمن الصحابة على من يكون له التصرف في شؤون الرعية ما لولي الأمر من التصرف و السلطنة و الولاية عليهم تنزيلا للخلف بمنزلة السلف كيف لا و الخليفة للشخص بقول مطلق من يقوم مقامه في كل ما كان له من الصلاحيات و الأهليات و الولايات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 356

فالمنزلة الثابتة له تثبت لمن استخلفه عنه و يرشدك الى ذلك تفريع قوله تعالى:

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ على قوله تعالى يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فإن مقتضي هذا التفريع ان يكون جعل الخلافة ليس لخصوص تبليغ الاحكام.

و يورد على هذه الطائفة بأكثر الإيرادات المتوجه على الاستدلال بالطائفة الاولي و الثانية و الجواب الجواب نعم احتمال أن يكون المراد بهم الأوصياء لا يجي ء في الرواية المتقدمة لأنها كما في قضاء الوسائل ظاهرة في ورودها في ابان بن تغلب: نعم في رواية مخاطبة أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل قال: أولئك خلفائي يحتمل فيها ذلك. و يورد أيضا

على الاستدلال بهذه الطائفة أن ذلك يقتضي ثبوت كلما كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعلماء و ليس كذلك فيلزم التخصيص بالأكثر و جوابه ان الظاهر انه خليفة عليهم فيما يحتاجونه فيه لا في غيره من الأشياء و لو سلمنا فمقتضى استخلاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم هو جعلهم بمكانه و منزلته و هو يستدعي ثبوت كلما جعل له الشارع من الأحكام من عظيمه و احترامه و إطاعة أوامره و نواهيه و زعامته للعلماء فالآثار الشرعية تثبت للخليفة إلا ما دل الدليل على عدمه فلا يلزم التخصيص بالأكثر. و يورد أيضا على الاستدلال بهذه الطائفة بضعف السند. و جوابه ان ضعف سندها منجبر بالاشتهار و نقل الإجماع على مضمونها كما تقدم في الاستدلال بالإجماع و موافقتها لعموم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قاعدة نفي الضرر و نفي العسر و الحرج و قاعدة الإحسان و كل معروف صدقه و غير ذلك مما يشرف بصاحبه الجزم بعموم الولاية.

الطائفة الرابعة ما ورد في أن الفقهاء قادة

فقد روى عن المفيد بسنده الى محمد بن على عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام انه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المتقون سادة و الفقهاء قادة و الجلوس إليهم عبادة و وجه الاستدلال بها ظاهر و يؤيده ما في رواية أخرى الأنبياء قادة و الفقهاء سادة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 357

الطائفة الخامسة ما ورد كما في جامع الأخبار ان العلماء كسائر أنبياء قبلي

و في آخر أنهم كسائر أنبياء بني إسرائيل و في خبر ثالث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل كما هو المحكي عن مفتاح الفلاح للشيخ البهائي و عن تقريرات الأنصاري (ره) في مسألة تقليد الميت. و في رابع ان فضل العلماء على الناس كفضل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أدناهم. و في الفقه الرضوي انه قال منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل. و وجه الاستدلال بها ان النبي لا ريب في ثبوت الولاية العامة له و مقتضى التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت ما للمشبه به للمشبه خصوصا الرواية الأخيرة إذ التعبير فيها بالمنزلة. فهذه الروايات تقتضي ثبوت كل ما للنبي للعالم إلا ما أخرجه الدليل. و يرد على الاستدلال بها ما أورد به على الاستدلال بالطائفة الاولى و جوابه نفس الجواب. نعم قد يقال هنا انه لم يعلم ثبوت الولاية العامة لأنبياء بني إسرائيل و انما ثبت تبليغهم للأحكام الشرعية فلا ينفع التشبيه مع هذا الاحتمال. و لا يخفى ما فيه فإنه لا إشكال في ان بعضهم كان له ذلك.

ثمَّ ان النبوة الحقيقية تقتضي الولاية إذ الولاية لا تكون إلا لأفضل الرعية

و النبي هو أفضل الرعية. و قد يقال ان الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة و العلماء و الفقهاء و الحكام مقام النبي و الوصي صلوات اللّه عليهم في الأمور الثابتة لهم صلوات اللّه عليهم من حيث النبوة و الرسالة لا في مطلق الأمور الثابتة لهم و لو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم، توضيح ذلك ان تعليق الحكم بالوصف يشعر خصوصا في المقام المحفوف بقرائن عقلية و نقلية شتى بالعلية فتشبيه العالم بالنبي أو تشبيه الراوي بحجة اللّه لا يفيد إلا التنزيل و التشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين اللّه و عباده أو جهة الإمامة التي هي وساطة بين النبي و الرعية فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 358

واسطة بين اللّه و خلقه و هي حيثية تبليغ الأحكام فهو ثابت لمن ناب منابه و قام مقامه و أما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة كخصائص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأمور الشرعية و العادية فالتشبيه و التنزيل المزبوران لا يعطيان المشاركة فيها أيضا لأنها خارجة عن الحيثية المشار إليها بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الأحكام و تبليغ الحلال و الحرام حتى انه لو لا أدلة القضاء و حكم العقل بوجوب اقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة دونه خرط القتاد و لا يخفى ما فيه فان حيثية النبوة تقتضي الولاية العامة إلا إذا قام الدليل على عدم الثبوت بل التحقيق أن الوالي لما كان يجب بحكم العقل أن يكون أفضل الرعية و النبي يلزم فيه أن يكون أفضل

الرعية فالنبوة تقتضي الولاية بل هي أظهر آثارهم ثمَّ ان مجرد أخذ العنوان في مقام التشبيه لا يقتضي أن يكون وجه الشبه هو ذلك العنوان و إلا لزم في مقام ذكر وجه الشبه بخلاف العنوان أن يكون منافاة في الكلام أو فيه تجوز بل مقتضي التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت جميع ما للمشبه به للمشبه إلا ما أخرجه الدليل أو ثبوت أظهر صفات المشبه به للمشبه.

الطائفة السادسة ما ورد من أن العالم ولي من لا ولي له

و نحوه كالنبوي المشهور على الألسن و تداولته بعض الكتب من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. السلطان ولي من لا ولي له، وجه الاستدلال بهذه الطائفة هو ان مقتضى جعل الولاية للعالم و السلطان على كل من لا ولي له أن يكون له الولاية على المسلمين في زمن الغيبة لأنه لا ولي لهم فعلا يدير شؤونهم و يرجعون له في مهمات أمورهم و بعبارة اخرى ان هذه الطائفة تدل على أن كل ما له صلاحية لأن يكون له ولي فالفقيه وليه إذ لا يعقل أن يكون المراد بالذي لا ولي له مطلق من لا ولي له و إلا لزم أن يكون العاقل الرشيد أيضا العالم وليه لأنه لا ولي له فلا بد أن يكون المراد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 359

بالذي لا ولي له هو خصوص من كان له قابلية الولاية و شأنية نصب الولي له و لا شك ان المسلمين في زمن الغيبة لهم القابلية لأن يكون ولي لهم يدبر شؤونهم و يدبر أمورهم. و قد أورد الاستدلال بهذه الطائفة بعدة إيرادات قد تقدم ذكرها في الإيرادات على الطوائف التي قبلها و قد أجبنا عنها هناك و قد أورد

عليها أيضا بتقريب منا من أن السلطان ليس المراد به سلطان الجور لقيام الإجماع و ضرورة المذهب على عدم ولاية الجائر و إنما المراد به السلطان العادل و هو الامام عليه السّلام و حينئذ فلا يثبت به الولاية للفقيه إلا بأدلة عموم النيابة للفقيه عن الامام عليه السّلام و حينئذ فلا نحتاج لهذه الرواية. و لا يخفى ما فيه إذ أن إرادة نفس الامام عليه السّلام خلاف ظاهر إطلاقه فإن ظاهره هو من كان له سلطنة و الفقيه في زمن الغيبة له سلطنة بالضرورة على المجانين و السفهاء و نحوهم فيصدق عليه لفظ السلطان كيف لا و قد استفاد أكثر الفقهاء ولاية الفقيه في مسألة المرأة المفقود زوجها من الرواية المشتملة على لفظ السلطان بل لا يتصور في زمن الغيبة السلطنة لغيره. و قد أورد أيضا بضعف السند. و جوابه مضافا الى الشهرة في روايتها هو عمل المشهور بمضمونها. و قد أورد أيضا بأن الظاهر من قوله لا ولي له بقرينة اللام الدالة على الانتفاع أن الولاية المثبتة بهذه الطائفة للفقيه هي الولاية على ما ينفعهم دون الولاية عليهم بما يضرهم كالولاية على الممتنع و الصغير و المجنون باستيفاء حقوق الناس من أموالهم و كذا الولاية على السفيه و المفلس بالمنع من التصرف و ذلك لأن الولاية المنفية هي الولاية له لا الولاية عليه فلا بد أن تكون المثبتة هي الولاية له لا الولاية عليه بقرينة المقابلة إذ المقابلة تقتضي أن يكون المراد بالولي المثبت هو الولي المنفي. و لا يخفى ما فيه فان هذه الطائفة إنما تقتضي ثبوت الولاية المطلقة حيث لم تقيد بشي ء و لم يكن في البين مقابلة تقتضي الخروج عن هذا

الظهور. مضافا الى أنا لا نسلم أن اللام في لا ولي له هو لام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 360

الانتفاع بل هي لام الصلة نظير قولهم الشر جاء لزيد و الخطر قرب له و نحو ذلك و لعل ظهور اللام في ذلك إلا إذا قوبلت بعلي كما لو قال السلطان ولي من لا ولي له لا عليه.

الطائفة السابعة [حكومة العلماء على الملوك]

ما ورد كما في كنز الكراجكي عن الصادق عليه السّلام انه قال إن العلماء حكام على الملوك كما ان الملوك حكام على الناس و وجه الاستدلال ان الظاهر من الحكام في الرواية هو السلطنة عليهم و التحكم في أمرهم و مقتضى كونهم لهم السلطة على الملوك أن يكون لهم السلطة على الناس بالأولوية.

الطائفة الثامنة ما دل على أن العالم حجة الامام على الناس

كقوله عليه السّلام في التوقيع المشهور عن الحجة عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه. قال في الجواهر و في بعض النسخ فإنهم خليفتي عليكم و عليه فيكون التوقيع من قبيل الطائفة الثالثة إلا أن المشهور هو النسخة الاولي و قد وصفه المرحوم الشيخ محمد طه نجف بأنه مقطوع به أو كالمقطوع. و وجه الاستدلال ان الحجة يجب اتباعها فيكون العالم واجب الاتباع و هذا يقتضي أن يكون له الولاية و حذف المتعلق يقتضي العموم لكل ما كان للإمام عليه السّلام الولاية عليه و قد أورد على الاستدلال به بأن الحجة معناها ما يحتج به على الناس حتى لا يبقى عذر لهم في التقصير في امتثال التكاليف بدعوى عدم العلم بها و الاطلاع عليها و أين ذلك من الولاية.

و لكن الإنصاف ان إطلاق الحجة على الشخص ظاهر فيما ذكرناه لا فيما ذكره المورد (نعم) لو أطلقت الحجة على القول كان ظاهرها ما ذكره.

الطائفة التاسعة ما ورد من أن العلماء كافلون لأيتام آل محمد ص

. و وجه الاستدلال انه مقتضى الكفالة لهم هو التولي لشؤونهم و إن المراد بأيتام آل محمد هم المسلمون باعتبار أبوه الأئمة عليهم السّلام لهم لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا على أنا و أنت أبوا هذه الأمة و يشهد لذلك المروي عن الاحتجاج عن مولانا الكاظم عليه السّلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 361

انه قال: فقيه واحد ينتقذ يتيما من أيتامنا المنقطعة عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد. و قد أورد بأن المراد هو الكفالة في تعليمهم الأحكام الشرعية الموجب لتربيتهم الروحية بعد انقطاعهم عن الأب الروحي. و فيه ان إطلاق الكفالة يقتضي ما ذكرناه نعم

رواية الاحتجاج ظاهرة في الكفالة في تعليمهم الأحكام الشرعية.

الطائفة العاشرة ما دل على ان من عرف أحكامهم فهو حاكم

و قاضي كمقبولة ابن حنظلة و مشهورة ابي خديجة و وجه الاستدلال بهما ان ظاهرهما إعطاء منصب القضاء الذي تعطيه سلاطين العصر لقضاتهم و لا ريب ان سلاطين ذلك العصر كانوا يعطون لقضاتهم علاوة على ولاية فصل الخصومات الولاية على القصر و الأوقاف و نصب القيم على مال اليتيم و الحكم في الهلال الى غير ذلك. (و دعوى) ان مورد هذه الروايات هو التخاصم و التنازع فيقتضي ان يكون جعل الحاكم و القاضي إنما هو لخصوص رفع الخصومة دون غيرها (مدفوعة) بأنها إنما كانت في مقام جعل الحاكم و القاضي في مقابل قضاتهم و قضية المقابلة تقتضي أن يكون ثابتا له ما كان ثابتا لقاضيهم من الشؤون و الوظائف كيف لا و هو عليه السّلام في مقام ردع الشيعة عن الذهاب لقضاتهم فلا بد أن يكون منصب القاضي لسد حاجاتهم المتعلقة بقضاة الجور. و بعبارة أخرى ان ذلك أوجب تلازما عرفيا فتكون أدلة جعل القاضي و الحاكم تدل على ثبوت تلك الولايات بالدلالة الالتزامية العرفية نظير دلالة حاتم على الكرم و يتم الكلام في باقي الولايات بعدم القول بالفصل. و (دعوى) انها انما تقتضي إعطاء المنصب في أيام الحضور و لا دلالة لها على إعطائه في زمان الغيبة و يجوز الامام عليه السّلام إنما أعطاه لانجباره بحضوره، و ليس الاذن في ذلك من الأحكام العامة للمكلفين ليثبت للمعدومين بمثل قوله عليه السّلام. (حلال محمد حلال الى يوم القيامة) و غيره من أدلة الاشتراك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 362

في التكليف (فاسدة) فإنها ظاهرة في عموم الاذن لكل من اتصف بتلك الصفات من دون

تقييد بزمان خاص نظير قولهم ما كان لنا فهو لشيعتنا و قد فهم الفقهاء ذلك و لذا استدلوا بها على ثبوت منصب القضاء للفقيه في زمن الغيبة.

الطائفة الحادية عشرة: ما دل على أن مجاري الأمور و الاحكام على أيدي العلماء

باللّه الامناء على الحلال و الحرام كما ورد في الخبر عن سيد الشهداء عليه السّلام في كتاب تحف العقول و رواه عنه صاحب كتاب الوافي في كتاب الأمر بالمعروف و كما في التوقيع الشريف عن الحجة عليه السّلام المروي في إكمال الدين و في الاحتجاج للطبرسي الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب، و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا و وجه الاستدلال بهذه الطائفة ان مقتضي جعل جريان أمور المسلمين على يد الفقيه و رجوعهم في حوادثهم اليه هو ثبوت الولاية العامة له عليهم. و أورد على الاستدلال بها المرحوم آقا ضياء العراقي في كتاب البيع بأن مثل هذا العنوان مختص بالأئمة عليهم السّلام و لا أقل من كونهم قدرا متيقنا في مقام التخاطب المانع من إطلاقه.

و لا يخفى ما فيه فان العنوان (العلماء. و الرواة) كل منهما جمع محلي باللام يفيد العموم بالوضع لا بالإطلاق فلا وجه للأخذ بالقدر المتيقن في مقام التخاطب.

هذا مع انا لا نسلم انه هو القدر المتيقن بل لعل قرائن الأحوال تقتضي ان المراد بها الفقهاء لا الأئمة لمعلومية أن الأئمة عليهم السّلام يرجع لهم في الحوادث و بيدهم مجاري الأمور (ان قلت) ان المراد بالأمور و بالحوادث هي الأحكام الشرعية (قلنا) ان مقتضى عطف الأحكام على الأمور أن يكون المراد بها غير الاحكام لأن العطف يقتضي المغايرة. و التأسيس أولى من التأكد. و عطف التفسير شاذ نادر مضافا الى ان اضافة المجاري إلى الأمور يشعر بتجددها و حدوثها وقتا

بعد وقت. و الأحكام الشرعية لا تتصف بذلك و بهذا تعرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 363

ان الحوادث لا يكون المراد بها الأحكام الشرعية بل المراد بالحوادث مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس المتعين لحفظ النظام، قال بعض المحققين (ره) ان الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء من البدهيات في الإسلام من السلف الى الخلف مما لا يمكن ان يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد المسائل التي أشكلت عليه (ان قلت) ان المراد بالحوادث الواقعة هو الأمور التي لا بد من وقوعها فتختص الرواية بالأمور الحسبية فإنها كما سيجي ء إنشاء اللّه هي الأمور التي يريد الشارع وقوعها في الخارج كما احتمل ذلك المرحوم آقا ضياء العراقي (قلنا) هذه الأمور لا توصف بالوقوع و انما توصف بالمطلوب أو نحو ذلك (ان قلت) انه لا بد من تنزيلها على الأمور المعهودة الجارية بين المسلمين إذ لو لم تحمل على ذلك لزم كثرة التخصيص البالغة حد الاستهجان في ارتكابها (توضح) ذلك ان كثرة التخصيص إذا بلغت حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود و لذا حكموا في كلمة (الناس) في قوله تعالى الَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ النّٰاسُ إِنَّ النّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الآية بأن المراد في الأول (نعيم بن مسعود) و في الثاني (أبو سفيان و أصحابه) على طريق العهد دون التخصيص حذرا من استهجان تخصيص الأكثر.

بل كثرة التخصيص و ان لم تبلغ حد الاستهجان توجب و هن العمل بالعام فلا يعمل بالعام إلا بعد الاطمئنان بعمومه لذلك المورد، و لذا قلنا في لا ضرر و أشباهها و ك (لا حرج) و

أمثالها و آيات القصاص انه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج من تحتها إلا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها (قلنا) لا يلزم في ذلك كثرة التخصيص المستهجن فان الظاهر منها أن الأمور و الحوادث التي يرجع فيها الرعية للرئيس بقرينة المقام و الحال لمعلومية أن مثل شرب الماء و أكل الخبز و نحوها من الأمور لا يسأل عنها السائل و لا هي مورد التوهم و انما المنصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 364

من ذلك هو الأمور التي يرجع فيه للرئيس فلا يلزم التخصيص المستهجن على أنه من قال بالولاية العامة بالمعنى الأعم بنحو يشمل المقام الثاني و الثالث للإمام اللذين سيجي ء بيانهما لا يلزم عليه التخصيص بالأكثر و تكون هذه الرواية له لا عليه (ان قلت) ان الظاهر ان مجاري جمع مجرى اسم مكان لا مصدر ميمي يعني محل جريان الأمور و الأحكام و عليه فيكون المراد بها المصالح و المفاسد الجارية منها الأحكام جريان الماء من النبع و من المعلوم انها بيدهم بمعنى انها لا يعرفها غيرهم (قلنا) ان الظاهر من قوله عليه السّلام بأيديهم أو على أيديهم هو كون أمرها يرجع لهم لا المعرفة مختصة بهم و إلا لقال مجاري الأمور أعرف بها فيكون المعنى ان الموارد التي تجري فيها الأمور و الأحكام بأيديهم و تحت سلطنتهم ان شاءوا أوجدوها و ان شاءوا أزالوها و هذا كناية عن الولاية التامة (ان قلت) ان الظاهر منها الأئمة عليه السّلام لأن في رواية التحف بعد ما وبخ العصابة المشهورة بالعلم بعدم التزامها بالأمر بالمعروف و غصبهم لمنزلة غيرهم قال عليه السّلام ان مجاري الأمور و الاحكام على أيدي العلماء باللّه

الامناء على حلاله و حرامه. و هذا يقتضي ان المراد بهم خصوص الأئمة عليهم السّلام لأنهم هم الذين غصبوا حقهم (قلنا) الكلمة عامة. و الغصب يكون في كل وقت للعالم العادل الذي يستحق المنصب فلا دلالة في الرواية على ارادة خصوص الأئمة (ع) من هذا اللفظ في هذه الفقرة نعم يكون الأئمة (ع) من مصاديقها في عصرهم عليهم السّلام. على ان هذه التدقيقات في ألفاظ الاخبار لا وجه لها فإنها إنما وردت لإفهام بسيطة فينبغي أن يؤخذ بمفاهيمها العرفية (و من الغريب) من المحقق الايرواني (ره) حيث فسر مجاري الأمور بالأحكام حيث قال هذه العبارة تدل على ان المجرى بيد العلماء و المجرى الذي يمكن فرض كونه بيدهم هو الاحكام و القوانين الشرعية التي ينبغي أن يصدر المكلفون في حركاتهم و سكناتهم عنها و لا يتخلفون عنها ا ه. و وجه الغرابة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 365

أولا: ان الاحكام الشرعية ليست أمرها بيد العلماء و انما أمرها بيد المشرع لها و هو اللّه تعالى.

و ثانيا: عطف الاحكام على الأمور في الحديث المذكور حيث ان الرواية (مجاري الأمور و الاحكام بيد العلماء) يمنع من ذلك لأن العطف ظاهر في المغايرة (ان قلت) ان قوله عليه السّلام في التوقيع الشريف (و اما الحوادث الواقعة) إنما يستفاد منه العموم حيث لا عهد و لم نعلم أن المسئول عنه أي شي ء هو فلعله كان أمرا خاصا و حوادث مخصوصة فتكون اللام اشارة لها و للعهد بها و الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل فيه الاستدلال (قلنا) تقدم العهد لا يرفع دلالته الوضعية على العموم لا سيما إذا كان الكلام مما يصح الابتداء به و يصلح لضرب القاعدة

ألا ترى انه لو قال القائل (انه كان عندي اليوم جماعة من العلماء و العلماء يجب إكرامهم) فهل يصح رفع اليد عن عموم العلماء بجعله للعهد و لذا اشتهر أن خصوصية المورد لا توجب تخصيص الوارد. و لو سلمنا ذلك فمقتضى اقتصار الراوي على ذلك و عدم نقله للسؤال يدل على ارادة العموم و ألا يكون قد أخل بالنقل (ان قلت) أن تعليل الرجوع في الحوادث الواقعة لرواة الحديث بأنهم حجته عليه السّلام عليهم في التوقيع الشريف يقتضي الرجوع إليهم في خصوص تبليغ الأحكام الشرعية فقط لأن الحجية انما تكون في التبليغ لأمر. و هو انما يكون في المقام تبليغ الأحكام الشرعية و لا يشمل التصرفات الشخصية في النفوس و الأموال أو التصدي للمصالح العامة من الحكومة و فصل الخصومة فإن ذلك كله أجنبي عن مفهوم الحجية. فالتوقيع الشريف أجنبي عن المدعي كما ذكره المحقق الايرواني (ره) بتقريب منا (قلنا) نعم الحجية كما ذكرت و لكن تعليل الحكم بها لا يقتضي تخصيص عموم الحكم فإنه أي منافاة بين وجوب الرجوع للرواة في سائر الحوادث و كون العلة في ذلك هو كونهم حجة في تبليغ الاحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 366

فإنه من الممكن أن يكون صحة تبليغهم للاحكام جعلت لهم أهلية الرجوع إليهم في سائر الحوادث بل لعل الحقيقة الواقعية في المعصومين هو ذلك فإن أهليتهم لتبليغ الاحكام على الوجه الأكمل اقتضت جعل الولاية لهم لمعرفتهم بأحكام التصرفات و الاعمال و إذا كان الأمر كذلك فليس التعليل موجبا لانثلام عموم العام، (ان قلت) ان رواية مجاري الأمور و الاحكام بيد العلماء باللّه هي منقولة عن تحف العقول و سياقها يدل على انها

مخصوصة بالأئمة (ع) و الظاهر كذلك فان المذكور فيها هم العلماء باللّه لا العلماء بأحكام اللّه و لعل المراد بها بيان مقام الأئمة (ع) و ان الأمور بحسب التكوين بيدهم نظير ما في الزيارة من قوله بكم ينزل الغيث فهي دليل على الولاية التكوينية لا الولاية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة (قلنا) ليس في سياقها ما يقتضي ذلك كيف و قد ذكر في الرواية لفظ الأئمة قبل هذه العبارة فقال (ع): (فاستخففتم بحق الأئمة) فلو كان مراده الأئمة (ع) لذكرهم بهذه العبارة و لما عبر عنهم بالعلماء و اما تقييد العلماء (باللّه) فهو أيضا لا يقتضي إرادة الأئمة (ع) لان الفقهاء أيضا لهم علم باللّه تعالى قال اللّه عز و جل إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ و هذا التخصيص لا بد أن يكون من جهة زيادة معرفتهم باللّه تعالى مضافا الى أن الرواية في أغلب فقراتها لفظ الجلالة كقوله (ع): قبل تلك الفقرة (القيام بحق اللّه) و في قوله (ع): (عاديتموها في ذات اللّه أنتم تتمنون على اللّه) و قوله: (لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على اللّه تعالى) و قوله:

(لأنكم بلغتم من كرامة اللّه) و قوله (ع): (و من يعرف باللّه) و قوله:

(و أنتم في عباد اللّه) و قوله (ع): (عهود اللّه) و قوله: (و ذمة رسول اللّه) فهذه الفقرات كلها قبل تلك الفقرة فكان السياق يقتضي إتيان لفظ (اللّه) مع العلماء (ان قلت). ان هذه الأدلة وردت في تشخيص من يكون بيده مجاري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 367

الأمور من المصالح العامة التي دل العقل و النقل على وجوب إجرائها كمباشرة القضاء و محافظة مال القصر و حفظ بيضة

الإسلام و نحوها مما ثبت وجوب إجرائها ما دامت الشريعة باقية لا في تشخيص الأمور الجارية فلو شك في أمر أنه مشروع جار في المسلمين أم لا فلا بد في إثباته من التماس دليل آخر. و اما ما دل على قيام الفقيه مقام الإمام في مجاري الأمور فهو يرجع الى إيكال النظر في الأمور العامة اليه على معنى وقوعها في الخارج على حسب ما يراه فيتبع نظره فيما يتعلق بتجهيز الموتى و محافظة النفوس و الأموال الضائعة و لا يجوز لأحد معارضته بل لا ينفذ لو عارضه لأنه يباشر كل ما يباشر الامام عليه السّلام. قلنا: لا يخفى ما فيه فان الجمع المحلى باللام يفيد العموم الاستغراقي لكل أمر يرجع فيه العرف لرئيسهم و كل أمر يراه الفقيه فيه مصلحة لهم سواء كان من الأمور الجارية بين المسلمين أو التي تحدث بتطور الزمن و اختلاف الأحوال و هذا هو معنى الولاية العامة. فظهر ان المجتهد العادل خليفة الإمام عليه السّلام في زمن الغيبة و له الولاية العامة كولاية الإمام إلا ما خرج بالدليل.

هذه جملة من الأخبار التي ظفرنا بها في هذا المقام و لا أظن أحدا يشك بعد اطلاعه عليها في ثبوت الولاية العامة للفقيه على نحو ما كانت ثابتة للنبي و الامام إلا ما أخرجه الدليل. بل في العوائد ان أكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين (ع) المستدل بها في مقام إثبات الولاية و الإمامة ليست متضمنة لأكثر من ذلك لا سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم انهم خير الخلق بعد الأئمة (ع) و أفضل الناس بعد النبيين. و إذا أردت توضيح ذلك فانظر إلى انه لو كان سلطانا في ناحية و

أراد السفر لناحية اخرى و قال في حق شخص بعض ما ذكر فضلا عن جميعه فقال فلان خليفتي و بمنزلتي و أميني و الكافل لرعيتي و الحاكم من جانبي و حجتي عليكم و المرجع في جميع الحوادث لكم و على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 368

يده مجاري أموركم و أحكامكم فهل يبقي لأحد شك في أنه له فعل كل ما للسلطان فعله في أمور الرعية في تلك الناحية إلا ما استثناه. و لا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب و انضمام بعضها لبعض في إفادة المطلوب و ورود أكثرها في الكتب المعتبرة. و (قد استدل أيضا على الولاية العامة للفقيه) بقاعدة الإحسان و عموم أدلة الحسبة و المعاونة على البر و التقوى. و لا يخفى ما فيه فإنها لا تقتضي الولاية العامة فإن قاعدة الإحسان و إنما تقتضي عدم الضمان و لو سلمنا دلالتها على جواز العمل الاحساني فهي لا تقتضي الانحصار بالمجتهد بل لكل مسلم ذلك مضافا الى ان الغرض إثبات الولاية التي مقتضاها الحكومة و المرجعية و الزعامة لا إثبات مطلوبية الإحسان، و من هنا يعلم الجواب عن أدلة الحسبة و المعاونة على البر التي أقيمت على الولاية العامة

[تنبيهات الولاية]
اشارة

و ينبغي التنبيه على أمور:

[التنبيه الأول] تقسيم الولاية

(أحدها) انه قد عرفت فيما تقدم ان الولاية بالكسر بمعنى الامارة و السلطة و لها عند الفقهاء عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة فتنقسم عندهم إلى اختيارية و هي التي تثبت باختيار الولي و ارادته كالوكيل و كالوصي و إجبارية و هي الثابتة للولي بدون اختياره كالولاية للأب و الجد على الصغير. و ولاية الفقيه من القسم الثاني لا الأول فإنها تثبت له بدون اختياره فإنه لو تمكن من اعمالها فلم يعملها كان آثما كالأب و الجد (ان قلت) انها باختياره حيث كانت مقدماتها و هو صيرورته فقيها باختياره (قلنا) المناط هو كون قبولها باختياره و إلا فولاية الأب أيضا باختياره لأن من مقدماتها الزواج و هو باختياره. (نعم) قد يكون القبول لها واجبا عليه بطوارى و عوارض كما لو كان بنذر أو عهد أو نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 369

و قد (تقسيم الولاية) إلى الولاية بالمعنى الأخص و الى الولاية بالمعنى الأعم فإذا أطلقت الولاية و أريد بها السلطنة على مال الغير أو نفسه قيدت بالمعنى الأخص و قد أنهاها بعضهم إلى عشرة و هي ولاية الأب و الجد و الوصي لأحدهما و الموالي بالنسبة لمماليكهم و حاكم الشرعي و عدول المؤمنين و الوكيل ممن تصح منه الوكالة، و وكيل الوكيل مع كون الوكيل مأذونا في التوكيل و وصي الوصي مع كون الوصي مأذونا في التوصية و المقاص للمال بشرائط التقاص، و إذا أطلقت و أريد بها ما يقتضي الإطاعة قيدت بالمعنى الأعم فتعم المذكورات و ولاية الزوج على زوجته و الأم و الضيف و صاحب المنزل و نحو ذلك للزوم إطاعتهم في بعض الأمور و قد

تطلق على مطلق القدرة على نفاذ التصرف فتعم المذكورات و نعم المتصدق بمجهول المالك و مالك الصدقة في الزكاة بالنسبة إلى العزل و الدفع الى المستحق و تبديل عين الزكاة بالقيمة و متولي الأوقاف.

(و قد تقسيم الولاية) إلى الولاية الخاصة و الولاية العامة و قد يكون العموم و الخصوص الملحوظ لهم باعتبار الجهة فإن كانت عامة سميت عامة كولاية الفقيه على جميع أمور المسلمين عند بعضهم و ان كانت الجهة خاصة كولاية عدول المؤمنين أو الفقيه على خصوص بعض الأمور سميت خاصة و قد يكون العموم و الخصوص عندهم بلحاظ المولى عليه فتسمى عامة لو كان المولى عليه أفراد الناس كولاية عدول المؤمنين و ان كانت الجهة خاصة، و تسمى خاصة لو كان المولى عليه فردا خاصا كولاية المولى على عبده و ان كان من جميع الجهات المشروعة، و لا يهمنا تحقيق ذلك كله لعدم ترتب ثمرة مهمة عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 370

[التنبيه الثاني] محل النزاع في الولاية

(الثاني) ان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام مقامات ثلاثة المقام الأول جهة إفاضاته بوجوده الشريف على العالم فيستفيد به العالم أزيد من استفادته بالشمس و هذا المقام هو المشار إليه في الاخبار و الأدعية و الزيارات كما في زيارة الجامعة الكبيرة و بكم ينزل الغيث و بكم يمسك السماء أن تقع على الأرض و بكم ينفس الغم و بكم يكشف الضر و لعل لهذا المعنى يشير ما روى عنهم عليهم السّلام ان الأرض كلها لنا لا سيما إذا قلنا ان الشي ء الواحد لا يكون مملوكا لمالكين فيكون المراد انها تحت قدرتهم و بقبضتهم نظير ملك اللّه تعالى لها و لعله اليه

يشير أيضا قول أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه إلى معاوية (نحن صنائع اللّه و الخلق صنائعنا) و يمكن أن يكون اليه يشير أيضا ما في الزيارة الرجبية من قوله عليه السّلام فبكم يجبر المهيض و يشفي المريض و ما تزداد الأرحام و ما تغيض و بهذا المقام عندهم علم الغيب و تظهر على أيديهم المعجزات و هذا المقام يرجع لعالم التكوينيات و الولاية عليها تكون تكوينا نظير ولاية ربان السفينة عليها.

المقام الثاني: الولاية و الأولوية بالمؤمنين من أنفسهم فكما أن للمؤمنين السلطنة على نفوسهم فللنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام سلطنة على أنفس المؤمنين أقوى من سلطنة نفس المؤمنين على أنفسهم و هذا المقام هو المشار اليه بقوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ و قوله تعالى وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ و قوله تعالى:

إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ بناء على ان الإضافة تقتضي الولاية على النفس، و في رواية أيوب بن عطية أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. و في الحديث المتواتر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 371

بين الفريقين الخاصة و العامة في يوم (غدير خم) الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، و لحكم العقل بناء على أنهم عليهم السلام أولياء النعم كما هو مقتضى المقام الأول و ذلك لحكم العقل بوجوب شكر المنعم و شكره انما يكون بإطاعته و تنفيذ ارادته بحيث تكون له الولاية عليه و هذا المقام يرجع الى عالم ولايتهم على النفوس و وجوب إطاعتهم لهم (ع) في جميع إراداتهم

(ع) و أوامرهم (ع) حتى العرفية و ان لم تكن فيها مصلحة للمأمور به و انما كانت لمصلحة الإمام فقط أو لمصلحة غيره بحيث يكون له عليه السّلام أنحاء التصرف في نفوس الرعية و أموالهم حسبما تتعلق ارادته و تقتضيه طلباته، كما ينفذ تصرف الإنسان في نفسه و ماله بحسب ارادته و طلباته في غير معصية موجبة لعدم نفوذه بحيث للإمام أن يزوج البالغة الرشيدة بدون اذنها و يبيع مال الغير بدون اذنه و ان أراد أن يحمله على كتفه لحمله إلا ما خالف الأوامر الشرعية الوجوبية أو النواهي الشرعية التحريمية المطلوبة من كل أحد (و حاشاه أن يريدها) فتكون هذه الولاية نظير ولاية المولي على عبده و قد أنكر بعضهم كصاحب البلغة ثبوت هذا المقام لهم (ع) مدعيا عدم نهوض الأدلة عليه و مقتضى الأصل عدمه مؤيدا ذلك بما هو المعهود من سيرتهم في الناس على حد سيرة بعضهم مع بعض من الاستيذان من البالغة الرشيدة في تزويجها و عدم التصرف في مال الصغير مع وجود وليه الإجباري الى غير ذلك من الموارد التي يقطع الإنسان بمساواتهم عليهم السّلام في معاملاتهم مع الناس لمعاملة الناس بعضهم مع بعض، و لا يخفى ما فيه لظهور الأدلة المتقدمة في ذلك. و أما السيرة التي ذكرها فهي لا تنفي ذلك بل انما تدل على عدم أعمال ولايتهم المذكورة كما أنهم عليهم السّلام لم يعملوا ولايتهم التي يقتضيها المقام الثالث الذي سيجي ء إنشاء اللّه تعالى بعد أسطر بيانه. و أما (دعوى) منافاة ما دل على الولاية بهذا المعنى لما دل على سلطنة الناس على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 372

نفوسهم و أموالهم فهي (ممنوعة) لأن

أدلة الولاية بهذا المعنى حاكمة على الأدلة المذكورة فهي تثبت الولاية لهم بنحو أقوى من ولاية الناس على نفوسهم. و أما (دعوى) استبشاع أن تكون لهم (ع) التمتع بزوجة الغير و بجاريته و نحو ذلك (ففاسدة) لما عرفت من ان لهم الولاية فيما ليس بمحرم أو واجب ففي هذا المقام لهم (ع) الولاية على طلاق الزوجة لأنه ليس بمحرم على الزوج أن يطلق لكونه باختياره و لهم الولاية على بيع الجارية، مضافا الى أن التمتع بالزوجة و نحوه (انما هو من آثار ولاية الزوج عليها في هذا الشأن و الذي قلنا بثبوته لهم (ع) هو الولاية لهم فيما كان للغير الولاية له عليه بحيث يرجع لاختياره أن يفعله و ان يدفعه للغير و في حال الزوجية ليس للزوج اختيار في دفع التمتع بالزوجة للغير. (و من هنا ظهر) ان ما ليس ان يعطيه الإنسان لغيره أو كان من الأمور التي لا اختيار له فيها كالإرث من مورثه ليس لهم (ع) الولاية على ذلك الشخص في إعطائه ذلك الشي ء لهم عليهم السلام لأنه نفس الشخص ليس له الولاية على ذلك فهو نظير العبد الذي لا يقدر أن يعطي الشي ء لمولاه.

و بعد كتابتي لهذه الكلمات رأيت كلاما للمحقق مرزا على الايرواني (ره) يعجبني نقل محصله من أن معنى قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ان سلطنة النبي على المؤمنين أشد مما لهم من السلطنة على أنفسهم و ولايته عليهم أقوى من ولايتهم على أنفسهم. و لا ريب ان سلطان المؤمنين على أنفسهم انما هو في قودها الى مصالحها بما جعله اللّه تعالى من الطرق و الأسباب كالصيغ الخاصة التي تختص بكل من العقود و الإيقاعات، لا

مطلقا و بلا سبب أو بأي سبب شاء فيكون مفاد الآية ثبوت نفس هذه السلطنة بعينها للنبي (ص) غاية الأمر بنحو آكد بحيث لا يزاحم سلطنتهم سلطنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لعل في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 373

وجه الأولوية هو كونه أبصر بمصالح المؤمنين و مضارهم فيقودهم الى مصالحهم و يجنبهم عن مضارهم بأحسن من أنفسهم. فالآية تدل على ثبوت الولاية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يرجع الى المؤمنين من التصرفات بالطرق المقررة الشرعية لكل نوع من التصرفات فليس له أن ينكح أو يطلق أو يبيع بدون تلك الصيغ المقررة للنكاح و الطلاق و البيع فإن الآية ليست في مقام التشريع لتلك الاحكام بل في مقام تشريع الولاية و من الجهات الأخرى مهملة و الأدلة الدالة على تشريع تلك الأحكام مبينة لها فتكون ولايته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد الأخذ بالآية و أدلة تلك الأحكام ثابتة فيما للشخص على نفسه الولاية لا أزيد من ذلك فليس للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ زوجة المؤمن و التصرف في أموالهم إلا إذ رأى مصلحتهم في ذلك فيطلق حينئذ زوجة من رأى مصلحته في إطلاق ثمَّ إذا رأى مصلحة المطلقة في أن ينكحها أنكحها بالطرق المقررة، ثمَّ أن لفظ (الاولى) كما يطلق على الرئيس كذلك يطلق على الرعية قال اللّه (ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) و قال عليه السّلام: (أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا به) و المعنى في المقامين واحد و الاختلاف في مصاديقه فأولوية السلطان بالرعية أولويته بالقيام بمصالحهم و أولوية علماء الرعية بالسلطان أولويتهم بتحمل ما

يرد منه و إعانتهم في إجراء قوانينه و قد استدل المرحوم الشيخ محمد حسين قدس سره على وجوب إطاعتهم (ع) حتى في أوامرهم الشخصية العرفية الراجعة مصلحتها لهم (ع) بما حاصله ان إطاعتهم (ع) في الأوامر الشرعية اطاعة بالذات للّه تعالى و اطاعة بالعرض لهم (ع) و اما إطاعتهم (ع) في أوامرهم العرفية تكون اطاعة لهم (ع) بالذات و اطاعة له تعالى بالعرض من حيث ان الإطاعة لهم في أوامرهم العرفية كانت من جهة نسبتهم للّه تعالى بواسطة النبوة أو الإمامة و هذه الإطاعة هي المدلول عليها بقوله (ع) من أطاعكم فقد أطاع اللّه تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 374

إذا عرفت ذلك فنقول ان ما ورد في باب إطاعتهم (ع) أولى بالشمول لمثل هذه الإطاعة من اطاعة أوامرهم الشرعية لأن اطاعة أوامرهم الشرعية اطاعة للّه تعالى و لزومها بديهي لا يحتاج إلى المبالغة في الإلزام بها بخلاف إطاعتهم في أوامرهم العرفية.

المقام الثالث: الولاية على تدبير شؤون المسلمين و السلطة و السلطنة على كل ما يتوقف عليه حفظ نظام العباد و رفع الظلم و دفع الفساد و هذا المقام يرجع لولايتهم على الأمور العامة فهي نظير ولاية الرئيس على رعيته.

و لا يخفى ان المقام الأول لا إشكال في عدم ثبوته للفقيه الجامع للشرائط فان الوجدان يكذبه و الأدلة لا تقتضيه.

و أما المقام الثاني: فالدليل العقلي المتقدم لا يقتضي ثبوته للفقيه.

و هكذا الإجماع لم يقم على ثبوته له، و أما الأدلة النقلية فيمكن دعوى دلالة بعض الأخبار عليه كقوله عليه السّلام: (مجاري الأمور بيد العلماء) و كقوله عليه السّلام.

(ان العلماء كسائر الأنبياء) و نحوها مما تقدم، و كل من قال بثبوت هذا المقام

الثاني للفقيه قال بثبوت المقام الثالث له للأولوية و لأن كلما دل على ثبوت المقام الثاني للفقيه يدل على ثبوت المقام الثالث له دون العكس فان الكثير من علمائنا من قال ثبوت المقام الثالث للفقيه دون المقام الثاني و لذا ينبغي أن نسمي الولاية في المقام الثاني بالولاية العامة بالمعنى الأعم و الولاية في المقام الثالث بالولاية العامة بالمعنى الأخص أما تسميتها بالعامة فلأن الكثير من علمائنا من عبر عن هذه الولاية في المقام الثالث بالولاية العامة و الكلية في مقابل من أنكرها و ادعى بأن الثابت للفقيه هو الولاية في موارد خاصة مما قام الدليل عليها بالخصوص كالقضاء و نحوه و انما قيدناها بالمعنى الأخص لأنها أضيق دائرة من الولاية في المقام الثاني، و لعل المرحوم الشيخ المحقق الشيخ محسن خنفر (ره) كان

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 375

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 375

يذهب إلى الولاية العامة بالمعنى الأعم فقد نقل لي بعض الأفاضل الثقات انه وقع النزاع في الولاية العامة بين المرحوم المحقق صاحب الجواهر و بين المرحوم المحقق الشيخ محسن خنفر المذكور في ثبوت الولاية العامة للمجتهد و قد أخذ الشيخ محسن خنفر يقيم الأدلة عليها فالتفت الشيخ محمد حسن (ره) و قال ان كان الأمر كما يزعم الشيخ محسن فزوجته طالق فأجابه المرحوم الشيخ محسن الإشكال في الصغرى. و هذا النزاع لا يتم إلا على تقدير أن يكون موضوعه هو الولاية العامة بالمعنى الأعم، و إلا فالظاهر من صاحب الجواهر

«أعلا اللّه مقامه» في عدة مواضع من كتابه انه يقول بالولاية العامة بالمعنى الأخص أعني بالنسبة للمقام الثالث.

[التنبيه الثالث] ولاية الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة بنحو النيابة عن الإمام أم بنحو الجعل له

(الثالث) ان الفقهاء اختلفوا في أن تفويض الفقيه لأمور الرعية و ولايته على تدبير شؤونهم و سلطنته على حفظ نظامهم في زمان الغيبة هل هو على وجه الوكالة و النيابة عن الامام عليه السّلام أو هو من باب إعطاء الولاية له و النصب له واليا كما في إعطاء الولاية على القصر في الوصية فإنها إحداث ولاية لا نيابة و لذا يبقى التصرف للوصي مع خروج الموصي عن أهلية التصرف لموته أو هو من باب الحكم الشرعي بمعنى ان من جملة الأحكام الشرعية الكلية ان الفقيه الجامع للشرائط له ولاية على المسلمين كما ان الأب له ولاية على ابنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 376

الصغير و تظهر الثمرة بين هذه الأقوال في موت الإمام فإنه على الثالث لا ينعزل الفقيه لأنه حكم اللّه ثابت له و لا يرتفع عن موضوعه. و على الأول ينعزل لأن الوكيل ينعزل بموت الموكل. و على الثاني قيل لا ينعزل لأنه من قبيل إعطاء السلطنة له فهي لا تزول بمجرد موت المعطي و قيل ينعزل لأن هذه السلطنة كانت من فروع سلطنة المعطي و من أشعتها التي تنطفي بانطفائها فبموته تزول سلطنته فيزول ما تفرع عليها، و لكن الحق انها لا تزول بزوال سلطنة المعطي نظير إعطاء السلطنة و الولاية على الأوقاف أو إعطاء المتوفى السلطة و الولاية للوصي على القصير، فإن إعطاء السلطة و الولاية ليس إلا جعل سيطرة و سلطنة للشخص المتولي و ليس لها في بقائها تعلق بالمعطي نظير إعطائه سائر الأشياء و الأعيان فإنه الظاهر من

أدلتها (ان قلت) ان قوله عليه السّلام قد جعلته حاكما يستفاد منه عكس ذلك حيث أسند الامام الصادق عليه السّلام الجعل لنفسه و هكذا قوله عليه السّلام (فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) فإنه أضاف صاحب الزمان عليه السّلام الحجة لنفسه فيعلم ان كلا منهما (ع) قد ولي الرواة في زمانه بحسب ولايته في زمانه على أهل ذلك الزمان (قلنا) قد أجاب عن ذلك المامقاني (ره) بما حاصله ان هذا لا ينافي الظهور فيما ذكرناه لصحة ذلك من الإمامين المذكورين (ع) من باب الإمضاء لما عرفت ان للإمام (ع) العزل لما نصبه الامام السابق نعم للمعطي أو للإمام الذي بعده عزله لان له الولاية على ولايته، و لكن لا يخفى ان هذا البحث لا يثمر لنا شيئا في عصر الغيبة لأنه حتى لو كانت ولايته بنحو الوكالة عن الامام عليه السّلام فهي باقية لأنه انما يكون وكيلا عن الإمام الحجة عجل اللّه فرجه و سهل مخرجه و هو حي الى أن يظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما تملأ ظلما و جورا نعم هذا يثمر في عصر الغيبة في الولي عن الفقيه إذا شك في أنه وكيل عنه أو متولي عنه كما لو أمر شخصا بمباشرة وقف و لم يعلم الكيفية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 377

و (كيف كان) فدليل العقل المتقدم لإثبات الولاية يقتضي القول الثالث و هكذا الكتاب الشريف و هكذا ظاهر الطائفة الخامسة و العاشرة كما ان ظاهر الطائفة الأولى هو القول الثاني إذ الوكيل لا يكون بعد الموت بخلاف الوارث و هكذا الثالثة كما أن ظاهر الطائفة التاسعة هو القول الأول و هكذا السابعة و هكذا

الثانية و لكن الجميع يجب حملها على القول الثالث لأن الطائفة الاولى من الاخبار صريحة في نفي الأول لأن الوكيل لا يعبر عنه بالوارث كما ان باقي الأخبار أظهر في الثالث فمقتضى الجمع هو القول الثالث مضافا الى اقتضاء حكم العقل له لدلالته على لزوم نصب اللّه تعالى للفقيه. مضافا الى ان الظاهر من كل خبر كونه بيانا للحكم الشرعي لا إذنا في واقعة خاصة أو جعلا له في مورد مخصوص و لذا حملوا مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (من أحيا أرضا ميتة فهي له) على انه حكم لا أذن في الاحياء و غير ذلك من الاخبار.

[التنبيه الرابع] شرائط الفقيه الذي له الولاية العامة

(الرابع): ان الفقيه الذي ثبتت له الولاية العامة يشترط فيه كلما يعتبر في مرجع التقليد لأنه كما عرفت ان العقل يحكم بأنه مدير للأمور الدينية في الرعية و يكون مرجعا لهم فيها فلا بد أن يكون يصلح للتقليد كما انه لا بد و ان يكون أعلم أهل زمانه و أفضلهم و أبصرهم بتدبير الأمور و ادارة الشؤون و ان لم نشترط ذلك في مرجع التقليد و إلا لم يصلح أن يكون يتولى شؤون الرعية الدينية و الدنيوية و لم نستكشف جعل الولاية من اللّه تعالى له كما انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 378

يشترط فيه ان يكون مجتهدا مطلقا لا متجزيا لأن القضايا التي يبتلى بها و يتولى شأنها طالما تكون مجمعا لعدة أحكام لا بد له من معرفتها مثلا الخمر لا بد له من معرفة حكمها من النجاسة و حرمة الشرب و صحة البيع و مقدار الحد عليه و جواز تزويج شاربها و إعطائه الزكاة و الخمس الى غير ذلك

كما انه يشترط فيه الحياة و ان لم نشترط ذلك في مرجع التقليد إذ تدبير الشؤون لا تصلح من الميت مع تطور الأمور و تجدد الحوادث و لعل أغلب الشروط التي سنذكرها إنشاء اللّه في المفتي الذي هو مرجع التقليد يلزم ثبوتها له و ان ناقشنا في لزومها للمفتي و سيجي ء إنشاء اللّه منا التنبيه على ما يلزم منها في الزعيم الديني عند التعرض لها إنشاء اللّه، فالويل ثمَّ الويل لمن يدعي ذلك و ينصب نفسه له و هو ليس فيه الصلاحية لذلك و غير متوفرة فيه تلك الشروط.

[التنبيه الخامس] الشك في موارد الولاية

(الخامس) بعد ما ثبت نيابة الفقيه عن الامام عليه السّلام و ان الولاية الثابتة للإمام عليه السّلام ثابتة له في زمن الغيبة (فتارة) يعلم بأن العمل الفلاني يرجع لولاية الإمام عليه السّلام و انه من آثار ولايته و ان فعله لا يكون بدون إذنه و نظره كالجهاد و اقامة الحدود و حفظ الثغور و سائر الأعمال و الافعال و التصرفات التي هي من وظائف ولاة الأمر و سلاطين العصر (و تارة) يعلم بعدم رجوعه إليها و ان آحاد الناس يستقلون بفعله بلا مراجعة رئيس كالعبادات الخاصة و المعاملات الشخصية و (تارة) يشك في العمل في انه مما يرجع للولاية و من آثارها حتى يكون يرجع أمره للفقيه في زمن الغيبة أم لا بأن يحتمل انه من الأمور المختصة بشخص الامام كصلاة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 379

الجمعة عند بعضهم أو من الأمور المختصة بالغير كصرف الكفارة على مستحقها.

(أما الصورة الأولى) فلا إشكال في ثبوت الولاية عليه للفقيه في زمن الغيبة إلا أن يقوم دليل خاص على عدم جواز قيامه به كما قيل ذلك

في الجهاد و اقامة الحدود أو على قيامه به بنحو خاص كطلاقه لامرأة المفقود بشرط مضي أربع سنين على فقده و عدم الإنفاق عليها.

(و أما الصورة الثانية) فلا إشكال في عدم الولاية للفقيه عليه إلا إذا قلنا بثبوت المقام الثاني من الولاية له المسمى بالولاية العامة بالمعنى الأعم فإنه قد تقدم انه لو قلنا بذلك كان له الولاية حتى على تطليق الزوجة من زوجها.

(و أما الصورة الثالثة) فإن قام الدليل على ثبوت الولاية له على ذلك أو عدمها فهو المتبع و الا فقد يقال: ان الأصل عدم ثبوت الولاية له عليه لأنها سلطنة حادثة و الأصل عدمها. و لأنها تقتضي أحكاما و الأصل عدمها، و قد يقال ان الدليل الاجتهادي في الموارد الخالصة يقتضي عدمها مثل لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه. و الناس مسلطون على أموالهم و الطلاق بيد من أخذ بالساق الى غير ذلك من الأدلة الواردة في الموارد المخصوصة، و لكن التحقيق أن يقال ان الدليل الاجتهادي على الولاية لما كان عاما لعموم قوله عليه السّلام: مجاري الأمور بيد العلماء و قوله عليه السّلام، و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا الى غير ذلك مما تقدم في مبحث أدلة الولاية المنجبر ضعفها بما تقدم من الإجماعات المنقولة و الروايات المتضافرة و هي حاكمة على الأدلة الاجتهادية في الموارد الخاصة مثل (لا يحل مال امرء) و نحوه فالمورد المشكوك ثبوت الولاية فيه ان قام الدليل على تخصيصه من عموم الولاية فهو المتبع و إذا لم يقم دليل على ذلك فالمتبع عمومات الولاية. و أما ان كانت الشبهة مصداقية فإن كان المخصص لبيا جاز التمسك بعمومات الولاية و إلا

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 380

فالأصل عدم الولاية هذا فيما لو شك في أصل ثبوت الولاية على العمل و أما لو شك المجتهد في أن هذا العمل الذي ثبتت له الولاية عليه و وجب التصدي منه اليه هل تكون مباشرته له بنفسه أو يكون الغير مباشرا له بإذنه أو مخيرا بينهما فإن الأعمال التي ثبتت ولاية المجتهد عليها و تصديه إليها.

(تارة) تكون المباشرة لها راجعة فقط للمجتهد بمعنى أن تكون الاعمال راجعة لإرادته و لنظره من دون مدخلية للغير فيها سواء كان يباشرها بنفسه أو بالتوكيل عليها أو إعطاء المنصب و تولية الغير عليها كنصب الولاة على الأمصار و اقامة الحدود و التعزيرات و كالجهاد عن بيضة الإسلام (و تارة) تكون مباشرة الغير لها بأذنه بمعنى يكون لنظر الغير مدخلية في تحققها مع اذن الفقيه كبيع المحتكر للطعام عند حاجة الناس فإنه يكون بأمر الحاكم لا بمباشرته فان المباشر للبيع هو صاحب المال الذي هو المحتكر. و كالتقاص من الجاني فيما لو قلنا بتوقفه على اذن الحاكم و (تارة) يكون له ان يباشرها بنفسه و له أن يأذن للغير بمباشرتها كصرف الزكاة على المستحقين فإنه قد يكون بمباشرته و قد يكون بأذنه لصاحب المال بصرفها. فعليه يكون الشك في ذلك (تارة) في عمل المجتهد نفسه كما لو شك المجتهد في أن الفحص عن الغائب يكون بمباشرته بنفسه بأنه هو يكتب إلى الأقطار و يسأل عنه أو يكون الغير هو المباشر للفحص دون الامام و لكنه بإذن الإمام فأصالة عدم وجوب مباشرة الحاكم الشرعي للعمل معارضة بأصالة عدم وجوب الاذن و الأمر للغير بالمباشرة فإن الحاكم الشرعي يعلم إجمالا بوجوب تصديه لذلك و لكن

يشك في وجوب المباشرة عليه أو الاذن للغير بالمباشرة و مقتضى ذلك هو الأخذ بالقدر المتيقن فيما لو علم بان أحد الطرفين مجزى قطعا و إلا احتاط بالجمع إذا أمكن الإتيان بهما معا و إلا فيتخير بينهما و لكن ظاهر الدليل الاجتهادي و هو قوله عليه السّلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 381

مجاري الأمور بيد العلماء هو رجوع الأمر إلى اختيار المجتهد، و ليس في هذا تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لأن الفرض عمومه له و انما لم يعلم كيفية تصدي المجتهد له و هذا لا فرق فيه بين العبادات و بين المعاملات.

أما مثال الأول كما لو شك المجتهد في صلاة الجمعة بعد فرض ثبوت ولايته على إقامتها في انه يقيمها بنفسه أو يأذن للغير بإقامتها.

و أما الثاني كما لو شك المجتهد في أن السفيه يتولى العقد بنفسه على الزوجة بإذنه أو نفس المجتهد يتولى عقده و الفرض عدم الدليل على ذلك نعم لو شك المجتهد في توجه التكليف له أو لعامة الناس على سبيل الكفاية فالحق وجوب إتيانه عليه للعلم باشتغال ذمته به و شكه في سقوطه عنه بفعل الغير كما انه لو رجع العامي له في ذلك أفتى له بعدم وجوبه عليه لأصل البراءة في حق غيره من الناس (ان قلت) انه لا وجه لما ذكرته من وجوب التكليف على الفقيه عند الشك المذكور أعني الشك بين تعيين الفعل عليه أو وجوبه الكفائي على عامة الناس لأصالة عدم خصوصية الفقيه بمعنى عدم قصد الشارع له بخصوصه فان القصد له بخصوصه أمر حادث و الأصل عدمه كما يظهر ذلك من المرحوم مرزا فتاح في عناوينه (قلنا) هذا معارض بأصالة عدم قصد

التعميم فان التعميم يحتاج الى قصد حتى لو كان على سبيل البدل فيتساقطان على ان أصالة عدم قصد الخصوصية إذا كانت أصل لفظي بأن كان المراد بها أصالة عدم التخصيص التي هي عبارة عن أصالة العموم فهو غير صحيح لان الفرض هو الشك في ذلك و عدم دليل لفظي حتى يرجع للأصول اللفظية و إذا كانت أصل عملي بأن كان المراد بها استصحاب عدم انقداح ذلك في نفس المولى فهو و ان كان أثره عدم التكليف بذلك إلا أنه انما يثبت العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامة و لا يثبت العدم الوصفي الذي هو مفاد ليس الناقصة إذ ليس له حالة سابقة حيث لم يعلم سابقا بان التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 382

المذكور قد جعله الشارع و لم يقصد معه الخصوصية، هذا كله في عمل المجتهد بالنسبة لنفسه و (تارة) يكون الشك في عمل العامي فعليه أن يرجع لمقلده في معرفة حكمه و اما حكمه الذي ينبغي ان يفتي به مقلده فنقول ان العامي إذا شك في وجوب العمل عليه و احتمل انه من وظائف الفقيه المختصة به جرى في حقه أصل البراءة منه. و اما إذا علم بأنه ليس بمختص بالفقيه و لكن احتمل أن إذنه شرط لوجوبه عليه أي أن المكلف احتمل ان العمل انما يجب عليه إذا أذن الفقيه به كالدفاع عن المسلمين فأيضا جرى في حقه أصل البراءة منه و لا يجب عليه تحصيل الاذن و لا الفحص عنه و اما إذا علم بأن العمل ليس بمختص بالفقيه و علم بأن إذن الفقيه ليس بشرط لوجوبه و انما احتمل أن اذن الفقيه شرط لوجود الواجب و

صحته فان كان من قبيل العبادة فإن كان شكه في كفايتها عن الغير مع إحرازه عدم وجوبها عليه كالمتبرع في القضاء عن الميت مع وجود الولي لم يكن عليه شي ء في فعل صلاته لأنها حتى لو لم تكن صحيحة أو لم يأتي بها لم يجب عليه شي ء و ان كان شكه في اعتبار الاذن من المجتهد في صحتها منه مع علمه بوجوبها عليه اما كفاية أو عينا فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين و الأصل عدم وجوب الأكثر فلا يجب أخذ الاذن من المجتهد في فعلها، و أما ان كان من قبيل المعاملات كأن شك في صحة المعاملة منه على مال اليتيم التي يحفظ بها ماله بدون اذن الفقيه وجب عليه أخذ الإذن منه لأن الأصل يقتضي الفساد بدون الاذن منه لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة و لا يجب عليه أخذ خصوص أذن مقلده بل له الأخذ لإذن كل فقيه إلا إذا احتمل اعتبار خصوص اذن مقلده، و ربما يتمسك بمثل قوله عليه السّلام عون الضعيف صدقة و كل معروف صدقة فان عمومها و إطلاقها يقتضي صحة مثل تلك المعاملات التي فيها حفظ مال اليتيم بدون اذن الفقيه لصدق العون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 383

و المعروف عليها بدون أذن الفقيه، و الحاصل ان المعاملة المذكورة اما ان تكون واجبة أو مستحبة لأنها حسب الفرض يحفظ بها مال اليتيم فتكون من المعروف و الإحسان و البر التي ندب لها الشارع و ذلك يقتضي صحتها و قد ناقش في ذلك المرحوم الايرواني (ره) بما حاصله ان التمسك بدليل كل معروف صدقة و أمثاله مما أخذ في موضوعه

مشروعية الفعل لا وجه له لأنه إرشاد محض و ذلك لأن موضوعها المعروف، و العون، و الإحسان، و المراد بها هو ما كان معروفا مشروعا عند الشارع و ما كان عونا مشروعا عند الشارع و ما كان إحسانا مشروعا عند الشارع فتكون هذه المواضيع كناية عما رغب الشارع اليه و حث عليه و لا ريب انه إذا علم هذا و ان الفعل مطلوب للشارع لم تكن حاجة الى التمسك بدليل كل معروف صدقة و كفى في ذلك ما دل على مشروعية ذلك الفعل، و إذا لم يعلم ذلك لم ينفعنا دليل كل معروف صدقة و نحوه لعدم إحراز موضوع المعروف فكيف يمكن أن يتمسك به لإثبات ما علق عليه من الحكم فلا بد أن تكون الأدلة الدالة على أن كل معروف صدقة للإرشاد إلى مطلوبية ذلك نظير ما إذا قال افعلوا الواجبات و اتركوا المحرمات فلا يصح التمسك بها في المقام لنفي عدم اعتبار الاذن من الفقيه لعدم إحراز مشروعية العمل بدون أذنه (و لا يخفى ما فيه) فان الظاهر من الكلام هو الحمل على التأسيس لا التأكيد و الظاهر ان المراد بالمعروف و الإحسان و العون هو مفاهيمها العرفية و هو ما يراه الإنسان معروفا و إحسانا و عونا نعم العقل يخصصها بكونها مشروعة عند الشارع في ثبوت تلك الاحكام لها إذ لا يعقل أن يريد الشارع معروفا قد حرمه كسقي الخمر أو التصدق بمال الغصب فاذا عرفت ذلك فنقول ان ما كان معروفا عند الإنسان و لكن شك في مشروعيته عند الشارع صح التمسك بعموم كل معروف لأن العام يصح التمسك به في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا.

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 384

كما فيما نحن فيه فان المخصص لها هو حكم العقل بعدم صحة إتيان ما هو ليس بمشروع عند الشارع و هو يحتمل عدم المشروعية للعمل بدون اذن الفقيه فيصح التمسك بعموم كل معروف و ان كانت الشبهة مصداقية لكون المخصص لبي، و يؤيد ذلك و يؤكده تمسك الفقهاء بعموم كل معروف صدقه في موارد عديدة فلو لم يفهموا ذلك منه لما تمسكوا به، و ناقش بعضهم في التمسك بها بان عنوان المعروف و الإحسان و العون نحتمل دخول اذن الفقيه في تحققه بمعنى ان المورد لو كان معتبرا فيه اذن الفقيه لم يكن فعله بدون أذنه يصدق عليه انه معروف أو إحسان أو عون بل هو منكر و ظلم و تقصير في حق الغير و هو المجتهد ففي المقام الذي يحتمل فيه اعتبار أذن المجتهد يحتمل عدم صدق هذه العناوين عليه فكيف يصح التمسك بعمومها فلم يحرز تحققها و الى هذا يشير كلام المحقق الأصفهاني (ره) حيث ذهب الى ان المعروف و الإحسان و نحوهما عنوان للواجبات و المستحبات فلا بد في استفادتها ضيقا وسعة من ملاحظة نفس دليل ذلك الواجب و المستحب فان كان لدليله إطلاق كان الفقيه و غيره على حد سواء و ان قام دليل على تقيده بالفقيه فان كان الدليل مطلقا سقط الواجب أو المستحب عند تعذر الفقيه لتعذر الشرط المطلق و ان كان مقيدا بصورة التمكن من من الفقيه أخذ بإطلاقه عند تعذر الفقيه و ان كان دليل الواجب أو المستحب مهملا لم يكن مجال للتمسك به لإثبات مطلوبيته من احاد المكلفين عند تعذر الفقيه كما لا مجال للتمسك بدليل المعروف حيث انه لم يحرز انه يصدر

معروفا من كل أحد (و لا يخفي ما فيه) فإنك قد عرفت ان هذه العناوين عرفية و ان الاحكام المرتبة عليها ناظرة لما يراه العرف معروفا مع قطع النظر عن الشرع. و عليه فاعتبار الشارع لإذن الفقيه في المورد لا يكون موجبا لأخذه في موضوع المعروف و إنما يكون مقيدا له بالاذن نظير سائر المقيدات و المخصصات فاذا شك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 385

في مورد اعتبار أذن الفقيه في صحته و فعله و كان من المعروف عند العرف في نظر الشاك صح التمسك بتلك العمومات في جواز فعله و صحته و الأصل عدم التقييد و التخصيص بأذن الفقيه و (الحاصل) أن الشاك في اعتبار أذن الفقيه يحرز صدق هذه العناوين فلا مانع من التمسك بعمومها و لا نسلم انها عناوين للواجبات و المستحبات لما عرفت من أن المراد بها المفاهيم العرفية كما هو الشأن في سائر عناوين الموضوعات المأخوذة في أدلة الأحكام و انما نقيدها بالواجبات و المستحبات الشرعية بحكم العقل حيث أن العقل يقول ان الشارع لا يريد إلا الواجب و المستحب فاذا شك في مورد انه واجب أو مستحب صح التمسك بالعمومات المذكورة لأنه و ان كان تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية إلا انه لما كان المخصص لبيا صح ذلك، و يمكن أن يناقش أيضا في التمسك بها بأنه لا إشكال في حكم العقل بتقيدها بمشروعيتها عند الشارع كما تقدم، و أصالة عدم الانتقال بالمعاملة تقتضي عدم المشروعية لهذا المعروف الذي كان بهذه المعاملة فيكون هذا الأصل منقحا للموضوع فهو حاكم أو وارد عليها (نعم) في مورد لا يجري الأصل المقتضي لعدم المشروعية لا يجي ء هذا الكلام، و يمكن

أن يناقش في التمسك بها أيضا بأن أدلة ولاية الفقيه تمنع من تصرف الغير إلا بإذنه لثبوت ولايته عليها فيكون تصرف غيره فيها بدون أذنه ليس بإحسان و ليس بعون لأن الإحسان و العون انما يطلبان شرعا و عقلا إذا لم يزاحمهما حق ذي حق بان يعارضا سلطنة شخص آخر و إلا فلا شبهة في قبحهما و من هنا لا يجوز المداخلة و التصرف بنحو الإحسان لا في مال البالغ الرشيد لمنافاته لسلطنته على نفسه و لا في مال اليتيم مع وجود وليه لمنافاته لسلطنة وليه و (الحاصل) ان عون الضعيف و حسن الإحسان و الإعانة على البر و التقوى مقيدة عقلا و نقلا بعدم مزاحمة حق الغير، و بأدلة الولاية للفقيه يثبت حق للحاكم في الأمور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 386

الحسبية فيرتفع بها قيد الموضوع في أدلة عون الضعيف و حسن الإحسان و الإعانة و هو عدم مزاحمة حق الغير و ينقلب الى نقيضه و هو مزاحمة حق الحاكم الشرعي ففي كل مورد يصدق فيه عنوان العون و المعروف يعتبر فيه اذن الفقيه لعموم أدلة ولاية الفقيه لكل عون و معروف، و قد أورد على هذا الدليل المحقق مرزا فتاح بما حاصله ان أدلة ولاية الفقيه و ان كانت حاكمة على أدلة الحسبية المذكورة إلا أن أدلة ولاية الفقيه محكومة لدليل نفي السبيل على المحسنين فيقال ان التصرف في مال اليتيم بالحفظ و الإصلاح مثلا إحسان و منع الحاكم له و إرجاعه إلى نفسه من السبيل عليه فينفي بدليل نفي السبيل على المحسنين نظير حكومته على دليل اليد فان من وضع يده على الامانة و تلفت منه لا بتفريط يكون

مقتضى دليل اليد هو الضمان لها لكن بدليل نفي السبيل ينفي الضمان عنه فكذا فيما نحن فيه يرفع اليد عن عموم أو إطلاق أدلة الولاية في مورد قصد الإحسان و يحكم بعدم ثبوت الولاية فيه للفقيه بالمعنى المذكور. و لا ينتقض ما ذكرنا بعدم جواز التصرف في أمور العاقل الرشيد بقصد الإصلاح و إيصال النفع مع كونه إحسانا و وجه عدم الانتقاض ما ذكرناه من عدم كونه إحسانا مع مزاحمة حق ذي الحق و فيما نحن فيه أعني التصرف في أمور العاقل قد قام الإجماع و الضرورة على اختيار الناس العقلاء البالغين الرشد في أمورهم و أحقيتهم بها من غيرهم فيكون تصرف الأجنبي فيها و لو بقصد الإحسان هتكا لحرمتهم و تضيعا لحقهم فلا يعد إحسانا بل يكون ظلما و اما مع عدم أهليتهم للتصرف فتصرف الغير فيها إحسان محض لا يشوبه شي ء من الجهات القبيحة إلا توهم كونه تضييعا لحق الحاكم و هو مبني على ثبوت الولاية له عليها و لا شي ء يثبتها إلا أدلة الولاية و هي محكومة بآية نفي السبيل على المحسنين فلا ولاية له بذلك المعني فيجوز لكل أحد التصدي للأمور الحسبية بدون اشتراطه بإذن الفقيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 387

و قد يورد على ما ذكرنا من حكومة دليل نفي السبيل بأنه من العمومات الموهونة لكثرة ورود التخصيص عليها فلا يجوز التمسك بها و فيه منع الصغرى انتهى ملخصا، و لا يخفي ما فيه فاته.

أولا: منقوض بعدم جواز التصرف من الغير في أموال القصر بنحو الإحسان عند وجود الولي عليه مع انه لا وجه له عندهم إلا مزاحمة حق ذي الحق فلو كان دليل نفي السبيل حاكم

على دليل الولاية لكانت له حكومة على أدلة ولاية الولي هنا لأن لسان أدلة ولاية الولي و أدلة ولاية الفقيه واحد.

و ثانيا: ان دليل نفي السبيل على المحسنين انما يثبت نفي السبيل على المحسن الذي لا يزاحم إحسانه حق الغير بحكم العقل و لذا اعترف بعدم جواز التصرف في أمور العاقل بنحو الإحسان فإنه لا وجه له إلا المزاحمة لحق العاقل في أموره فإذا كانت أدلة نفي السبيل على المحسنين مقيدة بعدم المزاحمة لحق ذي الحق فتكون أدلة ولاية الفقيه حاكمة أو واردة عليها لأنها تثبت الحق للفقيه في الأمور الحسبية فتكون أدلة نفي السبيل غير شاملة لها لعدم وجود القيد و هو عدم المزاحمة لحق ذي الحق نعم في صورة تعذر الوصول للفقيه صح تصدي الغير لها و لذا نجد القوم نوعا يتمسكون بهذه المطلقات و العمومات في الأمور الحسبية عند تعذر الوصول الى المجتهد، و قد يناقش أيضا في التمسك بها و لعله يقرب مما سبق بان مثل قوله (عون الضعيف صدقة) مسوق لبيان مطلوبية الأمور الحسبية بجميع أفرادها من دون نظر الى التقييد بالتصدي لها بنوع خاص من المكلفين كالفقيه أو غيره، و لكن أدلة ولاية الفقيه مقيدة لمطلوبيتها من الفقيه فيكون الأصل ثبوت ولايته عليها إلا ما أخرجه الدليل و هو المحكي عن ظاهر كلام صاحب الجواهر (ره) و لكن المحكي عن الأكثر ان أدلة ولاية الفقيه قضايا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 388

مهملة في قوة الجزئية فهي و ان أفادت أمرا زائدا و هو اعتبار التصدي للأمور المذكورة من صنف خاص و هو الفقيه إلا أن ذلك ليس على وجه الكلية و انما هو في الجملة فلا

تفيد حينئذ إلا ولايته على الأمور المذكورة في الجملة و حينئذ فيكون الأصل جواز التصرف في الأمور المذكورة لكل أحد إلا ما ثبت إناطته بالفقيه تمسكا بالعام عند تخصيصه بالمجمل المنفصل و عليه فلا يعتبر في مورد الشك في ثبوت ولايته الرجوع اليه و لا يخفى ما فيه لما قدمناه من عموم أدلة ولاية الفقيه فهي مقيدة لكل عون و معروف بإذن الفقيه.

[التنبيه السادس] هل يشترط في تصرف الفقيه فيما له الولاية عليه المصلحة أو عدم المفسدة

(السادس) انه قد عرفت ان أدلة الولاية ان كان يستفاد منها الولاية العامة بالمعنى الأعم الذي يشمل المقام الثاني و الثالث فلا إشكال في عدم اعتبار المصلحة في تصرفاته و ان كان الفقيه الذي يبلغ هذه المرتبة من الولاية تأبى نفسه أن يفعل ما ليس فيه المصلحة (ان قلت) ان مقتضاها أن يكون الفقيه أولى بالمؤمن من نفسه و أولويته كذلك تقتضي مراعاة مصلحة المتولي عليه كما انه يراعي المتولي عليه مصلحة نفسه في تصرفاته (قلنا) لو سلمنا ذلك فإنما يقتضي ذلك مرعاة الوالي لمصلحة نفسه لا لمصلحة المتولي عليه و أما ان قلنا ان أدلة الولاية لا يستفاد منها ذلك و انما يستفاد منها الولاية الأمة بالمعنى الأخص الذي يخص المقام الثالث فان الظاهر بقرينة العقل هو اعتبار المصلحة العامة في تصرفاته إلا انها بحسب نظره لا بحسب نظر غيره. و هو مصدق فيما يراه و إلا لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 389

فساد الجعل و عدم الاستفادة منه. نعم ذهب جمع الى اعتبار المصلحة في تصرفات الفقيه بحسب ولايته الشرعية بل قد ادعي عليه الإجماع و لعل مستندهم في ذلك الى أن جعل الولاية باعتبار المحافظة على المصلحة، و لكن التحقيق ما قدمناه نعم قد يقوم الدليل

الخاص على ذلك كما في مال اليتيم لقوله تعالى:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*.

[التنبيه السابع] في تعارض ولاية الفقيه مع الفقيه الآخر

(السابع) ان ظاهر الأدلة ان منصب الولاية مجعول لجميع الفقهاء الذين لهم أهلية إشغاله و صلاحية القيام بمهامه و لكن لو أشغله واحد منهم لم يجز للغير مزاحمته و معارضته في ذلك شأن سائر الواجبات الكفائية إذا قام بها من به الكفاية ليس لغيره مزاحمته فيها بل يحرم المزاحمة فيما نحن فيه لمن احتل هذا المنصب و مخالفته في التصدي لمقتضاياته و آثاره فان وضع انزعامة الدينية و تولي شؤون الرعية يقتضي عدم المزاحمة و المخالفة لمن قبض على ناصيتها و لأن مزاحمته و معارضته فيما يقوم به من الأمور يلزم منها اختلال النظام و حصول النزاع و الخصام الموجب للفساد الذي لا يرضى به الشارع قطعا و الذي قد شرعت الولاية لرفعه (و بعبارة أخرى) ان العقل حاكم بأنه يجب أن يكون المتصدي للقيام بمهام هذا المنصب من قبل الشارع شخصا واحدا إذ لو كان أكثر من واحد لحدث التشاجر فيما بينهم في التصرف في الشؤون العامة و المصالح المشتركة لاختلاف آرائهم و تباين أنظارهم و نزعاتهم بل هذا هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 390

الظاهر من رواية العلل المتقدمة ص 345 و غيرها بل ان الصادر منه ان كان حكما لم يجز معارضته فيه لما عرفت من عدم جواز نقض حكم الحاكم و ان كان عملا فهو أيضا قد يكون من قبيل الحكم كما عرفت في مبحث الفرق بين الفتوى و الحكم. و أما مجرد الفتوى فيجوز مخالفته فيها، على أن المزاحمة له في مقتضيات هذا المنصب تكون تعديا و تجاوزا على ماله

الحق الثابت له بهذا المنصب من الشارع بل يمكن أن يقال ان الولاية على كل عمل مجعولة على سبيل البدل لكل واحد من الفقهاء فاذا قام بها أحد لم يكن للآخر ولاية على ذلك الشي ء حتى يصح ان يقوم به و يزاحم الأول الذي قد قام به و لو تلبس ببعض مقدماته فاذا قام بالولاية على جميع الشؤون فلا يجوز للفقيه الآخر مزاحمته في جميعها، و إذا قام ببعضها لعدم تمكنه من القيام بالباقي لم يجز له مزاحمته في ذلك البعض الذي قام به و انما يجوز له القيام بالبعض الذي لم يقم به الأول بل يمكن ان يقال ان أدلة الولاية هي تقرير للولايات و السلطات الموجودة في سائر الملل و النحل كما يشير الى ذلك خبر العلل المتقدم ص 345 و لا ريب في ان الجعل فيها لواحد فإن الرئيس لكل قوم كما هو المتعارف في ذلك الوقت بل المتولي لكل شأن كما هو المتداول عند الأمم يكون واحدا و يمنع أشد المنع من مزاحمته بل يمكن أن يقال بأن ظاهر أدلة الولاية هي انها ثابتة للفقيه عين ما هو ثابت للإمام و كما ان الامام لا يزاحمه في ولايته و لا في التصرفات التي يقوم بها من جهة ولايته أحد أصلا حتى لو فرض انه امام مثله لأنه يلزم من ذلك معصية الامام الأول بالمخالفة له فكذلك الفقيه لأن الثابت له من الولاية هو الثابت للإمام حتى لو قلنا انها بنحو النيابة عنه عليه السّلام، و من الغريب تجويز مزاحمة الإمام لإمام آخر من بعض المحققين، هذا مضافا الى ان دليل الولاية إذا كان هو الإجماع فالقدر المتيقن منه هو الولاية للفقيه

مع عدم مزاحمته لفقيه آخر قد قام بمنصب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 391

الولاية. و اما إذا كان دليل الولاية العقل فكذلك لأن العقل انما يحكم بضرورة الولي حذرا من وقوع الفساد و اختلال النظام و مع تجويز المزاحمة حتى في مقدمات العمل يكون الحذر المذكور موجودا لاحتمال ان المولى عليهم يكون الأمر تابعا لشهواتهم و تلاعبهم. بل لعل السيرة قائمة على عدم مزاحمة الفقهاء العدول الامناء بعضهم لبعض بل يستنكرون ذلك لو وقع من أحدهم اشتباها (إن قلت) ان الروايات التي أقيمت على ثبوت الولاية للفقيه تدل على أن عموم الفقهاء لهم هذا المنصب و هو الولاية لا انه لواحد منهم دون غيره (قلنا) انا نقول بثبوتها لكل من الفقهاء الجامعين للشرائط و لكن ندعي انه لو قام واحد منهم بمهامها و أشغلها لم يجز للغير مزاحمته فهي نظير الواجب الكفائي في أنه واجب على الجميع لكن لو قام به أحد سقط عن الباقين بل قد يحرم عليهم إتيانه مرة أخرى كما في الحدود و التعزيرات لو قلنا بوجوبها الكفائي (ان قلت) انه كيف تدعي عدم صلاحية القيام بمنصب الولاية لأكثر من واحد مع أن الحسن و الحسين عليهم السّلام كانا إمامين قاما أو قعدا (قلنا) انا نتكلم في عدم صلاحية القيام بالمنصب المذكور لأكثر من واحد لغير المعصومين من الخطأ لاختلاف آرائهم و تباين طباعهم و تعدد و جهات نظرهم إذ إن ذلك موجب لحصول الشقاق و الانشقاق فيما بينهم مما يؤدي الى اختلال النظام في الرعية بخلاف المعصومين عن الخطأ فان نظرهم للواقع واحد و وجهة نظرهم للمصلحة متحدة بل هم نفس واحدة في جسمين فلا يعقل ان يحصل

الانشقاق بينهم و لا يختل النظام بتوليتهم مجتمعين و لذا ليس هناك مانع من مساندة الفقهاء الجامعين لشرائط هذا المنصب بعضهم لبعض كما ينقل انه في عصر المرحوم بحر العلوم «قدس سره» كان المرحوم كاشف الغطاء أو كل له مهمة المرجعية في التقليد و حل الخصومات و التولي للشؤون الاصلاحية و المرحوم بحر العلوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 392

للتدريس و تفقيه الناس الأحكام الشرعية و المرحوم الشيخ حسين نجف للصلاة جماعة بالناس (ان قلت) ان السيرة على خلاف ذلك فانا نرى الفقهاء الأبرار كل منهم يعمل بمقتضى الولاية من دون مراجعة أحد منهم للآخر (قلنا) لعل ذلك لعدم ثبوت الولاية العامة في نظرهم للفقيه أو انهم لا يرون بذلك المزاحمة له في المنصب أو لعلهم يرون بان ولاة الجور تمنعه من العمل بهذا العمل الذي هو من مقتضيات الولاية و هم يتمكنون من الإتيان به أو لغير ذلك نعم لو كان مبسوط اليد لما جاز ذلك لأن نفس التصدي يكون مزاحمة له في المنصب إلا بإذنه (ان قلت) ان الكثير منهم قد أفتى بجواز المزاحمة للآخر لو كان الآخر قد تلبس ببعض مقدمات العمل بدعوى أن المزاحمة إنما تمنع منها باعتبار انها ترجع لمزاحمة الإمام عليه السّلام لأن الفقيه نائب عن الامام عليه السّلام إلا أنه لما كانت نيابته عن الإمام انما هو في نفس العمل لا في مقدماته جازت مزاحمته فيها دون العمل و دعوى ان نظر الفقيه كنظر الامام عليه السّلام و أمره كأمره فلا تجوز مزاحمته حتى في المقدمات لا تنفع مدعيها لأن اعتبار نظره من باب الطريقية للواقع فاذا اطلع الفقيه الثاني على خطأه جاز له مزاحمته

(قلنا) قد ذكرنا ان نفس التصدي تكون مزاحمة منه على منصب الولاية فإنه بعد ان كان منصب الولاية ثابت له و قد قام بما هو مقتضاه و تلبس به فمزاحمته و لو في مقدمات العمل تكون مزاحمة له في المنصب المجعول له من اللّه تعالى و تجاوزا على الحق الذي يكون له و الذي دل الدليل على عدم رضاء الشارع على المزاحمة فيه إلا بإذن القائم به و المتلبس به (ان قلت) ان الاحكام العقلية يقتصر فيها على مناطاتها و فيها نحن فيه مناط حكم العقل بعدم المزاحمة هو لزوم الفساد ففي مقام لا يلزم الفساد تجوز المزاحمة (قلنا) العقل يستكشف حكم الشرع بعدم جعله لجواز المزاحمة لأن جوازها موجب لفتح باب الفساد حيث مجال الاحتمال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 393

و التجوز لعدم الفساد في المزاحمة مفتوح. و الواقع لم ينكشف عنه الغطاء و عليه فلا محالة يستكشف العقل عدم جعل الشارع لجواز هذا الأمر، مضافا لما عرفت من أن جعل المنصب له يقتضي عدم المزاحمة له في مقتضياته لأن المزاحمة تكون تعديا على ماله من الحق المجعول له من الشارع.

[التنبيه الثامن] تزاحم ولاية الحاكم الشرعي مع ولاية غيره

(الثامن) لا ريب في انه قد دل الكتاب و الإجماع و السنة على ولاية جملة من المكلفين كولاية الجد و الأب على الصغير في المال و النكاح و على المجنون المتصل جنونه بالصغر أو مطلقا على قول و هكذا على السفيه المتصل سفهه بصغره أو مطلقا على قول و ولاية الوصي على الأطفال مع فقد الوليين الإجباريين و ولاية المولى على عبده و ان كان أبوه و جده موجودين و ولاية الأولى بالميراث في أحكام الميت و تحقيق ذلك و

تنقيحه يطلب من كتب الفقه و لكن محل البحث هنا في أنه هل للحاكم الشرعي ولاية أيضا على المذكورات كما للأب و الجد ولاية على الصغير و إذا تعارضا أيهما يقدم أم ليس له ذلك و انه انما يكون ولي من لا ولي له معين من الشرع فاذا فقد كان هو الولي كما انه إذا فقد كان عدول المؤمنين. ظاهر كلمات الفقهاء كالمرحوم صاحب أنوار الفقاهة و المرحوم صاحب كتاب العناوين انه ليس له ولاية على ذلك. و لكن التحقيق أن يقال انه ان قلنا بثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأعم كانت له الولاية على ذلك لأنه على هذا يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم و يقدم مع التعارض، و اما ان قلنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 394

بثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأخص فلا ولاية له على ذلك كما لا ولاية له على القضايا الجزئية إلا إذا كانت لها علاقة بحفظ شؤون المسلمين العامة. و لعله يؤيد تقديم ولاية الحاكم الشرعي على ولاية غيره ما روي عن الصادق عليه السّلام من انه إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها و ما عن الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السّلام إذا حضر السلطان و في نسخة الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها من و لبها (ان قلت) كيف قدم الحسين عليه السّلام سعيد بن العاص في الصلاة على الحسن عليه السّلام قائلا له لو لا السنة لما قدمتك (قلنا) غير مسلم عندنا وقوع ذلك و لو سلمناه فيحتمل أنه للتقية و ان الحسين عليه السّلام نوى الانفراد في صلاته:

كيف و المعصوم لا يصلي عليه إلا المعصوم (ان قلت) في خبر السكوني عن الصادق

عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا حضر سلطان من سلاطين اللّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها ان قدمه الولي و إلا فهو غاصب (قلنا) هو مع ضعفه سندا. من المحتمل ان الضمير في قوله فهو عائد للولي أي ان قدمه الولي فذاك المطلوب و إلا فالولي غاصب للسلطان لعدم إعطائه ما هو حقه و ببالي ان هذا المعنى احتمله صاحب كشف اللثام. كما انه احتمل في الذكرى ان المراد بالسلطان غير سلطان الأصل كما يشعر به التنكير المشعر بالكثرة و يكون هذا الكلام من الصادق عليه السّلام تعريضا بالولاة و الخلفاء الذين يتقدمون بسلطانهم و قوتهم على الصلاة على الجنائز و غيرها. و لكن اضافة السلطاني الى اللّه تعالى ينافي ذلك فان الظاهر ان المراد بهم الولاة الشرعيين الصحيحين (ان قلت) لعل المراد بالإمام و السلطان في الخبرين المتقدمين هو إمام الأصل و حينئذ فلا يثبت ذلك للفقهاء في عصر الغيبة (قلنا) مضافا الى أن أدلة النيابة تثبت كلما ثبت لإمام الأصل إلا ما أخرجه الدليل كما تقدم، ان الفقهاء يفهمون من هذه الألفاظ هو مطلق المتولي لشؤون المسلمين كما في أخبار الفقيد الذي تتربص زوجته اربع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 395

سنين فإنهم فهموا منها مطلق الفقهاء الصالحين للمرجعية الجامعين لشروطها.

هذا و المحكى عن الكاتب في أحد قوليه و عن الكافي ان امام المسلمين أولى بالصلاة على الميت من وليه.

[التنبيه التاسع] جواز نصب المجتهد لغيره فيما له الولاية عليه
اشارة

(التاسع) انه يجوز للمجتهد أن ينصب الغير على ما كان له الولاية عليه إلا ما قام الدليل على عدم جوازه. و يسمى ذلك الغير المنصوب من قبل المجتهد عند الفقهاء بالأمين لأن الأمين عندهم هو المنصوب من قبل

ولي الأمر عموما أو خصوصا في أمر من الأمور. و في المحكي عن شرح القواعد لجدنا كاشف الغطاء (ره) انه لو نصب الفقيه المنصوب من الامام بالإذن العام سلطانا أو حاكما لأهل الإسلام لم يكن من حكام الجور. و المشهور عنه (ره) انه نصب (فتح علي شاه) سلطانا على إيران و أعطاه الإجازة في تولية هذا المنصب.

و الدليل على جواز ذلك للمجتهد.

(أولا) ان الأصل فيما شك في جواز التوكيل فيه هو جوازه كما قرره الفقهاء في كتاب الوكالة و التحقيق في صحة هذا الأصل يطلب من كتاب الوكالة.

و (ثانيا) عموم أدلة الولاية له و النيابة عن الامام عليه السّلام فإنها تثبت بعمومها و إطلاقها ان كل ما للإمام عليه السّلام يثبت للمجتهد كما تقدم في مبحث الولاية و لا ريب في ثبوت ذلك للإمام عليه السّلام فيثبت للمجتهد الحال محله.

و (ثالثا) عموم أو إطلاق مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (كل معروف صدقة، و عون الضعيف صدقة) لأن رفع القصور عن الصغير بجعل أمين له و والي عليه يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 396

من المعروف و العون له و هكذا جعل الوالي على الوقف يكون عونا للموقوف عليهم فتأمل.

و (رابعا) ما دل على استخلاف القاضي قيما على ما هو تحت ولايته فاذا جاز ذلك في زمن الحضور كما ربما يكون من مسلماتهم جاز في زمن الغيبة أيضا و إذا جاز للقاضي فقد جاز للمجتهد بل الظاهر من قوله عليه السّلام (جعلته حاكما) هو ثبوت الولاية له على النصب للغير للملازمة العرفية بين جعله حاكما و بين جعل الولاية له على نصب الغير كما هو المتعارف في الدول الغير

الشرعية.

فيدل ذلك على المطلوب بالدلالة الالتزامية العرفية نظير دلالة (حاتم) على الكرم.

و (الحاصل) انه قد تقدم ان الظاهر من الأدلة في مبحث الولاية انه يثبت للفقيه كلما ثبت للإمام عليه السّلام إلا ما أخرجه الدليل حتى لو شك في ثبوت شي ء للفقيه مع ثبوته للإمام عليه السّلام فتجري أصالة عدم التخصيص أو التقيد و نثبت جوازه للفقيه (نعم) لو شك في ثبوته لنفس الامام عليه السّلام و لم تكن عمومات ولايته عليه السّلام تشمله كان الأصل عدم ثبوت الولاية للفقيه عليه. و قد أورد على دعوى إمكان جعل الفقيه لغيره الولاية أو القيمومة أو الجباية و أشباهها بان ذلك مبني على الالتزام بجعل الأحكام الوضعية و لعل الكثير من علمائنا لا يلتزم به بل ربما بعضهم يرى جعلها محالا. و لا يخفى ما فيه فان مثل هذه الأمور التي لها منشأ انتزاع عرفي قابلة للجعل بجعل منشأ انتزاعها فإنها لا تنقص عن جعل القضاء و الولاية التي لا إشكال في جعل الامام عليه السّلام لهما و لو لم تكن قابلة للجعل لما جعلها الامام عليه السّلام.

و أورد ثانيا: بان النصب من المجتهد انما يصح لو كانت الولاية ثابتة له في مقابل الامام عليه السّلام و اما إذا كانت ثابتة له بما هو نائب عنه عليه السّلام فلا يصح جعلها لغيره إذ ليس لذاته موضوعية في الأثر المذكور فلا وجه لاستقلاله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 397

بالنصب و الجعل و فيه ما لا يخفى فإنه أي مانع من كون النائب عن الامام عليه السّلام و الحال محله في تنظيم شؤون الرعية أن يجعل الامام له صلاحية النصب و التعين في المناصب الشرعية بل

مقتضى نيابته عن الامام عليه السّلام هو ذلك. كيف و الأدلة تقتضي صحة ذلك من المجتهد و انه نائب عنه في كل ما يصح صدوره عن الامام عليه السّلام هذا كله مع التنزل عما ذكرناه في مبحث الولاية من ان أدلتها تدل على ان المجتهد الجامع للشرائط ثابتة له الولاية من الشارع لا بعنوان النيابة عن الامام عليه السّلام.

أقسام جعل المجتهد لغيره

ثمَّ ان الجعل من المجتهد لغيره (تارة) يكون بنحو الاذن منه في التصرف و (تارة) بنحو الوكالة و النيابة عنه و (تارة) يكون بنحو إعطائه المنصب و جعل الولاية له كجعله قيما أو واليا على البلد أو متوليا للوقف أو جابيا للزكاة و نحو ذلك (ان قلت) أي فرق بين جعل المجتهد الوكالة و النيابة و الاذن و بين جعله لنفس المنصب كجعل الغير متوليا، و بعبارة أخرى أي فرق بين جعل المجتهد للغير وكيلا عنه في تولي شؤون القصر و بين جعله للغير قيما عليهم (قلنا) ان المجتهد قد يتصرف في مال اليتيم و الوقف بعنوان انه لا ولي له و انه هو ولي من لا ولي له فيكون تصرفه مع بقاء التحفظ على العنوان الذي جوز له التصرف فيه و هو عنوان كون المال أو الشخص لا ولي له و قد يتصرف فيه بنحو يخرجه عن هذا العنوان فيجعل له واليا و قيما و يخرج بذلك عن كونه لا ولي له و لا ريب ان تصرفه بكل واحد من النحوين يغاير الآخر فجمل القيمومة و الولاية على اليتيم من قبيل الثاني و إعطاء الاذن و الوكالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 398

و النيابة من قبيل الأول لو لم يكن مسبوقا بجعل

نفسه قيما و متوليا و إلا كان منشأه التصرف على النحو الثاني.

و (الحاصل) ان مقتضى الأدلة جواز ذلك كله للمجتهد لا سيما المتصدي لأمور الرئاسة الدينية و الزعامة الإلهية إلا إذا كان الغير غير صالح لجعل ذلك الشي ء له فلا يجوز للمجتهد جعل ذلك له كالفاسق الذي قامت الأدلة على عدم صلاحيته لتولية الوقف و كالعامي الذي لا يصلح للقضاء هذا و ربما (يقال) انه لا يجوز للزعيم الديني أن ينصب شخصا للقضاء أصلا لأن ذلك الشخص ان كان مجتهدا فهو له القضاء و ان كان غير مجتهد فلا يجوز نصبه (قلنا) ان للزعيم الديني ذلك فإنه لو تمكن من له الأهلية للزعامة الدينية لم يجز لأحد مزاحمته في الزعامة و لا في القضاء كما تقدم في تنبيهات الولاية و لكن له أن يعين مجتهدا للقضاء لسد حاجة الناس في رفع المخاصمات و حسما لمادة المنازعات في اختيار القاضي و يمنع من الرجوع لغيره خوفا من الاختلاف في الحكم نعم لو لم يعين أو لم يكن فقيها له تلك الزعامة جاز لكل مجتهد القيام بالقضاء.

[التنبيه العاشر] جواز عزل المجتهد للمنصوب

(العاشر) لا إشكال انه يجوز للمجتهد الذي له الولاية عزل المنصوب من قبله أو قبل غيره إذا ظهر منه ما يوجب عزله كما انه يجوز العزل للمصلحة أو لوجود من هو أتم منه نظرا بلا خلاف يعرف و انما وقع الكلام في جواز العزل تشهيا و اقتراحا و حبا للغير أو بغضا له فجملة ذهبوا الى الجواز كما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 399

المحكي عن التحرير و الكشف و المفتاح و الجواهر لأنه مقتضى ولايته على المسلمين العامة و ذهب صاحب الشرائع و الإرشاد الى عدم

جواز ذلك لأن ولاية المنصوب قد استقرت فلا تزول تشهيا مضافا الى ان عزله عبث و فيه عرضة للقدح في المعزول و هو ليس يستحق القدح. و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم استقرار الولاية بحيث لا تزول بعزل من له الولاية العامة و ليس العزل فيه عبث لعله لحب في نفس المولى و رغبة تقتضي ذلك و ليس كلما يوجب أن يكون الإنسان عرضة للقدح لا يجوز فعله و إلا لما جاز أغلب الأفعال على انا لا نسلم ذلك إذ يمكن رفعها لو كان العزل موجبا لها بأن يصرح الولي العام بأن عزله ليس لما يقدح فيه.

[التنبيه الحادي عشر] تصرفات المجتهد بعد موته أو بعد فقدانه لأهلية المرجعية
اشارة

(الحادي عشر) لا إشكال في عدم جواز الترافع الى المجتهد الميت أو من فقد الأهلية كأن صار فاسقا أو عاميا فلا يجوز رفع الخصومة بحسب رأيه بالرجوع إلى الحاكي عن فتواه أو كتابه للإجماع و ظاهر الأخبار على اعتبار الحياة في القاضي و لعدم قابليته لأن يصدر الحكم منه و هو غير الفتوى كما أن الأدلة الدالة على اعتبار باقي الشروط فيه تقتضي عدم صحة قضاءه عند فقده لها و أما الأحكام الصادرة عنه في الخصومات و المرافعات و الأمور الحسبية في زمان حياته و زمان أهليته فهل تبطل بعد مماته أم لا فنقول ان (منها) ما يكون أحكاما لرفع الخصومات ككون هذا ملكا لزيد و هذه المرأة محرمة على هذا الشخص و كون هذا المال وقفا و نحو ذلك فهذه لا إشكال في عدم بطلانها بموته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 400

أو فقدان أهليته لأنها يكون ردا لحكمه و الراد عليه راد على اللّه تعالى و (منها) ما يكون من قبيل المعاملات

الصادر منه بعنوان ولايته كبيعه أموال القصر و الغائبين و المجانين و إجارته لها أو للأوقاف العامة فأيضا تكون نافذة و لا تبطل بموته للأدلة الدالة على لزومها كأوفوا بالعقود و نحو ذلك فهو كسائر المتعاملين بها لا ينقص عنهم و (منها) ما يكون بنحو الاذن في التصرف و الوكالة و النيابة عنه كما لو أذن له بقتل الكافر أو التصرف في مجهول المالك أو حق الامام عليه السّلام أو وكله بحفظ مال القاصرين أو أنابه عنه في تولية الوقف فلا إشكال في بطلان ذلك بموته لأنه لا يزيد عن سائر الوكلاء و المأذونين و النائبين في بطلان وكالتهم و إذنهم و نيابتهم بموت الموكل و الآذن و المنوب عنه لتقومها بالاذن و الرضا و طيب النفس المتقومة بالحياة بل و لو لم نقل بتقومها بالحياة فهي أيضا تبطل لانتقال الأمور التي قد أذن فيها أو وكل فيها أو أناب فيها الى من بعده فلا بد للمتصرف فيها أن يرجع لمن انتقل أمرها إليه. مضافا للإجماع الذي ذكره في الجواهر على بطلان الوكالة بالموت ففيما نحن فيه تبطل نيابته و وكالته و أذنه من المجتهد بالموت فلا أثر لما كان تأثيره عنه بأحد هذه العناوين و هكذا لو جن المجتهد أو سقط عن أهلية التصرف بالفسق و نحوه لأنه يرجع ما بيده لغيره فلا بد من أخذ الاذن من ذلك الغير الذي رجعت تلك الأمور له (نعم) المجتهد بالإغماء أو النوم أو الغفلة لما كان لا يخرج عن أهلية التصرف بالإجماع و السيرة كانت الوكالة و النيابة و المأذونية لا تبطل بها، و قد يستدل بإطلاق أدلة الوكالة و هو مبني على تسليمه، و (منها)

ما يكون بنحو إعطاء المنصب كإعطاء القيمومة على القصر و الولاية على الأوقاف و الجباية و القضاء بين الناس بناء على جواز جعل المجتهد لشخص قاضيا و نحو ذلك من المناصب الشرعية و الظاهر انها لا تبطل بموته و لا بخروجه عن الأهلية و لكن للمجتهد الحي أن يعزله عنها و قد حكي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 401

الإجماع عن الشيخ و جامع المقاصد و عن الإيضاح الإجماع على عدم انعزال الأولياء القوّام المجعولين من قبل المجتهدين خلافا لما يظهر من صاحب البلغة حيث ذهب الى بطلان ذلك بموت المجتهد و بعضهم فصل في المقام بين ما إذا كان نصب المجتهد للقيم و نحوه من جانب الامام عليه السّلام فيكون المجتهد واسطة في الجعل عن الامام و حينئذ فلا ينعزل بموت المجتهد في عصر الغيبة لكون الجاعل له حيا لم يمت و بين صورة ما إذا نصبه المجتهد من قبل نفسه باعتبار ان له حق النصب فينعزل بموته. و الحق هو القول الأول و هو عدم البطلان بموت المجتهد أو بخروجه عن الأهلية، و يمكن أن يستدل له (أولا) بالإجماع المنقول عن الشيخ و الإيضاح و جامع المقاصد و لعل الإجماع المحصل قبل صاحب البلغة ثابت.

و (ثانيا) بأن الولاية التي كانت للإمام عليه السّلام قد ثبت جعلها للمجتهد في عصر الغيبة الجامع للشروط و انه يقوم مقامه في جميع ما هو ثابت له عليه السّلام فكما ان الامام لا ينعزل المنصوب قيما أو واليا من قبله بالإجماع بموته كذلك الذي نصبه المجتهد لأنه نائب مناب الإمام في جعل هذه الوظائف، نعم إنما ينعزل إذا عزله الولي لا ان موت الولي موجب لعزله

و (ثالثا) باستصحاب بقاء تلك المناصب و الوظائف بعد موت المجتهد و باستصحاب صحة تصرفات القيم و الولي بعد موت المجتهد الناصب لهما. و قد أورد على الاستصحاب المذكور: بأنه معارض باستصحاب عدم الصحة في العقود و المعاملات الواقعة من القيم و الولي بعد موت المجتهد و عدم ترتب الأثر على تصرفاتهما بعد موت المجتهد و لا يخفى ما فيه فان الاستصحاب الأول مقدم على الثاني لأنه من قبيل الشك السببي و المسببي فإن الشك في ترتب الأثر على المعاملات ناشئ من الشك في بقاء القيمومة و الولاية. مضافا إلى أنه لا وجه للاستصحاب الثاني المذكور لأن اليقين السابق هو صحة المعاملات الصادرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 402

من الولي و القيم و نشك في بقائها بعد طرو موت المجتهد، إلا اللهم أن يقال: ان هذا استصحاب تعليقي فاسد عندنا. مضافا إلى استصحاب عدم صحة القيمومة و الولاية من المجتهد الحي الآخر و عدم صحة التصرف منه فان هذا المجتهد الحي الآخر لم يكن يصح منه ذلك في زمن حياة المجتهد الأول فنستصحب عدم الصحة منه إلى ما بعد موت المجتهد الأول. و لا يخفى ما فيه فان أدلة الولاية العامة تقتضي صحة تصرفه عندما صار وليا عاما في العزل و النصب و الإمضاء لتصرفات المجتهد السابق

حجة القول الثاني

و استدل للقول الثاني و هو الانعزال بموت المجتهد أولا: بأن نصب المجتهد القيم و الولي و نحو ذلك من الوظائف كالجباية للأموال إنما هو عبارة عن جعله نائبا و وكيلا عنه في ذلك و مقتضاه انعزاله بموته أو بخروجه عن الأهلية للإجماع على انعزال الوكيل بموت الموكل. (و جوابه) ان ذلك من قبيل

إعطاء المنصب و الولاية على التصرف فجعل الولي و القيم من حاكم الشرع كجعل حاكم الشرع وليا و قيما من اللّه تعالى و ليس من قبيل النيابة عن المجتهد، و لذا لسان الجعل يختلف عن لسان النيابة ففي صورة النيابة يقول المجتهد جعلتك نائبا عني في حفظ أموال القاصرين و الإدارة لشؤون الوقف و في صورة إعطاء المنصب يقول جعلتك قيما و جعلتك متوليا و قاضيا و جابيا. و دعوى انه ليس لحاكم الشرع ذلك و إنما له أن يجعل نائبا عنه في ذلك. (قلنا) هذا خروج عن محل البحث فان محل البحث هو بعد فرض جواز الجعل منه و قد أثبتنا ذلك في تنبيهات الولاية العامة و انه يجوز له أن يجعل المنصب لغيره.

و (ثانيا) بأن إعطاء المنصب يكون متفرعا على ولاية المجتهد و من شؤون نيابته عن الامام عليه السّلام و بموت المجتهد تزول ولايته و نيابته عن الامام فيزول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 403

ما يتفرع عليها. (و جوابه) ان إعطاء المنصب حدوثه متفرع على ذلك و ليس بقائه متفرع عليه بل هو أول الكلام.

حجة القول الثالث

و استدل للقول الثالث أعنى القول بالتفصيل بين صورة إعطاء المنصب من قبل نفس المجتهد فينعزل بموته و بين صورة إعطائه من قبل الامام عليه السّلام فلا ينعزل بموته بأنه في الصورة الاولى يكون من شؤون و توابع و فروع ولاية المجتهد و بموته تسقط ولايته فيسقط توابعها و ما يتفرع عليها بخلاف الصورة الثانية فإن المجتهد واسطة في الجعل عنهم (ع) و ليس له استقلال فيه و ليس لذاته موضوعية في الأثر المذكور فموته لا يوجب الانعزال لأن موكله في الحقيقة هو الامام

عليه السّلام و هو لم يمت و إنما الذي مات هو الواسطة بينهما قالوا و لو شك في أن جعل المجتهد لصاحب المنصب من قبيل الأول أو الثاني لم يجري الاستصحاب لأنه من قبيل تردد المستصحب بين الفرد الطويل المعلوم البقاء و الفرد القصير المعلوم الزوال و لا أثر للكلي المردد بينهما حتى يستصحب و أما استصحاب جواز التصرف فهو استصحاب تعليقي معارض باستصحاب عدم ترتب الآثار على ما يصدر منه، و لا يخفى ما فيه لا مكان المناقشة (أولا) بأن الوكيل لا يجوز له توكيل الغير إلا بإذن الموكل كما قرر في كتاب الوكالة و فيما نحن فيه و إن ثبت جواز توكيل المجتهد لشخص من قبل نفسه إلا ان جواز توكيله من قبل الامام عليه السّلام غير ثابت و على مدعيه الدليل و كذلك ولايته عن الامام لا تستلزم جواز أن يوكل شخصا عن الامام عليه السّلام.

و (ثانيا) بأن على كلا الصورتين لا ينعزل اما في الصورة الثانية فلموافقة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 404

الخصم لنا في ذلك، و اما في الأولى فلما عرفت ان صلاحية النصب له لا يوجب التبعية وجودا و عدما له ألا ترى ان الجد أو الأب يجعل لشخص القيمومة على أولاده مع انه لا ينعزل بموتهما و الواقف يجعل تولية الوقف لشخص مع انه لا ينعزل بموته (و بعبارة أخرى) ان جعل ذلك المنصب بيده لا يستلزم أن يزول بموته أو فقدان أهليته.

[الشك في نوع جعل الفقيه للشخص انه بنحو الاذن و نحوه أو بنحو إعطاء المنصب.]

ثمَّ انه بعد ما عرفت بأن الوكالة و النيابة و الاذن تبطل بموت المجتهد أو فقده لأهلية المرجعية، و ان القيمومة و الجباية و الولاية و نحوها من المناصب الشرعية لا تبطل

بذلك فلو شك في كيفية تعيين الفقيه للشخص بأنه بنحو الاذن و أشباهه مما يبطل بالموت و نحوه أو بنحو إعطاء المنصب له كمنصب القيمومة و أمثاله مما لا يبطل بذلك فذهب بعضهم إلى الثاني متمسكا بالإطلاق مدعيا أن الوكالة و النيابة تحتاج إلى التقييد بكون منصبه نيابة عن الغير بخلاف إعطاء المنصب فإنه و إن كان كل منهما فردا مباينا للآخر لكن في مقام البيان يحتاج أحدهما إلى التقييد دون الآخر كما قيل في البيع من أن إطلاقه يقتضي إيقاعه عن نفسه لا عن الغير لاحتياجه إلى قصد ذلك و هكذا عقد النكاح فإنه يحمل على الدائم لأن الانقطاع يحتاج إلى تقييد.

و لعل غرضه إن كل واحد منهما و إن كان فردا مباينا للآخر إلا أن بيان أحدهما يحتاج إلى مئونة زائدة و قيود أكثر فيحمل جعل الفقيه على الفرد الذي هو أقل مئونة في بيانه، و يمكن أن يقال انه معارض بصورة احتمال الإذن فإنه أيضا لا يحتاج الى التقييد، و الأولى أن يقال انه إن كان يحتاج بيان أحدهما إلى بيان أزيد دون الآخر حمل جعل الفقيه على الآخر الذي هو أقل بيانا و إلّا فيرجع إلى استصحاب الآثار و الأعمال التي كانت ثابتة له سابقا و قد أورد على هذا الاستصحاب انه غير صحيح لتردد المجعول بين فردين معلوم الزوال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 405

و معلوم البقاء و لا أثر للجامع ليجري استصحابه، و لا يخفى ما فيه فان النصب بأي نحو كان أثره جواز التصرف بدليل انه وقت وجود الناصب بأي نحو كان النصب تترتب عليه تلك الآثار فلو لم تكن آثارا للجامع لما ترتبت على

النصب مطلقا عند وجود الناصب. (إن قلت) ان استصحاب جواز التصرف استصحاب تعليقي معارض باستصحاب عدم ترتب الأثر. (قلنا) إنا لم نستصحب جواز التصرف و إنما نستصحب موضوعه و هو القدر الجامع بين الفردين، مضافا إلى ان استصحاب جواز التصرف استصحاب تنجزي لأن نفس الجواز ثابت فعلا، و اما استصحاب عدم ترتب الأثر فقد تقدم ص 401 فساده.

[التنبيه الثاني عشر] أموال الفقيه في زمن الغيبة التي يصرفها على نفسه و شؤونه أو وجوب دفع أموال الإمام له
اشارة

(الثاني عشر) لا ريب ان الذي يصلح أن يكون مالا للفقيه في عصر الغيبة باعتبار ولايته هي أموال الإمام عليه السّلام و قبل الخوض في ذلك لا بأس بالتعرض لأموال الإمام عليه السّلام الثابتة له ثمَّ بيان صحة تصرف الفقيه الجامع لشرائط المرجعية و الولاية فيها بصرفها على نفسه و شؤونه فنقول إن أموال الإمام عليه السّلام على قسمين (أحدهما) ما يكون ثبوتها له بعنوان الإمامة و من جهتها. و (ثانيهما) ما يثبت له بالأسباب الموجبة لثبوتها لسائر المسلمين كالثابتة له بالإرث أو بالهدية أو بالكسب أو بالنذر لشخصه الكريم أو الوقف على ذاته المقدسة أو نحو ذلك و لا كلام لنا في القسم الثاني لوضوح عوده لوراث الامام و عدم رجوعه للفقيه و إنما كلامنا في القسم الأول لأنه هو الذي يمكن ان يقال فيه بعوده للفقيه في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 406

عصر الغيبة،

و الكلام يقع في مقامين
اشارة

أحدهما في تعيين أموال الإمام عليه السّلام و تشخيص أنواعها. و ثانيهما في بيان عودها للفقيه في عصر الغيبة.

اما (المقام الأول) [و هو] في تعيين أموال الإمام ع و تشخيص أنواعها
اشارة

فنقول

[حق الإمام]
اشارة

من أموال الامام (نصف الخمس) و يسمى بحق الإمام فإنه لا اشكال و لا خلاف في كونه ثابتا له بعنوان الإمامة و إنما وقع النزاع في ثبوته في زمن الغيبة. فعن الشيخين و السيدين و الشهيدين و سائر من تأخر عنهم القول بالثبوت بل المحكى عن الرياض انه الأشهر بل عدم الخلاف فيه إلا نادرا من القدماء. و عن الجواهر انه المشهور نقلا و تحصيلا ان لم يكن المجمع عليه. و حكى القول بالسقوط عن المراسم و الكفاية و الذخيرة و المدارك و المفاتيح و الحدائق.

[حجة القول بالثبوت في زمن الغيبة]

و يدل على (القول الأول) هو انه لا إشكال في ثبوته في زمن الحضور لكل ما دل عقلا و نقلا على وجوب دفع الحق إلى مستحقه، و إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يؤخذه و ان الأئمة الأطهار عليهم السّلام يرسلون الوكلاء الى جميع النواحي لقبضه حتى في زمن الغيبة الصغرى، و أدلة الاشتراك في التكليف تقتضي ثبوته في زمن الغيبة. مضافا الى ان الاخبار الدالة على وجوب الخمس في كل نوع من أنواعه ظاهرة الدلالة على ثبوته في كل عصر مضافا لما في الصحيح المروي في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه من قول ابي جعفر الثاني عليه السّلام ان أحدهم يثب على أموال آل محمد أيتامهم و مساكينهم و أبناء سبيلهم فيأخذه ثمَّ يجي ء فيقول: اجعلني في حل. أ تراه ظن إني أقول لا افعل. و اللّه ليسألنهم اللّه تعالى يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا. و لما في المروي في الكافي بسنده عن محمد بن الطبري فيما كتبه أبو الحسن الرضا عليه السّلام الى رجل من تجار فارس إن الخمس عوننا

على ديننا و على عيالنا و على أموالنا و ما نبذله و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته فلا تزوه عنها. و لما في المروي في الكافي بسنده عن ابي الحسن الرضا عليه السّلام في جواب قوم طلبوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 407

منه ان يحل لهم الخمس؟ ما أمحل هذا تمحضونا المودة بألسنتكم و تزوون عنا حقا جعله اللّه لنا و جعلنا له و هو الخمس لا نجعل أحدا منكم في حل، و ما في المروي عن الشيخ بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال سمعته يقول: من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره اللّه اشترى ما لا يحل له، و ما في خبر أبي بصير قال قلت: ما أيسر ما يدخل به العبد النار، قال: من أكل مال اليتيم درهما و نحن اليتيم. و ما في خبر عبد اللّه بن بكير عن الصادق عليه السّلام انه قال: اني لآخذ من أحدكم الدرهم و انى لمن أكثر أهل المدينة مالا لا أريد بذلك إلا أن تطهروا و ما في التوقيع الوارد عن العمري في جواب مسائل محمد بن جعفر الأزدي قال و اما ما سألت عنه من أمر من استحل ما في يده من أموالنا و يتصرف فيها تصرفه في ماله من غير أمرنا فهو ملعون و نحن خصمائه.

و ما رواه في الوسائل عن الحجة عليه السّلام انه قال للحسين عم ناصر الدولة الحمداني: يا حسين لم تمنع أصحابي عن خمس مالك، ثمَّ ذكر في آخره: ان العمرى أتاه و أخذ خمس ماله.

و لا يخفى عدم دلالة بعض هذه الاخبار على المدعى من ثبوت الخمس في زمن الغيبة

بل لعله ظاهر في ثبوته في زمن الحضور لمن تدبر فيها و ساكتة عن زمن الغيبة لكن في غيره و ما تقدم من الأدلة غنى و كفاية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 408

حجة القول بالسقوط في زمن الغيبة

(أولا) ان إيصاله إلى الامام كان متعذرا عادة على نحو تعذر إيصال اللقطة أو الكنز أو المجهول المالك إلى صاحبه بل هو أشد من ذلك و كان عزله و استيداعه و الوصية به أو دفنه إلى ظهوره (عج) تغريرا بالمال و تعرضا للتلف لطول الزمن و كثرة السراق و غلبة العثور عليه ممن لا يستحقه و ندرة الأمناء فيسقط وجوب إيصاله إلى الامام عليه السّلام بأي نحو كان لأن التكليف إذا تعذر امتثاله سقط وجوبه. و لا يخفى ما فيه فان أدلة الولاية المتقدمة ظاهرة في أن كل ما كان ثابتا للإمام بعنوان الإمامة يثبت للفقيه الجامع للشرائط كما هو ظاهر ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء و غيرها و سيجي ء ان شاء اللّه عند الكلام في المقام الثاني ما يظهر لك فيه ان حق الإمام في زمن الغيبة صاحبه هو المجتهد الجامع للشرائط و عليه فلا يتعذر إيصاله لمستحقه و (ثانيا) اخبار التحليل (الأول) ما رواه الشيخ ره بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابى جعفر يعني أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن على الوشاء عن احمد بن عائذ عن أبي سلمة سالم بن مكرم و هو أبو خديجة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال قال رجل و انا حاضر حلل لي الفروج ففزع أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال له رجل ليس يسألك أن يعترض الطريق انما يسألك خادما يشتريه أو امرأة يتزوجها

أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه فقال هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم و الغائب و الميت منهم و الحي و ما يولد منهم الى يوم القيامة فهو لهم حلال اما و اللّه لا يحل الا لمن أحللنا له لا و اللّه ما أعطينا أحدا ذمة و ما عندنا لأحد عهد و لا لأحد عندنا ميثاق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 409

و (ثانيا) ما رواه هو (ره) عنه عن ابي جعفر عن محمد بن سنان عن صباح الأزرق عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال ان أشد ما فيه الناس يوم القيامة ان يقوم صاحب الخمس فيقول يا رب خمسي و قد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم و لتزكو أموالهم.

و (ثالثا) الصحيح الذي رواه هو (ره) بإسناده عن ابي جعفر عن العباس بن معروف عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد اللّه عن ابي بصير و زرارة و محمد بن مسلم كلهم عن ابي جعفر عليه السّلام قال قال أمير المؤمنين علي بن ابى طال عليه السّلام هلك الناس في بطونهم و فروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا الا و ان شيعتنا من ذلك و ابائهم في حل.

و (رابعا) الصحيح الذي رواه الشيخ (ره) بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابي جعفر عن علي بن مهزيار قال قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السّلام الى رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله و مشربه من الخمس فكتب بخطه عليه السّلام من أعوزه شي ء من حقي فهو في حل.

و (خامسا) الصحيح الذي رواه هو (ره) عنه عن ابي جعفر عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن

عمر بن أبان الكلبي عن ضريس الكناسي قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام أ تدري من اين دخل على الناس الزنا فقلت لا أدري فقال من قبل خمسنا أهل البيت الا لشيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم و لميلادهم.

و (سادسا) ما عن تفسير الحسن العسكري عليه السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه سيكون بعدك ملك عضوض و جبر فيستولى على خمسي من السبي و الغنائم يبيعونه فلا يحل لمشتريه لأن نصيبي فيه و قد وهبت نصيبي منه لكل من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحل لهم منافعهم من مأكل و مشرب و لتطيب مواليدهم و لا يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 410

أولادهم أولاد حرام قال رسول اللّه ما تصدق أحد أفضل من صدقتك و قد تبعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فعلك أحل الشيعة كل ما كان فيه من غنيمة و بيع من نصيبه على واحد بعد واحد من شيعتي و لا أحلها انا و لا أنت لغيرهم.

و (سابعا) ما رواه الصدوق (ره) في محكي إكمال الدين عن محمد بن محمد بن عصام الكليني عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب فيما ورد عليه من التوقيعات بخط صاحب الزمان عجل فرجه و جعلني من كل مكروه فداه اما ما سألت عنه من أمر المنكرين لي إلى أن قال و اما المتلبسون بأموالنا فمن استحل شيئا فأكله فإنما يأكله النيران و اما الخمس فقد أبيح لشيعتنا و جعلوا منه

في حل الى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم و لا تخبث:

و (ثامنا) المعتبر الذي رواه الشيخ (ره) بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابي جعفر احمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب قال كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال و الأرباح و تجارات نعلم ان حقك فيها ثابت و انا عن ذلك مقصرون فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام ما أنصفناكم إن كلفناكم.

و (تاسعا) ما رواه هو (ره) بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن يوسف عن محمد بن سنان عن عبد الصمد بن مشير عن حكيم مؤذن بني عيسى عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له و اعملوا انما غنمتم من شي ء فان للّه خمسه و للرسول قال هي و اللّه الإفادة يوما بيوم الا ان ابي جعل شيعتنا من ذلك في حل ليزكوا.

و (عاشرا) الصحيح أو المعتبر الذي رواه هو (ره) بإسناده عنه عن احمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عمارة عن الحرث بن المغيرة النضري عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له ان لنا أموالا من غلات و تجارات و نحو ذلك و قد علمت ان لك فيها حقا قال فلم أحللنا إذا لشيعتنا الا لتطيب ولادتهم و كل من والى ابائى فهو في حل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 411

مما في أيديهم من حقنا فليبلغ الشاهد الغائب.

و (الحادي عشر) ما رواه هو (ره) بإسناده عنه عن جعفر بن محمد بن حكيم عن عبد الكريم بن عمر و

الخثعمي عن الحرث بن المغيرة النضري قال دخلت على ابي جعفر عليه السّلام فجلست عنده فإذا نجية قد أستأذن عليه فاذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثمَّ قال جعلت فداك اني أريد أن أسألك عن مسألة و اللّه ما أريد بها الا فكاك رقبتي من النار فكأنه رق له فاستوى جالسا فقال يا نجية سلني فلا تسئلني عن شي ء إلا أخبرتك به قال جعلت فداك ما تقول في فلان و فلان قال يا نجية ان لنا الخمس في كتاب اللّه و لنا الأنفال و لنا صفو المال و هما و اللّه أول من ظلمنا حقنا في كتاب اللّه إلى ان قال اللهم انا قد أحللنا ذلك لشيعتنا قال ثمَّ اقبل علينا بوجهه فقال يا نجية ما على فطرة إبراهيم غيرنا و غير شيعتنا.

و (الثاني عشر) الصحيح الذي رواه الصدوق في محكي العلل عن محمد بن الحسن عن الصفار عن العباس بن معروف عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام أنه قال أن أمير المؤمنين عليه السّلام حللهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم.

و (الثالث عشر) ما رواه ثقة الإسلام عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد عن محمد بن عبد اللّه بن احمد عن علي بن النعمان عن صالح بن حمزة عن ابان بن مصعب عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما لكم من هذه الأرض فتبسم ثمَّ قال أن اللّه تعالى بعث جبرئيل و امره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض منها سيحان و جيحان و هو نهر بلخ و الخشوع و هو نهر الساس و مهران

و هو نهر الهند و نيل مصر و دجلة و الفرات فما سقت و استقت فهو لنا و ما كان لنا فهو لشيعتنا و ليس لعدونا منه شي ء إلا ما غصب عليه و ان و لينا لفي أوسع فيما بين ذه الى ذه يعنى ما بين السماء و الأرض ثمَّ تلا هذه الآية قل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 412

هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب.

و (الرابع عشر) ما رواه هو (ره) عن عدة من أصحابه عن احمد بن محمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن عبد العزيز بن نافع قال طلبنا الاذن على ابي عبد اللّه عليه السّلام و أرسلنا اليه و أرسل إلينا ادخلوا اثنين اثنين فدخلت انا و رجل معى فقلت للرجل أحب ان تحل بالمسألة فقال نعم فقال له جعلت فداك أن ابي كان ممن سباه بنو أمية و قد علمت ان بنى أمية لم يكن لهم ان يحرموا و لا يحللوا و لم يكن لهم مما في أيديهم قليل و لا كثير و انما ذلك لكم فاذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد على عقلي ما انا فيه فقال عليه السّلام له أنت في حل مما كان من ذلك و كل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل من ذلك فقمنا و خرجنا فسبقنا معتب الى النفر القعود الذين ينتظرون إذن ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال لهم قد ظفر عبد العزيز بن نافع بشي ء ما ظفر بمثله احد قط قيل له و ما ذلك ففسره لهم فقام اثنان فدخلا

على ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال أحدهما جعلت فداك ان ابي كان من سبايا بني أمية و قد علمت ان بني أمية لم يكن لهم من ذلك قليل و لا كثير و انا أحب ان تجعلنا من ذلك في حل فقال و ذلك إلينا ما ذلك إلينا ما لنا أن نحل و لا أن نحرم فخرج الرجلان و غضب أبو عبد اللّه عليه السّلام فلم يدخل عليه أحد في تلك الليلة إلا بدية أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال الا تعجبون من فلان يجيئني فيستحلني مما صنعت بنو أمية كأنه يرى ان ذلك لنا و لم ينتفع أحد في تلك الليلة بقليل و لا كثير إلا الأولين فإنهما عنيا بحاجتهما.

و (الخامس عشر) ما رواه هو (ره) عن علي بن محمد عن علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمن عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن ابى جعفر عليه السّلام في حديث قال ان اللّه جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفي ء فقال تبارك و تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 413

الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فنحن أصحاب الخمس و الفي ء و قد حرمناه على جميع الناس ما خلاف شيعتنا و اللّه يا أبا حمزة ما من ارض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب على شي ء منه الا كان حراما على من يصيبه فرجا أو ما لا الحديث الى غير ذلك من الاخبار.

و الجواب عنها (أولا) بإعراض الأصحاب عنها لأنها تدل على ثبوت الإباحة من زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم الى وقت ظهور الغائب عجل اللّه فرجه أو الى يوم القيامة و هذا لم يقل به أحد من الأصحاب بل هذه الأخبار مخالفة لما يقتضيه النقل المأثور و السيرة المستمرة في جميع الأعصار و الأمصار على إخراج الخمس و حمله إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الى الأئمة الأطهار أو الى النوابهم عليهم السّلام و ارسالهم الوكلاء في النواحي لقبضه بل هي مخالفة للأخبار التي وردت في ضبط أنواعه و بيان مصارفه و تقدير نصابه بل مخالفة لما دل على وجوبه من الآيات و الروايات فضلا عما دل على التشديد في أمره و لعن مستحله. و يؤيد ذلك ان أكابر القدماء الذين هم أعرف بمفاد أخبارهم عليهم السّلام و جهات ورودها اختاروا وجوب الخمس و لم يفهموا من هذه الأخبار سقوطه.

و (ثانيا) إن هذه الأخبار لا يصح التمسك بها أصلا لأنها إن أخذ بعموماتها و إطلاقاتها لزم ارتفاع الخمس بالمرة و سقوطه من عهد الأئمة عليهم السّلام بل من عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو باطل بالضرورة و لا يقول به حتى الخصم، و إن حملت على زمان الحضور خاصة فهو لم يقل به أحد حتى الخصم، بل ظاهرهم الاتفاق على عدم سقوطه زمن الحضور و إن حملت على زمن الغيبة فيلزم خروج موردها فان موردها زمن الحضور و هو غير صحيح.

و (ثالثا) إنها مخالفة لحكم العقل و الشرع لأنها تدل على ان الامام الذي صدر منه التحليل قد حلل حصة الهاشميين من الخمس و حلل ما يملكه الامام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 414

المتأخر عنه و هو لا وجه له

لعدم تسلط الامام على ذلك لعدم ملكه له فلا بد أن يكون المراد بها هو تحليل خصوص ما يعود اليه و هو ما كان له في زمانه فلا يشمل عصر الغيبة إلا أن يثبت التحليل من الحجة عليه السّلام و هو غير ثابت لعدم قيام دليل على ذلك إلا رواية الصدوق المتقدمة ص 410 و هي غير مسلم صحتها مع معارضتها لما تقدم ص 407 من رواية الحسين عم ناصر الدولة، و التوقيع المتقدم ص 407 الوارد على العمري في جواب مسائل محمد بن جعفر مع انه لم يعلم المراد من الخمس فيها إذ لعل (أل) فيه للعهد بخمس معين لشخص معين الذي قد وقع السؤال عنه. مع منافاتها لما هو معروف من حال وكلائه عجل اللّه فرجه من استقرار سيرتهم على قبض الأخماس و يؤيد ذلك من أن المراد بها تحليل خصوص ما يعود اليه قول أبي جعفر عليه السّلام في صحيح ابن مهزيار المتقدم ص 409 (من أعوزه شي ء من حقي فهو في حل) و قول أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية تفسير العسكري المتقدمة ص 409 و قد وهبت نصيبي و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية حكيم المتقدمة ص 410 (إن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حل).

و قوله في رواية عبد العزيز المتقدمة ص 412 (أنت في حل مما كان من ذلك).

فإنها ظاهرة في أن التحليل إنما هو لخصوص ما يعود اليه من المال و هو إنما يكون بالنسبة الى ما يستحقه في عصر إمامته. على انه لو كان الخمس و حق الامام حلال لم يحتاج الى استئذان ممن تأخر من الأئمة عليهم السّلام فلا بد أن يفهم

منها إرادة المرخصية و الإباحة في زمن المحلل خاصة أو لشخص مخصوص فيتعين تجديد الاذن في غير ذلك الزمان و لغير ذلك المحلل له. على أن عمومها أو إطلاقها حتى بالنسبة لما يعود اليه من المال لا يأخذ به الخصم لأنه لو أخذنا به لزم تحليل ما يعود للإمام بالميراث أو الهبة أو نحو ذلك و هو لم يفتي به أحد إلا أعدائهم من الكفار فعمومها و إطلاقها موهون لا يصح التمسك به لنفي ما ثبت وجوبه من الكتاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 415

و السنة و هو الخمس و الميراث و نحوه.

و (رابعا) إن هذه الأخبار معارضة بأدلة القول الأول من الآية و الأخبار. و الترجيح لأدلة القول الأول لموافقتها للكتاب و السنة و لمخالفتها للعامة فتعين الأخذ بأدلة القول الأول.

(إن قلت): لا وجه لطرح أخبار التحليل كما يحكى عن ابن جنيد بعد تواترها و عمل الأصحاب بها في الجملة بل لا بد من الجمع بينهما و بين الاخبار الدالة على التحريم بتنزيل التحليل على زمن الغيبة و التحريم على زمن الحضور وفق المحكي عن سلار. و خيرة الذخيرة، و المدارك، و المفاتيح.

قلنا: هذا الجمع لا يصح قطعا لان أخبار التحليل صريحة بما يعم الحضور كيف و مورد أكثرها هو زمن الحضور فلو حملناها على زمن الغيبة لزم خروج الوارد عن مورده كما أن روايات التحريم صريحة في ما يعم زمن الغيبة فالجمع بذلك إهمال للدليلين. مضافا الى أن هذا الجمع لا شاهد عليه من الروايات فيكون جمعا لا دليل عليه. مضافا الى ما في الجمع بذلك من اعراض الأصحاب و شذوذ القائل به. (نعم يمكن) حمل هذه الاخبار أعني أخبار

التحليل على صورة الخوف من أخذ حقوقهم أو على صورة الإعواز و الإشفاق على صاحب الحق كما ان مالك المار قد يشفق على المديون له فيبرء ذمته. و الأب قد يشفق على أولاده فيسقط ما بذمتهم له و يبيح ما له لهم. أو على ما هو المشهور بين الأصحاب من إباحة ما يأخذونه من المخالفين من المناكح (التي هي الجواري التي تسبى من دار الحرب) و من المساكين (التي يغنمها المسلمون من الكفار) و من المتاجر (التي هي الأموال التي تشترى من الغنيمة المأخوذة من أهل الحرب) فعن المنتهى دعوى الإجماع على استثناء المناكح من متعلق الخمس و إنها مباحة في حال ظهور الامام و غيبته و عن الشهيد (ره) في البيان دعوى إطباق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 416

الإمامية على إباحة تلك الأمور الثلاثة و لم يحك الخلاف في ذلك إلا عن ظاهر ابن جنيد و ابي الصلاح و لا شبهة في ضعفه و شذوذه و عن حواشي الشهيد (ره) انه قال: قد تقرر عندنا ان جميع ما يؤخذ من دار الحرب بغير إذن الامام سواء كان في حضوره أو غيبته فهو له عليه السّلام و قد أباحه لشيعته في حال الغيبة و يؤيد حمل روايات التحليل على ذلك. المروي في غوالي اللئالي مرسلا عن الصادق عليه السّلام انه سأله بعض أصحابه فقال يا ابن رسول اللّه ما حال شيعتكم فيما خصكم اللّه تعالى إذا غاب غائبكم و استتر قائمكم فقال عليه السّلام ما أنصفناهم إن واخذناهم بل نبيح لهم المساكن و نبيح لهم المناكح و نبيح لهم المتاجر. و لا يقدح ضعفه بالإرسال بعد اعتضاده بالشهرة التامة و الإجماعات المحكية

و ظاهر الروايات المتناولة لها بعمومها و لكن المرسل المذكور مختص بزمن الغيبة كما هو صريح المحكي عن فتاوى جماعة و كما هو صريح المحكي المتقدم عن حواشي الشهيد (ره) و لكنه مخالف للإجماع المحكى عن المنتهى المتقدم و لروايات التحليل المذكورة حيث تعم زمن الحضور و الغيبة إلا اللهم أن يحمل الغيبة على ذهاب سلطانهم و عدم خضوع الناس لهم.

و (كيف كان) فالظاهر هو حمل تلك الأخبار أعني أخبار التحليل على تحليل هذه الثلاثة فإنه هو الظاهر من أغلبها لمن تأمل فيها خصوصا ما يذكر فيها من العلة بطيب الولادة مع انه القدر المتيقن منها بعد ما عرفت عدم إرادة عمومها أو إطلاقها. و عليه فلا وجه لما في شرح اللمعة للمحقق المدقق الشيخ جواد ملا كتاب من أن الظاهر من الاخبار إباحة جميع ما يؤخذ من أيدي المخالفين من الخمس و الأنفال من غير فرق بين المناكح و المساكن و المتاجر و غيرها من الأموال المختصة بالإمام أو المشتركة بينه و بين غيره ثمَّ صارت في يد الجائر فإنه يباح للشيعة تناولها دفعا للعسر و الحرج و تحصيلا لطيب الولادة، و قد سبقه جدنا كاشف الغطاء (ره) في ذلك فإن المحكي عن كشف الغطاء انه قال بعد تعداد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 417

الأنفال و كل شي ء يكون بيد الامام مما اختص أو اشترك بين المسلمين يجوز أخذه من حاكم الجور بشراء و غيره من الهبات و المعاوضات و الإجارات لأنهم أحلوا ذلك للإمامية من شيعتهم، هذا و مقتضى هذه النصوص جواز انتزاع ذلك من أيدي مخالفيهم قهرا و سرقة و غيلة لكون ما بأيدي مخالفيهم باقيا على ملك الامام

و قد أحله لشيعته خاصة إلا ان المحكي عن ظاهر الأكثر هو المنع من أخذه من المخالف من غير إذن المخالف و لعله من جهة كونه المتيقن من الإباحة للشيعة هو إباحة أخذه من المخالف برضاه نظير ما ذكروه من المنع من سرقة مال الخراج و المقاسمة بغير إذن الجائر، هذا و الظاهر ان التحليل و الإباحة للشيعة هنا بنحو التمليك و إن كان في تحقق الملك هنا نوع غموض و اشكال لانتفاء ما يفيده من إيجاب و قبول أو حيازة للمباحات الأصلية أو غير ذلك من الأسباب المملكة فلذا احتمل بعض بقاء المال على ملك الامام و اجراء حكم الأملاك عليه تعبدا، و احتمل آخر تحقق الاعراض من الامام فيندرج في المباحات الأصلية المملوكة بالحيازة، و احتمل آخر ان الامام عليه السّلام عبد إسقاط حقه ألحقه بالمباحات فيملك بالحيازة و إن كان قبلها ملكا للإمام فلا منافاة بين التمسك بالحيازة و الملكية قبلها إذا سقط حق المالك من ذلك و لو بإسقاطه لقبيل دون قبيل كما احتمل ذلك فيما ينثر في الأعراس.

هذا و لكن الظاهر ان تحليل هذه الأمور الثلاثة إنما يكون لخصوص ما يعود للإمام عند تحليله لأنه هو المقدار الذي يملكه في هذا الوقت عند احتلاله لهذا المنصب، و اما ما يتجدد فيحتاج الى تحليل آخر منه و لذا نرى الأصحاب في عصر الحضور يحملون الأموال العائدة للأئمة عليهم السّلام أو يطلبون التحليل منهم و إلا لاكتفوا بتحليل أمير المؤمنين عليه السّلام بل تحليل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما عرفته ص 413. إن قلت: قد تقدم حكاية الإجماع عن المنتهى بحليتها في زمن

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 418

الحضور و الغيبة. قلنا: (أولا) قد خالف في ذلك أبو صلاح و الإسكافي فالإجماع المحصل غير حاصل و عدم حجية المنقول منه، بل حتى المحصل منه في المقام ليس بحجة لاحتمال اعتماد المجمعين على روايات التحليل التي قد عرفت انها إنما تدل على تحليل ما يعود للإمام المحلل في وقت تحليله بالنسبة لمن حلل له فقط كما هو مدعانا.

و (ثانيا) لو سلمنا ذلك فظاهر معقده ان ما حللوه الأئمة عليهم السّلام من هذه الثلاثة يكون حلالا في وقت الحضور و الغيبة، و هذا نحن لا ننكره فان المسكن أو المنكح أو المتجر به إذا حلّله الامام عليه السّلام يكون محللا ما دامت عينه باقية و آثاره حلال ليوم القيامة دون ما تجدد منها و لم يصدر التحليل فيه مجددا من الامام الذي وجد في عصره فالجارية المحللة تبقى حلال هي و ما تعاقب منها للشيعة دون ما تتجدد من الجواري و لا أقل من كون هذا هو القدر المتيقن من الإجماع، و بهذا يظهر لك ان التحليل حتى لو كان ثابتا من الحجة عليه السّلام فهو إنما يكون تحليلا لما هو راجع له وقت صدور التحليل لا لما يحدث بعد ذلك التحليل. إن قلت: ما تصنع برواية غوالي اللئالي المتقدمة فإنها صريحة في التحليل لهذه الأمور الثلاثة في زمن الامام و في غيره من الأزمنة. قلنا: مضافا لضعف الرواية بالإرسال و عدم انجبارها بتمسك الأصحاب بها انها إنما تدل على اباحة ما خصهم اللّه تعالى به و ما ملكوه و الخصم يدعي ان ما يتجدد في زمن الغيبة الكبرى يكون ملكا لمن احتل منصب الولاية على المسلمين. و لا ريب ان

أدلة الولاية المتقدمة تدل على ان الولاية للمجتهد الجامع للشرائط كما تقدم. إن قلت: ان خبر ابي خديجة المتقدم يدل على الحلية ليوم القيامة قلت: مع ضعف سنده إنما يدل على حلية ما أحلوه ليوم القيامة و انه ليس بإذن موقت و اما الأمور الحادثة فهي تحتاج في حليتها لتحليل المتولي لهذا المنصب في زمانها كما هو مقتضى العقل و النقل إذ لا يصح تحليل شي ء لا يملكه المحلل. إن قلت: يلزم الحرج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 419

بعدم إباحة ذلك قلنا: لا حرج فإنه يرجع للمجتهد الجامع لشرائط المرجعية و يؤخذ الاذن منه أو يعوضه عنه. إن قلت: ان السيرة على عدم مراجعة المجتهد الجامع للشرائط في ذلك. قلنا. أما سيرة الفساق فليست بحجة و اما سيرة المتدينين الصلحاء فغير مسلمة بل إثباتها دونه خرط القتاد ان لم تكن السيرة بعكس ذلك.

المعادن

(و من أموال الإمام عليه السّلام المعادن) كما هو المحكي عن المقنعة و المراسم و عن الكليني (ره) و شيخه علي بن إبراهيم و عن الحدائق و الكفاية و السرائر و المستند و غيرها، و قد احتج لهم (أولا) بموثق إسحاق بن عمار حيث فيه:

«و كل أرض لا رب لها و المعادن منها». و لا يخفى ما فيه للاحتمال القوي بل هو الظاهر ان الضمير في «منها» عائد للأرض لا للانفال لبعدها عن الضمير.

و لا اشكال عندهم ان الأرض التي يملكها الامام يملك الامام المعادن فيها بالتبع و إنما الكلام في مطلق المعادن انها ملك له أم لا، و يؤكد الاحتمال المذكور وقوع «فيها» بدل «منها» في بعض النسخ.

و (ثانيا) صحيح أبي خالد حيث فيه «و الأرض كلها لنا»

حيث دل على انهم عليهم السّلام مالكين لجميع الأرض و هي منها المعادن فيكونون مالكين للمعادن في جميع الأرض. و لا يخفى ما فيه فان ملكهم للأرض ليس بمعنى الملكية الشرعية لوجود الأراضي التي لا يملكونها بل المراد بها الملكية بمعنى القدرة على التصرف التكويني فيها كما هو مقتضى ثبوت الولاية لهم بمقامها الأول نظير ما في الزيارة «و بكم ينزل الغيث» أو بمعنى تدبير شئونها (و إن شئت) قلت. ان هذا الخبر الصحيح لم يفهم منه أحد الملكية الشرعية. على انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 420

معارض بقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

و (ثالثا) خبر أبي بصير و خبر داود و هما قاصران سندا و لا جابر لهما.

و (الحق) ان المعادن من المباحات الأصلية و الناس فيها شرع سواء و من سبق إلى شي ء منها فهو ملكه كما هو المشهور، و يدل عليه مضافا الى الأصل الأخبار الكثيرة التي هي أقوى سندا و أكثر عددا الناطقة بوجوب الخمس في المعادن فلو كانت للإمام عليه السّلام لما وجب عليه الخمس لنفسه و لغيره فيها.

ثمَّ ان المعادن منها باطنة و هي التي لا تظهر إلا بالعمل و المعالجة كمعادن الذهب و نحوه. و منها ظاهرة و هي التي لا تفتقر إلى إظهار فمن قال انها ملك الامام كان حكمها حكم أملاك الإمام في زمن الغيبة. و اما من قال انها ليست منها كما عرفت انه هو الحق فالباطنة منها يجوز إقطاعها من قبل الامام و قد حكي في التذكرة الإجماع عليه كما ان الظاهر منها للإمام أن يقطع ما يوجب تكوينه في أرض موات كما لو كان الى جانب الأرض المملحة

أرض موات إذا حفر بها بئر و سيق إليها الماء صار ملحا، و قد نفي في الجواهر الخلاف في ذلك و تحقيقه يطلب من كتاب احياء الموات.

البحار

(و من أموال الإمام عليه السّلام البحار) كما في المستند و المحكي عن المفيد (ره) و الكليني (ره) إلا ان المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا هو عدم عدها من أموال الامام و الأصل يقتضي ذلك و لا نص معتبر يقتضي ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 421

الأرض التي لم يقاتل عليها

(و منها الأرض التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب) و هي الأرض التي استولى عليها المسلمون من غير قتال سواء انجلى أهلها عنها خوفا من المسلمين أو سلموها طوعا مع بقائهم فيها، و يدل على ذلك مضافا للإجماع المحكي عن جماعة ما في صحيح البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال الأنفال ما لم يوجف عليه خيل و لا ركاب، و موثق محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انه سمعه يقول: ان الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم. و (حكي) عن بعض المتأخرين انه نسب إلى الأصحاب ان كل ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب سواء كان من الأرض أو غيرها فهو للإمام عليه السّلام و ربما يستدل له بصحيح البختري المذكور و غيره حيث لم يقيد بالأرض.

و دعوى ان الكثير من الاخبار قد قيدته بالأرض كموثق محمد بن مسلم المتقدم و غيره فيحمل المطلق على المقيد (مدفوعة) بأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان بينهما تنافي و فيما نحن فيه لا تنافي بينهما لأن كل منهما مثبت للحكم و (يمكن أن يورد على الدليل المذكور) بأن المساق في المطلقات و المقيدات متحد و هو يدل على وحدة الحكم فلا بد من حمل مطلقها على مقيدها. مضافا الى ان سكوت الأخبار المقيدة

بالأراضي عما عداها مع انها في مقام البيان و التعداد لما هو من الأنفال يقتضي ظهورها في القصر على الأراضي فتكون منافية للمطلقات فتحمل عليها، مضافا لما ذكره المامقاني من ظهور ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب في الأراضي و انه لو لم يقيد بالأراضي لزم التخصيص بالأكثر ضرورة عدم ملكية الإمام لكل ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب- انتهى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 422

و العهدة عليه (ره) و عليه فغير الأراضي مما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب يكون من الغنيمة.

الأرض الميتة

(و من أموال الإمام عليه السّلام الأرض الميتة) و في المحكي عن الكفاية انه قد نفي معرفة الخلاف في ذلك و استظهر الاتفاق عليه في الجواهر. و في المحكي عن الخلاف الأرضون الموات للإمام خاصة لا يملكها أحد بالاحياء إلا بإذن الإمام عليه السّلام- الى ان قال-: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم، و يدل عليه فيما رواه في الكافي من صحيح حفص عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من عد الأرض الخربة من الأنفال، و هكذا صحيح محمد بن مسلم. إن قلت: ما ذا تصنع بما ورد عنهم عليهم السّلام بأن من أحيا أرضا فهي له قلنا: قد قيد بإذن الإمام بالإجماع المحكي عن جامع المقاصد و الخلاف و التنقيح و غيرها على ان هذه الاخبار تقيدها بذلك نعم المحكي عن التذكرة إجماع أهل العلم على ان الأرض الميتة التي يعرف مالكها و كانت منتقلة إليه بغير الاحياء لم يزل ملكه عنها بموتها حتى الأرض المفتوحة عنوة التي ملكها المسلمون بالفتح فإنه لا يزول ملكها عنهم بموتها، و يرشد الى ذلك من تقييد الأرض الخربة

التي هي من الأنفال بالتي باد أهلها في جملة من الاخبار كما في خبر حماد و خبر محمد بن علي الحلبي، و كموثق إسحاق بن عمار و خبر عبد اللّه ابن سنان، و كخبر داود بن فرقد. و امام ان كان ملكها بالإحياء ففي زوال ملكها عنه برجوعها مواتا عملا بظاهر صحيح الكابلي و غيره أو بقائها على ملك المحيي لها أولا عملا بالقاعدة و ظاهر بعض النصوص خلاف بين القوم يطلب من محله في كتاب احياء الموات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 423

الأرض التي لا مالك لها

(و من أموال الإمام عليه السّلام الأرض التي لا مالك لها) حتى لو كانت محياة و حتى لو كانت مملوكة سابقا، و يدل على ذلك عدها من الأنفال في موثق إسحاق بن عمار و خبر أبي بصير، و منها المفاوز و سيف البحار و سواحلها و شواطئ الأنهار التي برزت بعد نزول آية الأنفال أو كانت بارزة و لم يملكها أحد و الجزر التي تظهر في وسطها.

رؤوس الجبال

(و من أموال الإمام عليه السّلام رؤوس الجبال) و هي قمم الجبال الكبيرة و الصغيرة و يتبعها ما يكون فيها من حجارة أو شجر أو معدن أو عين ماء و نحو ذلك سواء كانت في الأرض المملوكة للإمام عليه السّلام أو المملوكة للمسلمين أو المملوكة لشخص معين كما صرحت به مرفوعة أحمد بن محمد و خبر محمد بن مسلم و خبر داود ابن فرقد و خبر حماد بن عيسى و ضعفها منجبر بالاشتهار بين الأصحاب قديما و حديثا، و انما استفدنا العموم من إضافتها للجمع المحلي باللام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 424

بطون الأودية

(و من أموال الإمام عليه السّلام بطون الأودية) و هي كل منفرج بين الجبال و يتبعها ما يكون فيها من شجر و غيره سواء كانت محياة أم لا و سواء كانت واقعة في أرض مملوكة أم لا، و يدل على ذلك صحيح حفص و موثقة محمد بن مسلم و خبره الآخر، و خبر داود بن فرقة و مرفوعة أحمد بن محمد، و خبر حماد ابن عيسى، و يدل على العموم الإضافة للجمع المحلى باللام.

الآجام

(من أموال الإمام عليه السّلام الآجام) و هي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض لتقاربه سواء كان قصبا أو غيره و يسمى فعلا بالزور و يتبعها ما فيها من المعادن و غيرها، و يدل على ذلك خبر أبي بصير و خبر داود بن فرقد و خبر حماد بن عيسى و خبر الحسن بن راشد، و في المحكي عن مجمع البيان انه قد صحت الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام انهما قالا: الأنفال الآجام و بطون الأودية و غير ذلك و ضعفها منجبر بالاشتهار و العموم مستفاد من الجميع المحلى باللام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 425

صفو الغنيمة

(و من أموال الإمام عليه السّلام صفو الغنيمة) و هو ما يصطفيه الامام و يختار لنفسه من الغنيمة قبل قسمتها مما يحب و يشتهي كالجارية الحسناء و السيف القاطع و الدرع الدلاص. و يدل على ذلك ما عن المنتهى من أن عليه إجماع علمائنا و صحيح حماد بن عيسى و صحيح الربعي عن الصادق عليه السّلام حيث فيه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أتاه المغنم أخذ صفوه الى أن قال و كذلك الإمام يأخذ كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

صفايا الملوك و قطائعهم

(و من أموال الإمام عليه السّلام صفايا الملوك و قطائعهم) و هي ما كان في الغنيمة من المال الخالص لسلطان المحاربين فإنه للإمام عليه السّلام لا يشاركه أحد فيها سواء كان مما ينقل و يحول و يسمى بالصفايا أم لا كالأرضين و يسمى بالقطائع، و يدل على ذلك ما حكي من الإجماع عن المنتهى و لصحيح داود بن فرقد و موثق سماعة و موثق إسحاق بن عمار.

ارث من لا وارث له

(و من أموال الإمام عليه السّلام إرث من لا وارث له) و هو المال الذي مات مالكه و لا وارث له من قرابة أو زوج أو مولي عتق أو ضامن جريرة و لم يكن مشتري بمال الزكاة للإجماع المنقول و لقول أبي جعفر في صحيح ابن مسلم: من مات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 426

و ليس له وارث من قرابته و لا مولى عتاقه و لا ضامن جريرة فمن له من الأنفال.

نعم المسلم إذا مات و كان له وارث كافر لا غير يرثه الامام و ذلك للإجماع المحكي و للروايات المستفيضة المعتضدة بعمل الأصحاب الدالة على أن المسلم لا يرثه الكافر و لصحيحة أبي بصير و في آخرها و ان لم يسلم من قرابته أحد فإن ميراثه للإمام هذا (و لا يخفى) ان وجود الزوج أو الزوجة لا يمنع من إرث الإمام عليه السّلام و إنما يكون لهما السهم الأعلى من التركة فقط كما هو ظاهر الأخبار المذكورة و معاقد الإجماعات. و اما المملوك المشترى من مال الزكاة فإنه إذا مات و لا وارث له ورثه أرباب الزكاة و ذلك للإجماع المنقول عن غير واحد و لما في موثق عبيد بن زرارة قال: سألت أبا

عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد موضعا يدفع ذلك اليه فنظر الى مملوك يباع فيمن يزيده فاشتراه بتلك الألف درهم فأعتقه فهل يجوز؟ قال عليه السّلام: نعم، قلت: فإنه لما ان أعتق اتجر فأصاب مالا كثيرا ثمَّ مات و لا وارث له فمن يرثه؟ قال (ع): يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون الزكاة لأنه إنما اشترى بمالهم.

و ناقش المحقق (ره) في الرواية بضعف السند لأن في طريقها ابن فضال و هو فطحي و عبد اللّه بن بكير و فيه ضعف إلا انه (ره) قال بعد ذلك: ان القول بها عندي قوي لمكان سلامتها من المعارض و اطباق المحققين على العمل بها و يدل على ذلك أيضا ما عن الصدوق في العلل من الصحيح عن أيوب قال:

قلت لأبي عبد اللّه (ع): مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من الزكاة و أعتقه؟ فقال (ع): اشتره و أعتقه، قلت: فان هو مات و ترك مالا؟

فقال: ميراثه لأهل الزكاة لأنه اشتري بسهمهم.

هذا و قد ذهب غير واحد من علمائنا الى ان الحربي إذا عقد لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام ثمَّ مات أو قتل و لم يكن له وارث مسلم ورثه الامام،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 427

و قد ذلك بأنه مال لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب. و لا يخفى ما فيه فإنه قد تقدم، 421 ان المراد به هو الأرض لا مطلق الذي لم يوجف عليه بخيل و ركاب.

الغنيمة بغير اذن الامام

(و من أموال الامام الغنيمة بغير إذنه) و هو ما يغنمه المسلمون عند غزوهم بدون إذن الامام (ع) فإنه للإمام سواء كان أرضا أو غيرها و سواء

كان الغزو للدعوة للإسلام أو للملك و السطوة و السلطان و المحكي عن غير واحد عدم الخلاف فيه و الإجماع عليه، و يدل عليه مرسلة العياش الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد اللّه قال: إذا غزا قوم بغير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام و لا يضر إرسالها بعد انجبارها بعمل الأصحاب و لذا في المسالك قال: ان بالحكم رواية منجبرة بعمل الأصحاب- انتهى، و ان كان ذلك عجيب منه لأنه خلاف ما أسسه من القاعدة من عدم جبر الخبر الضعيف بالشهرة. و عليه فلو غزا سلطان من سلاطين الإسلام في زمن الغيبة الكفار و المشركين الذين تحل أموالهم كانت الغنيمة للإمام. نعم في صورة الدفاع عن الإسلام و النفس و نحوهما. فالظاهر ان الغنيمة ليست للإمام (ع) بل تكون حكمها حكم الغنيمة بإذن الإمام للاذن العام منه (ع) بذلك و (قد ناقش) صاحب المدارك في أصل الحكم و قال في المحكي عنه: ان الغنيمة بغير إذن الامام إنما فيها الخمس كالتي تكون بإذنه لإطلاق الآية و ضعف الرواية و لحسنة الحلبي عن ابي عبد اللّه (ع) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم فيكون معهم فيصيب غنيمة فقال يؤدي خمسا و يطيب له. (و أجيب عنه) بتقييد الإطلاق بالمرسلة المعتضدة بالشهرة و عدم صلاحية الحسنة لمعارضتها مع إمكان كون ما تضمنته من باب التحليل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 428

[المقام الثاني: في بيان عود أموال الإمام ع للمجتهد.]

(اما المقام الثاني) و هو بيان عود كل ما كان للإمام بعنوان الإمامة يعود للمجتهد الذي له الولاية العامة في زمن الغيبة و يتصرف به كما يتصرف الامام (ع) به فنقول: ان الدليل على ذلك أمور:

(الأول) ان المجتهد الديني الذي

ثبتت له الولاية العامة و الزعامة الدينية إنما يكون في زمن الغيبة و إلا ففي زمن الحضور لا زعيم ديني سوى الامام.

(و قد عرفت) في صدر هذا المبحث انه كلما كان ثابتا للإمام بعنوان انه إمام فهو يثبت له إلا ما أخرجه الدليل، و ليس في المقام دليل يدل على عدم الثبوت له و (دعوى) انه من المحتمل ثبوت تلك الأموال له باعتبار عصمته أو شرفه أو من خصوصية في ذاته (مدفوعة) بأن ظاهر الأدلة انها ثابتة له بهذا العنوان أعني عنوان الإمامة و الولاية و الحجة لأخذها فيها بل الضرورة قامت على ذلك و يدل عليه ما رواه الصدوق بإسناده عن ابي علي بن راشد قال قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: انا نؤتى بالشي ء فيقال هذا كان لأبي جعفر عليه السّلام عندنا فكيف نصنع؟ فقال (ع): فان كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي و ان كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه تعالى و سنة نبيه (ص). فان ظاهر هذا الخبر ان نفس الإمامة هي السبب في الاستحقاق و ان الامام أو كل ذلك الي فهم السائل من أدلة أموال الامام التي أخذ في عنوانها الإمامة و الولاية و إلا فليس في الأدلة تشخيص ان هذا المال بسبب الإمامة بهذا اللسان. مضافا إلي انه لو كانت الاحتمالات المذكورة من احتمال الخصوصية و نحوها موجبة لعدم ثبوت الاحكام التي أخذ في عنوانها (الإمامة و الولي) للمجتهد لزم عدم الاستفادة من أدلة الولاية و يكون وجودها لغوا و عبثا لأن الاحتمالات المذكورة تتطرق لكل حكم أخذ فيه تلك العناوين.

(الثاني) ان الظاهر من أدلة هذه الأموال انها مجعولة لمن احتل منصب

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 429

الإمامة كيف و الضرورة قامت على انها دائرة مداره وجودا و عدما و لذا لا يرثها وارث الامام و إنما تعطى لمن بعده من الأئمة نظير ما يجعل لعناوين موظفي الدولة في القوانين الدولية من المال فإنه يفهم منها ان العنوان هو الموجب و ان احتلال منصبه هو المقتضي لتملكه ذلك المال و لا ريب ان الزعيم الديني في زمن الغيبة يحتل هذا المنصب و يتلبس به فهو يستحقها.

(إن قلت) إذا كان منصب الإمامة للفقيه في زمن الغيبة فيلزم ان لا يكون ولي العصر أرواحنا فداه إماما. (قلنا) أي أمر يوجب لزوم ذلك فهو الإمام الأصل و المجتهد الامام الفرع، علي انا نقول: ان ظاهر الأدلة هو ان هذه الأموال لمن يباشر أمور المسلمين و يتولاها و (بعبارة أخرى) جعل الولاية للمجتهد لا يوجب زوال ولاية الإمام أرواحنا فداه لأنها ولاية و إمامة عند غيبة نظير ما قيل في نبوة هارون عند غيبة موسى فان ليس معناه زوال نبوة موسى.

(الثالث) ما في مرسلة حماد الذي أجمع الكل على تصحيح ما يصح منه ذكر فيها ان نصف الخمس لولي الأمر من بعد رسول اللّه (ص) و وارثه مع ان وارثه فاطمة سيدة النساء (ع) فلا بد ان يريد الوارث هو الوارث لمقام الولاية لشؤون المسلمين و قد تقدم من الاخبار ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء (الرابع) ما عرفت من ان العقل بعد ما حكم بلزوم شخص في زمن الغيبة يتولى شؤون المسلمين و الفتوى لهم فلا بد له من مصارف و أموال للقيام بتلك المهمات العظمى التي تقدم ذكرها في بحث الولاية العامة، و لا يصلح من الأموال ما يكون

مصرفا له إلا تلك الأموال فلا بد ان يكون هو المستحق لها و لعله يستفاد ذلك من الاخبار المتقدمة من ان العلماء خلفاء الرسول (ص).

و قد يستدل على ذلك بأنها مال الغائب و هو الإمام أرواحنا فداه. و التصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 430

فيها للحاكم. و أجيب عنه انه لا دليل على ولايته على أموال الغائبين مطلقا حتى مال الامام (ع) مع ان الولاية علي مال الغائبين إنما هي بالحفظ لهم لا بالتفريق بين الناس أو صرفها على النفس. و قد يستدل أيضا بعموم الولاية (و أجيب عنه) ان عموم الولاية يقتضي ثبوت الولاية فيما يتعلق بأمر الرعية لا فيما يتعلق بنفس الامام و أمواله و الاولى الجواب عنه بما ذكرناه في الدليل الأول (و قد يستدل) أيضا بأنه بعد ما ثبت لزوم التصرف في هذه الأموال فلا بد له من مباشر و ليس اولى من الحاكم بل هو المتيقن. (و جوابه) ان الكلام في إثبات لزوم ذلك التصرف و كيفيته و صحة إنفاقها على نفسه بالنحو الذي كان الامام (ع) يتصرف بها حتى على نفسه.

(إن قلت) ان روايات التحليل المتظافرة قد دلت على انه ما كان لهم فهو لشيعتهم (قلنا) قد تقدم ص 408 نقلها و بيان عدم دلالتها على حلية ما يتجدد من أموال الإمام (ع) في زمن الغيبة الكبرى الذي هو محل كلامنا و ابتلائنا (إن قلت) قد قامت الأدلة على ان نصف الخمس مما هو حق الإمام يعطي للسادة الأطهار، ففي مرسلة حماد الطويلة المروية عن الكافي بعد أن ذكر عليه السّلام ان للوالي نصف الخمس و نصفه الآخر لأهل بيته يقسم بينهم و ان فضل منه

شي ء فهو للوالي قال (ع): و إن نقص عن استغنائهم (أى استغناء أهل بيته) كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم و في مرسلة أحمد بن محمد التي رواها الشيخ (ره) أيضا كذلك فإنه بعد أن ذكره (ع) ذلك قال: قال فضل شي ء فهو له (أي للإمام) و إن نقص عنهم و لم يكفهم أتمه من عنده كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان. فهاتان الروايتان قد دلتنا انه عند إعواز الذرية من السادة يعطون من حق الامام (ع) و في عصر الغيبة الذرية معوزون فيعطون حق الامام (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 431

و ما في المروي عن الوسائل عن كتاب الطرف بإسناده عن عيسى المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ان رسول اللّه قال لأبي ذر و سلمان و المقداد أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلا اللّه- الى أن قال-: و ان علي بن أبي طالب (ع) وصي محمد و أمير المؤمنين و ان طاعته و طاعة اللّه و رسوله و الأئمة من ولده و ان مودة أهل بيته مفروضة واجبة على كل مؤمن و مؤمنة مع إقامة الصلاة لوقتها و إخراج الزكاة من حلها و وضعها في أهلها و إخراج الخمس من كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى ولي المؤمنين و أميرهم و من بعده الأئمة من ولده فمن عجز و لم يقدر إلا على اليسير من المال فليدفع ذلك الي الضعفاء من أهل بيتي من ولد الأئمة فمن لم يقدر على ذلك فلشيعتهم. فهذه الرواية قد دلت

انه مع العجز عن أداء الخمس للأئمة (ع) يعطي لذريتهم و حكي المامقاني (ره) ذلك عن جدنا كاشف الغطاء (ره) و الفاضل المجلسي و الشيخ المفيد و المحقق في المعتبر و العلامة في المنتهي و عن الرياض انه استقر عليه رأي المتأخرين (قلنا) لا يخفى ما في التمسك بهذه الروايات الثلاثة (أولا) ضعفها بالإرسال و بان عيسى بن المستفاد قد ضعفه العلامة (ره) و (ثانيا) ان الروايتين الأوليتين قد اشتملتا على ما لا يقول به حتى المتمسكين بها و هو أخذ الإمام ما فضل من حق السادة. و الرواية الثانية أيضا عدت من الخمس الأرض التي فتحت بدون قتال مع انها للإمام، و الرواية الثالثة اشتملت على دفع الخمس بأجمعه للإمام الظاهر في أخذه بأجمعه له و (ثالثا) ان ظاهر الروايتين الأوليتين أن المتولي لشؤون المسلمين يعطي من عنده المعوز من فقراء أهل البيت، و لا إشكال في ذلك، فان بيت المال الذي يكون للمسلمين إنما يكون لسد حاجاتهم، و لذا في نفس الرواية الأولى ذكر في الزكاة بالنسبة إلى الفقراء مثل ذلك و انه ان فضل من حقهم شي ء فهو للوالي و إن نقص كان على الوالي ان يمونهم من عنده فهما لبيان وظيفة ولي المسلمين، و نحن نقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 432

بذلك في عصر الغيبة بأن على المتولي لشؤون المسلمين ان يسد حاجات الفقراء و المساكين و الذرية الطاهرة من عنده و ان فضل من حقوقهم شيئا ادخره لهم في بيت مال المسلمين. و الرواية الثالثة لا ربط لها بالمقام و إنما هي ناظرة الى ان العاجز عن الزكاة و الخمس يعطي شيئا يسيرا من المال لأهل بيته

(ع) لا أن الخمس يعطيهم لهم و لذا عطف على العجز عدم القدرة إلا على اليسير من المال.

(إن قلت) ان الكثير من الاخبار تدل على جواز التصدق بالمال بل وجوبه عند تعذر إيصاله لمالكه و ما نحن فيه بمقتضى العادة مندرج في مصاديق هذا الحكم فعلي من بيده مال الإمام أرواحنا فداه يتصدق به و قد أفتى بذلك المرحوم الهمداني ره و حكي عن صاحب الجواهر الفتوى بذلك.

قلت سيجي ء إنشاء اللّه تعالى حكاية الأخبار التي توهم دلالتها على ذلك في الفصل الآتي بعد هذا في بيان الأموال التي للمجتهد الولاية عليها. و لو سلمنا دلالتها فهي أجنبية عن المقام لأنها انما تدل على من لم يتمكن من التصرف في ماله أو الاطلاع عليه. و الحجة عجل اللّه فرجه قادر على ذلك. على انك قد عرفت ان أدلتها ظاهرة و لو بمناسبة الحكم للموضوع أنها أموال لمن يقوم بمهام منصب الإمامة و يشتغل بتدبير شؤون المسلمين. و المجتهد الزعيم الديني هو المتولي لذلك في هذا العصر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 433

[التنبيه الثالث عشر] الأموال التي للفقيه الولاية عليها في صرفها في مواردها في زمن الغيبة
اشارة

الثالث عشر: قد عرفت الأموال التي يملكها المجتهد المتولي لشؤون المسلمين. و هناك أموال له الولاية على صرفها في مواردها

(منها الزكاة)
اشارة

فإنه لا ريب في وجوب دفع الزكاة الي امام الأصل عند المطالبة بنفسه أو بساعيه كما قطع به الأصحاب و نقل عن التذكرة إجماعهم عليه. مضافا لكل ما دل على وجوب اطاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الامام عليه السّلام و تحريم مخالفتهم من الكتاب و السنة و الضرورة. مضافا الى معلومية ذلك في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده من الأعصار حتى توصل بذلك من تأمر على المسلمين الى قتل من رماهم بمنع الزكاة و سماهم بأهل الردة. و مضافا لقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بتقريب أنه لا يتعقل وجوب الأخذ بدون وجوب الدفع الذي لا أقل من وجوبه عند الطلب و لا ريب في مساواة الفقيه الجامع لشرائط الزعامة الدينية في زمن الغيبة للإمام عليه السّلام في وجوب الدفع اليه بنفسه أو لساعيه و وكيله و ذلك بدليل عموم ولاية الفقيه المذكور في زمن الغيبة و نيابته عن الامام عليه السّلام فيثبت للنائب جميع ما ثبت للمنوب عنه من الوظائف و الأحكام عدى ما أخرجه الدليل.

(إن قلت): إنا لم نقف على ما يفيد عموم النيابة و الولاية من النصوص و إنما الوارد. جعله قاضيا و حاكما في مقبولتي أبي خديجة و ابن حنظلة. و إن رواه حديثنا حجتي عليكم في توقيع صاحب الأمر عليه السّلام. و الأمر باتباع العلماء عن الباقر عليه السّلام. و لا يفيد شيئا من ذلك سوى لزوم التقليد و الرجوع إليهم في قطع المنازعات

من غير فرق بين زمن الحضور و بين زمن الغيبة حسبما يقتضيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 434

إطلاق النصوص المشار إليها و ملاحظة موردها و لا دلالة فيها على عموم النيابة و الولاية لا سيما ما كان بنحو جباية الأموال و الصدقات فإنه من وظائف الإمام عليه السّلام و خواصه و توابع سلطنته و منصبه و لذا ورد في الحديث: (خمس للولاة وعد منها الصدقات). و دعوى دخولهم في ولاة الأمر. فاسدة بعد ملاحظة الأخبار المفسرة لهم بأهل العصمة عليه السّلام. (قلنا) قد تقدم في مبحث الولاية بيان دلالة كل طائفة من النصوص على عموم الولاية و النيابة و دعوى لزوم أن تكون هذه الولاية ثابتة لهم زمن الحضور. فاسدة فإن النصوص إنما تثبت لهم ذلك بعنوان قيامهم مقام الأئمة و نيابتهم عنهم في إدارة شؤون الملة و لا بد أن يكون مؤداها عدم مزاحمتهم لهم عليه السّلام في ذلك و ثبوتها لهم بعد عدم التمكن من وصول الملة إليهم (ع) و حل شؤونهم على أيديهم (ع). ثمَّ ان مقتضى ذلك كون العلماء هم الولاة بعدهم فيثبت لهم كلما ثبت لهم بعنوان الإمامة و الولاية لكن قد عرفت غير مرة أن ذلك لا يقتضي الثبوت لكل مجتهد و إنما هو للمجتهد الجامع لصفات الزعامة الدينية، ثمَّ إن بعضهم توسع في المقام فأوجب دفع الزكاة في زمن الغيبة للفقيه المأمون ابتداء و إن لم يطلبها بنفسه أو وكيله كما هو المحكي عن المفيد (ره) و أبي صلاح. قال في الجواهر: إن المراد بالفقيه هو الجامع لشرائط الفتوى و الحكومة. و قيل: المراد بالمأمون من لا يتوصل إلى أخذ الحقوق مع غنائه عنها بالحيل

الشرعية. و كيف كان فلا يخفى ما فيه لحكاية الإجماع عن الغنية على عدم وجوب الدفع إلا مع عدم المعرفة. و للسيرة المستمرة على تولي المالك تفريق الزكاة بنفسه من غير نكير و يدل على ذلك ما ورد في جواز تقديم الزكاة قرضا ثمَّ احتسابها. و ما ورد من جواز نقلها عند فقد المستحق في البلد، و ما ورد في جواز شراء العبيد منها و مقاصة الغرماء بها و دفعها لا صلاح ذات البين و أبناء السبيل و الأقارب و الأطفال. الي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 435

غير ذلك من النصوص التي يقف عليها المتتبع الدالة على ذلك. نعم نقل الاتفاق على استحباب نقلها الى الفقيه في زمن الغيبة لكونه أبصر بمواقعها و أعرف بمواضعها و فيه رفع للتهمة و هوى النفس في التفضيل و نحو ذلك.

[وجوب نصب المجتهد عاملا لقبض الزكاة.]

يجب على المجتهد أن ينصب عاملا يقبض الزكاة ربما يستفاد من سيرة رسول اللّه (ص) و سيرة وصيه أمير المؤمنين (ع) في خلافته من نصبهم العمال على جباية الصدقات ان نصب العمال على قبضها واجب كما أفتي بذلك الشيخ فأوجب نصب عامل على الزكاة، بل المحكي عن الحدائق انه المشهور. و لقاعدة اللطف فإنها تقتضي وجوب نصب العمال لأنه من الأمور التي تقرب للطاعة و تبعد عن المعصية لعدم سماحة أنفس المكلفين بها بإخراجها بخلاف ما إذا حضر العامل عليهم لإخراجها و لوجوب مراعاة الولي على الفقراء لصالحهم و لا ريب في أن المصلحة للفقراء أن ينصب جابيا لحقوقهم، كذا ذكره صاحب الجواهر (ره)، و لكن لا يخفى ان السيرة لم يعلم وجهها انها على جهة الوجوب و قاعدة اللطف لو كانت تقتضي ذلك لاقتضت

في الصلاة و الحج و نحوهما من الواجبات أن يرسل المعصوم من يقف عليهم لتأديتها. نعم إنما تقتضي قاعدة اللطف وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و مراعاة الولي لمصلحة المولى عليه لا تقتضي أزيد من أن يكون تصرفه في شؤونه فيه المصلحة لا انه يجب عليه أن يحصل ما له مصلحة فيه. ألا ترى انه لا يجب على الوالي أن يرسل من يتسكع للمولي عليه بل المشهور عدم وجوب الاتجار بمال المولى عليه و نحو ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 436

براءة ذمة صاحب الزكاة لو أوصلها إلى المجتهد أو وكيله

بعد ما ثبت وجوب إيصالها إلى المجتهد عند المطالبة و استحباب إيصالها له ابتداء فلا بد من براءة ذمة صاحب الزكاة لو دفعها اليه أو إلى وكيله.

و يتفرع على ذلك انه لو تمكن صاحب الزكاة من إيصالها للمجتهد أو وكيله فلم يفعل فقد فرط فيها فان تلفت منه و الحال هذه لزمه الضمان كما يدل عليه ما في صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته في الزكاة عن أبي عبد اللّه (ع): «إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها اليه فهو ضامن» و في صحيحة زرارة في الزكاة عن أبي عبد اللّه (ع): «إذ عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن» و قد أورد على ذلك بعضهم بأن إيصالها إلى المجتهد أو وكيله ليس إيصال إلى مستحقها حقيقة بل حكما فاذا جاز لصاحب الزكاة أن يتولى الإيصال لمستحقها الحقيقي بنفسه و كان ذلك أوثق في نفسه من حيث الوصول إلى المستحق فلم يدفعها إلى المجتهد و لا إلى وكيله و كان المستحق الحقيقي فعلا غير موجود و تلفت فلم يصدق اسم التفريط و التعدي فيشكل إثبات الضمان في

هذه الصورة بالقواعد العامة. و اما الاخبار الخاصة المتقدمة فلا يبعد دعوى انصرافها عن مثل الفرض و إلا فمقتضى إطلاقها عدم الضمان أيضا لانصراف الأهل الوارد فيها إلي المستحق لا المتولي، و الفرض في الصورة المذكورة ان المستحق الحقيقي غير موجود فلا ضمان عليه. و لا يخفى ما فيه فان الشارع بعد ما اكتفى بإيصالها للمجتهد أو وكيله كان قد فرط بها بعدم إيصالها لهما على أن الصحيحة الأولى كان التعبير فيها بالموضع. و لا ريب ان المجتهد أو وكيله موضع لها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 437

لا يجوز للساعي تفريقها بدون إذن الفقيه

قال في الجواهر: لا يجوز للساعي تفريقها إلا بإذن الإمام لأن العمالة ولاية و وكالة فيقتصر فيها على موضع الاذن من الموكل، إلا اللهم إذا أذن له بذلك.

نية القربة على المجتهد

لا إشكال في أن الزكاة من العبادات فمقتضى القاعدة اعتبار النية في تحققها و صحتها. و عليه فاذا كان المجتهد قبضها بعنوان الولاية على صاحبها أو الوكالة عنه وجب عليه النية عند دفعها للمستحق و إن كان قبضها بعنوان الولاية على الفقير و الوكالة عنه وجبت النية على الدافع له و تحقيق الحال يطلب من كتاب الزكاة.

دعاء الإمام أو نائبه لمعطي الزكاة

ذكره الفقهاء (ره) انه يستحب دعاء الإمام أو نائبه للمالك. و المراد من النائب هنا ما يشمل الساعي و الفقيه على ما قيل و الحكم باستحباب ذلك عند قبض الزكاة من المالك مشهور بين الأصحاب بل عن الشيخ في زكاة الخلاف و الفاضلين في المعتبر و الإرشاد و الشهيد في الدروس وجوب ذلك، استنادا إلى ظاهر الأمر به في قوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ بعد أمره بأخذها منهم فيدل على وجوب ذلك عند الأخذ، و في الدلالة عليه نظر ظاهر، و لو تمت الدلالة عليه فنمنع استفادة الوجوب من ظاهر الأمر هنا بعد اشتهار الاستحباب على وجه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 438

لا يبعد معه دعوى الإجماع عليه لمصير الشيخ و الفاضلين و الشهيد (ره) اليه و ملاحظة خلو النصوص عن افادته لا سيما ما ورد من تعليم أمير المؤمنين (ع) آداب الأخذ لساعيه. و اتفاق الأصحاب على انتفاء الوجوب عن الفقير الذي لعله أولي من النائب بالدعاء، و مخالفة الحكم للأصول و الاعتبار فأقصى ما هنالك أن يقال بالاستحباب الذي قد يتأمل في تعديته من الامام (ع) الى نائبه الخاص أو العام لقوة احتمال كون ذلك من خواص النبي (ص) و الامام (ع) لا سيما بملاحظة تعليل الأمر بقوله جل شأنه «إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ

لَهُمْ» لعدم تحقق العلة في غير صلاة النبي و الامام الذي هو بمنزلة النبي في جميع ما ثبت له من الاحكام عدى ما علم اختصاصه به (ص)، و من ذلك ينقدح الشك في شمول أدلة التأسي لذلك. و دعوى ان النائب كالمنوب عنه مسلمة فيما تحققت النيابة فيه لا ان جميع التكاليف الثابتة في حق المنوب لاحقة للنائب لانتفاء ما يدل عليه عقلا و نقلا إلا ان الأمر في ثبوت الاستحباب للنائب بل و الفقير أيضا هين لاشتهاره و عموم استحبابه للمؤمنين و أمر المتصدق بطلب الدعاء من الفقير المستلزم لثبوت استحبابه منه مع التسامح في أدلة السنن و هل يتعين الدعاء بلفظ الصلاة للأمر بها و التأسي بالمنقول من فعله (ص) انه جاءه أبو أوفى بصدقته فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى». و جاءه آخر بزكاته فقال: «اللهم صلّ عليه» أو يجوز بكل دعاء قولان أظهرهما الثاني لكون الصلاة لغة بمعنى الدعاء فيعم الأمر بها و الأصل عدم النقل و عدم اعتبار لفظ مخصوص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 439

[زكاة الفطرة.]

وجوب دفع زكاة الفطرة للمجتهد الجامع للشرائط عند المطالبة و (منها) زكاة الفطرة، فإن ما ذكرناه في زكاة المال من وجوب الدفع للمجتهد عند المطالبة يدل على وجوب دفعها للمجتهد الجامع للشرائط عند المطالبة. و في خبر علي بن راشد سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام، قال قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال نعم من أردت أن تطهره منهم. و في الجواهر ان بعض النصوص يظهر منها شمول آية التطهير لهذه الزكاة و ان عادة السلف حملها للإمام و ربما يظهر من المفيد وجوبه.

[الخمس.]

وجوب دفع الخمس للفقيه زمن الغيبة (منها الخمس) فقد نسب الى المشهور وجوب إيصال جميع الخمس الى الامام (ع) حال حضوره ثمَّ هو يأخذ نصفه له و يقسم النصف الآخر منه على قدر الكفاية فإن فضل كان له و ان أعوز أتمه من نصيبه، و استدلوا لذلك بمرسلة حماد المجمع على تصحيح ما يصح عنه التي رواها في الكافي عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (ع) في حديث طويل قال و له نصف الخمس كملا و نصف الخمس الباقي بين أهل بيته فسهم لليتامي و سهم لمساكينهم و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم فان فضل شي ء عنهم فهو للوالي فإن عجز و نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم، و مرسلة أحمد المضمرة التي رواها الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابنا قال فيها

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 440

فالذي للّه فلرسول اللّه و الذي للرسول فهو لذي القربى و الحجة في زمانه فالنصف له خاصة و النصف الآخر لليتامى و المساكين و أبناء السبيل من آل محمد (ع) فهو يعطيهم على قدر كفايتهم فان فضل شي ء فهو له و إن نقص و لم يكفهم أتمه من عنده كما صار له الفضل كذاك يلزمه النقصان و ضعفهما منجبر بعمل الأصحاب.

و لا يخفي ان هذين الروايتين ظاهرتان في من يتولى شؤون المسلمين و يدير أمورهم عند بسط يده و لذا عبر في الأولى ب (الوالي) و في الثانية ب (الحجة في زمانه) و لا ريب ان مقتضى مقامه هو جعل بيت مال له يجمع فيه الخمس و يوزعه كما هو مذكور في الروايتين و إذا نقص وجب أن يكمله من نفسه لأن إدارته لشؤون المسلمين تقتضي أن يعطي ما يأخذه من المال لهذه الغاية لمن كان فقيرا منهم و لذا ذكر (ع) في نفس مرسلة حماد بعد ذلك الزكاة و انها يقسمها الوالي على الأصناف الثمانية بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير فان فضل من ذلك شي ء رد إلى الوالي و ان نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا. و يرشد لذلك قوله (ع) فيها و يؤخذ الباقي فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينويه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير. (و الحاصل) ان المتأمل في هذه الرواية يجد أنها ناظرة لبيان

وظيفة والي المسلمين المبسوط اليد صاحب بيت المال من وجوه:

(الأول) انها فرض فيها كون الخمس يفي بمؤنة السنة للوالي و السادة و لذا ان نقص من حقهم أعطاهم الوالي و هذا لا يتصور إلا في الخمس إذا جمع في محل واحد و صرف لأن خمس كل شخص قد يكون أقل من درهم فكيف يصنع به ذلك و هكذا يستفاد ذلك من بيانه (ع) في الزكاة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 441

(الثاني) ذكره الجهاد و نحوه و هو إنما يتصور في المبسوط اليد.

(الثالث) التعبير بالوالي فإنه ظاهر فيمن يتولى شؤون المسلمين لا من جلس في بيته و سلك مسلك المتصوفين.

إن قلت: إن الظاهر من قوله في مرسلة حماد (له) هو كون الفاضل ملكا له مع ان الفتوى بخلاف ذلك، فان الفاضل من حق السادة ليس له.

قلنا: نعم لكن بقرينة آخر الرواية في الزكاة يعلم ان المراد بكونه له هو رده اليه و إرجاعه لبيت ماله مضافا الى انه لا مانع من الالتزام في هذه الصورة بإرجاع الباقي له و الحاصل، أن مرسلة حماد بقرينة ما ذكره فيها في الزكاة يخرج فيها عن ظهور اللام في الملك. و الرواية الثانية لم يذكر المروي عنه فهي ساقطة عن الاعتبار إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك ان المجتهد إذا كان مبسوط اليد كان حكمه كذلك لأنه يكون هو الحجة على أهل زمانه بنيابته عن ولي العصر و المتولي لشؤونهم بأهليته لذلك. و عليه جمع المال لصرفه في ذلك.

إن قلت: إن ظاهر صحيح محمد بن أبي نصر عن الرضا (ع) في أن الامام ليس حكمه ما ذكر حيث قال: سئل عن قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ

شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِهِٰ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ فقيل له: فما كان للّه فلمن هو؟ فقال: لرسول اللّه (ص) و ما كان لرسول اللّه فهو للإمام فقيل له: أ فرأيت ان كان صنف من الأصناف أكثر و صنف قل ما يصنع به؟ قال: ذاك الى الامام (ع) أرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يصنع أ ليس إنما كان يعطي على ما يرى كذلك الامام (ع) و هو ظاهر إن العطاء للأصناف السادة تابع لرأيه (ع) و لو كان العطاء مقيدا بقدر المؤنة السنوية لما كان العطاء مقيدا برأيه. قلنا: يستفاد من هذا الصحيح إن ذلك المذكور في مرسلة حماد على سبيل الاستحباب و يرشد الى ذلك ان الزكاة بالإجماع و الأخبار المتظافرة يجوز إعطائها لصنف واحد مع انها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 442

في نفس المرسلة المذكورة ذكر انها تقسم على نحو ما ذكره في الخمس فلا بد من حمل ما في المرسلة على الاستحباب أو على الجمع في بيت المال.

الأموال الموقوفة

(منها ولايته على الأموال الموقوفة) المشهور ان الواقف إذا لم يعين متوليا في ضمن صيغة الوقف، و تمت شرائط الوقف فللحاكم الشرعي الولاية عليه دون الواقف و دون الموقوف عليه (و يعبر عن متول الوقف في ألسنة الفقهاء بالناظر). أما عدم ثبوت التولية للواقف فلخروج الوقف عن يده فيكون حاله بالنسبة إليه كالأجنبي و أما استصحاب جواز تصرفاته بما يصلح شأن العين الموقوفة فلا يجري لتبدل الموضوع عرفا لأن موضوعها ما هو ملك له.

و العين قد خرجت عن الملكية التي كانت موضوعة لجواز تلك التصرفات.

و أما عدم ثبوت الولاية للموقوف عليهم فلعدم الدليل على ولايتهم على الوقف،

فالأصل عدمها فيتعين الولاية لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له كما تقدم ذلك في اخبار الولاية العامة للحاكم الشرعي و للفقهاء في هذا المقام فيما يرجع للحاكم الشرعي مسائل (منها): ان الواقف لو جعل النظارة لأكثر من واحد فمات بعضهم أو خرج عن أهلية النظارة كأن جن أو فسق (على المشهور المعروف بين الأصحاب بل المحكي عليه الإجماع من الرياض من اعتبار العدالة في الناظر) فان كان قد جعل لكل واحد منهم الاستقلال في النظارة فالباقي منهم له النظارة. و إن شرط اجتماعهم فالمشهور انه يجب على الحاكم الشرعي ضم شخص آخر اليه و يحتمل انعزالهم بأجمعهم لأن تولية كل منهم كانت مشروطة بالآخر و ترجع التولية لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له. و (منها)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 443

ان الحاكم الشرعي إذا كان متوليا فله أن يتصدى بنفسه و له أن يوكل غيره أو ينصب متوليا قالوا و له عزل الوكيل عنه و ليس له عزل المتولي ما دام باقيا على الأهلية. و (منها) انه إذا جعل الواقف التولية لشخص و لم يقوم بشؤون الوقف أو مات أو خرج عن الأهلية أو كان لا يصلح لها من أصله كأن كان صبيا أو كان فاسقا على المشهور قيل تعود التولية لأهله. و قيل لحاكم الشرع لكون أهله بمنزلة الأجانب عنه و الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له. و لو زال المانع من ولاية المجعول ففي عود التولية له وجهان: من أنها كالوكالة فلا تعود و للاستصحاب و من أنها كالولاية قد منع نفوذها فاذا زال عادت. و (منها) إذا جعل الواقف التولية لاثنين على وجه الاجتماع فلا

ينفذ تصرف أحدهما من دون الآخر و لا يجوز لهما قسمة الوقف و لو تعاسرا أجبرهما الحاكم الشرعي على الاجتماع مع الإمكان و مع عدمه يكون المرجع هو الحاكم الشرعي. و (منها) انه لو صار الحاكم الشرعي ناظرا لم يجز للحاكم الشرعي الآخر عزله و لا مزاحمته و لا عزل من نصبه (نعم) لو مات الحاكم الشرعي قيل ينعزل المنصوب من قبله و قيل لا ينعزل لأنه كالمنصوب من قبل الامام (ع) نعم الوكيل عن حاكم الشرع ينعزل بموت ذلك الحاكم الشرعي و تحقيق هذه الفروع تطلب من كتاب الوقف. و إن كان التحقيق إن ما ذكروه فيها بالنسبة لحاكم الشرع لا دليل يعتمد عليه إلا أدلة الولاية العامة و هي تقتضي أكثر من ذلك.

مجهول المالك و المال الذي لا يمكن إيصاله لصاحبه
اشارة

و (منها ولايته على المال الذي لا يمكن إيصاله لصاحبه و على مجهول المالك) اعلم ان مال الغير اما أن يكون المالك له معلوما بشخصه يمكن إيصاله له أو يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 444

معلوما بشخصه و لكن لا يمكن إيصاله له أو لا يكون كذلك بأن كان مرددا و على التقدير الثالث فالمال اما أن يكون متصفا بأحد العناوين كأن كان كنزا أو لقطة أو مختلطا بالحلال، و أما أن يكون مندرجا تحت عنوان من العناوين ككونه جائزة من السلطان أو وديعة عند الغير و لم يعرف صاحبها أو وجد في بطن حيوان اشتراه و لم يعرف البائع أو في بطن حيوان اصطاده و نحو ذلك و أما ان لا يكون كذلك لا متصفا بإحدى تلك العناوين و لا مندرجا تحت عنوان فيسمى بالمجهول المالك و يسمى بالمظالم و إن كانت المظالم تطلق على سائر

الحقوق المالية كالزكاة و نحوها. إلا أن الظاهر اختصاصها عند إطلاقها بمجهول المالك. إذا عرفت ذلك فنقول إن ما كان مالكه معلوما بالتفصيل و يمكن إيصاله له فيجب رده لمالكه عند التمكن من رده كما هو الشأن في سائر الواجبات إلا أن يحرز رضاه بالبقاء عنده و هل الواجب تسليمه له و إقباضه إياه أو يكفي إعلامه به و التخلية بينه و بينه الظاهر هو الثاني و ذلك لأن الأدلة الآمرة بالرد ظاهرة في كونها بيانا لحكم العقل في الأمانات و الذي يحكم به العقل هو تمكين المالك من ماله و عدم حيلولته بينه و بينه. مضافا الى أن الأموال الغير المنقولة لا يتصور فيها إلا ذلك فلو كان الرد ظاهرا في الإيصال و الإقباض للزم عدم شمول الأدلة للأموال الغير المنقولة فإذن لا بد من إرادة معنى يصح نسبته للجميع و هو المعنى الثاني دون الأول. مضافا الى أن معنى الرد هو الإرجاع إلى حالته الاولى كقوله تعالى يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً. و كقوله:

فَارْتَدَّ بَصِيراً. و لا إشكال أنه بالتخلية قد أرجعه إلى حالته الاولي من استيلاء المالك عليه. مضافا الى أن الفقهاء قد فسروا الرد بالتخلية في باب الوديعة و لا إشكال في شمول أدلة رد الأمانة للوديعة فلا بد أن يراد بالرد فيها ما يشمل هذا المعني و هو التخلية (ثمَّ) انه لا خلاف في كون الرد فوريا و ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 445

لأن إبقاء العين تحت تصرفه تصرف لم يعلم رضا المالك به فيكون محرما. مضافا للقاعدة المقررة من وجوب الاقتصار في وضع اليد على المقدار المتحقق اذنه.

و لرواية يونس عن أبي عبد اللّه (ع)

قال: يا يونس من حبس حق المؤمن أقامه اللّه يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية الى أن قال ثمَّ يؤمر به إلى النار. و لحديث المناهي من حبس على أخيه المؤمن شيئا حرم اللّه عليه بركة الرزق. (ثمَّ) على ما بيناه من ان المراد بالرد التخلية ذكر غير واحد بأنه يشكل حمل المال الى صاحبه لأنه تصرف لم يعلم إذن المالك فيه.

(نعم) إذا أحرز ان الحمل احفظ للمال مما إذا بقي في محله أو مساويا جاز الحمل لأنه يكون الحمل إحسانا فيصح ارتكابه. و لا يخفى ما فيه فان الواجب لما كان مطلق الرد جاز لمن عنده المال أن يرده بأي أنواع الرد و لذا كانت السيرة الموجودة هو حمل المال لصاحبه.

و أما إذا عرف صاحبه و لم يمكن إيصاله له لحبس أو لجهل بمحله فالذي قواه الهمداني (ره) و تبعه بعض المعاصرين هو انه بعد اليأس من التمكن من إيصاله لصاحبه هو جواز التصدق به أو وجوبه و استدلوا على ذلك.

(أولا) بأن أخبار مجهول المالك يستفاد منها أن التصدق به ليس من جهة جهل المالك بل من جهة تعذر إيصال المال له و قد استدل بهذا السيد كاظم (ره) و الحاج آقا رضا الهمداني (ره). و لا يخفى عدم استفادة ذلك منها.

(و ثانيا) برواية علي بن ميمون التي رواها الشيخ بإسناده عنه قال:

سألته عن تراب الصواغين و انا نبيعه؟ قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه. قال: قلت: لا إذا أخبرته اتهمني قال: بعه. قلت: بأي شي ء قال: بطعام. قلت: فأي شي ء اصنع به؟ قال تصدق به أما لك و أما لأهله.

و وجه الاستدلال بها مع انها من غير

ما نحن فيه لأن ظاهرها هو تردد المال بين أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 446

يكون ملكه أو ملك غيره. هو أن التهمة كانت مانعة له عن الإيصال و هو بصدد فراغ ذمته في الواقع لاحتماله ان المال ليس له. و الامام (ع) جعل التصدق موجبا لفراغ ذمته في الواقع لو كان المال لغيره واقعا. و لا يخفى أنها مضافا لضعفها بعلي بن ميمون و إضمارها ان هذه الرواية لم تعمل بها الأصحاب.

(و ثالثا) برواية حفص بن غياث فيمن أودعه رجل من اللصوص دراهم قال (ع): لا يرده فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل و إلا كان في يده بمنزلة اللقطة يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها و إلا تصدق بها حيث علق الامام عليه السلام وجوب التصدق على عدم إمكان الرد على صاحب المال مطلقا سواء كان من جهة الجهل به أو تعذر الوصول اليه لحبسه أو بعد المسافة أو غير ذلك و الظاهر انه يتعدى عن موردها بتنقيح المناط إذ لا خصوصية له كما أن ضعفها منجبر بعمل الأصحاب كما عن الجواهر و المسالك.

«و لكن يمكن أن يقال عليها» انها ظاهرة في خصوص صورة الجهل بالمالك فتكون واردة في مجهول المالك لقوله (ع): «يعرفها حولا» فإنه يناسب الجهل بالمالك لا صورة التعذر إذ مع التعذر يكون المالك معلوما.

و دعوى ان التعذر قد يحتاج الى التعريف كما لو تعذر الوصول الى المالك من جهة بعده فإنه يحتاج إلى إرسال رسل لتعريفه بذلك. فاسدة فإنه لو كان كذلك لقال عرفه بها و الحاصل أن الرواية بواسطة التشبيه باللقطة مع أخذ التعريف بالحول فيها مع كون المودع هو اللص ينعقد لها ظهور في

مجهولية المالك فلا يمكن التمسك بها في المقام.

(و رابعا) بصحيحة يونس قال: سألت عبدا صالحا (ع) فقلت:

جعلت فداك كنا مرافقين لقوم بمكة و ارتحلنا عنهم و حملنا بعض متاعهم بغير علم و قد ذهب القوم و لا نعرفهم و لا نعرف أوطانهم و قد بقي المتاع عندنا فما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 447

نصنع به؟ قال (ع): تحملونه حتى تلحقوا بالكوفة. قال يونس:

لست أعرفهم و لا ندري كيف نسأل عنهم؟ فقال (ع): بعه و أعط ثمنه أصحابك. فقال: أهل الولاية؟ فقال (ع): نعم و قد استدل بها الحاج آقا رضا الهمداني (ره) بتقريب انها ظاهرة في تعذر إيصال المال لصاحبه المعلوم لأنه كان يعلم بأن هذا المال لذلك الشخص الخاص المعهود الذي كان معه بمكة و لكنه لم يكن يعرف بلده و لا شخصه على وجه يمكنه الوصول اليه بالفحص و السؤال و هكذا استدل بها بعض المعاصرين و لا يخفى ما فيه فان الرواية ظاهرة في عدم معرفتهم و عدم تشخيصهم حيث فيها (و لا نعرفهم و لست أعرفهم) فهي ظاهرة في مجهول المالك.

(و خامسا) بما رواه في الكافي و التهذيب عن نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت الى العبد الصالح (ع) قد وقعت عندي مائة درهم و أربعة دراهم و قد مات صاحبها و لم اعرف له ورثة؟ فكتب (ع) اعمل فيها و أخرجها صدقة قليلا قليلا. و ما في موثقة هشام بن سالم انه سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه (ع) عن أجير كان يقوم في رحاة و له عندنا دراهم و ليس له وارث فقال (ع): تدفع للمساكين و لا يخفى ما فيها فإنها ظاهرة في موت

صاحب المال و يكون المال مجهول وارثه فتكون هذه الأخبار لبيان حكم مجهول المالك إذا لم نجري استصحاب عدم الوارث لأنه لو جرى كان مال الإمام لأنه وارث من لا وارث له و عليه يكون الامام قد أذن للسائل بالتصدق بماله (ع).

(و سادسا) الصحيح الذي رواه الشيخ الطوسي بسنده عن يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا و أنا حاضر فقال رفيق لنا كان بمكة فرحل عنها إلى منزله و رحلنا الى منازلنا فلما أن صرنا في بعض الطريق أصبنا بعض متاعه فأي شي ء نصنع به؟ قال: تحملونه إلى الكوفة. قال: لسنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 448

نعرف بلده و لا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذلك فبعه و تصدق بثمنه. قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية و هي ظاهرة في وجوب التصدق بمال معلوم المالك إذا لم يمكن إيصاله له و لا يخفى ان هذه الرواية و إن كانت في تقريرات بعض أساتذة العصر للمرحوم الشاهرودى بهذه الصورة و لكن الحقيقة إنها ليست كذلك إذا الذي رواه الشيخ الطوسي (ره) في التهذيب ج 2 ص 188 عن الصفار عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا (ع) و أنا حاضر فقال: جعلت فداك تأذن لي في السؤال فإن لي مسائل؟ قال: سل عما شئت. قال: قلت له: رفيق كان لنا بمكة فرحل عنها إلى منزله و رحلنا الى منازلنا فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأي شي ء نصنع به؟ قال: فقال. تحملونه حتى تصلوه إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه و لا نعرف بلده

و لا نعرف كيف نصنع. و في نسخة أخرى قال له: (كيف نعرفه و لا نعرف بلده و لا نعرفه كيف نصنع)؟ قال (ع): إذا كان كذلك فبعه و تصدق بثمنه. قال له:

على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية فتكون هذه الرواية ظاهرة في مجهول المالك لا في معلوم المالك نظير رواية يونس المتقدمة في الوجه الثالث.

(و سابعا) بمرسلة السرائر حيث قال: و روى انه إذا لم يظفر له بوارث تصدق به عنه. و مرسلة الفقيه حيث قال: و قد روى في هذا خبر آخر إن لم يجد له وارثا و علم اللّه بذلك الجهد فتصدق به و إرسالها منجبر بالشهرة الفتوائية بالتصدق و فيه ما لا يخفى فإنهما ظاهر ان في خصوص المفقود دون من تعذر الإيصال إليه لحبس أو نحوه، و لعل الشهرة الفتوائية في خصوص هذا المورد أيضا مع ان المدعي أعم مضافا الى أن ظاهرهما هو صورة العلم بموت صاحب المال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 449

و الجهل بالوارث و هو حينئذ من موارد مجهول المالك بلا إشكال و خارج عن محل البحث هذا مضافا إلى انها معارضة بما دل على وجوب حفظ المال لصاحبه و الإيصاء به بعد الموت كما في (صحيح معاوية بن وهب) على ما يراه المتأخرون في أصحاب الإجماع قال: سئل أبو عبد اللّه عن رجل كان له على رجل حق ففقده و لا يدرى أ حي هو أم ميت و لا يعرف له وارث و لا نسب و لا بلد؟

قال: اطلبه. قال: إن ذلك قد طال فأتصدق به؟ قال: اطلبه فإنه ظاهر في المحافظة على المال المعلوم صاحبه و في طلبه و

مثلها (صحيحة هشام بن سالم) ان خطاب الأعور سأل أبا إبراهيم (ع) و أنا جالس عنده فقال: انه كان عند أبي أجيرا ففقدناه و بقي له من أجره شيئا و لا نعرف له وارثا؟ قال (ع):

اطلبه قال: قد طلبناه و لم نجده؟ فقال: مساكين و درك يده. قال:

فأعاد عليه. قال (ع): اطلب و اجهد فإن قدرت عليه و إلا فكسبيل مالك حتى يجي ء له طالب فان حدث بك حدث فأوصي به إن جاء له طالب أن يدفع له و لا يخفى ان هذه الأخبار هي مقتضى القاعدة لأن المال يجب على الآخذ المحافظة عليه حتى يوصله لصاحبه و قد تمسكوا بها الأصحاب في الدين الذي غاب صاحبه و لا يدرى أحي هو أو ميت كما انهم تمسكوا بها في باب المواريث في عدم صحة قسمة أموال الغائب المنقطع خبره على ورثته. و إن كانت هي لم تكن في الميراث إلا أنه صح الاستدلال بها لعدم القائل بالفرق بينه و بين سائر الحقوق. و من هنا يظهر ما في الكفاية حيث طعن في التمسك بها باحتمال الفرق. كما انه لا وجه للطعن بها بأنها ظاهرة في الدين و كلامنا في العين و ذلك لعدم ظهورها في ذلك و لو سلمناه فللإجماع على عدم الفصل بين الحقوق و لتنقيح المناط إن لم نقل بالأولوية القطعية. هذا و قد ظهر لك وجوب الفحص هنا عن المالك و الطلب له لصريح الروايات. ثمَّ إن الظاهر إن الطلب المأخوذ في الروايات يصدق بالسؤال عنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 450

و الترقب له فلا يجب أعلى أفراده من الضرب في الأرض مضافا إلى أنه إلزام شاق فيه إتلاف

المال و تعب البدن و الشريعة لم تبن على مثله و أدلة الحرج تنفيه و عليه فلا وجه للبحث عن ان الطالب هو الحاكم أو من عنده المال. و إن نفقة السفر على الطالب أو على الغائب الى غير ذلك مما ذكروه في المقام و يرشد إلي ما قلناه ما روي عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (ع) عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه و لا على ولي له و لا يدرى بأي أرض هو؟ قال:

لا جناح عليه بعد أن يعلم اللّه منه أن نيته الأداء.

(إن قلت): إن التكليف بالانتظار لازمه الانتظار إلى أن يعلم بالحال و قد ينجر ذلك إلى أقصى مدة العمر و هذا فيه حرج منفي بالشريعة. (قلنا):

لا حرج في الانتظار بأن يجعله كسائر الأمانات و إذا خشي التلف تصرف به مع الضمان أو يستبدله بمال لا يخشى تلفه. و (أما إذا كان المال المجهول المالك متصفا بأحد العناوين) ككونه كنزا أو لقطة أو مندرجا تحت عنوان ككونه من جوائز الظالمين فقد ذكروا في موطنه حكمه (و أما إذا كان مجهول المالك غير متصف بأحد العناوين و لا مندرجا تحت عنوان) فان تردد بين غير محصورين فالكلام يقع فيه في عدة جهات: (إحداها) في وجوب الفحص عن مالكه و قد ذهب اليه المشهور و استدل عليه بأمور: (أحدها) إن أدلة وجوب الرد إلى المالك تقتضي الفحص عنه لأنه مقدمة له و (دعوى) انا نحتمل ان الرد غير مقدور للمالك فالأصل البراءة منه فلا تجب مقدمته و هي الفحص. (مدفوعة) بأنه قد تقرر في محله ان الشك في القدرة لا يرفع التكليف و لا يوجب جريان أصل البراءة منه

و إلا لسقطت نوع التكاليف إذ نوع التكاليف عند القيام بها يحتمل الإنسان عدم قدرته على إتمامها. و لكن لا يخفى ما فيه فان فرض الكلام في الشبهة الغير المحصورة، فأصالة عدم وجوب الرد بالنسبة لكل واحد من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 451

الأشخاص المحتمل ملكيتهم له جارية بلا معارض.

(إن قلت): إنا نعلم إجمالا إما بوجوب إيصال المال لمالكه أو التصدق به عنه فيجب الفحص لمعرفة التكليف كما ذكره استاذنا (كا ره). (قلنا):

لا علم إجمالي لأن وجوب الرد أصل البراءة ينفيه لكون الشبهة غير محصورة و وجوب التصدق إن قام الدليل عليه وجب الأخذ به و إلا فالأصل البراءة منه مضافا إلى أن الكلام لو كان مع قطع النظر عن الأدلة فإنا لا نعلم إجمالا ذلك بل، نحتمل ان المال يكون ملكا لواضع اليد عليه.

(ثانيها) صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 446 حيث فيها أمر الإمام بالتفحص بحمل المال للكوفة بعد دعوى الراوي عدم معرفة القوم و عدم معرفة أوطانهم ثمَّ لما ذكر الراوي إنه آيس من معرفتهم بقوله و لا ندري كيف نسأل عنهم أمره بالتصدق و رفع عنه وجوب الفحص فيستفاد من الرواية انه بالجهل بالمالك يجب الفحص و يستفاد منها انه باليأس من معرفة المالك يتصدق به. و عليه لو كان اليأس حاصلا قبل الفحص كما إذا كان لم يعرف المالك بوجه من الوجوه تصدق به كما هو ظاهر الرواية و لازمه انه إذا حصل اليأس بعد الفحص حتى القليل منه يتصدق به و هي أحسن الروايات في هذا الباب و قد استدل بعض أساتذة العصر برواية يونس الثانية. و لا يخفى ما فيه فإنه قد رتب فيها التصدق على

مجرد الجهل بالمالك، فهي للخصم أنفع.

(ثالثها) أخبار اللقطة و اخبار الدين المجهول مالكه و اخبار المفقود فإنها تدل على وجوب الفحص عن المالك و بتنقيح المناط يثبت المطلوب في المجهول المالك، فان المناط في الفحص فيها هو المحافظة على إيصال الحق لصاحبه.

و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم أن المناط هو مجرد ذلك فلعله في الدين المجهول المالك هو إحسان صاحب الدين على المديون بتسليطه على المال و الانتفاع به فيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 452

و الأمر بالفحص جبرا لاحسان المالك. و في اللقطة إنما أمر الشارع بالفحص لبغضه لأخذها من مكانها. و في المفقود لكون المالك معروفا بشخصه.

(رابعها) ما تمسك به المرحوم الايرواني من رواية حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا و اللص مسلم هل يرده عليه؟ فقال: لا يرده فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل و إلا كان بمنزلة اللقطة فيعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها اليه و إلا تصدق بها فان جاء صاحبها بعد ذلك خيره بين الأجر و الغرم فان اختار الأجر فله الأجر و إن اختار الغرم غرم له و كان الأجر له. و الحديث و إن كان ضعيفا بالقاسم بن محمد إلا أن المحكي عن المسالك و الجواهر ان ضعفه منجبر بالشهرة. و لا يخفى ما فيه فإنه لا وجه للتعدي من موردها لمجهول المالك إذ لعل أمر الإمام بالفحص من جهة إقدامه على الأخذ من اللص الذي يعلم بأنه قد سرق هذا المال فان ظاهر السؤال هو ذلك لا انه قد علم به بعد الأخذ نظير آخذ اللقطة

في عدم رضاء الشارع بأخذه فان اقدامه عليها أوجب عليه الفحص.

و عليه فإنما يتعدى منه لكل مال أقدم على أخذه مع العلم بحرمته و كان مالكه مجهولا و لكن المحكي عن ابن إدريس ره رد وديعة اللص المذكور لإمام المسلمين فان تعذر أبقاها أمانة ثمَّ يوصي بها إلى حين التمكن و قواه في المختلف و المحكي عن المفيد ره و سلار يخرج خمسها و الباقي يتصدق به و لم يذكر التعريف و المجلسي ره ذهب إلى التخير بين الصدقة بها و بين إبقائها أمانة قال ره و ليس له التملك بعد التعريف كما جاز ذلك في اللقطة.

(إن قلت): إن ما ذكرته من التعدي ينافيه ما في رواية على بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه (ع) فاستأذنت له فاذن له فلما أن دخل سلم و جلس ثمَّ قال: جعلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 453

فداك إنى كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه إلى أن قال قال (ع): فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم؟ رددت عليه ماله و من لم تعرف تصدقت به إلى أن قال: رجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئا إلا خرج منه حتى ثيابه التي على بدنه فما أتى عليه أشهر قلائل حتى مرض و مات. فان هذه الرواية تدل على أن الحرام الذي يأخذه الإنسان و هو مجهول المالك يتصدق به من دون فحص و لو كان يعتبر فيه الفحص سنة لما كان يصح من الفتي عند رجوعه يتصدق به بعد أشهر.

(قلنا): مضافا

إلى ضعفها بعلي بن أبي حمزة و عدم عمل المشهور بها و إنها منافية لأخبار حلية جوائز السلطان فهي محمولة على الاستحباب نظير من عنده مال يحتمل أنه حرام و إن كان بحسب الظاهر حلال فيحتاط فيه بهذا النحو مضافا إلى إمكان دعوى عدم دلالتها على أن المأخوذ مجهول المالك و إنه محرم أخذه بل إنما دلت على أنه أخذ منهم من دون تفحص عن انه من أموالهم أو أموال غيرهم.

(إن قلت): ان موثقة إسحاق بن عمار و هي سألت أبا إبراهيم عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها؟ قلت: فان لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها. ظاهرة في عدم الفحص سنة مع أن يده يد عدوان إذ أنه أخذ المال و هو يعلم بأنه حرام.

(قلنا): الرواية ظاهرة في اللقطة و لذا ذكرها صاحب الوسائل في كتابها فهي نظير الروايات الواردة في اللقطة أجنبية عما نحن فيه و لو سلمنا شمولها لما نحن فيه فهي مقيدة برواية حفص على انا لا نسلم إن يده يد عدوانية لقوله: (و لم يذكرها). (هذا و قد تمسك بعضهم) لعدم وجوب الفحص في المجهول المالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 454

بإطلاق عدة روايات. منها ما تقدم ص 452 من رواية علي بن حمزة في عمال بني أمية، و قد عرفت ضعفها و عدم عمل المشهور بها و عدم دلالتها على أن المأخوذ كان مجهول المالك و إنما قد أغمض في مطالبه. و (منها) رواية علي ابن راشد قال: سألت أبا الحسن (ع)

قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلما وفيت المال خبرت أن الأرض وقف؟ فقال عليه السلام: لا يجوز شراء الوقف و لا تدخل الغلة في مالك و ادفعها لمن وقفت عليه. قلت: لا أعرف لها ربا؟ قال: تصدق بغلتها. الى غير ذلك من الروايات التي يستدل بها على عدم وجوب الفحص و الجواب عنها انه بعد تسليم صحة سندها و تمامية دلالتها فهي مخصصة بما تقدم من الأدلة على وجوب الفحص التي عمدتها صحيحة يونس و مضافا إلى أن مجهول المالك لما كان من قبيل الشبهة الغير المحصورة كان الأغلب انه مأيوس من معرفة صاحبه إلا ما شذ و لعل الأخبار الآمرة بالتصدق بدون الفحص ناظرة لذلك بل ظاهر قول الراوي في رواية علي بن راشد: (لا أعرف لها ربا) هو عدم المعرفة في الحاضر و المستقبل فيكون ظاهرها الإياس من المعرفة فلذا الامام رتب عليها التصدق. و (قد أجاب عن ذلك بعض أساتذة العصر (بما حاصله أن الآية الشريفة و هي «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا» تقتضي وجوب الفحص عن المالك لكونه مقدمة للرد الواجب و هي تشمل الأمانة المالكية كالوديعة و نحوها و الأمانة الشرعية كاللقطة و مجهول المالك و نحوها، و لكنها مقيدة بصورة التمكن من الأداء و الفحص لقبح التكليف بما لا يطاق. و اخبار التصدق المطلقة تشمل صورة التمكن من الأداء للمالك و صورة عدم التمكن و لكنها مقيدة بمجهول المالك فبين الآية الشريفة و الاخبار المطلقة عموم من وجه فإن الآية أعم من الاخبار من جهة شمولها للأمانة المالكية دون الاخبار. و أخص من جهة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص:

455

اختصاصها بصورة التمكن من الفحص. و الاخبار المطلقة أعم من جهة شمولها لصورة عدم التمكن من الفحص و الرد و أخص من جهة اختصاصها بمجهول المالك فتقع المعارضة بينهما في مجهول المالك مع التمكن من الفحص فمقتضى الآية هو وجوب الفحص عن المالك و مقتضى الأخبار المطلقة هو وجوب التصدق بالمال و عدم وجوب الفحص عن المالك و قد حققنا في علم الأصول انه إذا تعارض الكتاب مع الخبر بنحو العموم من وجه يؤخذ بعموم الكتاب أو بإطلاقه و عليه فلا بد أن نأخذ بإطلاق الآية و نحكم بوجوب الفحص و مع الإغضاء عما ذكرناه و الحكم بالتساقط يرجع الى عموم حرمة التصرف بمال الغير بدون اذنه. و لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى أن الآية ظاهرة في الأمانة المالكية فإنها المتبادر منها عرفا، انه لا تعارض بين الآية و الاخبار المطلقة الدالة على وجوب التصدق لأن الآية دالة على الحكم الواقعي لأنها إنما تشمل مجهول المالك لا بعنوان انه مجهول بل بعنوان انه مال للغير يجب رده لأهله و إلا لزم الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي. و الاخبار المذكورة دالة على الحكم الظاهري لأخذ الجهل في موضوعه. و لو تمَّ ما ذكره للزم الفحص في سائر الشبه الغير المحصورة الوجوبية لأن دليل التكليف الوجوبي يقتضي الإتيان به. و الفحص مقدمة لامتثاله و أصل الإباحة و نحوه يقتضي إباحة الترك سواء فحص أم لم يفحص، و هكذا يمكن تسرية الحكم إلى الشبهة التحريمية الغير المحصورة و (إن شئت قلت) ان أصالة عدم وجوب الرد جارية في أطراف مجهول المالك لكونه شبهة غير محصورة فيكون التكليف بالرد غير منجز فلا يجب الفحص و

على هذا فلا معارض لاخبار وجوب التصدق الغير المقيدة بالفحص فيثبت بها وجوب التصدق و هو المطلوب للخصم بل للخصم أن يدعي أن المراد (بالأهل) في الآية أعم من المالك أو الفقراء بعد ما عممت الأمانة في الآية لمطلق ما بيد الإنسان و عليه فلا منافاة و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 456

معارضة بين الاخبار و الآية مضافا الى دعوى ان الآية إرشاد لحكم العقل بوجوب رد الامانة و هو لا يشك في حكمه فتكون دعوى المعارضة من قبيل دعوى معارضة القطع للنقل لا من قبيل معارضة الكتاب للسنة.

مقدار الفحص عن مجهول المالك

(ثانيها) إن بعد ما ثبت وجوب الفحص عن مجهول المالك فمقداره إلى حد اليأس من الظفر بالمالك فلو كان واضع اليد على مجهول المالك آيسا في أول الأمر من المالك لم يجب عليه الفحص و الدليل على ذلك كله هو صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 446 (نعم) يستثنى من ذلك صورتان الاولى الحرج في الفحص فان عليه أن يفحص بمقدار لا يلزم منه ذلك الى أن يحصل له اليأس لأدلة نفي الحرج (الثانية) ما لو أقدم على مال يعلم بحرمته و كان مجهول المالك لديه كما لو أخذ المال من اللص الذي يعلم بأنه سرقة فإن يجب عليه الفحص مقدار سنة و ذلك لرواية حفص بن غياث.

اجرة الفحص على الفاحص أو المالك

(ثالثها) انه بعد ما ثبت وجوب الفحص فلو توقف الفحص على بذل الأجرة كأجرة الدلال و الإعلان بل و هكذا المحافظة على العين لو توقفت على الأجرة فهل الأجرة على من وجب عليه الفحص أو على المالك الحق ان الواجب هو البذل لأنه الموقوف عليه الفحص أما انه بنحو المجانية فلم يقم دليل عليه فله أن يختار البذل بنحو العوض نظير ما يقال في الإطعام في المخمصة فإنه واجب لكن لا يجب بنحو المجانية بل له الرجوع بالأجرة، و هكذا الصناعات التي يتوقف عليها النظام و هكذا تحمل الشهادة هذا إذا كانت يده على مجهول المالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 457

يد إحسان بأن أخذ المال ليحافظ عليه و ليوصله إلى صاحبه أو وقع عنده و لم يعرف صاحبه لقوله تعالى مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ و عليه أن يستأذن من الحاكم الشرعي في الصرف عليه بناء على اعتبار الاذن من الحاكم في القيام بالأمور

الحسبية التي تكون من هذا النوع كما سيجي ء إن شاء اللّه.

(و كيف كان) فاذا وجد المالك أخذ الأجرة منه لأن من له الغنم فعليه الغرم.

و إن امتنع رفع أمره للحاكم الشرعي و هو يأخذها منه لأنه ولي الممتنع و إن لم يجده أخذها الفاحص من العين ثمَّ صرف الباقي في مصارف مجهول المالك. (هذا كله) إذا كانت يده على المال يد إحسان، و أما إذا كانت يده يد عدوان بلا مبرر شرعي كما لو سرق المال و جهل صاحبه فالظاهر إن الأجرة عليه لا على المالك لأنه قد أدخل الضرر على نفسه بعدوانه و تجاوزه على حق المالك فلا يناسبه التخفيف و لا ترفعه قاعدة لا ضرر لأنها في مقام المنة و التخفيف و لأن هذه الأجرة حصلت بفعل المعتدي فلا وجه لتغريم المالك، و يدل على ذلك ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع): «الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها» أي موجب لخرابها، كما ان الرهن موجب لاسترداد المال الذي وضع عليه. و مثله ما رواه ابن ميثم (ره) عن رسول اللّه (ص): «اتقوا الحرام في البنيان فإنه أسباب الخراب». و يؤيده بل يدل عليه ما في صحيحة أبي ولاد عن أبي عبد اللّه (ع) قال قلت: قد علفته بدراهم فلي عليه علفه، قال (ع): لا لأنك غاصب فإنه يفهم من التعليل ان ما يصرف على المغصوب من الغاصب يكون من مال الغاصب و لا يؤخذ من المالك. و لعل المتدبر في كلمات الفقهاء يرى ان ذلك من الأمور المسلمة عندهم.

و في تقريرات بعض أساتذة العصر و قد ورد في بعض الاخبار انه إذا غصب أحد خشبة فجعلها في أساس البناء ثمَّ

جاء مالكها يطلبها وجب عليه ردها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 458

و لو كان بهدم البناء. و لكني بعد الفحص لم أطلع على هذا الخبر بهذا التفصيل و إنما الذي وجدته هو ما تقدم.

مجهول المالك إذا ادعاه مدعي

(رابعها) ان مجهول المالك إذا ادعاه مدعي سواء كان قبل الفحص أو بعده أو في أثنائه، فدعواه تارة تكون مقترنة بالعلم بصدقه بواسطة القرائن، و تارة تكون مقترنة بالحجة الشرعية، و أخرى مقترنة بالتوصيف و التعريف بذكر العلامات الموجودة في المال و أخرى مجردة عن ذلك كله، أما إذا كانت مجردة عن ذلك فقد يقال بأنها دعوى بلا معارض و هي حجة، و لا يخفى ما فيه فان الدليل على حجيتها هو رواية منصور بن حازم قال قلت للصادق (ع):

عشرة كانوا جلوسا و وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا: أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، قال (ع): هو للذي ادعاه. و هي إنما تدل على حجية الدعوى فيما إذا لم يكن على المال يد ملزمة بإيصاله للمالك، و قد استدل على ذلك أيضا بالإجماع و لكن القدر المتيقن منه هو ذلك، و قد استدل على ذلك أيضا بأصالة الصحة في قول المسلم. و فيه ان حمل قول المسلم على الصحة إنما يقتضي الصحة الفاعلية لا صحة القول و مطابقته للواقع فان ما دل على أصالة الصحة لا يدل على اقتضائها صدق الكلام و مطابقته للواقع و إنما يقتضي حمله على عدم تعمده للكذب. و قد استدل على ذلك أيضا بما ورد في اللقطة بما في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه (ع) في اللقطة: فإن جاز لها طالب و إلا

فهي كسبيل ماله. و بما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) في اللقطة اجعلها في عرض مالك حتى يجي ء لها طالب و لكن الأستاذ كا (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 459

ذكر ان في موردها و هو اللقطة لم يعمل بها فكيف يتعدى منه إلى مجهول المالك.

هذا كله إذا كانت الدعوى مجردة و أما إذا اقترنت بالتوصيف و التعريف للمال فإن أفاد العلم العادي بأن المال له أعطي له و، إلا فلا لعدم الدليل على حجية التوصيف، و قد يستدل على حجيته في المقام بما في التهذيب عن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم و هو مستوي الجناحين و هو يعرف صاحبه أ يحل له إمساكه، فقال: إذا عرف صاحبه رده عليه و إن لم يكن يعرفه و ملك جناحيه فهو له و إن جاء طالب لا تتهمه رده عليه. و لا يخفى ما فيه فان الظاهر من قوله (ع): «لا تتهمه» هو العلم أو ما يقاربه و قد يستدل له أيضا بالقياس على اللقطة فإنه إذا عرفها مدعيها بذكر العلامات دفعت له. و فيه انه لو سلم ثبوت هذا الحكم في اللقطة فقياس المقام بها قياس في الشرع باطل، و دعوى اتحاد المناط غير مسلمة. و أما إذا حصل العلم من القرائن بصدق دعواه أو قامت الحجة الشرعية كالبينة دفع المال له. قال الأستاذ كا (ره): لو دفعه إلى المدعي بعد الثبوت أو حصول العلم ثمَّ تبين الخلاف الأقوى عدم الضمان لعدم السبيل على المحسنين، و لانصراف أدلة الإتلاف عن هذا الإتلاف الذي هو في سبيل الوصول إلى

المالك و عود النفع اليه، سلمنا عدم الانصراف لكن دليل نفي الضرر و السبيل على المحسنين حاكم على دليل الإتلاف. و لو سلمنا المعارضة و عدم الحكومة كان المرجع هو البراءة من الضمان.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 460

مصرف مجهول المالك

(خامسها) ان مصرف مجهول المالك بعد اليأس عن الظفر بمالكه يتصدق به على الفقراء لصحيحة يونس الأولى المتقدمة (إن قلت) إنه تعارضها رواية داود ابن أبي زيد عن أبي عبد اللّه (ع) قال له رجل: اني قد أصبت مالا و اني قد خفت فيه على نفسي و لو أصبت صاحبه دفعته اليه و تخلصت منه، فقال أبو عبد اللّه:

و اللّه ان لو أصبته كنت تدفعه اليه؟ قال: اي و اللّه، قال (ع): فلا و اللّه ما له صاحب غيري، قال فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره قال فحلف قال (ع): فاذهب فقسمه في إخوانك و لك الأمن مما خفت منه قال: فقسمه بين إخوانه. فإن ظاهر هذه الرواية كون مجهول المالك يملكه الامام (ع). و قد استظهر هذا الرأي صاحب المستند. و دعوى ضعف سندها بموسى بن عمر حتى ان المجلسي (ره) وصفها بالجهالة. مدفوعة بتوثيق جماعة له كالحجة المامقاني و الشيخ محمد طه نجف و الشيخ النوري. و دعوى انها واردة في واقعة شخصية و احتمال ان الامام (ع) كان يملك هذا المال حقيقة و أمره بالتصدق به تطوعا و تفضلا و تحميله الغير توزيعه رفعا للتهمة. مدفوعة بأن ترك الاستفصال يقتضي إطلاق المقال. و هذه الرواية لا تعارضها سائر الروايات الواردة في هذا الباب حتى الآمرة بالصدقة مع الضمان لو جاء المالك كرواية حفص بن غياث المتقدمة، و حتى الظاهرة في تملك

مجهول المالك لو دفع الخمس كصحيحة علي بن مهزيار و ذلك لأن تلك الروايات تحمل على الاذن المالكي بالحفظ أو الصدقة أو التملك بهذا النحو و لعل اختلاف الروايات في مصرف مجهول المالك يدل على ملكية الإمام (ع) له و انه كان يأذن لكل واحد بنحو من التصرف (قلت): عدم عمل المشهور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 461

بها لعدم فتواهم بأن المال المجهول المالك من الأنفال يضعف ذلك، مضافا للروايات الحاصرة للأنفال و عدم عد مجهول المالك فيها، مضافا لعدم ظهورها في ملكية مجهول المالك للإمام. نعم لا يبعد ظهورها في ولايته على مجهول المالك في التصدق به و يؤيدها الروايات الدالة على الولاية المطلقة للإمام (ع) و لعل الاعتبار العقلي يساعد على ذلك خصما للمنازعات. و عليه ففي زمان الغيبة تكون الولاية للمجتهد الجامع للشرائط لما تقدم من ثبوت كل ما للإمام من جهة الإمامة و الولاية يثبت للمجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة، و لكن على هذا تكون منافاة بينهما و بين الاخبار الدالة على وجوب التصدق على القابض إلا أن الظاهر أقوائية الرواية الدالة على ولاية الحاكم دلالة. فتحمل أخبار التصدق على الاذن منه عليه السّلام. و لكن يضعف حجية الرواية عدم عمل المشهور بها، إذ المشهور لم يفتوا بالولاية للحاكم الشرعي على مجهول المالك، و لكن السيرة من المتقدمين عليها فإنهم لا يتصدقون به بدون إذن الحاكم أو يدفعونه له فالرواية مضافا لسلامتها كانت السيرة على طبقها، غاية الأمر إنه يستفاد منها و من الروايات الأخرى إن لحاكم الشرع الولاية على التصدق بالمال. هذا و لكن التحقيق عدم دلالة الرواية على ذلك لاحتمال أن الرجل قد أصاب مالا

من أموال الإمام (ع) أو من الأموال التي له الولاية عليها مثل مال الخراج و المقاسمة و الامام يعرف هذا الرجل من أنه جابي عند الظلمة أو من موظفيهم في هذه الأشياء أو جنودهم الذين يغزون معهم و لا مهنة له غير ذلك و لا مال له سوى ذلك.

و دعوى ترك الاستفصال. لا تنفع في المقام لأن الراوي حاكي لوضعية الحال.

نعم لو كانت الرواية هكذا: بأن سأله الراوي عن رجل أصاب مالا و قد خاف على نفسه، يمكن أن يقال إن ترك الاستفصال من الامام عن هذا الرجل و عن هذا المال يقتضي العموم، و أما فيما نحن فيه فالراوي إنما ينقل سؤال رجل له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 462

و لعل قرائن الأحوال في الرجل تقتضي وضوح السؤال عن مورد خاص، فالرواية لا دلالة فيها أصلا، و أما أدلة الولاية العامة فهي عندهم إنما تثبت ولايته في الأمور العامة لا الخاصة و أما ما ورد من أن الامام ولي من لا ولي له فهي لا تجي ء في المقام لأن القابض هو ولي المال باعتبار تكليفه بالفحص عنه و التصدق به، و لا دليل لنا على أن الفقيه ولي الغائب كما سيجي ء إن شاء اللّه.

و قد يتوهم الفرق في مجهول المالك بين ما إذا كان كليا في الذمة فيجب دفعه للحاكم الشرعي أو الاستئذان منه في صرفه لأن الكلي لا يتعين إلا بإذن المالك أو وليه و الحاكم الشرعي ولي الغائب و بين ما إذا كان عينا خارجية فلا يجب دفعه للحاكم الشرعي لتعينه في نفسه و هو (توهم فاسد) فإنه لو تمت ولاية الحاكم فإنما تتم بواسطة ما ذكرناه من الأدلة

و هي لا فرق فيها بين الكلي و العين الخارجية و إن لم تتم فأدلة التصدق لا فرق فيها بين الكلي و العين الخارجية و يستفاد منها ان من بيده مجهول المالك هو الولي في تعينه إذا كان كليا نظير الزكاة و الخمس.

(إن قلت): ان صحيحي معاوية و هشام بن سالم المتقدمين ص 449 يدلان على وجوب حفظ مجهول المالك و الإيصاء به. (قلنا): قد تقدم هناك أنهما إنما وردا في معلوم المالك.

(إن قلت): ان ما في صحيحة علي بن مهزيار المذكورة في كتاب الخمس من قوله (ع): «و مثل مال يؤخذ و لا يعرف صاحبه» ظاهر في أن مجهول المالك يملكه واضع اليد عليه بإخراج خمسه. (قلت): انها ظاهرة في تعداد ما هو مفروغ عن ملكيته و يجب فيه الخمس لأنه (ع) في مقام تعداد الفوائد و الغنائم للإنسان التي يجب فيها الخمس، كما أن جميع ما ذكره في هذا المقام كله مفروغ عن ملكيته، فإنه (ع) ذكر الجائزة و الميراث و الغنيمة من العدو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 463

فتكون الرواية ظاهرة في المال المجهول المالك الذي يملك بالأخذ كاللقطة التي تملك و الحرام المختلط بالحلال و المال الذي يوجد في بطن حيوان اشتراه و لم يدعيه البائع و الطائر إذا قبضه و لم يعرف صاحبه و المال الذي يخرج من البحر من السفينة المنكسرة و كالكنز و نحو ذلك. و نحن كلامنا في مجهول المالك الذي لا يملك بالأخذ، و لو سلمنا عدم ذلك فهي مطلقة تقيد بالروايات الدالة على وجوب التصدق بمجهول المالك.

(إن قلت): ان الأمر بالتصدق في مجهول المالك لا يدل على الوجوب و إنما يدل على

الإباحة لأنه وارد عقيب الخطر لان مجهول المالك مال للغير و مال الغير حرام التصرف به، فالأمر بالتصدق به وارد بعده لأنه بواسطة طرو جهل المالك عليه. (قلنا) الأمر بالتصدق في مجهول المالك حكم ظاهري و حرمة التصرف حكم واقعي فهو نظير الأمر باستصحاب الحرمة للشي ء الحرام فان الاستصحاب يكون واجبا لا مباحا و السر في ذلك هو اختلاف مرتبة الحكم فلم يكن الأمر في مرتبة النهي. و (إن شئت قلت): ان الميزان في ذلك هو فهم العرف و في المقام العرف لا يفهم من الأمر الإباحة.

من يجوز التصدق عليه بمجهول المالك

(سادسها) انه بعد ما ثبت وجوب التصدق بمجهول المالك فيجوز التصدق به على كل أحد أو على خصوص أهل الولاية مطلقا أو خصوص الفقراء منهم مطلقا أو على غير الهاشمي. الظاهر من صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 447 اشتراط كون المتصدق عليه من أهل الولاية و هل يشترط كونه فقيرا، ظاهر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 464

بعض المتأخرين هو ذلك لأن المتبادر من لفظ الصدقة هو العطية للفقير لوجه اللّه و لقوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ. و لا يخفى ما فيه فان المأخوذ في الصدقة هو العطية لوجه اللّه مطلقا كما هو ظاهر كلمات اللغويين، و لذا يقال للوقف صدقة جارية مع انه قد يكون للأغنياء، و يؤيد ذلك بل يدل عليه قوله تعالى:

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقٰاتِ فَنِعِمّٰا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرٰاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فان مفهوم الصدقة لو كان مقيدا بالفقير لما كان وجها لأفضليتها بإعطائها للفقراء. و هكذا يؤيده قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً فان الرسول لم يكن فقيرا، و أما قوله

تعالى إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ فالاستدلال به من جهة حصر الصدقات بالفقراء و لكن المقطوع به ان الآية الشريفة لم يرد منها حصر مطلق الصدقة بذلك لأن المذكور في الآية هو الأصناف الثمانية الذين تعطي لهم الزكاة فيكون الظاهر هو خصوص الزكاة منها مضافا إلى تفسيرها بالزكاة في بعض الروايات.

(فتلخص) أن لا دليل على اعتبار الفقر في المتصدق عليه بمجهول المالك، و حكي عن الجواهر (ره) الفتوى بذلك عملا بإطلاق الروايات.

و أما اشتراط كونه غير هاشمي فقد استدل عليه بحرمة الصدقة الواجبة على الهاشمي و هذا صدقة واجبة فتحرم على الهاشمي أما كونه صدقة واجبة فلفرض الكلام انه كذلك، و أما حرمة الصدقة الواجبة على الهاشمي فلما في صحيحة جعفر ابن إبراهيم المروية في الكافي قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع) أ تحل الصدقة لبني هاشم فقال: إنما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا فأما غير ذلك فليس به بأس. و لا يخفى انه ظاهر في خصوص الزكاة فإن تقييد الواجبة بالناس يوجب الانصراف إلى الزكاة كما إذا قيل: الصلاة الواجبة على الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 465

و الحج الواجب على الناس دون ما عداها من الصدقات الواجبة كالكفارات فإنه لا يصح نسبة وجوبها إلى الناس و إنما تجب بأسباب خاصة كالمنذورة و يؤكد ذلك ان الزكاة هي القدر المتيقن و الأخبار الأخرى التي قيدتها بالزكاة كخبر زيد الشحام عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم فقال (ع) هي الزكاة المفروضة و رواية الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الصدقة التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال: هي الزكاة. و عليه فأخبار

التصدق بمجهول المالك الشاملة للهاشمي و غيره تبقى على إطلاقها.

عدم ضمان المتصدق بمجهول المالك إذا ظهر المالك

(سابعها) بعد ما ثبت وجوب التصدق بمجهول المالك فلو تصدق به ثمَّ جاء المالك و لم يرض بالتصدق فهل يضمن المتصدق أم لا و لا حاجة لنا في الكلام في مقتضي الأصل العملي أو مقتضي القاعدة إلا بعد العجز من استفادة الحكم من الأخبار المعتبرة، و الكلام يقع في مقامين: أحدهما فيما لو تصدق به بنفسه و الأخر فيما لو دفعه للحاكم و الحاكم تصدق به، أما الكلام في (المقام الأول) فنقول: إن مقتضي إيجاب التصدق من الشارع الذي هو المالك الحقيقي للأمور هو عدم الضمان فإن إيجابه الإتلاف له بنحو التصدق من دون ذكر التضمين له يلازم عرفا عدم الضمان بحيث يكون له ظهورا في ذلك ألا ترى ان المولى إذا قال لخادمه اعطي هذا المال لعمر فهل يشك أحد في عدم ضمان الخادم له، نعم لو قيده بأنه لو جاء زيد فأعطه بدله كان ذلك رافعا لظهوره شأن سائر القرائن الرافعة لظهور الألفاظ. كيف و المالك الحقيقي للمال و هو الشارع قد أوجبه عليه بدون تقيد بالضمان نظير ما إذا أوجب مالك المال على عبده إتلاف المال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 466

أو إعطائه لعبد آخر فهل يا ترى أحد لا يستظهر عدم الضمان من ذلك و لا يرى أن ذكر الضمان بعده منافي لظهور اللفظ و بهذا ظهر لك أن مجهول المالك الذي يكون من قبيل وديعة اللص يتصدق به و يضمن لو ظهر صاحبه لأن الرواية الدالة عليه المتقدمة ص 452 مقيدة له بالتغريم و التضمين لصاحب المال إذا ظهر و طالبه بذلك و أما الذي لا يكون

من قبيلها فلا ضمان لأن الأدلة المتقدمة ص 460 الدالة عليه غير مقيدة بذلك.

و أما (المقام الثاني) و هو فيما لو دفعه لحاكم الشرع فحيث قد عرفت ص 461 انه لا ولاية لحاكم الشرع على مال المجهول المالك فلا بد أن يكون دفعه له من باب الوكالة عنه في صرفه في التصدق به عن صاحبه. و عليه ففي المورد الذي ثبت فيه الضمان و هو ما كان مثل وديعة اللص يكون الضمان على القابض لا على الحاكم لأن الحاكم وكيل محض و لا ضمان على الوكيل لأن تصرف الوكيل يكون تصرفا للموكل كما هو مفاد أدلة التوكيل فيكون التصدق واقعا من القابض للمال و الحاكم الشرعي بمنزلة الآلة له هذا (و قد استدل بعض أساتذة العصر) على عدم الضمان بالتصدق بلزوم التسلسل بتقريب انه إذا تصدق بالمال صار مديونا للمالك بالمثل أو القيمة و هذا الدين أيضا مجهول المالك فيجب التصدق به أيضا و يكون ضامنا للمالك بالمثل أو القيمة و هلم جرا إلى ما لا نهاية له و لا يخفى ما فيه فان لزوم التسلسل لا يرفع الضمان بالتصدق و إنما يوجب عدم التصدق بعد الضمان لأنه هو الموجب للتسلسل. و هذا نظير ما يقال في الآية الشريفة و هي قوله تعالى:

وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا) فان رد التحية أيضا تحية فيجب رده و هلم جرا فيلزم التسلسل. فان التسلسل في هذا إنما يرفع وجوب التحية في جواب ردها لا انه يرفع وجوب ردها و هكذا مثل ذلك قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) فإنه يلزم التسلسل لكن لزوم التسلسل لما كان من قتل النفس

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 467

بالنفس التي هي القصاص للنفس المقتولة كان ذلك مرفوعا لا أن النفس لا تؤخذ بالنفس. سلمنا لكن الإجماع بل ضرورة المذهب على عدم التصدق بالضمان لمجهول المالك يكون موجبا لتقييد أدلة التصدق بمجهول المالك بغير ما كان مجهول المالك ضمانا لمجهول المالك الذي تصدق به فلا يلزم التسلسل للتقييد الموجود في أدلة التصدق بمجهول المالك الموجب لعدم شمولها لضمانه الحاصل بالتصدق به على أن ذلك لا يجب على القول بالتضمين و التغريم إذا ظهر المالك و طالب بماله المتصدق به كما هو المستفاد من رواية وديعة اللص المتقدمة ص 452 فإنه على ذلك لم يكن بالتصدق دينا على المتصدق بل إنما يغرم إذا ظهر المالك و عليه دفعه للمالك لا انه يتصدق به. (و أما إذا كان مجهول المالك قد تردد بين محصورين) و غير خارج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحيث يقدر على إيصال المالك لكل واحد منهم فلا إشكال في عدم شمول الأخبار المتقدمة له لانصرافها عنه و لذا لم يتمسك بها في هذا المورد أحد من الفقهاء. فإن أمكن التصالح بينهم فهو لأنه قد حصل رضا صاحب المال و إن لم يكن ذلك فمقتضى تنجز التكليف عليه بالرد للمالك و عدم إمكان الامتثال التفصيلي هو الاحتياط بأن يدفع العين لأحدهم و يسترضي الباقين بدفع القيمة أو أزيد منها لهم. و لكنه لا يخفى ما فيه فان أدلة الضرر ترفع مثل هذا الاحتياط. نعم إذا كان أخذ المال بسوء اختياره و بقصد العدوان فلا تنفيه أدلة الضرر. و يمكن أن يقال إن الواجب هو التخلية بين المالك و صاحبه فيتخلى عن المال لهم كما تقدم ص 444 من أن

الرد الواجب هو التخلية بين المال و صاحبه لا تسليم المال و إيصاله لصاحبه. و قد يقال بوجوب دفعه للحاكم الشرعي لأن للحاكم الشرعي الولاية على المال الممتنع تسليمه لمالكه و لا يخفى ما فيه فان الحاكم الشرعي لا دليل على ولايته على المال مع حضور صاحب المال و عدم امتناعه عن أخذه. و قد يقال بالقسمة بينهم أخذا من بعض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 468

الأخبار الواردة في الوديعة المرددة بين شخصين و حيث عرفت أن الواجب هو التخلية بينهم و بين المال فمع اتفاقهم على أن المال لأحدهم أو ادعاء بعضهم المال دون الباقي و قلنا بحجية الدعوى بلا معارض فلا كلام و مع التنازع يرفع أمرهم لحاكم الشرع فإن أقام أحدهم البينة أو حلف بأنه له فالمال له و مع التساوي بأن لم يقم أحدهم البينة و لم يحلف أحدهم أو أقام الجميع البينة أو حلفوا فالحكم هو التنصيف مع اليمين أو القرعة مع اليمين و تحقيق ذلك و تنقيحه يطلب من كتاب القضاء و من كتاب الوديعة فقد حرر الفقهاء (ره) ذلك مفصلا، و (أما إذا كان مجهول المالك مرددا بين محصورين) و لكن بعض الأطراف خارج عن محل الابتلاء بأن كان ممتنع الإيصال له فيكون أمره دائرا بين وجوب الرد و بين وجوب المحافظة عليه فيجب عليه المحافظة على المال و الفحص عن المالك لأنه مقدمة للرد فان عرف المالك فهو و إن لم يعرفه احتاط و إن لم يتمكن من الاحتياط تخير بين التخلية بينه و بين الطرف الغير الخارج عن محل الابتلاء و بين المحافظة عليه حتى يجي ء مالكه لدوران أمره بين واجبين لا يمكن

الجمع بينهما.

الأراضي الخراجية و مال الخراج و المقاسمة

و (منها ولايته على التصرف في الأراضي الخراجية و على مال الخراج و المقاسمة) و الأراضي الخراجية هي التي فتحها المسلمون بإذن الإمام عنوة أي بالقهر و الغلبة و كانت محياة حين الفتح و هي للمسلمين قاطبة حتى المتجددين بالولادة بالإجماع و الروايات المتظافرة و التصرف فيها منوط بنظر الامام (ع) لأنه المتولي لشؤون المسلمين فيما يرجع لهم لكونه الوالي عليهم و لصحيح ابن أبي نصر و ما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى و قد أشبعنا الكلام في ذلك في شرح المكاسب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 469

و (الخراج) ما يضرب على الأراضي المذكورة من النقود كالأجرة عليها. (و المقاسمة) ما يضرب عليها من حاصل الزرع كالأجرة عليها و ليس لهما مقدار معين في الشرع بل مقدارهما بنظر المتولي لشؤون المسلمين بحسب ما تقتضيه مصلحتهم. و قد يسميان بالقبالة و بالطقس و بالميري، و قد يطلق الخراج على المقاسمة كما في مرسلة حماد بن عيسى عن أبي الحسن (ع) حيث قال: الأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة بيد من يعمرها و يحيها على صلح ما يصالحهم عليه الوالي على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان و على قدر ما يكون لهم صالحا و لا يضر بهم الحديث.

و لا ريب في أن الفقيه في زمن الغيبة الجامع لشرائط الولاية له الولاية على تلك الأراضي الخراجية لكونها راجعة للمسلمين و هو وليهم فيؤجرها بما يراه من المصلحة كما أن له الولاية على صرف أجرتها في مصالح المسلمين لولايته عليهم

أرض الجزية و الذمة

و (منها ولايته على المال الذي يؤخذ على أرض الجزية) و هي الأرض التي صولح

أهلها على أن الأرض لهم و عليها طقسها بحسب ما يصالحهم ولي المسلمين من النصف أو الثلث أو غير ذلك و هذه تسمى بأرض الجزية و ارض الذمة و هي تكون ملكا لأربابها يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكه ليس عليهم شي ء سوى الضريبة المجعولة عليهم بالصلح و إذا أسلم أهلها طوعا كانت لهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 470

مال الجزية

و (منها ولايته على مال الجزية) و هي الضريبة التي تؤخذ على رؤوس الكفار أو أراضيهم الذين هم أهل الكتاب و هم اليهود و النصارى و المجوس لإقامتهم بدار الإسلام: و قد روى عن الخاصة و العامة ان النبي (ص) كان يوصي أمراء السرايا بالدعاء للإسلام قبل القتال فإن أبوا فإلى الجزية فإن أبوا قوتلوا. و اما ما عدى الكتابيين فلا تقبل منهم للإجماع المحكي عن الغنية و غيرها و لقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. و تقدير الجزية بنظر الامام بحسب ما يطيقونه كما هو مقتضي صحيح زرارة و محكي الإجماع عن الغنية و عن السرائر نسبته إلى أهل البيت (ع). و لا يخفى ان مصرفها إنما هو في مصالح المسلمين العامة كما هو شأن كل ما يرجع لهم من الأموال.

[التنبيه الرابع عشر] عدم سماع الدعوى بعدم الأهلية على الحاكم إلا مع البينة

(الرابع عشر من تنبيهات الولاية) انه لا إشكال في سماع الدعوى من أحد الرعية على الحاكم الشرعي في الحقوق المالية كالعقار لأنه من هذه الجهة كغيره من الرعية فتشملها إطلاقات أدلة سماع الدعوى و لا ينافيها ثبوت الرئاسة العامة له فقد حضر أمير المؤمنين عليه السّلام مع اليهودي في مجلس القضاء، و اما الدعوى بخلل حكمه أو فساده أو بعدم أهليته للحكم أو جوره في حكمه أو خطأه فيه فلم تسمع بحيث يرتب عليها القضاء على الحاكم بالحلف أو النكول على القول به و ذلك لما هو المشهور بل المحكي عليه نفي الخلاف و الإجماع و للزوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 471

الفساد باجتراء الناس على تحليف الحكام المنصوبين لاستقامة النظام حيث ينفتح باب الدعاوي عليهم لان كل محكوم عليه يكون بإمكانه اقامة الدعوى بذلك على الحاكم عليه حتى الحاكم

الثاني الذي حضر عنده لإقامة الدعوى على الأول بل حتى الثالث و هلم جرا مضافا الى ما فيه من الحزازة و الغضاضة على الحكام بإحضارهم مجلس القضاء و هذا مما يوجب امتناع الحكام لفصل الخصومات فلا يعقل أن يشرع اللّه تعالى مثل هذه الاحكام كيف و الحكومة منصب نبوة و إمامة و أمانة و قد أمضى الشارع إنشائه الحكم و فوض أمره إليه من غير رد مع احتمال ذلك فيه و جعل رده كفرا و كيف تصدق الدعوى عليه من المدعي مع انه متهم بالعداوة و البغضاء له فلا يحتاج الحاكم إلى البينة على صحة حكمه و لا إلى اليمين منه بصحة حكمه باعتبار انه منكر للدعوى المذكورة عليه و هي الدعوى بفساد حكمه من دون فرق في ذلك كله بين ما إذا كان الحاكم المدعي عليه حاضرا بمجلس الدعوى أو كان غائبا فقد ذكر الأصحاب انه لا يلزم بالحضور مع المدعي إلا إذا كانت له البينة على دعواه فتسمع لعموم أدلة البينة (إن قلت) ان عدم سماع الدعوى إن كان من جهة عدم لزوم الدعوى كما ذكروه في كتاب القضاء من أن شرط سماع الدعوى هو لزومها بأن يترتب على المدعى عليه بعد ثبوت الدعوى شي ء قابل للإلزام و لذا لا تقبل دعوى البيع الفضولي على مالك المال و فيما نحن فيه لا يلزم الحاكم بشي ء لو صحت الدعوى و إنما يؤخذ ما أخطأ فيه من بيت المال (فلا وجه له) إذ لو كان الأمر كذلك فلا فرق بين صورة وجود البينة على عدم صلاحية الحاكم و بين عدمها لأن الدعوى لم تكن لازمة فلا تسمع مضافا إلى أن الدعوى المذكورة من الدعاوي اللازمة

لو ادعاها المحكوم عليه لأنه يكفي في لزوم الدعوى هو حصول الحق بعد ثبوت الدعوى و فيما نحن فيه لو ثبتت الدعوى على المدعى عليه و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 472

الحاكم وجوب دفع المال من بيت المسلمين إن لم تكن عين المال موجودة كما سيجي ء إن شاء اللّه توضيح ذلك.

و (إن كان عدم سماع الدعوى) من جهة عدم شمول موازين القضاء لهذه الدعوى باعتبار ان موازين القضاء من الإقرار و اليمين و النكول و غيرها المتبادر من أدلتها انها موازين فيما إذا كانت الدعوى تتعلق بحق مالي واقعي، و الدعوى المذكورة ليست كذلك لأن دعوى عدم صلاحية الحاكم للحكم أو جوره لا تعرض فيها للحق الواقعي الذي حكم به الحاكم لا نفيا و لا إثباتا لإمكان ثبوت حق المدعي مع عدم صلاحية الحاكم للحكم أو جوره. (ففيه أيضا) انا لو سلمنا ذلك فهو يقتضي عدم سماع الدعوى حتى مع البينة لأن البينة أيضا من موازين القضاء و (إن كان عدم السماع للدعوى) من جهة أثارة الفساد و تعطيل الاحكام و إهانة الحكام و تزهيدهم عن إجراء الأحكام (ففيه) ان ذلك يقتضي عدم السماع حتى مع البينة. (قلنا): عدم السماع لها من جهة حكم العقل بأن فتح هذا الباب على الحكام يولد الفساد و لعله يغلق باب القضاء لأنه كل من يحكم يمكن أن يدعي عليه بذلك المحكوم عليه ثمَّ الحاكم الآخر الذي يرجع له أيضا يدعي عليه ذلك المحكوم عليه و هلم جرا فينسد باب الاستفادة من القضاء بخلاف ما إذا قامت البينة فإنه ينقطع مع عدمها و لا غضاضة على الحكام في سماعها عليهم لندرة قيامها عليهم. (و لو

سلمنا) اختصاص موازين القضاء بالحق المالي الواقعي فنقول: ان البينة إنما تسمع معها الدعوى لا باعتبار ما قام عليها من أدلة موازين القضاء بل من جهة الأدلة الدالة على حجيتها في سائر الموضوعات مع قطع النظر عن القضاء.

(إن قلت) ان سماع البينة على الحاكم يوجب نقض حكمه بغير ما جوزوه به لأن البينة لا تفيد سوى الظن و لا يجوز نقض حكم الحاكم بالظن بل ان تخصيصهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 473

محل جرح الشهود قبل حكم الحاكم و انه بعده لا تسمع دعوى الجرح عليهم يفهم منه بطريق الأولوية عدم سماع الدعوى على الحاكم بعد الحكم لأنه أعظم مرتبة من الشهود (قلنا) ان سماعها ليس من الرد عليه بل هو من بيان خطأ الحاكم الذي هو غير معصوم كذا في الجواهر و لعله (ره) يريد ان البينة تثبت انه لم يحكم بحكمهم (ع) و دليل حرمة الرد إنما يدل على حرمة الرد على ما كان من حكمهم (ع) فالبينة على ذلك تنفي الموضوع لحرمة الرد لا انها يثبت بها الرد و لذا لو أقيمت على ثبوت الحق للمحكوم عليه بعد صدور حكم الحاكم عليه لم تقبل لأنها تثبت الرد على حكمه (و بعبارة أخرى) ان أدلة حجية البينة على عدم أهلية الحاكم أو خطأه مقدمة على أدلة حرمة الرد لأنها تجري في موضوع الرد فتكون حاكمة أو واردة عليها.

(إن قلت) ان الدعوى من المحكوم عليه على الحاكم تكون من قبيل دعوى اوّلي عليه على مولاه لأن الحاكم ولي على المحكوم عليه (قلنا) لا نسلم عدم قبولها عليه، و لو سلمناها فلا نسلم هذا النحو من الولاية يكون مانعا من القبول بل

هو عين المدعي.

(إن قلت) ان البينة لا تقبل لأنه قد أقر بخلافها بفعله و هو ترافعه مع خصمه عند الحاكم المذكور فان ترافعه عنده دليل على اعترافه بصلاحيته للحكم فيكون بفعله ذلك قد كذّب البينة التي أقامها لأن به قد أقر بصلاحية الحاكم (قلنا) نمنع التكذيب لاحتمال جهله ببعض شروط الحاكم ثمَّ علم بها بعد ذلك أو اعتقد وجودها ثمَّ انكشف له عدم وجودها أو ألجأ إلى الترافع عنده. مضافا إلى أن الإقرار و إن كان حجة لكن لا نسلم ان الفعل الدال عليه أيضا حجة إذ لا دليل على حجيته. نعم في بعض الموارد ثبتت حجيته كما في أخذ القناع من رأس المطلقة في الرجوع عن طلاقها و نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 474

(ثمَّ) ان بعضهم خص كلام الفقهاء بما إذا كان المدعي على الحاكم مدعيا و الحاكم مدعي عليه بقرينة قولهم ان دعواه لا تسمع عليه و ليس له إحلافه، و أما إذا ذكر ما يكون معه منكرا و مدعى عليه كما إذا قال لم يثبت عدالتك أو اجتهادك أو جمعك لشرائط الحكومة و قد حكمت على و ألزمتني بما لا يلزمني شرعا، فذهب إلى أنه لا إشكال في قبول قوله و مطالبة الحاكم المزبور بالبينة على جمعه للشرائط إلا إذا كان الحاكم الثاني معلوما له باليقين أو بالبينة أو نحو ذلك من الأدلة المعتبرة اجتهاده و جمعه لشرائط الحكومة (و لا يخفى ما فيه) فإنها أيضا لا تسمع لعين ما ذكروه من العلة من لزوم الفساد و نحوه و الحط من كرامة أمناء اللّه على دينه. و هكذا ذكر بأنه تسمع الدعوى على الحاكم فيما لو ادعى المحكوم

عليه على الحاكم بمثل ما حكم به لصاحبه أو قيمته كأن ادعى على الحاكم دارا أو قيمتها بزعم ان الحاكم قد سبب إتلاف ماله بحكمه به لغيره فله تغريمه إذ الغرم عليه لا على بيت المال لعدم أهليته في نظره للحكم و ذكر (ره) ان الظاهر عدم الخلاف في سماع هذه الدعوى على الحاكم و إن لم تكن بينة لأنها كسائر الدعاوي عليه، و قد تقدم ان الحاكم في دعاوي الحقوق تسمع عليه الدعوى كغيره. و لا يخفي ما فيه فان العلة التي ذكرها القوم لعدم سماع الدعوى من لزوم الفساد موجودة هنا بأي نحو كان مصب الدعوى لرجوعها إلى أمر واحد و هو لزوم سماع الدعوى على الحاكم بعد حكمه و نفوذه. (نعم) الدعوى بأن الحاكم قد أقر بفسقه أو بعدم أهليته للحكم تسمع لأن الإقرار أمر حادث بعد الحكم يفسده و ليس فيه اهانة على الحاكم و لا فتح باب الفساد فتشمله أدلة موازين القضاء.

و أما (الدعوى على المعزول عن القضاء) فقد ذهب الأكثر إلى سماعها لأنه يكون كغيره من الرعية، و الدعوى عليه شرعية و مرجعها الى المال فان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 475

الحاكم لو أقر بذلك لزمه المال. و العمدة عموم أدلة الدعوى و البينة و اليمين فاذا ادعى عليه شخص بأن حكمه قد صدر منه عليه حال فسقه أو عدم اجتهاده أو صغره أو نحو ذلك سمعت الدعوى فيحضره الحاكم الثاني و قد حكي عن الشيخ في المبسوط ذهابه الى أن عليه البينة بأن حكمه كان صحيحا و إلا ثبت عليه الحق لأنه اعترف بالحكم و نقل المال الى غيره فهو يدعي ما يزيل الضمان عنه

فلا يقبل منه، ورد بأن نقل المال لا يوجب الضمان مطلقا و إنما يوجبه مع التفريط و هو لم يفرط و إنما نقل المال بحسب الموازين الشرعية و إنما عليه اليمين و ذهب العلامة و أكثر المتأخرين و هو المحكي عن الشيخ (ره) في الخلاف انه يصدق باليمين لادعائه الظاهر كسائر الأمناء إذا ادعى عليهم بالخيانة، و ذهب بعض العامة إلى أنه يصدق بغير يمين لأنه كان أمين الشرع فيصان منصبه عن التخلف و الابتذال و ذهب آخرون إلى أنه لا تسمع الدعوى عليه إلا إذا أقام البينة لأنه أمين الشرع، و الظاهر ان أحكامه وقعت وفق الصواب فيعمل بها على الظاهر إلا أن تقوم الحجة بخلافه و لأنه يبطل الدواعي إلى الحكم و يؤدي الى امتهان الحكام و زهدهم عن الاحكام.

[التنبيه الخامس عشر] الحقوق التي يتوقف استنقاذها على إذن الحاكم الشرعي

(الخامس عشر) ان الحق إن كان دفاعا عن النفس أو العرض أو المال جاز القيام به إن خاف على نفسه القتل و لا يتوقف على إذن الحاكم الشرعي للإجماع و للصحيح أو الحسن عن أبي عبد اللّه (ع) قال أمير المؤمنين (ع):

ان اللّه ليمقت الرجل الذي يدخل عليه اللص في بيته فلا يحارب. و روى عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 476

أبي جعفر (ع) قلت له: اللص يدخل في بيتي يريد نفسي و مالي؟ قال: اقتله فأشهد اللّه و من سمع ان دمه في عنقي. و في خبر عبد اللّه بن سنان من قتل دون مظلمة فهو شهيد (نعم) حكي الإجماع على وجوب الدفاع بمراعاة الأسهل فالأسهل فإن اندفع بالزجر دفع به و إلا فبالضرب و إلا فبالقتل و إن كانت النصوص الكثيرة خالية عن هذا التقييد و دالة على

جواز الدفاع بالقتل مطلقا، و يذهب دم المدفوع هدرا جرحا أو قتلا للإجماع المحكي على ذلك (و إن كان الحق عقوبة) فإن كان حدا أو تعزيرا وقف استيفائه على إذن الحاكم على ما هو المشهور بل نفي الخلاف عنه في الكفاية و أنوار الفقاهة إلا أن يدخل في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كالضرب على المنكر و كذا تأديب الآباء للأطفال و كذا تأديب المعلم لهم لكن يشترط في الأخير الاذن من وليهم، و يدل على ما ذكرناه رواية حفص بن غياث إقامة الحد الى من اليه الحكم، بل هو قضية نصب الحاكم عموما لزجر الناس و سياستهم و حفظ شؤونهم (نعم) المحكي عن الشيخ و جماعة ان الرجل إذا وجد مع زوجته رجلا يزني بها و علم بمطاوعتها له فله قتلهما و هكذا من سب النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) فإنه يقتل الساب بدون إذن الامام كما هو المشهور و عن الغنيمة الإجماع عليه و يقتضيه إطلاق النصوص و هكذا مدعي النبوة لظهور النصوص في ذلك و من يطلب زيادة المعرفة فليراجع كتاب الحدود (و إن كان الحق قصاصا) فالمشهور بل نقل الإجماع على توقف استيفائه على إذن الحاكم. لعظم خطره و لأن استيفائه وظيفة الحاكم على ما يقتضيه نصبه لزجر الناس و سياستهم و لعدم معرفة العوام بمواقع القصاص من دون مراجعة الحاكم و لأن فائته لا يتدارك. و ذهب شبل كاشف الغطاء (ره) الحسن في أنوار فقاهته الى عدم التوقف لقوله تعالى فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً و لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ و لقوله تعالى النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وَ الْجُرُوحَ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 477

قِصٰاصٌ

و أما ما ذكر من الاعتبار فهو لا يصلح لمعارضة العمومات و لضعف الإجماع المنقول (و إن كان الحق دية) فحكمه حكم الدين الذي سيجي ء ان شاء اللّه الكلام فيه (و إن كان الحق غير عقوبة و غير مالي) كالشفعة و الوصاية و الزوجية و الطلاق و الاستمتاع و الخيارات و نحو ذلك فله استيفائها من دون الرجوع لحاكم الشرع مع علمه بحقه اجتهادا أو تقليدا أو ضرورة أو إجماعا و ذلك لأن الأدلة الدالة على جواز الاستيفاء في العين و الدين بدون الرجوع الى الحاكم التي ستجي ء إن شاء اللّه تدل بالطريق الاولي على جواز استيفاء ذلك بدون الرجوع الى الحاكم و استدل في المستند على ذلك بالإجماع و الأصل الخالي عن المعارض (و إن كان الحق مالا فان كان عينا في يد إنسان) فله انتزاعها منه و لو قهرا لقوله (ص): الناس مسلطون على أموالهم. فإن مقتضى إعطاء السلطة للمالك هو جواز أخذه من يد الغير. و قوله (ص): لي الواجد يحل عقوبته.

فإنه يدل على جواز العقوبة للاستنقاذ.

(إن قلت): انه وارد في الدين فلا يشمل صورة وجود العين (قلنا):

المورد لا يخصص الوارد مع انه إذا فرض في الدين جواز ذلك فبالطريق الأولى يجوز ذلك عند وجود العين.

(إن قلت) ان غاية ما يستفاد من الحديث حلية عقاب الواجد المماطل و لكن لا دلالة فيه على ان المعاقب هو صاحب المال أو الحاكم الشرعي فهو نظير ما دل على ان من زنى يعاقب في سكوته عن المعاقب (قلنا) هو ظاهر في أن من له المال هو المعاقب و لذا فهم الأصحاب في باب الدين من الحديث ان لصاحب الدين العقاب، و أما في الحدود فمن

جهة الأدلة الخاصة على ان المقيم لها هو حاكم الشرع فتكون رافعة لذلك الظهور (نعم) يستثنى من ذلك أمور (أحدها) لزوم الفتنة من ذلك فان لزمت الفتنة وجب رفع أمره لحاكم الشرع لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 478

مقتضى نصبه وليا عاما هو الرجوع له فيما يوجب الفتنة بين الناس، و يكفي احتمال الفتنة احتمالا عقلائيا معتدا به.

(ثانيها) أن ينحصر استنقاذه منه بالمقدمة المحرمة كالدخول لداره أو ضربه فإنه يجب عليه أن يستنقذه منه بالرفع الى الحاكم إذا أمكن استنقاذه به لأنه مقدمة محللة. و لا يخفى ما فيه فان قوله (ص): لي الواجد يحل عقوبته.

يدل على حلية العقوبة للاستنقاذ فضلا عن جواز فعل المحرم للاستنقاذ (نعم) لو وضعها في ملك الغير من دون علم الغير و استلزم إخراجها ضرر على الغير لم يجز إخراجها بدون اعلامه لحديث لا ضرر و لأنه لم يصدق اللي.

(ثالثها) ما إذا لزم الضرر على الخصم فإن أدلة الضرر حاكمة على دليل السلطنة فلا بد أن يرفع الأمر لحاكم الشرع في هذه الصورة (و فيه) ان قوله (ص): لي الواجد. يدل على جواز العقوبة فضلا عن جواز الضرر، مضافا الى أن قاعدة الضرر معارضة بمثلها لان عزل الإنسان عن ماله ضرر عليه فتجي ء قاعدة السلطة بلا معارض.

(رابعها) إذا اعتقد الخصم ان ما بيده هو ماله و كان استنقاذه منه فيه ضرر عليه فإنه لا يصدق اللي و المماطلة عليه و لا يصح التمسك بقوله (ص):

الناس مسلطون. لحكومة أدلة الضرر عليه (و فيه) ان صدق اللي على الخصم ظاهر (نعم) يمكن أن يقال ان عدم سلطنة المدعي على المنكر يمنع عن الانتزاع القهري، كيف و جعل الشارع للرئيس

الحاكم إنما هو لازالة الفساد، و الانتزاع القهري من المنكر من أفراد الفساد (و إن كان الحق دينا) يعترف به الغريم لم يجز له انتزاعه قهرا بدون إذن الحاكم للإجماع المنقول و لأن للغريم التخيير في جهات القضاء فلا يتعين حق الدائن في شي ء من ماله بدون تعينه و أما إذا كان غائبا أو ممتنعا عن أدائه أو كان جاحدا أو ممنوعا من التوصل لماله و للغريم بينة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 479

تثبت حقه عند الحاكم و كان الوصول الى الحاكم ممكنا له فذهب المحقق و الفخر على ما حكي عنهما الى وجوب رفع أمره الى الحاكم لأن له الولاية العامة له و لا يجوز له الأخذ منه بدونه و لأن الأصل الاولي عدم جواز الأخذ و التصرف و عدم صيرورته ملكا له إلا بإذن الحاكم للإجماع و النص على ان الحاكم ولي الممتنع كما سيجي ء ان شاء اللّه. و ذهب المشهور الى جواز الأخذ من عين المال أو بيعه و أخذ مقدار حقه من ثمنه و ان لم يرفع أمره الى الحاكم و لم يأخذ منه الاذن لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ- وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ و خبر جميل بن دراج: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل يكون له على الرجل دين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أ يأخذه و ان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم. و قوله (ص):

لي الواجد يحل عقوبته و عرضه. و في الصحيح قلت لأبي الحسن (ع): اني أعامل قوما فربما أرسلوا الى فأخذوا مني الجارية و الدابة فذهبوا بهما مني ثمَّ

يدور لهم المال عندي فآخذ منه بقدر ما أخذوا مني؟ فقال: خذ منهم بقدر ما أخذوا منك و لا تزد عليه. و احتمال ان هذا إذن منه (ع) في الأخذ لا بيان للحكم الشرعي لا وجه له لان الظاهر انه حكم شرعي للمسألة فيحمل اللفظ عليه (و إن تعذر إثبات حقه على الغريم عند الحاكم الشرعي) لعدم البينة أو عدم إمكانه الوصول اليه أو لم تكن للحاكم يد مبسوطة فله الاستيفاء منه بمقدار ماله و يسقط اعتبار رضا المالك نافيا في الجواهر عن ذلك الخلاف عندنا و للإجماع المنقول و للأدلة السابقة بل له الاستيفاء حتى من المال الذي غير الجنس الذي بذمته بل له الاستيفاء حتى المال الذي أودعه عنده و ذلك لإطلاق الأدلة السابقة و لصحيح البقباق في رجل اسمه شهاب كان قد أخذ منه رجل ألف درهم ثمَّ استودعه بعد ذلك ألف درهم فقال له أبو العباس: خذها مكان الألف التي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 480

أخذها منك، فأبى شهاب، قال فدخل شهاب على أبي عبد اللّه فذكر ذلك له فقال اما أنا فأحب أن تأخذها و تحلف. و خبر على بن سليمان قال كتبت إليه في رجل غصب رجلا مالا ثمَّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أ يحل له حبسه عليه؟ فكتب (ع): نعم يحل له ذلك إن كان بقدر حقه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه و يسلم الباقي اليه إن شاء اللّه. و أما صحيح معاوية بن عمار عن أبى عبد اللّه (ع) قلت له: الرجل يكون لي قبله حق فيجحدنيه ثمَّ يستودعني مالا ألي أن

آخذ بدل ما عنده؟ قال: هذه الخيانة فهي مضافا الى ظهورها في الكراهة لأن ذلك ليس بخيانة حقيقة و إنما يشبه الخيانة، فمقتضى الجمع هو حمله على الكراهة لأظهرية أخبار الجواز من أخبار المنع. و على ما ذكرناه يجوز للفقير تقاص الزكاة و الخمس و رد المظالم من الغني المماطل أو الجاحد، و هل يجوز لحاكم الشرع ذلك للإيصال لأهله، قال في المستند: نعم يجوز بل يجب لوجوب دفع الظلم عن المظلوم على حاكم الشرع. و قال السيد (ره) في الملحقات: يجوز للحاكم الشرعي من باب الولاية الشرعية الاقتصاص من مال من عنده الزكاة أو الخمس أو المظالم مع جحوده أو مماطلته إذا لم يمكن له إجباره على الأداء- انتهى. و الأمر واضح مما تقدم فان حكمه حكم العين الموجودة عند الجاحد إذا كانت العين موجودة و حكم الدين إن كانت العين تالفة. (ثمَّ لا يخفى) أن المقاصة لا تجوز ممن ثبت الحق له عند حاكم الشرع، و لا تجوز المقاصة لمستثنيات الديون كثياب بدنه و قوت يومه و فرس ركوبه إذا لم يكن له غيرها، و كذا لو حجر على ماله الحاكم، و كذا لو كان عليه ديون تزيد على تركته فإنه ليس له تقاص الزائد على حصته بعد التوزيع لانتقال ماله بعد موته الى الديان. و لا تجوز المقاصة من الغير لمن لا يعلم ان له الحق عند ذلك الغير (نعم) لو قامت عنده بينة جاز، و لا تجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 481

عند خوف الفتنة و كثرة الفساد و تحقيق ذلك يطلب من محله (قال صاحب أنوار الفقاهة) شبل جدنا كاشف الغطاء (ره) و لا بد في المقاصة

من النية إلا في الدينين المتساويين فيقع التهاتر قهرا، و في لزوم الكلمات المذكورة في الاخبار عند المقاصة و هي أن يقول: «اللهم اني لا آخذه ظلما و لا جناية و إنما أخذته بمكان مالي الذي أخذ مني لم أزد عليه شيئا» وجه، و الأوجه عدم الوجوب لظهور الاستحباب من الروايات و لعدم إيجاب الأصحاب له و لخلو أكثر الاخبار عنها فتحمل على ارادة تذكر نية المقاصة مخافة العدوان أو استحباب ذكر اللّه و التنزه عن أكل أموال الناس بالباطل. قال (ره): و الظاهر ان المقاصة بمنزلة المعاوضة اللازمة فلا يجوز الفسخ فيها بعد حصولها إلا بظهور عيب أو غبن و يتولى هذه المعاوضة طرف واحد و هو المقاص للدليل. و يجوز في المقاصة أخذ الجنس و غير الجنس و يجوز في غير الجنس أخذه عوضا حين الأخذ و يجوز بيعه و اقتصاص ثمنه بل و يجوز بيع ثمن الثمن الى أن ينتهي إلى موافق جنسه و قدره و لا يجب الانتظار في البيع الى وقت الغلو كما لا يجوز البدار مع تفويت المصلحة في مال الغير، و لو توقفت المقاصة على مجرد الدخول الى دار الغير من دون اذنه فلا يبعد الجواز مع ضمان أجرة المثل لدخوله و خروجه و لكن بشرط خوف الاستيذان منه و إلا وجب الاستيذان منه. و لو توقف قبض حقه على قبض زائد جاز و لعله لأدلة نفي الضرر الحاكمة على أدلة النهي عن التصرف في مال الغير و يدل على ذلك أيضا خبر على بن سليمان المتقدم. و عليه يكون الزائد أمانة عنده يجب إرجاعها إلى صاحبها فان لم يمكن إيصالها لخوف و شبهه ارجع أمرها إلى الحاكم

و لا يبعد جواز التصدق بها و لو تلفت الزيادة ففي ضمانها وجهان و الأوجه إن كانت مشاعة فهي مضمونة كالأصل لأصالة ضمان اليد لما أخذته و إن كانت معينة و كان قبضها لمكان الضرورة فلا ضمان. و لم يعتني (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 482

بالقول بعدم الضمان مطلقا لكونه امانة و الامانة غير مضمونة و لإذن الشارع بالأخذ و إذن الشارع لا يستعقب ضمانا. و لعله لمنع كونه أمانة و منع ان الأمانة الشرعية غير مضمونة و منع كون الاذن لا يستعقب ضمانا.

[التنبيه السادس عشر] الاعمال الموجبة لضمان المجتهد و ما يكون ضمانها في ماله أو بيت المال

(السادس عشر) ان الحاكم الشرعي الذي له الولاية إذا طلب من شخص عملا كالصعود إلى نخلة أو النزول إلى بئر أو تهديم دار فمات أو جرح أو تلف منه شيئا فلا يخلو اما أن لا يكون الحاكم قد ألزمه به فلا ضمان لأن الموت أو غيره كان باختياره و إن كان قد ألزمه به فان كان يرجع لمصلحة المسلمين فضمان الدية من بيت مال المسلمين لأن إلزامه باعتبار مصلحتهم و من له الغنم فعليه الغرم إلا في الإلزام على الجهاد و إن كان العمل يرجع لشخص الحاكم فضمان ديته أو تلف شي ء منه من مال الحاكم نفسه، هذا إذا كان العمل لم يوجب القتل غالبا و إنما يوجبه في شذوذ الأحوال و ندرتها، و أما لو كان يوجبه غالبا كالإكراه على تناول السم فيجب أن يقتص من الحاكم إن كان العمل يعود لشخصه لأنه كان ذلك عدوان منه عليه. هذا كله على ما هو المشهور من عدم ثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأعم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 483

تذنيب [الولايات الخاصة الثابتة للمجتهد و الفرق بينها و بين الولاية العامة.]
اشارة

فيما ذكره الفقهاء للمجتهد من الولايات الخاصة قد تقدم الكلام في الولاية العامة للمجتهد، ثمَّ انه ينبغي لنا التعرض لما ذكره الفقهاء للمجتهد من الولاية على أمور خاصة من قبل الشرع، و الفرق بينهما واضح فان ما كان من الولاية الشرعية في المورد الخاص مستنده أدلة الولاية العامة رجعت الولاية فيه للولاية العامة، فإن قلنا بثبوتها ثبتت في هذا المورد و إلا فلا و ما كان مستنده أدلة خاصة كانت الولاية فيه غير راجعة للولاية العامة فلا يتوقف ثبوتها فيه على ثبوت الولاية العامة. (و تظهر الثمرة في ذلك) ان ما كان مستندها أدلة

الولاية العامة يعتبر في ثبوتها للمجتهد جامعيته للشرائط المعتبرة فيها المتقدمة ص 377 دون ما إذا كان مستندها الأدلة الخاصة فلا يعتبر فيها تلك الشرائط من الأعلمية أو غيرها بل تكون نظير ولاية الأب و الجد و عدول المؤمنين فيقتصر على ما تقتضيه أدلتها و لهذا لم يشترط في ولاية المجتهد على أموال اليتامى و نحوها الأعلمية و جاز قيام المفضول بها مع وجود الأفضل لأن الدليل الذي قام عليها لم يعتبرها في ذلك و هكذا الكلام في غيرها. و دعوى اختصاص هذه التصرفات بالأعلم نظرا لكونها من مناصب الإمامة فلا بد أن يقتصر فيها على موارد العلم بالاذن من الامام و لا ريب ان الأفضل مأذون فيها و الأصل عدم الاذن للمفضول (فاسدة) بأن إطلاق الأدلة حاكم على هذا الأصل إلا ان دعوى الإجماع في كلام بعضهم على وجوب الرجوع الى الأعلم فيها توجب الاحتياط و إن كان هذا الإجماع لم يثبت عندنا. بل تظهر الثمرة أيضا في مسألة النيابة و الوكالة عنه فعلي تقدير ثبوتها من باب الولاية العامة صح له أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 484

ينيب أحدا عنه فيما له الولاية عليه لقيام الأدلة على ذلك كما تقدم ص 395 و اما على تقدير ثبوتها من باب الولاية الخاصة به لم يجز له أن يوكل عنه أحدا فيما كان له الولاية عليه إلا إذا قامت الدليل على جواز ذلك فلذا كان علينا أن نتعرض لها لتميز تلك الولايات انها من التي قام الدليل عليها بخصوصها أو انها من التي لم يقم الدليل عليها بخصوصها و كانت الولاية فيها من باب الولاية العامة.

ولاية المجتهد على الصغير

(منها) ولايته على الصغير، فان للفقيه

الولاية عليه ما لم يكن له ولي من أب أوجد أو وصي من أحدهما و إن لم نقل بالولاية العامة للفقيه للإجماع و الاخبار كصحيحة علي بن رباب قال: سألت أبا الحسن موسى (ع) عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولادا صغارا و ترك مماليك غلمانا و جواري و لم يوصي فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد و ما ترى في بيعهم فقال قال (ع): إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم و نظر لهم و كان مأجورا فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ قال:

لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم الناظر لهم فيما يصلحهم فليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم الناظر لهم فيما يصلحهم. و وجه الدلالة انها تدل على ثبوت الولاية لغير الأب و الوصي و الجد عند فقدهم. اما عند فقد الأب و الوصي فلمنطوق الرواية، و اما عند فقد الجد فلأنه لو كان موجودا لذكره لمعروفية ولايته بينهم و إذا ثبتت الولاية لغير هؤلاء الثلاثة فلا بد أن تكون ثابتة للفقيه إذ لا يحتمل غيره في مقابله، مضافا للإجماع المركب و هو ان كل من قال بثبوت الولاية عند فقد الثلاثة المذكورين قال بثبوتها للفقيه. و كصحيحة محمد بن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 485

إسماعيل بن بزيع في الكافي قال: مات الرجل من أصحابنا و لم يوصي فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله و كان الرجل خلف ورثة صغارا و متاعا و جواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير

اليه وصيته و كان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج. فذكرت ذلك لأبي جعفر (ع) فقلت له. يموت الرجل من أصحابنا و لم يوصي الى أحد و خلف الحواري فيقيم القاضي رجلا منا لبيعهن- أو قال-:

يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ قال فقال (ع): إذا كان القيم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس به. و مثله ما رواه في التهذيب في آخر الوصايا لكن بزيادة تقييد (عبد الحميد) ب (ابن سالم العطار) و هكذا بهذه الزيادة في مفتاح الكرامة. و هكذا بهذه الزيادة في المحكي عن نقد الرجال، و إن كان المحكي عن البهبهاني (ره) في التعليقة سقوط هذه الزيادة من نسخة التهذيب الموجودة عنده. و عن المحقق القمي (ره) في كتاب الحجر من أجوبة مسائله ان المراد منه عبد الحميد بن سالم. و كيف كان فوجه الدلالة ان القدر المتيقن من المماثلة هو الفقيه العادل لا سيما و محمد بن إسماعيل ابن بزيع من الفقهاء من مشايخ الفضل بن شاذان. و صحيحة إسماعيل بن سعد قال: سألت الرضا (ع) عن رجل يموت بغير وصية و له ولد صغار و كبار أ يحل شراء شي ء من خدمه و متاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك فان تولاه قاض قد تراضوا به و لم يستخلفه الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ قال (ع):

إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك، و الظاهر ان مراد السائل بالخليفة في قوله «و لم يستخلفه الخليفة» هو الخليفة الحق. و موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (ع)

عن رجل مات و له بنون و بنات صغار و كبار من غير وصية و له خدم و مماليك و عقد كيف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 486

يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس، و وجه دلالة هاتين الروايتين انهما دلتا على جواز بيع العدل و قسمة الثقة و لا شك في صدقهما على الفقيه الجامع للشرائط و النبوي المشهور السلطان ولي من لا ولي له. و المراد بالسلطان هو الفقيه الجامع للشرائط، كما حمله الفقهاء في بعض روايات المفقود زوجها و الوجه في ذلك انه لا يحتمل أن يكون في زمان الغيبة سلطان غيره مع ان الشارع قد جعل له السلطنة على المجانين و السفهاء و نحو ذلك فيصدق عليه لفظ السلطان فلا يصغي لما ذكره بعضهم من التشكيك في صدق السلطان عليه.

(إن قلت). ان رواية إسماعيل و سماعة يدلان على جواز تولي العدول مع وجود الفقيه. و يحكي عن الأردبيلي (ره) انه قد مال الى ذلك في شرح الإرشاد أيضا لهاتين الروايتين (قلنا) هذا مخالف لعمل الأصحاب الثابت بالتتبع و حكايات الإجماع على اختصاص جواز تصرف العدول بمال اليتيم بصورة فقد الفقيه (ثمَّ لا يخفى) ان هذه الأدلة لا يثبت منها إلا ولايته على الصغير مع فقد الجد و الأب و الوصي كما هو ظاهر مساقها و القدر المتيقن من الإجماع.

(ان قلت) ان الآية الشريفة و هي قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* قد دلت على جواز قرب ماله بالتي هي أحسن لكل أحد من الناس حتى لو كان الأب أو الجد أو الوصي موجودا. (قلنا) الآية

ليس فيها إطلاق من هذه الجهة و لا تدل على جواز قرب كل أحد من مال اليتيم و إنما هي ناظرة إلى ان الذي له حق القرب لا يجوز له أن يقربه إلا بالتي هي أحسن (ان قلت) ان الجد قد شملت الروايات المذكورة بإطلاقها صورة وجوده أيضا فتكون دالة على ولاية الفقيه مع وجود الجد (قلنا) الأدلة الدالة على ولاية الجد لما كانت تدل على أن ولايته مثل ولاية الأب بل مع التعارض تقدم على ولاية الأب كانت مخصصة لتلك الروايات بصورة فقدان الجد مضافا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 487

الى أن مساقها ظاهر في عدم وجود الجد، كما ان ظاهرها جواز التصرف في مال اليتيم بنحو التجارة و البيع و الشراء و الصلح و نحوها و لكنه مخصوص بصورة انتفاء المفسدة للإجماع و لقوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* و هكذا قوله (ع) «و انظرهم» في صحيحة ابن رباب المتقدمة، و هل يكفي عدم المفسدة أو لا بد من وجود المصلحة ظاهر الآية الثاني إذ مع عدم المصلحة لم يكن التصرف في مال اليتيم بالتي هي أحسن كما أن ظاهر الآية هو مراعاة الأصلح مع تعارضه بالصالح فلو كان بيعه صالحا و لكن إجارته أصلح وجبت الإجارة و بهذا يقيد إطلاق الروايات المتقدمة، هذا كله مع التصرف في ماله اما مع عدم التصرف كما لو كان المال مدفونا أو مودوعا عند الأمين فلا يجب ملاحظة الأصلح لعدم القرب اليه. كما ان الظاهر انه إذا بنينا على ولاية الفقيه في هذا المقام من جهة الأدلة الخاصة لا من جهة الولاية العامة فلا يجوز له طلاق زوجة

الصبي الدائمة و لا بذل المدة في زوجته المنقطعة لعدم الدليل على ذلك مضافا الى ما دل على ان الطلاق بيد من أخذ بالساق. نعم ذكر بعضهم ان الصبي إذا بلغ مجنونا فله الطلاق للروايات الدالة على جواز طلاق الولي عن المجنون.

و (الحاصل) ان مقتضى أدلة ولاية الحاكم على الأيتام هو جواز إجارتهم و استيفاء منافع أبدانهم و استيفاء حقوقهم المالية و غيرها كحق الشفعة و الفسخ بالخيار، و دعوى الغبن و الإحلاف ورد الحلف و حق القصاص في الدم و الجنايات و اقامة البينة و جرح الشهود و نحوها (نعم) وقع الكلام في ولايته على تزويج الصبي و الصبية كما كان لأبويهما و جديهما من طرف الأب فإن المشهور عدم ثبوت ولاية النكاح للحاكم الشرعي و نسب عدم الولاية له في الحدائق إلى الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع و احتمل الإجماع جماعة و قال صاحب المدارك في شرح النافع: انه المعروف بمذهب أصحابنا- انتهى. و أرسل الفتوى بذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 488

جملة من علمائنا المتقدمين إرسال المسلمات و تنظر في ذلك صاحب المسالك، و يمكن أن يستدل لهم. أولا بمفهوم الشرط في صحيح محمد بن مسلم عن أبى جعفر (ع) في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان؟ قال (ع): إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم، قلت: فهل يجوز طلاق الأب؟ قال (ع): لا و لا يخفي أن مفهومها معارض بمنطوق صحيحة ابن يقطين قال: سألت أبا الحسن (ع) أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين أو يزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين و ما أدنى حد ذلك الذي يزوجان فيه فاذا بلغت الجارية فلم ترضى فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك

إذا رضي أبوها أو وليها مضافا الى أن الأدلة الدالة على ثبوت الولاية له تكون مخصصة للمفهوم نظير الأدلة الدالة على ولاية الجد على التزويج. و ثانيا بمفهوم صحيحة محمد بن مسلم الأخرى قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الصبي يتزوج الصبية قال: إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز و لكن لهما الخيار إذا أدركا فإن رضيا بذلك فان المهر على الأب، قلت: هل يجوز طلاق الأب على ابنه في صغره؟ قال: لا و اشتمال ذيله على إثبات الخيار غير ضائر لأن خروج جزء من الخبر عن الحجية لا يضر بالباقي و الجواب عنها كالجواب عن الاولى.

و ثالثا خبر عبيدة بن زرارة المروي في البحار عن أبي عبد اللّه (ع) في الصبي يزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال (ع) ان كان أبواهما اللذان زوجاهما حيين فنعم و الجواب عنها كالجواب عن الاولى مع ما في تقييدها بالحيين. و رابعا ما رواه في الكافي في الصحيح و التهذيب في الموثوق عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما و هما غير مدركين فقال (ع) النكاح جائز و أيهما أدرك كان له الخيار و ان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر إلا أن يكونا قد أدركا و رضيا، قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر قال (ع) يجوز ذلك عليه ان هو رضي؟ قلت: فان كان الرجل الذي قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 489

أدرك قبل الجارية و رضي بالنكاح ثمَّ مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه؟ قال:

نعم يعزل ميراثها منه حتى تدرك فتحلف باللّه ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا رضاها

بالتزويج ثمَّ يدفع إليها الميراث و نصف المهر، قلت: فان ماتت الجارية و لم تكن أدركت أ يرثها الزوج المدرك؟ قال (ع): لا لأن لها الخيار إذا أدركت قلت: فان كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؟ قال (ع): يجوز عليها تزويج الأب و يجوز على الغلام و المهر على الأب للجارية. و لا ريب ان ذكر الأب قرينة على إرادة غيره من الوليين المذكورين أولا و لذا كان لهما الخيار عند البلوغ لكونه حينئذ فضوليا موقوفا على الإجازة.

و لا يخفى انه حال هذه الرواية حال صحيحة محمد بن مسلم المشتملة على الخيار عند تزويج الأبوين، فكما ان الخصم استدل بها و أسقط الخيار كذلك هنا: على أن ذكر الأب ليس فيه دلالة على إرادة غيره من الأولياء فلعل الراوي ذكره للتأكد من الحكم و لم يكن في جواب الامام (ع) ما يدل على المخالفة في الحكم للأولياء كيف و لازم عدم إرادة الأب من الأولياء أن يكون حكم الجد غير حكم الأب في الرواية لأنه داخل في الأولياء فالأولى الحمل على تأكيد السؤال و خامسا ما في رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (ع): و اليتيمة في حجر الرجل لا يزوجها إلا برضاها بناء على إرادة الصبية الغير البالغة كما هو ظاهر التعبير باليتيمة، و المراد برضاها هو رضاها بعد البلوغ فإنه على هذا تدل الرواية على ان كل من زوج الصبية الفاقدة للأب فزواجه غير نافذ إلا إذا بلغت و رضيت به و (الجواب) عنها ان الظاهر هو تزويج الرجل لها بقرينة الضمير في (يزوجها) فإنه عائد للرجل التي هي في حجره، و من المعلوم ان مجرد كون الجارية في

حجره لا يوجب نفوذ زواجه إياها إلا إذا بلغت و رضيت بذلك لكون العقد حينئذ يكون فضوليا، كما انه يحتمل أن يكون المراد باليتيمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 490

هي البالغة كما في قوله تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً.

و الذي يمكن أن يستدل به لثبوت ولاية الحاكم الشرعي على تزويج الصغير و الصغيرة عند فقد أبواهما النبوي المشهور: السلطان ولي من لا ولي له.

و الصغير حسب الفرض لا ولي له لأن كلامنا فيمن مات أبوه وجده و لا وصي عليه و يشكل على التمسك به (أولا) بإرساله الموجب لضعفه، و جوابه انه منجبر بعمل جملة من الأصحاب به. و (ثانيا) بأن الفقيه غير مسلم بأنه السلطان، و جوابه انه لا إشكال في أن الشارع قد جعل له السلطنة على المجنون و نحوه و الصبي بالنسبة لماله و لا يتصور في زمن الغيبة السلطنة لغيره. و (ثالثا) بأنه لا يثبت الولاية له على النكاح، و جوابه أنه بإطلاقه يثبت له الولاية على كل شؤون الصبي التي كان أبوه قد ولي عليها و لا إشكال في ان الأب كان وليا على نكاحه.

و صحيحة ابن سنان: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها. و لا شك ان الحاكم ولي أمر الصغيرين و هكذا سائر الأخبار الواردة في بيان من بيده عقدة النكاح وعد ولي الأمر منه. و قد أورد عليها من أن مفهوم صحيحتي محمد بن مسلم أخص منها لأنهما مختصين بالصغير و هذه الصحيحة أعم، و جوابه ان لسانها لسان حكومة و بيان للموضوع و ان الولي من هو، نعم قد ذكر بعضهم انها واردة في المرأة

البالغة و عليه فتخرج عن محل الكلام.

و رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي مالها ما شاءت فإن أمرها جائز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها و إن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها، و لا يخفى ما فيها، فإنها واردة في المرأة لا في الصغيرة.

و صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع) قال: المرأة التي ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولى عليها إن تزوجها بغير ولي جائز، و الجواب عنها كالجواب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 491

عما تقدمها من انها مختصة بالبالغة. و صحيحة ابن يقطين أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين أو تزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين و ما أدنى حد ذلك الذي يزوجان فيه، فاذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال (ع): لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها. و قد أورد على الاستدلال بها بأنها شاذة و لا يخفى ما فيه فإنه قد أفتى بمضمونها جماعة، نعم المحكي عن المشهور الفتوى بخلافها و هو لا يسقطها عن الحجية بعد صحتها و فساد مبنى المشهور.

(ثمَّ لا يخفى) ان الملتقط له الولاية على الصغير الذي التقطه بتعهده و تربيته لأنه يجب عليه ذلك. و ان كانت نفقته غير واجبة عليه و إنما يرفع أمره لوالي المسلمين فينفق عليه من بيت المال فان عجز عن تربيته سلمه لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له. و إذا كان اللقيط مال كما لو كان عليه ذهب أو ثياب فلا يجوز للملتقط التصرف به و إنما يرجع لحاكم الشرع لأنه هو

الولي على ماله.

كما ان عاقلة اللقيط الإمام لأنه وارثه لكونه وارث من لا وارث له فاذا جنى صغيرا كانت الدية على الامام و إن جنى كبيرا عمدا اقتص من اللقيط و ان جنى خطأ فالدية على الامام و إذا قتل اللقيط عمدا فللإمام القصاص و إذا قتل خطأ فالدية للإمام. و لا يتولى الملتقط ذلك لكونه لا ولاية له إلا على الحضانة.

و تحقيق ذلك يطلب من كتاب اللقطة.

ولاية المجتهد على المجنون و السفيه

و (منها) ولايته على المجنون و السفيه و هو من ليس له ملكة الإصلاح لما له إذا لم يكن لهم جد أو أب أو وصي عنهما و ذلك للإجماع القطعي و لان الشارع قد منع من تصرفهما في مالهما لقوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ و المفهوم قوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ. و لصحيحة هشام بن سالم و أن احتلم و لم يؤنس منه رشدا كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله و في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 492

موثقة ابن سنان، و جاز امره إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا فقال و ما السفيه فقال الذي يشتري الدرهم بأضعافه قال و ما الضعيف قال الأبله و حيث ثبت أن الشارع قد حجر على أموالهما فلا بد أن يقيم عليهما قيما عند فقد أبويهما و جديهما و الوصي عنهما و القدر المتيقن هو اقامة المجتهد العادل و للإجماع الذي قطع به النراقي (ره) و قد استدل بعضهم أيضا بما تقدم من الروايات الدالة على عموم الولاية و لكن على ذلك تكون الولاية الثابت للمجتهد عليهما هي الولاية العامة فيعتبر فيها ما يعتبر فيها. ثمَّ لا يخفى أن ولايته

عليهما انما هي بنحو التصرف على الوجه الأصلح كما هو المحكي عن ظاهر المشهور لأنه القدر المتيقن من الإجماع و من دليل العقل المذكور كما أنه انما يكون وليا عليهما مع فقد الجد و الأب و الوصي لأنه القدر المتيقن من الأدلة المذكورة. (و تنقيح البحث و توضيحه) أن الجنون أو السفه ان كان أدواريا بحيث يفيقان في حال يمكن مراجعة شؤونهما فيها فلا ولاية عليهما بل ينتظر فيهما إلى وقت الصحة و يوكل أمرهما فيه إلى أنفسهما و أن كان في السفه يستبعد ذلك و إن كانا اطباقيين مستمرين فاما أن يحدثا بعد البلوغ و المشهور في هذه الصورة ثبوت الولاية لحاكم الشرع حتى مع وجود الجد أو الأب أو الوصي لانقطاع ولايتهم بعد البلوغ فيهما لا ولي لهما. و الحاكم ولي من لا ولي له و ذهب بعضهم إلى ثبوت الولاية لهم لا للحاكم الشرعي. و غاية ما يمكن أن يستدل لهذا البعض هو أن يقال أن الأدلة الدالة على ثبوت الولاية للمذكورين تقتضي بإطلاقها ثبوتها لهم على الأولاد عند جنونهم و سفههم حتى لو حدث ذلك بعد بلوغهم بدعوى إن إطلاقات أدلة الولاية قد دلت على ولايتهم على الولد مطلقا خرج عنه الكبير العاقل الرشيد و بقي غيره تحت الإطلاقات و على هذا فمن بلغ و هو رشيد ترتفع ولايتهم عنه و تعود إذا ابتلي بالجنون و السفه نظير ما إذا أمر المولي بإكرام العالم و العادل ثمَّ أن زيد كان عالما ثمَّ صار جاهلا ثمَّ صار عادلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 493

فإنه يجب إكرامه. و لا يخفى ما فيه لأن الأدلة على ولايتهم على الصغير قاصرة عن

ذلك فلا عموم لها و لا إطلاق، فإن الذي استدل به على ولايتهم أمور أحدها:

الإجماع و انما يؤخذ القدر المتيقن منه و هو غير الصورة المذكورة، كيف و قد ذهب المشهور الى عدم الولاية لهم في هذه الصورة و ثانيها الاخبار و هي على طوائف (الأولى) ما تدل على جواز تصرفات الأب المعاملية لنفسه بالاقتراض من مال الولد و بتقويم جاريته على نفسه. فان ذلك يقتضي الولاية له عليه إذ لا تنفذ المعاملة إلا ممن له الولاية عليه. و لكن لا يخفى انها إن كانت لها إطلاق لحال ما بعد البلوغ بحيث يجوز للأب حتى ما بعد البلوغ الاقتراض من الابن لنفسه و تقويم جاريته على نفسه فهي إذن لا تقتضي ثبوت الولاية لأن في هذه الحال لا إشكال في عدم ولاية الأب على الابن و إن كانت لا إطلاق لها فأذن هي لا إطلاق لها يقتضي ثبوت الولاية بعد البلوغ عند السفه و الجنون (و بعبارة أخرى) انها إنما يستفاد منها الولاية حيث يثبت الحكم المذكور لأنها قد استفيدت من ثبوته. و عليه فما بعد البلوغ حال الرشد و الكمال إن كان الحكم المذكور ثابتا فلازمه عدم الملازمة بينه و بين الولاية لعدم تحقق الولاية قطعا في هذه الحال و إن لم يكن الحكم المذكور موجودا فقد انقطع ثبوت الحكم المذكور و يحتاج الى ثبوته عند حدوث السفه أو الجنون الى دليل آخر و إلا فالأصل عدمه، مضافا الى انا لا نسلم أنها تقتضي الولاية و إنما تقتضي جواز انتفاع الوالد بمال ولده و تقويم جاريته كما لا يجوز له الإنفاق على نفسه من مال ولده و لو دلت على الولاية فهي إنما تدل

على هذا المقدار الخاص من الولاية و هو الولاية على الاقتراض من مال ولده لنفسه و تقوم جاريته على نفسه فقط و هو غير ما نحن فيه من ثبوت الولاية له بالاتجار و النكاح و باقي الشؤون الأخرى (الثانية) أخبار الوصية المشتملة على جواز تصرف الوصي عن الأب و الجد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 494

مال القصر، فإنها مختصة بالقصر و لا تشمل لحالهم ما بعد البلوغ على أن هذا الحكم الذي استفيد منه الولاية للوصي على القصر يزول قطعا عن الوصي عند بلوغ القصر و رشدهم ضرورة عدم جواز تصرف الوصي في مالهم عند بلوغهم و رشدهم. فثبوته للوصي بعد بلوغهم و رشدهم عند عروض الجنون أو السفه لهم يحتاج الى دليل فالأصل عدمه. (الثالثة) الأخبار الدالة على جواز معاملاتهم العائدة إلى الصغير كتزويجه و الاتجار بماله فإنه مضافا الى اختصاصه بالصغير فإنه لا يدل على ثبوت الولاية إلا في مورد ثبت هذا الحكم لأنها مستفادة من ثبوته و لا ريب في انقطاع هذا الحكم عند بلوغهم و كمالهم و لا دليل على عودته بعد عروض الجنون و السفه عليهم و الأصل عدمه بعين ما ذكرناه في الطائفة الثانية. هذا مع أنه قد ناقش بعضهم في أصل دلالتها على الولاية باعتبار ان أدلة التزويج مختصة بالنكاح، و أدلة الاتجار إنما هي مسوقة لبيان تعلق الزكاة إذا اتجر الأب بمال ولده (الرابعة) ما دل على ان الولد و ماله لأبيه كرواية علي بن جعفر عن أخيه (ع) قال: سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان فهو يجد البنت أن يزوج رجلا و هوى أبوها الآخر أيهما أحق أن ينكح؟

قال: الذي هوى الجد

أحق بالجارية لأنها و أباها للجد. و رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال: اني ذات يوم عند زياد بن عبد اللّه إذ جاء رجل يستعدي على أبيه فقال: أصلح اللّه الأمير ان أبي زوج ابنتي بغير إذني فقال لجلسائه: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل؟ فقالوا: نكاحه باطل، قال (ع):

ثمَّ أقبل علىّ فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه فقلت لهم: أ ليس فيما ترون أنتم عن رسول اللّه (ص) ان رجلا جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا، فقال له رسول اللّه أنت و مالك لأبيك قالوا بلى فقلت لهم كيف يكون هو و ماله لأبيه و لا يجوز نكاحه قال فأخذ بقولهم و ترك قولي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 495

و رواية الحسين بن أبي العلاء قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) ما يحل للرجل من مال ولده قال قوته بغير سرف إذا اضطر اليه، قال فقلت له قول رسول اللّه (ص) للرجل الذي أتاه فقدم أباه فقال له أنت و مالك لأبيك، الحديث. و قد استدل بهذه الطائفة المحقق ملا كتاب على ثبوت الولاية للأب على ولده إذا غرض عليه السفه أو الجنون بعد بلوغه و رشده. و لا يخفى ما فيه فإنه لا يعقل أن يراد بها الولاية لورود بعضها في الولد الكبير الرشيد البالغ كرواية علي بن جعفر و رواية عبيد بن زرارة، و رواية ابن أبي العلاء التي تقدم ذكرها فلو كان ذلك يقتضي الولاية للزم ثبوت ولاية الأب على البالغ الرشيد إذ لا يعقل خروج المورد عن الوارد، مع أنه إنما تدل على ذلك

لو قلنا بأن اللام للملك مثل الملك للّه تعالى و لا يعقل إرادة ذلك منه لأن الولد و ماله ليس بمملوك لوالده فلا بد أن تكون اللام للاختصاص بنحو من الأنحاء مثل العبادة للّه. و عليه فهي لا تقتضي الولاية إذ الاختصاص يحتمل أن يكون باعتبار انه فرع منه كما يقال الغصن للشجرة و هذا الفرخ لهذا الطير، و يحتمل أن يكون من جهة شدة الارتباط به كما يقال هذا صديق لفلان، و غاية ما يستفاد من هذا التعبير هو أولوية الجد من الأب فيما كان يجوز لكل منهما فعله. و قد استدل بعضهم بالسيرة المستمرة عند العقلاء على تصرف الجد و الأب في شؤون أولادهم مع عدم الردع و هذا يقتضي ثبوت الولاية لهما عليهم. و لكن لا يخفى ان القدر المتيقن من هذه السيرة هو ما قبل البلوغ و لا يعلم ثبوتها ما بعد البلوغ. و (اما إذا كان الجنون و السفه مستمرين من الصغر الى ما بعد البلوغ) فالولاية للحاكم الشرعي، إذا لم يكن له جد أو أب أو وصي عنهما لما تقدم في صدر هذا البحث من ان الفقيه هو القدر المتيقن ولايته عليهما، و أما إذا كان أحدهم موجودا فالولاية له لا للحاكم الشرعي لاستصحاب ولايته مضافا الى ما يظهر من صاحب الحدائق من عدم الخلاف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 496

في ذلك و من صاحب المفاتيح في كتاب النكاح، و إن كان يظهر من خصوص صاحب المفاتيح في الباب الخامس في التصرف بالنيابة ان الولاية في خصوص السفيه للحاكم مطلقا حتى لو كان السفه متصلا بما بعد البلوغ، و نظيره المحكي عن التذكرة، و استدل له

في التذكرة بأن الحجر يفتقر الى حكم الحاكم و زواله أيضا يفتقر اليه فكان النظر في ماله اليه سواء تجدد السفه بعد البلوغ أو كان مستمرا لما بعد البلوغ، و لا يخفى ما فيه فان الظاهر انه لا نزاع في عدم توقف حجر السفيه على حكم الحاكم إذا كان السفه متصلا بالبلوغ، و قد نقلت الإجماعات على ذلك كما ان فك الحجر لا نسلم أنه يتوقف على حكم الحاكم لقوله تعالى:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً و لزوال المقتضي للحجر و لأنه لو توقف على ذلك لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم و لكان عندهم من أهم الأشياء مضافا الى ان كون الحجر و فكه بيد الحاكم لا ينافي كون الولاية على التصرف في شؤونه لغير الحاكم فإنه نظير إثبات الحق له فإنه بيد الحاكم.

و (اما لو كان الجنون و السفه حال الصغر) فأيضا كذلك من أن الولاية للحاكم الشرعي مع فقد الجد و الأب و الوصي و إلا فهي لهم اما انها للحاكم الشرعي مع فقدهم لما تقدم في صدر هذا المبحث، و اما انها لهم عند وجودهم فللإجماع المنقول و المحقق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 497

تعيين المراد بالأب و الجد و مقدار ولايتهما

ثمَّ ان المراد بالجد و الأب انماهما النسبيان و اما الرضاعيان فلا ولاية لهما قطعا لانصراف لفظ الأب و الجد إليهما لا الى الرضاعيين و للإجماع على ذلك و ان كان قضية التنزيل بقوله عليه السّلام (ان الرضاع لحمة كلحمة النسب) هو جريان احكام النسب على الرضاع. كما ان الظاهر ان المراد الجد للأب لا للام للانصراف له. و اما من ولد منهما بالزنا فقد ذهب بعضهم الى ثبوت ولايتهما عليه لصدق ذلك

عرفا عليه و الأحكام الشرعية تابعة للمعاني العرفية و لا ريب انه لم يثبت في الجد و الأب حقيقة شرعية. ثمَّ ان ولاية الجد و الأب لا تختص بشي ء دون شي ء فتجري بالنسبة إلى التصرف بالأموال و النكاح قال المرحوم المامقاني أن ولايتهما تجري في كل أمر عدى طلاق زوجته لقوله (ع) الطلاق بيد من أخذ بالساق و غيره من الاخبار و أما هبة مدة المتعة و فسخ النكاح الدائم بالأسباب الموجبة للفسخ فهي ثابتة لهما لعموم الولاية أو إطلاقها و انما الخارج منها بدليل خاص هو الطلاق فيبقي هبة المدة و الفسخ و غيرهما مندرجة تحت عموم الولاية أو إطلاقها.

مقدار ولاية الحاكم الشرعي (على المجنون و السفيه)

ثمَّ انه بعد ما عرفت ثبوت ولاية الحاكم الشرعي على المجنون و السفيه بقطع النظر عن أدلة الولاية العامة فمقتضى الأدلة هو ثبوتها للحاكم الشرعي بشرط الصلاح كما تقدم في صدر البحث كما هو ظاهر المشهور كما لا إشكال في ولاية الحاكم الشرعي في إجارتهم و استيفاء منافع أبدانهم و استيفاء حقوقهم المالية و غيرها كحق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 498

الشفعة و الفسخ بالخيار و دعوى الغبن و الإحلاف ورد الحلف و حق القصاص في الدم و الجنايات و اقامة البينة و جرح الشهود و أمثالها لأنه مقتضى الأدلة الدالة على ولاية الحاكم عليهما (نعم) محل الكلام في ولايته عليهما في النكاح ففي المجنون و المجنونة اختلفوا في ثبوت ولاية الحاكم عليهما فإن المحكي عن جماعة كالمبسوط و الإرشاد و التحرير و المحقق الشيخ علي و الفاضل الهندي و شارح المفاتيح يشترطونها بشرط الحاجة و الضرورة في نكاح المجنون بل المحكي عن الشيخ علي دعوى الإجماع على اشتراط ذلك و

قال المحقق النراقي (ره) ان كلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر ولاية الحاكم على نكاح المجنون بل يظهر من كثير مصنفاتهم انتفائها كالفقيه و الخلاف و المبسوط و النهاية و التبيان و الجامع و الوسيلة و الغنية و غيرها انتهى. و الحق ثبوتها و قد تقدم في اخبار ولاية الحاكم على الصغير ما يدل على ولاية الحاكم على نكاح المجنون.

و (أما السفيه) ففي ولاية الحاكم على نكاحه مع فقد ولي عليه خلاف بين المتأخرين فالمحكي عن المحقق في الشرائع و العلامة في القواعد و التحرير و الإرشاد الى عدم ثبوت الولاية عليه و صحة عقده بنفسه لو أوقعه بدون اذن المولى كما صرحوا بذلك في نكاح المحجور عليه و ان كان لهم كلام في المهر و ذهب جمع آخر كما في التذكرة و نكت الإرشاد و المسالك و شرح القواعد للمحقق الشيخ علي الى ثبوت الولاية لا بمعنى استقلال الحاكم في تزويجه بل بمعنى عدم استقلاله و توقف صحة نكاحه على اذن الحاكم قال (ره) لا ريب ان السفيه لا يجبر على النكاح لأنه بالغ عاقل و لا يجوز له الاستقلال لأنه لسفهه و تبذيره محجور عليه شرعا ممنوع من التصرفات المالية و لما كان هذا القول مركب من دعويين (إحداهما) عدم استقلال الحاكم بتزويج السفيه و السيفهة و توقف النكاح على إذنهما (و ثانيهما) توقف صحة تزويجهما على اذن الحاكم استدلوا على (الاولى) بالإجماع و بقوله تعالى فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 499

فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ. و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال في المرية الثيب تخطب الى نفسها قال هي أملك لنفسها

تولي أمرها من.

شائت. و صحيحة البزنطي قال: قال أبو الحسن (ع) و الثيب أمرها إليها و على (الدعوى الثانية) بصحيحة الفضلاء المتقدمة في مبحث ولاية الفقيه على الصغير فإنها دلت بمفهومها على عدم جواز تزويج السفيهة بغير ولي. و رواية زرارة المتقدمة هناك أيضا المصرحة بأنه لا يجوز تزويج المرية الغير المالكة لأمرها إلا بأمر وليها و النبوي المشهور السلطان ولي من لا ولي له فان مقتضى الجمع بين هذه الاخبار مع الإجماع المذكور هو ان يكون المراد ان اختيار الزوج السفيه و الزوجة السفيهة راجع لهما و لكن يكون بإذن المولى عليهما لأن لا يكون الاختيار واقعا على من هو ضرر عليهما و مضرا بمستقبلهما و بعد وجود الإجماع لا مجال للتمسك بالروايات المذكورة أو غيرها على استقلال ولاية الحاكم الشرعي في تزويجهما و يؤكد الإجماع على ذلك اكتفاء العلماء في باب شرائط المتزوجين في النكاح بالبلوغ و العقل و الحرية و تفريعهم على ذلك عدم صحة عقد الصبي و الصبية و المجنون و المجنونة و السكران و العبد فقط من غير تعرض لذكر السفيه أصلا و تفريعهم عدم صحة التصرفات المالية من السفيه في باب المعاملات على اشتراط الرشد.

ولاية المجتهد على المغمى عليه و السكران

و (منها) ولاية الحاكم الشرعي على المغمى عليه و السكران لأن الأدلة الدالة على ولايته على المجنون تقتضي ولايته عليهما بتنقيح المناط أو الأولوية.

ولاية المجتهد على المفلس

و (منها ولاية المجتهد على المفلس) قد ذكر الفقهاء (ره) ان الحاكم الشرع الولاية على التحجير على المفلس بمنعه من التصرف في ماله و قسمته على غرمائه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 500

ببيعه إلا إذا كانت عين مال الغريم موجودة فإن ذلك الغريم أحق بها من غيره نعم التحجير عليه لا يكون إلا في صورة ما إذا ثبت على المفلس الدين عند الحاكم الشرعي و حلول أجله و نقصان ماله عن وفائه و التماس الغرماء أو بعضهم للحاكم التحجير عليه و ذكروا ان رفع الحجر عنه لا يحتاج لحكم الحاكم برفعه على تفصيل في ذلك كله ذكره الفقهاء رضوان اللّه عليهم في كتاب المفلس.

ما يتوقف ثبوته مما تقدم (على حكم الحاكم)

لا إشكال في ان ولاية الحاكم على الصغير و المجنون تثبت بمجرد تحقق موضوعهما بالشرائط المتقدمة و يثبت التحجير عليهما بمجرد تحققهما من دون حاجة لحكم الحاكم بالتحجير عليهما و وجه ذلك واضح حيث لم يؤخذ في ثبوت التحجير عليهما في هذه الحالة حكم الحاكم. و هكذا يرتفع التحجير عنهما و تزول الولاية عليهما بزوالهما من دون حاجة لحكم الحاكم برفعه و أما المفلس فقد ذكر الفقهاء اعتبار حكم الحاكم بالتحجير في ثبوت التحجير و الولاية عليه. و أما رفع التحجير عنه فلا يحتاج لحكم الحاكم برفعه و قد تعرضوا لذلك في كتاب المفلس مفصلا.

و أما السفه فالمنسوب الى المشهور توقف الحجر و الولاية عليه ثبوتا و رفعا على حكم الحاكم و ان السفه بنفسه غير موجب للتحجير على السفيه استنادا لعمومات العقود و المعاملات و وجوب الوفاء بها، و ان موضوع الرشد و السفه اجتهادي لاختلاف العلماء في بعض ما يعد فعله سفها و رشدا فيتوقف ثبوته

و نفيه على رأي الحاكم، و انه لو كان مجرد تحقق السفه موجبا للحجر و ان لم يحكم به الحاكم لأدى إلى العسر و الحرج في المعاملات لأن أغلب المعاملات مع مجهول الحال مع استمرار السيرة على المعاملة من دون بحث و لا نظر و ذهب جمع من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 501

المحققين الى عدم اعتبار حكم الحاكم في الحجر عليه مطلقا ثبوتا و رفعا استنادا الى ظواهر الإطلاقات من الآيات و الروايات حيث دلت على ثبوت الحجر عليه بمجرد السفه من غير اعتبار حكم الحاكم كقوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ و قوله تعالى فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) حيث أطلق النهي في الأولى عن إيتاء السفيه و في الثانية أثبت الولاية و الولي عليه و هكذا الكلام في الروايات الدالة على التحجير على السفيه. و لان الحجر على السفيه انما هو لمصلحته و النظر له في حفظ ماله كالحجر على الصبي و المجنون فإنه لا يفتقر الى حكم الحاكم لا كالحجر على المفلس فإنه لمصلحة الغرماء فلا يثبت بدون حكم الحاكم و الحق هو الثاني لضعف ما ذكر حجة على التوقف فان عمومات المعاملات مخصصة بما دل على ان السفه مانع عن صحتها بإطلاقه و (دعوى) ان السفه أمر اجتهادي (ممنوعة) بأنه هو و الرشد أمران عرفيان و لا يقدح الاختلاف في تحققهما ببعض الأفعال إذ هو من الاختلاف في المصاديق العرفية و لو فرض توقف ثبوته و نفيه على رأي الحاكم فلا يلزم منه توقف الحجر عليه على حكم الحاكم بالتحجير و (دعوى) لزوم العسر

و الحرج لو اكتفى بمجرد السفه في الحجر (ممنوعة) فإن السفه من قبيل المانع و هو انما يقتضي اجتناب معاملة معلوم السفه و هو لا عسر فيه و لا حرج. و أما مجهول الحال فالسيرة قاضية بصحة معاملاته عملا بأصالة الصحة في فعل المسلم و بأصالة الرشد و عدم السفه إلا مع فرض جهل الحال بعد سبق العلم بالسفه فان الاستصحاب للسفه و الحجر عليه موجب للمنع و لذا حكم الأصحاب باستمرار الحجر الى تبين الرشد في صورة ما إذا جهل حال الصبي إذا بلغ و لقوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ و مقتضى ذلك ان النزاع في اعتبار حكم الحاكم و عدمه في الحجر على السفيه انما هو في السفه المتجدد بعد الرشد لا في المتصل منه بالبلوغ لمعلومية اتصال الحجر عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 502

الثابت له حال صغره بدون حكم الحاكم. و يؤيد ذلك انه لو كان زوال الحجر بعد البلوغ موقوفا على حكم الحاكم لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم كما أفاد ذلك العلامة في المحكي عن تذكرته.

ولاية المجتهد على الغائبين
اشارة

و (منها) ولاية الفقيه على الغائبين و هم على قسمين أحدهما المفقود خبرهم و هم كما في أنوار الفقاهة ما يشمل الضائعين و المفقود في بلده إذا كانت واسعة لم يدر كيف صنع به فيها و الضال في الطريق و المنكسرة به السفينة في البحر و لم يعلم غرقه و المفقود في المعركة و المأسور و الغائب إذا غاب و لم يدر إلى أين توجه و القسم الثاني هم الغائبون المعلوم خبرهم و هذان القسمان قد ذكروا في كتاب القضاء ان للحاكم الشرعي

القضاء عليهم ببيع مالهم لقضاء الدين المعجل عليهم بعد مطالبة الدائن و استدلوا على ذلك بمرسلة جميل عنهما (ع) قالا الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة و يباع ماله و يقضى دينه و هو غائب و يكون الغائب على حجيته إذا قدم و لا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء و نحوه خبر محمد بن مسلم عن الباقر (ع) إلا ان فيه إذا لم يكن مليا و استدلوا أيضا بأن ما دل على ولاية الحاكم الشرعي على الممتنع عن أداء الحق عليه يدل على ذلك بعد اتحاد المناط بينهما من امتناع إيصال الحق إلى مستحقه من غير فرق في الامتناع بين كونه قهرا أو عن اختيار و استدلوا أيضا بأن تعطيل الاستيفاء الى وقت الحضور ضرر منفي لا يجب تحمله و تحقيق ذلك يطلب من كتاب القضاء و هكذا له الولاية على أموالهم فيما لو كان مالهم في معرض التلف فإنه يجوز حفظه للقطع بالاذن منهم الحاصل بشاهد الحال و لقوله تعالى وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و لكن ذلك لا يكون من باب الولاية بل من باب الإحسان و البر و الحسبة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 503

نعم فيما عدى ذلك فالقسم الثاني منهم ليس للحاكم الشرعي الولاية على أموالهم و لا على أزواجهم مع قطع النظر عن الولاية العامة حتى فيما كان الغائبون غير متمكنين من التصرف في أموالهم لبعد المسافة أو لحبسهم و ذلك للأصل و أما القسم الأول فللحاكم الولاية على حفظ أموالهم فقط و لا دليل على ذلك مع قطع النظر عن ثبوت الولاية العامة إلا الإجماع المدعي و لا دليل على جواز التصرف

في أموالهم بالبيع و الشراء و التبديل و نحو ذلك حتى بعد الفحص عنه و اليأس و ان كان لهم فيه مصلحة فإن الأصل الحرمة و لقاعدة عدم حل مال إمرء إلا بطيب نفسه و لا تجري قاعدة و الإحسان و إلا لجرت في أموال الحاضرين و هكذا ليس على الحاكم استيفاء ما للغائبين في الذمم و لذا لا يحجر على أموال غرمائهم بخلاف المجانين و السفهاء فإنه له الاستيفاء و التحجير على غرمائهم و هكذا لا يجوز التصرف في أموالهم بالقسمة بين ورثتهم حتى بعد الفحص و اليأس عنهم كما هو المحكي عن معظم الأصحاب في المسالك و (دعوى) انه قد تقرر في أبواب الفقه ان الحاكم ولي الغائب و أرسلها الفقهاء إرسال مسلمات (مدفوعة) بما هو المحكى عن المسالك ان من القواعد المقررة في بابها ان الودعي ليس له دفع الوديعة إلى الحاكم مع إمكان المالك و لا مع غيبته إلا مع الضرورة و لو كان الحاكم كالمالك لجاز الدفع إليه في الموضعين (و دعوى) تنزيل الظن بالموت منزلة اليقين. دعوى بلا دليل و دعوى لزوم تعطيل حق الوارث. فاسدة لعدم ثبوت استحقاقه للمال لعدم العلم بانتقاله اليه

[الفتوى بأن المشتري بالخيار إذا غاب عن البائع فللبائع ان يدفع الثمن للفقيه لفسخ البيع عند حلول الأجل.]

قال المرحوم النراقي (ره) ان من الموارد التي لا أرى عليها دليلا ما تداول في هذه الأعصار في المبايعات الشرطية التي فيها خيار الفسخ للبائع بشرط رد الثمن إلى المشترى في زمان معين فاذا لم يحضر المشترى في الزمان المعين يجيئون بالثمن إلى الفقيه و يفسخون المبايعة و لا أرى لذلك وجها فان شرط الخيار هو رد الثمن إلى المشتري فإذا لم يتحقق الشرط كيف يتحقق الفسخ و كون الفقيه قائما مقامه

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 504

حتى في ذلك مما لا دليل عليه أصلا و (توهم) ان ذلك لدفع الضرر و الضرار (فاسد) إذ هذا الضرر مما أقدم البائع نفسه عليه مع ان الفسخ عند غير المشتري متضمن لضرر المشتري سلمنا الضرر المنفي فلم يجبر برد الثمن إلى الفقيه و الفسخ عنده إذ بعد ما جاز للحاكم التجاوز عن مقتضى الشرط لدفع الضرر فيمكن دفعه بزيادة مدة الخيار أو بإلزام المشتري على ما يجبر به الضرر أو بغير ذلك من الاحتمالات.

[الفتوى بأن البائع إذا لم يقبل الثمن في بيع النسيئة عند حلول الأجل يؤديه المشتري للفقيه و تبرء ذمته.]

و من تلك الموارد ما ذكروه في باب النسية انه إذا لم يقبل البائع الثمن في الأجل يؤديه إلى الحاكم و يبرئ بذلك و يكون التلف من البائع حينئذ و هو أيضا مما لا دليل عليه و حديث الضرر يعلم ما فيه مما مر الى غير ذلك من الموارد (فان قيل) لا بد في أمثال تلك الموارد من الرجوع إلى الحاكم (قلت) نعم لا شك في ذلك هو المرجع في جميع الحوادث و له منصب المرجعية في جميع ما يتعلق بالشريعة و لكن الكلام في وظيفة الحاكم بعد الرجوع إليه انها ما هي و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

[المديون إذا غاب عنه الدائن بحيث يأس منه دفع الدين للفقيه.]

و ستجي ء إنشاء اللّه ولاية الحاكم على الممتنع هذا و قد حكي عن غير واحد من الفقهاء ان من وجب عليه الدين و غاب عنه صاحبه بحيث يأس منه و لم يعلم له وارثا بعد ان اجتهد في طلبه سلمه لحاكم الشرع إلا ان المشهور يتصدق به و لعله الوجه في ذلك انه ما يتخيل من مساواته لمجهول المالك لاشتراكهما في عدم التمكن من الإيصال لصاحبه و لما أرسله في السرائر حيث قال و روي انه إذا لم يظفر له بوارث تصدق به عنه و لما في الفقيه و روي في هذا خبر آخر ان لم يجد له وارثا و علم اللّه بذلك الجهد فتصدق به (و لا يخفى ما فيه) فإنه ليس من مجهول المالك لأن صاحب الدين معروف في نفسه و إلحاقه به قياس ممنوع (نعم) لو علم موته و جهل وارثه أمكن ان يقال انه من مجهول المالك كما لو علم بعدم الوارث له كان من مال الامام (ع) لأنه وارث من لا وارث

له. و أما الأخبار فمع ضعفها بالإرسال و معارضتها بصحيح معاوية عن الصادق (ع) في رجل كان له على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 505

رجل حق ففقده و لا يدري أين يطلبه و لا يدري أحي هو أم ميت و لا يعرف له وارثا و لا نسبا قال اطلب قال ان ذلك قد طال أ فأتصدق به قال اطلب و (الحاصل) انه يمكن ان يقال ان المال للإمام مع العلم بموت الدائن و الشك في وجود الوارث فإن أصالة عدم الوارث تقتضي انه مال لا وارث له فهو للإمام و ان كان ناقش في ذلك بعضهم بأن الشرط هو العلم و القطع بعدم الوارث فلا يكفي الاستصحاب لإثباته كما انه يمكن ان يقال انه من مجهول المالك لو تمت مناقشة ذلك البعض و (لعل) ما يحكي عن الشيخ في النهاية و عن جماعة من الحكم بالصدقة نظرهم إلى صورة عدم العلم بموت صاحب الدين و عليه فيكون حكمهم جار على القواعد الشرعية مؤيدا بالمراسيل المذكورة غير معارض بالصحيح المتقدم لوروده في صورة بقاء صاحب الدين و عدم العلم بموته فان اللازم في مثله استبقاء الدين أمانة و الإيصاء به عند الموت أو دفعه لحاكم الشرع لأنه ولي الغائب نعم التصدق به مع ضمان المال لو لم يرض بالصدقة إحسان محض فهو جائز و ليس فيه تصرف بمال الغير بغير اذنه حيث انه لم يسلم له حتى يكون ماله

[ولاية المجتهد على مال المودع عند فقده.]

و لقد جعل الفقهاء (ره) من آثار ولاية الحاكم الشرعي على الغائبين ولايته على مال المودع عند فقده و فقد الوكيل عنه مع الضرورة للمودع عنده في التخلي عن الوديعة أو العذر له

في ذلك لعجزه عن الحفظ لها أو الخوف عليها من الغرق أو الحرق أو النهب أو أخذ المتغلب لها و من العذر السفر عنها مع الاضطرار اليه أو مطلقا بناء على منافاة السفر عنها مطلقا لحفظها و ان كانت السيرة على خلافه في كثير من الأحوال فإنهم ذكروا انه يردها لحاكم الشرع معللين ذلك بأنه ولي الغائب في حفظه ماله و لكن مقتضى هذا التعليل هو جواز ردها لحاكم الشرع عند فقد المالك أو وكيله اختيارا و ان لم تكن ضرورة من خوف سرقة. و نحوها لأنه رد للولي و الوديعة من العقود الجائزة فللمستودع الفسخ في جميع الأوقات و لازمه جواز ردها للحاكم لأنه ولي المودع عند غيبته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 506

إلا ان ظاهر الأصحاب المنع من ردها للحاكم إلا مع الضرورة و يمكن ان يكون الوجه في ذلك هو ان الحاكم لا ولاية له على من له الوكيل. و الودعي بمنزلة الوكيل و انما جاز الدفع للحاكم عند الضرورة دفعا للحرج و الإضرار إلا ان هذا يقتضي عدم تمامية التعليل المذكور

[وجوب قبول المجتهد الوديعة و الدين و المغصوب و نحوها عند فقد مالكها.]

و حيث يجوز دفعها الى الحاكم فهل يجب عليه القبول لأنه ولي الغائب و منصوب للمصالح أولا للأصل؟ و لعل الأول أقوى و كذلك لو حمل اليه المديون الدين و المغصوب و نحو ذلك مع غيبته المالك (و قد ذكر الفقهاء) في كتاب اللقطة ان الضوال في الكلاء و الماء لو أخذها الإنسان كان مكلفا بين إمساكها لصاحبها و بين دفعها لحاكم الشرع و قد علله بعضهم بأنه ولي حفظ مال الغائب و علله آخرون بأن الحاكم منصوب لمصالح المسلمين التي منها ذلك هذا كله بالنسبة

لولايته على مال الغائبين.

[ولاية المجتهد على المفقود في فك زوجته منه.]
اشارة

و أما بالنسبة إلى ولايته على أزواجهم فلا بد لنا ان تنقل الأخبار في هذا الباب (منها) صحيحة بريد بن معاوية المروية في الكافي و التهذيب و الاستبصار قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن المفقود كيف يصنع بامرأته قال ما سكتت عنه و صبرت يخلي عنها فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين ثمَّ يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه فليسئل عنه فان خبر عنه بحياة صبرت و ان لم يخبر عنه بشي ء حتى تمضي الأربع سنين دعى ولي الزوج المفقود فقيل له هل للمفقود مال؟ فان كان له مال أنفق عليها حتى يعلم حياته من موته و ان لم يكن له مال قيل للولي أنفق عليها فان فعل فلا سبيل لها إلى ان تتزوج ما أنفق عليها و ان لم ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلق تطليقة في استقبال العدة و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاق الزوج فان جاء زوجها من قبل ان تنقضي عدتها من يوم طلقها الولي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين فان انقضت العدة قبل ان يجي ء أو يراجع فقد حلت للأزواج و لا سبيل للأول عليها قال الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 507

في الفقيه و في رواية أخرى انه ان لم يكن للزوج ولي طلقها الوالي و يشهد شاهدين عدلين فيكون طلاق الوالي طلاق الزوج و تعتد أربعة أشهر و عشرا ثمَّ تتزوج ان شاءت و (منها) خبر أبي الصباح الكناني المروي في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) في امرأة غاب عنها زوجها أربع سنين و لم ينفق عليها و

لا تدري أ حي هو أم ميت أ يجبر وليه على ان يطلقها؟ قال نعم و ان لم يكن له ولي طلقها السلطان قلت فان قال الولي أنا أنفق عليها قال فلا يجبر على طلاقها قال قلت أرأيت ان قالت أنا أريد مثلما تريد النساء و لا أصبر و لا أقعد كما أنا قال ليس لها ذلك و لا كرامة إذا أنفق عليها و (منها) موثقة سماعة المروية في الكافي قال سألته (ع) عن المفقود فقال ان علمت انه في أرض فهي منتظرة له أبدا حتى يأتيها موته أو يأتيها طلاقه و ان لم تعلم أين هو من الأرض كلها و لم يأتها منه كتاب و لا خبر فإنها تأتي الإمام فيأمرها أن تنتظر أربع سنين فيطلب في الأرض فان لم يوجد له أثر حتى تمضي الأربع سنين أمرها ان تعتد أربعة أشهر و عشرا ثمَّ تحل للرجال فان قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها فليس له عليها رجعة و ان قدم و هي في عدتها أربعة و عشرا فهو أملك برجعتها.

و (منها) صحيحة الحلبي المروية في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) انه سئل عن المفقود فقال: المفقود إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب إلى الناحية التي هو غائب فيها فان لم يوجد له أثر أمر الوالي وليه ان ينفق عليها فما أنفق عليها فهي امرأته. قال: قلت: فإنها تقول: فإني أريد ما تريد النساء. قال ليس لها ذلك و لا كرامة. فأن لم ينفق عليها وليه أو وكيله أمره أن يطلقها فكان ذلك عليها طلاقا واجبا.

و خبر السكوني المروي في التهذيب عن جعفر عن أبيه (ع) ان عليا (ع) قال

في المفقود لا تتزوج امرأته حتى يبلغها موته أو طلاق أو لحوق بأهل الشرك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 508

و مثلها ما رواه في المستدرك عن الجعفريات.

و عن دعائم الإسلام روينا عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (ع) انه قال إذا علم مكان المفقود لم تنكح امرأته. و عن جعفر بن محمد (ع) أنه قال:

يخلي عن امرأة المفقود ما سكتت فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين و كتب الى الموضع الذي فقد فيه فيسأل عنه فان لم يخبر عنه بشي ء حتى تنقضي الأربع سنين دعى ولي المفقود فقال هل للمفقود مال فان كان للمفقود مال قال للولي أنفق عليها من ماله فان فعل فلا سبيل لها إلى التزويج ما أنفق عليها و ان أبي وليه ان ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلق تطليقة في استقبال عدتها و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاقا للزوج فان جاء زوجها قبل ان تنقضي عدتها من يوم طلق الولي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين باقيتين و ان انقضت عدتها قبل ان يجي ء أو يراجع فقد حلت للأزواج و لا سبيل لأحد عليها و ان قال الولي أنا أنفق عليها لم يجبر على ان يطلقها و ان لم يكن له ولي طلقها السلطان قيل له يا ابن رسول اللّه أرأيت ان قالت المرية أنا أريد ما تريد النساء و لا استطيع أن اصبر قال ليس لها ذلك و لا كرامة إذا أنفق عليها وليه.

و عن كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (ع) عند ذكر بدع عمرو قضيته في المفقود ان أجل امرأته أربع

سنين ثمَّ تتزوج فان جاء زوجها خير بين امرأته و بين الصداق فاستحسنه الناس و اتخذوه سنة و قبلوه عنه جهلا و قلة علم بكتاب اللّه و سنة نبيه (ص).

و عن الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص عن يعقوب بن زيد عن أبي عمير قال: قال مؤمن الطاق فيما ناظر به أبا حنيفة ان عمر كان لا يعرف أحكام الدين أتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين إني غبت فقدمت و قد تزوجت امرأتي فقال ان كان قد دخل بها فهو أحق بها و ان لم يكن قد دخل بها فأنت أولى بها و هذا حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 509

لا يعرف و الأمة على خلافه و قضى في رجل غاب عن أهله أربع سنين انها تتزوج ان شاءت و الأمة على خلاف ذلك انها لا تتزوج أبدا حتى تقوم البينة انه مات أو كفر أو طلقها. و عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال في المفقود ينتظر أهله أربع سنين فان عاد و إلا تزوجت فان قدم زوجها خيرت فان اختارت الأول أعتدت من الثاني و رجعت إلى الأول و ان اختارت الثاني فهو زوجها.

و عن ابن شهر اشوب في المناقب روى ان الصحابة اختلفوا في أمرية المفقود فذكروا ان عليا (ع) حكم بأنها لا تتزوج حتى يجي ء نعي موته و قال هي امرأة ابتليت فلتصبر و قال عمر تتربص أربع سنين ثمَّ يطلقها ولي زوجها تمَّ تتربص أربعة أشهر و عشرا ثمَّ رجع إلى قول علي (ع).

و عن الصدوق في المقنع و اعلم ان المفقود إذا رفعت امرئته أمرها إلى الوالي فأجلها أربع سنين ثمَّ يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه

فيسئل عنه فإن أخبر عنه بحياة صبرت و ان لم يخبر عنه بحياة و لا موت حتى يمضي دعى ولي الزوج المفقود فقيل له هل للمفقود مال فان كان له مال أنفق عليها حتى يعلم حياته من موته و ان لم يكن له مال قيل للولي أنفق عليها فان فعل فلا سبيل لها إلى ان تتزوج ما أنفق عليها و ان أبي ان ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلقها تطليقة في استقبال العدوة و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاق الزوج و ان لم يكن لها ولي طلقها السلطان و أعتدت أربعة أشهر و عشرة أيام فإن جاء زوجها قبل ان تقتضي عدتها من يوم طلقها الوالي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين و ان انقضت عدتها قبل ان يجي ء الزوج فقد حلت للأزواج و لا سبيل للأول عليها هذا ما ظفرنا به من الروايات في هذا الباب و قد فهم الأصحاب من هذه الروايات ان المراد من الولي و الامام فيها هو حاكم الشرع في زمن الغيبة لفتواهم بمضمونها بالنسبة اليه و عدم فتوى ابن إدريس (ره) بمضمونها في زمن الغيبة لا من جهة عدم فهمه ذلك منها بل من جهة كونها أخبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 510

آحاد على ما حكي عنه

و كيف كان فالمستفاد من هذه الاخبار بعد ظم بعضها إلى بعض و تقييد مطلقها بمقيدها أمور.
الأول [المرأة إذا عرفت حياة زوجها المفقود لا يجوز لها ان تتزوج، و مع علمها بوفاته و لكن الحاكم الشرعي أمرها بتأجيل زواجها للفحص عنه فلا يجوز تزويجها.]:

ان الزوج إذا عرف حياته انتظرته زوجته كما هو مقتضى صحيحة بريد و موثقة سماعة و غيرها كما انها إذا عرفت موته أعتدت عدة الوفاة كما هو مقتضى أدلة المرأة المتوفى عنها زوجها. و جاز تزويجها لمن أخبرته بموته للسيرة القاضية بذلك و لأنهن مصدقات على فروجهن. و يمكن القول بأنه

مع تأجيل الحاكم ليس للسامع منها التزويج بها الإبان يحكم الحاكم بجوازه. و لكنه بعيد.

الثاني [زوجة المفقود تؤجل اربع سنوات حتى لو كانت غير مدخول بها. و ان مبدأ التأجيل من حين فقده.]

ان زوجة المفقود سواء كانت مدخول بها أم لا مع جهلها بحاله ان صبرت خلي عنها و ان رفعت أمرها لحاكم الشرع أجلها أربعة سنين للفحص عنه و هل يفحص عنه في مدة التأجيل في سائر الأرض أو الناحية التي غاب فيها مقتضى الجمع بين الروايات انه ان عرفت الناحية التي غاب فيها فحص عنه فيها كما هو مقتضى صحيحة بريد و صحيحة الحلبي و خبر دعائم الإسلام و اما إذا لم يعلم الناحية التي غاب فيها تفحص عنه في الأرض في كل طرف احتمل كونه فيها كما هو مقتضى خبر سماعة قال صاحب أنوار الفقاهة الشيخ حسن شبل كاشف الغطاء انه لا يجب تمام الاستقصاء لعسره و لا يكتفي بالقليل للشك في أجزائه. ثمَّ انه هل يشترط في حساب الأربع سنين التي هي مدة التأجيل و الفحص من وقت رفع أمرها إلى الحاكم أولا يشترط ذلك بحيث لو بقيت بعد فقده أربع سنين تتفحص هي أو وليها عنه كفى ذلك و بعبارة أخرى ان مبدأ التأجيل أربع سنين هو من حين فقده أو من حين التفحص عنه أو من حين رفع أمرها للإمام ظاهر صحيحة الحلبي و خبر أبي الصباح هو الأول و اما صحيحة بريد و ما كان بلسانها من قوله (أجلها أربع سنين) فهو غير ظاهر في كون مبدء التأجيل هو من حين رفع أمرها للوالي إذ لعل المراد أجلها أربع سنين مبدئها حين الفقد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 511

الثالث [انه لا بد في صحة زواج امرأة المفقود من الفحص عنه اما في الأربع سنين أو بعدها.]

انه لا بد من الفحص من قبل الامام اما في الأربع سنين كما في صحيحة بريد و موثقة سماعة أو بعدها كما هو ظاهر صحيحة الحلبي.

الرابع [انه لا بد الفحص عنه ان كان له مال أنفق على زوجته و لم تطلق منه حتى يعلم موته.]

انه بعد تمام الأربع سنين و الفحص فيها بالمقدار المتعارف فان عرف حاله بنحو تطمئن به النفس فيعمل على طبقه و ان لم يعرف حاله فان كان له مال أجبر الحاكم الشرعي من بيده ماله ان ينفق عليها حتى يعلم حياته من موته و لا سبيل لها ان تتزوج إلى ان ينفذ ماله و ان لم يكن له مال قيل لوليه أو وكيله أنفق عليها فإن أنفق عليها أيضا لا سبيل لها ان تتزوج ما دام ينفق عليها كما هو مقتضى صحيحة بريد و صحيحة الحلبي و رواية دعائم الإسلام و كلام المقنع و بها تقيد موثقة سماعة و غيرها مما لم يشتمل على ذلك. و اما لو تبرع متبرع بالنفقة عليها فلا دليل على وجوب الانتظار حتى يعلم حياته من موته و ان كان ظاهر بعضهم إلحاق صورة التبرع بصورة إنفاق وليه أو وكيله نعم لو قام حاكم بالإنفاق عليها من بيت المال مع عدم الولي له وجب عليها الانتظار لأنه حينئذ يكون هو وليه.

الخامس [ان المطلق لها هو حاكم الشرع.]

انه بعد تمام الأربع سنين و الفحص فيها بحسب المتعارف و لم يكن مال للغائب ينفق عليها و لا وليه ينفق عليها طلقت في حال طهرها و المطلق يكون حاكم الشرع ان لم يكن له ولي و ان كان له ولي أجبره حاكم الشرع على ان يطلقها منه. و قد دل على إجبار الوالي للولي على التطليق في هذه الصورة صحيحة بريد و خبر ابي الصباح و صحيحة الحلبي و خبر دعائم الإسلام و كلام المقنع. و دل على تطليق حاكم الشرع لها عند عدم الولي للغائب في الصورة المذكورة رواية الفقيه المعتضدة بخبر ابي الصباح و خبر دعائم

الإسلام و كلام المقنع فإنه يحصل الوثوق بالصدور و بذلك تقيد الروايات الغير المشتملة على الطلاق كموثقة سماعة مضافا إلى ان تلك الروايات مؤيدة بالروايتين المشتملتين على ان المفقود لا تتزوج امرئته حتى يبلغها موته أو طلاقه أو لحوقه بأهل الشرك. فإنهما يقتضيان تحقق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 512

الطلاق في جواز تزويج امرئته و هو اما ان يكون منه أو من وليه أو من حاكم الشرع.

السادس [ان عدة الطلاق بمقدار عدة الوفاة و لا يجب عليها الحداد.]

أن العدة التي تعتد بها بعد طلاقها من وليه أو من حاكم الشرع هي عدة وفاة أربعة أشهر و عشرة أيام لرواية الفقيه و كلام المقنع الذي هو كالرواية و موثقة سماعة. و لا يجب عليها الحداد إذ لا دليل عليه و لأن العدة انما كانت بعد الطلاق لا بعد الموت.

السابع انه ان جاء زوجها قبل انقضاء عدتها

كان أمرها بيده ان شاء رجع بها و تبين عنه إذا طلقها بعد رجوعه تطليقتين و ان انقضت العدة قبل ان يجي ء فهي تملك أمرها كما عليه المشهور و يدلك على ذلك صحيحة بريد و موثقة سماعة و غيرها

الثامن [عند عدم الحاكم الشرعي يقوم عدول المؤمنين بتطليقها.]

انه قال في أنوار الفقاهة انه لو تعذر البحث عن الحاكم لعدم وجوده أو لقصور يده فالقواعد تقضي بأنها مما ابتليت فلتصبر اقتصار على ما دلت عليه الاخبار و لقوله (ع) امرأة المفقود امرئته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه و لكن يمكن القول بقيام عدول المسلمين مقام الحاكم حسبة لحصول الضرار بدونه بل لا يبعد تولي الأمرية ذلك ثمَّ تعتد بعد ذلك دفعا للضرر و لكنه خلاف ما في الاخبار و فتوى الأصحاب و في الحدائق ردا على صاحب المسالك بعد ان نقل عنه تعيين صبر المرية في هذه الصورة قال لا يخفى ما فيه من الاشكال و الداء العضال و الضرر المنفي بالآية و الرواية الواردتين في أمثال هذا المجال و بهما استدلوا في غير حكم من الأحكام و خصصوا بهما ما كان ثمة من دليل مطلق و عام. و في المحكي عن الوافي ما حاصله انه مع فقد الحاكم أو قصور يده تجب على عدول المؤمنين القائمين مقامه في تولي بعض الأمور الحسبية القيام بذلك و تخرج الآيات و الاخبار الدالة على نفي الضرر و الحرج و الضيق في هذا الدين شاهدا على ذلك انتهى. على انه يمكن الدعوى ان لفظ الوالي في صحيحتي بريد و الحلبي و غيرهما و لفظ السلطان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 513

في خبر ابي الصباح يشمل عدول المؤمنين عند فقد حاكم الشرع لأنهم

هم الولاة على الأمور و لهم السلطنة عليها حينذاك فيكون لفظ الوالي يشملهم كما يشمل حاكم الشرع بالإجماع و ضرورة المذهب. و من هنا يظهر الحال في مسئلة تطليقها و مسئلة اعتدادها فان ظاهر الروايات انها لا بد و ان تكون بأمر الولي.

التاسع [ثبوت التوارث بين المفقود و بين زوجته.]

ان الظاهر هو ثبوت التوارث بينهما لو مات أحدهما قبل انقضاء العدة و دعوى انها عدة وفاة و من شأنها انقطاع العصمة بينهما فاسدة إذ لا نسلم انها عدة وفاة حقيقة و ليس في الأخبار نص على تسميتها بعدة وفاة و انما تشبهها بطول الزمن كيف و حق الرجوع له بها ثابت فهي كالرجعية و الأصل بقاء التوارث بل الحق أنها عدة رجعية لجواز رجوعه بها و هي محبوسة عليه.

العاشر [عدم وجوب الحد حال العدة على المرأة المفقود زوجها.]

انه لا يجب عليها الحد لما عرفت من انها ليست بعدة وفاة و يجب على الغائب النفقة لأنها في الحقيقة عدة رجعية لجواز رجوعه بها نعم لو كانت غير مدخول بها أو طلاق ثالث أو مختلعة فلا نفقة لها.

الحادي عشر [عدم إلحاق بينونة الزوجة المفقود زوجها بعد العدة ببينونة باقي أزواجه.]

قال في أنوار الفقاهة لا يلحق ببينونة الزوجة بعد العدة بينونة أزواجه الباقية اللاتي لم يرفعن أمرهن لحاكم الشرع و لا قسمة مواريثه و لا انعتاق أم ولده و لا وصاياه اقتصارا على مورد النص.

[قسمة ميراث المفقود.]

و لو قلنا بقسمة مواريثه لدليل اقتصرنا عليه أيضا دون الأحكام الباقية و قال في الحدائق و كما خرجت الزوجة بالأخبار المذكورة خرج الميراث أيضا بموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه قال المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في الأرض أربع سنين فان لم يقدر عليه قسم ماله بين الورثة. و موثقة إسحاق بن عمار قال: قال أبو الحسن (ع) المفقود يتربص بماله أربعة سنين ثمَّ يقسم و هذه الرواية و ان كانت مطلقة بالنسبة إلى طلبه مدة الأربع سنين إلا انه يجب حمل إطلاقها على ما تضمنه الخبر الأول من الطلب تلك المدة حملا للمطلق على المقيد و قد مال جملة من الأصحاب الى هذا القول منهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 514

الصدوق و المرتضى و أبو الصلاح و استوجهه في المسالك أيضا إلا انه اختار فيه القول المشهور و هو ان ينتظر به مدة لا يعيش فيها عادة مع انه لا دليل على ما ذهب اليه المشهور إلا أصالة الحياة الذي يجب الخروج عنه بالنص الذي هو هنا موجود كما عرفت. و لكن صاحب المسالك لم يعتني بالموثقتين المذكورتين لإلحاق الموثق عنده بالضعيف و ترجيح الأصل عليه.

الثاني عشر [متى تملك الزوجة النفقة على زوجها.]

انه لا خلاف بين الأصحاب ان الزوجة تملك النفقة بمجرد التمكين لزوجها منها فلو لم يدفعها اشتغلت ذمة الزوج بها. كما انه لو مكنت زوجها منها و غاب عنها على الصفة التي فارقها عليها أيضا تجب نفقتها عليه بلا خلاف كما في الجواهر و اما ان كان غاب عنها و لم يكن قد دخل بها فحظرت عند الحاكم و بذلت التمكين الكامل فلا تجب النفقة إلا بعد إعلامه لتوقف صدق التمكين

عليه. و في المحكي عن المسالك لو لم يعرف موضعه كتب الحاكم إلى حكام البلاد فان لم يظهر فرض الحاكم نفقتها في ماله الحاضر و أخذ منها كفيلا بما يصرفه إليها لأنه لا يؤمن ان تظهر وفاته أو طلاقه و ناقش في ذلك في الجواهر بأن المتجه سقوطها لعدم حصول التمكين المتوقف على اعلامه المفروض عدمه إذ المشروط ينتفي عند انتفاء شرطه

الثالث عشر [لو ظهر وجود المفقود أثناء العدة.]

لو ظهر وجوده في أثناء المدة أو العدة زال الحكم المذكور و كان حالها حال المرية الغائب زوجها المعلوم حاله لان موضوع الحكم في لسان الروايات هو الغائب المجهول الحال.

[ولاية المجتهد على] الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق

و (منها) ولايته على الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق المستحقة عليه بل حتى على الممتنع عن قبض الثمن المردود له في زمن الخيار في بيع الخيار و نحوه و لم يمكن إجباره عليه فان للحاكم الشرعي ان يتولى قبضه و يفسخ بالخيار بعد قبضه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 515

و كذا بيع ماله للوفاء عنه و ذكر الأصحاب ان البائع إذا حل أجل ثمن المبيع و امتنع عن قبض الثمن قبضه الحاكم الشرعي عن البائع و هكذا في بيع السلم و هكذا في باب الزكاة فإنهم جعلوا للحاكم الشرعي أخذها من الممتنع و تولي النية عنه بدعوى ولايته عليه.

[الممتنع عن أداء الدين.]

بل ذكروا ان الممتنع عن أداء الدين و ما يجب عليه من نفقة و نحوها لحاكم الشرع الولاية على ماله و أداء ذلك منه.

[الممتنع من الشريكين.]

و هكذا ذكروا في باب الشركة انه لو أراد أحد الشريكين القسمة و امتنع الآخر أجبره الحاكم الشرعي أو أمينه عليها مع عدم الضرر و لعل الوجه عندهم هو ولايته العامة

[الراهن إذا امتنع عن الأداء.]

و ذكروا في باب الرهن ان الأجل إذا حل و أراد المرتهن حقه طالب الراهن بالوفاء و لو امتنع الراهن من الأداء و لم يكن المرتهن مفوضا على بيع الرهن من قبله رفع امره لحاكم الشرع ليلزمه بالبيع بالقول أو بالضرب أو بالحبس و نحوها مما يتوقف عليه تحصيل الحق و ليس للمرتهن البيع قبل رفع أمره إلى الحاكم،

[المرتهن الممتنع.]

و هكذا لو أراد الراهن بيعه للوفاء و امتنع المرتهن فالحاكم يلزمه بالاذن و الا تولى أمره الحاكم و لم يذكر أحد لهم دليلا على ذلك غير دعوى عدم الخلاف و فيها ما فيها نعم يمكن ان يستدل لهم بموثق عمار عن الصادق (ع) كان أمير المؤمنين (ع) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمَّ يأمر فيقسم ماله بالحصص فإن أبا باعه و قسمه فيهم. و بعموم أدلة الولاية و لا ينافي ذلك موثق إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (ع) في الرهن الذي لا يدري لمن هو من الناس من انه يبيعه. لعدم دلالة له على عدم اعتبار اذن الحاكم الشرعي فيما نحن فيه لأن موضوعه الرهن المجهول المالك و ما نحن فيه هو امتناع الراهن أو المرتهن عن البيع عند حلول الأجل و هكذا الكلام في (موثق عبيد بن زرارة عن الصادق (ع) في الرهن الذي قد غاب مالكه من انه لا يباع حتى يجي ء صاحبه فان موضوعه فيما إذا غاب الراهن فهو أجنبي عما نحن فيه و هكذا الكلام في (موثق ابن بكير) في الرهن الذي انطلق مالكه فلا يقدر عليه من انه حتى يجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 516

صاحبه فإنه أيضا ظاهر فيما إذا غاب الراهن مضافا الى

ان الأخيرين قد أعرض الأصحاب عن إطلاقهما و اما (خبر إبراهيم بن عثمان) عن الصادق (ع) في رجل رهن داره عنده فأراد بيعها فقال (ع) أعيذك باللّه ان تخرجه من ظل رأسه. فلسانه لسان كراهة. على انه لم يعلم منه ان الراهن كان ممتنعا و لعل الظاهر ان مصب السؤال هو الاستفسار عن صحة بيع الدار التي يسكنها الراهن و إبقائه بلا مؤى الذي هو يشبه حالة الإعسار. و هكذا الحال في النفقة الواجبة عليه فإنه في الشرائع ذكر ان الحاكم يجبره على دفعها و ان امتنع حبسه و ان كان له مال ظاهر أخذ منه الحاكم ما يصرف في النفقة من دون اعتبار رضاه و ان كان له عروض أو عقار أو متاع جاز له بيعه لأن النفقة حق كالدين و لعل وجه ذلك هو ثبوت الولاية العامة للحاكم التي من شؤونها رفع الظلم و دفع الفساد.

[المظاهر الممتنع.]

و هكذا المظاهر لامرئته الممتنع عن التكفير و الطلاق فان امرئته ان صبرت على تركه لوطئها فلا اعتراض عليه و ان لم تصبر رفعت أمرها لحاكم الشرع فيحضره و يخيره بين التكفير و الرجعة و بين الطلاق و أنظره للتفكر في ذلك ثلاثة أشهر من حيث المرافعة فإن انقضت المدة و لم يختر أحدهما حبسه و ضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يختار أحدهما. و في المحكي عن المسالك و كشف اللثام و الرياض الإجماع و الاتفاق على ذلك بل المحكي عن نهاية المرام ان هذه الاحكام مقطوع بها في كلام الأصحاب و استدل لها بموثق أبي بصير قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل ظاهر من امرأته قال ان أتاها فعليه عتق رقبة أو

صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا و إلا ترك ثلاثة أشهر فإن فاء و إلا أوقف حتى يسئل أ لك حاجة في امرأتك أو تطلقها فان فاء فليس عليه شي ء و هي امرأته و ان طلق واحدة فهو أملك برجعتها

[الممتنع في الإيلاء.]

و هكذا الممتنع في الإيلاء عن الطلاق و الرجوع بها بعد انقضاء مدة التربص التي هي أربعة أشهر فإن الحاكم الشرعي يجبره بالحبس أو التضيق عليه حتى يفي ء أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 517

يطلق و قد حكى صاحب الجواهر عدم الخلاف في ذلك و الاخبار متظافرة على ذلك ففي خبر غياث عن الصادق كان أمير المؤمنين (ع) إذا أبى المولي ان يطلق جعل له حظيرة من قصب و أعطاه ربع قوته حتى يطلق. و مثله خبر حماد بن عثمان و في مرسل خلف بن حماد عن الصادق (ع) في المولي اما ان يفي ء أو يطلق فان فعل و إلا ضربت عنقه. و روي عن أمير المؤمنين (ع) انه بني حظيرة من قصب و جعل فيها رجلا آلي من امرئته بعد الأربعة أشهر فقال له اما ان ترجع إلى المناكحة و اما ان تطلق و إلا أحرقت الحظيرة. و في الصحيح عن الباقر (ع) و الصادق (ع) إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة أشهر و لا اثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر فإن مضت الأربعة أشهر قبل ان يمسها فما سكتت و رضيت فهو في حل وسعة و ان رفعت أمرها قيل له اما ان تفي ء و اما ان تطلق الخبر.

[الممتنع عن تفسير إقراره.]

و هكذا الممتنع عن التفسير في الأقارير المبهمة فان المحكي عن المشهور ان الحاكم يحبسه حتى يفسر ما أقر به و حكي عن الشرائع و التحرير انه المروي و هو شهادة منهما على وجود رواية به و الشهرة تجبر إرسالها و احتمل صاحب مفتاح الكرامة انهما أرادا الخبر المشهور بين

الفريقين و هو قوله (ص) (لي الواجد يحل عرضه و عقوبته) و في نقل آخر و حبسه و لا تفاوت بينهما فان الجنس من أنواع العقوبة و وجه الاستدلال به ان الجواب عن الإبهام واجد له و قادر عليه إلا ان يقال ان الخبر ظاهر في المال لا في الجواب. و ذهب الشيخ و ابني زهرة و إدريس الى أن الممتنع المذكور يجعل ناكلا لأنه إذا سكت و لم يفسر فقد نكل عن الجواب و اليمين معا و ان العناد فيه أشد.

[الممتنع عن تعمير الأرض.]

و هكذا الممتنع عن تعمير الأرض يجبره الامام على احد الأمرين اما الاحياء و اما التخلية بينهما و بين غيره و لو امتنع أخرجها من يده لئلا يعطلها.

قال (جدي العباس بن على) في كتابه موارد الأنام في شرح شرائع الإسلام انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 518

لا خلاف يعرف في ذلك حذرا من التعطيل المنافي للغرض منها و هو الانتفاع العام لسائر الناس على أن أدلة التحجير لم يكن فيها ما يقتضي جواز ذلك على نحو تحجير الأرض للزراعة مثلا بل لعل ما فيها مقتضي لعدم ذلك كما هو هنا ثمَّ استثنى من ذلك ما لو ذكر عذرا أنظره السلطان بقدر زواله ثمَّ ألزمه أحد الأمرين، فان لم يفعل أحدهما و لم يمتثل سقط احترام تحجيره و جاز لغيره إتمام عمله بإذن الإمام (ع) إن كان ذلك راجعا اليه كما هو أحد القولين و إلا لم يفتقر الى اذنه كما هو الحكم في سائر المشتركات هذا كله مع كون العذر الذي أبداه مقبولا عند العقلاء غير موجب للتعطيل المنافي للغرض المزبور؟؟ و قال في الجواهر و الذي عثرنا عليه مناسبا

لذلك مضافا الى بعض القواعد التي يمكن تقريرها هنا. خبر يونس عن العبد الصالح (ع) إن الأرض للّه تعالى جعلها وقفا على عباده فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده و رفعت الى غيره الحديث. و إن كان هو غير منطبق على تمام ما سمعت و تحقيق الحال يطلب من كتاب أحياء الموات.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 518

[الممتنع عن المصالحة.]

(و هكذا الممتنع عن المصالحة) فيما لو اختلط ماله بمال غيره و لم يعلم التالف ماله أو مال غيره فان تراضيا بالصلح فهو و إلا أجبرهما الحاكم الشرعي بالصلح بما يراه عدلا بينهما و علل القوم ذلك بكون الحاكم الشرعي ولي الممتنع و يدل على ذلك رواية السكوني فيمن استودع دينارين و استودع آخر دينارا فامتزجت الثلاثة و تلف أحدهما بغير تفريط من المستودع فإنها تدل على اختصاص صاحب الدينارين بواحد و تنصيف الآخر بينهما. و لما ورد في صحيحة ابن المغيرة في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: بيني و بينك من ان أحد الدرهمين للأول و الآخر بينه و بين صاحبه من غير تعرض لليمين منهما أو من أحدهما. و لما في رواية إسحاق بن عمار فيمن اشترى ثوبا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 519

بعشرين و الآخر ثوبا بثلاثين فاشتبها انه يباع الثوبان و يعطي صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، و صاحب العشرين خمسي الثمن، فان الظاهر من الجميع وجوب المصالحة القهرية.

[الوارث إذا امتنع عن دفع قيمة البناء للزوجة.]

(و هكذا لو امتنع الوارث عن أن يدفع للزوجة قيمة البناء و الشجر و النخل و كل ما تستحق قيمته) من ان للحاكم إجباره على دفع القيمة أو البيع عليه قهرا. و قد حكم بذلك في الجواهر و أرسله إرسال مسلمات قائلا: كغيره من الممتنعين عن أداء الحق. فإنه يظهر من ذلك ان الحكم ضروري عندهم.

ولاية المجتهد على الميت

و (منها) ولايته على الميت فيما إذا لم يكن له ولي أو كان و لكنه كان ممتنعا أو كان و لكن يتعذر الوصول اليه و توضيح ذلك و تحقيقه ان ما يخص الميت من الأحكام التي كان الخطاب فيها موجها لعموم المسلمين بنحو الكفاية سواء في المستحبات منها أو الواجبات كالاستقبال به حال الاحتضار و تغسيله و تكفينه و تلقينه و الصلاة عليه و دفنه و نحو ذلك ان اولى الناس بها هو أولاهم بميراثه كما هو المحكي عن القواعد و اللمعة و عن النهاية و المبسوط و المهذب و المعتبر بأن أولى الناس بأحكام الميت بأجمعها أولى الناس بميراثه. و عن جامع المقاصد ان الظاهر انه إجماعي و عن الخلاف و ظاهر المنتهى دعوى الإجماع عليه و استدلوا لذلك بعموم قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*.

و عليه فلو امتنع الولي يكون قد أسقط حقه و يكون نظير ما لو لم يكن للميت ولي أو كان و لكنه غائب يتعذر أخذ رأيه و لكن في هذه الصور وقع الكلام هل تكون لحاكم الشرع ولاية على الميت و تكون هذه الأمور ترجع لنظره نظير وليه المتصدي لها أم لا. ذهب بعضهم كالمرحوم الهمداني إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 520

العدم لعدم الدليل على ذلك بعد

انصراف الأدلة عن الحاكم الشرعي و لأن حق الولاية من الحقوق المتقومة بنفس صاحب الحق فيتعذر استيفاءه بولاية الغير و ذهب بعضهم الى ثبوت الولاية له على ذلك لما ورد من ان العالم ولي من لا ولي له الذي تقدم الكلام في دلالته و سنده في الطائفة السادسة من أدلة الولاية و هو يدل على ان الأمر الذي قد جعل الشارع له وليا إذا فقد كان العالم وليا عليه و لأنه في صورة عدم الوارث له. و قلنا: بأن حاكم الشرع في زمن الغيبة وارث من لا وارث له كالإمام فيكون وليه حينئذ هو حاكم الشرع في هذه الصورة. و لأن الأمور المذكورة تكون من الأمور الحسبية و قد تقدم و يجي ء الكلام فيها. و في المحكي عن الذكرى و المسالك: (و لو لم يكن ولي فالإمام وليه مع حضوره و مع غيبته فالحاكم و مع عدمه فالمسلمون)، هذا مع قطع النظر عن ثبوت ولاية الفقيه العامة، و إلا فمع ثبوتها فهي كما عرفت مقدمة على ولاية الولي كما تقدم في مبحث تزاحم ولاية الحاكم الشرعي مع غيره.

[ولاية المجتهد على الصلاة على الميت.]

(ثمَّ لا بأس بالتعرض للصلاة عليه على حدة) فنقول: إن الصلاة عليه قد حكي الإجماع على تقديم الإمام الأصلي على غيره فيها، بل المحكي عن كشف اللثام انه ضروري المذهب. و لقول الصادق (ع): إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها. و في مرسل الدعائم عن أمير المؤمنين (ع): إذا حضر السلطان. و في نسخة (الإمام) الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها من وليها.

و تقديم الحسين (ع) سعد بن العاص في الصلاة على الحسن (ع) قائلا له لو لا السنة لما قدمتك لعله لإطفاء الفتنة كما حكاه

في الجواهر عن الذكرى فان من السنة اطفائها على انه غير ثابت عندنا. و باب التقية باب واسع. على انه مناف لما دل على ان المعصوم لا يصلي عليه إلا المعصوم الظاهر في كونه يصلي عليه مستقلا لا مؤتما بغيره. (إن قلت): إن خبر السكوني عن الصادق (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 521

قال: قال أمير المؤمنين (ع): إذا حضر سلطان من سلاطين اللّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها إن قدمه الولي و إلا فهو غاصب فإنه يدل على ان الولي أولى من الامام، و إن صلاة الإمام مشروطة بإذن الولي.

قلنا: إن الخبر ضعيف فلا يعمل به في مقابل ما ذكرناه. و إذا ثبت ذلك للإمام ثبت للمجتهد الذي يستحق الزعامة الدينية في عصر الغيبة و ذلك للأدلة التي أثبتنا بها قيامه مقام الامام (ع) في شؤون إمامته.

ولاية المجتهد على نصب الأمين للرهن

(و منها) ولايته على نصب أمين للرهن، و توضيح ذلك ان ظاهر أكثر الفتاوى عدم استحقاق المرتهن وضع الرهن عنده. و عليه فلكل من الراهن و المرتهن الامتناع من استيمان صاحبه و لا يحل لأحدهما استيمانه عنده بدون اذن الآخر لتعلق حق الملك للراهن به و حق الاستيثاق للمرتهن به حتى انه لو اذن الراهن للمرتهن في حفظه فمات المرتهن فللراهن الامتناع من استيمان وارث المرتهن مع عدم اشتراط المرتهن حق حفظه لوارثه لكونه استيداعا و الوديعة تنفسخ بموت الودعي فإذا لم يتفق الراهن و المرتهن على أحدهما و لا على غيرهما رفع أمرهما لحاكم الشرع فاما يجعله عنده أو ينصب أمينا عدلا غيرهما و لو كان لأحدهما مرجع العدالة على الآخر ففي جواز نصب الحاكم له وجهان أظهرهما جواز النصب لا لترجيحه بالعدالة بل

لكونه بواسطة العدالة يصح نصبه و الظاهر انه في المقام لا دليل لهم على ذلك إلا الإجماع و إن كان لم أر أحدا ادعاه و لكن ارسالهم لهذا الحكم أعني (ولاية الحاكم على ذلك) يشعر بإجماعهم عليه. و لعل مستندهم في ذلك هو ما دل على ولايته العامة فيما يتعلق بمصالح المسلمين.

[فيما لو طلب المودع عنده الرهن رد الرهن.]

هذا و في المحكي عن بعض الفقهاء انه لو أودعاه عند عدل و طلب ذلك العدل رده إليهما فامتناعا عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 522

قبضه أجبرهما حاكم الشرع على قبضه أو قبضه عنهما.

[لو تشاح الشريك و المرتهن في إمساك الرهن.]

و هكذا لو رهن مشاعا و أذن للمرتهن في قبضه و تشاح الشريك و المرتهن في إمساكه انتزعه الحاكم الشرعي.

فأما أن يجعله عنده أو عند أمين عدل. و لعل الوجه فيه هو ولاية الحاكم الشرعي فيما يتعلق بالمصالح العامة أو كونه ولي الممتنع. أو لما ذكره في الجواهر من أن قوله (ع): فإني قد جعلته حاكما يقتضي ذلك لأن الحاكم هو المعد لقطع مثل ذلك النزاع الذي يجب على الشارع حسم مادته لما يترتب عليه من المفاسد.

و منه يظهر أن حكومة الحاكم لا تختص بما كان من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بل هي أعم من ذلك ضرورة عدم المعروف في الفرض إذ لا يجب على أحد الشريكين الاذن للآخر في القبض أو لمن يريده أحدهما فتشاحهما لا معصية فيه

[فيما إذا اختلفا فيما يباع به الرهن.]

و منه يظهر ما ذكره الفقهاء فيما إذا انحصر الوفاء ببيع الرهن اختيارا من المتراهنين أو لامتناع الراهن من الوفاء و نحو ذلك فاختلفا فيما يباع به بأن اختار كل منهما جنسا من الثمن غير جنس الآخر. فان ظاهر كلماتهم عدم ترجيح أحد الإرادتين على الأخرى لاجتماع الحقين في عين الرهن و انتفاء المرجح من البين فيلزمها الحاكم الشرعي بالبيع بالنقد الغالب في البلد قطعا للنزاع بينهما.

و ربما يستشكل بأن تعين النقد الغالب عليها مع انحصار الحق بهما و عدم رضائهما به مما لا وجه له لأنه إن كان لقطع الخصومة فقطعها غير منحصر بالنقد الغالب بل يمكن بالنقد المجانس للحق أو الأوفر حظا و الأقرب عرفا. و لعل نظرهم بأن الموجب لمراعاة النقد الغالب و إلزام الحاكم به ليس هو مجرد قطع النزاع بين المتراهنين بل لأن عقد الرهان متضمن للزوم بيع

الرهن عند الاحتياج الى بيعه و الاستيفاء من ثمنه سواء صرح بذلك أم لا، و لا ريب في ان إطلاق البيع المأذون فيه ضمنا ينصرف إلى كونه بالنقد الغالب كانصرافه الى ثمن المثل فرد الحاكم لهما إلى النقد الغالب رد إلى ما التزما به من البيع المقيد بثمن معين جنسا و قدرا لا اقتراحا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 523

لمجرد قطع النزاع و الخصومة.

ولاية المجتهد على نصب الوصي للميت
اشارة

و (منها ولايته على نصب الوصي للميت و الناظر عليه) ذكر الفقهاء ان لحاكم الشرع الولاية على نصب الوصي للميت فيما إذا جن الوصي أو مات أو عجز عن التصرف لكبر أو مرض أو سفه بحيث لا يتمكن من المباشرة و لا الاستنابة و لو بالاستيجار و نحوه و لعل الوجه في ذلك مضافا للإجماع هو سقوطه عن الولاية على الموصى به فإن الوصاية هي جعل الولاية بعد الموت للوصي، و المذكورون لا يصلحون لها فيكون الموصى به بلا ولي عليه و الحاكم ولي ما لا ولي له و هو المتولي لمصالح المسلمين و القيم على أمورهم لولايته العامة. نعم لو عجز عن بعض التصرفات دون بعض فالحاكم الشرعي إنما يضم له أمينا للقيام بما عجز عنه. و هكذا لو فسق الوصي بناء على اعتبار العدالة في الوصي (كما عن المشهور بل عن الغنية الإجماع عليه). فإنه لو فسق لم يصلح حينئذ للولاية فيبقى الموصي به بلا ولي و الحاكم ولي ما لا ولي له. و هكذا لو اشترط الموصي فقاهة الوصي أو عدالته أو نحو ذلك فإنه لو زال الشرط ينتفي جعل الوصاية له لأن المشروط عدم عند عدم شرطه فيرجع الأمر لحاكم الشرع، و هكذا لو

ظهرت خيانته فإنه يعزله الحاكم الشرعي و ينصب غيره و الظاهر عدم الخلاف في ذلك و وجهه على القول باشتراط عدالة الوصي واضح، و أما على القول بعدم اشتراطها فحيث ان الوصاية بحسب ظاهر الحال إنما أعطاها المسلم له على الأموال و حقوق الغير لأمانته و عدم خيانته فيخرج عن أهليته للوصاية باتصافه بالخيانة. مضافا الى أن الحاكم الشرعي باعتباره المتولي لمصالح المسلمين و المرجع في شؤونهم فيجب عليه مراعاة حقوق الأطفال و أموال الصدقات و نحوها و حفظها عن التعدي و لا يتم ذلك إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 524

بعزل الحاكم له و منعه من التصرف فوجب عليه عزله و اقامة غيره مقامه و (دعوى) ان هذا لا يتم فيما لو علم الموصي بخيانة الوصي فأوصاه، على أن ذلك لا يقتضي عزله بل غايته منعه من الاستقلال فيضم الحاكم اليه غيره كما عن بعض المتأخرين (مدفوعة) بأن الوصاية استيمان و ولاية بعد الموت و قد جعلها الشارع للمحافظة على الحقوق و حفظ المال عن صرفه في غير مورده فهي غير مجعولة شرعا للخائن و من هنا يظهر انعزاله بالخيانة و لا وجه لعدم عزله و الاكتفاء بضم الحاكم إليه فإن الضم إنما يصح مع عجز الوصي لا مع خروجه عن الأهلية. و هكذا ذكروا ان الإنسان لو مات و لا وصي له و له أطفال و لا ولي إجباري عليهم أو له وصايا من الغير أو غير ذلك مما يحتاج إلى الولي يكون المرجع في ذلك هو الحاكم الشرعي لأنه ولي من لا ولي له هذا كله مع كون الوصي منفردا و أما إذا لم يجعله منفردا فتارة يطرأ العجز

أو الموت أو نحو ذلك مما يسقطهم عن الوصاية فالحكم هو كما في صورة الانفراد، و إن طرأ على أحدهم ذلك

فالكلام يقع و على وجوه ثلاثة:
(أحدها) [تنصيب الموصي ناظرا على الوصي]
اشارة

أن يجعل الموصي على الوصي شخصا آخرا يكون صرف الوصي باطلاعه حذرا من خيانته و لم يكن له مدخل في التصرف و لا في الاذن فيه و يسمى بالناظر و قد يعبر عنه بالمشرف

[فيما إذا خرج الناظر عن صلاحيته للنظارة.]

و حينئذ فلو مات الناظر أو خرج عن صلاحية النظارة و الأشراف بواسطة جنونه أو عدم قدرته أو هرمة أو نحو ذلك فهل يستقل الوصي بالتصرف أو يجب رفع أمره للحاكم الشرعي الظاهر هو الثاني لعدم اعتماد الميت على الوصي استقلالا فلا يصح منه التصرف منفردا لأنه تغير للوصية و تبديل لها فلا بد له من مراجعة من هو ولي الأمر و هو ينصب عليه ناظرا. (إن قلت): انه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي الميت. و مقتضى وصايته استقلاله. و شرطية اشراف الغير عليه مقيدة بحال الإمكان و إلا لبطلت وصايته لانتفاء شرطها فينبغي استقلال الحاكم بالوصية لا جعل ناظرا عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 525

مع انه لم يقل بذلك أحد.

قلنا: ان هنا جعلان: جعل الوصية، و جعل النظارة فتعذر أحدهما إنما يقتضي سقوطه بخصوصه و لا يقتضي عزل الوصي حتى يرجع الأمر للحاكم الشرعي و لا يقتضي إلغاء ما اشترطه من عدم استبداد الوصي في عمله لكونه مخالفة لمقتضى الوصية فلا بد من الرجوع في هذه الناحية لمن بيده مجاري الأمور و هو الفقيه الجامع للشرائط فيعيّن ناظرا عليه. مضافا الى أن هذا هو القدر المتيقن في التصرف بمال الميت. (و من هذا يظهر) صورة امتناع الناظر عن النظارة فان الواجب على حاكم الشرع أن يجبره على ذلك و إن لم يقدر على ذلك نصب ناظرا مكانه.

(ثانيها) أن يجعل الوصاية لكل منهما مستقلا

ففي هذه الصورة لو خرج أحدهما عن الأهلية أو مات فالوصي الآخر يكون هو المرجع و لا ينصب مكانه وصيا آخرا لثبوت الوصاية للباقي على نحو الاستقلال.

(ثالثها) أن يجعل الوصاية لكل منهما مجتمعين
اشارة

بأن يجعل الوصاية لهما معا بمعنى تعلقها بالمجموع بأن يكون مجموعهما وليا واحدا بحيث يكون كل منهما جزء وصي أو يجعل الوصاية لكل منهما بشرط الاجتماع في التصرف بمعنى صدوره عن رأيهما جميعا. فإنه في هذه الصورة بأي نحو كان الجعل لو مات أحدهما أو خرج عن الأهلية فقد يقال بلزوم استقلال الحاكم الشرعي بالوصاية لأن الوصي الموجود مشروطة وصايته بالآخر و قد عدم هذا الشرط و المشروط عدم عند عدم شرطه و قد يقال ان على الحاكم الشرعي أن يضم اليه من يقوم مقام الآخر إذ لا يشرع للوصي إنفاذ الوصية منفردا لاشتراط الموصي عدم الانفراد فلو انفرد كان تبديلا للوصية فلا مناص له من الرجوع الى الحاكم الشرعي لأنه المرجع في أمور المسلمين فاذا رجع اليه فالواجب على الحاكم الشرعي أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 526

ينفذ الوصية حسب ما أراده الوصي قدر الإمكان، و حيث أن الموصي قد قدم هذا الموجود على الحاكم الشرعي حيث انه قد أوصاه فإذن لا بد للحاكم الشرعي من إبقاء الوصي على وصايته. و حيث ان الموصي لا يرضى باستقلال هذا الوصي، فلا مناص من تعين الحاكم أمينا بدلا عن المفقود يضمنه الى الموجود مضافا الى أن هذا مقطوع بصحته و لا نقطع بالصحة مع الاستقلال و اللازم هو الاقتصار في التصرف بمال الغير على القدر المتيقن صحته هذا و المنسوب إلى الأكثر في هذه الصورة هو استقلال الوصي الموجود بالوصاية فظهر ان الأقوال ثلاثة و (الحق)

هو الأول فان الموصي إنما قدم الأول على نظر الحاكم عند ما كان منظما لما عينه معه لا عند فقده و خروجه عن الأهلية كما ان الثاني هو الأحوط. و من هنأ يظهر لك الحال فيما لو مات الوصيان فإنه للحاكم ان ينصب واحدا مكانهما.

[لو تشاح الأوصياء]

(كما انهم ذكروا) في ان الوصيين المذكورين لو تشاحا و تعاسرا و لم يتفقا على التصرف و العمل بالوصية بنحو واحد يجبرهما الحاكم الشرعي على الاجتماع لأنه المتولي لمصالح المسلمين و المعد لحسم مثل ذلك لأدلة الولاية العامة فإن تعذر اجتماعهما عزلهما و استبدل بهما غيرهما لان شرط ولايتهما على شؤون الميت و على أمواله اجتماعهما و مع انتفائه ينتفي المشروط و يكون المال بلا ولي. و الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له. و لكن يمكن ان يورد على ذلك بأمور:

(أحدها) ما عن الروضة من أن هذا لا يتم ببناء على المشهور من اشتراط عدالة الوصي لأنه بتعاسرهما يفسقان لوجوب المبادرة إلى تنفيذ الوصية مع الإمكان فيخرجان بالفسق عن الوصية و يستبدل بهما الحاكم الشرعي فلا يتصور إجبارهما على هذا التقدير و أجاب عنه غير واحد بأن محل كلام القوم هو التشاح بينهما بحسب ما يراه أحدهما من المصلحة غير ما يراه الآخر و هو لا يوجب فسقهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 527

و انما الموجب للفسق هو التشاح عنادا و تشهيا. (ثانيها) انه لا وجه للإجبار لأن حقيقة الإجبار هو حمل الإنسان على فعل ما يكره و لا يتصور في المقام لأنه إن أرادوا جبر أحدهما على موافقة صاحبه على الرأي و ان اعتقد خلاف المصلحة بالموافقة فهو ليس من الجبر لهما بل هو من

الاذن لأحدهما بالانفراد حيث لا اعتراض عليه من الآخر على هذا التقدير و ان أراد و أجبرهما على رأى مخالف لرأيهما فهو غير جائز لأنه يكون هذا استبدال لهما بغيرهما لا جبرا على الاجتماع. و يمكن الجواب عنه بأن المراد بالجبر على الاجتماع هو جبرهما على اعادة النظر و اجالة الرأي رجاء لتحصيل الموافقة بينهما و يكون المراد بتعذر اجتماعهما هو عدم حصول الاتفاق في النظر بينهما و عليه فلا وجه لما في الجواهر من التزام جبر الحاكم لهما بما هو الأصلح عنده في نظره و مع التساوي يتخير فان هذا رجوع لأحدهما لا جبرا على اجتماعهما. (ثالثها) ان ذهاب المشهور الى الاستبدال بهما مع تشاحهما و عدم اجتماعهما مناف لما مر من ذهابهم من انه لو مرض أحدهما أو عجز ضم الحاكم إلى الآخر من يعينه و انه لو مات أو و فسق استقل الآخر بالوصاية و ذلك لأنه أيضا لا يمكن اجتماعهما فعدم إمكان الاجتماع لو كان موجبا للاستبدال فكذا في صورة العجز أو الفسق أو الموت أو المرض ينبغي الفتوى منهم بالاستبدال.

و الحاصل انهم كان عليهم اما ان يلحقوا تلك الأحوال في الحكم بحال تعذر الاجتماع أو يحلقوا حال ما نحن فيه من تعذر الاجتماع بتلك الأحوال فيكون الواجب فيما نحن فيه هو جعل أحدهما مستقلا و هو ما يكون أرجح في نظر الحاكم و مع التساوي يختار أحدهما أو يضم له أمينا هذا و لكن هذا الإيراد لا يرد على ما اخترناه فيما نحن فيه حيث اخترنا في المقامين الرجوع إلى نظر الحاكم الشرعي و زوال الوصاية و الولاية عنهما.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 528

ولاية المجتهد على من لا ولي له في الدم

و (منها ولايته

على من لا ولي له في الدم) فقد ذكر الفقهاء ان حاكم الشرع ولي من لا ولي له في الدم فيقتص ان قتل عمدا و لو قتل خطأ أو شبيه بالعمد فله استيفاء الدية. و ذلك لما في صحيحة أبي ولاد أو حسنته. في مسلم قتل و ليس له ولي مسلم على الامام ان يعرض على قرابته الإسلام فمن أسلم فهو وليه يدفع اليه القاتل ان شاء قتل و ان شاء عفى و إن شاء أخذ الدية فان لم يسلم أحد كان الامام ولي أمره ان شاء قتل و ان شاء أخذ الدية يجعلها في بيت مال المسلمين إلى ان قال: فان عفى عنه الامام. قال (ع) انما هو حق لجميع المسلمين و انما على الامام أن يقتل أو بأخذ الدية و ليس له العفو.

(العشرون: من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الفتوى بالتخير و القضاء بالتعيين (عند التعارض بين الامارات)

اشارة

لا يخفي انه بناء على التخير في صور تعارض الأمارتين المتكافئين فلا إشكال في ان المجتهد بالنسبة لعمل نفسه يكون مخيرا بينهما. و اما بالنسبة إلى إفتائه و قضائه

فالكلام يقع في مقامين
(الأول في مقام الإفتاء) [عند تعارض الأمارات.]

فهل يفتي بالتخير في العمل أو ان التخير ثابت له فقط و يفتي بمضمون أحد الخبرين الذي اختاره حكى في الرسائل ذهاب المشهور إلى الأول أعني لزوم أن يفتي المجتهد بالتخير في صورة تكافؤ المتعارضين مستدلين على ذلك.

أولا بأن نصب الشارع للأمارات و طريقتها يشمل المجتهد و المقلد فالخطاب الأصولي كالخطاب الفرعي متعلق بنوع المكلفين من غير فرق بين المجتهد و المقلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 529

فالخطاب بالتخير لا يختص بالمجتهد غاية الأمر، إن العامي لا يقدر في زماننا هذا على تشخيص مدلول الخبر و شرائط العمل به و دفع معارضاته و المجتهد قادر على ذلك فيكون المجتهد نائبا عن العامي في ذلك و وجب على العامي الرجوع إليه لمعرفة الحكم الشرعي فهذا الاختصاص بالمجتهد و التعيين عليه أمر طارئ لا يمنع من الحكم بالتخير بعد عموم أدلته للعامي و المجتهد نظير اختصاص العمل بالخبر بالمجتهد فإنه عرضي لا يمنع من عموم مؤداه الذي هو الحكم الفرعي للمجتهد و العامي. و قد أجيب عن ذلك بأن الحكم بالتخير بين المتعارضين حكم أصولي كالحكم بوجوب العمل بخبر الواحد و كالحكم بالترجيح للراجح منهما، فإن العامي لا يقدر على العمل بها بخلاف الحكم الفرعي كالحكم بوجوب رد السلام فإن العامي يقدر على العمل به فلذا كان الحكم الأصولي مختص بالمجتهد دون العامي بخلاف الحكم الفرعي.

و الحاصل إن التخير بين الأمارتين المتعارضين تخير في المسألة الأصولية بمعنى انه تخير في أخذ الحكم من أحدهما

و استنباطه منه و هذا لا يقدر عليه العامي فهو يغاير التخير في المسألة الفرعية فإنه تخير في العمل بالتكليف كالتخير بين القصر و الإتمام في المواطن الأربعة أو خصال الكفارة فالأول يختص بالمجتهد كالخطاب بالترجيح للراجح من المتعارضين فإنه يختص بالمجتهد و كالخطاب بالحدود المتوجه للحكام فلا تعلق لهذا الحكم بالعامي فلذا لا يصح للمجتهد أن يفتي به للعامي بخلاف التخير في المسألة الفرعية فإن العامي قادر عليه و متمكن من امتثاله. إن قلت:

إن الخطابات الشرعية بالمسائل الأصولية متوجهة للعوام أيضا فإن العوام في عصر النبي (ص) و الأئمة (ع) كان يرجعون للأخبار المروية عنهم (ص) و يعملون بها و يعالجون متعارضاتها بما ورد عنهم (ع) كما يعمل بها المجتهدون بل المخاطب في كثير منها العوام.

قلنا: نعم لكن في هذه الأعصار التي كثرت فيها الاختلاطات و الأفكار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 530

و تشتت الآراء و الأنظار صار العوام لا يقدرون على تشخيص مدلول الخبر و إحراز شروط العمل به و دفع معارضاته بخلاف عصور المعصومين (ع) ثمَّ إنا لا نسلم ان المخاطبين بها كانوا غير مجتهدين كيف و هم يسألون عن الخبرين عند تعارضهما و المرجحات لأحدهما على الآخر و بهذا ظهر لك ما في كلام المرحوم الآخند (ره) حيث ذهب فيما نحن فيه الى عدم جواز الإفتاء بالتخير في المسألة الفرعية بأن يقول أنت مخير في هذه الواقعة لعدم الدليل عليه فيها و جواز الإفتاء بالتخير في المسألة الأصولية، و حينئذ للمقلد أن يختار غير ما اختاره مجتهده من المتعارضين و يعمل بما يفهم مما اختاره بصريحه أو بظاهره إن كان ممن قام عنده حجية الظواهر و إلا رجع

للمجتهد في تعين مدلوله كما رجع إليه في معرفة ان مورده من موارد التخير و لا يخفي ما فيه لما عرفته و لما ستعرفه في تحقيق القول الثاني من أن الاحكام الأصولية التي ترجع للاستنباط مختصة بالمجتهدين مضافا الى أن هذا يلزم منه الاجتهاد في المسألة مع أن مقدماته تقليدية و المشهور عدم جواز ذلك.

(و ثانيا) إن الإفتاء بالحكم الذي هو مضمون أحدهما على سبيل التعين مع عدم تعيينه على العامي كما هو الفرض إفتاء بغير حكم اللّه تعالى لأن اللّه تعالى لم يعينه عليه فلا يجوز للمجتهد ذلك لأن الفتوى بغير ما أدى اليه نظره تشريع محرم بالأدلة الأربعة لكونه إدخال ما ليس من الدين في الدين. و فيه ما عرفته في الجواب عن الحجة الاولى من أن التخير لم يكن حكما للعامي و إنما هو حكم مختص بالمجتهد نظير أحكام المسافر المختصة به و حينئذ فيختار المجتهد أحد الخبرين و يعين حكم المسألة منه ثمَّ يشاركه المقلد في ذلك الحكم و إلا فقبل الاختيار لم يشخص حكم الواقعة المتعارض فيها الأخبار حتى يفتي به. و ذهب العلامة إلى الثاني في محكي التهذيب و هو الفتوى بمضمون أحدهما فقط دون التخير بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 531

مضمونيهما و قد استدل على ذلك بما تقدم من أن التخير مختص بالمجتهد لعجز العامي عن العمل به. و إن اختيار المجتهد لأحدهما يكون هو الطريق التعبدي للحكم الشرعي المشترك بينهما. و أجيب عنه بأن الذي يجب اتباعه إنما هو رأي المجتهد لا ما اختاره في مقام عمله فإذا رأى المجتهد تكافؤ الخبرين و إن الحكم عند التكافؤ جواز الأخذ بمضمون كل منهما و

اطلع المقلد على ذلك جاز له تطبيق عمله على ذلك و إن لم يخبره المجتهد بذلك أو أخبره بخلافه. و الحاصل انه لا دليل على أن اختيار المجتهد بمنزلة الطريق التعبدي لإثبات متعلقه و صيرورة المتعلق تكليفا تعينيا منجزا على العامي مع أن المجتهد لا يراه في الواقع كذلك و إنا لا نسلم اختصاص الخطابات المتعلقة بالطرق بالمجتهدين و الا فيتطرق البحث إلى الأحكام الواقعية الأولية أيضا. و يقال انها لا تتعلق بالجاهل القاصر عن معرفتها فتلخص ان العوام مكلفون بالعمل بالخبر الواحد السليم عن المعارض و بأحد الخبرين المتعارضين أو بأرجحهما مزية بالعمل. و بقول اللغوي: في ان الصعيد وجه الأرض و بتقديم العرف على اللغة، و بإجراء الاستصحاب و سائر الأصول في موردها و نحو ذلك فإنها كالأحكام الواقعية متعلقة بالجميع غاية الأمر ان العوام عاجزين عن التشخيص بها فينوب عنهم المجتهدون و ذلك لأنها بأجمعها أحكام شرعية إلهية و جميع المكلفين فيها شرع سواء و حكم اللّه تعالى في الأولين و الآخرين سواء و حكمه على الواحد و الجماعة سواء. نعم إنها لا تتنجز إلا بعد إمكان العلم بها أو إمكان الرجوع الى العالم في معرفتها ففي أصل تعلق الأحكام لا تفاوت بين الناس و كذا لا تفاوت بينهم في عدم تنجزها مع العجز عن الوصول إليها و كذا في تنجزها مع تيسر العلم بها بلا واسطة كالمجتهد أو مع الواسطة كالمقلد. و عليه فاللازم حينئذ على المجتهد بيان حكم الواقعة للمقلد و من الواضح إن حكمها هو التخير فكيف يفتي بالمعين الذي ليس هو حكم اللّه لا في حقه و لا حق مقلده. و بعبارة أخرى

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 532

إن دعوى اختصاص حكم التخير بالمجتهد. إن كان من جهة دعوى عجز العامي عن العمل بها و العاجز غير مكلف كما لو كان عاجزا في الفرعيات فإنه غير مكلف بها فلا يخفي ما فيه لأن عجزه انما كان من جهة عدم العلم و هو لا يوجب الاختصاص بغيره الذي هو المجتهد كما نشاهد في ذلك العامي القاصر العاجز عن معرفة التكاليف الشرعية الفرعية فإنه كما يجب عليه إن يرجع لمن يعلمها كذلك يجب في تلك أن يرجع لمن يعلمها فهو غير عاجز في الحقيقة لإمكانه الوصول إلى من يعلمها. و إن كان من جهة أن المجتهد عليه أن يفتي بمؤدى ما اختاره لنفسه من الطريق فيكون الطريق الذي اختاره من المتعارضين مؤداه هو الحكم الشرعي للمقلد. ففيه ان المقلد عليه أن يتبع رأي المجتهد في الواقعة و قد كان رأيه هو التخير بين مضمون الخبرين في هذه الواقعة و اختيار أحدهما كان لهوى في نفسه لا علاقة له بالحكم الشرعي و بعبارة أخرى أنه ان كان اختيار أحد الخبرين من تتمة الاستنباط و الاجتهاد و إنه لم يتحصل الاجتهاد للمجتهد قبل الاختيار لعدم حصول الدليل له إلا بعد الأخذ و الاختيار لأحدهما و قبله لا حجة له فأخذه يجعل للخبر حجية عنده غاية الأمر أنه قبل الأخذ له أن يأخذ كل منهما بعنوان الحجية فلهما هذه الشأنية لا أنهما حجتان بالفعل فلا يكون المقلد مخيرا لأن الحكم الشرعي لم يتحقق للمجتهد حتى يقلده العامي فيه فلا يجوز الإفتاء بالتخير، فهو فاسد، لأن الشارع بعد ما حكم بالتخير و وجد المجتهد الموضوع للتخير فيكون المجتهد فارغا عن الاجتهاد و قد تمَّ الاجتهاد قبل

الاختيار لأحدهما فيكون الحكم هو التخير بينهما و يكون اختياره لأحدهما من قبيل العمل بالحكم الشرعي. و إن كان من جهة أن حكم الواقعة في الواقع تعينيا لا تخيريا فكيف يفتي بالتخير ففاسد أيضا لأن حكم الواقعة بعنوانها الاولي كذلك، و أما بعنوان تعارض الخبرين فيها فحكمها التخير. و إن كان من جهة ان التخير إنما يكون حكم المتحير و العامي بعد اختيار المجتهد لأحدهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 533

يخرج عن كونه متحيرا لان من ناب منابه في الاستنباط و هو المجتهد زال تحيره باختيار أحدهما. ففيه أنه قبل اختيار المجتهد لأحدهما يقتضي جواز الفتوى بالتخير مع أنه لا يعقل زوال التخير الذي هو موضوع لاختيار أحدهما باختيار أحدهما و إلا لزم أن يكون حدوث المعلول سببا لزوال العلة. و إن كان من جهة أنها مسألة أصولية و المسألة الأصولية لا يجوز التقليد فيها فسيجي ء إن شاء اللّه جواز التقليد فيها فيما يمكن العمل بها كمسألة تقليد الميت و فيما نحن فيه يمكن العمل للمقلد إذا أفتى له المجتهد بالتخير بين المضمونين للخبريين المتكافئين نظير ما يفتي له بالتخير بين خصال الكفارة. و إن كان من جهة أنه لا بد للمقلد من موافقة المجتهد في الحكم لأنه تابع له و على الإفتاء بالتخير قد يلزم المخالفة لأن المقلد قد يختار خلاف ما اختاره المجتهد ففي صورة ما إذا تكافأ الخبران و كان أحدهما دالا على الوجوب و الآخر على الحرمة فاختار المجتهد الوجوب و المقلد الحرمة فلم يكن تابعا له. فلا يخفى ما فهي فإنه نظير ما إذا قلده في البقاء على تقليد الميت و كانا متخالفين في الفتوى فان التبعية

إنما تكون في أصل الفتوى و إذا كانت التبعية في الفتوى تجوز المخالفة فلا مانع منها. و ان كان من جهة أن لازم ذلك عدم جواز التعين في مقام القضاء أيضا لأن الحكم الشرعي لو كان عند التكافؤ هو التخير فكيف يقضي بخلاف حكم اللّه تعالى بالتعين كما لو باع أحدهما العذرة على الآخر ثمَّ شكا في صحة البيع فأحدهما يقول بصحته لقوله عليه السلام: (لا بأس ببيع العذرة). و الآخر يقول: بفساده لقوله (ص):

(بيع العذرة سحت). فلا يخفى ما فيه فإنه في صورة النزاع التخير يختص بالقاضي و لا يشمل المتنازعين لأنه يلزمه عدم رفع التشاجر بينهما فجعل القاضي لرفع الخصومة يقتضي اختصاص التخير به (و التحقيق أن يقال) أن التخير بين المتكافئين من الأحكام الأصولية التي تتعلق بمقدمات الاستنباط و هي لا يشترك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 534

فيها العامي و المجتهد لأن الأحكام الأصولية المذكورة ليست مطلوبة في حد ذاتها بل المطلوب في الحقيقة هو الأحكام الفرعية التي هي مؤديات الامارات و الأصول العملية فهي أحكام طريقية مقدمية لتحصيل الأحكام الفرعية فلا ثمرة لتكليف غير المجتهد بها لعدم قدرته على العمل بها و التكاليف المقدمية الطريقية مختصة بمن يقدر على سلوكها و أعمالها لتحصيل ذي المقدمة و ذي الطريق منها و هو المجتهد دون العامي. مضافا الى ان موضوعاتها مختصة بالمجتهد فان موضوع وجوب العمل بخبر الواحد هو الذي يتفحص و لم يجد المعارض و لا المخصص و العارف بالدلالة و هو لا يكون إلا المجتهد و هكذا موضوع الأصول العملية هو الشك الفعلي بعد الفحص و العجز عن الظفر بالدليل و هو مختص بالمجتهد و هكذا الأدلة التي

أخذ في موضوعها الظن أو القطع إذ هما مختصان بالقاطع و الظان. مضافا إلى ان الأحكام الأصولية الراجعة للاستنباط و كيفيته انما تكون مختصة بالمستنبط و هو المجتهد دون العامي شأن سائر الأحكام المختصة بموضوعاتها كأحكام السفر المختصة بالمسافر دون الحاضر و لعله إلى هذا أشار الشيخ الأنصاري (ره) في رسائله بقوله (ره) و التخير هنا في طريق الحكم فعلاجه بالتخيير مختص بمن يتصدى لتعين الطريق و (دعوى) ان المجتهد ينوب عن العامي في الاستنباط فيكون العامي مكلفا بأحكام الاستنباط. (فاسدة) لأن النيابة عنه في الاستنباط لا تقتضي ثبوت أحكام الاستنباط على المنوب عنه فإن أحكام كل شي ء تختص بمن يقوم بذلك الشي ء فإن أحكام الصلاة للنائب مثل سجود السهو و البناء على الأكثر في عدد الركعات انما تختص بفاعل الصلاة و لا تتعدى للمنوب عنه و هكذا أحكام الحج النيابي و غيرها. و (دعوى) أن العامي إذا كان مكلفا بالفروع فهو مكلف بمقدماتها و هو التكاليف الأصولية (فاسدة) فإن تكليف العامي بالفروع يقتضي وجوب تحصيلها بالمقدور اليه و هو التقليد فيها و ليس مكلف باستنباطها و الاجتهاد فيها نعم المجتهد مكلف بالاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 535

فيها و استنباطها فتكون أحكام الاجتهاد و الاستنباط متوجهة نحوه. و دعوى أن الحكم بالتخير بين الخبرين للشك في حجية أحدهما نظير الحكم ببقاء الحالة السابقة عند الشك فيها فكما ان الحكم بالبقاء مشترك بين المجتهد و المقلد فكذا الحكم بالتخير فاسدة بما ذكره المرحوم الأنصاري مما حاصله ان الشك هناك في نفس الحكم الشرعي المشترك فحكم الشارع فيه بحكم مشترك و التخير هنا في طريق الحكم و استنباطه فحكم الشارع بالتخيير مختص بمن

يتصدى لتعيين الطريق كما ان الحكم بالترجيح مختص به. و دعوى ان التخير هنا مسألة فرعية لأنه تخير في العمل بمضمونهما نظير التخير في خصال الكفارة فاسدة فإن التخير هنا في الطريق لمعرفة الحكم الشرعي بمعنى انه تخير في أخذ الحجة على الواقع و التخير في الطريق مسألة أصولية.

و دعوى ان التخير هنا لو سلمنا انه تخير بين الحجتين و هو تخير في مسألة أصولية و سلمنا ان المسألة الأصولية لا يجوز التقليد فيها و مختصة بالمجتهد لكنه لما كان مستلزما للتخير في المسألة الفرعية و هو التخير بين مضموني الخبرين لأنه إذا كان مخيرا في الأخذ بأحدهما فهو مخير في مفادهما أيضا و هو تخير في المسألة الفرعية فيفتي المجتهد بالتخير من هذه الجهة. فاسدة فإن هذا التخير في الفرع تابع للمسألة الأصولية فإذا كانت المسألة الأصولية قد سلم اختصاصها بالمجتهد و عدم جواز التقليد فيها فلا يجوز فيما يتبعها من الفروع ان تتجاوز موضوعها و تثبت لغيره و هو العامي. و دعوى ان الحكم الأصولي و ان كان متوجه للمجتهد فإنه الذي جاءه النبإ و الحديثان المتعارضان أو تيقن بالحكم سابقا و شك في بقائه لاحقا و هو المأمور عنوانا بالتصديق و بالترجيح و بالتخير و بالإبقاء في الاستصحاب لكنه إذا كان له مساس بمقلديه فلا يعقل جعله للمجتهد فقط بل هو المأمور عنوانا و مقلده مأمور لبا حيث انه بأدلة جواز الإفتاء و وجوب التقليد يكون المجتهد نائبا عن المقلد فيما يمسه من الاحكام فهو محكوم بتلك الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 536

الأصولية عنوانا و مقلده محكوم بها لبا و عليه فلا مجال إلا للإفتاء بالحكم المجعول في

حق المقلد لبا و هو فيما نحن فيه التخير بلسان (اذن فتخير) و بعنوان (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك). لا يخفى ما فيها لان الكلام في مساس هذا الحكم الأصولي بالمقلد و كيف يمسه و التخير انما هو في الحجية فإن اختيار العامي لأحدهما و أخذه حجة له لا ينفعه لعدم معرفة دلالته و مخصصة و مقيدة و غير ذلك و الحاصل ان التخير في المسألة الفرعية أعني بين المضمونين له مساس بالمقلد لكن لا دليل عليه هنا و التخير في المسألة الأصولية اعني التخير في اختيار الحجة من المتكافئين أخبار التخير تدل عليه لكن لا مساس له بالمقلد.

[المقام الثاني: في القضاء عند تعارض الأمارات.]

قضاء المجتهد عند تكافؤ المتعارضين (المقام الثاني) و هو قضائه عند تكافؤ المتعارضين فنقول قد عرفت فيما سبق ان حكم المجتهد في الإفتاء عند تكافؤ المتعارضين الدالين على الحكم الشرعي هو التخير في الفتوى بأحدهما و لا يجوز له الفتوى بالتخير بينهما. و أما قضائه عند تكافؤ المتعارضين ففي الرسائل للشيخ (ره) انه عن جماعة يختار أحدهما فيقضي به لان القضاء و الحكم عمل نفسه لا غيره و لما عن بعض من ان تخير المتخاصمين لا ترتفع معه الخصومة. ثمَّ ان القاضي لو حكم في خصومة في واقعة على طبق احدى الأمارتين المتكافئتين فهل له الحكم على طبق الأخرى في خصومة أخرى في نفس تلك الواقعة المحكي عن العلامة (ره) في التهذيب الجواز و نسب للمحقق القمي (ره) بل نسب للمحققين ذلك أيضا و استدل عليه في النهاية بأنه ليس في العقل ما يدل على خلاف ذلك و لا يستبعد وقوعه كما لو تغير اجتهاد المجتهد إلا ان يدل دليل على عدم الجواز كما روى

ان النبي (ص) قال لأبي بكر لا تقضي في شي ء واحد بحكمين مختلفين و التحقيق ان يقال انا ان قلنا بأن المستفاد من أدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 537

التخير في المتكافئين هو التخير الاستمراري فيجوز ذلك بأن يحكم تارة على طبق أحد الأمارتين و أخرى على طبق الأخرى و ان قلنا أن المستفاد هو التخيير الابتدائي فلا يجوز ذلك و قد حققنا ذلك في محله و وقته في مبحث التعارض.

الواحد و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد فيما يخص اجتهاده إذا استند فيه الى التقليد في بعض المقدمات

ان المجتهد لو استند في اجتهاده لمقدمات كانت بعضها تقليدية كما لو كان مقلدا في حجية الاستصحاب فهل يجوز عمله باجتهاده و هل يجوز للغير تقليده.

الظاهر انه لو كان تقليده في تلك المقدمات صحيحا جاز عمله باجتهاده حيث كان اجتهاده يستند لمقدمات صحيحة و إلا فلا كما هو واضح و أما رجوع الغير له فلا يجوز لأنه ليس اجتهاده في هذه المسألة باجتهاد بل يرجع للتقليد لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و أدلة التقليد انما تدل على جواز الرجوع للمجتهد في المسألة لا للمقلد فيها فان حكمه حكم العامي فيها بل لا يجوز له الفتوى بهذه المسألة لأنه جاهل بحكمها.

الثاني و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد فيما يخص الأعمال التي شك في صحتها من جهة الشك في الاجتهاد و صحته

لا يخفى أنه تارة يشك الإنسان في أصل صدور الاجتهاد منه في أعماله الماضية بمعنى انها صدرت منه عن اجتهاد أم لا فهو يشك في صحة أعماله من جهة الشك في أنها صدرت منه عن اجتهاد أم لا و أصل الصحة لا يثبت صدورها عن اجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 538

و لكن قد عرفت ص 36 ان أصل الصحة يثبت صحة الأعمال فيما إذا لم يعرف أنها بأي كيفية وقعت أما مع علمه بكيفيتها و لكنه لا يدري بمطابقتها للواقع فاصل الصحة لا يجري فيها لأنه لا يجري في الشبهة الحكمية إذ لا يثبت به الحكم الشرعي و انما يثبت مطابقة المأتي به للحكم الشرعي الذي هو معنى صحته كما قررناه في محله (و تارة أخرى) يشك في صحة أعماله من جهة الشك في صحة اجتهاده مع القطع بصدور أعماله عن اجتهاده و لكن يشك في صحة اجتهاده و هذا يتصور على صور (إحداها) ان يكون شكه من قبيل الشبهة الحكمية

كان يدري أن اجتهاده في المسائل كان بدون معرفة علم النحو و الصرف و المنطق و لكنه شك في صحة الاجتهاد بدون ذلك فلا مجال لجريان أصالة الصحة و لا بد له من الفحص و معرفة صحة الاجتهاد بدونها أو توقفه عليها.

(ثانيها) ان يشك في الصحة فعلا مع العلم بتحققها سابقا كأن احتمل فعلا بواسطة طبع بعض كتب الأخبار أوسعه تظلعه بالأحكام أو علم الأصول أو الدراية له قوة استنباط أكثر أو قدرة على الفحص أزيد ففي هذه الصورة يبني على البقاء على صحة اجتهاده لأصالة الصحة أو استصحابها.

(ثالثها) ان يعلم بأن أعماله صدرت عن اجتهاد و لكنه يشك في صحة اجتهاده فعلا بنحو الشك الساري بمعنى ان فتاواه و أعماله الماضية صدرت عن اجتهاد صحيح جامع للشرائط أم لا بنحو الشبهة الموضوعية. فقد يقال ان مرجع الشك في هذه الصورة إلى الشك في ان التكليف الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح على طبق ما عمله و أفتى به أم لا و عليه فلا مجرى لقاعدة الفراغ و الصحة في أعماله و فتاويه الماضية لأن الشك ليس في موافقة العمل و الفتوى للاجتهاد و انما في موافقة العمل و الفتوى للتكليف الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح و لا يحرز تكليفه الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح بإجراء قاعدة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 539

الفراغ و الصحة لأن قاعدة الفراغ انما تقتضي صحة العمل إذا شك في مطابقته لتكليفه الفعلي لا ما إذا شك في نفس التكليف الفعلي و انه كان موافقا لعمله المعلوم بحده أم لا و لكن التحقيق انه قد تقدم ص 36 و سيجي ء إنشاء اللّه في مباحث التقليد

صحة إجراء أصالة الصحة في المقام.

(رابعها) ان يشك في صحة اجتهاده الماضي مع العلم بصحة اجتهاده فعلا كما لو جدد النظر في المسألة و تبدل رأيه فيها فشك في صحة اجتهاده الأول و احتمل انه قصر في بعض المقدمات أو لم يكن عنده مؤهلات الاجتهاد فأصالة الصحة جارية في اجتهاده السابق و يكون حكمه حكم من تبدل رأيه عن اجتهاد صحيح إلى اجتهاد صحيح آخر.

الثالث و العشرون من أحكام الاجتهاد و المجتهد ما يخص طرق إثبات اجتهاد المجتهد

يثبت اجتهاد المجتهد أولا بالقطع باجتهاده لأن القطع حجة بذاته من أي سبب حصل سواء كان من الاختبار أو الأخبار. و قد يورد على ذلك بأنه كيف يعلم العامي باجتهاد المجتهد و هو لا يعرف من علوم الاجتهاد شيئا و جوابه بالنقض بأنا نعلم أعلم الناس بالتجارة و الصياغة و لا نعرف شيئا منها.

و بالحل انا نعرف ذلك من آثاره أو من كثرة الأخبار بذلك عنه بحيث تفيد القطع (و ثانيا) بالبينة العادلة كما هو المحكي عن المقاصد العلية و المعالم لما سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث العدالة من ان البينة حجة في مطلق الموضوعات و قد حكي الخلاف في ذلك عن الذريعة و الجعفرية و الوافية.

(و ثالثا) بظاهر الحال بأن يراه منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق و يرى اجتماع الناس عليه و العمل بفتواه و الانقياد الى قوله و إقبال المسلمين على سؤاله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 540

و استرشاده للإجماع المحكي عن النهاية و عن شرح المبادي لفخر الإسلام و عن المنية و عن المحصول و لمرسلة يونس عن مولانا الباقر (ع) خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم الولايات و المناكح و الذبائح و الشهادات و الأنساب و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام

في هذه المرسلة في مبحث العدالة عند الكلام في إثبات العدالة بظاهر الحال. و قيل يثبت بالشياع و بخبر العدل الواحد و بالظن و بحكم الحاكم و إذا أردت تحقيق ذلك فراجع طرق إثبات العدالة التي سيجي ء الكلام فيها إنشاء اللّه فانا هناك قد تعرضنا لكل الطرق التي تثبت الموضوعات الخارجية.

الرابع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد التصدي للأمور الحسبية

الحسبة (بكسر الحاء) اسم مصدر من الاحتساب و هي الأجر و الثواب و الأمور الحسبية في ألسنة الفقهاء هي التي يأتي بها طلبا للأجر و الثواب و أرادها الشارع في الخارج من دون خصوصية لمن يقوم بها لأنها تعم مصالحها و يتقوم بها النظام و ان شئت فقل هي الواجبات الكفائية و المستحبات الكفائية و بعبارة أخرى انها كل ما علم من الشرع مطلوبيته مع عدم تعين المكلف به كإنقاذ الغرقى و تكفين الموتى و دفنهم. و قد قيل ان أظهرها الجهاد. و الدفاع عن المسلمين. و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و اقامة الحدود. و التعزيرات. و الفتيا. و القضاء.

و الشهادة و الاشهاد على الواقعة باعتبار انه من المصالح الكلية التي يتوقف عليها النظام و يرتبط بها أمر الخاص و العام حسما لمادة المنازعات الناتجة من تركه. و أخذ اللقيط و هو الإنسان الضائع الغير المستقل بنفسه و لا كافل له. و المحافظة على مال الصغير و المجنون و السفيه و المفلس و عبر عنها بعضهم بالأمور المستفاد القيام بها من آية المعاونة و هي قوله تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ و آية أَحْسِنُوا إِنَّ اللّٰهَ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 541

يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و من قوله (ع) (كل معروف صدقة) و من قوله (عون الضعيف من أفضل صدقة) و

من حكم العقل بالإحسان فتكون الأمور الحسبية هي ما يصدق عليها عنوان الإحسان و البر و المعروف ثمَّ لا يخفى ان البحث عما كان مستحبا منها لا يهمنا لجواز تركه و لمعرفة حاله من معرفة حال ما هو الواجب منها (و انما المهم) بيان حال ما هو الواجب منها فقد ذهب بعضهم إلى وجوب تصدى المجتهد لها مستدلا على ذلك.

(أولا) بالإجماع و لا يخفى ما فيه لمخالفة الكثير من العلماء في ذلك و ان لعدول المؤمنين القيام بها. و (ثانيا) ان كل أمر كان كذلك بمعنى ان الشارع يريد تحققه في الخارج لا بد ان ينصب الشارع له شخصا يقوم به و المفروض انه غير معلوم من يقوم به. و الفقيه صالح للقيام به فنحن على يقين من نصبه للقيام بتلك الأمور و غيره مشكوك نصبه فالأصل عدم نصبه فهي و ان كانت من الواجبات الكفائية لكنا نقطع بتعلقها بالفقهاء و نشك في كون إتيان غيرهم مسقطا عنهم أم لا و الأصل عدم السقوط فلا بد من تصدي الفقهاء لها. و التحقيق ان يقال انه لما كان الفرض ان هذه الأمور مرادة للشارع فالدليل على إرادتها اما ان يكون شاملا لكل أحد و مقتضى ذلك يصلح كل أحد للتصدي لها و اما ان يكون معينا لقسم خاص من الناس كالصلاة على الميت فان الدليل دل على تصدي وليه لها و مقتضي ذلك تصدي ذلك القسم الخاص لها دون غيره و أما ان يكون الدليل لم يعلم منه شيئا و شك في ان التصدي لها مخصوص بقسم خاص كالمجتهدين أو عدول المؤمنين أو تصح من الجميع بنحو الكفاية فقد يقال ان أصالة عدم الخصوصية تقتضي تساوي

الكل فيه فلو تصدى شخص سقط عن غيره.

و قد يقال ان الأصل هو وجوب تصدي ذلك القسم الخاص لأصالة عدم السقوط عنه بفعل الغير له. و دعوى أصالة عدم الخصوصية فاسدة لأنها معارضة بأصالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 542

عدم قصد التعميم. و دعوى ان التعميم يكون بعدم إرادة الخصوصية و لا يحتاج إلى قصد حتى يعارض بذلك فان التعميم على سبيل البدلية يقتضي إرادة العمل في الخارج من دون قصد شخص معين. و قد تقدم في التنبيه على الشك في الولاية ما في هذا الدعوى و ان التعميم كالتخصيص يحتاج إلى القصد. فلا بدمع الشك المذكور من الرجوع إلى الأصول العملية و هي بالنسبة إلى المجتهد تقتضي إتيانه بها للعلم بتوجه خطابها اليه و الشك في سقوطه بفعل غيره و الاشتغال اليقين يستدعي الفراغ اليقيني. و أما بالنسبة إلى غيره فهي تقتضي عدم وجوبها عليه لأصالة البراءة من وجوبها عليه.

و اما إذا شك في صحة عملها منه مع علمه بجوازه منه و لو بأصل الإباحة كما لو كان العامي علم بواسطة أصالة الإباحة جواز المحافظة على مال اليتيم أو الصلاة على الميت فان كانت من قبيل العبادات فان كان شكه في كفاية عمله العبادي عن غيره كأن شك في أن صلاته على الميت تكفي عن صلاة غيره أم أنها بمنزلة العدم لم يكن عليه شي ء في إتيانه بذلك العمل و أن كان شك في اعتبار الاذن من المجتهد في صحتها منه فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر و الأصل عدم وجوب الأكثر فلا يجب الاستيذان من المجتهد و أن كانت من قبيل المعاملات ذات الأثر الشرعي كأن

شك في صحة المعاملة منه على مال اليتيم التي يحفظ بها ماله فالأصل يقتضي الفساد لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة و وجب عليه أخذ الاذن من الفقيه و اما إذا شك في تعين وجوب تصدي الفقيه له أو تعين وجوب تصدي شخص آخر له كما في المجنون إذا حدث جنونه بعد بلوغه و كان أبوه موجودا فإنه يشك في أن وليه المجتهد أو أبوه فالأصل البراءة من الوجوب بالنسبة إلى كل منهما كواجدي المني في الثوب المشترك نعم لو أريد إيقاع المعاملة على ماله و احتمل اعتبار أذن أحدهما على سبيل الاجمال فيها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 543

وجب أخذ الاذن من كل منهما. ان قلت ان المعاملة المذكورة أما أن تكون واجبة أو مستحبة لأنها حسب الفرض يحفظ بها مال اليتيم فتكون من المعروف و الإحسان فيشملها قوله (ص) (كل معروف صدقة) و مقتضى ذلك صحتها قلنا قد تقدم تحقيق التمسك بذلك في مثل هذه الموارد في مبحث الولاية عند التنبيه على موارد الشك في الولاية للفقيه و انه يصح التمسك بهذه العمومات في كل مورد شك في اعتبار إذن الفقيه إلا أن كان هناك أصل يجري في العمل و يثبت حرمته كما في المعاملة المذكورة دون مثل الصلاة على الميت و تجهيزه و حفظ مال القصير و الغائب بلا تصرف فيه و أخذ مال الزكاة و الخمس من الممتنع و تفريقها على أربابها و (كيف كان) فلا إشكال في وجوب تصدى الفقيه لها و لو بنحو الكفاية و أحوطية أخذ الإذن منه فيها (إلا اللهم) أن يحتمل اعتبار تصدي الإمام (ع) بخصوصه لها كالجهاد و نحوه و لم يقم

دليل على نفي هذا الاحتمال و لم يثبت ولاية الفقيه أو نيابته عن الامام (ع) في القيام بها فإنها لا تكون أيضا واجبة على المجتهد لأصل البراءة من وجوبها، و لا فرق فيما ذكرناه بين المجتهد المطلق أو المتجزي لما عرفت أنها من قبيل المطلوبات الكفائية التي يأتي بها لوجه اللّه تعالى فمقتضى القاعدة هو جواز التصدي من كل أحد إليها إذا تمكن من القيام بها على الوجه الصحيح إلا إذا قام دليل خاص أو أصل خاص على حرمة القيام بها من المتجزي كما ذكرناه في غير المجتهد.

و عليه فلا يصغى لما ذكره بعض المتأخرين من عدم جواز تصدى المجتهد المتجزى للأمور الحسبية بدعوى أنه لا دليل على جواز تصدى المجتهد لها إلا الإجماع على الجواز و القدر المتيقن منه هو المجتهد المطلق: و أن مقتضى الأصل هو ذلك لان التصرف في أموال الغائبين و القاصرين و نحو ذلك مما ليس له ولي خاص غير جائز بمقتضى عدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه خرجنا عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 544

هذا الأصل في المجتهد المطلق من جهة الإجماع و بقي غيره تحت عموم المنع هذا و قد يقال بأن غير المجتهد لا يقدر على القيام بالأمور الحسبية لأنه أبصر بها و أعرف بمواقعها و مجاريها و فيه ما لا يخفى فانا لا نسلم عدم القدرة و لو فرض عدم القدرة يكون الأمر منحصرا بالمجتهد من باب انحصار الواجب الكفائي بواسطة العوارض الخارجية بفرد واحد من المكلفين فالحق ان الأمور الحسبية يجوز للمجتهد و لغيره من المسلمين القيام بها إلا ان يقوم دليل على إرادة التصدي لها من قسم خاص كالفقهاء

أو عدول المسلمين كما يقال ذلك في الحدود و التعزيرات و التصرف بمال القصير بما فيه المصلحة و ليس هنا محل البحث في تشخيص المتصدي من غير الفقهاء فإنا إنما نتكلم هنا فيما يخص الفقيه من الوظائف و الاحكام. هذا كله مع عدم ثبوت الولاية العامة للفقيه و إلا فمع ثبوتها يتعين التصدي لها على نظره كما تقدم (ان قلت) ان هذا ينافي وجوبها الكفائي على سائر المسلمين إذ مقتضى ذلك جواز قيام كل مسلم بها و مقتضي دعوى ولاية الفقيه بالتصدي لها هو وجوبها عليه دون غيره و بعبارة أخرى انه لا معنى لإناطة الواجب بنظر بعض المكلفين و الفرض انه مطلق لا مشروط فمقتضى وجوبها الكفائي عدم اعتبار اذن الغير في صحة فعلها (قلنا) معنى الولاية هو أحقيته من غيره بالتصرف و عدم تصرف الغير بدون نظره و اذنه و هذا لا ينافي وجوبه على الغير بنحو الكفاية على نحو الإطلاق إذ لا منافاة بين كون الوجوب مطلقا و بين ان يكون اذن الولي شرط لصحة العمل فالغير إذا أراد ان يبرئ ذمته أخذ الاذن من الولي و أتى بالعمل فيكون اذن الولي من قبيل مقدمة الواجب فالواجب واجب كفائي على الناس كافة وجوبا مطلقا غير مشروط و يتوقف صحته على مراعاة اذن الولي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 545

الخامس و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم تغسيل المقتول بين يديه

من أحكام المجتهد ان المقتول بالجهاد أو الدفاع عن بيضة الإسلام بأمره لا يغسل و لا يكفن و يصلي عليه سواء كان حرا أو عبدا رجلا أو أمرية و سواء كان طاهرا أو جنبا و سواء كانت المرأة حائضا أو نفساء للإجماع المحكي عن ظاهر الغنية بل صريحها على ثبوت ذلك

لمن قتل في سبيل اللّه في كل جهاد بحق و لو في حال الغيبة و لا ريب ان ذلك من الجهاد بحق بل هو أظهر مصاديقه و يشهد له إطلاق حسنة أبان بن تغلب بإبراهيم بن هاشم قال سمعت أبا عبد اللّه يقول الذي يقتل في سبيل اللّه يدفن في ثيابه و لا يغسل إلا ان يدركه المسلمون و به رمق ثمَّ يموت بعد فإنه يغسل و يكفن و يحنط ان رسول اللّه (ص) كفن حمزة في ثيابه و لم يغسله و لكنه صل عليه و نحوه في ذلك خبره الآخر قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن الذي يقتل في سبيل اللّه أ يغسل و يكفن و يحنط قال يدفن كما هو في ثيابه إلا ان يكون به رمق الحديث. و المروي عن الفقه الرضوي و ان كان الميت قتيل المعركة في طاعة اللّه لم يغسل و دفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه و لا ينزع من ثيابه شي ء معقود. و مضمر أبي خالد قال اغسل كل الموتى الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلا ما قتل بين الصفين فان كان به رمق غسل و إلا فلا. و رواية أبي مريم عن الصادق (ع) انه قال الشهيد إذا كان به رمق غسل و كفن و حنط و صلي عليه و ان لم يكن به رمق كفن في ثيابه. و رواية عمر بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) ينزع عن الشهيد الفرو و الخف و القلنسوة و العمامة و المنطقة و السراويل إلا ان يكون قد أصابه دم فإن أصابه دم ترك و لا يترك

عليه شي ء معقود. و عن المعتبر ان الشهيد إذا مات في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 546

المعركة لا يغسل و لا يكفن و هو إجماع أهل العلم إلا سعيد بن المسيب و الحسن فإنهما أوجبا غسله قالا لأن الميت لا يموت حتى يجنب و لا عبرة بخلافهما مضافا لما دل على قيام المجتهد مقامهم (ع) كما تقدم في مبحث الولاية لكن لو تمسكنا بالأخير لا بد أن يكون ذلك في المجتهد الذي جمع شرائط الولاية و صلح لأن يكون قائما مقام الإمام فإنه هو المنصوب من قبله (ع) لهذه المهمات و قد اعتبروا في ذلك أمور (أحدها) ان يكون مقتولا بين يدي الإمام (ع) كما هو المحكي عن الأكثر و لا وجه لهذا الاشتراط كما هو المحكي عن المعتبر و الذكرى و ذلك لخلو الأخبار المتقدمة منه. و أما أخذ الشهيد في لسان بعضها لا يقتضي تقييد مطلقاتها لأنهما يكونان من قبيل المثبتين على ان معنى الشهيد هو القتيل في سبيل اللّه تعالى كما هو المحكي عن الصحاح و القاموس و في النهاية من قتل مجاهدا في سبيل اللّه (ثانيها) ان يكون وقوع موته في المعركة بحيث لو انقضى الحرب و هو حي أو سقط جريحا و مات خارجها غسل و كفن و لم يجري في حقه الحكم المذكور و يمكن ان يستدل له بما تقدم من الفقه الرضوي و لكن لا يخفى انه لا دلالة على وقع الموت في المعركة فإن الإضافة فيه يحتمل ان تكون من اضافة المسبب للسبب مثل ألم الضرب و يمكن ان يستدل له بمضمر أبي خالد المتقدم و ضعفه منجبر بنقل الإجماع على ذلك عن الخلاف

و التذكرة. و المحكي عن صاحب المدارك انه نسبه إلى الأصحاب. و عن مجمع البرهان قال كأنه إجماعي.

(ثالثها) ان يكون مقتولا في الجهاد أو الدفاع عن بيضة الإسلام لا مطلق من بذل نفسه في طاعة اللّه و لو عن غير جهاد كالمقتول في سبيل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لدعوى الإجماع على وجوب تغسيله كغيره من المعتبر و التذكرة و هو المتبادر من القتل في سبيل اللّه لمن أمعن النظر في أخبار الباب و صريح مضمرة أبي خالد و الفقه الرضوي و ضعفهما منجبر بدعوى عدم الخلاف في ذلك و ما عرفته من نقل الإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 547

(رابعها) ان يكون موته قبل ان يدركه المسلمون حيا لتظافر الأخبار على ذلك و الظاهر ان المراد من ادراك المسلمين له حيا هو ان ينقذه المسلمون من الحرب كما هو الظاهر من قولهم فلان أدرك فلان و في الدعاء (يا علي أدركني) و يؤيد ذلك ما حكي عن عمار (ره) من ان المسلمين حضروه حينما استسقي اللبن الذي كان آخر شرابه من الدنيا مع ان أمير المؤمنين (ع) لم يغسله. و يؤيد إرادة هذا المعنى أيضا ما روى عن النبي (ص) انه قال يوم أحد من ينظر حال سعد بن الربيع فقال رجل أنا أنظر لك يا رسول اللّه فنظر فوجده جريحا و به رمق فقال له ان رسول (ص) أمرني ان انظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال أنا في الأموات فأبلغ رسول اللّه (ص) مني السلام قال ثمَّ لم أبرح إلى ان مات. و لم يأمر النبي (ص) بتغسيل أحد منهم.

(و كيف كان) فيكون هذا الشرط يرجع للشرط

الثاني لأن لازم إنقاذ المسلمون له من حرب العدو ان يكون موته خارج المعركة. و على هذا فلو وجود في المعركة و فيه رمق ثمَّ مات فيها كان حكمه عدم وجوب التغسيل و عدم التكفين له لأنه يصدق عليه ان موته كان قبل ان يدركه المسلمون حيا.

السادس و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة الجمعة في زمن الغيبة بدونه

حكي عن المحقق الثالث انه جزم باختصاص جواز إقامة الجمعة في زمن الغيبة بالفقيه الجامع للشرائط و عده من الأمور المسلمة لدى الفقهاء و تحقيق ذلك و تنقيحه انه مبني على مقدمتين.

(الاولى) ان صحة صلاة الجمعة مشروطة بالإمام (ع) أو نائبه و ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 548

لتواتر نقل الإجماع على ذلك من فطاحل الفقهاء كالشيخ في الخلاف و ابن إدريس في سرائره و المحقق في معتبرة و العلامة في تحريره و هو كاف في رد من ذهب إلى خلاف ذلك كما ان نسبة الخلاف لبعض المتقدمين كذبها أكثر المتأخرين كصاحب مفتاح الكرامة (ره) و غيره.

و للأخبار المتكثرة منها موثقة سماعة قال سئلت أبا عبد اللّه عن الصلاة يوم الجمعة فقال أما مع الامام فركعتان و أما لمن صلى وحده فهي و أربع ركعات و ان صلوا جماعة. و نحوها موثقته الأخرى قال سئلت أبا عبد اللّه عن الصلاة يوم الجمعة فقال أما مع الامام فركعتان و أما مع من صلى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر يعني إذا كان امام يخطب فان لم يكن امام يخطب فهي أربع ركعات و ان صلوا جماعة. و الظاهر كما ذكره بعضهم ان التفسير من الراوي. و خبر دعائم الإسلام عن على (ع) انه قال لا يصلح الحكم و لا الحدود. و لا الجمعة إلا للإمام أو

من يقيمه الامام. و النبوي المشهور المنجبر بالعمل أربع للولاة الفي ء و الحدود و الجمعة و الصدقات. و النبوي الآخر ان الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين، و في الصحيفة السجادية في دعاء الجمعة و ثاني العيدين اللهم ان هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها. و صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام فإنه يفهم منها انها انما يجب إقامتها إذا كانت مع الامام لا مع أي شخص كان و في المحكي عن التهذيب بسنده عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحد و من المعلوم ان المصر الذي يقام فيه الحد هو مصر الإمام أو نائبه فيكون هذا التعبير كناية عن لزوم كونها مع الإمام أو نائبه. و في الصحيح أو القريب منه المروي في العلل انما صارت صلاة الجمعة إذا كان مع الامام ركعتين و إذا كان بغير الامام ركعتين و ركعتين لأن الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد الحديث. و لا وجه لحمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 549

الامام فيها على إمام الجماعة فإن الإمام ينصرف عند إطلاقه الى امام الأصل و نائبه الذي له الولاية المطلقة مضافا الى انه لو كان كذلك لامتنع الاشتراط بالإمام إذ من الممتنع في العادة عدم وجود إمام جماعة يحسن الحمد و الصلاة و الوعظ و القراءة و لو بالتلقين إذ لا يعتبر في الخطيب للجمعة قدرته على إنشاء الخطبة فإنه يكفي أقل القليل (ان قلت) ان مقتضى النصوص المذكورة اعتبار شخص المعصوم و هو خلاف ما يدعيه المشترطون من الاكتفاء

به أو بنائبه.

(قلنا) الإجماع بل الضرورة و السيرة على الاكتفاء بالنائب فإن فعل النائب فعل المنوب عنه بل كل عمل يكون من وظائف الإمام لا يلزمه المباشرة له بنفسه المقدسة للحرج و التعذر في كثير من الأحوال و في بعض الاخبار عبر بالولاة و في بعضها بمن يقيمه الامام. و قد عرفت ان خبر التهذيب المتقدم يشمل ذلك و لعل في تفسير الراوي في موثقة سماعة الثانية المتقدمة ما يدل على ذلك حيث عبر (بإمام يخطب) للتنبيه على عدم لزوم شخص الامام و الاكتفاء بنائبه و في صحيحة الفضل بن عبد الملك التي ستجي ء عبر فيها (بمن يخطب).

(ان قلت) ان قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ يدل على وجوب صلاة الجمعة على كل أحد سواء أقامها الإمام أم لا و هكذا ما في صحيحة أبي منصور عن أبي عبد اللّه و الجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلا خمسة المرية و المملوك و المسافر و المريض و الصبي (قلنا) لا يصح التمسك بتلك الآية الشريفة و لا بتلك الرواية الصحيحة و نحوها على نفي شرطية امامة الإمام أو نائبه لها حيث كلها ظاهرة في بيان ارادة الجمعة المعهودة التي تعارف إقامتها بشرائطها المقررة في الشريعة فتكون اللام للعهد لا للجنس و لا أقل من احتمال ذلك فان الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 550

و لو سلمنا ان اللام للجنس لا للعهد فان المراد ان الجمعة المنعقدة يجب على كل أحد حضورها لأدائها لا انه يجب إتيانها على كل أحد كيفما كان و لو سلمنا

ذلك فهي مقيدة بالأدلة الدالة على اعتبار وجود الإمام أو نائبه فيها كما انها مقيدة بباقي شروط وجوب الجمعة.

(ان قلت) ان صحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات فان كان لهم من يخطب بهم جمعوا تدل على وجوب الجمعة بمجرد وجود من يخطب. (قلنا) هذه الرواية و نحوها ظاهرة في اعتبار من يخطب في الجمعة و انه شرط وجوب لها و الإجماع منا و من الخصم انه لو كان ذلك شرط وجوب لها لكان هو المنصوب لخطبة الجمعة الذي هو الإمام أو نائبه. مضافا للأدلة الدالة على الاشتراط.

(ان قلت) ان صحيحة زرارة. قال: حثنا أبو عبد اللّه على صلاة الجمعة حتى ظننت انه يريد ان نأتيه فقلت نغدوا عليك فقال لا انما عنيت عندكم. تدل على صحتها بدون الإمام أو نائبه. (قلنا) لا دلالة لها على ذلك إذ ان مثل زرارة و أصحاب الإمام فيهم من هو جامع لشرائط الفتوى فهو نائب عن الامام مضافا الى ان ذلك يكون نصبا للإمام لهم نيابة عنه في أدائها و نظير ذلك قول أبي جعفر (ع) لعبد الملك صلوا جماعة يعني الجمعة مضافا الى ان الأدلة الدالة على الاشتراط تقييدها مضافا الى انها ظاهرة في اعتقاد زرارة عدم صحتها بدون الامام فلو كانت واجبة حتى مع عدم الإمام أو نائبه لما خفي ذلك على مثل زرارة و أشباهه.

(ان قلت) ان صحيحة زرارة الأخرى قال: قلت له على من تجب الجمعة قال على سبعة نفر من المسلمين و لا جمعة لأقل من خمسة أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمهم بعضهم و خطبهم.

و قال: أبو جعفر و انما وضعت الركعتان الخبر. تدل على عدم اعتبار امامة الإمام أو نائبه في وجوب الجمعة خصوصا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 551

ذيلها. قلنا انما هي مسوقة لبيان العدد المعتبر في الجمعة فلا يصح التمسك بها لنفي اعتبار غيره مضافا لتقييد الأدلة الدالة على اعتبار ذلك فيها مضافا لما نقله صاحب مفتاح الكرامة (ره) عن أستاذه من ان قوله فاذا اجتمع سبعة إلخ. يحتمل ان يكون من كلام الصدوق (ره). و قد صرح المحققون بأن كلام الصدوق (ره) في الفقيه مخلوط مع الأحاديث بحيث يشتبه على الغافل غير المطلع و يؤيد ذلك قوله قال: أبو جعفر (ع) مع ان الظاهر ان ما رواه أو لا كان عن أبي جعفر (ع) و ذلك يستشعر منه ان ما ذكره بعده كان من عند نفسه و يؤيده أن الكليني (ره) و الشيخ رويا عن زرارة المذكور عن نفس أبي جعفر (ع) مضمون هذه الرواية و لم يذكرا هذه الزيادة.

(ان قلت) انا نستصحب وجوبها. (قلنا) ان المتيقن السابق هو وجوبها مع الإمام أو نائبه.

(المقدمة الثانية) ان المجتهد الجامع لشرائط الولاية منصوب من قبل الامام (ع) لإقامة الجمعة و غيرها من وظائفه (ع) لما ذكرناه في مبحث الولاية من الاخبار المتكثرة الدالة على ذلك فاذا ثبت ان صلاة الجمعة مشروطة بالإمام أو نائبه و في زمن الغيبة المجتهد الجامع لشرائط الولاية و المرجعية و الزعامة الدينية يكون هو النائب عن الامام و هو المنصوب من قبل الإمام في وظائف الإمام بما هو امام فيثبت ان الجمعة في زمن الغيبة مشروطة بالمجتهد الجامع لشرائط المرجعية. (ان قلت) على هذا تكون صلاة الجمعة واجبة عينا

لوجود المجتهد المذكور الجامع للصفات المذكورة بحمد اللّه (قلنا) السيرة المقطوعة و ظاهر الكثير من الاخبار ان وجوبها على سبيل التخير على الإمام أو نائبه فله ان يقيمها و له أن لا يقيمها كما هو ظاهر صحيحة زرارة المتقدمة و لعل إقامتها أفضل فردي الواجب التخيري لما هو المحكي عن مصباح الشيخ (ره) بطريق صحيح عن الصادق (ع) انه قال إني لأحب للرجل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 552

أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع و لو مرة واحدة و ان يصلي الجمعة في جماعة.

نعم لو أقامها وجب السعي إليها كما هو ظاهر الآية الشريفة و ظاهر المحكي عن غاية المراد و التنقيح و ان كان المحكي عن جامع المقاصد انه لا يجب الحضور و ان انعقدت. و تحقيق ذلك يطلب مما كتبناه في هذا الموضوع في محله.

(تنبيه) إذا كان قيام المجتهد مقام الامام (ع) في هذه الصلاة من باب الولاية العامة له في زمن الغيبة جاز له ان يستنيب عنه فيها و أما ان كان من جهة الأدلة الخاصة فلا لعدم ما يدل على ذلك.

السابع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة العيد بدونه في زمن الغيبة

ظاهر الأخبار عدم انعقاد صلاة العيدين بدون الإمام لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) لا صلاة يوم الفطر و الأضحى إلا مع امام عادل: و صحيحته الأخرى عنه أيضا من لم يصلي مع الإمام في جماعة يوم العيد فلا صلاة له و لا قضاء عليه. و صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عن الصلاة يوم الفطر و الأضحى فقال ليس صلاة إلا مع الامام و صحيحة أبان عن زرارة عن أحدهما (ع) قال: إنما صلاة العيدين على المقيم و لا صلاة إلا بإمام. و قد يناقش

في دلالتها.

(أولا) بأنها مخصوصة بإمام الأصل (ع) دون نائبه فلا تدل على اشتراطها بالمجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة. و جوابه ما تقدم في صلاة الجمعة من ان الأدلة الدالة على قيام المجتهد مقام الإمام في زمن الغيبة تقتضي ثبوت هذا الأمر له مضافا الى ان الامام لا يصلي إلا في بلده و أما سائر البلاد فالمصلي نائبه بل ربما كان مريضا فيستنيب شخصا عنه (ع) في بلده مضافا الى دعوى الإجماع من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 553

غير واحد من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين على أنه يعتبر فيها ما يعتبر في صلاة الجمعة و قد تقدم اعتبار الإمام أو نائبه في الجمعة قال الشيخ المرحوم المحقق الشيخ جواد ملا كتاب و أما اعتبار شرائط الجمعة فيها (أي في صلاة العيد) فقد قطع به الأصحاب كما في كشف اللثام، و ادعى عليه في الانتصار و الغنية و المعتبر و التذكرة و جامع المقاصد الإجماع صريحا كما هو ظاهر كثير من العبارات من غير استثناء شي ء سوى الخطبتين المستثناتين في معقد إجماع التذكرة (و ثانيا) أن المراد بالإمام إمام الجمعة لا إمام الأصل أو نائبه و جوابه أنه لو كان الأمر كذلك لاستغنى بذكر الجماعة عن ذكر الامام لاندراجه في مفهومها مع أن الإطلاق منصرف الى الامام الحق الأصلي مضافا لتعريف الامام المنصرف لإمام الأصل لعدم معهودية غيره و أن كان في بعض النصوص قد أتي به بلفظ التنكير فإنه يحمل على ذلك المعرف و تقيد الامام بالعادل في بعض الروايات أنما هو توضيحي (أن قلت) لو كان الأمر كذلك لكانت صلاة العيدين واجبة عينا في زمن الغيبة للأدلة على وجوبها لدعوى إلا

جماع من غير واحد من علمائنا على وجوبها و لصحيحة جميل عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال صلاة العيد فريضة و بمعناها صحيحته الأخرى و إخبار أخر و الفرض أن شرط وجوبها قد حصل في زمن الغيبة و هو حضور منصوب الامام و هو الفقيه الجامع لشرائط المرجعية فيلزم أن تكون واجبة فعلا مع أن الإجماع على عدم وجوبها في زمن الغيبة ففي المحكي عن الروض و الألفية الإجماع على عدم وجوبها حتى أن بعضهم قال أن السر في عدم اختيار أحد من الأصحاب الوجوب في صلاة العيد مع اختيار المشهور في صلاة الجمعة الوجوب تخييرا، و الحال أن الجمعة و العيدان متحدان في الشرائط عند جميع الأصحاب و حالهما واحد بحسب الفتاوى و الإجماعات هو أن الوجوب يصير عينيا حيث لا بدل للعيد بخلاف الجمعة فيلزم المخالفة للجمعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 554

في المقام بحسب الشرائط و من تجب عليه. و صاحب المدارك مع تقويته لوجوب صلاة العيد في زمن الغيبة أعترف بعدم عثوره على تصريح به لواحد من الأصحاب. (قلنا) قد ذهب جماعة من المتأخرين إلى وجوبها في زمن الغيبة و عن المجلسي في البحار الميل اليه و يحكي عن المدارك و غيره تقويته و عن الحدائق اختياره و عن المجلسي أنه صرح في زاد المعاد بوجوبها جماعة مع الفقيه و استحبابها منفردا مع تعذره إلا أنه بمقتضى صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (ع) قال: قال الناس لأمير المؤمنين (ع) ألا تخلف رجلا يصلي في العيدين فقال لا أخالف السنة ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام لها بخصوصه و لا يكفى المنصوب عنه فان الظاهر ان الناس

طلبوا منه (ع) ينيب عنه في أداء صلاة العيد الواجبة كما هو مرتكز في أذهانهم فأجاب بالامتناع و عدم مخالفة السنة: و مثله ما عن البحار نقلا عن كتاب عاصم بن حميد عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول قال الناس لعلي (ع) إلا تخلف رجلا يصلي بضعفاء الناس في العيدين قال: لا أخالف السنة و ان كان بعضهم قد حملها على غير ذلك و هو النهي عن اقامة جماعتين للعيد إلا ان الظاهر هو ما ذكرناه نعم صحتها في حال التمكن من الامام أو منصوبه مشروطة بالجماعة مع أحدهما و مع التعذر يصليها منفردا فيكون في المقام دعاوي ثلاثة (أحدها) ان صحتها مشروطة بالائتمام جماعة فيها بالإمام الأصلي أو منصوبه مع التمكن منهما.

(الثانية) ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام الأصلي جماعة لها دون غيره فلو أقامها منصوبه لا تجب.

(الثالثة) عند تعذر الإمام أو منصوبه يستحب إقامتها جماعة أو منفردا أما الدليل على الاولى فهي الروايات المتقدمة مع الروايات الدالة على قيام منصوب الامام مقامه المعتضدة بالإجماعات المحكية الدالة على اشتراطها مع الإمام أو من نصبه فتكون صحتها مشروطة بهما.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 555

و أما (الدليل على الثانية) فهو مقتضى الجمع بين صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة و السيرة من عهد الأئمة (ع) و العلماء الاعلام على تركها و بين الإجماعات و الوجوه الدالة على صحة الاستخلاف عن الإمام في إقامتها و بين الأدلة الدالة على وجوبها بل لعل أغلب الإجماعات المنقولة على وجوبها مقتصرة على اشتراط الامام دون ذكر المنصوب له و هكذا ظاهر أغلب عبارات القدماء من الأصحاب ففي المحكي عن المقنعة للشيخ المفيد انه قال

الصلاة فرض لازم لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام فإنه يستفاد من ذلك ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام لها جماعة فقط و انما صحتها تكون منوطة بإقامة الإمامة أو منصوبه لها.

و أما (الدليل على الثالثة) فيدل على استحبابها منفردا صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) قال من لم يشهد جماعة الناس في العيدين فليغتسل و ليتطيب بما وجد و ليصل وحده كما يصلي في جماعة و على هذا يحمل موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه (ع) لا صلاة في العيدين إلا مع الإمام فإن صليت وحدك فلا بأس فإن الظاهر ان في عصر الامام (ع) كان يتعذر اقامة الامام أو منصوبه لها خوفا من الظلمة فلذا أجاز (ع) للراوي إقامتها وحده و لا ريب ان جواز إتيان العبادة يقتضي استحبابها و الى ذلك يرجع ما في الخبر عنه (ع) إنما صلاة يوم العيدين على ما خرج الى الجبانة و من لم يخرج فليس عليه صلاة. فإن المراد نفي الصلاة الواجبة بقرينة (عليه). و قد حكي عن الذكرى نسبة القول باستحبابها على الانفراد عند اختلال بعض شرائطها إلى الأصحاب و في الرياض أنه الأشهر و عليه عامة من تأخر. و أما استحبابها جماعة عند عدم الإمام أو منصوبه فهو ظاهر المنقول عن جمع كثير من علمائنا و ظاهر المحكي عن الذكرى و جامع المقاصد و العزية و الشافية انه مذهب أكثر الأصحاب. و ظاهر المحكى عن المختلف أنه عليه فعل الأصحاب في زماننا قال: المحقق ابن إدريس (ره). فيما حكي عنه ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 556

قول فقهائنا أجمع يستحب في زمن الغيبة لفقهاء الشيعة أن يجمعوا بهم

صلوات الأعياد يقتضي أن تجوز جماعة في زمن الغيبة. و ان معنى قول أصحابنا على الانفراد ليس المراد بذلك ان يصلي كل واحد منفردا بل المراد أنها تصلي جماعة عند انفرادها عن الشرائط انتهى. ملخصا و لا يخفى أن فعل الأصحاب هو الصلاة خلف من يرون أنه منصوب للإمام بأدلة الولاية العامة و أنه نائبه دون من لم يرونه كذلك فلو كان المستند في استحبابها جماعة فعل الأصحاب لم يكن ذلك صحيحا إلا اللهم أن يكون ذلك من باب التسامح في أدلة السنن.

(تنبيه) الكلام في جواز إنابة المجتهد غيره في هذه الصلاة كالكلام في صلاة الجمعة المتقدم.

الثامن و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة الاستسقاء بدونه

نقل غير واحد إجماع الأصحاب على أن صلاة الاستسقاء مماثلة لصلاة العيد كما و كيفا عدى الوقت و بعدية الخطبة للصلاة. كما أن حسنة هشام بن الحكم عن الصادق (ع) يدل على المماثلة لها، و هذا يقتضي أنه يعتبر في صحتها امامة امام العصر فيها أو من ينصبه عنه إلا إذا تعذرا و لا ريب أن المجتهد في زمان الغيبة هو المنصوب عنه فيكون هو المعتبر في صحتها و لو عند تعذره (أن قلت) لو كان يصح الأخذ بالمماثلة لصح صلاتها فرادا. (قلنا) إنما نأخذ بإطلاق المطلق أو عموم العام إذا لم يكن مخصص فاذا فرض هناك مقيد أو مخصص على عدم صحتها فرادا لم نأخذ بالإطلاق و العموم.

تنبيه الكلام في صحة انابة المجتهد غيره في هذه الصلاة كالكلام في صلاة الجمعة المتقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 557

التاسع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد تقديمه في إمامة الجماعة

يستفاد من جملة من المتأخرين كالعلامة و جماعة ممن تأخر عنه أن الاولى للمأمونين تقديم المجتهد على غيره في إمامة الجماعة في زمان الغيبة مستدلين على ذلك بالعقل و النقل اما الدليل العقلي فهو أنه لو قدموا غير المجتهد لزم تقديم المفضول على الفاضل و هو قبيح و لأن الحاجة الى الفقه في الصلاة غير محصورة فكان أولى بالملاحظة و لا يخفي ما فيه اما قبح تقديم المفضول على الفاضل. ففيه المنع منه في غير الرئاسة العامة و مسائل التقليد فإنه قد تكون هناك اعراض أخر تستدعي تقديمه بحكم العقل و اما الحاجة الى الفقه فهي انما تقتضي تقليده فقط و قياس ما نحن فيه على ذلك لا وجه له فان القياس ليس بحجة و لأن المفضول قد يقدم في إمامة الجماعة كما لو

كان هو الراتب في المسجد أو صاحب المنزل أو الأمير كما حكي عدم الخلاف في ذلك، و اما النقل فمن الكتاب قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ، و من السنه ما حكي عن الصدوق في الفقيه مرسلا قال قال (ص) امام القوم وافدهم فقدموا أفضلكم و قال قال على (ع) ان سركم أن تزكو صلاتكم فقدموا خياركم و عن الصدوق في الفقيه مرسلا و الشيخ في كتاب الأخبار مسندا قال قال (ص) من أم قوما و فيهم من هو اعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال الى يوم القيامة، و عن رسول اللّه (ص) أن أئمتكم وفدكم الى اللّه تعالى فانظروا من توفدون في دينكم و صلوتكم، و ما روى من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف رسول اللّه (ص)، و ما روى من ان الصلاة خلف العالم بألف ركعة و لتقديم العالم على الهاشمي في المروي عن الرضا (ع) أنه قال للهاشمي انكم سادات الناس و العلماء ساداتكم و (لا يخفى ما فيه) فان الآية الكريمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 558

انما تدل على عظم منزلته و لا تدل على أولوية تقديمه في الجماعة و ارجحيته على غيره في هذا المنصب و اما السنة فهي ضعيفة السند و الدلالة نعم يستفاد من تعاضد بعضها مع بعض أن الصلاة خلف المجتهد فيها ثواب عظيم و هذا لا يستدعي أولويته من غيره بهذا المنصب بحيث عند التشاح بين أئمة الجماعة على وجه لا ينافي العدالة يكون الثابت من الشرع بذلك تقديمه عليهم فلعل الأتقى يكون هو المقدم لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ (نعم) قد يستدل على ذلك

بما روى عن النبي ص من قوله يؤمكم أقرؤكم و قوله ص يؤم القوم اقرؤهم لكتاب اللّه تعالى فان كانوا في القراءة سواء فاعلم بالسنة: و بما في معتبر ابي عبيده المروي في الكافي قال سئلت أبا عبد اللّه الصادق (ع) عن قوم من أصحابنا يجتمعون فتحضره الصلاة فيقول بعضهم لبعض تقدم يا فلان فقال أن رسول اللّه (ص) قال يتقدم القوم أقرؤهم للقرآن فان كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا فان كانوا في السن سواء فليؤمهم أعلمهم بالسنة و أفقههم في الدين و الظاهر أن هذا الترتيب في خبر ابي عبيده مما لا يعرف به قولا من الأصحاب عدى ما يحكى عن البيان نقلا عن بعض الأصحاب من المصير اليه و وجه الاستدلال بذلك هو أن يقال أن المراد من الأقرء هو الأفقه كما ذهب اليه المحقق الشيخ جواد ملا كتاب و بعده المرحوم آقا رضا الهمداني بناء على ما قيل من أن المتعارف في ذلك الزمان الملازمة بين القراءة و الفقه كما حكي عن ابن مسعود أنه قال كنا لا نتجاوز عشر ايات حتى نعرف أمرها و نهيها. و جعل الأعلم بالسنة في النبوي و خبر ابي عبيده مرتبة متأخرة عن الاقرء غير مناف لإرادة الأفقه من الاقرء كما ربما يتخيله بعضهم لان المراد به على هذا التقدير من جمع بين وصفي القراءة و الفقه و هو مقدم على من انفراد بوصف الفقه لأعلميته بالسنة: و عليه فتكون هذه الروايات دليلا لتقديم المجتهد على غيره. و الانصاف ان من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 559

المجموع مع ما ورد من فضل العالم يطمئن الفقيه

بأولوية هذا المنصب للمجتهد على غيره عند الشرع هذا كله مع قطع النظر عن ثبوت الولاية العامة و النيابة المطلقة للمجتهد الجامع لشرائط الزعامة الدينية فإنه لا إشكال في تقديمه على غيره لان المنصب المذكور يقدم الإمام الأصلي على غيره فيه بالإجماع و ضرورة الدين و المجتهد المذكور قائم مقامه في زمن الغيبة. و في المروي عن النبي (ص) أنه قال و كل أهل مسجد أحق بالصلاة في مسجدهم إلا أن يكون أمير حضر فإنه أحق بالإمامة من أهل المسجد.

الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد لو عطل الناس الحج أو زيارة النبي ص وجب على المجتهد أن يجبرهم على ذلك

يجب على الفقيه الجامع لشرائط الولاية ان يجبر الناس على الحج و زيارة النبي (ص) عند تعطيلهم لذلك لما في الصحيح الذي رواه الصدوق بأسانيده عن حفص بن البختري و هشام بن سالم و معاوية بن عمار و غيرهم عن ابي عبد اللّه (ع) قال لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده و لو تركوا زيارة النبي (ص) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده فان لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين، و رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن ابي عمير عن حفص بن البختري و هشام بن سالم و حسين الأحمسي و حماد و غير واحد و معاوية بن عمار عن ابي عبد اللّه (ع) و في الصحيح الذي رواه ثقة الإسلام عن عدة من أصحابه عن احمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن عبد اللّه بن سنان عن ابي عبد اللّه (ع) قال لو عطل الناس الحج لوجب على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 560

الامام

أن يجبرهم على الحج و لا شبهة في أن المجتهد الجامع للشروط هو المتولي لشؤون المسلمين و الامام عليهم و مع الإغماض عن ذلك فالأدلة الدالة على قيامه مقام الإمام الأصلي تقتضي ثبوت هذا الحكم له.

الواحد و الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد انه يخرج قبل صلاتي الظهر لمني و يقيم بها الى طلوع الشمس

المشهور بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه أنه يستحب للإمام الخروج من مكة إلى منى يوم التروية الثامن من ذي الحجة بعد إحرام الحج قبل صلاتي الظهر و العصر و يصليهما بمنى و يبقى بمنى الى طلوع الشمس من يوم عرفة و أن الأفضل لغيره إيقاع الإحرام بعد اتيانهما في المسجد بالنحو الذي ذكره الفقهاء و يدل على ذلك صحيح جميل على الامام أن يصلي الظهر بمنى ثمَّ يبيت بها و يصبح حتى تطلع الشمس ثمَّ يخرج و في صحيحته الأخرى ينبغي للإمام أن يصلي الظهر من يوم التروية بمنى ثمَّ يبيت بها و يصبح حتى تطلع الشمس ثمَّ يخرج، بل المحكي أن الشيخ في التهذيب و ظاهر النهاية و المبسوط ذهب الى انه لا يجوز للإمام غير ذلك و أن صاحب الحدائق قد مال اليه لظاهر النصوص المزبورة و لكن مقتضى الشهرة على الاستحباب و نقل الإجماع عليه و اشعار لفظ ينبغي و نحوه به هو حملها على الاستحباب كما في الجواهر، هذا و قد فسر في الجواهر (الامام) بأمير الحاج ناقلا التصريح بذلك عن غير واحد من الأصحاب معللا بأنه ينبغي أن يتقدم الى المنزل فيتبعوه و يجتمعوا اليه. و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر و المراد به هو امام المسلمين و من يتولى شؤونهم و انما يرتب هذا الحكم على أمير الحاج باعتبار نيابته عنه فالأولى ثبوت هذا الحكم للمجتهد النائب مناب الامام و الذي

له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 561

الولاية المطلقة و الزعامة الدينية في عصر الغيبة فإنه قد عرفت أنه كلما ثبت للإمام بعنوان الإمامة يثبت له اما لأنه إمام حال الغيبة أو للأدلة على قيامه مقام الإمام الأصلي.

الثاني و الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد يستحب له أن يخرج من المشعر بعد طلوع الشمس

يستحب للإمام الإفاضة من المشعر الحرام بعد طلوع الشمس بخلاف غيره فإنه يستحب له قبل طلوع الشمس بقليل كما صرح بذلك غير واحد لخبر جميل ينبغي للإمام أن يقف بجمع حتى تطلع الشمس بل عن الشيخ و ابن حمزة و القاضي الوجوب و لا يخفى أن ظاهر الخبر هو الاستحباب. ثمَّ أنك قد عرفت أن كل ما ثبت للإمام يثبت للفقيه الجامع للشرائط حال الغيبة.

الثالث و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد استحباب خطبة المجتهد يوم النفر الأول

في المحكي عن المختصر النافع و القواعد و غيرهما أنه يستحب للإمام يوم النفر الأول أن يخطب بعد صلاة الظهر كما عن السرائر و بعد صلاة العصر كما عن المنتهي بان يعلم الناس وقت النفرين الأول و الثاني و عن المدارك (ينبغي أن يعلمهم فيها أيضا كيفية النفر و التوديع و يحثهم على الطاعة و على أن يختموا حجهم بالاستقامة و الثبات على طاعة اللّه تعالى و أن يكونوا بعد الحج خيرا مما قبله و أن يذكروا ما عاهدوا اللّه عليه من خير) و لكن لم أجد حتى الآن دليلا على ذلك و لكن لا ينكر حسنة فإن ذلك من شؤون الزعامة الدينية و الولاية لأمور الرعية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 562

الرابع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد مشروعية الجهاد بل وجوبه بأمر المجتهد في زمن الغيبة

اشارة

الظاهر ثبوت الإجماع على مشروعية الجهاد بل وجوبه بأمر الإمام الموجود عند بسط يده أو بأمر من نصبه للجهاد و لكن وقع النزاع بكفاية أمر المجتهد الجامع للشروط إذا كان مبسوط اليد في زمان الغيبة فعن المسالك و غيرها عدم الاكتفاء به و حرمة توليه. و لكن الظاهر كفاية ذلك لان مقتضى عموم أدلة وجوب الجهاد و عدم اختصاصها بزمان دون زمان هو ثبوته في زمن الغيبة و اما ما دل على اعتبار وجود الامام العادل. فإنه ظاهر في اعتبار وجود الزعيم الديني الجامع للشرائط لقوله في موثقة سماعة المحكية عن الكافي و الاحتجاج عن ابي عبد اللّه (ع) أنه قال لقي عباد البصري على بن الحسين (ع) في طريق مكة فقال له يا على بن الحسين تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحج و لينه أن اللّه عز و جل يقول إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية فقال

(ع) أتم الآية فقال التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ الآية فقال (ع) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج، و عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبيه عن رجاله عن على بن الحسين (ع) مثله و عن محمد بن الحسن الطوسي بسنده عن أبي حمزة الثمالي مثله: و لا ريب أن هذا يشمل المجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة فيكون المراد بالإمام في تلك الروايات هو هذا المعنى، و يؤيد ذلك ما عن علل الصدوق بسنده عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه (ع) عن آبائه قال قال أمير المؤمنين (ع) لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء. سلمنا إرادة الإمام الأصلي لكن الأدلة الدالة على نيابة المجتهد الجامع للشرائط عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 563

الامام المتقدمة تثبت له جميع الأحكام الثابتة له بعنوان الإمامة و لا ريب أن الجهاد انما يثبت للإمام بهذا العنوان و لذا أخذ نفس هذا العنوان في موضوع الأدلة: و يرشدك إلى ذلك فتوى الفقهاء بكفاية من نصبه الإمام في الجهاد فلو لم يكن دليل النصب حاكما على تلك الأدلة لما كان وجه لافتائهم بذلك لأن أدلة الجهاد إذا كانت تمنع من كفاية غير الإمام فهي تمنع من ذلك سواء دلت الأدلة على النصب العام لسائر الوظائف أو لبعضها بالخصوص هذا مع أن تلك الأخبار إذا قيست بالنسبة للأخبار الواردة في هذا الباب تكون ظاهرة في النظر للمنع من الجهاد مع أئمة الجور، و اما دعوى الإجماع على عدم كفاية المجتهد الجامع للشرائط في زمان الغيبة فإن الظاهر من مدعيها أنها حدسية شاك مدعيها فيها كيف

و لو سلمت فهي ليست بحجة لاحتمال استناد المجمعين الى تلك الأدلة الموهون دلالتها.

باقي أحكام المجتهد في باب الجهاد

و من هنا يظهر الحال في الاحكام التي ذكروها في الجهاد للإمام، من أن الكفار المحاربين لا يبدءون بالحرب إلا بعد الدعوة لهم من الامام أو من ينصبه لذلك إلى محاسن الإسلام و امتناعهم عن ذلك إلا إذا عرف لهم محاسن الإسلام بقتال سابق أو بغير ذلك. و من أن له مهادنة الكفار.

و أنه ينبغي له قتال من يليه من الكفار إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا أو أكثر ضررا. فان ذلك من أحكام السياسة التي ترجع إلى نظر الامام، و أن الواجب عليه التربص إذا كثر العدد و قل المسلمون حتى تحصل له الكثرة المقاومة و يجعل كل ما يتحرس به المسلمون من الكفار كعمل الحصون و حفر الخنادق و تهيئة الجند و أخذ السلاح الكافي لهم الى غير ذلك مما يقتضيه الحال بحسب العصور و الأزمان لأن أمر الجهاد موكول لنظره لتولية شؤون المسلمين و يجب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 564

على الرعية طاعته. و من أنه يكره طلب المبارزة بدون أذن الامام بل قيل بحرمتها كما أنها تستحب المبارزة كفاية أو عينا إذا ندب إليها الامام و تجب كفاية أو عينا إذا ألزم بها. و من أنه للإمام أو من نصبه أن يذم لأهل الحرب عموما أو خصوصا على حسب ما يراه من المصلحة. و نفي الخلاف في الجواهر عن ذلك و لأن ولايته عامة و الأمر موكول الى نظره في ذلك و يجب الوفاء بالذمام على حسب ما وقع عليه، و من أن الامام يرث الحربي الذي عقد الأمان لنفسه إذا لم يكن له

وراث مسلم. و علل بأنه مال لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فهو من الأنفال التي جعلها اللّه له كإرث من لا وارث له و قد ناقشنا في ذلك بان المراد بما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب هو خصوص الأرض، و من أن التحكيم و المهادنة لا تجوز إلا بإذن الامام، و من جواز جعل الإمام الجعائل لمن يدله على مصلحة من مصالح المسلمين و ليس للجيش الاعتراض لعموم الولاية و لفعل النبي (ص) كما في الجواهر. و من أن كيفية القتل بيد الامام لمن أسر و الحرب قائمة، و من ان الامام يكون له التخير بين المن و الغداء و الاسترقاق للاسرى بعد انقضاء الحرب و أنه إذا استرق الزوج انفسخ النكاح، و من أن ما شرطه الامام من الجعائل التي يجعلها للقائمين بمصالح المسلمين المحاربين و من السلب إذا شرطه للقاتل يجب إخراجه لأربابه قبل قسمة الغنيمة و هكذا ما رضخه للكفار الذين قاتلوا بإذن الامام. و من أن ما غنمه المسلمون بعد القسمة إذا كان فيه مال لمسلم عاد المال لأربابه و يرجع الغانم على الامام بقيمته فيعطيه من بيت المال و بعضهم قيد ذلك بتفرق الغانمين و إلا أعاد القسمة أو رجع على كل واحد منهم بما يخصه. و من أن للإمام أو من يقوم مقامه عقد الذمة. و من أن تقدير الجزية بيد الامام بحسب ما هو الأصلح للمسلمين، و جواز وضع الامام لها على رءوسهم أو على أراضيهم و جواز اشتراط ضيافة مارة العسكر عليهم، و أن خرقوا الذمة في دار الإسلام للإمام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 565

ردهم إلى مأمنهم، و قيل

أن الامام مخير بين ذلك و بين استرقاقهم أو مفاداتهم أو قتلهم. و من أن الامام إذا ضرب مقدارا من الجزية إلى أمد معين أو على الدوام و قد مات وجب على الإمام القائم بعده إمضاء ذلك و أن أطلق الأول كان للثاني تغيره حسبما يراه صلاحا، و قد حكي عدم الخلاف على ذلك في الجواهر و من أنه على الامام أن يمنع أهل الكتاب استيناف بناء المعابد لهم كالبيع و الكنائس و الصوامع في بلاد الإسلام و لو استجدوها وجب عليه إزالتها سواء كان ذلك البلد مما أحدثه المسلمون كالبصرة و الكوفة و بغداد و سر من رأى و نحوها أو فتحت عنوة أو صلحا على أن تكون الأرض للمسلمين، دون أراضيهم التي فتحت صلحا على أن تكون لهم و يؤدون خراجها فإنه يجوز إقرارهم على بيعهم و كنائسهم و نحوها من معابدهم و أحداث ما شاءوا من ذلك و من أن أهل الذمة إذا فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم أيضا كالزنا كان للإمام أو من يقوم مقامه أن يجري عليهم الحد الذي يجريه على المسلمين و ذهب بعضهم إلى أنه له أن يدفعهم إلى أهل نحلتهم ليقيموا عليهم الحد بمقتضى شرعهم. و من أن للإمام و من يقوم مقامه المهادنة و هي المعاقدة على ترك الحرب بعوض أو غير عوض إذا كان في ذلك مصلحة المسلمين و أن له أن يشترط لنفسه الخيار في نقضها متى شاء قال في الجواهر أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه مقامه في ذلك لعموم ولايته بل لا يبعد جريان الحكم على ما يقع من سلطان الجواز المعد نفسه لمنصب الإمامة انتهى.

و من أن الامام يجب

عليه العمل بموجب ما شرطه في عقد الهدنة ما قبله الى أن تخرج مدة الهدنة و أنه يجب قتال من خرج على السلطان العادل (و هم أهل البغي) إذا ندب اليه السلطان أو من نصبه السلطان لذلك بل من وظائف الامام جواز قتال كل من خالف أمره في حق وجب عليه أدائه كما لو امتنع من الزكاة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 566

أو الصلاة أو الصوم أو نحو ذلك، و له أن يستعين بأهل الذمة في قتال المسلمين البغاة مع الضرورة.

الخامس و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد وجوب إجبار المجتهد للمحتكر على بيع ما احتكره

لا يخفى ان الاحتكار الممنوع منه شرعا هو حبس الطعام طلبا لغوا الثمن مع احتياج أهل البلد و فقد بائع له أو باذل له فلو حبسه للقوت أو للتصدق أو لطلب زيادة الثمن مع عدم احتياج الناس له أو مع احتياجهم و وجود البائع له و الباذل له بنحو يقوم بحاجتهم فلا مانع منه شرعا لعدم الخلاف المحكي و لقول الصادق (ع) في حسنة الحلبي أو صحيحته إنما الحكرة أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره فان كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل و لقول الصادق (ع) في صحيح الحناط انما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام و كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي (ص) فقال له، يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر، فان ظاهره الإشارة إلى الاحتكار الممنوع منه شرعا و كيف كان فالاحتكار أن كان يؤدى إلى تلف النفوس لاضطرارهم لما احتكره و لا مندوحة لهم عنه البالغ إلى حد المخمصة و ما يقرب منها فلا ريب في حرمته و يجب على

متولي شؤون المسلمين من الامام أو نائبه إجبار المحتكر على البيع للإجماع المنقول عن غير واحد بل لضرورة الدين و لصالح مصلحة المسلمين و اما إذا لم يبلغ ذلك حد الاضطرار ففي تحريمه أو كراهته قولان أكثر المتأخرين على الثاني لعدم صراحة بعض الاخبار في التحريم و عدم صراحة ما ظاهره التحريم في مورد البحث بل لعله ظاهر في الاحتكار مع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 567

الاضطرار مضافا لما في حسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (ع) قال سألته عن الرجل يحتكر الطعام و يتربص به هل يصلح ذلك قال (ع) أن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به و أن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم طعام. و حمل الكراهة على الحرمة مجاز خلاف الظاهر و كيف كان فقد حكي عدم الخلاف بين الأصحاب في أن الامام أو من يقوم مقامه يجبر المحتكر على البيع أو غيره من المعاوضات بل في الجواهر حكاية الإجماع عن جماعة عليه و في كتاب ملا جواد (ره) نقل الإجماع المستفيض عليه من دون فرق بين أن يكون المحتكر مالكا أو وكيلا أو وليا و للنصوص منها خبر حمزة عن أمير المؤمنين (ع) أن رسول اللّه (ص) مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج الى بطون الأسواق حيث ينظر الناس إليها، و خبر حذيفة ابن منصور عن ابي عبد اللّه (ع) نفذ الطعام على عهد رسول اللّه (ص) فأتاه المسلمون فقالوا يا رسول اللّه قد نفذ الطعام و لم يبق شي ء إلا عند فلان فمره يبيع الناس قال فحمد اللّه و اثنى عليه ثمَّ قال يا

فلان أن الطعام قد نفذ الأشياء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه، بل ذلك من المصالح العامة للمسلمين فولاية الفقيه في زمن الغيبة تقتضي ذلك بل تقتضي أن المحتكر لو امتنع من المعاملة على ماله مع الإجبار قام الفقيه مقامه في المعاملة على ماله نعم لو بذل المحتكر طعامه صدقة لم يجبر على بيعه إلا في حق من ينقصه قبولها، و قد اختلفوا في جواز تسعير ولي المسلمين للطعام و المشهور عدمه للأصل و عموم التسلط على المال و الإجماع المنقول عن جماعة و لخبر حمزة عن على (ع) المتقدم فان تكملته فقيل لرسول اللّه (ص) لو قومت عليهم فغضب حتى عرف الغضب في وجهه و قال انا أقوم عليهم انما السعر الى اللّه عز و جل يرفعه إذا شاء و يضعه إذا شاء و في مرسل الفقيه انه قيل للنبي (ص) لو سعرت لنا سعرا فقال ما كنت لألقى اللّه تعالى ببدعة لم يحدث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 568

إلى فيها شي ء و لما ورد ان اللّه و كل بالأسعار ملكا يدبرها. و الحق ان يقال انه لا يسعر عليه إلا أنه لو أجحف ألزمه ولي المسلمين بالنزول الى حد ينتفي معه الإجحاف إذ الميزان هو مصلحة المسلمين برفع حاجتهم مع عدم الاضطرار بالغير و في المحكي عن كتاب الأمير (ع) لمالك الأشتر في الاحتكار. و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين العدل واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع.

السادس و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد اعتبار قبضه فيما يعتبر فيه القبض إذا كان في الجهات العامة

ان الأمور التي يعتبر في صحتها القبض كالوقف و الهبة و نحوها إذا تحققت بالنسبة للجهات العامة كما لو أوقف على الفقراء أو أوقف مسجدا أو وهبه، للفقراء

نظير ما لو صنع ذلك للمجنون أو للصبي الذي لا ولي له فإنه يعتبر في صحتها قبض الحاكم الشرعي باعتبار ان القبض لا يتحقق بالنسبة اليه ألا بقبض جميع أفراده أو الولي العام و حيث لا يمكن قبض الجميع فيتعين قبض وليهم كما يتولى القبول عنهم و لهذا قالوا في الزكاة ان قبض الحاكم الشرعي لها يكون قبضا عن الفقراء أجمع و موجبا لبراءة ذمة الدافع و كان له الصلح عنها بخلاف قبض بعض مستحقيها فإنه انما يكون قبضا لما يخص المدفوع له باعتبار كونه مصرفا من مصارفها و تحقيق الحال في هذه المسألة يطلب من مظانها و إن كان الأحوط ما ذكرناه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 569

السابع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد جواز بذل السبق في المسابقة و الرماية من بيت المال

ذكر الفقهاء انه لو بذل الامام السبق من بيت المال جاز بلا خلاف و لا إشكال معللين ذلك بأن فيه مصلحة للإسلام و المسلمين و هي مصرفه. و مقتضي التعليل تعدية الحكم للمجتهد الثابت له الولاية العامة.

الثامن و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم جواز فسخ النكاح بالعيوب بدون مراجعته

حكي عن بعض الأصحاب ذهابهم الى توقف فسخ النكاح في جميع العيوب على الحاكم الشرعي و هو لا وجه له لمخالفته لجميع الأخبار الحاكمة بأن الفسخ للزوجة من غير توقف على أمر آخر. (نعم) ظاهر الأصحاب أن زوجة العنين ليس لها الفسخ قبل الرجوع الى الحاكم الشرعي فيؤجلها سنة و بعد ذلك يكون الفسخ لها و ذكر المحقق الشيخ حسن (ره) شبل كاشف الغطاء (ره) ان مقتضى كلامهم ان الرجوع الى الحاكم الشرعي و الانتظار إلى سنة تعبدي حتى لو تسالم الزوج و الزوجة على العنن و قطعا به و بعدم برئه منه و في كلامهم بحث لا سيما فيما لم يوجد هناك حاكم شرع أو وجد و امتنع من ضرب الأجل انتهى.

و الموجود في أخبار الباب ما يدل على ان التأجيل من حين المرافعة إلى الحاكم كخبر أبي البختري عن جعفر (ع) عن أبيه (ع) عن على (ع) انه يقول في العنين يؤجل سنة من يوم مرافعة المرية. و في خبر قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 570

محمد (ع) عن أبيه (ع) عن على (ع) أنه يقتضي في العنين أنه يؤجل سنة من يوم رافعته المرية المنجبر ضعفهما بدعوى عدم الخلاف عن الرياض و من المعلوم ان ظاهرهما أنهما لو ترافعا عند الحاكم كان على الحاكم تأجيله سنة و لا دلالة فيهما على لزوم المرافعة مطلقا

كما انهما ظاهرهما في ان مبدء السنة هو المرافعة فيما لو ترافعا و إلا فكيف مبدئها المرافعة مع عدم الترافع و الاتفاق على وجود العنن هذا. و الظاهر ان المراد بالمرافعة مطلق النزاع بينهما في هذا الموضوع و ان لم يكن عند الحاكم بقرينة عدم تقيدها بذلك. و لكن القوم حملوها على المرافعة عند الحاكم. كما ان من الأخبار ما يدل على انتظاره سنة فقط كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال العنين ينتظر به سنة و غيره من الاخبار الدالة على ذلك المؤيدة بنقل الاتفاق على تأجيله سنة عن الشهيد الثاني (ره) و المحقق الشيخ على (ره) و ظاهر هذه الاخبار هو ان التأجيل من جهة احتمال عدم العنن أو احتمال برئه منه و ذلك بقرينة الخبرين المتقدمين فان مقتضى المرافعة هو احتمال عدم العنن أو البرء منه و بقرينة ما روى عن المشايخ الثلاثة عن عباد الضبي أو غياث عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال في العنين إذا علم أنه لا يأتي النساء فرق بينهما. و عن أبي بصير عن ابن مسكان في الصحيح قال:

سئلت أبا عبد اللّه عن امرأة ابتلي زوجها فلم يقدر على الجماع أ تفارقه قال: نعم ان شائت. و عن أبي صباح الكناني قال: سئلت أبا عبد (ع) عن أمرية ابتلي زوجها فلم يقدر على الجماع أبدا أ تفارقه قال نعم ان شائت. و عن الكناني بهذا الاسناد قال: إذا تزوج الرجل المرية و هو لا يقدر على النساء أجل سنة حتى يعالج. و عن عبد اللّه بن الحسين عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال:

سألته عن عنين دلس نفسه لامرئة ما حاله

قال عليه المهر و يفرق بينهما إذا علم انه لا يأتي النساء فان هذه الاخبار ظاهرة في انه مع علم الرجل بالعنن و عدم برئه منه و عدم المرافعة منه في ذلك يفرق بينهما بدون تأجيله سنة. فظهر ان التحقيق ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 571

العنين عند النزاع بينه و بين زوجته في العنن أو البرء منه يؤجل سنة من حين النزاع و ان لم يوجد حاكم و لعل الإجماع المحكي ناظر لهذه الصورة و أما إذا علم وجود العنن و عدم البرء منه و لم يقع من الزوج مناقشة في ذلك مع الزوجة كان للزوجة الفسخ من دون تأجيل و اللّه العالم.

التاسع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد بعثه للحكمين في الشقاق بين الزوجين

الشقاق: هو ان يكره كل واحد من الزوجين صاحبه فيكون كل منهما بكراهته للآخر في شق عنه أي في ناحية عنه، و الحكمان هما الشخص الذي يبعثه الزوج و الشخص الذي تبعثه الزوجة و الأصل في ذلك قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا) و قد اختلف الفقهاء في الباعث للحكمين المذكورين هو الحاكم الشرعي كما عن المسالك من نسبته إلى الأكثر أو الزوجان كما هو المحكي عن ابن بابويه و أبيه. أو أهل الزوجين كما هو المحكي عن السدي. و عن ابن جنيد ان الامام يأمر الزوجين ان يبعثا الحكمين.

و ظاهر الاخبار ان ذلك يرجع للزوجين و ذلك لما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح و في آخر في الحسن عن أبي عبد اللّه (ع) قال سألته عن قول اللّه تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا قال (ع) ليس

للحكمين ان يفرقا حتى يستأمرا الرجل و المرية و يشترطا عليهما ان شاءا جمعا و ان شاءا فرقا فان جمعا فجائز و ان فرقا فجائز. و نحوها غيرها من روايات الباب فان ظاهر اشتراط الحكمين على الزوجين قبول ما يحكمان به ان البعث انما يكون منهما و إلا لو كان من غيرهما لما كان لهما الاشتراط و كان الأمر يرجع للباعث فان من قال إن البعث من الحاكم يجعله مستقلا لا يتوقف حكمهما على رضائهما. (نعم) عند رفع أمرهما للحاكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 572

الشرعي و تشاحهما و لم يتفقا على الجعل للحكمين فعلى الحاكم الشرعي جعل ذلك لهما و ما يحكم به الحكمان يكون نافذا عليهما و ان لم يرضيا به و ذلك للولاية الثابتة له في رفع الخصومات. و يؤيد ذلك ما عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي (ع) في رجل و أمرية حدث شقاق بينهما أنه قال: (ع) ابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها ثمَّ قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما و ان رأيتما ان تفرقا فرقتما فقالت المرية رضيت بكتاب اللّه على ولي اللّه فقال:

الرجل أما الفرقة فلا فقال: على (ع) ما تبرح حتى تقر بما أقرت به.

نعم في الجواهر بتقريب و توضيح منا ان الضمير في (خفتم) و في (فابعثوا) للخطاب للجماعة و هو لا بد ان يكون للحاضرين و في (بينهما) للغيبة للزوجين و لا بد ان يكونا غائبين فالمرجع لهما مختلف بالحضور و الغيبة و الجمع و التثنية فلو كان الباعث للحكمين هما الزوجان لاتفق الضميران و لكانت الآية فإن خفتما شقاق بينكما فابعثا.

فلا بد ان يكون ضمير الجمع في الكلمتين عائد للحكام المنصوبين لذلك كما هو المحكي عن الأكثر في المسالك، و عن كنز العرفان و مجمع البيان انه المروي عن الباقر (ع) و الصادق (ع) و (دعوى) المنافاة بين كون الباعث هو الحاكم و بين ما هو ظاهر الأخبار من استئمارهما بأمر الزوجين من الافتراق و الاجتماع (مدفوعة) بأنه لا منافاة بين كون الباعث هو الحاكم و المبعوث عنه يستأمر بأمر الزوجين.

و لا يخفى ما فيه فان اختلاف الضمير لا يوجب ان يكون المخاطب هم الحاكم فلعله المسلمون و يكون من قبيل المطلوب الكفائي. و عليه فلو قام به الزوجان سقط عن الباقين مضافا الى ما عرفت كما في الحدائق ان من قال بأن الباعث هو الحاكم يقول برجوع الأمر إليه دون الزوجين و أما ما نقل عن كنز العرفان و مجمع البيان فهو لم نظفر به في أخبار الباب كما صرح بذلك صاحب الحدائق (ره). على ان اختلاف الضمائر في لغة العرب و في القرآن الشريف مع اتحاد المرجع أكثر من ان يحصى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 573

الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان يكون اللعان بين الزوج و الزوجة بين يديه

المنسوب للأكثر كما هو المحكي عن المسالك أن يكون اللعان بين الزوجين بين يدي الحاكم لحسن بن مسلم سئل الباقر (ع) عن الملاعن و الملاعنة كيف يصنعان قال: يجلس الامام مستدبر القبلة فيقيمها بين يديه. و عن ابن سعيد استحباب ذلك و يؤيده المرسل عن الصادق (ع) انه قال: و السنة ان يجلس الامام للمتلاعنين و يقيمها بين يديه كل واحد منهما مستقبل القبلة و الأدلة لا تفي بوجوب ذلك.

الواحد و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد انه ينفق على اللقطة من الإنسان و الحيوان و التي يخشى فسادها يبيعها

اشارة

يظهر من الفقهاء الاتفاق على وجوب الإنفاق على اللقيط و اللقيطة من ولي المسلمين عند عدم مال لهما و لا متبرع على الإنفاق عليهما و ان اختلفوا في ان الإنفاق عليهما يكون من بيت المال كما هو المشهور أو بنحو القرض و الأصح هو الأول لما في الجواهر من حكاية عدم الخلاف فيه عن المبسوط و لأنه بعد الحكم بحريته و إسلامه و فقره في ظاهر الشرع و اعداد بيت المال لمصالح المسلمين كان اللازم الإنفاق عليه منه قال: في الجواهر و هل يلحق نائب الغيبة بالسلطان على وجه يجب على الملتقط رفع الأمر اليه لم أجد تصريحا به و لكنه محتمل. و أما الضال و الضالة ففي مفتاح الكرامة ان عبارات الفقهاء قد طفحت بأن السلطان إذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 574

وجد و رفع أمرهما إليه أنفق عليهما من بيت المال صرح بذلك في المقنعة و النهاية و السرائر و النافع و التحرير و اللمعة و المهذب و المقتصر و الروضة و المسالك و غيرها قال (ره) و فيه ما تقدم من أنه لا ينفق على مال الغير من بيت المال بل يستقرض عليه أو يباع فيه و أما المال

الملتقط الذي يخشى فساده ففي محكي التذكرة انه لم يجز بيعه بنفسه مع وجود الحاكم لأنه مال الغير و لا ولاية له عليه و لا على مالكه كالمال الغير الملتقط و لا يخفى ان هذا انما يتم لو لم نقل بأن للملتقط الولاية على المال لأن له جواز تملكه و الصدقة به بعد التعريف. و لو افتقر بقاء اللقطة إلى العلاج كالرطب المفتقر الى العلاج رجع الى الحاكم فيبيع الحاكم بعضه و ينفقه عليه وجوبا حذرا من التلف قال في مفتاح الكرامة و وجه تعين الرجوع الى الحاكم انه مال غائب و هو وليه في حفظ ماله و في العمل ما هو الحفظ له فيه. و لكن قد عرفت ان هذا انما يتم لو لم تكن للملتقط الولاية على المال و ظاهر الاخبار أنه له الولاية عليه.

هل يجب على الحاكم قبول اللقطة

ذهب بعضهم الى أن الملتقط يجوز له دفع اللقطة إلى الحاكم لأن يبيعها لأنه ولي الغائب في الحفظ و في المحكي عن المسالك أنه يجب على الحاكم قبولها لأنه معد لمصالح المسلمين و من أهمها حفظ أموالهم. و لا يخفى ما فيه فان أدلة اللقطة ظاهرة في ولاية الملتقط عليها و هو الحافظ لها فلا يجب على الحاكم الحفظ لأن اللقطة محفوظة بيد الملتقط و تحقيق ذلك كله يطلب من كتاب اللقطة.

الثاني و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد جواز القضاء و الحكم للمجتهد

اشارة

تقدم ص 133 الفرق بين الحكم و الفتوى كما تقدم أنه يجوز للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 575

الفتوى و الكلام هنا في جواز الحكم له و القضاء و قد عرفت معنى الحكم في الفرق بين الفتوى و الحكم. و اما القضاء فهو بالمد و القصر و هو في اللغة لمعاني كثيرة و عن مجمع البيان و عن الصدوق أنها عشرة معاني و الظاهر ان بعضها يرجع الى بعض، منها الحكم و الإلزام كقوله تعالى وَ اللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ و منها الإتمام كقول تعالى فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ و عن المسالك أنه سمي القضاء قضاء لأن القاضي يتم الأمر بالفصل و يمضيه و سمي حكما لما فيه من منع الظالم عن ظلمه و عن كشف اللثام هو فصل الأمر قولا أو فعلا، و في عرف الفقهاء عبارة عن ولاية شرعية لمن له أهلية الفتوى على الحكم في إثبات الحقوق و استيفائها و في المصالح العامة و الظاهر أنه بمعنى الحكم المخصوص و في محكي الروضة فسره بنفس الحكم بين الناس و يدل على ذلك المشتقات منه كقضى و يقضى و أقضي فالظاهر عدم ثبوت معنى جديد للفقهاء يغاير معناه اللغوي كما

أنه لو كان عرف الفقهاء ما ذكر للزم اختصاص القضاء عندهم بالصحيح و لا يطلق على الفاسد مع أنه لا إشكال في إطلاقه على قضاة غير الشيعة عند الفقهاء على سبيل الحقيقة، و الشرائط التي ذكروها للقضاء ليست هي شرائط لنفس القضاء و انما هي شرائط لصحته و لكن الظاهر انما دعاهم لنسبة ذلك المعنى للفقهاء و هو رؤيتهم صدق القاضي على صاحب الولاية و أن لم يصدر منه الحكم فعلا كما لو كان نائما لكن قد عرفت في مبحث الاجتهاد إن المشتق إذا صدق لا يلزم منه أن يكون مصدره بمعناه الحقيقي متحقق كما في نجار يصدق على النائم من دون صدور نجارة منه (ثمَّ لا يخفى) انا لا ننكر كون القضاء من الولايات و أنه من شعب الرئاسة و الولاية العامة للأئمة الأطهار و انما ننكر أن يكون معناه عند الفقهاء كذلك. و يدل على شرعيته العقل لاحتياج الناس إليه في فصل الخصومات الواقعة بينهم و قطع منازعاتهم فلولاه لاختل النظام و يدل عليه أيضا القرآن الكريم بقوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 576

وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) و قوله تعالى مخاطبا لداود إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ: و يدل عليه أيضا مشهورة أبي خديجة إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته قاضيا فحاكموا اليه: و قوله عليه السلام القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة و جعل (ع) الرجل الذي قضى

بالحق و هو يعلم في الجنة: و قول الصادق عليه السلام اتقوا الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين كنبي أو وصي و قول أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي و قول ابي عبد اللّه (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة في رجلين وقعت بينهما منازعة ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه تعالى و هو على حد الشرك باللّه: و في رواية أبي خديجة الأخرى اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا و يدل عليه أيضا الإجماع و المستفاد من الجميع أنه من مناصب النبي و الأئمة (ع) بالأصالة لكونه من شؤون الرئاسة العامة و الولاية التامة الثابتة لهم (ع) من ضرورة المذهب و أن ثبوت هذا المنصب لغيرهم انما هو من قبلهم و بواسطتهم و انهم (ع) قد أثبتوه للمجتهد العادل الجامع لشرائط الإفتاء للإجماع القطعي على ذلك بل الضرورة و مقبول عمر بن حنظلة. و مشهورة ابي خديجة المتقدمتان

[قضاء المنسد عليه باب العلم و العلمي.]

هذا (و قد يورد) على جواز قضاء المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي بناء على الحكومة بل من رجع الى الأصول العملية العقلية بأن مثله ليس ممن يعرف الاحكام مع أن معرفتها معتبرة في القاضي كما دلت عليه المقبولة كما في كفاية الاخند (ره) نعم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 577

بناء على الكشف

يصدق عليه انه عارف بحلالهم و حرامهم كالمجتهد الذي قامت عنده الامارة فيكون مشمولا للمقبوله. و (دعوى) أن كل من قال بجواز قضاء المجتهد قال به من دون فرق بين المنفتح عنده باب العلم و بين المنسد و بين من رجع للأصول العقلية فبواسطة عدم القول بالفصل يثبت جواز قضائه. (فاسدة) لأنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل لأن المسألة من المستحدثات أو من جهة الغفلة عنها. (و دعوى) ان المجتهد المنسد عليه باب العلم أو الراجع للأصول العقلية بواسطة علمه بالأحكام التي هي موارد الإجماعات و الضرورات و المتواترات إذا كانت بمقدار يعتد به فيصدق عليه ممن عرف حلالهم و حرامهم فتدل المقبولة على جواز قضائه و ان كان منسدا عليه باب العلم في معظم الفقه. (فاسدة) لأن ظاهر أدلة القضاء أن يكون القاضي عالما بأحكام الواقعة و فرض الكلام أنه ليس بعالم لانسداد باب العلم عليه أو رجوعه للأصول العقلية. (و الجواب عنه) ان المراد بالمعرفة في المقبولة و غيرها هو المعرفة بالوظيفة الشرعية الفعلية حسب الموازين التي يقتضيها العقل و المنسد عليه باب العلم و العلمي قد عرف الوظيفة الشرعية التي يريدها منه المعصومون (ع) و قد تقدم منا توضيح ذلك و تنقيحه.

و قد يورد على جواز قضاء المجتهد ثانيا بأن المقبولة قد دلت على ان المجتهد انما يصح ان يقضى بحكمهم (ع) لقوله (ع) فيها (فاذا حكم بحكمنا) و المجتهد لم يحرز أن ما أدى اليه اجتهاده هو حكمهم (ع) بل يعرف ان هذا مؤدى الأمارة أو الأصل العملي خصوصا إذا كان منسد عليه باب العلم. (و أجاب عنه) في الكفاية بأن إسناد الحكم إليهم (ع) على سبيل المجاز كما

لو قلت هذا الحكم السلطان و الحاكم هو وكيله أو نائبه فنسبة الحكم الصادر من المجتهد إليهم (ع) في المقبولة باعتبار أنه منصوب منهم (ع) و القرينة على هذا المجاز هو كون المجتهد في مقام الحكم غالبا يحكم بقضايا شخصية مثل ان هذه الدار لزيد مع ان الحكم الجزئي لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 578

صادرا عنهم (ع) فلو أريد بالمقبولة خصوص الصادر منهم (ع) لزم اختصاص المقبولة بالفرد النادر. و ذهب المرحوم الأصفهاني (ره) أنه يحتمل بقرينة صدر المقبولة و هو (من عرف أحكامنا) ان المراد بقوله فيها (إذا حكم بحكمنا) أنه إذا حكم بما عرفه من أحكامنا بالطرق المقررة لمعرفتها كما يحتمل ان المراد إذا حكم بأحكامهم (ع) المقررة لفصل الخصومات في مقام القضاء كما يحتمل أن المراد هو كونه من جزئيات الحكم الوارد عنهم (ع) و كون قواعدهم (ع) منطبقة عليه و لا ريب ان القاضي يعلم بذلك بواسطة اجتهاده. (أقول التحقيق) ان المراد به أنه إذا حكم بحكم بعنوان أنه حكم للمعصومين (ع) احترازا من أن يحكم بحكم المخالفين أو أهل العرف أو بحكم العقل أو بحكم السلطان فان من نظر في حلالهم و حرامهم قد يحكم بينهم لا بعنوان أنه حكمهم (ع) بل بعنوان حكم أهل العرف أو بعنوان حكم العقل فلا يلزم الأخذ به و جاز رده.

جواز قضاء [المجتهد] المتجزي

ثمَّ أن أنه يجوز القضاء للمجتهد المتجزي كما يجوز للمجتهد المطلق إذا كان مجتهدا بالمسائل التي تخص القضاء في المسألة المتنازع فيها و يدل على ذلك مشهورة أبي خديجة المتقدمة صفحة 191 خصوصا على نسخة (قضائنا) بدل قضايانا. و للإجماع المركب بعد ما ثبت جواز تقليده فان المحكي

عن غير واحد ان من قال بجواز تقليده قال بجواز قضائه و الترافع اليه. و قد أورد على ذلك المرحوم آغا ضياء و غيره من المعاصرين بمقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة صفحة 203 و سبقهم الى ذلك المرحوم صاحب الجواهر و ارجع مشهورة أبي خديجة إلى مفاد المقبولة و أورد على ذلك أيضا بما في التوقيع عن صاحب الأمر (ع) من قوله (و أما الحوادث الواقعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 579

فارجعوا فيها الى رواه حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) و في بعض الكتب فإنهم خليفتي عليكم: و تقريب الإيراد بذلك ان هذه المذكورات تدل بظاهرها أنه يعتبر في القاضي معرفة جميع الأحكام الشرعية عن مداركها فان قوله (ع) (عرف أحكامنا) ظاهر في معرفة جل الأحكام لإضافة الجمع و عبر (بالمعرفة) للإشارة إلى اعتبار أن تكون عن مدرك لا عن تقليد، و على هذا يخرج قضاء المتجزي إلا إذا فرض كون المتجزي عارفا بغالب الأحكام و كانت له قوة استنباط جل الأحكام بحيث يصدق عليه أنه عارف بأحكامهم (ع) و قد تقدم صفحة 203 الجواب عن ذلك و ان المراد بها الجنس مضافا الى ما عرفته غير مرة من أن مناسبة الحكم الموضوع تقتضي معرفة ما يخص الموضوع المتنازع فيه، مضافا الى أن ذلك هو مقتضي الجمع بينهما و بين مشهورة أبي خديجة المتقدمة صفحة 191 فإن المقبولة لو كانت ظاهرة في بيان ما يعتبر في القاضي فمشهورة ابي خديجة أيضا كذلك لها ظهور في ذلك بل ظهورها أقوى من ظهور المقبولة لما عرفت صفحة 203 أن سياق المقبولة ظاهر في الجنس و لو سلمنا تساوي الظهورين فيتساقطان و

كل منهما يكون دالا على أن المذكور فيها منصوبا للقضاء و ليس حينئذ إحداهما تنفي نصب الآخر قاضيا. و أما التوقيع فظاهر في إرادة الجنس لكون (الحديث) مفردا مضافا و لو سلمناه فالكلام فيه عين الكلام في المقبولة، و قد أورد ثانيا على الاستدلال بمشهورة أبي خديجة لجواز قضاء المتجزي بالإيراد العاشر عليها المتقدم صفحة 195 و جوابه هو الجواب. و يرد ثالثا على الاستدلال بمشهورة أبي خديجة لجواز قضاء المتجزي عدم العمل بها في خصوص المقام كما عن بعضهم و في الجواهر عدم الجابر لسندها بالنسبة الى ذلك بل الموهن متحقق فإني لم أجد من أثبت جميع أحكام المجتهد المطلق للمتجزي عدى ما يحكى عن الأردبيلي (ره) مستدلا بخبر أبي خديجة. (و جوابه) انه لم يعلم عدم الفتوى بمضمونها فيمن اجتهد في خصوص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 580

مسائل القضاء على انك قد عرفت عدم و هن سندها و ان المحكى عن المسالك الاتفاق على العمل بمضمونها كما تقدم صفحة 192 على أن نفس صاحب الجواهر (ره) احتمل جواز الحكم بالمعلوم من أحكام أهل البيت (ع) للمتجزي و حكاه عن بعضهم خصوصا مع عدم المجتهد المطلق. و يرد رابعا أن في المسالك دعوى وفاق الأصحاب على عدم جواز الحكم ممن لم يكن مجتهدا مطلقا و في الجواهر دعوى الإجماع بقسميه على ذلك. (و جوابه) ان عبارة المسالك في باب الأمر بالمعروف غير صريحة في ذلك فإنه إنما ذكر ذلك في الفقيه المجتهد و من المعلوم ان هذا أعم من المتجزي و المطلق و أما صاحب الجواهر فقد اعترف (ره) بحكاية الخلاف في ذلك عن الأردبيلي (ره) و احتمل جواز الحكم من

المتجزي في المعلوم من أحكام أهل البيت (ع) و حكاه عن بعضهم و (الحاصل) ان الإجماع المفيد للقطع بحكم الامام (ع) هنا غير حاصل فيصح التمسك بالرواية المذكورة على انك قد عرفت أن غيرها من الروايات أيضا فيه دلالة على ذلك بمناسبة الحكم للموضوع فان المراد بها من عرف أحكامنا التي تخص الواقعة المتنازع فيها. هذا و قد ذكر الفقهاء (ره) شروطا لقضاء المجتهد تطلب من كتاب القضاء

و ينبغي التنبيه على أمور.
[التنبيه الأول] ان الحاكم يحكم بعلمه

(التنبيه الأول) الظاهر ان المجتهد يحكم بعلمه الناشئ من الأسباب العادية و ان قامت البينة على خلافه كما لو رأى الهلال بعينه و اطلع على قتل زيد لعمر بنفسه دون الناشئ من أسباب غير عادية كالمكاشفات و الرمل و الجفر لقيام الإجماع على عدم جوازه (و قبل الخوض في ذلك) ليعلم ان الظاهر أن محل الخلاف هو ما كان التخاصم في الموضوعات الخارجية ككون هذا ملك زيد و هذا زاني و نحو ذلك و أما إذا كان النزاع من جهة الشبهة الحكمية كما لو كان نزاعهم من جهة عدد الرضعات المحرمة فلا إشكال في عمل المجتهد بعلمه إذ يكون الرجوع إليه حينئذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 581

في فتواه و لا ريب في أنه يفتي بما يعلم به دون غيره و لا يتصور في هذه الصورة مخالفة موازين القضاء من البينة و نحوها لعلمه لأنه في هذه الصورة لا يرجع لموازين القضاء و انما يرجع للفتوى و الحاصل أن المجتهد لا بد و ان يحكم بعلمه و يدل على ذلك الإجماع المحكى عن الانتصار و الغنية و الخلاف و ظاهر السرائر و نهج الحق و غيرها على حكم الحاكم بعلمه فلا تضر مخالفة

ابن جنيد. و لقول أمير المؤمنين (ع) لشريح لما طلب منه شاهدين ويحك ان امام المسلمين يؤمن على ما هو أعظم من ذلك و لقوله تعالى يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) و قوله تعالى وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ و قوله تعالى وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. و لا ريب في أن حكمه بحسب علمه حكم بالحق كما أن حكمه بخلاف علمه حكم بالباطل ألا ترى أن الحاكم لو اطلع على أن عمر قتل زيدا ثمَّ قامت البينة على أن خالدا قتله فان حكمه بمقتضى البينة يكون خلاف العدل و القسط و الحق لأنه حكم بخلاف الواقع و قس الباقي على ذلك. مضافا الى ان كلما علق فيه الحكم على الأمر الواقعي من حد أو قصاص كان العقل حاكما بلزوم العمل به و الحكم به عند تحققه. و عند العلم و القطع به يرى العقل تحققه و ان شئت قلت أن جميع ما دل على حد السارق و الزاني و ما دل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يدل على ان الحاكم لو علم بالواقع لزمه الحكم به إذ لا يحتاج تنجزها إلى شي ء سوى العلم بها قال صاحب أنوار الفقاهة ان عدم القضاء بالعلم قد يؤدي الى إيقاف الحكم أو الفسق من الحاكم كما إذا طلق الرجل ثلاثا عند الحاكم ثمَّ أنكر ذلك الرجل فلو لم يحكم الحاكم بعلمه لزم أما تسليمها اليه و هو فسق أو اعانة على الإثم و العدوان و أما ترك الحكم. مضافا الى ان حجية البينة و باقي موازين القضاء أمارات على الواقع فهي غير مجعولة للعالم بالواقع.

فان الامارات سواء كانت حجيتها بنحو الطريقية للواقع أو بنحو الموضوعية و السببية انما هي مجعولة لغير العالم بالواقع مضافا الى ان القول بعدم حجية العلم للحاكم و حجية البينة و نحوها من موازين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 582

القضاء عند العلم بكذبها يلزمه التصويب الباطل لما عرفت من أن النزاع إن كان في الشبهات الحكمية فالمرجع هو علم الحاكم فلا بد أن يكون محل البحث هو الموضوعات فاذا قلنا بحجية موازين القضاء فيها حتى مع علم الحاكم بالخلاف لزم التصويب في الموضوعات لأن مثل القاتل و الزاني و المديون و نحوها من موضوعات الاحكام ليس مما يعم الموضوع الواقعي و ما يقام عليه البينة بالضرورة من العامة و الخاصة فالبينة أن بدلت الموضوع لزم التصويب في الموضوعات و ان لم تبدله فلا يعقل ثبوت حكم غيره له و ان بدلت البينة الحكم الواقعي إلى حكم آخر لزم التصويب و الإلزام اجتماع الحكمين المتباينين في موضوع واحد في مرتبة واحدة و هي مرتبة العلم لأن الفرض أن الحكم الثابت بواسطة البينة ثابت في مرتبة العلم بالواقع أيضا مضافا لقوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و لجعله (ع) الرجل الذي يقضي بعلمه في الجنة في تقسيمه القضاة إلى أربعة. (أن قلت) فما تصنع في خبر الحسين بن خالد عن الصادق (ع) انه قال الواجب على الإمام إذا نظر الى رجل يزني أو يشرب خمرا ان يقيم عليه الحد و لا يحتاج الى بينة مع نظره لأنه أمين اللّه في خلقه و إذا نظر الى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزجره و ينهاه و يمضي و يدعه قال قلت كيف

ذلك فقال لأن الحق إذا كان للّه تعالى فالواجب على الامام (ع) اقامته و إذا كان للناس فهو للناس و بمضمونه أخبار أخرى. (قلنا) قد أجابوا عن ذلك بما حاصله أن الرواية انما تدل على كون مطالبة ذي الحق في حق الناس شرطا لإقامة الحد فان معنى قوله (ع) (و إذا كان للناس فهو للناس) ان الحق الذي يكون للناس فأمره يرجع إليهم و هذا لا ينافي وجوب القضاء بالعلم في حقوق الناس كما انه لا يقضي في حقوق الناس بالبينة و الإقرار إلا بعد مطالبة ذي الحق كما هو المحكي عن جماعة مدعين على ذلك الإجماع على توقف القضاء في حقوق الناس على مطالبة ذي الحق (نعم) يحكي الخلاف في ذلك عن الشيخ في المبسوط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 583

و عن بعض آخرين فحكموا بجواز القضاء بالإقرار لبعض الروايات و لكنه ضعيف.

و يدل على ما ذكرناه ما رواه سماعة عن الصادق (ع) قال من أخذ سارقا فعفى عنه فذاك له و ان رفع الى الامام قطعه فان قال الذي سرق منه الا أهب له لم يدعه الامام حتى يقطعه إذا رفعه اليه و انما الهبة قبل ان يرفع الى الامام. و ما أرسله في الفقيه و الخصال من ان صفوان بن أمية سرق ردائه فأخذ السارق و جاء به الى رسول اللّه (ص) و اقام على ذلك شاهدين فأمر (ص) بقطع يمينه فقال صفوان يا رسول اللّه أ تقطعه من أجل ردائي فقد و هبته له فقال (ص) الا كان هذا قبل أن ترفعه الى فجرت السنة في الحد إذا رفع الى الامام و قامت عليه البينة أن لا يعطل

و يقام (ان قلت) انه يلزم على هذا أنه لو حكم الحاكم بان هذا قول رسول اللّه (ص) حيث أنه علم به لزم إنفاذ حكمه عند جميع الحاكم و العمل به و هو لا يلتزم به احد (قلنا) الإجماع على عدم نفوذ حكمه في ذلك هو المانع فهو نظير الحكم بان حكم اللّه تعالى هو هذه الفتوى. (ان قلت) ما تصنع بقوله (ص) (لو كنت راجما من دون بينة لرجمتها) فإنه ظاهره أن النبي (ص) كان يعلم باستحقاقها للرجم و لم يحكم بذلك لعدم قيام البينة عنده على ذلك. قلنا الخبر ضعيف فلا يؤخذ به. (ان قلت) ان الاخبار خالية عن الحكم بالعلم و انها انما علقت الحكم في جميعها بالبينات و الايمان و لم يذكر معها الحكم بالعلم و إن الرسول (ص) و الأئمة (ع) لم يزالوا يحكمون بالبينة و اليمين مع علمهم بالواقع فعلا أو بالمشيئة بمعنى أنهم لو أرادوا أن يعرفوا الواقع لعرفوه. و لا ريب في عدم المطابقة بين علمهم و البينة و اليمين في جميع أحكام الدعاوي و لم يزالوا يقفوا عن الحكم و الحد حتى توجد البينة. و لم ينقل عنهم (ع) أنهم ردوا بينة في حد أو قصاص أو قطع خصومة لعلمهم بخلافها أو حكموا ابتداء على شخص بحق و أسندوا ذلك إلى علمهم (ع) (قلنا) لندرة حصول العلم عند القضاة لم يتعرض له في الاخبار بل لبداهة العمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 584

بالقطع ترك التعرض له. على أن الأدلة الآمرة بالحكم بالعدل و القسط و الحق تكون دالة على اعتبار الحكم بمقتضى العلم لأن الذي يحكم بخلاف قطعه يكون قد حكم بخلاف الواقع

و هو حكم بغير العدل و بغير القسط و بغير الحق (و دعوى) أن ما دل على حصر الموازين للقضاء بأربعة يقتضي نفي كون العلم من موازين القضاء (فاسدة) جدا للقطع بأن الموازين الشرعية كلها أمارات على الواقع و من شأن الامارات اختصاصها بالجاهل فهي موازين بالنسبة للجاهل بالواقع. مضافا إلى أنه لم يثبت إهمال الامام لعلمه في مورد و على تقدير الثبوت فهو قضية في واقعة محتملة لكثير من التأويلات و التوجيهات ككون الموضوع فيها مبني على الظاهر كما يقال أن من نعلم بأنه يبطن الكفر و لكن يظهر الإسلام يرتب عليه آثار الإسلام من الطهارة و غيرها لان الموضوع لتلك الاثار هو إظهار الإسلام. أو كون المصلحة العامة تقتضي عدم الحكم بالعلم. و لعل منه عدم حكمهم بكفر بعض الفرق أو من جهة التقية و نحوها على أنا لا نسلم انهم لم يعلموا بعلمهم الحاصل لهم من الأسباب العادية و انا لو سلمنا ذلك فانا إنما نسلمه في علمهم الحاصل من الأسباب الغيبية التي من المصلحة العامة إخفائها على الناس و التي قد ذكرنا في صدر البحث عدم الدليل على لزوم العمل به.

[حرمة قضاء من ليس له أهلية القضاء.]
اشارة

من ليس له أهلية القضاء يحرم عليه القضاء بين الناس. و حكمه غير نافذ. و لا يجوز الرجوع إليه في مقام التخاصم. و لا يجوز الشهادة عنده. و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام (التنبيه الثاني) قال السيد (ره): في عروته أن من ليس له أهلية القضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ و لا يجوز الرجوع إليه في فصل الخصومة بالترافع عنده و لا تجوز الشهادة عنده. و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 585

و ان كان الآخذ محقا إلا إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده فهذه أحكام خمسة (أما حرمة قضائه بين الناس) فلأن عدم أهليته إن كان من جهة جهله بالمسألة المترافع فيها أو من جهة جهله بأصول القضاء و قواعده فواضح لكون قضائه موجبا للتفويت الحقوق و تضيع الأموال و اباحة الإعراض مع أن كل ذلك مما علم بعدم رضاء المولى به فيكون التسبيب لوقوعها حراما مضافا إلى أن الأدلة الدالة على القضاء التي سنذكرها فيما بعد تدل على أنه من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة من بعده و من أذنوا له بذلك و المذكور لم يأذنوا له بذلك قطعا.

و ان كان عدم أهليته من جهة عدم اجتهاده المطلق و إلا فهو عارف بالمسألة المترافع فيها و أصول القضاء فحرمة ذلك مبني على عدم جواز قضاء المتجزي و قد تقدم منا الكلام في ذلك في مبحث تجزي الاجتهاد. و ان كان عدم أهليته من جهة فقده للشروط المعتبرة في القاضي من العدالة أو طهارة المولد و نحوها فحرمة ذلك من جهة أن الأدلة الدالة على جواز القضاء تدل على أنه من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة (ع) من بعده أو من أذنوا له بذلك و لا ريب أن القاضي الفاقد للشروط المعتبرة فيه غير مأذون منهم فيحرم عليه القضاء. مضافا للأدلة الكثيرة منها صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (ع) قال: اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي و في نسخة أخرى لبني أو وصي. و كرواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال: أمير المؤمنين لشريح

يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.

[من كان عالما بالأحكام الشرعية من طريق التقليد يحرم عليه القضاء.]

(و اما) إذا كان عاميا و لكنه عالم بالقضاء عن طريق التقليد فقد حكي عن بعضهم جواز القضاء له إلا ان الحق عدم جوازه له لما عرفته من ان القضاء من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة (ع) أو المأذون من قبلهم و المقلد حتى العالم بالقضاء عن طريق التقليد لم يثبت الاذن له بذلك فهو حرام عليه. و قد حكي الإجماع من المسالك على ذلك و ادعى الإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 586

في أنوار الفقاهة عليه. (نعم) حكي عن المرحوم المتبحر صاحب الجواهر (ره) في كتاب القضاء ثبوت الاذن بالقضاء للعالم بالقضاء و لو عن طريق التقليد و انه ناقش في الإجماع المذكور و قد استدل له على ذلك بوجهين:

(أحدهما): الروايات منها رواية أبي خديجة قال أبو عبد اللّه (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (و في نسخة) (من قضائنا) فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه بتقريب أن العلم أعم من القطع الوجداني أو الظن الحاصل من الأمارة المعتبرة شرعا بدليل شمول الرواية عند الجميع للمجتهد الذي أكثر استنباطاته ظنية و لا ريب أن العامي المقلد قد حصل له الظن من الأمارة المعتبرة و هي الفتوى.

(و منها) ما في روايته الأخرى عن أبي عبد اللّه: اجعلوا بينكم رجلا عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته قاضيا، بتقريب أن المعرفة للحلال و الحرام تشمل المعرفة عن تقليد. (و منها) رواية الحلبي قال قلت: لأبي عبد اللّه (ع)، ربما كان بين الرجلين من

أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منا فقال (ع):

ليس هو ذاك انما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط بتقريب ان الامام (ع) قرر السائل على جواز التراضي على قضاء رجل منا بقوله (ع) ليس هو ذاك فان المراد منه أن الرجل منا الذي تراضيا على قضائه ليس هو ذاك القاضي المنهي عن الرجوع إليه في القضاء، و حيث ان ترك استفصال الامام (ع) عن انه رجل مقلد أو مجتهد علم جواز قضاء كل عالم حتى عن طريق التقليد (و لا يخفى ما فيه) فان إطلاق هذه الروايات منصرف عن المقلد العامي و لو سلم الإطلاق فيها فهي مقيدة بمقبولة عمر بن حنظلة بقوله (ع) فيها (ينظر ان من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا) فإنه ظاهر في المجتهد لأنه هو الذي له النظر في الروايات من حيث الدلالة و السند لمعرفة الأحكام الشرعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 587

و مقيدة أيضا بالتوقيع الشريف عن الإمام الحجة عجل اللّه فرجه بقوله (و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) بناء على شمول الحوادث حتى للمنازعات فإنه (ع) أرجعهم للرواة الذين يعرفون الحكم الشرعي من الاجتهاد في الروايات و لم يرجعهم لمطلق من عرف الأحكام الشرعية و لو عن الفتوى و دعوى أنهما لا يصلحان لتقيد تلك المطلقات لأن كل منهما مثبتين للحكم فاسدة لأن الظاهر منهما انهما في مقام بيان تمام الموضوع للحكم.

و أما ما ذكره بعضهم من أن الروايات المذكورة ليس لها إطلاق بحيث تشمل المعرفة عن تقليد لأنها في مقام بيان

اشتراط الايمان في القاضي في مقابل العامة و انه لا بد و ان يكون من الشيعة، و أما من جهة أنه مطلق من يعرف الحكم أو خصوص المجتهد فليست الروايات في مقام بيانه. فلا يخفى ما فيه فان رواية أبي خديجة الأولى ظاهرة في مقام بيان اعتبار المعرفة كما أنها في مقام بيان أنه من الشيعة لتعقيبه (ع) (يعلم) بقوله (منكم).

(الوجه الثاني) الذي استدل به على جواز قضاء العامي المقلد: أن المنصوبين من قبل الأئمة (ع) في زمن الحضور للقضاء لم يكونوا مجتهدين عندهم ملكة الاستنباط بل أغلبهم سئلوا الأئمة (ع) عن الأحكام الشرعية و عرفوها بطريق الجواب لا بطريق الاجتهاد و أعمال ملكة الاستنباط نظير سؤال العوام للعلماء و معرفتهم الأحكام الشرعية منهم. و الجواب عنه أن المنصوبين منهم للقضاء لا بد و أن يكونوا عندهم ملكة الاجتهاد و الاستنباط للأحكام الشرعية لابتلائهم بمختلف الوقائع و القضايا الموقوفة على اطلاعهم على الأدلة الشرعية و الأخبار الدينية و حمل العام منها على الخاص و المطلق على المقيد و أعمال قواعد المعارضة لا سيما من بعد عن ديارهم (ع) أو شق عليه الوصول إليهم (ع) إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد من إعمالها في معرفة أحكام الوقائع المتوقفة على ملكة الاستنباط و ليس الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 588

إلا ذلك غاية الأمر سهولة الاجتهاد في عصرهم (ع) لسهولة مقدماته في ذلك العصر و صعوبته في عصرنا لصعوبة مقدماته علينا.

(و أما ان حكمه غير نافذ) فلأن الأدلة الدالة على نفوذ حكم القاضي إنما تخص من كان فيه أهلية القضاء فاذا كان لا أهلية له فلا تشمله الأدلة فالأصل عدم نفوذ حكمه.

[حرمة الترافع الى من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما عدم جواز الترافع إلى من ليس بأهل للقضاء) فقد حكي الإجماع عليه و العمدة في المقام هو الاخبار الدالة على عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامة و أهل الجور فإنها و ان اختصت بقضاة العامة إلا ان مقتضى الضابط المذكور فيها أنه حكم كل من ترافع إلى غير من كان داخلا في الضابط المزبور فيها بعد تقيد مطلقها بمقيدها (منها) رواية أبي خديجة المتقدمة حيث فيها إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فان قوله (ع) و لكن انظروا بمنزلة الضابط و لا ريب ان المراد بالرجل هو الجامع لباقي صفات القاضي بواسطة الأدلة الدالة على تقيد القاضي بها فتكون الرواية دالة على حرمة التحاكم و الترافع إلى غيره (و نظيرها) روايته الأخرى قال بعثني أبو عبد اللّه إلى أصحابنا فقال (ع) قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدار في شي ء من الأخذ و العطاء ان تحاكموا إلى احد من هؤلاء الفساق بينكم اجعلوا رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته قاضيا (و نظيرها) مقبولة عمر بن حنظلة قال: سئلت أبا عبد اللّه عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أ يحل ذلك فقال (ع): من تحاكم إليه في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و ان كان حقه ثابتا و في نسخه (حقا ثابتا) لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه تعالى أن يكفر به قلت فكيف يصنعان قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 589

و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فإني قد جعلته حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه. و قد يقرب الاستدلال بهذه المقبولة بوجه آخر بأن من كان ليس بأهل للقضاء و قد تصدى له فقد صار طاغوتا لان الطاغوت هو من طغى و تعدى على حدود اللّه تعالى فيكون الترافع و التحاكم عنده تحاكم عند الطاغوت و هذه الرواية قد دلت على حرمته و قد يستدل على حرمة التحاكم عند من ليس بأهل للقضاء بأنه أعانه على الإثم لأن قضائه حرام و الترافع عنده موجب لصدور قضائه.

[حرمة الشهادة عند من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما عدم جواز الشهادة عند من ليس له أهلية القضاء) فلأن الشهادة عنده سبب لقضائه و من مقدمات قضائه نظير الترافع عنده فتكون محرمة من باب الإعانة على الإثم و لذا المرحوم آقا ضياء العراقي قيد عدم جواز الشهادة بصورة ما إذا قصد التوصل بها إلى فصل الخصومة. أو لأنها تقوية للباطل الذي هو القضاء المحرم لأنه إمضاء له. أو لمقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة حيث دلت على عدم جواز الترافع عند سلاطين أهل الجور و قضاتهم من جهة أنهم من الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به باعتبار ان الكفر بهم يقتضي عدم الشهادة عندهم و عدم متابعتهم و ترتيب الأثر على مناصبهم و بضميمة عدم الفصل بين قضاة العامة و قضاة الشيعة الذين لا أهلية لهم يتم المطلوب

[حرمة التصرف بالمال المأخوذ بحكم من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما المال الذي يؤخذ بحكمه حرام التصرف به كالذي يؤخذ غصبا) فلعدم سببية حكمه للاستحقاق و لا لدفع حق الدعوى بل و ان كان الآخذ محقا و مالكا لما أخذه فإنه حرام تصرفه فيه. و قد يستدل على ذلك (أولا) بأنه صار متعلقا لحق دعوى الغير بعد وقوعه بيده فلا يجوز التصرف فيه قبل ابطال حق دعوى من في يده بعد أن أظهر دعواه و أقدم على المرافعة فلا ينافي ذلك جواز سرقته منه لعدم وجود الدعوى منه و (لا يخفى ما فيه) فإنه مختص بصورة ما إذا كان المال بيد الغير دون ما إذا كان ليس بيده. على انا لا نسلم ان حق الدعوى للغير يمنع من تصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 590

العالم بما يملكه.

(و ثانيا) بمقبولة ابن حنظلة المتقدمة قبل أسطر حيث قال (ع) فيها (و ما

يحكم له فإنما يأخذه سحتا و ان كان حقا ثابتا) و دلالتها على ذلك أما من جهة ما ذكرناه من جعل الضابط فيها للقاضي الذي يصح الترافع عنده و يكون أخذ المال بحكمه ليس من السحت بعد تقيده بما دل على ما يشترط في القاضي فيكون ما عداه من القضاة هو من لا أهلية له و يكون أخذ المال بواسطة حكمه سحت أو من جهة أن الطاغوت فيها هو كل من تجاوز حدود اللّه تعالى و طغى على اللّه و عصاه و ليس مختصا بولاة أهل الجور و السنة فيكون التعليل بقوله (لأنه أخذه بحكم الطاغوت) يشمل كل قاضي و سلطان ليس له أهلية الحكم أو من جهة عدم القول بالفصل بين قضاة أهل الجور و غيرهم من القضاة الذين لا أهلية لهم و قد أورد على الاستدلال بالمقبولة بوجوه (أحدها) ما ذكره استاذنا المرحوم الشيخ كا (ره) بأن العالم بان العين له لا مانع له من التصرف و ليس في إطلاق المقبولة قوة تخصيص لأدلة جواز تصرف المالك في ملكه و ان السلطنة على الأموال عقلي معاضد بالشرع ربما يدعي فيها الإباء عن التخصيص حتى قيل فيما ورد في الموارد من ترخيص المارة بالأكل مما مر عليه أنه يكشف عن ثبوت حق له و إلا فالحكم بجواز التصرف في مال الغير لا يكاد يقع في الشرع إلا بدليل قطعي و في حكمه المنع من تصرف المالك بل هو من أفراده في وجه. و يمكن الجواب عنه انا لا نسلم ذلك كيف و منع الشارع عن التصرف في الملك أكثر من أن يحصى فهو يحرم التصرف فيه بنحو الإسراف أو بنحو الضرر أو في حال

خاص كحال الصوم أو حال الحج و هكذا يمكن أن يكون منها حال حكم القاضي الجائر به له عند التداعي و كيف يمكن إنكار قوة إطلاقها مع تعليل الحكم فيها بالأمر بالكفر بالطاغوت (ثانيها) ما يمكن أن يقال بل لعله قد قيل بأن السؤال فيها عن الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 591

و الميراث و لا ريب في ظهور الدين في الترافع في الكلي لا في العين الخارجية و هكذا ظهور النزاع في الميراث في الشبهة الحكمية كالنزاع في أن الزوجة تستحق في الأرض أم لا و لا إشكال في هذه الصور ان حكم الجائر لا ينفذ أما في الدين فإن أمره بالأخذ من مال الغريم معناه نفوذ حكمه في تعيين الكلي في فرد خارجي و هو حرام و هكذا في الشبهة الحكمية. (و لا يخفى ما فيه) فان النزاع في الدين قد يتصور في العين الخارجية كما لو استدان منه مال و عينه باقية فعلا فطالبه به و هكذا النزاع في الميراث طالما يكون في غير الشبهة الحكمية كما لو ادعى بأن أباه قد ترك هذا المال و أنكره الآخر أو أودع هذا المال و أنكره الآخر أو ورث هذا المقدار من المال و أنكره الورثة أو ادعى أنه ابنه و أنكره الآخرون إلى غير ذلك فمقتضى ترك استفصال الامام (ع) هو شمول الحكم للجميع.

(ثالثها) مورد الرواية المأخوذ بحكم السلطان و قضاة العامة فلا يعم المأخوذ بحكم غيرهم من فاقدي شرائط القضاء. و لا يخفى ما فيه لما عرفت في تقريب الاستدلال بها ص 588 من عدم اختصاصها بهم و عمومها لكل ما يأخذ بحكم من ليس له أهلية الحكم و

القضاء و اختصاص المورد لا يخصص الوارد.

(رابعها) أن المقبولة معارضة بموثقة علي ابن فضال قال: فرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (ع) و قرأته بخطه سأله عن ما في تفسير قوله تعالى وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ فكتب (ع) بخطه الحكام القضاة ثمَّ كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم، و وجه المنافاة ان في الرواية اشترط عدم المعذورية بصورة العلم بأنه ظالم و غير مستحق ما أخذه فيفهم من مفهوم الشرط أنه يكون معذورا لو لم يعلم بأنه ظالم و يجوز له الأخذ. (و دعوى) أن هذا تفسير للاية و ان الأكل بالباطل يكون بهذا النحو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 592

(غير مفيدة) لأن ما ذكر بعد التفسير هو ناظر لبيان الحكم الشرعي للمسألة لا لبيان معنى الباطل و شرحه سلمنا ذلك إلا أنه لو كان ما يأخذه سحتا حتى لو كان محقا كما هو مفاد المقبولة كان من الأكل الباطل فتخصيصه الأكل بالباطل بتلك الصورة ينافي إطلاق المقبولة السحت على الحق المأخوذ بواسطة القضاة ممن ليس له أهلية القضاء (و دعوى) أن مراد الامام (ع) القضاة العدول فإنه لا إشكال في عدم معذورية المدعي لو علم أنه ظالم و معذوريته لو لم يعلم.

(مدفوعة) بأن الآية بقرينة قوله (ع) وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ الظاهر في الرشوة للقاضي ليحكم له بالباطل يوجب انعقاد الظهور لها في قضاة أهل الجور لان قضاة أهل العدل لا يقدمون عليها بخلاف قضاة أهل الجور. مضافا لما

ورد من أن المراد بالحكام في الآية الكريمة هم قضاة الجور كما في رواية أبي بصير في كتاب القضاء من الوسائل. (نعم) يحتمل أن الضمير في قوله (أنه ظالم) عائد للقاضي فيكون معنى الرواية هو أن يعلم الرجل أن القاضي ظالم بجلوسه مجلس القضاء و هو ليس بأهل له أو المراد أنه من الظلمة و أهل الجور و حينئذ فالرواية تكون مؤكدة لمعنى المقبولة و يؤيد إرادة هذا المعنى أن ارادة المعنى الأول واضح بديهي لا يحتاج أن يكتبه الامام (ع) أن قلت كان على الامام (ع) أن يوضح هذا المعني قلنا لما كان الحكم المذكور خلاف التقية أجمله و أبهمه خصوصا في الكتابات فإن التقية فيها أكثر و الزم و يؤيد ذلك أن الكلام في القضاة الظلمة الذين هم الحكام.

(خامسها) أن الرواية لا تشمل التداعي على العين الخارجية لأن السحت هو المال المنتقل اليه من الغير على وجه محرم و أما مال نفسه فلا يكون سحتا و ان حرم التصرف فيه بعنوان ثانوي، و لو سلم إطلاقه على مطلق الحرام كان ذلك فيما خبث ذاتا و أما ما كان غير خبيث في ذاته فليس بسحت و ان حرم بطرو عنوان عرضي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 593

عليه فلا يقال آكل السحت لمن أفطر في نهار رمضان بطعام مملوك له أو قطع صلاته به، و عليه فالعين المتداعي عليها ليست بسحت على مالكها و ان حرم عليه استعمالها فقول الامام (ع) يأخذه سحتا لا يشمل التداعي على العين الخارجية و انما يشمل الدين لأن حكم القاضي بتعيين كلي الدين في مال الغريم غير نافذ فيكون أخذ الدائن له أخذ لغير ماله و

هو سحت. (و لا يخفى ما فيه) فان السحت ظاهر في (الذي يحرم الانتفاع به و يحرم التكسب به و لو كان بعنوان ثانوي) لأنه هو المتبادر من إطلاقه و في الأمثلة المذكورة لم يكن المال يحرم التكسب به حتى يكون سحتا فالعين الخارجية لما كانت يحرم التكسب بها صارت من السحت على أنه بعد فرض دلالة المقبولة على أن ما يؤخذ بحكم القاضي سحتا صارت العين الخارجية المأخوذة بحكم القاضي سحت كسائر الأعيان الخارجية المحكوم بسحتيتها لذاتها أو لطرو عنوان آخر عليها كالغصبية فاذا كان للمقبولة إطلاق و دلالة فلا وجه لتقيد المأخوذ فيها بغير العين الخارجية و بعبارة أخرى أن المقبولة هي التي أثبتت السحتية للمأخوذ كذلك بينما في حد ذاته ليس بسحت فلا وجه لإخراج بعض أفراد المأخوذ لعدم صدق السحت عليه في العرف. (و دعوى) أنه غير قابل لأن يكون سحتا لان السحتية يعتبر فيها الخباثة الذاتية و هو ليس بخبيث ذاتا (فاسدة) فإن السحتية ليست تقتضي ذلك فان المال المغصوب ليس به خبث ذاتا و انما هو بطرو عنوان عليه و هو الغصبية صار فيه خبث و هكذا المال المختلط بالحرام و هكذا ما يعطي لمحاربة الدين و ذلك لان السحتية انما تثبت فيما إذا حرم الانتفاع بالمال مع حرمة التكسب به و لو بواسطة طرو عنوان يقتضي ذلك و لا ريب أن هذا المعني قابل للثبوت في العين الخارجية بالنسبة لمالكها و المقبولة بإطلاقها تقتضيه سلمنا لكن هذا الإطلاق متعارف عند العرب فإنه إذا قيل أن مالي لا يحل لأحد أخذه فإنه دم عبيط أو نار تحرق أو سم ذعاف فهل ترى يخصص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 594

ماله بما يكون دما عبيطا أو بما يكون نارا دون ما عداه ففي ما نحن فيه الامام (ع) في مقام التشديد في الحكم و المبالغة في المنع منه عبر بالسحت عن المأخوذ به كناية عن المبالغة في الحرمة و أنه حكمه حكم السحت و ان لم يكن سحتا نظير قوله تعالى يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً.

(سادسها) هو حمل المقبولة على حرمة الأخذ فقط دون حرمة التصرف بالمال المأخوذ بتقريب منا بأن نقول أن سحتا في الرواية نائب المفعول المطلق لا حالا فيكون المعنى انما يأخذه أخذا سحتا نظير قولهم ضربا مؤلما أي أخذا يكون فيه خبث و حرمة. نظير ما يقال تجارة سحت أي فيها خبث و حرمة و يدل على إرادة هذا المعنى أنه لو كان مقصود الامام (ع) هو كون المأخوذ سحتا لقال (ع) و ما يحكم له به فهو سحت لكان أخصر و أوضح و انما مراد الامام (ع) هو بيان ان الأخذ محرم فقط و أما ان المأخوذ بعد أخذه يكون سحتا فهو مسكوت عنه، و بهذا تتوافق المقبولة و موثقة على بن فضال بناء على احتمال ان الضمير في الموثقة يعود للقاضي و يكون المراد إذا علم الرجل ظلم القاضي في جلوسه بمجلس القضاء كما تقدم ص 590 و يؤيد ذلك ما ذكره صاحب معالم الزلفى في شرح عروة الوثقى من أنه لم يجد من أفتي بكون المأخوذ سحتا صريحا مطلقا حتى فيما لو كان الآخذ محقا إلا الماتن مع أنه في ملحقاته في كتاب القضاء استشكل في ذلك مثل صاحب الكفاية، لكن المحكي عن المستند دعوى الإجماع عن والده على حرمة المأخوذ بحكم الجائر حتى لو كان حقا.

و (أما أنه يجوز الترافع) إلى من ليس له أهلية القضاء و ما يأخذه بحكمه فليس بسحت إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده فقد استدل عليه جماعة بقاعدة نفي الضرر و قاعدة نفي العسر و الحرج لحكومتهما على جميع ما ذكر من الأدلة لحرمة الرجوع إليهم و قد روي عن نسخة من الكافي عن علي بن محمد قال سألته: هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 595

فكتب يجوز ذلك، و حيث أن المعتمد هو قاعدة نفي الضرر فلا بد من الأخذ بها بمقدار ما تقتضيه و عليه فلا بد للمدعي من إحراز كون المال له بالعلم الوجداني أو بالدليل المعتبر عنده و أما مع الجهل بكون المال له فلم يحرز موضوع الضرر بترك الترافع حتى ينفيه بقاعدة نفي الضرر كما أنه مقتضي القاعدة المذكورة هو الرجوع إلى من ليس له أهلية القضاء عند فقد الجامع للشرائط أو تعسر الوصول اليه أو عدم نفوذ قضائه بمعنى عدم استنقاذ الحق بقضائه بل حتى في صورة ما إذا كان بالرجوع للجامع للشرائط لا يظهر حقه بخلاف ما إذا رجع للجائر كما لو كان شهوده على الواقعة فسقة لا يقبلهم القاضي الجامع للشرائط و يقبلهم القاضي الجائر فإنه يجوز له الرجوع أيضا للجائر لقاعدة نفي الضرر و لا ينفع إطلاق مقبولة ابن حنظلة لحكومة قاعدة الضرر عليها، هذا و قد نسب عدم الجواز في المسألة للأكثر و حكي الإجماع عليه عن الروضة و استدل له بإطلاق أدلة المنع و بأنه اعانة على الإثم و بأن الترافع إليه أمر بالمنكر و لكن لا يخفى أن قاعدة نفي الضرر حاكمة على

الجميع و الإجماع موهون بوجود المخالف كما هو المحكي عن الشهيدين في الحواشي و المسالك.

التنبيه الثالث [ترافع غير أهل مذهبه عنده.]

الترافع من غير أهل المذهب (التنبيه الثالث) في الشرائع في كتاب الإيلاء ما حاصله ان الذميان إذا ترافعا عند حاكم شرعنا كان الحاكم بالخيار بين أن يحكم بينهما بمقتضى شرعنا و بين أن يردهما إلى أهل نحلتهما. و التحقيق أن يقال ان على الحاكم أن يحكم بمقتضى اجتهاده في الحكم الشرعي حتى لو ترافعا عنده من المسلمين من هو من غير مذهبه لقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ و لقوله تعالى وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ و لقوله تعالى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* و لان غير مذهبه حتى الكفار مكلف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 596

بالفروع فلا يجوز أن يرده إلى نحلته مع أنه يعتقد بعدم صحتها و أنها خلاف تكليفه المطلوب منه. (ان قلت) ان ذلك هو مقتضى قوله تعالى فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ و ردهما الى نحلتهما من الاعراض عنهم. (قلنا) قد قيل انها منسوخة بقوله تعالى وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ كما عن بعض العامة و لو سلمنا عدم نسخها فالرد إلى أهل نحلتهما لا يصح لأنه ليس باعراض عنهما و انما هو إفتاء منه بالرجوع للباطل و خلاف حكم اللّه تعالى.

نفوذ حكم المجتهد و عدم جواز نقضه
اشارة

(التنبيه الرابع) ان حكم المجتهد نافذ و لا يجوز نقضه سواء كان متجزيا أو مطلقا حتى لمجتهد آخر فيما إذا كان المتنازعان يرجع نزاعهما الى الحكم الشرعي الكلي كثبوت حق الشفعة في أكثر من الشريكين و ثبوت الحبوة لا كبر الأولاد و ثبوت الحصة للزوجة في الأراضي و يدل على ذلك مقبولة عمر بن حنظلة و أما إذا كان المتنازعان يرجع نزاعهما إلى الموضوعات الخارجية كالنزاع

في ملكية شي ء أو دين و نحو ذلك فظاهر المقبولة أيضا لا يجوز نقضه و رده بقرينة صدرها فان صدرها يدل على ان النزاع كان في الموضوع الخارجي و هو الدين و الميراث و لا أقل من ترك استفصال الامام (ع) مع عموم الجواب مع ان الإجماع قائم على ذلك بل الضرورة عليه بل يقتضيه أصل تشريع القضاء. و الحاصل انه لا يجوز نقض حكمه لا من الحاكم نفسه و لا من المترافعين لديه و لا من حاكم آخر و لا من غيرهم لوجوه.

(الأول) ان الحكم هو الإلزام بإجراء تنفيذ القانون الشرعي في الواقعة كما تقدم في مبحث الفرق بين الفتوى و الحكم و الشارع قد فصل به الأمور و أنفذه و قرره، و نقضه يقتضي عدم ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 597

(الثاني) الإجماع بل الضرورة التي قامت على ذلك.

(الثالث) قوله (ع) فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فبحكم اللّه استخف و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه تعالى و هو على حد الشرك باللّٰه تعالى (ان قلت) ان الظاهر من قوله (ع) فاذا حكم بحكمنا هو إحراز كون الحكم مطابقا للواقع و ألا لم يحرز أنه حكمهم (ع) فمقتضى الرواية عدم وجوب تنفيذ الحكم مع الشك في كون حكمهم (ع) لأن الموضوع لوجوب التنفيذ هو كون الحكم حكمهم (ع) فاذا لم يحرز مطابقته للواقع لم يحرز موضوع وجوب التنفيذ و لا يخفى أنه مع العلم بالمطابقة للواقع لا حاجة لجعل وجوب التنفيذ لحكم العقل بذلك فاذن الرواية ليست بدالة على وجوب إمضاء كل حكم و ليست أيضا بصدد ذلك و لذا جملة من العلماء لم يستدلوا بها. (قلنا) هذه

الرواية بقرينة صدرها و انها لبيان وظيفة المتنازعين فلا يعقل أن يجعل حل خصومتهما منوطة بالعلم بالواقع الذي طالما خفي على ذوي الابصار فلا بدان يكون المراد بقوله (حكم بحكمنا) أى حكم بحكم بعنوان أنه حكم المعصومين لا حكم المخالفين أو أهل العرف أو النصارى أو حكم العقل و لذا كان الحكم فيه نوع كاشفية عن حكمهم (ع).

(الرابع) لزوم الهرج و المرج إذ كل ينقض حكم الآخر فلا ترتفع الخصومة فليتسلسل.

[المراد] بنقض الحكم
اشارة

أعلم ان الحكم قد ينقض بأن ينشأ إبطاله فقط و قد ينقض بأن ينشأ حكم بخلافه فمثلا إذا حكم الحاكم بحرية العبد فتارة ينشأ نقضه بأن يقول هو أو حاكم غيره أبطلت الحكم و نقضته و تارة ينشأ حكم بخلافه كأن يحكم بعبودية العبد

[موارد جواز نقض الحكم]
اشارة

و كيف كان فقد ذكروا لجواز نقض الحكم و إزالته بإزالة آثاره موارد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 598

(المورد الأول) ما إذا تراضي الخصمان على تجديد الدعوى

و قبول حكم الحاكم الثاني. (ورد عليه) بأن الحكم عبارة عن فصل الخصومة بإلزام أحد المتخاصمين و من الواضح أن النزاع يستحيل أن يطرء عليه فصلان لخصومته إذ بعد فصل الخصومة لا تبقى خصومة حتى تفصل مرة ثانية سواء رضي المتخاصمان بتجديد المرافعة أم لا لأن رضاءهما يكون لاغيا بعد فرض عدم الخصومة بينهما شرعا فلا يبقى محل قابل للفصل بعد الحكم الأول و بهذا استدل الاشتياني (ره) و مرزا حبيب اللّه في تقريراته المنسوبة اليه. (و لا يخفى ما فيه) فان الكلام في النقض لا في الحكم مرة ثانية فان الحكم مرة ثانية يكون بعد تحقق النقض فاذا تحقق النقض برضاء المتخاصمين عاد النزاع و صار المحل محلا لفصل الخصومة و بعبارة أخرى أن الخصم يدعي أن النقض في هذا المورد صحيح فاذا صح النقض تجددت الخصومة نظير ما إذا ظهر فسق الشهود فإنه ينقض الحكم و تتجدد الخصومة فكان على القوم أن يبينون عدم صحة النقض لا عدم النزاع و الخصومة فالأولى في الجواب عنه أن يقال أن ما تقدم من الدليل الأول و الثالث يقتضيان عدم صحة النقض لا بالتراضي و لا بغيره.

(المورد الثاني) ما لو علم بمخالفة حكمه للواقع النفس الأمري

فإنه يجب على العالم نقضه سواء كان المترافعين أو الحاكم بل كل من علم ذلك و كان محل ابتلائه فإنه لا يجوز له العمل به لقطعه بالمخالفة للحكم الشرعي الإلهي فإن حكم الحاكم إنما أمرنا الشارع بالأخذ به باعتبار كشفه عن حكم اللّه تعالى في الواقعة الخاصة فإذا علمنا بأنه غير حكم اللّه تعالى فلم يكن له كاشفية عنه هذا مع أن ما دل على ان الخبر المخالف للكتاب يطرح يدل بمفهوم الأولوية على ان الحكم المخالف للواقع يطرح

لان الخبر يحتمل مطابقته للواقع و مع هذا يطرح فكيف بالحكم الذي لم يحتمل مطابقته للواقع على أن الآيات الثلاثة المصدرة بقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ)* تدل على طرحه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 599

و ان كانت ظاهرة في صورة العمد إلا أنه يستفاد منها طرح مثل هذا الحكم و ان صدر عن غير عمد مع ان إمضاء مثل هذا الحكم إدخال ما ليس من الدين في الدين (و بعبارة أخرى) أن الحكم انما يكون حجة مع الجهل بالواقع و أما مع معرفة الواقع فلا حجية له و لا لغيره من الامارات بل لا يعقل ذلك إلا على التصويب و أما لو علم بمخالفته للحكم الظاهري فلا يجوز نقضه لأن الأحكام الظاهرية متعددة حسب تعدد الآراء فليس لمجتهد نقض ما حكم به المجتهد الآخر لمخالفته لحكمه الظاهري و إلا لم يبق للحكم مورد لا ينقض فيه إلا نادرا و أدلة حرمة الرد و النقض تشمل صور المسائل الخلافية التي يكون لكل مجتهد حكم ظاهري فيها بل مورد مقبولة عمر بن حنظلة التي هي من أمتن الأدلة على حرمة النقض هي صورة الاختلاف في الحكم، و أورد على ذلك (أولا) أنه بحكم الحاكم قد فصلت الخصومة و تقرر الحال فأي دليل على ان العلم بالخلاف سبب موجب لرفع ذلك. (و جوابه) بأنه مع العلم بالخلاف ينكشف بأن الخصومة لم تفصل بحكم الشرع فهي باقية و لا الحال قد قرر بحكم الشرع فهو باقي على وضعه فليس العلم سببا و انما انكشف ان الوضع باقي على حاله و ان الحكم ملغي عن أصله غير مؤثر في مورده فليس في الحقيقة

نقض للحكم في هذا المورد. (و أورد ثانيا) ان الروايات دلت بإطلاقها على أن مجرد الحكم مانع من الرد و النقض سواء علم بالخلاف أم لا فأي وجه لتقيد الروايات بصورة عدم العلم بالخلاف مع عدم وجود أي أثر له في الروايات (و جوابه) أن الروايات تدل على ان اعتبار الشارع لحكم الحاكم باعتبار كشفه عن حكم الشارع في الواقعة فإن قوله (ع) فاذا (حكم بحكمنا إلخ.) ظاهر في كون حكمه كاشف عن حكمهم (ع) و هكذا قوله (ع) في رواية أبي خديجة (انظروا إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا) فإنه ظاهر في كون اعتبار قضائه باعتبار كاشفيته عن حكمهم (ع). و لا ريب أنه مع العلم بالخلاف لا كاشفية لحكمه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 600

(و أورد ثالثا) أنه قد تقرر في كتاب القضاء أن الميزان في اعتبار حكم الحاكم هو كونه حكما للّٰه تعالى في نظر الحاكم لا في نظر غيره و لذا لو كان أحد المترافعين يفتي بخلاف ذلك لا يجوز له النقض للحكم. (و جوابه) ان المراد أنه لا يشترط في حكم الحاكم أن يعلم و يقطع بأن حكمه مطابق للواقع بل مجرد وجود الموازين الشرعية كافي في حكمه لا أنه لا يجوز نقضه لمن يقطع بأنه مخالف للواقع (و أورد رابعا) أن اعتبار الحكم ان كان من باب الطريقية فالحق كما ذكرتم ألا أنه ينافي ذلك ذهاب المشهور إلى أنه إذا علم فساد مدرك الحكم و مبناه لا يجوز نقضه كما سيجي ء إنشاء اللّٰه و ان كان من باب الموضوعية و السببية فحينئذ يكون معتبرا حتى مع العلم بمخالفة الواقع. (و جوابه) أن الطريقية و

السببية أنما يجعلان للأمارات في ظرف الجهل بالواقع لا عند انكشاف الواقع فان الجعل حينئذ يلزم منه التصويب أو اجتماع المتنافيين. و قد يستدل بالإجماع على جواز النقض في هذه الصورة و لا يخفى ما فيه فإنه يمكن أن يناقش في الإجماع بعدم كشفه عن رأي الامام في المقام لاحتمال استناد المجمعين إلى تلك الإيرادات.

(المورد الثالث) [عدم أهلية الحاكم للحكم]

الذي ذكره القوم لجواز النقض هو صورة القطع بعدم أهليته للحكم بأن كان عاميا أو قطع بخطإ الحاكم في اجتهاده قصورا أو تقصيرا مثل الاستناد في الحكم إلى كتاب فيه غلط أو خبر له معارض أقوى مع تركه للفحص أو إلى بعض كتب الاخبار من غير المراجعة إلى غيره أو غير ذلك مما ينافي الاجتهاد الصحيح فإنه يجوز النقض بل يجب على المترافعين و الحاكم و غيرهما ممن هو محل ابتلائه لأن الحكم الذي أمضاه الشارع هو الحكم الصادر عن اجتهاد صحيح لا مطلق الحكم كما هو ظاهر المقبولة بقرينة صدرها و هو قوله (ع) و عرف أحكامنا. كيف و الحكم الذي يصح ان ينسب إليهم (ع) فيقال قد حكم بحكمهم (ع) الحكم المستند إلى اجتهاد صحيح فالاجتهاد الصحيح مأخوذ في موضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 601

الحكم و في الحقيقة ان هذا ليس بنقض للحكم بعد فرض عدم صحته و إنما يكون في هذه الصورة الحكم لاغيا من أصله. و قد استشكل بعضهم في جواز النقض عند العلم بكون الحكم موافقا للواقع من جهة أن الغرض من الحكم هو وصول الحق إلى مستحقه و قد وصل فيحرم النقض لأن الحكم طريق للوصول إلى الحق فمتى حصل الوصول للحق كان حراما إبطاله. و جوابه ان الحرام هو

أخذ المال من مستحقه و ليس يلازم النقض استرجاع المال إذا علم الحاكم بواقع الحال بل يبقى الحق عند مستحقه و ينقض الحكم لما عرفت من ان الاجتهاد الصحيح له موضوعية للحكم لا أنه طريق للواقع فلا يصح الحكم بدونه و من هنا يعلم الفرق بين هذا المورد و المورد الثاني لأن سبب النقض في الثاني هو القطع بالمخالفة للواقع و سبب النقض في هذا المورد القطع بفساد الاجتهاد سواء صادف الواقع أم لا، و يلحق بهذا المورد صورة ما إذا علم الحاكم بنفسه فساد اجتهاده فإنه لو اطلع الحاكم الآخر على ذلك كان على الحاكم الآخر نقضه كما على الحاكم الأول نقضه.

(المورد الرابع) الذي ذكره القوم لجواز النقض هو صورة ما لو قطع بمخالفة حكم الحاكم للدليل المعتبر عند الكل

أو المعظم كالخبر الصحيح المعمول به الموجود في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض أو إجماع كاشف عن دليل معتبر عند الكل أو ظاهر كتاب أو سنة متواترة مع عدم المعارض فان نقض الحكم أيضا جائز في هذه الصورة كما يحكي عن الشهيد (ره) في الدروس لأن القطع بالواقع أو القطع بالدليل المذكور سيان في عدم جواز المخالفة و لذا جعلوا الإجماع من الأدلة القطعية التي لا يجوز مخالفتها مع ان الإجماع قد لا يكشف عن الواقع و إنما يكشف عن دليل معتبر عند الكل بحيث لو فرض مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لأفتى بمضمونه (و لكن الحق ان يقال) ان ذلك ان أوجب القطع بعدم مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد بمعنى اكتشفنا من ذلك فساد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 602

اجتهاده جاز النقض و رجع إلى المورد الثالث و حكمه حكمه و إلا فيحرم النقض لشمول أدلة حرمة النقض و الرد لهذه الصورة. (و دعوى) ان هذا يرجع الى العلم و

القطع بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري الفعلي الثابت عند الكل لثبوت الدليل على خلاف الحكم، فيكون من قبيل المورد الثاني و هو العلم بمخالفة الحكم للتكليف الثابت (مدفوعة) بأنه ليس الأمر كذلك فإنه المورد الثاني هو العلم بمخالفة الحكم للتكليف الواقعي و هنا يكون العلم بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري و قد عرفت في المورد الثاني انه لا يجوز النقض بالعلم بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري

(المورد الخامس) الذي ذكروه القوم لجواز النقض هو انكشاف بطلان دليل الحكم

و مستنده و إن كان الحاكم أهلا للحكومة واجدا لشرائط نفوذ الحكم فاذا ظهر عند المجتهد الآخر فساد مبني الحكم بأن كان مخالفا له في المبني كأن لا يقول بحجية خبر الواحد و الحاكم اعتمد على خبر الواحد أو بالعكس جاز له نقضه و عدم ترتيب الآثار عليه في حق نفسه و ان لم يجز معارضة الحاكم في ذلك فيجوز نقض حكم من كان مستنده الشهرة أو الأولوية الظنية أو الخبر الضعيف أو غير ذلك عند من لا يعمل بها. غاية الأمر نفوذه في حق الحاكم و متابعيه ممن يقلدوه أو من لم ينكشف عنده فساد المدرك و قد نسب هذا إلى الدروس و القواعد و اما قوله (ص): «فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف- الخبر» إنما يدل على خصوص حكم الحاكم الصحيح كما هو ظاهر الإضافة فمقتضاه وجوب إحراز الصحة في قبول حكم الحاكم اما بالوجدان أو الدليل أو الأصل أو أصالة الصحة و أين أحدها بعد انكشاف فساد المبني.

و لكن لا يخفى ان الظاهر من الرواية هو الحكم بحسب الموازين و ان كان المستند غير صحيح و لذا ينفذ الحكم في المتنازعين و ان كان أحدهما مجتهدا مخالفا للحاكم في فتواه و مستند حكمه،

إلا اللهم أن يقال انا نلتزم بأنه ينفذه بحسب الظاهر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 603

دون الواقع نظير المحكوم عليه الذي يعلم بفساد الحكم، فالعمدة في المقام ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة، و قد عرفت غير مرة ان المراد بها هو ما حكم به الحاكم بعنوان انه حكمهم (ع) و عليه حتى لو ظهر فساد المبنى فالمقبولة تدل على نفوذ الحكم و قد يورد على ذلك بأن عموم المقبولة أو إطلاقها معارض بالأدلة التي قامت على خلاف حكم الحاكم فلا وجه لترجيحه عليها. (و جوابه) ان لسان المقبولة لسان حكومة عليها مضافا الى أن مورد المقبولة هو صورة الاختلاف في الدين و الميراث أعم من الشبهة الحكمية أو الموضوعية لترك الامام (ع) الاستفصال و لازم ذلك أن يكون الحكم مقدما على الدليل المخالف له الموجود عند أحد المتنازعين.

(المورد السادس) [عدول الحاكم إلى فتوى تخالف حكمه]

لنقض حكم الحاكم هو ما إذا عدل الحاكم الى فتوى تخالف الحكم الصادر منه كما سيجي ء إن شاء اللّه في مبحث نقض الحكم بالفتوى.

هذا كله في الحكم في التكاليف الشرعية. (و اما الموضوعات) كالهلال و الملكية فالحق انه لا يجوز أيضا نقض حكم الحاكم فيها إلا إذا علم بمخالفة حكمه للواقع أو علم بعدم أهليته للحكم أو علم بتقصيره أو قصوره في موازين الحكم فإنه ينقض حكمه لعدم حكمه بحكمهم (ع) و مع عدم أهليته للحكم لم يكن منصوبا عنهم (ع) (نعم) المحكوم عليه علمه بذلك لا يجوّز له النقض جهارا و لا تجديد المرافعة بل يجب عليه الالتزام ظاهرا بالحكم و إلا لزم نقض أغلب الاحكام في الموضوعات من حيث ادعاء المحكوم عليه كذب الشهود أو كذب المدعي أو عدم أهلية الحاكم

أو قصوره في الموازين أو تقصيره. نعم يجوز له نقضه سرا بمعنى عدم الالتزام بآثار الحكم في الواقع فيجوز له إنقاذ ماله من المحكوم له بينه و بين اللّه تعالى و لو بالسرقة إلا في صورة اليمين فإنه لا يجوز للمحكوم عليه نقض الحكم لا جهرا و لا سرا بناء على ان اليمين موجبة لذهاب حقه و حرمة التقاص منه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 604

و تحقيق ذلك يطلب من كتاب القضاء. ثمَّ انه قد يتوهم الإشكال في النقض في صورة ما إذا علم بمخالفة الموضوعات لواقعها الواقعة في طريق الحكم كما إذا علم الحاكم الثاني فسق الشهود واقعا و لكن التحقيق انه لا يصح النقض في هذه الصورة لأن ذلك قد يؤدي الى تنازع الحكام و عدم النظام للأنام بنقض كل منهم للآخر بمقتضى علمه في طريق الحكم و لعدم علم الحاكم بمخالفة الحكم للواقع و عدم علمه بفساد حكمه لأن الفرض ان الحاكم الأول يعلم بعدالة الشهود فلا فساد في حكمه بعد اندراج حكمه في عموم الأدلة الدالة على عدم النقض فيكون نظير من استند في حكمه الى رواية ليست بحجة في نظر الحاكم الآخر فإنه لا يجوز نقضه مع كونه لم يقصر في الاجتهاد و لم يقطع الحاكم الآخر بمخالفته للواقع، نعم لو ادعى المدعي ذلك أعني فسق الشهود أو عدم أهلية الحاكم أو جوهر مع البينة سمعت دعواه و صح الحكم على طبقها لو تمت البينة لمطالبة ذي الحق بحقه مع إقامة الحجة عليه.

و يلحق بالمقام أمور ينبغي التنبيه عليها
(أحدها) الفحص عن حكم الغير ليعلم ما يوجب نقضه
اشارة

انه قد عرفت ان الحكم ينقضي في الموارد المتقدمة فهل يجب على نفس الحاكم أو على الحاكم الآخر أو المقلدين أن يفحصوا عن الحكم

إذا احتملوا وجود ما يوجب نقضه فيفحصوا حتى ينقضوه إذا وجدوا ذلك و لا ينقضوه إذا لم يجدوا ذلك أو يجوز لهم الفحص أو يحرم عليهم الفحص المشهور بل الظاهر عدم وجود الخلاف في جواز الفحص و عدم وجوبه و عدم حرمته لأصالة البراءة من الوجوب و الحرمة و أصالة الصحة في الحكم و السيرة على عدم الفحص فلا يجب الملاحظة و النظر في أحكام الغير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 605

و انها صدرت عن اجتهاد أولا أو عن الطرق المعتبرة في القضاء أولا أو عمن له الأهلية أولا أو على وجه الصواب أولا.

و قد يقال بحرمة الفحص عن ما يوجب النقض للحكم لوجهين:

(أحدهما) ان الظاهر من الروايات و الإجماعات هو وجوب قبول حكم الحاكم و ترتيب آثار الحكم الصحيح عليه و إن احتمل عدم صحته و لا ريب ان الفحص عن الحكم و النظر في صحته و فساده ينافي قبوله و ترتيب آثار الصحة عليه، و لا يخفي ما فيه، فان الفحص و النظر في الحكم ليس برد للحكم مع البناء على الالتزام به ما لم يظهر فساده كما ان قبول قول العادل و حرمة رده و قبول قول المرأة على ما في رحمها لا ينافي الفحص عن صحته احتياطا و لا يقال إنه رد له إذا كان البناء على الالتزام به ما لم يظهر فساده. (نعم) إذا كان الفحص و النظر في الحكم بنحو يوجب صدق عنوان الرد على الحكم كان حراما كما لو فحص عن الحكم بأن سمع الدعوى ثانيا و طلب من المدعي البينة و من المنكر اليمين و نحو ذلك فهو حرام لأنه يصدق عليه بأنه رد

لحكم الحاكم.

(و ثانيهما) ان الفحص يستلزم التفتيش عن عيوب الناس من فسق الحاكم أو كذب الشهود و هو محرم لقوله تعالى وَ لٰا تَجَسَّسُوا. و لا يخفى ما فيه فان التفتيش عن الواقع لمعرفة الوظيفة الشرعية و إن كان فحصا عن العيب إلا انه ليس بحرام كما في الفحص عن أحوال الشهود و رجال الحديث و نصح المستشير، نعم يحرم إذا كان غرضه الاطلاع على عيوب الحاكم أو الشهود فظهر انه يجوز الفحص بنحو لا يوجب صدق عنوان الرد عليه

[الصور التي يجب الفحص فيها عن حكم الحاكم.]
اشارة

و قد أستثني صورا يجب فيها الفحص

(الاولى) ما لو علم إجمالا بوجود ما ينقض أحد أحكام هذا الحاكم المحصورة

كأن صدرت منه خمسة أحكام نعلم بنحو الإجمال أن واحدا منها فيه ما يوجب نقضه و لكن لا نشخصه بعينه فإنه في هذه الصورة يجب الفحص من باب المقدمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 606

العلمية لتمييز ما يجب قبوله من هذه الأحكام عما يجب نقضه إذ لو بادر الى النقض قبل الفحص لم يحصل له العلم بالخروج عن عهدة التكليف بقبول الحكم الصحيح ورد الفاسد. قيل يمكن تمييز ما يجب قبوله من الأحكام عن غيره بغير الفحص كشهادة البينة أو الحاكم يعين ذلك و عليه فلا يتوقف التمييز على الفحص حتى يكون واجبا من باب المقدمة قلنا لو أمكن ذلك كان الفحص أحد أفراد المقدمة فيكون واجبا على سبيل التخيير:

[الصورة الثانية ادعاء المحكوم عند الحاكم فساد الحكم]

ثاني الصور التي قيل يجب الفحص عن الحكم فيها ما إذا ادعى المحكوم عند الحاكم فساد حكم الحاكم و بطلانه أو ما يوجب فساده مثل كون الشهادة كانت من الفساق أو اشتباه الحاكم أو نسيانه أو قلة فحصه أو عدم أهليته و نحو ذلك مما يوجب فساد حكمه فإنه قد حكي الإجماع على وجوب فحص الحاكم الثاني عن حكم الحاكم الأول. و استدل على ذلك بدليلين:

(أحدهما) دعوى الإجماع عليه و في الجواهر نفى وجدان الخلاف فيه و لكن يمكن ان يقال ان مصدر الإجماع هو إطلاقات سماع دعوى كل مدعي فلا يكشف الإجماع عن رأي المعصوم.

(ثانيهما) إنها دعوى كسائر الدعاوي يلزم على الحاكم سماعها لإطلاق ما دل على سماع كل دعوى و حيث لا يمكن فصل هذه الدعوى و حلها إلا بالفحص عن حكم الحاكم الأول فيجب على الحاكم الآخر ان يفحص عن الحكم لوجوب حل الخصومة عليه و فصلها فهو يجب

من باب المقدمة. و قد أورد على هذا الاستدلال بايرادات ثلاثة:

(أحدها) أنه لا وجه لدعوى توقف حل الخصومة على فحص الحاكم عن الحكم بل يمكن حلها بالبينة بأن يقيم المدعي الشهود على عدم أهلية الحاكم أو فسق الشهود و إذا لم يتوقف حل الخصومة على الفحص فهو ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 607

بواجب. و الجواب عنه مضافا الى أن الحل بالبينة من النظر في الحكم و الفحص عنه فان النظر في الحكم قد يكون بالتتبع في كيفية حكمه و قد يكون بالاستماع للبينة فهذا الفرض لا يوجب خروج الصورة المذكورة عن وجوب النظر و الفحص فيها و إنما يكون الواجب من باب المقدمة هو القدر الجامع و كل من التتبع و اقامة البينة فرد منه واجب على سبيل التخيير على ان الدعوى إذا كانت على عدم مطابقة حكمه للواقع فلا تصح البينة لأن البينة إنما تقبل في الموضوعات لا الاحكام فلا تقبل في كون هذا حكم اللّه أو مخالف له و حينئذ فينحصر حل الدعوى بفحص الحاكم الثاني عن الحكم فان قطع بمخالفته رده و إلا فلا، نعم لو كانت الدعوى على عدم أهلية المجتهد أو فسق شهوده أو عدم فحصه أو غير ذلك من الموضوعات الخارجية قبلت البينة.

(ثانيها) ان ظاهر أدلة القضاء انه ليس للمحكوم عليه الاعتراض على حكم الحاكم لأنه يكون ردا عليه فلا تسمع دعواه على حكم الحاكم فيكون ظاهر هذه الأدلة مقيدا للإطلاقات الدالة على سماع كل دعوى من مدعي مضافا الى لزوم الهرج و المرج و فتح باب الفساد لان لكل محكوم عليه أن يدعي ذلك بعد كل حكم حكم به عليه حتى حكم الحاكم الثاني.

و أجيب بأن الظاهر من أدلة القضاء هو الرد على ما كان من حكمهم (ع) لقوله (ع): فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، و المحكوم عليه إنما يدعي ان هذا الحكم ليس بحكمهم (ع) أو ليس منصوبا للقضاء فليست الأدلة مقيدة لإطلاقات أدلة سماع دعوى كل مدعي و أما الهرج و المرج فهو ليس بلازم لانقطاع الخصومة بالرجوع الى جميع الحكام الموجودين في وقته. و لا يخفى ما فيه فان أدلة القضاء ظاهرة في ان الحاكم الذي تراضي عليه المتخاصمان و كان مجلسه للقضاء مبنيا على أن يحكم بحكمهم (ع) لا بحكم العرف و لا بقانون الروم. حكمه لا يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 608

الرد عليه و الاعتراض عليه و المراد من قوله (ع): فاذا حكم بحكمنا هو كونه بانيا على ذلك و إلا فمن أين يستطيع المتخاصمان أن يعرفا ان هذا هو حكمهم (ع) و الحاصل ان الظاهر من أدلة القضاء ان الرجل إذا كان من الشيعة و نظر في حلالهم (ع) و حرامهم (ع) و قد تراضي عليه الخصمان في أن يحكم بحكم المعصومين الأطهار و صدر منه حكم بعنوان انه حكمهم (ع) لا يجوز لهم الرد عليه و الاعتراض عليه فلا تسمع الدعوى عليه لأنها نوع من الاعتراض إن لم تكن أجلى أفراده و بعبارة أخرى إن كان المبيح للرد هو الشك في اجتهاد الحاكم و كونه ناظرا في حلالهم و حرامهم فأصالة الصحة تنفي هذا الشك و ان كان الشك في مطابقة حكمه للواقع فهو غير معتبر إحرازها و إنما المعتبر اجتهاده و عدالته و كونه يحكم بعنوان انه حكمهم (ع) من دون اعتبار إحراز المطابقة.

(ثالثها) دعوى

الإجماع على عدم سماع الدعوى بالبطلان بعد حكم الحاكم كما ذكروه في مبحث الدعوى المسموعة في كتاب القضاء. و جوابه ان الذي ذكروه هناك هو عدم سماعها مرة ثانية بعد حكم الحاكم الأول و عدم سماع الدعوى بعدم أهليته أو بجوره في حكمه بدون البينة بمعنى عدم إحضار الحاكم مجلس القضاء و تحليفه مع عدم البينة من المدعي على الحاكم و هذا لا ينافي التتبع في حكمه و النظر فيه و في البينة التي استند إليها من دون إحضاره مجلس القضاء و بعبارة اخرى ان المذكور هنا هو النظر في حكمه و المذكور هناك إحضاره في مجلس القضاء، و أما لزوم الهرج فهو أوضح من أن يبين.

[الصورة الثالثة عدم وصول الحق للمحكوم له]

ثالث الصور التي قيل يجب الفحص عن الحكم فيها صورة ما إذا لم يصل الحق للمحكوم له كما لو حكم عليه بالمال و حبسه لاستيفاء المال منه فإنه عند مجي ء الحاكم الثاني مكان الحاكم الأول يجب عليه أن يتفحص في الحكم الأول فإن كان الحكم الأول مخالفا للحق أبطله و إلا ألزم به. و الحاصل ان الحكم في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 609

صورة انقطاع الفصل بين المتخاصمين بحيث يكون المحكوم له قد استوفي جميع حقه لم يجب الفحص على الحاكم الثاني الذي يجي ء مكان الحاكم الأول و أما في صورة عدم تمام الفصل بين المتخاصمين و عدم استيفاء الحق للمحكوم له كأن حبس الغريم أو حجر على ماله لاستيفاء حق المحكوم له أو حكم و لم يستوف أصلا وجب على الحاكم الثاني الحال محل الأول الحاكم بذلك الحكم أن يفحص عن الحكم. و بعبارة أخرى ان الحاكم الأول إذا لم ينفذ حكمه بإجراء آثاره

عليه بأن يأمر من عليه الحق بالخروج عنه و يحكم عليه بوجوب أداء الحق فإنه يجب على الحاكم الثاني الفحص عن الحكم الأول فإن علم مخالفته للواقع أبطله و إلا أمضاه. و حكي القول بذلك عن الأكثر كما حكي القول به عن المسالك و المجمع و ظاهر الإرشاد و و الحق عدم الوجوب وفاقا للمحكي عن القواعد و الإرشاد لأصالة صحة الحكم و لأصل البراءة و استدلوا على وجوب الفحص في هذه الصورة ان أصالة الصحة غير جارية في الحكم الأول لأنه لم يتم الفصل به حتى تجري أصالة الصحة بعد الفراغ منه فإن أصالة الصحة في فعل الغير انما تكون بعد الفراغ منه فاذا لم تجري أصالة الصحة فلم يعلم صحة الحكم فيحتاج تنفيذ الحكم إلى مسوغ فلا بد من الفحص ليعلم صحته من فساده (و لا يخفى ما فيه) فأن الحكم قد تمَّ الفصل به و ليس الاستيفاء و الاستنقاذ من مراتب الفصل بالحكم فإنه بإنشاء الحكم تحقق الفصل، و الاستيفاء من آثاره لا من مراتبه سلمنا انه من مراتبه إلا انه يكفي لجريان أصالة الصحة مضي مقدار من العمل الذي تكون صحته موضوعا لترتيب سائر المراتب عليه و بعبارة أخرى أنه لا وجه لتخصيص أصالة الصحة في فعل الغير بحالة الفراغ منه و مضيه و انما المختصة بالفراغ هي قاعدة الفراغ الجارية في حق الإنسان نفسه و هي غير أصالة الصحة في فعل الغير.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 610

هل يعتبر في النقض مطالبة صاحب الحق

(التنبيه الثاني في المقام) أنه قد عرفت موارد النقض و هي ثابتة للحكم الباطل بأقسامه سواء كان واقعا في حقوق اللّه أو في حقوق الناس و لا يشترط في نقض

الحاكم للحكم المطالبة للحاكم من المحكوم عليه أو من غيره بنقض الحكم أما من في حقوق اللّه فواضح إذ لا مطالب لها سوى اللّه تعالى و لا يتصور مطالبة اللّه عن نفسه و لذا قام الإجماع على عدم اشتراط المطالبة. و أما في حقوق الناس فالمحكي عن القواعد و المبسوط و بعض العامة اشتراط المطالبة و ظاهر غيرهم عدم اشتراطها حيث أطلقوا النقض (و الحق) عدم الاشتراط المطالبة لأن ما تقدم من الأدلة على النقض تشمل صورة المطالبة و عدم المطالبة بل تدل على النقض حتى لو طالب المحكوم عليه بعدم النقض فراجعها. (ان قلت) ان المحكوم عليه إذا لم يطالب بالنقض فربما كان قد أسقط حقه فلا وجه للنقض و اعادة الخصومة و اما إذا طالب بعدم النقض فقد أسقط حقه قطعا فلا معنى للنقض و إعادة الخصومة.

(قيل في جوابه) أنه ان أريد بالحق هو نفس النقض فمعلوم ان النقض حق الهي مفروض على الحاكم الآخر و ليس بيد المحكوم عليه و لا بيد غيره فإنه إن تمت موازين النقض صح صدوره و إلا فلا. و ان أريد به متعلق الحكم فإن إسقاطه و ان كان بيد المحكوم عليه بإبراء أو هبة و نحوهما إلا ان ذلك لا ينافي نقض الحكم و بيان فساده بإنشاء النقض الذي يسقط الاستحقاق بسبب الحكم المنقوض لا بغيره من الأسباب.

المراد بالجواز في قولهم جواز النقض

(التنبيه الثالث) ان الظاهر ان المراد بجواز النقض لمن تحقق عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 611

موجبات النقض هو الجواز بالمعنى الأعم فمن كان الحكم محل ابتلائه بمعنى ان آثاره تترتب عليه وجب عليه نقضه لبطلان الحكم عنده فلا يجوز له ان يرتب عليه الآثار

بما هو حكم و أما من لم يرتبط به ذلك و لم يترافع عنده الخصمان فيجوز له النقض.

المراد بالنقض

(التنبيه الرابع) ان المراد بالنقض من الحاكم هو إنشاء بطلان الحكم و فساده أو إنشاء حكم بخلافه، و النقض من غير الحاكم هو عدم ترتيب الأثر عليه و عدم العمل بموجبة.

ابتداء النقض من حينه أو من حين صدور الحكم

(التنبيه الخامس) ان نقض الحكم هل يقتضي عدم تأثيره من أول الأمر بأن يكون وجوده كعدمه فيكون نظير فسخ المعاملة من حينها أو يقتضي رفع اليد عن استمراره مع تأثيره قبل زمن النقض نظير النسخ. الحق هو الأول لما عرفت في موارد نقض الحكم من أنها يكون الحكم فيها لاغيا من أول الأمر لا من حين النقض.

الشك في جواز النقض

(التنبيه السادس) في مورد الشك في جواز النقض كما لو صدر حكمان من مجتهدين و لم نعلم بأن الثاني جامع لشرائط جواز النقض أم لا فلا وجه لإجراء أصالة الصحة لتعارض الأصلين في الحكم الأول و الثاني و حرمة الرد في كليهما و لا وجه لاستصحاب تأثير الحكم الأول لعدم اليقين السابق بتأثيره نعم يصح استصحاب عدم تأثير الحكم الثاني و عدم نفوذه بعد الحكم الأول بناء على صحة استصحاب العدم الأزلي و لكن هذا لا يثبت تأثير الحكم الأول حتى على القول بالأصل المثبت إذ لا ملازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 612

بينهما (لا يقال) ان هذا العدم لم يحرز لاحتمال أنه في الواقع يكون الحكم الثاني مؤثرا لكونه هو المطابق للواقع (لأنا نقول) ان عدم التأثير يكون هو الثابت لانتفاء الموضوع و هو الحكم في السابق فإن السالبة بانتفاء الموضوع تصدق لا محالة بخلاف الموجبة فإنها تكذب عند انتفاء الموضوع (و التحقيق أن يقال) أن الحكم الثاني حاكم على الأول لأنه يشتمل على نقض الأول بخلاف الأول فإنه لم يكن ناظرا للحكم الثاني و بعبارة أخرى أن الحكم الثاني لا يكون إلا بعد فساد الأول فهو كاشف عن فساد الأول نظير اليد الثانية الكاشفة عن زوال حكم اليد الاولى. (و ان شئت قلت)

أن الحكم الثاني يشتمل على حكمين أحدهما الحكم بنقض الحكم الأول و ثانيهما الحكم بالوظيفة نعم لو كان الحكم الآخر غير ناظر للحكم الأول كأن حكم أحدهما بالهلال و الآخر بعدمه من دون التفات منهما إلى حكم صاحبه فحينئذ يرجع إلى المرجحات المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة فإن فقدت يتساقطان و يرجع لحكم حاكم ثالث لأن مقبولة عمر بن حنظلة تعرضت لترجيح الحكمين المتعارضين (لا يقال) أنا نشك في مانعية الحكم الثاني من نفوذ الحكم الأول و الأصل عدم المانع (لأنا نقول) انا نشك أيضا في مانعية الحكم الأول من نفوذ الحكم الثاني و الأصل عدم المانع. (لا يقال) أن الحكم الثاني قبل صدور الأول كان نافذا قطعا فيستصحب بعد صدوره (لأنا نقول) أنه قبل صدور الحكم الأول لم يكن موجودا حتى يستصحب نفوذه.

المراد من حرمة النقض

(التنبيه السابع) هل المراد بحرمة النقض و قبول الحكم الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا في نوعه أو في شخصه من حيث انفصال الخصومة أو ما هو محط الحكم بأن يكون الحكم طريقا بالنسبة إلى الجهة التي وقعت الخصومة فيها و كانت محط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 613

الحكم أو أن المراد به الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا بحيث يكون الحكم طريقا إلى جميع آثار المحكوم به نظير الفتوى فمثلا إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس و طهارته فيدعى المشتري بطلان البيع من جهة بنائه على نجاسته و يدعي البائع صحته من جهة بنائه على طهارته فحكم الحاكم بالطهارة من جهة صحة البيع أو حكم الحاكم بصحة البيع فعلى الأول لا يرتب عليه إلا خصوص الأثر الذي يرفع الخصومة و كان محط الحكم و

المقصود به أعني صحة البيع و لزومه و تملك الثمن للبائع و المثمن للمشتري و أما باقي الآثار و هي الطهارة و شربه و الصلاة به فلا ترتب بخلافه على الثاني فإنها ترتب عليه و الحاصل أن في المقام مطلبان. (أحدهما) أن الحكم في مورد يسرى إلى نوعه فلو حكم بصحة بيع العصير المذكور في هذه الدعوى فهل الحكم يسرى إلى باقي أفراد العصير الذي ذهب ثلثاه فيكون الحكم نافذا بالنسبة لكل عصير كذلك و لا يجوز رده أو ان الحكم يختص بخصوص هذا الفرد في خصوص هذه الواقعة (الحق) ان الحكم لا يسري إلى باقي الأفراد بل لا يتجاوز هذه الواقعة أيضا للإجماع و لأن الدليل انما دل على إمضاء الحكم بالنسبة لمتعلقه و متعلقه كان هو خصوص هذا الفرد في خصوص هذه الواقعة فلو فرض كان متعلقه عاما كما لو حكم بحلية أخذ مال الكفار في هذا اليوم و قلنا بأن للحاكم أن يحكم في مثل هذا أو بوجوب الصوم على كل أحد من جهة الهلال فهو ينفذ بمقدار متعلقه فقط لأن عدم إنفاذه في غير متعلقه لا يسمى ردا له فلذا يجب في هذا المقام أن يعرف سعة دائرة المتعلق و عدمها (و اما ما استدل به) لتسرية الحكم لباقي الأفراد بدعوى أنه لو لا التسرية لزم القول بالفصل بين الأفراد فيكون هذا الفرد صحيح بيعه دون غيره من الأفراد و هو قول بالفصل. (فجوابه) أنه بحسب الأحكام الظاهرية يجوز التفكيك و القول بالفصل كما قرر في علم الأصول. و الحكم تكليف ظاهري (و ما يقال) ان الحكم فيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 614

طريقة للواقع (فإنه يقال) ان

غرضهم أنه لا يجوز مخالفته للواقع و إلا فهو إنشاء محض ليس له أدنى حكاية عن الواقع فدليل اعتباره لا يقتضي إلا حجيته في خصوص متعلقه و مورده و محط نظر الحاكم في حكومته فقط فلا يتعدى الى غيره و عليه فلا مانع من الحكم بعدم صحة بيع ذلك العصير في منازعة أخرى فلو باعه على آخر و وقع النزاع بينهما و ترافعا لحاكم آخر يرى نجاسته نفذ حكمه بفساد البيع و الحاصل ان استصحاب بقاء الفتوى و بقاء آثارها يقضي بالبقاء و عدم انتقاضها بالحكم في غير مورد الحكم نعم لو كان الحاكم بالخلاف هو صاحب الفتوى انتقضت الفتوى في سائر الأفراد لأنه لو لم يعدل عن فتواه لما حكم بذلك و إلا لزم القول بالفصل بين الأفراد في فتواه.

(ثانيهما) أنه سواء قلنا بأن الحكم يسرى لباقي الأفراد أو يختص بخصوص الفرد الموجود في الواقعة التي حكم فيها فهل الحكم يقتضي ترتب جميع الآثار أو خصوص الأثر الذي كان محط الحكم و المقصود منه. (و الحق) هو الثاني و ان الذي يرتب هو خصوص ما كان محطا للحكم و موردا له لأن الذي حكم الحاكم به هو خصوص صحة البيع و كون الثمن للبائع و المثمن للمشتري لأن الحكم كما قد عرفت إنشاء و ليس حجيته كالفتوى من باب الطريقية المحضة فهو ليس له إراءة إلا عن متعلقه فدليل اعتباره لا يقتضي إلا أن يثبت به متعلقه دون غيره فلا يعتبر الحكم إلا فيما تعلق به إنشائه و لا يرتب أي اثر آخر بل حتى آثاره الشرعية إذا لم يعلم شمول الحكم لها، و عليه فيكون فرق بين ما إذا كان متعلق الحكم الطهارة

بأن يقول الحاكم حكمت بطهارته و بين ان يقول حكمت بصحة البيع فيما إذا كان نظره فصل الخصومة و هي كانت من جهة صحة البيع و استرداد الثمن فإنه لم يكن قد حكم بالطهارة نعم لو فرض انه كان قد حكم بالطهارة و قلنا بصحة حكمه فيها ترتب عليه آثار الطهارة بمقدار ما كان مقصودا للحاكم في حكمه و أما ما عداها من الآثار فيكون الحكم بالنسبة إليها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 615

بمنزلة الفتوى أو الشهادة التي لا تنفذ بالنسبة للحاكم الآخر و مقلديه لعدم تعلق حكمه بها لأن مخالفته فيها لا تكون ردا على حكمه حيث انها ليست بمتعلق حكمه

[صور] نقض الحكم بالفتوى و بالعكس
اشارة

(التنبيه الثامن) قد عرفت عدم جواز نقض الحكم بالحكم و موارد جوازه و منه يظهر نقض الحكم بالفتوى و نقض الفتوى بالحكم أما نقض الفتوى بالفتوى فقد حققنا الكلام فيه في مبحث تبدل رأي المجتهد. و الحاصل أن الصور المتصورة أربعة

[الصورة] (الأولى): نقض الحكم بالحكم

بأن ينقض الحكم الأول بإنشاء حكم بخلافه كأن يحكم بملكية الدار لزيد ثمَّ يحكم هو أو حاكم آخر بملكيتها لخالد و قد عرفت أنه ينتقض الحكم بالحكم الثاني إذا كان الأول مخالفا للواقع أو كان مقصرا في اجتهاده و إلا فلا ينقض به و كان الحكم الثاني باطلا فاسدا فراجعه.

(و [الصورة] الثانية) و هي نقض الحكم بالفتوى

كأن حكم بصحة بيع العصير العنبي في واقعة خاصة لأنه كان يفتي بطهارته ثمَّ بعد هذا أدى نظره الى نجاسته و أفتى بنجاسته أو أفتى بفساد بيعه فهل هذه الفتوى المتأخرة توجب نقض الحكم السابق منه المستند لفتواه بطهارة العصير يمكن ان يقال أنه لا يجوز النقض في هذه الصورة للإجماع و لأنه إذا لم نجوز نقض الحكم بالحكم فبالطريق الأولى أن لا نجوز نقضه بالفتوى لأن الحكم أقوى من الفتوى. (و ان شئت قلت) ان الظاهر من المقبولة و غيرها كون حكم الحاكم حاكم على جميع الطرق و الامارات و مقتضى حكومته أن لا ترفع أثره الفتوى و لا غيرها من الامارات. (ان قلت) ان ما دل على حرمة الكتمان و وجوب الردع و تدمير الباطل يقتضي أن يكون بالفتوى ينقض الحكم لأن الحكم يكون بنظر المفتي بالخلاف باطل. (قلنا) ان الإجماع و الأدلة الدالة على حرمة نقض الحكم تكون مخصصة لأدلة حرمة الكتمان و وجوب الردع (نعم) في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 616

صورة جواز نقض الحكم تكون الفتوى ناقضة له عن مورده الخاص. (و الحاصل) أنه في صورة عدم جواز نقضه لا يجوز نقضه بالفتوى المتأخرة لا من الحاكم نفسه و ان عدل عن فتواه التي استند الحكم إليها و لا من حاكم آخر قد خالفه في الفتوى التي

استند إليها الحاكم في حكمه و أما في صورة جواز نقضه فيجوز ان ينقض بالفتوى لأنه لم يكن من الحكم الذي حرم الشارع نقضه بل هو ملغي من أصله كما عرفت تحقيق ذلك في مبحث موارد نقض الحكم فتصح الفتوى في مورده لعموم أدلة الفتوى لتلك الموارد، و المراد بنقض الحكم بالفتوى هو ان يفتي في خصوص مورد الحكم بخلافه و إلا فالفتوى بنحو العموم بما هو حكم المسألة تصح حتى من الحاكم نفسه إذا عدل نظره عن الفتوى السابقة و ان لم يكن مجوز النقض موجودا لكنه لا ينقض بها الحكم عند عدم المجوز للنقض و ينقض بها الحكم عند وجود المجوز للنقض. (و الحاصل) ان الفتوى بنحو العموم المخالفة للحكم سواء كانت من الحاكم أو من غيره تصح و تجوز و ان لم يكن المجوز للنقض بها موجودا و انما الذي لا يجوز هو الفتوى المخالفة في مورد الحكم بخصوصه و في نفس الواقعة مع عدم المجوز لنقض الحكم. (فتلخص) أن الحكم لا ينقض بالفتوى و ان كان قد تبين للحاكم فساد حكمه بالظن الاجتهادي لأن حكم الحاكم كما عرفت مقدم و حاكم على جميع الامارات و الظنون المعتبرة كما يستفاد من المقبولة و غيرها. (و قد يتمسك) في المقام باستصحاب عدم جواز النقض فيكون الشك في المقام نظير الشك في النسخ فان الحكم مثبت للتكليف و يشك في رفع استمراره و لا يخفى ما فيه فإنه مع الشك لا يقين سابق بعدم النقض إذ يرجع الشك إلى صحة الحكم من أصله لا في ارتفاع أثره بعد القطع بثبوته و أما التشبيه بالنسخ فهو غير صحيح فان الحكم يثبت حكما ظاهريا ما دام

لم يعلم بمخالفته للواقع فاذا علم بمخالفته للواقع فلا بد من البناء على عدم الحكم الظاهري من أول الأمر و إلا لزم التصويب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 617

(هذا و قد يمنع) من شمول أدلة حرمة النقض بالنسبة إلى نفس الحاكم فيما لو تبين فساد حكمه بالظن الاجتهادي فان المقبولة و غيرها من أدلة الرد انما هي ناظرة لحرمة رد الغير على الحاكم بالظنون الاجتهادية و أما بالنسبة إلى الحاكم نفسه فهي غير ناظرة إلى رده على حكمه و (الحاصل) ان الأدلة التي دلت على حكومة حكم الحاكم على سائر الامارات و الطرق الظنية انما هي ناظرة إلى حكم الحاكم بالنسبة لغيره و أما بالنسبة إلى نفسه فلا و هكذا ما جعل دليلا من الهرج و المرج و عدم حل الخصومة انما يختص بغيره لا بالنسبة لنفسه و إذا كان الأمر كذلك فلا دليل لنا على حرمة نقض حكم الحاكم بفتوى نفسه و مع الشك فالأصل يقتضي جواز النقض بفتوى نفسه بل وجوب النقض لقيام الظن المعتبر الاجتهادي على فساد الحكم و لا دليل على حرمة نقضه فيجب إبطاله من أصله فيكون الحكم فاسدا من أصله لقيام الحجة على ذلك فيكون وجوده كعدمه. و أما الإجماع المنقول على حرمة نقض الحكم بالفتوى لم يعلم ثبوته بالنسبة إلى الحاكم نفسه فيؤخذ القدر المتيقن منه و لو سلم شموله للحاكم نفسه فلا نسلم كشفه عن رأي المعصوم (ع) في هذا المورد لاحتمال اعتماد المجمعين على الروايات المناقش في دلالتها. (و أما دعوى لزوم الهرج و المرج) بدعوى انه ربما يكون رأي المجتهد يتبدل بمرات عديدة فالزوجة المرتضعة بعشر رضعات عدة مرات تنفصل عن زوجها

و ترجع إليه.

(فاسدة) لأن الفرض نادر الوقوع من مجتهد و لو فرض اقتصر على مورده الخاص فهو نظير دعوى لزوم العسر و الحرج.

(و [الصورة] الثالثة) و هي نقض الفتوى بالحكم

و قد عرفت أنه ينقض الحكم الفتوى إذا وقع الحكم على الوجه الصحيح و بحسب الموازين الشرعية و لم يعلم بمخالفته للواقع إذ لو لم تنتقض الفتوى به لكان جعل اعتباره لغوا لسبق الفتوى غالبا عليه و للزم دوام الخصومة بين كل مختلفين في الرأي اجتهادا أو تقليدا مضافا إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 618

الإجماع على نقضها بالحكم و سيرة المسلمين على ذلك فالحكم ينقض الفتوى السابقة عليه في مورد الحكم. و قد خالف في ذلك المحقق القمي (ره) في قوانينه و ظاهر كلامه (ره) أنه في صورة ثبوت حق الدعوى ينقض الحكم الفتوى و أما في صورة عدم حق الدعوى كما لو تراضيا على العقد بالفارسية بأن قلدا مجتهدا فيه مع علمهما بالخلاف ثمَّ دعاهما الهوي إلى المنازعة فلو رجعا لمجتهده آخر يقول بفساده فحكمه بالفساد لا ينقض فتوى مقلدهما بالصحة، و في عوائد النراقي (ره) ما حاصله ان المتنازعين المقلدين لمجتهد واحد في الواقعة المتنازع فيها إذا ترافعا عند حاكم يخالفه في الرأي فحكمه بمقتضى رأيه لا ينقض الفتوى و لا يعمل به و إنما يجب عليه أن يحكم برأي المجتهد الذي قلداه في هذه الواقعة سابقا. و لعل نظر الأول منهما الى أن الاتفاق بين المتعاقدين على عقد يوجب إسقاط حق الدعوى فلا تصح الدعوى منه و نظر الثاني منهما الى ان المتعاقدين إذا كانا مقلدين لمجتهد واحد كان حكمهما الشرعي الواقعي في المعاملة هو فتوى مجتهدهما لا حكم الحاكم. (و الجواب) عن الأول ان

إسقاط حق الدعوى لا يوجب سقوط حكم الحاكم مع أن مجرد الاتفاق على شي ء لا يوجب سقوط الدعوى و عدم سماعها و عن الثاني ان الفتوى حكم ظاهري لهما و قد تقدم ان حكم الحاكم مقدم على حكمهما الظاهري و لذا يقدم الحكم على فتوى المجتهد نفسه فإنه لا يجوز له أن يعمل بفتواه و يجب أن يعمل بحكم الحاكم، نعم لو علم بالواقع فحكم الحاكم يرد و ينقض (و قد أجاب) عن ذلك المرحوم ملا علي بما حاصله من أنه على الحاكم أن يحكم بما أنزل اللّه تعالى بحسب معتقده و لذا لم يشترط أحد في حكم الحاكم استفساره عن رأي المتداعيين في المسائل الخلافية بل انعقدت السيرة على عدم الاستفسار بل يلزم ذلك أن لا يجوز لنا الحكم على الكفار و المخالفين بما هو حق عندنا إذا احتمل في حقهم التراضي على حكم حاكم خاص في الواقعة و هو خلاف الإجماع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 619

و بالجملة: الواجب على الحاكم بما أدى اليه نظره من الصحة و الفساد في الواقعة و لو كان المتنازعان قلدا مجتهدا آخر في خلاف ما يراه الحاكم، نعم حكمه إنما يكون حكما ظاهريا فلا يقلب حكمهما الواقعي الذي قلدا فيه فلو قلدا في صحة بيع المعاطاة و أوقعاه ثمَّ ترافعا عند من حكم بفساده لم يحل المبيع على البائع و الثمن على المشتري في الظاهر لكون الحكم الشرعي في حقهما خلافه فالحكم ينقض الفتوى في الظاهر لا في الواقع.

(و [الصورة] الرابعة) نقض الفتوى بالفتوى

و هو غير جائز إذا لم تكونا من مجتهد واحد فان المجتهدين طالما يختلفون في فتاواهم و لو كانت فتوى المجتهد الآخر تنقض الفتوى السابقة عليها

للزم سد باب الإفتاء و انحصار الحكم الظاهري بالفتوى المتأخرة لأنها تنقض جميع ما تقدم عليها من الفتاوى و يلزم من ذلك تقليد الجميع له و الإجماع بل الضرورة على خلاف ذلك، نعم المقلد لا يجوز له أن ينقض فتوى مجتهده بالعدول لآخر إلا إذا كان الآخر أعلم من الأول فيجب عليه النقض بناء على وجوب تقليد الأعلم، هذا كله بالنسبة إلى الإفتاء و أما بالنسبة إلى ترتيب الأثر في حق مجتهد بالنسبة لمجتهد آخر أو مقلديه فنقول ان الصحة ان كانت عند نفس المجتهد تكفي في ترتب الأثر كما إذا علم من الأدلة ان الصحة عند الفاعل تكفي في ترتب الأثر من الغير عليه و إن كان عند الغير فاسدا فحينئذ ترتب الاثار كما يقال في الطلاق فإنه لو كان صحيحا عند الفاعل جاز لمن كان فاسدا عنده التزويج منها و لذا كان طلاق المخالف مجوزا لأخذ غيره لزوجته، و أما إن كانت غير كافية بل لا بد من الصحة عنده أيضا فحينئذ لو كان العمل فاسدا بحسب فتواه فلا يرتب الأثر عليه و لو فرض انه كان صحيحا عند الفاعل كما لو ذبح و لم يكن الذبح صحيحا عند الغير و مع الشك فالقاعدة عدم ترتب الأثر لعدم إحراز الموضوع للأثر إلا إذا كان هناك أصل يقتضي الصحة، و من هذا الباب ما لو أفتى بجواز دخول النجاسة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 620

الغير المسرية للمسجد فأدخلها و الغير مقلد أو مجتهد في وجوب تبعيد النجاسة عنه فلا إثم على الأول في إدخالها و وجب على الثاني إخراجها إن تمكن و هكذا لو بني المسجد من آجر لا يرى نجاسته

و يرى الغير نجاسته و يشكل فيما إذا أوقف شيئا يراه طاهرا على المسجد و شرط عدم إخراجه و اطلع المجتهد المفتي بوجوب إخراجه و الظاهر انه يجب عليه إخراجه لأن شرط الواقف إن اختص بمن يراه طاهرا فهذا المجتهد ليس منه و إن كان عاما فالظاهر فساد هذا الشرط حيث انه شرط مخالف للشرع، و أما إذا كانت الفتويان من مجتهد واحد فالمتأخرة تنقض المتقدمة بمعنى انه يجب العمل على الثانية من المفتي و من يقلده فلا يجوز العمل بالأولى في موارد الثانية سواء كان يقطع بفساد الأولى أو يظن بالظن المعتبر بفسادها و قد تقدم البرهان على ذلك في مبحث عدول المجتهد عن رأيه و أما نقضها بمعنى زوال آثارها التي تترتب على العمل بها بالفتوى الثانية فقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث عدول المجتهد، و أما نقض الفتوى بالفتوى من نفس المقلد بالنسبة لمجتهدين و مرجعه إلى جواز العدول من مجتهد لآخر فيما قلده فيه فقد حققناه البحث عنه في مبحث جواز العدول من مجتهد لآخر:

وجوب اعلام الحاكم بخطئه في حكمه

(التنبيه التاسع) ان الحاكم إذا علم بخطئه أو قامت عنده الحجة المعتبرة على خطأه وجب عليه أن يعلم من يعمل بحكمه لعين ما ذكرناه في وجوب إعلام المجتهد بتبدل رأيه، و أما إذا علم المجتهد بمخالفة حكم المجتهد الآخر للواقع أو بعدم أهليته للاجتهاد أو بتقصيره فيه فلا يجب على ذلك المجتهد إعلام من يعمل بحكمه بعدم صحة حكمه، نعم قال أستاذنا المرحوم العراقي بوجوب ذلك عليه في الدماء و الاعراض لكثرة اهتمام الشارع بهما بحد يجب حفظهما على كل من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 621

يتمكن من ذلك، و أما في الأموال

فوجوبه مبني على أحد أمرين و هما اما دعوى ان حفظ الأموال من وظائف قضاة الجور و كل ما كان من وظائف قضاة الجور ثابت لقضاتنا بإطلاق المقبولة، و أما دعوى صدق الإتلاف للمال على مجرد سكوت ذلك المجتهد عن إعلام خطأ المجتهد الآخر في حكمه و إلا فلا دليل على وجوب حفظ مال الغير بالإعلام بعد فرض قيام الحجة للمحكوم له في أخذه المال، و دليل النهي عن المنكر غير ظاهر الشمول لمثل المورد، نعم لو كان المحكوم له عالما بخطإ الحاكم يجب على كل من يعلم بحاله نهيه عن عمله لكون عمله منكرا حتى عند نفسه.

عدم نفوذ حكم الحاكم

(التنبيه العاشر) ان القوم ذكروا ان الحاكم إذا كانت له منازعة مع غيره لا ينفذ حكمه لنفسه على ذلك الغير بل يلزم الرجوع إلى حاكم آخر مستدلين على ذلك بالإجماع. و بأخبار رجوع المتنازعين إلى من عرف أحكامهم فإن ظاهرها كون الحاكم غير المتنازعين. و هكذا ذكروا ان حكمه لا ينفذ على من لا تقبل شهادته عليه كحكم الولد على والده و العبد على مولاه. و كذا لا ينفذ حكمه لمن لا يقبل شهادته له كحكمه لمن يجر بحكمه له نفعا. قال السيد في ملحقاته و لا دليل لهم على ذلك إلا دعوى ان الحكم شهادة و زيادة و هو كما ترى فالأقوى عدم المانع من شمول إطلاق أدلة نفوذ الحكم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 622

فيما لو أخطأ الحاكم فالدية من بيت المال

(التنبيه الحادي عشر) لو نقض حكم الحاكم بالأمور المصححة لنقضه كما تقدم و قد استوفى المحكوم له فان كان قتلا أو جرحا فلا قود على الحاكم قطعا و لا على كل من وكله في إقامته و إنما تكون للمحدود الدية في بيت المال و لا يضمنها الامام و لا عاقلته و قد نقل في الجواهر عدم الخلاف في ذلك إلا ما يحكى عن ظاهر الحلبي من ضمان الإمام في ماله و هو فاسد لما هو المروي عندنا عن أمير المؤمنين (ع) في خبر الأصبغ ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت المال و ضعف سنده منجبر بالشهرة. و ما أورد على ذلك من الرواية المشتملة على تضمين أمير المؤمنين (ع) عاقلة عمر بن الخطاب باطل لأن الرواية لم تثبت من طرقنا و لأنه ليس بحاكم شرع و لا منصوب من قبل حاكم

الشرع. و كيف يضمن حاكم الشرع و هو محسن و لا سبيل على المحسنين. على انه منصوب لمصالح المسلمين و يعمل لصالحهم فضمان خطأه على بيت ما لهم. و إن كان المحكوم به القصاص و كان المباشر له الولي فذهب صاحب الشرائع و تبعه الفاضل إلى أنه لا يضمن مع حكم الحاكم و إذنه لأن السبب و هو حكم الحاكم أقوى من المباشر و لا الحاكم لأنه ليس على المحسنين من سبيل و إنما الضمان على بيت المال للرواية المتقدمة بخلاف ما إذا اقتص قبل الحكم أو بعد الحكم و قبل الاذن من الحاكم فإنه يضمن لعدم قوة السبب على المباشر. و إن كان المحكوم به ما لا دية أو غيرها فيستعاد إن كانت العين باقية لأنها لا سلطان لأحد عليها إلا لمالكها و إن كانت تالفة فيضمن المحكوم له لأن على اليد ما أخذت حتى تؤدي و مع إعساره ينتظر كما هو الحال في كل ضامن بخلاف القصاص إذ لا دليل على ضمان المحكوم له بالقصاص لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 623

دليل الضمان اما دليل (على اليد) و يد المحكوم له في القصاص لم تأخذ شيئا أو دليل من أتلف ماله و المحكوم له لم يتلف مالا في القصاص، و من ذلك يعلم ان الحاكم لو أنفذ إلى حامل إقامة الحد فأجهضت خوفا فدية الجنين في بيت المال لأنه خطأ و خطأ الحكام في بيت المال كما هو المنسوب لأكثر علمائنا قال في الجواهر و دعوى ان ذلك من الخطأ الشبيه بالعمد لا يدفع اندراجه في خطأ الحكام بعد فرض جواز الإرسال إليها. و في الجواهر أيضا لو أمر الحاكم

بضرب المحدود زيادة على الحد فمات سهوا كأن تخيل ان حد الشارب هو حد الزنا أو غلط في الحساب فنصف الدية من بيت المال لأنه من خطأ الحكام.

بقية أحكام المجتهد و الاجتهاد بالنسبة للقضاء

بقي هناك أحكام للمجتهد و الاجتهاد فيما يخص القضاء مثل هل للحاكم البحث عن حال الشاهد إذا جهل أمره و هل له نقض الحكم لو تبين فسق البينة و غير ذلك مما ذكر في كتاب القضاء من الأحكام التي تخصه و حيث ان الأمر فيها واضح فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع الى كتاب القضاء.

(الثالث و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا كانا يفتقران الى الجرح أو القتل افتقرا الى إذنه

في المحكي عن الشيخ و فخر الإسلام و الشهيد و المقداد و الكركي انه لا يجوز الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا كانا بنحو الجرح و القتل إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 624

بإذن الإمام. قال في الجواهر (ره) لما في جواز ذلك لسائر الناس عدو لهم و فساقهم من الفساد العظيم و الهرج و المرج المعلوم عدمه في الشريعة خصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس.

(إن قلت) ان إطلاق الأدلة الدالة على وجوبهما لا سيما الدالة على وجوبهما باللسان و اليد يقتضي شمولهما للجرح و القتل من دون اشتراط إذن الامام. كيف و وجوبهما لمصلحة العالم فلا يتوقفان على شرط. (قلنا) لا إطلاق لها بالنسبة الى ذلك بعد ما عرفت من أن وجوبهما كذلك يوجب فساد النظام فالمقيد لهما عقلي.

(إن قلت) لا إشكال في وجوبهما على النبي و الأئمة (ع) و لو بنحو الجرح و القتل بدون إذن أحد و مقتضى اشتراك التكليف أن يكونا واجبين كذلك على كل أحد. (قلنا) نعم لكن بعد قيام الدليل على عدم وجوبهما كذلك بدون الاذن لا وجه للتمسك بأدلة اشتراك التكليف.

(إن قلت) انه روي عن تأريخ الطبري عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال اني سمعت عليا يوم لقينا أهل الشام يقول: أيها المؤمنون انه

من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و من أنكره بلسانه فقد أوجر و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالصيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك أصاب سبيل الهدى. و قول الباقر (ع): فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم فإن اتعظوا و الى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ. هنا لك فجاهدوهم بأبدانكم و أبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا و لا باغين به مالا و لا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته. (قلنا) هذه الاخبار و نحوها ظاهره في قتال أهل البغي و الجهاد في سبيل اللّه لا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فتلخص ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 625

هذا الحكم لا بد فيه من إذن الامام أو المتولي لشؤون المسلمين و هو المجتهد العادل الذي له الولاية عليهم.

الرابع و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد اقامة الحدود و التعزيرات

اشارة

اختلفوا في ان للمجتهد إقامة الحدود و التعزيرات في زمن الغيبة مع تمكنه من ذلك و عدم الضرر عليه فالمحكي عن الشيخين و الديلمي و الفضال و الشهيدين و المقداد و ابن فهد و الكركي و السبزواري و الكاشاني و الشيخ الحر هو أن له ذلك و نسب القول للمشهور و نقل الإجماع عليه. و عن الحلي عدمه. و عن ظاهر الشرائع و النافع التردد و الحق هو الأول لما قلنا من ثبوت الولاية العامة له و منها ولايته على اقامة الحدود و التعزيرات لحفظ شؤون المسلمين من

المعاصي و تعدي بعضهم على بعض، مضافا الى رواية حفص بن غياث المنجبر ضعفها لو كان بالشهرة قال سألت أبا عبد اللّه (ع) من يقيم الحدود السلطان أو القاضي؟ فقال (ع) اقامة الحدود الى من اليه الحكم و يؤيده رواية أبي مريم قال قضى أمير المؤمنين ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فعلي بيت مال المسلمين، فلو لم يكن لهم ذلك لكان عليهم الدية لا على بيت مال المسلمين. و قد استدل أيضا بإطلاقات مثل قوله تعالى (فَاقْطَعُوا) و قوله تعالى (فَاجْلِدُوا) و نحو ذلك من الأوامر الدالة على الحدود و التعزيرات. و احتمال كون ذلك من خصائص الإمام أو مدخلية حضوره أو إذنه مدفوع بإطلاق أدلتها و عدم تقيدها مضافا لعموم أدلة النيابة كما تقدم ثمَّ لا يخفى أن ثبوت ذلك للفقيه على سبيل الوجوب لان ترك اقامة الحدود و التعزيرات يؤدي الى العظيم من المفاسد و لأن أوامر الحدود مثل (اجلدوا و اقطعوا) دالة على الوجوب و لان كل من قال انه له ذلك قال بوجوبه عليه،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 626

و لقول أمير المؤمنين (ع) في رواية ميثم الطويلة التي رواها المشايخ الثلاثة الواردة في حد الزنا. و انك قد قلت لنبيك فيما أخبرته به من دينك يا محمد من عطل حدا من حدودك قد عاندني و طلب بذلك مضادتي اللهم و اني غير معطل حدودك و لا طالب مضادتك و لا مضيع أحكامك الحديث و هو ظاهر في العموم لكل زمان مضافا الى التشديد من المعصومين في تعطيل الحدود فإنه يستفاد من ذلك وجوب اقامة الحدود لكن الظاهر انه مع أمن الضرر من السلطان عليه و

على غيره من الشيعة لقاعدة نفي الضرر. و هذه الأدلة المختصة بالحدود يتعدى منها الى التعزيرات بالإجماع المركب بل قد يقال بأن لفظ الحدود يشمل التعزيرات (و قد استدل بعضهم) على منع إقامة الفقيه لها بالمروي عن كتاب الأشعثيات لمحمد بن محمد بن الأشعث بإسناده عن الصادق (ع) عن أبيه عن آبائه عن علي (ع) أنه قال لا يصلح الحكم و لا الحد و لا الجمعة إلا بالإمام. و لا يخفى ما فيه لضعفه سندا بل المحكي عن بعض الأصحاب أن الكتاب المذكور ليس من الأصول المشهورة بل و لا المعتبرة و لم يحكم أحد بصحته من أصحابنا بل لم تتواتر نسبته لمصنفه و لم تصح على وجه تطمأن به النفس و لذا لم ينقل عنه الحر في الوسائل و لا المجلسي في البحار مع شدة حرصهما خصوصا الثاني على كتب الحديث. و من البعيد عدم عثورهما عليه. و الشيخ و النجاشي و ان ذكرا ان مصنفه من أصحاب الكتب إلا أنهما لم يذكرا الكتاب المزبور بعبارة تشعر بتعينه. و مع ذلك فان تتبعه و تتبع كتب الأصول يعطيان أنه ليس جاريا على منوالها فإن أكثره بخلافها و انما تطابق روايته في الأكثر رواية العامة و لو سلمناه لكن عرفت أن المجتهد في زمن الغيبة يثبت له كلما يثبت للإمام بعنوان الإمامة و ان لم نقول أنه يصدق عليه لفظ الامام.

قال في الجواهر ما حاصله و لا إشكال و لا خلاف في وجوب مساعدة الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 627

للفقهاء على ذلك نحو مساعدة الإمام (ع) ضرورة كونه من السياسيات الدينية التي لا يقوم الواحد بها و من البر و التقوى

اللذين أمر بالتعاون عليهما

و ينبغي التنبيه على أمور.
ان الحاكم يبدأ برجم المرجوم إذا كان مقرا

(الأول) أنه حكي الإجماع عن الخلاف و ظاهر المبسوط أن على الامام أن يبدأ بالرجم ثمَّ الناس إذا أقر المرجوم، و يبدأ بالشهود ثمَّ الامام بعدهم ثمَّ الناس إذا قامت البينة و يعضد ذلك المروي في الفقيه و غيره إذا أقر الزاني المحصن كان أول من يرجمه الامام ثمَّ الناس فاذا قامت البينة كان أول من يرجمه البينة ثمَّ الناس. كما ذكروا أنه يستحب للإمام أو نائبه أن يحضرا شاهدين عارفين بمواقع القصاص و شرائطه عند القصاص من الجاني.

ان الحاكم يجب عليه اقامة الحد بعلمه

(التنبيه الثاني) أنه يجب على الحاكم اقامة حدود اللّه عز و جل لو علم بها كحد الزنا دون حقوق الناس فإنه بمجرد علمه بها لا يقيمها إلا بالمطالبة لخبر الحسين بن خالد المتقدم في مبحث حكم الحاكم بعلمه. و لما في الصحيح من أنه إذا أقر على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق اللّه تعالى. و إذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر حده فهذا من حقوق اللّه تعالى. و أما حقوق المسلمين فإذا أقر على نفسه عند الإمام بفرية لم يحده حتى يحضر صاحب الفرية أو وليه و إذا أقر بقتل رجل لم يقتله حتى يحضر أولياء المقتول فيطالبوه بدم صاحبهم و بمعناه الصحيح الآخر في حقوق الناس من أقر على نفسه عند الامام بحق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 628

أحد من المسلمين فليس على الامام أن يقيم عليه الحد الذي أقر به عنده حتى يحضر صاحب الحد أو وليه و يطلب بحقه.

ان للمجتهد العقاب زيادة على الحد فيما لو وقعت المعصية في وقت شريف أو موضع شريف

(التنبيه الثالث) ذهب جل الأصحاب على أن للحاكم الشرعي أن يعاقب العاصي زيادة على الحد بحسب ما يراه إذا أتي بالمعصية في زمان شريف كشهر رمضان أو في مكان شريف كالمساجد و المشاهد المشرفة و يشهد لذلك ما في المرسل انه أتي أمير المؤمنين (ع) بالنجاشي الشاعر و قد شرب الخمر في شهر رمضان فضربه ثمانين ثمَّ حبسه ليلة ثمَّ دعي به من الغد فضربه عشرين سوطا فقال يا أمير المؤمنين ضربتني ثمانين في شرب الخمر فهذه العشرون ما هي فقال هذه لجرئتك في شهر رمضان قال في الجواهر و من التعليل يستفاد الحكم لغير مورده كما فهمه الأصحاب و يشهد له الاعتبار بل لا يبعد

ملاحظة الخصوصيات أيضا بالنسبة إلى الأزمنة و الأمكنة كليلة القدر و كالمشاهد المعظمة الى غير ذلك مما يكون فيه هتك الحرمة أو زيادة الهتك.

عفو المجتهد عن المجرم و عدم اقامة الحد أو الجلد عليه إذا أقر بالجريمة

(التنبيه الرابع) أنه حكي الإجماع عن السرائر على ان الامام مخير في إقامة الحد على من أقر بالجريمة ثمَّ تاب و حكي الإجماع أيضا في الجلد كذلك و الشهرة العظيمة على ذلك جابرة للنصوص الواردة في المقام التي منها ما رواه في الوسائل عن محمد بن الحسن عن بعض الصادقين (ع) أنه جاء رجل الى أمير المؤمنين (ع) فأقر بالسرقة فقال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 629

أ تقرأ شيئا من القرآن قال نعم سورة البقرة قال قد وهبت يدك لسورة البقرة فقال الأشعث أ تعطل حدا من حدود اللّه تعالى فقال ما يدريك يا هذا إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو و إذا أقر الرجل على نفسه فذاك الى الامام ان شاء عفى و ان شاء قطع قال في الوسائل و رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (ع) و روى أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد (ع) نحوه و خصوص المورد لا يوجب تخصيص الوارد. و ما رواه صاحب تحف العقول عن أبي الحسن الثالث في حديث قال و أما الرجل الذي اعترف باللواط فان لم يقم عليه البينة و انما تطوع بالإقرار من نفسه و إذا كان للإمام الذي من اللّه يعاقب عن اللّه كان له أن يمن عن اللّه أما سمعت قول اللّه هذا عطاءنا فامنن أو أمسك بغير حساب، و عن ابن شهر اشوب في المناقب مثله و عن الكافي بسنده

عن أبي جعفر (ع) و عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) لا يعفى عن الحدود التي للّه دون الامام الخبر. و عن فقه الرضا مثله قال في الجواهر ليس في النصوص اعتبار التوبة و لعل اتفاقهم عليه كاف في تقييدها و لعل ظاهر الإقرار و الاعتراف بالذنب هو التوبة. و إذا ثبت ذلك للإمام فقد ثبت لنائبه في زمن الغيبة لما تقدم من أن كلما ثبت للإمام بعنوان الإمامة يثبت لنائبه بل ظاهر النصوص هو ثبوت ذلك له بعنوان الولاية العامة من اللّه تعالى و هي كما عرفت ثابتة للمجتهد الجامع لشرائط الزعامة في زمن الغيبة.

بقي الكلام في بقية أحكام الحاكم الشرعي المتعلقة بالحدود

ككونه مخيرا بين رجم اللائط و بين قتله بالسيف أو حرقه بالنار أو إلقائه من شاهق. و كونه مخيرا في الكافر الذي يلوط بمثله بين إقامة الحد عليه و بين دفعه الى أهل ملته لقيموا عليه حدهم و إخراج الزاني من البلد الذي أقيم فيه الحد عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 630

و غير ذلك من الأحكام يطلبها من أراد معرفتها من كتاب الحدود و القصاص و الديات.

الخامس و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد انه له الحبس على التهمة

حكي عن الشيخ و أتباعه و الطبرسي و العلامة أن ولي الدم إذا اتهم شخصا جاز للحاكم حبس الشخص المتهم حتى يحضر الرجل بينته و استندوا في ذلك الى رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (ع) أن النبي (ص) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام فإن جاء أولياء المقتول ببينة يثبت و إلا خلي سبيله، و ضعف الخبر بالسكوني منجبر بعمل المذكورين به و حكاية الإجماع على العمل برواياته نعم لو لم يرد الرجل حبس المتهم لم يكن للحاكم حبسه لكون الحق له. كما أن ظاهر ذيل الخبر اختصاص الحكم بالقتال دون الجرح.

السادس و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان اذنه رافع للضمان

أن كل فعل يحصل التلف بسببه كحفر البئر في غير الملك و نصب السكين و طرح المعاثر في المسالك يوجب ضمان دية العاثر للإجماع المحكي و لصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه سألته عن رجل ينفر برجل فيعقره و تعقر دابته رجلا آخر قال هو ضامن لما كان من شي ء و عن شي ء يوضع على الطريق فتمر الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال كل شي ء مضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه و صحيح الكناني قال قال أبو عبد اللّه (ع) من أضر بشي ء في طريق المسلمين فهو له ضامن و موثق سماعة سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل يحفر البئر في داره أو ملكه فقال ما كان حفره في داره أو ملكه فليس عليه ضمان و ما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها. و يستفاد من هذا أنه لو صنع ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 631

بأذن الحاكم الشرعي فيما للحاكم الشرعي الولاية عليه لم يضمن كما لو حفر في طريق

المسلمين بالوعة بإذن الإمام لأنه أقوى من المالك في ولايته في ملكه و من أراد تحقيق الحال فليراجع كتاب الديات.

السابع و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان الامام عليه دية من قتل خطأ

و لا وارث له و لا عاقلة كما أن تقسيط الدية على ما يراه من المصلحة المجتهد الذي له الولاية على المسلمين و قائم مقام الامام يضمن دية القاتل خطأ و لا وارث له و لا معتق و لا ضامن جريرة له ففي المرسل في الرجل إذا قتل رجلا خطأ فان لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال و هكذا تقسيط الدية على العاقلة بحسب ما يراه من حالها كما هو المنسوب للمشهور و تحقيق ذلك يطلب من كتاب الديات.

خاتمة فيها مطالب

حقوق العالم الديني على غيره

(الأول) في الكافي بسنده عن سليمان الجعفري عمن ذكره عن أبي عبد اللّه (ع) و مثله عن المحاسن قال كان أمير المؤمنين (ع) يقول أن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال. و لا تأخذ بثوبه. و إذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم جميعا و خصه بالتحية دونهم. و أجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينك و لا تشر بيدك و لا تكثر من القول قال فلان و قال فلان خلافا لقوله و لا تضجره بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شي ء و العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه. و عن آمالي الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 632

بسنده عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد اللّه الصادق يقول اطلبوا العلم و تزينوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلمونه العلم و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم و لا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم. و عن الخصال عن علي بن الحسين (ع) و حق سائسك بالعلم التعظيم له و التوقير

لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و أن لا ترفع اليه صوتك و لا تجيب أحدا يسأله عن شي ء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدّث في مجلسه أحدا و لا تغتاب عنده أحدا و ان تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء و ان تستر عيوبه و تظهر مناقبه و لا تجالس عدوا له و لا تعادي له وليا. و في الإرشاد ما رواه الحارث قال سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول من حق العالم أن لا يكثر عليه السؤال و لا يعنت في الجواب و لا يلح عليه إذا كسل و لا يؤخذ بثوبه إذا نهض و لا يشار اليه بيد في حاجة و لا يفشي له سر و لا يغتاب عنده أحد و يعظم كما حفظ أمر اللّه و يجلس المتعلم أمامه و لا يعرض من طول صحبته و إذا جاءه طالب علم و غيره فوجده في جماعة عمهم بالسلام و خصه بالتحية و ليحفظ شاهدا و غائبا و ليعرف له حقه فان العالم أعظم أجرا من الصائم القائم المجاهد في سبيل اللّه و إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه، و طالب العلم تستغفر له الملائكة و يدعوا له من في السماء و الأرض.

و عن غوالي اللئالي قال الصادق (ع) من أكرم فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عنه راضي و من أهان فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان.

فرض العلم و الحث على طلبه

(الثاني) في الكافي بعدة طرق عن أبي عبد اللّه (ع) و عن بصائر الدرجات بثلاثة طرق عن أبي عبد اللّه (ع) و عن أمالي الشيخ و مجالس المفيد أيضا عن

أبي عبد اللّه (ع) ان طلب العلم فريضة على كل مسلم و لعل هذا الخبر من المتواتر نقله عن أبي عبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 633

اللّه (ع) و لا شك في وجوب طلب العلم بالعقائد الدينية كما لا ريب في وجوب معرفة الأحكام الشرعية التي هي محل ابتلائه و لو بالتقليد و أما ما عداها فهو مستحب لما هو المحكي عن أمالي الصدوق و عيون أخبار الرضا و غيرهما من قول أمير المؤمنين (ع) قيمة كل امرئ ما يحسنه و لما عن بصائر الدرجات بسنده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال قال رسول اللّه (ص) العالم و المتعلم شريكان في الأجر للعالم أجران و للمتعلم أجر و لا خير في سوى ذلك. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

سؤال العالم

(الثالث) قال اللّه تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* و قد كاد أن يتواتر عن المعصومين (ع) انهم قالوا العلم خزائن و مفاتيحه السؤال فاسئلوا يرحمكم اللّه فإنه يؤجر فيه أربعة السائل و المعلم و المستمع و المحب لهم.

مجالسة العلماء و مذاكرتهم

(الرابع) عن ثواب الأعمال و أمالي الصدوق و الخصال عن الصادق (ع) عن آبائه عن رسول اللّه (ص) انه قال مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة. و عن العدة عن علي (ع) قال جلوس ساعة عند العلماء أحب الى اللّه من عبادة ألف سنة و النظر الى العالم أحب الى اللّه من اعتكاف سنة في البيت الحرام و زيارة العلماء أحب الى اللّه من سبعين طوافا حول البيت و أفضل من سبعين حجة و عمرة مبرورة مقبولة و رفع اللّه له سبعين درجة و أنزل اللّه عليه الرحمة و شهدت له الملائكة ان الجنة وجبت له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 634

تمَّ الجزء الأول من كتاب النور الساطع و يليه الجزء الثاني يشتمل على مباحث التقليد و أحكام المقلد و التقليد

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.