الدرالمنضود فی احکام الحدود

اشارة

سرشناسه : گلپایگانی، محمدرضا، 1372 - 1277

عنوان و نام پديدآور : الدرالمنضود فی احکام الحدود/ محمدرضا الگلپایگانی؛ بقلم علی الکریمی الجهرمی

مشخصات نشر : قم: دار القرآن الکریم، 1412ق. = 1370.

مشخصات ظاهری : ج.نمونه

شابک : 2600ریال(ج.1)

يادداشت : جلد سوم (چاپ اول: 1417ق. = 1375)؛ 10000 ریال

یادداشت : کتابنامه: ج. 1. به صورت زیرنویس

موضوع : حدود (فقه)

شناسه افزوده : کریمی جهرمی، علی، . - 1320

رده بندی کنگره : BP195/6/گ 8د4 1370

رده بندی دیویی : 297/375

شماره کتابشناسی ملی : م 71-1147

الجزء الأول

«كلمة المؤلف»

إنّ صلاح حال الأمّة، و تفجّر استعدادات الإنسان المكنونة في ذاته انّما يتحقّق في ظلّ اعتناقه للدين، و مراعاة انظمة الشارع الحكيم و التسليم المحض لتشريع المولى سبحانه و تعالى.

و الدين هو مجموعة القوانين السماويّة و الأوامر الالهيّة الّتي هي مناهج راقية ضامنة لسعادة الإنسان، و هدايته الى كماله المطلوب، و عليه فان انحراف الإنسان عن الدين مساو لهلاكه و انهياره و إذا فقد دينه فإنّه يواجه الاخطار العظيمة، بل لا خطر على المجتمع الإنساني أعظم من الفوضىٰ و اللّادينيّة و الخروج عن نظام الدين و الاستخفاف بشأنه.

أجل، أنّه أخطر ما يمكن ان يواجهه الإنسان، و ذلك لانّه يمسخ شخصيّة الإنسان السامية و يوجب سقوطه من ذروة الإنسانيّة إلى حضيض البهيميّة العمياء.

انّ خروج الإنسان عن دائرة دين اللّه خروج في الحقيقة عن السلالة المختارة الّتي اختارها اللّه له و خلق العالم كلّه لأجلها [1] و دخوله في السلالة التي نبذها اللّه سبحانه و خلقها حطبا للجحيم و وقوداً للنّار، قال اللّه تعالى:

«وَ لَقَدْ ذَرَأْنٰا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لٰا يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لٰا يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لٰا يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ

هُمْ أَضَلُّ أُولٰئِكَ هُمُ الْغٰافِلُونَ» «1».

______________________________

[1] ففي الأحاديث القدسيّة: يا بن آدم خلقت الأشياء لك و خلقتك لأجلي.

______________________________

(1) سورة الأعراف الآية 179.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 5

و الحقّ انّ الإنسان لولا الدين لم يكن شيئاً سوى صورة إنسان فلذا اهتمّ خالق الإنسان العطوف عليه، العالم بما فيه صلاحه و فساده و خيره و شرّه، بأمر دينه الذي هو العنصر الأصلي في حياته، فخلق الجنّة لمن أطاع اللّه و راقب ربّه و واظب علىٰ مراسم العبوديّة، قال سبحانه.

«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبٰادِنٰا مَنْ كٰانَ تَقِيًّا» «1».

و خلق النار لمن عصاه و خالفه و خرج عن زي العبوديّة و نظام الطاعة و قرّر عقوبات عظيمة على التخلّف عن تلك البرامج العالية و المناهج القويمة الراقية، و علىٰ عصيان العباد في أوامره و نواهيه، و قال تعالى:

«وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» «2».

و قال سبحانه:

«وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ، وَ لٰا يَكٰادُ يُسِيغُهُ. وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرٰائِهِ عَذٰابٌ غَلِيظٌ». «3»-

«فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مٰا فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ، وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهٰا وَ ذُوقُوا عَذٰابَ الْحَرِيقِ» «4».

و لا شكّ انّ لهذا الوعيد و العقوبات المقرّرة في الآخرة أثراً محسوساً في تحذّر الإنسان و ارتداعه

عن المعاصي.

ترى انّ اللّٰه سبحانه بعد ان ذكر عذاب الآخرة في سورة «الرحمن» يقول: فبأي آلاء ربّكما تكذّبان، و بذلك يشير الى انّ ذكر عذاب اللّٰه ايضاً من أنواع نعم اللّٰه تعالى على عباده.

قال الطبرسي قدّس سرّه الشريف- عقيب قوله تعالى:

______________________________

(1) سورة مريم الآية 63.

(2)- سورة التوبة، 35- 34.

(3)- سورة إبراهيم، 17- 16- 15.

(4)- سورة الحج 22- 21- 20- 19.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 6

«يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ وَ نُحٰاسٌ فَلٰا تَنْتَصِرٰانِ فَبِأَيِّ آلٰاءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ» «1» اى باخباره إيّاكم هذه الحالة لتتحرّزوا عنها أم بغيره من النعم، فان وجه النعمة في إرسال الشواظ من النار و النحاس على الثقلين هو ما في ذلك لهم من الزجر في دار التكليف عن مواقعة القبيح و ذلك نعمة جزيلة انتهى. «2»

فلو لا النواهي و العقوبات لَاسترسل الإنسان في شروره و لما وقف عن فساده، بل لو لم يكن خوف عقاب الآخرة لغشيت العالم الرذائل و الأجرام، و تفاقم الاقدام على قتل النفوس و نهب الأموال و هتك الاعراض و الحرمات من كلّ من تمكن من ذلك، الّا القليل من ذوي النفوس الطاهرة العالية.

غير انّه ممّا لا يمكن إنكاره انّ هذا العامل مؤثّر في اجواء خاصّة و طبقات مخصوصة و هم الذين نفذ الايمان في قلوبهم، و اطمأنّوا بما وعد اللّٰه تعالى من الثواب و العقاب.

إذا فالخطر غير مستأصل من أصله و أساسه، و لا شي ء يمنع عن انتشار الجرائم، فلا بدّ من جعل عقوبة عاجلة تزجر الطبقات السافلة عن الاقدام على الشّر و الفساد.

و الشارع الحكيم لم يهمل هذه الجهة فقرّر عقوبات خاصّة على قسم من المعاصي، و يعاقب المجرم بها عاجلا قبل

العقوبة الآجلة في الدّار الآخرة، و ليست هذه العقوبات الّا الحدود المقرّرة في الشرع على المعاصي المعيّنة، و التعزيرات على ما سواها.

و بتقرير آخر: انّ النفوس بالنسبة إلى طاعة اللّٰه تعالى على ثلاثة أقسام، الأوّل: النفوس العالية القدسيّة المتّصلة بالملأ الأعلىٰ.

الثاني: النفوس الشريفة المؤمنة بالآخرة.

الثالث: النفوس السافلة الّتي لم يرسخ الايمان فيها عميقاً.

أمّا الفئة الاولى فيكفي في ارتدادهم عن معصية اللّه سبحانه عرفانهم باللّه تعالى و انّهم رأوه مستحقّا للطاعة فلذا لا حاجة في هذا المجال لأكثر من ذلك.

و امّا الفئة الثانية الذين لم يبلغوا ذاك المقام الرفيع، فإنّ الذي يردعهم عن

______________________________

(1) سورة الرحمن 36- 35.

(2)- مجمع البيان ج 5 ص 205.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 7

اقتراف الذنوب هو الخوف من النار و العقوبات الثابتة للعاصين.

و امّا الفئة الثالثة الذين لم ينالوا شيئاً من المقامين الأوّلين فلا يردعهم خوفهم من مقام الرب، و لا خوفهم النار، فلا بدّ في ارتداعهم من جعل عقوبة عاجلة دنيويّة، لأنّه لو لا ذلك لأكبّوا على المعاصي و اقترفوا الجرائم و الآثام، فلذا قرّر الشارع الحدود المقرّرة في الشريعة بلحاظ حال هذه الفئة السافلة.

«حكمة تشريع الحدود، في كلام الإمام أمير المؤمنين» يقول الإمام أمير المؤمنين على عليه السّلام:

عند بيان حكمة الأحكام: «فرض اللّه الايمان تطهيرا من الشرك، و اقامة الحدود إعظاما للمحارم.» «1»

وظيفة الامام و القائد إقامة الحدود من جملة وظائف الامام و قائد الأمّة المتولي لأمور المسلمين اقامة الحدود قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

«انّه ليس على الإمام إلّا ما حمل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النصيحة، و الأحياء للسنّة و اقامة الحدود على مستحقيها». «2»

الاشتكاء من تعطيل الحدود انّ تعطيل حدود

اللّٰه تعالى يتعقّب مصائب عظيمة و مشاكل شتّى، فلذا كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام يشكو أصحابه من عدم اهتمامهم بإقامة الحدود و إهمالهم هذا الأمر العظيم.

قال سلام اللّٰه عليه في الخطبة القاصعة.

«الا و قد قطعتم قيد الإسلام و عطّلتم حدوده و امتّم أحكامه» «3».

الجهاد لإقامة حدود اللّٰه تعالى: انّ الرمز الوحيد في تأكيد الشارع على الجهاد في سبيل اللّٰه هو احياء

______________________________

(1) نهج البلاغة، الحكمة 244.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 104.

(3) نهج البلاغة، الخطبة 234.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 8

ما اماته الطواغيت من أحكام اللّٰه و سننه، و اقامة حدود اللّٰه سبحانه في الأرض.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

«اللّهمّ انّك تعلم انّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شي ء من فصول الحطام و لكن لنردّ المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك». «1»

ترى انّه صلوات اللّٰه عليه كان يأسف على ما وقع على الأمّة الإسلاميّة من إهمال الدين و قطع علائق الإسلام و تعطيل حدود اللّٰه و أحكامه و يشكو من ذلك و يعيّر أصحابه عليه و كان صلوات اللّٰه عليه قد جاهد في سبيل اللّٰه و قاتل أعداء الدين لإحياء معالم الدين و اقامة ما عطّل من حدود اللّٰه فاذا كانت الأمّة الإسلامية المعاصرة أيضا غير مهمّة بإقامة الحدود فهم أيضا جديرون بان يلاموا على ذلك لوما عنيفا كما انّ على المجاهدين ان يجاهدوا و يبذلوا طاقاتهم لإحياء شعائر الدين و حدود اللّٰه في عباده و بلاده.

و مع الأسف فقد عطّلت اقامة الحدود طيلة أعوام كثيرة و ذلك لسلطة الطواغيت و تولّيهم أمور المسلمين، و قد

جنّدوا- خذلهم اللّٰه- جميع طاقاتهم لتدمير الإسلام و أحكامه و آدابه لأنّهم يريدون ان ترتدّ الشعوب المسلمة عن دينها و تتّخذ القرآن مهجوراً.

و مع ذلك كلّه فان بعض المراجع العظام و العلماء الموجّهين في بعض البلاد قد وفقوا لإقامة حدود اللّٰه تعالى قليلًا أو كثيراً خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة بايران.

ثم انّ أهميّة إقامة الحدود و عظم خطرها و جلالة أمرها و بالغ أثرها حملت الفقهاء الأكابر علىٰ تبيين أحكامها و إيضاح مواردها و أقسامها و ما يتعلّق بها، و بذلوا طاقاتهم كاملة في تحقيقها و تنقيح أدلّتها.

و من هؤلاء الفطاحل استأذنا الأفخم، فقيه الطائفة و زعيمها، المرجع الأعلىٰ و آية اللّٰه العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني مدّ ظله العالي، فإنّه- أدام اللّٰه بقاه- مع ضعف مزاجه و كثرة مشاغله و تحمّله لِاعَباء المرجعيّة الكبرىٰ شرع في تدريس الحدود و ابان مواضعها و بحثها بحثاً كاملًا جامعاً طوال سنين، فقد شرع دام ظلّه في هذه الأبحاث الشريفة يوم الأَحَد الخامس عشر من ذي الحجّة

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 131.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 9

الحرام سنة 1405 هجريّة إلى منتهى سنة 1410.

و من أعظم ما منّ اللّٰه سبحانه و تعالى علىّ ان وفّقني للاستفادة من دروسه الشريفة و ابحاثه العالية، و كنت بحمد اللّٰه و منّه مواظبا على حفظ إفاداته و ما كان يلقيه على جمّ غفير و جماعة كثيرة من العلماء و المجتهدين و الفضلاء و المشتغلين الذين كانوا يحضرون مجلس إفاضاته و تحقيقاته، حتّى كتبت في الحدود دفاتر و مجلّدات عديدة.

و قد طلب منّى عدة من العلماء الأعلام و الفضلاء الكرام ممّن حضروا تلك الدراسات و من لم يحضرها ان أقدّم

ما دوّنته الى الطبع كي يسهل وقوفهم على آرائه و بدائع إنظاره حول هذا الأمر الخطير الإسلامي فأجبت مسؤولهم، و ها أَنَا أقدّمها بين يدي حضرات العلماء و الفضلاء و قد سميّته ب «الدّرّ المنضود في أحكام الحدود».

و قد تكرّم سيّدي الأستاذ المرجع دام ظلّه و تفضّل علىّ بالتقريض المطبوع في صدر الكتاب.

أرجو المولى الكريم ربّ العالمين، الذي هداني لهذا، ان يجعله أثراً نافعاً و ان كان فيه خلل و خطأ فإنّ الإنسان محلّ السهو و النسيان، الّا من عصمهم اللّٰه من الزلل، و آمنهم من الخطأ و جعل بيوتهم مهابط وحيه و مختلف ملائكته و سكّان سماواته.

قال اللّٰه جلّ جلاله:

«إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». «1»

و في الخبر انّه شاجر علىّ بن الحسين عليهما السّلام بعض الناس في مسئلة من الفقه، فقال عليه السّلام.

«يا هذا لو صرت الى منازلنا لأَريناك آثار جبرئيل في رحالنا ا فيكون أحدٌ أعلم بالسّنّة منّا؟ «2».

______________________________

(1) سورة الأحزاب الآية 33.

(2) نزهة النواظر للحلوانى من أعلام القرن الخامس ص 94.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 10

و سئل عليّ بن الحسين عليه السّلام:

«بأيّ حكم تحكمون؟ قال: بحكم آل داود، فان عيينا عن شي ء تلقّانا به روح القدس». «1»

محرّم الحرام 1412 ه- على الكريمي الجهرمي

______________________________

(1) كشف الغمّة في معرف الأئمة ج 2 ص 113.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 12

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه و أشرف بريّته ابى القاسم محمّد و على أهل بيته الطيّبين الطاهرين المعصومين و لعنة اللّٰه علىٰ أعدائهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين «1»

______________________________

(1) كان سيّدنا

الأستاذ الأكبر دام ظلّه يفتتح دروسه العالية بهذه الخطبة الشريفة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 13

الكلام في الحدود

اشارة

و قبل الشروع في البحث و تعريف الحدود أسبابه نتبرّك بذكر بعض الروايات الواردة في أهميّة إجراء الحدود و الفوائد الكثيرة المترتّبة علىٰ ذلك:

عن محمد بن يعقوب. عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

انّ في كتاب علي عليه السّلام انّه كان يضرب بالسوط و بنصف السوط و ببعضه في الحدود و كان إذا اتى بغلام و جارية لم يدركا لا يبطل حداً من حدود اللّٰه عزّ و جلّ. قيل له: و كيف كان يضرب؟ قال: كان يأخذ السوط بيده مِن وسطه أو من ثلثه ثم يضرب به علىٰ قدر أسنانهم و لا يبطل حدّاً من حدود اللّٰه عزّ و جلّ [1].

و عن حنان بن سدير قال «1»: قال أبو جعفر عليه السّلام: حدّ يقام في الأرض

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1. و الأسنان جمع السن قال الفيومي في المصباح المنير:. و السن إذا عنيت بها العمر مؤنّثة أيضاً لأنّها بمعنى المدّة انتهىٰ ثم ان التّقيّ المجلسي رضوان اللّٰه عليه قال في شرح هذا الخبر: انّه كان يضرب بالسوط في البالغ مثلًا و بنصف السوط و ببعضه في الصبيّ مثلًا بان كان عليه السلام يضربهم في القذف ثمانين و لكن كان يضرب بثلثي السوط لمن كان قريبا من البلوغ و بنصفه لمن كان أبعد و هكذا و ربّما كان يضربهم بالسوط تاماً و لكن كان ينقص من العدد و ربّما كان ينقصهما معاً و تقدّم ان التعزير منوط برأى الامام و كان يعزّر بحسب حالاتهم في السنّ و

القوّة و الضعف و العقل انتهى: راجع روضة المتّقين الجلد 10 الصفحة 203.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 14

أزكى فيها من مطر أربعين ليلة و أيّامها «1».

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: في قول اللّٰه عزّ و جلّ: يحيي الأرض بعد موتها، قال: ليس يحييها بالقطر و لكن يبعث اللّٰه رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل، و لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً «2».

القطر، بالفتح، المطر، فيه، اى في العدل.

و عن السكوني عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: اقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً «3».

عن حفص بن عون رفعه قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ساعة إمام عادلٍ أفضل من عبادة سبعين سنة و حدّ يقام للّٰه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً «4».

عن ابى بصير عن عمران بن ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه في حديث طويل انّ امرأة أتت أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّت عنده بالزنا اربع مرّات قال:

فرفع رأسه الى السماء و قال: اللّهم انّه قد ثبت عليها اربع شهادات و انكّ قد قلت لنبيّك صلّى اللّٰه عليه و آله فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطل حدّاً من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادّتي «5».

و عن حمران قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أقيم عليه الحدّ في الدنيا أ يعاقب في الآخرة؟ فقال: اللّٰه أكرم من ذلك «6».

ثم انّ هذه الروايات الشريفة ظاهرة جدّاً في انّ الحدّ هو

نفس العقوبة لا ماله العقوبة علىٰ ما ذكره في الشرائع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 4.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 5.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 6.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من مقدّمات الحدود الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 15

و نظيرها في الدلالة علىٰ ذلك بل و أصرح منها خبر علىّ بن رباط عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: انّ اللّٰه عزّ و جلّ جعل لكلّ شي ء حدّاً و جعل علىٰ من تعدّى حدّاً من حدود اللّٰه عزّ و جلّ حدّاً و جعل ما دون الأربعة الشهداء مستوراً على المسلمين «1».

و ذلك لانّ قوله عليه السلام: انّ اللّٰه جعل لكلّ شي ء حدّاً، ظاهر غايته في انّ الحدّ عقوبة مجعولة على الشي ء و هو المعصية الخاصّة مثلًا لا نفسها.

و مثل ذلك خبر عمرو بن قيس قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: يا عمرو بن قيس أَشعرت انّ اللّٰه أرسل رسولًا و انزل عليه كتاباً و انزل في الكتاب كلّ ما يحتاج اليه و جعل له دليلًا يدلّ اليه و جعل لكلّ شي ء حدّاً و لمن جاوز الحدّ حدّاً؟ قال: انّ اللّٰه حدّ في الأموال ان لا تؤخذ الّا من حلّها فمن أخذها من غير حلّها قطعت يده حدّاً لمجاوزة الحدّ و انّ اللّٰه حدّ ان لا ينكح النكاح الّا من حلّه و

من فعل غير ذلك ان كان عزباً حدّ و ان كان محصناً رجم لمجاوزته الحدّ «2».

و خبر عمرو بن القيس الماصر عن ابى جعفر عليه السلام قال: انّ اللّٰه تبارك و تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة الّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله [و جعل لكلّ شي ء حدّاً و جعل عليه دليلا يدلّ عليه] و جعل علىٰ من تعدّى الحدّ حدّاً «3».

وضع الحدود في الماضي و الحاضر

ثم انّ ممّا يورث الأسف أنّ الحدود- مع عظم خطرها و شأنها و اهميّتها الخاصّة و كونها ممّا تترتّب عليها فوائد كثيرة و نتائج جليلة و اناطة حياة المجتمعات و سعادة الأمم بها- قد كانت معطّلة طيلة أعوام و أعصار خصوصاً

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من مقدّمات الحدود الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 16

في الأزمنة الأخيرة و عصر حكومة الطاغوت المقبور و ان كان بعض العلماء ربما يقدمون على ضرب بعض مرتكبي المعاصي و الفجور الّا انّ ذلك كان من باب التأديب لا من باب اجراء الحدود.

نعم قد رأيت مرّة واحدة أنّه أقيم حدّ من حدود اللّٰه تعالى و ذلك عند ما كنت مشتغلًا بالتحصيل في حوزة أراك قبل تأسيس الحوزة العلميّة بقم [1].

و قد اجرى هذا الحدّ بإقدام الأعاظم من العلماء الذين كانوا يومئذ في أراك كشيخنا الأستاذ الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري [2] و الآقا نور الدين الاراكى [3] و غيرهما رضوان اللّٰه عليهم و ذلك بعد ان بذلوا جهودهم و طاقاتهم و تحملو الشاق

و المتاعب و جدّوا كمال الجد و طال الأمر و اشتدّ الجدال و لكنّهم قد وفقوا لذلك و صلب المجرم اللعين على رؤس الاشهاد خذله اللّٰه و أخزاه [4].

______________________________

[1] أقول: كان بعض العلماء قد اقام الحدود الشرعيّة و ذلك مثل وحيد الأيّام السيد محمّد باقر الشفتي الأصفهاني المشتهر بحجّةِ الإسلام، على الإطلاق المتوفّىٰ سنة 1260 ه قدّس سرّه الشريف فإنّه قد اقام حدوداً كثيرا حتّىٰ قيل: بلغ عدد من اقام عليهم الحدّ ثمانين و على قول: تسعين و في قول ثالث: عشرين و مأة شخصاً فراجع الفوائد الرضوية الصفحة 427 و قد ذكرنا شطراً ممّا يناسب المقام في كتابنا: سيماء عباد الرحمن الصحفة 92 فراجع إذا شئت.

[2] هو الآية العظمى شيخ مشايخنا الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر المهرجردي اليزدي الحائري، قال العلّامة التهرانى: فقيه جليل و عالم كبير و زعيم ديني شريف. ولد في مهرجرد من قرى يزد في سنة 1276 ه، و في رجب سنة 1340 هبط مدينة قم المشرّفة بدعوة بعض رجال العلم فيها رغبةً في إحياء أمرها الغابر. و توفّى ليلة السبت 17 ذي القعدة سنة 1355 ه، فثلم الإسلام بموته و خسر المسلمون به زعيماً كبيراً و ركناً ركيناً. نقباء البشر الجلد 3 الصحة 1158.

و في أحسن الوديعة- 2- 118: هو اليوم ادام اللّٰه وجوده و نفع الفقراء بفيض جوده في قم بل في إيران بل في جميع البلدان عزّ الشيعة و ما حي البدعة و الشنيعة.

[3] هو العلّامة الفهامة وحيد عصره. آية اللّٰه في العالمين السيد نور الدّين الحسيني العراقي طاب ثراه. ولد في بلدة أراك سنة 1278 ه، و ارتحل في رجب 1341 و كان فقيها متتبّعا أصوليّا

دقيقاً و متكلّما حكيما و عارفاً و مرجعاً وحيداً للفتوىٰ. راجع مقدمة تفسير: القرآن و العقل.

[4] قال دام ظلّه: أصل الواقعة انّ رجلًا خبيثاً من الفرقة الضّالّة المضلّة قد أقدم على إحراق القرآن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 17

و لكن بعد نجاح الثورة الإسلامية الايرانيّة و انتصارها بقيادة العلماء الأعلام فقد أقيمت حدود كثيرة من حدود اللّٰه عقيب المحاكمات الشرعية و الحمد اللّٰه و له الشكر على هذا.

و ان كان قد يصدر و يقع أحياناً ما يوجب الأسف من اجراء بعض الحدود في غير موقعه و من غير اهله و نسئل اللّٰه تعالى الاستقامة في الأمور و التثبّت في أمر الدين و عدم الابتلاء بالاعوجاج و الانحراف، و النجاة و الحفظ من كلّ زيغ و زلّة.

______________________________

الكريم فصلبوه عياناً اجراءً لحدّ الارتداد و الإهانة بالمصحف الشريف و قد شاهدت بنفسي ذاك الخبيث و هو مصلوب، هذا.»

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 18

الحدّ و التعزير

الحدود جمع الحدّ و الحدّ لغةً بمعنى المنع [1]. و بمعنى منتهى الشّي ء يقال: داري محدودة من جوانبها الأربع بكذا، يعنى انّ منتهاها مجاورة له، و ذكروا لها معاني أخر أيضاً و ان كان أكثرها من باب بيان موارد الاستعمال دون ما وضع له اللفظ. كما انّه قد كثر استعماله في القرآن الكريم بمعنى ما حدّده اللّٰه و قدّره من الأحكام من الصوم و الطلاق و معاشرة النساء و الإرث و غير ذلك. قال اللّٰه تعالى بعد ذكر الطلاق و أحكامه و العدّة و دفع الصداق: تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَعْتَدُوهٰا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ [2]. الىٰ غير ذلك من الآيات الكريمة.

______________________________

[1] قال الفيومي في المصباح

المنير: الحدّ في اللغة الفصل و المنع فمن الأوّل قول الشاعر: و جاعل الشمس حدّاً لا خفاء به، و من الثاني: حددته عن أمره، إذا منعته، فهو محدود.

[2] سورة البقرة الآية 299، أقول: و من تلك الآيات قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اللّٰهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ يُبَيِّنُهٰا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ البقرة- 230.

و منها قوله تعالى: وَ لٰا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي الْمَسٰاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَقْرَبُوهٰا. البقرة- 187.

و منها قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ. النساء 13- 14 و منها قوله تعالى: وَ الْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ سورة التوبة- 112.

و منها قوله تعالى بعد بيان كفّارة الظهار: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ سورة المجادلة- 4.

و منها قوله تعالى بعد ذكر عدّة الطلاق: وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 19

و لعلّ إطلاق الحدود علىٰ أحكام اللّٰه تعالى و قوانينه لأجل أنّها الخطط النهائية التي لا يجوز التعدّي عنها و الإهانة بها. هذا بحسب اللغة.

و امّا بحسب الشرع- و ان شئت تقول: في الاصطلاح- فقد عرّفها المحقّق فقال في الشرائع: كلّ ما له عقوبة مقدّرة يسمّى حدّاً و ما ليس كذلك يسمّى تعزيراً.

و قد سمّى الحدود الشرعية حداً بمناسبة معنى المنع

و الدفع و ذلك لانّ الحدود تمنع المرتكب للمعصية عن العود الى ارتكابها ثانيا و يمنع غيره عن الارتكاب و الاقتحام فيها.

فكما انّ الايمان بالآخرة و الخوف من العذاب الأليم و نار الجحيم يمنع الإنسان عن ارتكاب المعاصي و إتيان القبائح كذلك الحدود المقررة في الشرع على المعاصي في الدنيا تردّه و تمنعه عن الاقدام على الذنوب مخافة إقامتها و إجراءها عليه عقيب إتيانه بالمعاصي الخاصّة و تلبّسه بها و اقدامه عليها لكونها موجبة له.

و يمكن ان يكون تلك التسمية بلحاظ المعنى الثاني اللغوي له و بمناسبة انّ للحدود انتهاءً لا يجوز التعدي عنه.

ثم انّ التعريف الذي ذكره المحقق لا يخلو عن تسامح و ذلك لانّ ماله عقوبة هو نفس المعصية الخاصّة و هي ليست حداً و انّما الحدّ هو ما أوجبتها المعصية الخاصّة، و الظاهر في تعريف الحدّ هو ما ذكره الأعلام الثلاثة صاحبوا التنقيح و المسالك و الرياض رضوان اللّٰه عليهم أجمعين.

فقال الفاضل المقداد السيوري بعد ان ذكر معنى الحدّ لغة:

و شرعاً عقوبة تتعلّق بإيلام البدن عيّن الشارع كميّتها. انتهىٰ «1».

______________________________

الطلاق- 1.

و قد يطلق على المعاصي كقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ فَلٰا تَقْرَبُوهٰا. البقرة- 187، أي المعاصي التي نهى اللّٰه عنها فلا ترتكبوها.

______________________________

(1) التنقيح الرائع الجلد 4 الصفحة 327.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 20

و قال الشهيد الثاني:. و شرعا عقوبة خاصّة تتعلّق بإيلام البدن بواسطة تلبّس المكلّف بمعصيةٍ خاصّة عيّن الشارع كميّتها في جميع افراده. انتهىٰ «1».

و قال السيّد: و شرعا عقوبة خاصّة تتعلّق بإيلام بدن المكلّف بواسطة تلبّسه بمعصيةٍ خاصّة عيّن الشارع كميّتها في جميع افراده. انتهى «2».

فترى انهم نصّوا علىٰ انّ الحد هو نفس العقوبة.

و ظهر أيضا من

تقييدهم الإيلام بكونه متعلّقاً ببدن المكلّف انّ الايلامات الروحية و السّب و اللعن و الحبس و التغريم و أخذ المال من احدٍ ليس من باب الحدّ و الّا فقد جعل الشارع على ارتكاب بعض المعاصي الكفّارة المعيّنة كإطعام ستّين مسكينا مثلًا.

و قولهم: تتعلّق بإيلام البدن انتهى لخروج مثل السجن و التغريب و ما أشبه ذلك ممّا يتعلّق بالمكلّف و لكن لا يكون من باب إيلام بدنه.

و قولهم: تتعلّق بإيلام البدن انتهى لخروج مثل السجن و التغريب و ما أشبه ذلك ممّا يتعلّق بالمكلّف و لكن لا يكون من باب إيلام بدنه.

و قولهم: قد عيّن الشارع كميّتها، قيد لإخراج التعزيرات فلا بدّ في الحدّ من ان تكون العقوبة المذكورة معيّنة على لسان الشرع القويم.

و امّا التعزير فهو في اللغة التأديب [3] و في الشرع عقوبة لا تقدير لها شرعاً و انّما أمره موكول الى نظر الحاكم بحسب ما يراه من المصلحة.

و لا يخفى انّ هذا أمر غالبيّ و الّا فقد أطلق التعزير على عقوبة خاصّة معيّنة أيضاً في بعض الموارد فان من جامع امرأته في نهار رمضان و هما صائمان يضرب كل واحد منهما خمسة و عشرين سوطاً فهذا من أقسام التعزيرات مع كونه معيناً محدوداً و لعلّ ذلك لكونه أقل من الحدّ. و على الجملة فمهما لم تقدّر العقوبة شرعاً تسمّى تعزيراً.

قال الشهيد الثاني في تعريف التعزير: عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل

______________________________

[3] أقول: و قد يجي ء بمعنى النصرة و التعظيم كما في قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ. سورة الفتح الآية 9، راجع المصباح المنير و مجمع البيان.

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 423.

(2) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 463.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 21

الشرع غالباً «1».

فقد ذكر في تعريفه انّ عدم التقدير غالبيّ و قيّد ذلك بقوله: غالباً، و لكنّ الآخرين لم يذكرا هذا القيد.

و وجه اضافة هذا القيد هو ما تقدّم من وجود موارد قد عيّن فيها مقدار التعزير كالحدّ بعد انّ الأصل فيه عدم التقدير، و ذلك لورود روايات بتقدير بعض افراده و قد أحصاها في المسالك و عدّها خمسة: الأوّل: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان فهو مقدّر بخمسة و عشرين سوطاً. الثاني: من تزوّج امةً على حرّة و دخل بها قبل الاذن ضرب اثنا عشر سوطاً و نصفاً ثمن حدّ الزاني.

الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين مقدّر بثلاثين إلى تسعة و تسعين على قول. الرابع: من افتضّ بكراً بإصبعه قال الشيخ: يجلد من ثلاثين إلى سبعة و سبعين. و قال المفيد: من ثلاثين الى ثمانين. و قال ابن إدريس: من ثلاثين إلى تسعة و تسعين. الخامس: الرجل و المرأة يوجدان في لحاف واحد و إزار مجرّدين يعزّران من عشرة إلى تسعة و تسعين. قاله المفيد و أطلق الشيخ التعزير. و قال في الخلاف: روى أصحابنا فيه الحدّ انتهى كلامه زيد في علوّ مقامه «2».

و امّا وجه عدّ هذه الموارد من باب التعزير مع ورود مقدّر خاص فيها فهو إطلاق ذلك في بعض الروايات.

و لا يخفى انّ أكثر هذه الموارد داخلة في قاعدة التعزير و معياره و ذلك لانّه و ان ذكر و عيّن فيه طرفا هذا المقدّر الّا انّ الأمر في اختيار ما بين الطرفين موكول الى نظر الحاكم و هذا غير ما قدّر مقدار العقوبة معيّناً بلا زيادة أو نقصان و بلا تخيير في مراتب العقوبة

الذي يسمّى بالحدّ اصطلاحاً.

و تطهر الثمرة في مثل ما ورد من عدم الاقتداء بالإمام الذي أقيم عليه الحدّ مع كونه قد ارتكب سابقاً ما يوجب واحدةً من هذه المقدّرات كما إذا كان قد

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 223.

(2) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 423.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 22

جامع زوجته في نهار شهر رمضان و ضرب خمسة و عشرين سوطاً فإنّه لو كان هذا المقدّر من باب التعزير فلا بأس بإمامته و الايتمام به بخلاف ما لو كان من باب الحدّ- لكون المقدار المزبور معيّناً معلوماً- فإنّه لا يجوز الاقتداء به.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 23

الكلام في أسباب الحدّ

ثم انّ البحث هنا في ذكر أسباب الحدّ و التعزير.

قال المحقّق بعد بيان تعريفهما: و أسباب الأوّل ستّة: الزنا، و ما يتبعه، و القذف، و شرب الخمر، و السرقة، و قطع الطريق. و الثاني أربعة: البغي، و الردّة، و إتيان البهيمة، و ارتكاب ما سوى ذلك من المحارم.

و يرد عليه كما في المسالك بأنّ عقوبة الباغي اى المحارب ليست من باب التعزير بل هي من الحدود كما انّه المعروف بين الفقهاء. و لا ينافي ذلك كون الحدّ مقدّراً لانّ عقوبته و هي القتل أيضاً مقدّرة بإزهاق الروح امّا مطلقاً أو علىٰ وجه مخصوص.

و هنا كلام آخر و هو عدم الملائمة بين الأمور الأربعة المتعلّقة بالتعزير و ذلك لانّ الرابع منها و هو: ارتكاب ما سوى ذلك من المحارم، قد جعل قسيماً للثلاثة المتقدّمة و الحال انّها من اقسامه و افراده.

و لعلّ ذلك لكون هذه الثلاثة منصوصة من الشارع بخصوصها و الّا فالمعيار هو الإتيان بشي ء من المحرمات إذا لم ينصب الشارع

له حدّاً، فذكر المحارم بعد الثلاثة في حكم قوله: ارتكاب واحد من هذه الثلاثة أو معصيةٍ أخرىٰ غيرها.

و لا يخفى انّه و ان كان المصطلح من الحدّ هو القدر المعيّن من العقوبة الّا انه قد يطلق أيضا علىٰ مجرّد العقوبة و ان لم تكن محدودة بحدّ معيّن و مقدّرة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 24

بمقدار مخصوص.

و حينئذ يأتي البحث في انّه هل تجري الأحكام المتعلّقة بالحد، في مطلق العقوبات الّتي أطلق عليها الحدّ و كان موضوعها ذلك، أم لا و ذلك كعدم اليمين في الحدّ و انّ للإمام العفو عن الحدّ الثابت بالإقرار دون البيّنة، و عدم الشفاعة في الحدّ و غير ذلك من الأحكام، فهل هي أحكام تختصّ بالحدّ المصطلح المشهور أو تعمّه و ما أطلق عليه الحدّ؟

الظاهر انّه لو ثبت كون الموضوع له للحدّ هو مطلق العقوبة فهناك تجري فيها كلّ الأحكام و كذا لو كانت هناك كثرة استعمال بها تنصرف اللفظ اليه.

اما لو كان ذلك مشكوكا فمقتضى القاعدة الاقتصار في ترتيب الأحكام المزبورة على الموارد المخصوصة أي الأمور السّتة خاصّة دون مطلق موارد العقوبة.

ثم انّ صاحب الجواهر رضوان اللّٰه عليه قال: لا كلام في كون المقدّرات المزبورة حدوداً انّما الكلام في اندراج ما لا مقدّر له شرعاً تحت اسم الحدّ الذي هو عنوان أحكام كثيرة في النصوص كدرء الحدّ بالشبهة و عدم اليمين في الحدّ و عدم الكفالة فيه و للإمام العفو عن الحدّ الثابت بالإقرار دون البيّنة و عدم الشفاعة في الحدّ و غير ذلك و عدم اندراجه. الى آخر كلامه «1».

أقول: الظاهر انّه لا ثمرة بالنسبة إلى درء الحدود بالشبهة. و ذلك لأنه لا تجوز عقوبة احدٍ

بدون دليل شرعي و قبل ان يثبت موجبها شرعاً سواء كانت هذه العقوبة مقدّرة معيّنة التي تسمّى بالحدّ أو غير مقدّرة الموسومة بالتعزير، فالعقوبة مع الشبهة غير جائرة مطلقا و ان كانت بعنوان التعزير، و الأصل عدم جوازها ما لم ترفع الشبهة بكاملها. و لا فرق في المفاد بين أصل عدم جواز العقوبة قبل إثبات موجبها و بين ما ورد من درء الحدود بالشبهات «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 256.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من مقدّمات الحدود الحديث 4 و لفظه: ادرءوا الحدود بالشبهات.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 25

و هذا الاشكال جار في كثير من الموارد المذكورة و ذلك كعدم اليمين في الحدّ فإنّه و ان كان كذلك لما ورد من الروايات الدالّة عليه مثل ما رواه أحمد بن محمد بن ابى نصر عن بعض أصحابنا عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: اتى أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني و لم تكن له بيّنة فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه فقال: لا يمين في حدّ و لا قصاص في عظم «1».

و لكن لو كان المراد هو يمين المنكر- كما هو الظاهر- فلا فرق فيه أيضا بين الحدّ و التعزير لأنّه إذا ادّعى احدٌ على غيره ما يوجب عقوبة فإن أقام العدد المعتبر في الشهادة فهو و الّا فلا يحلف المنكر على عدم إتيانه بما يدّعيه المدّعى، و لا تحوز عقوبته الّا مع اقامة الشهود أو إقرار المنكر سواء أ كانت حدّا أو تعزيرا.

و هكذا عدم الكفالة في الحدّ فهو و ان كان صحيحا لورود أخبار في ذلك كقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: لا كفالة في حدّ

«2» الّا انّ الظاهر انّه لا وجه للكفالة في التعزير أيضا بعد ان كانت العقوبة ثابتة عليه.

و كذا عدم الشفاعة في الحدّ فإنّه و ان دلّت جملة من الاخبار «3» على ذلك لكن لعلّه لا فرق فيه بين الحدّ و التعزير. و تفصيل المطلب و تحقيقه موكول الى محلّه و محتاج الى مزيد تأمّل.

فيبقى عفو الامام عن الحدّ الثابت بالإقرار دون البيّنة الذي وردت به الاخبار «4» فهناك تظهر الثمرة بين كون التعزير حدّا أيضا فإنّ للإمام العفو عن مطلق العقوبة، و عدم كونه حدّا بان يكون الحدّ موضوعا للعقوبة المقدّرة فله العفو عن ذلك إذا كان قد ثبت موجبها بالإقرار دون البيّنة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 21 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 20 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1 و 2 و 3 و 4.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 26

الكلام في الزناء

اشارة

قال المحقّق: الباب الأوّل في الزناء و النظر في الموجب و الحدّ و اللواحق امّا الموجب فهو إيلاج الإنسان ذكره في فرج امرأة محرّمة عن غير عقد و لا شبهة و لا ملك و يتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قبلا أو دبرا.

و في الجواهر عند ذكر لفظ الزناء: الذي يقصر فيكتب بالياء و يمدّ فيكتب بالألف المجمع على تحريمه في كلّ ملّة حفظا للنسب، و لذا كان من الأصول الخمسة التي يجب تقريرها في كلّ شريعة.

أقول: المراد من الأصول الخمسة: الدين و العقل و النفس و النسب و المال و يقال

لها المقاصد الخمسة أيضا [1].

ثم انّ المحقّق قد أضاف و نسب الإيلاج إلى الإنسان و عبّر ب- إيلاج

______________________________

[1] أقول: ذكرها الشهيد الأوّل في القواعد و الفاضل المقداد في نضد القواعد الفقهيّة. قال في الأوّل الصفحة 6: الوسيلة الرابعة ما هو وصلة الى حفظ المقاصد الخمسة و هي: النفس و الدين و العقل و النسب و المال، التي لم يأت تشريع الّا بحفظها، و هي الضروريّات الخمس، فحفظ النفس بالقصاص و الدّية و الدّفاع، و حفظ الدّين بالجهاد و قتل المرتدّ، و حفظ العقل بتحريم المسكرات و الحدّ عليها، و حفظ النسب بتحريم الزنا و إتيان الذكران و البهائم، و وجوب الحدّ بالقذف على ذلك، و حفظ المال بتحريم الغصب و السرقة و الخيانة و قطع الطريق، و الحدّ و التعزير عليها انتهى ثم لا يخفى انّ الزنا من الكبائر التي نصّ على تحريمها الكتاب قال اللّٰه تعالى: وَ لٰا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلًا. سورة الإسراء، الآية 32 و قال تعالى: وَ الَّذِينَ لٰا يَدْعُونَ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لٰا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ لٰا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً. سورة الفرقان- 69- 68.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 27

الإنسان، دون إيلاج الرجل، و الحال انّ المتبادر منه في الأذهان هو الثاني.

و يمكن ان يكون نظره في العدول و التعبير ب- الإنسان، دون الرجل الى شمول التعريف للخنثى أيضا بناء على صدق (الذكر) على آلته أيضا و عدم كونها عضوا زائدا.

قال الشهيد الثاني بشرح العبارة: و يدخل في الإنسان الصغير و الكبير و

العاقل و المجنون فلو زاد فيه المكلّف كان أجود.

و كانّ غرضه رحمه اللّٰه انّ التعريف غير مانع لشموله للصغير و المجنون بل و المكره- كما ذكره أيضا بعد ذلك- و الجاهل كشموله للكبير و العاقل و المختار و العالم و لو كان قد زاد قيد (المكلّف) بان يقول: هو إيلاج الإنسان المكلّف إلخ لخرجت الموارد المذكورة عن التعريف و ذلك لعدم تكليف بالنسبة إلى الصغير و المجنون.

ثم صار بصدد الجواب عنه بأنّه: و يمكن تكلّف إخراجهما- أي إخراج الصغير و المجنون- بقوله في فرج امرأة محرّمة فإنّه لا تحريم في حقّهما، و قال بالنسبة إلى المكره: الّا ان يخرج بما يخرج به الأوّلان.

أقول: و فيه أوّلا انّه لو كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي لصحّ ذلك امّا لو كان المراد هو المحرّم بالذات و في الواقع فلا يتمّ ما ذكره و ذلك لانّ الوطي المزبور حرام شأنا و اقتضاء حتّى على الصغير و المجنون.

و ثانيا يمكن القول بأنّ الحرمة هنا وضعيّة لا تكليفيّة و الحرمة المختصّة بالبالغين غير الجارية بالنسبة إلى غيرهم هي الحرمة التكليفيّة، و امّا الوضعيّة منها فلا فرق فيها بين البالغين و غير البالغين.

و في الجواهر ردّا على المسالك: انّه في غير محلّه لأنّها على التقدير المزبور شرائط في الحدّ لا في تحقّق حقيقة الزناء انتهى.

و الذي يبدو في النظر انّ ما أورده غير وارد عليه و ذلك لانّ الكلام بمقتضى عقد الباب في الزنا الموجب للحدّ، و قد علمت انّ المحقّق عبّر هكذا: امّا الموجب فهو إيلاج إلخ و من المعلوم انّ الموجب للحدّ هو إيلاج الإنسان المكلّف

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 28

دون غيره كالصغير و

المجنون و على هذا فكلام الشهيد الثاني خال عن الاشكال من هذه الجهة.

ثم انّ ظاهر قول المحقّق و غيره: إيلاج الإنسان ذكره إلخ هو إيلاج الجميع، و مع ذلك ففي الشرائع بعد ذلك: و يتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة انتهى و ظاهره انّ الملاك هو الحشفة لا الزائد، و تمام الحشفة دون الناقص، و هم يريدون تطبيق الآية- الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ- على هذا. فيكون مصداق الزنا عندهم هو إدخال هذا الحدّ: فان وجد على ذلك دليل يعيّن انّ المعيار في تحقّق الزنا هو إدخال هذا الحدّ اى الحشفة فقط- كما انّهم يدّعون ظهور الاخبار في ذلك- فلا محالة يؤخذ به، و الّا فلو شكّ في المقدار الخاصّ المعتبر في الحدّ فالشبهة مفهوميّة. و انّى الى الآن لم أجد و لم أصادف لغة فارسيّة تفسّر لفظ الزنا العربي تفسيرا بسيطا لا مركّبا بان تفسّره بكلمة واحدة مبيّنة كي نقول انّ الزنا في العربي هو هذا المفهوم الفارسي نظير لفظ (آب) في الفارسية في قبال لفظ الماء في العربيّة، و حينئذ فيؤخذ بالقدر المتيقّن اى التمام و ذلك لإجمال اللفظ كما انّه لو تحقّق كفاية غيبوبة الحشفة و شكّ- لإجمال الحشفة- في انّ إدخال بعض الحشفة أيضا كافية أم لا فلا بدّ من الأخذ بالمتيقن الذي هو تمامها.

قوله: من غير عقد، يفيد انّه لو أولج في المرأة المحرّمة الّا انّه كان يعلم و يعتقد حليّته مثل ما إذا عقد على محارمه مثلا زاعما حلية ذلك لما كان هذا سبيا للحدّ كما انّه لو أولج فيها بلا عقد لكن مع الشبهة و الاعتقاد بالحليّة لما أوجب ذلك حدّا فالمراد كونه من دون عقد

مشروع لا مجرّد العقد كما سيأتي ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

و قوله: و لا شبهة، لبيان اعتبار كونه عالما بالحرمة لا معتقدا للحلّ جهلا مركبا فكأنّه قال: إذا كانت معلوم الحرمة، و على هذا فلا حدّ مع العلم بالحلّ موضوعا أو حكما و ان كان حراما في الواقع و هذا لا كلام فيه.

و امّا الظنّ بالحلّ ففي الرياض انّه كالعلم به قال مزجا: و امّا الزناء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 29

الموجب للحدّ فهو إيلاج الإنسان و إدخاله فرجه و ذكره الأصلي في فرج امرأة محرّمة عليه أصالة من غير عقد نكاح و لا متعة بينهما و لا ملك من الفاعل للقابل و لا شبهة دارئة (ثم قال:) و ضابطها ما أوجب ظنّ الإباحة بلا خلاف أجده و به صرّح في الغنية و لعلّه المفهوم منه عرفا و لغة «1».

ترى انّه جعل الضابط في الشبهة الدارئة ما أوجب ظنّ الإباحة مع انه لا يجري الأصل في الشبهة المصداقية أي فيما إذا شك مثلا في انّ المرأة الفلانيّة هل هي زوجة أو محلّلة أم لاكى يثبت الحلّ الّا انّ ظنّ الإباحة أوجب دفع الحدّ و هذا هو المورد للقاعدة و بدونها يجب الحدّ عليه.

ثم قال: و إطلاق العبارة و ان شمل غير المكلّف الّا انّه خارج بما زدناه من قيد التحريم. مع احتمال ان يقال: انّ التكليف من شرائط ثبوت الحدّ بالزنا لا انّه جزء من مفهومه فلا يحتاج الى ازدياد التحريم من هذا الوجه و ان احتيج اليه لتحقيق معنى الزناء لعدم تحقّقه عرفا و لغة إلّا به و الّا فدخول المجنون بامرأة مثلا لا يعدّ فيهما زناءا ما لم تكن المدخول

بها محرّمة عليه أصالة.

أقول: انّ ما ذكره- من انّ قيد التحريم في التعريف يوجب خروج غير المكلّف بعد انّ إطلاق العبارة شامل له- يتمّ إذا كان المقصود من المحرّمة، المحرّمة بالفعل، لعدم الحرمة الفعليّة بدون التكليف و قبل البلوغ أو مع الجنون و امّا لو كان المراد المحرّمة بالأصالة و ان لم تكن كذلك بالفعل، فغير المكلّف أيضا داخل في التعريف و مشمول للعبارة لصدقها على إيلاجه في امرأة تكون حراما عليه بالأصالة و ليست محرّمة عليه بالفعل.

ثم انّ ما ذكره أخيرا بقوله: و ان احتيج الى ازدياد التحريم لتحقيق معنى الزناء، لا يلتئم ظاهرا مع ما ذكره قبل ذلك بقوله: انّ التكليف من شرائط.

ثبوت الحدّ بالزنا لا انّه جزء من مفهومه، فان الصدر يفيد انّ التكليف ليس جزءا من مفهوم الزناء بل هو شرط في ثبوت الحدّ بخلاف الذيل فإنّه صريح في الحاجة الى قيد التكليف في تحقيق معنى الزناء.

______________________________

(1) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 463.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 30

ثم انّ الظاهر انّ ما ذكره أوّلا من عدم دخل التكليف في حقيقة الزنا و مفهومه و انّما هو معتبر في الحدّ و شرط له، لعلّه خلاف ما يظهر من الآية الكريمة فإنّ ظاهر قوله سبحانه الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» هو انّ تمام الموضوع في إجراء الحدّ هو كونه زانيا و كونها زانية، و بعبارة اخرى انّ المستفاد من الآية انّ الموجب للحدّ هو الزناء فكأنّ الشارع قد استعمل الزنا فيما هو موجب للحدّ الخاص.

و كيف كان فقد أورد عليه صاحب الجواهر بقوله: و فيه انّ ذلك لا يوجب الزيادة المزبورة، ضرورة تحقّق الإيلاج بامرأة

بلا عقد و لا ملك و لا شبهة و ان لم يكن في ذلك حرمة عليه لعدم التكليف الذي فرض عدم مدخليّته في تحقّق معنى الزناء الذي هو على التقدير المزبور وطي الأجنبيّة التي هي غير الزوجة و المملوكة عينا أو منفعة إلخ.

قوله: أو منفعة، أي ما كان تحلّ منفعتها، و المراد منه هو التحليل فان ملك المنفعة في الأمة لا يتصوّر الّا بالتحليل.

و حاصل إيراده عليه انّه لا وجه لزيادة القيد المزبور بعد كون الزنا هو الإيلاج بامرأة بدون عقد و لا ملك للعين و لا التحليل و ان لم تكن هناك حرمة- لعدم التكليف- ثم أورد عليه بانّ مقتضاه كون وطي الشبهة زناءا الّا انه لا يوجب الحدّ و ذلك لصدق التعريف المزبور عليه و هو مناف لمقابلته به في النكاح المقتضية لكونه وطي الأجنبية على انّها أجنبيّة، و لازم ذلك عدم كون الوطي بالشبهة داخلا في مفهوم الزنا أصلا.

ثم رتّب على ذلك أولوية إيكاله إلى العرف، فيكون الموضوع هو كلّما صدق عليه انّه زناء عرفا، و العرف يعرف المفهوم من الزنا و يرى انّ الزناء إتيان الرجل المرأة الأجنبيّة بعنوان أنّها أجنبيّة لا مع الاعتقاد بأنّها حليلة.

و لذا نرى انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قال لماعز بعد إقراره بالزنا اربع مرّات: أ تعرف الزنا؟ فقال: هو ان يأتي الرجل حراما كما يأتي أهله حلالا [2].

______________________________

[1] مسالك الجلد 2 الصفحة 425: فهل تدري ما الزّنا؟ قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته.

______________________________

(1) سورة النور، الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 31

هل يتحقّق الزنا بالوطي في دبرها؟

قال المحقّق: و يتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قبلا أو دبرا.

لكن قال ابن حمزة:

في الوطي في دبر المرأة قولان أحدهما ان يكون زنى و هو الأثبت و الثاني ان يكون لواطا انتهى «1» و قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: الزنا الموجب للحدّ هو وطئ من حرّم اللّٰه تعالى وطئه من النساء بغير عقد مشروع إذا كان الوطي في الفرج خاصّة دون ما سواه. انتهى «2» و قال شيخ الطائفة: الزنا الموجب للحدّ هو وطئ من حرّم اللّٰه تعالى وطئه من غير عقد و لا شبهة عقد و يكون الوطئ في الفرج خاصّة انتهى «3».

فمقتضى بعض هذه الكلمات هو اختصاص الزنا بالقبل.

و تظهر الثمرة في الأحكام الخاصّة المترتّبة على اللواط كإلقائه من شاهق مثلا.

و الظاهر انّ الزنا أعمّ من الإيلاج في القبل أو الدبر، و الفرج بحسب الظاهر أعمّ بالنسبة الى كلّ واحد منهما كما انّ ظاهر الروايات أيضا عدم الفرق بينهما.

ففي خبر حفص بن سوقة عمّن أخبره قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل يأتي أهله من خلفها قال: هو أحد المأتيّين فيه الغسل «4».

و في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: قال: سألته: متى يجب الغسل على الرجل و المرأة؟ فقال: إذا أدخله فقد وجب الغسل و المهر و الرجم «5».

______________________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة الصفحة 409.

(2) المقنعة الطبع الجديد الصفحة 774.

(3) النهاية الصفحة 688.

(4) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 73 من مقدّمات النكاح، الحديث 7.

(5) وسائل الشيعة الجلد 1 الصفحة 469 الباب 6 من أبواب الجنابة الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 32

فاذا كان الدبر أحد المأتيّين فيتحقّق الزنا بالدخول فيه أيضا كما انّ قوله عليه السلام: إذا أدخله إلخ يصدق على الإدخال فيه أيضا و يشمله، و على

الجملة فظاهر الإطلاقات نصا و فتوى هو عدم الاختصاص.

بل صرّح بعض العلماء رضوان اللّٰه عليهم بالتعميم و عدم الفرق بينهما قال ابن إدريس: الزنا الموجب للحدّ هو وطئ من حرّم اللّٰه تعالى وطيه من غير عقد و لا شبهة عقد و يكون الوطئ في الفرج، سواء كان قبلا أو دبرا بلا خلاف. «1»

و قال العلّامة أعلى اللّٰه مقامه: قال الشيخان و ابن البرّاج: حكم الزنا بالمرأة في الدبر حكم الزنا في القبل و هو المشهور أيضا و قال ابن حمزة: و في الوطي في دبر المرأة قولان أحدهما ان يكون زنا. و الثاني ان يكون لواطا و المشهور هو الأوّل فتعيّن المصير اليه «2».

و قال صاحب الرياض- بعد قول المحقق: قبلا أو دبرا- بلا خلاف أجده به «3».

ترى تصريح بعض كالعلّامة بأنه المشهور و الحلّي و صاحب الرياض بعدم خلاف أو خلاف أجده به [1].

حكم مقطوع الحشفة

ثم انّه لما كان المعتبر في تحقق الزنا هو غيبوبة الحشفة فهنا يأتي البحث في انّه لو كان مقطوع الحشفة فما هو المعتبر؟

و الظاهر الذي صرّح به غير واحد هو اعتبار قدر الحشفة من مقطوعها.

و ان أمكن الخدشة فيه بانّ ظاهر «ادخله» إدخال التمام غاية الأمر انه خرج منه ذو الحشفة خاصّة لترتّب الحكم فيه بالتقاء الختانين و بقي الباقي تحته.

______________________________

[1] أقول: و امّا تقييد الفرج بخاصّة في كلام الشيخين فلعله لإخراج مثل التفخيذ و في قباله.

______________________________

(1) كتاب السرائر الصفحة 428 الطبع الجديد الجلد 3.

(2) المختلف الصفحة 762.

(3) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 463.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 33

لكن فيه انّ الظاهر من التقاء الختانين الوارد في الروايات المترتّب عليه الأحكام هو بيان للمصداق العرفي من الدخول

لا انه مصداق له تعبّدا و عليه فلا فرق بين المقامين و يكفى مقدار الحشفة من الباقي في مقطوعها.

شروط تعلّق الحدّ

اشارة

قال المحقّق قدّس سرّه: و يشترط في تعلّق الحدّ العلم بالتحريم و الاختيار و البلوغ و في تعلّق الرجم مضافا الى ذلك الإحصان.

أقول: و يدلّ على اعتبار العلم أو ما هو قائم مقامه أي الحجّة من الاجتهاد و التقليد أمور:

منها الإجماع المحكي، و في الجواهر: بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلا عن محكيّه مضافا الى الأصل.

و منها قوله تعالى وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ثالثها ما رواه الصدوق مرسلا انه قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله:

ادرأوا الحدود بالشبهات «2».

و من اشتراط العلم يعلم وجه اشتراط العقل أيضا و انّه بدون ذلك لا يتعلّق به الحدّ فان المجنون لا علم له بالحرمة فلا تكليف عليه حتى يعاقب بمعصيته، و يأتي البحث في ذلك و معلوم انّ العقل من شرائط التكليف العامّة و هذا أحد الأمور التي يستدلّ بها في اعتبار العقل لإجراء الحدّ و محصّله انّه لو لا العقل لما كان هناك تكليف عقلا لعدم صلاحية الإنسان للتكليف بدون العقل.

و ثانيها حديث الرفع عن المجنون المنقول في الإرشاد عن أمير المؤمنين عليه السلام: انّ النّبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال: رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق «3».

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 15.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من مقدمات الحدود الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 34

فاذا كان التكليف مرفوعا عن المجنون على ما هو الظاهر منه فلا شي ء عليه.

و لو قيل: انّ المراد من الرفع

هو رفع العقاب الأخروي لا التكليف لقلنا:

يكفينا ذلك لانّ العقوبة الدنيويّة حينئذ مرفوعة بالأولويّة.

ثالثها الروايات الخاصّة كخبر حمّاد بن عيسى عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علىّ عليهم السلام: قال: لا حدّ على مجنون حتى يفيق و لا على صبيّ حتّى يدرك و لا على النائم حتّى يستيقظ [1].

و امّا الاختيار اى عدم الإكراه فهو معتبر أيضا في تعلّق الحدّ فمع الإكراه لا حدّ أصلا سواء كان المكره- بالفتح- المرية أو الرجل قد اكره من أيّ ناحية و ان كان من ناحية زوجته كما إذا كانت المرأة تتغلّب على زوجها و كانت قاهرة عليه.

و يدلّ على اعتبار الاختيار في ترتب الحدّ قوله تعالى في قصّة عمّار إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ [2].

حيث يدلّ على انّه لا بأس بالتكلم بكلمة الكفر مكرها إذا كان القلب مطمئنا بالايمان فكما ان الإكراه يبرّر التكلم بالكفر كذلك يسوّغ الزنا هذا مضافا الى انّ عدم سقوط الحد على الزنا مع الإكراه عليه من قبيل التكليف بما لا يطاق. فتحصّل انه لا بدّ من سقوط التكليف عن المكره.

و امّا البلوغ فهو شرط فيه بلا كلام و قد قام الإجماع بقسميه عليه و ذلك لعدم توجّه التكليف إلى الصبيّ كي يقام و يجرى عليه الحدّ و ان كان يجوز

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.

أقول: و امّا وجه عدم تعرض المصنف لشرط (العقل) فلعلّه لما يأتي في المتن من الخلاف فيه في الجملة.

[2] سورة النحل الآية 106.

أقول: و يدلّ على اعتبار الاختيار خبر الرفع و كذا الأخبار الكثيرة الواردة في الباب 18 من أبواب الزنا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 35

تعزيره و تأديبه و تربيته حتّى ينشأ على الصلاح و السداد و يجرى بعد بلوغه مجرى الصالحين، لكن هذا غير الحدّ، و حديث الرفع ناطق برفع قلم التكليف عن الصبي.

و على الجملة فهذه الشروط امّا اجماعيّة أو انه لا خلاف في اعتبارها [1] هذا كلّه في الحدّ و امّا الرجم فيشترط فيه مضافا الى جميع هذه الشرائط كونه محصنا و هو ان يكون له ما يغدو عليه و يروح و لا مانع له عن ذلك و قد قام على ذلك الإجماع و دلّت عليه النصوص كما يأتي ذلك في محلّه ان شاء اللّٰه تعالى.

و الحاصل انّه لا مورد للأخذ بإطلاق: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا إلخ، بل تلاحظ تلك الشرائط في إقامة الحدّ.

ثم انّ وجه اعتبار الشرط الزائد في الرجم هو انّه حدّ اللّٰه الأكبر بخلاف الجلد فإنّه حدّ اللّٰه الأصغر كما ورد التعبير بهما في الاخبار فراجع «1».

قال المحقّق: و لو تزوّج امرأة محرّمة كالأمّ و المرضعة و المحصنة و زوجة الولد و الأب فوطأ مع الجهل بالتحريم فلا حدّ.

أقول: كان البحث في شرائط الحدّ سواء كان لبعضها دخل في ماهيّة الزنا أم لا، و قد علمت انّ من جملتها العلم فيعتبر علم كلّ واحد منهما بالحرمة حتّى يجب عليه الحد فلو عقد على امرأة محرّمة عليه و وطأها جاهلا بالتحريم فلا حدّ.

ثم انّ لفظ الجهل مطلق يشمل الجهل المركّب و البسيط فتارة يكون الإنسان جاهلا بالحرمة و يرى نفسه عالما فهو قاطع بالحلّ، و اخرى لا يعلم الحكم و هو ملتفت الى عدم علمه بذلك.

و الجاهل الأصلي أي الجاهل بالجهل المركب قد يكون جاهلا

______________________________

[1] أقول: و هو أيضا من ألفاظ الإجماع و ان

كان يظهر من بعض الكلمات انّه ليس في رديف الإجماع الّا انّ الشيخ المرتضى قدّس سرّه صرّح بانّ نفي الخلاف لا يقصر عن نقل الإجماع فراجع المكاسب المحرّمة الصفحة 30 باب حفظ كتب الضلال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة جلد 18 باب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 36

بالحكم و اخرى بالموضوع فالأوّل كما إذا كان حديث العهد بالإسلام و كان قبل إسلامه يستحلّ نكاح المحارم مثلا و بعد لم يتوجّه لحرمة ذلك في الإسلام و ارتكب ذلك. و الثاني كمن وطئ الأجنبيّة معتقدا انّها حليلته.

و الجاهل بالجهل البسيط تارة يكون جهله هو الشك البدوي و اخرى مقرونا بالعلم الإجمالي و هو على قسمين فتارة يكون الشك و الشبهة في أطراف محصورة و اخرى في أطراف غير محصورة.

كما انّ الجهل البسيط قد يكون بمجرد الشك و اخرى مع الظن و ثالثة مع الوهم، لا شك و لا ترديد في سقوط الحد عن الجاهل بالجهل المركّب مطلقا سواء كان بالنسبة إلى الحكم أو الموضوع.

و انّما الإشكال في الجهل البسيط و قد اختلفت الأقوال في مسئلة الجهل فذهب بعض الى كون الجهل مطلقا بأي صورة كان مانعا عن تعلّق الحدّ و ان كان جهلا بسيطا سواء ا كان الجاهل شاكا في الحرمة أو ظانا بها أو واهما لها فمجرّد عدم العلم كاف في درء الحدّ.

و قال بعض آخر انّه لا حدّ مع الجهل المركّب و كذا مع الجهل البسيط إذا كان الجاهل ظانا بالحلّ واهما للحرمة فقط، و على هذا فالصورتان الباقيتان اى الجاهل الشاك و الجاهل الواهم للحلّ يتعلّق بهما الحدّ.

و قال الشهيد الثاني: ضابط الشبهة المسقطة للحدّ توهّم الفاعل أو

المفعول انّ ذلك الفعل سائغ له لعموم ادرءوا الحدود بالشبهات لا مجرّد وقوع الخلاف فيه مع اعتقاد تحريمه انتهى «1».

فاعتبر هو في درء الحدّ توهّم الجواز.

و لا ندري انّ مراده من التوهم هو التوهم المصطلح اى الاحتمال الذي هو دون الشك أو انّ مراده منه هو الظن بالجواز و على الأوّل فيكتفى في درء الحدّ بمجرد الاحتمال المرجوح فضلا عن الشك و الظن و هذا بخلاف الثاني فإنّه عليه لا يدرء الحدّ مع الشك فضلا عن التوهم و ان كان لا يبعد ظهوره في

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 423.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 37

الأوّل أي الاحتمال المرجوح و مقتضى ذلك، الاكتفاء في حصول الشبهة الدارئة للحدّ به و بالاحتمال المساوي فضلا عن الظنّ بالحلّ.

و قال صاحب الرياض عند بيان ملاك الشبهة: ما أوجبت ظنّ الإباحة، فقد اعتبر رضوان اللّٰه عليه الظنّ بالإباحة و عليه فالشك في الحلّ أو احتماله المرجوح لا ينفع شيئا و لا يدفع الحدّ.

لكن في كلامه إجمال من ناحية أخرى و هي انّ الظن على قسمين ظنّ معتبر و ظنّ غير معتبر و لا تعرض في كلامه لاشتراط اعتباره و عدمه و مقتضى ذلك هو الاكتفاء بالظن مطلقا و ان لم يكن معتبرا.

و بعضهم قد فسّر الظن بالعلم و الاعتقاد، فالملاك عنده هو القطع.

و في الجواهر في باب النكاح: انّ وطي الشبهة على ثلاثة أقسام الأوّل الوطي الذي ليس بمستحق مع اعتقاد فاعله الاستحقاق لجهل بالموضوع أو جهل بالحكم الشرعي على وجه يعذر فيه، الثاني الوطي الذي ليس بمستحق مع اعتقاد فاعله الاستحقاق الّا انّ النكاح معه جائز شرعا كالمشتبه بغير المحصور و التعويل على اخبار المرأة.

الثالث الوطي الغير المستحق و لكن صدر ممّن هو غير مكلّف كالنائم و المجنون و السكران بسبب محلّل و نحوهم و ما عدا ذلك و النكاح الصحيح الذي قد عرفت كلّه زناء هذا «1» و حاصل كلامه انّه لا بدّ في سقوط الحدّ امّا من العلم بالحلّ جهلا مركّبا و امّا من قيام الظن المعتبر على حلّه فلو لم يكن هناك علم بالحلّ و لا ظنّ معتبر به فلم يكن له سوى الشك فلا أقلّ من ان يكون مع شكه مجوز للارتكاب فالظن أو الشك الذي لا مانع من العمل به شرعا يدرء الحدّ و امّا بدون ذلك فلا.

و قال أيضا بعد تحقيقات له: و قد ظهر من ذلك انّ إطلاق الظن في تعريف الوطئ بالشبهة و كذا عدم العلم بالتحريم ليس محمولا على ظاهره بل هو مقيّد بما يجوز معه الوطئ على ما صرّحوا به و اقتضته طريقتهم المعلومة في

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 29 الصفحة 247.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 38

استباحة الفروج انتهى «1».

أقول: و على هذا فيشترط العلم بالحلّ و لو بحسب الظاهر فيؤخذ بالعموم أو الإطلاق و غيرهما و ذلك كما في الشبهة غير المحصورة حيث يؤخذ فيه بعموم:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ، و غيره، كما انّه لو شهد عدلان بطلاق امرأة خاصّة أو بموت زوجها فإنّه يجوز نكاحها لانّ الشارع جعل البيّنة حجّة و حينئذ و ان كان الشك في جواز الوطي محققا الّا انّ الدليل الشرعي يسوّغ ذلك فلو لم يكن دليل أصلا فهو في صريح كلامه زناء و يترتب عليه الحدّ، و لا يلحق الولد، لكنّه مال الى خلاف ذلك في الحدود لانّه نقل أوّلا عن

العلامة السيد الطباطبائي قدّس سرّه تعريف الوطئ بالشبهة بأنّه: الوطئ الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرّم.

و في الجواهر بعد نقل كلام المصابيح: و المراد بالجهالة المغتفرة ان لا يعلم الاستحقاق و يكون النكاح مع ذلك جائزا كما لو اشتبه عليه ما يحلّ من النساء بما يحرم منهنّ مع عدم الحصر أو عوّل على اخبار المرأة بعدم الزوج أو انقضاء العدّة أو على شهادة العدلين بطلاق الزوج أو موته، الى غير ذلك من الصور التي لا يقدح فيها احتمال عدم الاستحقاق شرعا و ان كان قريبا اوء مظنونا، و بارتفاع. الى آخره، الجنون و النوم و نحوهما دون ما كان بسبب محرّم كشرب الخمر المسكر فإنه بحكم الزاني في تعلّق الحدّ و غيره.

و مقتضى ما ذكره في المصابيح كما صرّح به في الجواهر هو عدم ترتّب الشبهة على الظن غير المعتبر شرعا لا في الموضوع و لا في الحكم الّا ان يعتقد الإباحة به جهلا منه و الّا كان زانيا.

و أورد قدّس سرّه عليه بقوله: و هو و ان كان صريح بعض المتأخّرين كثاني الشهيدين و سبطه الّا انّ جملة من عبارات الأصحاب مطلقة في الاكتفاء بالظن الشامل لما لا يعلم صاحبه الحلّ و ربما لا يكون ملتفتا لذلك و لا متصوّرا

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 29 الصفحة 253.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 39

لحكمة من هذا الجهة، انتهى «1» فلازم كلام السيّد في المصابيح هو عدم كون الاحتمال المرجوح و لا الظن غير المعتبر موجبا للشبهة الدارئة و مقتضى كلام صاحب الجواهر في المقام و

ما أورده من الاشكال، هو الاكتفاء بالظنّ مطلقا.

و على الجملة فظاهر كلام الجواهر في باب النكاح «2» هو دوران الأمر بين وجود مجوّز شرعيّ للارتكاب و ان كان هو الأصل فهناك يدرء الحدّ و عدم ذلك فلا لانّ الفروج لا تستباح الّا بسبب شرعيّ و ليس منه مجرّد الاحتمال أو الظن فإنّه قد اباحه بشرط العلم بالاستحقاق أو حصول ما جعله امارة و بدونها يكون الوطئ زناءا و ذلك كما إذا تزوج المفقود زوجها من دون فحص و لا رفع الى الحاكم و لكن بظنّ وفاته لطول المدّة أو تعويلا على اخبار من لا يوثق به أو شهادة العدل الواحد الّا ان يحصل له الاعتقاد بالجواز هذا.

فاختلفت الأقوال و الآراء و اختلف معيار الجهل عندهم في المقام.
اشارة

فلا بدّ من مراجعة الأدلّة و النظر و التأمّل فيها و هي الآية الكريمة و الاخبار الشريفة.

امّا الاولى: قوله تعالى:

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «3» و ظاهرها ترتب الحكم اى الحدّ على من كان زانيا أو زانية لا الزاني العالم، و المعيار هو الزناء لا الزناء المعلوم و على هذا فكلّما صدق الزنا يجب الحدّ و ان لم يكن عالما و في مثل الجهل المركّب ربّما لا يصدق الزنا و كذا الجهل البسيط مع قيام البينة كما إذا تزوّج امرأة معتدة مع قيام البيّنة على انقضاء عدّتها فإنّه و ان كان العقد باطلا مع انكشاف الخلاف لكن مفهوم الزنا غير صادق ظاهرا و ان أمكن ادعاء انّ للعلم دخلا في تعلّق الحدّ و لا مدخل له في صدق المفهوم.

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 263.

(2) راجع الجلد 29 الصفحة 245.

(3) سورة النّور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 40

و امّا الثانية اى الاخبار

فمنها رواية الكناسي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن امرأة تزوجت في عدّتها فقال: ان كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة فان عليها الرجم و ان كانت تزوجت في عدّة ليس لزوجها عليها الرجعة فان عليها حدّ الزاني غير المحصن و ان كانت قد تزوّجت في عدّة بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة أشهر و العشرة أيّام فلا رجم عليها و عليها ضرب مأة جلدة. قلت:

أ رأيت ان كان ذلك منها بجهالة؟ قال: فقال: ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين الّا و هي تعلم انّ عليها عدّة في طلاق أو موت و لقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك قلت: فان كانت تعلم انّ عليها عدّة و لا تدري كم هي؟ فقال: إذا علمت انّ عليها العدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتى تعلم «1».

قوله

عليه السلام: ما من امرأة إلخ يحتمل ان يكون المراد منه انّه لا يمكن ان تكون جاهلة فلو ادّعت الجهل فهي كاذبة بعد ان كانت المطلب بحيث يعلمه الكلّ.

و يمكن ان يكون المراد عدم كون جهلها عذرا و ذلك لتقصيرها في التعلّم و الحال هذه.

و قوله عليه السلام: لزمتها الحجّة، يحتمل ان يراد منه لزوم الحجّة في العقاب فيقال له في الآخرة- على ما ورد في بعض الاخبار- هلّا تعلّمت «2».

و يمكن ان ا؟؟؟؟؟ د لزوم الحجّة حتّى في إجراء الحدّ فلا تدرء الشبهة الحدّ، و الجهل غير مانع عنه هنا.

فهذه الرواية غير واضحة الدلالة على ما نحن بصدده.

و هنا أخبار أخر نقلها المحدّث العاملي في باب عنوانه: باب انّ من فعل ما يوجب الحدّ جاهلا بالتحريم لم يلزمه شي ء من الحدّ:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب الحدود الحديث 3.

(2) أمالي الشيخ الطوسي الجلد 1 الصفحة 9 و تفسير الصّافي ذيل الآية 149 من سورة الانعام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 41

عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو انّ رجلا دخل في الإسلام و أقرّ به ثم شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا الّا ان تقوم عليه البيّنة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا و الخمر و أكل الربا و إذا جهل ذلك أعلمته و أخبرته فإن ركبه بعد ذلك جلدته و أقمت عليه الحدّ «1».

و هذه الرواية ظاهرة في مانعيّة الجهل عن تعلّق الحدّ لكن في سقوطه للجهل البسيط تأمل و ترديد، و المتيقّن هو الجهل المركّب.

بل يمكن ان

يقال: انّ الظاهر انّه إذا كان قد دخل في الإسلام جديدا- على ما هو المفروض في الرواية- فهو بحسب النوع غافل محض اى الجاهل المركب فلا يشمل ما إذا كان ملتفتا الى جهله ظانا كان أو شاكّا أو محتملا.

كما انّ قوله عليه السلام: و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام، ليس له ظهور في الجهل البسيط و لا الأعم بل هو يساعد الجهل المركّب بالخصوص و لعلّ المراد منه هو انّهم لم يبيّنوا له ذلك و لم ينبّهوه. و على الجملة فالرواية ظاهرة في الجهل المركّب.

و عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل دعوناه إلى جملة الإسلام فاقرّ به ثم شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام أقيم عليه الحدّ إذا جهله؟ قال: لا الّا ان تقوم عليه بيّنة انّه قد كان أقرّ بتحريمها «2».

قوله: قد أقرّ بتحريمها يراد به انّه كان عالما بتحريمها فإنّ الإقرار طريق اليه. و لا يخفى انّه يجرى في هذه ما ذكرناه في سابقته.

عن ابى عبيدة الحذّاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لو وجدت رجلا كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شي ء من التفسير زنى أو سرق أو شرب

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 42

خمرا لم أقم عليه الحدّ إذا جهله الّا ان تقوم عليه بيّنة انّه قد أقرّ بذلك و عرفه «1».

و عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في رجل دخل في

الإسلام شرب خمرا و هو جاهل قال: لم أكن أقيم عليه الحدّ إذا كان جاهلا و لكن أخبره بذلك و أعلمه فإن عاد أقمت عليه الحدّ «2».

و عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في حديث انّ أبا بكر أتى برجل قد شرب الخمر فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال: إنّي أسلمت و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّونها و لو أعلم انّها حرام اجتنبتها فقال علىّ عليه السلام لأبي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار فمن كان تلا آية التحريم فليشهد عليه فان لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شي ء عليه ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله «3».

و هذه الاخبار كلّها واردة في الجهل بالحكم و امّا الجهل بالموضوع فلا تعرّض له في الروايات.

نعم هنا رواية أخرى واردة في الجهل بالموضوع و هي رواية يحيى بن العلا قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في رجل تزوّج امرأة فمكثت معه سنة ثم غابت عنه فتزوّجت زوجا آخر فمكثت معه سنة ثم غابت عنه ثم تزوّجت آخر ثم انّ الثالث أولدها قال: ترجم لأنّ الأوّل أحصنها قلت: فما ترى في ولدها؟

قال: ينسب إلى أبيه. قلت: فان مات الأب يرثه الغلام؟ قال: نعم «4» فان الظاهر منها انّه كان الزوج- أبو الغلام- جاهلا بكون المرأة ذات بعل فيلحق به الولد و تجري الوراثة بينهما فيعلم انّ الحدّ يدرء في الجهل الموضوعي أيضا كما هو مسلّم عند العلماء في الجملة.

و حاصل الكلام بالنسبة إلى البحث الأصلي هو انه ليس في الروايات

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب مقدّمات

الحدود 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب حدّ الزنا الحديث 12.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 43

ظهور تطمئن إليه النفس بل هي ظاهرة في الجهل المركّب بلحاظ ما تقدّم منّا من انّ من دخل في الإسلام جديدا فهو غير ملتفت أصلا إلى الأحكام و هي غير مبيّنة له. فلم نجد في الاخبار أيضا ما يفيدنا بالنسبة إلى الجهل البسيط فلم يبق الّا الحكم على حسب القواعد.

فنقول: لا شك في انّه لا حدّ على من اعتقد الحلّ مع عدم استحقاقه واقعا بل لعلّه لا يصدق عليه انّه قد زنى، فمن تزوّج امراة معتقدا الحل ثم بان انّها كانت عمّته أو خالته مثلا لا يقول الناس انّه زنى بل يقال في حقّه انّه وطئ شبهة. و الظاهر من لفظ الشبهة- كالاشتباه- هو عدم الاعتقاد الباطل كما حملت الروايات الواردة في جديد الإسلام على ذلك على ما تقدّم.

و امّا من شكّ في الحرمة فهو من إفراد العالم بالحرمة، و العلم طريقي- لا موضوعي- فتخلفه الأمارات و الأصول فلو شهد عنده عدلان بأنّ المرأة التي يريد تزويجها مزوّجة و لم يحصل له العلم بذلك فإنّها محرّمة عليه و يحدّ هو على وطيها بلا توقّف على انّهما صادقان في علم اللّٰه أم لا كما انّه لو كان الأصل الشرعي يقتضي الحرمة كالمرأة المعتدّة التي يراد تزويجها و يشكّ في انقضاء عدّتها فان مقتضى الاستصحاب و إبقاء ما كان على ما كان بحكم الشرع هو الحكم ببقاء العدة و ترتيب أحكامها كالحرمة

و غيرها و عليه فيجب اجراء الحدّ عليه أيضا إذا وطئها و الحال ذلك و هذا هو الحكم في تمام صور الجهل البسيط- اى سواء كان شاكا أو ظانا أو واهما- إذا كان هناك دليل شرعي يدلّ على الحرمة- كما انه لو كان هناك دليل من الامارة و الأصل قد دلّ على الحلّ و الجواز فإنّه يترتّب عليه سقوط الحدّ.

و امّا لو كان شاكا مطلقا و لم يكن دليل أو أصل شرعي يدلان على الحرمة بأن كان في مجرد حال الشك في الحرمة أو الظن بها مع عدم كون ظنه من الظنون المعتبرة شرعا، أو الوهم بها فهناك لا وجه لجريان الحدّ بالارتكاب قبل الفحص في الأحكام.

و امّا إذا كان شكّه مع العلم كما إذا تردد الحرام بين أطراف في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 44

الموضوعات فان العلم الإجمالي قائم على وجود حرام في البين، و هو على قسمين فتارة يكون أطرافه محصورة و اخرى غير محصورة و الحكم في الثانية عدم لزوم الاجتناب كما إذا تردّد أحد المحارم بين إفراد غير محصورة فالمتزوج يكون كالمعتقد بالحليّة بناء على عدم تنجيز التكليف بالعلم بالحرام المردّد بين غير المحصور و امّا إذا كانت أطراف الشبهة محصورة فالدليل العقلي على لزوم الاحتياط قائم و ذلك لوجود الحرام المقطوع به في البين مع عدم كون أطراف الشبهة غير محصورة فإن كانت الحجة أعم من الشرعي و العقلي فلا محالة يكون ارتكاب أحد الأطراف غير سائغ و يترتّب عليه الحدّ و امّا على فرض الاختصاص بالدليل الشرعي فهو مفقود فلا يترتّب على ارتكابه الحدّ و ذلك لانّ اللازم على هذا هو الحجّة على التحريم المنجّزة للعقاب

و من المعلوم انّ ارتكاب أحد الطرفين- مثلا كوطي احدى المرأتين المردّدتين فيما إذا علم انّ واحدة منهما حلال له و الأخرى محرّمة عليه- ممّا لم تقم عليه حجّة شرعيّة على التحريم و على هذا فلا يوجب الحدّ. و الظاهر من رواية أبي أيّوب هو كفاية الحجّة على العقاب لدلالتها على لزوم الحجّة على المرأة بمجرّد علمها بلزوم أصل العدّة مع انّها لا تعلم كم هي.

و يظهر ذلك أيضا من قوله تعالى وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولًا «1». حيث انّه يدلّ على انّه لا عذاب بدون بعث الرسول و الإتيان بالأحكام و امّا إبلاغها الى كلّ أحد فليس معتبرا في العذاب و انّما وظيفة العباد هو الرجوع الى الرسول و السؤال منه.

و يدلّ على ذلك أيضا ما ورد في بعض الاخبار من انّ مثل الامام مثل الكعبة حيث تؤتى و لا تأتى «2».

لكن مع ذلك ليس هنا إلّا الحجّة على العقاب و هو حكم العقل بلزوم الاجتناب حذرا عن ارتكاب المحرّم الواقعي فلو كان الحدّ موقوفا على الحجّة

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 15.

(2) الإنصاف للسيّد البحراني الصفحة 290 و منتخب الأثر الصفحة 90 عن كفاية الأثر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 45

على التحريم فهنا أيضا لا حدّ نعم لو قلنا بكفاية الحجّة على العقاب فارتكاب أحد الطرفين يوجب الحدّ.

و الظاهر ان الحد مترتّب على العلم بالزنا و ان كان ذلك بسبب دليل شرعي و امارة شرعيّة لا على حكم العقل بلزوم الاحتياط فلذا لا حدّ في المقام و بعبارة اخرى انّه كلّما وجد دليل على الحرمة الظاهريّة و ان لم يكن هناك علم وجدانيّ فلا يسقط الحدّ و كلّما لم يوجد

ذلك و انّما وجب الاحتياط عقلا فهناك يسقط و ذلك لعدم المانع من جريان قاعدة درء الحدود بالشبهات الّا على القول بانّ المراد من الشبهة هي الشبهة التي يجوز ارتكابها بإحدى الأمارات المعتبرة أو الأصول كذلك.

و فيه انّه لا شبهة هناك حتّى يتمسّك بالقاعدة و ذلك لانّه مقطوع الحلية بحكم الظاهر [1].

و على الجملة فلو كان المراد من الشبهة مجملا فكلّما دلّ الدليل الشرعي على الحرمة فهو كاف في ترتّب الحدّ و الّا فلا يجرى عليه الحدّ و ذلك لحرمة إقامته إلّا بمبرّر قاطع. فلا يجوز إجرائه في أطراف العلم الإجمالي و ان كان يحرم ارتكابها عقلا.

و امّا ما ذكروه من لزوم الاحتياط في الفروج على ما هو دأب العلماء في الشبهات الموضوعيّة.

ففيه انهم قالوا بالاحتياط في الدماء أيضا فكيف يمكن الحكم بالزنا و الاقدام على الرجم [2] مثلا مع لزوم الاحتياط في الدماء الّا بدليل قاطع فبلحاظ

______________________________

[1] قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه في دفتر مذكّراته: فتحصّل من جميع ذلك، سقوط الحدّ في غير وطي اعتقد حرمته أو دلّ دليل معتبر عليها من غير فرق بين الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة و ذلك لانّ المتيقّن من وجوب الحدّ ذلك و الباقي مشكوك و الأصل عدمه و لعلّ المحقّق رحمه اللّٰه أراد بالعلم أعم من الحرمة الظاهرية انتهى كلامه دام بقائه.

[2] و قد أوردت بأنّه ليس حكم الزنا هو الرجم مطلقا كي يتمسّك بالاحتياط في الدماء و الأنفس.

فأجاب سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظله بأنّه لا فرق بين الجلد و الرجم في مساسهما بالنفوس و انّما ذكروا الرجم من باب أظهر المصاديق.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 46

هذا الاحتياط لا يجوز اجراء الحدّ عليه.

و لا

يخفى عليك انّ النزاع في باب درء الحدّ بالشبهة قليل الجدوى و ذلك لانّ الغالب هو قيام الدليل في الموارد و بحسبها امّا على الحلّ أو الحرمة و قلّما يتّفق مورد لا يكون هناك امارة أو أصل شرعي معتبر كما إذا وجد امرأة في فراشه مثلا و دار الأمر بين كونها حليلة أو أجنبيّة.

الغافل و الناسي

و امّا الغافل المحض اى غير المتوجه الى المطلب بحيث لا ينقدح في ذهنه أصلا كي يعتقد بالحل مثلا فالظاهر ان يكون كالقاطع بالخلاف فتشمله الروايات الواردة في الجهل المركّب فلا يجرى عليه الحدّ لدرئه بالشبهة.

و امّا الناسي فالظاهر انّه أيضا كذلك فتشمله الروايات و لا خصوصيّة للجهل بل المراد هو ما يشمل ذلك أيضا كما هو الظاهر من كلام شيخ الطائفة.

قال قدّس سرّه: باب ماهية الزنا و ما يثبت به ذلك. الزنا الموجب للحد هو وطئ من حرّم اللّٰه تعالى وطيه من غير عقد و لا شبهة عقد و يكون الوطي في الفرج خاصّة و يكون الواطى بالغا كاملا فامّا العقد فهو ما ذكرناه في باب النكاح من اقسامه ممّا قد اباحه اللّٰه تعالى في شريعة الإسلام. و امّا شبهة العقد فهو ان يعقد الرجل على ذي محرم له من أمّ أو بنت أو أخت أو عمّة أو خالة أو بنت أخ أو بنت أخت و هو لا يعرفها و لا يتحققها أو يعقد على امرأة لها زوج و هو لا يعلم ذلك أو يعقد على امرأة و هي في عدّة الزوج لها امّا عدّة طلاق رجعي أو بائن أو عدّة المتوفّى عنها زوجها و هو جاهل بحالها أو يعقد على امرأة و هو محرم أو هي محرمة ناسيا ثم

علم شيئا من ذلك فإنّه يدرأ عنها الحدّ و لم يحكم له بالزنا «1».

ثم لو فرض عدم شمول أدلة المقام للناسي فإنّما يكفي في ذلك حديث الرفع لكون النسيان من الأمور التسعة المرفوعة عن الأمة.

______________________________

(1) النهاية كتاب الحدود الصفحة 688.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 47

العقد بمجرّده غير كاف في سقوط الحدّ

و هل يكتفى بمجرد العقد في سقوط الحد بأن ينهض شبهة فيوجب الدرء ام لا؟

قال المحقّق قدّس سرّه: و لا ينهض العقد بانفراده شبهة في سقوط الحدّ فلو استأجرها للوطي لم يسقط بمجرّده.

أقول: و لا إشكال في ذلك و لا خلاف فيه بل لا يحتاج هذا الكلام الى الاستدلال و لا حاجة الى ردّ من قال بانّ العقد بنفسه كاف في السقوط و انّما قد تعرّضوا لذلك ردّا لأبي حنيفة فإنّه الذي قال بذلك [1] و لو كان عالما بالتحريم، مستدلا بدرء الحدود بالشبهات.

قال شيخ الطائفة قدّس سرّه: إذا استأجر امرأة للوطء فوطئها لزمه الحدّ و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: لا حدّ عليه. دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا قوله تعالى: إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ، و هذه ليست واحدة منهما «1».

و قال قدّس سرّه أيضا: إذا عقد النكاح على ذات محرم له كأمّه و بنته و أخته و خالته و عمته من نسب أو رضاع أو امرأة ابنه أو أبيه أو تزوّج بخامسة أو امرأة لها زوج و وطئها أو وطئ امرأة بعد ان بانت باللعان أو بالطلاق الثلاث مع العلم بالتحريم فعليه القتل في وطي ذات محرم و الحدّ في وطئ الأجنبيّة

______________________________

[1] ففي الفقه على المذاهب الأربعة للجزيرى الجلد 5 الصفحة 98 (في بحث العقد على المحارم):

المالكية و

الشافعية و الحنابلة و أبو يوسف و الامام محمّد بن الحنفيّة قالوا: إذا عقد رجل على امرأة لا يحلّ له نكاحها بان كانت من ذوي محارمه كأمّه و أخته مثلا أو محرّمة من نسب أو رضاع ثم وطئها في هذا العقد و هو عالم بالتحريم فإنّه يجب عليه اقامة الحدّ لانّ هذا العقد لم يصادف محلّه لانّه لا شبهة فيه عنده، و يلحق به الولد الإمام أبو حنيفة قال: لا يجب عليه اقامة الحدّ، و ان قال: علمت انها علىّ حرام، لكن يجب عليه بذلك المهر، و يلحق به الولد، و يعاقب عقوبة هي أشدّ ما يكون من أنواع التعزير سياسيّا لا حدّا مقدّرا شرعيّا إذا كان عالما بذلك إلخ.

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود مسئلة 26.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 48

و به قال الشافعي الّا انّه لا يفصّل و قال أبو حنيفة: لا حدّ في شي ء من هذا حتّى قال: لو استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها لا حدّ عليه، فان استأجرها للخدمة فوطئها فعليه الحدّ. دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا قوله تعالى: و لا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء الّا ما قد سلف انه كان فاحشة. إلى آخر كلامه «1».

و قد يوجّه كلامه بإرادة ما لا يعلم حرمته يقينا و ان كان هو حراما بمقتضى الاجتهاد.

و لكن كلامه يأبى عن ذلك بل هو يقول بانّ مجرّد العقد اى عقد نكاح المحرّمات أو استيجار المرأة للوطء كاف في حصول الشبهة و سقوط الحدّ.

و الذي يسهّل الخطب انه لا مورد لتوجيه كلام أبي حنيفة بعد ان نعلم ما هو المعهود منه من الفتاوى الفاسدة و الآراء و النظرات الباطلة المخالفة لضرورة

الدّين مثل حكمه بإلحاق الولد بالرجل إذا كانت زوجته قد حملت في أيام سفره، فلا بعد أصلا من مثله ان يقول بانّ العقد ينهص شبهة في سقوط الحدّ.

نعم ما ذكر في هذا التوجيه في نفسه كلام حسن في الجملة و وجيه في بعض الموارد فان من الممكن ان يكون العقد سببا للشبهة و درء الحد كما إذا فرض انّ خبرا صحيحا دلّ على كفاية عشر رضعات في التحريم و مع ذلك قد تزوّجها فإنّها بحسب اجتهاده و ان كانت محرّمة عليه الّا انّ ذلك لا يوجب القطع بالحرمة فإنّ الخبر واجب العمل عنده ظاهرا و الّا فلا يخلو الأمر في الواقع من كفاية العشر فهي محرّمة عليه أو اعتبار خمس عشر رضعة فهي عليه حلال و هذه هي الشبهة لأنّ الزنا هو الوطي غير المستحق و هذا مشكوك فيه في المقام فيكون العقد كافيا في درء الحدّ [1].

______________________________

[1] فيه انه ينافي ما كان يذكره دام ظلّه كثيرا في الدرس من انه لا شبهة مع الاستظهار عن الدليل و قد تقدّم انّ العلم أعم من الوجداني و الحكم الظاهري اجتهادا أو تقليدا هذا مضافا الى انّه خروج عن محلّ الكلام فإنّه يقول بكفاية العقد بمجرّده لا العقد مع عدم العلم بالتحريم و هكذا

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 كتاب الحدود مسئلة 29.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 49

و هكذا بالنسبة إلى عقد الإجارة بأن استأجر امرأة للوطي زاعما انّها تحلّ عليه بذلك فإنه لا يحدّ حينئذ خصوصا بلحاظ ما ورد من التعبير بالأجر عمّا يدفع إليهنّ في الاستمتاع كقوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً «1». و على الأخصّ بلحاظ انّ العامّة يفسّرون آيات

القرآن الكريم بما يبدو في أذهانهم بلا مراجعة الى أهل بيت الوحي و التنزيل، و على الجملة فلو تخيّل لأجل هذه الأمور أنه يباح استيجارهنّ لذلك فأنشأ عقد الإجارة فإنه كاف في سقوط الحدّ.

و نظير ذلك ما إذا تخيّل و اعتقد انه يجوز للمرأة ان تهب نفسها لرجل و تباح له بذلك حيث راى جواز ذلك بالنسبة إلى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله لقوله تعالى وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ «2» فزعم انّ ذلك حكم عام يشمل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و غيره و لا يختصّ به فإنه لو وطئها و الحال هذه فلا حدّ عليه.

و كيف كان فبطلان ما ذكره أبو حنيفة بمكان من الوضوح و قد ردّوا عليه في كلماتهم.

قال العلّامة أعلى اللّٰه مقامه: لو تزوّج من يحرم عليه نكاحها كالأمّ و البنت و الأخت و المرضعة و ذات البعل و المعتدّة و زوجة الأب أو الابن كان العقد باطلا بالإجماع فإن وطئها مع علمه بالتحريم وجب عليه الحدّ، و لا يكون العقد وحده شبهة في سقوط الحدّ، و لو وطئ جاهلا بالتحريم سقط الحدّ و هكذا كلّ نكاح اجمع على بطلانه كالخامسة و المطلّقة ثلاثا، امّا النكاح المختلف فيه كالمجوسيّة فإنّه لا حدّ فيه و هكذا كلّ نكاح توهّم الواطى الحلّ فيه، و لو استأجرها للوطي وجب الحدّ و لم يسقط به الّا ان يتوهم الحلّ به انتهى «3».

______________________________

الكلام في فرض الإجارة.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 24.

(2) سورة الأحزاب، الآية 50.

(3) التحرير كتاب الحدود الصفحة 219.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 50

و قال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه: و يشترط في الحدّ بالزنا مطلقا العلم بتحريمه من

غير ان يحصل عنده شبهة محلّلة فلو توهّم الواطى حلّ أحد المحرّمات المؤبّدة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة يسقط الحدّ اى لا يجب به الحدّ و لا يسقط بمجرّد العقد مع العلم بالتحريم معه و فساد العقد و كذلك لا يسقط الحدّ بل يتعلّق و يجب باستئجار المرأة للوطء مع العلم بعدم الحل بذلك و فساد العقد. نعم لو توهّم الحلّ بالاستئجار أو بغير الاستيجار مثل ان تهب نفسها أو تبيح وطيها أو يوقعه بلفظ غير صحيح أو يكون قصده الإباحة مع الجهل بانّ ذلك غير كاف و كذا العقود الفاسدة لعدم العربيّة أو القصد أو الأعراب أو المقارنة أو الاشتمال على شرط فاسد مثل ان لا يطأ و بالجملة جميع ما يمكن ان يتوهّم و يعتقد انّه ليس بمحرّم و ان كان نفس رضاهما و بأيّ شي ء كان فإنه موجب لعدم تعلّق الحدّ و سقوطه.

ثم قال: و دليل تحريم الزنا وجوب الحدّ مع الشرائط، الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل عدمه مع عدم و لو كان بوجه بعيد كون الجاهل معذورا و بناء الحدود على التخفيف و درء الحدود بالشبهات انتهى كلامه رفع مقامه.

قال المحقّق: و لو توهم الحلّ به سقط

و قد فسر في الجواهر التوهم بالاعتقاد و قال- عقيب قول المصنّف: و لو توهم-: على وجه اعتقده، فلو قطع بانّ العقد كاف في الحلّ فلا محالة يسقط الحدّ.

و لا فرق في ذلك بين ان يكون اعتقاده ناشيا عن الاجتهاد أو التقليد و قد مرّ ذلك و في الجواهر: بل و ان كان ذلك لتقصير منه في المقدمات باختيار مذهب فاسد يقتضي ذلك أو باعراض عن أهل الشرع أو بغير ذلك ممّا يكون

فيه مشتبها و ان كان هو آثما في ظنّه إلخ.

قال المحقّق: و كذا يسقط في كلّ موضع يتوهّم الحلّ كمن وجد على فراشه امرأة فظنّها زوجته و لو تشبّهت له فعليها الحدّ دونه و في رواية يقام عليها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 51

الحدّ جهرا و عليه سرّا.

أقول: كلّ ذلك على أساس المعيار الذي ذكرناه من انّ من بان له الأمر فوطئ عالما بانّ عمله حرام يحكم عليه بالزنا و يحدّ و من أقدم على الوطئ مشتبها عليه الأمر فلا يحدّ لعدم ثبوت الحرمة عليه شرعا. و عليه يتمّ ما افاده من انّ من وجد على فراشه امرأة فوطئها زاعما انّها زوجته فإنّه لا حدّ عليه. و هكذا لو تشبّه الرجل لها بحيث زعمت انه زوجها فلا حدّ على المرأة و انّما يحدّ الرجل و العكس العكس فلو تشبّهت المرأة للرجل بحيث أيقن أنها زوجته فان عليها الحدّ لانّه لا شبهة لها فإنّها قد تعمّدت و أقدمت على العمل عالمة بالحرمة بخلاف الرجل لانّه قد أقدم للشبهة الطارية عليه فلا حدّ عليه. هذا هو مقتضى الأدلّة و القاعدة و ذلك لانّ أحدهما زان دون الآخر.

نعم هنا رواية تدلّ على خلاف ذلك في الفرض الأخير و هي رواية أبي الروح: انّ امرأة تشبّهت بامة لرجل و ذلك ليلا فواقعها و هو يرى انّها جاريته فرفع الى عمر فأرسل الى علىّ عليه السّلام فقال: اضرب الرجل حدّا في السّرّ و اضرب المرأة حدّا في العلانية [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 38 من أبواب حدود الزنا الحديث 1، و قال الشيخ الحرّ العاملي: حمله أكثر الأصحاب على شك الرجل أو ظنّه و تفريطه في التأمّل

و انّه حينئذ يعزّر لما تقدّم في تزويج امرأة لها زوج و غير ذلك و قد رواه المفيد في المقنعة مرسلا نحوه، الّا انّه قال: فوطأها من غير تحرّز انتهى.

و قال المحقّق في نكت النهاية بعد التعرّض لخبر الأعمى: و كذا القول في الرّواية عن أمير المؤمنين عليه السلام عن امرأة تشبّهت لرجل بجاريته و اضطجعت على فراشه ليلا فظنّها جاريته فوطئها من غير تحرّز و رفع خبره إليه فأمر بإقامة الحدّ على الرجل سرا و اقامة الحدّ على المرأة جهرا، و في هذا الخبر شيئان كلّ واحد منهما يوجب الشبهة و هو انّها تشبّهت، الثاني انّه ظنّها جاريته ثم إذا حكم عليه بأنّه زان لم حدّه سرّا؟

ثم قال: الجواب: أمّا الأعمى الى ان قال: و امّا الرواية المتضمّنة إقامة الحدّ على الرجل سرّا فهي رواية أبي بشر عن ابى نوح انّ عمر أرسل في ذلك الى على (ع) فقال له: اضرب المرأة حدّا في العلانية و الرجل حدّا في السرّ ذكرها الشيخ في التهذيب، و الروايتان محمولتان و سمعنا من بعض فقهائنا انّه عليه السلام أراد إيهام الحاضرين الأمر بإقامة الحدّ على الرجل سرّا و لم يقم عليه الحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 52

فهي صريحة في انه يحدّ كلاهما مع تفاوت انه يحدّ الرجل في الخفاء و المرأة في أعين الناس و على رؤس الاشهاد، و قد عمل و افتى بها القاضي ابن البرّاج «1».

و لكنّها مخالفة للقواعد الشرعيّة متروكة عند المعظم و لم يفت بها سواه [1] و قد وجهها بعض العلماء بانّ الامام عليه السلام ذكر ذلك بحسب الظاهر لا الواقع لإيهام الحاضرين الأمر بإقامة الحدّ على الرجل سرّا

استصلاحا و حسما لمادّة الفساد لئلا يتّخذ الجاهل الشبهة ذريعة و عذرا، و لم يقم عليه السلام عليه الحدّ بان كان قد أمر سرّا ان يدعوه و يتركوه و لا يضربوه في السرّ، و على الجملة فالمعتقد بالحلّ لا شي ء عليه سواء كان أحدهما أو كليهما و لذا قال المحقّق بعد ذلك:

و كذا يسقطه لو إباحته نفسها فتوهّم الحلّ

أقول: و ذلك لما تقدّم من انه لا بدّ في الحدّ من عدم شبهة في البين.

كلام حول الاختيار و الإكراه

قال المحقّق قدّس سرّه: و يسقط الحدّ مع الإكراه و هو يتحقّق في طرف المرأة قطعا و في تحقّقه في طرف الرجل تردّد و الأشبه إمكانه لما يعرض من ميل الطبع المزجور بالشرع.

أقول: عرفت انّ من جملة شرائط تعلّق الحدّ هو الاختيار و ان لا يكون المرتكب لموجبه مكرها، و الكلام حينئذ في مقامات.

______________________________

استصلاحا و حسما للمادّة لئلا يتّخذ الجاهل الشبهة عذرا و هذا ممكن انتهى كلامه. و قال في الرياض: انّ الرواية ضعيفة بالإرسال و عدّة من الجهلة انتهى، و في كشف اللثام: و هو متروك يحتمل لان يكون ع علم منه العلم أو الظن بحالها و ان ادّعى الشبهة.

[1] يقول المقرّر: قد افتى به يحيى بن سعيد الحلّي أيضا في جامعه الصفحة 548 قال: فان تشبّهت امرأة لا جنبي بمنكوحته على فراشه حدّ سرا و حدّت جهرا إلخ.

______________________________

(1) المهذّب الجلد 2 الصفحة 524.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 53

منها انّه ما هو المعيار في الإكراه فهل يتحقّق بتوعيده بأخذ ماله أو ضربه و أمثال ذلك؟ و منها انّه هل يمكن إكراه الرجل على الزنا أم لا و منها انّه مع تحقّق الإكراه فلا حرمة و لا حدّ

في البين.

امّا الأوّل فالظاهر انّه ليس كلّما هدّده المكره- بالكسر- على ترك الزنا يتحقّق معه الإكراه و ان كان تحمّله شاقّا فاللازم هو مراعاة الأهم و تشخيصه، الا ترى انّ الحرج يرفع التكليف لكن لا في كلّ الموارد فالمسح على البشرة حرج و قد أمر الإمام عليه السّلام بالمسح على المرارة «1» مستدلّا بقوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» و امّا إذا كان شاب كثير الشبق غير متمكن من النكاح لا يستريح طول ليله و لا ينام فهل يجوز له وطي المحارم مثلا تمسّكا ب لا حرج؟ و هكذا من كان في شدّة من الجوع فلا يجوز له الأخذ من مال غيره إذا أمكنه التحمّل نعم لو كان مشرفا على الموت فهناك يجوز له ان يأخذ منه ما يسدّ به رمقه مضمونا عليه.

و على هذا ففيما نحن فيه لو هدّده المكره بأنّه يأخذ مالا منه أو يضربه مثلا لو لم يرتكب الزنا فلا يسوّغ مجرّد ذلك ان يقدم على هذه المعصية نعم لو هدّده بقتله أو قتل ولده مثلا إذا ترك الزنا فهناك يجوز له ارتكاب ذلك. و على الجملة فلا بدّ من كون ما وعده و هدّده به بحيث يحقّ عرفا و يناسب ان يرتكب الزنا فرارا عنه و كثيرا ما يحصل الاشتباه في انّه من موارد الإكراه أم لا.

و اما الثاني فنقول: لا خلاف و لا إشكال في تحقّق الإكراه بالنسبة إلى المرأة و لكن وقع الاشكال و البحث في إمكان إكراه الرجل على الزنا و عدمه فقد حكى عن السيد ابن زهرة الجزم بعدم إمكان ذلك أصلا [3].

______________________________

[1] أقول: لم أعثر على ذلك في الغنية و ان نسب

اليه جزما في كشف اللثام بقوله: و هو خيرة. الغنية انتهى، و لعلّه لذلك قال في الرياض: المحكي عن الغنية إلخ و في الجواهر: بل عن الغنية الجزم بعدمه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الصفحة 327 الباب 39 من أبواب الوضوء الحديث 5.

(2) سورة الحج الآية 78.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 54

و قد يستدلّ لذلك بأنّ الإكراه يمنع عن انتشار العضو و انبعاث القوى لتوقّفهما على الميل النفساني المنافي لانصراف النفس عن الفعل.

و يقرب منه ما ذكره في كشف اللثام في مقام التعليل و هو قوله: لعدم انتشار الآلة إلّا عن الشهوة المنافية للخوف.

و يرجع هذا الكلام الى انّ المكره كالعنّين فكما لا يمكن حمل العنّين على الوطي كذلك لا يمكن حمل المكره على ذلك.

و حاصل هذا الكلام و الاستدلال انّه لو لم يكن له ميل نفساني فكيف حصل له الانتشار، فانتشار عضوه كاشف عن انّه كان مائلا الى ذلك فلا يكون مكرها.

و فيه انه لو كان معنى الإكراه هو خصوص حمل الشخص غيره قسرا على إتيان ما هو خلاف ميلة الطبيعي النفساني لتمّ الاستدلال و ورد الإشكال.

امّا لو كان المراد حمله على العمل الذي لا يميل إليه عادة بل يتركه و يحترز عنه بالنظر الى تكليفه الشرعي و ما يعتنقه من العقائد الدينيّة فهذا ممكن و ذلك لكون العزيزة النفسانية مستعدّة قويّة. و عليه فيمكن ان يكون الإنسان بحيث لا يرضى بمعصية اللّٰه سبحانه حتّى في حين كونه مكرها و مع ذلك يحصل له الانتشار بمقتضى عزيزته الشهوية و الميل النفساني المركوز في ذاته، و لو لا الإكراه و التهديد لما ارتكب ذلك أصلا بل كان يردعه خوف اللّٰه تعالى مع الانتشار-

كما قد وقع مثل ذلك في الحالات العادية حيث عزم على المعصية و انتشر عضوه و لكنه تركها و ردعه خوف اللّٰه سبحانه حينما كان مشرفا على الوقوع فيها- الّا انّ القوّة القاسرة حمله على الارتكاب، و هذا هو الذي أشار إليه المحقّق بقوله: لما يعرض من ميل الطبع المزجور بالشرع.

و حاصل الكلام في المقام انّ الإكراه هو حمل الغير على خلاف إرادته.

و ميلة و هو على قسمين فتارة يكون حملا له على خلاف إرادته الناشئة من القوى الحيوانية و اخرى يكون حملا له على خلاف إرادته الناشئة عن دينه و ايمانه، و بلحاظ الإطلاق الثاني يتحقّق الإكراه و ان كان بلحاظ الأوّل لا يمكن ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 55

و امّا ما افاده صاحب الجواهر رضوان اللّٰه عليه- اشكالا و نقضا على الاستدلال المزبور- من إمكان فرض الإكراه على الزنا و تحقّقه بدون الانتشار بان يدخل الحشفة في الفرج و هو غير منتشر.

فهو غير تامّ و ذلك لانصراف البحث عن ذلك و لا يقول أحد بعدم إمكان الإكراه بهذا النحو و لا يدّعيه مدّع، و على الجملة فالكلام في غيره.

ثم انّ الشهيد الثاني بعد ان ذكر إنكار بعض انتشار العضو مع الإكراه و استظهاره بنفسه إمكان ذلك معلّلا بانّ الانتشار يحدث عن الشهوة و هو أمر طبيعي لا ينافيه تحريم الشرع قال: و على كلّ حال لا حدّ لانّه شبهة و الحدّ يدرء بالشبهة [1].

و أورد عليه في الجواهر- بعد ان نقل كلام المسالك بهذا اللفظ:

و على كلّ حال فلا حدّ للشبهة- بانّ المتّجه الحدّ بناءا على عدم تحقّق الإكراه فيه ضرورة استلزام حصوله حينئذ لعدم كونه مكرها فيه انتهى «1».

أقول:

و قد استفاد و استظهر من عبارة المسالك: و على كلّ حال إلخ انّ مراده انّه سواء قلنا بإمكان الإكراه على الزنا بان لا يكون الانتشار منافيا للإكراه أو قلنا بعدم إمكان الإكراه عليه- لعدم حصول الانتشار معه فلو انتشر يعلم انّه لم يكن مكرها- فلا حدّ فيهما للشبهة.

فلذا أورد عليه بأنّه إذا بنينا على عدم إمكان إكراه الرجل فالّلازم هو الحدّ فكيف نقول بالشبهة و عدم جريان الحدّ؟

و لكن يمكن ان يكون مراد المسالك غير ما استظهره منه فلا يرد عليه

______________________________

[1] مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 424 أقول: و شبيه هذه العبارة عبارة الكاشاني في مفاتيحه الجلد 2 الصفحة 64 قال: و لو اختصّت الشبهة أو الإكراه بأحدهما سقط عنه للنصّ: ليس على المستكرهة شي ء إذا قالت: استكرهت، و قول القاضي بوجوب إقامته على المشتبه عليه سرّا و على الآخر جهرا شاذّ و مستنده ضعيف و الأصحّ إمكان الإكراه في حقّ الفاعل كما في حقّ المفعول لانّ انتشار العضو يحدث عن الشهوة و هو أمر طبيعي و على التقديرين لا حدّ، للحديث النبوي المشهور: ادرءوا الحدود بالشبهات انتهى.

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 266.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 56

إشكال. و ذلك لانّه لو لم يكن في عبارة الشهيد الثاني كلمة (لانّه) كما هي كذلك في نقل الجواهر عنه على ما تقدّم آنفا فلا بُعد أصلا في القول بكون مراده انّه لا حدّ عند الشبهة و الشك، و كأنّه قيل: من قال بإمكان الإكراه يقول لا حّد لكونه مكرها عليه، و من قال بعدم إمكانه يقول بوجوب الحدّ لانّ ما وقع و صدر عنه حينئذ كان باختياره و هو يوجب الحدّ،

و من شك في ذلك و لم يدر انّه يمكن ذلك أم لا فلا حدّ لأجل الشك و الشبهة.

و امّا على فرض وجود كلمة (لانّه) كما هو كذلك في ضبط المسالك نفسه كما مرّ، فيمكن ان يكون المراد هو الاشعار الى عدم الحرمة و عدم الحدّ في مورد الإكراه- حيث انّ الكلام في المكره- فانّا نقطع بعدم حرمة هذا الزنا الصادر عن إكراه و لا حدّ عليه، فقد عبّر عن الإكراه بالشبهة و كأنّه قال: لا حدّ مع الإكراه بسبب نفس الإكراه فلم يكن المراد من الشبهة، الشك، و قد عبّر عن اليقين بعدم الحرمة و الحدّ، بالشبهة هذا [1].

و امّا المقام الثالث و هو انّه لا حرمة و لا حدّ مع الإكراه فقد استدلّ لذلك بأمور:

منها انّه لو لا ذلك لزم التكليف بما لا يطاق. قال في المسالك: الإكراه يسقط به اثر التحريم عن المكره إجماعا حذرا من تكليف ما لا يطاق انتهى.

و فيه انّه لا يجري في كلّ موارد الإكراه و انّما يتمّ و يجري في بعضها فإنّه ربّما يتحقّق الإكراه و ليس تحمّل ما توعّد به تكليفا بما لا يطاق و ليس مغلوبا على

______________________________

[1] أقول: هكذا أفاد دام ظلّه في مجلس الدرس و لعلّه لا يخلو عن شي ء، فان الكلام و ان كان في الإكراه كما أفاد الّا انّه بهذه المناسبة انجرّ الكلام إلى انّه هل يمكن إكراه الرجل على الزنا أم لا و الى ذكر القولين في المسئلة فكيف نغضّ النظر عن ذلك و نقول بانّ كلامنا في المكره، و على الجملة فالظاهر انّ الحقّ مع صاحب الجواهر فإنّه لو قلنا بعدم إمكان الإكراه في خصوص الرجل فلا بدّ من

ان يكون ما صدر منه اختياريّا لفرض عدم تحقّق الإكراه فيجب اجراء الحدّ عليه. و انّى أظنّ جدّا انّ مراد المسالك هو انّه سواء قيل بإمكان إكراهه أو قلنا بعدمه لا يجب الحدّ للاختلاف في المسئلة الموجب للشبهة. و يؤيّد ذلك ان فخر المحقّقين صرّح بعدم الحدّ لذلك فقال: و يمكن ان يقال: هذه مسئلة مختلف فيها فيكون محلّ الشبهة و قال عليه السلام: ادرءوا الحدود بالشبهات انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 57

عقله كالمجنون بل انّما يرتكبه باختياره بعد الإكراه، كذا في الجواهر [1].

و منها حديث الرفع و هو قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: رفع عن أمتي تسعة الخطاء و النسيان و ما أكرهوا عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطرّوا اليه و الحسد و الطيرة و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة «2».

فإنه وارد في مقام الامتنان و رفع التكليف و المؤاخذة حيث انه كان يمكن التكيف مع كونه مكرها بان يقال له: لا ترتكب الزنا و ان جرى عليك ما جرى و وقع عليك ما وقع كما انّ الأمر كذلك في الإكراه على قتل الغير فإنّه لا يرفع التكليف و ان كان في ترك قتل الغير قتل نفسه و على الجملة فقد رفع اللّٰه التكليف بالاجتناب عن الزنا عند الإكراه عليه امتنانا على العباد.

و منها الأخبار الخاصّة الواردة في المقام فقد عقد المحدّث العاملي بابا سمّاه باب سقوط الحدّ عن المستكرهة على الزنا و لو بان تمكن من نفسها خوفا من الهلاك عند العطش و تصدّق إذا ادّعت.

عن ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: انّ عليّا عليه السلام أتى

بامرأة مع رجل فجربها فقالت: استكرهني و اللّٰه يا أمير المؤمنين. فدرأ عنها الحدّ و لو سئل هؤلاء عن ذلك لقالوا لا تصدّق و قد و اللّٰه فعله أمير المؤمنين عليه السلام «3».

عن العلا عن محمّد عن أحدهما عليهما السلام في امرأة زنت و هي مجنونة فقال: انّها لا تملك أمرها و ليس عليها رجم و لا نفى و قال في امرأة أقرّت على نفسها انه استكرهها رجل على نفسها قال: هي مثل السائبة لا تملك نفسها

______________________________

[1] أقول: يمكن دفع هذا الإيراد عنه بما ذكره المحقق الآقا جمال في حاشية الرّوضة بعد تمسّك الشهيد الثاني بلزوم التكليف بما لا يطاق انتهى بقوله: أراد به ما يشمل الحرج المنفيّ في الدّين فافهم. انتهى.

______________________________

(2) خصال الصدوق باب التسعة الحديث 9، و الكافي الجلد 2 الصفحة 462 بلفظ: وضع، و الفقيه الجلد 1 الصفحة 36 كذلك.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 58

فلو شاء قتلها ليس عليها جلد و لا نفى و لا رجم «1».

قوله عليه السلام: هي مثل السائبة. يعنى المغلوبة التي لا قدرة لها على المدافعة فكأنّ قوله: لا تملك نفسها تفسير لها فهي تكون بحيث يمكن ان يقتلها.

عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة مجنونة زنت فحبلت قال: مثل السائبة لا تملك أمرها و ليس عليها رجم و لا جلد و لا نفى و قال في امرأة أقرّت على نفسها انه استكرهها رجل على نفسها قال: هي مثل السائبة لا تملك نفسها فلو شاء لقتلها فليس عليها جلد و لا نفى

و لا رجم «2».

و عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علىّ عليه السلام قال: ليس على زان عقر و لا على مستكرهة حدّ «3».

و عن موسى بن بكير قال: سمعته و هو يقول: ليس على المستكرهة حدّ إذا قالت: انّما استكرهت «4».

و عن محمد بن عمرو بن سعيد عن بعض أصحابنا قال: أتت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي فجرت فأقم في حدّ اللّٰه فأمر برجمها و كان علىّ عليه السلام حاضرا فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت: كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها رجلا أعرابيا فسألته الماء فأبى الّا ان أمكنه من نفسي فولّيت منه هاربة فاشتدّ بي العطش حتّى غارت عيناي و ذهب لساني فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني و وقع علىّ فقال له على عليه السلام: هذه التي قال اللّٰه عزّ و جلّ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ*، هذه غير باغية و لا عادية إليه فخلّ سبيلها فقال عمر: لو لا علىّ لهلك عمر «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 6.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 59

و عن محمّد بن محمّد المفيد في الإرشاد قال: روى العامّة و الخاصّة انّ امرأة شهد عليها الشهود انّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع

رجل يطأها و ليس ببعل لها فأمر عمر برجمها و كانت ذات بعل فقالت: اللّهم انكّ تعلم أنّي بريّة فغضب عمر، و قال: و تجرح الشهود أيضا؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ردّوها و اسئلوها فلعلّ لها عذرا فردّت و سئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت مع إبل أهلي و حملت معى ماءا و لم يكن في إبلي لبن و خرج معى خليطنا و كان في إبل له فنفد مائي فاستقيته فأبى أن يسقيني حتّى أمكنه من نفسي فأبيت فلما كادت نفسي ان تخرج أمكنته من نفسي كرها فقال أمير المؤمنين عليه السلام: اللّٰه أكبر، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ. فلمّا سمع عمر ذلك خلّي سبيلها «1».

فهذه الأخبار الشريفة تدلّ صريحة على انّه لا حدّ على المرأة إذا استكرهت على الزنا.

في ادعائها انّها مستكرهة

ثم انه يستفاد من بعض هذه الاخبار قبول دعواها انّها مستكرهة على الزنا ففي خبر ابى عبيدة التي مرّ نقلها آنفا انّ عليّا عليه السلام اتى بامرأة مع رجل فجربها فقالت استكرهني و اللّٰه يا أمير المؤمنين فدرأ عنها الحدّ. الى غير ذلك من الاخبار الدالّة على ذلك.

و هل قبول قولها و ادعائها انّها مستكرهة تعبّد خاصّ في هذا المورد أو انّه مقبول في غير ذلك أيضا و في جميع الموارد؟

قد يقال بانّ دعوى الاستكراه غير مسموعة فلذا لو باع سلعته ثم بعد ذلك ادّعى انّه كان قد اكره على ذلك فإنّه لا تسمع منه هذه الدعوى الّا ان يقيم هو بيّنة أو أقرّ المشتري بذلك لانّ ظاهر البيع صدوره عن اختيار.

و لكنّ الظاهر الفرق بين المقامين لأنّه في باب البيع يريد البائع المدّعي

______________________________

(1) وسائل الشيعة

الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 60

للإكراه استرجاع المال بدعوى الاستكراه عن يد المشترى و لا وجه لذلك بعد ان صار ملكا له و هذا بخلاف المقام فان مدّعى الإكراه يدفع بذلك، الحدّ من نفسه، و لا بأس به بعد الأمر بدرء الحدود بالشبهات و على هذا ففي كلّ الموارد التي يتوجّه حدّ من حدود اللّٰه تكون دعوى الاستكراه مسموعة سواء كان في باب الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك، و ادّعاء الزاني عدم الإكراه في قبال المرأة التي تدعى ذلك لا اثر له بالنسبة إلى المرأة و لا يوجب حدّها و ان كان ينفع و يؤثر بالنسبة إلى نفسه حيث يرفع عنه حكم القتل المترتب على الواطى اكراها الّا ان يثبت عدم كونها مستكرهة بالأمارة كالبيّنة.

الكلام في مهر المستكرهة على الزنا

اشارة

قال المحقّق: و يثبت للمكرهة على الواطئ مثل مهر نسائها على الأظهر.

أقول: هذا هو المشهور كما صرّح بذلك في المسالك و الجواهر.

و استدلّ له في المسالك بقوله: لانّ مهر المثل عوض البضع إذا كان محرّما عاريا عن المهر كقيمة متلف المال. و البضع و ان لم يضمن بالفوات لكنّه يضمن بالتفويت و الاستيفاء «1».

و أورد عليه في الجواهر بعدم رجوعه الى حاصل يعتدّ به.

و كأنّه لأجل الإشكال في صدق الإتلاف على الانتفاع هنا، و في كون البضع مثل المال عند الشارع، و في كون مهر المثل قيمة و على هذا فليس مشمولا لقاعدة من أتلف مال الغير.

نعم يدلّ على المطلوب بعض ما ورد من النصوص كخبر طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علىّ عليه السلام قال: إذا اغتصب الرجل امة فافتضّها فعليه عشر قيمتها

و ان كانت حرّة فعليه الصداق «2».

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 424.

(2) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 3 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 3 و الجلد 15 الباب 45 من أبواب المهور الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 61

و روى الشيخ عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام قال: إذا نعي الرجل إلى أهله أو أخبروها انّه قد طلّقها فاعتدّت ثم تزوّجت فجاء زوجها الأوّل فإنّ الأوّل أحقّ بها من هذا الأخير دخل بها الأوّل أولم يدخل بها و ليس للآخر ان يتزوّجها ابدا و لها المهر بما استحلّ من فرجها «1».

و في رواية أخرى مثله الّا ان فيها: قد دخل بها الأخير أم لم يدخل بها «2» و يمكن التأييد لذلك بمفهوم ما ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم من عدم المهر لبغيّ [3]. فإنّ المستفاد منه النهى عن مهر البغي، فيثب لغيرها، و من المعلوم انّ المستكرهة ليست بغيّا فلها المهر.

إذا كان المكره هو الغير

ثم انّ ما ذكرناه متعلّق بما إذا كان المكره هو الزاني فكان يجب عليه مهرها، فيبقى الكلام فيما إذا كان المكره غير الزاني فهل الضامن للمهر هو المباشر أو المكره له على الزنا؟

قال في الجواهر: مقتضى ما سمعته في كتاب الغصب انّ الضّمان على المكره الذي هو أقوى من المباشر و لكن قد ذكرنا هناك انّه لو لم يكن إجماعا أمكن القول بالرجوع عليه و ان رجع على الآخر.

و هو كما أشار إليه هنا قال في باب الغصب أوّلا: انّ ظاهر الأصحاب عدم رجوع المالك على المكره بشي ء.

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 12 الباب 5 من أبواب ما يكتسب به الحديث 5 و 7 و

13، ثم لا يخفى انّ بما ذكر يخرج عن مقتضى خبر طلحة بن زيد عن عليّ عليه السلام: ليس على زان عقر و لا على مستكرهة حدّ، الوسائل الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5، و قد صرّح بذلك في الجواهر.

و في المصباح المنير: العقر بالضم دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها ثم كثر ذلك حتى استعمل في المهر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 62

ثم قال- بعد أسطر-: و لكن مع ذلك ان لم يكن إجماعا لا يخلو من نظر خصوصا مع عود النفع الى المباشر باعتبار مباشرته الإتلاف و ان رجع هو على المكره بل قد يقال: انّ القاعدة تقتضي اختصاص الضمان بالمباشر الذي هو المكره «1».

أقول: فرق بين مسئلتنا و ما في كتاب الغصب فان البحث هناك كان في المتلف المكره و كان يصح القول بضمان المتلف حيث انّه سبب أقوى بخلاف المقام حيث انّ المباشر مختار غير مكره و انّما أكرهت المرأة بإكراه الغير و لا وجه لضمان المكره مع اختيار المباشر.

و تحقيق الكلام انّ إكراه الغير- لا الزاني- على الزنا يتصوّر على ثلاثة وجوه: الأوّل ان يكون المكره قد اكره الرجل خاصة على الزنا دون المرأة و انّما هي زنت باختيارها.

الثاني ان يكون قد أكره المرأة خاصّة عليه دون الرجل.

الثالث ان يكون قد اكره كليهما على الزنا.

فلو كان مراده قدّس سرّه هو الفرض الأوّل فيرد عليه انّه حينئذ تكون المرأة زانية و لا مهر لها أصلا فكيف يطرح النزاع

في انّ المهر على الزاني أو على المكره.

و لو كان المراد هو الثاني و هو ما إذا أكرهت المرأة خاصّة ففيه انّ لازم ذلك هو ثبوت المهر على الزاني لأنّه قد باشر الزنا باختياره بلا أيّ إكراه و لا وجه أصلا لاحتمال كون المهر على المكره، و هذا نظير ما إذا حبس رجلا و أتلف آخر ماله فإنّه لا إشكال في كون الضامن هو المباشر المتلف دون الحابس الذي حبس صاحب المال و لم يخلّ سبيله فان المباشر أقوى في المقام.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 62

نعم لو كان مراده هو الفرض الثالث و هو إكراه المكره كليهما على الزنا فهناك يصحّ الدعوى في انّ المهر على المكره أو على الواطى و يجرى هذا البحث و لعلّ الأقوى حينئذ كونه على المكره الذي هو السبب فهو الضامن له دون المباشر للوطي لكن هذا الوجه ليس الظاهر من مفروض كلامه.

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 37 الصفحة 58.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 63

الكلام في لحوق الأولاد

من المعلوم انه يلحق الولد في الوطي بالشبهة، بمن هو المشتبه عليه واطيا كان أو الموطوءة أو كليهما فهل الأمر كذلك في باب الإكراه أيضا بأن يكون الولد ملحقا بمن اكره على الزنا أم لا؟

أقول: انّا و ان لم نجد نصا معتبرا في المقام يدلّ عليه بالخصوص كما ذكر ذلك صاحب الجواهر أيضا الّا انّ المقام في الحقيقة من إفراد الشبهة بناءا على كونها هو الوطي الذي اعتقد المشتبه عليه عدم الحرمة و ان لم يكن هناك ملك البضع

و مقتضى ذلك هو الحاقة به. و ان شئت فقل انّ المشتبه عليه حيث كان معتقدا للحلّ جهلا مركّبا فهو معذور في اقدامه و عمله و هذا المناط محقّق في مورد الإكراه بل المقام اولى به من باب الشبهة و ذلك لانّه و ان كان بين المقامين فرق و هو انّه هناك يرتكب قاطعاً بالاستحقاق بخلاف المقام حيث انّ المكره عالم بعدم الاستحقاق و بذلك يمكن الإشكال في المقام الّا انه في المقام قد رفع التكليف بسبب الإكراه فلا حرمة في البين أصلا و المكره يأتي بما هو جائز، فالمقام اولى بإلحاق الولد من الواطى شبهة الذي يأتي بالحرام و هو معذور.

و بعبارة اخرى انّ اعتقاده بعدم الحرمة مطابق للواقع بخلاف من أقدم على الوطي جاهلا فإنّه و ان كان يعتقد عدم الحرمة لكن اعتقاده لا يطابق الواقع.

و يدلّ على المطلوب قاعدة اللحوق بأشرف الأبوين، فيما إذا كان الإكراه في أحدهما دون الآخر و هي مستفادة من الروايات ففي خبر يحيى بن العلا قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في رجل تزوّج امرأة فمكثت معه سنة ثم غابت عنه فتزوّجت زوجا آخر فمكثت معه سنة ثم غابت عنه ثم تزوّجت آخر ثم انّ الثالث أولدها قال: ترجم لأنّ الأوّل أحصنها قلت: فما ترى في ولدها؟ قال:

ينسب إلى أبيه. قلت: فان مات الأب يرثه الغلام؟ قال: نعم «1».

______________________________

(1) أمالي الشيخ الطوسي الجلد 2 الصفحة 287.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 64

فحيث ان الزوج الذي أولدها كان جاهلا بأنّها ذات بعل فلذا ينسب الابن اليه و يرثه الغلام و بعبارة اخرى انّ المانع من الإلحاق، الفجور و هو منتف بالنسبة إليه حسب الفرض.

و

لك ان تقول انّ الولد ملحق عرفا بمن تولّد منه و ان كان زان أو زانية و انّما رفع النسب يحتاج الى دليل و هو وارد في الزنا، و من المعلوم انّ الوطي بالشبهة ليس زناءا عند العرف.

الكلام في الإحصان

اشارة

قد يكون الزنا موجبا للرجم و هو ما إذا كان عن إحصان و يعتبر فيه مضافا الى الشروط المعتبرة في أصل الزنا أمور أخر لا يجوز الرجم بدونها.

قال المحقق: و لا يثبت الإحصان الذي يجب معه الرّجم حتّى يكون الواطى بالغا حرّا و يطأ في فرج مملوك بالعقد الدائم أو الرق متمكن منه يغدو عليه و يروح.

أقول: انّ الإحصان لغة هو المنع و في الشرع ورد على معاني كثيرة كالإسلام و البلوغ و العقل و الحرّية و التزويج و العفّة كذا في المسالك [1] و قد استعمل في القرآن الكريم في كلّ واحد من هذه المعاني.

و لكنّ المراد منه في باب الزنا الموجب للرجم هو شي ء خاص و هو ما يجمع أمورا ذكره المحقّق و هي كون الواطى بالغا و حرّا و متمكنا من الوطي في فرج مملوك له امّا بالعقد الدائم أو بالرق.

______________________________

[1] قال: الإحصان و التحصين في اللغة: المنع قال تعالى: لتحصنكم من بأسكم، و قال: في قرى محصّنة و ورد في الشرع بمعنى الإسلام و بمعنى البلوغ و العقل و كلّ منها قد قيل في تفسير قوله تعالى: فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ، و بمعنى الحريّة و منه قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ، يعنى الحرائر، و بمعنى التزوّج، و منه قوله تعالى وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ، يعنى المنكوحات و بمعنى العفّة عن الزنا، و منه قوله

تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ، و بمعنى الإصابة في النكاح و منه قوله تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ و يقال: أحصنت المرأة عفّت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 65

و لا يخفى انّ الشرط الأوّل أعني البلوغ غير مختصّ بالمقام بل هو شرط الحدّ مطلقا رجما كان أو جلدا فان غير البالغ رفع عنه حتّى يدرك أو يحتلم على اختلاف ما ورد في الروايات من التعابير، و قد قام الإجماع على عدم حدّ مطلقا على الصبي، و في الجواهر: بل الإجماع بقسميه عليه لكن على معنى اعتبار البلوغ حين الزناء بل الظاهر كونه كذلك أيضا بمعنى اعتباره في وطي زوجته إلخ.

و امّا الشرط الثاني و هو الحريّة حال الزنا فلا خلاف في اعتبارها في الرجم و ان لم تكن معتبرة في الجلد فلو زنى العبد جامعا لجميع الشرائط فإنّه لا يرجم و قد قام الإجماع على ذلك أيضا و ان كان بين الشرطين فرق فان غير البالغ قد رفع عنه بخلاف العبد فإنّه ليس كذلك و لذا يحتاج عدم رجمه- مع انّه قد زنى جامعا للشرائط- إلى دليل.

و قد وردت فيه روايات. و عقد المحدّث البارع الشيخ حرّ العاملي بابا عنونه بقوله: باب انه يجب على المملوك إذا زنى نصف الحدّ خمسون جلدة و لا يرجم و ان كان محصنا الّا ما استثنى، و نقل ما يدلّ على ذلك فيه.

عن الحسن بن السريّ عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: إذا زنى العبد و الأمة و هما محصنان فليس عليهما الرجم انّما عليهما الضرب خمسين، نصف الحدّ «1».

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في العبيد

إذا زنى أحدهم ان يجلد خمسين جلدة و ان كان مسلما أو كافرا أو نصرانيا و لا يرجم و لا ينفى «2».

و عن بريد العجلي عن ابى عبد اللّٰه [جعفر] عليه السلام في الأمة تزني قال: تجلد نصف الحدّ كان لها زوج أولم يكن لها زوج «3».

و امّا الشرط الثالث و هو ان يطأ في فرج مملوك له بالعقد الدائم أو بملك

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 66

اليمين متمكّن منه ليلا و نهارا فهو في الجملة ممّا لا خلاف فيه.

و انّما البحث و الكلام في انّه هل يكتفى بمجرّد التمكن أو يشترط معه الدخول أيضا؟ و تظهر الثمرة فيما إذا تزوّج و عقد امرأة لكنّه بعد لم يدخل بها و زنى و الحال هذه فإنّه على فرض اعتبار الوطئ لا يرجم.

و قد اعتبر نفس الوطي قبل ارتكابه للزنا كثير من العلماء كالمحقّق و العلّامة و غيرهما و قد مرّت عبارة المحقّق.

و امّا العلّامة أعلى اللّٰه مقامه فقال في القواعد: المطلب الثاني في الإحصان و انّما يتحقّق بأمور سبعة: الأوّل: الوطي في القبل حتّى تغيب الحشفة فلو عقد و خلا بها خلوة تامّة أو جامعها في الدبر أو فيما بين الفخدين أو في القبل و لم تغب الحشفة لم يكن محصنا و لا يشترط الإنزال. الثاني: ان يكون الواطى بالغا فلو أولج الطفل حتّى غيّب الحشفة لم يكن محصنا و لا المرية و كذا المراهق و ان

بلغ لم يكن الوطي الأوّل معتبرا بل يشترط في إحصانه الوطي بعد البلوغ و ان كانت الزوجية مستمرّة. الثالث ان يكون عاقلا فلو تزوّج العاقل و لم يدخل حتّى جنّ أو زوّج الوليّ المجنون لمصلحته ثم وطئ حالة الجنون لم يتحقّق الإحصان. الرابع الحريّة فلو وطئ العبد زوجته الحرّة أو الأمة لم يكن محصنا الخامس: ان يكون الوطي في فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين.

السادس ان يكون النكاح صحيحا. السابع ان يكون متمكنا من الفرج يغدو عليه و يروح الى آخر كلامه.

ترى انه رحمه اللّٰه اعتبر- مضافا الى اعتباره التمكن- الوطي و اشترط ذلك في تحقق الإحصان.

و لكن قال الفاضل الأصبهاني في كشف اللثام: عند شرح أوّل هذه الشروط: و لا ذكر له في المقنعة و الانتصار و الخلاف و التبيان و مجمع البيان انتهى.

و يظهر من إطلاق بعض آخر أيضا عدم اشتراط ذلك أصلا الّا انّ المشهور هو اعتباره بل و اعتبار وقوعه في الكبر فلا اعتبار بالوطي الصادر منه في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 67

حال صغره و ان كان قد زنى كبيرا.

و في الجواهر عند البحث عن البلوغ بعد التمسك برفع القلم عن غير البالغ: و من هنا كان الإجماع بقسميه عليه لكن على معنى اعتبار البلوغ حين الزناء بل الظاهر كونه كذلك أيضا بمعنى اعتباره في وطئ زوجته فلو أولج غير بالغ و لو مراهقا في زوجته حتّى غيّب الحشفة ثم زنى بالغا لم يكن الوطئ الأوّل معتبرا في تحقق الإحصان.

و هنا قال: لانّه يشترط في إحصانه الوطئ بعد البلوغ و ان كانت الزوجية مستمرّة.

و قد تمسك لذلك بأمور: الأصل و الاستصحاب و قصور فعله عن ان

يناط به حكم شرعي، و نقص اللذّة، و عدم انسباق نحوه من الدخول و شبهه.

و لا بدّ من ان يكون مراده من الأصل و الاستصحاب أصالة عدم تحقّق الإحصان بالوطي قبل البلوغ و أصالة عدم الرجم الثابتة قبل الزنا فإنه حيث يشك في ثبوته بعد الزنا يستصحب العدم السابق.

و لكن لا تصل النوبة الى الأصل و الاستصحاب إذا أمكن الاستظهار من الروايات فلو استظهرنا منها عدم كفاية مجرّد التمكّن مثلا فلا حاجة الى الأصول.

و امّا ما ذكره من قصور فعل غير البالغ عن ان يناط به حكم شرعي ففيه انّه لا قصور فيه بل وقع ذلك- اى ترتّب الأثر عليه- في الشرع. و ذلك كما إذا أجنب غير البالغ فإنه و ان كأنه لا يترتّب عليها في حال صغره تكليف لكنّه بعد بلوغه يجب عليه الغسل فلا إشكال في ان يكون وطيه صغيرا موجبا لترتب الرجم على زناه كبيرا.

كما انّه لا مجال للتمسك بنقص اللذة و عدم انسباق نحوه من الدخول، لو استفيد الحكم من الاخبار.

هذا بالنسبة إلى الأقوال و امّا الاخبار فهي طائفتان يظهر من إحديهما كفاية مجرّد التمكن من الوطي في صدق الإحصان و حصوله و تحقّقه و من الأخرى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 68

عدم حصوله بدونه بل هي صريحة في اعتبار الوطئ و انّه لا رجم بدونه.

فمن الاولى ما رواه إسماعيل بن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال:

قلت: ما المحصن رحمك اللّٰه؟ قال: من كان له فرج يغدو عليه و يروح فهو محصن «1».

و عن حريز قال سئلت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المحص قال: فقال:

الذي يزني و عنده ما يغنيه «2».

و يؤيّد الإطلاق المستفاد من

هذه الروايات، التعليل الوارد في بعض الاخبار الواردة في الإحصان و الرجم و هو قوله ع: لانّ عنده ما يغنيه عن الزنا «3».

و قوله ع: انّما هو على وجه الاستغناء «4».

فان هذا التعليل جارفى مطلق من كان متمكّنا من الوطي و ان لم يتحقّق ذلك منه بعد.

و من الثانية صحيح رفاعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يزني قبل ان يدخل بأهله أ يرجم؟ قال: لا «5».

و رواه الصدوق بإسناده عن رفاعة بن موسى انّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام و ذكر مثله و زاد: قلت: هل يفرّق بينهما إذا زنى قبل ان يدخل بها؟

قال: لا «6».

الى غير ذلك من الروايات. و هنا أخبار أخر واردة في خصوص العبد و انّه لا يرجم الّا ان يزني بعد ان أعتق و يواقع بعد عتقه:

عن ابى بصير يعني المرادي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال في العبد

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 69

يتزوّج الحرّة ثم يعتق فيصيب فاحشة قال: فقال: لا رجم عليه حتّى يواقع الحرّة بعد ما يعتق «1».

و مقتضى الجمع الدلالي هو تقديم هذه الاخبار الدّالة على اعتبار الوطي على الاخبار المطلقة حيث انّها ظاهرة

في الإطلاق لا نصّا فيه بخلاف الأخبار الدّالة على اعتبار الوطي فإنّها تدلّ على ذلك نصا و النتيجة اعتبار التمكن مع الوطي حتّى يتحقّق الإحصان و ذلك لتقييد المطلق بالمقيّد.

و لو قيل بأنّ النسبة بينهما التباين و كونهما كالمتباينين بان يكون قسم منها دالّا على كفاية مجرّد التمكن بلا حاجة الى الوطي و الآخر على اعتبار الوطي بنفسه فهناك يحصل التعارض بالنسبة الى ما قبل الوطي، و التقدم للأخبار الدالة على اعتبار الوطي فإنّها أكثر عددا و أصرح دلالة و قد عمل بها المشهور أيضا.

و لو فرض تساقطهما و عدم الترجيح في البين فحينئذ يرجع الى عموم التنزيل و هو قوله: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، و على هذا فلا رجم بدون الوطي مطلقا و ان كان له التمكن من ذلك. هذا كلّه لو أغمضنا النظر عن احتمال انّ المراد من يغدو عليه و يروح هو نفس الوطي كما لا يبعد ارادة ذلك منه و الّا فالأمر واضح. فتحصّل من ذلك كلّه انّ الأقوى عدم وجوب الرجم قبل الوطي- و امّا بعد الوطي فكلا الدليلين يثبتان الرجم بلا تعارض.

ثم انّ ما ذكرنا- من الرجوع الى عموم جلد الزانية و الزاني مِائَةَ جَلْدَةٍ- يتمّ لو قلنا بأنّه يجب جلد كلّ زان سواء كان محصنا أم لا، غاية الأمر انّ المحصن يرجم أيضا، فإنّ المخصّص المجمل يكتفى فيه بالقدر المتيقن و هو في المقام، الوطي بالفعل و يرجع في غيره الى عموم الجلد.

امّا لو قلنا بأنه في مورد الرجم ليس شي ء سوى الرجم و لا مجال للجلد، و انّه مع وجود الأكثر و الأشدّ فلا مورد للأقلّ و الأخف فلو لم يتحقّق الوطي

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 70

لا رجم و لا جلد و ذلك للتنويع فان الجلد على هذا يختصّ بالزاني غير المحصن و هو غير معلوم.

ثم انّ ما ذكره في الجواهر من عدم الاعتبار بالوطي الصادر من الصبي قبل بلوغه، في تحقق الإحصان بالزنا بعد البلوغ فلا نصّ في ذلك بخلاف باب العبد فإنّ رواية أبي بصير المرادي «1» صريحة في عدم الاعتبار بالوطي الذي صدر عن العبد الّا ان يواقع بعد عتقه و قد تقدّمت آنفا.

و لعلّ العلماء استفادوا من هذه الرواية اعتبار كون الوطي بعد البلوغ كما انه يعتبر وقوعه بعد الحرّية نعم لا بأس بتحقق الزوجية قبله.

و يمكن ان يستفاد ذلك- اعتبار وقوع الوطي بعد البلوغ- من الاخبار بان يقال: انّ اشتراط الوطئ يكون على وزان اشتراط يغدو عليه و يروح، فهو شرط حيثما يشترط التمكن و من المعلوم انّ المورد الذي يعتبر فيه التمكن هو حال البلوغ لا قبله فلا محالة يكون هذا هو المورد الذي يعتبر فيه الوطي [1].

حول تحقق الإحصان بالأمة

ثم انّه لا شكّ في تحقّق الإحصان إذا كانت له زوجة معقودة بالعقد الدائم و لا خلاف في ذلك أصلا. فهل الأمر كذلك إذا كانت له ملك يمين- حتّى يحكم عليه بالرجم إذا زنى و هو كذلك- أم لا؟

المشهور ذلك و خالف فيه- على ما في كشف اللثام- الصدوق في الفقيه و المقنع و العلل و أبناء الجنيد و ابى عقيل فلم يروا تحقّق الإحصان الموجب للرجم بالأمة قال: و يعطيه كلام سلار [2] للأصل و الاحتياط و قول الباقر

______________________________

[1] أقول: و يؤيّد ذلك كما قيل

ورود لفظ الرجل في بعض الروايات المشعر بعدم كونه صبيّا.

[2] قال في المراسم الصفحة 252:. و امّا العاقل المحصن فإنّه إذا شهد عليه أربعة رجال عدول بأنّه وطئها و كان لا حائل بينه و بين وطئ زوجته و كان نكاحها للدّوام فان المتعة لا تحصن فاما ملك اليمين فقد روى: تحصن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 71

عليه السلام إلخ.

أقول: امّا الأصل و الاحتياط فلا يرجع إليهما مع الدليل و امّا الرواية فالتحقيق ان يقال انّه قد وردت روايات تدلّ على ذلك ففي صحيح محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألته عن الحرّ أ تحصنه المملوكة؟ قال: لا يحصن الحرّ المملوكة و لا يحصن المملوك الحرّة، و النصراني يحصن اليهودية، و اليهودية يحصن النصرانية «1».

و في صحيح آخر له عنه أيضا قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يزني و لم يدخل بأهله أ يحصن؟ قال: لا و لا بالأمة «2».

و في صحيحه أيضا عن ابى جعفر عليه السلام. و كما لا تحصنه الأمة و اليهودية و النصرانية إن زنى بحرّة كذلك لا يكون عليه حدّ المحصن ان زنى بيهوديّة أو نصرانية أو امة و تحته حرّة [1].

و مفاد هذه الرواية اعتبار كون زوجته حرّة و كون الزنا أيضا بالحرّة و لكن هذه الروايات معارضة بعدّة اخبار تدلّ على تحقّق الإحصان بالأمة أيضا كالحرّة و هي مفتى بها، هذا بالإضافة إلى كون هذه الصحيحة متضمّنة لما اجمع على بطلانه فإنها صريحة في عدم رجم من زنى باليهودية أو النصرانية أو الأمة و هذا يطابق فتوى العامّة و لعلّه

يكون شاهدا على صدور الرواية تقيّة.

و استدلّ لقول المشهور بأخبار و هي هذه:

عن إسماعيل بن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال: قلت: ما المحصن رحمك اللّٰه؟ قال: من كان له فرج يغدو عليه و يروح فهو محصن «3».

فهي بإطلاقها تدلّ على تحقّق الإحصان بالأمة أيضا كالزوجة الدائمة

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 9 و قد حمله الشيخ على ما في الوسائل و الكشف على ما إذا كنّ عنده بعقد المتعة، و في كشف اللثام: و هو بعيد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 5 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 72

بل و إطلاقها شامل للمتعة أيضا الّا انّها خرجت بدليل خاص كما سيأتي ذلك.

و عن حريز قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المحصن قال:

فقال: الذي يزني و عنده ما يغنيه «1».

و هي أيضا تدل بإطلاقها على تحقّق الإحصان بالأمة أيضا.

و عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل إذا هو زنى و عنده السرّية و الأمة يطأها تحصنه الأمة و تكون عنده؟ فقال: نعم انّما ذلك لانّ عنده ما يغنيه عن الزنا قلت: فان كانت عنده امرأة متعة أ تحصنه؟

قال: لا انّما هو على الشي ء الدائم عنده [2].

و هذه صريحة في تحقّق الإحصان بأن يكون عنده أمة يطأها. و الوجه في قوله عليه السلام: لا يصدّق، هو قيام الامارة على خلاف قوله، فان من له امة و هي في بيته و لا

مانع في البين فإنّه يبعد جدّا ان لا يطأها.

و مثل ذلك رواية إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام:

الرجل تكون له الجارية أ تحصنه؟ قال: فقال: نعم، انّما هو على وجه الاستغناء «2».

و عن علىّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال:

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من الزنا الحديث 2 قوله: السرية، قال في المنجد: السرية ج سرارى الأمة التي تقام في بيت و الأغلب انّ اشتقاقها من السّر، و في المصباح المنير: و السرية فعلية قيل مأخوذ من السّر بالكسر و هو النكاح فالضّم على غير القياس فرقا بينها و بين الحرّة إذا نكحت سرّا فإنّه يقال لها: سريّة، بالكسر على القياس و قيل من السّر بالضم بمعنى السرور لانّ مالكها يسرّ بها فهو على القياس انتهى.

و في القاموس: السرّية بالضم الأمة التي بوّأتها بيتا منسوب الى السر بالكسر للجماع من تغيير النسب.

و في الروضة عند ذكر انّ: في شق الرجل ثوبه في موت ولده أو زوجته كفارة، قال: و المطلّقة رجعية زوجة و لا يلحق بها الأمة و ان كانت سرّية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من حدّ الزنا الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 73

سألته عن الحرّ تحته المملوكة هل عليه الرجم إذا زنى؟ قال: نعم «1» فمع التصريح بتحقّق الإحصان إذا كانت تحته امة لا مجال للإشكال في ذلك.

و بتقرير آخر انّ هنا اخبارا صحاحا تدلّ على عدم تحقّق الإحصان بالأمة و في قبالها أخبار أخر تدلّ على تحقّقه بها و حينئذ يرجع الى المرجّحات و حيث

انّ بعضا من القسم الأوّل حاو لما يطابق فتوى العامة فهذا يوجب ترجيح القسم الثاني على الأوّل لأنّ احتواءه على ما يوافق فتوى العامّة شاهد على صدور القسم الأوّل تقيّة فترجّح الروايات المثبتة بمخالفة العامّة.

و لو قيل بانّ ما هو مطابق لفتوى العامّة هو عدم إيجاب الزنا باليهوديّة و النصرانية للرجم و هذا لا يوجب رفع اليد عن الحكم الآخر المذكور فيها.

فحينئذ نقول: انه قد وقع التعارض بين الطائفتين من الاخبار و بعد التكافؤ و التساقط يرجع الى العمومات كصحيح إسماعيل بن جابر و صحيح حريز المذكورين آنفا نظير تساقط أكرم زيدا و لا تكرم زيدا و الرجوع الى عموم أكرم العلماء.

لا يقال: انّ المتبادر و المنصرف اليه من لفظ «من كان له فرج يغدو عليه و يروح» هو الزوجة الحرّة الدائمة دون ملك اليمين خصوصا بلحاظ انّ المتمحّض في ذلك هو الحرّة و امّا الأمة فليست متمحّضة في ذلك بل يستفاد منها للخدمة و طبخ الطعام و الغذاء و تربية الأولاد و غير ذلك [1].

لأنّا نقول: ادعاء الانصراف لأجل الظروف الموجودة الآن و الّا ففي تلك الأزمنة كانوا يتمتّعون بالأمة كالحرّة بعينها و كان ذلك امرا متعارفا.

عدم تحقّق الإحصان بالمتعة

و هل المتعة توجب تحقّق الإحصان الموجب للرجم أم لا؟

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب سيّدنا الأستاذ الأفخم، دام بقاءه بما في المتن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 74

المشهور انه لا ينفع ذلك شيئا و لا اثر لها في تحقّق الإحصان بل عن بعض انّه المتسالم عليه، و عن آخر الاتّفاق عليه أو عدم الخلاف فيه و الظاهر انه كذلك و ان كانت

عبارة السيّد المرتضى قدّس سرّه مشعرة بوجود القول بالخلاف فإنّه- بعد ان ذكر انّ من متفرّدات الإمامية القول بأنّ الإحصان الموجب في الزاني الرجم هو ان يكون له زوجة أو ملك يمين يتمكّن من وطيها متى شاء- قال:

و نكاح المتعة عندنا لا يحصن على أصحّ الأقوال لأنّه غير دائم و معلّق بأوقات محدودات. انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و من المعلوم انّ التعبير بأصح الأقوال يشعر بالخلاف و قول آخر في المسئلة.

و في القواعد عند ذكر شروط الإحصان و ما يعتبر فيه: الخامس ان يكون الوطئ في فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين فلا يتحقّق الإحصان بوطي الزنا و لا الشبهة و لا المتعة.

و في كشف اللثام بعد لفظة (و لا الشبهة): اتّفاقا. و بعد لفظة (و لا المتعة): على الأصحّ كما في الانتصار.

هذا لكن في الجواهر بعد ذكر اشعار كلام الانتصار بوجود المخالف في المسئلة قال: الّا انّى لم أتحقّقه كما اعترف به غيرنا أيضا.

و استدلّوا على عدم تحقّق الإحصان بها بالأصل و الاحتياط و الاعتبار و الروايات.

امّا الأصل فالظاهر هو أصالة عدم التخصيص فإنّ آية الزنا ظاهرة في وجوب جلد مطلق الزاني و الزانية ثمانين جلدة فالخروج عن هذا سواء كان بالرجم أو بهما يحتاج الى دليل، فاذا زنى مع انّ له زوجة دائمة فقد خرج عن تحت الحكم بالدليل قطعا امّا لو كانت له متعة و قد زنى فلا يعلم انّه خرج عن الآية أم لا و انّه هل خصّصت الآية به أم لا، و الأصل هو العدم.

______________________________

(1) الانتصار، الطبع الجديد الصفحة 258.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 75

و امّا الاحتياط فلانّ الحكم بالرجم أو به مع الجلد في المتعة

مع الشك في تحقّق الإحصان خلاف الاحتياط فان الاحتياط يقتضي عدم الاقتحام في الدماء بدون دليل قاطع.

و امّا الاعتبار الذي هو وجه من الوجوه المحسّنة تبدو في ذهن الفقيه، فهو في المقام ان يقال: الزوجة الدائمة هي التي يغدو الإنسان عليه و يروح و هي التي تغنيه عن الحرام، و امّا المتعة فليس هي في الحقيقة كذلك في الخارج.

و فيه انّ الاعتبار- بما ذكرنا له من التفسير- ليس ممّا يثبت به حكم شرعي، مضافا الى انّه يمكن ان يقال: انّ الاعتبار يقتضي خلاف ذلك اى جريان الحكم في المتعة أيضا و ذلك لانّ صاحب الزوجة المنقطعة يصدق عليه عرفا انّ له فرجا يغنيه عن الحرام كما يصدق ذلك على صاحب الزوجة الدائمة، و العرف مساعد لتحقّق الإحصان مع المتعة إذا كان متمكّنا منها بحيث يغدو عليها و يروح، هذا مضافا الى انّه لا سبيل للاعتبار مع وجود الاخبار.

و امّا الاخبار فنقول: انه و ان كان قد وردت روايات تشمل بإطلاقها أو عمومها المتعة كالدائمة- و ذلك كصحيح إسماعيل بن جابر عن ابى جعفر عليه السلام: من كان له فرج يغدو عليه و يروح فهو محصن «1» و صحيح حريز عن الصادق عليه السلام الوارد في تفسير المحصن: الذي يزني و عنده ما يغنيه «2» فإنهما و أمثالهما يشمل المتعة- الّا انّ هنا روايات تخصص تلك العمومات أو تقيّد تلك المطلقات فإنها صريحة في انّ المتعة لا توجب الإحصان.

ففي موثقة إسحاق بن عمّار المذكورة آنفا: قلت: فان كانت عنده امرأة متعة أَ تحصنه؟ فقال: لا انّما هو على الشي ء الدائم عنده «3».

و مثلها رواية أخرى له أيضا و فيها بعد السؤال عن الجارية و جواب الامام

عليه السلام بأنه توجب الإحصان: قلت: و المرأة المتعة؟ قال: فقال: لا،

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 76

انّما ذلك على الشي ء الدائم «1».

و هل سئل إسحاق، الامام الكاظم عليه السلام عن هذه المسئلة مرّتين و اجابه الإمام عليه السلام عنها في كلّ مرّة بتعبير خاص أو انّه سئل مرّة واحدة الّا انه نقل مرّة لصفوان و اخرى ليونس و قد حصل النقل بالمعنى؟ يحتمل الأمران.

و كيف كان فقد صرّح فيه بعدم تحقّق الإحصان إذا كانت عنده المتعة.

و في مرسلة ابن ابى عمير عن هشام و حفص البختري عمّن ذكره عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في رجل يتزوج المتعة أ تحصنه؟ قال: لا انّما ذاك على الشي ء الدائم عنده «2».

و إرسالها غير قادح بعد ان تقرّر انّ مراسيل ابن ابى عمير كالمسانيد.

و عن عمر بن يزيد عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قال: لا يرجم الغائب عن اهله و لا المملّك الذي لم يبن بأهله و لا صاحب المتعة «3».

قوله: لم يبن بأهله، أي لم يدخل بها.

و على الجملة فمقتضى هذه النصوص انّ صاحب المتعة ليس بمحصن و على ذلك فلا يترتّب على زناه سوى الجلد المقرّر في كتاب اللّٰه سبحانه.

عدم تحقّق الإحصان بالمحللة

إذا زنى و لم تكن له زوجة دائمة و لا ملك يمين و انما كانت عنده امة قد حلّلها مولاها له فهل هذا يكفي في إحصانه حتى يرجم أم لا؟

الظاهر هو الثاني و يدلّ على ذلك أمور:

1-

التعليل الوارد في روايات المتعة و هو قوله عليه السلام: انّما هو على الشي ء الدائم «4» فإنّ ذلك يفيد انّ الملاك و المعيار في صدق الإحصان هو ان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب الزنا الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2 و 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 77

يكون له ما يدوم و يثبت لا ما يزول و ينقطع بحسب طبعه و بمقتضى طبيعته و ذاته، و من المعلوم انّ التحليل غير مقتض للزوم و البقاء فان للمولى الرجوع عن التحليل في كلّ وقت و آن.

2- انصراف قوله عليه السلام: ان يكون له فرج يغدو عليه و يروح، عن التحليل فإنه ليس له ذلك بل هو لما لمالكها و انّما حلّل و أباحها له.

3- الأصل. فإنّه لو شكّ في إيجاب التحليل الإحصان فالأصل هو العدم و هكذا بالنسبة إلى الرجم و على هذا فلا يكون محصنا و لا يجوز رجمه.

4- الاحتياط، فان الاحتياط في الدماء يقتضي عدم إحصانه و عدم رجمه. و خالف في ذلك الشهيد الثاني في الروضة فقال قدّس سرّه: و في إلحاق التحليل بملك اليمين وجه لدخوله فيه من حيث الحلّ و الّا لبطل الحصر المستفاد من الآية- ثم قال: و لم أقف فيه هنا على شي ء- و مراده من الآية هو قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «1».

و قد انحصرت أسباب اباحة النساء-

بمقتضى الاستثناء الوارد فيها- بالزوجية أو ملك اليمين، و لمكان الحصر المزبور لا بدّ من القول بكفاية التحليل في تحقّق الإحصان بأن يكون هو من إفراد ملك اليمين- فإنّه ليس داخلا تحت عنوان الزوجية قطعا- و لو لا ذلك لبطل الحصر المستفاد منها.

و فيه انّه و ان كان التحليل من شئون ملك اليمين فالأمة المحلّلة ملك لمولاها و مالكها و قد أباحها للغير لكن ذلك في خصوص الوطي و لا يستلزم تحقّق الإحصان به كما انّ المتعة مبيحة للوطي و لم تكن مقتضية للإحصان. و الحاصل انّ تحليل الأمة مستفاد من (ما ملكت) و لا يكفي في الإحصان كما انّ المتعة داخلة في- أزواجهم- و لا تكفي هي في الإحصان.

______________________________

(1) سورة المؤمنون الآية 23- 22 و سورة المعارج الآية 30- 29.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 78

الوطي المعتبر في الإحصان

ثم انّه بعد ان ثبت- بمقتضى الروايات المتقدّمة و ادعاء الإجماع من الإماميّة- انّ الوطي معتبر في تحقق الإحصان، فهل المعتبر هو وطي خصوص القبل أو يكفي الوطي مطلقا و ان كان في الدبر؟

مقتضى إطلاق لفظ الفرج هو الثاني و ذلك لانّه بمعنى الثقب و هو شامل لهما.

لكن دعوى التبادر، و الانصراف الى ما هو مبني الزوجيّة و هي الوطي في القبل خاصة ليس ببعيد.

و لم يتعرّض لذلك بعض العلماء كالمحقّق رضوان اللّٰه عليه لا في الشرائع و لا في المختصر النافع و لكنّ العلّامة أعلى اللّٰه مقامه صرّح في القواعد باعتبار كون الوطي في القبل و جعله أوّل الأمور السبعة المعتبرة في الإحصان فقال في كلامه الذي نقلناه من قبل: الأوّل الوطئ في القبل. فلو عقد و خلا بها خلوة تامّة أو جامعها في الدبر.

لم يكن محصنا انتهى كلامه.

فان كان لفظ الفرج في كلام الباقين منصرفا إليه أيضا فهو و الّا فظاهره بلحاظ المعنى اللغوي هو الإطلاق، و لو شك في شمول اللفظ المزبور الوارد في الروايات للدبر أيضا فالّلازم هو الأخذ بالمتيقّن.

و في الجواهر بعد ذكر ما يدلّ على الاختصاص قال: هو و ان كان مقتضى الأصل و الاحتياط الّا انّ الإنصاف عدم خلوّه من الاشكال ان لم يكن إجماعا في ما إذا وطأ بالغا دبرا و كان متمكّنا من الفرج أيضا نعم لو لم يتمكّن الّا من الدبر أمكن الإشكال فيه بعدم انسياقه من النصوص امّا الأوّل فيحتمل قويّا الاجتزاء به كما في كلّ مقام اعتبر الدخول فيه.

و فيه انّه لو كان هناك انصراف فلا فرق بين ما إذا وطئ دبرا متمكّنا من الفرج أو غير متمكّن منه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 79

اعتبار كون زوجته معه

ثم انّه يعتبر ان يكون مع ذلك متمكنا من قضاء وطره بها ليلا و نهارا و كونها في اختياره مهما أراد. فلو كانت له زوجة الّا انه كان بينهما افتراق بان كان أحدهما مسجونا أو غائبا- مثلا- فليس بمحصن.

ففي خبر ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الرجل الذي له امرأة بالبصرة ففجر بالكوفة أن يدر أعنه الرجم و يضرب حدّ الزاني قال: و قضى في رجل محبوس في السجن و له امرأة حرّة في بيته في المصر و هو لا يصل إليها فزنى في السجن قال: عليه الحدّ [يجلد الجلد] و يدرأ عنه الحدّ «1».

و في خبر ربيع الأصمّ عن الحارث قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل له امرأة بالعراق

فأصاب فجورا و هو في الحجاز فقال: يضرب حدّ الزاني مأة جلدة و لا يرجم قلت: فان كان معها في بلدة واحدة و هو محبوس في سجن لا يقدر ان يخرج إليها و لا تدخل هي عليه. أ رأيت ان زنى في السجن؟

قال: هو بمنزلة الغائب عنه اهله يجلد مأة جلدة «2».

تحقق الإحصان مع الموانع الشرعية

ثم انّ ههنا مسئلة مهمّة و هي انّه لو كانت له زوجة دائمة و كانت عنده و ليس بينهما افتراق أصلا الّا انّه قد كان ممنوعا عن مقاربتها لموانع شرعيّة كالحيض أو الصوم أو الإحرام مثلا- حيث انّ وطيها محرّم إذا كانت في هذه الأحوال- فلو زنى و الحال هذه فهل يكون محصنا أم لا؟

الظاهر عندنا هو انّ الممنوعية بالعرض لا تمنع عن تحقّق الإحصان.

و ذلك لانّ قوله عليه السلام: من كان له فرج يغدو عليه و يروح، يراد به ان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 80

يكون قد أعطاه اللّٰه ما يقضى به وطره على ما قرّره الشارع و في المواقع التي أباحه اللّٰه تعالى فيها. فاذا كانت له زوجة دائمة يتمكن من وطيها و لا مانع له عن ذلك فهذا كاف في صدق الإحصان فيرجم بالزنا و ان كان قد زنى حينما كان ممنوعا شرعيا عن وطئ زوجته لأجل الحيض مثلا و على الجملة فالحيض أو الصوم أو الإحرام لا يمنع تحقّق الإحصان و اجراء حدّ الرجم عليه.

نعم من استظهر من قوله عليه السلام: يغدو عليه و يروح، كونه كذلك بالفعل و استفاد منه الإرسال

المحض بان لا يكون هناك اىّ مانع من مقاربتها مطلقا فحينئذ لا يتحقّق الإحصان. كما انّه لو شك في انّ المراد من يغدو عليه و يروح، هو هذا أو ذاك فإنّه لا يحكم عليه بالإحصان و لا يرجم بالزنا و ذلك للشّبهة الدارئة.

كلمة اخرى حول حدّ الإحصان.

ثم انّ هنا بحثا آخر و هو انّه ما هو حدّ الإحصان؟ فنقول: اعتبر بعض فيه التمكن من الوطي متى شاء. و قيّده بعض بالغدوّ و الرواح، و كيف كان فالغائب عن اهله ليس بمحصن. ثمّ ان حدّ الغياب مكانا و زمانا أيضا محلّ البحث و الكلام فقد يقيّد بمقدار السفر الشرعي الذي يوجب الإفطار و قصر الصلاة، كما انّه قد يقيّد بمدّة شهر أي إذا طال سفره الى ان بلغ شهرا كاملا، خلافا لمن أطلق الغائب.

قال شيخ الطائفة في المبسوط: حدّ الإحصان عندنا هو كلّ حرّ بالغ كامل العقل كان له فرج يغدو اليه و يروح على جهة الدوام متمكنا من وطئه سواء كان ذلك بعقد الزوجية أو بملك اليمين و يكون قد وطئ «1».

و قال في الخلاف: الإحصان لا يثبت الّا بان يكون للرجل الحرّ فرج يغدو اليه و يروح متمكّنا من وطيه سواء كانت زوجته حرّة أو امة أو ملك يمين و متى لم يكن متمكنا منه لم يكن محصنا و ذلك بان يكون مسافرا منها أو محبوسا

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 كتاب الحدود الصفحة 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 81

أو لا يكون مخلّى بينه و بينها انتهى «1».

و قريب منه عبارة المحقّق و الشهيد الثاني و قد تقدّم كلام المحقّق و امّا الشهيد الثاني فقال في المسالك: رابعها ان يكون متمكنا من الفرج يغدو عليه

و يروح بمعنى القدرة عليه في أيّ وقت اراده ممّا يصلح لذلك، و الغدوّ و الرواح كناية عنه، و الى هذا المعنى أشار الشيخ في النهاية فقال: ان يكون له فرج يتمكّن من وطيه انتهى «2».

و قال العلّامة في القواعد في الأمور المحقّقة للإحصان: السابع ان يكون متمكّنا من الفرج يغدو عليه و يروح فلو كان بعيدا عنه لا يتمكن من الغدوّ عليه و الرواح أو محبوسا لا يتمكن من الوصول اليه خرج عن الإحصان. و في رواية مهجورة يكون بينهما دون مسافة التقصير. انتهى.

و في كشف اللثام عن التبيان و فقه القرآن للراوندي [3]. لو كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو محبوسا لا يتمكّن من الوصول اليه كذلك أو كانت مريضة لا يمكنه من وطيها خرج عن الإحصان. انتهى «3».

و قال السيّد المرتضى في الانتصار: و فرّقوا بين الغيبة و الحيض لانّ الحيض لا يمتدّ و ربّما امتدّت الغيبة و لانّه قد يتمتّع من الحائض بما دون موضع الحيض و ليس كذلك الغيبة. انتهى «4».

______________________________

[1] و إليك عين عبارة الشيخ في التبيان في ذيل الآية 15 من سورة النور: و من كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا أو هي محبوسة هذه المدّة فلا إحصان انتهى ثم انّ عبارة الراوندي هي عين عبارة الشيخ بلا أيّ زيادة أو نقيصتة فقال في فقه القرآن الجلد 2 الصفحة 371: و من كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو هي محبوسة هذه المدّة فلا إحصان انتهى. و لعلّ الراوندي قد أخذ ذلك من الشيخ و اقتبس منه و ذهب اليه، كما ذكر بعض من حقّق الكتاب: انّ القطب في هذا الكتاب شديد التأثر بآراء

شيخ الطائفة في كتابيه: التبيان في تفسير القرآن، و الاستبصار. انتهى.

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 كتاب الحدود المسئلة 5.

(2) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 424.

(3) كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 221.

(4) الانتصار الطبع الجديد الصفحة 258.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 82

فترى انّه اقتصر في عبارة النهاية بالتمكن من الوطي و لكن كثير من الكلمات يدلّ على اعتبار التمكن في كلّ غدوّ و رواح كما انّ مقتضى ما نقلناه عن الكشف هو انّ الإحصان محقّق إذا كان غائبا بأقلّ من شهر و امّا إذا كان غائبا عنها شهرا أو أكثر فهو غير محصن.

و قد مال صاحب الجواهر الى ذلك على ما هو ظاهر عبارته حيث قال:- عند ذكر اعتبار التمكن على وجه يغدو عليه و يروح إذا شاء- فمتى لم يكن كذلك كمن كان غائبا عن زوجته شهرا على ما في التبيان و فقه القرآن لم يكن محصنا انتهى «1» و ان كان قد جعل الملاك بالآخرة هو العرف.

و لا أدرى انّهم من أين استفادوا ذلك و اىّ دليل لهم في القول به فانّا لم نقف على ذكر الشهر في شي ء من الروايات.

اللّهم الّا ان يكون ذكر ذلك من باب ذكر المصداق العرفي و ان كان يرد عليه انّ المصداق العرفي ربّما يتحقّق بأقلّ من ذلك أيضا [1].

و لو بنينا على اعتبار الشهر في السفر فلا بدّ من القول به في المحبوس و المريض أيضا لعدم وجه للفرق بينهما و بين المسافر هنا.

نعم لا يجرى هذا الكلام في الحيض و ذلك لعدم امتداده أكثر من عشرة أيّام.

و امّا ما افاده السيّد قدّس سرّه من التفصيل بين الحيض و الغيبة و توجيه ذلك بانّ الحيض

لا يمتدّ و لكن الغيبة ربّما امتدت و بأنه قد يتمتّع من الحائض بغير موضع الحيض بخلاف الغائب.

فنقول: لو كان الملاك هو الشهر فمن المعلوم عدم جريانه في الحيض. امّا

______________________________

[1] أقول: لعلّ اعتبار الشهر لأجل خبر ربيع الأصمّ قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل له امرأة بالعراق فأصاب فجورا و هو بالحجاز فقال: يضرب حدّ الزاني مأة جلدة و لا يرجم إلخ وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4، بان يكون المسافة بين الحجاز و العراق يومئذ شهرا. و قد أوردت ذلك و أجاب دام ظله بأمور منها انه لا بدّ من اعتبار الأقلّ فيما إذا قطعت مسافة ما بين الحجاز و العراق في عشرة أيّام مثلا أو أقل. (فتأمّل).

______________________________

(1) الجواهر الجلد 41 الصفحة 274.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 83

لو كان الملاك هو عدم التمكن عرفا- فمن لم يكن متمكنا و مستغنيا عند العرف فليس بمحصن و أيضا الزاني الذي كانت زوجته حائضا كذلك- ففيه انّ عدم تمكنه من الوطئ أيّام الحيض انّما هو بحكم الشرع و لو كان هو معتنيا بحكم الشرع بحيث يترك الوطي في أيام الحيض فكيف يرتكب الزنا و لا يبالي بحرمته مع انّ الزنا أيضا كالوطي في الحيض بل الزنا أشدّ و أعظم شرعا و عقوبة و على الجملة فمن كان غير متمكّن من الوطي بواسطة حكم الشرع فيأوى الى حرام أعظم اى الزنا لا يصدق عليه انه غير متمكّن الّا ان يكون بحيث تمنعه زوجته عن الوطي في حال الحيض و لا قدرة له على الغلبة عليها.

هذا كلّه مضافا الى انّ من كانت له زوجة دائمة اوامة

مملوكة فهو متمكّن عرفا من دفع شهوته و قضاء وطره بها و مجرّد كونه ممنوعا في أيام خاصّة لا يخرجه عن كونه متمكّنا و مستغنيا عن الحرام.

اللّهم الّا ان يؤخذ بلفظ يغدو عليه و يروح و يقال باعتبار التمكن الفعلي جمودا على ظاهر اللفظ.

لكنّ الظاهر انّه كما لا يعتبر في التمكن، التمكن العقلي كذلك لا يعتبر التمكن الفعلي بهذا النحو اى بحيث لا يكون له اىّ مانع حتّى الحيض بل المراد هو التمكن العرفي و هو لا ينافي الحيض و لعلّ الاخبار بتعابيرها المختلفة تفيد ذلك أيضا.

هذا و قد عرفت انّ كلماتهم رضوان اللّٰه عليهم أجمعين في حدّ الإحصان من حيث الحضور و الغيبة و من حيث مكان الغيبة و طول زمانها و من حيث التمكن غدوا و رواحا أو التمكن في كلّ زمان أو مطلق التمكن مختلفة.

و امّا الاخبار ففي بعضها: (ما يغنيه) و ذلك كموثقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل إذا هو زنى و عنده السريّة و الأمة يطأها تحصنه الأمة و تكون عنده؟ فقال: نعم انّما ذلك لانّ عنده ما يغنيه عن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 84

الزنا «1».

و صحيح حريز قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن المحصن قال:

فقال: الذي يزني و عنده ما يغنيه «2».

و في بعضها: كون امرأة عنده يغلق عليها بابه، و ذلك كخبر ابى بصير قال: قال: لا يكون محصنا حتّى [الّا ان] يكون عنده امرأة يغلق عليها بابه «3».

و في بعضها ذكر المعيّة. و ذلك كرواية محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: المغيب و المغيبة ليس عليها رجم الّا ان يكون

الرجل مع المرأة و المرأة مع الرجل [1].

و يشعر بذلك ما رواه أبو عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الرجل الذي له امرأة بالبصرة ففجر بالكوفة أن يدرأ عنه الرجم و يضرب حدّ الزاني قال: و قضى في رجل محبوس في السجن و له امرأة حرّة في بيته في المصر و هو لا يصل إليها فزنى في السجن قال: عليه الحدّ [يجلد الجلد] و يدرأ عنه الرجم «4».

فان المورد و هو من زنى بالكوفة مع كون زوجته بالبصرة فهو من مصاديق المغيب و المغيبة و عدم كونها عنده و معه.

و امّا كونها عنده فلا إشكال في عدم إرادة العنديّة العقليّة بأن تكون على جنبه و في حضوره نظير ما يقال في باب الصلاة بانّ من تنجس ثوبه في الصلاة و عنده ماء يمكنه تطهيره إلخ الذي يراد منه كون الماء في جنبه كي لا يلزم من تطهيره به الفعل الكثير بل المراد في المقام هو كونها عنده بحسب العرف و ان لم تكن الآن

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 الحديث 1، و امّا قوله: المغيب و المغيبة، فقال الفيّومي في المصباح: اغابت المرأة بالألف غاب زوجها هي مغيب و مغيبة و في القاموس: امرأة مغيب و مغيبة و مغيب كمحسن، غاب زوجها، و في المنجد: اغابت المرأة غاب زوجها فهي مغيب و مغيبة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 6.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من

حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 85

في حجرته مثلا.

و كذلك المراد من (إغلاق الباب عليها) ليس هو الفعلي منه بل هو كناية عن كونه متمكّنا من الوقاع حيث شاء.

و هكذا بالنسبة إلى المعيّة الواردة في صحيح ابن مسلم فان المراد منها ليس هو الالتصاق بل المراد عدم الحاجة الى مؤنة في الوصول إليها.

و لكن مع ذلك ربما يحصل الشك في صدق ذلك لكونه من المفاهيم المشكّكة فهل يصدق فيما إذا كان البلد من البلاد الكبيرة و كانت المرأة في بيت على رأس فرسخين مثلا انّها عنده أو ان عنده ما يغنيه؟ كما انّه ربما يحصل للإنسان الشك فيما إذا زنى المحبوس في أول يوم من أيام حبسه فهل يرجم هو أولا؟

و على الجملة فهذه الاخبار بتعابيرها المختلفة واردة في مقام تخصيص الآية الكريمة الناطقة بجلد الزانية و الزاني فترفع حكم الجلد و تبدّله بالرجم أو تضيف الرجم الى الجلد- على ما يأتي ذلك في محلّه.

فحينئذ فلو كان بين هذه الروايات بأنفسها عام و خاص أو مطلق و مقيّد أو مجمل و مبيّن فلا محالة يحمل البعض على الآخر اى يحمل العامّ على الخاص و المطلق على المقيد و المجمل على المبيّن، و الحاصل انّه يؤخذ بما هو أضيق دائرة منها و تخصّص الآية الشريفة به. و لو لم يكن كذلك فلو استفدنا و فهمنا انّ الكلّ بصدد بيان أمر واحد فهو و الّا فمع ورود التعابير المختلفة مع إجمالها في الجملة فلا مناص عن الأخذ بالقدر المتيقن اى ما يتوافق عليه الكل لكثرة القيود.

و يمكن ان يقال: انّ أخصّ ما ذكر في حدّ الإحصان هو ما ورد في خبر ابن

مسلم عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام: المغيب و المغيبة ليس عليها رجم الّا ان يكون الرجل مع المرآة و المرآة مع الرجل «1» و ما في خبر ابى بصير: الّا ان يكون عنده امرأة يغلق عليها بابه [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من حدّ الزنا الحديث 16 أقول: و لا أدرى أيّ فرق بين (عنده) و (معه) حتى يكون خبر ابن مسلم المتضمّن للثاني أخصّ من خبر ابى بصير المتضمّن للاوّل؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 86

فالملاك هو المعيّة فمتى تحقّقت يترتب عليها الرجم، و الخارج عن هذا الحكم هو المغيب و المغيبة و ما إذا لم يكن الزوجان معا فلو كانا في دارين لكن في مصر واحد فالمعيّة محقّقة و الحكم هو الرجم إذا زنى بخلاف ما إذا كان هو في بلد و زوجته في بلدة اخرى.

ثم لو سافر عن بلده- التي تكون زوجته أيضا فيها- الى بلد آخر لأجل الزنا فغاب عنها لاقتراف نفس المعصية- الزنا- فهل يصدق عليه عنوان المغيب و المغيبة حتى لا يحكم بالرّجم؟

الظاهر انصراف المغيب عن ذلك- فان الظاهر منه هو الذي غاب بالطبع و للحاجة و سبب طبيعي لا للزنا- و عليه فلو زنى فإنه زان محصن لانّه و ان كان في بلد آخر الّا انّه كالذي زنى و عنده امرأته.

و قد ظهر بما ذكرناه انّ المستفاد من الروايات هو تحقّق الإحصان بمجرد التمكن من الحلال، و الغناء به عن الحرام كما انّ قوله عليه السلام: يغدو عليه و يروح أيضا قد كنّى بهما عن التمكن لا خصوص التمكن في الوقتين بحيث

لو كان متمكّنا في الظهر لما شمله. فالمقصود هو انّه بحسب طبعه لا مانع له عن الوقاع. و يشير الى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قوله: مخلّى بينها و بينه [1].

و هل يمكن إسراء الحكم إلى الغائب الذي يتمكن ان يعود إلى اهله و بلده كلّما شاء و حيثما أراد أم لا؟

الظاهر هو الثاني و ذلك لانّ المراد هو التمكن الطبيعي العرفي و من كان في بلد آخر فهو غير متمكّن عرفا و ان كانت له وسائل و امكانيات يتمكّن معها من العود الى موطنه حيثما شاء.

ثم انّه قد تقدّم انّه لا دليل على التحديد بالنسبة إلى الزمان بالشهر مثلا و امّا بالنسبة إلى المكان ف

قال المحقّق قدّس سرّه:

و في رواية مهجورة: دون مسافة التقصير.

______________________________

[1] أقول: لم أجد هذه الرواية لا في الوسائل و لا في مستدركه و لعلّه دام ظلّه العالي وجدها في موضع آخر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 87

أقول: هذه الروايات المهجورة الدّالة على اعتبار عدم قصور المسافة عن مسافة التقصير- في تحقّق الإحصان- هي رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أخبرني عن الغائب عن أهله يزني، هل يرجم إذا كان له زوجة و هو غائب عنها؟ قال: لا يرجم الغائب عن اهله و لا المملك الذي لم يبن بأهله و لا صاحب المتعة. قلت: ففي أيّ حدّ سفره لا يكون محصنا؟ قال: إذا قصّر و أفطر فليس بمحصن «1».

و عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين رفعه قال: الحدّ في السفر الذي إن زنى لم يرجم ان كان محصنا؟ قال: إذا قصّر فأفطر «2».

و حيث انّ في طريق رواية عمر

بن يزيد جهالة [1] و الرواية الثانية مرفوعة [2] و لم يذهب الى مضمونهما الأصحاب فلذا تكون الرواية في المقام مهجورة و هم قد جعلوا المدار على نظر العرف و قضائه.

هل يعتبر في الإحصان العقل أم لا؟

قال المحقق: و في اعتبار كمال العقل خلاف فلو وطئ المجنون عاقلة وجب عليه الحدّ رجما أو جلدا هذا اختيار الشيخين و فيه تردّد.

أقول: المناسب هو التعبير بالعقل (لا كمال العقل) فان المقابل للمجنون هو العاقل.

ثم انّ ترتّب الحكم بوجوب رجم المجنون الذي وطئ عاقلة أو جلده على الخلاف في اعتبار كمال العقل غير ملتئم و لا مناسب. و لذا قال قدّس سرّه

______________________________

[1] أقول: وجه الجهالة انّ في سندها عبد الرحمن بن حمّاد و هو مجهول و لم يرد فيه توثيق في كتب الرجال.

[2] وجه كونها مرفوعة انّه قد سقط من السند بعض مع التصريح بلفظ الرفع و هو الملاك في المرفوعة راجع مقباس الهداية الصفحة 39 ثم انّه يرد على هذه الرواية انّه لم يذكر فيها الراوي و لا المرويّ عنه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 4 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 4 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 88

بعد الحكم المزبور: هذا اختيار الشيخين، ثم تردّد هو بنفسه في ذلك.

ثم انّه لا بد من تعميم عنوان البحث رجما و جلدا لجريان الإشكال في كلا المقامين و عدم انحصاره بصورة الإحصان و الرجم.

و كيف كان فالظاهر انه لا خلاف في اعتباره في المرأة المزني بها و لو كان خلاف فهو شاذّ جدّا [1].

و امّا بالنسبة الى الرجل فقد اختلفوا في ذلك- كما صرّح بذلك المحقّق قدّس سرّه- فذهب جمع

من الأعلام كالشيخ المفيد و شيخ الطائفة و الصدوق و القاضي و ابن سعيد الى عدم اشتراط ذلك في الزاني، و اعتبره فيه الآخرون.

و هنا بحث و هو انّه هل يجوز و يمكن تكليف المجنون كي يجوز عقوبته بالرجم أو الجلد؟ و هل الرجم أو الحدّ عقوبة للزاني المجنون أو هو تعبّد محض؟

الظاهر- بالنسبة الى الثاني- هو انّه من باب العقوبة و حينئذ فإذا جاز رجم المجنون أو جلده فلا بدّ من ان يجوز للّٰه تعالى عقابه في الآخرة أيضا.

و على الجملة فالعقوبة مترتّبة على مخالفة التكليف، و التكليف منوط و مشروط بالعقل فبدونه لا يمكن التكليف فإنّه يصحّ حيث كان هناك اثر، و المجنون لا يدرك التكليف كي يتأثر به و ان كانت له اعمال و حركات يأتي بها على طبق ارادتها الحيوانيّة لكنّه لا درك له فلا يصحّ تكليفه، و التذاذه بالشهوات الجنسيّة لا يدلّ على دركه كما في الحيوانات.

و لذا فانّى اتعجّب من تعرّض العلماء لهذا البحث و ذهاب بعضهم الى حدّ الزاني المجنون أو رجمه و لا أدرى لماذا وقع هذا البحث منهم و هذا النظر من بعضهم؟

و استدلّ القائلون بعدم اعتبار العقل في الرجل و انّه يرجم المجنون مع إحصانه و يجلد مع عدمه برواية أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام إذا

______________________________

[1] قال السّيوريّ في التنقيح الرائع الجلد 4 الصفحة 330: اعلم انّه لا حدّ على المجنونة إجماعا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 89

زنى المجنون أو المعتوه جلد الحدّ و ان كان محصنا رجم. قلت: و ما الفرق بين المجنون و المجنونة و المعتوهة؟ فقال: المرأة إنّما تؤتى و الرجل إنّما يأتي و

انّما يزني إذا عقل كيف يأتي اللذة و انّ المرأة إنّما تستكره و يفعل بها و هي لا تعقل ما يفعل بها «1».

و فيه- مضافا الى ضعف الرواية [2] انّ للمجنون إرادات بالنسبة إلى أفعال خاصّة كأكله و شربه و فراره عن المخوّفات في بعض الأحايين و من هذا القبيل زناه فإنّه يزني بإرادته كما يأكل و يفرّ بإرادته لكن هذا لا فرق فيه بين المجنون و المجنونة فهي أيضا تأتى بهذه الأفعال بإرادتها فكما انّ المجنون يأتي المرأة و يقصد ذلك هكذا المجنونة تقصد ذلك و لذا تخلّى بينه و بين نفسها و ليس فعل الزنا متحقّقا و قائماً بفعل الرجل وحده بل للمرأة دخل فيه و لذا ينتسب الفعل إليها كما ينتسب اليه- اللّهم الّا ان تكون المرأة مستكرهة على الزنا كما ذكر ذلك في الرواية- بل قد يتّفق أنّ المجنونة تدعو الرجل الى نفسها و تخلّى نفسها له كي يزني بها فكيف نقول بأنّه يحدّ و يرجم المجنون دون المجنونة و الحال انّهما على حدّ سواء؟

و لو كان المراد انّ للمجنون مقدارا من العقل دون المجنونة فالّلازم بيان الفرق بين العاقل و المجنون- دون المجنون و المجنونة الذي هو المذكور في الرواية- فإنّه على ذلك يلزم القول بأنه يحدّ الزاني عاقلا كان أو مجنونا.

و على الجملة فلا يمكن للشرع تجويز ما ينكره العقل و يأباه بالاستقلال، فاذا لا بدّ امّا من تأويل الرواية المزبورة أو طرحها.

و قد حملها بعض العلماء على بعض الوجوه غير المنافية للحكم العقلي و من هؤلاء هو الشهيد الثاني قدّس سرّه فقال في المسالك بعد ذكر اشتراط البلوغ في الإحصان و انّ الصبيّ ليس بمحصن:

و الأظهر انّ المجنون

كذلك لاشتراكهما في العلّة فيشترط البلوغ و العقل

______________________________

[1] لأنّ في سلسلة السند إبراهيم بن الفضل (فهو الذي نقل الرواية عن ابان) و هو مجهول.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 21 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 90

و يجمعهما التكليف فلو وطئ المجنون فلا حدّ عليه رجما و لا جلدا لعدم التكليف الذي هو مناط الحدود على المعاصي.

ثم قال: و ذهب الشيخان و جماعة إلى وجوب الحدّ على المجنون و تحقّق الإحصان منه فيثبت عليه الرجم معه و الجلد دونه استنادا إلى رواية أبان بن تغلب- و عندئذ نقل الرواية.

و أجاب عنها بقوله: و هذا الرواية ظاهرة في كون الفاعل غير مجنون و ان كان صدرها قد تضمّن المجنون فيحمل على مجنون يعتوره الجنون إذا زنى بعد تحصينه لتناسب العلّة التي ذكرها في الرواية انتهى.

و فيه انّ هذا الحمل خلاف الظاهر جدا بل خلاف الصريح فإنّ الرواية صريحة في المجنون حال الزنا و انّه يكفى في صحّة الحدّ مجرّد انّه يعقل كيف يأتي اللّذة فكيف نقول: انّ المراد هو الذي زنى محصنا ثم عرض عليه الجنون [1].

هذا كلّه مضافا الى انّ نفس هذا الحكم- أي إقامة الرجم أو الجلد على من زنى- في حال عقله- عند جنونه لا يخلو عن كلام و ذلك لما هو الحقّ من عدم صحّة عقوبة المجنون و مؤاخذته على ما فعله، و ان كان ما فعله كان في حال الصحّة.

و حملها بعض آخر على ارادة بعض مراتب الجنون الذي يجتمع مع العقل و بقاء ما يصلح لثبوت التكليف عليه من الشعور. و بعبارة أخرى تحمل الرواية على قليل العقل لا كامل العقل- الذي

قد عبّر به المحقّق رحمة اللّٰه عليه في بداية البحث- فكان بحيث يصحّ توجّه التكليف اليه و ان لم يكمل عقله.

______________________________

[1] أقول مبني اشكاله دام ظلّه على الشهيد الثاني هو ما استظهره من كلامه من انّه يقول بأنّ الزاني قد زنى ثم عرض عليه الجنون فلذا أورد عليه بانّ الرواية تقول: إذا زنى المجنون إلخ.

و لكن الظّاهر انّ مراد الشهيد الثاني هو انّ المجنون المذكور في الموضوع مجنون ادوارىّ و لا منافاة أصلا بين كون أحد مجنونا أدواريّا و بين ان يزني في دور إفاقته و مع ذلك يصدق عليه المجنون و يقال: زنى المجنون و على ذلك فما ذكره رحمة اللّٰه عليه في التوجيه وجيه و لذا قد جمع بذلك الفاضل السيوري رضوان اللّٰه عليه فقال في التنقيح الرائع الجلد 4 الصفحة 330 و الرواية محمولة على من يفيق تارة و يجنّ اخرى فيكون قد زنى وقت تعقله، و التعليل يدلّ عليه و هو قوله عليه السلام: و انّما يأتي إذا عقل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 91

و فيه انّه ان كان بحيث يصحّ معه توجّه التكليف اليه فهو عاقل و خارج عن محلّ الكلام و ان لم يكن له أوّل مرتبة التعقّل و التميّز الذي يصح معه التكليف فلا يمكن العقوبة لعدم التكليف.

و حينئذ فلا مفرّ عن ورود الإشكال العقلي على القول المزبور. هذا مضافا الى روايات دالّة على رفع القلم عن المجنون كالصبيّ بعينه:

عن ابن ظبيان قال: أتى عمر بامرأة مجنونة قد فجرت فأمر برجمها فمرّوا بها على علىّ بن ابى طالب عليه السلام فقال: ما هذه؟ قالوا مجنونة فجرت فأمر بها عمر ان ترجم. قال: لا تعجلوا فاتى عمر

فقال له: اما عملت انّ القلم رفع عن ثلاث عن الصبيّ حتّى يحتلم و عن المجنون حتّى يفيق و عن النائم حتّى يستيقظ «1».

و عن علىّ عليه السلام قال: لا حدّ على مجنون حتّى يفيق و لا على صبيّ حتّى يدرك و لا على النائم حتّى يستيقظ «2».

و في صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في امرأة مجنونة زنت قال: انّها لا تملك أمرها ليس عليها شي ء «3».

و مورده و ان كان هو المرأة الّتي لا نزاع فيها الّا انّ التعليل عامّ كلّى يشمل الرجل أيضا.

و مثله ما رواه محمّد عن أحدهما عليهما السلام في امرأة زنت و هي مجنونة قال: انّها لا تملك أمرها و ليس عليها رجم و لا نفى «4».

و عن محمّد بن محمّد المفيد في الإرشاد قال: روت العامّة و الخاصّة أنّ مجنونة فجربها رجل و قامت البيّنة عليها، فأمر عمر بجلدها الحدّ فمرّ بها علىّ أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما بال مجنونة آل فلان تقتل؟ فقيل له: انّ رجلا

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 21 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 92

فجربها فهرب و قامت البيّنة عليها فأمر عمر بجلدها. فقال لهم: ردّوها اليه و قولوا له: اما علمت انّ هذه مجنونة آل فلان و انّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قال:

رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق، و انّها مغلوبة على عقلها و

نفسها، فردّوها إليه فدرأ عنها الحدّ «1».

و امّا ما قد يتوهّم من انّ مقتضى هذه الاخبار هو عدم اقامة الحدّ على المجنون حال جنونه و امّا بالنسبة الى بعد إفاقته فلا دليل على عدم إقامته عليه، و على هذا فيقام عليه الحدّ بعد حصول الإفاقة له، فهو غير تامّ.

و ذلك لانّ مقتضى رفع القلم عن المجنون هو عدم شي ء عليه و انّه لا يترتّب على فعله أثر أصلا، و الاشكال الجاري في عقوبة المجنون حال جنونه جار في عقوبته حال إفاقته لما اتى به في حال جنونه الّا ان يرتكب المعصية في حال صحّته و إفاقته فيعاقب على فعله و المسلّم المتيقّن عقوبته على ذلك في خصوص حال إفاقته و امّا في حال جنونه فهو محلّ الكلام و يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى.

ان قلت: فما تقول في تعزير الصبيّ فكما انه يجوز ذلك هكذا يجوز اجراء الحد على المجنون.

نقول: لو كان تعزير الصبي بمعنى عقوبته على فعله لجرى فيه الاشكال المزبور حرفا بحرف. لكنّ الظاهر انّ تعزير الصبي بمعنى تأديبه و لأجل ان لا يعتاد على الذنب بل يدعه و يتركه في القابل- كما ترى انّه قد يضرب الحيوان كيلا يعود الى ما فعله- و على ذلك يأوّل ما ورد من تعزير الزاني المجنون أيضا كخبر أصبغ بن نباته قال:

اتى عمر بخمسة نفر أخذوا في الزنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ و كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضرا فقال: يا عمر ليس هذا حكمهم قال: فأقم أنت الحدّ عليهم فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه و قدّم الآخر فرجمه و قدّم الثالث فضربه الحدّ و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ و

قدّم الخامس فعزّره

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 93

فتحيّر عمر و تعجّب الناس من فعله فقال عمر: يا أبا الحسن خمسة نفر في قضيّة واحدة أقمت عليهم خمسة حدود ليس شي ء منها يشبه الآخر فقال أمير المؤمنين عليه السلام: امّا الأوّل فكان ذميا فخرج عن ذمّته لم يكن له حدّ الّا السيف و امّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم و امّا الثالث فغير محصن حدّه الجلد و امّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ و امّا الخامس، فمجنون مغلوب على عقله «1».

فترى انّه عليه السلام لم يحدّ الخامس، و امّا التعزير فقد ذكرنا وجهه و على الجملة فترفع اليد عن رواية أبان بهذه الروايات الشريفة و لا مقاومة لها في إثبات الحكم لأنّها على خلاف العقل المستقلّ و ان لم يكن لها معارض فكيف بهذه الأخبار المعارضة لها.

و لذا قال في الجواهر- بعد قول الشرائع: و فيه تردّد-: كما في النافع بل منع، وفاقا لكافّة المتأخّرين حتّى المصنّف في نكت النّهاية بل عن الشيخين في العريض و الخلاف ذلك أيضا بل عن المسبوط قبل النسبة المزبورة ما يشعر بالإجماع على العدم بل هو المحكي عن صريح الغنية و ظاهر السرائر إلخ [2].

ثم انّه بعد ان اتّضح اعتبار العقل في إحصان الرجل كما اعتبر ذلك في

______________________________

[1] جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 274 أقول: و امّا كلامه في النكت فهذه: انّما صار الشيخ الى ذلك لانّ الواطى يفتقر الى قصد و لا يحصل القصد إلى الوطي مع ذهاب العقل فمع حصول الوطي يعلم انّ له قصدا. و يؤيّد ذلك رواية أبان-

و هنا نقل الرواية ثم قال قدّس سرّه:- و يقوى عندي انّه لا حدّ على المجنون لما روى عن الأصبغ انّ عمر اتى بخمس أخذوا في الزنا- و نقل تمام الرواية.

ثم قال:- و هذه و ان كانت صورة واقعة لكنّ التعليل فيها يؤذن بسقوط الحدّ و لعلّه احداث شبهة في طرف المجنون لاحتمال ان يكون ذلك هو الحكم فيه انتهى. راجع الجوامع الفقهيّة الصفحة 452.

ثم أقول: انّه قد ضعّفت الرواية لأنّ في سندها إبراهيم بن الفضل و لم يرد فيه توثيق و لا مدح، و في جامع المدارك الجلد 7 الصفحة 6: و الظاهر انّ إبراهيم المذكور هو الهاشمي كما يظهر من جامع الرواة و هو امامى و قيل حسن و استشعر المحقق البهبهاني ره في تعليقته من رواية جعفر بن بشير عنه وثاقته انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 94

المرأة كي تكون محصنة فهل يعتبر في إحصان الرجل كون المزنيّ بها أيضا عاقلة أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك فذهب كثير منهم الى عدم اعتباره و خالف فيه المحقّق الأردبيلي رضوان اللّٰه عليه و قال في مجمع الفائدة و البرهان:

يشترط في إحصان الرجل و رجمه كون المرأة المزنيّ بها عاقلة بالغة فلو زنا المحصن بمجنونة أو صغيرة فلا رجم انتهى و في الجواهر بعد ان نقل ذلك عنه: و فيه نظر يأتى عند تعرّض المصنّف لذلك [1]

الكلام في ادعاء الزوجية.

قال المحقّق: و يسقط الحدّ بادّعاء الزوجية و لا يكلّف المدّعى بيّنة و لا يمينا و كذا بدعوى ما يصلح شبهة بالنظر الى المدّعى.

و في المسالك: انّما يسقط الحدّ عنه بمجرّد الدعوى و ان

لم يثبت الزوجيّة لأنّ دعواه شبهة في الحلّ، و الحدّ يدرء بالشبهة و مثله ما لو ادّعى شراء الأمة من مالكها و ان لم يثبت ذلك.

ثم قال: و لا يسقط فيه من أحكام الوطي سوى الحدّ فلو كانت امة فعليه لمولاها العقر أو حرّة مكرهة فمهر المثل ان لم يثبت استحقاق الوطي.

و في الجواهر بعد نقل ذلك عن المسالك قال: قلت: هو كذلك إذا لم يكن مقتضى الأصل سقوطه.

أقول: انّه قد يكون مقتضى الأصل سقوط سائر الآثار أيضا كما إذا ادّعى زوجيّة المزني بها مع انّها لم تكن من قبل مزوّجة فان ادعاء الزوجيّة يوجب درء الحدّ و مقتضى الاستصحاب هو عدم الزوجيّة فلا يلزم المهر أيضا لكن هذا يوجب كون الأصل مثبتا لانّ استصحاب عدم التزويج ينتج كونها أجنبيّة فلا مهر لها و هذا الأصل المثبت الذي ليس بحجّة، و لو كانت الحالة

______________________________

[1] عند قوله: و لو زنى البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة فعليه الجلد لا الرجم انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 95

السابقة هي الزوجية أو العدّة فادّعى المتزوّج لها انّه كان يزعم رفع الزوجيّة أو انقضاء العدّة فحينئذ يدرء الحدّ بالشبهة و لكن مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية أو العدّة و يترتّب أحكامهما.

و ما ذكره في المسالك صحيح ان كان مستند السقوط الشبهة لاحتمال صدقه أو أصالة الصحّة في قوله أو فعله كما يوجد في عباراتهم و امّا ان كان مستند السقوط حجيّة قول المدّعى بلا معارض فيسقط سائر ما يترتّب على الوطي الحرام.

و تحقيق الكلام انّ هنا أمورا يمكن التمسّك به في درء الحدّ و يتفاوت الأمر بالنسبة إلى بقيّة الآثار باختلاف مقتضيات هذه الأمور.

أحدها التمسّك بدرء الحدود

بالشبهة و مقتضى ذلك هو درء الحدّ و ترتّب سائر الأحكام.

ثانيها صحيح ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: انّ عليّا عليه السلام اتى بامرأة مع رجل فجربها فقالت: استكرهني و اللّٰه يا أمير المؤمنين فدرأ عنها الحدّ و لو سئل هؤلاء عن ذلك لقالوا لا تصدّق و قد و اللّٰه فعله أمير المؤمنين عليه السلام «1».

و هذه أيضا كالسابقة.

ثالثها أصالة الصحّة كما قد يرى التمسك بها في عباراتهم.

و فيه انّ مقتضى أصالة الصحة في القول هو ان يصدّق في قوله و في دعواه الزوجيّة مثلا و بعبارة أخرى الحكم بصدقه لا الحكم بكذبه و فسقه في ذلك لكن لا يترتّب آثار الواقع المترتّبة على الزوجيّة. كما انّ أصالة الصحة في الفعل تنتج انّه لم يفسق بعمله المشكوك فيه و انّه لم يزن عامدا، و لا يترتّب وراء ذلك شي ء [1].

______________________________

[1] راجع لهذا الكلام، التنبيه الخامس من تنبيهات باب أصالة الصحّة من فرائد الشيخ الأعظم الجلد 2 الصفحة 728 الطبع الجديد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من أبواب حدّ الزنا الحديث 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 96

رابعها ما بدا لنا و هو كون المقام من قبيل الادعاء بلا معارض، فكما انّه لو كان هناك مال و كان زيد يدّعى انّه له و لم يكن له معارض يعارضه في ذلك فإنّه يأخذه و يعامل معه معاملة المالك فيشترى منه و يصلّى فيه و يوّرث منه، الى غير ذلك من الآثار فهنا أيضا يدّعي الرجل انّها زوجته و لا تعارضه الزوجة فيعامل معه معاملة الزوج فيترتّب جميع الآثار كما انّه لا حدّ عليه.

و يؤيّد ذلك انّ صاحب الجواهر مثل بباب التزويج أيضا

للدّعوى بلا معارض و هذا يشعر بأنّه لا يختصّ ذلك بباب الأموال، و السيرة جارية على قبول الدعوى بلا معارض إذا كان المدّعى ظاهر الصلاح، و على الجملة فمقتضى ذلك هو ترتيب جميع الآثار. و قد اتّضح بما ذكرناه انّ ترتيب الآثار كلّها موقوفة على الأمر الرابع و ان كان مجرّد درء الحدّ يجرى مع كلّ الوجوه الأربعة.

و ظاهر عبارة المحقّق انّ مستنده هو الوجه الأوّل و لذا قال بعد فرض ادّعاء الزوجيّة: و كذا بدعوى ما يصلح شبهة بالنظر الى المدّعى.

و على الجملة فدرء الحدّ بالشبهة أمر جار في كلّ مورد كانت هناك شبهة و لم يكن إثبات الزنا بنحو القطع، فيكفي احتمال الزوجية عند ادعائها أو احتمال الجهل بالحكم أو الموضوع أو الاشتباه المصداقي كما يكفى ادّعاء شراء الأمة من مالكها كما مرّ.

نعم على فرض ترتّب آثار الوطي مطلقا سوى الحدّ يأتي إشكال في زنا الأمة فمن حيث انّها زنت برضاها فهي بغيّة و لا مهر لبغيّة في الحرّة، فلا عقر لها في الأمة و من حيث انّها لمولاها و هو لم يأذن في ذلك فيلزم على الزاني العقر، و كونها بغيّة لا يوجب إسقاط حقّ المولى.

الكلام في إحصان المرأة

اشارة

قال المحقّق: و الإحصان في المرأة كالإحصان في الرجل.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده بل عن الغنية الإجماع عليه لاشتراك معنى الإحصان فيهما نصا و فتوى فيشترط حينئذ فيها جميع ما عرفته على النحو

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 97

الذي سمعته انتهى.

أقول: و على هذا فالمسئلة من جهة الفتوى ممّا لا خلاف فيها بل هي مجمع عليها. هذا بالنسبة إلى الأقوال، و امّا بالنسبة الى الاخبار التي يستفاد منها ذلك فهي عدة اخبار

منها صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول المغيب و المغيبة ليس عليهما رجم الّا ان يكون الرجل مع امرأة و المرأة مع الرجل «1».

فهي تدلّ على انّ الغيبوبة كما توجب خروج الرجل عن كونه محصنا كذلك توجب خروج المرأة عن كونها محصنة.

و منها صحيحة ابى عبيدة عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن امرأة تزوّجت رجلا و لها زوج قال: فقال: ان كان زوجها الأوّل مقيما معها في المصر التي هي فيه تصل اليه و يصل إليها فإنّ عليها ما على الزاني المحصن [الزانية المحصنة] الرجم و ان كان زوجها الأوّل غائبا عنها أو كان مقيما معها في المصر لا يصل إليها و لا تصل إليه فإنّ عليها ما على الزانية غير المحصنة و لا لعان بينهما «2».

و هذه تدلّ على انّ الملاك في إحصانها وصولها اليه كوصوله إليها و كونهما في مصر واحد.

و عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ فإذا أحصنّ قال: إحصانهن أن يدخل بهنّ قلت: أ رأيت ان لم يدخل بهنّ و أحدثن ما عليهنّ من حدّ؟ قال: بلى «3».

و هذه صريحة في اعتبار الدخول لصدق إحصانهن.

و مرسلة الصدوق: محمّد بن علىّ بن الحسين قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ النِّسٰاءِ قال: هنّ ذوات الأزواج قلت:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 3 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 1، ص: 98

و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال: هنّ العفائف «1».

و مقتضى هذه هو اشتراط كونها ذات زوج كي يصدق عليها كونها محصنة.

و عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في قوله: فإذا أحصنّ قال:

إحصانهنّ إذا دخل بهنّ قال: قلت: أ رأيت ان لم يدخل بهنّ و أحدثن ما عليهنّ من حدّ؟ قال: بلى «2».

ثم انّ مقتضى الجمع بين هذه الروايات انّه يعتبر في إحصان المرأة ان تكون مزوّجة أي ذات بعل و مدخولا بها و ان لا يكون زوجها غائبا عنها بل كان مقيما معها في البلد بحيث تصل اليه و يصل إليها.

و على هذا فيصحّ القول بانّ المستفاد منها هو انّ جميع ما يشترط في إحصان الرجل يشترط في إحصان المرأة كما لا يخفى.

نعم من جملة شرائط إحصان الرجل ان يكون له فرج يغدو عليه و يروح، و من المعلوم انّ هذا لا يتمّ بالنسبة إلى المرأة فإنّه ليس لها ان تغدو على الرجل و تروح بل هذا حقّ للزوج، و الاختيار في ذلك بيده، فالمراد انّه لو كان الرجل له زوجة يغدو عليها و يروح فهما محصنان بذلك و كما انّه سبب لإحصانه، كذلك يكون سببا لإحصانها، و المقصود من قوله ع يصل إليها هو إمكان الوصول إليها، و من قوله ع: و تصل اليه، هو إمكان وصولها اليه مهما أراد الرجل الوصول إليها و التمكّن منها غدوّا و رواحا.

و لذا قال في الجواهر: فما يعتبر في إحصان الرجل معتبر في إحصان المرأة لكنّ المراد من تمكّنها من الزوج إرادته الفعل على الوجه المزبور لا ارادتها متى شاءت ضرورة عدم كون ذلك حقّا لها انتهى كلامه

«3».

ثم انّه قد تقدّم انّه يعتبر في إحصان الرجل ان لا تكون زوجته متعة بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 10.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 11.

(3) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 277.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 99

اللازم كونها دائمة فهل يعتبر في إحصان المرأة أيضا كونها زوجة دائمة أو انّه- و ان كان ذلك شرطا في إحصان الرجل لكنّه- ليس شرطا في إحصانها؟

ربّما يؤيّد الثاني صدق انّ لها زوجا و قد ورد في الروايات السابقة انّ المتعة لا تحصن الرجل و امّا عدم كونها محصنة أيضا فلم يكن فيها شي ء من ذلك.

و قد يستدلّ للأوّل أي اشتراط العقد الدائم في إحصانها أيضا برواية إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل إذا هو زنى و عنده السريّة و الأمة يطأها تحصنه الأمة و تكون عنده؟ فقال: نعم انّما ذلك لانّ عنده ما يغنيه عن الزنا. قلت: فان كانت عنده امرأة متعة أ تحصنه؟ فقال: لا. انّما هو على الشي ء الدائم عنده «1» فان المشار اليه بقوله: ذلك، أو مرجع ضمير انّما هو على الشي ء الدائم هو الإحصان فيدلّ على انّه انّما يكون الإحصان في الشي ء الدائم بلا فرق بين إحصان الرجل و المرأة فإنّ المورد و ان كان هو الرجل الّا انّ الحكم عامّ و هو من باب تطبيق الكبرى على الصغرى «2».

لكنّه مشكل و ذلك لعدم الملازمة بين ان لا تحصن المتعة الرجل الزاني و بين ان لا تكون هي بنفسها محصنة.

و الظاهر انّه يصدق عليها كونها مزوّجة خصوصا إذا كان زوجها بحيث لا

يعطّلها و حينئذ فلو زنت فهي محصنة و ترجم الّا ان يكون هناك إجماع على اعتبار الدوام و عدم كونها متعة في إحصانها.

اللّهم الّا ان يكون معنى: لها زوج، ان يكون لها زوج محصن فان الزوج لا يكون محصنا إلّا إذا كان له ما يدوم اى الزوجة الدائمة أو ملك اليمين.

و الّا فلم يكن في الروايات ما يفيد انّ المتعة لا تكون محصنة فيكفي في إحصانها كون الزوج محصنا نعم في خصوص المغيب و المغيبة و المحبوس منصوص بعدم كون

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(2) أورده بعض الأعاظم في مباني تكملته الجلد 1 الصفحة 207.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 100

المرأة محصنة [1].

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام انّه إذا كانت الزوجة مدخولا بها و كانت بحيث كلّما أراد زوجها ان يواقعها امكنه ذلك فهي أيضا محصنة و ان فرض انّ الزوج لم يرد ذلك و انّ الملاك هو إمكان ذلك و تيسّره حين أراد و لو في كلّ أربعة أشهر مرّة حيث انّه ليس لها حق أكثر من ذلك.

نعم لو كانت مريضة أو محبوسة لا تمكنها اجابة الزوج فليست بمحصنة كما انّ الزوج لا يكون حينئذ محصنا.

هل يعتبر حريّتها في تحقّق إحصانها؟

قد تقدّم انّه تعتبر في إحصان الرجل، الحريّة فهل هي شرط في إحصان المرأة و ثبوت الرجم عليها حتّى لا يحكم عليها بالرجم إذا لم تكن حرة؟

الظاهر هو الأوّل بل ادّعى عدم الخلاف في ذلك.

و تدلّ عليه صحيحة محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في مكاتبة زنت قال: ينظر ما أدّت من مكاتبتها فيكون فيها حدّ الحرّة و

ما لم تقض فيكون فيه حدّ الأمة- الى ان قال:- و ابى ان يرجمها و ان ينفيها قبل ان يبيّن عتقها «1».

و رواية بريد العجلي عن ابى عبد اللّٰه [جعفر] عليه السلام في الأمة تزني قال: تجلد نصف الحدّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج «2».

و على هذا فالأمة ليست بمحصنة و ان كان لها زوج محصن و بتعبير آخر يشترط في إحصانها و رجمها حريّتها كما تشترط في إحصانه و رجمه حرّيته.

هل تعتبر حرّية الزوج في إحسان المرأة؟

و هل تشترط في إحصانها- مضافا الى حرّية نفسها- حرّية زوجها بان

______________________________

[1] أقول قدّ صرّح في صحيح ابن مسلم بعدم الرجم على المغيب و المغيبة و امّا المحبوس فالمصرّح به في رواية ابى عبيدة هو عدم رجم الرجل الزاني المحبوس و امّا الزوجة فلا، نعم يمكن ان يستفاد منه ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 101

لا تكون الحرّة الزانية زوجة للعبد أم لا؟.

نقول: قد عرفت انّه لا يشترط في إحصان الرجل حريّة زوجته بل لو كان له ملك يمين لكفى ذلك في كونه محصنا و لا فرق بين الزوجة الدائمة و الأمة في إحصان الرجل، و انما الكلام في عكس ذلك و هو ما إذا كان زوج الزانية الحرّة عبدا، و الظاهر انه ليس فيه نصّ خاصّ يدلّ على كونها محصنة كالعكس على ما تقدّم.

بل في صحيح الحلبي: قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: لا يحصن الحرّ المملوكة و لا المملوك الحرّة «1».

لكن فيه كلاما فلذا قال الشيخ الحرّ العاملي: حمله الشيخ

على انّ المراد به انّ المملوك و المملوكة لا يحصنان بالحرّ و الحرّة بحيث يجب على المملوك الرجم لانّ ذلك لا يجب عليه على حال بل عليه الجلد لما مضى و يأتي، فهو نفى لإحصان خاص.

و نحن نقول: لا شكّ في انّ الحرّ في الجملة الأولى فاعل، و المملوكة مفعول و معناها انّ الزوج الحرّ لا يكون سببا لكون الزوجة المملوكة محصنة حتّى ترجم بزناها بل يشترط في إحصانها كونها حرّة و امّا الجملة الثانية فظاهر السياق و ان كان يقتضي كونها كالأولى بأن يكون المملوك فاعلا و الحرّة مفعولا فيكون المراد انّ الزوج المملوك لا يكون سببا لإحصان الحرّة فيعتبر في إحصانها كون الزوج غير مملوك و ان تكون المرأة زوجة للحرّ الّا انّه يرفع اليد عن هذا الظاهر لما هو المعلوم من انّ العبد أو الأمة لا يغيّران حكم الحرّ و الحرّة و ذلك بدليل خارج كخبر ابى عبيدة عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام و فيه:

ان كان زوجها الأوّل مقيما معها في المصر التي هي فيه تصل اليه و يصل إليها فإنّ عليها ما على الزاني المحصن [الزانية المحصنة] الرجم «2».

فان الظاهر منه انّ المرأة إذا كان لها زوج حاضر يصل إليها و تصل

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 102

اليه فلو زنت فهي زانية محصنة، و هذا بعينه صادق في المقام و ان كان زوجها مملوكا.

و على هذا فتقرء الجملة الثانية بتقديم المفعول و تأخير الفاعل، و المعنى انّ الزوج المملوك لا يصير محصنا بمجرّد

كون الزوجة حرّة بل تعتبر في إحصان الزوج حرّيته بنفسه فاذا كان هو حرّا متمكّنا من امرأة يغدو عليها و يروح فهو محصن سواء كان لها زوجة حرّة أو ملك اليمين فقد ظهر انّ ما افاده الشيخ الطوسي قدّس سرّه هو الظاهر.

كما انّ في كشف اللثام أيضا: و لعلّ المملوك منصوب، و الحرّة مرفوعة فيكون كصحيح ابى بصير «1».

و مراده من صحيح ابى بصير هذا: عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: في العبد يتزوّج الحرّة ثم يعتق فيصيب فاحشة قال: فقال:

لا رجم عليه حتّى يواقع الحرّة بعد ما يعتق «2».

ثم لو فرض كون الجملة الثانية كالأولى في كون الأول- المملوك- فاعلا و الثاني- الحرّة- مفعولا، فهذا يوجب التخصيص في الروايات الدالة على انّ المرأة التي لها زوج، محصنة إذا كان يصل إليها و تصل اليه، و النتيجة انّ المرأة التي لها زوج كذلك إذا زنت فهي محصنة إلّا إذا كان زوجها مملوكا فلا تكون محصنة، لوضوح انّ المعنى على فرض تقديم الفاعل هو انّ الزوج المملوك لا يصيّر الزوجة الحرّة محصنة، و هذا بخلاف العكس و هو ما إذا كان المفعول مقدّما فإنّه لا يلزم التخصيص أصلا، و معلوم انّه مع الشك في التخصيص لا يمكن الذهاب اليه بل المرجع هو عموم المحصنات هي المزوّجات، المستفاد من الروايات فيجب الرجم [1].

______________________________

[1] أقول: و صريح عبارة صاحب الرياض عدم اشتراط حرّيّة الزّوج في إحصان المرأة و انّ ذلك مجمع عليه قال- في ذيل عبارة المختصر النافع: و إحصان المرأة كإحصان الرجل-: في اشتراط ان تكون

______________________________

(1) كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 220.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث

5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 103

لا يقال انّه على ما ذكرتم يحتمل التخصيص فلا رجم، و عدمه فيجب الرجم، فيكون المورد من موارد الشبهة و من المعلوم هو درء الحدود بالشبهات.

لأنّا نقول: أجل أنّ الحدود تدرء بالشبهات لكن بشرط عدم وجود عام يكون هو المرجع و الّا فمع الرجوع اليه مثلا كما في المقام فلا شبهة في البين كي تدرء.

«المطلقة الرجعية محصنة»

قال المحقّق: و لا تخرج المطلّقة الرجعية عن الإحصان و لو تزوّجت عالمة كان عليها الحدّ تامّا و كذا الزوج ان علم بالتحريم و العدّة و لو جهل فلا حدّ و لو كان أحدهما عالما حدّ حدّا تامّا دون الجاهل، و لو ادّعى أحدهما الجهالة قبل إذا كان ممكنا في حقّه.

أقول: غير خاف انّ المطلّقة على قسمين رجعيّة و بائنة امّا الرجعية فهي زوجة في الحقيقة أي في حكمها و ذلك لانّه كلّما أراد الزوج الرجوع إليها يمكنه ذلك فإنّ أمرها بيده ما دامت في العدّة كما إذا لم تكن مطلّقة و على هذا فله فرج يغدو عليه و يروح، و على الجملة فلم تتحقّق البينونة الحقيقيّة بينهما بالطلاق الرجعي و هي من هذه الجهة كأنّها غير مطلّقة و ان كان وطيها يحتاج الى الرجوع الّا انّه كم فرق بين من ليس له زوجة- و ان كان يمكن له تحصيلها في كلّ آن- و بين من كانت له مطلّقة رجعيّة يمكن له الرجوع إليها مهما أراد- و هذا بخلاف المطلّقة البائنة التي لا سبيل للزوج إليها- و على هذا فلو طلّق الزوج زوجته كذلك ثم زنى حال كون زوجته في العدّة فهو محصن و ان لم تكن له زوجة أخرى في حبالته

فإنّه يصل إليها كلّما أراد و عند ما شاء كما انّها تصل اليه عند ما أراد الزوج الوصول إليها.

هذا مضافا الى روايات خاصّة منها صحيح الكناسي قال: سألت

______________________________

بالغة عاقلة حرّة لها زوج دائم أو مولى و قد وطأها و هي حرّة بالغة عاقلة و هو عندها يتمكّن من وطئها غدوّا و رواحا بلا خلاف أجده حتى في اعتبار كمال العقل فيها إلخ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 104

أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن امرأة تزوّجت في عدّتها فقال: ان كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة فان عليها الرجم و ان كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليها الرجعة فان عليها حدّ الزاني غير المحصن، و ان كانت تزوّجت في عدّة بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة أشهر و العشرة أيّام فلا رجم عليها، و عليها ضرب مأة جلدة قلت: أ رأيت ان كان ذلك منها بجهالة؟

قال: فقال: ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين الّا و هي تعلم انّ عليها عدّة في طلاق أو موت و لقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك. قلت: فان كانت تعلم انّ عليها عدّة و لا تدري كم هي؟ فقال: إذا علمت انّ عليها العدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتّى تعلم «1».

و منها رواية الكناسي الأخرى قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة تزوجت في عدّتها فقال: ان كانت تزوّجت في عدّة من بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة الأشهر و عشر فلا رجم عليها و عليها ضرب مأة جلدة و ان كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها رجعة فإنّ عليها الرجم و ان كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليها فيها

رجعة فإنّ عليها حدّ الزاني غير المحصن «2».

فقد فصلّ فيهما بين المطلقة الرجعيّة و البائنة و صرّح بلزوم الرجم في الاولى و الجلد في الثانية كما انّ الأمر في المتوفّى عنها زوجها أيضا كذلك.

و ليعلم انّ المراد من التزويج في عدّة الطلاق الرجعي الموجب للرّجم هو التزويج مع الدخول فان مجرد التزويج- و ان كان محرّما- لا يوجب الحدّ و الرجم و انّما يوجب التعزير و ليس هو من أسباب الحدّ المذكورة في بداية الكتاب. و على الجملة فبعد تحقّق الوطي يتحقّق الزنا الموجب للرجم فيكون كالزنا بدون النكاح في أيّام العدّة الرجعية.

نعم في بعض الروايات الحكم بالرجم في أيّام العدّة مطلقا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب حدّ الزنا الحديث 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 105

فعن عمّار بن موسى الساباطي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل كانت له امرأة فطلّقها أو ماتت فزنى قال: عليه الرجم و عن امرأة كان لها زوج فطلّقها أو مات ثم زنت عليها الرجم؟ قال: نعم «1».

و عن قرب الاسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن جدّه علىّ بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن رجل طلّق و «أو» بانت امرأته ثم زنى ما عليه؟

قال: الرجم. و سألته عن امرأة طلّقت فزنت بعد ما طلّقت هل عليها الرجم؟

قال: نعم [1].

لكن لا بدّ- بمقتضى خبر الكناسي الصريح في التفصيل بين الرجعية و البائنة- من حمل المطلق على المقيّد و لا يمكن الأخذ بإطلاق هاتين.

و لذا قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه عند ما نقل رواية الساباطي:

ما يتضمّن هذا الخبر من

حكم الرجل انّه إذا طلّق امرأته أو ماتت فزنى انّ عليه الرجم لا ينافي ما قدّمناه من الاخبار لانّ كونه مطلّقا يحتمل ان يكون انّما كان طلاقا يملك فيه الرجعة فهو محصن لانّه متمكن من وطئها بالمراجعة، و ان كانت بائنة أو ماتت هي فلا يمتنع ان يكون انّما أوجب عليها الرجم إذا كان عنده امرأة أخرى تحصنه و امّا حكم المرأة إذا طلّقها زوجها انّما يجب عليه الرجم إذا كان الطلاق رجعيا حسب ما قدّمناه في الرجل، و امّا موت الرجل فلا يحصنها بعد ذلك فاذا زنت في العدّة فليس عليها غير الجلد، و يحتمل ان يكون ذلك و هما من الراوي «2».

ترى انه قدّس سرّه حمل رجم الرجل المطلّق زوجته على ما إذا كان الطلاق رجعيّا أو انّه لو كان الطلاق بائنا فإنّما كانت عنده امرأة أخرى فكان زناه عن إحصان أيضا و بهذا وجّه أيضا حكم رجم الرجل الزاني الذي ماتت زوجته

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 6 من حدّ الزنا الحديث 1 و 2، لكن ليس فيه لفظ «بسنة» في حين انّه موجود في المصدر أي قرب الاسناد فراجع الصفحة 110 حيث قال: بعد ما طلقت بسنة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من حدّ الزنا الحديث 7.

(2) التهذيب الجلد 10 الصفحة 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 106

و ذلك لما هو مقرّر من انّ موت الزوجة يخرج الرجل عن كونه محصنا فلا بدّ من حمل ما يدلّ على إحصانه و رجمه على ما إذا كانت له زوجة أخرى. كما انّه قدّس سرّه حمل ذيل الرواية الدّالّ على رجم المرية التي زنت بعد ان طلّقها زوجها على ما

إذا كان الطلاق رجعيا فكانت في الحقيقة ذات بعل قد زنت و حكمها الرجم.

و امّا رجم المرية التي زنت بعد ان مات زوجها فقد حمل قدّس سرّه ذلك على وهم الراوي اى تردّده في النظر، و خطأه، و ذلك لتسالم الأصحاب على انّ زنا أحد الزوجين بعد موت الآخر لا يوجب الرجم لعدم الإحصان.

و على الجملة فالحكم برجم الرجل الذي زنى بعد ان طلّق امرأته، في رواية قرب الاسناد أيضا يحمل على كون الطلاق رجعيا كي يكون ذا زوجة فيكون محصنا و يترتّب على زناه الرجم، أو يحمل على انه كانت له زوجة أخرى.

و امّا قوله عليه السلام في هذا الخبر: أو بانت، فحيث انّ الزنا بعد الطلاق البائن مع عدم زوجة أخرى له لا يوجب الرجم فلا بدّ من ان يحمل امّا على كون (أو) بمعنى الواو فيكون قوله: أو بانت امرأته، عبارة أخرى عن قوله عليه السلام:

طلّق، و امّا على كون المراد انّها بانت و تركت زوجها و ذهبت فلا يد له عليها [1] أو على انّ المراد انّها بانت و حرّمت عليه بعامل غير الطلاق كالرضاع أو النشوز و عدم التمكين.

و لو لم يمكن الحمل على شي ء من هذه الوجوه أو غيرها فلا إشكال في طرحها لمعارضتها لروايات اخرى أقوى منها كروايتي الكناسي فإنّهما بسند صحيح و دلالة واضحة تدلان على انّ الرجعية بحكم الزوجة و على انّ الإحصان محقّق بالطلاق الرجعي دون البائن.

______________________________

[1] هذا الحمل و الحمل الأخير لا ينفعان شيئا و ذلك لانّه و ان وجّه بذلك معنى «بأن» الّا انّ من المسلم عدم ارادة هذا المعنى و ذلك لانّه لا يكون حكم الزنا مع البينونة بهذا النحو الرجم في

حين انّ الرواية صريحة في الرجم بزناه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 107

هذا كلّه بناء على انّ ضبط الخبر هو لفظة «أو» و امّا لو كان الوارد فيه هو لفظ (الواو)- كما هو كذلك في قرب الاسناد- فلا إشكال أصلا و لا حاجة الى التوجيه لانّه على ذلك تكون جملة: و بانت عنه امرأته، تفسيرا للطلاق و عبارة أخرى عنه لا شيئا آخر ورائه.

ثم انّ الموجود في رواية قرب الاسناد على ما هو المضبوط في نفس المصدر هكذا: و سئلته عن امرأة طلّقت فزنت بعد ما طلّقت بسنة.

فلو كان لفظ (سنة) بلا تشديد فهو بمعنى العام و حينئذ لا يكون ملائما للحكم المذكور فيها و هو الرجم لانّه مع مضىّ سنة من طلاقها تكون بائنة لا محالة، فلا بدّ من كون اللفظ مشدّدا مرادا به ما يقابل البدعة، و هو المعروف بالطلاق السّنيّ و هو منسوب إلى السنّة و له اطلاقان:

أحدهما انّه كلّ طلاق جائز شرعا و هو ما قابل الحرام و في مقابله البدعي اى الحرام.

ثانيهما ما هو أخصّ منه و هو ان يطلّق على الشرائط ثم يتركها حتّى تخرج من العدّة و يعقد عليها ثانيا و يقال له طلاق السنّة بالمعنى الأخصّ.

ثم انكّ قد علمت انّه صرّح في روايتي الكناسي بانّ المطلّقة الرجعيّة إذا زنت فهي محصنة و ترجم لكن لا تعرّض فيهما بالنسبة إلى الزوج و انّه إذا زنى يكون محصنا و يرجم و ذلك للعلم بوحدة المناط و هو حصول الزوجية و تحقّقها في هذه المدّة.

كما انّ موثقة الساباطي و رواية قرب الاسناد المذكورتين آنفا تدلّان بإطلاقهما على انّ مطلق من طلّق امرأته فزنى بعد ذلك يكون محصنا و

حيث انّ الحكم المذكور فيهما هو الرجم فلذا حملتا على من طلّق زوجته رجعيا، و على الجملة فبمناط روايتي الكناسي و مقتضى رواية عمّار الساباطي و رواية قرب الاسناد يحكم بانّ الزوج أيضا كالزوجة إذا زنى في مدّة عدتها فهو محصن و حدّه هو الرجم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 108

و امّا ما في الموثقة من عطف موت المرأة بطلاقها الدّالّ على انّ الرجل يرجم بالزنا بعد موت زوجته فهو لا يلائم القواعد فلذا صار معرضا عنه عند العلماء.

ثم انّ ما افاده المحقّق في عبارته المتقدمة من وجوب الحدّ التامّ على المرأة إذا تزوّجت عالمة فتكفي في الاستدلال عليه الاخبار الدالة على رجم المرأة ذات بعل و ذلك لانّ الرجعيّة زوجة.

حول اشتراط العلم

لا شكّ في اعتبار العلم بالحكم و الموضوع كي يوجب الزنا في المقام الرجم و قد صرّح بذلك المحقّق فيما نقلناه من كلامه بلا فرق بين الرجل و المرأة فلو جهلا أو جهل أحدهما سقط الحدّ عنهما أو عن الجاهل منهما.

و الدليل على ذلك صدق المحصن على المطلّق و المحصنة على المطلّقة إذا كان سائر شرائط الإحصان موجودة، و الروايات الواردة في المقام.

و امّا قوله عليه السلام في رواية الكناسي- في جواب السؤال عن انّها إذا تزوّجت في أيّام العدّة جهلا-: ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين الّا و هي تعلم انّ عليها عدّة في طلاق أو موت و لقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك إلخ «1» فالمراد منه نفى العلم خارجا و هو محمول على الغلبة فلو علم انه كان جاهلا فلا رجم و لا حدّ أصلا.

و في المسالك: و لو تزوّجت الزوجة بغير الزوج فكتزويج المطلقة رجعيّا و اولى

بالحكم.

ثم انّ من جملة الروايات الدالة على انّه مع العلم يترتّب الرجم رواية أبي بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن امرأة تزوّجها رجل فوجد لها زوجا قال: عليه الجلد و عليها الرجم لانّه تقدّم بعلم و تقدّمت هي بعلم و كفّارته ان لم يقدّم الى الامام ان يتصدّق بخمسة إصبع دقيقا «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 109

و هي صريحة في انّ المرأة ذات البعل إذا تزوجت بآخر فإنّها ترجم، لكونها عالمة بأنّ لها زوجا و بحرمة النكاح مع ذلك.

نعم يشكل الأمر بالنسبة الى الرجل الذي تزوّجها فإنّه لو كان عالما بذلك كما هو صريح العبارة، فإن كان له فرج مملوك فلا بدّ من ان يرجم هو أيضا لكونه محصنا على ذلك، و ان لم يكن له فرج مملوك فحكمه و ان كان هو الجلد الّا انّ ذلك لا يناسب تعليل الرواية فلو كان يعلل بقوله: لانّه كان عالما و لم يكن له فرج مملوك لكان حسنا لكنّه علّل بقوله: لانّه تقدّم بعلم.

و على الجملة فيحمل هذا الحكم على انّ الرجل لم تكن له زوجة فلذا يحدّ و لا يرجم نعم في نسخة الكافي: لأنّه تقدّم بغير علم، و هذا أنسب ان يكون تعليلا للحكم بعدم رجمه مع انّها ترجم. الّا انّه يرد عليها انّه إذا كان قد أقدم بغير علم فلا حكم له حتّى الجلد و ان كان له فرج مملوك [1] و الحال انّه قد حكم عليه بالجلد.

و كيف كان فهي تدلّ على رجم المرأة

التي قد تزوجت و كان لها زوج و هي عالمة.

و عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه السلام قال: سئل عن امرأة كان لها زوج غائبا عنها فتزوّجت زوجا آخر، قال: ان رفعت الى الامام ثم شهد عليها شهود انّ لها زوجا غائبا و انّ مادّته و خبره يأتيها منه و انّها تزوّجت زوجا آخر كان على الامام ان يحدّها و يفرّق بينها و بين الذي تزوّجها، قلت: فالمهر الذي أخذت منه كيف يصنع به؟ قال: ان أصاب منه شيئا فليأخذه و ان لم يصب منه شيئا فإنّ كلّ ما أخذت منه حرام عليها مثل أجر الفاجرة «1».

______________________________

[1] أقول: لكن على نقل العلامة المجلسي قدّس سرّه، حمل هذا الحدّ على التعزير لتقصيره في التفتيش أو على ما إذا ظنّ انّ لها زوجا، ثم قال: و احتمل الشيخ ان يكون متّهما في دعوى التزويج. فراجع مرآت العقول الجلد 23 الصفحة 294.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من حدّ الزنا الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 110

قوله: مادّته يعنى النفقة الواجبة عليه لها.

و هي تدلّ بالمنطوق على انّه إذا أقامت البيّنة على حياة زوجها و مع ذلك تزوّجت برجل آخر فان عليها الحدّ دون الرجم لانّ زوجها غائب عنها و ليس معها، و بالمفهوم على انّه لو لم تقم البيّنة عند الامام على كونها عالمة بحياة زوجها فليس له ان يحدّها باستصحاب علمها الى حال التزويج، و يستفاد منها انّه يكتفى في إجراء الحدّ بالبيّنة فهي كالعلم و قيام البيّنة على انّ لها زوجا غائبا و انّ خبره و نفقته يأتيها و مع ذلك فقد تزوّجت بآخر فهو كالعلم بحياة زوجها و بقاءه

بلا فرق بينهما و امّا لو لم تقم البيّنة فلا [1].

و التحقيق انّ العلم ان أخذ في موضوع الحدّ بما هو صفة من صفات النفس فالمعتبر في إجراء الحدّ مطلقا هو حصول هذه الصفة و تحقّقها بنفسها و لا يقوم مقامها شي ء. امّا لو كان مأخوذا فيه بما هو طريق فحينئذ تقوم البيّنة مقامه.

و امّا انّه بعد ان أخذ في الموضوع فمن أين يعلم انّ أخذه كان على النحو الأوّل أو الثاني فهذا قد يستفاد من ظاهر أخذه فيه و قد يستفاد من الخارج كالتصريح به في نصّ من النصوص أو التصريح بقيام شي ء كالبيّنة مقامه أو بعدم قيامه و ما نحن فيه من هذا القبيل للتصريح بقيامها مقامه في خبر ابى بصير.

و امّا بالنسبة إلى قيام الاستصحاب مقامه و عدمه فمقتضى طريقيّة العلم هو الأوّل فهذه المرأة التي كان يأتيها خبر زوجها و مادّته تستصحب بقاءه و حياته كما يستصحب علمها الحاصل في أوّل أزمنة غيبوبة زوجها بوجوده فلو تزوّجت و تحقّق الوطي أيضا يجب اجراء الحدّ عليها، الّا انّه يخرج عن هذه القاعدة لما ذكرنا من اقتضاء رواية أبي بصير قيام خصوص البيّنة مقام العلم دون

______________________________

[1] هكذا أفاد دام ظله الشريف في مجلس الدرس و كتب كذلك في دفتر مذكّراته و هو يظاهره لا يخلو عن كلام و ذلك لانّ البيّنة المذكورة في خبر ابى بصير كانت عند المرافعة إلى الحاكم و لإثبات زناها و تزويجها مع كونها ذات بعل و لم تكن بيّنة قائمة للزوجة و عندها حتى يستفاد من ذلك قيام البيّنة مقام العلم، ثم استفادة الخصوصة لها، حتى لا يجوز قيام الاستصحاب مقامه، و هذا الاشكال وارد في مواقع

من هذا البحث.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 111

غيرها إذا فلا وجه للتمسك بالاستصحاب بعد عدم العلم.

لا يقال: يكفينا في المقام انّه من موارد الدرء، للشبهة حيث ان المرأة لم تكن عالمة ببقاء الزوج بل كانت شاكّة في ذلك فيدرء الحد عنها بلا حاجة الى التمسك بالرواية و أخذ المفهوم.

لأنّا نقول: انّه لا ينفع في المقام شيئا و ذلك لأنّه إذا شك في خروج المورد عن حكم العامّ الدّال على وجوب حدّ الزاني و الزانية فالأصل عدمه لأنّ الأصل عدم التخصيص و هذا الأصل جار بلا كلام، و العامّ حجّة، فلا مورد للقاعدة لعدم الشبهة و الحال هذه، فلا محيص حينئذ عن التمسك بالرواية و هو يقتضي عدم قيام غير البيّنة مقام العلم.

و امّا ما عن ابن ابى عمير عن شعيب قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل تزوّج امرأة لها زوج، قال: يفرّق بينهما قلت: فعليه ضرب؟ قال: لا، ماله يضرب؟ الى ان قال: فأخبرت أبا بصير فقال: سمعت جعفرا عليه السلام يقول: انّ عليا عليه السلام قضى في رجل تزوّج امرأة لها زوج فرجم المرأة و ضرب الرجل الحدّ، ثم قال: لو علمت انّك علمت لفضخت رأسك بالحجارة [1] فما عن شعيب يحمل على كون الرجل جاهلا و امّا ما عن ابى بصير، فلا يصح الّا إذا حمل الضرب على التعزير لمسامحته في الفحص مع الشك و التزويج بلا سؤال عنها.

الكلام في المطلّقة البائنة

قال المحقّق: و تخرج بالطلاق البائن عن الإحصان و لو راجع المخالع

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من حدّ الزنا الحديث 8، أقول: و في التهذيب الجلد 10 الصفحة 25: انّ أبا الحسن (ع) نفى عنه الحدّ لانّه

لم يعلم انّ لها زوجا و الذي ضربه أمير المؤمنين عليه السلام يحتمل شيئين أحدهما ان يكون ضربه لعلمه بانّ لها زوجا. و الثاني لغلبة ظنّه انّ لها زوجا ففرّط في التفتيش عن حالها و ليس في الخبر انه ضربه الحدّ تاما و يكون قوله عليه السلام: لو علمت انك علمت لفضخت رأسك بالحجارة، المراد به انك لو علمت علم يقين انّ لها زوجا لفعلت ذلك بك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 112

لم يتوجّه عليه الرجم الّا بعد الوطئ.

أقول: امّا الأوّل فلما تقدّم آنفا من عدم كون البائنة زوجة لحصول البينونة بينهما بالطلاق و من التصريح بالتفصيل بين الرجعي و البائن و بإجراء حدّ غير المحصن في مورد البائن في صحيح الكناسي الذي مرّ نقله.

و امّا الثاني فلانّ طلاق الخلع من أقسام الطلاق البائن، و المختلعة بائنة فلو زنى في العدّة بلا رجوعها عن بذلها فلم يتحقّق الإحصان و لا يترتّب عليه الرجم و لو رجعت عن بذلها و رجع هو في الزوجة فحينئذ يكون محصنا إذا وطئها.

و قال أيضا في المختصر النافع: و لو راجع المخالع لم يتوجّه عليه الرجم حتّى يطأ انتهى.

و في المسالك بعد عبارة الشرائع المذكورة آنفا: امّا المخالع فلانّه بالخلع الموجب للبينونة خرج عن الإحصان حيث لا يملك فرجا آخر غيرها فيشترط في عوده إلى الزوجة و ان كان برجوعه «إلى الزوجة» بعد رجوعها «الى البذل» تجدّد الوطي ليتحقّق إحصان جديد لبطلان الأوّل بالفرقة الثانية انتهى.

و في الجواهر: لأنّها بحكم الزوجة الجديدة.

و في الرياض- بعد العبارة المذكورة عن النافع-: لزوال الإحصان بالبينونة و خروج الاختيار عن يده، و الرجوع غايته انّه كعقد جديد أو نفسه و هو بمجرّده

لا يوجب الإحصان ما لم يدخل.

و قال العلّامة في القواعد: و لو راجع المخالع امّا لرجوعها بالبذل أو بعقد مستأنف لم يجب الرجم الّا بعد الوطي في الرجعة.

و في كشف اللثام- بعد ذلك-: لزوال الإحصان بالبينونة و خروج الاختيار عن يده.

و قال العلّامة في الإرشاد: و يشترط وقوع الإصابة بعد الحريّة و التكليف و رجعة المخالع.

و قال الأردبيلي في الشرح: و من شرائط الدخول كونه بعد رجعة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 113

المخالع فلو دخل رجل بامرأته ثم خالعها فرجعت المرأة في البذل فرجع الرجل الى زوجته المخالعة ثم زنا قبل وطي امرأته المراجعة و المخالعة لم يرجم و ان تحقّق شرائطه غير الدخول و يجلد، وجه ذلك ظاهر، فإن المرأة بعد الخلع خرجت عن حباله و صارت أجنبيّة محضة و بعد الرجوع صار بمنزلة شخص تزوّج امرأة أجنبيّة أو التي طلّقها بائنا، إلى آخر كلامه.

الى غير ذلك من كلماتهم و نحن قد تفحّصنا ما كان بأيدينا من كتبهم و كلماتهم، و كلهم يقولون بهذا المضمون و لا مخالف في خصوص المسئلة أصلا بناء على لزوم الوطئ في الإحصان، و انّما المخالف هو من خالف في أصل اعتبار الوطئ في تحقّق الإحصان و قد تقدّم في موضعه انّ عدّة من العلماء صرّحوا باعتبار- الوطي في كون الزاني محصنا و أطلق آخرون، و المحقق اعتبره في الشرائع صريحا كما مرّ ذلك و أطلق في المختصر النافع.

و قد صار صاحب الجواهر هناك بصدد الجمع بينهما بقوله: و يمكن حمله على الغالب، و على الجملة فكلّ من اعتبره هناك اعتبره في الراجع المخالع.

و يمكن ان يستدلّ على ذلك ببعض الاخبار.

منها خبر رفاعة قال: سألت أبا

عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يزني قبل ان يدخل بأهله أ يرجم؟ قال: لا «1».

و منها صحيح محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يزني و لم يدخل بأهله أ يحصن؟ قال: لا و لا بالأمة «2».

فإنهما صريحان في عدم الرجم أو الإحصان إذا زنى مع عدم الدخول بأهله، و المطلّقة بائنة ليست بأهل للرجل و لا هو زوج لها و ان كانت تصير أهلا له بالرجوع الّا انه قد انقطعت العلقة بينهما بالطلاق، فاذا صارت أهلا بالرجوع فهناك يلزم الدخول و الّا فهي أهل لم يدخل بها فلا رجم عليها و لا عليه.

ان قلت انّها بعد رجوعه إليها- عقيب رجوعها في البذل- صارت

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 114

رجعيّة و لذا يجوز له الوطي بعد ذلك مهما أراد و المفروض انّه قد دخل بها سابقا كما في الرجعية المصطلحة و دخوله من قبل سبب لإحصانه.

نقول: الفرق بينهما واضح و ذلك لانّ الرجعيّة لم تنقطع أهليّتها و لم تخرج عن كونها أهلا له في حال كونها مطلّقة و للزوج الاستمتاع منها منذ وقوع الطلاق الى تمام العدّة مهما شاء بخلاف المختلعة فإنّه بعد الطلاق ليس له فرج مملوك أصلا و لذا لو زنى فإنّه يجلد و لا يرجم الى ان ترجع عن بذلها و يرجع هو فيها و عندئذ يكون له فرج مملوك بعد ان لم يكن كذلك و صار زوجا لها بعد انقطاع العلقة و هي صارت أهلا له بعد ان كان

قد زالت الأهليّة فهي زوجة جديدة نظير ما إذا عقد عليها بعد انقضاء العدّة و ليس الأمر من باب اعادة المعدوم بل علقة جديدة و زوجيّة حادثة.

و على الجملة فالعمدة في المقام هو انّ العلقة في الرجعيّة باقية ثابتة و لذا تجري بينهما الوراثة في أيّام العدّة بخلاف البائنة لانقطاعها جدّا فاذا حصلت الزوجيّة برجوعها و رجوعه فهي زوجية مستحدثة و لا بدّ في تحقق الإحصان معها من وقوع وطي جديد فهذا هو الوجه في اتّفاقهم على اعتبار الوطي في المخالع و إلا فلا رواية في المقام تدلّ على اشتراط الوطي في المخالع.

ثم لو شك في ذلك أي في كونها الأهل السابق حتّى يكتفى بالوطي السابق أو انّها أهل جديد كي يحتاج إلى وطي جديد فهو في الحقيقة شكّ في التخصيص فان عموم «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا.» يدلّ على جلد كلّ من زنى و انّما خصّص هذا العموم بالمحصن و المحصنة فإنهما يرجمان فاذا شك في انّ الزاني إذا كانت زوجته هي المختلعة الراجعة بدون الوطي فعلا هل يكون محصنا أم لا و هل خرج عن عموم الآية فلا محالة يرجع الى العامّ لانّه يقتصر في العامّ المردّد مفهوما بين الأقلّ و الأكثر على المتيقّن.

و قد اتّضح من هذه الأبحاث حول المطلّقة، ان الرجعيّة لو تزوّجت فعليها الحدّ التام و هو الرجم و كذا بالنسبة إلى الزوج و يشترط ذلك بالعلم موضوعا و حكما أي بالعدّة و الحرمة و الّا فلا حدّ و لو ثبت انّ أحدهما كان عالما

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 115

و الآخر جاهلا يختصّ الحدّ بالعالم دون الجاهل.

و لو ادّعى أحدهما الجهل فهو من موارد الشبهة إذا أمكن

ذلك في حقّه و من مثله، فيدرء عنه الحدّ و الفرق بين الشبهة و مورد الجهل هو انّه في مورد الشبهة يحكم بدرء الحدّ بحسب الظاهر و امّا الجاهل فلا حكم له أصلا.

قال المحقّق: و كذا المملوك لو أعتق و المكاتب إذا تحرّر.

أقول فقد ذكر رضوان اللّٰه عليه ثلاثة موارد يشترط فيها الوطي أحدها المخالع الراجع، على ما تقدّم، ثانيها: المملوك إذا أعتق فإنّه لو وطئ ثم زنى بكون محصنا، ثالثها: المكاتب إذا تحرّر و ذلك لورود النص في المملوك بأنّه لا رجم عليه حتّى يواقع الحرّة بعد ما أعتق.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 115

فعن ابى بصير يعني المرادي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال في العبد يتزوّج الحرّة ثم يعتق فيصيب فاحشة قال: فقال: لا رجم عليه حتّى يواقع الحرّة بعد ما يعتق «1». الى غير ذلك من الروايات و قد مرّ ذلك.

و في الجواهر: و ألحقنا به الصبي إذا بلغ و المجنون إذا أفاق لأنّ الوطي السابق على ذلك بحكم العدم للأصل و الاحتياط و غيرهما ممّا أشرنا إليه سابقا انتهى.

أقول: انّ هذه الموارد لم يرد فيها نصّ و لا عموم تعليل يشملها.

الكلام في الأعمى

لو زنى الأعمى فهل يجرى عليه الحدّ جلدا أو رجما كما في البصير أم لا؟

قال المحقّق: و يجب الحدّ على الأعمى.

أقول: و ذلك لعموم الأدلّة و لا يدفع الحدّ عنه عماه إجماعا بل في الجواهر: الإجماع بقسميه عليه، إذا فلا فرق بين البصير و الأعمى في ذلك أصلا.

قال المحقق: فان ادّعى الشبهة قيل لا تقبل

و الأشبه القبول مع الاحتمال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 116

أقول: في المسئلة أربعة أقوال. أحدها انّه لا تقبل مطلقا ذهب اليه شيخ الطائفة و الشيخ المفيد و القاضي و سلّار ثانيها القبول مطلقا مع احتمال صدقه و هو مذهب الأكثر بل المشهور، ثالثها القبول إذا كان هناك شاهد حال على ما ادّعاه بان كان قد وجدها على فراشه مثلا فظنّها زوجته أو أمته امّا لو شهد الحال بخلاف ذلك لم يصدّق، ذهب اليه ابن إدريس رابعها التفصيل بين كونه عادلا فيقبل و عدمه فلا، ذهب اليه الفاضل المقداد قال قدّس سرّه: و يظهر لي انّه ان كان على ظاهر العدالة قبل الفعل قبل منه و الّا لم يقبل «1».

و يمكن ان يكون ما ذهب اليه ابن إدريس مصداقا لكلام المشهور [1] فإنّه إذا كان هناك شاهد حال على صدقه و إمكان ذلك في حقّ مثله فقد اقترنت دعواه بالاحتمال.

و لا شكّ انّ الاحتمال محقّق مع دعواه و يشمله دليل الدرء كما في المبصر و امّا النافون فلم يقيموا على ما ذهبوا اليه دليلا مقنعا تطمئن إليه النفس و انّما قالوا بذلك لبعض الوجوه الاعتبارية، قاله في الجواهر.

و الوجه الاعتباري مثل انّه حيث كان أعمى فقد كان ينبغي له التحرّز و التحفّظ كثيرا كي لا يقع في الفجور، أو انّه كان يجب عليه ذلك لمكان فقده حاسّة الأبصار.

و مقتضى ذلك كون الأعمى مكلّفا بأزيد و أشدّ ممّا كلّف به المبصر فيلزم عليه عند الوقاع ان يتثبّت حتّى يتحقّق له انّ المرأة حليلته أو مملوكته.

و يمكن ان يكون من هذه الوجوه، انّ

قبول دعواه يفضي الى تعطيل

______________________________

[1] قد احتمل ما احتمله دام ظله، السيّد في الرياض فإنه بعد ان نقل كلام الحلّي قال: و هو موافق للقوم ان أراد بشهادة الحال بخلافه الشهادة بالقطع و ضعيف ان أراد بها الشهادة بنحو من المظنّة لعدم ارتفاع الشبهة الحاصلة من دعواه بمجرّده و ان ضعفت معه فقوله على هذا التقدير ضعيف انتهى بل الفاضل السيوري جعل القول بالقبول مع الاحتمال قول ابن إدريس فإنّه عند قول المحقّق في النافع: فان ادّعى الشبهة فقولان أشبههما القبول مع احتمال، قال: هذا قول ابن إدريس لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: ادرءوا الحدود بالشبهات، و الفرض احتمال ذلك في حقّة انتهى.

______________________________

(1) التنقيح الرائع الجلد 4 الصفحة 332.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 117

الحدود و الاجتراء على اقتراف المحرّمات و ارتكاب الفواحش.

و قد يقال ما وجه التعرّض للأعمى و قبول ادعائه الشبهة و الحال انّ المبصر أيضا كذلك؟

و الجواب عنه ان خصوصيّة المقام هو كون الأعمى أقرب الى الاشتباه من البصير فحيث انّه يكون في معرض الاشتباه أكثر من المبصر فلذا تعرّضوا له مستقلّا.

ثم انّه قد تتحقّق الشبهة بدون ان يدّعيها هو بنفسه كما في غير ذلك من أموره و ما يجرى عليه و يصدر عنه نظير ما لو وقع في البئر فإنّه لا يشكّ أحد في انّ وقوعه و سقوطه فيه لم يكن عن عمد و اختيار بل كان ذلك لعدم تفطنه و تذكّره فوقع في البئر على حين غفلة منه، و على الجملة فهل الشبهة بحقيقتها و نفسها بدون ادّعائه لها توجب الدرء كما يدرء بها مع ادعائه أم لا؟

الظاهر هو الأوّل و ذلك لما هو المفروض من

تحقّق الشبهة و انّ الشبهة دارئة للحدّ فإذا رأى الشهود انّ الأعمى قد باشر الأجنبيّة و زنى و شهدوا بذلك لكن كان هناك احتمال الغفلة و الاشتباه و ان لم يدّع ذلك أصلا فكيف يجوز اجراء الحدّ عليه مع احتمال الشبهة احتمالا قويّا و الحدود تدرء بالشبهات؟

لكنّي لم أقف على ذلك في كلمات العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين. و مثل ذلك ان يقال بلزوم السؤال عنه و الحكم على حسب ما يجيبه فربّما ابدى عذرا و اتى بشبهة كما في المرأة الحامل بلا زوج، و ذلك لوقوع الشبهة و احتمال الجذب في الحمّام أو الوطي بشبهة فلا تعرّض لذلك في كلماتهم.

نعم افتى شيخ الطائفة قدّس سرّه بلزوم السؤال، و إليك عبارته: إذا وجدت امرأة حامل و لا زوج لها فإنّها تسئل عن ذلك فان قالت: من زنا، فعليها الحدّ و ان قالت من غير زنا فلا حدّ عليها و قال بعضهم: عليها الحدّ و الأوّل أقوى لأنّ الأصل برأيه الذمّة لأنّه يحتمل ان يكون من زنا أو من وطي بشبهة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 118

أو مكرهة و الحدّ يدرأ بالشبهة انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و على الجملة فمقتضى القاعدة انّه إذا قام شاهد الحال و دلّ على انّ الأعمى ارتكب الزنا شبهة فلا حاجة الى السؤال بل يكتفى به و يحكم بالدرء.

اللّهم الّا ان يقال: انّه فرق بين السقوط في البئر و ارتكاب الزنا و ذلك لانّ العاقل لا يقدم على إلقاء نفسه في البئر بعزمه و إرادته إلّا في موارد شاذّة و مواقع استثنائية كما إذا أقدم على الانتحار حينما سئم الحياة و الّا فالتعمّد بذلك امّا غير محتمل أصلا

أو انّ احتماله بعيد غايته و هذا بخلاف الاقدام على الزنا و غير من الأمور الاختيارية فإنّ العاقل إذا اتى بعمل فالظاهر انّه اتى به بعلمه و اختياره فلذا لو أقرّ بالزنا فلا يسئل عن انّه كان عن عمد أو شبهة و ان كان يسئل عن ذلك أحيانا كما روى ذلك بالنسبة الى أمير المؤمنين عليه السلام الّا انّ الظاهر انّ العمل قد صدر عن الفاعل بعلمه و اختياره و على الجملة فيمكن ان يكون عدم تعرّض العلماء لاحتمال الشبهة بالنسبة إلى الأعمى- مع عدم ادعائه الشبهة- و درء الحد بذلك لأجل هذه النكتة اى قيام الدليل و هو شاهد الحال على انّه فعل ذلك عالما عامدا لا عن شبهة و اضطرار و إكراه كما في ظاهر إقرار المقرّ بالزنا الّا ان يقوم شاهد الحال على الخلاف و لذا اقتصروا على ذكر صورة ادعاء الشبهة فقط.

الكلام في ما يثبت به الزنا

قال المحقّق قدّس سرّه: و يثبت الزنا بالإقرار أو البيّنة.

أقول: لعلّ ظاهر العبارة حصر الطريق فيهما فيرد عليه بأنّه لماذا لم يذكر علم الحاكم فهل لا يكون ذلك حجّة هنا مع انّه كان حجّة في باب القضاء؟

نعم انّه قد ذكر ذلك في المسئلة الخامسة من النظر الثالث و صرّح هناك بأنّه يجب على الحاكم اقامة حدود اللّٰه تعالى بعلمه كحدّ الزنا.

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 7 من كتاب الحدود.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 119

لكن يرد عليه انّه بناء على ذلك كان الأنسب أن يقيّد كلامه هنا و يقول: لو لم يعلم القاضي بنفسه.

و الذي يسهّل الخطب انّه رحمه اللّٰه لم يؤدّ المطلب بصورة النفي و الإثبات و لم يقل: لا يثبت إلّا بالبيّنة و الإقرار، بل

قال: و يثبت الزنا بالإقرار أو البيّنة و هذا لا يفيد سوى إثبات الزنا بهما لا الحصر فيهما.

ثم لو فرض حصول العلم بمجرّد إقرار المقرّ مرّة واحدة أو بشهادة واحد من الشهود لشدّة وثوقه به فما يصنع هنا فهل يأخذ بعلمه و يقتصر على الإقرار الواحد و الشهادة الواحدة أو لا بدّ من شهادة الأربع و الإقرار أربعا و لا يكون علمه هنا حجّة لانّه تمسّك أولا بالبيّنة الإقرار؟

فيه تردّد، من كون العلم هنا جزء الموضوع فان اللازم علم الحاكم بأنّه قد زنى عالما غاية الأمر قيام البيّنة مقام العلم فيمكن ان يكون حجّة في مورد دون مورد، و من عدم ورود استثناء هذا الفرض في كلماتهم، فلم نقف على من قال بانّ علم الحاكم بموجب الحدّ حجّة إلّا إذا حصل في أثناء الشهادة أو الإقرار.

نعم قطع الحاكم إقرار المقرّ في الأثناء أو قطعه شهادة باقي الشهود بعد ان شهد شاهد مثلا، بان يقول الحاكم: لا حاجة الى تكميل الأربعة لأنّه قد حصل لي العلم بذلك، غير معهود فلذا يشكل الفتوى بذلك جدّا، فما يظهر من بعض من اعتبار أربعة شهود أو أربعة اقارير إذا لم يتبيّن المطلب عند الحاكم في غاية الإشكال.

الكلام حول الإقرار و شرائط المقرّ

اشارة

قال المحقّق قدّس سرّه: أمّا الإقرار فيشترط فيه بلوغ المقرّ و كماله و الاختيار و الحرّية و تكرار الإقرار أربعا في أربعة مجالس.

أقول: امّا البلوغ فاستدلّوا على اعتباره بوجوه: و قبل ذكر ذلك ينبغي تذكار انّ الصبي قسمان مدرك مميّز، و غير ذلك امّا الثاني فعدم حجيّة إقراره

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 120

لا يحتاج الى الاستدلال و ذلك لانّ العقلاء لا يعتنون بإقراره أصلا و امّا المميّز كالمراهق

فهم يعتنون بإقراره فلا بدّ في الحكم بعدم اعتباره من التمسّك بدليل شرعي و هاهو هذه الوجوه التي أشير إليها.

الأوّل حديث رفع القلم عن الصبيّ، الثاني كون عمد الصبي خطأ الثالث الإجماع. و لكن يرد على الأوّل أي التمسّك برواية الرفع بانّ عنوان الإقرار على النفس الصادر عن العقلاء هو عنوان الكاشفية غاية الأمر انّه لمّا لم تكن تلك الكاشفيّة تامّة فلذا تتم و تكمل بإمضاء الشرع و هو طريق نوعي عندهم و ذلك لانّ العاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه و إتلاف ماله فإذا أقرّ بضرر نفسه مثلا فلا محالة يفهم منه انّه صادق في إقراره.

و حينئذ نقول: انّ المرفوع في مورد إقرار الصبي ما هو؟ فان كان هو التكليف فلا مساس له بإقراره لأنّ رفع التكليف لا يوجب رفع إقراره و لا يمنع عن كاشفيّة إقراره فلو كان يتمسك هنا بأصالة الصحّة لصحّ ان يقال انّه لا تكليف عليه كي تجري أصالة الصحّة في أفعاله و امّا كاشفيّة إقراره فلا ترفع بذلك، فترى انّهم يؤلون بكون الصبي مسلوب العبارة في باب المعاملات، لكن هل يوجب ذلك عدم ظهور ألفاظ الصبي في المعاني؟ فكيف و عباداته مشروعة على المشهور و إقراره بالشهادتين- التوحيد و النبوّة- مقبول.

و لو كان إقراره بلا اثر مطلقا فلازم ذلك عدم صحّة إقراره بوحدانيّة اللّٰه جلّ و علا و برسالة الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله إذا كان متولّدا من الكافرين، و هم لم يلتزموا به.

و ان كان المرفوع هو العقاب فهو أيضا كذلك فان رفع العقاب لا تعلّق له بعدم صحّة الإقرار و كاشفيّته الّتي مناط حجّيته عند العقلاء.

و على هذا فالتمسك بحديث رفع القلم عن الصبي غير سديد

و امّا عمد الصبي خطأ فهو تعبّد خاصّ و يمكن التمسك به ان لم يرد عليه ما ذكرناه من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 121

الاشكال و الّا فلم يبق إلّا الإجماع.

نعم قد يقال بأنّه يؤدّب لكذبه أو صدور الفعل منه.

و هذا أيضا لا يخلو عن اشكال و ذلك لانّه لو لم يكن إقراره طريقا فلا وجه لتأديبه لعدم تحقّق الفعل، و امّا كذبه فهو مشكوك فيه و يكون من باب الشبهة المصداقيّة، و لو كان إقراره طريقا و حجّة فلا محالة يكون التأديب على مجرّد الفعل و لا مورد للترديد و جعله من باب العلم الإجمالي [1]. هذا كلّه بالنسبة إلى حدّه.

و امّا الآثار الوضعيّة كحرمة النكاح بأمّ المزنيّ بها فهل هي تترتّب على إقراره أولا مثل الحدّ بعينه؟

مقتضى عدم حجيّة هذا الطريق هو الثاني لكن الظاهر انّها تترتّب، بل القول بعدمه مشكل جدّا حيث انّ المتيقّن هو عدم ترتّب الأثر الخاصّ و هو الحدّ لا انّ إقرار الصبي كالعدم.

و امّا الشرط الثاني أي كمال المقرّ بالعقل فهو واضح فإنّه لا عبرة بكلام المجنون عند العقلاء علما بأنّه ليس المجنون بحيث لا يتكلّم بكلام صحيح أصلا بل ربّما ينطق بعض المجانين بكلمات حسنة جيّدة إلّا انّ الغلبة بالعكس فلذا لا يعتنى العقلاء بأقوال المجنون مطلقا و لم يردع الشارع عن هذه السيرة العقلائية و قد اتّضح بذلك انّه لا حاجة هنا الى التمسّك بحديث الرفع بعد عدم اعتبار لقوله عند العقلاء بضمّ عدم ردع الشارع عنه.

و امّا الشرط الثالث و هو الاختيار فهو معتبر بلا خلاف و لا اشكال و ذلك لما تقدّم آنفا من انّ حجّية الإقرار بطريقيّته و كاشفيّته، و

لا شكّ في انّه مع الإكراه- كما لو هدّد بالقتل مثلا- فلا طريقيّة و لا كشف له عند العقلاء بل يحمل على انه لدفع الضرر و لا حاجة هنا أيضا الى التمسك بحديث الرفع الصريح

______________________________

[1] أقول: هكذا أفاد دام ظلّه و فيه نوع إجمال و ذلك للعلم الإجمالي و القطع بأنّه ارتكب واحدا من الأمرين و ان لم يعلم شخصه، اللّهم الّا ان يعتبر في التأديب العلم بخصوصيّة العمل الذي ارتكبه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 122

في رفع ما استكرهوا عليه [1].

و امّا الشرط الرابع أي الحريّة و اعتبار كون المقرّ بالزنا حرّا فيدلّ عليه انّ العبد ملك لمولاه فإقراره على نفسه إقرار على الغير و بضرر المولى لا على نفسه و من المعلوم انّ إقرار العاقل- بمقتضى لسان الدليل- نافذ إذا كان في اطار خاص و هو على نفسه لا على غيره، و على هذا فلا يعبأ بإقرار العبد بالزنا و لا اثر له فلا يجرى عليه الحدّ الخاصّ به الذي هو نصف حدّ الحرّ.

نعم لو صدّقه مولاه لنفذ إقراره- لرفع المانع- و كذا لو أقرّ ثم أعتق، على ما أفاده العلّامة في القواعد بقوله: و لو أعتق بعد الإقرار فالأقرب الثبوت، و ذلك لانّه لا ضرر فعلا على مولاه حيث انّه حرّ.

و لكن يرد عليه انّ إقراره لمّا وقع في حال العبوديّة و عند ما كان بضرر الغير فلا عبرة به و هو لم يؤثّر شيئا فلا وجه لإجراء الحدّ عليه بعد عتقه فان اقامة الحدّ و ان كانت في حال لا تضرّ بالغير الّا انّ الإقرار حيث كان بضرر الغير فهو بنفسه غير نافذ و لا يترتب عليه اثر

و الى هذا القول أشار العلّامة بقوله: الأقرب، المشعر بوجود قول غير أقرب و الظاهر انّ إقراره نافذ إذا لم يرجع عنه بعد ان أعتق.

و امّا الخامس و هو تكرار الإقرار أربعا فاختلف فيه العامّة فعن أكثرهم الاكتفاء بالمرّة و امّا الإماميّة فهم متفقون على ذلك الّا شاذ منهم و هو ابن ابى عقيل رضوان اللّٰه عليه.

قال شيخ الطائفة: لا يثبت حدّ الزنا إلّا بالإقرار أربع مرّات من الزاني في أربع مجالس متفرّقة و به قال جماعة و قال قوم: يثبت بإقراره دفعة واحدة كسائر الاقرارات و اعتبر قوم اربع مرّات سواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرّقة «1».

و قال أيضا: لا يجب الحدّ بالزنا إلّا بإقرار أربع مرّات في أربعة مجالس

______________________________

[1] و قد استدلّ له برواية أبي البختري عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام انّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: من أقرّ عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ السّرقة الحديث 2.

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 4 من كتاب الحدود.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 123

فامّا دفعة واحدة فلا يثبت به على حال و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي: إذا أقرّ دفعة واحدة لزمه الحدّ بكرا كان أو ثيّبا و به قال في الصحابة أبو بكر و عمر، و في الفقهاء حمّاد بن ابى سليمان و مالك و قال ابن ابى ليلا لا يثبت الّا بان يعترف اربع مرّات سواء كان في أربع مجالس أو مجلس واحد دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا الأصل برأيه الذمّة و إذا أقرّ أربع مرّات على ما بيّناه

لزمه الحدّ بلا خلاف و لا دليل على استحقاقه بإقراره مرّة واحدة و روى عن ابن عبّاس انّ ماعزا أقرّ عند النبي مرّتين فاعرض ثم أقرّ مرّتين فأمر برجمه و روى انّ أبا بكر قال لماعز: إن أقررت أربع مرّات رجمك رسول اللّٰه «1».

و قال الشهيد الثاني في المسالك: اتفق الأصحاب الّا من شذّ على انّ الزنا لا يثبت على المقرّ به على وجه يثبت به الحدّ الّا ان يقرّبه اربع مرّات و يظهر من ابن ابى عقيل الاكتفاء بمرّة و هو قول أكثر العامّة و منهم من اعتبر الأربع كالمشهور عندنا لنا. إلخ.

و في الجواهر بلا خلاف معتدّ به أجده عندنا و لا ريب في ضعفه إلخ.

و على الجملة فلم ينقل الخلاف عن سوى العمّاني بل مذهبهم على اشتراط الأربع مع انّ سيرة العقلاء على قبول إقرار المقرّ بذلك بلا حاجة الى تكراره بل و ربّما يحصل القطع من قوله و إقراره بخلاف باب البيّنة فإنّه ربّما لا يحصل العلم حتّى بالثلاثة بل و بالأربعة.

ففي الإقرار بشي ء لا يتعقبه مال أو جاه بل جاء المقرّ و اقرّ بما يوجب الجلد أو الرجم و هيّأ نفسه لذلك و يستدعي و يلتمس ان يقام عليه الحدّ كي يتطهّر، و يقول: انّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع- كما سترى ذلك في بعض الروايات- فإنّه يحصل للإنسان القطع بقوله و إقراره و لو مرّة واحدة لأنّه لا داعي له إلى إقراره سوى صدقه و خوفه من اللّٰه سبحانه و طهارة نفسه من تبعات ما اقترفه، في الآخرة فإنّ هذا الإقرار بلحاظ ما يترتّب عليه لا يقع

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 كتاب الحدود المسئلة: 16.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 124

الّا من أهل الإخلاص و اليقين و ذوي الايمان الصادق.

و على الجملة فمع حصول القطع عرفا و عادة بإقراره مرّة واحدة اعتبر الشارع في إقراره ان يتكرّر اربع مرّات ففي الحقيقة لم يلاحظ الإقرار في خصوص اجراء الحد بعنوان كاشفيّته بل اعتبر خصوص كونه أربعا كما اعتبر مرّتين في بعض الموارد و لعلّ الحكمة في ذلك شدة عناية الشارع الحكيم باختفاء هذه المعصية العظيمة و عدم ظهورها و بروزها و إثباتها، و كيف كان فهذه من ناحية الأقوال.

و امّا الأدلّة: فقد ادّعى في الجواهر تطابق النصوص من الطريقين على ذلك.

و المرويّ من طرقنا أخبار عديدة فعن جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليها السلام في رجل أقرّ على نفسه بالزنا اربع مرّات و هو محصن رجم الى ان يموت أو يكذّب نفسه قبل ان يُرجم فيقول: لم افعل. فان قال ذلك ترك و لم يرجم و قال: لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين فان رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود و قال: لا يرجم الزاني حتّى يقرّ اربع مرّات بالزنا إذا لم يكن شهود، فان رجع ترك و لم يرجم [1].

فصدر هذه المرسلة و ذيلها ظهورا و صراحة يدلّ على اعتبار الأربع مرّات في الإقرار بالزنا الموجب للرجم.

و هنا روايات تعرّض لها المحدّث البارع الحرّ العاملي رحمه اللّٰه في باب عنونه بقوله: باب ثبوت الزنا بالإقرار أربع مرّات لا أقلّ منها و كيفيّة الإقرار و جملة من أحكام الحدّ فإليك هذه الروايات.

محمّد بن يعقوب عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن علىّ بن أبي حمزة عن ابى بصير

عن عمران بن ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه قال: أتت امرأة مجحّ أمير المؤمنين عليه السلام فقالت يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني طهّرك اللّٰه فان عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي

______________________________

[1] المجحّ بتقديم المعجمة على المهملتين الحامل المقرب التي دنا ولادتها، النهاية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 125

لا ينقطع، فقال لها: ممّا أطهّرك؟ فقالت: انّى زنيت فقال لها: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت أم غير ذلك؟ قالت بل ذات بعل، فقال لها: ا فحاضرا كان بعلك إذ فعلت أم غائبا كان عنك؟ قالت: بل حاضرا، فقال لها:

انطلقي فضعي ما في بطنك ثم ائتيني أطهّرك فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم انّها شهادة فلم تلبث أن أتته فقالت: قد وضعت فطهّرني قال: فتجاهل عليها فقال: أطهّرك يا امّة اللّٰه مما ذا؟ قالت:

انّى زنيت فطهرني قال: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم.

قال: فكان زوجك حاضرا أم غائبا؟ قالت: بل حاضرا قال: فانطلقي فأرضعيه حولين كاملين كما أمرك اللّٰه قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم انّهما شهادتان قال: فلمّا مضى الحولان أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين فطهّرني يا أمير المؤمنين فتجاهل عليها و قال: أطهّرك ممّا ذا؟ فقالت: انّى زنيت فطهّرني فقال: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم قال: و بعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: بل حاضر قال: فانطلقي فاكفليه حتّى يعقل ان يأكل و يشرب و لا يتردّى من سطح و لا يتهوّر في بئر قال: فانصرفت و هي تبكي فلمّا ولّت و صارت

حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم هذه ثلاث شهادات قال: فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي فقال لها: ما يبكيك يا امة اللّٰه و قد رأيتك تختلفين الى علىّ تسألينه أن يطهّرك؟ فقالت: إنّي أتيت أمير المؤمنين عليه السلام فسألته ان يطهّرني فقال: اكفلي ولدك حتّى يعقل ان يأكل و يشرب و لا يتردّى من سطح و لا يتهوّر في بئر و قد خفت أن يأتي عليّ الموت و لم يطهّرني، فقال لها عمرو بن حريث: ارجعي إليه فأنا أكفله فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين عليه السلام بقول عمرو بن حريث فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام و هو متجاهل عليها: و لم يكفل عمرو ولدك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني فقال: و ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت قالت: نعم. قال: ا فغائبا بعلك إذ فعلت ما فعلت؟

قالت: بل حاضرا قال: فرفع رأسه الى السماء فقال: اللّهم انّه قد ثبت عليها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 126

اربع شهادات، «الى ان قال:» فنظر اليه عمرو بن حريث و كأنّما الرّمان يقفأ في وجهه فلمّا راى ذلك عمرو قال: يا أمير المؤمنين إنّي إنّما أردت أن أكفّله إذ ظننت انك تحبّ ذلك فامّا إذ كرهته فانّى لست افعل فقال أمير المؤمنين عليه السلام أبعد أربع شهادات باللّٰه؟ لتكفلنّه و أنت صاغر، الحديث، و ذكر انّه رجمها «1».

و هذه الرواية تدلّ على اعتبار الأربع في الإقرار من وجوه فإنّه لو لم يكن ذلك شرطا و معتبرا لما أخّر الإمام عليه السلام اجراء الحدّ هذا التأخير، كما انّ قوله عليه السلام: اللّهم انّها شهادة ثم قوله: اللهم انّها شهادتان ثم في الإقرار الثالث: اللّهم

انّها ثلاث شهادات و في الرابع: اللّهم انّه قد ثبت لك عليها اربع شهادات، دليل على ذلك و على الجملة فهي تدلّ بوضوح على اعتبار الأربع في الإقرار كما في الشهادة و انّ سبيله سبيلها.

و عن علىّ بن إبراهيم عن أحمد بن محمّد بن خالد رفعه الى أمير المؤمنين عليه السلام، قال: أتاه رجل بالكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني قال: ممّن أنت؟ قال: من مزينة قال: أ تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: بلى قال: فاقرأ، فقرأ فأجاد فقال: ابك جنّة؟ قال: لا، قال فاذهب عنّي حتّى نسأل عنك فذهب الرجل ثم رجع اليه بعد، فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني قال: ا لك زوجة؟ قال: بلى، قال: فمقيمة معك في البلد؟ قال:

نعم فأمره أمير المؤمنين عليه السلام فذهب و قال: حتّى نسأل عنك فبعث الى قومه فسأل عن خبره فقالوا يا أمير المؤمنين صحيح العقل فرجع إليه الثالثة فقال مثل مقالته فقال: اذهب حتّى نسأل عنك فرجع إليه الرابعة فلمّا أقرّ قال أمير المؤمنين عليه السلام لقنبر: احتفظ به ثم غضب، الحديث، و فيه انّه رجمه «2».

عن ابن ابى عمير عن جميل عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا يقطع

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 127

السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين و لا يرجم الزاني حتّى يقرّ اربع مرّات «1».

عن ابى مريم عن ابى جعفر عليه السلام قال: أتت امرأة أمير المؤمنين عليه السلام فقالت: انّى قد فجرت فاعرض بوجهه عنها فتحوّلت حتّى استقبلت

وجهه فقالت: انّى قد فجرت فاعرض عنها ثم استقبلته فقالت: انّى قد فجرت فاعرض عنها ثم استقبلته فقالت: انّى فجرت فأمر بها فحبست و كانت حاملا فتربصّ بها حتّى وضعت ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا و أدخلها الحفيرة إلى الحقو و موضع الثّديين و أغلق باب الرّحبة و رماها بحجر و قال: بسم اللّٰه اللّهم على تصديق كتابك و سنّة نبيك ثم أمر قنبر فرماها بحجر ثم دخل منزله ثم قال: يا قنبر ائذن لأصحاب محمّد فدخلوا فرموها بحجر حجر ثمّ قاموا لا يدرون أ يعيدون حجارتهم أو يرمون بحجارة غيرها و بها رمق فقالوا يا قنبر أخبره انّا قد رمينا بحجارتنا و بها رمق كيف نصنع؟

فقال: عودوا في حجارتكم فعادوا حتّى قضت فقالوا له: قد ماتت فكيف نصنع بها؟ قال فادفعوها إلى أوليائها و مروهم ان يصنعوا بها كما يصنعون بموتاهم «2».

فهذه الروايات كلّها تدلّ على اعتبار اربع مرّات في الإقرار بالزنا نعم هنا اشكال و هو انّها واردة في مورد الرجم أو متعرّضة لخصوصه كما انّ رواية ماعز المرويّة بطرق أهل السنة أيضا كذلك و لا ذكر فيها عن الجلد و يزيد الاشكال التصريح الوارد في رواية جميل على اعتبار الإقرار في السرقة مرّتين و في الرجم اربع مرّات فلو كان يعتبر ذلك في الجلد أيضا لكان اللازم ذكره. و إذا كان الأمر كذلك فكيف أطلق العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين الحكم باعتبار الأربع في حدّ الزنا جلدا كان أو رجما فهل كانت هناك رواية تدلّ على ذلك لم نجدها؟ أو انّه قام الإجماع على عدم الفرق بينهما؟ أو انّهم ألحقوا الجلد بالرجم

تنقيحا للمناط؟ لم يتعرضوا لذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 128

بل مقتضى مفهوم صحيح فضيل هو الاقتصار في الحكم باعتبار الأربع على خصوص الرجم و الاكتفاء بإقرار واحد في مورد الجلد و إليك لفظه:.

عن الفضيل قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: من أقرّ على نفسه عند الامام بحقّ من حدود اللّٰه مرّة واحدة حرّا كان أو عبدا أو حرّة كانت أو امة فعلى الامام ان يقيم الحدّ عليه للذي أقرّ به على نفسه كائنا من كان إلّا الزاني المحصن فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء فاذا شهدوا ضربه الحدّ مأة جلدة ثم يرجمه «1».

فان مقتضى قوله: «الّا الزاني المحصن فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء» بعد قوله: «من أقرّ على نفسه. مرة واحدة فعلى الامام ان يقيم الحدّ عليه» هو انّه يكتفى بمرّة واحدة في الجلد للزنا.

نعم هذه الرواية موافقة لمذهب العامّة و مشتملة على أمور مخالفة للقواعد المقرّرة [1].

و يمكن ان يستدل بهذا الخبر [2] لابن ابى عقيل في قوله بالاكتفاء بإقرار واحد في الزنا- على ما نسب اليه- نعم هو صريح في اعتبار الأربع بالنسبة إلى الرجم، و لعلّ العمّاني أيضا يقول بالاكتفاء بمرّة واحدة في خصوص مورد الجلد و زنا غير المحصن لا الأعم الشامل للرجم و زنا المحصن أيضا، و اللازم ملاحظة كلامه.

______________________________

[1] أقول هي على ما ذكروه: عدم الفرق بين الحرّ و العبد و الحال انّه لا أثر لإقرار العبد بلا تصديق المولى، و الفرق بين المحصن و

غيره الذي لم يحك عن ابن ابى عقيل ذلك، و كون ظاهرها انّ الرجم لا يترتّب على الإقرار و ان كان اربع مرّات و انّما يثبت بشهادة أربعة شهداء و هو مخالف لمذهب الأصحاب.

[2] إذا أريد الاستدلال بهذا الخبر فلما ذا يتمسّك بصدره و الحال انّ ذيله صريح في الاكتفاء في زنا غير المحصن و هو: فقال له بعض أصحابنا يا أبا عبد اللّٰه فما هذه الحدود التي إذا أقرّ بها عند الإمام مرّة واحدة على نفسه أقيم عليه الحدّ فيها؟ فقال: إذا أقرّ على نفسه انه شرب خمرا حدّه فهذا من حقوق اللّٰه. و إذا أقر على نفسه بالزنا و هو غير محصن فهذا من حقوق اللّٰه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 129

هذا و لكنّهم أرسلوا اعتبار الأربعة في كلّ من الجلد و الرجم إرسال المسلّمات فلا يكتفى بمرّة واحدة مطلقا.

و امّا العامّة فهم فرقتان- كما أشرنا الى ذلك- فمنهم من قال بالاكتفاء بمرّة واحدة و حجتّهم على ذلك أمور.

1- ما جاء في حديث أبي هريرة و زيد بن خالد من قول النبي (ص) في حديث العسيف: اغديا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت فارجمها فغدا عليها أنيس، فاعترفت فأمر النبي (ص) بها فرجمت «1».

فترى انّه لم يذكر فيه العدد.

2- عن البيهقي: أمر عمر أبا واقد الليثي بمثل ذلك و لم يأمره بعدد الاعتراف «2».

3- انّ الإنسان إذا أقرّ على نفسه بما يوجب الحدّ جلدا أو رجما دلّ هذا على صدق قوله.

و منهم من ذهب الى اشتراط الإقرار بالزنا بالأربعة.

و استدلوا على ذلك بحديث ماعز و هو على ما رواه البيهقي

عن ابن المسيّب و ابى سلمة أنّ أبا هريرة قال: اتى رسول اللّٰه (ص) رجل من الناس و هو في المسجد فناداه يا رسول اللّٰه انّى زنيت يريد نفسه فاعرض عنه النبي (ص) فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال يا رسول اللّٰه انّى زنيت فاعرض عنه فجاء لشق وجه النبي (ص) الذي أعرض عنه فلمّا شهد على نفسه اربع شهادات دعاه النبي فقال: ا بك جنون؟ فقال: لا يا رسول اللّٰه فقال: أحصنت؟ قال:

نعم يا رسول اللّٰه، قال: اذهبوا فارجموه «3» و في بعض رواياته قال (ص) له: لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت، قال: لا يا رسول اللّٰه قال: ا نكتها لا تكنّى؟ قال:

نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة و الرشاء في البئر؟ قال: نعم. قال: فهل

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة الجلد 5 الصفحة 83.

(2) سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 226.

(3) سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 225.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 130

تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال: ما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهّرنى فأمر به فرجم.

و في بعض ألفاظ الحديث. شهدت على نفسك اربع شهادات اذهبوا به فارجموه. و في رواية اخرى انّه لمّا اعترف ثلاث مرّات قال له: ان اعترفت الرابعة رجمتك فاعترف الرابعة.

و قد يقال كما في المسالك: انّه ارتاب في امره فاستثبت ليعرف انّه مجنون أم شرب خمرا أم لا.

و فيه انّ الاستثبات لا يتقيّد بهذا العدد و كان يمكن البحث و السؤال عنه في أوّل مرّة و التثبّت في بدأ الأمر.

ثم ان روايات العامّة أيضا كروايات الخاصّة خالية عن ذكر الجلد بل موردها

هو الرجم و لم نجد دليلا على انّ الإقرار بالجلد أيضا كالرجم يحتاج الى وقوعه اربع مرّات.

نعم قد مرّ انّ الشيخ الطوسي قدّس سرّه الشريف قال في الخلاف:

لا يجب الحدّ في الزنا إلّا بإقرار أربع مرّات. فامّا دفعة واحدة فلا يثبت به على حال، قد عبّر قدّس سرّه بالحدّ و هو شامل للجلد و الرجم لو لم يكن ظاهرا في الجلد و اعتبر الأربعة و صرّح بأنه لا أثر لإقرار واحد.

ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا الأصل برأيه الذمّة و إذا أقرّ أربع مرّات على ما بيّناه لزمه الحدّ بلا خلاف و لا دليل على استحقاقه بإقراره مرّة واحدة انتهى.

و نحن نقول: إذا قلنا بانّ خروج معلوم النسب لا يقدح في تحقّق الإجماع فالظاهر تحقّقه و ذلك لعدم نسبة الخلاف الى أحد سوى ابن ابى عقيل.

و امّا الاخبار التي ادّعى رضوان اللّٰه عليه دلالتها على اعتبار الأربع فلعله عثر على ذلك و امّا نحن فلم نجد في الروايات ما يدلّ على ذلك في الجلد و انّما المستفاد منها اعتبارها في مورد الرجم وحده كما تقدّم.

و امّا التمسك في ذلك بتنقيح المناط و الحكم بانّ حكم الجلد حكم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 131

الرجم فغير صحيح، و ذلك لانّه لا مورد لتنقيح المناط بعد ان نعلم انّ الرجم أمر أشدّ من الجلد بلا كلام حيث انّ فيه إزهاق النفس بخلاف الجلد الذي نرى انّ المجرم يجلد ثم يقوم و يشتغل بعيشه فأين هذا من ذاك و لا يصحّ ان يقال انّ كلّما اشترط و اعتبر في تحقّق الأمر الأشقّ الأشدّ فهو معتبر في الأمر الأسهل، و ما يلاحظ في العقوبة

الشديدة الصعبة يلاحظ في العقوبة الخفيفة السهلة.

و امّا ما ذكره الشيخ قدّس سرّه من الوجهين الأخيرين فيرد عليه انّ ما افاده هنا موقوف على عدم وجود عام يرجع اليه عند الشك و الّا فالشك في الحقيقة راجع الى الشك في التخصيص و عدمه و المرجع حينئذ هو ذاك العامّ لا أصل البراءة كما انّه على ذلك لا يتمّ التمسك بعدم الدليل لانّ العامّ المزبور دليل، و ما نحن فيه كذلك لانّ قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز «1» عام ظاهر في العموم و هل هو ليس دليلا حتّى يرجع الى الأصل؟ نعم قد خرج عن هذا العام إقرار الزاني المحصن و ذلك بمقتضى تلك الروايات المتقدمة آنفا الصريحة في عدم حجيّة الإقرار في باب الرجم إذا كان أقلّ من أربعة، و على الجملة فقد خصّص العام بهذا المورد و امّا الجلد فلم نجد ما يدلّ على استثنائه أيضا كي يحتاج إثباته بالإقرار إلى وقوعه اربع مرّات، و مع الشك في التخصيص يرجع الى العام المقتضى حجيّة الإقرار فيكتفى في إثبات زنا غير المحصن بإقرار مرّة واحدة و ذلك لوجود أصل لفظي.

اللّهم الّا ان يدّعى ان هذا العام ليس عامّا شرعيا واردا و دليلا لفظيا يؤخذ به و انّما هو من التقاط العلماء رضوان اللّٰه عليهم فيقتصر في التمسك به على موارد خاصّة التي تمسّكوا به فيها دون غيرها.

لكنّ الظاهر خلاف ذلك.

لا يقال: انّ مقتضى درء الحدود بالشبهات عدم تأثير الإقرار مرة واحدة.

لأنّا نقول: قد ظهر جوابه ممّا ذكرناه في المقام من وجود أصل لفظي في

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 16 الباب 3 من أبواب الإقرار الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 1، ص: 132

المقام كأصالة عدم التخصيص و مع وجوده يرجع الى العامّ و لا شبهة في البين كي يدرء الحدّ بها.

نعم لو كان الأصل من قبيل الاستصحاب و غيره لصحّ التمسك بدرء الحدود بالشبهات.

و امّا ما قد يقال من انّ مورد الروايات و ان كان هو الرجم الّا انّه يستفاد منها حكم الجلد أيضا و ذلك لتنزيل الإقرار في الزنا بمنزلة الشهادة كما عرفت ذلك من بعض الروايات الماضية حيث قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعد إقرار المقرّ بالزنا: اللّهم انّ هذه شهادة. اللّهم انّ هذه شهادتان. و غير ذلك [1] و حيث انّه لا يكتفى بواحد في الشهادة سواء كان الحدّ رجما أو جلدا فكذلك الإقرار.

ففيه انّ مجرّد إطلاق الشهادة على الإقرار لا يقتضي اتّحاد حكمهما حتّى يقال. انّه يعتبر في الإقرار بالزنا العدد الخاص أي الأربعة كما انّه يعتبر ذلك في الشهادة خصوصا بعد العلم بتحقّق الفرق بينه و بين البيّنة، فقد تخلّف أحدهما عن الآخر في موارد فيقولون بأنّه يجوز للحاكم العفو عنه إذا تاب و كان قد ثبت زناه بالإقرار و لا يجوز إذا ثبت بالشهادة.

فلم يبق الّا انّ يتمسّك بالإجماع على اعتبار الأربعة مطلقا.

نعم قد وقفنا على روايتين في باب القذف تدلّان على اعتبار ذلك في الإقرار بالزنا الموجب للجلد.

إحديهما صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام في رجل قال

______________________________

[1] أقول: و قد أطلقت الشهادة على الإقرار في القرآن الكريم أيضا قال اللّٰه تعالى في سورة النور الآية 6: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلّٰا أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّٰادِقِينَ.

ثم انه قد يتمسك لإثبات

اعتبار الأربعة أيضا بأنّه لو كان يثبت بالإقرار مرّة واحدة لم يكن وجه لتأخير الحدّ في الإقرار بالزّنا الى ان يتمّ اربع مرّات كما في هذه الرّوايات الشريفة.

و لكن هذا لا ينفع جوابا بالنسبة الى من يقول بالاكتفاء بالمرّة في الجلد و ذلك لانّ هذه الروايات واردة في باب الرجم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 133

لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك قال: عليه حدّ واحد لقذفه ايّاها و امّا قوله: انا زنيت بك فلا حدّ فيه الّا ان يشهد على نفسه اربع شهادات بالزنا عند الامام «1».

قوله: انا زنيت. يعنى انّه زنا بها قبل ان ينكحها فيكون الزنا حينئذ هو الزنا الموجب للجلد خاصّة أو المراد هو الأعمّ بسبب الإطلاق أو ترك الامام الاستفصال في ذلك.

ثانيتهما مرسلة الصدوق قال: قال الصادق عليه السلام في رجل قال لامرأته: يا زانية قالت: أنت أزنى منّي فقال: عليها الحدّ فيما قذفت به و امّا إقرارها على نفسها فلا تحدّ حتّى تقرّ بذلك عند الإمام أربع مرّات [1].

ترى انّه عليه السلام ترك الاستفصال عن كون الموجب موجبا للرجم أو الجلد و على هذا فيصحّ تمسّكهم بالإجماع و النص في إثبات اعتبار الأربعة في الإقرار بالزنا مطلقا فبدون ذلك لا يثبت شي ء منهما إذا كان ما يثبت به هو الإقرار.

«و هل يعزّر المقرّ بالزنا دون الأربع؟»

بعد ان ثبت انّه أقرّ دون الأربع فلا حدّ عليه، فهل يجب تعزيره أم لا؟

قال المحقّق: و لو اقرّ دون الأربع لم يجب الحدّ و وجب التعزير.

و قد قال بذلك أيضا الشيخان و العلّامة في القواعد و ابن إدريس.

ففي القواعد: انّما يثبت بأمرين: الإقرار أو البيّنة، فهنا مطلبان الأوّل الإقرار و يشترط فيه البلوغ و العقل و الحرّية

و الاختيار و القصد و تكراره أربع

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب حدّ القذف الحديث 3.

أقول: يمكن الإشكال في الاستدلال بالثانية و ذلك لأنّها نسبت الزنا الى نفسها و هي محصنة فإنّ الظاهر انّ نسبة الزنا بلحاظ الحال لا بالنسبة الى قبل التزويج بل لعلّها منصرفة عنه نعم لا كلام في دلالة الأولى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب حدّ القذف الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 134

مرّات. و لو أقرّ من جمع الصفات أقلّ من اربع لم يثبت الحدّ و عزّر انتهى.

و قد يستدلّ لذلك بوجوه أحدها عموم الأخذ بالإقرار.

ثانيها ما دل على انّ الإقرار بالمعصية معصية.

ثالثها العلم الإجمالي لانّه امّا أين يكون صادقا في إقراره و قوله أو انّه كاذب في ذلك فيجب تعزيره على عمله لو كان صادقا في الواقع مع عدم تحقّق ملاك الحدّ أو على قوله لو كان كاذبا في الواقع و الحاصل انّ تعزيره متيقّن على كلّ حال.

و كلّ هذه الوجوه مخدوش و محلّ الإشكال امّا الأوّل فلانّ عموم الأخذ بالإقرار قد خصّص في باب الزنا بلزوم التكرار، و بدونه إلا أثر له.

و امّا الثاني فلانّ الإقرار بالمعصية لم يكن معصية إذا كان في مقام التوبة و التحمّل للعقوبة الدنيويّة فرارا عن العقوبة الأخرويّة.

توضيح ذلك انّ المستفاد من مجموع الروايات الواردة في الإقرار بالزنا هو انّ تخلّص الزاني من عقوبة اللّٰه في الآخرة يحصل بواحد من أمرين و يكفيه في رفع العذاب و العقاب واحد منهما.

أحدهما ان يتوب الى اللّٰه سبحانه فيما بينه و بين اللّٰه قبل ان يطّلع الحاكم و بدون المراجعة اليه و قد ورود في بعض الروايات

انّه أفضل [1].

ثانيهما ان يراجع الحاكم و يقرّ عنده حتّى يقام عليه الحدّ و يطهّر من الذنب نظير توبة من كان عنده حقّ من حقوق الناس حيث انّه مضافا الى الندم الحاصل له يؤدّى حقوق الناس إليهم فيتهيّأ لان يُقتل و يصبر على ذلك كي يتخلّص من عذاب اللّٰه تعالى و قد ورود في مرفوعة أحمد بن محمّد بن خالد انّه لما رجم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الرجل الذي كان من مزينة و قد أقرّ عنده بالزنا اربع مرّات، فمات فأخرجه أمير المؤمنين عليه السلام فأمر فحفر له و صلّى عليه و دفنه فقيل: يا

______________________________

[1] ففي مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد في الزاني الذي أقرّ أربع مرآت: ا فلا تاب في بيته فو اللّٰه لتوبته فيما بينه و بين اللّٰه أفضل من إقامتي عليه الحدّ الوسائل الباب 16 من مقدّمات الحدود الجلد 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 135

أمير المؤمنين الا تغسّله؟ فقال: قد اغتسل بما هو طاهر الى يوم القيامة لقد صبر على أمر عظيم «1».

و على هذا فالذي يقرّ لم يأت إلّا بما هو أحد طرفي الواجب التخييري فضلا عن ان يكون عمله معصية يترتّب عليها التعزير.

و قد يقال [1] الإقرار الذي كان واحدا من طرفي الواجب التخييري هو الإقرار الكامل البالغ حدّ الأربعة لا ما ينقطع في الأثناء و لا يبلغ حدّ الكمال و النصاب المعتبر فيه.

و فيه انّ للإقرار عند الحاكم هذا الأثر فالمقرّ في طريق تطهير نفسه و ان لم يبلغ إقراره الأربعة و لذا لم يكن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله ينتظر أن يأتي المقرّ و يقرّ ثانيا و هكذا و لا يطالبه

بذلك.

و امّا الثالث فلانّ العلم الإجمالي لا يؤثّر شيئا حيث انّ الزنا بدون الإثبات لا يترتّب عليه شي ء فلا عقوبة دنيوية بالنسبة الى ما لم يثبت منه أصلا، هذا بالنسبة إلى عمله و امّا من حيث الكذب فهو مشكوك فيه.

ثم انّه يشهد بما ذكرنا من عدم التعزير في المقام معاملة النبي الأعظم و أمير المؤمنين مع المقرّين حيث انهما لم يعزّراهم بإقرارهم دون الأربع و قد مرّ في قصّة رجل أقرّ عند رسول اللّٰه بالزنا انّه اعرض بوجهه عنه لشقّ وجهه، الى ان أقرّ ثانيا و هناك أيضا اعرض بوجهه عنه و هكذا فلو كان يجب تعزير المقرّ بما دون الأربع فكيف اعرض عنه بوجهه و لم يحكم بتعزيره و لا أمر بذلك؟ أو هكذا تقدّم في قصّة رجل أقرّ عند الامام على عليه السلام بالزنا انه صلوات اللّٰه عليه قال له: أذهب عنّي حتّى نسأل عنك، و لو كان يجب تعزير المقرّ بمجرّد إقراره لما كان وجه لهذا التأخير و التواني.

و امّا احتمال انّ ترك تعزيرهم كان لعلمهما بأنّه سيكمل الأقارير

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظله بما في المتن و لعلّه لا يخلو عن كلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود الحديث 2، الكافي الجلد 7 الصفحة 189.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 136

الاربعاء، فهو خلاف الظاهر حيث انّ عليّا عليه السلام أمر بالذهاب بعد الإقرار دون الأربع و لم يأمر بالمراجعة.

نعم يمكن ان يقال بأنّ الإقرار بالمعصية يوجب التعزير الّا انّ في المقام خصوصيّة أوجبت انهما صلوات اللّٰه عليهما و آلهما تركا التعزير و هي ما تقدّم آنفا من انّ المقرّ هنا قد أقدم على

الإقرار تطهيرا لنفسه و خلاصا من العقاب، فلا يحمل المقرّ على الإقرار إلّا خوفه القلبي من مقام ربّه و إخلاصه الكامل فلا يعقّبه التعزير فلذا ترى في قصّة ماعز أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله قال:- على ما في بعض ألفاظ الحديث- ان اعترفت الرابعة رجمتك، و لم يقل له بعد إقراره الأوّل أو الثاني أو الثالث: ان لم تتمّ أربعة اقارير لعزّرتك [1].

بقي في المقام شي ء و هو انّه قد استدل بعض على عدم جواز الإقرار و انه معصية بأنّه إشاعة الفاحشة و قد قال اللّٰه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «1».

و فيه انّ هذا ليس من باب إشاعة الفاحشة و اذاعة السوء بل ربّما يكون فيه ترويج الدين و تشييد أركان اليقين حيث يراه الناس و قد هيّأ نفسه للقتل مثلا طلبا لمرضاة اللّٰه و اقامة لأمر اللّٰه، و كم من قلوب تتوجّه الى اللّٰه بسماع حاله و قوّة يقينه و تصلّبه في ذات اللّٰه و تسليمه قبال أمر اللّٰه.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا انه لا وجه لما ذهب اليه المحقّق و صاحب الجواهر من وجوب تعزير المقرّ دون الأربع.

______________________________

[1] و قد يقال بأنّ إعراضه صلّى اللّٰه عليه و آله عمّن أقرّ عنده، نوع تعزير منه و فيه انّه خلاف الظاهر مضافا الى عدم نقل إعراضه صلوات اللّٰه عليه في سائر الموارد.

و مثله ما قد يقال أو يحتمل من انّ ما هو المسلّم هو عدم تعزيرهما عليهما السلام المقرّين كماعز و غيره و هو أعمّ من عدم الاستحقاق فلعلّه كان عدم تعزيرهما للمقرّ من باب العفو لمصالح كانت هتاك.

______________________________

(1) سورة النور الآية 19.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 1، ص: 137

و هل يعتبر تعدّد المجالس أم لا؟

قال المحقّق: و لو أقرّ أربعا في مجلس واحد قال في الخلاف و المبسوط:

لا يثبت و فيه تردّد.

ثم انّه على القول بكفاية إقرار واحد فلا مورد للبحث عن اعتبار تعدّد المجلس و عدمه و امّا على القول باعتبار الأربعة فيجري البحث في انّه هل يعتبر تعدّد مجلس الأقارير- أي وقوع كلّ إقرار في مجلس غير مجلس الآخر- أو انه لا يعتبر ذلك و يكفى كونها في مجلس واحد؟

ذهب جماعة منهم الشيخ في الخلاف و المبسوط و ابن حمزة إلى الأوّل، و افتى الأكثر بخلاف ذلك و منهم الشيخ في النهاية و المفيد و ابن إدريس و غيرهم.

و يدلّ على الأوّل ما وقع في المجالس عند النبيّ و الوصي بأمرهما و ذلك كقصّة ماعز و غيره فقد وقع الأقارير الأربعة في أربعة مجالس لا في مجلس واحد، هذا مضافا الى انّ الأصل برأيه الذمّة عن الحدّ بالاقرارات في مجلس واحد.

و أجيب عن الأوّل بأنّ قصّة ماعز و أمثالها قضايا اتفاقيّة فلا دلالة لها على اعتبار تعدّد المجالس، و في الجواهر بل لعلّ ظاهر خبر ماعز كون المجلس واحدا.

و فيه انه لا فرق بين مراعاة الآداب المعمولة بحضرة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في مورد الحدّ و ما كان يفعله و يأتي به من الأركان المخصوصة في الصلاة مثلا.

و يمكن ان يقال بأنّه ليس المراد من تعدّد المجالس تفرّقهما و انعطال المجلس حتّى يفتتح مجلس آخر و يأتي الحاكم و المقرّ ثانيا حتّى يستشكل بأنّ قصّة ماعز لا ظهور لها في تعدّد المجلس أو انّها ظاهرة في وحدته، بل يكفى ما كان يكفي في صدق التعدّد و التفرّق، فهو

شي ء يقرب ما ذكروه في باب خيار

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 138

المجلس من انّه يدوم ما داما في المجلس و لم تحصل بينهما فرقة يذهب واحد منهما إلى ناحية أخرى من المجلس و لا حاجة في صدق تعدّد المجلس إلى أزيد من هذا المقدار [1] و الظاهر انّ هذا المقدار من المفارقة كان حاصلا في قصّة ماعز لانّه قد ذكر فيها انّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قد اعرض عن ماعز لمّا أقرّ بالزنا فجاء ماعز من ناحية أخرى الّتي توجّه إليها النبي. صلّى اللّٰه عليه و آله.

و لو تردّد في صدق تعدّد المجلس على هذا فنقول: هب انه ليس منه لكن لا بدّ من تحقّق هذا المقدار من الفاصلة و التفرّق سمّه ما شئت لو سلّم لزوم مراعاة خصوصيّات قضاء رسول اللّٰه، فلا يكفى وقوع الإقرار الثاني في موضع الأوّل و بعبارة أخرى يجب التعدّد و ان كان بمجرّد تحقّق حضوره بعد غيبوبته عن مرأى الحاكم.

و استدلّ المشهور القائلون بعدم اعتبار التعدد، بأصالة عدم اشتراطه و بإطلاق الروايات الواردة في حدّ الزاني فإنها تدلّ على اعتبار أربعة اقارير و لم يكن فيها ذكر عن تعدّد المجالس ففي رواية جميل المذكورة آنفا:

لا يرجم الزاني حتّى يقرّ اربع مرّات.

أقول: يمكن ان يكون المراد من الإطلاق هو ما كان من مقدّمات الحكمة بتقريب انّه مع كونه في مقام البيان لم يذكر هذا القيد و لو كان تعدد المجالس معتبرا في الواقع لكان اللازم ذكره و الّا لزم نقض الغرض و الإغراء بالجهل.

و يمكن ان يكون المراد هو الظهور اللفظي- لا المقامى- بلحاظ انّ تمام الموضوع هو الإقرار أربع مرّات فقط و على

هذا فلا حاجة الى مقدّمات الحكمة.

و امّا الأصل فالمراد به انّه إذا لم يعلم انّ هذا الحكم مشروط بتعدّد

______________________________

[1] قال الأردبيلي قدّس سرّه في الشرح بعد ان استشكل بعدم دلالة بعض الروايات الراجعة إلى فعله (ص) على تعدّد المجلس فإنّه كان في مجلس واحد الّا انّه كان تارة عن يمينه و اخرى عن شماله: الّا ان يراد بتعدّد المجلس تغيّر مكان المقرّ و هو بعيد على انّ ذلك غير ظاهر في فعله في الثالثة و الرابعة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 139

المجالس أم لا فالأصل عدم اشتراطه به و بعبارة اخرى انّ الشارع عند جعل الحكم لم يجعل تعدّد المجالس شرطا و لم يكن جعله مقرونا بهذا الشرط.

أقول: انّ أصالة العدم إذا كانت من الأصول العمليّة فلا اثر له في قبال عموم درء الحدود بالشبهات نعم إذا كانت من الأصول اللفظيّة على ما قرّرناه آنفا- من عدم جعل هذا شرطا للإقرار- فهي في حكم الدليل لأنّها شبيه أصالة عدم القرينة عند ما شكّ في وجود قرينة اختفت علينا، و النتيجة انّه يجب الحدّ بمجرّد إقراره أربع مرّات، و مرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم تخصيص الأكثر فإنّ عموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز قد خصّص باعتبار الأربعة في باب الزنا، و الأصل عدم تخصيصه بأزيد من ذلك، هذا هو مقتضى الأصل لو شكّ في اعتبار تعدّد المجلس.

نعم يمكن ان يقال: لو لم يكن في الروايات ما يزيل الشك عن اعتبار تعدّد المجلس و عدمه فالاقرار أربع مرّات في مجلس واحد مورد للشك و الحدود تدرء بالشبهات.

الرجل و المرأة في ذلك سواء

قال المحقّق: و يستوي في ذلك الرجل و المرأة.

أقول: و يدلّ على ذلك أمور أحدها:

ما في الجواهر من انّه لا خلاف و لا إشكال في ذلك.

ثانيها إطلاق الأدلّة الدّالة على انّ من أقرّ أربع مرّات بالزنا يرجم مثلا فراجع رواية جميل و غيرها.

ثالثها انّ الوقائع الواردة على رسول اللّٰه و أمير المؤمنين صلوات اللّٰه عليهما و آلهما مختلفة فبعضها كان في مورد الرجال و آخر منها في مورد النساء.

الكلام في إقرار الأخرس

قال المحقّق: و تقوم الإشارة المفيدة للإقرار

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 140

في الأخرس مقام النطق.

أقول: لا خلاف و لا إشكال في ذلك بشرط ان تكون الإشارة مفهمة و مفيدة للإقرار.

و هل يكتفى في إشارته المفهمة بإشارة واحدة أو لا بدّ من إشارته أربع مرّات؟ من المعلوم انّ سبيل الإشارة في الأخرس سبيل النطق في الناطق، و العرف يرتّب على إشارة الأخرس ما يرتّبه على نطق الناطق و لم يردع الشارع عنه فيعتبر في هذه الإشارة ما يعتبر في ذاك النطق شرعا و من ذلك هو كونها أربعا فإنّ المعتبر في إقرار الناطق هو الأربع.

و إذا احتيج في فهم معنى إشارة الأخرس إلى الترجمة فهناك يكفى الاثنان و لا حاجة الى أكثر من ذلك كما انه لا يكتفى بأقلّ منه و ذلك لانّ الترجمة من باب الشهادة و هما يشهدان بان الأخرس قد أقرّ- بإشارته- بالزنا و من المعلوم الفرق بين إقرار أحد بالزنا أو الشهادة على زناه و بين الشهادة على إشارة الأخرس و ترجمتها فيعتبر في الأوّلين خصوص الأربعة بخلاف الأخيرة فإنّ المترجم يفسّر معنى إشارة الأخرس و في الحقيقة تكون الشهادة هنا شهادة بالإقرار لا بالزنا حتّى يعتبر فيها الأربعة هذا هو الوجه في عدم الحاجة الى الأربعة، و امّا وجه عدم الاكتفاء بواحد فلانّ

الترجمة من باب الشهادة لا من باب الرواية التي يكتفى فيها بواحد.

ثم انّ ما ذكرناه يجري في إقرار الناطق إذا كان بلغة تحتاج إلى الترجمة.

الكلام في قول القائل: زنيت بفلانة

قال المحقّق: و لو قال: زنيت بفلانة لم يثبت الزنا في طرفه حتّى يكرّره أربعا و هل يثبت القذف للمرأة؟ فيه تردّد.

أقول: حيث انّ هذا التعبير من أنواع تعابير الإقرار فلذا يعتبر في إثبات زنا المقرّ بذلك أيضا تكراره اربع مرّات فلا يقام عليه حدّ الزنا بدون ذلك.

و امّا انّه هل يثبت بذلك القول قذف المرأة التي سمّاها؟ فهو محلّ التردّد و الكلام و يحتمل الوجهان: الإثبات و النفي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 141

امّا الأوّل فلانّ العبارة ظاهرة في القذف و نسبة الزنا إليها و هتك حرمتها عند العرف و لا يدرء هذا الحدّ باحتمال انّه يريد خصوص زنا نفسه عمدا دون المرأة و ذلك لانّ هذا الحدّ مجعول حقّا للمقذوف و ما كان يدرء هو خصوص حقّ اللّٰه تعالى، و على الجملة فللعبارة ظهور عرفي في نسبة الزنا إليها أيضا و ان كان لا ملازمة بينهما الّا انّ العرف يفهم منها انّه نسبها الى الزنا.

و امّا الثاني: فلانّ ما هو صريح العبارة هو نسبة الزنا الى نفسه دونها و لا ملازمة بينهما أصلا لاحتمال الاشتباه و الإكراه في ناحيتها و لا تدلّ قوله:

زنيت بفلانة على زناء المرأة بواحدة من الدلالات الثلاثة المطابقة و التضمّن و الالتزام فان زناء المرأة غير زناء الرجل و ليس عينه و لا جزءا منه و لا لازما له نعم يعزّر القائل لأنّ الكلام المزبور هتك للمرأة عرفا.

و استوجه في المسالك الوجه الأوّل فإنّه بعد ذكر الوجهين و تقريرهما قال: و الوجه

ثبوت القذف بالمرأة مع الإطلاق لأنّه ظاهر فيه و الأصل عدم الشبهة و الإكراه.

قوله قدّس سرّه: «مع الإطلاق» يعني مع عدم تعرّضه للشبهة أو الإكراه بالنسبة إليها فحيث لم يلحق بكلامه قرينة تدلّ على عدم التعمّد و الاختيار فهو في نفسه ظاهر في وقوعه عن اختيار و على هذا فقد نسب إليها زناها عن اختيارها، و ليس المراد من الإطلاق هو الشمول لكليهما و احتمال الاختيار و الإكراه.

و امّا ما افاده من انّ الأصل عدم الشبهة و الإكراه فهذا لم يعلم وجهه و لم يتّضح مراده لانّه لو كان المراد جريان الأصل بالنسبة إلى فعل المرأة فأصالة عدم الشبهة أو الإكراه الجارية في فعلها لا تعلّق لها بنسبة الزنا الصادرة عن الرجل و لا مساس لذلك بقذفه فان هذه قد تتحقق بدون وقوع الزنا في الخارج أصلا و يترتّب على قذفه الحدّ.

هذا مضافا الى انّ الزنا الواقع في الخارج مردّد بين الاختياري و الإكراهي و لا يمكن إثبات ضد بنفي ضدّه فإنّه من الأصول المثبتة حيث انّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 142

إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر ليس أثرا شرعيا حتّى يثبت بنفي الآخر.

و هنا اشكال ثالث و هو كون هذا الأصل معارضا بأصالة عدم كون زناها اختياريّا لأنّ الأصل عدم. صدور الزنا عن اختيار و ذلك لانّ كليهما فردان من الزنا فيقال زناء اختياري و زناء غير اختياري.

و لو كان المراد جريان الأصل بالنسبة إلى فعل القاذف- كما فهم صاحب الجواهر ذلك من عبارة المسالك و كان من المسلّم عنده انّ نظر الشهيد الثاني إلى الافتراء و القذف- ففيه ما أورده عليه في الجواهر- بعد ان استشكل في الظهور المزبور بأنّه

ظهور في بادئ النظر بقوله: و الأصل المزبور لا يحقّق موضوع القذف بعد عدم دلالة اللفظ عليه في ثاني النظر، و دعوى عدم سقوط المزبور بالشبهة لكونه حقّا للمقذوف لا للّٰه تعالى خاصّة يدفعها عموم الدليل.

أقول: و يرد هنا ما أوردناه في الفرض الأوّل من عدم صحّة إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر.

ثم انّ الشهيد الثاني قال في آخر كلامه: و لو فسّره بأحدهما قبل و اندفع عنه الحدّ و وجب التعزير انتهى.

يعنى لو صرّح بأنّي قد أكرهتها على الزنا أو انّه اشتبه عليها الأمر، و زعمت انّه زوجها و وقعت في الزنا من حيث لا تعلم، قبل ذلك منه و يندفع عنه حدّ القذف بذلك و لكن لا يندفع عنه التعزير.

و هذا أيضا لا يخلو عن كلام، لأنّه إذا كان الكلام المزبور ظاهرا في نسبة الزنا إليها كما صرّح هو قدّس سرّه بذلك فتفسيره بعد ذلك بالشبهة أو الإكراه لا ينفع شيئا لأنّه يكون من باب الإنكار بعد الإقرار الذي لا اثر له أصلا كما لو قال: انا قتلت فلانا- المقتول- ثمّ فسّر القتل بالضرب فإنّه لا يقبل و لا يسمع منه و على الجملة فلو كان هناك ظهور للفظ واقعا فلا وجه لرفع اليد عنه بتفسيره بما ينافيه بعد ذلك.

فلا بدّ من القول بنقصان في الظهور بان يكون برزخا بين الظاهر و المجمل فلذا يقبل التفسير، و على الجملة فلعلّ ما ذكره شاهد على عدم ظهور

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 143

زنيت بفلانة في القذف.

نعم لو كان مقصودة قدّس سرّه- كما يظهر من كلامه- هو التمسّك بقاعدة درء الحدود بالشبهات فلا يرد عليه إشكال الإنكار بعد الإقرار و ذلك لانّه تحصل

الشبهة بتفسيره بهما.

و ان كان قد يستشكل عليه أيضا بأنّ هذا الحدّ حقّ للمقذوف على القاذف فلا يدرء بالشبهة و انّما يدرء الحدّ بها إذا لم يكن هناك حقّ للغير.

لكن أجاب عنه في الجواهر بانّ دعوى عدم سقوط المزبور بالشبهة لكونه حقّا للمقذوف لا للّٰه تعالى خاصّة يدفعها عموم الدليل.

يعنى انّ دليل درء الحدود عامّ يشمل كلّ الحدود و لا اختصاص له بحدّ مخصوص فيجري في كلّ ما كان حدّا سواء كان حقّا للّٰه تعالى أو للناس.

ثم ان صاحب الجواهر قال- عند توجيه الوجه الأوّل من الوجهين و هو كون القول المزبور قذفا-: و ربّما أُيّد بقول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله في خبر السكوني:

لا تسألوا الفاجرة من فجر بك، فكما جاز عليها الفجور يهون عليها ان ترمى البري ء المسلم «1» و قول علىّ عليه السلام: إذا سألت الفاجرة من فجر بك فقالت:

فلان جلدتها حدّين حدّا للفجور و حدّا لفريتها على الرجل المسلم «2».

و فيه انّه لا تأييد فيما ذكره للمقام و ذلك لانّ قول المرأة في الجواب:

فجر بي فلان، غير قول الرجل: انا زنيت بفلانة فإنّ الأوّل صريح في نسبة الفجور اليه فلا يجرى فيه احتمال الإكراه أو الاشتباه في حين انّ الثاني ليس صريحا في نسبة الزنا إليها بل يحتمل الشبهة و الإكراه فلم يبق الّا الظهور العرفي له في صدور الزنا عنها أيضا بالاختيار.

ثم انه قدّس سرّه عند توجيه الوجه الثاني و هو عدم كون القول المزبور قذفا قال: و ربّما كان في صحيح محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام في رجل قال لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك قال: عليه حدّ القذف لقذفه ايّاها، و امّا قوله:

______________________________

(1) وسائل الشيعة

الجلد 18 الباب 41 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 41 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 144

انا زنيت بك فلا حدّ عليه فيه الّا ان يشهد على نفسه اربع مرّات بالزنا عند الامام «1»، نوع إيماء الى عدم القذف بالقول المزبور.

و لعلّ مقصوده قدّس سرّه من نوع إيماء انه لو كان زنيت بك كافيا للقذف لما احتاج الى إضافة قوله: يا زانية.

و كلامه هذا أيضا لا يخلو عن اشكال و ذلك لتحقّق القذف بقوله:

يا زانية، إذا فلا تصل النوبة إلى قوله: انا زنيت بك.

و امّا التعزير في المقام فهو صحيح و ذلك لانّه ليس في مقام التوبة.

الكلام فيما لو أقرّ بحدّ و لم يبيّنه

قال المحقّق: و لو أقرّ بحدّ و لم يبيّنه لم يكلّف البيان و ضرب حتّى ينهى عن نفسه، و قيل لا يتجاوز به المائة و لا ينقص عن ثمانين و ربّما كان صوابا في طرف الكثرة و لكن ليس بصواب في طرف النقصان لجواز ان يريد بالحدّ التعزير.

أقول: إذا أقرّ بانّ عليه حدّا اى أقرّ بارتكابه ما يوجب الحدّ و لكن لم يفصّل و لم يبيّن ذلك الحدّ بل اقتصر على مجرّد الإقرار الإجمالي ففيه وجوه:

الأوّل انّه يخلّى سبيله و لم يكلّف البيان فلا يترتّب على إقراره شي ء ذهب اليه الشهيد الثاني في المسالك و قوّاه.

و قد يستدلّ على ذلك بالأصل و درء الحدود بالشبهات و ما ورد من ترديد جزم المقرّ كما في قصّة ماعز.

الثاني انّه يكلف البيان فيجبر على ان يبيّن ما أجمله و يوضح انّه اىّ حدّ كان هو و ذلك لعدم جواز تعطيل حدود اللّٰه تعالى.

الثالث انّه يضرب لكن لا يتجاوز

به المائة و لا ينقص عن ثمانين ذهب اليه ابن إدريس نظرا الى انّ أقلّ الحدود حدّ الشرب و هو ثمانون جلدة و أكثرها حدّ الزنا و هو مأة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 145

و مقتضى إطلاقه انّه لا يتجاوز به المائة و ان لم ينه عنه بل و ان طلب المقرّ ان يضربوه بعد كما انّ المعتبر على ذلك ان لا يضربوه أقلّ من الثمانين و ان نهى عن نفسه.

و صوّبه المحقّق- بعد نقل ذلك- في طرف الزيادة لأنّ الحدّ لا يزيد عليها و لم يصوّبه في طرف النقصان لجواز ان يريد بالحدّ التعزير [1].

فقد أورد عليه في جانب النقصان لإمكان ان يكون مراده من الحدّ التعزير فإنّه قد يطلق عليه لغة فلا يتحقّق ثبوت الحدّ المعهود، عليه. و قد استشكل في المسالك و الجواهر على ابن إدريس و على المحقّق فيما استصوبه من كلامه فبالنسبة إلى الأوّل- أي كلام ابن إدريس- بانّ كلا الأمرين ممنوعان امّا في جانب القلّة فلانّ حدّ القوّاد خمسة و سبعون فليس اقلّه الثمانين، و امّا في جانب الكثرة فلانّ حدّ الزّنا قد يتجاوز المائة كما لو زنى في مكان شريف أو وقت شريف فإنّه يزاد على المائة بما يراه الحاكم.

و امّا بالنسبة الى الثاني أعني كلام المحقّق فأوّلا بأنّ بأنّ الحدّ حقيقة شرعيّة في المقدّرات المذكورة، و إطلاقها على التعزير مجاز لا يصار اليه عند الإطلاق بدون القرينة.

و ثانيا بأنّه على فرض حمله على التعزير فأمره منوط بنظر الحاكم و هو يتوقّف على معرفة المعصية ليرتّب عليها ما يناسبها لا بالتّشهي.

و ثالثا بانّ من

التعزير ما هو مقدّر فجاز ان يكون أحدها فيشكل تجاوزها أو نقصها بدون العلم بالحال.

الرابع انّه يضرب حتّى ينهى عن نفسه اى يقول: لا تضرب. أو يقول يكفى، و لا يخفى انّ الظاهر انّه يحكم عليه بذلك بمجرّد إقراره و لو مرّة واحدة و قد ذهب جمع من العلماء الى هذا القول و نسب أيضا الى الشيخ و القاضي.

و مستندهم على ذلك خبر محمّد بن قيس- و في المسالك: انه الأصل في هذه المسئلة- عن ابى جعفر عن أمير المؤمنين عليهما السلام في رجل أقرّ على

______________________________

[1] و في تحرير العلّامة بعد نقل القول المزبور: و هو جيّد في طرف الكثرة لا القلة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 146

نفسه بحدّ و لم يسمّ اىّ حدّ هو، قال: أمر ان يجلد حتّى يكون هو الذي ينهى عن نفسه في الحدّ «1».

و أورد عليه في المسالك بوجوه عديدة أحدها: ضعف سنده لاشتراك محمد بن قيس الذي يروى عن الباقر عليه السلام بين الثقة و غيره.

ثانيها انّ الحكم الوارد فيه مخالف للأصل.

ثالثها انّ الحدّ يطلق على الرجم و على القتل بالسّيف و الإحراق بالنّار و رمى الجدار عليه و نحو ذلك، و على الجلد و هو يختلف كمية و كيفيّة فحمل مطلقة على الجلد غير مناسب للواقع و لا يتمّ معه إطلاق انّ الإقرار أربع مرّات يجوّز جلد المائة.

رابعها استلزام انّه لو نهى عن نفسه فيما دون الحدود المعلومة قبل منه و ليس هذا حكم الحدّ و لا التعزير.

خامسها انّ الحدود مختلفة فمنها ما يتوقّف على الإقرار أربع مرّات و منها ما يتوقّف على الإقرار مرّتين و منها ما يثبت بمرّة.

سادسها انّه معارض بما روى بطريق

يشاركه في الضعف ان لم يكن منه عن انس بن مالك قال: كنت عند النبي (ص) فجائه رجل فقال يا رسول اللّٰه انّى أصبت حدّا فأقمه علىّ و لم يسمّه قال: و حضرت الصلاة فصلّى مع النبي (ص) فلمّا قضى النبي (ص) الصلاة قام اليه الرجل فقال يا رسول اللّٰه انّى أصبت حدّا فأقم ما في كتاب اللّٰه فقال: أ ليس قد صليّت معنا؟ قال: نعم قال: انّ اللّٰه قد غفر لك ذنبك أو حدّك «2».

قال قدّس سرّه: و لو كان الحدّ يثبت بالإقرار مطلقا لما أخره النبي (ص) و لا حكم بأنّ الصلاة تسقط الحدّ و انّما اجابه بذلك من حيث عدم ثبوته مع إطلاقه لذلك و ان تكرّر الإقرار.

ثم استنتج من جميع ذلك بقوله: فالقول بعدم ثبوت شي ء بمجرّد الإقرار

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) صحيح البخاري الجلد 8 الصفحة 207.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 147

المجمل قوى. و على هذا فيمكن القول بعدم وجوب استفساره بل و لا استحبابه.

و قد أجاب عنه في الجواهر بصحّة السند لانّ محمّد بن قيس الوارد في السند هو محمّد بن قيس الموثّق، و ذلك للقرائن المفيدة لذلك كرواية عاصم بن حميد عنه كما انّ العلّامة المجلسي قدّس سرّه قال: حسن كالصحيح.

و عبّر السيّد صاحب الرياض عن هذا الخبر بقوله: الصحيح على الصحيح. يعنى ان خبر قيس صحيح على القول الصحيح [1].

و أجاب قدّس سرّه عن باقي إشكالات الرواية سوى اشكال المعارضة بأنّها كالاجتهاد في مقابل النص، أي إذا كان الخبر صحيحا فنحن متعبّدون به و نقول بكلّ ما دلّ عليه تعبّدا.

و يمكن ان يجاب عنها أيضا بأنّ

المحاذير مولودة إجماله في الإقرار فلو كان يقرّ بالزنا لما كان عليه شي ء بإقرار مرّة واحدة الى ان يقرّ اربع مرّات و هناك يقام عليه الحدّ.

و امّا انّه يمكن ان ينهى عن نفسه بأقلّ من الحدّ كان ينهى بعد ان ضرب جلدتين و مقتضى الخبر القبول منه و الحال انّ هذا ليس حكم الحدّ و لا التعزير.

ففيه انّ نهيه عن نفسه قبل البلوغ الى الحدّ مناف لإقراره بالحدّ و سيأتي الكلام بالنسبة إلى التعزير.

و امّا المعارضة ففيها انّ المعارضة فرع اعتبار المعارض قال في الجواهر:

و خبر انس الذي هو من طرق العامّة المحتمل لصدور التوبة منه لا يصلح معارضا للصحيح المعمول به من طرق الخاصّة المؤيّد بمرسل المقنع إلخ «1».

و امّا ما ذكره إيرادا على المحقق- في ما أفاده في جانب النقيصة من

______________________________

[1] و استشكل الأردبيلي بانّ في سنده سهلا و أجاب عنه في الجواهر بانّ الأمر في سهل، سهل. راجع الجواهر الجلد 41 الصفحة 287.

______________________________

(1) المقنع الصفحة 147.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 148

احتمال ارادة التعزير من الحدّ- من انّ التعزير امره منوط بنظر الحاكم و هو متوقّف على معرفة المعصية تفصيلا كي يترتّب عليها ما يناسبها.

فقد أجاب عنه بقوله: و كون التعزير مقدّرا بنظر الحاكم، و لا نظر له ما لم يعلم المعصية، انّما هو في غير المقام المحتمل تقدير الشارع بما يؤدّي إليه نظر المقرّ فيضرب ما لم ينه و ان زاد على المائة و يترك مع نهيه و ان نقص عن أقلّ الحدّ لاحتمال ارادة التعزير منه و لو على ان يكون نهيه قرينة على ذلك مع فرض المجازيّة انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: تارة يبحث في صحّة الرواية

و سقمها و قد عرفت الكلام فيه حيث انّ الشهيد الثاني ضعّفها لتردّد محمد بن قيس بن الموثّق و غيره و قد مرّ انّ عدّة من الأعلام صحّحوها و اعتمدوا عليها، و اخرى بعد تصحيحها.

فلو اعتمدنا على الرواية و صحّحناها فلا اشكال من سائر الجهات فان كون الحدّ معيّنا، و التعزير منوطا بنظر الحاكم و على حسب ما يراه من المصلحة و ان كان تامّا صحيحا لكن ذلك في الحدود المفصّلة المبيّنة و امّا الحدّ المجمل فلا بأس بأن يقال فيه انّه يضرب حتّى ينهى فيكون هذا حدّا في هذا الظرف الخاص في قبال سائر الحدود و هكذا بالنسبة إلى التعزير فلا مانع عن القول بأنّه إذا أقرّ إقرارا مبهما يكون تعزيره منوطا برأى المقرّ لا بنظر الحاكم فلا رأى له إذا لم يعرف المعصية بعينها و على هذا فلا معارضة بين هذا الخبر و أدلّة الحدود لأنها متعلقة بالحدود المعيّنة و هذا بالحدّ المجمل.

ثم انّ هنا احتمالا آخر و هو حمل رواية محمّد بن قيس على انها قضيّة في واقعة و لعلّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم من الطرق العاديّة- لا من علم الغيب الذي ليس هو ملاك الأحكام- ما فعله المقرّ في الخارج و انّه اتى كي يطهّره الامام ممّا ارتكبه و تلوّث به فعمل عليه السلام بعلمه و أمر بأن يضرب حتّى ينهى، لانّه ليس بأزيد و أكثر من صدور فعل من الامام عليه السّلام، و على هذا فلا يمكن التمسك بها.

و الإنصاف انّ هذا الاحتمال في غير موضعه و ذلك لانّ الأئمة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 149

عليهم السلام إذا نقلوا شيئا ممّا يرتبط بالأحكام عن

جدّهم رسول اللّٰه أو عن أمير المؤمنين صلوات اللّٰه عليهما و آلهما فالظاهر انّه حكم كلّى ذكر لأجل تمسك الناس و جي ء به للأخذ به فإنهم لم يكونوا في تلك المقامات بصدد ذكر التأريخ.

نعم يبقى الكلام في انّه ما يصنع حينئذ بدليل درء الحدود بالشبهات لكن امره سهل فإنّه على تقدير صحّة الرواية تكون هي حاكمة على دليل الدرء، نعم لو لم تثبت صحّتها فلا حجّة بيننا و بين اللّٰه في الحكم بالحدّ و ضربه مع ما نعلم من شدّة اهتمام الشارع بحرمة المؤمن و كمال عنايته في وضوح موضوع الحدود و عدم الاقدام على إقامتها بدون ذلك فيبقى السؤال عن انّه ما هو التكليف بالنسبة إلى المقرّ بالإقرار بحدّ مجهول؟

يمكن ان يقال انّ الظاهر من الحدّ الذي أقرّ به هو الحدّ المقابل للتعزير و عندئذ يتردّد الأمر بين الأقلّ و الأكثر و لا بدّ من الاقتصار على الأقلّ و هو ما يصدق عليه الحدّ.

و لكن يرد عليه بانّ ذلك موقوف على كون المقام من قبيل الأقلّ و الأكثر و الحال انّ كونه من باب المتباينين ليس ببعيد و عليه فالعمل بالأقل لا اثر له أصلا بل هو في حكم العدم و ربّما يكون الواجب هو الفرد الآخر، و ما اتى به حراما في الواقع.

ان قلت: على ذلك يجب إلزامه بتوضيح ما أجمله و تبيين ما أبهمه من سبب الحدّ.

نقول: لا وجه لذلك أصلا بعد ما نعلم و نعهد من فعل النبي و الأمير عليهما السلام من التسامح في ذلك و ما ورد في غير واحد من النصوص من ترديد المقرّ الجازم الذي كان يقرّ بالحدّ المعيّن، فاذا لم يجب تكرار الإقرار، و الإصرار عليه

مع كون الحدّ معيّنا فكيف نقول بوجوب إلزامه بالبيان و التوضيح في الإقرار بالمجمل؟

لا يقال فكيف يجب إلزام المقرّ بحق الناس مجملا على البيان و التوضيح؟ لأنّا نقول: انّه و ان كان يصحّ ذلك في حق الناس الّا انه ليس من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 150

مذهبنا القياس.

و على الجملة فلا يجب إلزامه بالبيان و لا يكلّف التفصيل و قد وافق على ذلك صاحب المسالك و الجواهر.

و قد ظهر بما ذكرناه الجواب عن القول الثاني و هو انّه يكلّف المقرّ، بالبيان. كما أجاب عنه في الجواهر بالأصل و ظاهر بعض النصوص و الام بدرء الحدّ بالشبهة و خبر انس و لما في غير واحد من النصوص من ترديد جزم المقرّ فكيف بالساكت و لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: من اتى هذه القاذورات شيئا فستر ستره اللّٰه و انّ من بدا صفحته أقمنا عليه الحدّ، و قول أمير المؤمنين عليه السلام للرجل الذي أقرّ عنده أربعا: ما أقبح في الرجل منكم ان يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رءوس الملأ ا فلا تاب في بيته؟ فو اللّٰه لتوبته في ما بينه و بين اللّٰه أفضل من اقامة الحدّ عليه.

فقد جعل الإقرار بالحد مجملا كالإقرار بالزنا تصريحا حيث لا يكلّف هو ان يقرّ ثانيا و ثالثا و رابعا بل و كانوا عليهم السلام يردّدون في مقال المقرّين و إقرارهم و يلقّونهم الشبهة كقوله صلّى اللّٰه عليه و آله: لعلّك مجنون أو لعلّك غمزت، و أمثال ذلك.

ثم انّ المحقّق قدّس سرّه كما استصوب هنا كلام ابن إدريس في طرف الزيادة نفى عنه الاستبعاد في نكت النهاية أيضا و قد ذكر هناك نكات و

مطالب زائدة على ما افاده هنا و إليك عبارته:

قوله: و قضى أمير المؤمنين في من أقرّ على نفسه بحدّ و لم يبيّنه ان يضرب حتّى ينهى هو عن نفسه الحدّ هل يعتبر هذا فيمن يعرف الحدود أم لا و هل إذا بلغ معه المائة يقطع عنه الضرب أم لا؟

الجواب: روى هذه محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السلام عن علىّ عليه السلام في رجل أقرّ على نفسه بحدّ و لم يسمّ اىّ حدّ هو، قال: أمر ان يجلد حتّى يكون هو الذي ينهى عن نفسه الحدّ. و هذا اللفظ مطلق فتحمل على العارف و غيره و هذه الرواية مشهورة فيعمل بها و ان كان في طريقها قول،

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 151

و يؤيّدها انّه إقرار من بالغ عاقل فيحكم به و لا استعبد إذا وصل به الى مأة جلدة ان يقطع عنه الجلد و ان لم يمنع عن نفسه لانّه لا حدّ و راء المائة، و إذا نهى عن نفسه قبل و ان كان دون الحدّ لاحتمال ان يكون ذلك توهّمه و انّه يسمّى حدّا فيسقط ما زاد للاحتمال إذ لا يثبت بالإقرار إلّا ما يتحقّق انّه مراد من اللفظ انتهى كلامه رفع مقامه «1».

نقول: امّا ما كان منه متعلقا بمحلّ الكلام هو ان النزاع في الحقيقة في انّه هل يؤخذ بإطلاق الرواية على تقدير صحّتها و يحكم بأنّه يضرب الى ان ينهى فما لم ينه يضرب و ان مات و انجرّ الى زهوق روحه، أو انّه يقتصر على ضربه مائة جلدة ان لم يزجر ضاربه قبل ذلك؟

و يدلّ على الأوّل إطلاق الرواية و عليه فيضرب كائنا ما كان.

و تمسّك من

قال بالثاني بأنّ هذا المقرّ لم يقرّ بأزيد من الحدّ و من المعلوم انّه لا حدّ فوق مأة و أزيد منها، و امّا ما كان يزاد على هذه تغليظا و لا جل ارتكابه القبيح في مكان شريف أو زمان كذلك فليس هو من الحدّ في شي ء بل هو أمر زائد على أصل الحد من باب التعزير و التأديب فيمن لم يراع شرف الزمان المخصوص أو المكان كذلك و ضيّع حرمتهما، و من المعلوم انّ المقرّ في المقام قد أقرّ بالحدّ لا بالحدّ و التعزير كليهما.

و الظاهر انّ هذا الكلام حسن فيكون معنى «يضرب حتّى ينهى» انّه يضرب كذلك الى بلوغ الحدّ التامّ و هو المائة فحينئذ يخلّى سبيله و لا حاجة الى ان ينهى فنهيه يفيد و يؤثّر بالنسبة الى ما قبل المائة إلّا إذا ظنّ في حقّه ما يوجب القتل كزنا المجارم فهناك يمكن ان يقال انّه يضرب ما لم ينه عنه و ان قتل به فان حكم الزاني كذلك، و ان كان هو الرجم أو القتل لا عن جلد و ضرب، الّا انّ ذلك إذا كان معيّنا و امّا إذا كان مجملا فلا بأس بما ذكرناه.

لكنّي لم ارفى كلماتهم من يقول بذلك.

هذا بالنسبة إلى استصوابه طرف الزيادة من كلام ابن إدريس و امّا

______________________________

(1) الجوامع الفقهيّة الصفحة 454.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 152

بالنسبة الى ما ذكره من كونه عارفا أو غيره فنقول:

و هل تعتبر في هذا الحكم- اى ضرب هذا المقرّ حتّى ينهى- علمه و معرفته بالحدود المقرّرة في الشرع أولا يعتبر ذلك؟

اعتبر ذلك بعض العلماء [1]، قال في كشف اللثام «عند قول العلّامة ضرب حتّى ينهى عن نفسه»: و

ان لم يبلغ أحدا من الحدود المقدّرة لأنّ نهيه يدلّ على إرادته التعزير أو يبلغ المائة فإنّها أقصى الحدود و ما يزاد لشرف المكان أو الزمان تعزير زائد على أصل الحدّ و الأصل عدمه.

ثم قال: نعم ان علم بالعدد و بالمسئلة و طلب الزيادة توجّه الضرب الى ان ينهى انتهى.

أقول: و المستند في ذلك انّه إذا كان عارفا بالمسئلة و بالحدود و التعزيرات فإنّه يعتمد بنهيه و يطمئن اليه فاذا نهى قبل بلوغ أقلّ الحدود فإنّه يعلم انّه أراد من الحدّ التعزير، كما انّه إذا نهى عند بلوغ الضربات ثمانين جلدة يعرف انّه كان حدّه حدّ شرب الخمر و هكذا، بخلاف ما إذا لم يكن عالما بالمسائل و عارفا بالحدود المقرّرة فإنّه ربما يضرب فوق المقدار اللازم و هو لعدم كونه عارفا لا ينهى أو انّه لشدّة تسليمه قبال حكم اللّٰه تعالى و جدّه البالغ في تطهير نفسه عن دنس ما اتى به من الذنب قد هيّأ نفسه لان يضرب كملا و يرى انّه كلّما زيد في ضربه ازداد مغفرة و رحمة فلا بدّ من ان يكون عارفا حتّى يكون نهيه ناشيا عن علم و بصيرة فيعتمد عليه.

و لكنّ المحقّق خالف في ذلك مستدلّا بانّ اللفظ مطلق فيحمل على العارف و غيره كما عرفت آنفا من كلامه الذي نقلناه من النكت.

______________________________

[1] قال الشهيد في غاية المراد: و خصّ هذا الحكم في النكت بالعالم بالحدود- ثم قال:- قلت:

و قول الأصحاب ببلوغ المائة فيه نظر إذ لم يعتبروا التعدد هنا و موجب المائة يعتبر فيه التعدّد قطعا و كذا في البلوغ إلى الأقلّ لما ذكر من اعتبار التعدد فان كان مراد الأصحاب انّ ذلك مع الإقرار أربعا

فليس ببعيد ما قالوه و الّا فهو مشكل، و لك ان تقول: انّ من أقرّ مرّة لم يتجاوز التعزير و ان ثنّى أو ثلّث لم يتجاوز الثمانين و ان ربّع لم يتجاوز المائة و يحتمله لجواز تغليظ الحدّ بالزنا في مكان شريف أو زمان شريف و مع التعدّد يحتمل حمله على التأسيس فيتعدّد الحدود انتهى كلامه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 153

و يرد عليه انّ الإطلاق متعلّق بما إذا كان هناك حكم كلّى قد تعلّق بمفهوم شامل لافراد كما إذا قال أعتق رقبة حيث انّ الرقبة شاملة للمؤمنة و الكافرة فما لم يدلّ دليل على اختصاص الحكم بالمؤمنة يؤخذ بالإطلاق و يقال:

انّ المراد هو محض الرقبة سواء ا كان مؤمنا أم كافرا، و امّا إذا استعمل لفظ في مقام الحكاية و ان كان لأجل بيان الحكم فلا إطلاق هنا كما إذا قال: رجل قتل رقبة إلخ فهل يمكن ان يقال: انّ الرقبة مطلقة؟ و ما نحن فيه كذلك فلا إطلاق يشمل كليهما فالصحيح التمسك بترك الاستفصال، و ذلك لوقوع هذا الأمر بأمر الإمام عليه السلام و له وجهان فيمكن كونه في الواقع عارفا كما يمكن كونه جاهلا و لمّا لم يسئل الامام عن ذلك فلذا يحمل على العموم اى سواء كان عارفا أو جاهلا.

ثم انّ هنا كلاما آخر و هو انّه إذا ضرب مأة ثم كفّ عن ضربه امّا بنهيه أو لأنها أقصى الحدود فقد اجرى حدّ الزنا بإقرار واحد و الحال انّه يعتبر فيه أربعة شهود و هكذا.

و لذا قال في كشف اللثام في مقام رفع الاشكال: و إطلاق الخبر الأوّل و الأصحاب نزل على الحدّ الذي يقتضيه ما وقع منه من

الإقرار فلا يحدّ مأة ما لم يقرّ أربعا و لا ثمانين ما لم يقرّ مرّتين و لا يتعيّن المائة إذا أقرّ أربعا و لا الثمانون إذا أقرّ مرّتين على قول غير ابن إدريس انتهى.

قوله: الخبر الأوّل يعني خبر محمّد بن قيس المتقدّم آنفا.

ثم انّ كلامه محلّ النظر و الاشكال و ذلك لانّ «أقرّ» ظاهر في الإقرار مرّة واحدة لا الإقرار بمقتضى الحدود مرّتين أو أربع مرّات فهذا تعبّد خاصّ في الموضع.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام انّه يؤخذ بالرواية و يعمل بها فإذا أقرّ بحدّ و لم يبيّنه فإنّه يضرب الى ان ينهى عن نفسه الى ان يبلغ المائة فهناك يخلّى سبيله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 154

حكم الرجل و المرأة الّذين وجدا في إزار واحد

قال المحقّق: و في التقبيل و المضاجعة في إزار واحد و المعانقة روايتان إحديهما مأة جلدة و الأخرى دون الحدّ و هي أشهر.

البحث هنا في انّه إذا وجد الرجل و المرأة في إزار أو لحاف يقبّلان و يعانقان فهل يحكم عليهما بالحدّ أو التعزير؟ بعد انّه يحرم مضاجعة الاجنبيّين تحت إزار واحد مجرّدين.

مقتضى رواية هو الأوّل و مقتضى رواية أخرى هو الثاني و يستفاد من عبارة المحقّق انّه مائل الى الثاني حيث عبّر بأنّه الأشهر، فهو مشعر بالتقدّم لقوله عليه السلام: خذ بما اشتهر بين أصحابك [1].

و في الجواهر في شرح «و هي أشهر»: عملا على معنى انّ في ذلك التعزير المناط بنظر الحاكم الذي أقصاه مأة سوط دون الحدّ بل قيل انّه المشهور بل في كشف اللثام الإجماع كما يظهر منهم عليه بل عن الغنية دعواه صريحا انتهى و الوجه في قوله: عملا انّ روايات الحدّ أكثر.

فهم بين من عبّر بالأشهر

و من عبّر بالمشهور، و من ادعى الإجماع على ذلك، و الفرق بين الأشهر و المشهور واضح لأنّ الأشهر مقابل المشهور و امّا المشهور

______________________________

[1] و قال الشيخ في المبسوط الجلد 8 الصفحة 7: إذا وجد رجل مع امرأة في فراش واحد يقبّلها أو يعانقها فلا حدّ عليه و عليه التعزير، و روى في بعض أخبارنا أنّه يجلد كلّ واحد منهما مأة جلدة و كذلك روى المخالف ذلك عن عليّ عليه السلام و قال بعضهم خمسين و قال الباقون يعرّز انتهى.

و قال الشيخ المفيد في المقنعة الصفحة 774: فإن شهدوا عليه بما عاينوه من اجتماع في إزار و التصاق جسم بجسم و ما أشبه ذلك و لم يشهدوا عليه بالزنا قبلت شهادتهم و وجب على الرجل و المرأة التعزير حسب ما يراه الامام من عشر جلدات الى تسع و تسعين جلدة و لا يبلغ التعزير في هذا الباب حدّ الزنا المختصّ به في شريعة الإسلام.

و قال العلّامة في التحرير الصفحة 222: و في التقبيل و المضاجعة في إزار واحد و المعانفة التعزير.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 155

فهو مقابل الشاذ.

و قد عقد المحدّث الحرّ العاملي في ذلك بابا تحت عنوان: باب ثبوت التعزير بحسب ما يراه الامام على الرجلين و المرأتين و الرجل و المرأة إذا وجدا في لحاف واحد أو ثوب واحد مجرّدين من غير ضرورة و لا قرابة و يقتلان في الرابعة.

و هذه فتواه في المقام فيحب التعزير مع هذه القيود و كيف كان فقد ذكر في هذا الباب خمسة و عشرين حديثا، و هذه الروايات على قسمين فبعضها يدلّ على وجوب الحدّ اى مأة جلدة و بعضها الآخر على انّ

الحكم هنا هو التعزير و حيث انّ كلّ واحد من القسمين متضمّن لروايات صحيحة السند صريحة الدلالة فلذا كان الجمع بينهما و علاج تعارضهما بما تطمئن إليه النفس مشكلا، كما انّ الحكم بالتساقط بعد تعارضهما أيضا في غاية الإشكال للإجماع على انّ الحكم هنا واحد من هذين و اللازم هو المراجعة إلى الروايات و النظر فيها فلعلّنا نصادف فيها شيئا يجمع به بين الطائفتين.

فمنها صحيح الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: حدّ الجلد، ان يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحدّ و المرأتان تجلدان إذا أخذتا في لحاف واحد الحد «1».

و حيث ان الفرض الثاني متعلّق برجلين و الثالث بالمرأتين فلا بدّ من ان يكون الفرض الأول متعلقا بالرجل و المرأة.

و عن عبد اللّٰه بن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: سمعته يقول: حدّ الجلد في الزنا ان يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يوجدان في لحاف واحد و المرأتان توجدان في لحاف واحد «2».

و عن عبد الرحمن الحذّاء قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد جلدا مأة جلدة «3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 156

و عن ابى الصباح الكناني عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل و المرأة يوجدان في لحاف واحد جلدا مأة مأة «1».

و عن سلمة عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام: انّ عليا

عليه السلام قال: إذا وجد الرجل مع المرأة في لحاف واحد جلد كلّ واحد منهما مأة «2».

الى غير ذلك من الاخبار بهذا المضمون.

و لا شك في دلالة هذه الروايات على انّ حدّ المجتمعين في لحاف واحد هو الجلد، و الظاهر من الجلد و الحد هو حدّ الزنا مأة جلدة كما صرّح بكون حدّ ذلك مأة جلدة التي، التي هي حدّ الزنا في قسم منها كما عرفت.

و امّا الاخبار الدّالة على التعزير حيث استثنى فيها من المائة، واحدة فهي هذه:

عن زيد الشّحام عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل و المرأة يوجدان في اللحاف قال: يجلدان مأة مأة غير سوط «3».

و عن ابان بن عثمان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: انّ عليّا عليه السلام وجد امرأة مع رجل في لحاف واحد فجلد كلّ واحد منهما مأة سوط غير سوط «4».

و عن ابن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في رجلين يوجدان في لحاف واحد قال: يجلدان غير سوط واحد «5».

و عن حريز عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام: انّ عليا عليه السلام وجد رجلا و امرأة في لحاف واحد فضرب كلّ واحد منهما مأة سوط الّا سوطا «6».

الى غير ذلك من الروايات الشريفة الدالة على التعزير.

و الأمر الصعب جدّا هو الجمع بين هاتين الطاثفتين من الروايات،

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 10.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 24.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 19.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب

حدّ الزنا الحديث 18.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 20.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 157

و القائلون بلزوم التعزير حملوا روايات المائة على وجوه لا تنافي ذلك بناءا منهم على انّ مقدّمات الزنا و مناسباته لا تكون مثل الزنا نفسه.

ففي الوسائل في ذيل خبر ابن سنان- ح 4-: هذا محمول على الجلد دون المائة و في ذيل خبر الحذّاء- ح 5-: هذا يحتمل الحمل على انّه يجلد كلّ واحد منهما خمسين جلدة لوجود التصريحات الكثيرة السابقة و الآتية بأنّه يجلد دون الحدّ انتهى.

و ان كان هذا الحمل عندنا بمكان من البعد لمخالفته للظاهر شديدا.

و قد يجمع بينهما بحمل روايات المائة على التقيّة و جعلوا رواية عبد الرحمن- بن الحجاج المتعرّضة لدخول عبّاد البصري على الامام الصادق عليه السلام: عن شاهدا على ذلك عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: كنت عند ابى عبد اللّٰه عليه السلام فدخل عليه عباد البصري و معه أناس من أصحابه فقال له: حدّثني عن الرجلين إذا أخذا في لحاف واحد فقال له: كان علىّ عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ فقال له عباد: انكّ قلت لي: غير سوط، فأعاد عليه ذكر الحديث- الحدّ- حتّى أعاد ذلك مرارا فقال: غير سوط، فكتب القوم الحضور عند ذلك، الحديث «1».

قال في الجواهر: و لعلّ التأمل في الجمع بين النصوص يقتضي تعيين كونه مأة الّا سوطا خصوصا بعد اشعار صحيح الحلبي الوارد في الرجلين بانّ ذكر المائة للتقيّة.

و فيه انّ في رواية عبد الرحمن قرائن تدلّ على انّ الحكم بالتعزير و استثناء واحد من مأة، صدر تقيّة.

أحدها نسبة ضرب المائة الى أمير المؤمنين

عليه السلام فإنّ التقيّة تحصل بإلقاء الحكم على خلاف الواقع و لا حاجة الى نسبة هذا الحكم الى امام آخر فإنّه كذب و افتراء [1].

______________________________

[1] أقول: يرد عليه انّ في عدّة من روايات هذا الباب نسب الامام عليه السلام ضرب كل واحد مأة الّا

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 158

ثانيها انّ ظاهر السياق انّ الامام أبا عبد اللّٰه عليه السلام ذكر أوّلا الحكم الواقعي و لمّا رأى الراوي نسب اليه صلوات اللّٰه عليه انه قال من قبل «من غير سوط» و أصر على ذلك فلم ير مقتضيا لبيان الحكم الواقعي فهناك قال: من غير سوط.

ثالثها انّ فتوى الفقهاء من العامّة هو وجوب التعزير لا الحدّ كما صرّح بذلك الشيخ الطوسي قدّس سرّه الشريف حيث قال:

روى أصحابنا في الرجل إذا وجد مع امرأة أجنبيّة يقبّلها و يعانقها في فراش واحد انّ عليهما مأة جلدة، و روى ذلك عن علىّ عليه السلام و قد روى انّ عليهما أقلّ من الحدّ، و قال جميع الفقهاء عليه التعزير، دليلنا أخبار الطائفة، و قد ذكرناها، و قد روت العامّة ذلك عن علىّ عليه السلام «1».

قوله: و قد ذكرناها إلخ مراده ذكر ذلك في كتبه الروائية مثل التهذيب و الاستبصار، و كيف كان فترى انّه نسب وجوب مأة جلدة إلى أصحابنا، و التعزير الى الفقهاء اى فقهاء العامّة كما هو مصطلحه.

و إذا كان فتوى العامّة هو وجوب التعزير فهل يصحّ القول بأنّ إفتاء الإمام عليه السلام بالمأة محمول على التقيّة؟ بل حمل نصوص دون الحد على التقيّة أولى.

هذا كله مضافا الى انّ الحمل على التقيّة معناه الطرح

و ليس هو في الحقيقة جمعا بين الروايات.

و من وجوه الجمع ما افاده شيخ الطائفة من حمل روايات المائة على صورة علم الامام بوقوع الزنا قال قدّس سرّه بعد ذكر الأخبار الدّالة على وجوب المائة و من جملتها خبر ابى الصباح الكناني المذكورة آنفا: الوجه في هذه الاخبار هو انّه إذا انضاف الى كونهما في إزار واحد، الفعل و علم ذلك منهما الإمام فإنّه حينئذ يقيم عليهما الحدّ كاملا «2».

______________________________

سوطا، الى أمير المؤمنين عليه السلام، فالإشكال مشترك الورود

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود المسئلة: 9.

(2) التهذيب الجلد 10 الصفحة 44.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 159

و على هذا فيعمل بأخبار التعزير لانّ روايات المائة محمولة على صورة الزنا و علم الامام بذلك.

و فيه انّه لا وجه لهذا الحمل بعد انّ الظاهر منها هو بيان الحكم الشرعي الكلّي و ليس في الروايات ما يشعر بذلك حتّى يكون شاهدا له [1] فيبعد في النظر جدّا حملها على هذا الوجه فان هذه الروايات متعرّضة لأصل الحكم و امّا طريق إثبات الموضوع فهو موكول الى مقام آخر «فتأمّل» و منها ما أفاده أيضا من حمل روايات المائة على صورة قد زبره الامام و نهاه ثم وجد انه قد عاد الى فعله الأوّل.

قال قدّس سرّه- بعد ذكر خبر عبد الرحمن بن ابى عبد اللّٰه قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد و قامت بذلك عليهما البيّنة و لم يطّلع منهما على سوى ذلك جلد كلّ واحد منهما مأة جلدة-:

فيحتمل هذا الخبر ان يكون المراد به من قد زبره الامام و أدّبه و نهاه عن ذلك بفعل كان منه ثم وجده قد عاد

الى مثل فعله فحينئذ جاز له اقامة الحدّ عليه كاملا و هذا الوجه تحتمله الاخبار الأول و الذي يدلّ على ذلك. إلخ «1».

أقول: و هذا أيضا خلاف الظاهر و بعده غير خفيّ [2] و يمكن ان يجمع بينهما بحمل الأخبار الدّالة على المائة على ما إذا وجدا مجرّدين و امّا إذا وجدا لا كذلك فهناك يضربان مأة الا واحدا.

و يمكن الاستشهاد لذلك برواية ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: كان علىّ عليه السلام إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما حدّ الزاني مأة جلدة كلّ واحد منهما و كذلك المرأتان إذا وجدتا في لحاف واحد مجرّدتين جلدهما كلّ واحدة منهما مائة جلدة «2».

______________________________

[1] أقول: ذكر الشيخ خبر حسين بن خالد شاهدا و دليلا على حمله فراجع.

[2] أقول: انه قدّس سرّه جعل رواية أبي خديجة دليلا على ما افاده فراجع.

______________________________

(1) التهذيب الجلد 10 الصفحة 44.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 15.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 160

نعم لا تعرّض في هذه الرواية للرجل و المرأة و انّما المفروض فيها الرجلان مرّة و المرأتان أخرى، و بذلك تخصّص اخبار المائة بما إذا وجدا مجرّدين لامع الثوب فان حكمه هو أقلّ من مأة.

اللّهم الّا ان يقال بعدم خصوصيّة للفرضين المذكورين، بل اجتماع الرجل و المرأة تحت لحاف واحد أيضا كذلك و على هذا فتخصّص الحكم في الجميع اى الصور الثلاثة و الّا فيقتصر على الفرضين المذكورين في رواية ابى عبيدة.

و كيف كان فقد جمع بين الطائفتين بهذا النحو فإنهما كالمثبتين، و قد ذكر هذا القيد في كلمات جماعة من العلماء القائلين بالمأة.

الّا انّه يمكن الإشكال في هذا

الوجه أيضا بأنّ التقييد في المثبتين متعلّق بما إذا أحرزت وحدة الحكم و لم يحتمل تعدّده مثل: ان ظاهرت فأعتق رقبة و ان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، و هنا لا نقطع بذلك، فربّما يكون الحكم في المجرّدين و غير المجرّدين مأة جلدة، و لو قيّدنا بهذا القيد فلعلّه يقتصر فيه على الموردين، و امّا في الرجل و المرأة الذي لم يذكر في الخبر فلا، بل يقال هناك بالإطلاق.

كما انّه لو شكّ في اعتبار هذا القيد و عدمه فالحد يدرء بذلك و على هذا فلا يحدّان و لا يعزّران بدون ذلك الّا مع فرض حرمة كونهما تحت لحاف واحد مطلقا نعم معلوم انّ كون الرجل و المرأة تحت لحاف واحد حرام لأنّه أولى من مجرّد النظر الذي هو حرام بل اولى من مجرّد كونهما في الخلوة الذي ورد فيه:

انّ ثالثهما الشيطان، فهنا لا حاجة الى قيد التجرّد كما لا حاجة في الحرمة و وجوب التعزير الى روايات هذا الباب و هذا بخلاف الرجلين فان نومهما تحت لحاف واحد ليس في حدّ نفسه بحرام فيقيّد بما إذا كانا مجرّدين فيحرم و يعرّزان و كذلك المرأتان.

و قد يجمع بين الطائفتين بالتخيير فان هذا هو مقتضى تعارض الاخبار الصحاح الواجدة لشرائط الحجيّة.

و الذي يقتضي القاعدة هو الأخذ بروايات المائة فإنّها مخالفة للعامّة كما

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 161

رأيت ذلك في كلمات الشيخ قدّس سرّه في الخلاف، مضافا الى انّها أكثر عددا فيؤخذ بهذه و يغضّ النظر عن روايات ما دون مأة لموافقتها لمذهب العامّة.

و ان كان ربّما يستبعد في الذهن تساوى النوم تحت لحاف واحد، و الزنا، في الحكم بان يكون حدّ كلّ منهما مأة

لكن إذا ثبت التعبّد فلا مجال للاستبعاد.

كما انّ مقتضى قوله عليه السلام: خذ بما اشتهر بين أصحابك، أيضا هو القول بالتعزير.

نعم يشكل ذلك اى القول باعتبار المائة، انّ العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين مع انّهم قد رأوا تلك الروايات الدّالة على المائة و نقلوها و مع انّ بناءهم على العمل بالأخبار الصحاح واضحة الدلالة، لم يعملوا بتلك الاخبار و هذا ممّا يوجب سلب الاطمئنان بالنسبة إليها و يبدو في الذهن الظن بأنّه كانت عندهم قرينة حملتهم على الاعراض عن هذه الاخبار و لم يقولوا بالتخيير فضلا عن الإفتاء بخصوص المائة.

و امّا احتمال الجمع بينهما بكون الاخبار الدالة على المائة في مورد الرجل و المرأة، و اخبار التعزير في مورد الرجلين، أو المرأتين، فهو في غير محلّه و ذلك لورود الأخبار المتعارضة في كلّ واحد من الموارد الثلاثة.

امّا بالنسبة الى الرجل و المرأة فقد تقدّم.

و امّا في مورد الرجلين فرواية الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام و قد تقدّم نقلها، و فيها: و الرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد، الحدّ.

و صدر رواية عبد الرحمن بن الحجّاج في قصّة عباد البصري: كان على عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ.

و رواية عبد اللّٰه بن سنان عن الصادق عليه السلام التي مرّ نقلها و فيها:

حدّ الجلد في الزنا ان يوجدا في لحاف واحد، و الرجلان يوجدان في لحاف واحد.

و رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 162

كان علىّ عليه السلام إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ «1».

و رواية ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: كان

علىّ عليه السلام إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما حدّ الزاني مأة جلدة كلّ واحد منهما «2».

و امّا ما يعارض ذلك فمنها ذيل الرواية الواردة في قصة عباد البصري و فيها: فقال: غير سوط.

و منها رواية معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام. قلت الرجلان ينامان في ثوب واحد، قال: يضربان، قال: قلت: الحدّ قال: لا «3».

و منها رواية عبد اللّٰه بن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام في رجلين يوجدان في لحاف واحد قال بجلدان غير سوط واحد «4».

و منها رواية سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال: جعلت فداك، الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟ فقال: لا، قال: من ضرورة؟ قال: لا، قال: يضربان ثلاثين سوطا ثلاثين سوطا «5».

و منها رواية حفص البختري عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام قال: اتى أمير المؤمنين عليه السلام برجل وجد تحت فراش رجل فأمر به أمير المؤمنين عليه السلام فلُوثّ في مخرؤة «6».

و امّا المرأتان، فالروايات الدالة على لزوم الحدّ عليهما كثيرة منها رواية الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام المتقدّمة ففي آخرها: و المرأتان تجلدان إذا أخذتا في لحاف واحد الحدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 15.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 16.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 18.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 21.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 6 من

حدّ اللواط الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 163

و منها خبر عبد اللّٰه بن سنان: عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام: حدّ الجلد في الزنا. و المرأتان توجدان في لحاف واحد «1».

و منها خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: كان علىّ عليه السلام. فإذا أخذ المرأتين في لحاف ضربهما الحدّ «2».

و منها رواية ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام قال: كان على عليه السلام إذا وجد. و كذلك المرأتان إذا وجدتا في لحاف واحد مجرّدتين جلدهما كلّ واحدة منهما مأة جلدة «3».

و منها رواية عبد اللّٰه بن مسكان عن ابى عبد اللّٰه عليه السلام: حدّ الجلد في الزنا. و المرأتان توجدان في لحاف واحد «4».

و منها رواية ابى خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد الّا و بينهما حاجز فان فعلتا نهيتا عن ذلك فان وجدهما بعد النهي في لحاف واحد جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا «5».

و امّا ما يعارض ذلك فمنها رواية معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: المرأتان تنامان في ثوب واحد؟ فقال: تضربان: قلت: حدّا؟

قال: لا. «6».

و منها رواية سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّٰه عليه السلام. قلت: فامرأة نامت مع امرأة في لحاف؟ فقال: ذواتا محرم؟ قلت:

لا. قال: من ضرورة؟ قلت: لا، قال: تضربان ثلاثين سوطا «7».

و امّا قيد المحرميّة و عدمها الذي ورد في هذه الرواية- رواية سليمان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب

10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 15.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 23.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 25.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 16.

(7) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 164

صدرا و ذيلا- فنقول: انّه لو كان كونهما تحت لحاف واحد للريبة و قصد السوء فأمره أشدّ، و إثمه أعظم من غير المحرم كما انّ الزنا بالمحارم كذلك فلا بدّ من ان يكون سؤال الامام عليه السلام لأجل استظهار انّه مع المحرميّة و القرابة لا يصدر منهما قصد السوء و الفساد و الفحشاء فالأب أو الأخ لا يصدر منهما بحسب النوع قصد المعصية بالنسبة الى ابنه أو أخيه، و على الجملة فإجراء الحدّ أو التعزير منوط بان يعلم منهما ارادة الفساد و العصيان و امّا بدون ذلك فلا يترتّب على مجرّد كونهما تحت لحاف واحد، شي ء لانّ ذلك ليس بحرام.

كما انّه بالنسبة إلى التجرّد و عدمه نقول: انّهما لو كانا رجلين و لم يكونا مجرّدين فلا شي ء، و امّا لو كانا مجرّدين فهناك يترتّب الحدّ أو التعزير، و كذا في المرأتين، و امّا الرجل و المرأة فمجرّد كونهما تحت لحاف واحد يوجب التعزير لانّه حرام مطلقا سواء كانا مجرّدين أو غير مجرّدين كما تقدّم ذلك.

و على الجملة فمع وجود التعارض بين الاخبار في كلّ من المقامات الثلاثة فلا وجه للحمل الزبور اى حمل اخبار المائة على صورة كونهما رجلا و مرأة و اخبار التعزير على صورة كونهما رجلين، أو امرأتين.

هذا كلّه مضافا الى

انّ اخبار الزنا الدّالّة على انّه يعتبر في الزنا ان يكون الشهود قد رأوه ذلك بالنحو المعروف اى كالميل في المكحلة و الّا فلا يحدّ، تكون بنفسها كالمعارض لاخبار الحدّ في المقام فإنّه يبعد في النظر جدّا ان يجعل حدّ الزنا لمجرّد كونهما تحت لحاف واحد و لو كان الأمر كذلك لما كانت حاجة الى ان يروهما كذلك بل يقتصر على الشهادة بكونهما تحت لحاف أو إزار واحد و يجلدان مأة جلدة بلا حاجة الى تلك القيود الصعب التحقّق.

اللّهم الّا ان يكون مجرد كونهما تحت لحاف واحد امارة على تحقّق الزنا و طريقا اليه.

و امّا ما قيل من انّ الروايات الدّالة على ضربهما مأة مقيدة برواية ابى خديجة المذكورة آنفا الدّالة على نهى الامرأتين اللتين كانتا في لحاف واحد، عن ذلك ثم انّ فعلتا ذلك ثانيا جلدت كلّ واحدة منهما حدا و النتيجة أنّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 165

المضطجعين تحت لحاف واحد ينهيان أولا ثم في المرّة الثانية يجلد ان، فجلد مأة يختصّ بالمرة الثانية و امّا قبلها فما دونها.

ففيه انّ ذلك غير تامّ لخلوّ الروايات الكثيرة الواردة في مقام البيان عن هذا القيد فلا يكتفى في تقييدها برواية واحدة مثلها [1].

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل الحدّ و التعزير، و النزاع في اختيار هذا أو ذاك، و قد ظهر بما ذكرناه انّ المشهور لم يعملوا بأخبار الحدّ اى مأة جلدة فهي مطروحة.

و امّا البحث في نفس التعزير و مقداره فنقول: قد ورد في هذه الروايات انّه يضرب أو يجلد مأة الّا سوطا واحدا و ظاهره تعيين ذلك كما انّ ظاهر رواية سليمان بن هلال «1» هو تعيين الثلاثين سوطا.

لكن يشكل الأمر

بالنسبة إلى تعيين المائة دون سوط حيث انّه قال في الجواهر: انّى لم أجد بذلك قائلًا انتهى، و على هذا فلا بدّ من ان يقال بانّ المراد كون هذا أكثره.

و امّا بالنسبة إلى أقلّه فمقتضى كون التعزير بنظر الامام و ان كان هو جوازه إلى واحدة لكن خبر ابن هلال صريح في اعتبار الثلاثين فان كان مخدوشا من حيث السند فهو و الّا فمع صحّة السند أو انجبار ضعفه بالعمل فلا محيص عن القول بأنّ أقلّه الثلاثون.

و الرواية و ان كانت واردة في خصوص الرجلين و كذا المرأتين الّا انّ الظاهر اتّحاد الحكم من هذه الجهة و على هذا فالأمر بيد الحاكم في هذه المحدودة أي من ثلاثين إلى تسعة و تسعين بحسب ما يراه من المصالح لا خصوص التسعة و التسعين.

و الوجه في ذكر الأكثر بأن يكون منتهاه مأة الّا واحدا مع انّ أمر التعزير

______________________________

[1] قال العلّامة المجلسي في المرآت الجلد 23 الصفحة 309 عند ذكر خبر ابى خديجة: مختلف فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب حدّ الزنا الحديث 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 166

بيد الامام و محوّل الى نظره، هو خصوصيّة هذا العمل الشنيع بالنسبة إلى غيره من المعاصي و هذا التعزير بالنسبة إلى غيره من التعزيرات فان عظمة هذه المعصية اقتضت ان يذكر انّ لتعزيره مجالا واسعا الى ان يبلغ مأة دون واحد و مناسبة هذه المعصية تقتضي ان يجلد مرتكبها بأكثر من مرتكب سائر المعاصي و الّا فأمر التعزير بيد الحاكم الشرعي.

ثم لو شكّ في تعيين خصوص المائة الّا واحدا أو انّ الواجب هو ضربه ما بين الثلاثين إلى تسعة و تسعين فالاحتياط في

إجراء الحدود يقتضي الثاني و النتيجة أنّ مأة سوط غير سوط نهاية التعزير.

قال المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: فينبغي العمل بالاحتياط التامّ في الحدود خصوصا القتل لادرءوا، و بناء الحدّ على التخفيف مهما أمكن فتأمل انتهى.

بقي أمران. أحدهما: انّ هذه المباحث كلّها متعلّقة بما إذا كان في حال الاختيار و بلا ضرورة امّا إذا دعتهما الضرورة كالبرد الشديد أو غير ذلك الى ان يكونا تحت لحاف واحد فلا بأس به و لا يجرى هناك تلك المطالب كما يستفاد ذلك من بعض الروايات الواردة في الباب أيضا [1].

ثانيهما انّه لا خصوصية للحاف بل الحكم هو ما ذكرناه إذا كانا تحت إزار واحد أيضا فالملاك مطلق ستر يمكن لهما الاستمتاع به و تحته و قد وردت الروايات أيضا بالتعبيرين لا بخصوص أحدهما [2].

الكلام في ما لو أنكر بعد ما أقرّ

قال المحقّق قدّس سرّه: لو أقرّ بما يوجب الرجم ثم أنكر سقط الرجم.

______________________________

[1] أقول و ذلك كخبر سليمان بن هلال «الحديث 21» حيث سئل الامام انّ نيام الرجل مع الرجل في لحاف واحد هل كان من ضرورة؟ فراجع.

[2] كرواية أبي بصير «الحديث 7» و رواية معاوية بن عمّار «الحديث 16» حيث عبّرتا بالثوب، و امّا التعبير باللّحاف فكثير و قد تقدم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 167

أقول: الظاهر من العبارة هو الإقرار المعتبر في باب الزنا و هو الإقرار أربعا فإنّ الإقرار مرّة واحدة مثلا لا يؤثّر في الرجم فهو لم يكن ينفع شيئا حتّى يحتاج رفع الحدّ الى ذلك أي الإنكار بعد الإقرار.

و في الجواهر بعد عبارة الشرائع: بلا خلاف أجده كما عن الفخر الاعتراف بل يمكن تحصيل الإجماع عليه.

قال شيخ الطائفة: إذا أقرّ بحدّ ثم رجع عنه سقط

الحدّ و هو قول أبي حنيفة و الشافعي و احدى الروايتين عن مالك، و عنه رواية اخرى انّه لا يسقط و به قال الحسن البصري و سعيد بن جبير و داود. دليلنا إجماع الفرقة و أيضا فإنّ ماعزا أقرّ عند النبي (ص) بالزنا فاعرض عنه مرّتين أو ثلاثا ثم قال:

لعلّك لمست، لعلك قبّلت فعرّض له بالرجوع حين اعرض عند إقراره و صرّح له بذلك في قوله: لعلّك لمست لعلّك قبّلت و لو لا انّ ذلك يقبل منه لم يكن له فائدة انتهى «1».

و تعبيره بالحدّ مطلق شامل للحدّ و الرجم، و كيف كان فقد تمسك قدّس سرّه في إثبات المطلب بخبر ماعز.

و تبعه في ذلك الشهيد الثاني في المسالك فقال: و امّا سقوط الرجم بالإنكار فيدلّ عليه قضيّة ماعز و تعريض النبي (ص) له بالإنكار بعد الإقرار و لو لا قبوله منه لم يكن لترديده فائدة [1].

و فيه انّه لا مساس لخبر ماعز بمسئلتنا هذه و ذلك لانّ الكلام في الإنكار بعد تمام الإقرار الموجب للرجم، و الحال انّ خبر ماعز يدلّ على انّه صلّى اللّٰه عليه و آله كان بترديده و تلقينه ما لقّنه بصدد ان لا يتمّ و لا يتحقّق الأقارير الأربعة و كان يجدّ و يجتهد في ان يقول ماعز: انّى لمست أو قبّلت، رجاء ان لا تكمل

______________________________

[1] مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 426 و استدل قدّس سرّه بقوله ص لأصحابه لما فرّ من الحفيرة فأدركوه و قتلوه: هلّا تركتموه و جئتموني به لنستتيبه، و في بعض ألفاظها: هلّا رددتموه الىّ لعلّه يتوب، انتهى.

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود المسئلة 17.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 168

الأربعة، و أين هذا من

انه لو كان المقرّ ينكر ما أقرّ به أربعا لكان النبي (ص) يقبل منه فليس في الخبر ما يدلّ على ذلك و هو صلّى اللّٰه عليه و آله و ان قال له: ان أقررت الرابعة رجمتك، المستفاد منه انّه ان لم يقرّ الرابعة لا يرجمه لكن لم يقل بأني ما ارجمك إن أنكرت بعد تحقّق الإقرارات و تمامها [1] و على هذا فالاستدلال بخبر ماعز للمقام غير سديد.

و العمدة في مقام الاستدلال الروايات الواردة في الباب و هي تغنينا عن التمسك بخبر ماعز و قد جمعها في الوسائل في باب عنونه بقوله: باب انّ من أقرّ بحدّ ثم أنكر لزمه الحدّ الّا ان يكون رجما أو قتلا و يضرب المقرّ بالرجم الحدّ إذا رجع.

و قد أضاف القتل و افتى بجريان حكم الرجم فيه و هو محلّ الكلام و سنتعرّض له إن شاء اللّٰه تعالى كما انّه ذكر أيضا انّ من أقرّ بموجب الحدّ ثم أنكر يضرب الحدّ و هذا قد ذكر في بعض الروايات و إليك تلك الاخبار.

عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ثم جحد بعدُ فقال: إذا أقرّ على نفسه عند الامام انّه سرق ثم جحد قطعت يده و ان رغم انفه و ان أقرّ على نفسه انّه شرب خمرا أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدة، قلت فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم أ كنت راجمه؟ فقال: لا و لكن كنت ضاربه الحدّ «1».

و عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثم جحد جلد قلت: أ رأيت ان أقرّ على نفسه بحدّ يبلغ فيه الرجم

أ كنت ترجمه؟ قال: لا و لكن كنت ضاربه «2».

و عن محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: من أقرّ على نفسه

______________________________

[1] أقول: الظاهر انّ معنى قوله صلّى اللّٰه عليه و آله، انّ رجوعك ينفع الآن و لا ينفع بعد تمام الأربع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من مقدّمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 169

بحدّ أقمته عليه الّا الرجم فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثم جحد لم يرجم «1».

و معلوم انّ الظاهر منها إقراره أربعا و بعد تمام الأربع لا قبل ذلك فإنه بعد ليس عليه الرجم.

الإنكار بعد الإقرار في مورد القتل

اشارة

و هل يلحق القتل بالرّجم- في انّه يسقط بالإنكار بعد الإقرار- أم لا؟

فرض المسئلة هو ما إذا أقرّ بالزنا الذي يوجب القتل كالزنا بالمحارم ثمّ رجع عن ذلك، فقال ابن حمزة: و يستحب للحاكم التعريض اليه بالرجوع و ان رجع بعد الأربع لم يسقط ان كان موجبه الجلد و سقط ان كان موجبه القتل «2».

و قال العلّامة في القواعد: و لو أنكر ما أقرّ به من الحدود لم يلتفت اليه الّا بما يوجب الرجم فإنّه يسقط بإنكاره- ثم قال:- و في إلحاق القتل به اشكال [1].

و قال المحقّق في المختصر النافع: و لو أقرّ بما يوجب الرجم ثم أنكره سقط عنه و لا يسقط غيره.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 169

و قال السيد صاحب الرياض بشرح العبارة: و يدخل في إطلاق غير الرجم في

النص و العبارة و نحوها، القتل بغيره فلا يسقط بالرجوع عن الإقرار و استشكله في القواعد من خروجه عن المنصوص و من الاحتياط في الدماء و بناء الحدّ على التخفيف و لعلّ هذا أظهر وفاقا للمحكيّ عن الوسيلة لذلك و لمنع

______________________________

[1] و قال فخر الدين في الإيضاح، الجلد 4 الصفحة 473 في شرح العبارة: هنا مسئلتان (الف) سقوط الرجم بالإنكار، و لا خلاف بين الأصحاب فيه (ب) سقوط القتل كالزنا بالعمّة أو الخالة أو إحدى المحرّمة لو أنكره بعد الإقرار قال المصنّف: فيه إشكال، ينشأ من ثبوت المقتضى و هو الإنكار لما بنى على التخفيف، و لمبالغة الشارع في عصمة دم المسلم، و بنائه على الاحتياط التّام و من عدم النصّ عليه، و امتناع القياس عندنا و الأقرب عندي الأوّل انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من مقدّمات الحدود الحديث 3.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة الصفحة 410.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 170

اختصاص النصّ بالرجم.

و في الجواهر: و في إلحاق القتل به اشكال من الاحتياط في الدماء و بناء الحدّ على التخفيف، و من خروجه عن النصّ، و لعلّ الأوّل لا يخلو عن قوّة. انتهى.

و يدلّ على كون القتل كالرجم في الحكم المبحوث عنه، مرسل جميل بن درّاج عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام انّه قال: إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قُتل إذا لم يكن عليه شهود فان رجع و قال: لم افعل تُرك و لم يقتل «1».

قوله عليه السّلام: إذا أقرّ على نفسه بالقتل، اى بموجب القتل كالزنا بالمحارم و ليس المراد انّه أقرّ بقتل أحد حتّى يجب قتله، و ذلك لظهور كونه من باب الحدّ عرفا لا

القود و القصاص، خصوصا بلحاظ تعيّن القتل في المقام فان القتل قصاصا يختصّ بما إذا كان عمدا مع مطالبة الوليّ ذلك حيث انّه حقّ له لقوله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «2».

هذا مضافا الى انّ القصاص من حقوق الناس و هو لا يسقط بالإنكار و لذا قال المجلسي رضوان اللّٰه عليه عند ذكر الرواية: و لعلّ المراد ما يوجب القتل من الحدود انتهى «3».

و الرواية تدلّ على سقوط القتل إذا أنكر بعد ما أقرّ بموجبه و هي و ان كانت مرسلة الّا انّ مرسلها جميل بن درّاج الذي له مكانة معلومة و تكون مرسلاته- كمرسلات ابن ابى عمير- في حكم المسانيد.

و على هذا فلا بأس بالعمل بها في القتل الواجب بالزنا خصوصا بعد انّها موافقة للاحتياط و بناء الحدود على التخفيف.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب مقدّمات الحديث 4.

(2) سورة الإسراء الآية 33.

(3) مرآت العقول الجلد 23 الصفحة 340.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 171

و هل يجب عليه اليمين أم لا؟

الظاهر انه يسقط الرجم- و القتل على ما مرّ- بالإنكار بعد الإقرار مطلقا بلا حاجة في ذلك الى يمينه.

نعم نقل و حكى عن جامع البزنطي انّه يحلف و يسقط عنه الرجم و انّه رواه عن الصادقين عليهما السّلام بعدّة أسانيد.

الّا انّه قال في الجواهر: و لكن لم نقف على شي ء منها فالمتّجه عدم اعتباره [1].

و هل يجب جلده أو تعزيره أم لا؟

ثم انّه بعد سقوط الرجم- و القتل على ما تقدّم- فهل يخلّى سبيله أو انّه يجب اجراء حدّ الجلد عليه أو انّه لا جلد عليه أيضا بل يجب تعزيره؟

مقتضى بعض الروايات الواردة في المقام، انتفاء الاحتمال الأوّل، إذا فيبقى الاحتمالان الآخران، و منشا الاشكال هو الاختلاف في ضبط رواية الحلبي.

ففي الكافي: محمد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن ابان عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل. فإن أقرّ على نفسه بحدّ يجب فيه الرجم ا كنت راجمه؟ قال: لا و لكن كنت ضاربه الحدّ «1» و رواها الشيخ قدّس سرّه كذلك في التهذيب «2».

و مقتضى هذا الضبط هو وجوب حدّه بعد ان سقط عنه الرجم أو القتل.

______________________________

[1] أقول: و في الرّياض: و ليس فيها «اى النصوص» و لا فيما وقفت عليه من الفتاوى اعتبار الحلف، و عن جامع البزنطي انّه يحلف و يسقط عنه الرجم و انّه رواه عن الصادقين ع بعدّة أسانيد فلم أقف على شي ء منها. راجع الرياض الجلد 2 الصفحة 467.

______________________________

(1) الكافي الجلد 7 الصفحة 219 الحديث 4.

(2) التهذيب الجلد 10 الصفحة 123 الحديث 109.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 172

لكن في رواية أخرى عنه ليس فيها لفظ (الحدّ) و هي:. على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن

ابى عمير عن حمّاد بن عثمان عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثم جحد جلد قلت أ رأيت ان أقرّ بحدّ على نفسه يبلغ فيه الرجم أ كنت ترجمه؟ قال: لا و لكن كنت ضاربه «1».

و هنا قد اقتصر على ذكر الضرب و ليس هو ظاهرا في الحدّ.

و عن محمّد بن مسلم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه الّا الرجم فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثم جحد لم يرجم «2».

و هنا اقتصر على مجرّد سقوط الرجم و ليس فيه ذكر عن سوى ذلك. و قد نقل الفيض رضوان اللّٰه عليه رواية الحلبي في الوافي- و هو معروف بالضبط- مع لفظة: و لكن كنت ضاربه الحدّ «3» نعم نقل بعد ذلك عن التهذيب رواية محمد بن مسلم الخالية عن ذكر الحدّ.

لكن حيث انّ هذا اللفظ مذكور في رواية الحلبي المنقولة عن أبان فالأقوى هو الحكم بإجراء الجلد عليه بعد سقوط الرجم عنه.

و بذلك يظهر ضعف ما ذكرناه في جواب الاستفتاء عن ذلك في مجمع المسائل من الحكم بسقوط الرجم الّا انّه يعرّز و لا يسقط التعزير بالإنكار بعد الإقرار [1] نعم ذكر في الجواهر الروايتين كلتيهما بدون ذكر الحدّ.

______________________________

[1] لعلّ الظّاهر هو ما أفاده في المجمع الجلد 2 الصفحة 193 فإنّه يبدو في الذهن انّ المراد من الحدّ هو التعزير كما قال العلامة المجلسي في المرآت الجلد 23 الصفحة 339 في ذيل خبر الحلبي: حسن و هذا الخبر و ما يوافقه من الاخبار الآتية محمولة على انه جحد بعد الإقرار فإنه يسقط به الرجم دون غيره من

الحدود و يكون الحدّ المذكور في بعض الاخبار محمولا على التعزير، إذ ظاهر كلامهم انّه مع سقوط الرجم لا يثبت الجلد تامّا.

______________________________

(1) الكافي الجلد 7 الصفحة 219 الحديث 3.

(2) الكافي الجلد 7 الصفحة 219 الحديث 5.

(3) الوافي الجلد 3 الصفحة 76.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 173

عدم تأثير للإنكار بعد الإقرار في سقوط الحدّ

هذا كلّه حكم الإنكار بعد الإقرار في مورد الرجم و القتل، و امّا لو أقرّ بحد غير ذلك ثم أنكر فهل يوجب إنكاره سقوط الحدّ عنه؟

قال المحقّق: و لو أقرّ بحدّ غير الرجم لم يسقط بالإنكار.

أقول: و يدلّ على ذلك صدر خبر الحلبي المذكور آنفا عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ثم جحد بعدُ فقال: إذا أقرّ على نفسه عند الامام انّه سرق ثم جحد قطعت يده و ان رغم انفه «1».

نعم في خبر جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السّلام.

و قال: لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين فان رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود «2».

و هذا يدلّ على سقوط حدّ السرقة و هو اقطع بالإنكار بعد الإقرار. لكن فيه انّه مع كونه مرسلا شاذّ لا عامل به.

و قد حمل على الرجوع بعد الإقرار مرّة أي قبل تمام الإقرار المعتبر فيه فان المال و ان كان يثبت بالإقرار مرّة واحدة الّا انّ القطع لا يثبت إلّا بالإقرار مرّتين.

و ان كان هذا الحمل خلاف الظاهر فان عدم القطع حينئذ لا يحتاج الى الرجوع.

لا يقال: إذا كان الرجم يسقط بالإنكار بعد الإقرار فلا بدّ من ان يسقط الجلد بعده فإنّه سقط الرجم مع كمال أهميّته فالجلد اولى بالسقوط بذلك.

لأنّا نقول: انّ أمر الحدّ أسهل

من الرجم و القتل فترى انّه يضرب ثم يقوم و يشتغل بحوائجه و لوازم عيشه و معيشته و هذا بخلاف الرجم مثلا الذي يختم على حياته و حينئذ فلو سقط الرجم بالإنكار بعد الإقرار فهذا لا يلازم ان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من مقدّمات الحدود الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 174

يسقط الجلد أيضا بذلك.

فتحصّل من جميع هذه الأبحاث انّ الحكم في الرجم و القتل استثنائي و من باب التخصيص و الّا فلا ينفع الإنكار بعد الإقرار.

إذا أقرّ ثم تاب تخيّر الإمام في إقامة الحدّ و العفو

قال المحقّق: و لو أقرّ بحدّ ثم تاب كان الامام مخيّرا في إقامته رجما كان أو جلدا.

و في الجواهر بعد هذه الجملة: بلا خلاف أجده في الأوّل بل في محكيّ السرائر الإجماع عليه بل لعلّه كذلك في الثاني أيضا و ان خالف هو فيه للأصل الذي يدفعه أولويّة غير الرجم منه بذلك و النصوص المنجبرة بالتعاضد و بالشهرة العظيمة إلخ «1».

أقول: انّ ما ذهب اليه ابن إدريس هو مقتضى مبناه المعروف من عدم العمل بأخبار الآحاد فيبقى انّ الحكم في الرجم إجماعي فيقول به و لا إجماع في غيره فلا يقول به فيه.

قال في السرائر: لأنّا أجمعنا انّه بالخيار في الموضوع الذي ذكرناه و لا إجماع على غيره، فمن ادّعاه و جعله بالخيار و عطّل حدّا من حدود اللّٰه فعليه الدليل.

و استدلّ في الثاني بالأصل، بيان ذلك انّه إذا شكّ في سقوط الحدّ بعد استحقاقه بالإقرار فالأصل عدم سقوطه.

و قد أجاب عنه صاحب الجواهر بأولويّة غير الرجم منه بذلك. توضيح ذلك انّه إذا كان الرجم مع ما هو عليه من الأهميّة

يسقط بالتوبة فالحدّ الذي هو أخفّ و أهون منه اولى بالسقوط بها.

و قد تمسّك بها غيره أيضا كالشهيد الثاني في المسالك [1].

______________________________

[1] مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 426 قال قدّس سرّه بعد ذكر الرّوايات في بيان مستند سقوط

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 293.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 175

و فيه انّ الجلد و ان كان أخفّ من الرجم، الّا انّ هذا بنفسه يقتضي ان لا تكون أولويّة أصلا لأنّ في الرجم تلف النفس و زهوق الروح بخلاف الجلد فإنّه مجرّد إيلام و إيذاء و من المعلوم انّ حفظ النفس ممّا اهتمّ به الشارع كثيرا كما يشهد بذلك لزوم الاحتياط في الشبهات في باب الدّماء الى ان يتحقّق و يثبت المبرّر للقتل فلو كانت التوبة موجبة لجواز العفو عن الرجم فهذا لا يلازم جواز العفو عن الجلد أيضا فضلا عن ان يكون ذلك اولى بعد ما نعلم باهتمام الشارع في حفظ الدماء المحترمة و النفوس المصونة بما لم يهتم بشي ء سواه.

نعم النصوص الواردة المنجبرة بالعمل تدلّ على العموم.

فمنها خبر ضريس الكناني عن ابى جعفر عليه السّلام قال: لا يعفى عن الحدود التي للّٰه دون الإمام، فأمّا ما كان من حقّ الناس في حدّ فلا بأس بأن يعفى عنه دون الإمام [1].

فإن المفهوم من صدره هو انّ للإمام العفو عن حدود اللّٰه تعالى و انّه مختصّ به.

و منها ما عن ابى عبد اللّٰه البرقي عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين عليهم السّلام قال: جاء رجل الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأقرّ بالسرقة فقال له:

أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة

______________________________

الرجم: و تخيير الامام بعد توبة

المقرّ، بين حدّه و العفو عنه مطلقا، و هو المشهور بين الأصحاب و قيّده ابن إدريس بكون الحدّ رجما، و المعتمد المشهور، لاشتراك الجميع في المقتضى، و لأنّ التوبة إذا أسقطت تحتّم شدّ العقوبتين فاسقاطها لتحتّم الأضعف أولى انتهى كلامه رفع مقامه.

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من مقدّمات الحدود الحديث 1، أقول: و قد أورد عليه سندا و متنا امّا الأول. فلانّ راوي الخبر و هو ضريس الكناسي لم يرد فيه مدح و لا قدح و امّا الثاني:

فلعدم ذكر فيه عن الإقرار فلعلّه يشمل ما إذا ثبت بالشهادة.

و يمكن الجواب امّا عن الأوّل فبجبران ضعف الخبر بعمل الأصحاب على ما هو مذاق سيّدنا الأستاد الأكبر دام ظلّه و سيصّرح في المتن بذلك، هذا مضافا الى ما ذكروه من كون ابن محبوب في سلسلة السند و هو من أصحاب الإجماع. و امّا عن الثاني فبانّ امره سهل بعد عدم القول بالإطلاق، و لعلّ الرواية أيضا لم تكن في مقام افادة ذلك مطلقا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 176

قال: فقال الأشعث: أ تعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال: و ما يدريك ما هذا، إذا قامت البيّنة فليس للإمام ان يعفو و إذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك الى الامام ان شاء عفا و ان شاء قطع «1».

و منها ما عن الحسن بن على بن شعبة في تحف العقول عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام في حديث قال: و امّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم يقم عليه البيّنة و انّما تطوّع بالإقرار من نفسه و إذا كان للإمام الذي من اللّٰه ان يعاقب عن اللّٰه كان له ان يمنّ عن اللّٰه اما سمعت

قول اللّٰه: هذا عطائنا فامنن أو أمسك بغير حساب «2».

و هذه الروايات و ان كان كلّها أو أكثرها ضعيفة لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب- كما تقدّم ذلك- ثمّ ان صريح المتن و كذا كلمات غيره من الفقهاء هو اعتبار التوبة في حين انّه لم يكن في هذه الروايات ذكر عن التوبة أصلا، و فوق ذلك انّ المستفاد منها كون الملاك و الميزان هو إقراره فإذا ثبت الإقرار يكون الحاكم مخيّرا بين عفوه و اجراء الحدّ عليه.

اللّهم الّا ان يقال: انّ إقراره هذا عند الحاكم للتطهير، يكون توبة [1] و الّا لما استسلم للقتل أو الرجم أو الحدّ، و على هذا فيصدق انّه قد تاب بإقراره.

الّا انّ ظاهر عباراتهم هو لزوم التوبة مضافا الى الإقرار.

و في الجواهر [2]: و لعلّ اتفاقهم عليه «اى على اعتبار التوبة» كاف في تقييدها إلخ و عليه فقد خصّصت تلك الروايات بالإجماع القائم على لزوم التوبة، فلا يكفي التوبة المطويّة، في ترتّب هذا الأثر على الإقرار بل لا بدّ من

______________________________

[1] أقول: خصوصا بلحاظ اشعار لفظ (تطوّع) المذكور في رواية تحف العقول بأنّه تائب و نادم من عمله.

[2] أقول: و قد قال بذلك قبله صاحب الرياض فراجع الجلد 2 الصفحة 467.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من مقدّمات الحدود الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 18 من مقدّمات الحدود الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 177

توبة مستقلّة معه.

لكن الظاهر كفاية الإقرار للتطهير في التوبة إذا كان حاضرا لإجراء الحدّ عليه.

نعم لو كان مع إقراره بموجب الحدّ يقول لشدة غروره و استكباره: انّى قد فعلت و سأفعل ذلك أيضا فاصنع ما شئت، فإنّ هذا الإقرار لا ينفع شيئا

بلا كلام و لا تشمله الاخبار فلا تخيير للإمام في هذا الفرض، في حين انّه لو كان يقرّ و يقتصر عليه يجرى ما ذكرناه من التخيير للإمام في العفو عنه و عدمه.

ثم انّ البحث في مسئلتنا هذه في تخيير الحاكم بين العفو و الاجراء لا في سقوط الحدّ بخلاف البحث السابق «الإنكار بعد الإقرار» حيث انّ البحث هناك في سقوط الحدّ.

هل الحكم يختص بالإمام (ع) و يشمل الفقيه؟

و هل هذا الحكم مختصّ بالإمام المعصوم فيقتصر عليه أو انّه يشمل الحاكم الإسلامي العادل اى الفقيه الجامع للشرائط أيضا؟

استظهر في الجواهر الأوّل و احتمل ثانيا الثاني و جعل الأحوط هو الأوّل، قال: ظاهر النص و الفتوى قصر الحكم على الامام عليه السّلام و ربّما احتمل ثبوته لغيره من الحكّام و لا ريب في انّ الأوّل أحوط لعدم لزوم العفو.

أقول: بيان ذلك انّ الأمر دائر بين التخيير و التعيين لأنّ إجراء الحدّ جائز للحاكم بلا اشكال و لكن لا يعلم جواز العفو أيضا فالترديد في جواز العفو و عدمه فيتردّد الأمر بين تعيين الاجراء أو التخيير بينه و بين العفو و مع الشك في جواز العفو له فالأصل عدمه و لربّما تشمله أدلّة من عطل حدّا من حدود اللّٰه فكذا.، ثم قال: لكن قد يقوى الإلحاق لظهور الأدلّة في التخيير الحكمي الشامل للإمام عليه السّلام و نائبه الذي يقتضي نصبه إيّاه ان يكون له ماله انتهى «1».

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 294.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 178

فقد قوّى في آخر كلامه إلحاق الفقيه الجامع للشرائط بالإمام الأصل في كون التخيير له أيضا و ذلك لانّ المستفاد من قوله عليه السّلام: فذاك الى الامام، انّ الحكم المجعول هنا التخيير، فإنه قد

يكون الحكم الاوّلىّ هو التخيير كما انّه قد يكون الحكم الأصلي هو تعيين اجراء الحدّ الّا انّ للإمام ان يعفو عنه و الظاهر من الأدلّة هو الأوّل و على هذا فالحكم في هذا الموضوع التخيير لا ان يكون مختصّا بالإمام عليه السّلام.

فمن قال بانّ الحدود ليست ممّا يرضى الشارع بتعطيلها و لا بدّ ممّن يتعهّد و يتصدّى لإقامتها و ليس هو الّا من كان نائبا للإمام الحجّة عليه السّلام اى الفقيه الجامع للشرائط و له ما للإمام المعصوم، فمن جملة ما كان له عليه السّلام هو التخيير في المقام بين اجراء الحدّ عليه و العفو عنه.

نعم من قال باختصاص اجراء الحدود بالإمام عليه السّلام فهو في راحة من هذه الأبحاث لأنّ أمر الحد على ذلك ليس بيد غيره حتّى يبحث في عفوه و عدمه.

ما هو الحدّ الذي للإمام العفو عنه؟

بقي الكلام في انّ هذا الحدّ الذي للإمام إجرائه و العفو عنه ما هو؟

قال في كشف اللثام: المراد بالحدّ حدود اللّٰه فان ما كان من حقوق الناس لا يسقط إلّا بإسقاط صاحب الحق و سيأتي في حدّ القذف انّه لا يسقط إلّا بالبيّنة أو إقرار المقذوف أو عفوه أو اللعان و في حدّ السرقة انّه لا يسقط بالتوبة بعد الإقرار انتهى [1].

أقول: لو كان مراده من عدم السقوط انّه لا يسقط بأيّ نحو حتّى بأن يعفو عنه الامام ففيه أنّ مرسلة البرقي المنجبرة صريحة في عفو الامام عليه السّلام عن

______________________________

[2] كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 215 أقول: إذا كان الإشكال في حقوق الناس فكيف نقض دام ظله و كذا صاحب الجواهر بحدّ السرقة الذي ذكروه انّه حقّ اللّٰه تعالى و ان كان ضمان المال حقّ الناس؟

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 1، ص: 179

حدّ السرقة و هبته ذلك لأجل سورة البقرة.

نعم لو كان مراده انّ الإقرار المتعقّب بالإنكار لا يوجب ثبوت الحدّ بل هو ساقط بطبعه فلا مورد للعفو [1] فهو أمر آخر و مسئلة غير مسئلتنا بل هو داخل تحت المسئلة السابقة.

و قال صاحب الرياض في المقام: ثم انّ هذا في حدود اللّٰه سبحانه و امّا حقوق الناس فلا يسقط الحدّ إلّا بإسقاط صاحبه كما صرّح به بعض الأصحاب و وجهه واضح و في بعض المعتبرة لا يعفى عن الحدود التي للّٰه دون الامام و امّا ما كان من حقّ الناس في حدّ فلا بأس بأن يعفى عنه دون الامام انتهى.

فقد استدلّ بمعتبرة الكناسي على اختصاص عفو الإمام في التوبة بعد الإقرار، بما إذا كان من حقوق اللّٰه دون حقوق الناس.

و فيه انّه لا دلالة فيها على انّه ليس للإمام العفو عنه و انّما تدلّ على انّه ليس لغير الامام العفو إلّا في حقوق الناس لا غير، فيمكن ان يكون للإمام العفو عن حقوق الناس- كما انّ له العفو عن حقّ اللّٰه- و على الجملة فلا منافاة بين المعتبرة و بين ان يكون للإمام العفو عمن أقرّ و تاب كما هو واضح.

و في الجواهر في ضمن أمور ذكرها جوابا عن الرياض: مضافا الى ما يفهم منها من كون ذلك حكم الإقرار من حيث كونه كذلك و الى إطلاق الأصحاب، و لعلّه لأنّ الإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم [2].

أقول: بيان الأولويّة انّه إذا كان لصاحب الحق ان يسقط حقّه و يعفو عنه فالإمام اولى بذلك منه.

هذا و لكن لا يخفى انّه و ان كان يتمّ التمسك بما يفهم من الاخبار من انّ هذا أثر التوبة

بعد الإقرار من حيث هو بلا فرق بين الموارد و كذا بإطلاق

______________________________

[1] أقول: هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر عبارته و سياقها فإنّه ذكر ذلك عند قول العلّامة قدّس سرّه:

و لو تاب عند الحاكم بعد الإقرار تخيّر الإمام في إقامة الحدّ عليه و العفو عنه.

[2] لانّ ولايته ولاية النبي و قد قال اللّٰه تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، سورة الأحزاب الآية 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 180

الأصحاب و عدم تفصيلهم و فرقهم بين الموردين الّا انّ التمسك بالأولويّة محلّ الاشكال.

بيانه انّ ذلك خلاف ظاهر قوله (ع) إذا أقرّ. فللإمام الخيار، هذا مضافا الى كلام آخر و هو انّ ظاهر الآية الكريمة: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بمقتضى لفظ الاولى، انّ ما كان امره بيد المؤمنين كالنكاح و الطلاق و غير ذلك فالنبي اولى بذلك منهم، و امّا ما لم يكن لهم اختيار فيه فكيف يصحّ القول بالأولوية هناك؟ و لا يخفى انّ الحدّ في باب السرقة من قبيل الثاني فهو من حقوق اللّه تعالى [1] و ليس امره بيد المسروق عنه، فما ذكره و ان كان يصحّ في مثل حدّ القذف لكنّه لا يتمّ في حدّ السرقة الذي ذكره أيضا.

الكلام في ما لو حملت المرأة و لا بعل لها

قال المحقّق: و لو حملت و لا بعل لم تحدّ الّا ان تقرّ بالزنا أربعا.

أقول: و مثله ما لو قامت البيّنة على ذلك.

و وجه عدم اقامة الحدّ عليها هو احتمال الاشتباه أو الإكراه أو جذب المنيّ من الحمامات أو تزوّجها في الخفاء مثلا و ليس لأحد ان يسئل عنها لأنّها تفحصّ عمّا يحرم شيوعه.

و في الجواهر: بل ليس علينا سؤالها للأصل بل الأصول.

و هل المراد من قوله «ليس علينا» عدم الوجوب

أو عدم الجواز؟

الظاهر هو الثاني فإنّه من باب التفحّص و التجسّس، بل و من قبيل إشاعة ما نهى اللّٰه سبحانه عن إشاعته بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ «1» و لو تردّد في ذلك فلا أقلّ من كونه في معرض إشاعة الفاحشة.

و امّا «الأصل أو الأصول» فلا يخفى انّ ذلك لا يساعد ارادة عدم

______________________________

[1] هذا ينافي ما افاده دام ظله آنفا من النقض و قد أشرنا الى ذلك فراجع الصفحة 178.

______________________________

(1) سورة النور الآية 19.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 181

الجواز من قوله: ليس علينا، و انّما يتمّ لو كان المراد عدم الوجوب و ذلك لانّ الأصل عدم وجوب السؤال مثلا [1].

لكن بعد حرمة التفحّص و التجسّس فلا مورد للأصل، و لو لا ذلك فالأصل جواز السؤال و عدم حرمته.

و عليه فما ذكره في المبسوط من وجوب السؤال بقوله: «إذا وجدت امرأة حامل و لا زوج لها فإنّها تسئل عن ذلك فان قالت من زنا فعليها الحدّ و ان قالت من غير زنا فلا حدّ عليها و قال بعضهم عليها الحدّ و الأوّل أقوى لأنّ الأصل برأيه الذمّة لأنّه يحتمل ان يكون من زنا أو من وطي بشبهة أو مكرهة و الحدّ يدرء بالشبهة انتهى» فلم يعلم وجهه الّا ان لا يراد ظاهره كان يكون مراده وجوب السؤال في موارد خاصّة: كما إذا وقع ذلك في أسره جليلة محترمة رأوا وجاهتهم الاجتماعيّة في معرض الهتك و هجموا عليها من كلّ جانب و يعيّرونها و يلومونها بذلك و يظنّ أو يحتمل وقوع فساد عظيم فهناك تسئل كي يرتفع بذلك، الفساد و الفتنة، و يدفع الهتك

عنهم، و هو في الحقيقة من باب دفع الأفسد بالفاسد.

و يبعد ان يكون مراده السؤال مطلقا و الّا فيجب الفحص و السؤال في كلّ مورد احتمل في حقّ أحد ارتكابه للمعصية و هو واضح البطلان.

كلام من العلّامة حول الإقرار

اشارة

قال العلّامة أعلى اللّٰه مقامه في القواعد: و يشترط في الإقرار ان يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة إذ قد يعبّر بالزنا عمّا لا يوجب الحدّ و لهذا قال عليه السّلام لماعز: لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت، قال: لا. قال: ا فنكتها؟

لا تكنّى؟ قال: نعم، فقال: حتّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ كما يغيب المرود في المكحلة و الرشاء في البئر؟ قال: نعم. قال فعند ذلك أمر برجمه.

______________________________

[1] قال في المسالك بعد عبارة المتن: لانّ الحمل لا تستلزم الزنا، و الأصل في تصرّف المسلم حمله على الصحّة و لأصالة برأيه الذمّة من وجوب الحدّ و لاحتمال ان يكون من شبهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 182

أقول: انّ فعله صلوات اللّٰه عليه يدلّ على الجواز و لكن لا يدلّ على الوجوب و لعلّ استفساره كان لخصوصيّة في المقام.

نعم يمكن ان يقال: انّ ما أفاده لأجل انّ الحدّ إيذاء و إيلام و ربما يوجب قبول إقراره و عدم السؤال و الاستفسار عنه، قتله مع انّه ليس مستحقا للقتل و ربّما يقتل بمجرّد قبلة أو غمز أو لمس أطلق عليها الزنا و على ذلك فلا يجوز الاقدام عليه بلا مبرّر فيلزم السؤال حتّى يقطع بتحقّقه و عدمه و ذلك لإطلاق الزنا في الاخبار و الآثار على بعض المقدّمات أو الأعمال كما ورد: انّ العينين تزنيان، و كذا ورد: زنا العين، و هو النظر إلى الأجنبيّات أو يقال زنا الشفة، اى

القبلة.

و قد أورد في الجواهر على العلامة، بقوله: و فيه انّه- مع كونه ليس من طرقنا- قضيّة في واقعة و الّا فالظاهر الاكتفاء بظاهر اللفظ لعموم ما دلّ على حجيّته و لذا لم يستقص في جملة من النصوص.

و الإنصاف انّ ما افاده- من كون الزنا ظاهرا في معناه الحقيقي و انّ الظاهر حجّة- و ان كان تامّا الّا انّ ما ذكره العلّامة أيضا ليس بلا أساس و ملاك و ذلك لانّ المقام مقام اجراء الحدّ و مع احتمال التجوّز يضعف الظاهر عن ظهوره و لا يمكن اجراء الحدّ مع احتمال التجوّز احتمالا عقلائيّا بل تجري قاعدة درء الحدود بالشبهات.

فروع مناسبة للمقام

اشارة

ثم انّ هنا فروعا ذكرها العلّامة في القواعد بمناسبة الإقرار بالزنا و قد تعرّض لها صاحب الجواهر أيضا و نحن نقفو أثرهما و نتبعهما في ذلك و ان لم يذكرها المحقّق رضوان اللّٰه عليه و عليهم أجمعين.

فمنها: لو أقرّ أنّه زنى بامرأة فكذّبته

حدّ دونها و ان صرّح بأنّها طاوعته على الزناء إذا لا يؤخذ أحد بإقرار غيره.

أقول: لا بدّ من ان يكون المراد انّه أقرّ بذلك اربع مرّات و الّا فلا حدّ،

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 183

و امّا عدم اجراء الحدّ عليها فلعدم مسوّغ لذلك، و لا يكفي في الحكم بزناءها مجرد إقرار أحد به بعد ان كانت تنكره و تكذّب المقرّ بذلك أو ما دام لم تقرّ هي أيضا بذلك.

و منها انّه لو أقرّ من يعتوره الجنون حال إفاقته بالزنا

و اضافه الى حال إفاقته حدّ و لو أطلق لم يحدّ.

أقول: امّا الأوّل فلانّ الإقرار صدر في حال الإفاقة فهو إقرار من العاقل، و المغروض انّه نسبه الى حال الإفاقة فقد وقع كلّ من الفعل و الإقرار في حال السلامة و العافية فإذا أكمل أربعة اقارير فلا بدّ من ان يقام عليه الحدّ.

و امّا الثاني و هو عدم الحدّ فيما إذا أقرّ في حال الإفاقة بالزنا و لم ينسبها الى حال الإفاقة فقد علّل ذلك باحتمال وقوعه حال جنونه لكنّه ردّ عليه في الجواهر بقوله: و فيه نظر خصوصا إذا قلنا باعتبار العقل في مفهوم الزنا.

بيان ذلك انّ الإطلاق محمول على ما هو الظاهر منه و هو وقوع الزنا في حال الإفاقة و العقل، لا مع الجنون و من حيث لا يشعر، خصوصا إذا قلنا باعتبار العقل في تحقّق مفهوم الزنا فإنّه على ذلك ليس وطيه في حال الجنون زناءا مع انّه قد أقرّ بالزنا فلا بدّ من اجراء الحدّ عليه.

و فيه انّ اعتبار العقل في مفهوم الزنا شرعا لا ينافي صدقه بدونه عرفا و في بعض إطلاقاته و ليس بنحو لا يصدق الزنا مطلقا فترى انه يصدق الزنا على وطئ المجنون.

و الحقّ

هو ان يقال انّ المواقع مختلفة فتارة قد بقي في ذهنه صورة من اعماله و حركاته حال الجنون و الآن يريد أين يحكيها و ينقلها، و اخرى لا يكون كذلك فلو حصل الاطمئنان بأنّه يريد من قوله ما فعله حال جنونه فهنا لا شي ء كما انّه لو حصل الاطمئنان بأنّه يريد حال إفاقته فلا إشكال في إجراء الحدّ عليه و امّا لو لم يحصل لنا ظهور تام تطمئن إليه النفس فلا يجوز ذلك و لا يمكن الأخذ بإقرار مجمل إلّا إذا سئل و انكشف الحال بالسؤال، فتحصّل انّ الأقوى عدم الحدّ إلّا بقرينة تدلّ على وقوعه حال إفاقته.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 184

و منها انّه لو أقرّ العاقل بوطء امرأة و ادّعى أنها امرأته فأنكرت الزوجية

و الوطئ فلا حدّ عليه و ان أقرّ أربعا لأنّه لم يعترف بالزنا و لا مهر لها عليه لإنكارها الوطئ.

الأمر هنا واضح لانّه و ان أقرّ أربعا فإنّ إقراره كان بوطء زوجته بزعمه غاية الأمر انّ المرأة تنكر الأمرين الزوجية و الوطي و من المعلوم انّ الإقرار لا يوجب الحدّ إذا لم يكن بالزنا و حيث انّ المرأة تنكر وقوع الوطي فلا تستحق عليه مهرا [1] لأنّه في قبال الوطئ.

و منها ما لو اعترفت بالوطى ء و انّه زنى بها مطاوعة

فلا مهر و لا حدّ عليه و لا عليها الّا ان تقرّ أربعا.

امّا عدم استحقاقها المهر فلا قرارها بالمطاوعة في الزنا، و امّا عدم الحدّ على الرجل فلانّه و ان كان يدّعى و يعترف بالوطي لكنّه يدّعى انّها زوجته، و امّا عدم الحدّ عليها فلأنّها و ان كانت تدّعي الزنا لكنّها أقرّت مرّة و هو لا يؤثّر في لزوم اجراء الحدّ عليها. نعم لو أقرّت أربعا فهناك يجب عليها الحدّ.

و منها ما لو أقرّت بالوطى ء الّا انّها ادّعت إكراهه لها عليه

أو انّه اشتبه عليها فهنا لا حدّ على أحد منهما لكن عليه المهر.

امّا عدم الحدّ على الرجل فلما تقدّم، و امّا بالنسبة إليها فلا دعائها الإكراه أو اشتباه الأمر عليها.

و امّا وجوب المهر عليه فلانّه مدّع للزوجية و الوطي، و هي و ان كانت تعترف بوقوع الوطئ المحرّم لكنّها لا تدّعي المطاوعة كي لا يترتّب عليه مهر بل تدعى الإكراه أو الاشتباه، و الوطئ الناشي منهما يوجب المهر.

الكلام في البيّنة و ما يعتبر فيها

اشارة

قد تقدّم انّه يثبت الزنا بالإقرار أو البيّنة، و ما ذكرناه الى هنا كان

______________________________

[1] هذا لا ينافي وجوب أداء المهر على الزوج بمقتضى إقراره، و لعلّه الى ذلك يشير كلام كاشف اللثام في المقام حيث قال: و ان كان أقبضها شيئا على انّه مهر لم يكن له الاسترداد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 185

متعلّقا بالإقرار، و بقي الكلام في البيّنة:

قال المحقّق: و امّا البيّنة فلا يكفي أقلّ من أربعة رجال أو ثلاثة و امرأتين، و لا تقبل شهادة النساء منفردات و لا شهادة رجل و ستّ نساء.

أقول: انّه يثبت الزنا الموجب للرجم بأربعة رجال كما يثبت الزنا الموجب للجلد بهم، و بعبارة أخرى تعتبر في إثبات الرجم أربعة رجال و لا يكتفى بغير ذلك و امّا الجلد فيثبت بذلك و بغير ذلك. و لا خلاف في إثباته مطلقا بأربعة رجال، و في الجواهر: بل الإجماع بقسميه عليه.

و يدلّ على ذلك، الكتاب و السنّة المستفيضة.

أمّا الكتاب فآيات، منها قوله تعالى وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا «1».

و منها قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ

شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «2».

و منها قوله تعالى في قصّة الافك لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ «3».

و الآية الأولى صريحة في اعتبار الأربعة في الشهداء كما انّ مفهوم الآية الثانية أنّه إذا أتوا بأربعة شهداء ثبت قولهم، و قد أُطلق في الآية الثالثة، الكاذبون على ما دون الأربعة من الشهداء، و يستفاد منه انّهم لو أتوا بأربعة شهداء فهناك ليسوا بكاذبين و يقبل عنهم.

و امّا السنّة فبالنسبة إلى حدّ الرجم فالروايات مستفيضة و قد أخرجها المحدّث الحرّ العاملي رضوان اللّٰه عليه في باب سمّاه: باب انّ الزنا لا يثبت إلّا بأربعة شهداء يشهدون على معاينة الإيلاج.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 14.

(2) سورة النور الآية 4.

(3) سورة النور الآية 13.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 186

عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: حدّ الرجم ان يشهد اربع أنّهم رأوه يدخل و يخرج «1».

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يرجم رجل و لا امرأة حتّى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج و الإخراج «2».

و عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: لا يجب الرجم حتى يشهد الشهود الأربع انّهم قد رأوه يجامعها «3».

و أيضا عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: حدّ الرجم في الزنا ان يشهد أربعة أنّهم رأوه يدخل و يخرج «4».

و هذه الروايات بتعابيرها المختلفة- من: حدّ الرجم ان يشهد اربع إلخ و لا يرجم حتّى يشهد أربعة إلخ و لا يجب الرجم حتّى

يشهد الشهود الأربع إلخ- ظاهرة في الحصر و انّ طريق الإثبات في الرجم منحصر بأربعة شهداء و لا يثبت بما سوى ذلك، و إذا ثبت الرجم بأربعة رجال فالجلد اولى بالإثبات بذلك، هذا، مضافا الى التصريح بذلك في بعض الروايات فعن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يجلد رجل و لا امرأة حتّى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج و الإخراج و قال: لا أكون أوّل الشهود الأربعة أخشى الروعة أن ينكل بعضهم فأجلد «5» الى غير ذلك من الاخبار، و على الجملة فلا إشكال في الإثبات بأربعة رجال في الرجم و الجلد و امّا إثباته بثلاثة رجال و امرأتين الذي مرّ في عبارة المحقّق فنقول: انّه و ان كان ظاهر الاخبار الماضية هو الحصر على ما تقدّم الّا انّ هنا روايات أخرى

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 187

تدلّ على إثبات ذلك بثلاثة رجال و امرأتين أيضا و هي بالطبع تكون قرينة على انّ الحصر المستفاد من الروايات المتقدّمة هو الحصر النسبي الإضافي لا الحقيقي و هذا الجريان ليس بعزيز في أدلّتنا.

و من هذه الاخبار صحيح الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

سألته عن شهادة النساء في الرجم فقال: إذا كان ثلاثة

رجال و امرأتان، و إذا كان رجلان و اربع نسوة لم تجز في الرجم «1».

و صحيح عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول:

لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال و لا يجوز في الرجم شهادة رجلين و اربع نسوة و يجوز في ذلك ثلاثة رجال و امرأتان «2».

و صحيح زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: نعم و لا تجوز في الطلاق قال: و قال علي عليه السّلام تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال و امرأتان و إذا كان أربع نسوة و رجلان فلا يجوز الرجم «3».

نعم هنا رواية ناطقة بعدم قبول ذلك و هي صحيحة محمّد بن مسلم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا شهد ثلاثة رجال و امرأتان لم يجز في الرجم «4».

و لكن حيث انّها موافقة لفتوى أكثر العامّة على ما حكى و لم يعمل بها المشهور بل ادّعى الإجماع على عدم العمل بهذه الرواية- بخلاف الأخبار المتقدّمة عليها فإنّها معمول بها عندهم- فلذا لا تصلح للمعارضة و تحمل على التقيّة.

و امّا الروايات الدّالة على عدم قبول شهادة النساء في الحدود كرواية غياث بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن علىّ عليه السّلام قال: لا تجوز

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 10.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 11.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 28.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 188

شهادة

النساء في الحدود و لا في القود «1» الى غير ذلك من الروايات، فأمرها سهل لأنّها مطلقات، و روايات المقام مقيّدات لها، و يحمل المطلق على المقيّد، و النتيجة انّه لا تقبل شهادة النساء في الحدود إلّا في باب الزنا.

و الفرض الثالث هنا هو شهادة رجلين و اربع نسوة و إثبات الزنا بذلك فعن كثير انّه يثبت ذلك بل قيل انّه المشهور لكن في خصوص الجلد دون الرجم فقد صرّح في الاخبار الماضية بعدم ثبوت الرجم بأقل من ثلاثة رجال و امرأتين فلا بثبت برجلين و اربع نسوة فراجع رواية الحلبي و ابن سنان و زرارة و غيرها.

و تدلّ على إثبات الجلد بذلك دون الرجم، معتبرة الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام انّه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان وجب عليه الرجم و ان شهد عليه رجلان و اربع نسوة فلا تجوز شهادتهم و لا يرجم و لكن يضرب حدّ الزاني [1].

ترى التصريح بأنّه يضرب حدّ الزاني و لكن لا يرجم.

و لا يخفى انّ الروايات بهذه الصورة و العبارة ناقصة و لا أقلّ من سقوط لفظ قال [1] حتّى تكون العبارة بهذه الصورة: قال: وجب عليه الرجم.

و كيف كان و تدلّ على الجواز في الفرضين الأخيرين مضافا الى ما مضى الروايات الدّالة على جواز شهادة النساء في الحدود مع الرجال الّا انّها دالّة على المقام بعمومها و إطلاقها لا بعنوان خصوص المورد فان مفادها جواز شهادتهن مع الرجال في الجملة، و ذلك كرواية عبد الرحمن عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال:

تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال «2».

______________________________

[1] أقول: الرواية في نقل الفقيه متضمنة للفظ (قال) و

امّا التهذيب فأزيد من ذلك و إليك عبارته: انّه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان قال: فقال: إذا شهد عليه ثلاثة رجال و امرأتان وجب إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 29.

وسائل الشيعة الجلد 18 باب 30 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 21 من أبواب الشهادات الحديث 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 189

و امّا الفروع الأخر التي تعادل أربعة رجال في الواقع كشهادة رجل و ستّ نساء، و كذا شهادة النساء منفردات بان تشهد ثمان نسوة فلا تنفع شيئا و لا يثبت الزنا بذلك.

تذنيب

بقي في المقام أمران: أحدهما انّ مقتضى ما تحقّق من عدم ثبوت الرجم برجلين و اربع نسوة هو عدم ثبوت القتل بذلك أيضا و هذا هو مقتضى القاعدة لكنّي بعدُ لم اتفحص كلمات العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين في ذلك.

ثانيهما انّ بعضا من الأصحاب كالعمّاني و المفيد و الديلمي على ما حُكي عنهم ذهبوا الى عدم جواز الرجم بشهادة ثلاثة رجال و امرأتين- كما لا يجوز برجلين و اربع نسوة- و انّه لا يثبت بذلك، و ذلك للأصل.

أقول: لا مجال للتمسّك بالأصل بعد ورود تلك الروايات الصريحة و لعلّ تمسّكهم بالأصل كان جل انهم لم يطمئنّوا بحمل الروايات النافية على التقيّة كي يرجّحوا الأخبار المثبتة فلا مناص لهم عن الرجوع الى الأصل و لكن نحن قد ذكرنا انّ الترجيح للأخبار المثبتة فراجع.

شهادة ما دون الأربع

قال المحقّق: و لو شهد ما دون الأربع لم يجب و حدّ كلّ منهم للفرية.

أقول: إذا كان المعتبر في الشهادة بالزنا أربعة رجال أو ما في حكم ذلك بحيث يكمل النصاب المعتبر كامرأتين مع ثلاثة رجال أو أربع نسوة مع رجلين فكلّ من شهد و لم يكن داخلا تحت الضابط- كما إذا شهد ثلاثة رجال فقط فما دون ذلك أو شهد رجل و ستّ نسوة أو ثمان نسوة- فلا يثبت الزنا فلا يقام على المشهود عليه رجم و لا جلد بل يحدّ حينئذ الشاهد أو الشهود حدّ الافتراء و القذف.

و لازم ذلك انه لو شهد بالزنا أربعة لم يكونوا عدولا ثم قامت الشهادة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 190

الصحيحة من العدول عليه فان ذلك لا يوجب سقوط الحدّ عن الأوّلين.

الشهادة الصحيحة من العدول عليه فان ذلك لا يوجب سقوط الحدّ

عن الأوّلين.

الشروط المعتبرة في شاهد الزنا

ثم انّه قد تعرّض المحقّق هنا للشرائط و الأمور المعتبرة في شاهد الزنا فالأوّل منها ان تكون الشهادة بالرؤية و المشاهدة. قال:

و لا بدّ في شهادتهم من ذكر المشاهدة للولوج كالميل في المكحلة.

أقول: و على هذا فلا يكتفى بالشهادة بدون المشاهدة و ان حصل العلم للشاهد من قول الموثقين أو من إقرار الزاني مثلا عنده بذلك أو من قرائن أخرى و الحاصل انّه لا تقبل الشهادة بالعلم و الحدس مع عدم الرؤية و المشاهدة، و في الجواهر: بلا خلاف معتد به أجده فيه بينهم و لعلّه للاحتياط في الحدود المبنيّة على التخفيف.

و قال الشهيد في اللمعة: و يشترط ذكر المشاهدة كالميل في المكحلة انتهى. و قال الشهيد الثاني في الرّوضة: فلا يكفي الشهادة بالزنا مطلقا انتهى.

و في المسالك: لمّا كان الزنا قد يطلق على ما دون الجماع فيقال:

زنت العين و زنت الاذن و زنى الفرج، و الجماع يطلق على غير الوطئ لغة و كان الأمر في الحدود سيّما الرجم مبنيّا على الاحتياط التام و يدرء بالشبهة فلا بدّ في قبول الشهادة من التصريح بالمشاهدة لوقوع الفعل على وجه لا ريب فيه بان يشهدوا بمعاينة الإيلاج و يدلّ عليه صحيحة الحلبي. انتهى.

و قال في الرياض- عند كلام المحقّق في النافع: و لا بدّ في الشهادة، من ذكر المشاهدة كالميل في المكحلة- بعد ان تمسّك بالأخبار: و لأنّ الشهادة إنّما تسمع بما عوين. أو سمع و لا معنى للزنا حقيقة إلّا ذلك فلا تسمع الشهادة به الّا إذا عوين كذلك و ربّما أطلق على غيره من التفخيذ و نحوه فلو لم يصرّح الشهود لم تكن الشهادة نصّا في الموجب للحدّ انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 1، ص: 191

أقول: قوله: الّا إذا عوين كذلك، يعني المعاينة و المشاهدة بالنحو المخصوص المذكور في النصوص و في متن كلام المحقّق.

و كلامه هذا يشير إلى انّه يشترط في الشهادة على الزنا أمران أحدهما رؤية العمل و مشاهدته حيث قال: فلا تسمع الشهادة به الّا إذا عوين كذلك، ثانيهما ان تكون الشهادة صريحة فلا يذكر الألفاظ الكنائيّة كما هو صريح آخر كلامه المذكور.

ثم انه يمكن في الخارج تحقّق الشهادة بالإيلاج و الإخراج بدون ان يكون راى ذلك بل اعتمادا على ما سمع و نقل له، فهذه شهادة صريحة مع انّه لو سئل عن انّه هل راى ذلك لأجاب بأنّي ما رأيت و لكن علمت بذلك من طريق كذا، و الحال انّ مقتضى النصوص هو اعتبار التعرّض بأنّه قد رأى ذلك و شاهد لا مجرّد التصريح بالإدخال و الإخراج كي ينتفي احتمال المجاز و الكناية كالتفخيذ و غيره.

و على هذا فلا يكفى مجرّد استعمال اللفظ الصريح بل لا بدّ من ذكر المشاهدة و الرؤية في مقام الشهادة، و النتيجة انّه لا يجوز للشاهد الاقدام على إقامة الشهادة إلّا إذا رءاه و شاهد على الوجه المزبور ثم لا تعتبر شهادته مع ذلك إلّا إذا شهد بلفظ صريح أوّلا و بالمعاينة و المشاهدة ثانيا.

و التحقيق انّ في الشهادة على الزنا ثلاثة أمور مذكورة في كلمات الأصحاب و قد وقع خلط في بعض الكلمات بين هذه الثلاثة:

الأوّل انّه هل تعتبر في الشهادة على الزنا كسائر المبصرات الرؤية و المشاهدة، و في المسموعات السّماع، أو انّه يكفى العلم و لا حاجة الى أزيد من ذلك؟ بل و قد يجعل البحث أوسع من ذلك فيقال: هل تعتبر الرؤية مثلا أو

انّه يكفى العلم بل و الظن و الاستصحاب، فلو قلنا بكفاية العلم فلا حاجة الى إحراز الحاكم انّ الشاهد قد رآه و عاينه و هذا بخلاف ما إذا اعتبرت الرؤية و المعاينة فإنّه على ذلك يشكل الأمر لأنّه يلزم إحراز انّه قد شاهد ذلك و عاينه و لو بالحجة على المشاهدة و المعاينة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 192

الثاني انّه لا بد من كون الشهادة صريحة فلا تقع الشهادة بالألفاظ الكنائية و المجازيّة بدون إقامة القرينة الصارفة لها عن معناها الظاهر.

و لا فرق في هذين الشرطين بين باب الزنا و غيره كالسرقة مثلا.

الثالث ذكر الرؤية و المشاهدة و هذا هو الذي يمتاز به الزنا عن غيره فإنّه يكفي في غير المقام الشهادة بأصل الفعل امّا في باب الزنا فلا بدّ من ذكر المشاهدة و المعاينة.

و الدليل على اعتبار اللفظ الصريح دون الاستعارات و المجازات هو قضيّة ماعز الذي أقرّ على نفسه بالزنا فكان شهادته النسبة إلى عمل نفسه لا غيره و مع ذلك قال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ا نكتها؟ فقد سئله عن انّ عمله كان هو النيك الذي هو الدخول بلا كلام و صريح فيه؟ و أضاف بعد ذلك قوله: لا تكنّى؟ اى لعلك أردت من الزّنا غير النيك كالتقبيل و الغمز و غير ذلك. فهذا ينادى باعتبار اللفظ الصريح في قبول الشهادة بالزنا.

و امّا ذكر المشاهدة فذلك للنصوص العديدة الدّالة على ذلك و قد أخرجها الشيخ المحدّث العاملي في باب سمّاه: باب انّ الزنا لا يثبت إلّا بأربعة شهدا يشهدون على معاينة الإيلاج:

عن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: حدّ الرجم ان يشهد اربع أنّهم

رأوه يدخل و يخرج «1».

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يرجم رجل و لا امرأة حتّى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج و الإخراج «2».

و عن ابى بصير قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا يرجم الرجل و المرأة حتّى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع و الإيلاج و الإدخال كالميل في المكحلة «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدود الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدود الزنا الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدود الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 193

و عن حريز عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال:. فان شهد له ثلاثة و ابى واحد يجلد الثلاثة و لا تقبل شهادتهم حتّى يقول أربعة: رأينا مثل الميل في المكحلة «1».

و صحيح حريز هذا الصريح في المقصود يفيد انّ ذلك شرط القبول في الشهادة على الزنا مطلقا سواء كان حدّه هو الرجم أو الجلد و ان كان غيره من الروايات متعرّضا لخصوص الرجم.

فهذه النصوص تدلّ على اعتبار ذكر الرؤية و المشاهدة.

و لعلّ نظر الشارع الأقدس من اعتبار هذا الشرط في الزنا الى ان لا يثبت في الخارج تحقّق هذا العمل الشنيع و وقوع هذه المعصية الكبيرة بسرعة و سهولة كما يستشمّ ذلك من بعض الشرائط المعتبرة فيه غير ذلك.

و كيف كان فنظر المحقّق في الكتابين: الشرائع و المختصر النافع، في المقام الى ذكر الشرط الأخير لكن شارح الأوّل في المسالك و شارح الثاني في الرياض قد ذكرا في شرح كلامه ما لا يساعد ذلك.

فما ذكره

في المسالك من انّ الزنا قد يطلق على ما دون الجماع لو كان بذلك بصدد شرح عبارة المحقّق فهو بمعزل عنها لانّه بصدد اشتراط ذكر الرؤية و المعاينة و كلام الشهيد الثاني يفيد اعتبار التصريح في الشهادة و عدم قبول الشهادة بالألفاظ غير الصريحة و هذا شي ء و ذاك شي ء آخر، نعم انّه قدّس سرّه قد مال و توجّه بقوله: فلا بدّ في قبول الشهادة.» و قوله: بان يشهدوا بمعاينة الإيلاج، الى ما هو محلّ البحث و الكلام.

و على الجملة فاعتبار المعاينة لأجل النصوص لا من جهة الصراحة فإنّها شرط آخر و أمر مستقلّ.

و هكذا الأمر بالنسبة إلى كلام المحقّق في النافع و ما افاده السيّد صاحب الرياض بشرحه، فان نظر المحقّق من كلامه المذكور آنفا الى اشتراط ذكر المشاهدة في مقام الشهادة كعبارته في الشرائع بعينها، و الحال انّ الرياض

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب حدّ القذف الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 194

علّل بقوله: لأنّ الشهادة إنّما تسمع بما عوين أو سمع، و هذا و ان كان تاما في موضعه و مقامه اى البحث في انّه لا بد في الشهادة في المبصرات من المعاينة و في المسموعات من السماع الّا انّه غير مرتبط بما كان المحقّق بصدده.

و بعبارة اخرى انّ ما افاده المحقّق متعلّق بسماع الشهادة و قبولها و هو مرتبط بالحاكم، و ما ذكره في الرياض متعلّق بوظيفة الشاهد فإنّه يجب عليه ان يكون تحمله للشهادة بالمعاينة، فالمعاينة شرط اقامة الشاهد الشهادة لا القبول منه و الّا لكان اللازم على الحاكم إحراز ذلك [1] و ذكر الرؤية شرط في قبول الحاكم الشهادة منه.

كما انّ ما

ذكره في الرياض أيضا بقوله: «و ربّما أطلق الزنا على غيره من التفخيذ و غيره فلو لم يصرّح الشهود به لم تكن الشهادة نصّا في الموجب للحدّ» أمر غير ما ذكره المحقّق فان هذا شرط التصريح و عدم استعمال الألفاظ المجازيّة و الكنائية و أين هذا من اشتراط ذكر المعاينة و المشاهدة؟

و الحاصل انّ اشتراط الصراحة في الشهادة غير اشتراط ان يكون الشهادة بالرؤية فإنهما شرطان، و شرط الصراحة لا يختصّ بباب الزنا، بخلاف شرط الرؤية فإنه مختصّ بالزنا للنصوص المذكورة فلو صرّح في مقام الشهادة بالإدخال بالنحو المخصوص و لكن كان منشأ ذلك علمه به للسّماع عن غيره أو لقرائن أخرى فإنّه لم تقبل شهادته، و لو رأى ذلك بعينه لكنّه لم يشهد بالمشاهدة و العيان بل شهد بمطلق الزنا و لو صريحا لم تقبل أيضا.

و أورد في الجواهر على المحقّق و صاحب الرياض ما حاصله بتوضيح منّا انّه لا يعتبر في الشهادة ذلك بل يكفى مجرّد العلم، نعم الرؤية و المشاهدة من طرقه، و ما دلّ على اعتبار ذلك فالمقصود ذكر أحد طرق العلم لا لأجل الخصوصيّة و على الجملة فلا يعتبر في الشاهد ان يكون رأى ذلك و لا يعتبر في قبول شهادته ذكر الرؤية.

كما انّه قدّس سرّه في باب الشهادات أفاد عدم الحاجة الى الرؤية في

______________________________

[1] أقول: قد مرّ آنفا ما لا يساعد ذلك فراجع ما افاده دام ظلّه عند وروده في التحقيق.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 195

المبصرات و انّ الضابط الكلّي هو العلم و ذلك لقول اللّٰه تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «1». و إذا حصل العلم فهناك يجوز الشهادة استنادا اليه

و ان لم تكن منشأه الرؤية، و قد أكدّ على ذلك حتّى عدّ قول من اعتبر الاستناد الى الحسّ من غرائب الكلام قال: ضرورة اقتضائه عدم صحّة الشهادة لنا الآن لأمير المؤمنين عليه السّلام بنصب النبي صلّى اللّٰه عليه و آله اماما يوم غدير خم لانّه و أصل إلينا بطرق التواتر و لم نكن حاضرين وقت النصب.

و قد بنى على ذلك في كتاب الحدود و اكتفى بمجرّد العلم و ان لم يكن مستندا الى الحسّ اى البصر.

نعم احتمل هنا ان تكون للزنا و نحوه ممّا يكون التخفيف فيه مطلوبا للشارع خصوصيّة، تحكيما للأدلّة الواردة في المقام على الأدلّة الدّالة على كفاية العلم مطلقا مؤيّدا ذلك بكلام الأصحاب.

لكنّه استدرك ذلك بأنّه الّا ان يدّعى انّ ما ورد في الباب اى روايات رؤية الإيلاج و الإخراج مبنىّ على ما هو الميزان الكلّي من اعتبار الرؤية في المبصرات لا لتعبّد خاص في المقام، قال: فيرد عليه ما قدّمناه في كتاب الشهادات، يعنى انّه على ذلك يرد عليه انّه لا حاجة الى الرؤية و ان كان المشهود به من المبصرات بل المعيار هو العلم.

و لا يخفى عليك انّ ما افاده و كان بصدد إثباته خلاف ظاهر روايات الباب جدّا فان ظهورها الذي لا يقبل الإنكار هو اعتبار نفس الرؤية و المشاهدة فليس ذكر ذلك فيها من باب انّها الغالب في حصول العلم في المبصرات، نعم ما ذكره من كفاية مطلق العلم صحيح بالنسبة إلى سائر الأمور- دون المقام- فكرّر النظر في رواية الحلبي و ابى بصير و حريز و غيرها من الروايات فإنّها تدلّ على اعتبار كون الشهادة بخصوص الرؤية لا بأصل الفعل و هي امّا صحيحة أو معتبرة

و لا معارض لها و هي مفتى بها عندهم فلا وجه لرفع اليد عنها و القول بكفاية مطلق العلم بل القول به طرح لهذه الروايات العديدة بلا وجه، الا ترى انّه لو

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 36.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 196

اعتبرت في الشهادة بالهلال، الرؤية فإنّه لا تصحّ الشهادة بالعلم بل اللازم هو نفس الرؤية و الشهادة بها، و ما نحن فيه من هذا القبيل و المعتبر فيه الشهادة بالطريق لا بذي الطريق.

نعم قد يستشكل بأنّه لو اعتبرت رؤية الإيلاج و الإخراج على النحو المخصوص المذكور في الروايات فوقوع هذا بعيد بل لعلّه لا يتحقّق في الخارج الّا نادرا و ذلك يفضي و يؤدّى الى تعطيل الحدود.

و فيه انّ بعض الروايات يدلّ على الاكتفاء برؤية الجماع و لا تعرّض فيه لرؤية الإيلاج و الإخراج فعن على بن أبي حمزة عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: لا يجب الرجم حتّى يشهد الشهود الأربع انّهم قد رأوه يجامعها «1».

لا يقال: انّ مقتضى حمل المطلق على المقيّد حمل مثل رواية أبي بصير هذه على الروايات السابقة و ذلك يوجب عدم قبول الشهادة على انّه رأوه يجامعها حتّى يضمّوا الى ذلك: انه كالميل في المكحلة.

لأنّا نقول: لعلّ المقام من قبيل المثبتين الذين لا يعلم وحدة المراد و من المعلوم انّ الشرط في التقييد هو العلم بذلك كما في مثل ان ظاهرت فأعتق رقبة، و ان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، فإذا لم يتحقّق ذلك فيؤخذ بكليهما و يكتفى برؤية الجماع و الشهادة به خصوصا بلحاظ بُعد رؤية الظرف و المظروف.

ثم انّ من شروط الشهادة بالزنا كما أشرنا إليه هو التصريح لبناء الحدود

على التخفيف و درءها بالشبهة و الاحتياط التام فيها و يدلّ على ذلك قصّة ماعز على ما اوضحناها آنفا و خالف في ذلك في الجواهر قائلًا: أنّك سمعت ما ذكرناه في الإقرار من عدم دليل معتبر على اعتبار النصوصيّة فيه بل و لا الشهادة فيكفي فيهما اللفظ الدّالّ على ذلك وضعا أو عرفا و لا يحتاج إلى زيادة على ذلك بحيث يعلم منه إرادة الأمر المخصوص و لو من قرائن الأحوال.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من حدّ الزنا الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 197

ترى انّه نفى اشتراط صراحة الشهادة صريحا و صرّح بكفاية مجرّد كون اللفظ دالّا على المراد بحسب الوضع أو عند العرف فيكفي ما يعلم منه إرادة الأمر المخصوص و لو كان ذلك بمعونة القرائن الحاليّة و لا حاجة الى أزيد من ذلك.

لكنّه ينافي ذكر الرؤية المخصوصة في تلك الروايات، و حملها على انّها من طرق العلم خلاف الظاهر كما تقدّم، فهل ترى من نفسك انّه يمكن التعبير بأصرح من تلك التعابير الواردة في الروايات كالإيلاج، و الإدخال، و الإخراج، و كالميل في المكحلة؟ فالظاهر انّ الاكتفاء بمطلق الدّال وضعا أو عرفا- و ان لم يكن صريحا- في غاية الإشكال.

نعم في الموثق عن ابى جعفر عليه السّلام: إذا قال الشّاهد: انّه قد جلس منها مجلس الرجل من امرأته أقيم عليه الحدّ «1».

فقد حكم بوجوب الحدّ بشهادة الشهود انّه قد جلس منها مجلس الرجل من امرأته و الحال انّ هذا اللفظ ليس صريحا بل و لا مجعولا للزنا وضعا أو عرفا و انّما يمكن ان يكون كناية عنه، نظير ما ورد في قصّة ماعز من انّه بعد ان

سئله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن أنّه يدرى ما هو الزنا أم لا قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا.

الّا انّه لا بدّ من طرحه لانّه قاصر عن مقاومة تلك الروايات الّتي هي أقوى سندا و أكثر عددا و لم يعهد من أحد من الأصحاب العمل به.

نعم حكى عن الشيخ قدّس سرّه احتماله بعد تخصيصه الحدّ بالجلد دون الرجم و لكنّه مجرّد احتمال فإنه لم يفت بذلك.

و مثل ما حكى عن الشيخ ما ذكره العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه فإنّه- في مقام الجمع بين اخبار اجتماع الرجلين أو الرجل و المرأة في لحاف واحد التي دلّ بعضها على تمام الحدّ و بعضها الآخر على انقص منه- قال:

و الأظهر في الجمع بين الاخبار مع قطع النظر عن الشهرة ان يؤخذ بالأخبار الدّالة

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 198

على تمام الحدّ بان يقال: لا يشترط في ثبوت الجلد المعاينة كالميل في المكحلة و تحمل الأخبار الدالّة على ذلك على اشتراطه في الرجم كما هو الظاهر من أكثرها و امّا اخبار النقيصة فمحمولة على التقيّة انتهى «1».

لكنّه رحمه اللّٰه كما ترى صرّح بانّ ذلك مع قطع النظر عن الشهرة، و امّا ما ذكره من حمل أخبار النقيصة على التقيّة فقد مرّ انّه لا يصحّ حملها على ذلك.

ثم انّ في بعض الروايات ما يبطل هذه الوجه الذي قد جمع به بين الاخبار و هو معتبرة محمد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يجلد رجل و لا امرأة حتّى يشهد

عليهما أربعة شهود على الإيلاج و الإخراج [1] فإنّها صريحة في اعتبار معاينة الإيلاج و الإخراج في الجلد.

و يمكن حمل الحدّ في الموثّق الدّال على كفاية اللفظ الكنائي على التعزير و عليه فلا يرد اشكال حتّى يحتاج الى الجمع و التوجيه لعدم ارادة الحدّ المصطلح عليه.

هذا مضافا الى انّه مخالف لما ذهب إليه الأصحاب بل مخالف للإجماع كما في الجواهر، فقد تحصّل انّ المستفاد من الاخبار عدم قبول الشهادة بالزنا الّا مع ذكر رؤيته في الشهادة.

و منه يظهر انّه لا يجوز للشاهد ان يشهد عليه من دون الرؤية لأنّه لو شهد به بلا رؤية لكانت شهادته كذبا.

نعم لو كان المراد من الرؤية هو رؤية الآلتين بالحالة المخصوصة فهي غير متيسّر إلّا في فروض نادرة كما إذا تعمّد أحد لشدة تجرّيه و عدم حيائه في ان يأتي بهذا العمل بمرأى الناس و منظرهم قصدا منه ان يرى منه كلّ الخصوصيّات و الّا فبحسب المتعارف فلا يمكن ذلك و ان كان ربما يظهر من بعض العبارات ذلك.

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من حدّ الزنا الحديث 11، أقول: لكن في نسخة الكافي الجلد 7 الصفحة 184 (لا يرجم) بدل (لا يجلد)

______________________________

(1) مرآت العقول الجلد 23 الصفحة 276.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 199

قال العلّامة المجلسي رضوان اللّٰه عليه بشرح خبر الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام: حدّ الرجم ان يشهد أربعة أنهم رأوه يدخل و يخرج:

و لا خلاف بين الأصحاب في انّه لا بدّ في شهادة شهود الزنا من ذكر المشاهدة للولوج كالميل في المكحلة (ثم قال:) و امّا الإخراج الذي يدلّ عليه بعض الروايات فلم يتعرّض له أكثر المتأخرين فيمكن ان يكون

ذكره مبنيّا على الغالب من كون مشاهدتهما معا، على انّه لا استبعاد في اشتراط مشاهدته أيضا فإنّ هذا الحكم مخالف لسائر الأحكام في الشهادة كما هو ظاهر كلام ابن الجنيد و بعض القدماء. قال ابن الجنيد على ما حُكي عنه: ليس يصحّ الشهادة بالزنا حتّى يكونوا أربعة عدول و ليس فيهم خصم لأحد الشهود عليهما و يقولوا: أنّا رأيناه يولج ذلك منها و يخرجه كالمرود في المكحلة «1».

لكن فيه عدم إمكان رؤية الموضع بحسب النوع و العادة، و اشتراط ذلك يوجب سدّ باب الشهادة.

فلا بدّ من حمل الاخبار و كلمات العلماء على رؤية المقدّمات الملازمة الحاكية عن الدخول و الخروج بحيث يصدق انّه رآه يدخل و يخرج كالميل في المكحلة و ذلك كما اذا راهما مجردين ضامّى الموضعين الى غير ذلك من المقدمات الملازمة فإنّه في هذه الظروف و الأحوال لا بدّ من ان يواقعها و يزني بها.

و الّا فكيف يحمل الرؤية على ما لا مصداق له في الخارج نوعا؟ [1].

و تدلّ على ما ذكرناه قصّة المغيرة بن شعبة التي رواها الشيخ قدّس سرّه في الخلاف فإنّه استخلف عمر المغيرة على البصرة و كان نازلا في أسفل الدار، و نافع و أبو بكرة و شبل بن معبد و زياد في علوها فهبّت ريح ففتحت باب البيت و رفعت الستر فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة «2».

فإنّه كيف يمكن ان يرى من كان في العلو انّ من كان في السفل يولج

______________________________

[1] و هكذا قال بعض الأعاظم في مباني تكملته الجلد 1 الصفحة 180.

______________________________

(1) مرآت العقول الطبع القديم الجلد 4 الصفحة 166 و الجديد الجلد 23 الصفحة 278.

(2) راجع الخلاف الجلد 3 الصفحة 154.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 1، ص: 200

و يخرج مع الخصوصيّات؟ فالحقّ انّه ليس إلّا الشهادة على الزنا بما رواه من الأحوال المناسبة لا رؤية العضوين و سائر الخصوصيّات.

و امّا ما قد يقال من انّه كيف يجمع بين رؤية جماع غيره مع العدالة؟

ففيه انّ المستفاد من الأدلّة عدم حرمة النظر لإقامة الشهادة، و هل ترى من نفسك انّ الآية الكريمة: لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ، جوّزت المعصية؟ فلا بدّ من ان يكون ذلك جائزا.

حول قيد آخر من قيود الشهادة

ثم انّ من جملة ما اعتبره المحقّق قدّس سرّه في الشهادة هو ما ذكره بقوله: من غير عقد و لا ملك و لا شبهة.

و معنى ذلك انّه فعل ذلك عالما بحرمته من دون شك و لا ريبة، و عليه فهذا من قيود الشهادة و لا بدّ من ذكره، كما انّه لا بدّ من ان يكون هذا من الشهادة بالعلم، بخلاف الشهادة على الوطي فإنّه أمر مرئي و لا بدّ في الشهادة به من ذكر قيد الرؤية كما كان تعتبر فيه نفس الرؤية، و لازم ذلك انّه لو شهد برؤية الولوج و لكنه لم يقيّده بقيد: بلا عقد إلخ أو قيّده بقوله: بلا عقد، و لم يذكر انه كان بلا ملك و لا شبهة، لم يحدّ المشهود عليه بل حدّ الشهود، لكنّه استدرك و قال:

و يكفى ان يقولوا لا نعلم بينهما سببا للتحليل.

أقول: و فيه أوّلا انّ بين كلاميه نوع تهافت لانّه اعتبر أوّلا ذكر الشهادة بعدم وجود مبرّر للوطي علما على ما هو ظاهر عبارته و هنا يقول بالاكتفاء بالشهادة بعدم العلم بوجود سبب مبرّر، و من المعلوم انّهما لا يجتمعان، و كان الأنسب أن يقول أوّلا: من غير علم بالعقد أو الملك

أو الشبهة، حتّى تكون بين العبارتين ملائمة.

و ثانيا انّ نفس المطلب غير تامّ و ذلك لانّه كيف يمكن الحكم بإجراء الحدّ مع انّ الشهود يقولون: لا نعلم سببا للتّحليل و الحال انّ معناه: انّه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 201

لا نعلم بموجب الحدّ و لا نعلم بالزنا.

و لا يخفى انّ سبب التحليل قسمان أحدهما ان يكون من قبيل الزوجية و الملكيّة و تحليل المالك، فمعنى قول الشهود: لا نعلم بينهما سببا للتّحليل، هو انّا لا نعلم الزوجية أو الملك أو تحليل المالك.

ثانيهما ان يكون المراد هو المسقط للحدّ بعد انّ عدم الزوجيّة و الملكيّة و التحليل أمر مفروغ عنه كالشبهة و الإكراه و غير ذلك.

فعلى الأوّل فشهادتهم بعدم العلم بسبب التحليل تؤول الى عدم علمهم بالحرمة أصلا و هذا لا ينفع في الشهادة شيئا و امّا على الثاني فهو الذي حاول صاحب الجواهر حلّ الاشكال به فقال بعد ان أشكل بعدم تحقّق الزنا مع احتمال كونها زوجة: و يمكن إرادته بعد العلم بكونها أجنبيّة عنه لكن لم يعلم الشبهة أو الإكراه أو نحوهما ممّا يسقط به الحدّ انتهى.

يعنى انّ الزنا بالأجنبيّة بعد كون المرأة كذلك حسب الفرض- موجب للحدّ، و المسقط مشكوك فيه و الأصل عدمه.

و فيه أولا انّه خلاف المتبادر من «سبب التحليل» لأنّ وطي الأجنبيّة مع الشبهة محرّمة واقعا و ليس هناك سبب للتحليل غاية الأمر انّه لا عقاب عليه و لا حدّ، و الحال انّ عبارة المحقّق: لا نعلم سببا للتحليل، لا السبب المسقط للحدّ، و الحاصل انّ المسقطات ليست سببا للتحليل.

و ثانيا هب انّه كان المراد ذلك لكن هل يجوز إقامة الشهادة مع عدم العلم بالشبهة أو كون

الزنا عن إكراه؟ أو ليس هذه الموارد من موارد الشبهة و الحدود تدرء بالشبهات؟ و كيف يحدّ من أقيم عليه الشهادة بأنّه وطئ وطئا لم يعلم انّه يوجب الحدّ؟

و على الجملة فالشبهة الموضوعيّة اقتضت عدم جواز الشهادة و عدم اقامة الحدّ.

و على قوله قدّس سرّه، لو شهدوا كذلك لا وجبت اجراء الحدّ و هو

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 202

مشكل جدّا، و مثل عبارته صدرا و ذيلا عبارة العلّامة في القواعد حيث قال: و لا تكفى شهادتهم بالزنا عن قولهم: من غير عقد و لا شبهة عقد بل لا بدّ من ذلك، نعم يكفى ان يقولوا: لا نعلم سبب التحليل.

و فيه ما مرّ من الإشكال لأنّه مع وجود احتمال الإكراه أو الشبهة لا مورد للشهادة و لا لإجراء الحدّ، و في الحقيقة انّ هذه الشهادة مركّبة من الوجدان و الأصل الجاري لنفى الشبهة و الإكراه، و هذا لا ينفع فان المعتبر في الشهادة هو العلم و مآل ما ذكر إلى الشهادة مع الشك، و لا فرق بين هذا و بين ما إذا صرّح الشاهد و قال: انّه زنى و لكنّي لا اعلم انّه كان مكرها أم لا. فكما انّه لا اثر لهذه الشهادة كذلك لا اثر لها بالنحو المبحوث عنه، و على الجملة فما ذُكر غير قابل للقبول و التصديق و ان قاله كثير من الأعلام [1].

و احتمال ان يكون مرادهما و مراد غيرهما من ذلك هو العلم بالعدم نظير قولك: لا نعلم انّه عادل، الذي تريد منه: انى لا أراه عادلا و اعلم انّه غير عادل، مع انّه خلاف الظاهر- حيث انّ الظاهر من قول الشهود: لا نعلم إلخ هو عدم

علمهم لا علمهم بالعدم- يرد عليه انّه لو كان المراد ذلك يكفيه قوله: من غير عقد و لا شبهة و لم يكن مورد لقوله: و يكفي إلخ.

حول كلام من الشهيد الثاني

ثم انّ الشهيد الثاني قال في المسالك في هذا المقام: و انّما تحدّ الشهود إذا لم يشهدوا بالإيلاج على ذلك الوجه، بتقدير ان يكون شهادتهم بالزنا، ثم قال: امّا لو شهدوا بالفعل و لم يتعرّضوا للزنا سمعت شهادتهم و وجب على المشهود عليه التعزير انتهى.

و لم نقف على مراده رحمه اللّٰه من وجوب تعزير المشهود عليه بعد انّ الشهود لم يتعرّضوا للزنا و انّما اقتصروا على الشهادة بأصل الفعل.

______________________________

[1] راجع لهذا البحث شرح الإرشاد للأردبيلي فإنّ فيه ما يؤيّد ما افاده السيد الأستاذ الأكبر دام ظلّه العالي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 203

و يمكن توجيه كلامه بنحو لا يرد عليه اشكال لكنّه موقوف على ذكر مطلب مقدّمة و تمهيدا له.

فنقول: هل المعتبر في الشهادة على مقدّمات الزنا كجلوسه معها مجلس الرجل من زوجته، أيضا أربعة رجال أو انّه يكفى الاثنان؟- بعد انّه لا شك أصلا في اعتبار الأربعة في الشهادة على الزنا نفسه على ما تقدّم- مقتضى قبول شهادة العدلين مطلقا الّا ما خرج بالدليل هو حجيّة قول الاثنين و شهادتهما على مقدّمات الزنا بلا حاجة الى أزيد من ذلك، فان كلّ ما كان غير الزنا مثلا يقتصر فيه على شهادة الاثنين و منه مقدّمات الزنا.

و حينئذ نقول: لعلّ مراده رحمه اللّٰه انّه لو شهد الشهود- سواء كانوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة بالفعل اى بالمقدّمات كجلوسه معها على النحو المخصوص و لم يتعرّضوا للزنا أصلا فإنّه يعزّر المشهود عليه على ما فعله، الّا انّه لا

خصوصيّة للأربعة.

نعم هذا الحمل خلاف ظاهر لفظ «الفعل» حيث انّه ظاهر في نفس الفعل المعهود اى الوقاع و الجماع [1].

جلد الشهود لو لم يشهدوا بالمعاينة

قال المحقّق: و لو لم يشهدوا بالمعاينة لم يحدّ المشهود عليه و حدّ الشهود.

أقول: امّا الأوّل فلانّ شرط قبول الشهادة هو ذكر الرؤية و المعاينة و هو مفقود حسب الفرض و لا يجوز ان يسئل الشهود عن أنّهم رأوا ذلك أم لا؟ لانّه تجسّس لإثبات الزنا و هو حرام، و هذا بخلاف قصّة ماعز لأنّه أقرّ بالزنا و كان صلّى اللّٰه عليه و آله بصدد ما يدفع عنه الحدّ.

و امّا الثاني فلانّ الشهود قد أقدموا على القذف فيقام عليهم حدّه

______________________________

[1] يحتمل ان يكون المراد من الفعل هو نفس الوطي الّا انّه يعزّر لعدم تحفّظه عن أعين الناس و عدم الاختفاء به، و ان لم يكن زناءا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 204

الكلام في لزوم اتفاق الشهود في الشهادة.

قال المحقّق: و لا بدّ من تواردهم على الفعل الواحد و الزمان الواحد و المكان الواحد فلو شهد بعض بالمعاينة و بعض لا بها، أو شهد بعض بالزنا في زاوية بيت و بعض في زاوية أخرى أو شهد بعض في يوم الجمعة و بعض في يوم السبت فلا حدّ و يحدّ الشهود للقذف.

أقول: لا شكّ و لا شبهة في انّه لو تعرّض الشهود لذكر الخصوصيّات و اختلفوا في ذلك فإنّه تردّ شهادتهم فلا بدّ من ان تكون شهادتهم متّحدة فعلا و زمانا و مكانا.

و أضاف في المسالك الصفة أيضا فقال: لا ريب في عدم قبول شهادتهم على تقدير الاختلاف في الفعل بالزمان أو المكان أو الصّفة انتهى.

و الوجه في ذلك انّه لو اختلفوا في الخصوصيّات، فلم تقم أربعة شهداء المعتبرة في الشهادة، على الفعل الواحد بل قام على الزنا في هذه الزاوية مثلا شاهدان و على وقوعها في زاوية أخرى

آخران، هذا إذا اختلفوا من جهة المكان، و هكذا الأمر لو اختلفوا من جهة الزمان كما إذا شهد بعض بالزنا في يوم الجمعة و آخر ان به في يوم السّبت، و ان كانت الشهادة محقّقة على أصل الزنا الّا انّها غير كافية بعد عدم تواردهم على فعل واحد.

بل و لو شهد بعض بوقوع الزنا حال كونهما مجرّدين و آخر به حال كونهما من وراء الثوب أو شهد بعض بوقوع الزنا في ثوب أبيض و آخر بوقوعه في ثوب اصفر مثلا فان ذلك غير مقبول على ما هو مقتضى ما ذكره في المسالك من اعتبار اتّحاد الصفة أيضا فهذا لا كلام فيه و لذا قال بعد ما نقلناه من عبارته:

لانّ كلّ واحد من الفعل الواقع على أحد الوجوه غير الفعل الآخر، و لم يقم على الفعل الواحد أربعة شهداء.

و انّما النّزاع و الكلام في انّه هل يعتبر تعرّض الشهود للخصوصيّات أو انّه يكفى الشهادة مطلقة؟

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 205

قال في المسالك: انّ ظاهر المصنّف و العلّامة اشتراط ذلك فلا يكفي إطلاقهم الشهادة على الزنا على الوجه السابق الّا مع تصريحهم باتّحاد الزمان و المكان حتّى لو أطلق بعضهم و قيّد آخرون حدّوا و النصوص خالية من اشتراط ذلك و دالّة على الاكتفاء بالإطلاق و هذا هو الظاهر من كلام المتقدّمين.

ثم نقل كلام الشيخ في النهاية و قال بعد ذلك: و هذا صريح في عدم اعتبار التقييد بالزمان.

ثم نقل عبارة ابن الجنيد، و قال بعد ذلك: و هذا صريح في ذلك و كلام غيرهما قريب من ذلك، و هذا هو المعتمد.

ثم صار بصدد توجيه عبارة المحقّق و قال: و يمكن تنزيل كلام المصنّف

و ما أشبهه على ذلك بحمل عدم القبول على تقدير التعرّض على ذلك و الاختلاف فيه.

أقول: انّ هذا الحمل خلاف الظاهر جدّا بل الظاهر هو لزوم التعرّض و اتحادهم في الخصوصيّات و لعلّ الأقوى ذلك، و ذلك لاحتمال ان يكون نظر بعض الشهود الى وقوع الفعل مع خصوصيّة تكون مغايرة للخصوصيّة التي كانت بنظر الآخر فلم تتحقّق شهادة الأربع على فعل واحد و انّما تتحقّق ذلك مع التعرّض للخصوصيّات و الاتّفاق عليها.

و ما افاده من خلوّ النصوص من اشتراط ذلك.

فيه انّ ذلك غير قادح و لا يوجب القول بعدم اعتبار ذكر هذه القيود و الخصوصيّات و لا دلالة له على صحّة الشهادة و قبولها فان ذكر ذلك في النصوص غير لازم بعد انّ المعتبر بحسبها هو شهادة الأربع على فعل واحد و هو الزنا الشخصي فاذا تعرّضوا للخصوصيّات و اتّفقوا عليها و فيها، يتحقّق موضوع الشهادة و يمكن هناك اجراء الحدّ و امّا إذا أطلقوا فمن الممكن ان يكون شهادة بعض في الواقع على خلاف ما يشهد به بعض آخر.

و غاية ما يمكن ان يقال هو انّ الشهادة المطلقة بلا ذكر فيها عن الزمان و المكان تكون ظاهرة في وحدة الفعل، فليست صريحة في ذلك و قد تقدّم اعتبار

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 206

الصراحة في الشهادة- على خلاف من صاحب الجواهر- فلا يكتفى بها.

و يشهد على ما ذكرناه من انّ خلوّ النصوص عن ذكر ذلك لا يدلّ على عدم اعتباره، خلوّها عن قيد: بلا عقد و لا ملك و لا شبهة، فقد راجعنا الروايات و لم نجد فيها ذكرا عن ذلك و الحال انّهم اعتبروا هذا القيد و لم يكتفوا بظهور

لفظ الزنا في انّه صدر بلا عقد و لا ملك و لا شبهة [1].

و لباب الكلام انّ الملاك في جواز اجراء الحدّ بالشهادة هو الشهادة مع ذكر الخصوصيّات لأنّها الشهادة الخالية عمّا يوجب درء الحدّ فمع التعرّض و الاتّفاق على القيود يحصل ذلك و الّا فلا.

و بعبارة اخرى انّ الشهادة بهذا النحو مصداق للشهادة الموجبة للحدّ و بدون ذلك تحصل الشبهة الدارئة للحد، لاحتمال اختلافهم في القيود لو كانوا يتعرّضون لها و مع الاختلاف كان يحصل التعارض في شهادتهم و لم يتحقّق الشّهادة اللازمة على فعل واحد.

و في الجواهر- بعد عبارة المصنّف المذكورة آنفا- بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بل و لا إشكال في صورة عدم اتّفاق الأربعة على شي ء من ذلك بل و لا إشكال في صورة عدم اتفاق الأربعة على شي ء واحد كغير المقام من المشهود عليه من البيع و الإجارة و غيرهما.

يعنى انّه لا فرق بين المقام و غيره في هذا المقدار و هو لزوم الاتّفاق في المشهود به مع تمام الخصوصيّات إذا تعرّضوا لذلك، غاية الأمر اعتبار اتّفاق الأربعة في باب الزنا، و الاثنين في مثل البيع و الإجارة.

ثم قال: انّما الكلام في اختصاص المقام عن غيره باعتبار ذكر الشهود الخصوصيّات و الاتفاق عليها مع تعرّض البعض على وجه لا يجزي إطلاق الآخر و لا قوله: لا اعلم به و ربّما شهد للثاني الموثّق.

و لا يخفى انّه قد تعرّض هنا لقسم من موضع البحث و هو انّه هل يعتبر مع ذكر بعض منهم الخصوصيّات ان يتعرّض الآخرون لها أيضا أم لا؟ مع انّ

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا الى ما سيأتي من ذكر ذلك في بعض النصوص فانتظر.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 1، ص: 207

المستفاد من ظاهر عبارة المحقّق هو اعتبار ذكر الخصوصيّات و انّ على الشهود التعرّض لها أوّلا.

و مراده من الثاني هو فرض قول واحد من الشهود: لا أعلم، في قبال الآخرين المتعرّضين لذكر الخصوصيّات، فان الفرض الأوّل في كلامه هو تعرّض بعض منهم و إطلاق الآخرين، و امّا الموثّق فهو موثّق عمّار و قد نقله باختلاف يسير في الألفاظ، و متنه على ما في الوسائل هذا: عن عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل يشهد عليه ثلاثة رجال انّه قد زنى بفلانة و يشهد الرابع انّه لا يدرى بمن زنى قال: لا يحدّ و لا يرجم «1».

و لعلّه تمسّك به جوابا عمّا قاله في المسالك من خلوّ النصوص، و كأنّه يقول: انّ فيها تعرّضا لذلك غاية الأمر بالنسبة الى بعض فروضه و صوره.

و الظاهر انّه يستفاد من ذلك حكم ما لو تعرّض بعض الشهود للخصوصيّات و سكت الآخرون أيضا و انّه لا تقبل شهادتهم و ذلك لانّ عدم قبول الشهادة في مفروض الرواية ليس لأجل قول الرابع: لا اعلم، بخصوصه و تعبدا مخصوصا بتلك الشهادة، حتّى يتفاوت الحكم بالنسبة الى ما لو أطلق الرابع و لم يتعرّض للخصوصيّات حتّى بقوله: لا اعلم، بل ذلك لمكان عدم حصول أربعة شهداء، المشترك بينه و بين المقام.

و قد ظهر بما ذكرنا انّه لا حاجة في إسراء حكم المثال إلى سائر الأمثال، إلى التمسك بالإجماع المركّب و القول بأنّه يتمّ في غيره بعدم القائل بالفرق بين الأصحاب، كما تمسّك به في الرياض، حتّى يرد عليه ما أورده في الجواهر بقوله:

لا إجماع مركّب تسكن اليه النفس على عدم الاجتزاء بالشهادة على معاينة

الإدخال و الإخراج على وجه الزناء من غير تعرّض للزمان و المكان و لا على ما إذا تعرّض بعد و أطلق الآخر على وجه لم يعلم عدم شهادته بها ثم استنتج بقوله:

فالمتّجه الاقتصار في الموثّق على مورده.

و ذلك لانّ بما ذكرنا يحصل الغناء عن ذلك و هو انّه لا بدّ من تحقّق

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 208

أربعة شهداء على فعل واحد بحيث لا يجرى احتمال تعدّد الواقعة فإذا كانت الشهادة بحيث تحتمل التعدد فلا تنفع في إثبات الحدّ على المشهود عليه، فمن هذا الباب ما إذا تعرّض البعض و قال الباقي: لا اعلم، و منه ما إذا تعرّض بعض و أطلق الباقي، و منه ما إذا لم يتعرّضوا للخصوصيّات أصلا فإنّ الرمز الأصيل و الوحيد في ردّ الشهادة في مورد الرواية هو احتمال تعدّد الواقعة و هو محقّق في غير موردها أيضا. فكما انّه لو شهد اثنان بوقوع الزنا في مكان كذا و شهد آخران بوقوعه في مكان آخر فإنها لا تؤثّر شيئا، كذلك فيما إذا تعرّض بعض و أطلق الباقون مثلا.

و هذا الكلام يأتي في جميع الشهادات و ان كان بينها فرق من جهة العدد المعتبر فيها فاذا شهد شاهدان بوقوع القتل الّا انّ أحدهما قال بانّ زيدا قتل عمرا و قال الآخر: انّ زيدا قتل و لكن لا أدرى أنّه قتل اىّ شخص و لا اعلم انّه كان عمرا مثلا فإنّه لا تقبل هذه الشهادة و لا تؤثّر في استحقاق القصاص فليس لوليّ المقتول الاقتصاص منه لعدم إثبات أنّه قتل عمرا حتى يجوز له ذلك و هكذا

لو كانت شهادتهما من باب المطلق و المقيّد بان شهد أحدهما بأنّه قتل عمرا و قال الثاني: انّه قد قتل رجلا.

نعم في مورد لا يفضي الاختلاف في الخصوصيّات الى احتمال تعدّد المشهود به لا اشكال، و ذلك كما إذا شهد الشهود انّ هذا الرجل قد زنى بهذه المرأة لكنّهم اختلفوا في معرفتها و الجهل لها فبعضهم يعرفها و يسمّيها و بعض لا يعرفها و لا يسميها مثلا فان اختلافهم في المعرفة بها و عدمها و انّه يعرفها بعضهم دون الآخرين غير قادح بعد تعيينهم جميعا شخصها و ذلك لعدم احتمال التعدّد حيث عيّنوا شخصها و زمان الزنا و مكانه.

فقوله عليه السّلام في الرواية: لا يحدّ و لا يرجم إشارة الى عدم تماميّة الشهادة في الواقع و ذلك لاحتمال عدم اتّفاقهم على شي ء واحد.

و بذلك قد ظهر أيضا انّ ما أفاده في الجواهر بعد التمسّك بالموثّق بقوله:

و منه يعلم الوجه في اشتراط توارد الجميع على الخصوصيّة إذا ذكرها بعضهم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 209

فيختصّ المقام حينئذ بذلك تعبّدا من غير فرق بين الخصوصيّات «1»، لا يخلو عن إشكال فإنّه لو كان المراد عدم قبول الشهادة مع تمامها و كمالها و ذلك للتعبّد بسبب الخبر المزبور- كما انّه الظاهر من التعبد أيضا ذلك حيث انّ حقيقته الحكم بشي ء مع عدمه في الواقع أو بالعكس أو الحكم بكونه من أمر مع عدم كونه منه في الواقع أو بالعكس نظير قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ. وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ «2» فإنّه أطلق عليهم الفاسقين مع احتمال صدقهم في الواقع- ففيه انّه غير صحيح لأنّ الشهادة غير تامة على حسب

الفرض و ذلك لاحتمال التعدّد بان يكون شهادة بعضهم بشي ء و الآخرين على شي ء آخر.

نعم لو كان المراد منه انّ الشارع اعتبر الأربعة تعبّدا و لم يحصل ذلك فليس فيه اشكال.

الكلام في ما لو شهد بعض بالإكراه و بعض بالمطاوعة

اشارة

قال المحقّق: و لو شهد بعض انّه أكرهها و بعض بالمطاوعة ففي ثبوت الحدّ على الزاني وجهان أحدهما يثبت للاتّفاق على الزناء الموجب للحدّ على كلا التقديرين، و الآخر لا يثبت لانّ الزناء بقيد الإكراه غيره بقيد المطاوعة فكأنّه شهادة على فعلين.

أقول: ذهب الشيخ في المبسوط إلى الأوّل، و اختار في الخلاف، الثاني فقال في الأوّل: إذا شهد اثنان أنّه أكرهها و قال آخرون انّها طاوعته فلا حدّ عليها لأنّ الشهادة لم تكمل و الرجل لا حدّ عليه أيضا و قال بعضهم: انّ عليه الحدّ، و هو الأقوى عندي، لأنّ الشهادة قد كملت في حقّه على الزنا لانّه زان في الحالين و من قال بالأوّل، قال: لأنّ الشهادة لم تكمل على فعل واحد فإنّ الإكراه غير المطاوعة «3».

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 302.

(2) سورة النّور الآية 4.

(3) المبسوط الجلد 8 الصفحة 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 210

و قال في الثاني: إذا شهد أربعة شهود على رجل بالزنا بامرأة فشهد اثنان أنّه أكرهها و آخران انّها طاوعته قال الشافعي: انّه لا يجب عليه الحدّ و هو الأقوى عندي، و قال أبو حنيفة: عليه الحدّ و به قال أبو العبّاس. دليلنا انّ الأصل برأيه الذمّة، و إيجاب الحدّ يحتاج الى دليل و أيضا الشهادة لم تكمل بفعل واحد و انّما هي شهادة على فعلين لانّ الزنا طوعا غير الزنا كُرها «1».

و حاصل الاستدلال على استقرار الحدّ عليه- كما هو مختاره في المبسوط-

هو تمام الشهادة و كما لها بالنسبة إلى زناه لأنّ المرأة سواء كانت مكرهة في زناها أو مطاوعة فإنّ الرجل قد زنى بها فيجب عليه الحدّ لتحقّق الشهادة المعتبرة بالنسبة اليه.

و قد مال الى ذلك صاحب الجواهر فإنّه بعد ان نقل الاستدلال على وجوب الحدّ بالاتّفاق على الزنا الموجب للحدّ على كلا التقديرين قال:

و الاختلاف انّما هو في قول الشهود لا في فعله «2».

و فيه انّ منشأ الاختلاف في القول اختلاف المقول و لو لا اختلاف المقول لاتّحد القول، فاذا قال بعضهم: انّه قد زنى مكرها لها و قال آخرون: انّه قد زنى بها و هي قد طاوعته فالاختلاف انّما هي في قسمي الزنا المختلفين و ذلك لانّ زنا المكره قسم و زنا غير المكره قسم آخر، و الشاهد على ذلك انّ الأوّل موجب للقتل و الثاني للحدّ جلدا أو رجما و حينئذ فلم يتحقّق أربعة شهود على فعل واحد فان هذا الزنا فرد خاص و الآخر فرد آخر منه غير الأوّل، فيقال زنا اكراهى وزنا مطاوعى فهما موضوعان متباينان و لهما حكمان مختلفان لا تعلق لأحدهما بالآخر و هذا نظير تردّد القاتل بين هذا و ذاك الذي لا يمكن الاقتصاص هناك. و على الجملة فلا يجوز اجراء الحدّ على الفعل المردّد.

قال الشهيد الثاني: إذا شهد بعض الأربعة على رجل بأنّه زنى بفلانة مكرها لها في ذلك الزنا و شهد الباقون بأنّه زنى بها مطاوعة له فيه فلا حدّ على

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود مسئلة 24.

(2) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 330.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 211

المرأة قطعا لعدم ثبوت المقتضى لحدّها و هو الزنا مطاوعة و اختلف قولا الشيخ في الرجل

فقال في الخلاف: لا حدّ عليه و تحدّ الشهود لأنّها شهادة على فعلين فان الزنا بقيد الإكراه غيره بقيد المطاوعة و هي كشهادة الزوايا، و قال في المبسوط: يحدّ الرجل لثبوت الزنا على كلّ واحد من التقديرين المشهود بهما و لانّ الاختلاف انّما هو في أقوال الشهود لا في فعله و هذا مختار ابن الجنيد و ابن إدريس، و تردّد المصنّف مقتصرا على نقل القولين و كذلك العلّامة في الإرشاد و التحرير، و رجّح في القواعد و المختلف الأوّل و كذلك الشهيد في الشرح و لعلّه أوجه و يمنع ثبوت الزنا على كلّ واحد من التقديرين لانّه لم يشهد به على كلّ تقدير العدد المعتبر فهو جار مجرى تغاير الوقتين و المكانين المتّفق على انّه لا يثبت على تقديره انتهى «1».

و ان أورد عليه في الجواهر بقوله: و فيه وضوح الفرق بينهما ضرورة اقتضاء الاختلاف تعدّد الفعل بخلافه هنا المفروض اتفاق الجميع على اتّحاد الزمان و المكان و انّما اختلفوا في حال المزني بها و الزاني، الذي لا يقتضي تعدّد الفعل فيمكن اطّلاع من شهد بالمطاوعة على كون الإكراه الظاهر صوريّا نعم لو لم يتعرّضا للزمان و قلنا بكفايته و اختلفا في الإكراه و المطاوعة على وجه لا يمكن الجمع بينهما الّا بتعدّد الفعل اتّجه حينئذ عدم القبول فتأمّل جيّدا انتهى «2».

لكن فيه تأمّل و اشكال و ذلك لأنّه إذا كان السواد و البياض ضدّين فلا محالة يكون الأسود و الا بيض أيضا ضدّين و كذلك إذا كان الإكراه و المطاوعة ضدّين فلا محالة الفعل الصادر من الإكراه و الصادر من المطاوعة أيضا ضدّان و لا يجتمعان، و ليس المراد من كونهما قسمين انّ الواقع

في الخارج فعلان و قسمان فإنّه لا شكّ في انّ الفعل واحد و انّما تردّد امره بين ان يكون من هذا أو من ذاك و قد شهد بعض الشهود على الأوّل و بعض على الثاني و بعبارة أخرى

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 427.

(2) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 302.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 212

لا نعلم انّ الواقع في الخارج من إفراد هذا القسم أو من إفراد القسم الأخر فعدد الشهود في كلّ من الفردين ناقص، و اتّفاق الشهود انّما كان على الجامع و أمر كلّي لا على أمر شخصي الذي هو الموجب للحدّ.

ثمّ انّه قد يقال انّ الوجه في عدم إثبات الزنا أمر آخر- لا عدم شهادتهم على أمر واحد- و ذلك لانّ من شهد منهم على مطاوعة المرأة فقد قذفها و رماها بالزنا فيجري عليه حكم القذف و يكون فاسقا فلا تقبل شهادته.

و فيه انّه مع فرض وحدة الفعل فقد كملت شهود الزنا و يثبت ذلك، و معه فالشهادة تؤثّر في أمرين أحدهما إثبات حدّ الزنا على الزاني، ثانيهما نفى حدّ القذف كما في كلّ مورد يؤخذ بشهادة الشهود الذين شهدوا علىّ الزنا، و الّا تكون الشهادة قذفا، و على الجملة فمع وحدة الفعل ليس هناك قذف و انّما يتحقّق هو فيما كان الفعل بالمآل متعدّدا، و بعبارة اخرى انّه مع كمال الشهود لا تدخل الشهادة تحت عنوان القذف بل اللازم عليه هو ترتيب آثار الزنا المشهود به.

ثم انّ العلّامة في القواعد ذكر الوجهين في المسئلة: ثبوت الحدّ على المشهود عليه لكمال الشهادة على الزنا و كون اختلافهم في فعلها لا في فعله، و ثبوت الحدّ على الشهود، مستدلا

بتغاير الفعلين ثم قال: و هو أوجه و لا حدّ عليها إجماعا ثمّ ان أوجبنا الحدّ بشهادتهم لم يحدّ الشهود و الّا حدّوا و يحتمل ان يحدّ شهود المطاوعة، لأنّهما قد قذفا المرأة بالزنا و لم تكمل شهادتهم عليها دون شاهدي الإكراه لأنّهما لم يقذفا و قد كملت شهادتهم و انّما انتفى عنه الحدّ للشبهة انتهى.

أقول: يمكن ان يورد عليه بأنّه بعد البناء على إيجاب الحدّ بشهادتهم و إثبات الزنا بذلك لا وجه لحدّ الشهود مطلقا فكيف احتمل ان يحدّ شهود المطاوعة، و بعبارة اخرى امّا ان نقول بأنّ الشهادة قد كملت و على هذا فلا وجه لحدّ الشهود بل يحدّ المشهود عليه لا غير، و امّا ان نقول بعدم ذلك لكون بعضهم قاذفا و فاسقا فيلزم حدّ الشهود دون المشهود عليه لانّه لم تستكمل الشهادة.

و على الجملة فلو تحقّق انّ الشهادة كانت على فعلين كما استوجهه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 213

العلامة قدّس سرّه بنفسه فلم يبق الّا حدّ الشهود و لا مجال لانتفاء الحدّ عنهم و ان قلنا بعدم التعدّد كما هو المفروض و المبنى في كلامه- حيث قال: ان أوجبنا إلخ- فلا بدّ من اجراء الحدّ على المشهود عليه و لا شبهة كي ينتفي الحدّ بعد فرض إيجاب الحدّ و ثبوته [1].

و في الجواهر بعد لفظ الشبهة الوارد في كلام العلامة المذكور آنفا: اى لا لعدم الثبوت، ثم قال قدّس سرّه: و فيه انّ الشهادة بالمطاوعة أعمّ من القذف لاحتمال الشبهة فيها و ان كان هو زانيا.

يعنى انّه و ان شهد شاهد المطاوعة بمطاوعتها له الّا انّ مجرّد ذلك لا يلازم قذفها بالزنا و ذلك لإمكان مطاوعتها زعما منها

انّ ذلك يحلّ لها، هذا.

أقول: و فيه انّ هذا الاشكال و ان كان يصحّ و يأتي على مذهب من يعتبر التصريح في الشهادة امّا على مذهب من يكتفى بلفظ ظاهر في المراد كما أكدّ عليه صاحب الجواهر آنفا فلا، فإنّه إذا قال بعض انّها كانت مكرهة على الزنا و شهد الباقون انّها قد طاوعته في ذلك، فان ظاهر هذا انّها قد زنت و كانت زانية لا انّه اشتبه عليها الأمر، فيجب عليها الحدّ.

هذا مع انّه فرق بين قبول الشهادة و باب القذف حيث انّه لا حاجة في القذف الى الصراحة بل يكفى قول: يا بن الزانية أو أنت زان و أمثال ذلك كما ترى كلماتهم في القذف، و الحاصل انّه يكفى في القذف مجرّد النسبة على ما هو ظاهر إطلاق الأدلّة و الكلمات من غير توقّف على ادّعاء الرؤية أو استعمال لفظ صريح في ذلك بل يكفى اللفظ الظاهر في الزنا الحقيقي.

اختلاف الشهود في قميص الزاني

قال في القواعد: لو شهد اثنان بأنّه زنى و عليه قميص أبيض و اثنان أنّ

______________________________

[1] أقول: و في دفتر مذكّراته دام ظلّه بعد نقل كلام القواعد: أقول: مع اعترافه بتغاير الفعلين فكيف يقال: و قد كملت شهادتهم عليه الّا ان يكون المقصود على القول الآخر و لكن عليه لا ينفى الحدّ انتهى هذا لكن لا يخفى انّ توجّه الاشكال على العلامة في المقام محلّ تأمل و اشكال فراجع كلام العلامة ثانيا ان شئت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 214

عليه قميصا أسود ففي القبول نظر.

و في الجواهر: و فيه انّه لا مانع من اجتماع الخصوصيّتين فلا تعدّد للفعل.

أقول: انّه و ان كان لا مانع من اجتماعهما لكنّ العبارة ظاهرة في انحصار

القميص كما لا يخفى.

إذا شهد بعض فلا يرتقب إتمام البيّنة بل يحدّ الشهود

قال المحقّق: و لو أقام الشهادة بعض في وقت حدّوا للقذف و لم يرتقب إتمام البيّنة لأنّه لا تأخير في حدّ.

و في الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف محقّق أجده فيه الّا ما يحكّى عن جامع ابن سعيد و هو شاذّ [1].

و قال العلّامة في القواعد- عند عدّ شرائط ثبوت الزنا بالبيّنة-: الثالث اتّفاقهم على الحضور للإقامة دفعة فلو حضر ثلاثة و شهدوا حدّوا للفرية و لم يرتقب إتمام الشهادة لأنّه لا تأخير في حدّ نعم ينبغي للحاكم الاحتياط بتفريق الشهود في الإقامة بعد الاجتماع و ليس لازما و لو تفرّقوا في الحضور ثم اجتمعوا في مجلس الحكم على الإقامة فالأقرب حدّهم للفرية انتهى.

أقول: ظاهر عبارة المحقّق المذكورة آنفا هو اشتراط اجتماع الشهود حين الشهادة بخلاف كلام العلامة فإنّ الظاهر منه اعتبار اجتماعهم حين الحضور، و ان أمكن ان يكون مراده ما هو الظاهر من كلام المحقّق، غاية الأمر أنّه أضاف اجتماعهم وقت الحضور أيضا و لذا قال في الجواهر انّه قد بالغ الفاضل في القواعد و ولده في الشرح فاعتبر حضورهم قبل الشهادة للإقامة. إلخ.

و كيف كان فعلى ما هو ظاهر العبارات، لو حضر بعضهم و شهد ثم بلا أيّ تأخير شهد الباقون فإنّه يكتفى بذلك عند المحقّق دون العلّامة لأنّهم لم يحضروا

______________________________

[1] قال ابن سعيد في جامع الشرائع الصفحة 548: و ان شهد ثلاثة في وقت ثمّ تمّ العدد في وقت آخر ثبت الزنا، و روى: لا نظرة فيه و يحدّون و يدرء الحدود بالشبهات.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 215

جميعا و معا و ان كانوا مجتمعين على الشهادة بعد انّ من المسلّم عدم اعتبار أداءهم الشهادة

دفعة واحدة و معا.

و قد وافقه في ذلك ولده فخر الدين فقال في شرح كلام والده المذكور آنفا: وجه القرب انّ اجتماعهم على الحضور شرط في ثبوت الحدّ على المشهود عليه و انتفاء الشرط يوجب انتفاء المشروط و كلّما لم يوجب شهادة الزنا الحدّ أوجبت حدّ القذف، و يحتمل عدم وجوب الحدّ و يمنع اشتراط الحضور دفعة و كونه وقع في حضرة النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله على هذه الحالة لا يوجب اشتراطه بل جاز ان يكون اتفاقا.

ثم قال: و الأقرب عندي الأوّل لأنّه حدّ مبنىّ على التخفيف انتهى «1» و لا يخفى انّه لم يقم دليل واضح على مختار العلّامة أعلى الهّٰا مقامه.

و هنا قول ثالث ذهب اليه الشيخ قدّس سرّه في الخلاف، قال: إذا تكامل شهود الزنا فقد ثبت الحكم بشهادتهم سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس و شهادتهم متفرّقين أحوط و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: ان كانوا شهدوا في مجلس واحد ثبت الحدّ بشهادتهم و ان كانوا شهدوا في مجالس فهم قذفة يحدّون و المجلس عنده مجلس الحكم فان جلس بكرة و لم يقم إلى العشيّ فهو مجلس واحد فان شهد اثنان فيه بكرة و آخران عشيّة ثبت الحدّ، و لو جلس لحظة و انصرف و عاد فهما مجلسان.

ترى تصريحه بأنّه يثبت الحكم بتكامل الشهود سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس متعدّدة و الظاهر من المجالس المتعدّدة هو تعدّد المجالس حقيقة بأن يشهد بعضهم في هذا اليوم مثلا و بعضهم في يوم آخر لا ان يشهد كلّ من الشهود في بيت فإنّه شي ء آخر ذكره بقوله: و شهادتهم مفترقين أحوط، و على هذا فلا

فرق بين اجتماعهم في الحضور و عدمه.

و كيف كان فقد استدلّ على ما ذكره بقوله: دليلنا كلّ ظاهر ورد بأنّه إذا شهد أربعة شهود وجب الحدّ، يتناول هذا الموضوع فإنّه لم يفصّل و أيضا قوله

______________________________

(1) إيضاح الفوائد الجلد 4 الصفحة 476- 475.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 216

تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جلدة، و لم يفصّل، و أيضا فإذا شهد واحد أوّلا لم يخل من أحد أمرين امّا ان يكون شاهدا أو قاذفا فبطل ان يكون قاذفا لانّه لو كان قاذفا لم يصر شاهدا بإضافة شهادة غيره اليه فاذا ثبت انّه ليس بقاذف ثبت انّه يكون شاهدا و إذا كان شاهدا لم يكن قاذفا بتأخّر شهادة غيره من مجلس الى مجلس آخر انتهى «1».

أقول: انّ مقتضى إطلاقات الأدلّة كتابا و سنّة هو الاكتفاء في الحكم بالزنا بأربعة شهداء مطلقا سواء كان حضورهم في المجلس دفعيّا أو بالتدريج، و بلا فرق بين كونهم معا حاضرين و مجتمعين في المجلس و عدمه و ذلك لصدق شهادة أربعة شهداء، كما انّ مقتضى هذا الإطلاق هو القول بأنّه لا فرق في إقامتهم الشهادة متعاقبا و بدون اىّ تأخير أو معه، غاية الأمر انّا قد خرجنا عن هذا الإطلاق بسبب الروايات مثل قوله صلوات اللّٰه عليه بعد ان شهد ثلاثة: أين الرابع؟ [1] كما انّا قد نخرج بسبب الروايات عمّا افاده الشيخ من عدم الفرق بين وحدة المجلس و تعدّده فان مقتضى بعض الاخبار هو اعتبار وحدة المجلس.

ثم انّ المحقّق الأردبيلي عند تعرضه في شرح الإرشاد لقول العلّامة:

و لو سبق أحدهم بالإقامة حدّ للقذف و لم يرتقب إتمام الشهادة.

قال: إذا

حضر بعض الشهود مجلس الحكم و شهد بالزنا قبل الباقي يجب حدّ الشاهد الذي أقام و لا ينتظر باقي الشهود و إتمام الشهادة و عدمها. فحضور الشهود كلّهم مجلس الحاكم و اجتماعهم فيه قبل الشهادة سواء دخلوا مجتمعين أو متفرّقين شرط لسماع شهادتهم و اقامة شهادتهم و ثبوت الحدّ بها على المشهود عليه و سقوطه عنهم فلا يجوز قبل الاجتماع و لا ينفع نعم يجوز التفرّق في الإقامة بل قالوا يستحبّ التفرقة بين الشهود بعد اجتماعهم حال الإقامة فيفرّق بعد الاجتماع و يستشهد واحدا بعد واحد كما قالوا باستحباب ذلك في سائر الأحكام لكن مع الريبة و هنا مطلقا للاحتياط و التخفيف، و دليل حدّ

______________________________

[1] سيأتي نقل الخبر بكامله.

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 الصفحة 153 المسئلة 31.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 217

الشاهد السابق من غير انتظار الباقي هو انّه صدق عليه انّه افترى و رمى بالزنا و لم يأت بأربعة شهداء و انّه كاذب فيحدّ بالفعل للفرية إذ لا تأخير لحدّ على ما ثبت بالرواية بل بالإجماع و يدلّ عليه أيضا رواية نعيم بن إبراهيم عن عباد البصري قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام. و رواية النوفلي عن السكوني عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام عن أبيه عن على عليه السّلام في ثلاث شهدوا.

ثم قال: و قد ترى سندهما كأنّه انجبر بالشهرة و فيه ما مرّ مرارا.

أقول: انّ من المسلّم عندهم انّ الروايتين ضعيفتان لكنّهم يقولون بانجبار الضعف بالعمل نعم للأردبيلي رحمه اللّٰه في انجبار ضعف الخبر بالشهرة تأمّل و اشكال.

ثم قال: و قد بالغ في القواعد في ذلك حيث قال باشتراط اجتماعهم في الحضور مجلس الحكم فلو تفرّقوا بالحضور حدّوا و

هو بعيد و كذا الأوّل.

فهنا قد استبعد كلام العلّامة أوّلا و عطف عليه في ذلك القول الأوّل الذي هو في الحقيقة قول الشرائع أيضا- فهو أيضا عنده بعيد- و علّل ذلك بقوله:

لانّ ثبوت الحدّ بعد غير معلوم حتّى يقال: و لا تأخير للحدّ فان الشاهد قد يكمل شهادته بالباقي و قد يكون اعتمادا على ذلك شهد، فحدّه قبل شهادة الباقي و معلوميّة حالهم- خصوصا مع العلم بوجود الباقي و انّه سيجي ء عن قريب و تسهّل- محلّ التأمل، و لانّه يصدق بعد شهادة الباقي انّه اتى بأربعة شهداء فلا حدّ عليه بل لا يبعد الصدق قبله و ان كان على سبيل المجاز و بالجملة إبطال هذه الشهادة و حدّ الشهود بمجرّد السبق مشكل مع التخفيف في الحدود، و الدرء بالشبهات، بل ينبغي ان يحمل على الوجه المتعارف في ذلك فان كمل الشاهد المسقط و الّا حدّوا.

ثم قال: و كأنّه لذلك قال الشيخ في الخلاف بعدم اشتراط اتّحاد المجلس لانّه قال: إذا تكاملت. أحوط، و تأويل المختلف و حمله على تفرّقهم بعد اجتماعهم لإقامة الشهادة دفعة نظرا الى انّ ذلك هو المذهب عندنا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 218

بعيد الّا ان يثبت الإجماع و هو بعيد لخلاف الشيخ المتقدّم على الظاهر نعم ان شهد البعض و نكل البعض حدّ الشاهد للفرية و عدم الإتيان بالأربعة و لحسنة محمد بن قيس.

و قد أيّد ما ذهب اليه من كفاية الأربعة و ان كان قد وقع تراخ بالنسبة الى بعض منهم، بكلام الشيخ في الخلاف و هو عدم اشتراط اتّحاد المجلس- و قد مرّ منا نقل كلام الشيخ فراجع- و استبعد ما ذكره العلّامة في المختلف تأويلا

لكلام الشيخ من التفرّق بعد الاجتماع لإقامة الشهادة، و عليه فلا يكون نظر الشيخ من تعدّد المجالس تفرّق الشهود في إقامة الشهادة بعد اجتماعهم معا بل المراد هو حصول التراخي في الشهادات مستقلّا.

و على ذلك فلم يبق في إثبات اعتبار تتابع الشهادات و حدّ الشهود لو وقع بينها تراخ، سوى الروايات على ما هو المبنى من الجبر و الّا فأدلّة حجّية الشهادة شاملة لما إذا تتابعت الشهادات أو بالتراخي و حصول الفصل بينهما و النتيجة انّه لو وقعت الشهادات كلّ واحدة عقيب الأخرى حتّى كملت فهو و الّا فيحدّ الشهود خلافا للشيخ حيث جوّز تعدّد المجالس.

و امّا كلام العلّامة في المختلف فهو هذا: قال الشيخ في الخلاف: إذا تكاملت شهود الزنا فقد ثبت الحكم بشهادتهم سواء شهدوا في مجلس واحد أو مجالس و شهادتهم متفرّقين أحوط. و قال ابن حمزة: و انّما يقبل البيّنة مع ثبوت العدالة بستّة شروط: قيامها في مجلس واحد، و المعتمد ما قاله الشيخ للعموم و لاستحباب تفريق الشهود، و ان قصد ابن حمزة اجتماعهم لإقامة الشهادة دفعة صحّ كلامه لانّه المذهب عندنا و قال سلّار: كلّ حدود الزنا على اختلافه لا يثبت إلّا بشهادة أربعة رجال على الوجه الذي ذكرناه في مجلس واحد انتهى كلامه [1].

______________________________

[1] مختلف الشيعة الصفحة 764. أقول لعلّ التنزيل المزبور يستفاد من انّ العلّامة أولا نقل كلام الشيخ ثم كلام ابن حمزة المخالف له النّاطق باعتبار قيام الشهود في مجلس واحد، ثم جعل المعتمد كلام الشيخ و بذلك ردّ كلام ابن حمزة ثم صدّق كلام ابن حمزة إذا كان مقصوده اجتماعهم لإقامة الشهادة دفعة و صحّح كلامه على هذا الفرض و لازم ذلك انّه على هذا

يكون ابن حمزة موافقا للشيخ فيعلم انّ الشيخ يقول بذلك بنظر العلّامة حيث انّ قول الشيخ هو المعتمد عنده.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 219

أقول: و فيه انّ ذلك لا يساعده دليل الشيخ و ذلك لانّه علّل ما ذكره بانّ الشاهد الأوّل امّا ان يكون قاذفا أو شاهدا لكنّه ليس بقاذف و ذلك لانّه لو كان قاذفا كان لا ينفع ضمّ شهود أخر إليه لكونه فاسقا مع انّه لو ضمّت إليه الثلاثة لقبلت و حكم بالحدّ على المشهود عليه فاذا ثبت انّه ليس بقاذف بل هو شاهد فاذا لا يضرّه تأخير سائر الشهود من مجلس الى مجلس آخر هذا و كانّ الشيخ لم يعمل بالرواية الدّالة على اعتبار حضور الشهود كلّهم عند إقامة الشهادة كي تتحقق الشهادات متعاقبة.

هذا و لكن الإنصاف انّه يمكن استفادة اعتبار اجتماعهم قبل مقام الشهادة من كلام الشيخ و ذلك لمكان قوله: و شهادتهم متفرّقين أحوط.

بيان ذلك انّ الاحتياط جار فيما أمكن ما يقابله أيضا حتّى يكون الأوّل احتياطا و ما يقابله خلاف الاحتياط، و فيما نحن فيه يكون تفريق الشهود أحوط، إذا أمكن التفريق و الاجتماع كلاهما و ذلك لا يتحقّق الّا بان يكون الشهود حاضرين عند إقامة الشهادة حتّى يفرق الحاكم بينهم في أداءها، و امّا إذا لم يكن بعضهم حاضرين فهو أمر قهري و لا يصدق عليه انّه احتياط، فمن ذلك يمكن ان يستفاد انّ مراد الشيخ أيضا اعتبار حضورهم عند الإقامة جميعا الذي يعبّر عنه بالمجلس الواحد عرفا غاية الأمر انّه يقول بجواز إقامتهم الشهادة و أداءها في هذه الحال و في حال افتراق كلّ منهم عن الباقين و قد أضاف انّ الثاني هو المستحبّ

لئلا يطّلع أحدهم على ما شهد به الآخر، و اللاحق على ما شهد به السابق، فيتلّقى منه الشهادة.

و ربّما يؤيّد ذلك انّ ابن إدريس عبّر في السرائر بذلك اى مجلس واحد أو مجالس- فإنّه قال: إذا تكامل شهود الزنا فقد ثبت الحكم بشهادتهم سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس و لا يعتبر حضور الشهود لأداء الشهادة في وقت واحد الّا ههنا إلخ «1»- مع انّه قال قبل ذلك: و لا تقبل شهادة الشهود على الزنا إلّا إذا حضروا في وقت واحد فان شهد بعضهم و قال: الآن يجي ء

______________________________

(1) السرائر الطبع الجديد الجلد 3 الصفحة 434.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 220

الباقون جلد حدّ المفتري لأنّه ليس في ذلك تأخير انتهى [1].

وجه التأييد و بيانه انّه عبّر في المقام بالمجلس أو المجالس و الحال انّه اعتبر قبل ذلك و في كلامه السابق، الحضور في وقت واحد، فمن هذا يعلم انّ المراد من المجلس أو المجالس هو تفريق الحاكم بين الشهود و عدمه عند الشهادة، بعد انّه يعتبر حضورهم جميعا قبل ذلك.

و بالجملة فعلى هذا فالشيخ أيضا موافق للمشهور و لذا قال في الجواهر:

و حينئذ لا خلاف في المسئلة الّا من ابن سعيد الذي قد سمعت شذوذه انتهى.

استدلّ المشهور بروايات منها رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علىّ عليه السّلام في ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا فقال علىّ عليه السّلام أين الرابع؟

قالوا: الآن يجي ء فقال علىّ عليه السّلام: حدّوهم فليس في الحدود نظر ساعة «1».

و منها ما رواه عباد البصري قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا و قالوا: الآن نأتي بالرابع قال: يجلدون حدّ القاذف

ثمانين جلدة كلّ رجل منهم «2».

و لو استشكل في الأولى باحتمال كونها قضيّة في واقعة و لعلّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعلم بانّ الرابع لا يأتي أو يأتي بعد مضىّ مدّة فلذا حكم بحدّ الشهود، فإنّ الرواية الثانية لا يجرى فيها هذا الاحتمال لانّ السؤال فيها قد وقع عن أمر كلّي.

______________________________

[1] السرائر الجلد 3 الصفحة 431 أقول: و لا يخفى انّ عبارة الجواهر في الطبع الجديد مغلوطة محرّفة، و الصحيح هو عبارته في الطبعة القديمة و إليك متنها في الجديد: و ربّما أيّد الحمل المزبور بأنّه عبّر في السرائر انّه قال قبلها. إلخ و امّا متن القديم فهذا: و ربّما أيد الحمل المزبور بأنّه عبّر به في السرائر مع انّه قال قبلها إلخ و قد أوجب تحريف النسخة الجديدة أن يستشكل على ابن إدريس بأنّه ليس في ما سبق من كلام الشيخ هذا الكلام، ثم يوجّه باحتمال انّه ربّما كان في الخلاف الذي كانّ عند ابن إدريس فلا تغفل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 8.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 221

فقد استفيد من الاخبار اعتبار حضورهم و اجتماعهم قبل الشهادة و كذا اعتبار تتابع شهاداتهم و عدم فصل فيها.

و الإنصاف عدم استفادة الأوّل منها و انّه لا دلالة لها على عدم قبول الشهادة إذا لم يكن الرابع مثلا حاضرا الّا انّه قد حضر بمجرّد ان تمّت شهادة الثالث و شهد بما شهد به الأّولون و من قبله.

فهل ترى من نفسك انّ في قصّة قضاء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام- رواية السكوني- لو كان

الرابع يدخل مجلسه و بمجرّة قوله عليه السّلام: أين الرابع؟ يجيب: ها انا حاضر، فهل كان الامام يردّ شهادته و لم يقبل منه؟

كلّا.

فتحصّل انّه قد استثنى من حجيّة الشهادة ما إذا أدّوها بتراخ و انفصال كما إذا شهد بعضهم و لم يكن الباقي حاضرا و بعد مضىّ زمان دخل و شهد فان هذه الشهادة تكون مردودة.

أربعة فروع في المقام

اشارة

ثم انّ هنا فروعا تناسب المقام نتعرّض لها تبعا لصاحب الجواهر و ان لم يذكرها المحقّق قدّس سرّهما.

الفرع الأوّل

لو شهد بعض و ابى الآخر بعد الحضور لها حدّ الشاهد للقذف كما صرّح به غير واحد نافيا للخلاف فيه.

أقول: المفروض انّ الشهود قد حضروا و اجتمعوا لإقامة الشهادة و قد أدّاها بعضهم الّا انّه أبي من أداءها الآخرون فهنا لا خلاف في عدم ثبوت الحدّ على المشهود عليه لعدم ثبوت الزنا كما انّه لا خلاف في عدم حدّ الناكل عن الشهادة، و انّما الكلام في حدّ من أقامها و عدمه و قد وقع الخلاف في ذلك بين العامّة، و امّا الخاصّة فذهبوا الى وجوب الحدّ عليه للقذف و لا خلاف بينهم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 222

في ذلك الّا عن العلّامة أعلى اللّٰه مقامه و ادّعى الشيخ الإجماع على ثبوت الحدّ، و نفى الآخرون الخلاف فيه.

و قد استدلّ على ذلك بأمور.

أحدها ما مرّ من ادّعاء الإجماع و عدم الخلاف فيه.

ثانيها صحيحة محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا أكون أوّل الشهود الأربعة في الزنا أخشى ان ينكل بعضهم فأجلد «1».

ثالثها فحوى الخبرين المذكورين آنفا- خبر السكوني و خبر عباد البصري- فإنّه إذا وجب حدّ ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا مع عدم حضور الآخر فهم اولى بالحدّ إذا كان الرابع حاضرا و ابى عن إقامة الشهادة لأنّه يأتي في الأوّل احتمال انّ الرابع لم يستطع من الحضور و الّا فلو كان متمكّنا منه لحضر، و ادّى الشهادة، و الحاصل انّه قد عرض له مانع عن الحضور، فاحتمال كذب الشهود هناك ضعيف، بخلاف الثاني حيث انّ الرابع

مثلا على حسب الفرض حاضر و مع ذلك فلا يشهد و هذا ممّا يقوّى احتمال كذب مقيمي الشهادة فكأنّه بابائه يكذّبهم فيها.

رابعها قصّة المغيرة مع عدم إنكار أحد فيها، و قد تمسّك بهذا، الشيخ قدّس سرّه بعد ان تمسّك بإجماع الفرقة و اخبارهم.

قال في الخلاف: إذا حضر أربعة ليشهدوا بالزنا فشهد واحد أو ثلاثة و لم يشهد الرابع لم يثبت على المشهود عليه بالزنا لأنّ الشهادة ما تكاملت بلا خلاف و من لم يشهد لا شي ء عليه أيضا بلا خلاف و من شهد فعليه الحدّ، حدّ القذف و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الشافعي في أحد قوليه في القديم و الجديد و قال في الشهادات: لا يجب الحدّ و هي المشهورة بالقولين و الأوّل أظهر في الآية و الثاني أقيس.

ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا ففيه إجماع الصحابة روى

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من حدّ القذف الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 223

ذلك عن علىّ و عمر، و لا مخالف لهما امّا عليّ ع فروى انّ أربعة أتوه ليشهدوا على رجل بالزنا فصرّح ثلاثة و قال الرابع: رأيتهما تحت ثوب، فان كان ذلك زنا فهو ذلك، و امّا عمر فالقصّة مشهورة و هو انّه استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة و كان نازلا في أسفل الدار، و نافع و أبو بكرة و شبل بن معبد و زياد في علوها فهبّت ريح ففتحت باب البيت و رفعت الستر فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة فلمّا أصبحوا تقدّم المغيرة ليصلّي فقال له أبو بكرة: تنح عن مصلّانا فبلغ ذلك عمر فكتب ان يرفعوا اليه و كتب الى

المغيرة: قد يحدث عنك بما ان كان صدقا فلو كنت متّ من قبله لكان خيرا لك فاشخصوا إلى المدينة فشهد نافع و أبو بكرة و شبل بن معبد فقال عمر: أؤدي المغيرة الأربعة، فجاء زياد ليشهد فقال عمر:

هذا رجل لا يشهد الّا بالحق إن شاء اللّٰه فقال: امّا بالزنا فلا اشهد و لكنّي رأيت أمرا قبيحا فقال عمر: اللّٰه أكبر و جلد الثلاثة فلمّا جلد أبو بكرة فقال: اشهد انّ المغيرة زنا فهمّ عمر بجلده فقال له علىّ عليه السّلام: ان جلدته فارجم صاحبك يعني المغيرة.

فموضع الدلالة انّ هذه قصّة ظهرت و اشتهرت و لم ينكر ذلك أحد.

و استدلّ من قال بعدم الحدّ على من شهد بأمور.

منها ما حكاه الشيخ قدّس سرّه في الخلاف فإنّه بعد ما نقلناه من عبارته و كلامه قال: و من قال: لا حدّ عليهم استدلّ بقول تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً، فأخبر أنّ القاذف من إذا لم يأت بأربعة شهداء حُدّ، و هذا ليس منهم فإنّه لا يحدّ إذا اتى بأقلّ منهم و هو إذا شهد معه ثلاثة فكلّ من خرج من قذفه بأقلّ من أربعة شهود لم يكن قاذفا انتهى «1».

و منها ما تمسك به العلامة أعلى اللّٰه مقامه- و قد مرّ انّه قدّس سرّه قائل بعدم الحد- فإنّه في المختلف عنون المسئلة و ذكر أوّلا كلام الشيخ في الخلاف المذكور آنفا ثم قال: و قال الشيخ في المبسوط: الذي يقتضيه مذهبنا انّ

______________________________

(1) انظر الخلاف كتاب الحدود المسئلة 32.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 224

عليهم الحدّ، و على ما يحكمون أصحابنا في قصّة المغيرة، لا حدّ عليهم و

الشيخ نقل قصّة المغيرة في الخلاف و جعله دليلا بعد استدلاله بإجماع الفرقة. و قول الشيخ في المبسوط مشكل، و ابن الجنيد قال: لو شهد ثلاثة و تأخّر الرابع الى تصرّم مجلس الحكم أو قدر ساعة صاروا كلّهم بمعنى القذفة.

ثمّ تعرّض لكلام من صاحب الشامل و نقل عنه انّه قال: إذا لم يتمّ عدد الشهود كأن شهد ثلاثة أو شهد واحد فهل يكون قذفة يجب عليهم القذف؟ فيه قولان أحدهما و هو المنصوص المشهور انّهم يحدّون و به قال مالك و أبو حنيفة، و الثاني انّهم لا يحدّون لأنّه أضاف الزنا اليه بلفظ الشهادة عند الحاكم فلم يجب عليه الحدّ كما لو شهد الأربعة ثم رجع واحد منهم، فلم يحدّ الباقين.

قال قدّس سرّه: و هذا القول عندي لا يخلو من قوّة و الّا لأدّى ذلك الى امتناع الشهود عن إقامتها لأنّ تجويز ان يترك أحدهم الشهادة يقتضي تجويز إيقاع الحدّ عليه فيمتنع من أدائها، و لأنّ أصحابنا نصّوا على انّه لو شهد أربعة فردّت شهادة واحد منهم بأمر خفي لا يقف عليه الّا الآحاد يقام على المردود الشهادة الحدّ دون الثلاثة لأنّهم غير مفرّطين في إقامتها فإنّ أحدا لا يقف على بواطن الناس فكان عذرا في إقامتها فلهذا لا حدّ و ما ذكرناه من الأمور الباطنة «1».

أقول: و الإنصاف انّ ما أورده على القول بحدّ الشهود، وارد لا محيص عنه فان من احتمل نكول واحد من الشهود يحتمل لا محالة أن يحدّ هو بنفسه، و لا يقدم على إقامة الشهادة طبعا و الحال هذه، و قلّ جدّا من يقدم عليها و لا يبالي بإجراء الحدّ عليه مع نكول بعض.

و لا يمكن الذّبّ عن هذا الاشكال

بعدم الاقدام على الشهادة بدون العلم بتكميل الشهادة و عدم نكول بعض الشهود.

و ذلك لانّه لو لم يكونوا يقولون بوجوب الحدّ على الشهود مع نكول البعض مطلقا حتّى و لو حصل لهم العلم بعدم تخلّف الباقين لكان ذلك حسنا

______________________________

(1) مختلف الشيعة الصفحة 756.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 225

و امّا مع حكمهم بوجوب الحدّ على الشهود مع نكول بعض منهم و ان كانوا عالمين بذلك فلا.

و على الجملة فهذه عويصة في الباب، فكيف يمكن الحكم بوجوب الحدّ على من اقام الشهادة مع إباء واحد منهم بعد ذلك، و الحكم بوجوب أداء الشهادة و حرمة كتمانها و انّ من يكتمها فإنّه آثم قلبه «1»؟ و معلوم انّ الحكم بحدّ الشهود المطمئنين بعدم تخلف واحد منهم عن الأداء، أكبر ذريعة الى عدم إقدام أحد على الشهادة.

فلو أمكن الاعتراض على الشهود فيما إذا شهدوا مع عدم حضور الرابع بأنّه لماذا اقدمتم على الشهادة و قد رأيتم انّ رابعكم لم يحضر، فلا يمكن هذا الاعتراض عليهم في المقام لانّ الشهود كلّهم حاضرون، و المقدم على الشهادة كان مطمئنا بإقدام الباقي عليها أيضا، و الحاصل انّ الحكم بحدّ الشهود هنا مخالف بظاهره للقواعد الشرعيّة الثابتة.

و بعبارة اخرى انّ الثلاثة الذين أقدموا على إقامة الشهادة مع حضور الرابع و تهيئة لذلك قد أقدموا عليها إقامة لأمر اللّٰه و اطاعة لواجبه تعالى و انقيادا لنهيه عن الإباء بقوله تعالى وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا «2» غاية الأمر انّ الرابع قد عصى و خان أو خاف من أداء الشهادة أو لم يقمها لأغراض دنيويّة فما هو تقصيرهم حتّى يحدّوا؟ و كيف يرضى الفقيه ان يحكم بحدّ من أراد

اطاعة ربّه؟

و على هذا فالمتّجه هو قول العلّامة أعلى اللّٰه مقامه و لا مناص عن الذهاب اليه، و حمل الاخبار حتّى صحيحة قيس المذكورة آنفا على ما إذا لم يكن هناك اطمينان بتمام الشهادة و قيام الباقي بها، و الّا فتنافي حكم العقل، فإنّهم إذا أقدموا على الشهادة اطمينانا بقيام الباقي أيضا فهم معذورون عقلا و كيف لا يكون العذر المقبول عند العقل مقبولا عند الشرع؟ نعم لو لم

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 283.

(2) سورة البقرة الآية 283.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 226

يكونوا مطمئنين بقيام الباقي فلا إشكال في الحكم بالحدّ لأنّهم مقصّرون.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 226

أضف ال بذلك كلّه انّه ما الفرق بين المقام و بين من تردّ شهادته بأمر خفي حيث لم يحدّ الباقون هناك و يحكم بحدّ الباقين في المقام و كذلك اىّ فرق بين ما إذا رجع بعضهم عن شهادته حيث يحكمون بان لا حدّ عليهم، و بين المقام الذي حكموا فيه بوجوب الحدّ عليهم؟

و قد ظهر ممّا ذكرناه انّ ما أورده صاحب الجواهر على العلامة- بقوله:

فما عن المختلف من عدم الحدّ لبعض الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح معارضا للدليل الشرعي واضح الضعف انتهى- ليس في محلّه و ذلك لانّه ليس وجها اعتباريا بل هو حكم العقل الصريح.

الفرع الثاني

و لو شهدوا و كانوا فسّاقا كلّا أو بعضا حدّوا، ذكره في الجواهر، ثمّ نقل عن الخلاف و المبسوط و السرائر و الجامع و التحرير التفصيل بين ما إذا كان ردّ الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى

و الفسق فيجب حدّ الجميع و ما إذا كان لمعنى خفي فإنّه يحدّ مردود الشهادة دون الباقين لأنهم غير مفرّطين.

قال الشيخ في الخلاف: إذا شهد الأربعة على رجل بالزنا فردّت شهادة واحد منهم فان ردّت بأمر ظاهر لا يخفى على أحد فإنّه يجب على الأربعة حدّ القاذف و ان ردّت بأمر خفيّ لا يقف عليه الّا آحادهم فإنّه يقام على المردود الشهادة الحدّ، و الثلاثة لا يقام عليهم الحدّ. دليلنا انّ الأصل برأيه الذمّة و لا دليل على انّه يجب على هؤلاء الحدّ و أيضا فإنهم غير مفرّطين في إقامة الشهادة فإنّ أحدا لا يقف على بواطن الناس فكان عذرا في إقامتها فلهذا لا حدّ و يفارق إذا كان الردّ بأمر ظاهر لانّ التفريط كان منهم فلهذا حدّوا «1».

و قال في المبسوط: ان شهد الأربعة لكن ردّت شهادة واحد منهم لم يخل من أحد أمرين امّا ان يردّ بأمر ظاهر أو خفيّ فإن ردّت بأمر ظاهر مثل ان كان

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود المسئلة 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 227

مملوكا أو امرأة أو كافرا أو ظاهر الفسق فان حكم المردود شهادته قال قوم: يجب عليه الحدّ و قال آخرون: لا يجب و كذلك اختلفوا في الثلاثة إذ لا فصل بين ان لا يشهد الرابع و بين ان تردّ شهادته بأمر ظاهر لا يخفى على الثلاثة و الأقوى عندي انّ عليهم الحدّ و ان كان الردّ بأمر خفّي قبل ان يبحث الحاكم عن حاله فوقف على باطن يردّ به الشهادة فالمردود الشهادة قال قوم: لا حدّ عليه و هو الأقوى و الثلاثة قال قوم لا حدّ عليهم أيضا و هو الأقوى عندي و

فيهم من قال: عليهم الحدّ، لانّ نقصان العدالة كنقصان العدد و الأوّل أقوى لأنّهم غير مفرطين في إقامتها فإنّ أحدا لا يقف على بواطن الناس فكان عذرا في إقامتها فلهذا لا حدّ و يفارق هذا إذا كان الردّ بأمر ظاهر لانّ التفريط كان منهم فلهذا حدّوا عند من قال بذلك على ما اخترناه فبان الفصل بينهما «1».

و أنت ترى انّ بين مختاره في الخلاف و مختاره في المبسوط فرقا فإنّه في الأوّل اختار انّ مردود الشهادة في الأمر الخفيّ يحدّ دون الثلاثة الأخر فإنّهم لا يحدّون بخلاف المبسوط فان مختاره فيه انّ مردود الشهادة أيضا لا يحدّ كما انّ الثلاثة لا يحدّون فليس مختاره في الكتابين واحدا على ما هو الظاهر من عبارة الجواهر.

و يرد على مختاره في المبسوط انه و ان كان غير المردود ليس مفرطا بلا اشكال فيه و امّا المردود فإنّه مفرط فلم لا يحدّ هو و الحال انّه قد فرّط و قصّر لانّه قد أقدم على الشهادة مع العلم بأنّه لا يجوز للفاسق ذلك؟

اللهم الّا ان يكون نظر الشيخ أيضا الى ما إذا لم يكن مردود الشهادة مقصّرا بان لا يرى عمله الذي يأتي به فسقا موضوعا أو حكما.

لكن يرد عليه انّه على ذلك فهو ليس بفاسق لعدم تقصيره.

لا يقال: لعلّ المراد هو ما إذا أقدم على الشهادة زاعما جواز الاقدام عليها مع علمه بفسقه في الخفاء [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد تفضّل بالجواب عنه بما في المتن.

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 228

لانّه يقال: فعلى هذا كان اللازم التفصيل في الحكم بعدم تقصيره و الحال انّه قد أطلق في ذلك.

و ممّا ذكرناه

يعلم ما في الخلاف من إطلاق حدّ المردود إذا كان الردّ بأمر ظاهر، فإنه لو لم يعلم بانّ شهادته مردودة فليس بمفرط.

الفرع الثالث

لو شهدوا و كانوا مستورين اى مجهولي الحال كلا أو بعضا فلا شكّ في عدم الحدّ على المشهود عليه لأنّ إثبات الحدّ موقوف على شهادة العدول و هي مشكوكة في المقام لانّه من قبيل الشبهة المصداقية للعادل و امّا الشهود ففي القواعد: لا حدّ للشبهة.

بيان ذلك انّه ربّما كانوا في الواقع عدولا و ربّما كانوا فسّاقا فان من لم تثبت عدالته و لا فسقه يجري في حقّه الاحتمالان فيشك في استحقاقه الحدّ و في جواز ذلك عليه، و الحدود تدرء بالشبهات.

و أورد عليه في الجواهر بخبر ابى بصير عن الصادق عليه السّلام في أربعة شهدوا على رجل بالزنا فلم يعدّلوا قال: يضربون الحدّ «1».

أقول: لو كان المراد من عدم تعديلهم مجرّد عدم شهود يعدّلهم مع جهل الحال و احتمال كونهم عادلين أو فاسقين فكلام العلّامة لا يلائم الرواية و يردّ بها عليه، و امّا لو كان المراد من انّهم ليسوا عادلين- كون هذا التعبير رمزا الى- فسقهم فلا منافاة أصلا لأنّه لا شك في إجراء الحدّ على الشهود الفاسقين في المقام و لذا قال بعد اشكاله عليه بهذا الخبر: و يمكن حمله على ظهور الفسق انتهى.

ثم انّ هؤلاء الشهود تارة قد أقدموا على الشهادة علما منهم بعدم قبول شهادتهم و عدم اثر لها في إثبات المشهود به حيث انّهم يعلمون انّهم لا يعدّلون فحينئذ يصحّ ان يحدوا و ذلك لتفريطهم و الحال هذه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ القذف الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 229

و

امّا إذا كانوا يرون أنفسهم عادلين و زعموا انّ الناس أيضا يعتقدون فيهم العدالة و يرونهم متّصفين بها فاقدموا على ذلك فمقتضى القاعدة عدم حدّ عليهم لكونهم غير مفرطين.

نعم هنا بحث و هو انّه إذا كان الشاهد يرى نفسه فاسقا و يراه الناس عادلا فهل يجب عليه إقامة الشهادة احقاقا للحقّ أم لا؟

الظّاهر هو الوجوب، و لا يضرّ عدم عدالته، و لا يجب عليه إعلان غيره بفسقه كما انّه لا يجب على من يرى نفسه فاسقا ان يعلن المؤتمين به بفسقه، و تصح صلاة من اقتدى بإمام يراه عادلا و ان انكشف بعد ذلك كونه فاسقا بل و كافرا و على الجملة فالظاهر انّه يكفى للحاكم، المصحّح الفعلي في حكمه و ان لم يكن بحسب الواقع محقّقا و ليس مثل باب الطلاق الذي لو بان فسق الشاهدين يكشف بطلان الطلاق، كما سيتّضح ذلك من بعض الفروع القادمة.

«الفرع الرابع»

لو رجعوا عن الشهادة كلا أو بعضا قبل الحكم فعليهم اجمع [1] الحدّ الّا ان يعفو المقذوف و ذلك لأنهم قد قذفوا فيجب حدّهم و لا يثبت الزنا حتّى يحدّ المشهود عليه لعدم تحقّق الشهادة المعتبرة، و رجوع الشاهد عمّا شهد به أوّلا يوجب ان لا يبقى اطمينان بما قاله أوّلا فلم يبق لقوله كشف عن الواقع و يزول الاطمئنان بخبره فالشهادة مع الرجوع عنها مساوقة لعدم الشهادة و الحاصل انّ الاختلال في الشهادة يوجب ان لا يثبت الزنا.

نعم هنا كلام بالنسبة إلى الشهود و هو انّه لو قال الراجع: انّى قد كذبت في الشهادة فهو يحدّ بلا كلام لإقراره بنسبة الزنا الى الغير عمدا و كذبا، و امّا لو ادّعى الخطأ في ذلك كما إذا راى عمرا

فزعم انّه زيد الذي رآه و عاينه و هو يزني، و شهد بانّ هذا قد زنى ثم ظهر له انّ الزاني كان غيره فلا وجه هنا لحدّه أصلا لأنّه قد أخطأ و قد رفع عن الأمّة الخطإ، هذا كلّه فيما إذا رجعوا قبل

______________________________

[1] أقول: يرد هنا ما أورده دام ظلّه من قبل ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 230

الحكم.

و امّا إذا رجعوا بعد الحكم ففي الجواهر انّه يختصّ الراجع بالحدّ أخذا بإقراره.

و فيه انّه لا يصحّ ذلك على إطلاقه لأنّه لو كان ذلك خطأ فلا وجه لحدّه لانّ المخطى ليس بمفرط و قد مرّ مرارا انّ ميزان الحدّ كونه مفرطا و لا عقوبة على المخطئ مطلقا دنيويّة أو أخرويّة.

و امّا ثبوت الدية في القتل خطأ فهو جبران و تدارك لدم المسلم و ليس هو من باب العقوبة، فلا بدّ من التقييد بما إذا كان قد تعمّد في الشهادة كذبا. هذا.

لكن قال الشيخ فالخلاف: إذا شهد أربعة ثمّ رجع واحد منهم فلا حدّ على المشهود عليه بلا خلاف و على الراجع الحدّ أيضا بلا خلاف و امّا الثلاثة فلا حدّ عليهم، و للشافعي فيه قولان، المنصوص عليه مثل ما قلناه. و قال بعض أصحابه هذا أيضا على قولين. و قال أبو حنيفة: عليهم الحدّ. دليلنا قوله تعالى:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ. و هذا اتى بأربعة شهداء و رجوع واحد منهم لا يؤثّر فيما ثبت. و أيضا الأصل برأيه الذّمة. فمن أوجب عليهم الحدّ فعليه الدلالة «1».

أقول: يمكن ان يقال: لما ذا لا يجب الحدّ على المشهود عليه إذا كان رجوع واحد منهم بعد الحكم، بعد ان حكم قدّس سرّه

بأنّ الثلاثة لا حدّ عليهم؟

و قوله: و رجوع واحد منهم لا يؤثّر فيما ثبت، لا يخلو عن شي ء لأنّه إذا كان المطلب ثابتا بحيث انّ رجوع واحد منهم لا يؤثّر فيه فلما ذا لا يحدّ المشهود عليه [1]؟

______________________________

[1] يمكن ان يقال: انّ المقام نظير ما تقدّم في مسئلة شهادة البعض بالطوع و بعض آخر بالمطاوعة حيث قال العلّامة هناك بأنّه يثبت الزنا بحسب الشهادة الّا انّ الشبهة تمنع عن اجراء الحدّ و قد ذكرت ذلك في مجلس الدرس لكن سيّدنا الأستاد كان يرى هناك أيضا التّنافي بين الثبوت و بين الشبهة.

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 كتاب الحدود المسئلة 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 231

كما انّه يرد عليه في الحكم بوجوب الحدّ على الراجع، بانّ هذا بإطلاقه لا يتمّ فإنّه ربما لا يكون مقصّرا في رجوعه.

ثم انّه قد يقال بانّ حدّ القذف حقّ للغير و من حقوق الناس جعله الشارع على القاذف للمتّهم جبرانا لما أتلف القاذف منه من شرفه وجاهة و مروئته فهو نظير مال الغير الذي من أتلفه يكون ضامنا بلا تفرق بين المفرّط و غيره و المتعمّد و المخطى و كما يجب على المتلف تدارك ما أتلفه المتلف و ان كان ذلك عن غير تعمّد كذلك يجب الحدّ على القاذف إذا طالبه المقذوف بذلك و ان كان ذلك عن غير تقصير و تفريط. و على هذا فكيف يقال بأنّه لا حدّ على الشهود لأنّهم غير مفرّطين، كما ذكر في المقام و كما عن الشيخ في الخلاف و المبسوط بالنسبة إلى الشهود فيما ردّت شهادة أحدهم لمعنى خفيّ، و عنه في المبسوط بالنسبة إلى مردود الشهادة أيضا و كما عن العلّامة في

المختلف بالنسبة إلى الشهود الذين شهد ثلاثة من الأربعة و ابى الرابع، على ما تقدّم، الى غير ذلك من الفروع و المسائل.

و فيه الفرق بين حدّ القذف و باب الضمانات و الحقوق الماليّة فإنّ الضمانات من قبيل التدارك للمال الذي أتلفه المتلف و لذا لا فرق فيه بين ما إذا تعمّد في الإتلاف أو أخطأ أو انه أتلف في النوم فالمال يقابل بالمال و يتدارك به و هذا بخلاف الحدّ فإنه ليس من الحقوق الماليّة يبدل بإزائها المال حتّى يكون على المتلف بل هو عقوبة من اللّٰه تعالى على القاذف نظير عقاب الزنا لكنّه بعدله و حكمته جعلها بيد المقذوف و موكولة بإرادته تداركا لما وقع عليه من الهتك و نقصان الوجاهة و الاحترام لقذفه بين الناس. فقرر سبحانه على الذي هتك عرض المسلم بالقذف ان يهتك عرضه بإجراء الحدّ عليه و جعل امره بيده فله الاستيفاء و العفو بمقتضى كونه من حقوق الناس، و العقوبة فرع التعمّد فلا عقوبة مع عدم التفريط.

و امّا عدم تصريحهم في المقام بانّ حدّ القذف منوط بمطالبة المقذوف فأمره سهل لانّ ذلك موكول الى محلّه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 232

البحث في الشهادة بالزنا المتقادم

قال المحقّق قدّس سرّه: و لا يقدح تقادم الزنا في الشهادة، و في بعض الاخبار: ان زاد عن ستّة أشهر لم يسمع و هو مطرح.

أقول: لا فرق في إثبات الزنا بأربعة شهود و اجراء الحدّ على المشهود عليه بين ان يشهدوا بوقوع الزنا حديثا أو فيما سبق من الأزمان فلو شهدوا بانّ فلانا قد زنى قبل سنتين مثلا فإنّه يثبت أيضا و لا يقدح في ذلك مضىّ زمان عليه.

نعم نقل المحقّق انّ في بعض الاخبار انّه

ان زاد عن ستّة أشهر لم يسمع، لكن لم يذكر هو و لا غيره هذه الرواية و لا أين هي؟ و الحاصل انّا لم نجدها في الروايات، و قد حكم هو كغيره بأنّها مطرحة [1] و ذلك لموافقتها

______________________________

[1] فأفتوا بعدم الفرق بين الحديث منه و المتقادم. قال الشيخ في المبسوط الجلد 8 الصفحة 13 إذا شهد أربعة بالزنا قبلت شهادتهم سواء تقادم الزنا أو لم يتقادم و فيه خلاف، و رُوي في بعض أخبارنا انّهم ان شهدوا بعد ستّة أشهر لم يسمع و ان كان لأقلّ قبلت. انتهى.

و قال في مسائل خلافه الجلد 3 كتاب الحدود المسئلة 45 إذا شهد أربعة بالزنا قبلت شهادتهم سواء تقادم الزنا أو لم يتقادم و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه: إذا شهدوا بزنا قديم لم تقبل شهادتهم و قال أبو يوسف: جهدنا بأبي حنيفة ان يوقّت في التقادم شيئا فأبى. و حكى الحسن بن زياد و محمّد عن أبي حنيفة انّهم إذا شهدوا بعد سنة لم تجز و قال أبو يوسف و محمّد: إذا شهدوا بعد شهرين من حين المعاينة لما يجز و في الجملة إذا لم يقيموها عقيب تحمّلها لم تقبل. دليلنا قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ و أيضا قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً. و لم يفرّق بين الفور و التراخي دلّ على انّهم إذا أتوا بالشهود لم يجب عليهم الحدّ و إذا لم يجب عليهم الحدّ وجب الحدّ بشهادتهم لأنّ أحدا لا يفرّق. انتهى.

و قال العلّامة في القواعد: و لا يقدح تقادم الزنا في الشهادة انتهى.

و قال

في كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 225: عند شرح العبارة المذكورة: ما لم يظهر توبته، للأصل و العمومات خلافا لأبي حنيفة، و في المبسوط: و روى في بعض أخبارنا انّهم ان شهد و أبعد سنّة أشهر لم يسمع و ان كان لأقلّ قبلت انتهى.

و في اللمعة و الروضة: و لا يقدح تقادم الزنا المشهود به في صحّة الشهادة للأصل، و ما روى في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 233

لمذهب بعض العامّة، أو انّها تحمل على ما لو ظهر منه التوبة كما تدلّ على ذلك أو تومي اليه مرسلة جميل، فعن ابن ابى عمير عن جميل بن درّاج عن رجل عن أحدهما عليهما السّلام في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ. قال محمد بن ابى عمير: قلت: فان كان امرا قريبا لم يقم؟ قال: لو كان خمسة أشهر أو أقلّ و قد ظهر منه أمر جميل لم تقم عليه الحدود [1].

قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه: قوله: لو كان خمسة أشهر، لعلّه على سبيل المثال، و لم أر قائلا بالتفصيل سوى ما يظهر من المصنّف انتهى «2».

ثم انّ الشهيد الثاني استدلّ في إثبات عدم قدح التقادم بأصالة البقاء و قال- بشرح عبارة المحقق-: إذا ثبت موجب الحدّ لم يسقط بتقادم عهده لأصالة البقاء إلخ.

و لكن صاحب الجواهر عند شرح كلام المحقّق تمسك بإطلاق الأدلّة، و لعلّك تقول: ما وجه انّ الأوّل تمسّك بالأصل دون الإطلاق و الثاني بالعكس تعلّق بالإطلاق دون الأصل؟

و نحن نقول: الحقّ انّ كلّا منهما صحيح لانّ كلّ

واحد منهما دليل في مورده فان التمسك بالإطلاق يكون في قبال من ادّعى انصراف الأدلّة إلى الزناء القريب المشهود عليه دون البعيد كالشهادة بزناه بمدة كثيرة مثل عشر سنين قبل ذلك، فيقال في دفعه بانّ الأدلّة مطلقة و تشمل كلّ فرد من إفراد الزنا في أيّ

______________________________

بعض الاخبار من انّه متى زاد عن ستّة أشهر لا يسمع، شاذّ. راجع الجلد 2 الصفحة 331.

و قال العلّامة في التحرير الصفحة 221: و لا يقدح تقادم الزنا في الشهادة فلو شهدوا بزنا قديم وجب الحدّ و كذا الإقرار بالقديم يوجب الحدّ.

و قال في الإرشاد: و لو شهدوا بزنا قديم سمعت انتهى.

و استدلّ له الأردبيلي قدّس سرّه في الشرح بعموم الأدلّة و عدم مخصّص بزمان قريب.

[1] الكافي الجلد 7 الصفحة 250 و التهذيب الجلد 10 الصفحة 122 و رواها في الوسائل الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود، الحديث 3 لكن فيها: فان كان امرءا غريبا لم تقم.

______________________________

(2) مرآت العقول الجلد 23 الصفحة 389.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 234

زمان قد وقع، و الحاصل انّ إطلاق الأدلّة لا تفرّق بين الموارد و لا انصراف في البين.

و امّا أصالة البقاء فهي متعلّقة بما إذا شك في سقوط الحدّ بمرور الزمان و مضيّه سواء كان بالشك الحكمي كما تقدم أو بالشك الموضوعي بان احتمل انّه قد تاب عن فعله فلا مورد لإجراء الحدّ عليه، فحينئذ يؤخذ باستصحاب بقاء الحدّ و هذا الاستصحاب تعليقي.

بيانه انّ في مورد الزاني كان حكم تعليقي و هو انّه لو أقيم عليه البيّنة أي الأربعة شهود لحدّ، لكن حيث انّه قد تقادم عهده يحتمل انّه قد سقط حدّه شرعا بذلك فيستصحب هذا الحكم و يقال

الآن أيضا: هذا لو أقيمت عليه أربعة شهود لحدّ، و كذا لو احتملنا انّه تاب في خلال هذه المدّة فارتفع عنه الحدّ فإنّه يقال: هذا كان بحيث لو أقيمت عليه أربعة شهود يحدّ فالآن أيضا كذلك و على الجملة فالزنا بنفسه بدون قيام أربعة شهود مثلا لا يوجب الحدّ- فالحكم إذا تعلّق بموضوع فما دام لم يدلّ دليل على ارتفاعه يحكم ببقائه و مجرّد سبق الزمان و تقادم العهد لا يقدح في الشهادة فتقبل و ان كان قد مضى على الفعل زمان طويل [1].

______________________________

[1] أقول: و يناسب هنا نقل كلام العامّة أيضا، قال في الفقه على المذاهب الأربعة الجلد 5 الصفحة 72: و إذ اشهد الشهود بحدّ متقادم لم يمنعهم من إقامته بعدهم من الامام الحاكم. اختلف فيه الفقهاء، الحنفيّة قالوا: انّه لا تقبل شهادتهم في هذه الحالة لوجود شبهة التقادم في أداء الشهادة لأنّ الأصل عندهم انّ الحدود الخالصة للّٰه تعالى تبطل بالتقادم، لانّ الشاهد مخيّر بين حسبتين إحداهما أداء الشهادة، و ثانيتهما الستر على المسلم فالتأخير في أداء الشهادة لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لوجود ضغينة هيّجتهم أو لعداوة حرّكتهم بعد السكوت، فيتّهمون في شهادتهم إلّا إذا وجد عذر لهم، امّا إذا كان التأخير لغير سبب يصير الشاهد فاسقا، فتردّ شهادته لتيقّننا بالمانع، المالكيّة و الشافعيّة و الحنابلة قالوا انّ الشهادة في الزنا و في حدّ القذف و شرب الخمر تسمع بعد مضىّ زمان طويل من الواقعة و ذلك لانّ الحدّ بعد الشهادة أصبح حقّا و لم يثبت لنا ما يبطله و قد يكون عندهم عذر منعهم من أداء الشهادة في وقت وقوع الفاحشة بانّ الفتنة قائمة لم تخمد الى ذلك

الوقت الذي يقام الحدّ فيه فيعذرون في تأخيرهم انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 235

عدم اعتبار كون المشهود به واحدا

قال المحقّق: و تقبل شهادة الأربع على الاثنين فما زاد.

أقول: لا يشترط في قبول شهادة الأربع ان تكون شهادتهم على مورد واحد و بعبارة أخرى لا يعتبر فيه كون المشهود عليه واحدا بل هي مقبولة و ان كانت على اثنين أو أزيد.

و استدلّ على ذلك أولا بإطلاقات أدلّة الشهادة فإنها شاملة لكلا الموردين و ثانيا بخصوص خبر عبد اللّٰه بن جذاعة قال: سألته عن أربعة نفر شهدوا على رجلين و امرأتين بالزنا قال: يرجمون «1».

ثم لو شكّ في اشتراط ذلك فالأصل عدمه فمجرّد عدم الدليل كاف في الحكم بالجواز كما لا يخفى.

حول تفريق الشهود

قال المحقّق: و من الاحتياط تفريق الشهود في الإقامة بعد الاجتماع و ليس بلازم.

و الظاهر انّ هذا الاحتياط جار بالنسبة إلى حكم الحاكم و متعلّق به و ذلك لانّه مع الاجتماع في أداء الشهادة بحيث يسمع بعضهم كلام بعض و شهادة الباقي، يحتمل كثيرا ان يشهد الأوّل كذبا و على خلاف الواقع ثم يقفو أثره الباقون و يتّبعونه في الكذب و إبداء ما هو خلاف الواقع بخلاف ما إذا فرّق بينهم و استشهد من الأول في غياب الباقين ثم يحضر الثاني و يستشهد منه و هكذا فإنّ الثاني مثلا حيث لم يسمع شهادة الأوّل يزعم انّه قد اتى بما هو الواقع و الحقّ، فهو أيضا يصدق في شهادته و يبدي ما هو الحقّ و الواقع نوعا خصوصا إذا كان ذلك بصورة قضاء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام- حيث انّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 12 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 236

فرّق بين الشهود و لمّا شهد الأوّل قال عليه السّلام: اللّٰه أكبر «1»- فإنّ

باقي الشهود إذا سمعوا التكبير مثلا يزعمون جدّا انّ الأوّل شهد بصدق القضيّة، و على الجملة فاداء الشهادة في هذه الظروف و الأحوال أبعد عن الكذب و التهمة و عن ان يتلقى بعضهم من بعض و أقرب الى الصدق و الحقيقة من ان يشهد الشهود متكافئين جنبا بجنب.

و لذا قال صاحب الجواهر- عقيب قول المحقّق: بعد الاجتماع-:

جميعا في المجلس فيفرّقوا و يستنطق كلّ واحد منهم بعد واحد استظهارا في الحدود المبنيّة على التخفيف و تدرأ بالشبهة، و عقيب قوله: و ليس بلازم قال:

للأصل و إطلاق الأدلّة.

و المقصود انّه يدقّق النظر في الأمر كي لا يقع في إجراء حدّ الزنا على من لم يكن بحسب الواقع زانيا و لو فرّق بين الشهود لبان ما كان، و اتّضح نوعا الواقع و الحقيقة، و ان شهادتهم كانت صدقا و عدلا أو توطئة و خيانة.

أقول: الظاهر انّه لا احتياط في المقام و ذلك لانّه كما انّ في عدم تفريقهم خوف الوقوع في إجراء حدّ الزنا على غير الزاني كذلك في تفريقهم خوف اجراء الحدّ على الشهود لانّه ربما يتفاوت و يختلف شهاداتهم و يوجب ذلك حدّ القذف بالنسبة إلى أربعة أشخاص، و اىّ احتياط في عدم الوقوع في جلد أحد مع الوقوع في جلد أربعة اشخاص؟ فالأمر دائر بين المحذورين [1].

هذا مضافا الى انّه لو كان المورد من موارد الاحتياط لكان يلزم هذا الاحتياط لانّه من قبل الاحتياط في الدماء و الاعراض و الحال انّه قدّس سرّه قال: و ليس بلازم، فهذا يكشف عن عدم كون المورد من موارد الاحتياط.

______________________________

[1] أقول: انّ الأمر في الحقيقة مردّد بين الحدّ للقذف الذي هو الجلد قطعا لا غير و هو ثمانون جلدة

و بين حدّ الزنا الذي قد يكون مائة جلدة و قد يكون الرجم أو الجلد و الرجم و قد يكون هو القتل و ما افاده دام ظلّه لو كان تاما في الفرض الأوّل فإنّه لا يتم في الفروض الأخيرة حيث انّ حدّ الزاني فيها أشدّ و أعظم، و الجلد- و ان كان بالنسبة إلى الأربعة- لا يقاوم القتل أو الرجم.

______________________________

(1) بحار الأنوار طبع بيروت جلد 40 الصفحة 260.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 237

و حينئذ لم يبق شي ء سوى فعل المعصوم و صدوره عن الامام عليه السّلام و هو يدلّ على جواز ذلك لا محالة و ان لم يكن الفعل دليلا على الوجوب.

ثم قال في الجواهر: و لذا كان المستحبّ للشهود ترك إقامتها سترا على المؤمن إلّا إذا اقتضى ذلك فسادا.

أقول: لو تعلّق هذه الجملة بقوله من قبل: «و ليس بلازم للأصل و الإطلاقات» كما هو مقتضى ظاهر الكلام و قربها منه و عدم الفاصلة بين الجملتين فلا يلتئم الكلام أصلا لعدم ربط بين الكلامين كي يعلّل أحدهما بالآخر و يترتّب أحدهما على الآخر، فلم يبق الّا ان تتعلق هذه الجملة بما سبق من انّ الاحتياط يقتضي تفريق الشهود في الأداء حتّى يستنطق كلّ واحد منهم بعد واحد و في غياب منه فيستظهر في الحدود و يتّضح الأمر جدّا و يعلم انّه لم يكن هناك تواطئ و توطئة، و على هذا فكأنّه قيل: ينبغي الاستظهار حتّى لا يقع حدّ الزنا بسهولة و سرعة بل تختلف الشهادات ببركة التفريق فلا يقع هذا الحدّ و لذا يستحبّ ترك إقامة الشهادة أيضا.

و بتعبير آخر: فكما انّه يستحبّ ترك إقامة الشهادة للستر على المؤمن كذلك ينبغي تفريق

الشهود كي لا يفتضح المؤمن و لا يجرى عليه حدّ الزنا، لاحتمال انتهائه إلى اختلافهم في الشهادة و عدم ثبوت حدّ الزنا.

لكن لا يخفى انّ نفس هذا الكلام «اى استحباب ترك الإقامة» محلّ التأمّل و الاشكال و ذلك لانّ إقامة الشهادة واجبة من باب اقامة الدين و احياء معالم الشريعة و النهى عن المنكر، فلا يجوز تركها إذا لم يترتب عليها فساد، لأنّها امّا واجبة عينا إذا انحصر من يقوم بالشهادة بهذه الشهود أو كفائيا إذا كان هناك من يقوم بها و على اىّ حال فلا يصحّ الحكم باستحباب تركها.

ان قلت أ و ليس قوله رحمه اللّٰه: الّا إذا اقتضى ذلك فسادا، جوابا عن هذا الإشكال؟ فإنه قال باستحباب ذلك بشرط عدم لزوم فساد و الّا فهي واجبة [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظلّه بما قرّرناه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 238

نقول: انّ المراد من هذا الفساد هو الفساد بوقوع الفتنة و اثارة الاختلافات و بروزها و اراقة الدماء و ما أشبه ذلك لا ما يقع فيه الإنسان من ترك الوظيفة و تبعات ترك الواجب معنى و عند اللّٰه سبحانه.

و لعلّ كلامه يحمل على ما إذا لم تكن إقامة الشهادة واجبة عليه و ذلك لإقامة الآخرين، فاذا كان قد حضر شهود لأداء الشهادة فلا داعي هناك له إلى الشهادة و كشف سرّ المؤمن و إيضاح قبائحه [1].

بحث عن الإقرار بمناسبة المقام

ثم لا يخفى انّ هنا امرا أعظم من استحباب ترك إقامة الشهادة- الذي ذكره- و هو انّه يستحب للمؤمن الذي اقترف المعصية ان يستر ما فعله و اتى به من المعصية و لا يكشف عن ذلك بإقراره انّه قد عصى اللّٰه، و كما انّ

التجاهر بالمعصية أشدّ إثما و أعظم ذنبا من مجرّد الإتيان بها و ذلك لمزيد هتك العبد بذلك بالنسبة إلى ساحة المولى الجليل سبحانه و تعالى، كذلك ذكر إتيانه بالمعصية أيضا يزداد إثما لعلّة نفسها و حينئذ لو كان إظهار ذلك و ذكره لأجل إقامة الحدّ عليه فلا حرمة و الّا فهو حرام، و عند ما كان لإجراء الحدّ فالأحسن ترك ذكره، و الالتجاء إلى التوبة بينه و بين اللّٰه تعالى، كيلا يفتضح بين الناس.

و المستفاد من اخبار كثيرة هو انّ لتطهيره طريقين أحدهما التوبة في الخفاء و فيما بينه و بين اللّٰه تعالى، ثانيهما إقراره عند الإمام أو نائبه حتّى يحدّ، و الثاني أولى من الأوّل.

و يدلّ على ذلك ما ورد في قصّة ماعز المذكورة سابقا حيث كان النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم يلقّنه المعاذير كي لا يقرّ بالمعصية، و قوله صلوات اللّٰه عليه: لو سترته بثوبك كان خيرا لك، و ما رواه في الوسائل في

______________________________

[1] أقول: و قال المحقّق في كتاب القضاء: لا بأس بتفريق الشهود و يستحبّ في من لا قوّة عنده، و قال أيضا: و يكره للحاكم ان يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر و الأديان القويّة مثل ان يفرّق بينهم لأنّ في ذلك غضاضة لهم و يستحبّ ذلك في موضع الريبة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 239

قصّة رجل كان قد أقرّ عند النبي أربع مرّات و فرّ من الحفيرة عند ما أحسّ الم الحجارة لكن الناس أدركوه و قتلوه حيث قال النبي (ص): هلّا تركتموه، ثم قال: لو استتر ثم تاب كان خيرا له «1».

و في مرفوعة أحمد بن محمّد بن خالد عن أمير

المؤمنين عليه السّلام في حديث الزاني الذي أقرّ أربع مرّات، انّه قال عليه السّلام لقنبر: احتفظ به ثم غضب و قال: ما أقبح بالرجل منكم ان يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رءوس الملأ ا فلا تاب في بيته؟ فو اللّٰه لتوبته فيما بينه و بين اللّٰه أفضل من إقامتي عليه الحد «2».

انظر الى أهميّة المطلب ترى التصريح بانّ توبته فيما بينه و بين اللّٰه أفضل من إقامتي إلخ فنسب اقامة الحدّ الى نفسه، فالتوبة أفضل من اجراء الحدّ عليه بمباشرة الإمام أمير المؤمنين بمقتضى هذه الرواية الشريفة.

و في رواية الأصبغ بن نباته في رجل اتى أمير المؤمنين عليه السّلام و قال:

يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهرني فأعرض عنه بوجهه ثم قال له:

اجلس. فقال: أ يعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة ان يستر على نفسه كما ستر اللّٰه عليه فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهرني فقال: و ما دعاك الى ما قلت؟ قال: طلب الطهارة، قال: و أيّ طهارة أفضل من التوبة «3».

و على الجملة فهذه الروايات و أشباهها تدلّ جدّا على أفضليّة التوبة سرّا من الإقرار بالمعصية و التمكين للحدّ و ترغّب الى الستر و عدم إظهار المعصية.

الشهادة بالزنا شهادة الحسبة

ثم لا يخفى انّ حدّ الزنا حيث كان من حقوق اللّٰه تعالى فلذا يجوز ان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من حدّ الزنا الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 240

يقدم الشاهد على الشهادة به من دون ان يطالب منه ذلك، فتكون الشهادة به شهادة الحسبة

التي لا حاجة فيها الى مدّع يدّعى هذا المطلب بل قد يجب فيما يتوقّف تركه بذلك.

و المراد من الحسبة هو الأمور التي لا بدّ من إقامتها و حفظها و الاهتمام بأمرها، و الشارع لا يرضى بتركها و إهمالها، فيجب على كلّ من قدر على ذلك من المكلّفين اقامة ذلك نهيا عن المنكر، و ما مرّ من استحباب تركها، لعلّه فيما كان بقدر الكفاية موجودا.

تصديق المشهود عليه أو تكذيبه

قال المحقّق: و لا تسقط الشهادة بتصديق المشهود عليه و لا بتكذيبه.

أقول: مذهب الأصحاب انّه لا اثر لتصديق المشهود عليه كما لا اثر لتكذيبه سواء كان مرّة أو مرّات.

و امّا العامّة فاختلفوا في الفرض الأوّل أي تصديق المشهود عليه، فذهب أبو حنيفة إلى انّه لو صدّقهم لخرج عن باب الشهادة و دخل تحت باب الإقرار و يترتّب عليه أحكامه بناء على انّه يحتاج الى الشاهد لغير المقرّ و امّا المقرّ فلا، و عليه فلو أقرّ مرّة أو مرّتين أو ثلاث مرّات فلا اثر له و امّا إذا أقرّ أربع مرّات فإنّه يحدّ حدّ الزنا.

قال الشيخ في الخلاف: إذا شهد عليه اربع شهود بالزنا فكذّبهم أقيم عليه الحدّ بلا خلاف و ان صدّقهم أقيم عليه الحد و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: لا يقام عليه الحدّ لانّه يسقط حكم الشهادة مع الاعتراف، و بالاعتراف دفعة واحدة لا يقام عليه الحدّ. دليلنا عموم الأخبار التي وردت في وجوب اقامة الحدّ إذا قامت عليه البيّنة و لم يفصّلوا.

أقول: و ما ذكره المخالف انّما يتمّ على مذهبه و ممشاه من التمسّك بالاستحسانات العقلية و الاعتبارات الذهنيّة فإنّه يقول: يؤخذ بشهادة الشهود إذا كان المجرم أو المتّهم منكرا و امّا إذا كان هو بنفسه

يقرّ بالمعصية فهناك لا مورد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 241

للبيّنة و حينئذ يجرى عليه أحكام الإقرار مرّة أو مرّات، و امّا على مذهب العدلية فمقتضى الأدلة هو وجوب الحدّ و لو كان ما ذكره تامّا فيما إذا أقرّ أربع مرّات فإنّه لا يتمّ فيما لم يتمّ الأربع بل هناك يؤخذ بقول الشهود و شهادتهم.

نعم لا تسقط بتكذيبه حتّى على قول أبي حنيفة.

حكم التوبة قبل قيام البيّنة و بعده

قال المحقّق: و من تاب قبل قيام البيّنة سقط عند الحدّ و لو تاب بعد قيامها لم يسقط حدّا كان أو رجما.

و في كشف اللثام الاتفاق على السقوط فيما تاب قبل قيام البيّنة، للشبهة، و في الرياض بعد قول المصنّف: و يسقط لو كانت قبلها رجما كان أو غيره: بلا خلاف أجده و به صرّح بعض الطائفة، و بالوفاق بعض الأجلّة و هو الحجّة انتهى و في الجواهر بعد الفرض الأوّل: بلا خلاف أجده.

و قد استدل على ذلك بأمور أحدها ما مرّ من الكشف فقد علّل السقوط بقوله: للشبهة.

و المقصود الشك في وجوب الحدّ و عدم ثبوت ذلك لانّه مع عدم قيام البيّنة لا يثبت الحدّ لا انّه ثابت و يسقط بالشبهة و انّما يثبت إذا قامت البيّنة فلو قامت البيّنة و ثبت الزنا قبل التوبة وجب الحدّ و امّا إذا قامت بعد التوبة فنشك في وجوبه فيستصحب عدمه و هذا بخلاف ما إذا قامت البيّنة و ثبت الزنا فإنه يشك في سقوط ما وجب و الأصل عدمه فان مقتضى الاستصحاب بقاء ما ثبت فالشبهة محقّقة في التوبة قبل الثبوت و بعد الثبوت لكن الأصل فيهما مختلفان و تحصّل انّ الشبهة في مورد التوبة قبل البيّنة ترجع الى عدم

ثبوت الحدّ من رأس و إذا قامت البيّنة يشكّ في سقوطه و الأصل عدمه.

ثانيها الأولويّة فإذا كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له فلا عقوبة عليه في الآخرة- كما هو مقتضى الآيات و الروايات الكثيرة الواردة في التوبة- فالعقاب الدنيوي أولى بالسقوط و قد تمسّك بها الشهيد الثاني قدّس سرّه في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 242

المسالك قائلًا: أمّا سقوطه بتوبته قبل قيام البيّنة فلانّ التوبة تسقط الذنب و عقوبة الآخرة فعقوبة الدنيا اولى انتهى و كذا صاحب الرياض حيث قال: و لسقوط عقوبة الآخرة بالتوبة فالدنيا اولى.

و فيه انّ الأولويّة لو كانت تنهض دليلا للسّقوط فلم لا تدلّ على السقوط في التوبة بعد الثبوت فإنّه لا فرق فيها بين قبل الثبوت و بعده مع انّهم فرّقوا بينهما و لا يقولون بسقوط الحد لو تاب بعد البيّنة.

ثالثها الأخبار الواردة في المقامين المتعيّن التمسك بها.

ففي مرسل جميل بن درّاج عن رجل عن أحدهما عليهما السّلام في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح؟ فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ، قال ابن ابى عمير: قلت: فان كان امرا قريبا لم يقم؟ قال: لو كان خمسة أشهر أو أقلّ منه و قد ظهر أمر جميل لم يقم عليه الحدود «1».

قال العلّامة المجلسي: مرسل كالصحيح بسنديه و يدلّ على انّه يسقط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته و هو موضع وفاق «2».

أقول: لا شكّ في إرسال الخبر الّا انّ المرسل هو جميل، و مراسيل جميل في حكم المسانيد. هذا مضافا الى أنّه معمول به فلم نعثر على مخالف لا من

القدماء و لا من المتأخّرين، و عمل الأصحاب جابر لضعف الخبر على ما هو المبنى و ان خالف فيه بعض العلماء، و من المعلوم انّ السؤال كلّى لا شخصي، و على ذلك فكلّ من تاب قبل قيام البيّنة فلا يحدّ.

و عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل أقيمت عليه البيّنة بأنّه زنى ثم هرب قبل ان يضرب قال: ان تاب فما عليه شي ء و ان وقع في يد

______________________________

(1) الكافي الجلد 7 الصفحة 250 و التهذيب الجلد 10 الصفحة 122 الحديث 107، و رواه في الوسائل الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود الحديث 3 لكن بلفظ امرءا غريبا، و قد مرّ ذلك.

(2) مرآت العقول الجلد 23 الصفحة 389.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 243

الإمام أقام عليه الحدّ و ان علم مكانه بعث اليه «1».

و الظاهر انّ المراد منه انّ هذا الرجل الذي أقيمت عليه البيّنة و هرب تارة يكون قد تاب قبل ذلك و اخرى لم يتب حتّى وقع في يد الإمام فالأوّل لا شي ء عليه و امّا الآخر الذي وقع في يد الامام بدون التوبة فهو يحدّ سواء تاب بعد ذلك أم لا.

و يستفاد ذلك أيضا من اخبار باب الإقرار بالزنا كخبر رجل اتى النبي و قال: طهّرني. و قول رسول اللّٰه (ص): لو استتر ثم تاب كان خيرا له «2» و قد نقلناه آنفا، و خبر أصبغ المذكورة آنفا أيضا و فيه: أ يعجز أحد كم إذا قارف هذه السيئة ان يستر على نفسه كما ستر اللّٰه عليه، و فيه أيضا فقال: و ما دعاك الى ما قلت؟ قال: طلب الطهارة قال: و أيّ طهارة أفضل

من التوبة «3»؟

تدل هذه الروايات صريحة على انّ التوبة فيما بينه و بين اللّٰه تعالى أفضل من الإقرار عند الحاكم، و انّ ما يترتّب عليه من الطهارة فهو يترتّب على التوبة.

و كيف كان فيستفاد من الاخبار ان التوبة قبل وصول الأمر إلى الحاكم و قيام البيّنة تسقط الحد بخلاف ما إذا كانت بعد قيام البيّنة فإنّها لا توجب سقوطه.

ثم انّه ذهب بعض الأصحاب كالمفيد و الحلبيّين- ابن زهرة و أبو الصلاح- قدّس اللّٰه أسرارهم الى انّ الحاكم مخيّر بين الإقامة و عدمها فيما إذا تاب بعد قيام البيّنة لا انّه يتعيّن عليه الحد.

قال المفيد: و من زنا و تاب قبل ان تقوم الشهادة عليه بالزنا درأت عنه التوبة الحدّ فان تاب بعد قيام الشهادة عليه كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحدّ عليه حسب ما يراه من المصلحة في ذلك له و لأهل الإسلام فان لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من حدّ الزنا الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من مقدّمات الحدود الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 244

يتب لم يجز العفو عنه الحدّ بحال انتهى «1».

و قال السيّد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية: و إذا تاب أحد الزانيين قبل قيام البيّنة عليه و ظهرت توبته و صلاحه سقط الحد منه. و ان تاب بعد ثبوت الزنا عليه فللإمام العفو منه «2».

و قال أبو الصلاح الحلبي: فإن تاب الزاني أو الزانية قبل قيام البيّنة عليه و ظهرت توبته و حمدت طريقته سقط عنه الحدّ، و ان تاب بعد قيام البيّنة فالإمام العادل مخيّر

بين العفو و الإقامة و ليس ذلك لغيره إلّا باذنه، و توبة المرء سرّا أفضل من إقراره ليحدّ «3».

و هم قدّس سرّهم لم يتعرّضوا لدليل على ما ذهبوا اليه و اختاروه، نعم قد استدلّ لهم بأمور أوّلها أصالة البراءة.

ثانيها انّ الحدّ لم يثبت في الذّمة بمجرّد قيام البيّنة حتّى يستصحب ذلك بعد التوبة المسبوقة بالبيّنة [1].

ثالثها ظاهر خبر ابى بصير المتقدّم آنفا بناء على انّ المراد من قوله: ان تاب. هو التوبة عند الهرب أو بعده، و ان قوله: و ان وقع، بمعنى الوقوع قبل التوبة.

رابعها أولويّة سقوط عقاب الدنيا من عقاب الآخرة بالتوبة.

و يرد على الأوّل انّه لا مجال للأصل مع وجود الدليل على وجوب الحدّ إذا تاب بعد إقامة البيّنة و قد رأيت دلالة الاخبار على ذلك فالأصل مقطوعة بهذه الاخبار المعمول بها، و لو شك فيه بعد ذلك فالاستصحاب يقتضي بقاءه. هذا مضافا الى أنّه لو جرت أصالة البراءة لكان اللازم هو الحكم بسقوط الحدّ، فمن أين يستفاد التخيير؟

______________________________

[1] أقول: فقد كان من أدلة المثبتين ذلك قال في المسالك: و امّا عدم سقوط بتوبته بعد إقامة البيّنة فلثبوته في ذمّته فيستصحب.

______________________________

(1) المقنعة الطبعة القديمة الصفحة 123 و الحديثة الصفحة 777.

(2) الجوامع الفقهية الصفحة 622.

(3) الكافي الصفحة 407.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 245

و يرد على الثاني انّ المستفاد من الاخبار هو وجوب الحدّ بمجرّد قيام البيّنة و ان التوبة مسقطة للحدّ لا انّه يكشف بها عن انّه لم يكن حدّ من أوّل الأمر و قد عبّر عن التوبة في بعض الاخبار بالممحاة [1] الدّالة على انّها تمحو ما ثبت، و على هذا فعلى الحاكم اجراء الحدّ الى ان يعلم و

يقطع بزوال الحدّ و رفعه، و بعبارة أخرى يستصحب الوجوب ما لم يدلّ دليل على سقوطه بالتوبة.

نعم لو كانت التوبة دافعة لا رافعة و مسقطة لصحّ القول بانّا لا نعلم تعلّق الحدّ على من يتوب في علم اللّٰه تعالى فلم يبق مورد لاستصحابه و ذلك لانّ الإفراد قسمان من جعل له الحدّ، و من لم يجعل له ذلك، و الحدّ مجعول لمن لا يتوب فاذا شكّ في انّ هذا ممّن جعل له أو ممّن لم يجعل له ذلك فالأصل عدمه فليس الحاكم ملزما بإجراء الحدّ لجريان البراءة.

هذا مضافا الى انّ مقتضى عدم ثبوته في الذّمة ان لا يكون حدّ الآن أصلا فمن أين يقال بالتخيير؟

و يرد على الثالث بقصوره سندا و دلالة، و بمعارضته بما يدلّ على عدم السقوط.

و على الأولويّة بأنّها لا تثبت ذلك لأنّها لا تعارض الأدلّة الدّالة على عدم السقوط، هذا مضافا الى ان عقاب الآخرة مرفوع قطعا فلو كانت أولويّة لاقتضت سقوط الحدّ لا التخيير بينه و بين إقامته.

الكلام في أقسام الحدّ

قال المحقّق: النظر الثاني في الحدّ و فيه مقامان الأوّل في أقسامه و هي قتل أو رجم أو جلد و جزّ و تغريب.

أقول: انّ العبارة غير وافية بالمراد لانّه قد يجتمع الجلد مع الرجم و قد

______________________________

[1] ففي أمالي شيخنا الطوسي قدّس سرّه الجلد 1 الصفحة 86 عن الشعبي قال: سمعت علىّ بن ابى طالب عليه السّلام يقول: العجب عمّن يقنط و معه الممحاة فقيل له: و ما الممحاة؟ قال:

الاستغفار.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 246

يجمع مع مع القتل كما انّ الجلد قد يكون هو بوحدة غير مقرون بالجزّ أو التغريب و قد يكون الضرب بالسيف ثم الحبس الى ان

يتوب على القول بذلك كما انّه قد يكون القتل وحده بلا جلد و قد يكون الرجم كذلك.

حد الزاني بالمحارم

و كيف كان فقال

امّا القتل فيجب على من زنى بذات محرم كالأمّ و البنت و شبههما.

أقول: و ليس المراد من الامّ خصوصها بل الامّ و ان علت و هكذا البنت فالمراد: هي و ان نزلت الى غير ذلك من المحارم كالأخت الابى أو الأمّي أو كليهما و العمّة و الخالة و ان علتا و بنت الأخ و بنت الأخت و ان نزلتا.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص الدّالة على ذلك في الجملة.

و قال شيخ الطائفة في المبسوط: إذا ابتاع رجل ذات محرم له كالأخت و الخالة و العمّة من نسب أو رضاع أو الأم و البنت من الرضاع فإنّه يحرم عليه وطيها فان خالف و وطئ مع العلم بالتحريم وجب عليه القتل عندنا و كذلك إذا وطئ ذات محرم له و ان لم يشترها سواء كان محصنا أو غير محصن و قال قوم:

عليه الحدّ و قال آخرون: لا حدّ عليه لانّه وطئ مملوكته فلم يجب عليه الحدّ كما لو كانت زوجته أو أمته خالصا انتهى «1».

قوله قدّس سرّه: و قال قوم إلخ لا بدّ من ان يكون هذا القوم من العامّة.

و يمكن ان يستدلّ لذلك بروايات كرواية جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يأتي ذات محرم أين يضرب بالسيف؟ قال:

رقبتة «2».

و عنه أيضا قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أين يضرب هذه الضربة؟

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 8.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب

حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 247

يعنى من اتى ذات محرم قال: تضرب عنقه «أو قال: رقبته» «1».

و عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أين يضرب الذي يأتي ذات محرم بالسيف؟ أين هذه الضربة؟ قال: تضرب عنقه. أو قال:

تضرب رقبته «2».

و الظاهر من ضرب العنق أو الرقبة هو قطعه عرفا مثل ما ورد في القرآن الكريم فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ «3» فلذا استفاد العلماء رضوان اللّٰه عليهم انّ المراد القتل، و حكموا به و أرسلوه إرسال المسلّمات، مع عدم التعبير فيها بالقتل أصلا و انّما المذكور فيها الضرب بالسيف أو ضرب الرقبة أو ضرب العنق.

و امّا احتمال إرادة أنّه يضرب مجرّد الضرب في ناحية عنقه دون سائر المواضع فهو بعيد كما انّ المراد من «أين» في سؤال الراوي هو الموضع من بدن الزاني أو رأسه و ليس المراد منه السؤال عن المكان، و على هذا فقد أجاب الإمام عليه السّلام سؤال الراوي كما بيّن حكم اللّٰه تعالى الذي هو القتل، فان المستفاد من ضرب العنق هو قطع الرقبة و الفصل بين الرأس و البدن.

نعم، عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه عن ابن بكير عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يأتي ذات محرم؟

قال: يضرب بالسيف قال ابن بكير: حدّثني حريز عن بكير بذلك «4». و ظاهر هذا هو مجرّد الضرب بالسيف مطلقا كما انّه قد ورد في بعض الاخبار التعبير بالضرب بالسيف أخذت منه ما أخذت، مثل ما رواه أبو أيّوب قال: سمعت ابن بكير بن أعين يروى عن أحدهما عليهما السّلام قال: من

زنى بذات محرم حتّى يواقعها ضرب ضربة بالسيف أخذت منه ما أخذت و ان كانت تابعة ضربت ضربة بالسيف أخذت منها ما أخذت، قيل له فمن يضربهما و ليس لهما

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(3) سورة محمّد «صلّى اللّٰه عليه و آله» الآية 4.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 248

خصم؟ قال: ذاك على الإمام إذا رفعا اليه «1».

و ما رواه عبد اللّٰه بن بكير عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: من اتى ذات محرم ضرب ضربة بالسيف أخذت منه ما أخذت «2».

و هذه الروايات و ان لم تدل على تعيين القتل لكن بضميمة ما ورد في تفسير «ضرب ضربه بالسيف أخذ السيف ما أخذ» بالقتل، في حدّ اللواط و نكاح البهائم، يحمل التعبير الوارد فيها أيضا على القتل.

امّا الأوّل فهو ما رواه سليمان بن هلال عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: ان كان دون الثقب فالجلد و ان كان ثقب أقيم قائماً ثمّ ضرب بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ، فقلت له: هو القتل؟

قال: ذاك «3».

و امّا الثاني فهو ما رواه سليمان بن هلال أيضا قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يأتي البهيمة قال: فقال: يقام قائماً ثم يضرب ضربة بالسيف أخذ السيف منه ما أخذ، قال: فقلت: هو القتل؟

قال: هو ذاك «4».

فان الظاهر انّ مرجع الضمير في كلتيهما هو الضرب بالسيف، و قد فهم الراوي منه

القتل و سئل الإمام في ذلك و قرّره عليه الصلاة و السّلام و صدّقه في ذلك اى انّ المراد من الضرب بالسيف هو القتل.

هذا مضافا الى انّ الضرب بالسيف الوارد في هذا القسم من الروايات، إذا كان على العنق كما هو مقتضى تقييد هذه بالروايات المقيّدة المتقدّمة فهو ملازم نوعا للقتل كما هو المعهود من حال مجرى حدود الحكّام، و قد نقل و حكى من عاين وقعة قتل الرجل المظلوم اليزدي زائر بيت اللّٰه الحرام، بحكم القاضي

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من حدّ الزنا الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ اللواط الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 2 من أبواب نكاح البهائم الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 249

السعودى [1] عليه ما عليه انّه ضربه الحدّاد ضربة طار منها رأسه و سقط على الأرض.

و هنا خبر نبويّ صريح في الحكم بقتل من زنى بذات محرم و هو: من وقع على ذات محرم فاقتلوه [2].

و على الجملة فقد تحقّق انّ حكم الزاني بالمحارم هو القتل.

نعم هنا روايتان تعارضان ما دلّ على وجوب القتل من الروايات المتقدّمة إحديهما رواية محمّد بن عبد اللّٰه بن مهران عمّن ذكره عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن رجل وقع على أخته؟ قال يضرب ضربة بالسيف، قلت: فإنّه يخلص؟ قال: يحبس ابدا حتّى يموت «1».

و الأخرى رواية عامر بن السمط عن علىّ بن الحسين عليهما السّلام في الرجل يقع على أخته قال: يضرب ضربة بالسيف بلغت منه ما بلغت فان عاش خلّد في السجن حتّى يموت

«2».

فإنهما صريحتان في انّه لو لم يمت من الضربة فإنّه يخلّد في السجن الى ان يموت، إلّا أنهما ضعيفتان سندا و لم يعمل بهما كما قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه عند ذكر رواية ابن مهران: ضعيف و لم أر قائلا بها بل المقطوع به في كلامهم هو القتل «3».

و بعد سقوط هاتين تبقى الأخبار الدّالة على وجوب القتل المعمول بها عندهم و يعمل بهما.

ثم انّ هنا رواية أخرى في حدّ الزاني بذات محرم و هي لا تساعد شيئا

______________________________

[1] و قد قتلوه في سنة 362. ه بين الصفا و المروة مظلوما لفرية شانئة عليه. راجع الغدير الجلد 2 الصفحة 316.

[2] راجع سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 237 و المستدرك الجلد 2 الصفحة 225. أقول: قال السيّد ابن زهرة في الغنية: يحتجّ على المخالف بما رووه من قوله (ع): من وقع على ذات محرم فاقتلوه، و لم يفصل، ثم قال: و ليس لهم ان يحملوا ذلك على المستحلّ لانّه تخصيص بغير دليل و لانّه لو أراد ذلك لم يكن لتخصيص ذوات الأرحام فائدة. و روى المخالف أيضا انّ رجلا تزوّج امرأة أبيه قال أبو بردة فأمر النبي ص ان اقتله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 10.

(3) مرآة العقول الجلد 23 الصفحة 280.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 250

من الروايات السابقة و هي رواية أبي بصير عن عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا زنى الرجل بذات محرم حدّ حدّ الزاني الّا انّه أعظم ذنبا «1».

فان الظاهر منها انّ الزاني بذات محرم كالزاني بغيرها بلا فرق بينهما و

انّه لا خصوصيّة للزنا بذات محرم- و نتيجة ذلك انّه لو كان الزاني بذات محرم محصنا يرجم و الّا فإنّه يجلد- و انّما التفاوت بين الزنا بذات محرم و الزنا بغيره هو زيادة الذنب المحقّق بالزنا بذات محرم، و حيث انّ هذه المعتبرة مخالفة للروايات المتقدمة الدّالة على القتل فلذا ذهب الشيخ قدّس سرّه الى التخيير بين القتل و بين الرجم جمعا بينهما [1].

و فيه انّ هذا الحمل مشكل و هو خلاف ظاهر الرواية جدّا كما لا يخفى و العمدة انّها مطرحة غير معمول بها [2].

ثم انّه بان ممّا ذكرنا في المقام انّ الواجب و المعتبر هو قتله بضرب العنق بالسيف فلا يجوز قتله بغير السيف كالخنق أو بالرصاص و غير ذلك كما لا يجوز مطلق قتله بالسيف بان يضرب بالسيف على غير رقبته مثل ان يضرب به في بطنه أو على وسطه و غير ذلك، و ذلك لما مرّ من دلالة الروايات على خصوص ضرب الرّقبة.

فالقول بانّ المناط في ذلك كلّه هو القتل من غير دخل للخصوصيّات

______________________________

[1] قال قدّس سرّه في التهذيب الجلد 10 الصفحة 23: فأمّا ما رواه محمّد بن على. عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا زنى الرجل.، فلا ينافي ما قدّمناه من الاخبار من انّه يجب عليه ضربة بالسيف لأنّه إذا كان الغرض بالضربة قتله و فيما يجب على الزاني الرجم و هو يأتي على النفس فالإمام مخيّر بين ان يضربه بالسيف أو يرجمه.

[2] أقول: و يرد عليه أيضا بالنسبة إلى الجلد فان حدّ الزاني الوارد في المعتبرة أعمّ من الرجم و الجلد فكيف يجمع بينها و بين الاخبار المتقدّمة من هذه الجهة؟

و يمكن ان

يكون المراد من هذا الخبر انّ الزنا بذات محرم مساو للزنا بغيرها أوّلا فيجب الجلد ثم ازداد عظما و إثما لأجل المحرميّة فيجب القتل و على هذا فلا منافاة بينه و بين سائر الاخبار لانّه يجب الجلد لكونه زنا و القتل لخصوصيّة زائدة أي كونه بذات محرم فتأمّل فإنّه غير مفتى به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا الحديث 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 251

اجتهاد في مقابل الظاهر.

و امّا النبوي المتقدّم آنفا: من وقع على ذات محرم فاقتلوه، فهو و ان كان ظاهرا في تجويز مطلق القتل الّا انّى لم أجد في كلمات الأصحاب من تمسك به و اعتمد عليه و استند اليه فيشكل جبره بمجرّد الوفاق في القتل- و ان قال صاحب الجواهر بأنّه منجبر- و حينئذ فيشكل رفع اليد عمّا ورد في روايات متعدّدة من اعتبار ضرب العنق.

اللّهم الّا ان يستظهر انّ الملاك هو القتل بأيّ صورة و لا خصوصيّة لضرب العنق لكنّه مشكل عندنا [1].

و امّا انّه هل يعتبر كون قتله بضربة واحدة؟ فالظاهر انّه لا خصوصيّة لها بعد انّ الحكم هو القتل، و على هذا فلو لم يقتل بالأولى فإنّه يقتل بالثانية و هكذا.

و هل الحكم جار في مطلق الزاني بالمحارم و ان كان محصنا أو انّه يختصّ بالزاني غير المحصن و امّا المحصن فله حكمه أي الرجم؟.

أقول: انّ نسبة أدلّة الإحصان و أدلّة الزنا بذات محرم، العموم من وجه و لا إشكال في مادّتي الافتراق اى زنا المحصن بغير ذات محرم و الزنا بذات محرم بلا إحصان فإنّ الحكم في الأوّل هو الرجم و في الثاني هو القتل، و انّما يشكل الأمر في

المجمع أي الزاني بذات محرم و هو محصن، و مقتضى القاعدة الأصولية و ان كان هو التخيير في أخذ هذا أو ذاك لكنّهم رضوان اللّٰه عليهم أجمعين رجّحوا جانب أدلّة الزنا بذات المحرم و حكموا بالقتل و على هذا فلا فرق في ذلك بين كونه محصنا أو غير محصن- كما لا فرق بين المسلم و غيره و لا بين الحرّ و العبد.

و لعلّ ذلك لأجل ما ربّما يظهر من أدلّة الزنا بذات محرم من انّ لسانها آبية عن التخصيص بخلاف أدلّة الإحصان فإنّها ليس بهذه المثابة.

و هل يجب مع القتل الجلد أيضا- كما قد يقال بالجمع بين الجلد

______________________________

[1] أقول: يبدو في الذهن قريبا ان ذكر السيف لكونه آلة متداولة للقتل آنذاك و الضرب به على العنق أسهل طريق في قتله به.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 252

و الرجم في المحصن- أو انه يقتصر على مجرّد القتل؟

أقول: انّ لنا عامّا و خاصّين امّا العامّ فهو قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» فإنّه ظاهر في انّ حكم كلّ زان أو زانية هو الجلد.

و امّا الخاصّان فأحدهما انّ الزاني بذات محرم يجب قتله، ثانيهما انّ الزاني المحصن يرجم، و لا شكّ في انّ النسبة بين العام و كلّ واحد من هذين هو العموم المطلق فإنّ الزاني أعم من المحصن و غيره كما و انّه أعم من الزاني بالمحرم و غيره و مقتضى ذلك، الحكم بأنّ الزاني يجلد إلّا إذا كان قد زنى بذات محرم مثلا فإنّه يقتل و قد ذهب اليه المشهور.

و خالف في ذلك ابن إدريس رحمه اللّٰه فإنّه قال: فامّا من يجب عليه القتل على كلّ حال

سواء كان محصنا أو غير محصن حرّا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا شيخا كان أو شابا فهو كلّ من وطئ ذات محرم له امّا أو ابنة أو أختا أو بنتيهما أو بنت أخيه أو عمّته أو خالته فإنّه يجب عليه القتل على كلّ حال بعد جلده حدّ الزاني لأنّه لا دليل على سقوطه عنه لقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، و لا منافاة بين جلده و بين قتله بعد الجلد، و ليس إطلاق قول أصحابنا: يجب عليه القتل على كلّ حال، دليلا على رفع حدّ الزنا عنه انتهى [1].

و فيه انّه و ان كان الجمع بينهما ممكنا و محتملا عقلا الّا انّ الحكم

______________________________

[1] السرائر الطبع الجديد الجلد 3 الصفحة 437 أقول: و قد افتى بما ذهب اليه ابن إدريس بعض آخر كالشهيدين و الأردبيلي ففي الروضة مزجا: و يجمع له أي للزاني في هذه الصور الثلاث- الزاني بالمحرم، و الذمّي بالمسلمة و الزاني مكرها للمرأة- بين الجلد ثم القتل على الأقوى جمعا بين الأدلّة فإنّ الآية دلّت على جلد مطلق الزاني و الروايات دلّت على قتل من ذكر، و لا منافاة بينهما فيجب الجمع انتهى راجع الصفحة 332 من الجلد 2.

و قال الأردبيلي رحمه اللّٰه: و لمّا أمكن الجمع بين الجلد و ضرب العنق يفعل، عملا بالدليلين انتهى.

______________________________

(1) سورة النور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 253

بخصوص القتل في الزاني بالمحرم هو مقتضى الجمع بين العامّ و الخاص سواء كان الخاص و دليل الاستثناء هو الاخبار أو انّه الإجماع- كما عبّر هو بإطلاق قول أصحابنا، حيث انّه لا يعمل بأخبار الآحاد- فان معنى هذا

الخاص انّ حكم الزاني و ان كان هو الجلد الّا انّه يستثني من ذلك قسم خاصّ من الزناة و هو الزاني بذات محرم، و على الجملة فظاهر الاخبار و كلمات الأصحاب هو التنويع و التقسيم كالحاضر و المسافر و القصر في الأوّل و الإتمام في الثاني.

و ما ذكره يصح لو لم تكن الأدلة ظاهرة في التنويع و اختصاص كلّ موضوع بحكم، و الحال انّ الاخبار ظاهرة جدا في ذلك و إليك بعضها:

عن ابي بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الرجم حدّ اللّٰه الأكبر، و الجلد حدّ اللّٰه الأصغر، فإذا زنى الرجل المحصن رجم و لم يجلد «1».

و عن يونس عن سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الحرّ و الحرّة إذا زنيا جلد كلّ واحد منهما مأة جلدة فأمّا المحصن و المحصنة فعليهما الرجم [1].

ترى انّ صريح الاولى و ظاهر الثانية هو انّ الزاني غير المحصن يجلد و المحصن يرجم لا غير كما انّه يستفاد من قوله عليه السّلام في الرواية الأولى:

حدّ اللّٰه الأكبر و حدّ اللّٰه الأصغر، إنّ الحدّين لا يجتمعان في مورد واحد و عمل واحد و انّه لا يحدّ المرتكب للزنا حدّين لصدور زنا واحد عنه [2].

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3، أقول: و في نهج البلاغة خطبة 127: و قد علمتم انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله رجم الزاني المحصن. و جلد الزاني غير المحصن.

[2] أقول: قال العلامة في القواعد بعد ذكره ان القتل حدّ أربعة.: و لا يعتبر في هؤلاء الإحصان و لا الشيخوخيّة بل يقتل كلّ منهم حرّا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا شيخا كان

أو شابا و يقتصر على قتله بالسيف. انتهى.

و قال فخر الدين في شرحه: افتى المصنف بقتلهم من غير اشتراط أمر زائد على الزنا أو من غير أمر زائد على القتل و هو قول الشيخ في النهاية و المفيد و ابن البرّاج و ابى الصلاح، و قال ابن إدريس: «نقل

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 254

و قد ظهر انّ ما أفاده رحمه اللّٰه بقوله: و ليس إطلاق قول أصحابنا: يجب عليه القتل على كلّ حال، دليلا على رفع حدّ الزنا عنه، ليس تاما فان ظاهرهم كظاهر الاخبار هو وجوب خصوص الرجم بلا ضمّ الجلد اليه.

هذا هو مقتضى القاعدة و الّا فلو دلّ الدليل في مورد على الجمع بينهما كما في زنا الشيخ و الشيخة فإنّه يجمع بينهما.

لا يقال: انّ الروايات الواردة في ب 15 من مقدّمات الحدود تدلّ على انّه يجمع بين الجلد و الحدّ [1].

لأنّا نقول: انّها واردة في الأسباب المختلفة و ليس هنا الّا سبب واحد لما ذكرنا من انّ المقام من قبيل الحاضر و المسافر.

هذا كله بالنسبة إلى العام و الخاصّين.

و امّا نسبة الخاصين أحدهما إلى الآخر فهي العموم من وجه، و ذلك لانّه يقال: من زنى بذات محرم يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن، و من زنى محصنا يرجم سواء كان قد زنى بذات محرم أم لا و لا اشكال كما تقدّم في مادّتي الافتراق فإنّه يقتل الزاني بذات محرم و هو غير محصن كما انّه يرجم الزاني محصنا بغير ذات محرم، و انّما النزاع في مادّة الاجتماع فمقتضى دليل الإحصان رجمه كما انّ مقتضى دليل الزنا

بذات محرم هو قتله و حيث انّ المقتضى لكلّ من الرجم و القتل موجود فالمقام من قبيل المتزاحمين نظير من رأى غريقين و لا يقدر على إنقاذ كليهما و انّما يتمكن من إنقاذ واحد منهما- فإنّه لو كان متمكّنا من إنقاذ كليهما كان يجب ذلك- فدليل وجوب إنقاذ الغريق و الأمر به لم يخصّص بالنسبة إلى أحدهما لكنه لا يتمكّن الّا من إنقاذ واحد

______________________________

هنا كلام السرائر الى ان قال:» و الأقوى عندي اختيار والدي المصنف انتهى و في الرياض بعد المناقشة في دعوى عدم المنافاة بين الأدلّة قال: بعد ما عرفت من ورود أدلّة القتل في مقام الحاجة الموجب للدلالة على عدم حدّ آخر و الّا للزم تأخير البيان عنها و هو غير جائز بلا شبهة و لعلّة لذا اختار المشهور القتل خاصّة كما صرّح به بعض الأجلّة الى ان قال: فاذا الشهور لا يخلو عن قوة سيّما و انّ الحدود تدرء بالشبه انتهى.

[1] أورده هذا العبد و أجاب أدام اللّٰه بقاه بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 255

منهما و العقل يحكم في هذا المقام بإتيان واحد من الأمرين فإن كان ترجيح فيأتي بذي المرجح كما إذا كان في المثال أحدهما عالما و الآخر ليس بعالم و الّا فهو مخيّر بينهما ففي المثال ينقذ واحدا أيّهما شاء هذا أو ذاك، و كذا الحكم في المقام، و حيث انّ دليل الرجم و القتل تامّ، و المقتضى موجود الّا انّه لا يمكن الجمع بينهما عقلا فيحكم بتخييره بينهما فله ان يرجمه أخذا بدليل الرجم، أو يقتله تمسكا بدليل القتل، لكن المشهور بل قاطبة الأصحاب حكموا بالقتل و لم أعثر- كما مرّ- الى

الآن على من قال بالرجم هنا و الحاصل انّ الترجيح لدليل القتل للإجماع على ذلك.

و قد ذكر لتقديم القتل عندهم وجهان أحدهما انّ أدلّة القتل ناظرة إلى إثبات خصوصيّة في الزنا بذاته محرم فيرفع اليد بها عن إطلاق ما دلّ على ثبوت الرجم.

ثانيهما انّ الروايات الدّالة على انّ الزاني بذات محرم يقتل بالسيف، أظهر من الروايات الدالة على ان الزاني محصنا يرجم نظرا الى انّ الاولى بالعموم و دلالة هذه بالإطلاق و من المعلوم انّ دلالة العموم وضعيّ و دلالة الإطلاق ليست كذلك بل هي بالمقدّمات فتقدّم أدلة القتل على أدلّة الرجم في مورد الاجتماع.

و كلاهما محلّ الإشكال امّا الأوّل فلانّه لا فرق بينهما من جهة الخصوصيّة فكما انّ في الزنا بذات محرم خصوصيّة أوجبت القتل كذلك في الزنا محصنا أيضا خصوصيّة أوجبت الرجم و لا تفاوت بينهما أصلا.

و امّا الثاني فلعدم الفرق بينهما و عدم أظهريّة لأدلّة القتل فاذا كان قوله (ع): من وقع أو من زنى بذات محرم دالّا على العموم فقوله (ع): المحصن يرجم أيضا يدلّ على العموم فان معناه بعد كون الالف و اللام للاستغراق هو انّ كلّ محصن يرجم بل و كذلك لو كان حرف التعريف للجنس و كما انّ للزاني بذات محرم إفراد و مصاديق كذلك الزاني المحصن.

و امّا النبوي (ص): من وقع على ذات محرم فاقتلوه، ففيه أولا انّهم لم يتمسّكوا به و ثانيا انّ النسبة بينه و بين أدلّة الرجم أيضا عموم من وجه و الكلام

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 256

هو الكلام.

نعم لو قيل بانّ الميزان هو افناء هذا الشخص بلا خصوصيّة للقتل بالسيف فهناك لا معارضة، لصحّ الحكم بالتخيير شرعا بين قتله

أو رجمه، و امّا بعد البناء على خصوصيّة القتل بالسيف تعبّدا كخصوصية رجم المحصن فهما متزاحمان و العقل بحكم بالتخيير عند عدم مرّجح في البين.

الكلام في إلحاق السببي من المحارم بالنسبي

ثم انّه هل تلحق المحرّمات سببا بالمحرّمات نسبا في إيجاب الزنا بهن القتل، أم لا؟ ظاهر الشرائع و المختصر النافع هو اختصاص الحكم بالنسبي، و قد ذهب اليه المشهور أيضا و عليه فلا يشمل الحكم المحرّمات بالسبب كأمّ الزوجة و بنتها، و خالف في ذلك بعض الأصحاب.

و غير خاف انّ البحث ليس لغويّا و لا الاختلاف في المسئلة اللغويّة و ذلك لعدم خفاء أصلا في معنى المحرم و وضوح انّ معناه من يحرم نكاحه و هذا المعنى يعمّ السببي أيضا بل و الرضاعي، فلا حاجة الى ذكر قول اللغويّين و انّما البحث في انصرافه في الأدلّة إلى خصوص من يحرم نكاحه بالسبب بحيث لا يتبادر منه الّا ذلك- مع انّ اللفظ بإطلاقه يشمل غيرها- و عدم انصرافه، و قد ادّعى ذلك بعض العلماء.

قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: و المتبادر من ذات المحرم النسبيّة، ثم قال: و يمكن شمولها للسببيّة و قد تقدّم في بابه انّ المحرم من يحرم نكاحه مؤبّدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة و حينئذ فلا يقتصر على امرأة الأب بل يتعدّى الى غيرها من المحرّمات السببيّة و الرضاعيّة انتهى «1».

فمع دعواه تبادر الخصوص قوّى و استظهر العموم و عدم فرق بين النسبي و السببيّ و الرضاعي.

و قال كاشف اللثام: لمّا كان التّهجم على الدماء مشكلا قصر الحكم

______________________________

(1) مسالك الافهام الجلد 2 الصفحة 427.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 257

على ذات محرم نسبا لا سببا أو رضاعا الّا ما سيأتي في امرأة الأب وفاقا للمحقّق

و بنى إدريس و زهرة و حمزة بناء على انّه المتبادر الى الفهم و لا نصّ و لا إجماع على غيرها، و في المبسوط و الخلاف و الجامع إلحاق الرضاع بالنسب دون السبب الّا امرأة الأب «1» فهو قد ادّعى تبادر خصوص النسبي و قصر الحكم عليه.

و قال صاحب الرياض- بعد ذكر المحرمات بالنسب و الحكم بانّ الزنا بهنّ يوجب القتل، و الاستدلال بالإجماع و النصوص-: و امّا غير هن من المحارم بالمصاهرة كبنت الزوجة و أمّها فكغيرهنّ من الأجانب على ما يظهر من الفتاوى، و النصوص خالية من تخصيص النسبي بل الحكم فيها معلّق على ذات محرم مطلقا لكن سند أكثرها ضعيفة، و الحسن منها قاصر عن الصحّة، و الصحيح منها رواية واحدة لا يجسر بمثلها على التهجّم على النفوس المحترمة سيّما مع عدم صراحة في الدلالة لو لم نقل بكونها ضعيفة بناء على عدم انصراف ذات محرم بحكم التبادر الى السببيّات بل المتبادر منها النسبيّات خاصّة [1].

و هو قد اعترف أوّلا بشمول اللفظ للسببيّ و الرضاعيّ لكنه استشكل في ذلك، و نحن نقول انّ الحكم قد تعلّق بذات محرم ففي بعض الروايات:

من وقع على ذات محرم كذا، و مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي كون الملاك في الحكم بالقتل هو وقوع الزنا بذات محرم، و بعبارة اخرى انّ الحكم معلّل في الحقيقة و كأنّه قيل: يجب قتل هذا الزاني لكون زناه زناء بذات محرم فان تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعليّة و على هذا فالروايات شاملة لكلّ من انطبق

______________________________

[1] و مثله الأردبيلي فإنّه قال في الشرح: العمل بظاهر الروايات يقتضي التعميم و لكن سند أكثرها غير صحيح و مبني الحدود على التخفيف و السقوط

للشبهة، و فتوى الأكثر على خلاف ذلك على ما يظهر من تقييد الأكثر بالنسب و التردّد في غيره أو السكوت مع ذكر امرأة الأب كما في المتن فتأمل انتهى. و قال العلّامة في الإرشاد: القتل، و يجب على الزاني بالمحرمات نسبا كالأمّ و بامرأة الأب انتهى.

______________________________

(1) كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 218.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 258

عليه هذا العنوان بلا فرق بين النسبي و السببيّ، و امّا ما ذكره بعد اعترافه بإطلاق الأدلّة و شمولها للسببىّ أيضا، من ضعف سند الروايات الواردة في الباب و عدم صحّة سندها إلّا رواية واحدة و لا يجسر بمثلها على التهجّم على النفوس، و كذا تبادر النسبيّات، فهو غير تام و ذلك لانّه لو كانت الرواية حجّة قابلة للاعتماد عليها و العمل بها فلا بدّ من الأخذ بها مطلقا بلا فرق بين المقامين.

و بذلك ظهر الجواب عمّا ذكره في كشف اللثام أيضا و ذلك لانّ الحكم بالإلحاق مع الدليل ليس من باب التهجّم على الدماء فلو لم يكن لنا دليل على الإلحاق لصحّ ما ذكره، و امّا إذا كان هناك دليل يدلّ على المطلوب فلا، و قد علمت انّ الروايات تدلّ بظاهرها على الإلحاق.

و امّا بالنسبة إلى التبادر فنقول: انّ المتبادر من: الزنا بذات محرم يوجب القتل، سواء ألقيت بالعربيّة أو بالفارسيّة هو الزنا الصادر ممّن كان محرما و بالنسبة إلى المحرم اى من يحرم نكاحه و لا انصراف في البين و لا تبادر، و على الجملة فالمتفاهم العرفي من مثل قوله عليه السّلام: من وقع بذات محرم، و أمثال ذلك هو الإطلاق و الشمول، و ان كان قوله عليه السّلام في بعض الروايات كرواية ابن

مهران: رجل وقع على أخته إلخ منصرفا إلى الأخت النسبي، و من ذلك يعلم انّ ما ذكره في الجواهر في أثناء كلامه دفاعا عن الرياض من انّ المنساق من ذات محرم هو النسبي، في محلّ المنع، فان رفع اليد عن العام الظاهر في العموم بادعاء التبادر المختلف فيه في خصوص المقام، في غاية الإشكال [1] الّا ان يكون إجماع على اختصاص الحكم بالنسبي.

و امّا كون النسبي هو المتيقّن من ذات محرم فيؤخذ به دون السببي.

______________________________

[1] أقول: و قال الفيض الكاشاني في المفاتيح الجلد 2 الصفحة 70: و كذا (يقتل) إذا زنى بذات محرم بلا خلاف للنصوص المستفيضة. و خصّه جماعة بالنسبيّات لأنهنّ المتبادر، و الأظهر شموله للسببيّات و في التبادر منع انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 259

ففيه انّ القدر المتيقّن إذا كان متعلقا بمقام التخاطب لكان يجب الأخذ به و امّا إذا لم يكن كذلك فهو لا يضرّ بالأخذ بالإطلاق.

لا يقال: انّ إطلاق الروايات و ان كان شاملا للنسبىّ و السببيّ الّا انّ ذهاب المشهور الى اختصاص الحكم بالأوّل يحملنا على الأخذ بقول المشهور دون غيره كما قد يتمسّك بفهم الأصحاب في بعض الموارد الأخر [1].

لأنّه يقال يشكل رفع اليد عن العموم بمجرّد فهم الأصحاب بعد انّه الظاهر.

و امّا القول بإلحاق خصوص السببي المذكور في الآية الكريمة دون غيره [2] فهو بلا دليل و لم يقل به أحد، و انّما ذكر بعض السببيّات في الآية من باب المثال و اراءة المصداق، غاية الأمر انّ للزاني بزوجة الأب حكما خاصّا و هو الرجم.

لا يقال: انّه لا أقلّ من كون المقام من موارد الشبهة لعدم إفتاء الأكثر بالإلحاق، و الحدود تدرء بالشبهات [3].

لأنّا نقول:

لا شبهة بعد الاستظهار من الأدلّة.

فتحصّل انّه لا يتمّ القول بالانصراف، بل لا فرق بينهما في الحكم.

الّا انّ المشهور القول بعدم القتل هنا و لعلّه أشير إليهم من النواحي العالية.

______________________________

[1] أورده هذا العبد و تفضّل دام عمره بالجواب بما ذكرناه

[2] أورده بعض زملائنا و الآية هو قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ. وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اللّٰاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلٰائِلُ أَبْنٰائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلٰابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. سورة النساء- 27.

[3] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما في المتن و لكن لم اقتنع كاملا فإنّه لا شكّ في عدم إفتاء المشهور بالإلحاق و هذا يوجب الشبهة في الحكم به و قد رأيت بعد ذلك انّ الأردبيلي قدّس سرّه أيضا ذكر ذلك فراجع ما ذكرناه عنه في بعض الهوامش السابقة كما انّ السيّد الخوانساري قدّس سرّه أيضا أورد ذلك فإنّه بعد نقل رواية إسماعيل بن ابي زياد الدالة على رجم الزاني بامرأة أبيه قال: و يقع الاشكال من جهة عدم صحّة السند و فتوى الأكثر على الخلاف و تدرء الحدود بالشبهات.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 260

و الإنصاف انّه يشكل الأمر بذلك فلو أريد الاحتياط ففي مورد الإحصان يدور الأمر بين الرجم- لانّه محصن و المشهور قائلون بالانصراف- و بين القتل- على ما ذكرناه من عدمه- و الاحتياط في اختيار الأخفّ زجرا و هو القتل و امّا في غير مورد الإحصان فالدوران بين القتل و الجلد و يؤخذ بالأخفّ اى الجلد.

و هل الحكم جار في النسبيّ الشرعيّ خاصّة أو انّه جار في النسبيّ مطلقا

و ان لم يكن شرعيّا كما إذا كان من زنا؟

قال في الجواهر: نعم قد يقال باختصاص ذلك بالنسب الشرعيّ أمّا المحرم من الزنا فلا يثبت له فيها الحدّ المزبور للأصل و غيره، و لم يحضرني الآن نصّ لأصحابنا فيه.

أقول: الوجه في عدم الشمول هو انّ الشارع قد نفى النسبة و حكم بعدم التوارث بين الولد و الوالدين و عليه فهذه الأمومة غير معتبرة شرعا و انّما المعتبر الأمومة الشرعية الحقيقيّة لا العرفيّة.

و لكن الظاهر انّ الأمر ليس كذلك فانّا إذا علمنا انّه لا يجوز لولد الزنا نكاح امّه فلا محالة تكون امّه هذه محرّمة النكاح عليه و حينئذ يجري الدليل العامّ و هو انّ الزنا بذات محرم يوجب القتل و بعبارة اخرى انّ أمّ ولد الزنا أمّ، و الزّاني بالأمّ يقتل، و ذلك لانّ الأمّ هو من ولدت الطفل و ليس له اصطلاح خاص غير ذلك.

و على الجملة فالشارع و ان كان قد نفى الأمومة في بعض الأحكام كالتوارث لكن الأمومة الحقيقيّة و هي الولادة، ثابتة محقّقة، و الإرث خارج بالنص الخاص و حيث انّ الأمومة و الولادة الحقيقيّة موضوع لترتّب القتل على الزنا هناك فلا محالة يقتل الزاني بالأمّ الزنائي و لا انصراف للّام عنها و ان فرضنا انصراف ذات محرم عن السببي لأنّ هذه محرم نسبا و هي أمّ واقعا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 261

المحرّمات الرضاعية

و هل الحكم في المحرّمات بالرضاع أيضا هو القتل كالمحرّمات بالنسب أم لا؟ قد الحق بعض الأصحاب كالشيخ في الخلاف و المبسوط و ابن سعيد في الجامع، الرضاع بالنسب [1] و خالف فيه الآخرون.

و قد يتمسّك و يستدلّ للاوّل بالخبر الشريف: الرضاع لحمة كلحمة النسب

[2] و اللحمة بالفارسيّة يعنى تار و پود و رشته، فاللحمة المحقّقة بالرضاع كاللحمة الحاصلة بالنسب، و وجه الشبه واضح فان النسب يؤثر في التكوين و الإيجاد، و الرضاع في النموّ و التربية، و كما انّ الولد النسبي قد تكوّن و خلق من الأب و الامّ، كذلك الولد الرضاعي قد نما و شبّ بلبن أمّه الرضاعيّ.

و قد يستشكل في ذلك بعدم عمل معظم الأصحاب به في أكثر المقامات كالإرث و الولاية و غيرها، فان الولد الرضاعي لا يرث امّه و لا العكس و كذا لا ولاية لأبي المرتضع، في حين انّ للوالد الحقيقي الولاية على ولده، و ذلك يدلّ على انّ لحمة الرضاع كلحمة النسب في خصوص النكاح.

و فيه انّ الظاهر من الخبر هو افادة حكم عام و المستفاد منه انّ

______________________________

[1] راجع الخلاف كتاب الحدود المسئلة 29 و المبسوط كتاب الحدود- ج 8- الصفحة 9، و الجامع الصفحة 549 قال الأخير: من زنى بذات محرم كالأمّ و البنت و الأخت نسبا أو رضاعا أو عقد عليها و وطئها و هو يعرفها قتل و كذلك ان اشتراها فوطئها فإن زنا بأخته فضرب بالسيف ضربة فلم يمت فروى انّه يحبس ابدا انتهى.

و يستفاد من كلامه انّه قد جمع بين الروايات بأنّ الزاني بالمحرمات يقتل إلّا الزاني بالأخت فإنّه يضرب بالسيف فان قتل فهو و الّا فإنّه يحبس الى ان يموت و لعلّه وجه حسن للجمع لأنّ رواية الحبس بعد الضرب واردة في الأخت و قد ذكرت ذلك للسيد الأستاد الأكبر لكنّه دام ظله أجاب بأنّه لم يقل به أحد و يرجّح طرح الرواية على حملها على ما لم يقل به أحد.

[2] الميزان الجلد 4 الصفحة 301،

الجواهر الجلد 29 الصفحة 310 لكنّي لم أجدها في الوسائل و لا في مستدركه، و في تذييلات الجواهر: لم نعثر على هذه الرواية مع التتبّع التامّ في مظانّها إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 262

الرضاع كالنسب في تمام الأحكام، نعم قد يخرج عن العام بدليل خاص، و على هذا فيجري عليه كلّ أحكام الولد النسبي، منها انّه لا يجوز النكاح و منها انّه لو ابتاع الولد الرضاعي أباه عن رضاع لانْعتق عليه كالولد النسبي و هكذا، فالخارج كالإرث و الولاية قد خرج بالدليل، و مقتضى هذا ان يكون حدّ الزنا بالمحرمات بالرضاع هو حدّه بالمحرمات بالنسب و هو القتل.

و يؤيّد ذلك ما ورد من انّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب «1» بضمّ الروايات الدالة على انّ الزنا بذات محرم يوجب القتل.

نعم لو كان هناك إجماع على عدم الحاقة به فلا كلام لنا في مقابل الإجماع.

الذميّ إذا زنى بمسلمة يقتل

و ممّن حدّه القتل، هو الذميّ الذي فجر بامرأة مسلمة.

قال المحقّق: و الذمّي إذا زنى بمسلمة.

أقول: و لا فرق في ذلك بين كونها مطاوعة أو مكرهة بل الحكم كذلك في مطلق الكافر و ان لم يكن ذميّا. و لا خلاف في ذلك قال في الجواهر: بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكىّ منها مستفيض.

قال الصدوق قدّس سرّه: و الذميّ إذا زنى بمسلة قتل «2».

و قال الشيخ الطوسي: فامّا من وجب عليه القتل على كلّ حال سواء كان محصنا أو غير محصن. فهو كلّ من وطئ ذات محرم له. و كذلك الذمي إذا زنى بامرأة مسلمة فإنّه يجب عليه القتل على كلّ حال «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 14 الصفحة 280 الحديث 1 و 3 و

4.

(2) الهداية الصفحة 76.

(3) النهاية الصفحة 692.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 263

و قال الشيخ المفيد: إذا فجر ذميّ بمسلمة كان حدّه القتل «1».

و قال أيضا: إذا زنى الذميّ بالمسلمة ضربت عنقه «2».

و قال ابن إدريس في السرائر: فامّا من يجب عليه القتل على كل حال. فهو كلّ من وطئ ذات محرم. و كذلك الذميّ إذا زنى بامرأة مسلمة فإنّه يجب عليه القتل على كلّ حال «3».

و قال السيّد المرتضى: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ الذميّ إذا زنى بالمسلمة ضربت عنقه «4».

و قال سلّار: و يقتل الذميّ إذا زنى بمسلمة على كلّ حال «5».

و قال ابن زهرة: و منهم من يجب عليه القتل حرّا كان أو عبدا محصنا أو غير محصن على كلّ حال و هو من زنى بذات محرم له و وطئها مع العقد عليها و العلم برحمها منه أو زنى بامرأة أبيه أو غصب امرأة على نفسه أو زنى و هو ذميّ بمسلمة. و في زنا الذمي بالمسلمة خرق للذمّة و من خرق الذمّة فهو مباح القتل بلا خلاف. «6».

و قال ابن حمزة: امّا الزناة فضربان أحدهما يستوي فيه الإحصان و فقده، و الآخر لا يستويان، فما يستويان فيه يكون موجبه القتل و هو في خمسة مواضع: الزنا بزوجة الأب و بجاريته التي وطئها و قهر المرأة على فرجها.

و زنا الذميّ بالمسلم و وطئ كلّ ذات محرم مع العلم بأنّها ذات محرم بعقد كان أو بابتياع «7».

الى غير ذلك من كلماتهم في المقام.

______________________________

(1) المقنعة الصفحة 783.

(2) المقنعة الصفحة 778.

(3) السرائر الجلد 3 الصفحة 439.

(4) الانتصار الصفحة 261.

(5) المراسم الصفحة 251.

(6) راجع الجوامع الفقهية كتاب الغنية الصفحة 622.

(7) الوسيلة الصفحة

410

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 264

و تدلّ على ذلك مضافا الى الإجماع الذي تقدّم ذكره رواية حنان بن سدير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن يهودي فجر بمسلمة قال:

يقتل [1].

نعم هنا بحث و هو انّه هل الحكم كذلك أيضا حتّى فيما إذا تاب و أسلم بعد ان زنى بالمسلمة أو أنّه إذا أسلم يرفع عنه هذا الحكم؟

احتمل بعض الأصحاب سقوط الحدّ عنه بذلك لكن المشهور خلافه.

و رواية حنان بن سدير مطلقة تشمل ما إذا أسلم بعد ان فجر و ما إذا لم يسلم و ان كان الظاهر منها هو فرض عدم إسلامه و الّا لكان يذكر ذلك.

قال الشيخ المفيد بعد ان حكم بقتل الذمي الذي فجر بمسلمة: فإن أسلم عند اقامة الحدّ عليه قبل إسلامه و امضى فيه الحدّ يضرب عنقه و لم يمنع إظهاره الإسلام من قتله، فان كان قد أسلم فيما بيّنه و بين اللّٰه عزّ و جلّ «1»

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 36 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1، أقول: قال في جامع الرواة الجلد 1 الصفحة 284: حنان بن سدير الصيرفي واقفي ثقة انتهى. و قال المحقّق الأردبيلي في مجمع البرهان: و لا يضرّ القول في حنان.

ثم أقول: قد استدل أيضا يكون ذلك خروجا عن الذمة، قال في الانتصار: و الوجه في صحّة قولنا زائدا على إجماع الطائفة ان هذا الفعل من الذمي خرق للذمة و امتهان للإسلام و جرأة على اهله و لا خلاف في انّ من خرق الذّمة كان مباح الدم، ثم قال: فان قيل: كيف يقتل من لم يكن قاتلا؟

قلنا كما نقتله مع الإحصان و ليس بقاتل و يقتل المرتد و

ليس بقاتل و بعد فاذا جاز ان يتغلّظ في الشريعة حكم زنا المحصن حتّى يلحق بأخذ النفس، ما المنكر من ان يتغلظ أيضا زنا الذمّي بالمسلمة حتّى يلحق بوجوب تناول النفس انتهى.

و قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي الصفحة 406: و ان كان «الزاني ذميا» بمسلمة حرّة أو امة صغيرة أو كبيرة عاقلة أو مجنونة حيّة أو ميتة قتل لخروجه عن حرمة الذمّة إلخ.

و في كشف اللثام: لخروجه بذلك عن الذّمة و اجترائه على الإسلام و هتكه حرمته.

______________________________

(1) المقنعة الصفحة 783.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 265

و قال الشيخ بعد العبارة المتقدّمة عنه: فإن أسلم الذميّ لم يسقط بذلك عنه الحدّ بالقتل و وجب قتله على كلّ حال «1».

و قال ابن إدريس: فإن أسلم الذمّيّ ما يسقط بذلك عنه الحدّ بالقتل و وجب قتله على كلّ حال «2» و قال العلّامة و لو أسلم الذمّي الزاني بالمسلمة قتل أيضا [1].

فهؤلاء الافذاذ كلّهم متّفقون على انّ إسلامه بعد زناه لا يوجب سقوط الحدّ عنه.

نعم في عبارة المفيد قيد زائد على غيره و هو إسلامه عند اقامة الحدّ عليه، بخلاف عبارات الآخرين فإنّها مطلقة في عدم سقوط الحدّ بإسلام الذميّ بعد ان زنى بمسلمة.

و من هذا يظهر ما في كشف اللثام في هذا المقام من عدّ المقنعة في رديف النهاية و السرائر و التحرير، من التسامح و ذلك لانّه قد قيّد في المقنعة إسلامه بما إذا كان عند اقامة الحدّ عليه.

و الذي يستدلّ به على ذلك أمور ذكرها في كشف اللثام قال: و ان أسلم الذمي بعد ذلك فهل يسقط منه القتل؟ في المقنعة و النهاية و السرائر و التحرير: لا، استصحابا و عملا بالعموم

و لخبر جعفر بن رزق اللّٰه.

أقول: امّا الاستصحاب فهو لا يجري إلّا بعد ثبوت الزنا يعنى انّه إذا أسلم بعد ان ثبت عليه الزنا فهناك لو شكّ في بقاء حكم القتل عليه فإنه يستصحب ذلك بخلاف ما إذا أسلم قبل ذلك فإنّه حينئذ يجري استصحاب عدم الوجوب لانّ الشك حينئذ في ثبوت القتل عليه دون سقوطه.

______________________________

[1] التحرير الجلد 2 الصفحة 222. أقول: و قال أبو الصلاح في الكافي الصفحة 406: فإن أسلم قبل إسلامه و أجريت عليه أحكامه و لم يدرأ ذلك عنه الحدّ.

و قال ابن سعيد في جامعه الصفحة 549 عند عدّه من يقتل من الزناة: و كذلك الكافر إذا زنى بمسلمة فإن أسلم لم يسقط عنه ذلك

______________________________

(1) النهاية الصفحة 692.

(2) السرائر الجلد 3 الصفحة 439 و 440.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 266

و امّا العموم فالمراد به عموم مثل موثّق حنان بن سدير.

و فيه انّه محكوم برواية جبّ الإسلام، و بعبارة اخرى انّ دليل الجبّ يمنع العموم.

و امّا خبر جعفر فهو هذا:. عن جعفر بن رزق اللّٰه قال: قدّم الى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة و أراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه و فعله و قال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود و قال بعضهم يفعل به كذا و كذا فأمر المتوكّل بالكتاب الى ابي الحسن الثالث عليه السّلام و سؤاله عن ذلك فلمّا قدم الكتاب كتب أبو الحسن عليه السّلام:

يضرب حتّى يموت فأنكر يحيى بن أكثم و أنكر فقهاء العسكر ذلك و قالوا يا أمير المؤمنين سله عن هذا فإنّه شي ء لم ينطق به كتاب و لم تجي ء به السّنة فكتب: انّ فقهاء

المسلمين قد أنكروا هذا و قالوا: لم تجي ء به سنّة و لم ينطق به كتاب، فبيّن لنا بما أوجبت عليه الضرب حتّى يموت؟ فكتب عليه السّلام:

بسم اللّٰه الرّحمن الرحيم فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا سُنَّتَ اللّٰهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ الْكٰافِرُونَ. قال: فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات «1».

و هي تدلّ على انّ التوبة بعد رفع الأمر إلى الحاكم و ثبوت الزنا لديه لا تنفع في رفع الحدّ و قد استشهد عليه السّلام لذلك بالآية الكريمة، و يستفاد منه انّ البأس- الذي إذا عاينه الإنسان لا ينفعه الندم- أعم من العقوبة الأخرويّة التي هي العذاب فتشمل الدنيويّة أيضا و هي الحدّ و ذلك لمكان تطبيقه عليه السّلام الآية الكريمة على الحدّ فهذه سنة اللّٰه تعالى التي أجراها في الأمم الماضين فلم يك ينفع توبتهم في رفع العذاب و العقوبة.

و شبيه هذه الآية في المؤدّى و المضمون، الآية الشريفة الواردة في هلاك فرعون و ردّ توبته و هي قوله تعالى:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 36 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2، و الآية: سورة غافر- 84.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 267

وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [1].

و خبر جعفر و ان كان ضعيفا- لعدم ثبوت وثاقته- لكنه منجبر بعمل الأصحاب الّا انّ المستفاد و الظاهر منه هو إسلامه عند

تحتّم الحد عليه فرارا عنه.

و مقتضى ذلك هو التفصيل بين التوبة قبل ثبوت الحدّ عليه، و التوبة بعده في رفع الحدّ، فتقبل في الأوّل دون الثاني خلافا لما فهم المشهور و ذهبوا اليه من الإطلاق و عدم فائدة في إسلامه بعد ان زنى، سواء كان قبل الثبوت و الحكم أو بعد ذلك.

و قد ظهر بما ذكرناه انّ تفصيل المقنعة مستفاد من هذه الرواية فإنّ الظاهر منها انّ النصراني المذكور لمّا راى العذاب اى الحدّ الذي هو القتل، أسلم و قد حكم الامام عليه السّلام بأنّ إسلامه لا يفيد في رفع العذاب عنه و على هذا فلو أسلم و تاب بعد فجوره و قبل ان يثبت ذلك فإنّه يرفع عنه القتل.

و هنا وجه ثالث احتمله في كشف اللثام قائلًا: و يحتمل السقوط لجبّ الإسلام ما قبله، و الاحتياط في الدّماء، و حينئذ يسقط عنه الحدّ رأسا و لا ينقل الى الجلد للأصل انتهى.

و هو ظاهر في انّ الإسلام يوجب رفع الحدّ عنه مطلقا سواء كان قبل إثبات الحدّ عليه أم بعده.

و قد استدلّ على ذلك بجبّ الاسلام ما سلف و الاحتياط في الدماء.

______________________________

[1] سورة يونس الآية 89 و 90، أقول: و نظيرها أيضا في المضمون قوله تعالى فَلَوْ لٰا كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلّٰا قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ. سورة يونس- 97.

ثم إنّي أوردت بأنّه لا كليّة لعدم نفع الايمان بعد رؤية البأس و ذلك لتحصيصه في قصّة قوم يونس فأجاب دام ظله بأنّه هناك كان مقدّمة العذاب و آثاره لا نفسه.

[2] حديث الجبّ رواه في كنز العمّال الجلد 1 الصفحة 17 و 20، و

الجامع الصغير للسيوطي الجلد 1 الصفحة 160 و مسند أحمد بن حنبل الجلد 4 الصفحة 199 و 205، و أسد الغابة الجلد 5 الصفحة 54 و قد رواه القميّ في تفسيره 5 الجلد 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 268

و قد يقال بانّ حديث الجبّ ليس مرويّ عن طرق العامّة.

و أجيب عن ذلك بانّ المشهور من العامّة و الخاصّة قد عملوا به فيما لا دليل على خلافه.

نعم يرد على الاستدلال به ما مرّ من حكومة موثق ابن سدير و خبر جعفر بن رزق اللّٰه، على ذلك، فالإسلام يجبّ ما قبله الّا فيما إذا زنى الذمي بالمسلمة فإنّ إسلامه و ان كان مقبولا و هو يحسب مسلما الّا انّ الحدّ اى القتل لا يسقط عنه.

و هنا وجه رابع يظهر من صاحب الجواهر و هو التفصيل بين الإسلام حقيقة و الإسلام لفظا و صوريا تخلّصا و فرارا عن القتل، فيقبل إسلامه و يؤثّر في الأوّل سواء كان قبل إثبات الحدّ أو بعده، و لا يؤثّر مطلقا في الفرض الثاني.

و فيه انّه مخالف لما هو السيرة القطعيّة من معاملة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بالنسبة إلى المنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر و يظهرون الإسلام فإنّه صلوات اللّٰه عليه لم يكن يؤاخذهم بعد اظهارهم الإسلام بما فعلوه و أتوا به قبل اظهارهم الإسلام مع كونهم في الحقيقة كفّارا و انّما أظهروا الإسلام حفظا لنفوسهم و حقنا لدمائهم [1] قد صرّح اللّٰه تعالى بذلك و أخبر النبيّ بكذبهم بقوله إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ «1» و على الجملة فلازم ما ذكره عدم جبّ

إسلام المنافقين ما فعلوه في حال الكفر، و هو كما تراه فإنهم كانوا يقبلون إسلامهم و لم يؤاخذوهم بما فعلوا قبل الإسلام.

و قد ظهر من تلك الأبحاث انّه لا يبعد القول بالتفصيل بين إسلامه قبل قيام البيّنة و إثبات الحدّ عليه، و إسلامه بعد ذلك، فيدفع الحدّ في الأوّل دون

______________________________

[1] في دعاء الامام زين العابدين عليه السّلام: اللّهم انّ قوما آمنوا بألسنتهم ليحقنوا به دمائهم فأدركوا ما أمّلوا و انّا آمنا بألسنتنا و قلوبنا لتعفو عنّا إلخ.

______________________________

(1) سورة المنافقون الآية 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 269

الثاني، و ان كان إسلامه يقبل في كلا الحالين.

ثم انّه قد يقال بعدم تطابق رواية جعفر مع ما هو المذكور في الكلمات و عبارات الفقهاء، و ذلك لأنّهم يقولون بأنّ الذمي إذا فجر بامرأة مسلمة يقتل في حين انّ المذكور المصرّح به في صدر الرواية انّ أبا الحسن الثالث عليه السّلام كتب: يضرب حتّى يموت. كما انّ في ذيلها: فأمر به المتوكل فضرب حتّى مات، و الضرب حتّى يموت أمر غير القتل و فوقه و هو قتل مخصوص غير مطلقة.

و يمكن ان يكون حكمه هذا، لتشديد المعصية فيكون حكمه كقتل الصبر [1].

و فيه انّ هذا التعبير محمول على ما هو الوارد في نظائر المقام من الروايات التي ورد فيها انّه يضرب بالسيف، أو يضرب عنقه، و على هذا فالمراد من ضربه حتّى يموت انّه يضرب بالسيف الّا انّه لو لم يمت و لم يقتل بالضربة الأولى فإنّه لا يكتفى بها بل يضرب ثانيا و ثالثا الى ان يقتل، و يبعد جدّا ان يكون المراد ضربه بالعصا و غيره الى ان يموت.

ان قلت: انّ المستند في كلمات

القدماء غيره في كلمات المتأخّرين و ذلك لانّ المذكور في كلمات المتأخرين غالبا هو التمسك بالروايات كموثّق ابن سدير و خبر جعفر و إذا كان الأمر كذلك أمكن إسراء الحكم من الذميّ إلى مطلق الكفّار، و هذا بخلاف القدماء فترى السيد المرتضى لم يتمسك بالرواية أصلا بل استدلّ بخروج الذمي عن الذمة و هكذا الحلبي فراجع الانتصار و الكافي، و على هذا فيشكل الأمر في التعدّي إلى سائر الكفّار بل يقتصر على خصوص الذميّ بلحاظ التعليل و الاستدلال [2].

نقول: لا بأس باسراء الحكم و ان كان تمسك القدماء بخصوص هذا التعليل، و ذلك لانّ قصارى الكلام انّه بخروجه عن الذّمّة بزناه بالمسلمة قد أدرج في الكافر الحربي، بل لعلّ ذلك بنفسه يشعر بكون الحكم ذلك في

______________________________

[1] أورده هذا العبد و تكرّم دام ظلّه بالجواب بما في المتن

[2] أورده هذا العبد و أجاب دام بقائه بما قرّرناه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 270

مطلق الكفّار، أمّا الحربي فبنفسه و امّا الذّمّيّ فلصيرورته حربيا بواسطة خروجه عن الذمة حيث انّه زنى بالمسلمة، هذا مضافا الى انّه يمكن ادعاء الأولوية كما ادّعى ذلك.

الكلام في من زنى بامرأة مكرها لها

قال المحقّق: و كذا من زنى بامرأة مكرها لها.

أقول: ممّن حدّه القتل من الزناة هو من زنى بامرأة مكرها لها.

و في كشف اللثام: إجماعا كما في الانتصار و الغنية.

و في المسالك: بلا خلاف.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منهما مستفيض كالنصوص المعتبرة. انتهى.

و امّا النصوص و الاخبار الواردة في المقام الدالة على المقصود فمنها صحيح بريد العجلي قال: سئل أبو جعفر عليه السّلام عن رجل اغتصب امرأة فرجها، قال: يقتل محصنا كان أو غير محصن «1».

و

منها صحيح زرارة عن أحدهما عليهما السّلام في رجل غصب امرأة نفسها قال: يقتل «2».

و منها خبره الآخر قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: الرجل يغصب المرأة نفسها، قال: يقتل «3».

نعم هنا روايات لا تلائم تلك الروايات لانّ لسانها هو انّه يضرب السيف، بلغت منه ما بلغت، أو، مات منها أو عاش.

ففي خبر زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام في رجل غصب امرأة فرجها قال: يضرب ضربة بالسيف بالغة منه ما بلغت «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 17 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 17 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 17 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 17 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 271

و عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا كابر الرجل المرأة على نفسها ضرب ضربة بالسيف مات منها أو عاش «1».

و من المعلوم انّ ضربة بالسيف بالغة منه ما بلغت كما هو تعبير خبر زرارة و ضربة بالسيف مات منها أو عاش، الواردة في خبر ابى بصير، غير القتل المذكور في الروايات المتقدّمة.

و الذي يسهّل الخطب هو انّ صاحب الجواهر قال: انّى لم أجد عاملا بهما فوجب طرحهما في مقابل ما عرفت أو حملهما على ما لا ينافي ذلك انتهى «2».

و امّا احتمال ان يكون المكابرة في نفسها في معتبرة أبي بصير بمعنى المجادلة في قتلها، فهو خلاف الظاهر جدّا.

هذا مضافا الى اشتمال القسم الأوّل على صحيحتين و عدم اشتمال القسم الأخير على رواية صحيحة. [3]

عدم اعتبار الإحصان في المواضع المذكورة

قال المحقّق: و لا يعتبر في هذه

المواضع الإحصان بل يقتل على كلّ حال، شيخا كان أو شابا و يتساوى فيه الحرّ و العبد و المسلم و الكافر.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به بعض الأجلّة بل قد سمعت التصريح بالأوّل في نصوص المكرهة و لا قائل بالفرق، على انّه لو سلّم التعارض بين إطلاق الأدلّة هنا و بين غيرها من وجه فلا ريب في انّ

______________________________

[1] فان في سلسلة سند رواية زرارة علىّ بن حديد و حكى المامقاني عن القسم الثاني من الخلاصة انّه قال: ضعّفه شيخنا في كتاب الاستبصار و التهذيب و قال بأنّه لا يعوّل على ما ينفرد به، و عن الكشي انّه فطحي، راجع رجال المامقاني الجلد 2 الصفحة 275. و امّا رواية أبي بصير فقد عبّر عنها سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظلّه كبعض أجلّاء العصر بالمعتبرة الّا انّ المجلسي قدّس سرّه صرّح بكونها صحيحة فراجع مرّات العقول الجلد 23 الصفحة 288.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 17 من أبواب حدّ الزنا الحديث 6.

(2) جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 316.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 272

الترجيح لما هنا و لو لفتوى الأصحاب انتهى أقول: امّا التصريح بعدم الفرق بين الإحصان و عدمه في النصوص، ففي صحيح العجلي في خصوص رجل اغتصب امرأة فرجها، صرّح بأنّه يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن، فراجع.

و هذا هو الذي استظهرناه قبل ذلك و قلنا انّ ظاهر الأدلّة هو التنويع و التقسيم، فاذا كان الزاني زانيا بذات محرم أو ذميّا زنى بالمسلمة أو زنى مكرها للمرأة فحكمه القتل بلا فرق بين ان يكون محصنا أو غيره و بين ان يكون شيخا أو شابا و

بين ان يكون حرّا أو عبدا و بين ان يكون مسلما أو كافرا.

خلافا لا بن إدريس حيث قال بأنّه إذا كان أحد الموارد الثلاثة مجمعا لعنوانين يحكم فيه بحكم كلّ من العنوانين إذا أمكن الجمع بينهما جمعا للأدلّة.

فلو كان غير محصن فإنّه يجلد ثم يقتل و لو كان محصنا يجلد أولا ثمّ يرجم فان القتل يحصل بالرجم و غيره فلو رجم الزاني محصنا الذي هو من مصاديق المسائل الثلاثة فقد عمل فيه بالقتل أيضا لأنّ الرجم هو القتل باشدّ صوره و أشقّ أنواعه [1].

و فيه انّه يصحّ ذلك لو لم يفهم من دليل القتل سوى مجرّد إزهاق الروح امّا لو استفيد منه خصوص القتل بالسيف كما هو الظاهر منه فلا مجال لهذا الكلام و لا يجمع بينهما أصلا لأنّ القتل بالسيف شي ء و الرّجم شي ء آخر.

و امّا كون فتوى الأصحاب بالقتل مرجّحا لو سلّم التعارض بين إطلاق الأدلّة هنا و بين غيرها من وجه.

فنقول: لو كان ذلك مرجّحا كما في باب السند فهو و الّا فالحكم هو

______________________________

[1] أقول: إليك نصّ كلامه: و الذي يجب تحصيله في هذا القسم و هو الذي يجب عليه القتل على كلّ حال ان يقال: ان كان محصنا فيجب عليه الجلد أوّلا ثم الرجم فيحصل امتثال الأمر في الحدّين معا و لا يسقط واحد منهما، و يحصل أيضا المبتغى الذي هو القتل لأجل عموم أقوال أصحابنا و اخبارهم لأنّ الرجم يأتي على القتل و يحصل الأمر بحدّ الرجم و ان كان غير محصن فيجب الجلد لانّه زان ثم القتل بغير الرجم فيلحظ ذلك، راجع السرائر الصفحة 438 الجلد 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 273

التخير، و المسلّم هو

الأخذ بذلك عند التعارض السّنديّ لا الدلاليّ.

اللهمّ الّا ان يقرّر المقام بأنّه نظير باب التعيين و التخيير فإنّ الأخذ بمقتضى دليل القتل الذي افتى به المشهور لا ينافي التخيير لأنّه أحد طرفيه بخلاف الأخذ بدليل الإحصان و الرجم فإنّه لا يطمئن إليه بعد ذهاب المشهور الى خلافه، و العقل يحكم بترجيح أحد الطرفين إذا كانت الحال كذلك.

الزناء بامرأة الأب

اشارة

قال المحقّق: و كذا قيل في الزناء بامرأة أبيه.

أقول: يستفاد من العبارة انّه قدّس سرّه غير جازم بذلك حيث انّه نسبه الى القيل.

و كيف كان فالقائل به هو الشيخ و الحلبي و ابن زهرة و ابن إدريس و ابن حمزة و ابن البرّاج و ابن سعيد، على ما في الجواهر، و قال: بل نسبه بعض الى كثير و آخر إلى الشهرة بل عن الغنية الإجماع عليه و هو الحجّة بعد خبر السكوني.

و يظهر من كلامه انّ الزنا بامرأة الأب ليس كالزنا في الموارد الثلاثة السابقة لأنّه رحمه اللّٰه ذكر في كلّ واحد منها انّ الإجماع بقسميه عليه، و لم يذكر ذلك في المقام، و انّما اقتصر على ذكر الإجماع المنقول.

و امّا خبر السكوني فهو خبر إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه رفع اليه رجل وقع على امرأة أبيه فرجمه و كان غير محصن «1».

و قد قيل بأنّه منجبر «2» كما قد عبّر عنه بالمعتبرة [1].

نعم هنا اشكال و هو انّ هذا الخبر صريح في كون حدّه هو الرجم في

______________________________

[1] و قال في مباني التكملة الجلد 1 الصفحة 192: تدلّ على ذلك معتبرة إسماعيل بن زياد عن جعفر إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 19 من أبواب حدّ الزنا الحديث

9.

(2) راجع جواهر الكلام الجلد 41 الصفحة 316.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 274

حال انّهم قد حكموا فيه بالقتل كما انّ مقتضى تعبير المحقّق: و كذا قيل إلخ هو انّ الحكم في هذا المورد أيضا هو الحكم في المسائل المتقدّمة أي القتل، فكيف يلتئم الحكم بالقتل استنادا الى خبر صريح في الرجم، مع التصريح بأنّه كان غير محصن، الظاهر جدّا في انّ الحكم كذلك إذا كان محصنا بالأولويّة حيث لا يجرى الحكم بالقتل الذي هو الأسهل في مورد الإحصان، و على هذا فحكمه في كلتا الصورتين هو الرجم مع انّهم قالوا بالقتل.

و يمكن الذبّ عنه بأنّ الرواية قضيّة في واقعة و لا نعلم حقيقة الحال.

و على الجملة فيشكل انجبار الخبر بفتوى المشهور مع هذا الاختلاف في المؤدّى.

و قد صرّح غير واحد من العلماء بأنّه لا فرق في المقام أيضا- كالمسائل الثلاثة الماضية- بين المحصن و غيره و لا بين الحرّ و العبد و لا بين الكافر و المسلم، و قد استفيد الأوّل من نفس الخبر، و امّا الجهات الأخر فأورد عليها في الجواهر بأنّه ان كان إجماع على عدم الفرق من الجهات المزبورة فذاك و الّا فلا يخلو من اشكال، و علّل ذلك بقوله: إذ لم نظفر فيه هنا بنصّ مطلق بالخصوص.

و فيه انّه و ان صحّ ما ذكره من عدم رواية مطلقة تدلّ على عدم الفرق بين ما إذا كان حرّا أو عبدا و غير ذلك من الجهات الّا انّ خبر السكوني بنفسه كاف في ذلك.

بيانه انّ الامام أبا جعفر عليه السّلام نقل و حكى ذلك عن أمير المؤمنين عليه السّلام في مقام بيان الحكم و لم يكن بصدد نقل واقعة تاريخيّة

عنه عليه السّلام و لا إشكال في انّ الرجل الذي رفع الى أمير المؤمنين امّا انّه كان حرا أو عبدا و امّا انّه كان شيخا أو شابا و هكذا لانّه شخص واحد و القضيّة واقعة شخصيّة فلو كان لواحدة من الخصوصيّات دخل في الحكم بحيث كان الحكم مختصّا بالحرّ دون العبد أو بالشيخ دون الشاب مثلا لكان اللازم ذكره و الّا كان مخلّا بالمقصود أو لم يكن تترتّب على ذكره ما ذكره و نقل هذا المطلب فائدة لانّه كان في حكم ان يقال: انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد رجم شخصا، و من المعلوم انّه لا فائدة في ذكر ذلك، فيفهم انّه لا مدخليّة لهذا الحيثيّات أصلا و انّ تمام الموضوع

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 275

هو الزنا بامرأة الأب و انّ هذا حكمه بلا دخالة قيد فيه.

و امّا التعرّض لخصوص عدم كونه محصنا فلعلّه لأجل رفع توهم انّ رجمه كان لأجل كونه محصنا.

و الحاصل انّه لا حاجة الى الإجماع في فهم تلك الأمور لأنّه يفهم ذلك من نفس الخبر.

ثم انّه هل يلحق بزوجة الأب في هذا الحكم أمته أو موطوئته بالملك أم لا؟

فيه اشكال. و قال ابن حمزة عند ذكر أقسام الزنا الموجبة للقتل: و الزنا بزوجة الأب و بجاريته التي وطأها إلخ «1» فقد الحق جارية الأب بزوجته و ساوي بينهما في الحكم.

و لا يخلو عن اشكال و لذا نسب في الرياض القول به الى الشذوذ.

و استوجهه في كشف اللثام بشمول لفظ «امرأته» الوارد في خبر السكوني لها.

و فيه انّ استفادة ذلك من الخبر مشكل جدّا و ذلك لعدم تعلّق لامرأة الأب بجاريته حتّى تشملها.

نعم لو كان الإلحاق من باب

انّ جارية الأب من المحارم، و الحكم شامل لمطلق المحارم فهو حسن، كما انّه لا بأس بالقول بشمول امرأة الأب لامرأته الحرّة و الأمة، و ذلك لمكان إطلاق اللفظة اى زوجة الأب.

ثم انّه قد الحق بعض كابن إدريس امرأة الابن أيضا، فلو زنى بامرأة ابنه وجب قتله.

و لا دليل على ذلك الّا ان يقال بإلغاء الخصوصيّة عن امرأة الأب التي حكموا فيها بوجوب القتل أو يقال كما في الجواهر: لعلّه لإدراجه إيّاها في المحارم.

و ان كان يرد عليه انّه لا وجه لإدراج امرأة الابن في المحارم بعد ان قالوا باختصاص الحكم بالمحارم النسبية دون السببيّة.

______________________________

(1) الوسيلة الصفحة 410.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 276

نعم على ما ذكرناه و قرّرناه من تعميم المحارم لكلّ واحد منهما لا يرد عليه اشكال.

تذنيب و تنبيه

بعد ان ثبت انّ الزاني بذات محرم يقتل، فهل الحكم في الزانية أيضا كذلك بان تقتل إذا زنت بذي محرم أم لا؟

الظاهر ذلك فحدّ المرأة الزانية بذي محرم القتل، كالزاني بذات محرم بعينه، و ذلك لوحدة الملاك.

ثم انّه قد بقي بعض الموارد الذي يكون حدّ الزنا فيه القتل لم يذكره هنا و يذكر في مناسباته، و منه من أقدم على الزنا ثلاث مرّات أو أربع فإنّه بعد حدّه مرّتين أو ثلاث مرّات يقتل.

و هل يقتصر على القتل في المواضع المزبورة؟

الكلام هنا في انّه بعد كون الحكم في المواضع الأربعة المتقدّمة هو القتل فهل يكتفى بذلك أو انّه لا بد من الجلد أوّلا ثم القتل في غير المحصن مثلا؟

قال المحقّق: و هل يقتصر على قتله بالسيف؟ قيل نعم، و قيل يجلد ثم يقتل ان لم يكن محصنا و يجلد ثم يرجم ان كان محصنا عملا بمقتضى الدليلين و الأوّل أظهر.

أقول: اختار المشهور و كذا المحقّق، الأوّل، و خالف ابن إدريس [1] فإنّه ذهب الى انّه لو كان محصنا يجلد أوّلا ثم يرجم و الّا فيجلد ثم يقتل و قد مرّ كلامه فراجع.

و الدليل على ذلك هو الجمع بين الدليلين فإنّ الآية الكريمة تدلّ على لزوم جلد الزاني و الزانية مأة جلدة و هي بعمومها أو إطلاقها شاملة لمطلق من

______________________________

[1] أقول: و وافقه الشهيدان أيضا إلّا انهما قالا باعتبار الجلد أوّلا ثم القتل مطلقا بلا فرق بين المحصن و غيره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 277

زنى، و مقتضى الاخبار هو قتل من زنى بالمحارم مثلا و رجم من زنى و هو محصن، و على هذا فيجب جلد الزاني أوّلا ثم رجمه ان كان محصنا، و قتله ان كان من مصاديق

المسائل المبحوث عنها آنفا.

و الجواب عنه انّ الظاهر من الأدلّة الدالة على القتل في الموارد الأربعة- أي الزاني بالمحارم و الذمي الزاني بالمسلمة و المكره و الزاني بزوجة الأب- هو انّ هذا الموارد قد خرجت عن قول اللّٰه تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، و انّ الحد فيها هو القتل، و قد مرّ انّ مقتضى الأدلّة هو التنويع و التقسيم كالحاضر و المسافر و لذا قال المحقّق: و الأوّل أظهر.

و قد أيّد في كشف اللثام قول ابن إدريس بقول الصادق عليه السّلام في خبر ابى بصير: إذا زنى الرجل بذات محرم حدّ حدّ الزاني الّا انّه أعظم ذنبا «1».

و فيه انّ كونه أعظم ذنبا لا يلازم كونه أشدّ حدّا، و ظاهر ما مرّ من الروايات المعتبرة كون الحدّ فيه واحدا، و هذه الرّواية لا تصلح لمعارضتها، و على هذا فلا جلد في تلك الموارد بل الحكم هو القتل وحده فلا جلد كما انه القتل بالسيف دون الرجم.

غاية الأمر انّ مقتضى الخبر الوارد في الزنا بزوجة الأب هو الرجم و مقتضى خبر جعفر في زنا النصراني بالمسلمة أنّه يضرب حتّى يموت مع انّ المشهور أفتوا بالقتل، و قد تقدّم البحث عنهما.

و قال صاحب الجواهر بالنسبة إليهما: فينبغي الاقتصار عليهما فيهما انتهى و كأنّه يقول: يجب قتلهما لكن بالصورة المذكورة في الروايتين.

و يمكن ان يكون مراده انّه لو قلنا بغير القتل فإنّه يقتصر على الموردين.

و لكن الظاهر انّه رحمه اللّٰه مائل إلى الإفتاء بذلك في الموردين و انّه قد القى ذلك مبرزا لنظره الشريف.

و لا يخفى انّ الاحتياط في المسئلة مع قول المشهور كما انّ الاحتياط في

______________________________

(1) كشف اللثام الجلد 2 الصفحة

218 و راجع للرواية الوسائل الجلد 18 الباب 19 من حدّ الزنا الحديث 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 278

مورد اجتماع الإحصان و هذه العناوين يقتضي الحكم بالقتل، لانّ الرجم أشدّ منه و في غير مورد الإحصان هو القتل وحده دون الجلد و القتل.

الكلام حول الرجم

قال المحقّق: و امّا الرجم فيجب على المحصن إذا زنى ببالغة عاقلة فإن كان شيخا أو شيخة جلد ثم رجم و ان كان شابا ففيه روايتان إحداهما يرجم لا غير و الأخرى يجمع له بين الحدّين و هو أشبه.

أقول: بعد الفراغ عن حدّ القتل في الزنا فالآن يبحث في الرجم، و هنا مباحث أحدها انّه هل هنا رجم أم لا و بعبارة أخرى هل يجب رجم المحصن أم لا؟ ثانيها انّه هل يجمع بين الرجم و الجلد أم لا؟ ثالثها انّه هل هناك تفصيل بين الشيخ و الشيخة و الشابّ و الشابّة أو انّه لا فرق بين الموارد؟ رابعها في ان الشيخ و الشيخة بعنوانهما يرجمان إذا زنيا و ان لم يكونا محصنين أم لا؟

امّا الأوّل فلا كلام و لا نزاع فيه بل اتّفق الكلّ على انّه إذا زنى البالغ العاقل المحصن ببالغة عاقلة فإنهما يرجمان، و كذلك إذا زنت بالغة عاقلة محصنة ببالغ عاقل، بل إجماع المسلمين على ذلك و لم يخالف فيه الّا الخوارج [1] فإنهم

______________________________

[1] أقول: و كذا بعض المعتزلة، قال الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة الجلد 5 الصفحة 58: أمّا حدّ الزنا فقد فرّقت الشريعة فيه بين الذي تزوّج و الذي لم يتزوّج فشدّدت العقوبة على الأوّل.

و قال في الصفحة 69: تحت عنوان مبحث رأى الخوارج و المعتزلة: و لم يخالف في هذا

الحد الّا بعض المعتزلة و الخوارج فإنّهم قالوا: انّ عقوبة الرجم كانت موجودة في صدر الإسلام ثم نسخت بقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ فالزانيان يستحقان الجلد مطلقا سواء كانا محصنين أولا و لكن دليلهم هذا لا يتمّ إلّا إذا ثبت انّ النبي ص لم يرجم أحدا بعد نزول هذا الآية. و لكن الجمهور قالوا: انّ رسول اللّٰه ص قد رجم بعد نزول هذه الآية بدليل انّ أبا هريرة حضر الرجم و هو لم يسلم الّا بعد سنة سبع، و سورة النور نزلت سنة ستّ أو خمس و قد رجم الخلفاء الراشدون بعد النبي ص و صرّحوا بانّ الرجم حدّ و قد نازع هؤلاء بأنّ الكتاب لا يصحّ نسخه بالسنّة و أجيب بأنّ السنة المشهورة تخصّص الكتاب بلا خلاف و هنا خصّصت السنة، الزاني، بغير المحصن انتهى.

ثم نقل في ذيل الصفحة: عدم الرجم عن الخوارج و بعض المعتزلة كالنظام و أصحابه ثم قال: و لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 279

أنكروا حكم الرجم رأسا مستدلّين على ذلك بعدم ذكر عنه في الكتاب و لا في سنّة متواترة.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسميه عليه و المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 279

قال الشيخ في المسئلة الاولى من كتاب الحدود من الخلاف: يجب على الثّيّب الرجم و به قال جميع الفقهاء و حكى عن الخوارج انّهم قالوا: لا رجم في شرعنا لانّه ليس في ظاهر القرآن و لا في

السّنّة المتواترة. دليلنا إجماع الفرقة و أيضا روى عبادة بن الصّامت انّ النبي (ص) قال: خذوا عنّى قد جعل اللّٰه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام و الثيّب بالثيّب جلد مأة و الرجم، و زنى ماعز فرجمه رسول اللّٰه (ص) و رجم العامريّة و عليه إجماع الصحابة و روى عن نافع عن ابن عمر، انّ النبي (ص) رجم يهوديّين زنيا و روى عن عمر انّه قال: لو لا أنني أخشى ان يقال: زاد عمر في القرآن لكتبت آية الرجم في

______________________________

مستند لهم الّا انّه لم يذكر في القرآن الكريم. ثم قال: و هذا باطل فان الرجم قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها، و أيضا هو ثابت بنصّ القرآن لحديث عمر بن الخطّاب عند الجماعة انّه قال: كان ممّا انزل اللّٰه على رسول اللّٰه ص آية الرجم فقرأناها و حفظناها و وعيناها و رجم رسول اللّٰه ص و رجمنا بعده، و نسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم.

و هنا تعرّض لحديث و هو: انّ فيما انزل اللّٰه من القرآن: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة بما قضيا من اللذّة. ثم نقل روايات تدلّ على وجوب رجم المحصن.

و منها قول رسول اللّٰه ص: خذوا عنّى قد جعل اللّٰه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مأة و تغريب عام و الثيب بالثيب جلد مأة و الرجم.

و قال في آخر البحث: و قد أجمعت الأمّة على وجوب حدّ الرجم على الزاني المحصن و قال في ذيل الصفحة 59: اتّفق الأئمة على انّ من كملت فيه شروط الإحصان ثم زنا بامرأة قد كملت فيها شروط الإحصان. فهما زانيان محصنان يجب على كلّ واحد منهما الرجم حتّى يموت، و

هنا استدلّ بحديث الشيخ و الشيخة المذكور آنفا. و قال: حديث متّفق عليه، و بروايات اخرى و بانّ النبي ص رجم ماعزا و رجم الغامديّة و غيرهما و لانّ الخلفاء الراشدين أقاموا حدّ الرجم بالإجماع من غير نكير من واحد منهم فحدّ الرجم ثابت بالأحاديث المتواترة و فعل الرسول ص و إجماع الأمّة و ثابت بالكتاب على رأى من يقول انّ حديث الرجم كان آية من القرآن ثم نسخت و بقي حكمها انتهى أقول: راجع لاستدلالات الخوارج آيات الأحكام للكاظمي 4- 193.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 280

حاشية المصحف: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من اللّٰه، و روى انّ عليّا جلد سراقة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة و قال: جلدتهما بكتاب اللّٰه و رجمتها بسنّة رسول اللّٰه فقد ثبت ذلك بالسنة و إجماع الصحابة انتهى.

فالرجم بالنسبة إلى المحصن أمر مفروغ عنه و لا يحتاج الى البحث- و سيمرّ عليك بعض النصوص الدالة على ذلك- و امّا الثاني أي الجمع بين الجلد و الرجم، فنقول: هل يجمع بينهما في المحصن مطلقا، أو لا يجمع بينهما أصلا و انّما يرجم فقط، أو يفصّل بين الشيخ و الشيخة و الشابّ و الشابّة فيجمع بينهما في الأوّل و لكن يرجم فقط في الثاني؟

لا خلاف معتدّ به بيننا في انّ الشيخ و الشيخة إذا زنيا و كانا محصنين فإنّه يجمع في حدّهما بين الجلد و الرجم بل هو أمر مفروغ عنه بيننا و انّما نقل عن ابن ابى عقيل انّه قد أطلق الرّجم في المحصن من دون ذكر للجلد لكنّه كما في الجواهر غير معلوم المخالفة و ذلك لانّه لم يصرّح بعدم الجلد كي

يعدّ مخالفا في المسئلة و ليس في البين إلّا إطلاق كلامه، و على الجملة فالإجماع بقسميه قائم على الجمع بينهما في خصوص الشيخ و الشيخة و قد علم انّ المقامين ليسا محلّ الخلاف و الكلام، فنحن نصرف النظر عن البحث فيهما و يبقى البحث في المقام الثالث و الرابع. و استفادة الحكم فيهما منوط بصرف العنان الى الروايات و الاستظهار منها و هي مختلفة جدا.

و تنقيح البحث يقتضي تفكيك فروع أصل المسئلة و التعرض لكلّ منها على حدة فنقول هنا فروع و مسائل الأوّل في حكم الشيخ و الشيخة إذا زنيا و كانا محصنين الثاني إذا زنيا و لم يكونا محصنين الثالث الشاب و الشابة إذا زنيا و كانا محصنين الثاني إذا زنيا و لم يكونا محصنين الثالث الشاب و الشابة إذا زنيا و كانا محصنين الرابع إذا زنيا و كانا غير محصنين.

امّا الأوّل أي الشيخ و الشيخة إذا زينا و كانا محصنين فالحكم فيهما هو الرجم مع الجلد، قال الشيخ قدّس سرّه في النهاية: أمّا القسم الثاني و هو من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 281

يجب عليه الحدّ ثم الرجم فهو الشيخ و الشيخة إذا زنيا و كانا محصنين فإنّه كان على كلّ واحد منهما مأة جلدة ثم الرجم يقدّم الجلد عليه ثم بعده الرجم إلخ.

و قال في الخلاف في المسئلة الثانية من الحدود: المحصن إذا كان شيخا أو شيخة فعليهما الجلد و الرجم و ان كانا شابّين فعليهما الرجم بلا جلد و قال داود و أهل الظاهر: عليهما الجلد و الرجم و لم يفصّلوا و به قال جماعة من أصحابنا- الصحابة- و قال جميع الفقهاء: ليس عليهما الّا الرجم دون

الجلد.

دليلنا قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، و لم يفصّل.

و روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله خذوا عنّى قد جعل اللّٰه لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مأة و تغريب عام و الثيّب بالثيّب جلد مأة ثم الرجم و فيه إجماع الصحابة و روى انّ عليّا عليه السّلام جلد سراجة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة فقيل له: تحدّها حدّين؟ فقال: حددتها بكتاب اللّٰه و رجمتها بسنّة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله انتهى و قد علّق عليه فقيه عصره السيّد البروجردي قدّس اللّٰه روحه بما هذا عين كلامه: قوله: دليلنا قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي إلخ لا دلالة فيه على الرجم و لا على التفصيل المذكور، و كذا لا يدلّ خبر عبادة على التفصيل بل على ما حكاه من جماعة من أصحابنا و كذا جلد علىّ عليه الصلاة و السّلام سراجة و رجمها كما لا يخفى و امّا إجماع الصحابة فلم نتحقّقه بعد، حسين. انتهى أقول: انّ ما أورد طاب ثراه على الشيخ من انّ الآية لا دلالة فيها على الرجم، غير وارد عليه، و ذلك لانّ الشيخ لم يتمسّك بها لإثبات الرجم بها فان من المعلوم عدم تعرّض الآية له أصلا و انّما أراد هو إثبات الجلد و الرجم كليهما للشيخ و الشيخة المحصنين فاستدلّ بالآية الكريمة لإثبات الجلد فإنّها لم تفصّل بين الشيخ و الشاب فباطلاقها تشمل المحصن و المحصنة و الشيخ و الشّاب، و اعتمد في إثبات الرجم على الإجماع و الروايات، كما انّه رحمه اللّٰه قد تعرّض في المسئلة الاولى لإثبات الرجم، فراجع ما تقدّم من كلامه، و

على هذا فلا يرد عليه اشكال من هذه الجهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 282

نعم يمكن ان يورد عليه في مورد الشابّ و الشابّة فيقال: لم لا يجب الجمع بين الجلد و الرجم فيهما، مع انّ مقتضى الجمع بين الآية و الروايات هو الجمع بين الحكمين فيهما إذا كانا محصنين- كما انّه يرد هذا الاشكال على صاحب الجواهر أيضا- و على الجملة فيمكن ان يطالب بالدليل على نفى الجلد في الشاب مع انّ الآية تشمله.

و يمكن ان يكون دليله في نفى الجلد في الشاب الروايات النّافية للجلد فيه.

و ممّا ذكرنا يظهر عدم ورود ما أورده قدّس سرّه أيضا على الشيخ من عدم دلالة الآية على التفصيل، و ذلك لانّه لم يقصد من ذكر الآية دلالتها على التفصيل حتّى يرد عليه انّها لا تدلّ على ذلك.

ثم انّ هنا كلاما آخر و هو انّ ما افاده الشيخ قدّس سرّه من الجمع بين الجلد و الرجم في مورد الشيخ و الشيخة مع الإحصان هو عين ما كان يقول به ابن إدريس في باب الزنا بذات محرم فإنّه قال كما تقدّم بوجوب الجلد ثم القتل لاقتضاء الجمع بين الآية و الروايات ذلك، و الحال انّه قد ردّ كلامه هناك بانّ ظاهر الأدلّة هو التنويع و التقسيم.

و امّا الثاني و هو حكم الشيخ و الشيخة إذا زنيا و كانا غير محصنين فهل يجب رجمهما حتّى تكون للشيخوخة خصوصيّة توجب الرجم نظير خصوصيّة الإحصان و انّما يتفارقان في انّ مع الإحصان يجب الجلد أيضا دون الشيخوخة، أو انّه يختصّ ذلك بما إذا كانا محصنين، فمع عدم الإحصان لا رجم بل يكون الشيخ و الشيخة مع عدم الإحصان كسائر الزناة

و حدّهما هو الجلد خاصّة؟

اختلفت الروايات بظاهرها في هذا المقام، فبعضها يدلّ على وجوب الرجم و بعضها على عدم ذلك.

و الأوّل: على قسمين قسم اقتصر فيه على الرجم و قسم تعرّض للجلد أيضا أي جمع بين الجلد و الرجم.

ففي رواية عبد اللّٰه بن طلحة عن ابى عبد اللّٰه: إذا زنى الشيخ و العجوز

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 283

جلدا ثمّ رجما عقوبة لهما «1».

و ظاهرها بمقتضى التعليل الوارد فيها انّ السبب في وجوب الجلد و الرجم هو عقوبتهما.

و في صحيح الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: في الشيخ و الشيخة جلد مأة و الرجم، و البكر و البكرة جلد مأة و نفى سنة «2».

و في رواية عبد الرحمن عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كان علىّ عليه السّلام يضرب الشيخ و الشيخة مأة و يرجمهما و يرجم المحصن و المحصنة و يجلد البكر و البكرة و ينفيهما سنة «3».

و في رواية عبد اللّٰه بن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الرجم في القرآن قول اللّٰه عزّ و جلّ: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة «4».

و في رواية سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: في القرآن رجم؟ «قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشّهوة «5».

فمقتضى الأخيرتين هو وجوب الرجم فقط بخلاف الروايات المتقدمة عليهما فإنها صريحة في الجمع بين الجلد و الرجم.

و لا يخفى انّ روايتي عبد اللّٰه بن سنان و سليمان بن خالد ظاهرتان في وقوع التحريف في القرآن الكريم، و لكن الأقوى و المستظهر عندنا عدم تحريف فيه حتّى بالنقيصة، خصوصا و

انّ هذه العبارة المذكورة فيهما بعنوان القرآن لا تلائم آياته الكريمة التي قد آنسنا بها. هذا مع انّ الأصل في هذا الكلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 12.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 284

عمر بن الخطاب [1].

و كيف كان فهذه الروايات تدل على وجوب الرجم في الشيخ و الشيخة مطلقا و ان لم يكونا محصنين غاية الأمر دلالة أكثرها على ضمّ الجلد أيضا.

و امّا الثاني فهي رواية محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في الشيخ و الشيخة أن يجلدا مأة و قضى للمحصن الرجم و قضى في البكر و البكرة إذا زنيا جلد مأة و نفى سنة في غير مصرهما و هما اللذان قد أملكا و لم يدخل بها «1».

و هنا قد اقتصر على ذكر خصوص الجلد على ما هو الحال في سائر الزناة. و يمكن الجمع بينهما بأخذ المتيقّن من الروايات بان يقال: القدر المسلّم من رجم الشيخ و الشيخة- لو كان هناك رجم عليهما كما هو صريح الروايات المتقدّمة- هو المحصن منهما، كما انّ المتيقّن من نفى الرجم عنهما- لو نفى ذلك عنهما كما هو ظاهر رواية ابن قيس- هو غير المحصن منهما فيجمع بين القسمين من الاخبار بانّ الشيخ و الشيخة إذا زنيا فان كانا محصنين فان عليهما

الرجم، أو الرّجم و الجلد، و امّا إذا كانا غير محصنين فعليهما الجلد فقط.

لكن لا يخفى انّ الجمع كذلك ليس جمعا عرفيّا.

و لذا قال الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل بعد ذكر خبر محمّد بن قيس:

أقول: خصّ الشيخ و الشيخة بما إذا لم يكونا محصنين لما مضى و يأتي.

أقول: يمكن ان يقرّر المطلب بأنّه لمّا كان رجم الشيخ و الشيخة مع الإحصان امرا مفروغا عنه فإنّه قد قام الإجماع على ذلك، فلا بدّ من كون المراد من قضاء أمير المؤمنين بالجلد فيهما- على ما هو صريح رواية ابن قيس- قضائه عند ما لم يكونا محصنين فلا تنافي ما دلّ على الرجم.

و هذا الجمع عرفي لأنّه من باب حمل العامّ على الخاصّ، و النتيجة انّ الشيخ و الشيخة يجلدان إلّا إذا كانا محصنين فإنّه يجب رجمهما.

______________________________

[1] راجع بعض ما قدّمناه من التذييلات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 285

و يمكن ان يقرّر بانّ المحصن يرجم بإجماع المسلمين سواء كان شيخا أو شيخة أو شابّا أو شابّة و على هذا فرواية محمّد بن قيس الدّالة بظاهرها على جلد الشيخ و الشيخة خلاف الإجماع فلذا تخصّص بسبب الإجماع، بغير المحصن، فهما يجلدان إذا كانا غير محصنين و بعبارة أخرى يجلدان إلّا إذا كانا محصنين فإنّه يجب رجمهما.

لكن التخصيص لا يخلو عن كلام و ذلك لانّ تقديم الخاصّ على العامّ انّما يكون من باب ظهور الخاص الأقوى أي أظهريّته من العام بلحاظ خصوص الخاص و نفس العام، و امّا إذا حصل التقييد من الخارج فهذا لا ينافي ظهور العامّ و لا يفيد في تخصيصه لانّ ظهور العام

بعد محفوظ بحاله و لا يحصل خلل فيه فلا يصحّ ان يقال انّ ما دلّ على رجم الشيخ و الشيخة مطلقا محصنين كانا أو غير محصنين يخصّص و يقيّد بسبب الإجماع- القائم على رجم الشيخ المحصن- بما إذا كانا محصنين فيقيّد العامّ الدال على جلدهما بما إذا كانا غير محصنين، و على الجملة فالقول بانّ الشيخ و الشيخة المحصنين حكمهما الرجم علما منّا بذلك من الخارج بالإجماع مثلا لا ينفع في تخصيص العموم.

نعم يمكن الجمع بينهما بان يقال: انّ لرواية محمّد بن قيس دلالتين دلالة اثباتية و دلالة سلبيّة أمّا الأولى فهي دلالتها على وجوب الجلد، و لا تعارض بينهما و بين روايات الرجم و امّا الأخرى فهي دلالتها على نفى الرجم، و من هذه الجهة يحصل التعارض بينهما الّا انّ الرواية ليست بحجّة من هذه الجهة و الحيث، لانّه يؤل الى مخالفة الإجماع في بعض الفروع و هو ما إذا كانا محصنين فإنّ الإجماع قائم على وجوب الرجم هناك. و إذا سقط دلالتها السلبيّة عن الحجيّة و الاعتبار فلم يبق للرواية إلّا حيث إثبات الجلد و قد مرّ آنفا انّ وجوب الجلد و إثباته لا ينافي وجوب الرجم بدليل آخر، و على هذا فشأن رواية ابن قيس شأن الآية الكريمة التي قد يستظهر منها انّ مطلق الزاني يجلد و لا تعرّض فيها للرجم، فبذلك يرتفع التعارض بين القسمين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 286

نعم يبقى تعارض آخر أشرنا إليه آنفا و هو التعارض بين الروايات الدالّة على الرجم بوحدة و الروايات الدّالة على الجمع بين الجلد و الرجم، فترى رواية ابن سنان المتقدّمة تقول: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة «1»

و رواية سليمان بن خالد تقول: الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة «2» في حين انّ رواية الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام: في الشيخ و الشيخة جلد مأة و الرجم «3» صريحة في الجمع بينهما، و مثلها روايات اخرى بهذا المضمون، فيتعارض هذان القسمان في خصوص الجلد بعد اتفاقهما في اعتبار الرجم فيرجع الى عموم الآية الكريمة الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، الدالة على وجوب جلد الزاني.

و قد يقال بانّ المقام من باب النص و الظاهر فان ما دلّ على الرجم وحده و هو الروايتان الذكورتان آنفا قد تعرض لذكر الرجم و لا تعرض فيه لذكر الجلد أيضا و هذا بخلاف رواية الحلبي و نظائرها الدالة على وجوب الجمع بين الجلد و الرجم فإنها صريحة في اعتبار كلا الأمرين فيقدّم النصّ على الظاهر [1].

هذه غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الجمع بين روايات الشيخ و الشيخة، و قد تحصّل انّ مقتضى الجمع هو اقامة الجلد و الرجم كليهما في موردهما و على هذا فالشيخوخة خصوصيّة توجب الجلد و الرجم كخصوصيّة الإحصان على قول من قال بوجوب الجلد و الرجم في المحصن و المحصنة.

هذا لكنّي بعد التتّبع التامّ و الفحص البالغ لم أجد من قال بأنّ الزاني إذا كان شيخا أو شيخة يرجم و ان لم يكن محصنا حتّى ان السيد المرتضى قدّس سرّه لم يذكر الشيخ و الشيخة في الانتصار، و ليس في كلامه ذكر عنهما، و انّما

______________________________

[1] ذكره هذا العبد يوم 20 رجب المرجب سنة 1406 (ه).

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب

حدّ الزنا الحديث 18.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا الحديث 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 287

ذكر المحصن و المحصنة، و على هذا فالروايات الدّالة على وجوب الجمع بين الجلد و الرجم في الشيخ و الشيخة و ان لم يكونا محصنين متروكة لم يعمل بها الأصحاب و هذا أمر يوجب و هنها فهي مطروحة لا يؤخذ بها ان لم يكن حملها على المحصن و المحصنة، و النتيجة انّ الشيخ غير المحصن كالشاب كذلك يقتصر على جلده و لا يرجم. هذا تمام الكلام في المسئلة الثانية.

و امّا الثالث و هو زنا الشابّ و الشابّة إذا كانا محصنين فقال المحقّق:

و ان كان شابا ففيه روايتان إحديهما يرجم لا غير، و الأخرى يجمع له بين الحدّين و هو أشبه.

أقول: فمن الروايات الدّالة على الرجم وحده رواية عبد اللّٰه بن طلحة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا زنى الشيخ و العجوز جلدا ثم رجما عقوبة لهما و إذا زنى النصف من الرجال رُجم و لم يجلد إذا كان قد أحصن و إذا زنى الشابّ الحدث السنّ جلد و نفى سنة من مصره «1».

و منها رواية أبي بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الرجم حدّ اللّٰه الأكبر و الجلد حدّ اللّٰه الأصغر فإذا زنى الرجل المحصن رجم و لم يجلد «2».

و منها رواية سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الحرّ و الحرّة إذا زينا جلد كلّ واحد منهما مأة جلدة فأمّا المحصن و المحصنة فعليهما الرجم «3».

و منها رواية زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: المحصن يرجم و الذي قد أملك و لم يدخل بها فجلد

مأة و نفى سنة «4».

و منها ما عن الأصبغ بن بناته قال: اتى عمر بخمسة نفر أخذوا في الزنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا فقال: يا عمر ليس هذا حكمهم قال: فأقم أنت الحدّ عليهم فقدّم واحدا منهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 11.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 288

فضرب عنقه و قدّم الآخر فرجمه و قدّم الثالث فضربه الحدّ و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ و قدّم الخامس فغرّره فتحيّر عمر و تعجّب الناس من فعله فقال عمر: يا أبا الحسن خمسة نفر في قضيّة واحدة أقمت عليهم خمسة حدود ليس شي ء منها يشبه الآخر فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: امّا الأوّل فكان ذميّا فخرج عن ذمّته لم يكن له حدّ الّا السيف و امّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم و امّا الثالث فغير محصن حدّه الجلد و امّا الرابع فعبد ضربناه نصف الحدّ و امّا الخامس فمجنون مغلوب على عقله «1».

و امّا الروايات الدّالة على الجمع بين الجلد و الرجم فمنها صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام في المحصن و المحصنة جلد مأة ثم الرجم «2».

و منها صحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام في المحصن و المحصنة جلد مأة ثم الرجم «3».

و منها ما عن زرارة أيضا عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

قضى علىّ عليه السّلام في امرأة زنت فحبلت فقتلت ولدها سرّا فأمر بها فجلدها مأة جلدة ثم رجمت و كانت (كان) أوّل من رجمها «4».

و ظاهر هذه عدم كون المرأة شيخة كما انّ ما تقدّم عليها مطلق يشمل الشاب و الشابة لعدم ذكر عن الشيخ و الشيخة فيه.

و في صحيح الفضيل قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: من أقرّ على نفسه عند الإمام، الى ان قال: الّا الزاني المحصن فإنّه لا يرجمه الّا ان يشهد عليه أربعة شهداء فاذا شهدوا ضربه الحدّ مأة جلدة ثم يرجمه «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 16.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من حدّ الزنا الحديث 8.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من حدّ الزنا الحديث 14.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من حدّ الزنا الحديث 13.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من حدّ الزنا الحديث 15.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 289

و في المرسل الوارد في قصّة شراحة الهمدانية انّ عليّا عليه السّلام جلدها يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة و قال: حددتها بكتاب اللّٰه و رجمتها بسنّة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله.

و يستفاد من الرواية الأخيرة التي كأنّها تفسّر الآية الكريمة الواردة في جلد الزناة، انّ للآية إطلاقا يشمل كلّ زان و انّها لا تختصّ بغير المحصن.

و إذا حصل التعارض بين الطائفتين من الاخبار فإن كان هناك ترجيح فيؤخذ بذات الترجيح و الّا فالتخيير، و قد ادّعى المحقّق انّ الترجيح للطائفة الأخيرة و ذلك لكونها أشبه بأصول المذهب و قواعده.

و من جملة المرجّحات هو كون هذه الروايات أصحّ سندا من الطائفة

الأولى ففي المسالك بعد ذكر رواية طلحة و ابن سنان التصريح بضعف الرواية و في الجواهر- بعد كلام المحقّق المذكور آنفا-: بقصور الخبرين سندا عن التخصيص.

و منها انّها أقوى دلالة، قال في المسالك: و الرواية مع ضعف سندها لا تدلّ على حكم الشاب إذا كان محصنا فلا ينافي غيرها ممّا دلّ على العموم.

و منها انّ الشهرة على وفق الطائفة الأخرى الدالة على لزوم الجمع، و على هذا فيحكم بالجمع بين الجلد و الرجم و من المعلوم انّ الروايات الدالة على الرجم تثبت ذلك و لا تنفى الجلد و هذا غير مناف لإثبات الجلد بدليل آخر و لو دلّ بعضها كرواية أبي بصير و رواية أصبغ بن نباته على الرجم وحده فهو محمول على التقية أو غير ذلك و ان كان التعليل الوارد في مثل رواية أبي بصير لا يلائم التقيّة.

و امّا الفرع الرابع فهو ما إذا زنى الشاب غير المحصن و حكمه الجلد بلا خلاف و هو المتيقن ممّا دلّ على وجوب جلد الزاني و الزانية من الآية الكريمة و الروايات الشريفة، فهو شامل له قطعا و الّا فأيّ مورد يكون تحت هذا الحكم لو لم يكن الشاب و الشابة غير المحصنين مشمولا له؟ هذا مضافا الى روايات عديدة تدلّ على ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 290

فتحصّل من جميع هذه الأبحاث انّ حكم الشيخ و الشيخة المحصنين هو الجلد مع الرجم، و غير المحصن منهما هو الجلد وحده، و ان كان مقتضى الجمع بين الاخبار هو الجمع بين الجلد و الرجم، الّا انّ الأصحاب لم يقولوا بذلك، و امّا الشاب و الشابة المحصنان فهما يجلدان و يرجمان و غير المحصن منهما يجلد

فقط و لا يرجم. و اتّضح انّه قد يجمع بين الحدّين الجلد و الرجم و ذلك فيما إذا كان الزاني محصنا، نعم في بعض الاخبار ما ربّما يستظهر منه انّه لا يجمع بينهما أصلا.

فعن علىّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن ابان عن ابى العبّاس عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: رجم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و لم يجلد، و ذكروا انّ عليّا عليه السّلام رجم بالكوفة و جلد فأنكر ذلك أبو عبد اللّٰه عليه السّلام و قال: ما نعرف هذا، اى لم يحدّ رجلا حدّين جلد و رجم في ذنب واحد «1».

قوله: اى لم يحدّ إلخ من تفسير يونس لقوله عليه السّلام: ما نعرف هذا، و صريح ضبط الكافي و التهذيب و الاستبصار ذلك فان فيها: قال يونس: اى لم يحدّ إلخ.

و قد نسبه الشيخ قدّس سرّه الى الغلط في تفسيره هذا، و حمل هو كلام الامام (ع) على واحد من وجهين و زاد في الوسائل وجها ثالثا.

قال الشيخ قدّس سرّه: الذي ذكره يونس ليس في ظاهر الخبر و لا فيه ما يدلّ عليه بل الذي فيه انّه قال: ما نعرف هذا، و يحتمل ان يكون انّما أراد: ما نعرف انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله رجم و لم يجلد لانّه قد تقدّم ذكر حكمين من السائل أحدهما عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و الآخر عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ليس بان يصرف قوله: ما نعرف هذا، إلى أحدهما بأولى من ان نصرفه الى الآخر و إذا احتمل ذلك لم يناف ما قدّمناه من الاخبار، ثم لو كان صريحا بأنّه قال:

ما نعرف هذا من أفعال أمير المؤمنين عليه السّلام لم يناف

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 291

ما ذكرناه لانّه يجوز ان يكون أمير المؤمنين عليه السّلام ما فعل ذلك لانّه لم يتّفق في زمانه من وجب عليه الجلد و الرجم معا «1».

و قال في الوسائل: و يحتمل الحمل على التقيّة انتهى.

و لا يخفى انّ المستفاد من كلام الشيخ هو انّ كلام الامام عليه السّلام في هذا الحديث ليس إلّا جملة: ما نعرف هذا.

و هو خلاف الظاهر فان ظاهر جملة: رجم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و لم يجلد، هو انّها من كلام الامام عليه السّلام.

الكلام في زنا البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة

قال المحقّق: و لو زنى البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة فعليه الجلد لا الرجم.

و في المسالك: هذا مذهب الشيخ و جماعة من المتأخرين و مستندهم صحيحة أبي بصير عن الصادق عليه السّلام.

و لا يخفى ان الصحيحة واردة في خصوص عكس المسئلة و هو زنا غير البالغ بالبالغة. و وجه الاستدلال بها مع كونها كذلك هو الأخذ بالفحوى.

و التحقيق انّ ما تمسّكوا به أو يمكن ان يتمسّك به في المقام أمور:

1: أصالة البراءة.

2: نقص حرمتهما بالنسبة إلى الكاملة و لذا لا يحدّ قاذفها.

3: نقص اللّذة فيه، فلا تجب العقوبة فيه بما يجب في الكامل.

4: فحوى نفى الرجم عن المحصنة إذا زنى بها صبيّ كما سيبحث فيه ان شاء اللّٰه تعالى.

5: عموم التعليل الوارد في خبر ابى بصير الآتي ذكره.

6: درء الحدود بالشبهات.

7: انصراف الأدلّة عنه.

______________________________

(1) التهذيب الجلد 10 الصفحة 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 292

8: مرسلة السرائر.

9: عدم القول بالفصل.

و

لا يخفى انّ شيئا من المذكورات لا يصلح لرفع اليد عن الأدلّة الدالّة على وجوب رجم الزاني المحصن، أو الجمع بين جلده و رجمه و أكثرها أمور اعتباريّة لا تنفع في استنباط الأحكام.

فنقول في دفع هذه الوجوه: أمّا الأصل فإنّه لا مجال له مع وجود الدليل الشرعي و صدق الموضوع و هو زنا المحصن الموجب للرجم.

و امّا نقص حرمة الصغيرة و المجنونة، ففيه انّ العقوبة ليست منوطة بكمال الاحترام بل هي حدّ هذا العمل.

و امّا نقص اللّذة ففيه أوّلا انّه غير مسموع في المجنونة بل الأمر كذلك في الصغيرة فلعلّ اللذة تكون أزيد و أكثر في بعض الموارد منها. و ثانيا انّ كثرة اللذة و قلّتها ليست مناطا للحكم الإلهي، و أنت ترى انّ الشيخ إذا زنى محصنا فإنّه يجلد و يرجم و الحال انّ اللّذة في خصوصه قليلة إذا قيست بالنسبة إلى الشابّ، و هل يمكن ان يقال إذا كان الزاني في ظروف لا يلتذّ فيها بزناه مطلقا فلا حدّ له؟ و على الجملة فالعقاب و هو الحدّ مترتّب على الزنا و لا عبرة بكمال اللذة و نقصانها.

و امّا الفحوى فالظاهر انّه لا فحوى في المقام و سيوافيك البحث في ذلك إن شاء اللّٰه تعالى، و كذلك الأمر بالنسبة إلى التعليل.

و امّا درء الحدّ بالشبهة ففيه انّه لا شبهة بعد استظهار المطلب من الأدلّة.

و امّا الانصراف فيمكن ان يورد عليه بأنّه لو كان، فهو بدويّ و ثانيا انّه على ذلك يشكّ في أصل الحدّ أيضا و يلزم ان لا يقام عليه حدّ أصلا لا ان ينتفي عنه خصوص الرجم كما هو المدّعى الّا ان يدّعى الإجماع على وجوب الجلد.

و الإنصاف انّ احتمال الانصراف أقرب

الى الذهن من سائر الوجوه و ان لم أقف على من ادّعاه، لكن يمكن القول به أو احتماله في الآية الكريمة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 293

و الروايات الشريفة من الزنا بغير البالغ أو بالمجنونة و ذلك لندرة وقوعه و شذوذه، و الأدلّة محمولة على المتعارف و على ذلك فلا حدّ عليه و لا أقلّ من ان يشكّ في ذلك.

و امّا المرسلة فنقول: لا بدّ لنا من المراجعة الى الاخبار المناسبة للمقام كي يتّضح حال كلّ ماله تعلّق بالأخبار أيضا كالتعليل و الفحوى فنقول:

عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في غلام صغير لم يدرك ابن عشر سنين زنى بامرأة قال: يجلد الغلام دون الحدّ و تجلد المرأة الحدّ كاملا قيل فان كانت محصنة؟ قال: لا ترجم لأنّ الذي نكحها ليس بمدرك و لو كان مدركا رجمت «1».

و هي و ان كانت صحيحة ظاهرا [1] الّا انّها كما مرّ واردة في عكس المسئلة لانّ المفروض فيها هو زناء غير البالغ بالبالغة في حين انّ مفروض المقام هو زناء البالغ بالصغيرة مثلا.

نعم قد علّل عدم رجم البالغة بانّ ناكحها ليس بمدرك اى ليس ببالغ و يمكن ان يستفاد منه انّه لو زنى البالغ بغير البالغة أيضا لا يرجم البالغ لأنّ المنكوحة ليست بمدركة، و بعبارة أخرى مجرّد عدم كون واحد من طرفي الزنا غير مكلّف موجب لرفع الرجم من الطرف الآخر.

لكن هذا مشكل جدّا فان ظاهر قوله: لأنّ الذي نكحها ليس بمدرك، هو انّه علّة مختصّة بالناكح يعنى انّه علّة في خصوص مورده و هو ما إذا كان الناكح غير مدرك، و أين هو من محلّ النزاع و هو كون المنكوحة

غير مدركة بعد ما نعلم انّ الناكح غير المنكوح و مباين له، خصوصا لو لوحظ انّ زنا البالغ بالصبيّة مقرون باللّذة له بخلاف زنا الصغير بالكبيرة حيث انّه تقلّ و تنقص اللّذة جدّا.

و العمدة انّ الظاهر من الخبر اختصاص العلّة بمورده فهو بعينه نظير أن

______________________________

[1] قال في المسالك الجلد 2 الصفحة 428: و قد عرفت مرارا حال ابى بصير و اشتراكه و انّ صحّة روايته اضافيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 294

يقال: لو قتل صغير أحدا فإنّه لا يقتل لانّه غير مدرك، حيث انّه لا يدلّ على انه إذا قتل رجل صغيرا أيضا لا يقتل الرجل، و من المعلوم انه لا دلالة له على ذلك.

نعم لو كان يقول في مقام التعليل: لاقتران الزنا بعدم الإدراك لكان يحسن إسراء الحكم، لانّه كان نظير لا تشرب الخمر لانّه مسكر، و هذا بخلاف التعليل الوارد في الرواية، الظاهر في الاختصاص، و انّ العلّة هو عدم مدركيّة الناكح، فلا عموم للتعليل كي يتمسّك به في المقام.

و قد ظهر انّه لا أولويّة أيضا بأن يقال: إذا كان زنا الصغير بالكبيرة يوجب رفع حكم الرجم عن الكبيرة فلو كان الزاني كبيرا و الزانية صغيرة فأولى بعدم رجم الكبير، و لا يعلم من أين هذه الأولوية؟ بل لعلّ الأمر بعكس ذلك.

و عن ابن بكير عن ابى مريم قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام في آخر ما لقيته عن غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة و فجر بامرأة أيّ شي ء يصنع بهما؟

قال: يضرب الغلام دون الحدّ و يقام على المرأة الحدّ، قلت: جارية لم تبلغ وجدت

مع رجل يفجر بها؟ قال: تضرب الجارية دون الحدّ و يقام على الرجل الحدّ «1».

و هذه الرواية متضمّنة لفرعين ثانيهما هو الفرع المبحوث عنه في المقام فنقول في شرحها: قوله: يقام على المرأة الحدّ، يمكن ان يكون المراد هو مجرّد الجلد بان يكون اللام للعهد المذكور في الغلام، فتضرب المرأة أقلّ من الحدّ و يضرب الرجل تمام هذا الحدّ فلا محالة يكون المراد هو الجلد.

و يمكن ان يكون المراد انّه يقام عليها حدّها المناسب لها المجعول عليها من الجلد ان كانت غير محصنة و الجلد و الرجم ان كانت محصنة كما لعلّه يومي الى هذا، العدول عن لفظة يضرب الى يقام، و على هذا تكون الرواية معارضة لرواية أبي بصير حيث انّها نفت الرجم عن المرأة.

و لكن مقتضى القاعدة ان يقال: انّ هذه الرواية و ان كانت مطلقة لكنّها تقيّد بصحيحة أبي بصير الصريحة في عدم الرجم فليس الّا الحدّ. هذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 295

بالنسبة إلى الفرض الأوّل.

و امّا الفرض الثاني في هذه الموثّقة و هو فجور رجل بجارية غير بالغة فقد حكم الامام عليه السّلام فيه بأنّه تضرب الجارية دون الحدّ و يقام على الرجل الحدّ و هذا و ان كان هو فرضنا الّا انّ مراده من قوله: يقام على الرجل الحدّ غير واضح لانّه ربّما يبدو في الذهن انّ المراد منه هو الحدّ المناسب بحاله المجعول له من الجلد في غير المحصن، و الجلد و الرجم فيه و ان كان يحتمل أيضا ان يكون المراد منه هو خصوص الجلد.

و عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى

بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجل وقع على صبيّة ما عليه؟ قال: الحدّ «1».

و الكلام هنا هو الكلام فيما مضى.

و سألته عن صبيّ وقع على امرأة قال: تجلد المرأة و ليس على الصبي شي ء «2».

و في الوسائل: هذا محمول على غير المميّز أو على نفى الحدّ دون التعزير انتهى.

و كيف كان فقد علمت انّه لم تكن في هذه الروايات رواية واردة في المقام صريحة في عدم الرجم نعم بالنسبة إلى عكس المسئلة قد صُرّح في بعضها بعدم الرجم و الاقتصار على مجرّد الجلد.

و إذا لم يحصل الاطمئنان بعدم الرجم في رجل زنى بالصغيرة أو المجنونة فلا محالة نرجع إلى أدلّة الزنا و نقول: لو لم يكن محصنا فمقتضى الآية و الاخبار هو الجلد و ان كان محصنا فهو يجلد و يرجم على ما مضى، لعدم وجود ما يصلح ان يكون مخصّصا لروايات الزنا و حكم الإحصان.

و امّا مرسلة السرائر فهذه: قد روى انّ زنا الرجل بصبيّة لم تبلغ و لا مثلها قد بلغ لم يكن عليه أكثر من الجلد و ليس عليه رجم. و كذلك المرأة إذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 296

زنت بصبيّ لم يبلغ لم يكن عليها رجم و كان عليها جلد مأة. و روى انّ الرجل إذا زنى بمجنونة لم يكن عليه رجم إذا كان محصنا و كان عليه جلد مأة و ليس على المجنونة شي ء بحال، لا جلد و لا رجم و لا تعزير «1».

و من المعلوم انّه كان لا يعمل بأخبار

الآحاد، و لا يعلم انّه نقل هذه الرواية المرسلة مفتيا بها أو انّه اتى بها لمجرّد نقل الرواية، و على هذا لا بدّ من العمل بمقتضى قاعدة الإحصان لعدم اعتبار المرسلة.

نعم قال في الرياض: إرسالها مجبور بالشهرة الظاهرة و المحكيّة. ثم قال:

و لو لا شبهة احتمال ضعف الدلالة لكانت هي للجماعة حجّة مستقلّة فالمشهور لعلّه لا يخلو عن قوّة لقوّة ما مرّ من الحجّة المعتضدة زيادة على الشهرة بما ذكروه من علل اعتباريّة، و لو تنزّلنا عن قوّتها فلا ريب في ايراثها الشبهة الدارئة للحدود اتّفاقا فتوى و رواية انتهى «2».

و بذلك يرتفع الرجم و يبقى الجلد بمقتضى الآية و الروايات الدّالة على انّ الزنا يوجب الجلد قطعا.

لكن يرد عليه انّ الشهرة محلّ الكلام و أوّل البحث بل في الجواهر ما يفيد إنكارها فإذا لم يتحقّق ذلك فلا محالة يؤخذ بالعمومات و الإطلاقات و لا مجال للشبهة في قبالها كما انّه في موارد الظهورات لا شكّ في وجود احتمال الخلاف و مع ذلك فلا يعتنى به بل يؤخذ بالظاهر و يطرح احتمال الخلاف، و على الجملة فالشبهة في مقابل الحجّة الشرعية لا توجب درء الحدّ و الّا فما من عام أو مطلق أو ظاهر الّا و يحتمل خلافه مع انّه لا يعتنى به فتحصّل انّه ان كان محصنا يجلد و يرجم و الّا يجلد فقط و لا يرجم.

و امّا دعوى عدم القول بالفصل بين المسئلة الآتية و مسئلتنا هذه- بتقريب انّ كلّ من قال بعدم الرجم في المرأة البالغة إذا زنى بها صغير فقد قال بعدمه في الرجل الذي زنى بالصغيرة و هو محصن و من قال بثبوته فيها قال بثبوته هنا-

______________________________

(1) السرائر الجلد 3

الصفحة 443 و 444.

(2) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 471.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 297

فقد أجاب عنها في الجواهر بأنّه لا محصّل لها على وجه ترجع الى مدرك معتدّ به فان ثبوت الإجماع بذلك كما ترى انتهى و ذلك لانّه على ذلك ففي كلّ من المسئلتين قولان و لا إجماع، فيرجع الى الروايات الدّالة على حكم الإحصان بعد صدق الزنا على الزنا بالصغيرة مثلا أيضا.

ثم لا يخفى انّه لم يكن في هذه الروايات ذكر عن زنا العاقل بالمجنونة لكنّ العلماء رضوان اللّٰه عليهم جعلوا الزنا بالمجنونة رديفا للزنا بغير البالغة.

نعم في مرسلة السرائر: و روى انّ الرجل إذا زنى بمجنونة لم يكن عليه رجم إذا كان محصنا و كان عليه جلد مأة «1».

الكلام في زناء الطفل مع المرأة

هذا كلّه حكم زناء البالغ مع غير البالغة و امّا عكس ذلك اى ما إذا زنى غير البالغ مع البالغة ف

قال المحقّق.

و كذا المرأة لو زنى بها طفل.

يعنى انّ المرأة لا ترجم ان كانت محصنة، و ما ذكره هنا تامّ، و ذلك لصراحة صحيحة أبي بصير في ذلك و بها تخصّص الأخبار الدّالة على رجم المحصن و المحصنة.

و بهذه الصحيحة يعلم انّ الحدّ في موثّقة ابن بكير الناطقة بوجوب اجراء الحدّ على المرأة يراد به غير الرجم، و على الجملة فالفارق بين الفرعين هو النص فإنّ رواية أبي بصير [1] صريحة في المقام بعدم الرجم، على خلاف الأدلة الدالّة

______________________________

[1] قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه في مرآت العقول بشرح خبر ابى بصير: صحيح و يدلّ على انّه لو زنى غير البالغ بالمحصنة لا ترجم، و ذهب اليه الشيخ و جماعة من المتأخرين، و ذهب جامعة منهم ابن الجنيد

و أبو الصلاح و ابن إدريس و هو ظاهر المفيد الى وجوب الحدّ على الكامل منهما كملا بالرجم ان كان محصنا لورود الروايات بإطلاق حدّ البالغ منهما و هو محمول على الحدّ المعهود عليه بحسب حاله من الإحصان و غيره و كذا الكلام فيمن وطأها المجنون.

______________________________

(1) السرائر الجلد 3 الصفحة 444.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 298

على انّ زنا المحصن و المحصنة يوجب الرجم.

الكلام في ما إذا زنى المجنون

قال المحقّق: و في ثبوته في طرف المجنون تردّد و المرويّ انّه يثبت و خالف في ذلك كثير.

أقول: انّ ما تقدّم كان حكم الطرف البالغ العاقل فهنا يبحث في الطرف الآخر اعنى المجنون مثلا إذا زنى و انّه هل يقام عليه الحدّ أم لا؟ و قد وقع الخلاف في ذلك، فذهب جماعة إلى وجوب الحدّ عليه مطلقا و ان كان محصنا فيرجم و أنكره الكثيرون.

و استدلّ الأوّلون بخبر ابان بن تغلب عن الصادق عليه السّلام: إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد الحدّ و ان كان محصنا رجم. قلت: فما الفرق بين المجنون أو المعتوه و المجنونة و المعتوهة؟ فقال: المرأة إنّما تؤتى و الرجل يأتي و انّما يأتي إذا عقل كيف تأتي اللذة، و انّما المرأة تستكره و يفعل بها و هي لا تعقل ما يفعل بها «1».

و في الجواهر: المشهور عدم الحدّ عليه حتّى الجلد للأصل.

أقول: الحقّ هو ما ذهب اليه المشهور و امّا التمسّك بالأصل فهو غير صحيح لأنّ الأصل يجري فيما يمكن، و هنا لا يمكن أصلا فإنّ من المعلوم انّ العقل شرط عقلي في التكليف و بدونه يكون لغوا فاذا كان الإنسان لا يتعقّل شيئا و لا يدركه فهو ليس بمكلّف حتّى يجب عليه الحدّ

لعدم ترتّب اثر عليه أصلا و الحال هذه، بل الأمر كذلك في التعزير، فما ورد في بعض الروايات من ضربه و تأديبه فهو لتخويفه كي لا يرتكب العمل المعزّر عليه فان المجنون يتخوّف من عوامله كثيرا و لو فرض عدم فهمه لذلك أيضا فلا مجال للتعزير أيضا.

و على الجملة فلو كان هناك تعبّد خاصّ فهو، بان يكون بحيث يضرب قربة الى اللّٰه؟! و الّا فلا وجه لحده أصلا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 21 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 299

و قد ظهر بذلك انّ مثل خبر ابان يشكل العمل به جدّا كما انّ فهم المراد منه أيضا أمر مشكل لانّ الرجل إذا كان يأتى عند ما عقل فلذا يحدّ فهذا جار في طرف المرأة أيضا لأنّ تهيئها لذلك يتحقّق إذا عقلت فلا فرق بينهما و على هذا فلا بدّ من حمل الرواية على ما لا يناقض القاعدة العقليّة بأن يكون المراد أن الرجل كان ناقص العقل لا مجنونا محضا فكان حال العمل عاقلا و الّا فلو كان مجنونا محضا- كما انه قد يكون المجنون كذلك و يصدر منه الأفعال حتّى الزنا من غير توجّه و ارادة- فيكون كالحيوانات بل أسوأ حالا منها فلا وجه لحدّه أصلا و لذا لم يعمل المشهور بهذه الرواية لأنّه لا يمكن الالتزام بصدور ما يخالف الحكمة من الحكيم، فكيف يوجّه الحكيم التكليف الى المجنون الذي لا يعقل شيئا؟ و على الجملة فلا بدّ امّا من حملها إن أمكن و الّا فطرحها.

و بعضهم حملوها على مجنون يتعقّل المقدار الذي يكون مصحّحا للتّكليف [1] لكنّه غير تامّ لانّه على هذا فالمجنونة أيضا لو كانت

كذلك فإنّها تحدّ بلا فرق بينهما، و امّا وجه استفادة الراوي و استظهاره الفرق بين المذكر و المؤنّث فلعلّه هو انّه كان قد سمع من الخارج انّ الامام عليه السّلام تعرّض للحكم الأنثى و انّه لا يجرى عليها الحدّ و بعد ما سمع انّ المجنون إذا زنى جلد و ان كان محصنا رجم، بدا له السؤال عن الفرق بينهما.

و يمكن ان يكون نظر الراوي من السؤال الى نفس هذا الكلام بان يكون مراده الاستفهام عن عدم تعرّض الامام عليه السّلام للمجنونة و المعتوهة مع تعرّضه عليه السّلام للمجنون و المعتوه و كأنّه يقول لم لا تذكر هذا الحكم في المجنونة و المعتوهة أيضا؟

الكلام فيمن حدّه مع الجلد، الجزّ و التغريب

قال المحقّق: و امّا الجلد و التغريب فيجبان على الذكر غير المحصن

______________________________

[1] أو على من يعتوره الجنون أدوارا و قد زنى في حال تعقله هذا مضافا الى ضعف طريق الرواية فراجع المسالك و الجواهر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 300

فيجلد مأة و يجزّ رأسه و يغرّب عن مصره عاما مملّكا أو غير مملّك.

أقول: إذا كان الزاني حرّا مذكّرا غير محصن فإنّه يجمع في حدّه بين الجلد و حلق رأسه و نفيه عن بلده عاما فيعاقب بالعقوبات الثلاث بلا فرق بين ان يكون مملّكا أو غير مملّك.

امّا الحكم الأوّل أي الجلد فلا خلاف و لا اشكال فيه و قد مرّ انّ حكم الزاني غير المحصن هو الجلد و يدلّ عليه مضافا الى إجماع المسلمين و عدم الخلاف فيه الكتاب و السنّة و قد علمت دلالة الآية: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، و الروايات الكثيرة على انّ حدّه هو الجلد.

و امّا الثاني أي جزّ الرأس يعني قرض شعر

رأسه بالمقراض أو حلقه فقد نسب الى جمع من القدماء و ان لم يتعرّض غير واحد منهم لذلك.

و مستندهم في ذلك روايتان إحديهما معتبرة حنان قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و انا اسمع عن البكر يفجر و قد تزوّج ففجر قبل ان يدخل بأهله فقال: يضرب مأة و يجزّ شعره و ينفى من المصر حولا و يفرّق بينه و بين اهله «1».

و الأخرى رواية على بن جعفر- و قد يعبّر عنها بالصحيحة- عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن رجل تزوّج امرأة و لم يدخل بها فزنى ما عليه؟ قال: يجلد الحدّ و يحلق رأسه و يفرّق بينه و بين اهله و ينفى سنة [1].

و قد عبّر في الأولى بالجزّ و في الثّانية بالحلق، و لعلّ المقصود من الجزّ

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 8.

أقول: و في المسالك: رواية عبد اللّٰه بن بكير طلحة عن الصادق عليه السّلام إذا زنى الشابّ الحدث السن جلد و حلق رأسه و نفى عن مصره إلخ.

و في شرح الإرشاد للأردبيلي: و نقل في شرح الشرائع في خبر عبد اللّٰه بن طلحة: و حلق رأسه بعد الجلد و قبل النفي، و ما رأيته في الأصول و لا في الفروع و هو اعلم انتهى، أقول خبر طلحة الباب 1 الحديث 11.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 301

المذكور في الاولى هو الحلق المذكور في الثانية. و يمكن ان يكون المقصود هو التخيير بينهما.

و كيف كان فلا شكّ انّ المراد من الشعر المذكور في رواية حنان

هو شعر الرأس كما صرّح بذلك في رواية علي بن جعفر فان هذا هو المنصرف اليه من جزّ الشعر و حلقه و المتبادر منه، فلا يكفى غيره كحلق اللحية و غيرها.

قال في الرياض: و ظاهر إطلاق الجزّ فيه و ان شمل جزّ شعر اللحية و نحوها الّا انّ المتبادر منه جزّ شعر الرأس منه فينبغي تقييده به سيّما مع التصريح به في الخبر الأول- يعني خبر على بن جعفر.

و هل يعتبر حلق تمام الرأس أو موضع خاص منه أو يكفي حلق بعضه مطلقا؟ ظاهر المقنعة و المراسم و الوسيلة تخصيص ذلك بشعر الناصية.

و قد تمسّك لذلك بالأصل أي أصالة البراءة من الزائد و ممّن تمسّك به صاحب الجواهر قال: و لعلّه لأصالة البراءة من الزائد و زيادة اختصاصها بالشناعة لكن ينافيه ظاهر الخبرين المزبورين اللذين هما الأصل في الحكم.

أقول: لا مجال لأصالة البراءة أصلا بعد انّ الظاهر من حلق الرأس هو حلق تمامه، فان كان هناك انصراف إلى الناصية- لاحترامها الخاص، و أهمّيّته الخاصّة بحيث إذا أخذ بناصية أحد فهو مسلوب القدرة و عاجز عن المقاومة كما يومي الى ذلك ما ورد في الدعاء الشريف: اللّهم انّ هذا عبدك ناصيته بيدك [1] و غير ذلك فيحلق خصوصها لمزيد الشناعة، أو انّ جزّ خصوص الناصية كان يستعمل في الأمم بعنوان التوهين و التشهير عند ما يريدون عقوبة أحد، أو انّ ذلك هو المتيقّن منه- فهو و الّا فلا بدّ من الأخذ بالظاهر و هو حلق الجميع و لا وجه للاكتفاء بحلق الناصية و الظاهر انّه لا انصراف في البين.

ثمّ انّ الروايتين كلتيهما واردتان في خصوص من تزوّج و لم يدخل بها، فهو

______________________________

[1] قد يقرء هذا

في الصلاة على الميّت كما سمعنا ذلك عن سيّدنا الأستاد في الصلاة على الأموات لكن لم نجده في الكتب نعم في دعاء ليلة الجمعة و يومها انَا عبدك و ابن أمتك و في قبضتك و ناصيتي بيدك راجع المفاتيح الصفحة 32 و في دعاء كميل: يا من بيده ناصيتي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 302

إذا زنى من غير إحصان يجزّ شعره، و حيث انّ بينه و بين من لم يتزوّج أصلا فرقا واضحا و ذلك لانّ من تزوّج و عقد على امرأة و لم يدخل بها يمكنه في كلّ آن ان يتمتّع بها و يدفع بذلك شهوته في حين انّ من لم يعقد على امرأة لا يتيسّر له ذلك فربّما يكون عقوبة الزنا في حقّه أقلّ و أسهل فلذا لا يحصل القطع بتنقيح المناط حتّى يحكم بذلك في كلّ زان غير محصن سواء أملك أم لا و خصوصا انّ الحدود تدرء بالشبهات.

لكن المحقّق و جماعة عمّموا الحكم لكلّ زان غير محصن و ان لم يكن مملّكا و نسبه في المسالك الى أكثر المتأخرين، و في الجواهر بعد عبارة المحقّق المذكورة آنفا قال: مملّكا كان أو غير مملّك وفاقا لظاهر المحكىّ عن العمّاني و الإسكافي و الحلبي و صريح المحكىّ عن المبسوط و الخلاف و السرائر إلخ.

و امّا الحكم الثالث أعني النّفي عن البلد و إخراجه منه ففي وجوبه و استحبابه كلام، و ذلك لاستشمام الاستحباب من بعض الروايات. لكنّ المشهور هو الحكم بالوجوب بل المستفاد من بعض العبائر الإجماع على ذلك بل صرّح بذلك في الخلاف و إليك عبارته: البكر عبارة عن غير المحصن فاذا زنى البكر جلد مأة و غرّب عاما كلّ

واحد منهما حدّ، ان كان ذكرا، و ان كان أنثى لم يكن عليها تغريب و به قال مالك و قال قوم: هما سواء ذهب إليه الأوزاعي و الثوري و ابن ابى ليلى و أحمد و الشافعي، و قال أبو حنيفة: الحدّ هو الجلد فقط، و التغريب ليس بحدّ و انّما هو تعزير الى اجتهاد الامام و ليس بمقدّر، فان رأى الحبس فعل و ان رأى التغريب الى بلد آخر فعل من غير تقدير، و سواء كان ذكرا أو أنثى، دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا الأصل برأيه الذمّة في المرأة فمن أوجب عليها التغريب فعليه الدليل، و الجلد لا خلاف انّه عليها- الى ان قال:- و امّا الدليل على انهما حدّان ظاهر الاخبار و ان النبي (ص) فعل ذلك و أمر به فمن حمل ذلك على التعزير أو جعله الى اجتهاد الامام فعليه الدليل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 303

و هو إجماع الصحابة [1].

ثم انّه لمّا كان مستند العلماء هو الروايات فلا بدّ من المراجعة إليها و الاستظهار منها.

فنقول: انّها بواحد من الاعتبارات على قسمين: قسم منها وارد في فعل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و الخلفاء و الامام أمير المؤمنين عليه السّلام و ناطق بأنّهم قد نفوا الزاني من البلد و لم يكن في هذا القسم تعرّض لكونه مملّكا أو غير مملّك و لا فيه ذكر عن ذلك.

نعم لمّا لم يتعرّض ناقل القضيّة في هذه الاخبار عن انّ الزاني الذي نُفى عن بلده كان مملّكا أو، لا، فلعلّ ترك الاستفصال فيها يفيد العموم. قال الشيخ قدّس سرّه في الخلاف:

روى عن ابن عمر انّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه

و آله جلد و غرّب، و انّ أبا بكر جلد و غرّب و انّ عمر جلد و غرّب. و روى عن علىّ عليه الصلاة و السّلام

______________________________

[1] الخلاف كتاب الحدود المسئلة 3، و قال الكاظميّ في مسالك الافهام الجلد 4 الصفحة 194:

و هل يجب الجمع بنى الجلد و التغريب في حدّ غير المحصن؟ أثبته أصحابنا و الشافعية. و أنكره الحنفيّة زاعمين انّ التغريب مفوّض إلى رأى الامام قالوا و روى عنه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم):

البكر بالكبر جلد مأة و تغريب عام و كذا ما روى عن الصحابة انّهم جلدوا و نفوا، منسوخ أو محمول على وجه التعزير و التأديب لا الوجوب و احتجّوا على ذلك بانّ إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد و ذلك لانّ إيجاب الجلد ترتّب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء و معنى الجزاء كونه كافيا في ذلك فإيجاب شي ء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا و لانّ التغريب لو كان مشروعا لوجب على النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية و لو فعل لاشتهر مع انّ أبا هريرة روى انّه صلّى اللّٰه عليه و آله قال في الأمة: إذا زنت فاجلدها فان زنت فاجلدها فان زنت فبعها و لم يذكر التغريب.

و الجواب انّ إيجاب الجلد في الآية لا ينافي إيجاب التغريب و عدمه بل يحصل مع كلّ منهما فلا إشعار في الآية بأحد القسمين الّا انّ عدم التغريب لمّا كان موافقا للبراءة الأصلية كان إيجابه بخبر الواحد لا يزيل الّا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به. و قول النحاة انّما سمّى الجزاء جزاء لانّه كاف في الشرط،

فلا يصحّ حجّة في الأحكام، و لا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصّصات، و الاخبار الواردة في نفى التغريب معارضة بأخبار أخر دلّت على ثبوته و بالجملة فقول الحنفيّة ضعيف انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 304

و عثمان انّها فعلا ذلك. و روى عن ابيّ و ابن مسعود مثل ذلك فغرّب أبو بكر و عمر الى الشام، و عثمان الى مصر، و علي عليه الصلاة و السّلام الى الروم و لا مخالف لهم، و ما روى من عمر انّه قال: و اللّٰه ما غرّبت بعدها ابدا، و روى عن علىّ عليه الصلاة و السّلام انّه قال: التغريب فتنة، الوجه فيه انّ عمر نفى شارب الخمر فلحق بالرّوم فلهذا حلف، و قول عليّ عليه الصلاة و السّلام، أراد انّ نفى عمر فتنة و هذا الذي حكيناه «1».

الى غير ذلك من الاخبار الدّالة على ذلك.

و امّا القسم الآخر فهي الروايات الواردة عن النبيّ و الأئمة عليهم السّلام المصرّحة بأنّه حدّ له.

ففي النبوي (ص): البكر بالبكر جلد مأة و تغريب عام، و الثّيب بالثّيب جلد مأة ثم الرجم «2».

و التقسيم بحسب هذا الخبر ثنائي فإن كانت للزاني زوجة و قد دخل بها فهو ثيّب و الّا فهو بكر سواء عقد على امرأة أم لا فاذا زنى فإنّه يُنفي عن بلده و يغرّب، و على الجملة فالبكر هنا هو من لا يجامع.

و في خبر عبد اللّٰه بن طلحة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام:. و إذا زنى الشاب الحدث السن جلد و نفى سنة من مصره «3».

و هو أيضا كذلك يدلّ على انّ الشاب الحدث السن إذا زنى ينفى عن بلده سواء كان له زوجة

أم لا غاية الأمر انّه قد خرج منه المحصن بدليله فإنّه يرجم و لا مورد للنفي مع الرجم فيبقى غيره تحت العنوان.

و عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام انّ محمّد بن ابى بكر كتب الى علىّ عليه السّلام في الرجل زنى بالمرأة اليهوديّة و النصرانيّة فكتب عليه السّلام اليه: ان كان محصنا فارجمه و ان كان بكرا فاجلده مأة جلدة ثم انفه و امّا

______________________________

(1) الخلاف الجلد 3 كتاب الحدود المسئلة 3.

(2) سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 222.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 305

اليهودية فابعث بها الى أهل ملّتها فليقضوا فيها ما أحبّوا «1».

ترى تثنية التقسيم فامّا هو محصن فيرجم و امّا انّه بكر فيجلد و ينفى الّا انّه قد خرج الشيخ و الشيخة المحصنان بدليلهما فإنّهما يجلدان و يرجمان و على الجملة فالبكر هنا في مقابل المحصن فيشمل ما إذا لم يتزوّج و لم يدخل بها و عن مثنّى الحنّاط عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الزاني إذا جلد الحدّ قال: ينفى من الأرض الى بلدة يكون فيها سنة «2».

فهذه الأخبار ناطقة بوجوب النفي و انّه مثل الجلد حدّ للزاني غير المحصن نعم في خبر سماعة قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: إذا زنى الرجل ينبغي للإمام ان ينفيه من الأرض التي جلد فيها الى غيرها فإنّما على الامام ان يخرجه من المصر الذي جلد فيه «3».

و التعبير بلفظ (ينبغي) الظاهر في الاستحباب يوجب نقص ظهور الأوامر الواردة في الروايات الأخر في الوجوب، هذا مضافا الى نقل الشيخ الصدوق الرواية بلفظ ليس ينبغي [4]

الّا انّ في مفاد الخبر على فرض عدم لفظة (ليس) نوعا من الإجمال- لعدم الملائمة بين الصدر و الذيل- نعم لو كانت الرواية مشتملة عليها كما هو مقتضى نقل الفقيه فالمعنى ظاهر و ذلك لانّ المراد من الأرض على هذا بقرينة تقابلها للمصر هو المملكة الإسلامية و كأنّه قال: لا ينبغي للإمام ان يخرجه من أرض الإسلام و مملكة المسلمين الى خارجها و انّما عليه ان يخرجه من البلدة التي جلد فيها، و عليه فلا إبهام و لا إجمال في البين و تساعد سائر الاخبار.

و لسماعة خبر آخر غير مشتمل على هذا الذيل و هو: عن ابى عبد اللّٰه

______________________________

[1] راجع من لا يحضره الفقيه الجلد 4 الصفحة 25، و في الوافي الجلد 2 الصفحة 45 من أبواب الحدود: في الفقيه فليس ينبغي للإمام، و هو الأظهر و على التقديرين لا يخلو من إبهام و إجمال انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من حدّ الزنا، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من حدّ الزنا الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 306

عليه السّلام قال: إذا زنى الرجل يجلد و ينبغي للإمام ان ينفيه من الأرض التي جلد فيها الى غيرها سنة «1».

و كيف كان فالأخبار الدالة على الوجوب كثيرة عددا و معمول بها عند المشهور و على هذا فالزانى إذا لم يكن محصنا يجب مضافا الى جلده، نفيه عن بلده و تغريبه الى بلد آخر.

و امّا ما ورد من حلف عمر باللّٰه سبحانه على عدم التغريب بعدها ابدا ففيه- مضافا الى ما مرّ عن الشيخ قدّس سرّه- انّه قد

نقل انّ عمر نفاه من بلده لأنه شرب الخبر «2» و من المعلوم انّ حدّ شرب الخمر هو جلد ثمانين و ليس على شارب الخمر التغريب، و لمّا اعترض عليه في ارتكابه ما يخالف حكم الشرع حلف باللّٰه ان لا يغرّب بعد ذلك ابدا و الى ذلك يشير الامام عليه السّلام في قوله:

انّ نفى عمر فتنة.

و هذه الاخبار تدلّ بإطلاقها على تغريب مطلق الزاني غير المحصن في حال تدلّ روايات اخرى على اختصاص ذلك بالبكر مثلا.

ففي رواية محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في الشيخ و الشيخة أن يجلدا مأة و قضى للمحصن الرجم و قضى في البكر و البكرة إذا زنيا جلد مأة و نفى سنة في غير مصرهما و هما اللذان قد أملكا و لم يدخل بها «3».

ترى انّه عليه السّلام قد خصّ النفي بالبكر و البكرة، و قد فسّر ذلك بمن تزوّج و لم يدخل بها.

نعم قد يبحث في انّ هذا التفسير من الامام عليه السّلام أو من الراوي و لكنّ الظاهر هو الأوّل.

و الظاهر من نقل الإمام أبي جعفر عليه السّلام و حكايته عن أمير المؤمنين

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

(2) صرّح به في كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 219.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 307

عليه السّلام هو الاختصاص و انه صلوات اللّٰه عليه نفى خصوص هذا الفرد و الّا فكان يقول: نفى الزاني غير المحصن.

و في رواية زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: المحصن يرجم و الذي قد أملك

و لم يدخل بها فجلد مأة و نفى سنة «1».

و هنا جعل المحصن مقابلا المملك و على هذا يكون التقسيم ثلاثيا و يبقى غير المحصن الذي لم يتزوّج أصلا و لا بدّ ان يكون حكمه هو ما ذكر في الآية الشريفة من وجوب الجلد.

و في رواية زرارة أيضا عن ابى جعفر عليه السّلام قال: الذي لم يحصن يجلد مأة و لا ينفى و الذي قد أملك و لم يدخل بها يجلد مأة و ينفى «2».

و هذه الروايات تصلح للتقييد و خصوصا الأخيرة منها حيث نفى فيها النفي عمّن لم يحصن و انّما خصّت النفي بمن تزوّج و لم يدخل بها و على هذا فالمحصن يرجم و غير المحصن إذا كان قد تزوّج و لم يدخل بها يجلد، و ينفى و إذا لم يتزوّج أصلا فإنّه يجلد بلا نفى.

و التحقيق انّ ههنا أخبارا مطلقة غير مقيّدة بمن تزوّج و لم يدخل بها و هي واردة بالسنة مختلفة.

فمنها ما ورد بعنوان: إذا زنى الرجل، أو الشاب كرواية سماعة و رواية عبد اللّٰه بن طلحة المذكورتين آنفا.

و منها ما ورد بعنوان البكر كرواية الحلبي عن الصادق عليه السّلام:

و البكر و البكرة جلد مأة و نفى سنة «3» و مثله رواية عبد الرحمن عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كان علىّ عليه السّلام يضرب الشيخ و الشيخة مأة و يرجمهما و يرجم المحصن و المحصنة، و يجلد البكر و البكرة و ينفيهما سنة «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا،

الحديث 9.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 12.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 308

و منها ما ورد بلفظ الزاني كرواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الزاني إذا زنى أ ينفى؟ قال: فقال: نعم من التي جلد فيها الى غيرها «1».

لكن في قبالها روايات ذكر فيها: من تزوّج و لم يدخل بها، و هي على أقسام فمنها ما ورد بلفظ الإثبات و ذلك كرواية زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام: و الذي قد أملك و لم يدخل بها فجلد مأة و نفى سنة «2».

و منها ما تضمّن النفي و الإثبات كقوله عليه السّلام في رواية زرارة الأخرى: الذي لم يحصن يجلد مأة جلدة و لا ينفى و الذي قد أملك و لم يدخل بها يجلد مأة و ينفى «3» «فتأمّل».

و منها ما دلّ على بيان المورد الصالح لان يدلّ على عدم جريان الحكم في غيره و ذلك كرواية محمّد بن قيس التي مرّ نقلها.

هذه مجموعة الأخبار الدّالة على التقييد، و الكلام هنا في انّه هل تصلح هذه الروايات لتقييد المطلقات أم لا و الّا فلا شكّ في كون المطلقات دليلا على العموم و انّ النفي جار في غير المحصن سواء كان قد تزوّج أم لا، فلو استشكل في دلالة المقيّدات يؤخذ بالإطلاقات بلا كلام، و الظاهر عدم خلوّ ما يؤتى للتقييد عن الإشكال.

أمّا رواية محمّد بن قيس ففيها إشكالات عديدة منها ما ذكره في الجواهر و من قبله صاحب الرياض فيه من ضعف دلالتها و ذلك لاحتمال كون التعريف من غير الامام و عدم العلم بكونه منه عليه السّلام حتّى يؤخذ به.

و منها

ضعفها و عدم الجابر لها فإنّه و ان ادّعى بعض عليه الشهرة و اختاره العلّامة في المختلف و ولده في الإيضاح و أبو العباس في المقتصر [1] إلّا

______________________________

[1] راجع المختلف الصفحة 757 و إيضاح الفوائد الجلد 4 الصفحة 479 و المقتصر الصفحة 401 و نسب هو الى القاضي و ابن حمزة و الصدوق و ظاهر المفيد و تلميذه، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 309

انّها موهونة بعدم تحقّق الشهرة، هذا مضافا الى دعوى الشهرة على خلاف ذلك أيضا و ممّن ادّعاها الشهيد الثاني في المسالك، و الى رجوع الشيخ قدّس سرّه- عمّا ذكره في النهاية من الاختصاص- في كتابيه: الخلاف و المبسوط الى القول بشمول الحكم لغير المحصن مطلقا و قد ذكر ذلك صاحب الرياض أيضا.

و منها ما أورده هو و صاحب الجواهر من اشتمالها على نفى البكرة أيضا مع انّهم لا يقولون به و هو خلاف المشهور بل قد ادّعى الإجماع على عدم نفى المرأة.

و منها ما أورده بعض الأعاظم رضوان اللّٰه عليه من انّ معنى البكر و البكرة معلوم عند الناس و معروف لدى العرف و هو الذي يذكر في كتاب النكاح حيثما يقولون بولاية الأب و الجدّ بالنسبة إلى الباكرة يعنى من لم تتزوّج و امّا تقييدهما بمن تزوّج و لم يدخل بها فهو لا يخلو عن رجوعه الى تقييد الموضوع أو الى تعيينه فان رجع الى تقييده فلا كلام، بان يكون المراد انّ

حكم اللّٰه تعالى بالنفي الوارد على البكر يراد به فرد خاص منه و هو من تزوج و لم يدخل بها، و ان رجع الى تعيينه فيشكل من جهة أنّه إثبات الموضوع بخبر واحد مع انّه لا بدّ في الموضوعات من البيّنة و لا يكتفى بالواحد «1».

و هذه الإشكالات و ان فرض إمكان الذبّ عنها أو بعضها بان يقال بالنسبة إلى الإشكال الأوّل مثلا بانّ الظاهر كون التفسير من الامام، على ما ذكرنا من قبل، و بالنسبة إلى الإشكال الثالث مثلا اى تضمّن الرواية لنفى البكرة الذي لا يقول به العلماء، بأنّه لا بأس باشتمال رواية على جملتين كانت واحدة منهما غير معمول بها و انّه لا يقدح في العمل بالأخرى،- و ان كان يرد عليه بانّ هذا يتمّ فيما إذا كانت هناك جملتان مستقلتان كذلك و امّا مثل المقام الذي ليس من هذا القبيل بل ذكر الحكمان بإنشاء واحد فلا.

الّا انّ لنا اشكالا آخر لا مخلص منه، و هذا الاشكال المهمّ في المقام هو

______________________________

(1) راجع جامع المدارك الجلد 7 الصفحة 31.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 310

انّ رواية محمّد بن قيس الدّالة على وجوب نفى البكر المفسّر بمن تزوّج بالنسبة إلى الروايات الناطقة بنفي كلّ زان- الّا ما خرج بالدليل كالمحصن- يكونان من قبيل المثبتين، و شرط التقييد في المثبتين هو العلم بوحدة المطلوب فاذا ورد مثلا: أعتق رقبة و ورد أيضا أعتق رقبة مؤمنة فما لم يعلم بانّ المطلوب من كلا الدليلين واحد، بل احتمل ان يكون كلّ واحد مطلوبا في حدّ نفسه لا يمكن التقييد. فاذا علم ذلك فهناك يقيّد و في المقام لا علم بذلك بل من المحتمل القريب

ان يكون من تزوّج و لم يدخل بها محكوما بالنفي و كذا من لم يتزوّج أصلا و هو غير محصن، فكيف نقول باختصاص الحكم بمن تزوّج و الحال هذه؟

و على هذا فيقال بانّ الحكم حكم العام أو المطلق و انّما ذكر خصوص من تزوّج و لم يدخل بها- في بعض الروايات- لأنّه أحد افراده و لئلا يتخيّل انّه صار محصنا بذلك و خارجا عن الحكم، فالحكم حكم الزاني غير المحصن مطلقا.

هذا مضافا الى إشكالات أخرى في الروايات الدالة على التخصيص فإنّ رواية محمد بن قيس و ان عبّر عنها في الجواهر بالحسنة مثلا فإنّها محلّ الخلاف و قال بعض بضعفها و ذلك لانّ محمّد بن قيس مشترك، و التمسك برواية كان سندها مختلفا فيه مشكل خصوصا بلحاظ انّ الروايات الناطقة بالنفي في مطلق الزاني غير المحصن أكثر عددا و قد افتى بها أكثر العلماء.

كما انّ رواية زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام: المحصن يرجم و الذي قد أملك و لم يدخل بها فجلد مائة و نفى سنة [1] المذكور فيها النكاح مع عدم الدخول فالظاهر عندي انّ اختصاص من أملك و لم يدخل بها بالذكر من باب دفع توهّم انّ من تزوّج و لم يدخل بها يكون محصنا، بل الإحصان موقوف على الدخول، لا لخصوصيّة لمن تزوّج و لم يدخل بها، كما انّ روايته الأخرى عن ابي جعفر عليه السّلام «1» لم يثبت كونها متضمّنة لكلمة «لا» حتّى تدلّ على

______________________________

[1] قد تقدّم نقلها آنفا فراجع.

______________________________

(1) الحديث 7 و قد مرّ آنفا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 311

الخصوص و لعلّه يكون الصحيح: الذي لم يحصن يجلد مأة و ينفى كما قال في الوافي

بعد نقلها: بيان: في التهذيب: و ينفى في الموضعين بدون لا، و التي قد املكت على المؤنث، و في الاستبصار مثل ما في الكافي [1].

و لذا ترى انّ صاحب الرياض لم يطمئن بتخصيص الروايات برواية محمّد بن قيس و رواية زرارة قال: و قصور سند الثاني [2] و تضمّن الأوّل نفى البكرة مع انّهم لا يقولون به بل ادّعى في الخلاف الإجماع على خلافه كما يأتي يمنع عن العمل بهما مع ضعف دلالة الأوّل باحتمال كون التعريف من غير الامام و لا جابر لهذه القوادح عدا الشهرة المحكيّة في السرائر و هي موهونة بعدم المعلومية مع دعوى جماعة الشهرة على خلافها و منهم شيخنا في المسالك كما عرفته، و يزيد و هنا رجوع الشيخ عمّا يوافقها الى القول الأوّل- أي تغريب مطلق غير المحصن- في كتابيه المبسوط و الخلاف سيّما و ان في الثاني ادّعى الإجماع، فالقول الأوّل لا يخلو عن قوّة.

ثم قال: و ان كانت المسئلة لا يخلو بعد عن شبهة و لعلّه لذا انّ الفاضل في الإرشاد و القواعد و الفاضل المقداد في التنقيح و الصيمري في شرح الشرائع ظاهرهم التردّد حيث اقتصروا على نقل القولين من دون ترجيح لأحدهما في البين.

ثم قال: و به تحصل الشبهة الدارئة و بموجبه يتقوّى القول الثاني في المسئلة سيّما و ان ظاهر الغنية انّ عليه إجماع الإماميّة انتهى «1».

و قد تبعه في ذلك صاحب الجواهر أيضا حيث قال: و هو في محلّه.

و نحن نقول: انّهما و ان أجادا في القول بعدم الحصول على ما يصلح

______________________________

[1] الوافي الجلد 2 كتاب الحدود الصفحة 38 أقول: لكن لفظة «لا» موجودة في التهذيب الموجود عندي.

[2] أقول: الوجه في ذلك

انّ من جملة رجال سنده موسى بن بكر و هو واقفي كما صرّح به في جامع الرواة.

______________________________

(1) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 472.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 312

لكونه مخصّصا الّا انّ الذي تمسّكا به من الشبهة الدارئة ليس في محلّه و ذلك لانّه لا شبهة مع وجود المطلقات الدّالة على وجوب النفي لكلّ زان غير محصن فلا بدّ من التمسك بها بعد عدم ما يصلح لكونه مخصّصا.

و قد ظهر بما حقّقنا انّ ما افاده المحقّق «بقوله

و قيل يخصّ التغريب بمن أملك و لم يدخل، (ثم قال): و هو مبني على انّ البكر ما هو و الأشبه انّه عبارة عن غير المحصن و ان لم يكن مملكا.»

ليس بوجيه فإنّه إذا كان الموضوع في النفي و التغريب قد جي ء به بعناوين متعدّدة فكيف يبتني البحث على فهم معنى البكر الذي هو أحد تلك العناوين؟ مضافا الى عدم خفاء في معنى البكر أصلا فإنّه هو الذي لم يدخل و البكرة هي التي لم يدخل بها ففي الرواية عند التعبير عن كونها بكرا لم تزن:

انّ عليها خاتما من اللّٰه، فلا إجمال في البين، و يبقى انّ لنا هذه الاخبار و مقتضى عموم الموضوع في كثير منها هو تعميم الحكم بالنسبة الى كلّ زان- غاية الأمر خروج المحصن بالدليل- و الأخذ بالخاص مشكل جدا بعد انّ أكثر الروايات الواردة في المقام دالّ على العموم و الإطلاق، و أكثر العلماء قائلون بذلك، و ما دلّ على الخصوص كرواية محمّد بن قيس لم يكن كما عرفت من حيث السند و الدلالة بحيث تطمئن إليها النّفس- و ان عبّر عنها في الجواهر بالحسنة و اعتمد عليها بعض أيضا- و

لا يعتمد على رواية رماها بعض بالضعف كما ترى تصريح المسالك باشتراك محمد بن قيس الذي هو في سلسلة رواتها.

فتحصّل انّ الأظهر و الأقوى بحسب الاجتهاد هو ما ذكره المحقّق قدّس سرّه من التعميم و انّ كلّ زان غير محصن يجب عليه ان ينفى من بلده كما يجب ان يجلد مأة جلدة بلا فرق بين من تزوّج و لم يدخل بها أو لم يتزوّج أصلا.

الكلام في انّه من أين ينفى

اشارة

بعد ان ثبت و تحقّق وجوب النفي تصل النوبة إلى البحث في انّه من أين ينفى فهل الملاك هو وطنه أو بلد الزنا أو بلد الجلد؟

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 313

اختلفت الروايات في التعبير عن هذا الموضوع كما انّ بعضها مطلق لا تعرّض فيه لذلك بل يقول بالنحو الكلّي ينفى سنة كما في رواية الحلبي:

و البكر و البكرة جلد مأة و نفى سنة «1» و في رواية زرارة: فجلد مأة و نفى سنة «2» و مثلها روايته الأخرى و فيها: و ينفى «3» و في رواية على بن جعفر عن أخيه: ينفى سنة «4»، و في بعضها: من بلدة الى بلدة كرواية الحلبي عن الصادق عليه السّلام «5» و ليس المراد منها، واضحا فهل المقصود وطنه أو غير ذلك؟

و على الجملة ففي بعضها: من مصره، أو: من المصر، أو: من مصرهما، ففي خبر عبد اللّٰه بن طلحة: و نفى سنة عن مصره «6» و في خبر حنان:

و ينفى من المصر حولا «7» و في خبر محمّد بن قيس: و نفى سنة في غير مصرهما «8» و هذه الاخبار ظاهرة في كون الملاك نفس الوطن و ان لم يكن هو بلد الزنا و الجلد.

و في بعض منها: ينفى

من الأرض الى بلدة يكون فيها سنة كرواية مثنّى الحنّاط عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام «9».

و في بعضها انّ أمير المؤمنين نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة «10» و غير معلوم انّ الزنا و الجلد أو واحد منهما وقع في الكوفة أم لا.

و منها ما هو صريح في بلد الجلد و ذلك كرواية سماعة: ينبغي للإمام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 8.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 11.

(7) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

(8) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

(9) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(10) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 314

ان ينفيه من الأرض التي جلد فيها الى غيرها فإنّما على الامام ان يخرجه من المصر الذي جلد فيه «1».

و رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الزاني إذا زنى أ ينفى؟ قال: فقال: نعم من التي جلد فيها الى غيرها سنة «2».

فما نصنع إذا مع هذا الاختلاف في التعابير و الروايات؟ و ما هو الحكم؟ ذهب الشيخ الى انّ المعيار هو بلد الزنا و إليك

نصّ كلامه:

و النفي واجب عندنا و ليس بمستحب و قال بعضهم هو مستحب موكول الى اختيار الحاكم ان راى نفى و ان راى حبس و حدّ التغريب ان يخرجه من بلده أو قريته الى بلد آخر و ليس ذلك بمحدود بل على حسب ما يراه الامام و قال قوم ينفيه الى موضع يقصر فيه الصلاة حتّى يكون في حكم المسافر عن البلد فان كان الزاني غريبا نفاه الى بلد آخر غير الذي زنى فيه [1].

و اختار صاحب الجواهر التغريب عن مصره الذي هو وطنه، و لم يبيّن قدّس سرّه انّه كذلك مع وقوع الزنا أو الجلد فيه أولا.

لكنّه عند توجيه كلام الشيخ أيضا قال: و لعلّه الظاهر من خبر مثنّى الحنّاط.

أقول خبر مثنّى الحنّاط هذا: عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الزاني إذا جلد الحدّ، قال ينفى من الأرض الى بلدة يكون فيها سنة «3».

و هذا الخبر بظاهره دالّ على لزوم نفيه من بلد الجلد لا بلد الزنا و ذلك لانّ الألف و اللام في (الأرض) للعهد، و المراد الأرض التي جلد فيها الحدّ و قد علمت انّ روايات عديدة تدلّ على انّه ينفى من الأرض التي جلد فيها [3].

______________________________

[1] المبسوط الجلد 8 الصفحة 3 و قد وافقه الأردبيلي أيضا فقال: الثامن التغريب الإخراج عن البلد الذي زنا فيه الى بلد آخر لا عن تحت حكومة قاضي تلك البلد انتهى.

[2] ما افاده دام ظله اشكالا على الجواهر لعلّه لا يخلو عن كلام و ذلك لانّ استظهار الجواهر من قول

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا الحديث

2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 315

و كيف كان فنحن نقول: اللازم مراعاة كلّ هذه العناوين المذكورة في الروايات عند نفى الزاني و تغريبه.

توضيح ذلك يتوقّف على ذكر مقدّمتين إحديهما انّه ليس للنفي خصوصيّة أصلا بل النفي و الإخراج ملحوظان مقدّمة و انّما العناية التامّة للشارع قد تعلّقت على عدم كون الزاني هنا فهو المقصود و ذو المقدّمة و بعبارة اخرى انّ الهدف الأصيل و المقصد الوحيد هو ان لا يكون الزاني في المكان المذكور في الروايات.

ثانيتهما انّه لا يستفاد من كلّ من الروايات الحصر و نفى المكان المذكور في الرواية الأخرى و انّما المستفاد من كلّ هذه الروايات إخراجه من البلد المذكور فيها بلا تعرّض لنفى غيره.

و حينئذ نقول: انّه لا تنافي بين هذه الروايات أصلا كي يحتمل الحكم بالتخيير أو نحكم باعتبار خصوص بلد الجلد أو بلده الذي هو وطنه كما

______________________________

الشيخ بكون الملاك هو بلد الزنا لا يكون من رواية الحنّاط على نقل الوسائل المطابق لنقل الكافي بل انّما هو منها على نقل الشيخ في التهذيب فان هذه الرواية المنقولة في الكافي بل انّما هو من منها على نقل الشيخ في التهذيب فان هذه الرواية المنقولة في الكافي و التهذيب و قد نقلها الوسائل وفقا للكافي فراجع و امّا هي على نقل التهذيب الجلد 10 الصفحة 197: عن مثنى الحناط عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن الزاني إذا جلد الحدّ؟ قال: ينفى من الأرض التي يأتيه الى بلدة تكون فيها سنة، و غير خفّي انّ الظاهر منها هو انّ المراد من «من يأتيه» أي يأتي

الزنا، قال المحدّث الكاشاني في الوافي الجلد 1 الصفحة 25 من الحدود: بيان: في التهذيب: من الأرض التي يأتيه أي يأتي الزنا انتهى فلذا احتمل في كشف اللثام عود الضمير الى الامام و قال بعد نقل الخبر على ما ذكرناه: فان الظاهر انّ يأتيه بمعنى يأتي الزنا و يحتمل: يأتي الإمام فيكون النفي من ارض الجلد الى مصر آخر كما مرّ في خبري حنان و محمّد بن قيس و كما قال الصادق عليه السّلام في حسن الحلبي. و في خبر سماعة: إذا زنى الرجل. و انّما على الامام ان يخرجه من المصر الذي جلد فيه، و هذا الخبر نصّ في النفي من بلد الجلد و كذا خبر ابى بصير:. نعم من التي جلد فيها الى غيرها.

و على ما ذكرنا يترتّب قول الجواهر: و ربّما احتمل بعد ان يأتي الإمام، فيكون النفي من ارض الجلد الى مصر آخر انتهى. فان هذا ناظر الى كلام كاشف اللثام و على ما افاده دام ظلّه لا معنى لهذه الجملة في الجواهر أصلا. و قد أوردت ذلك عليه دام ظلّه في يوم 11 شعبان لمعظم 1406.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 316

اختاره صاحب الجواهر مصرّحا انّ مصره هو وطنه، أو بلد وقوع الزنا كما اختاره شيخ الطائفة فان المواجهة مع الروايات بهذا النحو فرع التنافي بينها و عدم إمكان اجتماعها مع انّ بينها كمال الملائمة و يجمع بينها بلا اشكال و حينئذ يجب على الحاكم ان ينفيه من وطنه و من بلد زناه و من بلد جلده فتارة تجتمع و تتحدّ تلك العناوين اى الوطن و بلد الزنا و بلد الجلد فالأمر سهل و لا كلام، و اخرى

تفترق العناوين فيكون بلد وطنه غير بلد زناه و هو غير بلد جلده و هناك يخرج و ينفى من كلّ هذه البلاد الى بلد آخر أيّاما كان و على الجملة فالّلازم ان لا يكون هو لا في وطنه و لا في بلد قد زنى فيه و لا ما جلد فيه.

و هل الحكم مختصّ بالمصر و البلد أو انه يجرى في القرية أيضا؟

الظاهر انه لا فرق بينهما و لا خصوصيّة لعنوان البلد و المصر و لذا قال الشيخ الطوسي قدّس سرّه في المبسوط في كلامه المتقدّم: و حدّ التغريب ان يخرجه من بلده أو قريته الى بلد آخر.

ثم انّه هل يجرى الحكم في الفلاة أيضا أم لا؟

الظاهر انّه يجرى هناك أيضا فلو كان الزاني من أهل البادية و ساكنا في الفلاة و يعيش في البراري فإنّه ينفي من مكانه الى موضع آخر فلو لم يكن ساكنا فيها يجب منعه من دخول بلده الى سنة [1].

و قال الفاضل الأصبهاني: لو زنى في فلاة لم يكن عليه نفى الّا ان يكون من منازل أهل البدو فيكون كالمصر.

ثم قال: و المصلحة في النفي يحتمل ان يكون مجرّد الإهانة و العقوبة و ان يكون التبعيد عن المزني بها و مكان الفتنة و بحسب ذلك يختلف الرأي في

______________________________

[1] قال المامقاني رحمة اللّٰه عليه في مناهج المتّقين الصفحة 498: أمّا الجلد و التغريب فيجبان على الذكر غير المحصن إذا عقد على امرأة و لم يدخل بها و كذا الجزّ فيجلد حينئذ مأة و يجزّ رأسه و ينفى من المصر الذي جلد فيه سنة، و القرية كالمصر في ثبوت النّفي عنه و كذا الفلاة على الأظهر الأقرب سيّما إذا كان من سكّانها

و لا جزّ و لا تغريب على الأنثى و لا على مطلق غير المحصن من الذكور انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 317

التغريب من بلد الجلد و احتمل جواز التغريب الى بلد الزنا.

و في الجواهر: قد يقال: انّ الظاهر كون المصلحة في التغريب الإهانة و العقوبة فلا يختلف الحال و ربّما احتمل كونها التبعيد من المزنيّ بها و مكان الفتنة و هو بعيد فيكفي حينئذ التغريب من بلد الجلد بناء على القول به الى بلد الزناء انتهى.

أقول: انّ المصالح و الحكم الكامنة كالاعتبارات لا تصحّ ان تكون دليلا على الحكم و موجبا لصرف الأدلّة و هذا الذي ذكر من النفي إلى بلد الزنا بعيد بحسب الأدلّة، بل الظاهر منها ما ذكرناه من مراعاة جميع العناوين، و نفيه عن بلد الزنا و بلد جلده و عن موطنه.

قال كاشف اللثام أيضا: و ان كان الإمام في سفر معه جماعة فجلد رجلا منهم للزنا و هو بكر احتمل وجوب نفيه من القافلة انتهى «1».

أقول: انّ احتمال نفيه عن القافلة بعيد و لذا قد أورد عليه في الجواهر بأنّه خلاف ظاهر النصوص المزبورة.

فالّلازم بمقتضى الاستظهار من الروايات هو منعه عن بلده و وطنه مدّة سنة و امّا مكان الزنا و الجلد فيفارق منه قهرا.

ثم انّه قد يورد على ما ذكرناه في مقام الجمع بين الاخبار في المقام- من انّ الغرض الأصيل هو عدم كونه في تلك الأماكن و انّ النفي و الإخراج مقدّمة لذلك- بانّ لازم ذلك هو عدم وجوب نفيه إذا خرج هو بنفسه عقيب زناه.

و نحن نقول: انّا نلتزم بذلك و لا بأس به، و من البعيد جدّا ان يقال انّه إذا خرج هو بنفسه

يلزم ان يُعاد حتّى يخرجه الحاكم من البلد [1].

______________________________

[1] أقول: لا بعد في ذلك بعد انّ المفروض كون التغريب حدّا فان الحدّ لا بدّ ان يكون بنظر الحاكم.

______________________________

(1) كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 219.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 318

فروع تتعلّق بالمقام

اشارة

ثم انّ في نفى الزاني عن بلده فروعا أخر فتعرّض لها تتميما للبحث و إكمالا للفائدة.

منها انّه بعد ان تحقّق وجوب النفي فالى أين ينفى؟

الى بلد الإسلام أو بلد الشرك أو يختار الحاكم في ذلك فله نفيه الى اىّ واحد منهما قد شاء؟

أقول: في صحيح الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام انّ أمير المؤمنين عليه السّلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة «1».

و لكن في خبر بكير بن أعين عن ابى جعفر عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام إذا نفى أحدا من أهل الإسلام نفاه إلى أقرب بلد من أهل الشرك إلى الإسلام فنظر في ذلك فكانت الديلم أقرب أهل الشرك إلى الإسلام «2».

و مقتضى هذا الخبر هو النفي إلى خارج أرض الإسلام مع مراعاة كونه قريبا إلى أرض الإسلام.

و قد مرّ ان عليّا عليه السّلام غرّب الى روم فراجع و الحال انّ ارض روم لم تكن في زمن الامام صلوات اللّٰه عليه، أرض الإسلام.

نعم في الوسائل بعد نقل خبر بكير: الظاهر انّ النفي هنا للمحارب.

انتهى.

و ما قد يقال من انّ هذا خلاف ظاهر لفظ (كان) الظاهر في الدوام و الاستمرار و لفظ: إذا نفى، كذلك و لفظ: أحدا، الدّال على العموم [1].

ففيه انّه يمكن ان يجاب عنه- بناء على ما ذكره الوسائل- بأنّ دأبه عليه السّلام في نفى المحارب مطلقا كان دائما على نفيه إلى أقرب بلد من أهل

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 319

الشرك.

لكن الرواية في نفيه عليه السّلام الى بلاد الشرك ليست منحصرة في هذه و قد

مرّ نقل بعضها عن الخلاف، و الظاهر هو صدق النفي و التغريب فيكتفى بصدق هذين العنوانين سواء كان الى بلاد الإسلام أو الى ديار الكفر بحسب ما تقتضيه المصلحة، و ما ذكره في الوسائل فهو خلاف ظاهر الرواية.

و على هذا فلا بدّ من ان يكون قوله عليه السّلام في رواية سماعة: ليس ينبغي للإمام ان ينفيه من الأرض التي جلد فيها الى غيرها فإنّما على الإمام إلخ «1» محمولا على الكراهة أو غير ذلك من الوجوه غير المنافية للتخيير و الإناطة بالمصلحة.

و ان كان مقتضى القاعدة هو الاقتصار على بلاد الإسلام و عدم نفيه الى بلاد الكفر الّا بدليل قاطع و ذلك لانّه من مصاديق التعرّب بعد الهجرة و هو حرام بلا كلام.

و امّا ما ذكره الأردبيلي قدّس سرّه من عدم جواز نفيه الى بلد يخرج عن تحت حكومة هذا القاضي قائلًا: الثامن التغريب الإخراج عن البلد الذي زنا فيه الى بلد آخر لا عن تحت حكومة قاضي تلك البلدة انتهى، فلم يظهر له وجه أصلا و مقتضى كلامه انّه لو كان في جنب البلد بلد آخر له قاضٍ مستقل فإنّه لا يجوز إخراجه إلى ذاك البلد، و هو مشكل، و ليس في الروايات و لا في الكلمات ممّا ذكره عين و لا اثر.

و منها ما هو الحدّ المعتبر في البعد من البلد؟

الظاهر عدم ورود تحديد له في الاخبار سوى ما حكى عن الفقه الرضوي عليه السّلام: حدّ التغريب خمسون فرسخا، و من المعلوم انّ فقه الرضا بنفسه لا يصلح للإفتاء به و لم نعثر على من قيّد النفي بذلك. و أظنّ انى رأيت في رواية انّه ينفى إلى موضع يقصر فيه الصلاة [1].

______________________________

[1] أقول: لم أعثر إلى الآن على هذا الخبر نعم

ورد ذلك في كلمات الشيخ ففي المبسوط الجلد 8

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من حدّ الزنا الحديث 4 لكن بنقل التهذيب على ما تقدّم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 320

لا يقال: انّه و ان لم يرد دليل صريح صحيح يدلّ على اعتبار خمسين فرسخا الّا انّ ما حكى من نفى الامام علىّ عليه السّلام بحسب الموارد و المصاديق كان الى مواضع لا تقصر عن ذلك فإنّه عليه السّلام قد نفى إلى البصرة مثلا و معلوم انّ المسافة بينها و بين الكوفة أزيد من خمسين فرسخا و هكذا ما نقل من نفيه الى الروم و غير ذلك [1].

لانّه يقال: انّه مجرّد ذلك لا يدلّ على الاختصاص و اعتبار هذا الحدّ لانّه مجرّد العمل و لعلّه عليه السّلام راى مصالح في ذلك.

أضف الى ذلك ما نقل من انّ عمر نفى الى فدك و هو و ان لم يكن بنفسه دليلا الّا انّه دليل بضمّ انّه كان ذلك بمرأى و منظر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و الظاهر كفاية مطلق التغريب و صدق كونه غريبا و مجرّد نفيه الى بلد آخر أيّاما شاء، و ذلك بمقتضى لفظ التغريب و النفي و إطلاقهما، و عدم ما يصلح للتقييد و التحديد.

و منها انّه يجب نفيه الى اىّ مدّة؟

نقول: مقتضى الاخبار الكثير الواردة في هذا الباب انّ مدّة نفيه التي يجب منعه فيها عن دخول البلد سنة كاملة، و هذه الاخبار بعضها بلفظ حول و بعضها بلفظ عام و بعضها بلفظ سنة.

فمن الأوّل خبر حنان، ففيه: يضرب مأة و يجزّ شعره و ينفى من المصر حولا و يفرّق بينه و بين اهله «1».

و من الثاني النبويّ صلّى اللّٰه عليه و آله: البكر بالبكر

جلد مأة و تغريب عام.

______________________________

الصفحة 3 من كتاب الحدود: و حدّ التغريب ان يخرجه من بلده أو قريته الى بلد آخر و ليس ذلك بمحدود بل على حسب ما يراه الامام. و قال قوم: ينفيه الى موضع يقصر فيه الصلاة حتّى يكون في حكم المسافر عن البلد إلخ.

[1] من هذا العبد و قد تفضّل سيّدنا الأستاذ الأفخم دام ظلّه بما هو مذكور في المتن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18، الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 321

و من الثالث الحديث 2 و 6 و 9 و 11 و 12 من الباب الأوّل من حدّ الزنا و الحديث 8 من الباب 7 و الحديث 4 و 5 من الباب 24 و قد طفحت بذلك كلمات العلماء، و مرّ كلام الشيخ في الخلاف آنفا فراجع.

و قال الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: التاسع مدّة التغريب سنة لا أزيد انتهى.

و منها انّ المراد من السنة و العام هو الهلالي منهما

دون الشمسي فإنّ الأحكام الواردة من الشرع في الشهور و السّنة فهي محمولة على القمريّة كالحج و الصوم و الأشهر الحرم و سنة التكليف و غير ذلك. قال اللّٰه تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّٰهِ اثْنٰا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتٰابِ اللّٰهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [1] الى غير ذلك من الآيات الكريمة.

نعم استثنى خصوص باب الخمس حيث انهم قد قالوا- و يستفاد من بعض الاخبار أيضا- انّ الزارع يجعل مبدأ سنته حين حصول فائدة الزرع و وصولها بيده و هو عند تصفية الغلّة.

و على الجملة فالملاك هو السنة القمريّة، و لذا قيد الشّهيد الثاني في الروضة، العام- المذكور في عبارة الشهيد في المقام- بقوله: هلاليا.

و منها انّه

لو غرّب و نفى لكنّه في أثناء الحول و قبل ان ينقضي العام، فرّ من منفاة و رجع عن محلّ النفي فامّا ان يرجع الى بلده و امّا الى بلد آخر فعلى الأوّل يجب على الحاكم نفيه ثانيا من بلده، فان ذلك مقتضى وجوب كونه منفيّا عن البلد و خارجا عنه مدّة حول.

______________________________

[1] سورة التوبة الآية 36. أقول: و من هذا القبيل قوله تعالى شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. البقرة الآية 185.

و قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ. البقرة الآية 194.

و قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ. البقرة، الآية 197.

و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. البقرة الآية 217.

و قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ. المائدة، الآية 2.

و قوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ سورة التوبة الآية 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 322

قال الشهيد الثاني في الروضة: ان رجع الى ما غرّب منه قبل اكماله أعيد.

و امّا على الثاني أي ما إذا فرّ و راح الى بلد آخر فهناك لا يجب بحسب الظاهر إخراجه عنه و إرجاعه إلى المنفي و ذلك لانّ المستظهر من الأدلّة هو عدم كونه في بلده، و ما كان على الحاكم فهو إخراجه و امّا تعيين الموضع الذي ينفى إليه فليس بيد الحاكم، نعم لا يجوز له ان يخرج الى بلاد الكفر كما تقدّم الإشارة الى ذلك قريبا.

و منها انه هل اللازم بعد ما أعيد إلى منفاة هو الاستئناف

أو انّه يكفى البناء على ما مضى من نفيه؟

الظاهر هو الثاني كما قال في الروضة بعد عبارته السابقة: بانيا على ما سبق و ان طال

الفصل.

و منها انه هل يعتبر في هذه المدّة أي السنة الكاملة

، التوالي أو لا يعتبر فيها ذلك؟

ظاهر الأدلّة الناطقة بوجوب نفيه سنة هو السنة متوالية و على هذا فلا يجوز له ان يقيم مدّة في المنفي و مدة في بلده مثلا هذا هو حكم المقام من حيث هو و ذلك لا ينافي البناء على ما مضى في الفرع السابق [1].

و منها انّه هل يجوز له ان يخرج من المنفي إلى بلد آخر

بعد مفروغيّة عدم جواز الخروج الى بلده ما لم يقض الحول؟

الظاهر بحسب ما تقدّم من انّ اختيار النفي وحده بيد الحاكم دون اختيار موضعه- فإنّه بيد الزاني- هو الجواز.

و منها انّه إذا نفى الزاني عن بلده

و لكنّه قد زنى في منفاة أيضا فما يصنع هناك؟ مقتضى وجوب نفى الزاني عن بلد الزنا هو إخراجه من هذه الأرض أيضا، و على ما تقدّم منّا لو كان وطنه و بلد جلده غير بلد زناه يجب ان يطرد عنهما أيضا فإن كان بعد مضىّ الحول و انقضائه يجب نفيه حولا آخر،

______________________________

[1] لعلّ الثمرة تظهر في انّه لا يجوز له في ابتداء الأمر ان يقبل النّفي منفضلا و غير متتابع فتأمّل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 323

و امّا إذا كان قد زنى في أثناء الحول كما إذا انقضى منه ستّة أشهر فقط فزنى ثانيا فإنّه يخرج من هذا البلد الى بلد آخر، و هل تتداخل السنتان حينئذ بأن ينفى من هذا البلد و يمنع من الدخول فيه حولا فقط أو انّه يجب إكمال السنة الأولى أوّلا ثم يبدء في سنة أخرى لزناه الثاني؟

يمكن ان يقال بالأوّل و ذلك لانّه بعد ان نفاه الحاكم ثانيا ففي المنفي يصدق انّه قد اخرج عن البلد الأوّل كما يصدق انّه قد اخرج من البلد الثاني الذي زنى فيه ثانيا فيكتفى بمضيّ سنة بعد ذلك خصوصا انّ مبني الحدود على درءها بالشبهات.

هذا لكنّ التحقيق خلاف ذلك فإنّ أثر الزنا هو نفى الزاني عن البلد و إذا لم يتمّ الحول الأوّل و قد زنى مرّة أخرى فإنّه يتمّ و يكمل الحول الأوّل ثم يشرع في الثاني فإنّ كلّ سبب يوجب و يطلب مسبّبا مستقلا، و التداخل يحتاج الى الدليل.

نعم

حيث انّه قد زنى هنا يجب ان يخرج من هذا المكان حتّى بالنسبة الى ما بقي من الحول الأوّل و على هذا فبحسب الظاهر لا مانع مع انقضاء ما بقي من العام الأول ان ينفى إلى بلد قد زنى فيه أوّلا إذا لم يكن وطنه و كذا بالنسبة إلى بلد الجلد، و على الجملة فيمنع من وطنه على اىّ حال، و امّا بالنسبة إلى الزنا الثاني فإنّه يمنع عن بلد الزنا و الجلد الفعليّين.

و منها انّه إذا كان في نفيه فساد له في المنفي أو لعائلته في البلد فما يصنع هناك؟

أقول: انّه من باب الأهمّ و المهمّ و تزاحمهما فيلاحظ الأهمّ، و لا وجه لسقوط النفي من رأس، فإذا راى الحاكم انّه يمكن حدوث قتل و قتال و اثارة الفتن بين الطوائف و القبائل مثلا بسبب نفيه عن البلد فإنّه يتوقّف الحكم بنفيه الى ان يرتفع المانع و يزول المحذور و تيسّر نفيه كما انّ الأمر كذلك في الحدّ بنفسه و لذا ترى انّه يؤخّر حدّ المرأة الزانية إذا كانت حاملا، و الحدّ قد يؤخّر لعل و أسباب لكنّه لا يسقط، و على الجملة فمقتضى القاعدة هو كونه عليه،

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 324

و مقتضى حكم العقل تقديم جانب الأمر الأهمّ لا انّه وردت به رواية، و هكذا لو منع من نفيه مانع آخر فإنّه ينتظر زواله و لا يرفع النفي عنه فينتظر زواله فينفى بعده و ان طالت المدّة.

و منها انه هل مؤنته و مخارجه في تلك المدّة على نفسه

حتّى يشتغل في منفاة بعمله و حرفته و يديم تجارته و صنعته أو انّها على الامام و في بيت مال المسلمين؟

مقتضى القاعدة انّه لو كان له مال فلا وجه لأداء مخارجه و

مصارفه عن بيت المال، فهي على نفسه بمقتضى تمكّنه و يساره و انّه بنفسه و بسوء اختياره صار سببا لوقوعه في هذا الابتلاء، بل لعلّ الأمر كذلك لو لم يكن له مال بالفعل الّا انّ له صنعة و حرفة يمكن له الاكتساب بهما و بعمله فإنّه يكلّف بذلك و يكون مؤنته على نفسه و في حاصل عمله و كسبه، كما انّ مخارج عائلته و مؤنتهم أيضا يجب عليه لو أمكن و تيسّر له بواحد من الوجهين و لو لم يتمكّن من أداء مؤنتهم و مصارفهم فإنّه يؤخّر نفيه الى رفع المانع عنه.

و امّا لو لم يكن له مال و لا له شغل و عمل يتمكن به من ادارة معاشه فان رزقه و مؤنته على الامام و يدفع اليه من بيت المال.

هذا إذا كان هناك بيت مال أمكن التوفّر منه عليه و الّا فلو لم يكن كذلك فمؤنته على المسلمين و حينئذ يمكن أداءها من الزكوات و الصدقات و أموال الفقراء و سهامهم. و هذا البحث جار بالنسبة إلى المحبوسين و المسجونين أيضا.

بقي في المقام أمران

ثم انّه قد بقي في المقام أمران لا بدّ من التعرّض لهما.

أحدهما انّه هل تعتبر مراعاة الترتيب بين الأمور الثلاثة و العقوبات المذكورة أو انّه لا ترييب في البين و انّما اللازم الإتيان بهذه الأمور كيف اتّفق؟

الظاهر هو وجوب تقديم الجلد و الجزّ على النفي و ذلك لانّه تقديمهما فقد أسرع في إيقاع حدّ اللّٰه تعالى، و ذلك لعدم افتقارهما الى وقت كثير بخلاف

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 325

ما لو أخرا الى ما بعد النفي فإنّه بمقتضى احتياج النفي إلى زمان زائد فقد لزم تأخيرهما و هو تأخير حدّ

اللّٰه تعالى، و على ذلك فتقديم الجلد و الجزّ على النفي بمقتضى القاعدة. هذا و امّا بينهما فالظاهر انّه لا ترتيب.

ثانيهما انّ من المعضلات المتعلّقة بهذه الأبحاث ما ورد في بعض اخبارها من التفريق بينهما اى بين الزاني و اهله و هو حكم آخر غير الأحكام الثلاثة المذكورة في كلام المحقق التي كنّا بصدد إثباتها و هو عقوبة من عقوبات هذا الزاني، فإنّ من كانت له زوجة يمكنه ان يتمتّع و يلتذّ بها كلّ حين و مع ذلك فقد ارتكب الزنا فان عقوبته و كفّارته ان يفرّق بينه و بين حليلته فتكون العقوبة متجانسة للجرم الذي قد اتى به، نظير انّ من أفطر في شهر رمضان فان عليه بدل كلّ يوم صوم ستّين يوما.

لا يقال انّ المراد منه هو التفريق بينه و بين اهله بالسفر و التغريب فيكون قوله عليه السّلام في خبر حنان: و يفرّق بينه و بين اهله عطفا تفسيريا لنفيه عن المصر كما ان قوله عليه السّلام في رواية علىّ بن جعفر: ينفى سنة عطف تفسير لقوله: يفرّق بينه و بين أهله.

لأنّا نقول: انّ المراد بالأهل هنا ليس هو العائلة و الأقرباء بل المراد هو الزوجة و ذلك بقرينة ذكر الأهل و ارادة الزوجة منه في صدر رواية حنان حيث قال: ففجر قبل ان يدخل بأهله.

هذا هو مقتضى الخبرين و امّا انّه هل افتى العلماء بذلك أم لا فهو كلام آخر.

و التحقيق انّ هنا جهات من الاشكال منها الإجمال في لفظ التفريق و منها الإجمال في لفظ الأهل و منها الذي يقوّى الاشكال جدّا هو أني مع الفحص البالغ التامّ و صرف أوقات كثيرة في ذلك لم أجد أحدا من المتقدّمين و

المتأخرين و المعاصرين قد تعرّض لذلك و ان كانوا قد نقلوا الأخبار المتضمّنة له لكنّهم في مقام الإفتاء لم يتعرضوا لذلك لا نفيا و لا إثباتا بل سكتوا عنه و مضوا.

و امّا وجه الإجمال في لفظ الأهل فلاحتمال ان يكون المراد منه خصوص

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 326

الحليلة كما انّه يحتمل ان يكون المراد هو مطلق الأهل و العشيرة، نعم الأخصّ مراد على اىّ حال فإنّ الأخصّ داخل في الأعم.

و امّا بالنسبة إلى التفريق فلانّه من المحتمل ان يكون المراد هو فسخ النكاح و إبطاله و ان يكون المراد هو وجوب الطّلاق كما انّ من المحتمل ان يكون المراد هو مجرّد التفريق بينهما بان لا يكون الزاني في مصاحبة اهله، و على الأوّلين يكون المراد من الأهل هو الزوجة و على الأخير يلائم إرادة الزوجة كما أنّه يلائم إرادة الأعم.

و الذي يبدو في الذهن ان يكون المراد من الأهل هو الزوجة و من التفريق افتراقه و انقطاعه عنها و عدم كونها في مصاحبته في السفر- و ان أمكن ان يكون المراد من التفريق ما تقدّم، و من الأهل مطلق اقار به و عشيرته و خواصّه و منهم زوجته- و كيف كان فيشترط ان لا يخرج إلى المنفي مع زوجته و في مصاحبتها فان مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي ذلك و هو عقوبة له على ارتكاب الزنا.

و لعلّ وجه عدم تعرّض العلماء لذلك اكتفاءهم بذكر النفي عن ذكر ذلك و استغناءهم بذلك عنه فان نفى الزاني عن البلد خصوصا بمناسبة كونه زانيا قد ارتكب الفحشاء و انّ النفي عقوبة له على هذا العمل الشنيع هو خروجه عن اهله و حرمانه عن مصاحبتهم

و عدم كونه معهم، و ذهابه الى مكان لا يصاحبهم، و لو كان يجوز له ان يذهب بهم معه لذكروا ذلك طبعا و تعرّضوا له لكنّهم لم يذكروه لأنهم لم يروا حاجة الى ذكر ذلك بعد انّ النفي عقوبة له على فعله و هو يقتضي ذهابه وحده و متفرّدا، خصوصا بمناسبة الحكم و الموضوع التي توجب ان يكون محروما عن الالتذاذات المباحة المتعلّقة بالنساء.

و امّا رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام في المرأة إذا زنت قبل ان يدخل بها قال: يفرّق بينهما و لا صداق لها لأنّ الحدث كان من قبلها «1» فأمرها أسهل و ذلك لانّه لا ذكر فيها عن الزوج.

قوله: زنت قبل ان يدخل بها يحتمل ثبوتا ان يكون انّها قد تزوّجت و لم

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 327

يدخل بها و انّها لم تتزوّج أصلا، و لعلّ المراد في المقام هو الثاني و يكون المراد من التفريق بينهما، التفريق بينهما و بين الزاني كي لا يكونان في معرض ذلك ثانيا بعد حصول ترابط بينهما.

لا يقال: انّ قوله: و لا صداق لها يوجب ظهور الخبر في المتزوّجة التي لم يدخل بها و ينقص من ظهوره في من لم تتزوّج أصلا.

لأنّا نقول: عدم صداق لها لا يوجب ذلك لانّ الجملة المزبورة ناظرة الى ما ورد في الروايات من انّ من اغتصب فرجا بحرام و إكراه امرأة على الزنا فعليه مهر مثلها، فهذه الروايات تقول انّه لا مهر لها على الزاني و ذلك لانّ المرأة قد زنت و ابتدأت بالزنا فلا حقّ لها في المهر حيث

كان الحدث اى الزنا من ناحيتها و لا مهر لبغيّ أصلا.

و امّا ارادة التفريق بين الزوج و الزوجة ففيه مضافا الى عدم ذكر عن الزوج فيها فلعلّ الحكم بوجوب التفريق و بطلان العقد أو وجوب طلاق الزوجة إذا زنت بعد العقد عليها، و عدم وجوب المهر لها خلاف الضرورة.

و امّا رواية رفاعة على نقل الصدوق قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يزني قبل ان يدخل بأهله أ يرجم؟ قال: لا، قلت هل يفرّق بينهما إذا زنى قبل ان يدخل بها؟ قال: لا «1» فهي معارضة لما هو صريح في لزوم التفريق- خبر حنان و رواية علىّ بن جعفر.

و قد تقدّم انّ العلماء لم يتعرّضوا لهذا الحكم أصلا، نعم للمحدّث الكاشاني في المقام كلام في وجه الجمع بين الاخبار و امّا الإفتاء بما أفاده رحمه اللّٰه فلم يظهر منه ذلك [1].

______________________________

[1] أقول انّ المحدث المزبور قدّس سرّه قد عنون في الوافي الجلد 2 كتاب النكاح الصفحة 25 بابا سمّاه باب زنا أحد الزوجين قبل الدخول. و روى هناك عن التهذيب عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: قرأت في كتاب عليّ عليه السّلام انّ الرجل إذا تزوّج المرأة فزنى من قبل ان يدخل

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 328

الكلام في النفي و الجزّ بالنسبة إلى المرأة

قال المحقّق: و امّا المرأة فعليها الجلد مأة و لا تغريب عليها و لا جزّ.

و في الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف معتدّ به أجده بل في كشف اللثام الاتّفاق عليه في الظاهر في الثاني و عن الخلاف و الغنية و ظاهر المبسوط الإجماع عليه في الأوّل.

و

قال الشيخ في المبسوط بعد ان حكم بوجوب الجلد مأة و النفي سنة في الرجل: و لا نفى عندنا على المرأة و فيهم من قال: يجب عليها النفي أيضا انتهى.

و قال في الخلاف: إذا زنى البكر جلد مأة و غرّب عاما كلّ ذلك حدّ ان كان ذكرا، و ان كان أنثى لم يكن عليها تغريب و به قال مالك و قال قوم:

هما سواء ذهب إليه الأوزاعي و الثوري و ابن ابى ليلى و أحمد و الشافعي. ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا الأصل برأيه الذمّة في المرأة فمن أوجب عليها التغريب فعليه الدليل انتهى.

ثم انّه يدلّ على ذلك أمور أحدها و هو العمدة، الإجماع.

ثانيها الأصل، و قد تمسّك به الشيخ.

ثالثها و قد تمسّك هو به أيضا قوله تعالى:

______________________________

بها لم تحلّ له لانّه زان و يفرّق بينهما و يعطيها نصف الصداق. ثم نقل صحيح على بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام المذكورة آنفا ثم رواية فضل بن يونس الدالة على التفريق بين الزوجين بزناها و لا صداق لها ثم رواية السكوني- التي مرّ نقلها- ثمّ قال: بيان: قال الصدوق طاب ثراه في كتاب علل الشرائع بعد إيراد حديث طلحة: و الذي افتى به و اعتمد عليه في هذا الباب ما حدّثني به محمّد بن الحسن. عن رفاعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يزني قبل ان يدخل بأهله أ يرجم؟ قال: لا قلت: يفرّق بينهما إذا زنى قبل ان يدخل بها؟ قال: لا. و زاد فيه ابن ابى عمير و لا يحصن بالأمة. أقول: التوفيق بين الخبرين يقتضي ان يحمل حديث طلحة و ما في معناه على ما إذا

شهر بالزنا كما مرّ في الباب السابق و حديث رفاعة على ما إذا لم يشتهر انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 329

فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ «1» تقريب الاستدلال به، انّه لو كانت المرأة الحرّة يجب عليها التغريب لكان على الأمة نصفها و قد أجمعنا على انّه لا تغريب على الأمة لقوله عليه السّلام: إذا زنت امة أحدكم فليجلدها، فكان هذا كلّ الواجب.

قوله: لكان على الأمة نصفها، يعني ستة أشهر مثلا.

و هنا أمور اعتبارية قد تمسك بها بعض و زاد في الاستدلال.

منها انّه لو غرّبت فامّا مع محرم لها أو زوج وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ* «2» أولا، و لا يجوز لقوله (ع) لا يحلّ لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم.

و منها انّ الشهوة غالبة فيهنّ و الغالب ان انزجارهن و احترازهن عن الزنا لاستحيائهن من الأقارب و وجود الحفاظ لهنّ من الرجال، و بالتغريب يخرجن من أيدي الحفاظ و يقلّ حياؤهن لبعدهنّ من اقاربهن و معارفهن و ربّما اشتدّ فقرهن و يصير مجموع ذلك سببا لانفتاح باب هذه الفاحشة العظيمة عليهنّ.

و منها انّه ربما يقهرن عليه إذا بعدن من الأقارب و المعارف.

و لا يخفى ان هذه الأدلّة ليست بحيث يتمسك بها و يعتمد عليها في إثبات الحكم الشرعي إذا كان في قبالها دليل متين على اعتبار النفي فيهنّ.

أمّا الأصل فحاله معلوم لانّه دليل حيث لا دليل، و امّا الآية فيمكن الخروج عن ظاهرها في مورد بالدليل و امّا هذه الأمور فأمور اعتبارية و وجوه استحسانية لا يتمسك بها الّا توجيها للحكم الثابت لا في إثبات أصل الحكم.

نعم لو تحقّق الإجماع فهو الدليل الذي لا مفرّ عنه، و لعلّه

محقّق، فان الخلاف في المسئلة غير معتدّ به لانّه لم يخالف الّا واحد أو اثنان و هما حسن بن ابى عقيل و ابن الجنيد [1] و هو لا يقدح في الإجماع.

______________________________

[1] أقول: و الصّدوق أيضا فإنّه قال في المقنع الصفحة 145: و البكر و البكرة إذا زنيا جلدا مأة جلدة ثم ينفيان سنة الى غير مصرهما انتهى. و تردّد فيه الشهيد الثاني فقال في المسالك: و لكنّ القول بالثبوت هو الأقرب انتهى. نعم انه قد وافق المشهور في الروضة فإليك عبارته مزجا: و لا جزّ على المرأة و لا تغريب بل يجلد مأة لا غير لأصالة البراءة و ادّعى الشيخ عليه الإجماع و كأنّه لم يعتدّ

______________________________

(1) سورة النساء، الآية 25.

(2) سورة الأنعام الآية 164، سورة الإسراء- 15، سورة فاطر- 18، سورة زمر- 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 330

ثم انّه يدلّ على وجوب النفي فيها أيضا عدّة من الروايات.

منها صحيحة محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام. و قضى في البكر و البكرة إذا زنيا جلد مأة و نفى سنة في غير مصرهما و هما اللذان قد أملكا و لم يدخل بها «1».

و منها صحيحة الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: في الشيخ و الشيخة جلد مأة و الرجم، و البكر و البكرة جلد مأة و نفى سنة «2».

و منها صحيحة عبد الرحمن عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كان على عليه السّلام يضرب الشيخ و الشيخة و يرجمهما و يرجم المحصن و المحصنة و يجلد البكر و البكرة و ينفيهما سنة «3».

فان ظاهر هذه الاخبار نفيه عن مصره و نفيها أيضا عن

مصرها.

و اختار ذلك بعض أجلّاء العصر و زاد الاستدلال له بالروايات الواردة في نفى الرجم و التغريب عن المرأة المجنونة و المستكرهة معلّلة بأنّها لا تملك أمرها، فإنها تدلّ بالوضوح على انّها لو كانت مالكة لأمرها لكان عليها رجم و نفى «4».

لكن لا يخفى انّ الروايات المذكورة ليست معمولا بها بل قد اعرض عنها المشهور، و الرواية إذا كانت كذلك تسقط عن حدّ الاعتبار، و ان كان هناك أيضا بحث مبنائي فذهب بعض إلى انّه لا وجه لرفع اليد عن الرواية المعتبرة بسبب أعراض المشهور عنها، لكن المبنى المعروف المحقّق عند كثير و عندنا هو سقوطها بذلك عن الاعتبار و قد اشتهر انّه كلّما ازدادت صحّة ازدادت و هنا

______________________________

بخلاف ابن ابى عقيل حيث اثبت التغريب عليهما للأخبار السابقة، و المشهور اولى بحال المرأة و صيانتها و منعها من الإتيان بمثل ما فعلت. و قد مال الى هذا القول بعض الأعاظم قائلًا: لا موجب لرفع اليد عمّا دلت عليه الروايات الصحيحة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 9.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 13.

(4) راجع تكملة المنهاج الجلد 1 الصفحة 201.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 331

باعراض المشهور، و كلّما ازدادت ضعفا ازدادت قوّة بعملهم و ذلك لانّ بناؤهم على العمل بالروايات، فاذا كانت الرواية في متناول أيديهم و لم يحتمل في حقّهم عدم وصولها إليهم و مع ذلك لم يعملوا بها فان ذلك كاشف عن شي ء فيها، و قد خفي علينا، و يقلّ الاطمئنان بها [1].

ثم انّه كما لا

تغريب على المرأة كذلك لا يجزّ رأسها بل الأمر في جزّها أصعب، و ذلك لورود تلك الروايات الدّالة على النفي رجلا كان أو امرأة، في حين انّه لم يرد رواية تدلّ على وجوب حلق رأس الزانية، فإنّ ما تعرّض لذكر الجزّ روايتان و كلتاهما واردتان في الزاني دون الزانية حيث انّ السؤال فيهما عن بكر، أو رجل قد تزوّج و قد زنى أو فجر قبل ان يدخل بها و هما رواية حنان و رواية علىّ بن جعفر «1» و لذا قال المحقّق:

و امّا المرأة فعليها الجلد مأة و لا تغريب عليها و لا جزّ.

الكلام في حدّ المملوك

هذا كلّه بالنسبة إلى الحرّ و امّا إذا كان الزاني مملوكا ف

قال المحقّق: و المملوك يجلد خمسين محصنا كان أو غير محصن ذكرا كان أو أنثى.

أقول: و سواء كان مسلما أو نصرانيا كما سترى ذلك في الروايات فليس عليه الجزّ و لا التغريب و انّما يجلد خاصّة نصف حدّ الحرّ.

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا الى إشكال آخر في الرواية و هو ما ذكره في كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 219 بقوله: خلافا للحسن لما مرّ من حسن محمّد بن قيس و ليس نصّا في نفيها لجوازه ان يراد انّه عليه السّلام قضى فيما إذا زنى ببكر بجلد مأة و نفى سنة الى غير مصرهما اى المصر الذي زنيا فيه و هو ليس صريحا في نفيهما فيجوز اختصاصه به انتهى و تبعه في الرياض ج 2 الصفحة 472 فقال: مضافا الى ما قيل عليه «الصحيح» من انّه ليس صريحا في تغريبها لجواز ان يراد انه (ع) قضى فيما إذا زنى بكر ببكرة بجلد مأة و نفى سنة الى غير مصرهما اى المصر

الذي زنيا فيه و هو ليس صريحا في تغريبها فيجوز اختصاصه به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7 و 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 332

و في الجواهر بعد عبارة المصنف: شيخا أو شابا بكرا أو غير بكر بلا خلاف أجده فيه بل الظاهر الإجماع عليه للآية و قول الباقر عليه السّلام إلخ.

أقول: يدلّ على انّ العبد يجلد خمسين- و لا شي ء آخر عليه- الكتاب و السنّة.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 332

امّا الكتاب فقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ فَتَيٰاتِكُمُ الْمُؤْمِنٰاتِ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لٰا مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

قوله تعالى نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ يشير الى الجلد المذكور في الآية الكريمة: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ.

و قد يقال: كيف يستدلّ بالآية على انّ على المملوك خمسين جلدة مع انّ على المحصنات الرجم؟ و بعبارة اخرى انّ حدّ المحصنات ليس هو الجلد حتّى ينتصف في الأمة و انّما ترجم المحصنة إذا زنت فكيف نقول بأنّه إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرّة و هو خمسون التي هي نصف المائة.

و فيه انّ المراد من المحصنات في ذيل الآية هو المراد

من المحصنات المذكورة في صدر الآية، و لا شك انّه ليس المراد منها في الصدر، المتزوّجات و ذوات البعل لانّ ذات البعل لا تتزوّج ثانيا فالمراد منها في الصدر هو الحرّات فيقول سبحانه إذا لم يتمكن أحد منكم بسبب العوز المالى و الفقر الاقتصادى من ان يتزوّج الحرّة المؤمنة فهو ينكح من المملوكات المؤمنات، و من المعلوم انّ الحرّة الزانية تجلد مأة جلدة الّا ان تكون ذات بعل و حينئذ يتمّ ان يقال انّ الأمة تجلد خمسين و هي نصف حدّ الحرّة فالمراد من العذاب هو الجلد و امّا الرجم فلا يتصوّر له نصف.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 333

و امّا الاخبار: فمنها عن سليمان بن خالد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال: قيل له: فان زنى و هو مكاتب و لم يؤدّ شيئا من مكاتبته؟ قال: هو حقّ اللّٰه يطرح عنه من الحدّ خمسين جلدة و يضرب خمسين «1».

و منها عن بريد العجلي عن ابى عبد اللّٰه «ابى جعفر» عليه السّلام في الأمة تزني، قال: تجلد نصف الحدّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج «2».

و منها عن الحسن بن السريّ عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا زنى العبد و الأمة و هما محصنان فليس عليهما الرجم انّما عليهما الضرب خمسين نصف الحدّ «3».

و منها عن عاصم بن حميد عمّن ذكره عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في مملوك طلّق امرأته تطليقتين ثم جامعها بعد فأمر رجلا يضربهما و يفرّق بينهما يجلد كلّ واحد منهما خمسين جلدة «4».

و في هذه الرواية حكم بالجلد و التفريق بينهما اى بين

الزاني و الزانية و لعلّ الحكمة فيه ان لا يكونان معا فلا يقعان في الزنا ثانيا و مرّة أخرى، و يمكن ان يكون المراد من التفريق بينهما حرمة نكاحها عليه فان الأمة إذا طلّقت تطليقتين تكون كالحرّة التي طلّقت ثلاث طلقات فتحرم هي عليه بدون المحلّل، و مقتضى هذه الرواية على الاحتمال الثاني هو حرمتها مؤبّدا عليه بزناه بها و لكنّ العلماء لا يفتون بذلك فان الموجب للحرمة ابدا هو الزنا بالمرأة في العدّة الرجعيّة فإنّها كذات البعل بخلاف البائنة فلا يوجب الزنا في عدّة البائن الحرمة الأبديّة.

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في العبيد إذا زنى أحدهم ان يجلد خمسين جلدة و ان كان مسلما

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 334

أو كافرا أو نصرانيا و لا يرجم و لا ينفى «1».

و هنا قد صرّح بعدم الرجم و النفي على العبيد.

و عن بريد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا زنى العبد جُلد خمسين فان عاد ضُرب خمسين فان عاد ضرب خمسين الى ثمان مرّات فان زنى ثماني مرّات قتل و ادّعى الامام قيمته الى مواليه من بيت المال «2».

و التعبير في الخبرين الأخيرين و كذا في بعض ما سلف و ان كان بالعبد لكنّ الظاهر عدم خصوصيّة له، فالأمة أيضا كذلك فلا

رجم على الأمة و لا نفى و انّما عليها الجلد خمسين جلدة [1].

و إذا استظهرنا عدم النفي و الجزّ في الحرّة فالأمة اولى بذلك و لا أقلّ من كون الأمة كالحرّة في هذه الجهة.

و في رواية عبيد بن زرارة أو بريد العجلي قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: امة زنت؟ قال: تجلد خمسين جلدة، قلت: فإنّها عادت؟ قال: تجلد خمسين، قلت فيجب عليها الرجم في شي ء من الحالات؟ قال: إذا زنت ثماني مرّات يجب عليها الرجم قلت: كيف صار في ثماني مرّات؟ فقال: لانّ الحرّ إذا زنى اربع مرّات و أقيم عليه الحدّ قتل. فاذا زنت الأمة ثماني مرّات رجمت في التاسعة قلت: و ما العلّة في ذلك؟ قال: لانّ اللّٰه عزّ و جلّ رحمها ان يجمع

______________________________

[1] و في آيات الأحكام للكاظمي ج 4 الصفحة 193 عند البحث عن آية جلد الزاني. و هذا العموم مخصوص بالإجماع و الاخبار بالحرّ و الحرّة غير المحصنين، فلو كان عبدا أو امة ينصّف عليهما الحدّ كما اقتضاه قوله: فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، و قال بعض الظاهرية:

عموم قوله: الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي، يقتضي وجوب المائة على العبد و الأمة الّا انّه ورد النّص بالتّنصيف في حقّ الأمة فلو قسنا العبد عليه لزمنا تخصيص عموم الكتاب بالقياس، و منهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله: فإذا أحصنّ «اى تزوّجن» فان أتين بفاحشة مبيّنة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب فاذا لم تتزوّج فعليها المائة للعموم و اتّفاق العلماء على خلاف هذين القولين يردّهما انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من

أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 335

عليها ربق الرق و حدّ الحرّ قال: ثم قال: و على امام المسلمين ان يدفع ثمنه الى مواليه من سهم الرقاب «1».

و امّا التصريح بأنّها ترجم في التاسعة مع اقتصاء التعليل القتل في الثامنة فيمكن ان يكون ذلك لمزيد الترحّم على الارقّاء و العبيد في قبال الأحرار.

و كيف كان فهي أيضا دالّة على المقصود و المطلوب، فالمستفاد من هذه الروايات مضافا الى الآية الكريمة هو انّ حدّ المملوك و المملوكة نصف حدّ الحرّ و الحرّة فيضربان خمسين جلدة و لا شي ء سوى ذلك عليهما و لذا

قال المحقّق: و لا جزّ على أحدهما و لا تغريب

انتهى و خالف الشافعي في ذلك فقال بانّ المملوك أيضا ينفى إذا زنى و مدّة نفيه ستّة أشهر [1].

و أنت قد علمت التصريح بعدم النفي في العبيد في رواية محمّد بن قيس و غيرها. هذا مضافا الى ما فيه من الإضرار بالسيّد و تفويت المنفعة عليه.

و امّا الجزّ فما ورد فيه روايتان، و هما واردتان في الرجل و لعلّ المنصرف منه هو الحرّ لا مطلقا.

هذا كلّه في العبد المحض سواء لم يقع عليه عقد الكتابة أصلا أو وقع لكنّه لم يؤدّ شيئا أصلا أو وقع و ادّى لكنّه كان من المكاتب المشروط الذي لا يؤثّر أداء بعض المال في عتقه شيئا.

و امّا العبد المبعّض فلم يتعرّض له المحقّق قدّس سرّه نعم تعرّض له صاحب الجواهر رضوان اللّٰه عليه فقال: و يحدّ المبعّض حدّ الأحرار بنسبة ما عتق فيحدّ من انعتق نصفه خمسة و سبعين.

و قد وردت في ذلك أخبار شريفة أوردها صاحب الوسائل في باب تحت

______________________________

[1] أقول:

قال الشيخ في حدود الخلاف المسئلة 4: لا نفى على العبد و لا على الأمة و به قال مالك و أحمد، و للشافعي فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه و الثاني انّ عليهما النفي، و كم النفي؟ له فيه قولان أحدهما سنة مثل الحرّ و الآخر نصف السنة. دليلنا انّ الأصل براءة الذمة، و شغلها يحتاج الى دليل.

و روى عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله انّه قال: إذا زنت امة أحدكم فليجلدها فان زنت فليجلدها، و لم يذكر التغريب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 336

عنوان: باب انّ المملوك إذا تحرّر بعضه ثم زنى فعليه حدّ الحرّ بقدر الحريّة و حدّ الرّق بقدر الرقيّة.

فعن الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في المكاتب قال: يجلد في الحدّ بقدر ما أعتق منه «1».

و عن حريز عن محمّد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام قال: يجلد المكاتب على قدر ما أعتق منه. و ذكر انّه يجلد ببعض السوط و لا يجلد به كلّه «2».

أقول: و لعلّ المراد منه انّه امّا ان يضرب من أعتق نصفه مثلا خمسين جلدة و امّا ان يضرب مأة ببعض السوط.

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في مكاتبة زنت قال: ينظر ما أدّت من مكاتبتها فيكون فيها حدّ الحرّة و ما لم تقبض فيكون فيه حدّ الأمة. و قال في مكاتبة زنت و قد أعتق منها ثلاثة أرباع و بقي الرابع جلدت ثلاثة أرباع الحدّ حساب الحرّة على مأة فذلك خمس و سبعون جلدة و ربعها حساب خمسين

من الأمة اثنى عشر سوطا و نصف فذلك سبعة و ثمانون جلدة و نصف و ابى ان يرجمها و ان ينفيها قبل ان يبيّن عتقها «3».

و عن محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام مثله الّا انّه قال: يؤخذ السوط من نصفه فيضرب به و كذلك الأقلّ و الأكثر «4».

الى غير ذلك من الروايات الدّالة على انّه يعتبر شقصه الحرّ و هو المعيار بالنسبة إلى المائة التي هي حدّ الحرّ الخالص، و يعتبر شقصه من الرّق بالنسبة إلى الخمسين التي هي حدّ العبد الخالص فمن كان نصفه حرّا و نصفه عبدا

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 337

فبالنسبة إلى نصفه الحرّ يجب خمسون و بالنسبة إلى نصفه الآخر يجب خمسة و عشرون فيجب خمسة و سبعون.

نعم في رواية ما يخالف ذلك و هي رواية سليمان بن خالد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه ثم انّ العبد اتى حدّا من حدود اللّٰه. قال: ان كان العبد حيث أعتق نصفه قوّم ليغرم الذي أعتقه نصف قيمته فنصفه حرّ يضرب نصف حدّ الحرّ و يضرب نصف حدّ العبد و ان لم يكن قوّم فهو بعد يضرب حدّ العبد [1].

لكن ربّما يتّضح المراد منها بذكر ما قالوه في باب العتق عند البحث عن السراية حيث قالوا من أعتق شقصا من عبده

أو أمته و ان قلّ الجزء سرى العتق فيه و عتق كلّه. و لو كان له في هذا المملوك شريك بالسوية مثلا قوّم على معتق النصف موسرا بان كان مالكا لما زاد عن مستثنيات الدين فاذا قوّم عليه سهم شريكه و تعهّد بالأداء فإنه يعتق سهمه و سهم شريكه، و لو كان معسرا فان العبد يسعى بنفسه في باقي قيمته و يؤدّى قيمة سهم الشريك و يصير حرّا بأجمعه.

و على هذا فلو كان موسرا و قوّم نصيب الشريك ليغرمه له المعتق فإنّه يصحّ عتق المعتق بالنسبة إلى سهمه فعلا و إذا أدّى قيمة سهم الشريك يصير كلّه حرّا و حينئذ فلو زنى بعد تحقّق عتق نصفه أعني إذا أعتق سهمه و قوّم سهم الشريك ليدفع اليه و قد ارتكب هذا العبد الزنا في الأثناء أي قبل ان يدفع قيمة سهم الشريك فهنا يضرب العبد نصف حدّ الحرّ و يضرب نصف حدّ العبد، و امّا إذا كان قد أعتق سهم نفسه و لم يقوّم سهم شريكه لانّه لا يريد أداء قيمته

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 33 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 6، قال في الوافي: بناء هذا الحكم على انّ بالتقويم يتمّ عتق النّصف و بأداء القيمة يتمّ عتق الكلّ، و هذا الأصل غير مستقيم كما تبيّن في أبواب العتق انتهى. و عن بعض الحواشي على الفقيه: لعلّ التقويم كناية عن صحّة العتق اى لم يقصد المعتق الإضرار بالشريك ليبطل العتق حيث لم يقصد القربة بل قصدها و رضي بتقويم حصّة الشريك عليه لكن لم يقوّم عليه لمانع فبقي النصف في الرق فيكون المعنى: ان كان عتق نصفه صحيحا فكذا و الّا فهو عبد.

انتهى راجع تذييلات المقنع الصفحة 147.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 338

اليه فهناك يبطل عتق سهم نفسه أيضا و على هذا فلو زنى العبد و الحال هذه فهو عبد خالص فيضرب حدّ العبد و هو خمسون جلدة و ذلك لعدم وقوع العتق أصلا.

و في خبر عبّاد بن كثير البصري عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في المكاتبين إذا فجرا يضربان من الحدّ بقدر ما أدّيا من مكاتبتهما حدّ الحرّ و يضربان الباقي حدّ المملوك «1».

و عن محمّد بن محمد المفيد في الإرشاد قال: روت العامّة و الخاصّة أنّ مكاتبة زنت على عهد عثمان قد عتق منها ثلاثة أرباع فسأل عثمان أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يجلد منها بحساب الحرّية و يجلد منها بحساب الرّق و سأل زيد بن ثابت فقال: يجلد بحساب الرّق و قد أعتق ثلاثة أرباعها؟ و هلّا جلدتها بحساب الحرّية فإنّها أكثر؟ فقال زيد: لو كان ذلك كذلك لوجب توريثها بحساب الحرّية فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: أجل ذلك واجب فأفحم زيد و خالف عثمان أمير المؤمنين عليه السّلام [1].

و يستفاد من كلام زيد انّ كون حدّ الرق على نصف من الحرّ كان امرا مفروغا عنه عند الصحابة، و انّما الاختلاف في النظر و الفتوى كان فيما إذا عتق منه شي ء و بقي الباقي.

و قوله عليه السّلام: أجل ذلك واجب، جواب لقياس استعمله زيد.

قتل الزاني في الثالثة أو الرابعة.

قال المحقّق: و لو تكرّر من الحرّ الزناء فأقيم عليه الحدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أولى

أقول: الكلام هنا في من زنى و أقيم عليه الحدّ ثم زنى ثانيا و أقيم عليه الحدّ ثم زنى ثالثا فهنا ثلاثة أقوال، أحدها:

انه يقتل في الثالثة و هذا هو

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 الحديث 9 أقول: و في إرشاد المفيد الصفحة 102 في آخر الخبر: و لم يصغ الى ما قال بعد ظهور الحجّة عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من أبواب حدّ الزّنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 339

الذي اختاره المحقّق و هو قول الصدوقين و ابن إدريس بل هو أظهر الأقوال على ما في المسالك.

ثانيها: انّه يقتل في الرابعة بعد ثلاثة حدود و اختاره الشيخ في النهاية و المبسوط، و كذا المفيد و السيد المرتضى و الاتباع و العلّامة، و هو الاولى عند المحقّق.

ثالثها: و هو أغرب الأقوال: انّه يقتل في الخامسة و قد ذكره الشيخ قدّس سرّه في الخلاف فقال: إذا جلد الزاني الحرّ البكر اربع مرّات قتل في الخامسة و كذلك في القذف يقتل في الخامسة و العبد يقتل في الثامنة، و قد روى انّ الحرّ يقتل في الرابعة و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا عليه الحدّ بالغا ما بلغ، دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم «1».

و هذا القول مرمىّ بالشذوذ و الندرة [1] و لعلّ الاخبار و الإجماع الذين ادعاهما كان بالنسبة إلى أصل المطلب اى القتل فإنّ العامّة لا يقولون بالقتل في الزنا و ان بلغ ما بلغ و مهما تكرّر، و لا شكّ في دلالة الاخبار على القتل في الجملة كما انّ الإجماع أيضا قائم على ذلك،- و الّا فلم نعثر على خبر يدلّ على انّ الزاني يقتل في الخامسة كما و انّا لم نجد قائلًا. بذلك غيره قدّس سرّه.

و استدلّ للقول الأول بصحيحة يونس عن ابى الحسن الماضي عليه السّلام

قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «2».

و استدلّ للقول الثاني أي قتله في الرابعة بعد ان أقيم عليه الحدّ ثلاث مرّات برواية أبي بصير الموثّقة قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: الزاني إذا زنى يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة يعني جلد ثلاث مرّات «3» رواها المشايخ الثلاثة.

______________________________

[1] قال في الرياض: و امّا القول بقتله في الخامسة كما يحكى عن الخلاف فشاذ غير واضح المستند مخالف للإجماع انتهى

______________________________

(1) الخلاف المسئلة 55 من كتاب الحدود.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 20 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 20 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 340

و قد أورد عليها بانّ في طريقها محمّد بن عيسى عن يونس و إسحاق بن عمّار و هو فطحيّ المذهب كما ان أبا بصير مشترك.

و أجيب بأنهم عبّروا عن الرواية بالموثقة و هذا يكفي في الاستدلال بها و لو كانت الرواية ضعيفة فضعفها منجبر بعمل الأصحاب.

و عن العلل و عيون اخبار الرضا بإسناده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام فيما كتب اليه: و علّة القتل بعد اقامة الحدّ في الثالثة على الزاني و الزانية لاستحقاقهما و قلّة مبالاتهما بالضرب حتّى كأنّه مطلق لهما ذلك. و علّة اخرى انّ المستخفّ باللّٰه و بالحدّ كافر فوجب عليه القتل لدخوله في الكفر «1».

و قد جمع الشيخ- القائل بالقول الثاني- بين صحيح يونس و موثق ابى بصير بانّ صحيح يونس محمول على غير الزاني، و النتيجة انّ أصحاب الكبائر كلّهم يقتلون في الثالثة سوى الزاني فإنّه يقتل في الرابعة و ذلك بمقتضى العموم و الخصوص

فان الخاص مقدّم على العام.

و قد كان هذا القول عند المحقّق اولى و المراد منه كما في المسالك هو الاولى من حيث الاحتياط في الدماء لا من حيث الفتوى فان مختاره في الكتابين هو الأوّل.

و في الرياض. بالنسبة إلى القول الثاني: هذا القول في غاية القوّة مع كونه أحوط بلا خلاف و لا شبهة، لما فيه من عدم التهجم على اراقة الدماء و حفظ النفس المحترمة.

فاختار هو أيضا قتله في الرابعة بعد ان حدّ ثلاث مرّات.

و نحن نقول: امّا ان يقال باعتبار خبر ابى بصير أو بعدمه فعلى الأوّل لا بدّ من الأخذ به، و التخصيص، و الإفتاء بان الملاك هو المرّة الرابعة فلا يجوز قتله في الثالثة، و على الثاني فالملاك هو المرّة الثالثة و في الحقيقة الأمر دائر بين محذورين فان القتل في الثالثة ربما يكون بلا مسوّغ و مبرّر فهو محذور كما انّ القتل في الرابعة أيضا ربما يكون من باب التأخير في الحدّ و عدم إجرائه و هو أيضا حرام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 20 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 341

و محذور و كما انّ القتل بلا مسوّغ كبيرة موبقة كذلك ترك اجراء الحدّ أيضا من الكبائر فلا وجه للاحتياط لانّه نظير باب التعارض.

هذا مضافا الى انّ التأخير إلى الرابعة- من باب الاحتياط- إذا كان المعتبر بحسب الواقع قتله في الثالثة يؤدّى الى خلاف الاحتياط لأنّ جلده في الثالثة إيذاء للمؤمن بلا وجه، و على الجملة فالظاهر انّه لا وجه لهذا الاحتياط الذي قاله المحقّق و فسّره في المسالك على ما تقدّم.

و امّا ما يستفاد من كلام السيّد صاحب الرياض من

كونه من باب الأهمّ و المهمّ، «1»، ففيه انّ مورد قاعدة الأهم و المهمّ هو ما إذا كان هناك دليلان و تكليفان الّا انّ عدم قدرة المكلّف على الإتيان بهما اصظرّه إلى الأخذ بأحدهما و هناك لا بدّ من الأخذ بالأهمّ و ترك المهمّ كما في غريقين أحدهما عالم و الآخر عامي، و ما نحن فيه ليس، كذلك فإنّه كما تقدّم نظير باب التعارض فامّا ان يكون التكليف هو القتل في الثالثة أو في الرابعة.

نعم يمكن ان يقال انّ الآية الكريمة تدلّ على وجوب جلد الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي مأة جلدة و صحيح يونس: (انّ أصحاب الكبائر إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة) يقتضي تخصيص الآية الكريمة بأنّهما يقتلان في المرّة الثالثة مع اجراء الحدّ عليهما مرّتين و موثّق ابى بصر يقتضي تخصيصها بالمرّة الرابعة فهما يقتلان بعد جلدهما ثلاث مرّات و هذا يوجب الشبهة في تخصيصها بالثلاث أو بأربع في باب الزنا و المتيقّن هو المرّة الرابعة إمّا بنفسها أو لأنّه قد وجب القتل قبل الرابعة أي في المرّة الثالثة، و أصالة العموم و أصالة عدم التخصيص تقتضيان عدم خروج الزاني عن تحت عموم الآية إلى المرحلة المسلّمة و هي المرّة الرابعة.

لكن من الواضح انّ هذا يقتضي عدم القول بالقتل في الثالثة رأسا و لزوم تأخيره إلى الرابعة، و في الحقيقة هذا دليل مستقلّ في استظهار القول الثاني- كما انّ صاحب الرياض كان بصدد ذلك على خلاف المحقّق

______________________________

(1) راجع الرياض الجلد 2 الصفحة 473.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 342

و الشهيد الثاني- هذا، و على الجملة فالأظهر عندنا هو القول الثاني فإنّ الخاصّ مقدّم بعد اعتباره بالتوثيق.

و لا يخفى انّ

ما ذكر من وجوب قتله- سواء كان في المرّة الثالثة أو الرابعة- جار فيما إذا أقيم عليه الحدّ مرّتين على الأوّل و ثلاث مرّات على الثاني و مشروط به و الّا فإنّه لا يقتل إجماعا كما سيأتي ذلك أيضا.

قتل المملوك في الثامنة أو في التاسعة

هذا كلّه في الحرّ و امّا المملوك مطلقا ف

قال المحقّق:

امّا المملوك فإذا أقيم عليه الحدّ سبعا قتل في الثامنة و قيل في التاسعة و هو أولى.

أقول: هنا أيضا ثلاثة أقوال: أحدها: قتله في الثامنة و هو مختار الشرائع و قد ذهب اليه المشهور.

ثانيها انّه يقتل في التاسعة و قد ذهب اليه الشيخ في النهاية، و القاضي و جماعة و جعله المحقّق اولى، و يظهر من عبارة صاحب الوسائل انّه اختار هذا القول فإنّه قال في عنوان الباب المتعلّق بالمقام: باب انّ المملوك إذا جلد ثمان مرّات في الزنا رجم في التاسعة عبدا كان أو امة.

ثالثها التفصيل بين ثبوته بالبيّنة فيقتل بعد الثامنة و بين ثبوته بإقراره فلا يقتل الّا بعد التاسعة و هو المحكىّ عن الراوندي.

و قد استدلّ للقول الأوّل بعد ادعاء الإجماع عليه من الانتصار و الغنية بصحيح بريد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام: إذا زنى العبد جلد خمسين، فان عاد ضرب خمسين فان عاد ضرب خمسين إلى ثماني مرّات فان زنى ثماني مرّات قتل و ادّى الإمام قيمته الى مواليه من بيت المال «1».

أقول: و هذا هو المناسب لكون حدّ المملوك نصف حدّ الحرّ المستفاد

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 343

من الآية الكريمة: و عليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب «1» فإنّه إذا كان عذاب الحرّ

في المرّة الرابعة فعذاب المملوك في المرّة الثامنة.

و استدلّ للقول الثاني بخبر عبيد أو بريد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: امة زنت؟ قال: تجلد خمسين جلدة قلت: فإنّها عادت، قال: تجلد خمسين، قلت: فيجب عليها الرجم في شي ء من الحالات؟ قال: إذا زنت ثماني مرّات يجب عليها الرجم قلت: كيف صار في ثماني مرّات؟ فقال:

لانّ الحرّ إذا زنى اربع مرّات و أقيم عليه الحدّ قتل فاذا زنت الأمة ثماني مرّات رجمت في التاسعة «2».

و فيه انّه و ان كان يدلّ على اعتبار التاسعة الّا انّه ضعيف السّند [1] مختلّ الدلالة و ترى انّ التعليل لا يلائم الذيل و الحكم، و ذلك لانّ مقتضى لحاظ حال الحرّ هو قتله في الثامنة الذي ذكر في صدر الرواية و مع ذلك فقد فرّع عليه انّه يقتل في التاسعة، و لعلّ ذلك من خطإ الراوي هذا، مضافا الى انّه لا قائل بالرجم بالنسبة إلى المملوك و قد صرّح الخبر برجمه و هذا ممّا يوجب مزيد الوهن في الرواية.

و على هذا فالترجيح بحسب الرواية للقول الأوّل أي قتله في الثامنة و مع ذلك فقد جعل المحقّق القول الثاني أولى.

و يرد عليه ما ذكرناه آنفا بالنسبة إلى الحرّ فان المقام ليس بنحو يخرج المكلّف عن عهدة التكليف بأيّ واحد من التكليفين حتّى يكون أحدهما أحوط

______________________________

[1] صرّح في المرءاة الجلد 23 الصفحة 366 يكون الخير مجهولا.

أقول: انّ أصبغ بن أصبغ على ما قاله المامقاني: ليس له في كتب الرجال ذكر أصلا فهو مجهول انتهى راجع الجلد 1 الصفحة 150. و امّا محمّد بن سليمان، ففي روضة المتّقين الجلد 10 الصفحة 87 عن رجال الشيخ: محمّد بن سليمان له كتاب

يرمى بالغلوّ انتهى و في رجال المامقاني الجلد 3 الصفحة 122: مقتضى نقل الشيخ رميه بالغلوّ هو ضعفه و ان تأمّل أحد في ذلك فلا أقلّ من جهالته انتهى.

و امّا مروان بن مسلم فقط اختلفوا فيه كما يظهر ذلك من رجال المامقاني الجلد 3 الصفحة 210.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 25.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 344

مع الاجتزاء بالآخر بل هو من قبيل الدوران بين المحذورين.

كما انّه يرد على كلام صاحب الرياض هنا ما أوردناه عليه في ذلك المقام من عدم كون محلّ الكلام من باب الأهمّ و المهمّ حتّى يؤخذ بالأهمّ بل المقام من قبيل المتعارضين فإنّ الخصوصيّة ليست هي عدم قدرة المكلّف على الإتيان بهما.

نعم يمكن التمسك بما ذكرناه هناك من الشك في التخصيص و عدمه و الأصل عدمه [1].

الكلام في الزنا المتكرّر بلا تخلّل الحدّ

قال المحقّق: و في الزناء المتكرّر حدّ واحد و ان كثر.

أقول: بلا فرق بين اقسامه من الحرّ أو المملوك و كون الزنا بامرأة واحدة أو متعدّدة في يوم واحد أو في أيّام، نعم الظاهر انّه لا تشمل العبارة ما إذا أوجب الزنا كلّ مرّة حدّا غير الآخر، كالزناء الموجب للجلد، و الزنا الموجب للرجم، فالمقصود هو ما إذا كان حدّ كلّ واحد هو الجلد.

و في المسئلة قولان أحدهما انّه لا يتكرّر الحدّ بل يكتفى بحدّ واحد و هذا هو المشهور.

ثانيهما انّه ان زنا بامرأة واحدة كفى حدّ واحد، و ان زنا بجماعة نساء في ساعة واحدة حدّ لكلّ امرأة حدّا، ذهب اليه ابن الجنيد و الصدوق في المقنع.

و استدلّ على الأوّل بأصل البراءة و صدق الامتثال.

أقول: انّه لو وصلت النوبة

إلى الشك و لم يمكن الاستظهار من الأدلّة فالحكم هو الرجوع الى البراءة و امّا مع الاستظهار منها فلا، سواء استظهر الاكتفاء بالمرّة أو اعتبار التكرار.

______________________________

[1] لم يتعرض دام ظلّه لاستدلال القول الثالث فأقول: انّ مأخذه الجمع بين الخبرين بحمل الأوّل على ما إذا أقيمت البيّنة و الثاني على حالة الإقرار، قال في الرياض: و هو مع شذوذه تحكّم كما صرّح به جمع لفقد التكافؤ ثم الشاهد انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 345

و حينئذ يجري الكلام في الاستظهار من الأدلّة و ان المستفاد من الآية الكريمة «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» هل هو الوحدة أو التعدّد و التكرار؟ و هكذا الكلام بالنسبة إلى الروايات المساوقة للآية الكريمة.

و بعبارة أخرى: يبحث في انّ الموضوع في الدّليل الشرعي ملحوظ في المقام بنحو صرف الوجود و أصل الطبيعة حتّى لا تقبل التعدد أو انّه ملحوظ بنحو الطبيعة السارية حتّى يتكرّر بعد انّا نعلم انّه في مواضع بنحو الأوّل و اخرى بنحو الثاني، فإنّ من أ كلّ مرّات متعدّدة في يوم من شهر رمضان فليس عليه الّا كفارة واحدة و لا يوجب ذلك تكرارها و ان كان يجب عليه الإمساك بعد إفطاره، و هكذا باب الحدث و الخبث فان البول مهما تكرّر لا يوجب الّا وضوءا واحدا، و تلطّخ الثوب أو البدن بالدم مثلا لا يوجب الّا غسلا واحدا لتطهير المعتبر في الصلاة و ان كان قد تلطّخ به مرارا، و هذا بخلاف من أفطر أياما من شهر رمضان فان لكلّ يوم من تلك الأيام كفّارة مخصوصة به، فالإفطار في هذا اليوم غير الإفطار في يوم آخر، و على الجملة فربّما يوجب

تعدّد السبب تعدّد المسبّب و اخرى لا يوجبه و ذلك لدلالة الدليل بعد انّ القاعدة تقتضي تكرار المسببات بتكرّر الأسباب و الأصل عدم التداخل.

و لعلّه يستظهر من الآية الكريمة مثلا انّ وجود العلّة اى الزنا ليس مأخوذا بنحو وجود الشي ء وجودا ساريا بل بنحو أصل الطبيعة و صرف الوجود غير القابل للتكرّر و على ذلك فلا يجب الّا حدّ واحد لانّ نفس الطبيعة غير متكرّرة فلا يتكرر المسبب عنها.

لا يقال على هذا فالمسئلة السابقة أيضا كذلك يعني إذا كان صرف الوجود سببا للحدّ فاذا حدّ فلا يوجب الزنا التالي حدّا آخر لعدم تكرّر صرف الطبيعة «1».

لأنّا نقول: انّ هذا خلاف ظاهر الدليل فان الظاهر منه انّه بعد تحقّق الزنا يجب الحدّ، فاذا زنى و أقيم عليه الحدّ ثم زنى ثانيا فلو اكتفى بالحدّ الأوّل

______________________________

(1) راجع جامع المدارك الجلد 7 الصفحة 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 346

لزم كون حدّ الزنا السابق كافيا للزنا اللاحق مع انّ الحدّ حدّ للزنا الذي وقع الحدّ عقيبه لا لما يأتي بعده.

و قد ذكر في الجواهر قرائن لاستظهار ذلك اى كون المراد هو أصل الطبيعة الذي لا يقبل التكرّر.

منها ما أشار إليه بقوله: مع ابتناء الحدود على التخفيف و لذا تدرء بالشبهة.

و فيه ان قرينيّة هذا لصرف الظاهر عن ظهوره محلّ تأمّل و اشكال لو كان الظاهر من الآية هو الاستغراق أو الجنس الذي ينتج نتيجته، و التعبير و ان كان بلفظ الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي الّا ان من المعلوم ملاحظة عليّة الوصف للحكم و كأنّه قيل:

فاجلدوا الزانية و الزاني لمكان زناهما فهو نظير «لا تصلّ خلف الفاسق، أو، لا يجوز الايتمام بالفاسق» فإنّه ظاهر في انّ العلّة

في ذلك هو فسقه، و على الجملة فبعد تحقّق هذا الظهور و انّ كلّ فرد من إفراد الزنا يوجب حدّا مستقلا فصلاحيّة ابتناء الحدود على التخفيف لصرف هذا الظاهر محلّ التأمّل.

و منها ما افاده بقوله: و غلبة تكرار الخروج و الولوج في المرّة الواحدة فضلا عن تكراره مستقلا.

و فيه أوّلا انّ غلبة ذلك غير مسلّم و ثانيا سلّمنا ذلك الّا انّ المقصود من الزنا هو الزناء العرفي الذي لا ينافيه تكرار الخروج و الولوج و يحسب مع هذه الخصوصيّات زناءا واحدا لا متعدّدا.

و منها قوله: بل لعلّ التأمّل الجيّد في تعليق الحكم في الآية الشريفة على الزانية وَ الزّٰانِي يقتضي ذلك ضرورة كون التعدد في اشخاص الزنا حينئذ كالتعدّد في أسباب الحدث و النجاسة و لكن يكفي طهارة واحدة و تطهير واحد لانّ العنوان طهارة المحدث و تطهير النجس و هو صادق على متعدّد السبب و متّحده، فكذلك الكلام في الزناء فإنّ الزاني و الزانية يصدق كذلك، الى آخر كلامه.

و فيه انّا لا نعلم فرقا بين التعبيرين لأنّا لو استفدنا العليّة فكلّ زناء يوجب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 347

حدّا مستقلا نعم لو لم يستظهر ذلك لتمّ ما افاده.

و كيف كان فارادة الطبيعة أو الوجود الساري أمر موكول الى لحاظ المتكلم فان استظهر انّه أراد و لاحظ أصل الطبيعة و ان كان بمعونة القرائن التي ذكرها العلماء الأعلام رضوان اللّٰه عليهم فهو، كما انّه لو استظهرت الطبيعة السارية فلا كلام، و لو شكّ في ذلك يتمسّك بأصل البراءة و في الرياض عند الاستدلال على كفاية حدّ واحد و عدم تعدّده بتعدّد الزنا قال: قيل لأصالة البراءة و صدق الامتثال و ابتناء الحدود

على التخفيف و للشك في وجوب الزائد فيدرء بالشبهة.

أقول: هذه هي الوجوه التي استدلّ بها للقول بعدم تعدّد الحدّ، و العمدة من بينها هو الإطلاق.

ثم قال: و في الأوّلين مناقشة لاقتضاء تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات و التداخل خلاف الأصل.

ثم ردّ على هذه المناقشة المقتضية للتعدّد و التكرار فقال: لكن مقتضى هذا لزوم التعدد مطلقا و لو كان المزني بها مكررا، واحدة، و لم يقل به أحد من الطائفة حتّى الإسكافي و الصدوق الذين حكى عنهما الخلاف في المسئلة فإنهما قالا بما عليه الجماعة ان وقع التكرار بامرأة واحدة، و واجبا التعدّد ان وقع بالمتعددة، فحينئذ لا يمكن الأخذ بالقاعدة المقتضية لتعدد المسببات عند تعدد أسبابها، المخالفة عمومها الإجماع هنا فلا بدّ من المصير الى أحد القولين امّا التفصيل المتقدّم أو المنع عن التعدّد مطلقا و الأوّل غير ممكن لعدم الدليل عليه عدا خبر واحد قاصر السند بل ضعيف شاذ مطروح كما صرّح به الماتن في الشرائع فتعيّن الثاني. انتهى.

و يرد عليه كما في الجواهر بأنّه لو كان المقام من باب تعدّد الأسباب فلا بدّ من العمل بالقاعدة و الأخذ بها إلّا في خصوص ما قام الإجماع على الخلاف و لازم ذلك العمل بها فيما إذا زنى بنسوة متعدّدة دون ما إذا زنى مرارا بامرأة واحدة لقيام الإجماع في هذا المورد على عدم التعدد و التكرار، و امّا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 348

بالنسبة إلى النسوة المتعدّدة فلا وجه لذلك بعد اقتضاء القاعدة التكرار. و قوله: «لا يمكن الأخذ بالقاعدة» لا يتمّ هنا أصلا.

نعم يمكن ان يتمسك بما أشرنا إليه من قبل من انّ الحكم فرع الموضوع و متعلّق به، و الموضوع هنا

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي و هذا لا تعدّد فيه فيكون الزاني زانيا سواء زنى مرّة أو مرّات بالواحدة أو بالمتعددة نظير وجوب الغسل على الجنب فان الجنب جنب سواء كان بالإنزال أو بالدخول أو كليهما.

و على الجملة فالعلمان صاحبا الرياض و الجواهر متّفقان في انّه مع عدم تخلّل الحدّ لا يتعدّد ذلك بتعدّد الزنا الّا انّ الأوّل يستند في ذلك الى الإجماع القائم على خلاف القاعدة بحيث لولاه لكان الحكم هو التعدّد بمقتضى القاعدة فالإجماع مانع عنها، في حين انّ الثاني يقول بأنّه لا تعدّد أصلا لعدم دليل يدلّ على ذلك فعدم التكرار عنده هو مقتضى القاعدة.

و امّا القول بالتفصيل فقد ذهب اليه ابن الجنيد و الصدوق في المقنع فقالا: ان زنا بامرأة واحدة كفى حدّ واحد و ان زنا بجماعة نساء في ساعة واحدة حدّ لكلّ امرأة حدّا، و قد استندا في ذلك الى رواية أبي بصير

كما قال المحقّق:

«و في رواية أبي بصير عن ابى جعفر عليه السّلام: ان زنا بامرأة مرارا فعليه حدّ و ان زنى بنسوة فعليه في كلّ امرأة حدّ و هي مطرحة.»

و قد نقلها بالمعنى و محصّلا فإليك متنها:

محمد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد و عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن ابن محبوب عن علىّ بن أبي حمزة عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يزني في اليوم الواحد مرارا كثيرة قال: فقال: ان زنى بامرأة واحدة كذا و كذا مرّة فإنّما عليه حدّ واحد فان هو زنى بنسوة شتى في يوم واحد و في ساعة واحدة فإنّ عليه في كلّ امرأة فجر بها حدّا «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة

الجلد 18 الباب 23 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 349

و قد أورد بانّ في طريق الرواية ضعفا و ذلك لانّ علىّ بن أبي حمزة البطائنى الذي نقلها عن ابى بصير واقفي- و ان كان الخبر معتبرا عندهما و لذا فقد تمسّكا به.

هذا كلّه بحسب استظهارات العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين فلو قلنا بشي ء منها فهو و الّا فلو شك في الوحدة و التعدّد و ان الموضوع هل هو الفعل القابل للتكرار أو الفعل الذي لا يقبل التكرار و بعبارة أخرى لو شك في انّ الموضوع مأخوذ بنحو صرف الوجود حتّى لا يقبل التكرار و التعدّد أو بنحو الطبيعة السارية الصالحة للتعدد فهناك لا إشكال في جريان أصالة البراءة كما تقدّم ذلك لانّ الحدّ الواحد مقطوع به و متيقّن و الزّائد عليه مشكوك فتجري البراءة عنه.

لا يقال: انّ كلّ واحدة من المرّات المتعدّدة حرام قطعي فكيف يجري أصل البراءة بالنسبة إلى الحدّ مع العلم بالحرمة؟

لأنّا نقول انّ التحريم و ان كان امرا مسلّما مفروغا عنه لكنه أمر آخر غير الحدّ، فالموضوع بالنسبة إلى الحرمة مأخوذ بنحو الطبيعة السارية بلا كلام و لا ترديد، و لا منافاة بين تعدّد المعصية و وحدة الحد أصلا.

الكلام فيما إذا زنى الذميّ بالذميّة

قال المحقّق: و لو زنى الذّميّ بذميّة دفعه الإمام الى أهل نحلته ليقيموا الحدّ على معتقدهم و ان شاء اقام الحدّ بموجب شرع الإسلام.

أقول: ادّعى كثير من العلماء عدم الخلاف في ذلك. قال في الرياض: بلا خلاف أجده و به صرّح بعض الأجلّة و هو الحجّة انتهى.

و قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه كما عن بعضهم الاعتراف به.

و على هذا فالحاكم الإسلامي مخيّر بين

ان يحكم هو بنفسه بحكم الإسلام و ان يعرض عنه و يدفعه الى الحكّام الذميّين كي يحكموا عليه بمقتضى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 350

مذهبهم [1].

و يمكن ان يستدلّ على ذلك بوجوه: الدليل الكلّي بلحاظ انّهم في ذمّة الإسلام، و الكتاب، و السنة.

امّا الأوّل فبيانه انّ ذلك مطابق أو مستلزم للوفاء بعهدهم لشرائط الذّمة فمقتضى كونهم من أهل الذّمة متعهّدين بشرائطها ملتزمين بأداء الجزية و غير ذلك من الأمور المشروطة عليهم هو كونهم في ذمّة الإسلام و في أمن و أمان و راحة و سلام، و عدم إجبارهم على الالتزام بمقررات الإسلام و آدابه، و عدم إلزامهم بأحكام المسلمين فلهم ان يعملوا بما هو مقتضى مذهبهم فترى انّ من أهمّ الواجبات على المسلمين الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فيجب حمل تاركي الصلاة على الانيان بها و هكذا بالنسبة إلى سائر شعائر الإسلام و لكن لا يجوز ذلك بالنسبة الى أهل الذّمّة و ليس للمسلمين إجبارهم على الصلاة أو غيرها فإنّ الإسلام يتركهم و ما يدينون و لهم ان يعيشوا في ظلّ الإسلام آمنين مطمئنين و هذا من الحقوق التي أوجب عقد الذمّة لهم علينا و على هذا فيجوز للحاكم إرجاعهم في المرافعات الى حكّامهم. هذا.

و يمكن ان يقال: إذا حدث بينهم ما يحتاج الى التحاكم و فصل الأمر و اطّلع على ذلك الحاكم الإسلامي فلا يجوز له ان يلزموهم بالرجوع الى حكم الإسلام و اعتناق ما هو المقرّر عند المسلمين بل الأمر هنا بيدهم و لا مانع لهم عن الرجوع الى حكامهم إذا اختاروا ذلك.

و امّا إذا وقع أمرهم بيد الحاكم الشرعي كما إذا كانوا قد ترافعوا اليه فهنا لا دليل

على جواز ترك الحكم بمقتضى الأحكام الإسلاميّة فإنّ من المعلوم انّ الأحكام الإلهيّة الإسلامية كلّها متعلقة بكل المكلّفين و كافّة أبناء البشر من المسلم و الكافر كتابيا كان أو غيره، و انّ دينهم صار منسوخا بطلوع الإسلام غاية الأمر انّ الشارع قرّر عقد الذمّة لمصالح عالية في ذلك و هو يمنع

______________________________

[1] أقول: و قد تعرّض العلّامة أعلى اللّٰه مقامه لهذه المسئلة في كتاب الجهاد من التذكرة الجلد 1 الصفحة 451 فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 351

عن إلزامهم ابتداء بأحكام الإسلام، و امّا عند ترافعهم الى الحاكم الإسلامي و إيكالهم الأمر اليه و تسليمهم لدى نظره فليس له ان يترك الحكم الشرعي المكتوب على كلّ المكلّفين و إرجاعهم الى حكّامهم فبحسب الأدلّة الكلّية يشكل الحكم بالتخيير بل مقتضى القواعد الشرعيّة هو تعيّن الحكم بحسب الأحكام الإسلاميّة.

و امّا الثاني و هو الكتاب فقوله تعالى في مذمّة اليهود سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «1».

فان الظاهر منه انّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم كان مخيّرا بين ان يحكم هو بنفسه بينهم إذا جاءوه أو يعرض حتّى يحكم بينهم حكّامهم.

و امّا مجرّد الاعراض و ترك القضيّة فوضى فهو بعيد عن مقام الرسول العظيم صلّى اللّٰه عليه و آله و دينه الشامل الجامع فان من كان منصوبا من قبل اللّٰه الى الناس أجمعين لإصلاح أمورهم و حلّ مشاكلهم كيف يمكن ان يقال له:

احكم بينهم أو اتركهم بحالهم؟ فلا بدّ ان يكون الاعراض عنهم المذكور في الآية الكريمة مقدمة لأن يحكم بينهم من هو من أهل نحلتهم لو كان لهم في ذلك حكم، و العقل يأبى أن

يأتي قوم عنده لفصل الخصومة و هو يتركهم بلا جواب بل لا بدّ من ان يحكم بينهم بنفسه أو يرسلهم الى فاصل خصومة و ان كان من أهل مذهبهم و على الجملة فالآية الكريمة تدلّ على تخيير الحاكم بين الأمرين.

لا يقال انّ كون (أو) في الآية الكريمة للتخيير غير مسلّم و قد تردّد في ذلك بعض كالمحقّق الأردبيلي حيث قال في مجمع الفائدة و البرهان: انّ الآية غير صريحة في التخيير.

لأنّا نقول: انّ ظهورها في التخيير مسلّم و احتمال خلاف ذلك خلاف

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 42.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 352

الظاهر جدّا [1].

نعم قد ينافي التخيير قوله تعالى وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ. فان ظاهره وجوب الحكم بما انزل اللّٰه على نبيّه الأعظم بنفسه و تعيين ذلك لا بما انزل اللّٰه الى الأنبياء السابقين. و لا ينافي ذلك ما ذكره بعده بقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً «1» فإنّ الظاهر انّ المراد منه: انّ لكلّ من الأنبياء شريعة و منهاجا و لم يجعلكم اللّٰه أمّة واحدة فلهم شريعتهم و لك شريعتك فاعمل بها و ليس المراد انّه جعل لكلّ منهم شريعة، و لك ان تعمل بشريعة غيرك فان ذلك ليس من متفاهم الآية الكريمة بل المقصود من الشريعة الآن هو الإسلام و لا غير فهو الذي يجب اتباعه و الحكم بمقتضاه، و على الجملة فظاهر هذه الآية الكريمة هو تعيين الحكم بمقتضى ما انزل اللّٰه على رسوله الخاتم و على هذا فتنافي الآية السابقة الدّالة على التخيير.

و عالج

بعض العامّة هذا التنافي بأنّ الآية السّابقة منسوخة بهذه [2]

______________________________

[1] أقول: هكذا أجاب دام ظلّه عن الاشكال و لكن هنا كلام و هو انّه و ان كان ظهور «أو» في التخيير غير قابل للإنكار الّا انّه ليست ظاهرة في التخيير بين حكمه (ص) بنفسه و إرجاعه إياهم الى أهل نحلتهم بل التخيير بين الحكم طبق الإسلام أو ردّهم و تركهم و لا اشكال فيه و تؤيّد ذلك تتمة الآية الكريمة: وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ و على الجملة فانّى كلّما تأملت في الآية لم ارفيها دلالة على إرجاعهم الى حكّامهم و ان كان «أو» فيها للتخيير فضلا عمّا إذا قيل بأنّه ليس للتخيير أصلا بأن يكون للجمع مثلا، و على ذلك فلم يبق الّا الروايات.

[2] قال الشيخ قدّس سرّه في التبيان الجلد 3 الصفحة 524: و في اختيار الحكّام و الأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان أحدهما قال إبراهيم و الشعبي و قتادة و عطاء و الزّجاج و الطبري و هو المرويّ عن علىّ عليه السّلام و الظاهر في رواياتنا انّه حكم ثابت و التخيير حاصل، و قال الحسن و عكرمة و مجاهد و السدي و الحكم و جعفر بن مبشر و اختاره الجبائي انّه منسوخ بقوله: و ان احكم بينهم بما انزل اللّٰه، فنسخ الاختيار و أوجب الحكم بينهم بالقسط و هو العدل انتهى.

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 49.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 353

و لكن لم يثبت ذلك و الأصل عدمه.

و يمكن الجمع بينهما بأنّ الآية الأخيرة متعرضة لواحد من طرفي التخيير فلا منافاة بينهما.

لا يقال: انّ

النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله كان بمقتضى الآية الثانية مأمورا بالحكم بين الناس كلّهم بما انزل اللّٰه و لعلّ ما انزل اللّٰه إليه بالنسبة الى أهل الكتاب هو إرجاعهم الى حكامهم إذا احتكموا اليه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا لا تنافي بينهما.

لانّه يقال: انّه لا شكّ في نسخ الأديان السابقة بسبب الإسلام فالحكم الواقعي لكافّة المكلّفين و أهل الأرض بعد ذلك هو الإسلام لا غير غاية الأمر انّ مقتضى عقد الذمة و المسالمة جواز إرجاعهم الى حكّامهم و بتعبير آخر انّ جواز ان يحكم الحاكم الإسلامي و ان يتركهم كي يحكم بينهم حاكمهم، هو الحكم الواقعي بالنسبة إلى الحاكم، فكان حكم النبيّ صلوات اللّٰه عليه هو تجويز ان يعملوا بأحكامهم المنسوخة مع أداء الجزية لمصلحة مقتضية لذلك لا ان يكون هذا هو الحكم الواقعي بالنسبة إلى أهل الذمة فإنّ وظيفتهم قبول الإسلام و العمل بأحكامه و لذا فهم معذّبون في الآخرة لو ما توا على ذلك.

فتحصّل انّ التنافي بحسب الظاهر محقّق و بعد انّه لم يثبت النسخ فلا محالة يجمع بين الآيتين بحمل الاولى على ذكر عدلي التخيير و الثانية على ذكر واحد منهما خاصّة.

و امّا الثالث و هو الاخبار فهي روايات واردة في خصوص المقام اى الزنا بخلاف الدليلين الماضيين فإنّهما كانا في مورد ترافع أهل الكتاب إلى النبيّ و الحاكم الإسلامي، و عنوان بابها في الوسائل: باب وجوب اقامة الحدّ على الكفار إذا فعلوا المحرمات جهرا أو رفعوا الى حكّام المسلمين.

فمنها ما عن علىّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال:

سألته عن يهودي أو نصراني أو مجوسيّ أخذ زانيا أو شارب خمر ما عليه؟ قال

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 1، ص: 354

يقام عليه حدود المسلمين إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسمين إذا رفعوا الى حكّام المسلمين «1».

و مقتضى ظاهر هذا الخبر هو تعيّن الحكم عليهم بحكم الإسلام (كما انّ المجوسي قد الحق فيه بأهل الكتاب).

و مثله ما رواه في باب الديات عن ابى بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن دية اليهود و النصارى و المجوس قال: هم سواء ثمان مأة درهم.

قلت ان أخذوا في بلاد المسلمين و هم يعملون الفاحشة أ يقام عليهم الحدّ؟

قال: نعم يحكم فيهم بأحكام المسلمين «2».

و عن إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام انّ محمّد بن ابى بكر كتب الى علىّ عليه السّلام في الرجل زنى بالمرأة اليهودية و النصرانية فكتب عليه السّلام اليه: ان كان محصنا فارجمه و ان كان بكرا فاجلده مأة جلدة ثم انفه و امّا اليهوديّة فابعث بها الى أهل ملتها فليقضوا فيها ما أحبّوا «3».

ترى التصريح فيها بانّ الامام عليه السّلام أمر ببعث اليهودية الى أهل ملتها حتّى يحكموا هم فيها.

و مقتضى هذا الخبر هو تعيّن البعث إليهم و عدم الحكم يحكم الإسلام.

لا يقال: انّ هذه الرواية متعلقة بالمرأة اليهودية و الحال انّه كان الكلام في الرجل الذمي لا في المرأة و قد تقدم في خبر علىّ بن جعفر انّ السؤال كان عن يهودي أو نصرانيّ. أخذ زانيا.

ففيه انّ هنا من الموارد التي لا خصوصيّة لأحدهما فإذا وجب بعث اليهوديّة يجب بعث اليهودي أيضا و يشعر بوحدة الحكم في المقام قوله تعالى:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 29 من مقدّمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد

19 الباب 13 من أبواب ديات النفس الحديث 8 الصفحة 162.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 8 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 355

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، فإنه يستشعر منه انّه لا فرق في أحكام الزنا بين الرجل و المرأة في غير ما أخرجه الدليل.

و على الجملة فإذا كانت رواية على بن جعفر و رواية أبي بصير ظاهرتين في تعيّن حكم الإسلام و اجراء حدود المسلمين، و رواية إسماعيل بن زياد ظاهرة في تعيّن بعثهم الى قضاتهم و أهل نحلتهم فيرفع اليد عن ظهور كلّ منهما في التعيين و يؤخذ بما هو المقطوع به من جواز كلّ واحد منهما، و نتيجة ذلك هو التخيير بين الأمرين.

و يشهد لذلك ما في باب القضاء عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه السّلام قال: انّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الإنجيل يتحاكمون اليه كان ذلك اليه ان شاء حكم بينهم و ان شاء تركهم «1».

و قد ظهر ممّا ذكرنا في هذا المضمار انّ الاخبار على ثلاثة أقسام: منها ما يفيد الرجوع الى حكامهم و منها ما يفيد اقامة حكم الإسلام و منها ما يفيد كون الحاكم مخيّرا بينهما، و الأخير شاهد الجمع بين الأوّلين لسقوط ظهور هما في التعيين بالمعارضة.

ثم انّهم عنونوا المسئلة بعنوان زناء الذمي كما رأيت ذلك في كلام المحقّق و لكن بدل بعض العلماء لفظ الذمي بالكافر فعمّم محلّ البحث و قال:

لو زنى الكافر.، و قد تقدّم انّ المحدّث صاحب الوسائل رضوان اللّٰه عليه ذكر رواية على بن جعفر تحت عنوان باب وجوب اقامة الحدّ على الكفار، مع انّ السؤال فيها

كان عن يهودي أو نصراني أو مجوسي.

و نحن نقول انّ الكفار على أقسام: كتابيّ ذمّي، و كتابيّ غير ذميّ، و غير أهل الكتاب من الكفّار الحربيين. و الذي يقطع بشمول الاخبار له هو الأوّل أي الكتابي الذي كان في ذمّة الإسلام مع العمل بشرائط الذمّة و امّا غير ذلك و ان كان ذميا لا يبالي و لا يعتنى شرائط الذمة فلا، و لو فرض تعميم الحكم و تسريته فإنّما يتجاوز عن المورد المقطوع به الى مطلق الكتابي و ان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 27 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 356

لم يكن ذميا و ذلك بلحاظ انتحاله الى شريعة إلهية و دين سماوي و ان كان محرّفا و امّا الحربي و غير المعتقد بدين الهى أصلا كالاشتراكيّين فلو راجعوا الى حكّام الإسلام في واقعة فلا يصحّ القول بجواز إرجاعهم الى حكّامهم و أحكامهم التي ليست الّا مجعولات بشريّة و قوانين خاطئة فيجب هناك عند ما راجعوا الى حكّام المسلمين إجراء أحكام الإسلام و تنفيذها بالنسبة إليهم و الّا فإنّهم ربما يبيحون بحسب مقرراتهم الوضيعة المنحطّة نكاح الرجال للرجال و كيف يمكن الالتزام بجواز الإرجاع إليهم و الحال هذه؟ و على الجملة فالظاهر انّ الأدلّة كتابا و سنّة منصرفة عن هذا.

و لو شك في اختصاص الأدلة بالمورد المتيقن و هو إذا كانت لهم شريعة و أحكام ينتحلون بها الى اللّٰه سبحانه أو شمولها لمطلق الكفار فلا بدّ من الاكتفاء بالقدر المسلّم و الرجوع في غيره إلى أحكام الإسلام.

لكنّا قد ذكرنا انّ الأدلّة ظاهرة في الاختصاص بأهل الملل الذين يعملون بمقتضى معتقد اتهم و يعيشون في ضوء الحكومة

الإسلاميّة مع تعهّدهم بالجزية و غيرها من الشرائط.

نعم إذا كان الذمي قد زنى بالمسلمة فلا محالة يقتل كما مرّ ذلك لانّه قد هتك حرمة الإسلام و خرج عن شرائط الذمّة. كما انّه لو زنى المسلم بالذّميّة فإنه يحكم على المسلم بما مضى سابقا من الأحكام من كونه محصنا أو غير محصن و امّا بالنسبة إلى الذّميّة فالحاكم بالخيار.

ثم انّه قد يستشكل في جواز الإرجاع إليهم إذا كان قوانينهم محرّفة و أحكامهم مبدّلة ليست على ما جاء به التوراة و الإنجيل و انّما يقتصر في ذلك على ما إذا وافقت قوانينهم الدائرة كتابهم السماوي، كما ربما يدلّ على ذلك ما رواه المحدّث العاملي في باب القضاء عن هارون بن خارجه عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت: رجلان من أهل الكتاب نصرانيّان أو يهوديّان كان بينهما خصومة فقضى بينهما حاكم من حكّامهما بجور فأبى الذي قضى عليه ان يقبل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 357

و سأل ان يردّ الى حكم المسلمين قال: يردّ الى حكم المسلمين. [1]

و فيه انّه يجوز الإرجاع إليهم حتّى فيما حرّف من قوانينهم فإنّه يكفي في ذلك مجرّد انتحالهم الى اللّٰه و انّهم ينسبون مقرّراتهم الجارية بينهم الى اللّٰه تعالى، و يشهد على ذلك انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قرّرهم على قوانينهم و أحكامهم و الحال انّ كثيرا من مقرّراتهم و أحكامهم كانت محرّفة.

و امّا الرواية فالظاهر انّ الحكم بالجور كان لأجل انّ الحاكم قد حكم بخلاف ما هو المقرّر على حسب نظامهم القضائي و ليس المراد انه حكم على خلاف كتابهم السماوي.

الكلام فيما إذا كانت المزني بها حاملا

اشارة

قال المحقّق قدّس سرّه: و لا يقام الحدّ على الحامل حتّى تضع

و تخرج من نفاسها و ترضع الولد ان لم يتّفق له مرضعة و لو وجد له كافل جاز اقامة الحدّ [2].

و في الجواهر- بعد قول المحقّق: و تخرج من نفاسها-: بلا خلاف أجده نصّا و فتوى بل و لا اشكال مع فرض خوف الضرر على ولدها لو جلدت لعدم السبيل عليه.

أقول: انّ المراد من الحدّ أعم من الرجم و الجلد كما انّ الحامل أعم من كون حملها من الحلال أو من الزنا.

ثم انّه تارة يكون في إجراء الحدّ عليها- و هي حامل- ضرر على

______________________________

[1] الوسائل الجلد 18 الباب 27 من كيفيّة الحكم الحديث 2، أقول: أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله العالي بما ذكرناه في المتن.

[2] و قال ابن البرّاج في المهذّب الجلد 2 الصفحة 528: و إذا زنت امرأة و هي حامل لم يقم عليها حدّ بجلد و لا رجم و هي كذلك فاذا وضعت ولدها و خرجت من نفاسها و أرضعته جلدت أو رجمت.

و قال سلّار في المراسم الصفحة 253: و لا يحدّ الحامل حتّى تضع.

و قال ابن سعيد في جامع الشرائع الصفحة 554: و لا تحدّ الحامل حتّى تضع و ترضع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 358

نفسها، و اخرى على ولدها، و قد نفى صاحب الجواهر الإشكال في الصورة الثانية.

و يمكن ان يقال انّه لا فرق في ذلك بين ضرر الولد و ضرر الأم إذا كان زائدا على ما هو من طبع الحدّ و مقتضاه، و ان كان يمكن ان يقال انّه إذا كان حدّها الرجم فلا ضرر أعظم من القتل و الموت فلا يعتنى بذلك الضرر، فالحكم بعدم اجراء الحدّ عليها حينئذ موقوف على تعبّد خاصّ.

و

كيف كان فاذا كان في إجراء الحدّ عليها ضرر على الولد فتارة يكون الضرر هو سقطه أو موته عند الرضاع و اخرى من قبيل المرض و غيره ففي الأوّل يتمسك في عدم اجراء الحدّ حينئذ بقاعدة الأهمّ و المهمّ.

بيان ذلك انّ التسريع في إجراء الحدّ كنفس إجرائه واجب و من ناحية أخرى فإنّ حفظ النفس المحترمة أيضا واجب الّا انّه لا شكّ في كون حفظ الدماء و النفوس المحترمة أهمّ من ترك التسريع في إقامة الحدّ و تأجيله و من المعلوم انّ الأهم مقدّم على المهمّ عند دوران الأمر بينهما بل لا يلزم العلم بموت الولد فإنّه يكفي مجرّد خوف ذلك و كونه في معرض التلف و الهلاك فيكون العلّة حكمة في الحكم لا علّة حقيقيّة حتّى يعتبر العلم بها و يدور الحكم مدارها و طبقا لهذه القاعدة العقلية وردت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّه قال لعمر و قد اتى بحامل قد زنت فأمر برجمها فقال له على عليه السّلام: هب لك سبيل عليها اىّ سبيل لك على ما في بطنها و اللّٰه يقول:

وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ*، فقال عمر: لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن.

ثم قال: فما اصنع بها يا أبا الحسن؟ قال: احتط عليها حتّى تلد فاذا ولدت و وجدت لولدها من يكفله فأقم الحدّ عليها «1».

و امّا إذا لم يكن الضرر اللازم هو الموت و التلف بل كان من قبيل المرض مثلا كما إذا فسدت لبن الام عقيب اجراء الحدّ عليها و كان ذلك موجبا لفساد مزاج الولد و اضطراب حاله أو لزم من ذلك ان يتغذّى بلبن غير لبن أمّه- الذي

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18

الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 359

هو انسب لبن بحال الولد و أنفعه لمزاجه و لذا جعله اللّٰه تعالى غذاء له- و افضى ذلك الى مرضه فحينئذ يتمسّك بلا ضرر فإنّه حاكم على جميع الأدلّة فيجب التأخير في الحدّ الى ما بعد الرضاع.

ثم انّه قد اكتفى بعض من أيام الرضاع باللبإ مستندا إلى إناطة حياة الولد به، قال بعض الأجلّة إذا كانت المزني بها حاملا فان كانت محصنة تربص بها حتّى تضع حملها و ترضعه مدّة اللباء ثم ترجم.

و استدلّ على ذلك- بعد ذكره عدم خلاف ظاهر بين الأصحاب- بمعتبرة عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن محصنة زنت و هي حبلى، قال: تقرّ حتّى تضع ما في بطنها و ترضع ولدها ثم ترجم «1» قال:

و الإرضاع في الرواية لا بدّ من حمله على الإرضاع مدّة اللباء فان الطفل- على ما قيل- لا يعيش بدونه و الدليل على ذلك صحيحة أبي مريم عن ابى جعفر عليه السّلام [1].، قال: فان هذه الصحيحة واضحة الدلالة على انّ الرجم لا يؤخر إلى إتمام الرضاع حولين كاملين.

ثم أورد على الرواية بعدم اعتبارها لاشتراك ابى مريم بين من ثبتت وثاقته و من لم يثبت وثاقته، و أجاب بوجهين يوجبان حمله على الثقة.

و قال أيضا: و ان كانت غير محصنة حدّت إلّا إذا خيف على ولدها و استدلّ على ذلك بقوله: امّا لزوم الحدّ فلعدم الدليل على التأخير لما عرفت من اختصاصه بالرجم الى ان تضع حملها نعم إذا خيف على ولدها وجب التأخير تحفّظا عليه.

______________________________

[2] قال: أتت امرأة أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: انّى قد فجرت فاعرض

بوجهه عنها فتحوّلت حتّى استقبلت وجهه فقالت: انّى قد فجرت فاعرض عنها ثم استقبلته فقالت: انّى قد فجرت فاعرض عنها ثم استقبلته فقالت: انّى فجرت فأمر بها فحبست و كانت حاملا فتربص بها حتّى وضعت ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا و أدخلها الحفيرة إلى الحقو. و رماها بحجر. الحديث 5.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 360

أقول: انّ أصل اناطة حياة الطفل باللباء محلّ الترديد و الكلام، و ليس ذلك بمسلّم و ان كان هو المشهور. و لذا قال بعض الأعاظم- مجيبا عنه- و يمكن ان يقال: ما ذكر من لابدية حمل الإرضاع على مدّة اللباء مشكل حيث انّ ما ذكر من انّ الطفل لا يعيش بدون اللباء مورد الإنكار فكيف يصرف اللّفظ اليه بلا قرينة و ما ذكر في رفع شبهة الاشتراك ليس يفيد الّا الظن، و الظن ما لم يصل الى حدّ الوثوق و الاطمئنان كيف يصحّ الاعتماد عليه في رفع الشبهة «1».

و التحقيق ان يقال: انّ ما تمسّك به في إثبات مدّعاه من صحيح ابى مريم لا ينفع في ذلك أصلا فإنّ قوله عليه السّلام: حتّى وضعت ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها إلخ ليس له إطلاق فإنّه بيان لما وقع و صدر عنه صلّى اللّٰه عليه و آله و لا يمكن حمله على صورة عدم المرضع و الكافل أصلا بأن يكون يجب التسريع في إجراء الحدّ و ان أفضى ذلك الى هلاك الصبي، و العقل حاكم بذلك فلا بدّ من ان يحمل على صورة وجود المرضع و

الكافل و من المعلوم انّ هذا مطابق للقاعدة العقليّة و لا شكّ في انّه مع وجود الكافل لا يؤخّر اجراء الحدّ أصلا و امّا مع عدم وجوده فيجب التأخير في الحدّ عقلا و نقلا و على هذا فالخبر لا ينفع في إثبات مدّعاه من وجوب إرضاع الصبي اللبأ.

هذا مضافا الى التصريح بالإرضاع حولين كاملين في روايات اخرى و على الجملة فهذا الصحيح لا يقول الّا ما قالت به الروايات الأخرى من انّه مع وجود الكافل يقام عليها الحدّ و على هذا فلا حاجة الى تجشّم الذبّ عن الاشكال الوارد في الرواية من جهة اشتراك ابى مريم، و الاشكال الذي أورده بعض الأعاظم على هذا الذب، فان الصحيح المزبور لا ينفع في إثبات مراده شيئا.

و امّا ما ذكره من انّ رواية أصبغ أجنبيّة عن المقام فإنّ الأمر بالإرضاع كان قبل الثبوت، ففيه ما أورد عليه من انّه يشكل حيث انه مع إصرار المرأة بتطهيرها و العلم العادي بأنها تقرّ مكرّرا حتّى يجرى عليها الحدّ كيف تؤمر بالإرضاع حولين كاملين الى آخر كلامه.

______________________________

(1) جامع المدارك الجلد 7 الصفحة 39.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 361

و كيف كان فمقتضى القاعدة انّه لا يجوز رجم الحامل كما لا تجوز رجم المرأة إذا كانت ترضع الولد و كان في رجمها هلاك الولد و موته لفساد تغذيّته أو لغير ذلك فيجب التأخير في الحدّ رعاية لقاعدة الأهم و المهم، و امّا إذا لم يلزم موته بل كان في إقامة الحدّ عليها ضرر عليه فمقتضى تقديم أدلّة الضرر لزوم التأخير في الحدّ و امّا إذا لم يلزم ضرر أصلا فالقول بجواز تأخير الحدّ هناك الى ما بعد الرضاع مثلا يحتاج

الى تعبّد خاص و استفادة ذلك من الروايات، و الّا فمقتضى القاعدة وجوب التسريع فيه و الظاهر انّه لا يبعد استفادة ذلك منها.

ففي خبر ابى بصير عن عمران بن ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه قال:

أتت امرأة مجحّ أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني طهّرك اللّٰه. فقال لها: ممّا أطهّرك؟ فقالت انّى زنيت. فقال لها: انطلق فضعي ما في بطنك ثم ائتيني أطهّرك فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم انّها شهادة فلم تلبث أن أتته فقالت: قد وضعت فطهّرني قال: فتجاهل عليها فقال: أطهّرك يا امة اللّٰه ممّا ذا؟ قالت:

انّى زنيت فطهّرني. قال فانطلقي فأرضعيه حولين كاملين كما أمرك اللّٰه قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم انهما شهادتان. قال: فلمّا مضى الحولان أتت المرأة فقالت: فقد أرضعته حولين فطهّرني يا أمير المؤمنين فتجاهل عليها و قال: أطهّرك ممّاذا؟ فقالت: انّى زنيت فطهّرني. قال: فانطلقي فاكفليه حتّى يعقل ان يأكل و يشرب و لا يتردّى من سطح و لا يتهور في بئر، قال: فانصرفت و هي تبكي فلمّا ولّت و صارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللهمّ هذه ثلاث شهادات قال: فاستقبلها عمرو بن الحريث المخزومي فقال لها: ما يبكيك يا امة اللّٰه و قد رأيتك تختلفين الى علىّ تسألينه أن يطهرك فقالت: إنّي أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام فسألته ان يطهّرني فقال: اكفلي ولدك حتّى يعقل ان يأكل و يشرب و لا يتردّى من سطح و لا يتردّى في بئر و قد خفت أن يأتي علىّ الموت و لم يطهّرني فقال لها عمرو بن حريث: ارجعي إليه فأنا

أكفله فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 362

عليه السّلام بقول عمرو بن حريث فقال لها أمير المؤمنين عليه السّلام و هو متجاهل عليها؟ و لم يكفل عمرو ولدك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني. فرفع رأسه الى السماء فقال: اللّهمّ انّه قد ثبت عليها اربع شهادات- الى ان قال: فنظر اليه عمرو بن حريث و كأنّما الرمّان يفقأ في وجهه فلمّا راى ذلك عمرو قال: يا أمير المؤمنين إنّي إنّما أردت أن أكفله إذ ظننت انّك تحبّ ذلك فامّا إذ كرهته فانّى لست افعل فقال أمير المؤمنين عليه السّلام أبعد أربع شهادات باللّٰه؟ لتكفلنّه و أنت صاغر «1».

قوله: المجحّ بتقديم المعجمة: الحامل المقرب التي دنا ولادها، و الفقوء الشق و البخص على ما في المصباح المنير و المراد به انّه احمرّ وجهه عليه غضبا. لتكفلنه و أنت صاغر اى ذليلا بلا أجر لأنّك عاهدتها و المسلمون عند شروطهم و يطلق هذا الكلام في مقام السبّ و الذم.

ترى انّه عليه السّلام أمرها بالانطلاق حتّى ترضعه حولين كاملين و بعد ذلك أمرها بكفالة الصبي.

لا يقال انّ الرواية أجنبيّة عن المقام حيث يظهر من قوله عليه السّلام:

اللّهم انّها شهادة، اللّهم انّها شهادتان و هكذا، انّ المانع من الحدّ كان عدم كون الشهادة كاملة.

فإنّه يقال: انّ قوله عليه السّلام: انطلقي فضعي ما في بطنك ثم ائتيني أطهرك و قوله عليه السّلام في المرّة الثانية: انطلقي فأرضعيه حولين كاملين كما أمرك اللّٰه، صريح في انّ المانع كان هو الحمل و الرضاع و لا ينافي ذلك انّه كلّما أقرّت عنده عليه السّلام كان يقول: اللّهم انّها شهادة، أو شهادتان أو ثلاث شهادات.

و على الجملة

فبالنسبة الى حال الحمل- مضافا الى عدم الخلاف، و الروايات- القاعدة العقليّة أيضا تقتضي عدم جواز اجراء الحدّ عليها، و امّا

______________________________

(1) الكافي الجلد 7 الصفحة 186 و الوسائل الجلد 18 الباب 16 من أبواب الزنا الحديث 1، و قد تقدّم نقل الخبر بكامله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 363

بالنسبة الى حال الرضاع فهل هو كحال الحمل أمر عقليّ و يكون الروايات أيضا ناظرة إلى القاعدة العقليّة أو انّ مقتضى الروايات حصول توسعة زائدة بالنسبة الى حال الرضاع بتقريب انه لو كان النظر إلى القاعدة العقلية لكان يكتفى من رضاعه باللباء و لكان اللازم ان لا يؤخّر الحدّ إلى إكمال الرضاع و الحال انّه يستفاد من الاخبار تأخيره إلى تمامه؟

قال في كشف اللثام عند قوله العلامة «و ان وجدت له مرضع أو حاضن جاز اقامة الحدّ»: بل وجبت لارتفاع المانع كما انّ عمرو بن حريث لما كفل لتلك المرأة و ولدها فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام لتكفلنه و أنت صاغر ثم رجمها.

ثم قال رحمة اللّٰه عليه: و لمّا لم يكمل نصاب الإقرار إلّا بعد ذلك لم يسترضع لولدها و الّا فالظاهر وجوبه، و الأجرة من بيت المال ان لم يتبرّع أحد و لا كان للولد مال إذ ليس في الحدود نظر ساعة.

أقول: الوجه في كون الأجرة من بيت المال هو انّه لمصالح المسلمين و هذا منها فان الحدّ قد أقيم على الامّ لحفظ حدود اللّٰه تعالى.

و كيف كان فقد حملت الروايات على مقتضى العقل و حيث انّه كان الاسترضاع للولد ممكنا فلذا حكم بوجوب رجمها و استرضاع من يرضعه.

و أورد عليه في الجواهر بقوله: قد يقال: ان إطلاق الموثّق و النبوي المذكورين

يقضى بعدم وجوب ذلك مضافا الى الأصل و بناء الحدود على التخفيف الذي يصلح ان يكون هذا و شبهه عذرا في تأخيره فتأمّل انتهى كلامه.

أقول: المراد من الموثّق هو موثّق عمّار الساباطي المذكور آنفا، و امّا النبوي فهو المروي عن سنن البيهقي و قد نقله رحمه اللّٰه بعد الموثّق و هو انّه صلّى اللّٰه عليه و آله قال لها: حتّى تضعي ما في بطنك فلمّا ولدت قال:

اذهبي فأرضعيه حتّى تفطميه، فإنّ إطلاقهما شامل لما إذا أمكن استرضاع الغير أيضا، و بعبارة أخرى مقتضى هذين هو تأخير الحدّ الى حصول الفطام سواء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 364

أمكن استرضاع الغير أو لم يمكن.

و يمكن الانتصار لكشف اللثام، فان ما ذكره الجواهر من إطلاق الإمهال الى ما بعد الرضاع محمول على ما إذا لم يتيسّر مرضع و كافل و الّا فكما يجب حفظ النفس فإنّه يجب ان لا يؤخّر اجراء الحدّ فاذا تيسّر الاسترضاع يلزم ذلك حتّى يجمع بين حفظ النفس و التسريع في إجراء الحدّ.

كما انّ ما تمسك به في الجواهر من الأصل غير تامّ و ذلك لانّه لا مجال للتمسّك به عند ما كان المطلب عقليا الا ترى انّه في الدوران بين الأهم و المهمّ الذي يؤخذ بالأهم فإنّه لا مورد لأصالة عدم وجوب المهمّ بعد العلم بوجوب كلّ واحد منهما و عدم قدرة للمكلّف على إتيان كليهما فاذا استفدنا من حال الشارع عدم جواز التأخير في الحدّ كما استفدنا انّه يهتمّ بحفظ النفوس اهتماما بالغا كاملا فلا يصحّ التمسك بأصالة عدم وجوب الإسراع كما لا يفيد هنا ما ذكره أخيرا من بناء الحدود على التخفيف و لا يصلح هذا و شبهه

لان يكون عذرا في تأخيره.

و لعلّه لذلك أمر هو قدّس سرّه بعد ذلك بالتأمّل، و على الجملة فالقدر المتيقّن من جواز التأخير في الحدود هو ما إذا لم يمكن الإرضاع و التكفل و هناك يلزم عليها ان ترضعه و تكفله و يؤخّر الحدّ طبعا، و بعبارة اخرى انّه مع عدم إمكان مرضعة أخرى فاطلاقات لزوم الإرضاع مثلا عليها، شاملة لها و امّا في غير ذلك فشمولها مشكوك فيحكم بعدمه و لا يرد انّ ذلك يؤل الى حملها على الفرد النادر، و ذلك لانّ الغالب هو انّ الإنسان يكفل ولده بنفسه و قلّما يتفق ان يودعه بيد غيره و ذلك لقلّة من يقبل ذلك مع كونه ممّن يوثق به و يطمئنّ اليه.

فاذا افضى الحدّ الى هلاك الولد فالقيد العقلي مانع عن التمسك بإطلاقات إجراء الحدود فيبقى الباقي بحاله و لا يجوز تخصيص هذه الإطلاقات المحكّمة الدّالة على لزوم اجراء الحد و التسريع فيه بل لعلّها آبية عن التخصيص نعم لو لزم الضرر بسبب إرضاع غير الام كما لعلّه يلزم ذلك غالبا فهناك يمكن التمسك بقاعدة لا ضرر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 365

ثم انّه هل المراد من الوجدان وجدان المرضع و الكافل بنفسه حتّى يكون كالواجب المشروط فلا يجب تحصيل مقدماته كالاستطاعة في باب الحج حيث انّه يجب إذا حصلت مقدّماته أو ان الملاك هو الوجدان بأيّ نحو كان، و لو كان بالاستيجار و الاسترضاع من ناحية الحاكم بحيث انّه لو أمكن الحاكم ان يسترضع مرضعا فعل حتّى يجرى على الامّ حدّ اللّٰه تعالى؟ حتّى يكون شبيه باب التيمّم الذي قال اللّٰه تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا و لا شكّ انّه يجب طلب الماء-

غاية الأمر انّ الشارع جعل له حدّا معيّنا- فاذا لم يحصل الماء و لو بالطّلب يصدق عدم وجدان الماء و تصل النّوبة إلى التيمّم.

ذهب بعض العلماء إلى الأوّل و امّا الآخرون فليس في عبائرهم ما ينافي ذلك و ان لم يصرّحوا بالموافقة بل تكون عباراتهم بحيث يمكن حملها على ما ذهب اليه خصوصا ما تضمّن منها للفظ إذا لم يوجد، و إليك بعض عباراتهم: قال العلّامة في التحرير: الحامل لا يقام عليه الحدّ سواء كان جلدا أو رجما حتّى تضع و ترضع الولد ان لم تحصل له مرضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره.

و قال في القواعد: و لا يقام على الحامل جلدا كان أو رجما حتّى تضع و يستغنى الولد بها عن الرضاع ان لم تتّفق له مرضع و ان وجدت جاز اقامة الحدّ.

و قال المحقّق: و ترضع الولد ان لم يتفق له مرضعة و لو وجد له كافل جاز اقامة الحدّ

و في الرياض- عند قول المحقّق في النافع: و لا يقام على الحامل حدّ و لا قصاص حتّى تضع و تخرج من نفاسها-: إذا كان المقصود جلدها و الّا فترجم أو تقتل بعد الوضع من ساعتها ان مات ولدها و الّا فيتربص بها حتّى ترضع الولد و تحضنه إذا لم يوجد له مرضع أو حاضن إذ لا سبيل على حملها وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ الى ان قال: و لو وجد له اى للولد كافل يرضعه و يحضنه جاز بل وجبت اقامة الحدّ عليها انتهى.

هذا كلّه بحسب الأقوال، و امّا بحسب الأدلّة فنقول: انّ أدلّة وجوب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 366

الحدّ و لزوم تسريعه شاملة لجميع الموارد

و انّما خرج المورد الذي يلزم المحذور العقلي كتلف الطفل، لقاعدة الأهمّ و المهمّ و الّا فهو أيضا مشمول للأدلّة فيبقى البحث في انّ الإرضاع الذي خرج بالدليل هل له خصوصيّة و موضوعيّة أو انّه لأجل المحافظة على الولد و الاهتمام بحياته؟ المستفاد من الروايات هو الثاني فترى انّه لم يقتصر في الحكم بتأخير الحد في رواية ابن ميثم على الإرضاع وحده بل أمر صلوات اللّٰه عليه بان تكفله حتّى يعقل و لا يتردّى و لا يسقط في بئر أو غير ذلك، و هذا ظاهر جدّا في انّ الغرض الأصلي هو الاحتفاظ على حياة الولد و عليه فكلّما توقّف حياته على إرضاع خصوص الام فهو و امّا إذا لم تتوقّف على ذلك و لم يكن خطر عليه في إرضاع الغير فهناك يجب الاسترضاع و الاستيجار كي يجرى الحدّ و لا يحصل تأخير في إقامته و على ذلك فيجب على الحاكم استيجار المرضعة لأنّه لا وجه أصلا في تأخير الحدّ. نعم قد مرّ انّه لو كان في إرضاع الغير ضرر عليه فهناك يتمسك بقاعدة لا ضرر و يؤجّل الحدّ.

لا يقال انّ هذا البيان يستلزم حمل الروايات المتضمّنة لأمر النبيّ أو الوصي الزانية بالصبر الى ان ترضع ولدها على صورة عدم تمكّن إرضاع الغير و الّا فكانا صلوات اللّٰه عليهما يطلبان ذلك و يأمران به مع انّه لم ينقل ذلك عنهما عليهما السّلام و لم يرد في مورد انّهما طلبا المرضع و الكافل.

لانّه يقال: من الممكن انّه لم يكن يوجد في تلك الاحايين و الأزمنة مرضع تتكفل أمر الصبي فلذا امرا صلوات اللّٰه عليهما بإرضاع الأمّ الى ان يتم رضاع الولد.

هنا فروع

منها انّه لو مات الولد حين الوضع

، رجمت الامّ الزانية و هذا

واضح فان المانع من الرجم كان هو الولد و هو قد مات، و امّا كون المرأة في حال النفاس فليس مانعا عن الرجم فإنّه لا يتفاوت الحال بالنسبة الى من يقتل أو يرجم بين حال صحّته و سقمه و لا بين كونه صحيحا أو سقيما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 367

و منها انّه لو مات الولد و كان حدّ المرأة هو الجلد

أخر الحدّ حتّى تخرج من نفاسها فان الجلد ربّما اثر فيها و أوجب تشديد المرض بل و قتلها و من المعلوم انّه يحدّ المجرم إذا لم يستلزم ضررا متزايدا على ما هو مقتضى طبيعة اجراء الحدّ.

و يدلّ على ذلك ما روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام انّ امة لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله زنت فأمرني أن اجلدها فإذا هي حديث بنفاس فخشيت ان اجلدها فاقتلها فذكرت ذلك للنبي (ص) فقال: دعها حتّى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحدّ «1».

قال الشيخ: فان وجب على امرأة حامل الحدّ فإنّه لا يقام عليها حتّى تضع لأنّها ربّما أسقطت، فإذا وضعت فان لم يكن بها ضعف أقيم عليها الحدّ في نفاسها و ان كانت ضعيفة لم تقم عليها حتّى تبرأ كالمريض انتهى «2».

و قال ابن حمزة: و الحامل إذا وضعت حملها و كان حدّها الرجم تركت حتّى ترضع ولدها حولين كاملين و ان كان حدّها الجلد و كانت ضعيفة أخّرت حتّى قويت و ان كانت قويّة جلدت منفوسة «3».

و الظاهر انّه لا خصوصيّة لحال النفاس بل الضعف أيضا إذا كان معرضا للضرر فهو مانع عن اجراء الحدّ و ان لم يكن مع النفاس.

و منها انّه لو لم يكن عليها اثر من الحمل و لا انّها ادّعت ذلك [1]

فقال في الجواهر: لم يؤخّر الحدّ و لا اعتبار بإمكانه نعم لو ادّعته قبل قولها.

و لكن يرد عليه بأنّه بعد ما نعلم بانّ مورد الحدّ هو الزانية غير الحامل يكون المقام من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية و ذلك لاحتمال كونها حاملا فكيف يمكن اجراء الحدّ عليها و الحال هذه؟ و ثانيا انّ المقام من قبيل موارد الشبهة و ذلك لاحتمال وجود الحمل المانع عن اجراء الحدّ، و الحدود تدرء بالشبهات، و على

الجملة فالظاهر انّه لا بدّ هنا من التأخير في إجراء الحدّ

______________________________

[1] أقول: ذكر العلّامة هذا الفرع في التحرير الصفحة

______________________________

(1) راجع سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 229.

(2) المبسوط الجلد 8 الصفحة 5.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة الصفحة 412.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 368

الى ان يتبيّن الحال.

و ما قد أورد علينا من انا نستصحب عدم الحمل الذي هو أمر حادث فيثبت مصداق عدم الحمل و يستعجل في إجراء الحدّ و ليس من باب الشبهة المصداقية.

ففيه انّه لو كان الحكم متعلّقا بالحمل لكان يتمّ ذلك مثلا لو كان الدليل يقول: انّ الحمل يوجب التأخير في الحدّ، لكنّا نستصحب عدم الحمل و ينتج ذلك عدم جواز التأخير و امّا لو لم يكن كذلك بل كان الحكم قد تعلّق بالزانية غير الحامل اى الموضوع المتّصف و المقيّد فاستصحاب عدم الحمل لا يترتّب عليه أنّها زانية غير حامل بل هذا أثر عقلي مترتّب عليه و يكون من قبيل الأصل المثبت.

لا يقال: انّه إذا كان الموضوع مركّبا من جزئين و كان أحد الجزئين ثابتا بالوجدان يمكن إثبات الجزء الآخر بالاستصحاب و يترتّب عليه الحكم.

لأنّا نقول: هذا يتمّ في الموضوعات المركّبة من جزئين لا في المقيّد و ما نحن فيه من هذا القبيل فان الموضوع أمر واحد مقيّد.

في رجم المريض و المستحاضة

قال المحقّق: و يرجم المريض و المستحاضة و لا يجلد أحدهما إذا لم يجب قتله و لا رجمه توقّيا من السراية و يتوقع بهما البرء.

أقول: امّا رجم المريض و المستحاضة فلإطلاق أدلّة الحدود و كذا الأدلّة الدالة على عدم جواز تأخير الحد فلا فرق بينهما و بين الصحيح بعد ان كان الواجب هو الرجم فان من كان حدّه الرجم مثلا فهو

في معرض التلف شرعا و نفسه مستوفاة و لا فرق بين كونه صحيحا أو سقيما و قد ورد في الاخبار انّه ليس

______________________________

223 قائلًا: و لو لم يظهر الحمل و لم تدّعه لم تؤخّر بل تحدّ في الحال و لا اعتبار بإمكان الحمل من الزنا نعم لو ادّعت الحمل قبل قولها انتهى لكني لم أدر ما هو وجه التقييد بالزنا في كلامه؟

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 369

في الحدود نظر ساعة.

نعم احتمل في المسالك جواز تأخيره فيما إذا ثبت موجبه اى الزنا بالإقرار- الى ان يبرء لانّه سبيل من الرجوع و ربّما رجع بعد ما رُمى فتعن ما وجد من الرمي على قتله قال: و مثله يأتي في رجمه في شدة الحرّ و البرد [1].

و كأنّه تبع العلّامة في القواعد فإنّه بعد ان حكم بعدم اقامة الحدّ في حرّ شديد أو برد شديد قال: و كذا الرجم ان توهّم سقوطه برجوعه أو توبته أو فراره انتهى. اى لا يقام الرجم في شدّة الحرّ أو البرد ان توهّم سقوط الرّجم عنه برجوعه عن الإقرار أو توبته أو فراره، و قد علل ذلك في كشف اللئام بقوله:

احتياطا في الدم و اتقاء عليه ما أمكن انتهى.

و ليعلم انه لم يرد نص يدلّ على انّه مع احتمال الرجوع مثلا يؤخّر الرجم و انّما ذكروا ذلك على حسب القواعد مثل ان حفظ الدماء مطلوب للشارع فيلزم الاهتمام به مهما أمكن ذلك و مع احتمال عروض ما يمنع من القتل أو الرجم يؤخّر في إجراء حدّه.

و لكن الظاهر انّ ذلك مشكل فكيف يجوز تأخير الحدّ- مع تلك التأكيدات البليغة على التسريع في إجرائه- بمجرّد الاحتمال و ليت و لعلّ،

و على الجملة ففتح هذا الباب يفضي الى تأخير حدود اللّٰه سبحانه و هو غير جائز حتّى إلى ساعة و لم نظفر على مورد من موارد الإقرار عند النبي أو الوصيّ انّهما اخّرا الحدّ باحتمال رجوعه من إقراره، و لذا أورد عليه في الجواهر بقوله و فيه ما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى الرجم و امّا الجلد فقد حكموا بانّ المريض و المستحاضة لا يجلدان توقّيا من السراية و لتوقع البرء.

______________________________

[1] توضيح المقام ان المحكومين بالرجم مثلا قسمان قسم يتحتم عليه ذلك كما إذا ثبت زناه بالبيّنة و قسم لا يتحتم عليه ذلك كمن ثبت زناه الموجب للرجم بإقراره فترى انه لوفرّ من الحفيرة لا يرجع إليها كما انّه لو رجع عن إقراره لا يرجم فاذا كان الزاني من هذا القسم فلا يجوز رجمه في حال أو زمان يعين على قتله كحال المرض و شدة الحرّ و البرد لانّه ربما يوجب ذلك قتله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 370

و تدلّ على ذلك أخبار أخرجها الوسائل في مقدمات الحدود فعن السكوني عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: لا يقام الحدّ على المستحاضة حتّى ينقطع الدم عنها «1».

و عن السكوني أيضا عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: اتى أمير المؤمنين عليه السّلام برجل أصاب حدّا و به قروح في جسده كثيرة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أقرّوه حتّى تبرأ لا تنكؤها عليه فتقتلوه «2».

قوله عليه السّلام لا تنكؤها إلخ من نكأ القرحة اى قشرها قبل ان تبرأ و قوله عليه السّلام: فتقتلوه، لا يراد به خصوصيّة القتل بل لزوم مطلق الأذيّة و الضرر أيضا يمنع عن ذلك و كأنّه عليه السّلام قد ذكر

القتل كي يخوّف و يحذّر المخاطبين ان يقعوا في هذا الأمر العظيم اى انّ ذكر القتل لأجل أن يخافوا و لا يقربوا من اجراء الحدّ على المريض أصلا.

و عن مسمع بن عبد الملك عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام انّ أمير المؤمنين عليه السّلام اتى برجل أصاب حدّا و به قروح و مرض و أشباه ذلك فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أخره حتّى تبرأ لا تنكأ قروحه عليه فيموت و لكن إذا برأ حددناه «3».

فمقتضى هذه الاخبار انّ المريض و المستحاضة لا يجلدان لأن في ذلك ضررا عليهما زائدا على أصل الحدّ و هو مظنّة الخطر و التلف.

و هل للمرض موضوعيّة توجب ان يكون هو بنفسه سببا للتأخير و مقتضيا له أو انّه لا خصوصيّة له و انّما ذكر ذلك لكونه مظنّة للخطر؟ وجهان.

و كيف كان فلا شكّ في انّ المرض يوجب التأخير و قد حكم العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين بمقتضى إطلاق الروايات بانّ المريض لا يجلد الى ان يحصل له البرء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 3، 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 3، 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدّمات الحدود الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 371

ضرب المريض بالضّغث إذا اقتضت المصلحة التعجيل

اشارة

قال المحقّق: و ان اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضغث المشتمل على العدد.

أقول: و من المصلحة الموجبة للتعجيل ما إذا علم انّه لا يحصل له البرء و حصل اليأس عن ذلك كالزمانة و غيرها فإنّه يعجّل في حدّه لانّه لا يرجى برؤه و هناك يحدّ الّا انّه يضرب بالضغث اى بحزمة مستملة على العدد المعتبر في الحدّ من شماريخ أو

أعواد- بل و السياط على ما ذكره بعض العلماء.

و قد ذهب الى ذلك الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم بل و عدّة من أهل الخلاف قال الجزيري: إذا كان المطلوب جلده نحيفا أو هزيلا شديد الهزال أو مريضا مرضا خبيثا لا يرجى برؤه كالمسلول و المجذوم و المصاب بالسرطان و غير ذلك من الأمراض الفتّاكة الخطيرة يجلد بمكتال النخل- اى عرجون عليه غصن- و به مأة غصن أو خمسون ففي المائة يضرب به مرّة واحدة و في الخمسين يضرب به مرّتين مع ملاحظة مسّ الأغصان لجميع جسمه أو يضرب بطرف ثوب مفتول أو يضرب بالنعال كما حدث أيّام الرسول صلّى اللّٰه عليه و سلم فقد روى البخاري و أبو داود انّ أبا هريرة قال: اتى النبي (ص) برجل قد شرب فقال: اضربوه، فمنّا الضارب بيده و الضارب بنعله و الضارب بثوبه، فلمّا انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللّٰه فقال عليه الصّلاة و السّلام: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان «1».

و قال شيخ الطائفة أعلى اللّٰه مقامه: المريض المأيوس منه إذا زنى و هو بكر أُخذ عذق فيه شمراخ أو مأة عود يشدّ بعضه الى بعض و يضرب به ضربة واحدة على وجه لا يؤدّى الى التلف (ثم قال): و قال أبو حنيفة: يضرب مجتمعا و متفرّقا ضربا مؤلما. و قال مالك: بالسياط مجتمعا ضربا مؤلما، و قال

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة الجلد 5 الصفحة 62.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 372

الشافعي: يضرب مأة بأطراف الثياب و النعال ضربا لا يؤلم ألما شديدا إلخ «1».

أقول: امّا أصل مشروعيّة الضرب فيدلّ عليها الكتاب الكريم وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ. «2» فان

أيّوب عليه السّلام حلف ان يضرب زوجته في أمر ثم ندم عليه فحلّ اللّٰه يمينه بذلك.

و تدلّ على كون حدّ المريض هو الضغث الروايات الشريفة فمنها رواية يحيى بن عبّاد المكيّ قال: قال لي سفيان الثوري: انّى ارى لك من ابى عبد اللّٰه عليه السّلام منزلة فسله عن رجل زنى و هو مريض، ان أقيم عليه الحدّ مات [خافوا ان يموت] ما تقول فيه؟ فسألته، فقال: هذه المسئلة من تلقاء نفسك أو قال لك إنسان أن تسألني عنها؟ فقلت: سفيان الثوري سألني أن أسألك عنها، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: انّ رسول الهّٰق صلّى اللّٰه عليه و آله اتى برجل احتبن [أحبن] مستسقي البطن قد بدت عروق فخذيه و قد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعذق فيه شمراخ فضرب به الرجل ضربة و ضربت به المرأة ضربة ثم خلّي سبيلهما، ثم قرء هذه الآية: وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ «3».

أقول: و في اللغة: حبن عظم بطنه ورم و أحبن امتلأ غيظا.

و عن ابى العبّاس عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: اتى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله برجل دميم قصير قد سقى بطنه و قد درت عروق بطنه قد فجر بامرأة فقالت المرأة: ما علمت به الّا و قد دخل علىّ فقال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أَ زنيت؟ فقال له: نعم- و لم يكن أحصن- فصعد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بصره و خفضه ثم دعا بعذق فقدّه مأة ثم ضربه بشماريخه «4».

و عن سماعة عن ابى عبد اللّٰه عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن

النبي

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود المسئلة 18.

(2) سورة ص الآية 42.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 373

صلّى اللّٰه عليه و آله انّه اتى برجل كبير البطن قد أصاب محرّما، فدعا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بعرجون فيه مأة شمراخ فضربه مرّة واحدة فكان الحدّ «1».

أقول: العرجون أصل العذق الذي يعوّج و يبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، و الشمراخ بالكر العثكان و هو ما يكون فيه الرطب.

و عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: لو انّ رجلا أخذ حزمة من قضبان أو أصلا فيه قضبان فضربه ضربة واحدة أجزأه عن عدّة ما يريد ان يجلد من عدّة القضبان «2».

و عن علىّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتي بامرأة مريضة و رجل أجرب مريض قد بدت عروق فخذيه قد فجر بامرأة فقالت المرأة: يا رسول اللّٰه أتيته فقلت له: أطعمني و اسقني فقد جهدت، فقال: لا حتّى افعل بك ففعل، فجلده رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بغير بيّنة مأة شمراخ ضربة واحدة و خلى سبيله، و لم يضرب المرأة [1].

قال الشيخ بعد العبارة التي نقلناها عنه آنفا: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم و أيضا قوله تعالى: وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لٰا تَحْنَثْ، و هذه قصّة لايّوب معروفة، و روى انّ مقعدا أقرّ عند النبي بالزنا فأمران يضرب مأة بأنكال- باسكال- النخل انتهى.

ثم انك قد عرفت انّ

أخذ مأة شمراخ مجتمعة و الضرب بها ضربة واحدة ممّا قد ورد به الكتاب الكريم و قد ورد ذلك في الروايات أيضا المذكورة آنفا.

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 9 أقول: لا يخفى عليك انّه لم يكن في هذه الروايات ذكر عن المصلحة نعم قال في النهاية الصفحة 701: و من وجب عليه الجلد و كان عليلا ترك حتّى يبرأ ثم يقام عليه الحدّ فان اقتضت المصلحة تقديم الحدّ عليه أخذ بعرجون فيه مأة شمراخ أو ما ينوب منابه و يضرب ضربة واحدة و أجزأه عنه انتهى، و لصاحب الرياض هنا كلام فراجع إن شئت.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 374

لكن قد تعدّى بعض عن مأة شمراخ الى مأة سوط مجتمعة و الضرب بها فان ذلك أمر ممكن حيث كان لكلّ واحد من الشرطة سوط، هذا من ناحية و من ناحية اخرى انّ ضمّ مأة سوط لعلّه كان بنظرهم أقرب الى الحد اللازم فان الجلد يقع بالسوط فاذا ضمّت مأة سوط و ضرب المجرم بها لكان ذلك أقرب الى ضرب مأة سوط مستقلّة منفردة.

كما انّه قد تعدّى بعض عن المائة شمراخ الى خمسين، غاية الأمر أنّه يضرب بها مجتمعة مرّتين و هكذا، قال في الجواهر: و لو اشتمل الضغث على خمسين ضرب به دفعتين و هكذا بل لعلّه اولى من الضربة به دفعة.

و لكن الظاهر انّ التعدّي من الشمراخ الى السياط أمر مشكل و ذلك لانّه صلوات اللّٰه عليه قد دعا بعذق فقدّه مأة

ثم ضرب بشماريخه مع انّه كما ذكرناه كان يمكن له ان يدعو بمأة سوط و يضرب بها مجتمعة [1].

و هل يعتبر في ضربه بالعرجون أو الضغث وصول كل شمراخ و عود الى جسده أم لا؟

لا خلاف بين الأصحاب في عدم اشتراط ذلك بل و لا خلاف ظاهر منهم أيضا فيه و ان كان قد يتوهم من عبارة الجزيري المذكورة آنفا اعتبار ذلك لكنها لا تدلّ عليه أصلا و ذلك لانّه قال: مع ملاحظة مسّ الأغصان لجميع جسده، و لم يقل: مع ملاحظة مسّ جميع الأغصان لجميع جسده. نعم نفس العبارة مجملة في حدّ ذاتها و ليس لها معنى ظاهر، و لعلّ المراد انّه لا بدّ من مسّ الأغصان أيّ عضو و موضع من بدنه الذي يضرب بها و كيف كان فلا دلالة لها أصلا على اشتراط وصول كلّ شمراخ الى الجسد.

قال المحقّق قدّس سرّه: و لا يشترط وصول كل شمراخ الى جسده.

و قد ذكر العلامة عين هذه العبارة في القواعد.

و استدلّ على ذلك بوجهين أحدهما إطلاق الأدلّة كما في الجواهر.

ثانيهما التعذر عادة فيكفي التأثير بالاجتماع، كذا ذكره في كشف

______________________________

[1] أقول: فيما افاده دام ظله من الاستدلال مجال للكلام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 375

اللثام، و هو كذلك فكيف يمكن ان يمسّ كل واحد واحد من الشماريخ بدن المضروب بعد كونها مجتمعة و لو جعلت الشماريخ بحيث يكون كل واحد منها في جنب الآخر فربّما يصير المجموع أطول من طول البدن.

و قد ظهر بما ذكرنا ما في كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، قال: و ينبغي ان يمسّه الشماريخ أو ينكبس بعضها على بعض ليثقل الغصن و يناله الألم، فإن انتفى الأمران

أو شكّ فيه لم يسقط الحدّ انتهى.

و ذلك لانّ ما كان متعذرا لا يتيسّر عادة فكما لا يصح ان يشترط و يلزم عليه كذلك لا يصحّ ان يستحسن و يندب اليه بعنوان: ينبغي ثم انّه لا يختصّ عدم اجراء الحدّ الدائر على المريض و المستحاضة بباب الزنا بل الظاهر بملاك وحدة المناط جريانه في كل واحد من الحدود، بل و ربّما يأتي ذلك في الجراحات التي يقتصّ فيها ممّن أوردها و البحث يحتاج الى مزيد تأمّل و تحقيق.

ثم انّ النفساء أيضا كالمستحاضة و المريض فيؤخّر حدّها الى ان تمضى تلك الأيّام و تخرج عن النفاس و فدمّرت حكاية امة لرسول اللّٰه قد زنت فراجع و لا حظ.

ثم انّه لو لم تسع اليد العدد فما ذا يصنع؟ قال في الروضة: ضرب به مرّتين فصاعدا انتهى و على هذا فلو وسعت نصف العدد فهناك يضرب بها مرّتين و لو وسعت للربع فقط يؤخذ به و يضرب به اربع مرّات و هكذا.

و في الجواهر: و لو اشتمل الضغث على خمسين ضرب به دفعتين و هكذا بل لعلّه اولى من الضربة دفعة.

و ظاهره جواز ذلك و ان أمكن الضغث المشتمل على المائة فمع وجوده يؤخذ بنصفه و يضرب به دفعتين.

و فيه انّ الظاهر اختصاص ذلك بحال الإعواز و الاضطرار، و استفادة جواز ذلك عند الاختيار من الأدلّة كقوله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً، و غير ذلك، أمر مشكل و ما أفاد من الأولوية و ان كان تامّا بلحاظ حصول مزيد الألم،

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 376

لكن استفادة جوازه اختيارا غير ظاهرة، و الحكم بذلك يحتاج الى تنقيح مناط قطعي و هو غير ممكن لنا، و على

هذا، فلو كان هناك ضغث مشتمل على المائة فلا يجوز ضربه بخمسين منها مرّتين و لا ضربه مرّة بنصف و مرّة بنصف آخر، و لو لم يكن الّا الضغث المشتمل على النصف مثلا فلا بدّ من تحصيل المشتمل على المائة مقدّمة للواجب خصوصا بلحاظ انّه لم يرد في الأدلّة: و ان لم تجدوا المشتمل على المائة فاضربوه بالمشتمل على الخمسين مثلا، إذا فلا بدّ من تحصيل ما هو الواجب الّا ان يتعذر ذلك من رأسه. فهناك يضرب بالضغث الموجود مكرّرا الى ان يكمل العدد و لا فرق في تعذّره بين عدم وجدانه أو عدم اتّساع اليد للعدد اجمع.

و امّا ما مرّ من قول أهل الخلاف و هو جواز ضرب المريض بطرف ثوب مفتول أو النعال، فهو من مخترعاتهم و كم لهم أمثال ذلك من نظير، و ما نقلوه من الرواية فلم يثبت من طرقنا و انّما الثابت بمقتضى الروايات هو ضربه بالعرجون و الضغث المشتمل على مأة شماريخ.

و ما هو حكمه إذا أمكن جلده في أيّام؟

الظاهر انّ الضغث حدّ المريض مطلقا سواء أمكن جلده مأة جلده في الأيّام المتفرّقة أم لا و قد اقتصر المحقّق على ذكر الضرب بالضغث و لم يتعرّض للتفريق على الأيّام. لكن قال العلّامة في القواعد: و لا يفرّق السياط على الأيّام و ان احتمله و قال كاشف اللثام: لا يجب بل لا يجوز ان يفرّق السياط على الأيام بأن يضرب كل يوم بعضا منها حتّى يستوفي بل إذا لم يحتمل النصاب في يوم واحد عدل الى الضغث لانّه مأثور و قد ورد انّه لا نظرة في حدّ.

و في اللمعة عند ذكر أقسام الحدّ الثمانية: سابعها الضغث المشتمل على العدد و

هو حدّ المريض مع عدم احتماله الضرب المتكرّر.

و في الروضة، بعد ذلك: متتاليا و ان احتمله في الأيّام متفرقا و في المسالك: و لا يجب تفريق السياط على الأيّام و ان احتمل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 377

التفريق بل يقام عليه الممكن و يخلّى سبيله.

نعم في كلماتهم نوع إبهام و إجمال من جهات و من جملتها اختلافهم في التعبير بالوجوب و الجواز فبعضهم قال: لا يجب إلخ و من المعلوم انّ هذا ظاهر في أصل الجواز الّا انه لا إلزام عليه، في حين انّ في كلمات بعضهم الآخر التعبير ب لا يجوز، و هو صريح في عدم الجواز.

و لكن الظاهر من قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ، هو جلدهما متتالية فهو المطلوب أوّلا فإذا لم يتيسّر ذلك تصل النوبة إلى الضرب مرّة واحدة بالضغث المشتمل على العدد المعتبر و لا دليل على جواز تفريق المائة على الأيّام لأنّ الشرط في الحدّ بالضغث بحسب الاخبار هو عدم إمكان ضرب المائة متتالية.

لا يقال: انّ الأمر مردّد بين صرف النظر عن الحدّ الأصلّي و هو جلد مأة الذي هو ممكن ع؟؟؟؟؟ ى حسب الفرض، و رفع اليد عن إيقاعها في يوم واحد، و لا بدّ من ان ندع التوالي و التعاقب و نرفع اليد عنه كي يتحقّق أصل الحدّ و لا يتبدّل الى الضغث.

لأنّا نقول: الظاهر هو وحدة المطلوب فاذا لم يمكن ضرب المائة متتالية تصل النوبة إلى الضغث فان وظيفة الحاكم الإسلامي هو حلّ الدعاوي و فصل الخصومات و توجيه الأمور دفعة واحدة، فايكال الحدّ الى أيّام متعدّدة بحيث بضرب كل يوم ما يتحمّله منه يوجب تعويق الأمور و

التأخير فيها و هذا ينافي الغرض المقصود من الحكم.

ثم انّ الشهيد الأوّل قال في اللمعة بعد ما نقلناه من عبارته السابقة:

و اقتضاء المصلحة التعجيل، و قد مرّ انّ المحقّق أيضا قال: لو اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضغث المشتمل، و هذا أيضا من الأمور المجملة في كلماتهم و ذلك لانّه لا يدرى ما هو المراد من المصلحة بنظر الحاكم فهل هي انّ في التأخير خوف فوت الحدّ أو يكفي كون التسريع و الضغث أوفق للمريض؟

و يمكن ان يقال: انّ مقتضى الآية الكريمة هو وجوب جلد الزاني مأة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 378

جلدة مهما أمكن، فيجب العمل على طبقها و الجري بمقتضاها إلّا إذا لم يمكن ذلك و لم نقدر عليه، أو كان العمل بها مزاحما بالأهمّ كما إذا أفضى جلده مأة الى موته و تلفه، أو دلّ دليل قطعي على تبديله بحدّ آخر يكون أسهل، إرفاقا عليه و تسهيلا له، و ملاحظة الآية الكريمة المفيدة لإجراء الحدّ التام تقضى اجراء الجلد مأة حتّى بالنسبة إلى المريض إذا كان بحيث يحصل له البرء بالتأخير فيؤخّر في حدّه إذا رجي برءه و بعد ذلك يضرب تاما كما يدلّ على ذلك خبر السكوني و خبر مسمع بن عبد الملك ففي الأوّل عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: اتى أمير المؤمنين عليه السّلام برجل أصاب حدّا و به قروح في جسده كثيرة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أقرّوه حتّى تبرأ لا تنكؤها عليه فتقتلوه «1» و في الثاني قال أمير المؤمنين عليه السّلام أخّروه حتّى تبرأ. و لكن إذا برأ حددناه «2» نعم هذا إذا كان برؤه قريبا لا موقوفا على مضىّ زمان طويل كأعوام

و سنوا و الّا فيسّرع في حدّه و ليس الّا الضغث فان الإسراع في الحدّ مصلحة تقتضي ذلك و امّا إذا كان يحصل له البرء عن قريب فلا مصلحة توجب الإسراع في الحدّ حتّى يحدّ بالضغث بل لعلّ المصلحة في التأخير و جلده بعد البرء و كذا لو كان يلزم عليه الضرر إذا حدّ و لو بالضغث فإنّه يؤخّر الى ان يبرء فالقدر المتيقّن من الحدّ بالضغث هو ما إذا لم يرج زوال مرضه أو يرجى ذلك لكن بطيئا، و لا يبعد التبديل الى الضغث أيضا إذا كان ذلك أوفق بحال المريض.

ثم انّه لو كان يحتمل سياطا ضعافا فهل يقام عليه الحدّ كذلك أم لا؟

ذهب في الجواهر إلى انّه اولى من الشماريخ و أحوط، و لكنّ الظاهر انّه ليس بتامّ لعدم الدليل على ذلك، و هذا أيضا ممّا لم يتّضح المراد منه و ذلك لانّه لا يعلم ان المراد هو انّه احتمل مأة جلدة ضعاف خفاف أو انّه احتمل مأة

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 379

مجتمعة بدل الشماريخ [1] و كيف كان فالحكم في حال المرض هو ضربه بالضغث المشتمل على المائة و ما ذكره ليس بأحوط بل لعلّه خلاف الاحتياط.

تذكار

ثم انّ مقتضى صحيحة أبي العبّاس المذكورة آنفا هو كفاية الإقرار مرّة واحدة في إثبات الحدّ و الحال انّ الروايات تدلّ على اعتبار الأربعة، فهل هذه معارضة لها أو انّها مخصّصة لها؟

أقول: لم أقف على من قال بالتخصيص حتّى يقال انّه يعتبر في إثبات الزنا أربعة اقارير إلّا في

حدّ الضغث فإنّه يكفي إقرار واحد بل لعلّ ذلك مقطوع العدم و خلاف الإجماع، و الظاهر انّه ليس من باب التعارض أيضا.

و يمكن ان يقال: انّه فعل من رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و الاستدلال بالفعل موقوف على العلم بجهته فلو لم تكن جهته معلومة لا يتمّ الاستدلال به و هنا ليس كذلك، و لعلّه كان قد ثبت الأمر عنده صلوات اللّٰه عليه بغير إقراره فلم يكن إقراره للإثبات حتّى يحتاج إلى أربع مرّات بل كان لسدّ احتمال رجوعه، أو انّه صلوات اللّٰه عليه قد اعتمد هناك على علمه بالواقعة و على ذلك فإقراره عند النبي صلّى اللّٰه عليه و آله مرّة واحدة ليس بحجّة لنا.

______________________________

[1] أقول: لعلّ الظاهر هو الأوّل و الّا فظاهر كلماتهم عدم الفرق في الضغث المجتمع بين ان يكون مركّبا من السياط أو من الشمراخات. اللّهم الّا ان يقول سيّدنا الأستاد أدام اللّٰه بقاه بخصوصيّة الشمراخات و الأغصان الدقيقة إرفاقا بحال المريض.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 380

الكلام في الحائض

هذا كلّه في المريض و المستحاضة و النفساء و امّا الحائض فليست كذلك فلا يجوز التأخير في حدّها و ذلك لانّ الاستحاضة و النفاس من المرض بخلاف الحيض فإنّه ليس كذلك بل قيل بأنّه يدلّ على صحّة مزاجها و اعتدال حالها و لذا قال المحقّق:

و لا يؤخّر الحائض لأنّه ليس بمرض.

و قال العلّامة في التحرير: و لا يؤخّر الحائض لأنّ الحيض ليس بمرض.

لا يقال: انّ ظاهر الآية الكريمة خلاف ذلك، لانّ اللّٰه تعالى يقول:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ «1».

لانّه يقال: ليس الأذى بمعنى المرض و انّما هو بمعنى القذر و المستقذر و النجس

يؤذى من يقربه نفرة منه له فهو سبب لإيذاء الرجل لو قاربها و لذا ترى انّ الأصحاب. رضوان اللّٰه عليهم لم يفتوا بكون الحائضة كالنفساء و المستحاضة بل اقتصروا في الحكم المزبور على المريض و المستحاضة و النفساء.

ان قلت: ان ظاهر الآية الكريمة انّ الحيض أذيّة لها بنفسها و لذا رتّب على هذا، الحكم بالاعتزال عنهن في الحالة المزبورة كما انّ بعض المفسّرين

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 222.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 381

فسّروها كذلك [1] و يؤيّده انّ مفهوم الأذى هو مفهومه في آية الحج: و ان كان به أذى من رأسه ففدية «1» و لعلّ العرف يساعد ذلك و لذا يراعون المرأة في تلك الحالة و يرافقونهنّ، و ما نرى بينهم من الإرفاق و التسهيل في حقّهن شاهد على انّهم يرون الحيض مرضا بل يعاملون المرأة في حال الحيض بما لا يعاملونها في حال الاستحاضة من الرفق و عدم التحميل عليهنّ، هذا مضافا الى ورود رواية تدلّ على انّ الحيض أيضا مرض و هي ما رواه في الجعفريّات انّ عليّا عليه السّلام قال: ليس على الحائض حدّ حتّى تطهر و لا على المستحاضة حدّ حتّى تطهر «2» و قد أفتى الكاشاني رحمه اللّٰه بما ذكرناه و الحق الحائض بالمريض و المستحاضة [2].

نقول: إثبات ظهورها في ذلك مشكل و كذا ارادة المعنى المزبور عند العرف، و امّا تفسير بعض المفسّرين ففيه انّ بعضهم فسّروه بما ذكرناه أيضا فراجع تفسير الصافي للفيض الكاشاني و امّا الرواية فدلالتها و ان كانت واضحة الّا انّها ليست معمولا بها عندهم و امّا إفتاء الفيض فلا يخرج المطلب عن الشذوذ بعد كونه منفردا في الإفتاء بذلك و

مخالفة الواحد لا يضرّ بالإجماع خصوصا إذا كان من المتأخّرين و انّه بنفسه قد أفاده في تفسيره خلاف ذلك.

اعتراض الجنون أو الارتداد غير مانع من الحدّ

قال المحقّق: و لا يسقط الحدّ باعتراض الجنون و لا الارتداد.

______________________________

[1] أقول: راجع مجمع البيان، الجلد 1 الصفحة 319، إليك ما افاده و حكاه في مجمع البيان: معناه قذر و نجس. و قيل هو أذى لهن و عليهن لما فيه من المشقة انتهى.

[2] مفاتيح الشرائع الجلد 2 الصفحة 80 قال: و يرجم الحائض و المريض و المستحاضة و النفساء و لا يجلد أحدهم.، أورد الإشكال هذا العبد و أجاب دام ظله بما في المتن و يؤيّده أنّي كلّما تفحصت كلماتهم لم أر من افتى بسقوط الجلد عن الحائض.

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 196.

(2) الجعفريات ص 137.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 382

أقول: و ذلك لانّ المفروض انّه قد زنى في حال كونه مكلّفا اى انّه كان عاقلا ثم عرض له الجنون فلا مانع من اقامة الحدّ عليه.

و يدلّ على ذلك صحيح ابى عبيدة عن ابى جعفر عليه السّلام في رجل وجب عليه الحدّ فلم يضرب حتّى خولط، فقال: ان كان أوجب على نفسه الحدّ و هو صحيح لا علّة به من ذهاب عقل أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان «1».

و في المسالك: ثم ان كان قتلا لم ينتظر بالمجنون الإفاقة و ان كان جلدا ففي انتظار إفاقته ان كان له حالة إفاقة وجهان، من انّه أقوى في الردع، و من إطلاق الأمر بإقامته عليه في صحيحة ابى عبيدة عن الباقر عليه السّلام، و هذا أجود.

و أورد عليه في الجواهر- في احتماله الانتظار- بقوله: و الأقوى خلافه للأصل و صحيح ابى عبيدة، ثم فرّع على هذا

قوله: فما عن بعض من احتمال السقوط في المطبق مطلقا و آخر من السقوط كذلك ان لم يحسّ بإلا لم و كان بحيث ينزجر به، كالاجتهاد في مقابلة النص و الفتوى.

أقول: و يمكن توجيه ما احتمله في المسالك و هذا البعض، بانّ المقصود الأصلّي من الضرب هو ردع المضروب و عقابه على عمله القبيح، و المجنون إذا كان بحيث لا يدرك و لا يحسّ أصلا فلا فائدة في ضربه و جلده لانّ ضربه و ضرب الحجر و الجدار على حدّ سواء، و لماذا يضرب و هو لا يدرك الألم الآن، و لا يتذكر بعد ان أفاق، انّه قد جلد في حال جنونه.

لا يقال: فكيف يقام عليه حدّ القتل و الرّجم إذا كان قد اتى بسبب ذلك في حال عقله؟

لأنّا نقول: فرق بين هذا و ذاك فان المقصود في باب القتل و الرجم هو إعدام هذا الشخص، و ان لا يبقى في صفحة الوجود في حين انّ المقصد الا على في باب الجلد هو تأديبه و اذاقته الم الجرم و المعصية و ارتداعه و انزجاره عن العود الى ما اقترفه من المعاصي و هذا لا يحصل بدون الحسّ و الإدراك. اللهمّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من مقدمات الحدود الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 383

الّا ان يلاحظ ردع الآخرين، و هو أيضا ربما لا يحصل بضرب المجنون الذي لا يدرك و لا يعقل شيئا، و الآية الكريمة الآمرة بالجلد الواردة في مقام التخويف منصرفة عنه.

و عليه فليس ما حكى عن هذا البعض بهذه المثابة من البعد، و لا ينبغي ان يرمى بكونه كالاجتهاد في مقابلة النص فإنّه بالحمل على مجنون

لا يحسّ شيئا يتمّ كلامه.

و امّا كون المجنون بهذه الحالة فهو أمر واقع و ربّما يكون بحيث لا يتألّم ممّا يصيبه و لذا لا يفرّ ممّن يريدان يضربه، و لا يخاف منه.

و بذلك ظهر الكلام و انكشف الظلام عن فرع ربّما يذكر في هذا المقام و هو انّه لو كان المجرم شللا لا يحسّ الم الضرب فهل هو يجلد الحدّ أو يضرب بالشماريخ؟ و ذلك لأنّه إذا كان بهذه المثابة فلا فائدة في ضربه لأنّه لا ينزجر و لا يرتدع بذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى الجنون و امّا الارتداد فهو أيضا ليس بمانع عن اقامة الحدّ عليه بعد ان اتى بموجبه في حال إسلامه فلا يسقط الحدّ الواجب باعتراض الارتداد، فلو زنى و هو غير محصن يقام عليه الحدّ و يجلد أوّلا و يقتل ثانيا لارتداده، و لا وجه أصلا لسقوط جلده، و لو كان محصنا فقد اجتمع عليه الرجم و القتل و حيث انّه لا كيفيّة خاصة للقتل بخلاف الرجم الذي هو كيفيّة خاصّة من القتل فلذا يقدّم الرجم، و الظاهر انّ المطلب واضح لا يحتاج الى مزيد بحث و بيان و استدلال فلذا نقتصر على ذلك روما للاختصار كما انّ شرّاح الشرائع أيضا لم يتعرّضوا لذلك.

حول اقامة الحدّ في اعتدال الهواء

قال المحقّق: و لا يقام الحدّ في شدّة البرد و لا شدّة الحرّ و يتوخّى به في الشتاء وسط النهار و في الصيف طرفاه.

أقول: و قد علّل ذلك كثير من العلماء و منهم صاحبا المسالك و الجواهر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 384

بخوف التلف و خشية الهلاك بتعاون الجلد و الهواء فيؤخّر من شدّة البرد و الحرّ الى اعتدال الهواء، ففي الشتاء ينتظر وسط النهار

و في الصيف طرفاه.

و تدلّ على ذلك الأخبار الشريفة التي أخرجها المحدّث الحرّ العاملي في باب عنوانه: باب انّه ينبغي إقامة الحدّ في الشتاء في آخر ساعة من النهار و في الصيف في أبرده.

فعن هشام بن احمر عن العبد الصالح عليه السّلام قال: كان جالسا في المسجد و انا معه فسمع صوت رجل يُضرب صلاة الغداة في يوم شديد البرد فقال:

ما هذا؟ قالوا رجل يضرب، فقال: سبحان اللّٰه في هذه الساعة؟ انّه لا يضرب أحد في شي ء من الحدود في الشتاء إلّا في أحرّ ساعة من النهار و لا في الصيف إلّا في أبرد ما يكون من النهار «1».

و عن ابى داود المسترق عن بعض أصحابنا قال: مررت مع ابى عبد اللّٰه عليه السّلام و إذا رجل يضرب بالسياط، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: سبحان اللّٰه في مثل هذا الوقت يضرب؟ قلت له: و للضّرب حدّ؟ قال: نعم، إذا كان في البرد ضرب في حرّ النهار، و إذا كان في الحرّ ضرب في برد النهار «2».

و عن سعدان بن مسلم عن بعض أصحابنا قال: خرج أبو الحسن عليه السّلام في بعض حوائجه فمرّ برجل يحدّ في الشتاء فقال: سبحان اللّٰه ما ينبغي هذا فقلت: و لهذا حدّ؟ قال: نعم، ينبغي لمن يحدّ في الشتاء ان يحدّ في حرّ النهار و لمن حدّ في الصيف ان يحدّ في برد النهار «3».

و الظاهر من هذه الروايات هو الوجوب فان الاستعجاب الوارد فيها لا يناسب ارتكاب خلاف المستحبّ و انّما يناسب ارتكاب أمر ليس بجائز، و لا ينافي ذلك إطلاق لفظ ينبغي في الرواية الأخيرة بعد ظهور سائر الاخبار بل و نفس هذا الخبر في الوجوب فان

قول الراوي: لهذا حدّ؟ و جواب الامام عليه السّلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من مقدمات الحدود الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 7 من مقدمات الحدود الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 385

و تقريره يدلّ على الوجوب و لزوم مراعاة هذا الأمر، و على الجملة فلو لم نقل بالوجوب جزما فلا أقلّ من كونه هو الأحوط، و على هذا فلا وجه للقول بالاستحباب بل اللازم مراعاة ان لا يلزم ضرر و أذيّة زائدة على ما هو اللازم من طبع الحدّ.

ثم انّه هل وجوب ذلك على نحو وحدة المطلوب أو تعدّده؟ و تظهر الثمرة فيما إذا خالف مجرى الحدّ و اقامه في هواء غير معتدل فإنّه على الأوّل يترتب أمران أحدهما انّه على ذلك لم يقم الحدّ بل كان ما فعله جناية بخلاف ما إذا كان وجوب مراعاة الوقت من باب تعدّد المطلوب و من قبيل الواجب في الواجب فان الحدّ قد تحقّق و صحّ و ان كان المجرى قد عصى اللّٰه بإجراء الحدّ في غير الوقت المفروض، ثانيهما انّ مقتضى القاعدة هو تكرار الحدّ على فرض وحدة المطلوب دون فرض تعدّده و الإنصاف انّ الحكم بتكرار الحدّ مشكل كما انّ الحكم بسقوط الحدّ أيضا غير واضح و امّا استظهار هذا المذهب أو ذاك فنقول: مقتضى ظاهر كلمات العلماء هو تعدّد المطلوب و انّ المقام من قبيل الواجب في الواجب فإنّهم كما تقدّم يتمسّكون بخوف التلف و خشية الهلاك، و هذا يفيد انّ الواجب اثنان أحدهما إقامة الحدّ ثانيهما عدم التسريع عند خوف التلف نظير ما مضى في

المريض من انّه لا يقام عليه الحدّ في حال المرض لخوف الهلاك بل يؤخّر الى ان يحصل له البرء أو يقام عليه الحدّ بالضغث.

هذا لكن ظاهر تقرير الامام عليه السّلام: لكلّ حدّ حدّ، هو وحدة المطلوب فان ظاهر ذلك انّه إذا تعدّى الحدّ عن مقرّراته و محدودته فليس هو هذا الحدّ و انّما الحدّ هو الحدّ المخصوص مع ما اعتبره الشارع فيه، و لعلّ نظر العلماء رضوان اللّٰه عليهم أجمعين الى انّ خوف الهلاك علّة أو حكمة في جعل هذا الحكم على سبيل وحدة المطلوب.

و الإنصاف انّه يمكن ان يستفاد من روايات الباب انّ هذا من باب تعدّد المطلوب و ذلك لانّه و ان كان الامام عليه السّلام أنكر عليهم فيها اجراء الحدّ في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 386

غير اعتدال الهواء الّا انّه لم يأمر في شي ء منها بتكرار الحدّ، و إقامته ثانيا على الوجه الصحيح و لو كان ذلك واجبا لكان اللازم عليه ان يذكر ذلك لانّ وظيفته بيان الأحكام فيستفاد من عدم ذكر ذلك في كلماتهم انّ وجوب إيقاع الحدّ في الهواء الملائم و المناسب كان بعنوان الواجب في الواجب، و لو ثبت انّه كان من باب القيد و وحدة المطلوب فلا محيص عن القول بانّ الشارع قد جعل هذا الذي وقع على المحدود مسقطا عن الحدّ من باب التفضّل و ان لم يكن حدّا واقعا و كيف كان فلو شكّ في اعتبار القيد الزائد فالأصل هو العدم كما انّه لا شكّ في انّه لو مات بسبب الجلد و عدم مناسبة الهواء فان المجرى ضامن و تكون ديته عليه سواء قلنا بوحدة المطلوب أو تعدّده.

و ليعلم انّ هذا البحث

اى وجوب اجراء الحد في الجوّ المعتدل مخصوص بالجلد، و امّا في مورد الرجم فلا مجال لهذه المطالب، و ذلك لانّ المحكوم بالرجم محكوم بالإتلاف و الاعدام و لا يتفاوت الحال بالنسبة إليه بين اعتدال الهواء و عدمه.

نعم في كلمات بعض الأصحاب لزوم مراعاة ذلك بالنسبة الى من حدّه الرجم إذا كان قد ثبت ذلك بإقراره و ذلك لاحتمال رجوعه عن إقراره الذي يوجب عدم رجمه، فلو رجم في الهواء الحارّ مثلا فربّما وقع عليه أوّل حجر و قد اثّر فيه ذلك في تلك الهواء الخاصّ فيقضيان عليه و يوجبان موته و هلاكه فلا ينفعه الرجوع.

قال العلّامة أعلى اللّٰه مقامه في القواعد: و لا يقام الحدّ في حرّ شديد أو برد شديد بل يقام في الشتاء وسط النهار و في الصيف طرفيه و كذا الرجم ان توهّم سقوطه برجوعه أو توبته أو فراره.

و قال الشهيد الثاني في المسالك عند البحث عن المريض: المشهور انّ الرجم لا يؤخّر بالمرض مطلقا لانّ نفسه مستوفاة فلا يفرق بين المريض و الصحيح و يحتمل جواز تأخيره ان ثبت زناه بالإقرار الى ان يبوء لانّه سبيل من الرجوع و ربّما رجع بعد ما رمى فتعين ما وجد من الرمي عليه قتله. (ثم قال): و مثله

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 387

يأتي في رجمه في شدّة الحرّ و البرد.

نعم ظاهر كلامه رحمه اللّٰه انّ هذا البحث من توابع بحث المرض و لكنّ الحقّ ان اجراء الحدّ في الحرّ و البرد بحث مستقلّ غير متعلّق بالمرض [1].

ثم انّه قد ظهر بما ذكرناه تقديم أخبار التأخير إلى الهواء المعتدل على اخبار عدم جواز التأخير في الحدّ و ليس من باب

المعارضة بينهما.

و شرح هذا المقام يتوقّف على ذكر ما ورد من الاشكال ثم الجواب عنه فنقول: انّ بعض الأعاظم قدّس سرّه قال بعد ذكر الأخبار الناطقة بتأخير الحدّ الى اعتدال الهواء: و يمكن ان يقال: كيف يجمع بين هذه الاخبار و ما دلّ على عدم جواز التأخير؟

ثم تعرّض لهذه الجملة من كلام أمير المؤمنين في خبر ابن ميثم المشتمل على قصّة المرآة المحصنة: اللهم. و انك قد قلت لنبيّك صلّى اللّٰه عليه و آله فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادّتي.

قال قدّس سرّه: و حمل التعطيل على ترك الحدّ أصلا بعيد انتهى و هو كذلك ثم ذكر تصريح معتبرة السكوني بعدم جواز التأخير،: عن علىّ عليه السّلام في ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا فقال علىّ عليه السّلام أين الرابع؟ قالوا الآن يجي ء فقال: حدّوهم فليس في الحدود نظر ساعة.

أقول: تأييدا لمراده انّه بعد ما شهد ثلاثة بالزنا لم يكن الناقص من الشهود الّا واحدا و يقرب في الأذهان جدّا لزوم الصبر الى ان يلحقهم الرابع و يشهد بالزنا و يقام الحدّ على المرأة و مع ذلك فلم يصبر عليه السّلام لحظات قليلة

______________________________

[1] أظن انّه لا يخلو هذا الاستظهار من شي ء و ذلك لانّ الظاهر انّ كلام الشهيد الثاني: و مثله يأتي في رجمه إلخ لا يراد به رجم المريض بل رجم من ثبت رجمه بالإقرار فهو يقول: انّ من ثبت زناه بالإقرار لا يرجم في حال المرض و لا في زمان الحرّ و البرد، و ذلك لانّه كما انّه يعين المرض على الهلاك كذلك ربّما أدّى إقامة الحدّ في شدّة الحرّ أو البرد الى

التلف و الهلاك و هذا عين ما قرأناه في عبارة القواعد فليس ذكر هذا الفرع عند بحث المرض من متفرّعاته بل هو قسيم له فلا حظ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 388

للحوق الرابع حتّى يقيم حدّا واحدا عليها، و اقام حدّ القذف على الثلاثة فليس العدول عن حدّ شخص واحد الى حدّ ثلاثة أشخاص الّا لالتزامه الكامل التامّ بعدم تأخير الحدّ.

ثم أيد المطلب بمرسل الصدوق قدّس سرّه عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

إذا كان في الحدّ لعلّ أو عسى فالحدّ معطّل. و على الجملة فقد تعرّض لهذه الاخبار بتعابيرها الشديدة الدّالة على وجوب التسريع في الحدّ و عدم التأخير فيه و انّ الحكم بتأخير الحدّ الى اعتدال الهواء لا يساعد هذه الاخبار و لا يجمع بينهما، و قال أخيرا: لا يبعد الجمع بين الاخبار بحمل الأخبار الدّالة على التأخير على الاستحباب.

أقول: انّ الحمل على الاستحباب مشكل جدّا بل لو كان الدليل مصرّحا باستحباب التأخير إلى اعتدال الهواء كان لا يعارض دليل وجوب التسريع، فاذا كان التسريع واجبا و التأخير حراما كما هو مقتضى الروايات التي ذكرناها آنفا فكيف يمكن ان يقال بأنّه يستحبّ التأخير إلى اعتدال الهواء؟ و على الجملة فلا يمكن الجمع بين قوله عليه السّلام: ليس في الحدود نظر ساعة، و استحباب التأخير أصلا كما قد أشار هو قدّس سرّه أيضا الى ذلك.

و الذي يبدو في النظر هو انّه لا معارضة أصلا في البين بل انّ الاخبار الدالّة على التأخير إلى اعتدال الهواء، كالحاكم على اخبار عدم جواز التأخير، فإنّ هذه الاخبار تبيّن و توضح شرائط الحدّ و مقرراته و انّ الحدّ الواجب شرعا هو ما يقام في معتدل الجوّ، فالتأخير عن

هذا الموقع غير جائز، كما انّه لو لم يقيّد الحدّ بإيقاعه في وقت خاص بل كان مطلقا فالتأخير عن أوّل وقته كان محرّما و على هذا فقد عملنا بالطائفتين و ذلك لانّ الواجب هو اجراء الحدّ في وقت ملائم مناسب و لا يجوز التأخير عن هذا الوقت، و الحاصل انّه على فرض استفادة وجوب التأخير إلى اعتدال الهواء لا معارضة في المقام، و امّا الوجوب فهو الظاهر من الاخبار الشريفة.

ثم انّه قد بدا لي هنا بحث لم أظفر على من تعرّض له أصلا و هو انّه هل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 389

الحدّ واجب تعبديّ أو توصليّ، و بتعبير آخر هل يجب ان يؤتى بقصد أمر المولى أو انّه يكفى مجرّد إجرائه و إيقاعه و ان كان لامتثال أمر الحاكم و الرئيس و غير ذلك من الغايات غير المولى سبحانه و تعالى؟

أقول: لعلّ الظاهر من بعض الروايات هو الأوّل و ذلك كمرفوعة حفص بن عون قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة و حدّ يقام للّٰه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا «1».

فان قوله عليه السّلام: يقام للّٰه، ظاهر في ألنّ الحدّ أمر تعبديّ لا بدّ من ان يقام اللّٰه تعالى، و لعلّه الظاهر أيضا من الروايات التي عبّر فيها عن الحدود بحق اللّٰه أو، حدّه، مثل ما رواه أبو بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الرجم حدّ اللّٰه الأكبر و الجلد حدّ اللّٰه الأصغر «2».

لا يقام الحدّ في أرض العدوّ

قال المحقّق: و لا في أرض العدوّ مخافة الالتحاق.

أقول: المستفاد من عبارته هو انّ خوف الالتحاق بالكفّار حكمة في عدم اجراء الحدّ في

أرضهم.

لكن الظاهر من عبارة بعض المعاصرين انّ خوف الالتحاق قيد في الحكم بحرمة اجراء الحدّ في أرض العدوّ و بلاد الكفّار، قال: لا يجوز اقامة الحدّ على أحد في أرض العدوّ إذا خيف أن تأخذه الحميّة و يلحق بالعدوّ.

فان المستفاد من هذه العبارة هو انّه يجب تأخير حدّه الى ان يخرج من ارض الكفّار، لكن هذا عند ما خيف على المحدود من التحاقه بهم لا مطلقا فحينئذ يلزم مراجعة الاخبار و النظر فيها حتّى نرى ما هو المستفاد منها.

عن ابى مريم عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدود الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 390

لا يقام على أحد حدّ بأرض العدوّ «1».

و عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علىّ عليه السّلام انّه قال:

لا أقيم على رجل حدّا بأرض العدوّ حتّى يخرج منها مخافة ان تحمله الحميّة فيلحق بالعدوّ «2».

و ظاهر هذا التعليل هو الإطلاق فيفيد انّه لا يقام عليه الحدّ في أرض الكفّار لانّ هذا الخوف حاصل لا انّه لا يقام عليه إذا خيف عليه ذلك. و لذا قال بعض الأعاظم قدّس سرّه: و الأظهر ان يكون ما ذكر من باب الحكمة من جهة انّ المطلق لا بدّ فيه من بقاء الغالب فيه بعد التقييد لا الأقلّ و لا المساوي.

و مراده رحمه اللّٰه انّه لا بدّ في التقييد ان لا يخرج الأكثر حتّى لا يكون من باب تخصيص الأكثر.

أقول الظاهر انّه و ان لم يكن الالتحاق بنفسه محقّقا الّا انّ خوف الالتحاق محقّق

نوعا فهذا هو النجاشي الشاعر المخصوص لأمير المؤمنين عليه السّلام فقد شرب الخمر في شهر رمضان فضربه عليه السّلام ثمانين ثم حبسه ليلة ثم دعا به من الغد فضربه عشرين لتجرّئه على شرب الخمر في شهر رمضان و صار هذا سببا لفراره و إقباله على معاوية و الالتحاق به [1] و على هذا فهذا الخوف محقّق نوعا فيكون القيد من القيود الواردة مورد الغالب و هو لا يقيّد الدليل العامّ أو المطلق و على هذا فيؤخّر الحدّ و ان لم يكن في مورد خوف أصلا.

لا يقام الحدّ في الحرم

اشارة

قال المحقّق: و لا في الحرم على من التجأ إليه بل يضيّق عليه في المطعم و المشرب ليخرج، و يقام على من أحدث موجب الحدّ فيه.

أقول: و قد استدلّ على ذلك بأمور: الأوّل الاحترام، اى احترام الحرم

______________________________

[1] في رجال المامقاني الجلد 3 الصفحة 267: النجاشي الحارثي الشاعر، عدّه الشيخ رحمه اللّٰه في

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 10 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 391

فإنّ عقوبة من التجأ إلى الحرم و اقامة الحدّ على الملتجئ به اهانة له و كذا إخراج من لاذ به عنه جبرا و قسرا الثاني قوله تعالى وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً «1».

الثالث صحيحة هشام بن الحكم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يجني في غير الحرم ثم يلجأ إلى الحرم، قال: لا تقام عليه الحدّ و لا يطعم و لا يسقى و لا يكلّم و لا يبايع فإنّه إذا فعل به ذلك يوشك ان يخرج فيقام عليه الحدّ و ان جنى في الحرم جناية

أقيم عليه الحدّ في الحرم فإنّه لم ير للحرم حرمة «2».

و هي تدلّ بالوضوح على انّ الجاني الذي جنى في غير الحرم ثم لاذ الى الحرم لا يجوز اجراء الحدّ عليه و انّما يضيّق عليه في طعامه و شرابه و سائر الجهات كي يخرج منه و يقام عليه الحدّ في خارج الحرم. نعم لو أقدم هو على الجناية في نفس الحرم و هتك حرمته فحينئذ أقيم عليه الحدّ في الحرم كما هو صريح ذيل الصحيحة و سيأتي انّ في بعض الروايات ما ينافي هذا الذيل فانتظر.

ثم انّ التحقيق في المسئلة يقتضي التعرّض لأمور:

الأوّل هل انّ احترام الحرم الذي تمسّك به العلماء و استدلّوا به دليل مستقلّ

أو انّه أمر مستفاد من الآية الكريمة: و من دخله كان آمنا. الصريحة في

______________________________

رجاله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام و كان شاعر أهل العراق بصفين و كان على (ع) يأمره بمحاورة شعراء أهل الشام مثل كعب بن جعيل و غيره فشرب الخمر بالكوفة أوّل يوم من شهر رمضان مع ابى سمّاك الأسد فأخذ و جي ء به الى على (ع) فأقامه في سراويل فضربه ثمانين للخمر ثم زاده عشرين لجرأته على الإفطار بالمحرّم في شهر رمضان فغضب لذلك و هرب حتى لحق بمعاوية في الشام و هجا عليا ع فقال

الا من مبلّغ عني عليّا بأنّي قد أمنت فلا أخاف

لمّا عمدت لمستقر الحق رأيت أموركم فيها اختلاف

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية 97.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 34 من مقدمات الحدود الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 392

انّ بيت اللّٰه تعالى محلّ أمن و أمان و من دخله فقد دخل دار الأمن و السّلام كائنا من كان؟

أقول: انّ اجراء الحدّ في الحرم على الجاني لم يكن هتكا و خلافا للاحترام اللازم له عرفا ما

لم يرد دليل من الشرع فإنّه من قبيل اقامة أمر اللّٰه في بيت اللّٰه و إذا كان هو حكما إلهيّا و طاعة لأمره سبحانه فكيف يكون إجرائه في بيته خلاف الاحترام؟ و خصوصا بلحاظ انّ في الإخراج إلى خارج الحرم و اقامة الحدّ عليه هناك تأخيرا في إجراء الحدود، و على الجملة فيمكن التشكيك في كون اقامة الحدّ في الحرم هتكا و في خارجه احتراما له، نعم بعد ملاحظة انّ الشارع جعله بيت الأمن و مركز الأمان يصحّ ان يقال: انّ عدم اقامة الحدّ عليه في الحرم نوع احترام منه.

الثاني انّه هل التضييق في المطعم و المشرب

على من التجى ء الى الحرم الى ان يتعب و يضطرّ الى الخروج لا ينافي كون الحرم أمنا، و انّ من دخله كان آمنا؟

الظاهر انّه مع غضّ النظر عن الرواية ينافي كونه محلّ الأمن فإنّ مقتضى كون الحرم كذلك ان يكون الداخل فيه في سعة و راحة لا في الضيق و الشدة و تحت ضغط الجوع و العطش و لازم كونه آمنا هو كونه مأمونا من جميع أنواع الأذى دون خصوص القتل أو الضرب نعم بلحاظ الرواية نقول بذلك.

و لعلّ الأمر بالتضييق عليه مع كونه آمنا و لائذا بدار الأمن هو التنبيه على لزوم مراعاة جانب الحدود أيضا فإنّه لو لا ذلك للزم تعطيل حدود اللّٰه تعالى و يصير ذلك ذريعة لنشر الفساد و اقتراف المعاصي و المحرّمات.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 392

الثالث انّ الظاهر كون النسبة بين أدلّة الحدود كآية الجلد و روايات الرجم

و الجلد و بين أدلّة حرمة الحرم، العموم من وجه فان مآلهما إلى أنّه يجلد الزاني مثلا في الحرم و غيره، و لا يجلد في الحرم سواء كان الحدّ حدّ الزنا أو غيره، فيتعارضان في المجمع و هو حدّ الزنا في الحرم لكنّا لم نجد أحدا قال بانّ بينهما تعارضا كذلك حتّى يسقط الدليلان مثلا و لعلّ ذلك لأجل انّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 393

النسبة بين الدليلين و ان كانت بحسب المفهوم هو العموم من وجه لكن إذا كان أحد الدليلين بحيث لو عمل به لم يبق للآخر مورد و مصداق أصلا يجب ان يعاملا معاملة العموم المطلق و ما نحن فيه من هذا القبيل

لانّه لو عمل بدليل الحدود و الجنايات كدليل جلد الزاني الذي نسبته الى دليل احترام الحرم عموم من وجه و كذلك دليل جلد الشارب مطلقا و سائر الحدود، لم يبق مورد لدليل احترام الحرم بخلاف ما لو انعكس الأمر بأن يترك اجراء الحدّ في الحرم بالخصوص فإنّه يبقى لدليل الجلد و القطع و الرجم موارد أخر، و على هذا فيكون المقام كالتخصيص فتخصّص أدلّة الحدود بأدلّة احترام الحرم.

الرابع انّهم رضوان اللّٰه عليهم ذكروا في موضوع المسئلة

، التجاء الجاني إلى الحرم و قد رأيت عبارة المحقّق في الشرائع.

و لكن الظاهر انّه لا خصوصيّة لهذا القيد بل ظاهر الآية الكريمة، العموم لانّ ذلك احترام للحرم، فكلّ من دخل فيه فهو آمن و ان لم يكن ملتجيا و لائذا بل كان قد دخل لإتيان مناسك الحج و قد اتى بما هو سبب للحدّ، و هذا من مزايا الحرم و خصائصه بالنسبة إلى سائر الأماكن فإنّ المراد ليس هو العقوبة التي لا تستحق لانّ كون الإنسان آمنا بالنسبة إليها شامل لكلّ الأماكن بلا فرق بين الحرم و غيره، و انّما يفرق بينهما في العقوبة المستحقّة لها يعني إذا اتى الإنسان بما يوجب الحدّ- بحيث لو كان في خارج الحرم لا قيم عليه ذلك- فإنّ حرمة الحرم تقتضي عدم إقامته عليه فلا يجوز عقوبة الداخل و ان لم يكن ملتجيا لانّ المناط هو حرمة الحرم فلا يجوز عقوبة من دخل هذا المأمن و امّا ذكر قيد الالتجاء في صحيحة هشام المذكورة آنفا ففيه انّه ليس في كلام الامام عليه السّلام بل هو من كلام الراوي، و هذا لا ينافي جريان الحكم في موضوع آخر أيضا كما إذا دخله و لم يكن ملتجيا و ذلك لما مرّ من

انّ المقصود احترام الحرم و لا فرق فيه بين الملتجئ و الناسك و غير ذلك، كما انّه لا فرق في العقوبة بين القتل و الرجم و الجلد و التعزير.

لا يقال: انّ مقتضى الاقتصار في الحكم المخالف للقاعدة على القدر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 394

المتيقّن، هو اختصاص الحكم بصورة الالتجاء، فإنّ القاعدة تقتضي عدم تأخير في الحدّ غاية الأمر انّ الدليل اقتضى خروج المجرم الملتجئ، فيقتصر على هذا المقدار، و عليه فالداخل لا للالتجاء يقام عليه الحدّ في الحرم [1].

لأنّا نقول: هذا خلاف مقتضى ظاهر الآية فإنّها تفيد انّ الحرم، حرم الأمن و محلّ الأمان و هذا بظاهره آب عن التخصيص بما إذا كان قد دخله لا للالتجاء حتّى يفيد انّه ليس أمنا له.

لا يقال: انّ هذا العموم قد خصّص قطعا لأنّه إذا دخل الحرم و جنى فيه فإنّه يقام عليه الحدّ فيه.

لأنّا نقول: لعلّ العامّ كان من أوّل الأمر منصرفا عمّن دخل الدار و جنى فيه، الا ترى انّه لو قيل: انّ دار العالم الفلاني محلّ أمن و أمان، فإنّه منصرف عمّن دخل دار هذا العالم ليقتله؟ و على الجملة فلا وجه للتقييد بالالتجاء أصلا بل الحكم لكلّ من دخل الحرم و ان لم يكن ملتجيا بل قد دخله للعبادة و لنسك الحج و العمرة مثلا.

فتحصّل انّه لا يجوز اقامة الحدّ على الداخل مطلقا خصوصا الملتجئ به ما دام فيه بل يضيّق عليه حتّى يخرج فاذا خرج يقام عليه الحدّ.

الخامس: انّ صريح صحيح هشام:

لا يطعم و لا يسقى و لا يكلّم و لا يبايع، كما انّ المحقّق قال: يضيّق عليه في المطعم و المشرب ليخرج، انتهى، و من المعلوم انّه إذا منع مطلقا و

بالكلّ عن الطعام و الشراب فهو ادعى لان يخرج و يستوفي منه الحدّ ممّا إذا اعطى الماء و الطعام قليلا، فكيف قال صاحب الجواهر بشرح عبارة الشرائع: بأن يقتصر على ما يسدّ به الرمق انتهى و لماذا أضاف ذلك و فسّر التضييق بإعطاء ما يسدّ به رمقه و دفع مقدار يسير من الماء و الغذاء اليه؟

هذا مضافا الى انّ مقتضى ذكر (لا يسقى و لا يطعم) عقيب ذكر عدم الحدّ انه لا يسقى و لا يطعم أصلا.

______________________________

[1] أورده هذا العبد و كذا الإشكال الآتي و قد أجاب دام ظله عنهما بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 395

أقول: انّ منعه عن الماء و الطعام مطلقا الى ان يموت خلاف كون البيت أمنا و ينافي انّ من دخله كان آمنا كما انّه خلاف المصلحة الملحوظة في المقام من اضطراره و إلجائه إلى الخروج فيقام عليه الحدّ.

هذا مضافا الى انه لا يجوز الاقدام على هلاك أحد و إتلافه بذنبه و ان كانت عقوبته القتل أو الرجم فإنّه لا بدّ من اجراء الحدّ عليه بالنحو المشروع و المنهاج المأثور لا مطلقا و لا يجوز قتله بالجوع و العطش.

السادس: انّه قد استشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه في شمول لفظ الجناية المذكورة في صحيح هشام، للزنا،

قال: و التعبير بالجناية في السؤال و شمولها لارتكاب الزنا لا يخلو عن النظر و ان كان الجواب مناسبا انتهى.

و فيه انّ ذكر الصحيحة في كلماتهم رضوان اللّٰه عليهم أجمعين عند البحث عن ارتكاب الزنا و الالتجاء في الحرم شاهد على انّهم بأجمعهم قد فهوا شمول الجناية لمثل الزنا و سائر موجبات الحدّ.

و السرّ في ذلك و وجهه هو انّ للجناية معنيين أحدهما إيجاد الجرح و إيصال الألم إلى بدن الإنسان كلّه أو بعضه و الأوّل جناية

النفس و الثاني جناية الطرف.

ثانيهما ذنب أخذ الإنسان بعقوبته، و الزنا و ان لم يشمله الجنابة بمعناها الأوّل لكنّها تشمله بمعناها الثاني.

هذا مضافا الى انّ الراوي أطلق الجناية و اجابه الإمام بأنّه لا يقام عليه الحدّ و هذا ظاهر في كون الموضوع هو ما له حدّ في الشرع و ليس المراد هو إيراد ما يعاقب المورد على مثله، و ليس هذا الّا لواحد من الوجهين فامّا ان تكون الجناية هو الذنب الذي له عقوبة و امّا انّه كان هناك قرينة على انّ مقصود السائل هو هذا و كان الامام عليه السّلام عالما بذلك.

السابع: انّ الضمير في قوله تعالى:

وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً، و ان كان يرجع الى البيت المذكور في الآية السابقة و هي قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ «1»، الّا انّ المراد بحسب الآثار هو مطلق

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية 97.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 396

الحرم.

نعم يستثني من الحكم المزبور و هو عدم جواز اقامة الحدّ في الحرم فيما إذا كان الجاني قد ارتكب الجرم في الحرم فإنّه يقام عليه الحدّ فيه و ذلك لانّه بنفسه قد هتك الحرم و ضاع حرمته و لم يراعها.

و تدل على ذلك صحيح هشام بن الحكم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام التي مرّ نقلها فان في آخرها: و ان جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحدّ في الحرم فإنّه لم ير للحرم حرمة.

الّا انّ في مرسل الصدوق ما ينافي ذلك، و إليك نصّه: قال الصادق عليه السّلام و لو انّ رجلا دخل الكعبة فبال فيها معاندا اخرج من الكعبة و من الحرم و ضربت عنقه «1».

فهذا يفيد انّه يخرج

الجاني من الحرم و يقام عليه الحدّ في خارجه مع انّه قد ارتكب الجناية في الحرم.

و قال صاحب الجواهر: و لعلّه الأحوط و الاولى.

و لكن الظاهر عندي خلاف ذلك، و ذلك لما مرّ من تصريح صحيح هشام بأنّ الجاني في الحرم يقام عليه الحدّ في نفس الحرم معلّلا بأنّه لم ير للرحم حرمة، و ليس لنا ما يدل على اعتبار إخراجه إلى خارج الحرم سوى هذا المرسل، و كيف يمكن رفع اليد عن الرواية الصحيحة برواية مرسلة لا يقوّيها شي ء سوى ما ذكره الصدوق بنفسه في مقدّمة كتابه- من لا يحضره الفقيه- بقوله: و لم اقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه بل قصدت إلى إيراد ما افتى به و احكم بصحّته و اعتقد فيه انّه حجّة فيما بيني و بين ربّى تقدّس ذكره و تعالت قدرته «2».

هذا مضافا الى انّه قدّس سرّه قد رجع عمّا وعد، و أورد في كتابه ما لا يعمل و لا يفتي به أيضا و على هذا فليس في قبال الخبر الصحيح الصّريح في

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 9 الباب 46 من مقدمات الطواف الحديث 3.

(2) من لا يحضره الفقيه الجلد 1 الصفحة 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 397

لزوم إخراجه إلى الخارج و اجراء الحد عليه في غير الحرم في مفروض المقام دليل حجّة يدلّ على إخراجه إلى خارج الحرم، فهنا يحدّ في نفس الحرم، و الاحتياط يقتضي ذلك.

حكم من جنى في حرم النبي أو الأئمة عليهم السّلام

ثم انّ ما ذكرناه كان بالنسبة إلى الحرم المعهود، و ما هو المتبادر من الحرم، المعهود بمكة المشرّفة فحينئذ تصل النوبة إلى البحث في انّه هل الحكم في حرم المدينة و حرم الأئمة عليهم السّلام أيضا

كذلك أم لا؟

قد الحق ابن حمزة خصوص حرم النبي الأعظم صلّى اللّٰه عليه و آله [1].

و عن شيخ الطائفة إلحاق حرم النبي و كذا الأئمة عليهم السّلام به [2] و حكى ذلك أيضا عن الحلّي.

و لكن خالف في ذلك الشهيد الثاني قدّس سرّه فقال في المسالك:

و الحق به بعضهم حرم النبي و الأئمة عليهم السّلام و هي مشاهدهم المشرّفة، و لم نقف له على مأخذ صالح انتهى. كما انّ صاحب الجواهر قال بعد نقل القولين: و لا دليل على شي ء منهما.

و نحن نقول انّ كلّ واحد من هذين العلمين قد تمسّك بالاحترام في قبال الآية الكريمة و الرواية الشريفة، فإذا كان الدليل الذي يتمسك به في عدم اقامة الحدّ على المحرم في الحرم هو الاحترام فهذه العلّة موجودة في ما نحن فيه و ذلك لانّ أخذ من دخل دارا من تلك الدار اهانة بصاحب البيت عرفا، و كانت العرب يعتبر ذلك أعظم اهانة بالنسبة اليه و لذا كان هاني بن عروة رحمة اللّٰه عليه الذي قد أجار مسلما و حماه و آواه في داره بذل له تمام النصرة و امتنع شديدا من تسليمه الى ابن زياد و اختار القتل على ذلك و قال لابن زياد: و اللّٰه لا آتيك بضيفي لتقتله ابدا، و لمّا قال له ابن زياد لتأتيّني به، قال: و اللّٰه لا آتيك به،

______________________________

[1] أقول: فإنّه عبّر بقوله: أو في الحرمين إذا التجأ إلى أحدهما.

[2] قال في النهاية: و لا يقام الحدّ أيضا على من التجأ إلى حرم اللّٰه و رسوله أو حرم أحد من الأئمة إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 398

و في رواية و اللّٰه لو انّه تحت قدميّ

ما رفعتهما عنه و لا أجيئك به.

و انّى أتذكر أنّ بيوت العلماء و منازلهم كانت مأمنا للملتجئين و الواردين حتّى انّ الحكّام و السلاطين كانوا يهمّون ذلك و يهتمّون به كما انّ حرم الامام الرضا عليه السّلام كان مأمنا للواردين و اللائذين و الملتجئين على مرّ الدهور و الأعصار الى ان جاء پهلوى الطاغوت و نقض هذا الأمان، بعد ان كان الأمر بحيث قد عرف بعض الشوارع و البيوت المتّصلة بالحرم الشريف بذلك العنوان و بقي له هذا العنوان و الاسم الى يومنا هذا.

و على الجملة فهذا الأمر عرفي دائر بين الأقوام، و العرف يرى إخراج أحد من دار دخل فيها و لجأ إليها اهانة بربّ البيت و قد امضى الشارع هذا الأمر العرفي و لم يردع عنه كما في حرم اللّٰه سبحانه، و من المعلوم انّ هذه العلّة و الخصوصيّة لا تختصّ بحرم اللّٰه بل هي جارية في حرم الرسول و الأئمة الطاهرين، و على هذا فالأحوط بل الأقوى عندنا مراعاة حرمة حرمهم و عدم التعرض لمن دخل تلك المشاهد الشريفة و المواقف الكريمة، و قد اتى بما أوجب الحدّ، الى ان يخرج منه.

لا يقال: انّ لازم ذلك هو إسراء الحكم المساجد و حرم أنباء أئمّة عليهم السّلام أيضا.

لأنّا نقول: انّ ما ذكرناه جار في كلّ حرم يوازن حرم اللّٰه سبحانه أو يقرب منه في الحرمة و التكريم كحرم المعصومين عليهم السّلام، فلا يجري في مطلق المشاهد المشرّفة و البقاع المقدّسة نعم هتك تلك المشاهد و الأماكن محرّم قطعا.

الترتيب في الحدود المجتمعة

قال المحقّق: إذا اجتمع الجلد و الرجم جلد أوّلا و كذا إذا اجتمعت حدود بُدئ بما لا يفوت معه الآخر.

أقول: إذا اجتمع على المكلّف حدّ

و تعزير أو حدّان فصاعدا و أمكن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 399

الجمع بحيث لا ينافي إجراء واحد اقامة الباقي فلا محالة يجمع بين الأمور اللازمة و يتخيّر المستوفى بين تقديم اىّ واحد و تأخيره، كما إذا وجب على أحد الجلد و القطع و التعزير، و امّا إذا لم يمكن الجمع مطلقا و ان أمكن الجمع في بعض الصور و بعبارة أخرى لو كان أحد الحدّين مثلا بحيث لو قدّم على الآخر ينتفي موضوع الآخر دون العكس فهناك يجب تقديم ما أمكن معه اجراء الباقي و ذلك كما إذا اجتمع حدّ السرقة و الجلد لحدّ الزنا غير المحصن، و الرجم أو القتل كزنا المحصن أو الزنا بالمحارم فإنّه لو قدم الرجم أو القتل لم يبق موضوع و مورد للقطع و الجلد، و لا عكس، فيجب تقديم الجلد و حدّ السرقة ثمّ الرجم أو القتل، و البدأة بما لا يفوت معه الباقي.

و الدليل على ذلك أولا القاعدة العقلية فإنّ إذا كان هناك تكليفان و أمكن العمل بهما و الجمع بينهما وجب ان يؤتى بكلّ واحد منهما عملا بالتكليفين المستقلين، و العقل لا يجوّز البدأة بما لا يبقى معه موضوع الآخر لانّه لا يجوز ازالة التكليف الإلهي فيقدّم الجلد كي يجمع بين التكليفين.

و ثانيا الاخبار الشريفة فقد وردت نصوص مستفيضة معتبرة تدلّ على ذلك ففي صحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: أيّما رجل اجتمعت عليه حدود فيها القتل يبدأ بالحدود التي هي دون القتل ثم يقتل بعد ذلك «1».

و عن عبيد بن زرارة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يؤخذ و عليه حدود أحدها القتل، قال: كان علىّ عليه السّلام

يقيم عليه الحدّ ثم يقتله و لا تخالف عليّا عليه السّلام «2».

و عن محمّد بن مسلم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يؤخذ و عليه حدود أحدها القتل، فقال: كان علىّ عليه السّلام يقيم عليه الحدود ثم يقتله و لا تخالف عليّا عليه السّلام «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 400

و عن حمّاد بن عثمان عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل يكون عليه الحدود منها القتل، قال: يبدأ بالحدود التي هي دون القتل و يقتل بعد «1».

و عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل اجتمعت عليه حدود فيها القتل، قال: يبدأ بالحدود التي هي دون القتل و يقتل بعد «2».

و عن سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في من قتل و شرب خمرا و سرق فأقام عليه الحدّ فجلده لشربه الخمر و قطع يده في سرقته و قتله بقتله «3».

و عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: أيّما رجل اجتمعت عليه حدود فيها القتل فإنّه يبدأ بالحدود التي دون القتل ثم يقتل «4».

و هنا بحث و هو انّه هل الأوامر في تلك النصوص مولويّة بحيث لو خولف الترتيب و قدّم القتل لما وقع الحدّ أصلا بل كان هو جناية صدرت من المجرى و يترتّب عليها الضمان و على الجملة فيكون المقام كصلوتي الظهر و العصر، حيث انّ صلاة العصر مترتّبة على صلاة الظهر، و لو قدّم صلاة

العصر لكانت باطلة، أو انّ الأوامر الواردة فيها إرشاديّة ترشد الى ما يحكم به العقل حيث انّه حاك بلزوم مراعاة كلا التكليفين مع الإمكان؟

و تظهر الثمرة فيما أشرنا إليه من انّه على الأوّل كان ما اتى به جناية و عصيانا للأمرين و ذلك لترك الأوّل رأسا مع إمكان الإتيان به و ترك الثاني لعدم الإتيان بشرائطه. و لم يتحقّق حدّ أصلا في حين انّه على الثاني كان ما صدر منه هو الحدّ غاية الأمر انّه قد انتفى بهذا الحدّ موضوع الآخر و يصدق انّه قد فعل ذلك و ترك الآخر و يعاقب على ترك الثاني.

و قد تقدّم مثل ذلك في إجراء الحدّ في غير اعتدال الهواء و انّ الكلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 5.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 7.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 401

يأول إلى وحدة المطلوب و تعدّده.

و الظاهر انّ المقام من قبيل تعدّد المطلوب و إرشاد العقل نظير قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ، حيث انّ العقل يحكم بذلك و ان لم يكن شرع فعند ما ورد في القرآن الكريم و على لسان اللّٰه تعالى يكون للإرشاد الى ما حكم به العقل، و يبعد جدّا ان يحصل الجزم بتعبّد زائد على ذلك في الأمر بتقديم الجلد على القتل أو الرجم.

نعم لو اشترطت العدالة أو القربة في المجرى فلا بدّ من ان يفرض البحث في ما إذا كان ناسيا مثلا و اتى بالمؤخّر أوّلا.

لا يقال:

انّه ينافي الإرشادية ما ورد في الرواية عن علىّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن رجل أخذ و عليه ثلاثة حدود: الخمر و الزنا و السرقة بأيّها يبدأ به من الحدود؟ قال: بحدّ الخمر ثم السرقة ثم الزنا [1].

لأنّا تقول: انّ ذكر الزنا في الآخر محمول- بقرينة سائر الروايات- على ما إذا كان مع الإحصان، و امّا تقديم الجلد للخمر على القطع للسرقة المستفاد من لفظة (ثم) فلا جل انّ تقديم القطع على الجلد قد يوجب تفويت الموضوع، و على الجملة فالاحتفاظ على إيقاع كلّ واحد من هذه الحدود يقتضي تقديم الجلد على القطع و القطع على الرجم أو القتل.

ثم انّه قد ظهر بما ذكرنا انّ هذا البحث غير البحث الذي تقدم مفصّلا من انّه هل يجب في مورد رجم الزاني جلده أيضا أو انّه يكتفى برجمه وحده فان الكلام في المقام في الموارد التي ثبت انّ حدّ المجرم هو الاثنان فصاعدا و بعد الفراغ عن تعدّد الحدّ فاذا وجب في مورد الجلد و الرجم مثلا فهناك يبحث في انّه اىّ واحد منهما يقدّم و أيّهما يؤخّر، في حين انّ الكلام في ذلك البحث في أصل التعدّد و عدمه.

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من مقدمات الحدود الحديث 3. و قد أورد الإشكال، هذا العبد و أجاب أدام اللّٰه بقاه بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 402

الكلام في توقع برء جلده و عدمه

اشارة

قال المحقّق: و هل يتوقّع برء جلده و عدمه؟ قيل نعم تأكيدا في الضرب و قيل: لا، لانّ القصد الإتلاف.

أقول: انّ في المسئلة أربعة أقوال: أحدها وجوب التأخير، ثانيها استحبابه، و اقتصر في الشرائع على نقل هذين، ثالثها المنع و

عدم جواز التأخير رابعها جواز التأخير بيوم لا أزيد فقد حكى عن الإسكافي القول بوجوب الجلد قبل الرجم بيوم.

و قد نسب الأوّل إلى الشيخين و ابن زهرة و ابن حمزة و ابن البرّاج و ابن سعيد، و استدلّ على ذلك بقولهم تأكيدا للضرب و الزجر.

توضيح ذلك انّ للجلد المين أحدهما الم إيقاع الضرب عليه، ثانيهما الألم الباقي في موضع الضرب إلى مدّة حتّى يبرأ، فإذا لم يتوقّع البرء في المقام فقد قلّ إيلامه و زجره فيجب تأخيره حتّى يذوق الالمين جميعا.

و نحن لا نعلم من أين استفادوا لزوم التأكيد في الزجر ا فهل كان هذا استنباطا من أصل تشريع الحدّ حيث انّه كان للايلام و أذاقه الألم له. فاستفيد من ذلك اعتبار إيذائه و إيراد الألم عليه حتّى بإمهاله بعد جلدة الى ان يبرأ ثم بعد ذلك يرجم أو يقتل، أو انّهم اعتمدوا في ذلك على الآية الكريمة و استندوا إليها حيث يقول الهّٰ سبحانه بعد الأمر بجلد الزانية و الزاني مأة جلدة:

و لا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّٰه ان كنتم تؤمنون باللّٰه و اليوم الآخر؟

و كيف كان فاستفادة هذا المطلب مشكل امّا على الأوّل فواضح و امّا على الثاني فقد وردت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير الآية انه قال: في إقامة الحدود «1» هكذا في تفسير الصافي عن التهذيب، و على هذا فالآية الكريمة غير متعلقة بهذا المطلب و لا ربط لها به بل المقصود منها ان لا تحمل الرأفة

______________________________

(1) التهذيب الجلد 10 الصفحة 150 وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 403

و الرحمة على ترك اجراء الحدود

المقرّرة، سلّمنا انّ الآية متعرّضة لما نحن بصدده لكنّها في مورد الزاني فكيف نقول بذلك في جميع الموارد و نحكم بوجوب تأخير القتل أو الرجم الى ان يبرأ؟

هذا مضافا الى انّه على ما ذكروه يلزم الحكم بعدم جواز مداواته ليبرأ و تندمل جراحاته و لا ان يدهن بدنه المجروح حتّى يذوق الم الجلد و الجراحة كليهما تأكيدا للزجر، و هذا في غاية البُعد.

و العمدة هو انّ هذا ينافي عدم التأخير المعتبر في إقامة حدود اللّٰه تعالى و قد عرفت مبلغ تأكيد الشارع و شدّة إصراره و اهتمامه على إيقاع الحدود سريعا و مضى انّه قد بلغ التأكيد في ذلك الى انّ المريض إذا لم يكن بحيث يبرأ عاجلا يضرب في حال مرضه بالضغث كي لا يؤخّر الحدّ.

و قد ظهر بما ذكرنا انّه لا وجه لاستحباب ذلك أيضا و كيف نقول باستحباب ما يؤل إلى التأخير في إجراء الحدّ بل الحق هو عدم جواز التأخير أصلا، و لو كان مستند القول بالاستحباب هو التأكيد في الزجر، ففيه ما ذكرناه على القول بالوجوب.

و امّا ما ذكره ابن الجنيد من القول بوجوب الجلد قبل الرجم بيوم فهو لأجل الخبر: انّ أمير المؤمنين عليه السّلام جلد شراحة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة «1».

و أورد عليه في الرياض بقوله: و هو شاذّ كالمنع عن التأخير بل لعلّه احداث قول ثالث لاتفاق الفتاوى على الظاهر على جوازه و ان اختلفوا في وجوبه و عدمه و على هذا فالتأخير لعلّه أحوط و ان لم يظهر للوجوب مستند عليه معتمد، نعم نسبه في السرائر إلى رواية الأصحاب انتهى.

أقول: انّ وجه عدم ظهور مستند يعتمد عليه في الحكم بوجوب التأخير واضح فقد مرّ

انّ اعتمادهم في ذلك على التأكيد على الزجر، و قد قدّمنا ما فيه و امّا الاستناد إلى رواية الأصحاب، فهو في حكم خبر مرسل بل لعلّه أدون من

______________________________

(1) راجع سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 220.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 404

المرسل و ذلك لانّه استظهر ذلك منهم، و أين هو من الاستناد الى الخبر مرسلا فهذا لا ينفعنا شيئا.

و امّا كون التأخير أحوط، ففيه انّه لو كان الأمر يدور بين الوجوب و الجواز لصحّ القول بانّ الاحتياط في الإتيان به رعاية لاحتمال الوجوب، و ليس هنا كذلك، و ذلك لاحتمال حرمة التأخير، فإنّ مقتضى أدلّة وجوب التسريع في الحدود هو عدم التأخير فيها أصلا، و على هذا فليس في التأخير احتياط، و ليست الفتاوى بحيث يطمئن ببلوغها حدّ الإجماع، فهذا هو المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه و قد افتى بوجوب التسريع و عدم تأخير الى ان يبرأ فقال في مجمع البرهان: يجوز بل يجب ان يقتل بعد ذلك بما لا يعدّ تأخيرا انتهى، و الأقوى بنظرنا أيضا هو هذا.

و امّا التأخير إلى يوم فلعلّه كان بنحو لا ينافي الفورية العرفيّة أو كان الحكم به لجهات خارجيّة.

تذكرة و تتميم

ثم انّه لو مات المحدود في أثناء الجلد يسقط عنه باقي الضربات كما يسقط عنه الرجم أيضا لفوات الموضوع و لا ضمان أصلا و ذلك للإتيان بما هو وظيفته من إيقاع الجلد قبل الرجم، بخلاف ما لو عكس الترتيب فقدّم الرجم فإنّه قد فوّت التكليف بالجلد بتقديم الرجم على الجلد و عصى بذلك، و امّا الضمان فهو موقوف على وحدة المطلوب و تعدّده فعلى الأوّل فهو ضامن و على الآخر فلا و لو شك في وحدة المطلوب

و تعدّده و شكّ في الضمان و عدمه فالأصل عدم الضمان.

كيفيّة وضع المرجوم حال رجمه

اشارة

قال المحقّق: و يدفن المرجوم الى حقويه و المرأة إلى صدرها.

أقول: انّ الكلام هنا في موارد، أحدها في اعتبار حفر الحفيرة و عدمه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 405

ثانيها في اعتبار الدفن و عدمه ثالثها في تعيين المقدار الذي يعتبر سترة أو دفنه في الحفيرة الى غير ذلك و قد اختلفت كلماتهم رضوان اللّٰه عليهم بالنسبة الى كلّ واحد من هذه الأمور [1].

و إليك قسما من كلماتهم: قال في المقنعة: تحفر له حفيرة إلى صدره ثم يرجم بعد ذلك و قال أيضا: و إذا وجب على المرأة رجم حفر لها بئر إلى صدرها كما يحفر للرجل ثم تدفن فيها الى وسطها و ترجم هذا إذا كان عليها شهود بالزنا و ان كانت مقرّة بلا شهود لم تدفن و نزلت كما ينزل الرجل إلخ.

و قال الصدوق في المقنع: و الرجم ان يحفر له حفيرة مقدار ما يقوم فيها فتكون بطوله الى عنقه فيرجم و يبدأ الشهود برجمه إلخ.

و قال سلّار في المراسم: و تحفر له حفيرة و يقام فيها الى صدره ثم يرجم و المرأة تقام الى وسطها. إلخ.

و في الغنية يحفر للمرجوم حفيرة يجعل فيها و يردّ التراب عليه الى صدره و لا يردّ التراب عليه ان كان رجمه بإقراره.

قد مضى انّ المحقّق قال بدفن المرجوم، و هو ردّ التراب عليه بعد وضعه في الحفيرة.

و حيث انّ الأصل في ذلك هو الاخبار فاللازم هو المراجعة إليها و النظر فيها و الاستظهار منها.

فعن ابى بصير قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: تدفن المرأة إلى وسطها إذا أرادوا أن يرجموها و يرمى

الإمام ثم يرمى الناس بعد بأحجار صغار «1».

و عن سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: تدفن المرأة إلى وسطها ثم يرمى الامام و يرمى الناس بأحجار صغار و لا يدفن الرجل إذا رجم الّا الى

______________________________

[1] لم يكن في الكلمات التي نقلها دام ظله العالي ما يدلّ على وجود قول بعدم الحفر أو الترديد فيه لكن كلام الشهيد الثاني في المسالك ظاهر في الترديد في ذلك و أظهر منه في ذلك كلام الأردبيلي فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 406

حقويه «1».

و عن أحمد بن محمّد بن خالد رفعه الى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أتاه رجل بالكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني، ثم ذكر انّه أقرّ أربع مرات- الى ان قال- فأخرجه إلى الجبّان فقال: يا أمير المؤمنين أنظرني أصلّي ركعتين ثم وضعه في حفرته. فأخذ حجرا فكبّر اربع تكبيرات ثم رماه بثلاثة أحجار في كلّ حجر ثلاث تكبيرات ثم رماه الحسن عليه السّلام مثل ما رماه أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ رماه الحسين عليه السّلام فمات الرجل فأخرجه أمير المؤمنين عليه السّلام فأمر فحفر له و صلّى عليه و دفنه «2».

و عن الحسين بن خالد قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن المحصن إذا هو هرب من الحفيرة هل يردّ حتّى يقام عليه الحدّ؟ فقال:

يردّ و لا يردّ، فقلت: و كيف ذاك؟ فقال: ان كان هو المقرّ على نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شي ء من الحجارة لم يردّ و ان كان انّما قامت عليه البيّنة و هو يجحد ثم هرب ردّ و

هو صاغر حتّى يقام عليه الحدّ و ذلك انّ ماعز بن مالك أقرّ عند رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بالزنا فأمر به ان يرجم فهرب من الحفرة فرماه الزبير بن العوام بساق بعير فعقله فسقط فلحقه الناس فقتلوه ثم أخبروا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بذلك فقال لهم: فهلّا تركتموه إذا هرب يذهب فإنّما هو الذي أقرّ على نفسه «3».

و عن ابى العبّاس قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: اتى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله رجل فقال: انّى زنيت فصرف النبي صلّى اللّٰه عليه و آله وجهه عنه. فأقرّ على نفسه الرابعة، فأمر به رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ان يرجم فحفروا له حفيرة فلمّا ان وجد مسّ الحجارة خرج يشتدّ فلقيه الزبير فرماه بساق

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزّنا الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من حدّ الزنا الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 407

بعير «1».

و عن ابى بصير و غيره عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: قلت له: المرجوم يفرّ من الحفيرة فيطلب؟ قال: لا و لا يعرض له ان كان اصابه حجر واحد لم يطلب فان هرب قبل ان تصيبه الحجارة ردّ حتّى يصيبه الم العذاب «2».

و عن ابى مريم عن ابى جعفر عليه السّلام قال: أتت امرأة أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: انّى قد فجرت فاعرض بوجهه عنها. ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا و أدخلها الحفيرة إلى الحقو و موضع

الثديين و أغلق باب الرحبة و رماها بحجر «3».

الى غير ذلك من الروايات و هي متّفقة في اعتبار إدخاله في الحفيرة و فيها ما هو الصحيح كرواية أبي مريم، و الموثّق كخبر سماعة، و لو كان كلّها ضعيفا فأيضا يعمل به و ذلك لانّه المشهور بينهم كما صرّح بذلك في الجواهر.

نعم بعض الاخبار ساكتة عن ذكر ذلك لكنّه ليس في مقام البيان من هذا الجهة و لم يرد فيها التصريح بالعدم حتّى يحصل التعارض سوى ما عن ابى سعيد الخدري في قصّة ماعز: أمرنا رسول اللّٰه (ص) برجمه فانطلقنا به الى بقيع الغرقد فما اوثقناه و لا حفرنا له حفيرة و رميناه بالعظام و المدر و الخزف.

لكن الرواية عامية منقولة عن سنن البيهقي فلا تقاوم تلك الروايات العديدة الدالة على ذلك، و هكذا ما نقلوه من انّ النبي (ص) حفر للعامرية و لم يحفر للجهنيّة.

هذا مضافا الى انّ قصّة ماعز منقولة بطرقنا أيضا و قد ذكر فيها انّه حفر له فراجع رواية حسين بن خالد المنقولة آنفا.

نعم قد يستشكل في دلالة الروايات لكونها متضمّنة للجملة الخبريّة بدل الأمر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من حدّ الزنا الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 408

و فيه انّ الجملة الخبريّة أيضا تدلّ على الوجوب كالأمر بل أنّها أظهر في إفادة الوجوب و ذلك لانّ من يأتي بالجملة الخبريّة يرى القضيّة محقّقة الوقوع و كأنّه يخبر عن أمر سيقع و لا يحتمل الخلاف في حين انّ الأمر لا يدلّ على أزيد من طلب

الفعل و لا فرق فيما ذكرنا بين المضارع المعلوم و المضارع المجهول فكما انّ المضارع المعلوم يدلّ على الوجوب كذلك المجهول منه.

هذا كلّه مضافا الى ما دل على الوجوب من التأسي بفعل النبي و الوصيّ صلوات اللّٰه عليهما و آلهما.

و ما نقلوه من عدم الحفر للجهنية، أو عدم الحفر لماعز فمضافا الى ما مرّ، أنهما حكاية فعل في بعض الاحايين و هو ليس بحجّة و لو فرض ظهور الفعل في عدم الوجوب فهذا لا يقاوم ظهور القول في الوجوب و ذلك لانّ وجه الفعل ليس بمعلوم لنا، و لا مكان طروّ العارض الحامل على عدم الحفر.

و مع ذلك كلّه لو شك في اعتبار الحفر فلا شكّ في حسنه و انّما البحث في الوجوب و الاستحباب و من المعلوم انّ الوظيفة حينئذ مراعاة ذلك، و على الجملة فوجوب حفر الحفيرة أحوط لو لم يكن أقوى.

فتحصّل انّ ما ذكره المشهور هو الصحيح فيلزم الحفيرة و امّا القول بعدم اعتبارها فهو شاذ و لعلّ القائل حمل هذه الاخبار على الاستحباب و الّا فلا دليل عليه ظاهرا هذا بالنسبة إلى اعتبار حفر الحفيرة و وجوب ذلك.

و امّا الدفن فقد عبّر بذلك بعض الفقهاء كما رأيت ذلك في عبارة المحقّق و هو مذكور في قسم من الروايات أيضا و قد تقدّم ذلك قريبا.

و غير خاف انّ الدفن بمعناه المعهود المذكور في باب الأموات هو المواراة في الأرض بحث يختفى المدفون عن تناول يد الغير و رؤيته، و هذا المعنى غير مناسب للمقام الذي يجب الرجم و الرمي فإنّ دفنه كالميّت ينافي الرجم، و الدفن بذاك المعنى مذكور في بعض الروايات بالنسبة الى ما بعد موته كما في مرفوعة أحمد بن

محمد بن خالد حيث قال فيها: فمات الرجل فأخرجه أمير المؤمنين عليه السّلام فأمر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 409

فحفر له و صلّى عليه و دفنه «1».

و يشهد لما ذكرناه ما رواه محمّد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

الذي يجب عليه الرجم يرجم من ورائه و لا يرجم من وجهه لانّ الرجم و الضرب لا يصيبان الوجه و انّما يضربان على الجسد على الأعضاء كلّها «2».

و ذلك لأنّه إذا دفن في الأرض خصوصا لو كان بحيث دفن الى ثدييه أو منكبيه فلم يبق من جسده حتّى يقال: انّما يضربان على الجسد على الأعضاء كلّها، فلا بدّ ان يكون المراد من الدفن و الستر هو نفس الستر في الأرض.

و الإنصاف انّ إثبات إرادة مجرّد الستر في الحفيرة مشكل، و الظاهر انّ المراد من دفن المرجوم الوارد في الروايات هو مواراته الى الموضع المعتبر، في الحفيرة ردّ التراب عليه.

و امّا قوله عليه السّلام في رواية محمد بن مسلم: و انّما يضربان على الجسد على الأعضاء كلّها، فلا ينافي ما ذكرناه و ذلك لانّ الضرب على الأعضاء كلّها، كان قد وقع عقيب قوله: لا يصيبان الوجه و يؤكّد عدم وقوع الضرب على الوجه و الرأس لا ان يكون العناية على وقوع الضرب على كلّ موضع موضع من جسده.

و امّا منافاة الدفن بهذا المعنى للفرار الذي يكون في من ثبت زناه بالإقرار موجبا لتخلية سبيله. ففيه انّ ردّ التراب و طمّه لا ينافي الفرار باعمال شدة و قوّة و لا يجب تسهيل سبيل الفرار على المحكوم بالرجم و انّما المسلّم هو انّه لو فرّ يترك بحاله و يخلّى سبيله لا أزيد من ذلك و

لا أكثر.

و امّا الحد و المقدار الذي ينزل و يجعل من المرجوم في الحفيرة فالأخبار المتعرّضة لذلك مختلفة منها ما اقتصر فيه على ذكر دفن المرأة إلى وسطها و ذلك كرواية أبي بصير، و لا تعرّض فيها للرجل أصلا، و منها ما يدل على انّه تدفن المرأة إلى وسطها و لا يدفن الرجل الّا الى الحقوين و ذلك كرواية سماعة، و منها ما ورد في فعل أمير المؤمنين عليه السّلام من انّه دفن المرأة المقرّة بالزنا الى الحقوين

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من أبواب حدّ الزنا الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 410

كرواية صالح بن ميثم، و منها ما يقول بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أدخل المرأة التي ثبت عليها الرجم في الحفرة إلى الحقو و موضع الثديين.

و الحقو هو معقد الإزار و امّا الوسط فلا يخلو المراد منه عن إجمال، و مقتضى مقابلة الوسط في المرأة في موثّق سماعة، الحقوين في الرجل هو ان يكون الوسط ما يقرب الثديين مثلا و الّا فلا وجه للتفصيل المزبور، و هذا ينافي ما ورد في رواية صالح من دفن المرأة المقرّة الى الحقوين كما انّ رواية أبي مريم لا تساعد شيئا من الروايات لانّ المعتبر بحسبها دفن المرأة إلى الحقو و موضع الثديين فاذا كان (الى) لانتهاء الغاية و كانت الغاية الحقو فما وجه ذكر موضع الثديين- مع انّه لو كان المعتبر هو موضع الثديين فالحقو داخل لا محالة و لا ينفك عند ابدا بخلاف العكس-؟

و يمكن ان يكون المقصود هو ستر كلّ هذه المواضع الى موضع الثديين و

ان كان ذلك خلاف الظاهر، و على الجملة فلو كان الملاك هو موضع الثديين فيمكن الجمع بين هذا و بين ما دلّ على الدفن الى الوسط ان كان المراد من الوسط هو ما يحاذي الصدر، و لو أريد منه ما يحاذي موضع الإزار فهو يساعد رواية صالح الدّالة على دفنها الى الحقوين لكن لا يساعد ما دلّ على وجوب دفنها الى موضع الثديين.

اللهمّ الّا ان يقال: انّ الحدّ الأقلّ هو الى الحقوين و الأكمل هو الى الصدر و الثديين، و الوسط هو الوسط بينهما.

و قد حكى صاحب الجواهر رواية أبي مريم، بلفظ: دون موضع الثديين، بدل: موضع الثديين، بل هكذا كانت في بعض السنخ الأصليّة الروائية [1] و هذا يسهلّ الأمر و يرفع الاشكال، و ان كان يبقى الإشكال بأنّه لا يساعد ما ورد من اعتبار الصدر في المرأة.

و كيف كان فالظاهر هو ما افاده المشهور من لزوم دفن المرجوم الى حقويه ان كان رجلا، و الى الصدر ان كان امرأة، كما هو مقتضى قوله عليه السّلام في موثق

______________________________

[1] أقول: لكن في نسخة الفقيه المطبوعة جديدا: و موضع الثديين، فراجع الجلد 4 الصفحة 30.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 411

سماعة: تدفن المرأة إلى وسطها ثم يرمى الامام. و لا يدفن الرجل إذا رجم الّا الى حقويه، و ما ورد من انّه صلّى اللّٰه عليه و آله حفر للعامريّة الى الصدر و انّه صلوات اللّٰه عليه رجم امرأة فحفر لها الى الثندوة، فان الثندوة هو موضع الثدي، الى غير ذلك من الروايات.

بقي في المقام أمران

أحدهما انّ المحقّق لم يتعرّض للحفر أصلا و انّما اقتصر على قوله:

و يدفن المرجوم، و أضاف في الجواهر قبل ذلك، قوله:

و يجب ان.» حتّى يفيد انه و لو فرض استظهارهم- كالشهيد الثاني- عدم الوجوب، فهو بنفسه استظهر الوجوب و يقول بذلك.

ثم استدلّ على وجوب الدفن بقوله: للأمر بالحفر له في جملة من النصوص المعتبرة إلخ.

و نحن نقول: هل المراد منه انّه إذا وجب الحفر وجب الدفن أيضا ففيه انّه لا ملازمة لإمكان أن يجعل في الحفيرة بدون الدفن اى ردّ التراب و طمّه، هذا مضافا الى عدم ورود الأمر بالحفر في هذه الروايات حتّى بلفظ المضارع بل هي متعرّضة للدفن فقط نعم ورد في ثلاثة من الروايات انّه صلوات اللّٰه عليه أمران يحفر له حفيرة، فلو كان نظره من وجوب الدفن الى هذه الروايات ففيه ما ذكرناه من عدم الملازمة.

نعم يمكن التمسك بالسيرة في موارد الرجم فإنهم صلوات اللّٰه عليهم كانوا يحفرون و يدفنون المرجوم في الحفيرة.

و كيف كان فلو لم يكن الروايات صريحة في الوجوب فلا أقلّ من انّ الاحتياط هو الحفر و الدفن.

ثانيهما انّه هل الحفر و الدفن واجبان مستقلّان أو انّهما شرطان في الحدّ؟ الظاهر هو الأوّل، و استفادة الشرطية مشكلة جدّا، و على هذا فلو وقع الرجم بدون ذلك فقد تحقّق أمر الرجم و صحّ، و الّا لكان اللازم التعرّض له

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 412

و التصريح به في النصوص و الكلمات، و التنصيص على انّ الرجم بدونهما ليس برجم شرعي بل هو قتل و جناية، فعدم التعرض و التصريح يدلّنا على انّ هذين الأمرين من قبيل الواجب في الواجب لا من قبيل القيد و الشرط.

حكم فرار المحكوم بالرجم عن الحفيرة

اشارة

قال المحقّق: فان فرّ أعيد ان ثبت زناه بالبيّنة، و لو ثبت بالإقرار لم يعد و قيل ان فرّ قبل اصابته

بالحجارة أعيد.

أقول: امّا الحكم الأوّل و هو انّه إذا فرّ المرجوم عن الحفيرة أعيد ليتمّ رجمه ان كان زناه قد ثبت بالشهود، فتدلّ عليه أمور: الأصل و الإجماع و النصوص.

و المراد من الأصل هو أصالة عدم سقوط الرجم الثابت بثبوت موجبه، بفراره من الحفيرة، فإذا دلّ الدليل على وجوب الرجم و شكّ في انّ الفرار مسقط له أم لا فالأصل هو العدم و بقاء ما ثبت عليه من الحدّ.

و وجه ذكر الأصل مع وجود النصوص في المسئلة هو انّه لو لم يتم الاستدلال بها عند أحد و سقطت عن حدّ الاعتبار و صلاحية الاستدلال و وصلت النوبة الى الأصل كان مقتضاه ما ذكره.

و امّا الإجماع ففي الجواهر: لا خلاف أجده فيه انتهى و في كشف اللثام- بعد قول العلّامة: فإن فرّ أحدهما أعيد ان ثبت الزنا بالبيّنة-: إجماعا كما هو الظاهر انتهى و في الرياض: فان فرّ أحدهما من الحفيرة أعيد إليها ان ثبت الموجب لرجمها بالبيّنة بلا خلاف أجده فيه بل عليه الإجماع في عبائر جماعة و هو الحجّة إلخ.

و امّا النصوص فهي الأخبار الآتية الصريحة في ذلك.

و امّا لو ثبت زناه بالإقرار و فرّ عند رجمه من الحفيرة فإنّه لا يعاد إليها بل يخلّى و سبيله و يترك بحاله مطلقا على ما ذهب اليه المفيد و الحلّي و سلّار و ابنا سعيد بل المشهور أو بشرط اصابة الحجر له لا مطلقا على ما ذهب اليه الشيخ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 413

في النهاية و ابن حمزة في الوسيلة.

قال الأوّل: إذا أراد الامام ان يرجمه فان كان الذي وجب عليه ذلك قد قامت عليه به بيّنة أمر بأن يحفر له حفيرة

و دفن فيها الى حقويه ثم يرجم و المرأة مثل ذلك تدفن الى صدرها ثم ترجم فان فرّ واحد منهما من الحفيرة ردّ حتّى يستوفي منه الحدّ بالرجم و ان كان الرجم وجب عليهما بإقرار منهما على أنفسهما فعل بهما مثل ذلك غير انّه إذا فرّا و كان قد أصابهما شي ء من الحجر لم يردّا انتهى «1».

و قال ابن حمزة عند بيان حدّ الرجم: فان فرّ بعد ما مسّته الحجارة لم يرد انتهى و قال بعد ذلك عند بيان ما إذا ثبت عليه الحدّ بالبيّنة: فإن فرّ ردّ على كلّ حال «2».

و الحاصل انّ في المقام مذهبين أحدهما انّ مع إثبات الرجم بالإقرار لا يعاد إلى الحفيرة إن فرّ منها مطلقا ثانيهما انّه فرّ بعد إصابة الحجارة لم يعد و ان فرّ قبل ذلك يعاد و يستوفي منه الحدّ.

و اختار المحقّق و صاحب الجواهر أيضا القول الأوّل.

و قد استدل على ذلك بأمور أحدها: مرسل الصدوق و سيأتي ذكره ثانيها: مفهوم التعليل في خبر حسين بن خالد الآتي ذكره أيضا: «فإنّما هو الذي أقرّ على نفسه» يعنى انّه يخلّى سبيله إذا فرّ لانّه قد أقرّ فإنّ مفهومه: ان من لم يقرّ بل قامت عليه البيّنة فإنّه يرد و قد يؤيّد ذلك بانّ الفرار بمنزلة الرجوع عن الإقرار الذي لا يرجم معه.

ثالثها: الشبهة و درء الحدّ بها.

رابعها: الاحتياط في الدماء.

و امّا المرسل فهذا: محمّد بن علىّ بن الحسين، قال: سئل الصادق عليه السّلام عن المرجوم يفرّ، قال: ان كان أقرّ على نفسه فلا يردّ و ان كان شهد

______________________________

(1) النهاية الصفحة 699.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة الصفحة 412.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 414

عليه الشهود

يردّ «1».

و مقتضاه انه إذا ثبت الموجب بالإقرار فلا يردّ المرجوم مطلقا سواء قد اصابه من الحجارة شي ء أم لا.

و استدلّ للقول الثاني برواية أبي بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام: انّه ان كان اصابه الم الحجارة فلا يردّ و ان لم يكن اصابه الم الحجارة ردّ «2».

و مقتضى ظاهر هذه انّ الفارق هو الإصابة و عدمها مطلقا فمن أصابته الحجارة لا يردّ إلى الحفيرة سواء ثبت الموجب للرجم بالبيّنة أو بالإقرار، و من لم تصبه يردّ كذلك. و لا تختصّ- بظاهرها- بما إذا أثبت الموجب بالإقرار، و النسبة بينهما هو العموم من وجه. و يجتمعان فيما إذا ثبت الموج بإقرار و لم تصبه الحجارة فإنّ مقتضى المرسل هو عدم الردّ و مقتضى خبر ابى بصير وجوب ردّه.

و في قبال هاتين ما قد جمع بين الإقرار و الإصابة و هو خبر حسين بن خالد قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن المحصن إذا هو هرب من الحفيرة هل يردّ حتّى يقام عليه الحدّ؟ فقال: يردّ و لا يردّ، فقلت: و كيف ذاك؟ فقال: ان كان هو المقرّ على نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شي ء من الحجارة لم يردّ، و ان كان انّما قامت عليه البيّنة و هو يجحد ثم هرب ردّ و هو صاغر حتّى يقام عليه الحدّ و ذلك انّ ماعز بن مالك أقرّ عند رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بالزنا فأمر به ان يرجم فهرب من الحفرة فرماه الزبير بن العوام بساق بعير فعقله فسقط فلحقه الناس فقتلوه ثم أخبروا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله بذلك فقال لهم: فهلّا تركتموه إذا هرب يذهب فإنّما

هو الذي أقرّ على نفسه و قال لهم: اما لو كان علىّ حاضرا معكم لما ضللتم قال: و ودّاه رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله من بيت مال المسلمين «3».

فحينئذ امّا ان يقال بتعارض الخبرين السابقين و تساقطهما فيرجع الى

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 5.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 15 من أبواب حدّ الزّنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 415

رواية حسين بن خالد الناطقة باعتبار كلا الأمرين في عدم جواز الردّ إلى الحفيرة.

و امّا ان يقال بأنّه يلاحظ واحد منهما مع الخاص المشتمل لكلا القيدين و حيث انّ النسبة العموم المطلق فيخصّص العام ثم يلاحظ هذا المقيّد و المخصّص الى العام الآخر فيكون النسبة العموم المطلق فيخصّص العام بالخاص لانقلاب النسبة لكن هذا هو الذي حكاه الشيخ المرتضى قدّس سرّه عن بعض و لم يرتضه و ليس هو المنهاج الدائر بينهم بل البناء على ملاحظة النسبة بينهما و بالنسبة إلى الخاص و النتيجة انّ بين الدليلين الأولين بنفسهما عموما من وجه و بين كلّ واحد منهما مع الثالث أي رواية ابن خالد العموم المطلق و يؤل إلى انّه لو قيل بالتساقط عند تعارض الدليلين فيرجع الى رواية ابن خالد و يحكم باعتبار كلا الأمرين معا و انّه مع انتفاء اى واحد من القيدين ينتفي الحكم بعدم الردّ و على الجملة فهذا كلّه على القول بالتعارض.

و يمكن ان يجمع بين الروايتين بتقييد إطلاق كلّ منهما بقيد الآخر فتتوافقان مع رواية ابن خالد و لعلّه هو الأحسن.

كما يمكن ان يقال بأن

رواية ابن خالد شاهد للجمع بين المرسلة و رواية أبي بصير.

نعم يمكن الإشكال في رواية ابن خالد بتعارض الصدر و الذيل و ذلك لانّ الصدر يفيد انّ المسقط للرجم بعد الفرار هو كون الموجب قد ثبت بالإقرار مع كون الفرار بعد الإصابة و الحال انّ التعليل الوارد في الذيل و هو قوله صلوات اللّٰه عليه و آله: «فإنما هو الذي أقرّ على نفسه» ظاهر في انّ المسقط هو مجرّد كون الموجب الإقرار.

مع صاحب الجواهر في مناقشاته

ثم انّ صاحب الجواهر قد ناقش أوّلا في القول الأوّل فقال بعد ذكر القول الثاني و الاستدلال عليه،: بل قد يناقش في الأوّل بمنع كون الهرب بمنزلة الرجوع في ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 416

أقول: انّ من جملة ما تمسّك به للقول الأوّل كما تقدّم هو انّ الفرار بمنزلة الرجوع عن الإقرار- و معلوم انه مع الرجوع لا يرجم- و ذلك لانّ من هيّأ نفسه للتطهير عن المعصية بسبب الرجم فلو كان باقيا على إقراره فهو لا يفرّ طبعا عن الحفيرة بل يقوم و يثبت حتّى يجرى حدّ اللّٰه تعالى عليه كي يتطهّر من دنس المعصية.

فناقش رحمة اللّٰه عليه في ذلك بان كون الفرار بمنزلة الرجوع في إسقاط الرجم عنه غير معلوم.

و ما أفاده في محلّه و ذلك لانّه يمكن ان يكون فراره للألم الشديد الذي لا يتحمّله فعلا مع انّه قد أعدّ نفسه لتحمّله فليس هربه في معنى الرجوع.

و ناقش في الاستدلال بإطلاق المرسل باحتمال اختصاصه بصورة الفرار بعد الإصابة كما هو الظاهر في فرار من أقرّ على نفسه.

أقول: انّ هذه المناقشة لا تخلو عن كلام و ذلك لانّه لا وجه لرفع اليد عن ظاهره الذي هو الإطلاق و

الّا فكلّ المطلقات يمكن ان تحمل على شي ء مثل ذلك.

نعم لو كانت خصوصيّة اقتضت صرف المطلق عن إطلاقه لكان يتمّ ما ذكره و هو رحمه اللّٰه و ان ادّعى وجود هذه الخصوصيّة في المقام حيث تمسّك بما هو الظاهر من فرار من أقرّ على نفسه لكنها ليست بهذه المثابة أي بحيث يوجب صرف الإطلاق فلربّما يفرّ و لم يصبه شي ء من الحجارة أصلا فهذا لا ينفع الّا لمن جزم بقرينيّة هذه الجهة فهو يقول بانّ المراد من المرسل هو ما إذا أصابته الحجارة.

ثم تعرّض للتعليل الوارد في قصّة ماعز حيث اعترض رسول اللّٰه (ص) على انهم لحقوا ماعز و قتلوه بعد انّ فرّ من الحفيرة قائلًا: فإنّما هو الذي أقرّ على نفسه، فان الظاهر منه انّ الفرار هو الذي يوجب ان يترك بعد ان فرّ و هرب.

فردّ رحمة اللّٰه عليه بانّ هذا التعليل وارد في صورة الإصابة فلا يشمل غيرها و هو ما إذا هرب بلا اصابة. فقال: و ان كان العبرة بالعموم دون المورد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 417

بناءا على انّ صدر الرواية المعلّلة ظاهر في اعتبار الإصابة في عدم الإعادة إلى الحفيرة.

اى انّ العبرة بعموم الوارد لا بخصوص المورد ففيما نحن فيه العبرة بحسب القاعدة بالفرار بعد ان كان الموجب للرجم هو الإقرار و لا اعتبار بخصوصيّة المورد هو انّ ماعز كان قد هرب مع اصابة الحجر الّا انّه لا يعتبر ذلك في المقام بل الأمر بالعكس، و العبرة بخصوص المورد فيلاحظ الإصابة و ذلك لمراعاة صدر الخبر الدّال بظاهره على اعتبار الإصابة و هو قوله عليه السّلام: إذا كان هو المقرّ على نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد

ما يصيبه شي ء من الحجارة، قال: فمفهومه في ذيله معارض بمفهوم الشرط أو القيد في صدره فيتساقطان لو لم يكن الأوّل صارفا للثاني و مخصّصا له بمورده فلا حجّة فيهما.

يعنى انّ مفهوم الذيل كفاية مجرّد الإقرار في الحكم بعدم الردّ إلى الحفيرة، و هو معارض بمفهوم الصدر و هو امّا مفهوم الشرط بلحاظ (إذا) الشرطية، أو مفهوم القيد بلحاظ ذكر لفظة: بعد ما يصيبه، الذي يعتبر حالا في المقام، و كيف كان فهذا المفهوم يفيد اعتبار الإصابة أيضا فيتعارضان و يتساقطان- ان لم يكن مفهوم الصدر موجبا لصرف الذيل عن ظاهره و محضّصا له بمورده الذي كان مع الإصابة- و على هذا فلا حجيّة لا في هذا و لا في ذاك.

أقول: انّ الامام عليه السّلام قد ذكر الإصابة و قيّد الإقرار بها بلا ترديد ثم استدلّ عليه السّلام بقصّة ماعز و ما فعله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فيها و ما قاله، فلو لا انه كان تعليله صلّى اللّٰه عليه و آله مقيّدا بهذا القيد لما صحّ التمسك و الاستدلال بقصّة ماعز و فعل رسول اللّٰه و قوله: فهذه قرينة على انّ الإصابة كانت معتبرة في الذيل أيضا- الّا انّ الامام عليه السّلام لم يذكر ذلك و اقتصر على مجرّد ذكر الإقرار- و ذلك لعدم صحّة الاستدلال بالأعمّ للأخصّ، فيعلم انّ قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: انّما هو الذي أقرّ على نفسه،، معناه انّ من اصابته الحجارة قد أقرّ على نفسه،، فيدلّ على دخل كلّ من الإقرار و الإصابة في عدم الردّ إلى الحفيرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 418

و على هذا فليست هذه الرواية لا صدرا و لا ذيلا

دليلا على كفاية مجرّد الإقرار بل تدلّ على عدمها بدون الإصابة.

نعم يبقى ان يدعى كون هذا القيد المذكور في الصدر واردا مورد الغالب و عليه فلا مفهوم له كما في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1»، قال صاحب الجواهر: و الذب عن مفهوم الشرط و ان كان ممكنا بدعوى ورود القيد مورد الغالب كما عرفته الّا انّ في بعض النصوص ما يدلّ على اعتبار مفهومه هنا كالمرسل في الفقيه بغير واحد المحتمل للصحّة عند بعض إلخ.

أقول: انّ المرسل الذي أشار إليه هذا: عن صفوان عن غير واحد عن ابى بصير عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام انه ان كان اصابه الم الحجارة فلا يردّ و ان لم يكن اصابه الم الحجارة ردّ «2».

ترى انّ الصدوق عليه الرحمة نقل عن صفوان و هو عن اشخاص كثيرين و لربما كان بعضهم ممّن تصحّ روايته و يؤخذ بها و قد تمسّك قدّس سرّه بمرسل الصدوق الصريح في المفهوم- حيث صرّح بأنّه إذا لم يكن اصابه ردّ- لإثبات انّ القيد في رواية حسين بن خالد ليس واردا مورد الغالب بل هو لإفادة المفهوم.

هذا و لكن لا يخفى انّ القيد و ان كان بحسب طبعه واردا مورد الغالب لكنّه إذا وقع تلو الشرط فلا محالة يفيد المفهوم، فاذا قال: و ربائبكم إذا كانت في حجوركم، فإنّه تختصّ و تقيّد بهذا القيد، و ما نحن فيه كذلك لوقوع قيد الإصابة عقيب إذا الشرطيّة و على هذا فنفس رواية ابن خالد تدلّ على الاشتراط.

قال: و فيه انّ ضعف الخبرين المزبورين مع عدم الجابر يمنع من العمل بهما في تقييد المرسل السابق المنجبر بهما.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 23.

(2) وسائل الشيعة الجلد

18 الباب 15 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 419

يعنى انّ رواية حسين بن خالد صعيفة لانّه مجهول و مرسل الصدوق عن صفوان عن غير واحد، ضعيف للإرسال، و لا جابر لهما فلا يصلحان لتقييد المرسل السابق الدّال على كفاية مجرّد الإقرار في ان لا يردّ إلى الحفيرة، و هو منجبر بهما.

قال: و دعوى اختصاصه بصورة الفرار بعد الإصابة لأنّه الظاهر واضحة المنع كدعوى انّ مقتضى الأصل بقاء الحدّ، فينبغي الاقتصار في إسقاطه على القدر المتيقّن سقوطه منه بالنص و الإجماع و هو الزائد عن الم الحجارة و يمكن ان يجبر به قصور السند إلخ.

اى انّ دعوى اختصاص المرسل- الذي دلّ على كفاية الإقرار في الإعادة- بما إذا كان فراره بعد الإصابة حيث انّ الظاهر ذلك، واضحة المنع كدعوى انّ مقتضى الأصل بقاء الحدّ، و يقتصر في إسقاطه على القدر المتيقّن سقوطه بالنص و الإجماع و هو ما إذا أصابته الحجارة فحينئذ لا يردّ فإنه المتيقن من مورد عدم الردّ فلا يعاد للزائد عن الم الحجارة التي اصابته، و لعلّ كونه متيقّنا يكون جابرا لقصور السند في خبر حسين و ابى بصير الدّالين على اعتبار الإصابة.

ثم قال: ضرورة انقطاع الأصل بالمرسل المنجبر بالعمل الذي لا أقلّ من ان يكون موجبا للتردّد كما هو ظاهر السرائر و التحرير و الصيمري و مقتضاه عدم الإعادة درءا للحدّ بالشبهة ان لم نقل بعدم فائدتها بعد الأصل.

يعنى أنّ الأصل- أصل بقاء الحدّ- دليل حيث لا دليل و لمّا كان المرسل الدّالّ على كفاية الإقرار و عدم الحاجة الى الإصابة منجبرا بالشهرة كما سبق ذلك فالأصل يكون منقطعا بهذا المرسل المنجبر و لا

أقلّ من كون ذلك موجبا للتردّد كما يظهر ذلك- اى التردّد- من الأعلام المذكورين.

و الحاصل انه بالآخرة ذهب الى ما اختاره الشرائع من كفاية مجرّد الإقرار و عدم اعتبار الإصابة.

و نحن نقول: انّ ظاهر رواية حسين بن خالد هو اشتراط الإصابة و هي صحيحة عند بعض العلماء و منهم بعض المعاصرين أو موثقة و على هذا فمقتضى الأخذ بالخبر الصحيح أو الموثق الظاهر الدلالة هو اعتبار الإصابة في عدم الإعادة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 420

إلى الحفيرة.

و يؤيّد ذلك انّ المتيقّن هو هذا الفرد و لا خلاف في عدم اعادة من فرّ من الحفيرة بعد ان ثبت زناه بالإقرار و كان قد اصابه حجر من أحجار الرجم.

نعم من قال: بان حسين بن خالد مشترك و مردّد بين الثّقة و غيرها فلا يرد عليه ذلك. كما انّ القدر المتيقن يمكن ان يقرّر هنا بوجه آخر تكون نتيجته على خلاف ما تقدّم لأنّه إذا قيل انّ المتيقّن من المقيّد هو ما إذا ثبت الموجب بالإقرار و كان فراره بعد الإصابة فهذا الفرد خارج عن أدلّة الرجم قطعا.

و امّا إذا لوحظ انّ المتيقّن من مطلقات الرجم هو ما إذا كان قد أقرّ و لم يفرّ فهذا يفيد خلاف الأوّل لأنّه يستلزم اجراء الحدّ إذا أقرّ بالموجب لكنه قد فرّ من الحفيرة سواء اصابته الحجارة أم لا.

دفع توهّم

اشارة

لا يقال: انّ قوله عليه السّلام في رواية حسين بن خالد: و ان كان انّما قامت عليه البيّنة و هو يجحد ثم هرب ردّ و هو صاغر،، يفيد بمقتضى التقييد بالجحد انّه إذا قامت عليه البيّنة لكنّه لم يكن يجحد بل كان ساكتا مثلا لم يردّ.

لأنّا نقول: انّ ذكر

ذلك في الرواية من باب ذكر اجلى الفردين و أعلى المصداقين للمفهوم نظير ان يقال: انّ الماء القليل يتنجّس بالملاقاة ثم يقال:

اما ماء البحر فلا يتنجس ابدا، فليس المراد عدم انفعال خصوص ماء البحر و هكذا فيما نحن فيه قال عليه السّلام بانّ المقرّ يردّ بخلاف الذي قامت عليه البيّنة و هو جاحد فالمقصود هو غير المقرّ و انّما ذكر و أضاف قيد:،، و هو يجحد،، لتحقيق المطلب و ذكر أعلى فردي المفهوم، و امّا افادة إخراج صورة سكوته كي يكون مفهوم الجملة الأولى خصوص من يجحد فهو غير مراد و خلاف المتعارف في ذكر المفهوم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 421

فروع في المقام

ثم انّ هنا فروعا تعرّض لها صاحب الجواهر رحمه اللّٰه.

الأوّل قال: و كذا يسقط الحدّ عن الزاني الذي شهدوا على زناه بها قبلا أو أطلقوا للشبهة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 468

أقول: صورة المسئلة هي صورة أصل المسئلة المبحوث عنها آنفا الّا انّ الكلام هناك كان بالنسبة إلى المرأة و هنا بالنسبة الى الرجل، فاذا شهد أربعة بزنا رجل خاص بامرأة لكن شهدت أربعة نسوة أنّها بكر عقيب دعواها ذلك فإنّه لا يحدّ الزاني و ذلك لعين ما سبق و هو حصول الشبهة، و لا فرق بين ان يكونوا قد شهدوا بزناه بها قبلا أو أطلقوا في ذلك و لم يتعرّضوا لهذه الجهة أصلا كما لا يحدّ الشهود أيضا.

الثاني: و لو ثبت جبّ الرجل المشهود على زناه في زمان لا يمكن حدوث الجبّ بعده درئ الحدّ عنه و عن التي شهد انّه زنى بها و حدّ الشهود للفرية بتحقّق كذبهم.

و في هذا الفرع يدرء الحدّ عن المشهود عليه

بالزنا مطلقا دون الشهود امّا عدم حدّ المشهود عليه فلانّ الجبّ الذي يمتنع عادة حصوله في هذه المدّة موجبة للشبهة فلذا لا حدّ للزنا، و امّا حدّ الشهود فلظهور كذبهم و افترائهم فيما شهدوا به.

الثالث: و كذا يسقط الحدّ عنها لو شهدن النساء بأنّها رتقاء و لكن قيل: حدّ الشهود لعدم إمكان حدوث الرتق عادة.

أقول: إذا كانت رتقاء بحيث كان هناك مانع عن دخول الحشفة فشهادة الشهود بالزنا افتراء فلذا لا تحدّ المرأة، و امّا الشهود فقد قيل بأنّهم يحدّون و ذلك لانّه لا يمكن حدوث الرتق بحسب العادة فشهادتهم كذب و افتراء.

و أورد عليه في الجواهر بانّ غايته التعارض بين الشهادتين يعنى انّ غاية الأمر حصول التعارض بين شهادة الشهود بالزنا و شهادة النساء بكونها رتقاء فيتساقطان.

قال: و مثله القول في الجبّ.

و يرد عليه بالفرق بين المسئلة المبحوث عنها و مسئلة الجبّ و ذلك لانّه يحصل العلم نوعا بكونه مجبوبا حتّى للحاكم و يسهل الأمر هنا خصوصا لو قلنا بأنّ حرمة النظر تختص بالعورة دون محلّها لمن لم يكن له شي ء، في حين انّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 469

الأمر في الرتقاء ليس كذلك و على هذا فيحصل العلم للحاكم بالجبّ نوعا دون الرتق فليسا من واد واحد حتى يتساويا في الحكم.

ثم قال رحمه اللّٰه: نعم ان حصل العلم به أو بالرتق بالمعاينة أو شهادة عدد التواتر و كان المشهود به الزناء قبلا اتّجه حينئذ حدهم للفرية.

أقول: فالضابط الكلّي هو انّه لو شهدت الشهود بما ثبت للحاكم انّه افتراء عليه وجب عليهم الحدّ، و لو شهدوا بما لم يعلم ذلك منها و احتمل الصدق و الكذب سقط الحدّ عنهم للشبهة، و

ما ذكره من مصاديق هذا الضابط الكلّي الجامع.

في حكم فرار الزاني في وسط الجلد

ثم انّ ما مرّ كلّه كان حكم فرار المحكوم بالرجم، فلو فرّ المحكوم بالجلد في أثنائه فلا ينفع الفرار منه شيئا و ان كان قد اصابه بعض تلك الجلدات و كان قد ثبت موجبه بإقراره، و ذلك لدلالة الآية الكريمة على جلد الزانية و الزاني مأة جلدة فهو واجب بلا كلام و لم يرد دليل على سقوطه فلذا يجب الإكمال إذا فرّ و هرب في أثنائه، هذا مضافا الى ورود الرواية الصريحة في ذلك.

فعن محمد بن عيسى بن عبد اللّٰه عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الزاني يجلد فيهرب بعد ان اصابه بعض الحدّ أ يجب عليه ان يخلّى عنه و لا يرد كما يجب للمحصن إذا رجم؟ قال: لا و لكن يردّ حتّى يضرب الحد كاملا قلت: فما فرق بينه و بين المحصن و هو حدّ من حدود اللّٰه؟ قال:

المحصن هرب من القتل و لم يهرب الّا الى التوبة لأنّه عاين الموت بعينه و هذا انّما يجلد فلا بدّ من ان يوفى الحدّ لانّه لا يقتل «1».

فترى انها صريحة في وجوب ردّه و اجراء الحدّ عليه بكامله.

نعم هنا نوع إجمال بالنسبة إلى ذيل الرواية، و ما وقع من السؤال و الجواب، فإنّ الراوي سئل عن الفرق بين مورد الرجم الذي لا يردّ الهارب و مورد الجلد الذي يردّ، فأجاب عليه السّلام بانّ المحصن هرب من القتل و لم يهرب الّا الى التوبة لأنّه عاين الموت بعينه إلخ.

و لعلّ المراد انّه حيث عاين الموت لما قد رآه من الرجم فقد تاب لانّ من عاين الموت فهو بالطبع يتوب من معاصيه.

لكن يلزم على هذا عدم

قبولها كما في قصّة فرعون حيث انّه قد تاب بعد ما عاين الموت فردّت توبته قال اللّٰه تعالى حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 35 من حدّ الزنا الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 422

آمَنْتُ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ «1».

هذا مضافا الى انّه كيف تاب و هو يفرّ من الرجم و لو كان قد تاب لكان يقوم على قدمه حتّى يرجم و يتطهّر من العصيان.

أضف الى ذلك كلّه انّ التوبة تنفع قبل ان يثبت الموجب عند الحاكم، امّا بعد ذلك فالظاهر انّه لا تنفع التوبة كما هو الظاهر من الروايات، و كيف كان فهذا ما ورد في الرواية و هو حكمة لا نعلم مغزاها.

نعم يمكن ان يقال: ان بين الموردين فرقا و هو انّ الحكم في مورد المحصن هو الرجم و إزهاق روح إنسان بخلاف الجلد الذي ليس هو الّا مجرد ضرب المجرم و من المعلوم انّ للشارع اهتماما بالغا بحفظ النفوس فلذا يحكم بأنّه إذا فرّ المحكوم بالرجم من الحفيرة فإنّه لا يردّ و امّا المحكوم بالجلد إذا فرّ فإنّه يردّ.

ثم انّه قد استدلّ صاحب الجواهر [1] على عدم سقوط الجلد بالأصل أيضا، و هو أصالة عدم سقوط الحدّ.

و فيه انه لا مجال للتمسك بالأصل مع وجود الآية و الرواية، و التحقيق انّه امّا ان يكون الزاني الهارب، و الزاني غير الهارب، فردين من الزاني فلا كلام في شمول آية الجلد لهما و هكذا بالنسبة إلى الرواية، و ان كانا موضوعين مختلفين فمن الأوّل يشك في شمول الآية للزاني

الهارب و معلوم انه حينئذ لا وجه للتمسك بالأصل بعد ان كان شمول الدليل لهذا الفرد أي الزاني الهارب مشكوكا فيه من رأسه، و الحقّ هو الأوّل.

الكلام فيمن يبدأ بالرجم

قال المحقّق: و يبدأ الشهود برجمه وجوبا و لو كان مقرّا بدأ الإمام.

أقول: هذا التفصيل مشهور و قيل يبدأ الإمام في رجمه مطلقا. و تنقيح

______________________________

[1] أقول: و قد تمسّك به قبله صاحب الرياض فراجع إن شئت.

______________________________

(1) سورة يونس الآية 90 و 91.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 423

الكلام انّه لا شكّ في لزوم رعاية الترتيب في مقام الرجم و لا شكّ أيضا في انّه ليس للرعيّة التقدّم على الامام، و انّما البحث و الكلام في انّه هل يقدّم الامام مطلقا و بنحو كلّي أو انّه يفصّل في الموارد، فهم بين من يقول بتقدم الامام مطلقا و بين من يفصّل بين ما إذا ثبت الموجب بالشهادة فيبدأ الشهود أو بالإقرار فيبدأ الامام و هو مختار المحقق رضوان اللّٰه عليه و المشهور.

و مستندهم في ذلك مرسلة صفوان عمّن رواه عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: إذا أقرّ الزاني المحصن كان أوّل من يرجمه الامام ثم الناس فاذا قامت عليه البيّنة كان أوّل من يرجمه البيّنة ثم الامام ثم الناس «1» و هذا الخبر منقول بطريق آخر أيضا فراجع الوسائل.

و بهذا الخبر يقيّد إطلاق رواية أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام:

تدفن المرأة إلى وسطها إذا أرادوا أن يرجموها و يرمى الإمام ثمّ يرمى الناس بعد بأحجار صغار «2».

و رواية سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: تدفن المرأة إلى وسطها ثم يرمى الامام و يرمى الناس بأحجار صغار «3».

و الّا فهما بظاهرهما يدلّان

على ابتداء الامام سواء كان قد ثبت الموجب بالبينة أو بالإقرار كما هو القول الآخر في المسئلة.

و امّا ضعف رواية صفوان بالإرسال فلا يقدح في التخصيص فإنّها منجبرة بذهاب المشهور الى القول بالتفصيل و على هذا فالقول المزبور أقوى.

و لعلّ الوجه في تقدّم الامام عند ثبوت الموجب بالإقرار هو حصول الاطمئنان للناس بلزوم الرجم في مورده كما انّ الوجه في ابتداء الشهود بالرجم عند ثبوته بالبينة ذلك أيضا فإنّه لو كانت البيّنة كاذبة لارتعشت يد الشهود عند الرجم و تأخروا عنه نوعا فإذا رأى الناس انّهم قد ابتدءوا بالرجم يحصل لهم

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 424

الاطمئنان بذلك فالنكتة المقتضية للابتداء في الموردين واحدة و هو حصول الاطمئنان للناس.

ثم انّ بعض الروايات الواردة في فعل أمير المؤمنين عليه السّلام ناطق بأنه عليه السّلام ابتدأ بنفسه برجم من كان أقرّ بالزنا.

فعن أحمد بن محمّد بن خالد رفعه الى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: أتاه رجل بالكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني ثم ذكر انّه أقرّ أربع مرّات، الى ان قال: فأخرجه إلى الجبّان فقال: يا أمير المؤمنين أنظرني أصلّي ركعتين ثم وضعه في حفرته- الى ان قال- فأخذ حجرا فكبّر اربع تكبيرات ثم رماه بثلاثة أحجار في كلّ حجر ثلاث تكبيرات ثم رماه الحسن عليه السّلام مثل ما رماه أمير المؤمنين ثم رماه الحسين عليه السّلام فمات الرجل فأخرجه أمير المؤمنين عليه السّلام فأمر فحفر

له و صلّى عليه و دفنه فقيل يا أمير المؤمنين الا تغسله؟ فقال:

قد اغتسل بما هو طاهر الى يوم القيامة لقد صبر على أمر عظيم «1».

ثم انّه هل بدأة الإمام في مورد الإقرار و الشهود في مورد البيّنة واجب أو مستحب؟ الظاهر من الاخبار هو الوجوب.

و في كشف اللثام: و إذا ثبت الموجب للرجم بالبيّنة كان أوّل من يرجمه الشهود وجوبا كما يظهر من الأكثر، و في الخلاف و ظاهر المبسوط انّ عليه الإجماع، الى ان قال: و ان ثبت بالإقرار بدأ الإمام وجوبا كما هو ظاهرهم، و في الخلاف و ظاهر المبسوط الإجماع عليه انتهى.

لكن قال في المسالك: و في كثير من الاخبار إطلاق بدأة الامام و يحتمل حمل ذلك على الاستحباب لضعف المستند عن إثبات الوجوب و للأخبار المستفيضة بقصّة ماعز، و انّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله لم يحضر رجمه فضلا عن بدأته به انتهى.

و نحن قد ذكرنا انّ الإطلاقات تقيّد بما ورد فيه التفصيل، و امّا ضعف الخبر فمنجبر بعمل الأصحاب.

و أجيب عن الاستدلال بقصّة ماعز بأنّ الرواية ساكتة عن رميه صلّى اللّٰه

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 1 من أبواب حدّ الزّنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 425

عليه و آله و ليس فيها تصريح بأنّه لم يرم فمن المحتمل انّه رمى و لكن لم ينقل في الخبر [1].

و ان أبيت إلّا عن ظهوره في عدم رميه فهذا ظهور فعلى لا يقاوم الظهور القولي الذي مرّ بقوله عليه السّلام: يرمي الإمام، فإنّه ظاهر في الوجوب جدّا، و الفعل محتمل لوجوه خصوصا بعد ان صرّح في بعض الروايات الواردة في إقرار الزاني عند أمير المؤمنين عليه

السّلام بأنّه (ع) أقدم على الرمي بنفسه.

و قد أورد بعض الأعاظم خدشة أخرى في دلالة الروايات على الوجوب فقال: نعم يمكن الاشكال من جهة منع ظهور الجملة الخبريّة في اللزوم «1».

و فيه انّه لا يقتصر في إفادة الوجوب على الأمر بالصّيغة أو الأمر الغائب بل كثيرا ما يؤتى بلفظ المضارع لإفادة الوجوب و اللزوم، بل قد تدّعي أظهريّته في الوجوب من فعل الأمر كما تقدّم ذلك.

في إعلام الناس ليتوفرّوا على الحضور

قال المحقق: و ينبغي ان يعلم الناس ليتوفّروا على حضوره.

أقول: يحتمل ان يقرء لفظ «يعلم» بصيغة المعلوم و مبيّنا للفاعل فيكون فاعله الامام و على هذا قال في الجواهر- بعد لفظة ينبغي-: للإمام و من قام مقامه إذا أراد استيفاء الحدّ ان يعلم الناس انتهى. و يحتمل ان يقرء بصيغة المجهول و مبنيّا للمفعول، و كيف كان فظاهر عبارة المحقق انه مستحبّ فإنّه عبّر بلفظ ينبغي، و قد نفى صاحب الجواهر الاشكال و الخلاف في ذلك، لكن لا

______________________________

[1] أقول: قال في الرياض الجلد 2 الصفحة 475: و المستفيضة قيل ما تضمّنت انّه صلّى اللّٰه عليه و آله لم يحضر بل غايتها عدم تضمّنها انّه حضر، واحدهما غير الآخر فيحتمل الحضور و لم ينقل، و لو سلّم الدلالة على عدم حضوره فيحتمل كونه لمانع انتهى.

يقول المقرّر: و لا يخفى ما فيه فان قوله ص: لو كان علىّ حاضرا لما ضللتم، دالّ على عدم حضورهما صلوات اللّٰه عليهما.

______________________________

(1) جامع المدارك الجلد 7 الصفحة 48.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 426

يعلم انّ المشار إليه أصل الإعلام مطلقا أو هو استحبابه، و على اىّ حال فظاهر بعض الروايات هو وجوب الأعلام.

فعن عمران بن ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه

انّ امرأة أقرّت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالزنا اربع مرّات فأمر قنبرا فنادى بالناس فاجتمعوا و قام أمير المؤمنين عليه السّلام فحمد اللّٰه و اثنى عليه ثم قال: ايّها الناس انّ إمامكم خارج بهذه المرأة الى هذا الظهر ليقيم عليها الحدّ إن شاء اللّٰه فعزم عليكم أمير المؤمنين لمّا خرجتم و أنتم متنكّرون و معكم أحجاركم لا يتعرّف منكم أحد الى أحد فانصرفوا الى منازلكم إن شاء اللّٰه قال: ثم نزل فلمّا أصبح الناس بكرة خرج بالمرأة و خرج الناس معه متنكّرين متلثّمين بعمائمهم و بأرديتهم و الحجارة في أرديتهم و في أكمامهم حتّى انتهى بها و الناس معه الى الظهر بالكوفة «1».

و في مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد المذكورة آنفا: ثم نادى في الناس يا معشر المسلمين اخرجوا ليقام على هذا الرجل الحدّ و لا يعرفنّ أحدكم صاحبه «2».

و منها خبر أصبغ بن نباته انّ رجلا اتى أمير المؤمنين عليه السّلام فأقرّ عنده بالزنا ثلاث مرّات فقال له: اذهب حتّى نسأل عنك. الى انّ قال: ثم عاد اليه. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني. فقال: انّك لو لم تأتنا لم نطلبك و لسنا بتاركيك إذ لزمك حكم اللّٰه عزّ و جلّ. ثمّ قال: ايها الناس انّه يجزى من حضر منكم رجمه عمّن غاب فنشدت اللّٰه رجلا منكم يحضر غدا لمّا تلثّم بعمامته حتّى لا يعرف بعضكم بعضا و أتوني بغلس حتّى لا يبصر بعضكم بعضا فانّا لا ننظر في وجه رجل و نحن نرجم بالحجارة قال: فغدا الناس كما أمرهم «3».

و عن الصادق عليه السّلام: انّ رجلا جاء الى عيسى بن مريم عليه السّلام

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب

31 من حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من حدّ الزنا الحديث 3.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 427

فقال: يا روح اللّٰه انّى زنيت فطهّرني فأمر عيسى عليه السّلام انّ ينادى في الناس ان لا يبقى أحد إلّا خرج لتطهير فلان فلمّا اجتمع الناس و «1».

و على الجملة فظاهر هذه الروايات هو وجوب الإعلان ليحضروا و يكونوا ناظرين و شاهدين لعذابه، فالاعلان مقدّمة للحضور، و على هذا فلو حضروا بأنفسهم متوفّرين فلا حاجة الى ذلك لعدم وجوب نفسي بل حضور هذه العدّة للتنبّه و تعظيم الشعائر و حصول الانذار كي يتنبّهوا و يواظبوا على أنفسهم ان لا يقعوا في مثل هذه المشكلات و المواقف الخطيرة فلو كان حضورهم موقوفا على الأعلام يلزم عليه ذلك، و كيف كان فالتأسى بأمير المؤمنين عليه السّلام يقتضي إعلان الحاكم الناس بذلك.

ثم انّ صاحب الجواهر قال: بل الذي ينبغي له أيضا ان يأمرهم به انتهى مع انّ المحقّق اكتفى بقوله: ينبغي ان يعلم الناس،، نعم لا يبعد ان يكون مراد المحقّق هو الإعلان و الأمر بالحضور، و بعبارة أخرى الإعلان المقترن بالأمر.

ثم انّه هل يكتفى بحضور النساء فقط أم لا؟

لم أجد في الروايات موردا تعرّض لذلك، لكنّ القرينة قائمة على عدمه فان النساء لا تشارك الرجال في المجامع العامّة بل يقوم بتلك الأمور الرجال خاصّة.

في حضور طائفة لإقامة الحدّ

قال المحقّق: و يستحبّ ان يحضر اقامة الحدّ طائفة و قيل: يجب تمسّكا بالآية و أقلّها واحد و قيل عشرة و خرّج متأخّر ثلاثة و الأوّل حسن.

أقول: الأصل في ذلك قوله تعالى بعد بيان حكم الزانية و الزاني

و وجوب جلدهما وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» فإنّه قد أمر بأمر الغائب

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من حدّ الزنا الحديث 5.

(2) سورة النور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 428

بحضور الطائفة.

قال الشهيد الثاني في المسالك: و اختلفوا في الموضعين أحدهما الأمر للوجوب أم الاستحباب فقيل بالأوّل و اختاره ابن إدريس و المصنف في النافع و جماعة عملا بظاهر الأمر فإنّ الأصل فيه الوجوب و قيل بالثاني و هو الذي اختاره المصنف هنا و قبله الشيخ في كتب الفروع لأصالة عدم الوجوب و حمل الأمر على الاستحباب لانّه بعض ما ورد بمعناه و لا يخفى قوّة الأوّل إلخ.

أقول: انّه و ان كان الأمر قد يأتي لإفادة الاستحباب بل قال صاحب المعالم: انّه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم الصلاة و السّلام انّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم انتهى،، لكن الظاهر من الأمر هو الوجوب و على هذا فلا بدّ من القول بوجوب ذلك لا استحبابه أخذا بظاهر صيغة الأمر. الّا ان يكون هناك إجماع على عدم وجوب شهود الطائفة و حضورهم. و قد مرّ أن إعلان الإمام الناس بذلك و أمرهم بالحضور كان من باب المقدّمة للحضور و لذا قد يكون الإعلان أيضا واجبا إذا كان الحضور متوقفا عليه.

و امّا الموضع الثاني من الموضعين اللذين ذكر انهما محلّ الكلام فهو في العدد المعتبر في المقام، المراد من الطائفة.

فنقول: هنا ثلاثة أقوال: أحدها الواحد فإنّ أقلّ الطائفة واحد و هي تصدق به و قد ذهب الى ذلك الشيخ الطوسي في النهاية و كذا المحقق هنا و في النافع، و العلّامة في القواعد.

ثانيها

ان أقلّها ثلاثة ذهب اليه ابن إدريس.

ثالثها انّ أقلّها عشرة و قد اختاره الشيخ في الخلاف.

و استدلّ للقول الأوّل: بوجوه أحدها ما مرّ من صدق الطائفة بالواحد، ثانيها: أصالة البراءة من الزائد.

ثالثها: رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ: و لا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّٰه، قال: في إقامة الحدود،

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 429

و في قوله تعالى وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قال: الطائفة واحد [1].

أقول: انّه لا وجه للتمسك بالأصل مع وجود الدليل كرواية غياث، فان كانت هي حجّة معمولا بها كما هي كذلك فهي المرجع، و نحن في غنى عن المعنى اللغوي لأنّا مأمورون بالأخذ بتفسير الامام عليه السّلام و العمل بقوله- دون قول اللغوي- و ان كان الامام عليه السّلام فسّر اللفظ بالمجاز، و الّا فالأقوال مختلفة لمناسبات مختلفة فقد يقال بأنّ الطائفة بمعنى القطعة و هي تصدق بواحد فكذا الطائفة، و قد يقال: انّها من الطوف و الإحاطة و الاحتفاف، و عليه فيعتبر وجود أربعة تحفّ به من الجهات الأربعة أو ثلاثة مثلا، الى غير ذلك من الكلمات.

لا يقال: ان ظاهر قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا «1». بمقتضى ضمير الجمع في:

ليتفقهوا و كذا في: و لينذروا،، هو انّ الطائفة ثلاثة و ما فوقها.

لأنّا نقول: لعلّ ضمير الجمع باعتبار انّ من كلّ فرقة أحدا و يؤل الى آحاد و ذلك لا ينافي كون الطائفة واحدا.

و حينئذ فلو كان هناك مفهوم عرفي يجب الأخذ به و ذلك لتعلّق التكليف أوّلا و بالذات

بالمتفاهم العرفي من الألفاظ، و الخطابات الشرعية منزلّة عليه و من المعلوم ان الطائفة بحسب المتفاهم العرفي لا تستعمل في الواحد بل لا أقلّ من الثلاثة و هذا هو المرتكز في الأذهان لو لا دليل صارف عن ذلك.

قال العلّامة أعلى اللّٰه مقامه- بعد ان نقل عن الشيخ في الخلاف انّه قال: أقلّ ذلك العشرة، و بعد ان نقل كلام بعض آخر من الأصحاب-: و قال ابن إدريس: الذي أقول في الأقلّ انّه ثلاثة نفر لانّه من حيث العرف دون

______________________________

[1] تهذيب الأحكام الجلد 10 الصفحة 150، وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 5، أقول: و قد استدلّ أيضا بقوله تعالى وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. بدليل قوله تعالى فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. راجع كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 221.

______________________________

(1) سورة التوبة الآية 122.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 430

الوضع، و العرف إذا طرأ صار الحكم له دون الوضع الأصلي، و شاهد الحال يقتضي ذلك، و ألفاظ الاخبار، لانّ الحدّ إذا كان قد وجب بالبيّنة فالبيّنة يرجمه و يحضره و هم أكثر من ثلاثة، و ان كان باعترافه فأوّل من يرجمه الامام ثم الناس مع الامام، و ان كان المراد و المعنى حضور غير الشهود و الامام فالعرف و العادة اليوم انّ أقلّ ما يقال: جئنا في طائفة من الناس أو جاءنا طائفة من الناس المراد به الجماعة عرفا و عادة، و أقلّ الجمع ثلاثة، و شاهد الحال يقتضي انّه أراد تعالى الجمع، و فيه الاحتياط، و خيرة شيخنا في الخلاف لا وجه له، فأمّا الرواية فمن الاخبار الآحاد و قد بيّنا ما في ذلك.

ثم قال: و المعتمد في ذلك

المصير الى العرف فمهما دلّ عليه لفظ الطائفة صرف اليه و الّا فعلى الموضوع اللغوي لانتفاء العرف الشرعي فيه «1».

هذا كلّه مقتضى الاستظهار فيبقى الكلام في انّه لو لم تكن الرواية حجّة لنا و لا كان هناك مفهوم عرفي للفظ الطائفة و تردّد أمرها بين معاني مختلفة و وصلت النوبة الى الأصل فما هو مقتضاه؟

الظاهر انّ الأصل هنا أصالة الاحتياط لا أصالة البراءة. تقرير ذلك انّه إذا وقع مفهوم مجمل في كلام الشارع فان كان قد نهى عنه فمقتضى إجماله هو الأخذ بالمتيقّن فيحرم على المكلّف هذا المقدار، و امّا الزائد عليه فلا، لعدم حجيّة المشكوك فيه و هذا بخلاف ما إذا أمر بهذا المفهوم المجمل فإنّه لا بدّ من الإتيان بالمقدار المتيقّن الذي يخرج به عن العهدة و هو مالا مزيد عليه قطعا و ذلك كما إذا أمر بالركوع و تردّد امره بين انحناء يسير أو الى حدّ يبلغ كفّاه ركبتيه فإنّه يجب الاحتياط بذلك لانّه المتيقن و إذا أريد الاحتياط فالظاهر انّ ما ذكره الشيخ في الخلاف هو حدّ الاحتياط و لا حاجة الى أزيد من ذلك و هو العشرة لأنّه لا شكّ و لا شبهة في صدق لفظ الطائفة عليها.

بقي انّ الشيخ قدّس سرّه استدلّ على ما ذهب اليه، بالاحتياط، قال في

______________________________

(1) المختلف الصفحة 761.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 431

الخلاف المسئلة الاولى من باب الحدود: و أقلّ ذلك عشرة و به قال الحسن البصري، و قال ابن عباس: اقلّه واحد و قد روى ذلك أصحابنا أيضا. دليلنا طريقة الاحتياط لأنّه إذا حضر عشرة دخل الأقل فيه إلخ.

ينبغي كون الحجارة صغارا

قال المحقق: و ينبغي ان تكون الحجارة صغارا لئلا يسرع التلف.

و

قال العلّامة في القواعد: ثم يرمى بالأحجار الصغار.

و قال كاشف اللثام- بعد ذلك- لئلا يتلف سريعا، و للأخبار.

و قال الشهيد في اللمعة: و ينبغي كون الحجارة صغارا لئلا يسرع تلفه انتهى.

و قال الشهيد الثاني- بعد ذلك- بالكبار و ليكن كما يطلق عليه اسم الحجر فلا يقتصر على الحصى لئلا يطول تعذيبه أيضا انتهى.

أقول: و على هذا فلا يرمى بصخرة واحدة عظيمة تجهز عليه و تقتل بها سريعا بل ربما لا يصدق الرجم بذلك و لذا قال بعض بأنّه يرمى بالأحجار الصغار و انّه لا يجزى غير ذلك.

و يدلّ على ذلك أو يؤيّده ما ورد في الاخبار من التعبير بالأحجار كما انّه يدلّ على ذلك صريحا النصوص الناطقة بذلك ففي رواية أبي بصير: و يرمى الإمام ثم يرمى الناس بعد بأحجار صغار «1».

و في موثّقة سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام:. ثم يرمى الامام و يرمى الناس بأحجار صغار «2».

و على هذا فلا بدّ من ان يكون بنحو يصدق الأحجار الذي هو لفظ الجمع، و بناءا عليه- اى بناء على عدم صدق الرجم- لو ضرب بحجر كبير أسرع

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب الحدود الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 432

التلف يلزم الضارب القصاص ان كان قد تعمّد في ذلك، أو الدية ان لم يتعمّد فيه لكنّهم لم يتعرّضوا لذلك، كما انّهم لم يتعرضوا أيضا لما إذا كان رماه بحجر معتبر في الرجم الّا انّه وقع على موضع منه أوجب قتله، و انّه ما حكمه؟

ثم انّه كما يلاحظ ان لا تكون الأحجار كبيرة- لأنّها تسرع في قتله

و توجب ان لا تذوق الم العذاب- كذلك العكس يعنى يلاحظ ان لا تكون الأحجار في غاية الصغر فان ذلك يوجب ان يطول به الأمر و يؤذيه و يتعبه كثيرا و يعذّب بطول الضرب مع بقاء الحياة و رمقه، و هذا خلاف المتعارف، و على الجملة فالمعيار هو الحدّ المتوسّط بين هذا و ذاك، و كونه في حول ما ذكر في مرفوعة أحمد بن خالد في رجل اتى أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة، الى ان قال:

فأخذ حجرا فكبّر اربع تكبيرات ثم رماه بثلاثة أحجار في كلّ حجر ثلاث تكبيرات ثم رماه الحسن عليه السّلام مثل ما رماه أمير المؤمنين عليه السّلام ثم رماه الحسين عليه السّلام فمات الرجل «1».

و كذا ما ورد في خبر ابن ميثم من قوله: و الحجارة في أرديتهم و أكمامهم «2» فإنّ ذلك لا يمكن في الحجر الكبير جدّا، هذا بل و ربّما ينصرف لفظ الرجم عن رميه بالحجر الكبير فإنّه بالفارسية (سنگباران) و ان هذا ممّا يقتله دفعة كما انّه لا يجوز بالصغار جدّا لعدم صدق الحجر عليها.

و خلاصة الكلام انّه لو كان هناك متعارف فإنّه يؤخذ به و الّا فالّلازم الاحتياط و الأخذ بالمتيقن.

و بقي بعد فروع لم ينصّ عليها و لم تذكر في الكلمات. مثل انّه هل يعتبر فيه التوالي أم لا بل تجوز مع الفصل في الرمي، و انّه هل يعتبر فيه ان يكون بلا واسطة أو انه يجوز ذلك بواسطة بعض الآلات مثلا؟

و غير خاف انّ أصل المسئلة هامّ و يحتاج الإفتاء به جدّا الى تحقيق كامل و حصول الاطمئنان إلى أحكامها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدود الزنا الحديث 4.

(2) الكافي الجلد

7 الصفحة 187.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 433

و الحكم في الجميع مع عدم دليل يتمسك به و يستند اليه، و عدم عرفيّة في البين هو الاحتياط و ملاحظة القدر المتيقّن.

لا يرجم من كان للّٰه عليه حدّ

قال المحقّق: و قيل: لا يرجمه من للّه قبله حدّ و هو على كراهيّة.

أقول: ظاهر قوله: لا يرجمه، هو الحرمة و ان كان لم يذكر قائله و انّما نسبه الى القيل، بل قال صاحب الجواهر- بعد لفظة قيل،، في عبارة المحقق-: و ان كنّا لم نتحقّقه.

أقول: و قد افتى المحقق في النافع بالحرمة فقال: و لا يرجمه من للّه قبله حدّ فقد استدلّ له في الرياض بظاهر النهى عنه في المعتبرة المستفيضة، و هكذا العلامة أعلى اللّٰه مقامه أفتى في الإرشاد بالحرمة فقال: و لا يرجمه من عليه حدّ انتهى و قال الأردبيلي في شرحه: ظاهر هذه تحريم الرجم فيمن كان للّه عليه حدّ سواء كان رجما أو غيره.

و التحقيق انّ البحث هنا في موضعين أحدهما في انّه هل هو حرام أو مكروه؟ ثانيهما انّه هل يختصّ بما إذا كان عليه حدّ مثل حدّ المرجوم أو مطلق الحد؟

امّا الأوّل فنقول: قد اختلفوا في ذلك و ليس بنحو يقال بقيام الإجماع على عدم الحرمة و ذلك لافتاء مثل المحقق و العلّامة بها فإنّه إذا أفتى مثلهما بشي ء و ان كان في بعض كتبهم يعلم انّ خلافه ليس إجماعيّا، و على الجملة ففي المسئلة قولان و ان كان المشهور هو القول بالكراهة، و في الرياض انّه ظاهر الأكثر بل المشهور، بل في كشف اللثام: هو مذهب الأصحاب.

و قد استدلّ للقول بالحرمة بالنصوص و الاخبار الكثيرة المتضمّنة للنهى عن ذلك، و النهى ظاهر في الحرمة،

و ليس لنا ما يوجب صرفه عنها.

ففي رواية ابن ميثم في قصّة امرأة أقرّت عند أمير المؤمنين عليه السّلام بالزنا اربع مرّات: ثم وضع إصبعيه السبابتين في أذنيه و نادى بأعلى صوته: ايّها الناس

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 434

انّ اللّٰه عهد الى نبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله عهدا عهده محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله الىّ بأنّه لا يقيم الحدّ من للّه عليه حدّ فمن كان للّه عليه حدّ مثل ما له عليها فلا يقيم عليها الحدّ قال: فانصرف الناس يومئذ كلّهم ما خلا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام إلخ «1».

و عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: اتى أمير المؤمنين عليه السّلام برجل قد أقرّ على نفسه بالفجور فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه: اغدوا غدا علىّ متلثّمين فقال لهم: من فعل مثل فعله فلا يرجمه و لينصرف، قال: فانصرف بعضهم و بقي بعضهم فرجمه من بقي منهم «2».

و في مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد في رجل اتى أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة و أقرّ عنده اربع مرّات بالزنا و طلب منه ان يطهّره: و استقبل عليه السّلام الناس ثم قال: معاشر المسلمين انّ هذه حقوق اللّٰه فمن كان للّه في عنقه حق فلينصرف، و لا يقيم حدود اللّٰه من في عنقه حدّ، فانصرف الناس و بقي هو و الحسن و الحسين، فرماه كلّ واحد ثلاثة أحجار فمات الرجل «3».

و في خبر أصبغ بن نباته: انّ رجلا اتى أمير المؤمنين عليه السّلام، الى ان قال: فاقبل علىّ عليه السّلام ثم قال: نشدت اللّٰه رجلا منكم للّه عليه مثل هذا الحق ان يأخذ للّه به

فإنّه لا يأخذ للّه بحقّ من يطلبه اللّٰه بمثله «4».

و في خبر الفقيه قال الصادق عليه السّلام: انّ رجلا جاء الى عيسى بن مريم عليه السّلام فقال: يا روح اللّٰه انّى زنيت فطهّرني فأمر عيسى عليه السّلام ان ينادى في الناس ان لا يبقى أحد إلّا خرج لتطهير فلان، فلمّا اجتمع الناس و صار الرجل في الحفيرة نادى الرجل: لا يحدّني من للّه في جنبه حدّ فانصرف الناس كلّهم إلّا يحيى و عيسى «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 4.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 435

فمقتضى الأخذ بظاهر هذه الروايات هو الحكم بالحرمة.

و امّا ما استدلّ به القائل بالكراهة أو يمكن ان يستدلّ له فأمور:

أحدها شيوع استعمال النهي في الكراهة على وزان استعمال الأمر في الاستحباب الذي هو كالمجازات الراجحة، أو كأنّه يكون استعمال النهي في الحرمة و الأمر في الاستحباب من قبيل المشترك اللفظي الذي يحتاج استعماله في معانيه المختلفة محتاجا إلى القرينة و حيث انّ المشهور أفتوا بالكراهة فلا يصحّ حمله الّا على ذلك.

ثانيها انّ القول بالحرمة يحتاج الى مستند صحيح و دليل قاطع بخلاف الكراهة فإنّها لا تحتاج الى ذلك بل يتساهل في أمرها و يتسامح فيها كما في الاستحباب و هذا الروايات ضعيفة لا تصلح لإثبات الإلزام و التحريم، و بعبارة اخرى: انّ قصور سند النهى عن إفادة الحرمة يوجب

الحمل على الكراهة.

ثالثها ما استدلّ به بعض الأصحاب من وجوب القيام بأمر اللّٰه تعالى و عموم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و الرجم من هذا القبيل.

رابعها الأصل [1].

و يرد على الأوّل انه ليس استعمال النهي في الكراهة إلى حدّ يوجب صرفه إليها كما انّ الأمر أيضا ظاهر في الوجوب و لا تطمئن النفس الى انّ استعماله في الندب صار راجحا على الوجوب.

و امّا الثاني فيرد عليه انّ الروايات ليست بأجمعها ضعيفة بل بعضها صحيح كخبر زرارة و بعضها معتبر كخبر أصبغ، و على هذا فلا يصحّ الاشكال فيها من ناحية قصور السند كما انّ دلالتها واضحة.

و امّا الثالث ففيه ما ذكره في الرياض من انّ مقتضاه الوجوب- اى وجوب اقامة الحدّ- و هو ينافي الكراهة المتفق عليها.

و امّا الرابع أي أصالة عدم الحرمة، فهو دليل حيث لا دليل.

و على هذا فمقتضى الدليل هو القول بالحرمة، و قد مال اليه صاحب

______________________________

[1] أقول: و قد استدل بعض بعدم ذكر ذلك في قصّة ماعز و لو كان واجبا لما تركه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 436

الرياض أيضا- و ان ادّعى في أثناء كلامه الاتّفاق على الكراهة- و عليه فالأقوى هو الحرمة.

اللهم الّا ان تكون الروايات معرضا عنها بان يقال: انّه كانت عندهم قرينة حملتهم على عدم العمل بهذه الروايات.

و فيه ما ذكرنا من الإفتاء بالحرمة من مثل المحقّق و العلّامة في بعض كتبهما [1].

نعم ما علّل به الحكم أشد مناسبة للكراهة من التحريم و هو انّ من عليه الحدّ فلا يرجم، فإنّه مشعر بالعليّة و كأنّه قيل: كيف يرجم من كان عليه حدّ اللّٰه تعالى؟! و امّا الموضع الثاني فنقول: انّ الروايات بظاهرها مختلفة

و هي على ثلاثة أنحاء فمنها ما يستظهر منها اعتبار المثليّة و هو صحيح زرارة، ففيه: من فعل مثل فعله فلا يرجمه. «1» و معتبرة أصبغ بن نباته و فيها: نشدت اللّٰه رجلا منكم للّٰه عليه مثل هذا الحق ان يأخذ للّه به «2».

و منها ما هو ظاهر في الإطلاق و انّ الملاك هو مجرّد كون الحدّ عليه و ذلك كمرفوعة أحمد بن محمّد بن خالد ففيها: فمن كان للّه في عنقه حقّ فلينصرف، و لا يقيم حدود اللّٰه من في عنقه حدّ «3». و كذا رواية الامام الصادق في حكاية عيسى بن مريم، و فيها: لا يحدّني من للّه في جنبه حدّ «4».

______________________________

[1] أقول: و يظهر من المقداد قدّس سرّه انّ القائل بالحرمة أيضا غير قليل حيث قال في التنقيح الجلد 4 الصفحة 345: لا شك انّه ورد النهى عن ذلك في الروايات فيحتمل ان يكون ذلك للتحريم مناسبة لإعظام حدود اللّٰه تعالى و محارمه، و يحتمل ان يكون الكراهة لأصالة البراءة من التحريم و وجوب القيام بحقوق اللّٰه و عموم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فلذلك قال جماعة بالتحريم و جماعة بالكراهة انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 4.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 13 من مقدمات الحدود الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 437

و منها ما قد جمع بينهما بحسب صدر الرواية و ذيلها و ذلك كرواية ابن ميثم ففيها: لا يقيم الحدّ من للّه عليه حدّ، فان ظاهر هذه الجملة

هو الإطلاق و كفاية مجرّد كون الحدّ عليه اىّ حدّ كان فلا يعتبر المثلية، الّا انّ فيها بعد ذلك بلا فاصلة: فمن كان للّه عليه مثل ما له عليها فلا يقيم عليها الحدّ «1»، و هذه العبارة ظاهرة في اعتبار المثليّة.

و لكنّ التحقيق انّه لا اعتبار بالمثليّة و انّما المعتبر هو كون حدّ عليه و ذلك لأمرين: أحدهما مناسبة الحكم و الموضوع فإنّها تقتضي انّ من كان عليه حدّ من حدود اللّٰه فلا يشارك الناس في رجم أحد.

و ثانيهما ملاحظة التفريع الذي ورد في هذه الرواية فإنّ التفريع لا يناسب إلّا إذا كان المفرّع من إفراد المفرّع عليه و أحد مصاديقه فلو كان الثاني عين الأوّل فلا معنى لتفريعه عليه و هو بعيد عن نطاق البلاغة، و إذا كان الثاني متفرّعا على الأوّل فلا محالة يفيد انّ من كان عليه مثل هذا الحدّ فلا يرجم و من كان عليه حدّ مطلقا فلا يرجم أيضا، و على هذا فهذه الرواية التي ظهر المراد منها ببركة فاء التفريع تفسّر ما دلّ منها على اعتبار خصوص المثليّة و يفهم منها انّه ليس الملاك ذلك و انّما الملاك تعلّق حدّ من حدود اللّٰه تعالى به.

لا يقال: لعلّ ذيل رواية ابن ميثم يكون مفسّرا لصدره لا ان يكون تفريعا عليه، و حينئذ يكون الملاك هو خصوص الحدّ المماثل.

لأنّا نقول: انّه خلاف ظاهر لفظ الفاء و لا يلائم البلاغة و انّما الظاهر منه التفريع.

و هل الحكم يجرى فيما إذا كان قد تاب الى اللّٰه تعالى، أو انّه إذا تاب فليس عليه حدّ و يجوز له ان يرجم؟

المختار عندهم هو الثاني و يؤيّد ذلك أو يدلّ عليه ما ذكروه من انّه لو

لم يجز على من كان عليه الحد مع انّه قد تاب، ان يرجم فلعلّه لا يوجد من يرجم فإنّه قلّما يوجد من لم يكن عليه حدّ أصلا بخلاف ما إذا قلنا بقبول التوبة

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 438

فإنّه و ان كان قد تعلّق عليه الحدّ لكن التوبة فيما بينه و بين اللّٰه قد طهّرته، و التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و هذا يسهّل الخطب، و به يمكن أقدام كثيرين على رجم من وجب رجمه و المستفاد من أدلّة التوبة انّه بعد ما تاب فليس عليه شي ء و لا عليه حقّ و دين من اللّٰه كي لا يمكنه الاقدام على الرجم.

قال في الجواهر: و ظاهر النص و الفتوى سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته عند الحاكم فيتّجه حينئذ ما سمعته من ابن إدريس.

أقول: و ما ذكره ابن إدريس هو ما حكاه عنه آنفا بقوله: و في السرائر:

و روى انّه لا يرجمه الّا من ليس للّه سبحانه في جنبه حدّ، و هذا غير متعذر لانّه يتوب في ما بينه و بين اللّٰه تعالى ثم يرميه انتهى.

نعم يشكل الأمر على هذا بلحاظ ما ورد في رواية ابن ميثم حيث قال في آخره: فانصرف الناس يومئذ كلّهم ما خلا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذ و ما معهم غيرهم إلخ «1».

لأنّه إذا كانت التوبة كافية في رفع حكم الحدّ فلما ذا لم يتوسلوا بالتوبة؟ و كيف يمكن ان يقال بانّ هذه الجماعة كلّهم كانوا قد ارتكبوا موجب الحدّ و مع ذلك فلم يتوبوا حتّى في

هذه الساعة و رجعوا؟

و لذا قال صاحب الرياض: و ربما يظهر من الصحيحة الاولى و نحوها ممّا تضمّن انصراف الناس بأجمعهم بعد ما قيل لهم ذلك ما خلا أمير المؤمنين و الحسنين عليهم السّلام عدم الفرق فان من البعيد جدّا انّ جميعهم لم يتوبوا من ذنوبهم ذلك الوقت انتهى «2».

و في الجواهر بعد إيراد هذا الاشكال: و يمكن ان يكون لعدم علمهم بالحكم انتهى.

أقول: و يحتمل انّهم كانوا في ذاك الوقت غافلين عن التوبة، و أمثال ذلك من التوجيهات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 31 من مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) الرياض الجلد 2 الصفحة 477.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 439

و كيف كان لا يمكن رفع اليد بهذه الرواية عن الأصل المسلّم و هو قبول التوبة.

ثم انّ الظاهر انّه لا فرق في النهي كراهة أو تحريما بين ثبوت الزنا بالإقرار أو البيّنة.

الّا انّه حكى عن الصيمري اختصاص الحكم بالأوّل قائلًا انّه محلّ خلاف و انّه إذا قامت البيّنة فالواجب بدأة الشهود، و لأنّ النهى انّما ورد في صورة الإقرار.

و يرد على الوجه الثاني انّه لا عبرة بخصوص المورد بل العبرة بعموم الوارد، و موارد النهي في المقام و ان اختصّت بالإقرار الّا ان النهى فيها وارد على سبيل العموم.

و امّا الوجه الأوّل أعني وجوب بدأة الشهود بالرجم فيما إذا قامت البيّنة عليه فوجه الاستدلال به هو انّه إذا كان يجب على الشهود الابتداء بالرجم فكيف يقال: بانّ من كان عليه الرجم فلا يرجم، و بعبارة اخرى: انّ أدلّة بدأة الشهود بالرجم لا يساعد بل ينافي الحكم بأنه لا يرجم من عليه الحدّ فلذا يختصّ هذا الحكم بمن ثبت زناه بالإقرار خاصّة.

و فيه انّ

ذلك لا يوجب تخصيص الحكم بالإقرار فإنّ لنا عامّين من وجه أحدهما انّ من عليه الحدّ لا يرجم سواء كان قد ثبت الموجب بالإقرار أو بالبيّنة، و الآخر: يجب بدأة الشهود بالرجم سواء كان عليهم حدّ أم لا، و لا وجه لتقديم الثاني على الأوّل و ذلك لاحتمال العكس فتخصّص أدلّة وجوب البدأة بما إذا لم يكن على الشهود حدّ للّه تعالى.

و في الجواهر: و دليل بدأة الشهود لا يقتضي تخصيص النص و الفتوى بما سمعت بل العكس اولى انتهى.

و مراده من العكس الذي جعله اولى، هو ان يكون النص و الفتوى يقتضيان تخصيص أدلّة بدأة الشهود فيقال انّ الشهود يبتد أون إذا لم يكن عليهم حدّ للّه سبحانه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 440

و امّا وجه الأولويّة فغير ظاهر حيث انهما مثلان و لا مزيّة لأحدهما على الآخر.

اللّهم الّا ان يكون مراده انّ أدلّة عدم الرجم حاكمة على أدلّة البدء و ذلك لانّ مفاد دليل بدأ الشهود انّه كلّما كان حدّ يبدأ الشهود به و أدلّة: لا يرجم من كان كذا، تفيد انّ الشهود الذين كان عليهم الحد ليس عليهم اجراء الحدود كي يبتدأون بها فالبدء بالحد متعلّق بما إذا كان عليهم اجراء الحدّ. [1]

نعم هنا كلام و هو انّه كيف يتصوّر في حق الشهود كون حدّ عليهم و الحال انّ المعتبر في الشهود هو العدالة؟

اللّهم الّا ان يقال بإمكان ذلك بكون الشاهد قد ارتكب موجب الحدّ خفاء بعد إيقاع الشهادة و الّا فلو كان عليه ذلك من قبل، لم تكن شهادته نافذة و لم يجز له ان يقدم على أدائها.

ثم انّه هل على الحاكم ان يستفسر الشهود عن تعلّق حدّ بهم-

بإتيان ما يوجبه- أم لا؟ الظاهر انّه ليس عليه ذلك بل لا يجوز لانّه من باب التجسّس و التفتيش و هو غير جائز.

______________________________

[1] أقول: لعلّ وجه الأولوية هو انّه إذا كان قد اعتبر في باب الإقرار الذي ثبت الموجب بإقرار المجرم دون الناس ان لا يكون على الراجمين حدّ فكيف بما إذا كان المجرى للحدّ و هو الشهود قد اثبتوا الحدّ بشهادتهم و بعبارة أخرى إذا اعتبر عدم حدّ علىّ الراجمين مع عدم كونهم مثبتين للرجم فاشتراط ذلك فيمن اثبت الجرم اولى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 441

الكلام في وجوب دفن المرجوم

قال المحقّق: و يدفن إذا فرغ من رجمه و لا يجوز إهماله على حاله.

أقول: لا خلاف أصلا في وجوب دفن المرجوم بعد الفراغ عن رجمه، كما لا خلاف أيضا في وجوب دفنه في مقابر المسلمين و ذلك لانّه مسلم فيكون كسائر أموات المسلمين و لم يخرج بسبب معصيته و لا رجمه عن الإسلام فليس المستحق للرجم بكافر كما انّ كثيرا ممّن يستحقّ القتل أيضا كذلك و منهم المسلم الذي ارتكب القتل فإنّه يقتل و ليس بكافر الى غير ذلك من الموارد بل ربما يظهر من بعض الاخبار انّ حضوره و تسليمه تجاه اقامة حكم اللّٰه يوجب له اجرا عظيما و ربّما كان اللّٰه سبحانه قد غفر له بسبب اجراء الحدّ عليه و هو في حكم التوبة و ان كان لو تاب فيما بينه و بين اللّٰه تعالى لكان أفضل، لكن صبره على اجراء حكم اللّٰه تعالى أمر عظيم جدّا و مظنّة لمغفرة اللّٰه سبحانه.

ففي رواية الجهنيّة لمّا أمر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله برجمها فرجمت صلّى عليها فقال له عمر: تصلّى عليها يا

رسول اللّٰه و قد زنت؟ فقال ص: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، و هل وجدت أفضل من ان جادت بنفسها للّه؟ «1».

و في خبر العامرية لمّا رجموها فاقبل خالد بحجر فرمى رأسها فينضح الدم على وجه خالد فسبّها فسمع النبي صلّى اللّٰه عليه و آله سبّه ايّاها فقال: مهلا يا

______________________________

(1) سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 225.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 442

خالد فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس- ميسر- لغفر له ثم أمر بها صلّى عليها و دفنت [1].

و يدلّ على وجوب دفنه ما دلّ على لزوم معاملة المرجوم معاملة سائر الموتى من الاخبار.

ففي رواية أبي مريم عن ابى جعفر عليه السّلام قال: أتت امرأة أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: انّى قد فجرت فاعرض بوجهه عنها ثم استقبلته فقالت: انّى فجرت فأمر بها فحبست و كانت حاملا فتربصّ بها حتّى وضعت ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا و أدخلها الحفيرة إلى الحقو و موضع الثديين و أغلق باب الرحبة و رماها بحجر و قال: بسم اللّٰه اللّهم على تصديق كتابك و سنّة نبيّك ثم أمر قنبر فرماها بحجر ثم دخل منزله ثم قال: يا قنبر ائذن لأصحاب محمّد قد خلوا فرموها بحجر حجر ثم قاموا لا يدرون ا يعيدون حجارتهم أو يرمون بحجارة غيرها و بها رمق، فقالوا يا قنبر أخبره انّا قد رمينا بحجارتنا و بها رمق كيف نصنع؟ فقال: عودوا في حجارتكم فعادوا حتّى قضت فقالوا له: قد ماتت فكيف نصنع بها؟ قال:

فادفعوها إلى أوليائها و مروهم ان يصنعوا

بها كما يصنعون بموتاهم «1».

ثم لا يخفى انّ في حكم دفنه حكم الصلاة عليه، كما صرّح بصلاة رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله على المرجوم في رواية الجهنية و قد تقدّمت آنفا.

الكلام حول غسل المرجوم

بقي البحث و النزاع في سائر تجهيزاته كالغسل. فنقول: ربّما يظهر من رواية أبي مريم و أمر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قنبر أن يأمر الناس ان يصنعوا بها كما يصنعون بموتاهم، خصوصا بلحاظ عدم ذكر عن غسلها قبل رجمها، انّه يجب غسله أيضا كالصلاة عليه و دفنه.

______________________________

[1] سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 221، و قيل انّ المراد بصاحب المكس هو العشّار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 443

لكن قال المحقق في الشرائع في كتاب الطهارة عند البحث عن أحكام الميّت: و كذلك من وجب عليه القتل يؤمر بالاغتسال قبل قتله ثم لا يغسّل بعد ذلك.

و قال العلّامة في الإرشاد: و يؤمر من وجب قتله بالاغتسال أوّلا ثم لا يغسّل.

و قال الأردبيلي في الشرح: كانّ دليله الإجماع و الّا فليس له مستند واضح عامّ «1».

أقول: انّه و ان فرض عدم كونه إجماعيّا الّا انّ الشهرة غير قابلة للخدشة و هي مفروغ عنها.

قال الكلباسي [1] في منهاج الهداية: و لو كان الحدّ رجما أمر المرجوم و المرجومة أوّلا بالاغتسال و التحنيط و التكفين للنصوص المستفيضة المؤيدة بالشهرة المحقّقة و المحكيّة انتهى.

فقد ادّعى رحمه اللّٰه النصوص المستفيضة المؤيّدة بالشهرة بقسيمها على وجوب التجهيزات في قبال الأردبيلي الذي ادّعى عدم مستند واضح عامّ لذلك.

و قال في الجواهر بعد العبارة المذكورة آنفا عن المحقّق في الطهارة:

و الأصل في هذا الحكم ما رواه الكليني بسند

ضعيف جدّا عن مسمع كردين عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: المرجوم و المرجومة يغسلان و يحنطان و يلبسان الكفن قبل ذلك ثم يرجمان و يصلّى عليهما، و المقتص منه بمنزلة ذلك يغسّل

______________________________

[1] قال في الكنى و الألقاب الجلد 3 الصفحة 89: الكرباسي: الشيخ الأجل الأفقه الأورع الحاج المولى محمد إبراهيم بن محمد حسن الكاخكي الأصبهاني المعروف بالكلباسى مصدر العلم و الحكم و الآثار، مركز دائرة الفضلاء الاخبار ركن الشيعة و شيخها الجليل المنزلة و المقدار صاحب كتاب المنهاج و النخبة و الإشارات تلمذ على العلّامة الطباطبائي بحر العلوم و الشيخ الأكبر و صاحب الرياض و غيرهم رضوان اللّٰه عليهم بل أدرك مجلس الأستاد الأكبر المحقّق البهبهاني توفي سنة 1262 و قبره بأصبهان.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان الطبع الجديد الجلد 1 الصفحة 208.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 444

و يحنط و يلبس الكفن ثم يقاد و يصلّى عليه، و رواه الصدوق مرسلا عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب و بإسناد ثان فيه إرسال و غيره، لكن في التهذيب يغتسلان من الافتعال بخلاف ما في الكافي فإنه فيه يغسّل بالتشديد مع البناء للمجهول «1».

أقول: انّ الرواية واضحة الدلالة على المراد و امّا من حيث السند فهي و ان كانت ضعيفة الّا أنّها منجبرة بالشهرة لو لم يكن إجماع على ما قاله الأردبيلي.

و هنا بحث و هو انّه ربما يقال: انّ غسله هذا هو غسل الميّت الواجب بعد الموت الّا انّه يفعله المرجوم مثلا بنفسه قبل الموت تعبدا من الشارع.

و هذا في النظر بعيد، فان غسل الميّت موقوف على زهوق روح الإنسان حتّى يتنجّس بدنه و يلزم

بعده الغسل فكيف نقول بأنّه مع كونه حيّا- يغتسل بنفسه- يكون غسله هو غسل الميّت المعتبر بعد الموت؟ و المترجح في النظر انّه ليس هو ذاك الغسل و انّما يؤمر بالاغتسال، فاذا اغتسل فقد جعل الشارع غسله هذا مسقطا عن غسل ما بعد الموت و كذا بالنسبة الى الحنوط و الكفن.

و تظهر الثمرة في انّه على ما ذكرنا فلا يعتبر في هذا الغسل ما يعتبر في غسل الميّت من التعدد و كذا الخليطين و غير ذلك لانّه بعد عدم الدليل على شي ء سوى الغسل يشكّ في اعتبار هذه الأمور و الشرائط، و الأصل عدم الوجوب، و البراءة منها و ان كان الاحتياط حسنا في حين انّه لو كان الغسل هو غسل الميّت فإنّه يعتبر فيه ما يعتبر في غسل الميّت، و لكنّه عندنا بعيد.

و في القواعد استشكل في وجوب الثلاثة بعد ان قال بها، قائلًا: و يؤمر من وجب قتله الاغتسال قبله ثلاثا على اشكال [1] و التكفين و التحنيط.

______________________________

[1] و قال ولده الشارح فخر الدين قدّس سرّه في بيان الاشكال: من حيث انه غسل الأموات و من انّه حيّ و عدم اقتضاء الأمر المطلق التكرار، و الأصحّ عندي الأوّل لأنّه تقديم لغسل الأموات على الموت و هو هو بعينه انتهى، راجع إيضاح الفوائد الجلد 1 الصفحة 59.

______________________________

(1) جواهر الكلام الجلد 4 الصفحة 94، و رواية مسمع: وسائل الشيعة الجلد 2 الباب 17 من غسل الميّت الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 445

و استدلّ بعضهم على انّه غسل واحد، بأمور: منها أصالة البراءة و منها إطلاق النصوص و الفتاوى و عدم التعرّض فيها للثلاثة و كذا غيرها من الشرائط المعتبرة في غسل

الأموات، و منها انّ هذا الغسل يأتي به الحيّ، و اغتسال الأحياء ثلاثا غير معهود.

كما انّه استدلّ من اعتبر الثلاثة بأنّ الظاهر كون هذا الغسل غسل الميّت الذي قدّم على الموت بأمر الشارع فحينئذ يعتبر فيه ما هو المعتبر في غسل الأموات.

و الإنصاف انّ الظاهر من النص و الفتوى هو الثاني فهو غسل الميّت و انّما يقدّم للتّعبّد و أمر الشارع فلذا يعتبر فيه ما يعتبر في غسل الأموات كما قوّى ذلك في الجواهر قال: من غير خلاف أجده فيه سوى العلّامة في القواعد و تبعه بعض من تأخّر عنه، ثم تعرّض قدّس سرّه لاستدلالات المخالف و أجاب عنها بضعف الجميع، ثم قال: و كذا لا إشكال في الاجتزاء به عن الغسل بعد الموت و انّه به ترتفع النجاسة الحاصلة بسبب الموت في غيره و كذا سائر ما يترتّب على غسل الميّت من عدم وجوب الاغتسال بالمسّ و نحوه و لا وجه لاستبعاد ذلك من حيث تقديم الغسل على سبب النجاسة بعد فرض ثبوت ذلك من النصّ و الفتوى إذا لأحكام الشرعية موكولة إلى صاحبها انتهى.

و في مفتاح الكرامة بعد كلام العلّامة في القواعد المذكور آنفا: هذا الحكم في الجملة ممّا لا خلاف فيه كما في المعتبر و الذكرى، و عليه الإجماع كما في الخلاف.

ثم قال: و وقع الخلاف في مواضع، الأوّل: انّ هذا الأمر على سبيل الوجوب أو الاستحباب، الثاني: الحكم عام أو مقصور على المرجوم و المقتول قودا الثالث: انّ الواجب أو المستحب الغسل مع التكفين و التحنيط أو بعضها الرابع:

انه يغسل ثلاثا أو واحدة و هذا هو الذي استشكل فيه المصنّف «1».

و نحن نقول: امّا بالنسبة إلى الموضع الأوّل فيمكن ان يقال:

انّه لا يجب ما لم يأمر الحاكم به و انّما يجب ذلك إذا أمره به.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة الجلد 1 الصفحة 423.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 446

و لكن الظاهر انه يجب الغسل على المرجوم بنفسه و انّما يجب ان يؤمر بذلك تحفّظا على إيقاع العمل و على ذلك فلو فعله هو بنفسه لكفى ذلك عن امره به، و ذلك لأنّه إذا أمر الشارع أحدا أن يأمر آخر بشي ء فلا بدّ ان يكون ذلك الشي ء واجبا على المأمور، و لذا أوجب أمره به و على الجملة فتارة نقول بضعف سند الخبر- كما عبّر صاحب الجواهر بقوله: بسند ضعيف جدّا- بلا جابر له في البين فهو، و امّا لو كان ضعف سنده منجبرا بعمل المشهور كما هو كذلك فلا وجه حينئذ لحمله على الاستحباب فان ظاهره الوجوب.

نعم ربما يوهم مرفوعة ابن خالد- في رجل طلب من الامام أمير المؤمنين عليه السّلام ان يطهّره من الزنا عدم لزوم الغسل أصلا فإنّ فيها: فأخرجه أمير المؤمنين فحفر له و صلّى عليه و دفنه فقيل يا أمير المؤمنين الا تغسّله؟ فقال: قد اغتسل بما هو طاهر الى يوم القيامة. لقد صبر على أمر عظيم «1»- عدم وجوب الغسل مطلقا لا قبل الرجم و لا بعده و الّا لكان اللازم ان يجيب «ع» بأنّه قد اغتسل قبل رجمه.

و فيه انها ليست صريحة و لا ظاهرة في ذلك و لعلّ وجه عدم التعرّض له هو انّه عليه السّلام كان قد امره بالغسل قبل رجمه.

و امّا بالنسبة إلى الموضع الثاني و هو انّه هل الحكم عامّ لكلّ من كان محكوما بالقتل أو انّه يختصّ بالمرجوم و الذي يحكم عليه بالقتل قصاصا؟

فنقول:

انّ المذكور في رواية كردين التي هي الأصل في الحكم هو المرجوم و المرجومة و كذا المقتصّ منه و لم يزد فيها على ذلك شي ء، فان كان قد تحقق إجماع على التعميم و الإلحاق فهو و الّا- كما هو الواقع- فلا وجه للتعميم، استنادا إلى المشاركة في السبب، بل هو قياس لا نقول نحن به، فالقدر المسلّم و المتيقّن الذي لا مناص عن الأخذ به هو المرجوم و المقتول قودا، كما انّه لو شكّ في ذلك فالأصل عدم الإلحاق، فيكون غير الموردين الخاصّين تحت أدلّة غسل الميّت فيجب غسله بعد قتله و موته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من أبواب حدّ الزنا الحديث 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 447

و امّا الموضع الثالث و هو اعتبار التكفين و التحنيط ففي خير كردين «1» ذكرهما مع الغسل حيث قال: المرجوم و المرجومة يغسّلان و يحنطان و يلبسان الكفن، لكن عبارات الأصحاب مختلفة فبعضها ساكت عن ذكرهما رأسا و ذلك كعبارة المحقّق في «حدود الشرائع» كما انّه اقتصر على ذكر امره بالاغتسال قبل القتل في «كتاب الطهارة» و بعضها متعرّض لكليهما كما انّ بعضها قد تعرّض لواحد منهما.

ففي المبسوط: إذا رجم غسل و صلّى عليه و حكمه بعد الرجم حكم المسلم إذا مات و حكم من يقتل قصاصا يغسّل و يصلّى عليه و يدفن في مقابر المسلمين بلا خلاف، و روى أصحابنا انّه يؤمر بالاغتسال قبل الرجم و التحنيط، و كذلك من وجب عليه القصاص فاذا قتل صلّى عليه و دفن «2».

فقد ذكر هنا مع الاغتسال التحنيط خاصّة.

و قال الصدوق في المقنع: و المرجوم يغسّل و يحنّط و يكفّن ثم يرجم بعد ذلك، و

كذا القاتل إذا أريد قتله قودا «3».

ترى انّه ذكر مع الغسل، التحنيط و التكفين كليهما، نعم ظاهر كلامه انّ المباشر لهذه الأمور هو غير المرجوم و مقتضى ذلك هو انّه يجب ان يغسّله آخر و يحنّطه و يكفّنه لا انّه يؤمر هو بذلك كي يأتي به بنفسه.

و قال الشيخ المفيد: و المقتول قودا يؤمر بالاغتسال قبل قتله فيغتسل كما يغتسل من جنابته و يتحنّط بالكافور فيضعه في مساجده و يتكفن ثم يقام فيه بعد ذلك الحدّ بضرب عنقه ثم يدفن «4».

و لكنّ الظاهر هو وجوب كلّ هذه الأمور، و انّ ترك ذكر التحنيط أو التكفين في بعض الكلمات كان للاختصار لا لعدم الاعتبار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 2 الباب 17 من أبواب غسل الميّت الحديث 1.

(2) المبسوط الجلد 8 الصفحة 4.

(3) المقنع الصفحة 20.

(4) المقنعة الصفحة 85.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 448

و امّا الموضع الرابع اى البحث في انّه يغتسل ثلاثا أو واحدة فهو محلّ الكلام كما تقدّم. و قد يستظهر من عبارة المفيد المذكورة آنفا انّه غسل واحد و ذلك لانّه قال: يغتسل كما يغتسل من جنابته انتهى فان من المعلوم انّ غسل الجنابة غسل واحد لا أزيد.

نعم يمكن ان يحمل كلامه على انّ غسل هذا كغسل الجنابة في الترتيب و الكيفيّة و لا ظهور كامل له في تشبيهه بغسل الجنابة في عدم التعدّد و التكرار و ان كان هذا الحمل بعيدا و ذلك لظهوره في المثلية مطلقا لا في خصوص الترتيب و كيفيّة الإيقاع فتشمل جهة الوحدة و عدم التعدّد أيضا.

ثم انّ ممّن أنكر اعتبار الثلاثة هو الفقيه الهمداني رضوان اللّٰه عليه و قد بالغ و أكدّ على ذلك قال بعد

كلام له: و كيف كان فلا ينبغي الارتياب في انّ المراد في النصّ و الفتاوى ليس الّا الغسل بالماء القراح دون الغسل مع مزج الخليطين إذ من المستبعد جدّا بل المحال عادة في خصوص الفتاوى ان يكون المقصود بالغسل الأغسال الثلاثة من دون إشارة إليها مع انّه لا ينسبق الى الذهن من أمر الحيّ بالغسل كما وقع في عبائرهم إلّا الغسل بالماء القراح فكيف يجوز في مثل الفرض الإهمال في بيان المقصود اتكالا على ظهور العبارة في إرادة غسل الميّت مع انّه على تقدير تسليم الظهور لا دلالة فيها على إرادة الأغسال الثلاثة لاحتمال اختصاص الغسل بالممزوج، بالميّت، لخصوصيّة فيه، و كون الغسل الحقيقي المؤثّر في رفع حدثه هو الغسل بالماء القراح فاستظهار اعتبار التثليث من إطلاق النص و فتاوى الأصحاب كما زعمه غير واحد من المتأخرين غير سديد فالأظهر كفاية الغسل الواحد بالماء القراح و ان كان الثلاث أحوط خروجا من شبهة الخلاف انتهى.

و لقد أجاد فيما أفاد من عدم ذكر عن التعدد و لا الخليطين في النصوص و الفتاوى، و هذا يقوّى في الذهن عدم اعتبارهما أصلا خصوصا بلحاظ ذكر الحنوط و الكفن في العبائر و على هذا فلا يعتبر التعدّد و لا الخليطان على ما هو المنساق إلى الأذهان من غسل واحد بالنسبة إلى الحيّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 449

و لكن مع ذلك لا يترك الاحتياط، بمراعاة الأمرين و ذلك لما ذكرناه آنفا من انّ هذا الغسل بمقتضى مقام الاستظهار هو الغسل المقرّر للأموات بعد تحقّق الموت لكنّه قد قدّم في المورد على الموت، و إذا استظهر كونه هو بنفسه فلا بدّ من مراعاة ما كان له من الشرائط

و لا أقلّ من الاحتياط بمراعاته. لانّ الغسل بالماء القراح يتحقّق على كلا القولين و ضمّ الغسل بالخليطين لا يبطل الغسل بالماء الخالص، و ان كان لو شك واقعا تجري أصالة البراءة عن الزائد لكن بلحاظ ما ذكرناه يحتاط بثلاثة أغسال على ما هو المعهود في غسل الأموات.

و إذا اغتسل قبل رجمه أو قتله فيترتّب على غسله ما يترتّب على غسل الأموات فلا يوجب مسّه بعد ذلك الغسل لان بدنه طاهر.

نعم هنا بحث و هو انّ غسل الميّت حيث يكون عقيب الموت يوجب زوال النجاسة الحاصلة بالموت فكان الميّت قبل ان يغسّل نجسا و يؤثّر مسّه بعد برده الغسل و إذا غسّل يكون طاهرا و لا يوجب مسّه الغسل، و امّا إذا وقع الغسل قبل الموت فكيف يتصوّر ان يزيل النجاسة التي لم تحصل بعدُ.

اللّهم الّا ان يقال في رفع الإشكال بأنّه لا يحكم بنجاسة الميّت الذي قد اغتسل قبل قتله بأمر الشارع و يكون غسله هذا مانعا عن حصول النجاسة و بعبارة اخرى: انّه قد يكون الغسل رافعا للنجاسة و قد يكون دافعا لها، و الغسل بعد الموت في المورد المبحوث عنه من قبيل الدفع الذي هو المنع عن تقرّر الشي ء خارجا و يؤل الأمر إلى القول بأنّ الإنسان يتنجّس بالموت إلّا الذي اغتسل قبل موته في الموارد الخاصّة فإنّه لا يتنجّس أصلا.

و بعبارة ثالثة: انّ الأمر يدور بين ان نقول بانّ هذا المرجوم مثلا يتنجّس بموته و لكن يجب دفنه كذلك تعبّدا و على هذا فقد خصّص دليل وجوب تطهير المؤمن قبل دفنه و كأنّه قيل: الّا في المرجوم و يجب غسل الميّت المسلم إلّا في هذه الموارد المعيّنة، و بين ان نقول

بأنّه يلزم تطهير المسلم قبل دفنه و بعد موته إلّا في المرجوم مثلا فإنّه يغتسل قبل الموت لقيام الدّليل على ذلك و على هذا فقد خصّص دليل وجوب كون الغسل بعد الموت، و الظاهر هو الثاني.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 450

الكلام فيما إذا لم يغتسل قبل الرجم

و لو لم يغتسل قبل الرجم مثلا فما هو الوظيفة؟ الظاهر انّه يجب تغسيله بعده لانّه لو كان يغتسل قبل رجمه لكان غسله كافيا عن الغسل بعد الموت بلا كلام و امّا إذا لم يغتسل قبل ذلك فأدّلة وجوب تغسيل المسلم مطلقا تقتضي وجوب تغسيله الآن، و لذا قد يقال: بانّ وجوب الغسل قبل موته أو بعده من قبيل الوجوب التخييري.

و لكن فيه انّه يمكن ان يقال بانّ الواجب هو غسله قبل الرجم مثلا الّا انّه لو خولف ذلك و عُصي هذا الأمر يجب غسله بعد الموت و على هذا فلم يكن من قبيل الوجوب التخييري بل من باب الوجوب التعيينيّ و الترتيبيّ.

الكلام فيما إذا كان جنبا

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 1، ص: 450

ثم انّه لو كان جنبا فهل يكفى غسله هذا عن الجنابة أم لا؟ معلوم انّه في غسل الحيّ يتداخل الأغسال إذا كان قد نوى الجميع و يسقط الأغسال المتعدّدة بذلك بل و لو قصد الجنابة لكفى ذلك عن باقي الأغسال و امّا في المقام فيشكل الثاني فإذا نوى الجنابة بغسله لا يكون هذا كافيا عن غسل المرجوم.

نعم لو نوى به غسل الجنابة أيضا و كذا سائر الأغسال إذا كانت عليه فهناك يكتفى به لكن لا يخفى انّ التداخل يجري في الغسل بالماء القراح و امّا بالماء الممزوج بالخليطين فلا معنى للتداخل فيه.

لا يقال: انّ وجوب غسل الجنابة كالحيض و النفساء غيريّ و مع الموت يرتفع التكليف بالصلاة مثلا فلا يبقى وجوب لهذا الغسل و لا اثر لهذه الجنابة كي يغتسل عنها و ينوي

باغتساله للرجم الغسل للجنابة أيضا.

لأنا نقول: انّه و ان كان قد سقط الغسل من هذه الناحية الّا انّه لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 451

ينحصر اثر الغسل في تجويز العبادة بل له آثار أخر عظيمة كعدم وروده في المحشر مع الجنابة التي هي نوع قذارة روحيّة فيؤثّر غسل الجنابة في ان يرد القيامة طاهرا متطهّرا بخلاف ما إذا لم يغتسل منها كما يظهر ذلك من قصّة الشاب الذي كان ينبش القبور و ينزع و أكفان الموتى و كلام الجارية التي كانت من بنات الأنصار بعد موتها و عند ما زنى ذلك الشّاب بها و أخذ كفنها حيث نطقت بإذن اللّٰه و قالت: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني و إياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى و نزعتني من حفرتي و سلبتني أكفاني و تركتني أقوم جنبة الى حسابي فويل لشبابك من النار «1».

و مع ذلك كلّه ففي وجوب غسل الجنابة هنا إشكال لأنهم لا يقولون بوجوبه على الميّت الذي كان جنبا و ان كان خبر عيص- قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: الرجل يموت و هو جنب قال: يغسل من الجنابة ثم يغسل بعد غسل الميت «2»- يدلّ على الوجوب لكن المشهور لم يعملوا به فلا اعتبار له فلو كان هذا الخبر و الخبران الآخران المنقولان عنه بهذا المضمون معتبرة معمولة بها لكنّا نقول بالوجوب، و لكن مع عدم إفتاء المشهور فلا، و على هذا فليس يجب على الميّت غسل الجنابة لعدم مستند صحيح، لا لانّ غسل الجنابة غيري و هو ساقط عن الميّت و ذلك لما عرفت من ضعفه، و لو لا ضعف الخبر لكان

اشكال الوجوب الغيري قابلًا للدفع بما ذكرناه من الوجه.

هذا مضافا الى روايات عديدة ناطقة بعدم وجوب غسل الجنابة مع كونه جنبا و الاكتفاء بغسل الميّت و لعلّ ما ذكر في خبر عيص كان لتحصيل مزيد الثواب.

نعم انّه و ان لم يكن بواجب لكنّ الاحتياط حسن.

و هذا الذي ذكرناه في الميّت الجنب يجري في المحكوم بالرجم الذي كان عليه غسل الجنابة و يزيد هنا التأييد بمرفوعة محمّد بن خالد و قول أمير المؤمنين

______________________________

(1) أمالي الصدوق المجلس 11 الصفحة 27 و بحار الأنوار الجلد 6 الصفحة 23.

(2) وسائل الشيعة الجلد 2 الصفحة 722 الحديث 7 من الباب 31 من غسل الميّت و الحديث 5 و 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 452

فيها- بالنسبة الى رجل أقرّ عنده بالزنا و رجمه الامام عليه السّلام-: قد اغتسل بما هو طاهر الى يوم القيامة لقد صبر على أمر عظيم، و قد تقدم ذكرها آنفا فإنها ظاهرة في انّ حضوره للرجم و صبره عليه موجب لطهارته و على هذا فلو اغتسل للرجم فلا حاجة الى غسل الجنابة بعد ذلك. و امّا عدم اشتمال هذا الخبر على ذكر الغسل قبل الرجم فقد مرّ انّه لا يدلّ على عدمه حتّى يخالف النصّ و الفتوى.

هذا مضافا الى انّ روايات اغتساله قبل رجمه مطلقة تشمل ما إذا كان عليه غسل الجنابة أم لا.

و على ما ذكرنا من حسن الاحتياط فان لم يغتسل لجنابته بنفسه و لا انّه نواها في غسله للرجم فيحسن ان يغسل بعد موته لهذا.

هذا كلّه إذا كانت الجنابة من قبل و امّا لو وقعت بعد غسله للرجم فهل هو كما إذا كان السبب من السابق؟

أقول: الظاهر عدم بطلان غسله

للرجم بالجنابة اللاحقة لعدم استفادة ذلك من الأدلّة و ان كان الاحتياط حسنا.

فروع مناسبة لغسل المرجوم

ثم انّه لو اغتسل للرجم مثلا لكنّه مات بعد الغسل حتف انفه فهل يجزيه غسله السابق أم لا؟

الظاهر عدم اجزائه عن غسل الميّت و ذلك لدلالة العمومات على وجوب غسل الميّت المسلم مطلقا و انّما خرج ما إذا كان محكوما بالرجم أو القتل فإنّه يقدّم غسله و حيث انّ المقام لم يكن من مصاديق المرجوم و المقتول فالمرجع هو العمومات الدّالة على وجوب الغسل.

و بعبارة اخرى انّه من قبيل تبدّل الموضوع، فالغسل المقدّم كان للمرجوم و هذا ليس بمرجوم و انّما مات هو حتف انفه.

و لو اغتسل للرجم ثم قتل بسبب آخر غيره كما إذا قتل قصاصا قبل ان يرجم فالظاهر عدم الاكتفاء بغسله الذي قد اتى به للرجم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 453

و هكذا عكس ذلك كما إذا اغتسل لان يقتصّ منه ثم رجم للزنا.

و امّا لو اغتسل لان يقتصّ منه لشخص ثم قتل لشخص آخر كما إذا عفى عنه وارث المقتول الأوّل و اقتصّ منه وليّ المقتول الثاني أو انّه في الذهاب به الى موضع القصاص للاوّل صادفه وليّ الثاني فقتله، فقد استشكل صاحب الجواهر هنا في وجوب التجديد و ذلك لاتّحاد السبب.

و فيه انّ المعيار و الميزان في لزوم التجديد و عدمه في هذه الفروع كلّها أمر واحد و هو انّه هل الغسل هنا من التوصليّات التي لا تحتاج الى قصد القربة كرفع الخبث عن الثوب و البدن حيث يكتفى بمجرّد ذلك و ان لم يكن مقترنا بالقصد أو كان مقترنا بقصد آخر أو قصد الخلاف فيتطهر الثوب المتنجّس بنجاسة كذا إذا غسله متخيّلا تنجسه بنجاسة

أخرى، أو انّه ليس كذلك بل هو يحتاج الى القصد؟

الظاهر هو الثاني و لذا لو أتى بطهارة حدثيّة بلا قصد و لا نيّة فإنّها باطلة قطعا، و امّا صحّة الوضوء بلا حاجة الى نيّة كونه لصلاة الظهر أو العصر فهو لأجل كفاية قصد الطهارة غاية، سواء صلّى الظهر أو العصر، و امّا الموارد الأخر فهي تحتاج الى القصد فلذا لو وقع الغسل بقصد الحيض ثم بان انّه كان نفاسا لا حيضا أو بالعكس فإنّه لا يكتفى به.

و امّا الاجتزاء بقصد الجنابة عن سائر الأغسال اللازمة بأسبابها فهو لدليل خاص و الّا فكلّ سبب يحتاج الى قصد خاص و ان تداخلت الأسباب، و لو غسّل ميتا بتصوّر انه زيد ثم انكشف انّه عمرو فإنّه لا يجتزى بذلك الغسل إلّا إذا كان قد نوى غسل هذا الميّت فإنّه لا يضرّه الخطأ في المصداق.

و الحاصل انّه يشكل الاكتفاء بالغسل الذي اتى به للاقتصاص عن أحد ثم قتل قصاصا عن آخر.

و لو فرض الشك في الاكتفاء و عدمه فحيث انّ المسئلة من قبيل العامّ و الخاص يلزم الاحتياط للشك في التخصيص.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 454

كيفيّة جلد الزاني

قال المحقّق: و يجلد الزاني مجرّدا و قيل على الحال التي وجد عليها قائماً أشدّ الضرب و روى متوسّطا.

الكلام هنا في أمور: أحدها انّه هل يجلد الزاني مجرّدا أو مع ثيابه؟

فنقول: انّ في المسئلة قولين: أحدهما انّه يجرّد عدا عورته و يجلد و قد ذهب الى ذلك المحقق في الشرائع و النافع، و العلّامة في القواعد و كذا غيرهما و عن الصيمري في غاية المرام انّه المشهور.

ثانيهما انّه يجلد على الحال التي وجد عليها فان كان عاريا في تلك الحال

جلد عاريا و ان كان كاسيا فكاسيا ذهب الى ذلك: الشيخ و جماعة بل هو المشهور بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه.

و هل المراد من الحال التي وجد عليها هو حال الزّنا أو حال أخذه؟

عبارة المحقق و عباراتهم مجملة و لا يتّضح انّ المراد هذا أو ذاك؟ [1].

و احتمل كاشف اللثام ان يكون لفظ (يوجد) في رواية طلحة الآتية تصحيفا ان يكون الصحيح: (يؤخذ) حتّى يكون المراد هو حال أخذه و رفع امره الى الحاكم.

و على الجملة فعلى القول الثاني يلاحظ انّه كان الزاني كاسيا أو عاريا فيضرب كاسيا ان كان هو بنفسه كذلك.

نعم عن ابن إدريس: ما لم يمنع الثوب من إيصال شي ء من الم الضرب.

كما انّ الشيخ قدّس سرّه اعتبر نزع ما كان يمنع الم الضرب قال: و امّا

______________________________

[1] أقول: انّ عبارات عدّة منهم صريحة في انّ المراد هو حال الزنا، قال المفيد في المقنعة: و يجلد قائماً في ثيابه التي وجد فيها زانيا. و ان وجد عريانا في حال الزنا جلد عريانا بعد ان يستر فرجه انتهى و مثلها عبارة الصدوق في المقنع الصفحة 143.

و في الغنية: و يقام الحدّ على الرجل على الهيئة التي رأى زانيا عليها من عرى أو لباس.

و في القواعد: ثم الحدّ ان كان جلدا ضرب مجرّدا و قيل على حالة الزنا انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 455

صفة المضروب، فان كان رجلا ضرب قائماً و يفرق الضرب على جميع بدنه و لا يجرّد عن ثيابه لأنّ النبي عليه و آله السّلام أمر بالضرب و لم يأمر بالتجريد، و روى أصحابنا انّ في الزنا يقام عليه الحدّ على الصفة التي وجد عليها ان كان عريانا

فعريانا و ان كان عليه ثيابه ضرب و عليه ثيابه فان كان عليه ما يمنع الم الضرب كالفروة و الجبّة المحشوّة نزعها و ترك بقميصين و لا يشدّ و لا يمدّ و لا يقيّد و يترك يداه يتّقى بهما لأنّ النبي عليه و آله السّلام يأمر بذلك «1».

ثم انّ منشأ القولين في المسئلة هو الروايات فان فيها اختلافا.

فعن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الزاني كيف يجلد؟ قال: أشدّ الجلد، قلت: فمن فوق ثيابه؟ قال: بل تخلع ثيابه قلت:

فالمفتري؟ قال: يضرب بين الضربين جسده كلّه فوق ثيابه «2».

و عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الزاني كيف يجلد؟ قال: أشدّ الجلد، فقلت: من فوق الثياب؟ قال: بل يجرّد «3».

و أنت ترى التصريح هنا بلزوم تجريده و خلع ثيابه.

و لكن في رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه قال: لا يجرّد في حدّ، و لا يشنح يعنى يمدّ و قال: يضرب الزاني على الحال التي يوجد عليها ان وجد عريانا ضرب عريانا و ان وجد و عليه ثيابه ضرب و عليه ثيابه «4».

و هي صريحة في النهي عن التجريد.

نعم قد يتراءى التعارض بين صدر هذا الخبر و ذيله و ذلك لانّ الصدر ينهى عن التجريد و يمنع عن ذلك، و الذيل يفصّل بين وجدانه عريانا فيضرب عريانا و بنى وجدانه و عليه ثيابه فيضرب و عليه ثيابه فالملاك بحسب الذيل هو الحال التي وجد عليها.

و نحن نقول انّ في صدر الخبر احتمالين: أحدهما ان يكون المراد انّه لا

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 69.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من أبواب حدّ الزنا الحديث 2.

(3) وسائل

الشيعة الجلد 18 الباب 11 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من أبواب حدّ الزنا الحديث 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 456

يضرب في حال التجرّد أصلا بل يلزم و يعتبر ان يكون عليه ثياب ثانيهما ان يكون المراد منه انّه لو كان كاسيا عليه ثيابه فلا يجرّد و بعبارة اخرى انّه لا يتعيّن تجريده للحدّ بحيث لو كان كاسيا لكان يجب تجريده.

فعلى الأوّل: فبين الصدر و الذيل و ان كان نوع تناف لكنه بنحو العموم و الخصوص أو المطلق و المقيّد و ذلك لانّ الصدر يقول: لا يجرّد في حدّ من الحدود أصلا فيلزم ان يكون عليه ثيابه، و الذيل يقول ان كان الزاني وجد عريانا ضرب كذلك، و ان وجد و عليه ثيابه يضرب و عليه ثيابه، فيخصّص الصدر بالذيل، و النتيجة انّه لا يجوز تجريد أحد في حدّه إلّا الزاني فإنه لو وجد عريانا ضرب عريانا فقد خصّص العموم بخصوص باب الزنا في حالة خاصّة.

و على الثاني: فلا منافاة أصلا بين الصدر و الذيل لانّ مفاد الصدر- انّه لو كان كاسيا لا يعتبر تجريده، و الذيل أيضا يقول لو كان حين وجد عريانا ضرب عريانا و ان وجد و عليه ثيابه ضرب و هو في أثوابه، و من المعلوم انهما متوافقان و بينهما كمال الملائمة.

و على الجملة فعلى فرض ليس بينهما ادنى نخالف و تهافت، و على فرض يكون هناك تناف لكنه بنحو العموم المطلق الذي يحمل العامّ على الخاصّ فكيف يقال بانّ بينهما التعارض؟.

ثم انّه بعد ان ثبت عدم مشكلة في البين من ناحية صدر هذا الخبر و ذيله تصل النوبة إلى ملاحظة

هذا الخبر مع سائر الأخبار فمقتضى خبر إسحاق بن عمّار هو اعتبار التجريد و خلع اللباس عن المحكوم بالجلد في حين انّ خبر طلحة يدلّ على عدم التجريد و ينهى عن ذلك ففي مورد الكاسي يتعارضان لأنّ أحدهما يوجب التجريد و الآخر يمنع التجريد.

و قد صاروا بصدد الجمع بينهما و ذكروا له وجوها:

منها التخيير بينهما، قال كاشف اللثام قدّس سرّه: و قد يجمع بينه و بين ما تقدّم بالتخيير انتهى و في الحقيقة قد حمل النهي في خبر طلحة بقوله: «لا يجرّد» على عدم تعيّن التجريد و عدم وجوبه و قوله: يضرب من فوق ثيابه، في خبر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 457

إسحاق، على جواز ذلك و عدم تعيّن هذا أيضا.

و هذا خلاف الظاهر جدا.

و منها انّهما تسقطان بالتعارض و المرجع هو إطلاقات أدلّة الجلد من الكتاب و السنة، و مقتضاها جواز الجلد كاسيا.

و أورد عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنّه مع تعارض الخبرين بنحو التباين فما هو وجه عدم الأخذ بالتخيير خصوصا مع الإشكال في كون ما في الكتاب و الاخبار في مقام البيان.

و فيه انّ الظاهر انّه ليس هذه الأدلّة في مقام أصل التشريع بل الظاهر انّها في مقام البيان من كثير من الجهات و قد استقرّت عادتهم على الأخذ بعمومها أو إطلاقها في مواقع مختلفة و امّا التخيير فهو موقوف على كون الدليلين متكافئين و متساويين لا مع وجود المزيّة و الرجحان كالشهرة و غيرها ففي الخبر خذ بما اشتهر بين أصحابك، و هنا المشهور هو الأوّل.

و قد يقال: انّه بعد تساقط الروايتين لا يرجع الى مثل الآية كي يستشكل بعدم كونها في مقام البيان بل يرجع الى بعض

الروايات الوارد في خصوص باب الجلد مع عدم تعرّضه لهذه الجهة و ذلك كخبر زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال: يضرب الرجل الحدّ قائماً و المرأة قاعدة و يضرب على كلّ عضو إلخ.

و فيه انّ الرجوع اليه موقوف على كون هذا الخبر في مقام البيان من هذه الجهة و هو غير معلوم بل لعلّ الظاهر كونه في مقام البيان من حيث خصوص القيام و القعود و كذا جهة ضرب مطلق الأعضاء، و امّا الإشكال في الرجوع الى العمومات فقد أجبنا عنه آنفا.

و منها ما قاله بعض بانّ خبر إسحاق بن عمّار حيث تضمّن السؤال عن الجلد من فوق الثياب فدلالته على وجوب التجريد أقوى و أظهر من دلالة خبر طلحة في عدمه.

و فيه أوّلا انّه لا فرق بينهما لانّه و ان كان خبر إسحاق ظاهرا من هذه الجهة الّا انّ خبر طلحة أيضا لاشتماله على الذيل المشتمل على التشقيق يصير

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 458

ظاهرا جدّا، فهما مثلان في الظهور و لا مزيّة لأحدهما على الآخر في ذلك.

و ثانيا انّه لا يرفع اليد عن الظهور العرفي الحجّة و لا يصرف النظر عنه بمجرّد انّ في قباله ما هو أظهر.

و منها ما قد يقال من انّ معتبرة إسحاق بن عمّار مطلقة من جهة انّه كان في حال وجدانه عاريا و اكتسى بعد ذلك أو انّه كان كاسيا حال وجدانه و عليه فيقيّد إطلاقها بمعتبرة طلحة بن زيد، و النتيجة هي اختصاص وجوب الخلع و التجريد بما إذا كان في حال وجدانه عاريا و امّا إذا كان كاسيا حين ان وجد، ضرب و عليه ثيابه.

و في الجواهر: بعد الاستدلال للقول بالتفصيل بخبر

طلحة بن زيد:

مؤيّدا ببناء الحدود على التخفيف و لذا تدرأ بالشبهة فضلا عن المقام فيخصّ به حينئذ ما سمعت إلخ.

يعنى ان الخبر يؤيّد بأنّ بناء الحدود على التخفيف فمهما أمكن يلاحظ ذلك في إجراء الحد و من شئونه هو عدم جلده عريانا و مجرّدا مطلقا و انّما يجرّد إذا وجد في حال الزنا مثلا مجرّدا، هذا إذا لو حظ مجرّد الشبهة مع صرف النظر عن الدليل الوارد في المقام فكيف بما إذا لو حظ الدليل الناطق بعدم تجريده إذا وجد و عليه ثيابه.

و نحن نقول: هذا الكلام لا يخلو عن اشكال بل هو خلاف ظاهر الروايات الواردة في كيفيّة الضرب الدّالة على انّه يضرب أشدّ الضرب.

و التحقيق انّه فرق بين مقام إثبات الحدّ و مقام إجرائه، و درء الحدود بالشبهات متعلق بالمقام الأوّل دون الثاني فإنّه مقام التشديد لا التخفيف.

لكن قوله: فيخصّ إلخ فهو تامّ فان خبر طلحة صريحة في انّه ان وجد عريانا ضرب عريانا و ان وجد و عليه ثيابه ضرب و عليه ثيابه، فلا يجرّد إذا كان قد وجد و عليه ثيابه و امّا خبر إسحاق الدّال على التجريد للجلد فهو مطلق شامل لكلّ زان سواء أ كان وجد عاريا أو وجد و عليه ثيابه و نتيجة التخصيص وجوب تجريده إذا وجد عاريا و امّا إذا وجد و عليه ثيابه فلا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 459

نعم أورد عليه بعض الأعاظم بقوله: و امّا ما ذكر من اختصاص وجوب الخلع بما إذا كان في حال وجدانه عاريا و اكتسى بعد ذلك فالظاهر انّه من حمل المطلق على غير الغالب، و مقتضى الحكمة ذكر المطلق، و الباقي فيه بعد التقييد، الأكثر،

لا الأقلّ و لا المساوي انتهى.

و حاصل ذلك لزوم تخصيص الأكثر.

و فيه انّ ذلك غير مسلّم فلا يعلم حال الأغلب في تلك الحال كي يقال بتخصيص الأكثر أو عدمه.

ثم انّه يمكن ان يستفاد من رواية العلل «عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام فيما كتب اليه: و علّة ضرب الزاني على جسده باشدّ الضرب لمباشرته الزنا و استلذاذ الجسد كلّه به إلخ «1»» لزوم التجريد مطلقا و ذلك لانّ اللازم هو إحساس الجسد الم الحدّ بعد ما أحسّ لذّة الحرام، فان هذا التعليل لا يتحقق الّا بان يجرّد البدن كي يتألم جسده و لا أقلّ من انّ التجريد انسب لإحساس الألم المطلوب في حدّ الزنا.

اللّهم الّا ان يقال بأنّ الأثواب الخفيفة غير مانعة عن إحساس الألم و لذا قيّد بعض العلماء عدم كون الثوب ممّا يمنع من الم الضرب كالفروة و الجبّة و غير ذلك، و هو كذلك، بل لعلّ أدلّة الضرب و الجلد تكون منصرفة عن ذلك، لأنّه إذا كان قد كسي الجبّة و المحشوّة و الفروة و أمثال ذلك فهو لا يحسّ الم الضرب و لا يترتّب على هذا الجلد اثر و فائدة أصلا فيلزم ان يجرّد من مثل هذه الأثواب حتّى و لو كان حين الزنا لابسا لها.

أضف الى ذلك كلّه انّه لو لم يمنع عن مثل ذلك و كان مجازا ان يضرب و عليه مثل الجبّة فربّما يجعل الزناة ذلك ذريعة الى هذه المعصية العظيمة لأنّه لا الم في الجلد و الحال هذه.

لا تخلع ثياب المرأة لإقامة الحدّ عليها

ثم انّ هذا كلّه كان بالنسبة الى الرجل و امّا المرأة فلا بد من ان يكون

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث

8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 460

عليها ثيابها و ذلك لانّ بدن المرأة عورة.

- و امّا جواز تجريدها إذا كان مجرى الحدّ هو المرأة فهو يحتاج الى البحث في جواز إجراء المرأة الحدّ و عدمه، و لم نعثر الى الآن على مورد في الروايات يفيد انّ المجرى كان هو المرأة و البحث محتاج الى الفحص التام و التأمّل الكامل و سيأتي البحث في ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

و في الجواهر: و عن المقنع: و يجلد ان في ثيابهما التي كانت عليهما حين زنيا و ان وجدا مجرّدين ضربا مجرّدين، و فيه كما عن المختلف انّ بدن المرأة عورة فلا يجوز تجريدها كعورة الرجل و الخبر المزبور ظاهر في الرجل، و احتمال ارادة الجنس منه مجاز محتاج إلى قرينة و هي مفقودة بل لعلّ القرينة على خلافها موجودة انتهى.

أقول: هكذا نقل الجواهر عن المقنع و اعترض عليه بما نقلناه و لكن نحن قد راجعنا عبارة الصدوق فيه و لم تكن على طبق المحكى عنه و إليك عبارة المقنع بنفسها. و يجلدان في ثيابهما التي كانت عليهما حين زنيا انتهى كلامه [1] و أنت ترى انّه لا تعرّض فيها لحال تجرّدهما أصلا و على هذا فلا يرد عليه اما أورده صاحب الجواهر.

فلو كان الصدوق قال بذلك لما قد وقف عليه من رواية فيه لكان يمكن توجيهه بانّ قد استثنى هذا المورد الخاص عن الحكم بوجوب ستر بدن المرأة نظير استثناء رؤية الطبيب بدنها عند الضرورة إليها، عن الحكم الكلى بوجوب ستر بدنها، الّا انّ الكلام في انّه رحمه اللّٰه قال بذلك أم لا، و قد نقلنا عبارته آنفا.

______________________________

[1] المقنع الصفحة 144، أقول: انّه لا اشكال

على صاحب الجواهر فإنّه حكى ذلك عن المختلف و إليك عبارة المختلف الصفحة 762: قال الشيخ في النهاية: و هو المشهور انّ الرجل يجلد قائماً على حالته الّتي وجد عليها ان وجد عريانا جلد كذلك و ان وجد و عليه ثيابه ضرب و عليه ثيابه و المرأة إذا أريد جلدها ضربت مثل الرجل غير انها لا تضرب قائمة بل تضرب و هي جالسة عليها ثيابها قد ربطت عليها لئلا تنهتك فتبدو عورتها، و قال الصدوق في المقنع: و يجلد ان في ثيابهما التي كانت عليها حين زنيا و ان وجدا مجردين ضربا مجرّدين و المعتمد الأوّل إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 461

و التحقيق انّ هذه الروايات الواردة في التجريد لا تعرّض فيها للمرأة أصلا و لا يصحّ ان يقال انّ المراد من الرجل، الأعم من الرجل و المرأة بل الروايات منصرفة عنها بالنسبة الى هذا الحكم، فان المطلوب منها شرعا هو الستر و ما يلائم عفافها، بل في بعض الروايات ما يدلّ على لزوم سترها كيلا تبدو لغير ذي محرم عليها و ذلك كرواية أبي مريم عن ابى جعفر عليه السّلام في امرأة أتت أمير المؤمنين عليه السّلام فقالت: انّى قد فجرت الى ان أقرّت بذلك اربع مرّات و بعد ان وضعت حملها رجمها، و في هذا الخبر: ثم أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة في الرّحبة و خاط عليها ثوبا جديدا و أدخلها الحفيرة إلى الحقو «1».

لا يقال: انّ هذا الخبر متعلق بالرجم و وارد في المحصنة، و الكلام الآن في الجلد و في غير المحصنة.

لأنّه يقال: انّ الملاك الوحيد و الرمز الأصلي في ذلك هو سترها و عدم هتكها

برؤية الأجانب لها و ان لا تنكشف لديهم، و لا فرق في ذلك بين المحصنة و غيرها و ما إذا كان حدّها الرجم أو الجلد و ان كانت الرواية كما ذكر واردة في المحصنة و رجمها.

لا يقال انّه بعد ورود الروايات في تجريد الرجل نقول بذلك في المرأة أيضا إلغاء للخصوصيّة.

لأنّا نقول: انّه لا يمكن ذلك بعد انّ اللّٰه تعالى لم يلغ الخصوصيّة هنا بل أثبتها و أكّد عليها و ذلك لتأكيد الشرع على كمال سترها بحيث ورد في بعض الآثار و الكلمات انّه يرتبط عليها ثيابها- اى تشدّ عليها- لئلا تنهتك و تبدو عورتها، و السرّ في ذلك هو المراقبة عليها كيلا يرتفع ثوبها بهبوب الرياح أو بإصابة الجلدات فتبدو بدنها و على الجملة فالأمر بالتجريد منصرف الى الرجل و لا يشمل المرأة أصلا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من أبواب حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 462

الكلام في انه يجلد قائماً أشد الضرب

و ممّا ذكره المحقق و غيره في كيفيّة الجلد هو ضربه قائماً و انّه يضرب أشد الضرب.

أقول: امّا الأوّل، فيدلّ عليه خبر زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

يضرب الرجل الحدّ قائماً و المرأة قاعدة «1».

و امّا الثاني، أي ضربه أشد الضرب فهو الأشهر رواية و فتوى كذا في الجواهر و تدلّ عليه عدة من الاخبار ففي خبر إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن الزاني كيف يجلد؟ قال: أشدّ الجلد، فقلت: من فوق ثيابه؟ قال: بل تخلع ثيابه «2».

و مثله رواية أخرى لإسحاق بن عمّار عنه عليه السّلام فراجع «3».

و عن سماعة عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: حدّ الزاني كأشدّ ما يكون من الحدود

«4».

و في رواية العلل و عيون الاخبار عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام فيما كتب اليه: و علّة ضرب الزاني على جسده باشدّ الضرب لمباشرته الزنا و استلذاذ الجسد كلّه به فجعل الضرب عقوبة له و عبرة لغيره و هو أعظم الجنايات «5».

و امّا قول المحقق رحمه اللّٰه: و روى متوسطا انتهى فالمراد به رواية حريز عمّن أخبره عن ابى جعفر عليه السّلام انّه قال:. و يضرب بين الضربين «6».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 2.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 3.

(4) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 4.

(5) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدود الزنا الحديث 8.

(6) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدود الزنا الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 463

قال في الجواهر: و عن بعض العمل به و لم نتحقّقه- و في الوسائل:

لعلّه مخصوص بغير الزنا،، انتهى، و السرّ في ذلك عدم ذكر في هذا الخبر عن الزنا بخلاف الأخبار السابقة حيث انّها واردة في الزاني.

الكلام في تفريق الضرب على جسده و اتقاء بعض المواضع

قال المحقّق: و يفرّق على جسده و يتّقى وجهه و رأسه و فرجه.

أقول: و ذلك لدلالة روايات على ذلك ففي صحيح زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام المذكور آنفا: و يضرب كلّ عضو و يترك الرأس و المذاكير «1».

و في مرسل حريز- المذكور عن قريب- عن ابى جعفر عليه السّلام انّه قال:

يفرّق الحدّ على الجسد كلّه و يتّقى الفرج و الوجه «2».

و عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام قال: الذي

يجب عليه الرجم يرجم من ورائه و لا يرجم من وجهه لانّ الرجم و الضرب لا يصيبان الوجه و انّما يضربان على الجسد على الأعضاء كلّها «3».

و قد علّل تفريق الضرب على تمام الجسد- في رواية العلل و العيون المذكورة آنفا- باستلذاذ الجسد كلّه من الزنا، و على هذا فيضرب كلّ البدن حتّى يحسّ الكلّ الم الجلد و العقوبة كما أحسّ الكلّ لذّة المعصية. نعم تستثنى الأعضاء المذكورة في الروايات المتقدّمة.

ثم لا يخفى انّه ليس المراد من التفريق على كلّ الجسد هو التفريق العقلي و بالدّقة العقليّة بحيث لا يبقى شي ء من اجزاء الجسد لم يصبه الضرب حتّى يكون كغسل الأعضاء في الوضوء و الغسل، بل المراد هو ضرب كلّ الجسد عرفا و ان بقي أجزاء من الجسد لم يصبه الضربات أو وقعت ضربة منها مكان

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدود الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدود الزنا الحديث 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 14 من حدود الزنا الحديث 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 464

ضربة أخرى منها، و الّا فلو كان المراد ان لا يبقى جزء من البدن غير مضروب فهو مستلزم للعسر و الحرج و هكذا لو كان يعتبر عدم إصابة الضربة عضوا من الأعضاء مرّتين.

كيفيّة جلد المرأة

قال المحقّق: و المرأة تضرب جالسة و تربط عليها ثيابها.

أقول: و تدلّ على الأوّل رواية زرارة المذكورة آنفا عن ابى جعفر عليه السّلام قال: يضرب الرجل الحدّ قائماً و المرأة قاعدة «1».

و في كشف اللثام: و لانّه أستر لها.

و امّا الثاني أي ربط ثيابها عليها فيدلّ على ذلك ما ورد في قصّة الجهنيّة من انّه

صلوات اللّٰه عليه أمر فشدّ على الجهنيّة ثيابها ثم رجمت «2» و لعلّه يستفاد ذلك أيضا من رواية أبي مريم عن ابى جعفر عليه السّلام في امرأة رجمها أمير المؤمنين عليه السّلام من انه عليه السّلام أمر بها فحفر لها حفيرة في الرحبة و خاط عليها ثوبا جديدا «3».

و في كشف اللثام: و امّا ربط الثياب عليها فلما ذكره الشيخان و غيرهما من ان لا ينهتك فتبدو عورتها.

و قد تقدّم منّا انّه لو لم تربط ثيابها، بها فربّما ترفع ثيابها بهبوب الرياح أو بوقع الجلدات و يوجب ذلك هتكها.

هل تجوز إقامة المرأة الحدّ؟

و امّا انه هل يجوز ان يباشر المرأة في حدّ المرأة كي لا يحتاج الى ربط ثيابها- غاية الأمر اشتراط كون الطائفة المشاهدين أيضا النساء- أم لا؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 11 من حدّ الزنا الحديث 1.

(2) سنن البيهقي الجلد 8 الصفحة 225.

(3) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 16 من حدّ الزنا الحديث 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 465

الظاهر عدم جواز ذلك كما يستفاد هذا من الروايات الدّالة على مباشرة أمير المؤمنين عليه السّلام بنفسه في رجم المرأة المقرّة بالزنا و كذا الروايات الدالة على انّ الامام يبدأ بالرجم فيما إذا ثبت الزنا بالإقرار ثم باقي الناس و يبدأ الشهود فيما إذا ثبت بالبيّنة ثم باقي الناس، و ذلك لأنه لو كان يجوز مباشرة النساء لما أقدم هو بنفسه على ذلك كما في باب غسل الميّت فإنّه حيث يجوز مباشرة النساء في تغسيل المرأة لما جاز للرجل الأجنبي ان يباشر في ذلك.

و على الجملة فهنا من الموارد التي يكون الجواز للمرأة ملازما للوجوب عليها و حرمته على الرجال فجواز هذا للرجال كان

لمكان عدم جوازه على النساء هذا في مباشرة النساء في إقامة الحدّ و امّا حضورهنّ لمشاهدة العذاب فالظاهر انّه لا بأس به على حسب القاعدة.

مسائل عشر

الاولى فيما لو ادّعت المرميّة بالزنا انها بكر

قال المحقق: النظر الثالث في اللواحق و هي مسائل عشر الأولى إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا قبلا فادعت انّها بكر فشهد لها اربع نساء بذلك فلا حدّ و هل يحدّ الشهود للفرية؟ قال في النهاية: نعم. و قال في المبسوط: لا حدّ لاحتمال الشبهة في المشاهدة، و الأوّل أشبه.

أقول: من المعلوم انّه إذا شهد أربعة رجال، أو رجلان و اربع نسوة، على الزنا فإنّه يثبت ذلك و يحدّ المشهود عليه، هذا من حيث هو و انّه بلا مزاحم أو منازع.

فلو شهد أربعة شهود عدول على امرأة بزناها قبلا لكنّ المرأة ادعت انّها بكر و شهد لها اربع نساء عدول بذلك فهنا لا يحدّ المرأة فإنّ شهادة النساء مقبولة في البكارة و ليست مثل باب الزنا الذي لا يكتفى بشهادتهن محضا و منفردات، و قد ادّعوا على ذلك عدم الخلاف، بل و الإجماع.

و استدلّ على ذلك بأمرين أحدهما الشبهة الدارئة للحدّ و ذلك لتعارض البينتين فيكون زناءها موردا للشبهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 466

ثانيهما الأخبار ففي قويّ السكوني عن ابى عبد اللّٰه عن أبيه عن علىّ عليه السّلام انّه اتى رجل بامرأة بكر زعمت انّها زنت فأمر النساء فنظرن إليها فقلن: هي عذراء فقال على عليه السّلام: ما كنت لا ضرب من عليها خاتم من اللّٰه و كان يجيز شهادة النساء في مثل هذا «1».

و منها خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام في أربعة شهدوا على امرأة بالزنا فقالت: انا بكر، فنظر إليها النساء فوجدنها بكرا فقال:

تقبل شهادة النساء «2».

و امّا احتمال عدم التنافي بين ادعائها كونها بكرا و شهادة النساء لها بذلك و بين شهادة الشهود بالزنا، و ذلك لاحتمال عود البكارة- مع انّها قد زنت- لترك المبالغة في الافتضاض.

ففيه كما في الجواهر انّه كالاجتهاد في مقابلة النصّ و الفتوى و هم لم يعتنوا بهذا الاحتمال و الّا كان اللازم اجراء الحدّ عليها مع قيام الشهود على زناها.

و امّا الشبهة الدارئة فالمراد منها هو ما يعرض مع صرف النظر عن نفس البيّنة فإنّ البيّنة حجّة و ان لم تكن موجبة للقطع فربّما يكون الاحتمال المخالف محقّقا معها لكن الشّارع جعلها حجّة و ليس هذا الاحتمال موجبا للشبهة بل الشبهة دائرة مدار أمر خارج و زائد على ذلك و هو هنا حاصل، و كيف كان فالرواية كافية في ذلك.

ثم انّه يمكن حمل الروايتين على التعبد في خصوص المورد بان لا يكون البيّنة حجّة في هذا المقام في قبال قول النساء و شهادتهنّ بكونها بكرا فكونها بكرا طريق الى عدم زناها و كاشف عنه و هذا يفيد انّ الشهود قد شهدوا كذبا و افتراء و لازم ذلك ان يحدّوا حدّ القذف و لعلّ نظر من قال بأنّهم يحدّون، الى هذا البيان فترى المحقّق و الشيخ في النهاية و ابن إدريس ذهبوا الى أنّه يحدّ الشهود للحكم بردّ شهادتهم مع تحقّق القذف بالزنا. لكن هذا الاحتمال بعيد غاية البعد

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 25 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 24 من أبواب الشهادات الحديث 44.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 467

فان احتمال التخصيص بعيد في النظر جدّا.

و يمكن ان يقال بانّ بيّنة الزنا

حجّة لم تخرج عن عموم حجيّة البيّنة بالتخصيص الّا انّها معارضة ببيّنة المرأة على كونها بكرا فلا يؤثّر بينة الزنا في الحد لا للتخصيص بل للمعارضة فالبيّنتان تتعارضان و تتساقطان و لم يثبت موجب حدّ المرأة بل يبقى الشبهة من الطرفين فالمرأة لا تحد لعدم الحجّة على زناءها، و كذا الشهود لعدم حجّة على الافتراء.

و بتقرير آخر لا بدّ للحاكم الشرعي المجرى للحدّ ان لا يقدم على اجراء الحدّ الّا ان يحصل له العلم بموجبه أو يثبت ذلك شرعا بدليل معتبر و في المقام لم يحصل اىّ واحد منهما و ذلك لانّ المفروض هو عدم العلم، و البيّنة قد سقطت بالتعارض كما انّ موجب حدّ القذف أيضا لم يثبت حتّى يجرى حدّه و الحاصل انّ موجب الحدّ في المرأة هو الزنا و في الرامي و الشهداء، الفرية و كلّ منهما غير معلوم و لا ثابت بالحجّة الشرعيّة لتعارض البينتين و تساقطهما فيبقى كلّ من الأمرين مشكوكا و مشتبها، و الحدود تدرء بالشبهات، و الفرية هو الكذب، و كذب الشهود غير معلوم، و لا حجّة عليها للتعارض.

و يمكن ان يقال انّ الآية الكريمة: الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلد و هم ثمانين جلدة. تدلّ بالمفهوم على انّ من رمى و اتى بأربعة مقبولي الشهادة فلا يجلد، و لا يشترط في سقوط الحدّ عدم المعارض فإنّه لم تقيّد الأربعة شهداء بكونهم غير معارضة بل يكفي في سقوط حدّ الرمي مجرد الإتيان بأربعة شهداء و المفروض في المقام الإتيان بأربعة شهداء كما انّه لا حدّ على المرأة لعدم قيام الحجّة على زناها بعد قيام المعارض.

[الثانية] لا يشترط حضور الشهود عند اقامة الحدّ

اشارة

المسئلة الثانية قال المحقّق: لا يشترط حضور الشهود عند اقامة

الحدّ بل يقام و ان ماتوا أو غابوا لا فرارا، لثبوت السبب الموجب.

أقول: هنا مسائل: منها انه هل يجب حضور الشهود عند اقامة الحدّ أم لا؟

و منها انّه لو لم يحضروا هل يسقط الحدّ بذلك أم لا؟ و منها انّه لو حضروا و لكنّهم أبوا عن ضرب المحكوم بالحدّ بشهادتهم فما يصنع هناك؟ الى غير ذلك ممّا يساعد و يناسب المقام.

و الظاهر انّه لا دليل لوجوب حضورهم في مجلس الحدّ و ذلك لانّ ما هو متعلّق بهم هو الشهادة و قد أقدموا عليها.

نعم مقتضى ما دلّ من الروايات على بدء الشهود بالحدّ إذا ثبت بها هو وجوب ذلك و ان كان الظاهر انّه لا وجوب للحضور نفسيا بل الأصل عدمه و انّما الذي يمكن ان يقال قطعا هو انّه إذا حضروا في موقف الحدّ وجب عليهم الابتداء بذلك و الّا فلا فإنّه لا يستفاد من وجوب بدئهم به وجوب حضورهم أيضا لذلك بل المتيقن هو الوجوب التقديري لا الشرطي بحيث لولاه لا يجب الحدّ و ان كان الظاهر من أدلّة الاجزاء و الأوصاف هو دخلها في نفس العمل فهي ظاهرة في الاشتراط، و الخروج عن ذلك يحتاج الى دليل، و لكنّ الظاهر في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 470

المقام انّه ليس كذلك، و لعلّ الدليل هو الإجماع على عدم الاشتراط و عدم كون استيفاء الحدّ مشروطا بحضورهم و لا أقلّ من الشهرة المحقّقة.

و ممّن يظهر منه ذلك هو الشيخ قدّس سرّه فإنّه قال في الخلاف في كتاب الحدود المسئلة 15: إذا حضر الامام و الشهود موضع الرجم فان كان الحدّ ثبت بالإقرار وجب على الامام البدئة به ثم يتبعه الناس و ان

كان ثبت بالبيّنة بدأ أوّلا الشهود ثم الامام ثم الناس إلخ.

ترى انّه أوجب الابتداء إذا كانوا قد حضروا لا مطلقا.

و مثله كلامه في المبسوط حيث قال: و ليس من شرط استيفائه (يعنى الحدّ) حضور شاهد الامام و لا الامام [1].

كما انّ المحقّق أيضا لم يذكر الشرطية عند البحث عن البدأة، و انّما اقتصر على ذكر وجوب بدأ الشهود برجمه و هنا صرّح بعدم اشتراط الحضور.

و كيف كان فقد خالف أبو حنيفة و ذهب الى عدم وجوب الحدّ لو غاب الشهود أو ماتوا.

قال الشيخ في الخلاف (المسئلة 30): إذا تكاملت شهود الزنا أربعة شهدوا به ثم ماتوا أو غابوا جاز للحاكم ان يحكم بشهادتهم و يقيم الحدّ على المشهود عليه و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: متى غابوا أو ماتوا لم يجز للحاكم ان يحكم بشهادتهم إلخ.

و لكن مقتضى ما ذكرناه هو عدم اعتبار حضورهم في إجراء الحدّ بل يحكم الحاكم به و يقام عليهما و ان غابوا أو ماتوا و لا يعطّل الحدّ بذلك و ان كان ذلك من باب الميسور بان كان الواجب هو حضورهم و الاقدام على اجراء الحدّ و حيث تعذّر مقدار من ذلك فالباقي بحاله و لا يسقط الميسور بالمعسور، و قد مرّ انّ وجوب الابتداء غير ملازم للشرطية بل قال صاحب الجواهر: و لا دليل على

______________________________

[1] المبسوط الجلد 8 الصفحة 4 أقول لكنه رحمه اللّٰه قال بعد ذلك: و روى أصحابنا انّه ببدأ الشهود بالرجم ان ثبت بالبيّنة ثم الامام ثم الناس و ان ثبت باعترافه بدأ برجمه الامام ثم الناس و هذا يدل على ان من شرطه حضور الامام و الشهود و به قال جماعة انتهى.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 471

وجوب التأخير إلى حضورهم إذا توقّع إذ لا نظرة في الحدود.

ثم ان ذلك كلّه فيما إذا لم يكن غيابهم فرارا و الّا سقط الحدّ للشبهة الطارئة و ذلك لانّ مقتضى صدقهم في شهادتهم هو حضورهم و الاقدام على اجراء الحدّ لا الفرار عن إجرائه فإنّ ذلك ممّا يوهم انّ الشاهد غير معتقد بما قد شهد به و انّه كاذب في قوله و الّا لما كان يفرّ بل كان هو الاولى بالحضور.

نعم يشكل فيما إذا علم انّ فراره لم يكن لهذه الجهة بل لجهة أخرى كما إذا كان ضعفه و عدم تحمّله في تلك المواقف حمله على ان تيرك هذا الموقف.

و كيف كان فيدلّ على أصل المطلب رواية محمّد بن قيس عن ابى جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل جاء به رجلان و قالا: انّ هذا سرق درعا فجعل الرجل يناشده لمّا نظر في البيّنة و جعل يقول: و اللّٰه لو كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ما قطع يدي أبدا قال: و لم؟ قال: يخبره ربّه انّى بري ء فيبرّئني ببرائتي فلما راى مناشدته إيّاه دعا الشاهدين و قال: اتّقيا اللّٰه و لا تقطعا يد الرجل ظلما و ناشد هما ثم قال: ليقطع أحدكما يده و يمسك الآخر يده فلمّا تقدّما إلى المصطبة ليقطع يده ضرب الناس حتّى اختلطوا فلما اختلطوا أرسلا الرّجل في غمار الناس حتّى اختلطا بالناس فجاء الذي شهدا عليه فقال: يا أمير المؤمنين شهد علىّ الرجلان ظلما فلمّا ضرب الناس أرسلاني و فرّا و لو كانا صادقين لم يرسلاني فقال أمير المؤمنين عليه السّلام من يدلّنى على هذين

انكلهما «1».

و الرواية و ان كانت واردة في مورد حدّ السرقة و لكن الظاهر انّه لا خصوصيّة له، و الملاك متّحد فالأمر في حدّ الزنا أيضا كذلك.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال فيما إذا كانوا حاضرين عند اجراء الحدّ لكنّهم امتنعوا من الشركة في إقامته، فإنّ ذلك ممّا يورث الشبهة و يتردّد الإنسان في

______________________________

(1) الكافي الجلد 7 الصفحة 264.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 472

أمرهم، فيقال انّه لو كانوا صادقين في شهادتهم فلما ذا امتنعوا عن مشاركة الناس في إجراء الحدّ بل الشبهة هنا أقوى من الفرع السابق و هو ما إذا حضروا و اختاروا الفرار، و علم أيضا حال ما إذا لم يكن غائبا مسافرا لكنّه ابى عن الحضور في موضع الحدّ من رأس.

و على الجملة فمجرّد عدم حضور الشهود لا يوجب سقوط الحدّ و ذلك لانّ حضورهم و ان كان واجبا فهو مقدّمي و ليس شرطا في الحدّ حتّى ينتفي الحدّ بانتفاءه فان ضربهم واجب نفسي و ليس هو شرطا فاذا انتفى الحضور لا ينتفي الحدّ بذلك و ان كانوا قد ارتكبوا الإثم بعدم حضورهم أو عدم ضربهم مع حضورهم.

و لو كان حاضرا و لا يشاركهم في إقامة الحدّ الّا انّه كان بحسب حاله مثلا معذورا فان الآخرين يأتون بالواجب، و عدم المشاركة في الرمي مع الحضور لا يلازم الشبهة كما انّ عدم حضورهم أصلا لا يلازمها، فاذا لم يكن موجبا لها فإنّه يجري الحدّ الواجب و قد عصى الشاهد، في عدم الحضور أو عدم المشاركة لو لم يكن معذورا و الّا فلا معصية أيضا.

نعم قد يقترن عدم الحضور أو عدم الضرب أو الفرار من الموقف موجبا لحصول احتمال الكذب زائدا

على ما هو طبع القضية الخبرية التي تحتمل الصدق و الكذب فهناك يتوقّف الحدّ [1].

وجوب حضور الشهود موضع الرجم

قال المحقق: قال الشيخ: لا يجب على الشهود حضور موضع الرجم و لعلّ الأشبه الوجوب لوجوب بدأتهم بالرجم.

أقول: تحصّل من المسألة السابقة عدم اشتراط الحضور، و هذه المسئلة

______________________________

[1] و في المسالك بعد تقرير عدم اشتراط حضورهم: هذا إذا لم يكن الغيبة فرارا و الّا تربّص بالحدّ الى حضورهم لحصول الشبهة حينئذ و لا حدّ عليهم لانّه ليس برجوع انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 473

متعرّضة لوجوب الحضور و عدمه [1] و قد وقع فيه الخلاف فذهب الشيخ قدّس سرّه الى عدم الوجوب و خالف فيه المحقّق و مال الى الوجوب و استدلّ على ذلك و علّله بأنّه يجب بدأة الشهود بالرجم فاذا وجب ذلك وجب حضورهم أيضا.

و ما افاده هو الأصحّ و ذلك لما مرّ من دلالة النصوص على وجوب بدأ الشهود إذا كان الموجب قد ثبت بالبيّنة، و بدأ الإمام إذا كان قد ثبت ذلك بالإقرار، و حيث انّه موقوف على الحضور فيجب ذلك أيضا.

و امّا عدم حضور الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض تلك الموارد مع لزوم ابتدائه عليه السّلام لمكان الإقرار فلعلّه كان للعذر و الّا فقد نقل حضوره في كثير من الموارد.

[الثالثة] فيما إذا كان الزوج أحد الشهود

قال المحقّق: إذا كان الزوج أحد الأربعة فيه روايتان، و وجه الجمع سقوط الحدّ انّ اختلّ بعض شروط الشهادة مثل ان يسبق الزوج بالقذف فيحدّ الزوج أو يدرأ باللعان فيحدّ الباقون و ثبوت الحدّ انّ لم يسبق بالقذف و لم يختلّ بعض الشرائط.

أقول: انّ في المسئلة أقوالا مختلفة الأوّل انّه إذا شهد أربعة أحدهم الزوج ترجم المرأة فلا فرق بين كون كلّ واحد من الأربعة أجنبيّا أو كان أحدهما هو الزوج، و قد ذهب إليه

الأكثر.

الثاني انّه إذا كان أحدهم الزوج فإنّه يحدّ الشهود الثلاثة و يلاعن الزوج و هو المحكىّ عن جماعة.

______________________________

[1] يظهر ممّا أفاد سيّدنا الأستاد دام ظله العالي إنّ الفرعين كليهما متعلقين بمورد واحد الّا انّ الأوّل متعرض لجهة الشرطيّة و الآخر لجهة الوجوب، و هذا لا يخلو عن كلام و ذلك لانّه قد عبّر في الأوّل بالحدّ و هنا بالرجم، و لذا قال في المسالك: المراد بالحدّ هنا ما عدا الرجم لما سيأتي من الخلاف فيه و يمكن ان يريد ما يعمّه إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 474

الثالث ما عن السرائر و الوسيلة و الجامع من انّه إذا سبق الزوج بالقذف فإنّه يعتبر الأربعة غيره بخلاف ما إذا شهد هو مع الثلاثة بلا سبق القذف منه فإنّه يكتفى بالأربعة و ان كان أحدهم الزوج و قد استحسنه المحقق في الشرائع.

الرابع ما عن ابن الجنيد من التفصيل بأنّ الزوجة ان كانت مدخولا بها ردّت الشهادة و حدّوا و لا عن الزوج و الّا حدّت هي.

الخامس ما عن الصدوق من انّه إذا لم ينف الولد كان أحد الأربعة و الّا حدّ الثلاثة و لا عنها و ذلك بناءا على ما اختاره من انّه لا لعان إلّا إذا نفى الولد.

و الأصل في المسئلة و اختلافهم فيها هو الروايات و الاختلاف فيها ففي رواية إبراهيم بن نعيم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سألته عن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها قال: تجوز شهادتهم «1».

و هذا الرواية صريحة في قبول شهادة الزوج مع الثلاثة على زنا زوجته و نفوذ تلك الشهادة.

و يؤيد ذلك عدم الفرق بين الزوج و غيره في قبول شهادته للمرأة و عليها.

بل

الزوج اولى بالقبول من غيره و ذلك لانّه يشهد بما هو ضرر عليه و فيه هتك لعرضه فتكون نظير الإقرار على نفسه فيندرج فيما دلّ على ثبوت الزنا بشهادة الأربع.

كما و انّه يؤيّده أيضا ما يستشعر من الآية الكريمة قال اللّٰه تعالى:

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلّٰا أَنْفُسُهُمْ إلخ «2» فإنّها مشعرة بأنّ نفسه أيضا شاهد لو حصل معه تمام العدد فان الظاهر انّ الاستثناء متّصل لا منفصل.

لكن في قبال الرواية المذكورة رواية زرارة عن أحدهما عليهما السّلام في أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها قال: يلاعن الزوج و يجلد الآخرون «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 15 الباب 12 من أبواب اللعان الحديث 1.

(2) سورة النور الآية 6.

(3) وسائل الشيعة الجلد 15 الباب 12 من اللعان الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 475

و قد يؤيّد ذلك بقوله تعالى لَوْ لٰا جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ «1» و ذلك لانّه لا يقال جاء الإنسان بنفسه.

و كيف كان فهذه الرواية صريحة في عدم قبول شهادة الشهود بل يجلد الثلاثة و يدرأ الزوج الحدّ عن نفسه بالملاعنة و أين هذه من رواية إبراهيم؟

نعم قال في الجواهر: انّها ضعيفة جدّا و لا جابر [1] و مخالفة للعمومات فهي قاصرة عن معارضة الاولى من وجوه.

أقول: و من جملة تلك الوجوه انّها خلاف المشهور: و امّا كونها مخالفة للعمومات فلان العمومات تدلّ على قبول شهادة أربعة شهود في باب الزنا، و ان أمكن الإيراد عليه بانّ كلّ خاصّ يخالف العامّ.

نعم هنا رواية أخرى صحيحة و هي رواية أبي سيّار مسمع عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في أربعة شهدوا على امرأة بفجور، أحدهم زوجها، قال:

يجلدون الثلاثة و يلاعنها زوجها

و يفرّق بينهما و لا تحلّ له ابدا «2».

لكن قد رماها بعض بالضعف أيضا «3» فلو ثبت ذلك و شكّ في الأمر فالمرجع هو العمومات.

و يمكن الجمع بين القسمين من الروايات بوجه عرفي من الوجوه كحمل الثانية على اختلال بعض الشرائط، أو يجمع بينهما بسبق رمى الزوج و عدمه.

و الذي يبدو في النظر هو انّه لا معارضة بينهما بل هما من قبيل العام و الخاص لأنّ رواية إبراهيم بن نعيم الناطقة بالجواز و الاجتزاء شاملة للمدخول بها و غيرها و هذا بخلاف رواية زرارة و مسمع فإنّها تختصّ بالمدخول بها و هذا و ان لم يصرّح به في الرواية الّا انّه مستفاد من جواب الامام عليه السّلام حيث حكم بانّ الزوج

______________________________

[1] أقول: لأنّ في سندها إسماعيل بن خراش الذي قيل انه مجهول.

______________________________

(1) سورة النّور الآية 13.

(2) وسائل الشيعة الجلد 15 الباب 12 من أبواب اللعان الحديث 3.

(3) راجع شرح الإرشاد للأردبيلي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 476

يلاعن، و الآخرين يجلدون، فان اللعان على ما صرّح به المحقّق بنفسه، متعلّق بالمدخول بها و جار فيها، قال قدّس سرّه في باب اللعان: الأوّل في السبب و هو شيئان الأوّل القذف و لا يترتّب اللعان به الّا على رمى الزوجة المحصنة المدخول بها بالزنا قبلا أو دبرا مع دعوى المشاهدة و عدم البيّنة. السبب الثاني إنكار الولد إلخ.

و على هذا فيعلم انّ السؤال كان عن المدخول بها فلو كانت رواية مسمع حجّة فهي تخصّص رواية إبراهيم، و النتيجة انّه تقبل الشهادة المبحوث عنها اعنى ما إذا كان أحد الشهود هو الزوج إذا لم تكن الزوجة مدخولا بها و امّا إذا كانت مدخولا بها فهناك تصل

النوبة إلى اللعان، نعم لو كانت رواية مسمع ضعيفة فلا مخصّص هناك لعموم رواية إبراهيم. و تمام الكلام في باب اللعان.

[الرابعة] في حكم الحاكم بعلمه

قال المحقق: يجب على الحاكم اقامة حدود اللّٰه تعالى بعلمه كحدّ الزناء امّا حقوق الناس فتقف إقامتها على المطالبة حدّا كان أو تعزيرا.

أقول: هنا أبحاث أحدها وجوب اقامة الحدود في عصر غيبة وليّ الأمر ثانيها انّه بعد وجوبها، على من تجب هي؟ ثالثها في جواز عمل الحاكم بعلمه رابعها في التفصيل بين الحقوق.

امّا الأوّل فالظاهر هو الوجوب و ذلك لانّ إدارة الأمور و حفظ النظام واجبان لا محيص عنهما و هما موقوفان على اجراء حدود اللّٰه و اقامة أمره.

و امّا الثاني فهنا احتمالات: وجوبها على كلّ الناس ممّن توجّه اليه التكليف، و على المجتهدين الجامعين لشرائط الفتوى، و على خصوص السلطان الذي بيده ادارة الأمور و حفظ النظام لكن الأوّل غير صحيح و ذلك للأدلة المذكورة في محلّها من الزوم الهرج و المرج و غير ذلك.

و امّا الثالث فقد حقّق في محلّه انّه يجوز للحاكم ان يعمل بعلمه و قد حقّقناه نحن أيضا في كتاب القضاء.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 477

و امّا التفصيل الذي ذكره المحقق فليس تفصيلا في عمل الحاكم بعلمه بل مآل هذا التفصيل إلى انّه يجب على الحاكم ان يعمل بعلمه مطلقا، غاية الأمر انّه في حقوق اللّٰه بغير توقّف على شي ء و هذا بخلاف حقوق الناس فإنّها موقوفة على مطالبة صاحبها فإذا اذن صاحبها في ذلك فهو يعتمد على علمه و يحكم بمقتضاه و لا يطالب بالبيّنة.

و وجه هذا التفصيل هو انّ إحقاق الحقّ و أخذه منوط بمطالبة من له الحق، و من له الحق في حقوق

اللّٰه تعالى هو الحاكم بنفسه لانّه حافظ حدود اللّٰه، و مقيم أمر اللّٰه، قد قام مقام اللّٰه و مقام خلفائه و أوصيائه، في حين انّ المطالب بحقوق الناس هم بأنفسهم فلا يجوز الاقدام على أخذها بدون إذنهم و مطالبتهم.

و هنا روايات تدلّ على عمل الحاكم بعلمه و الفرق بين حقوق اللّٰه و حقوق الناس، قال الشيخ المحدّث صاحب الوسائل: باب انّ الامام إذا ثبت عنده حدّ من حقوق اللّٰه وجب ان يقيمه و إذا كان من حقوق الناس لم يجب إقامته الّا ان يطلبه صاحبه.

عن الفضيل قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: من أقرّ على نفسه عند الامام بحقّ من حدود اللّٰه مرّة واحدة حرّا كان أو عبدا أو حرّة كانت أو امة فعلى الامام ان يقيم الحد عليه للذي أقرّ به على نفسه كائنا من كان إلّا الزاني المحصن فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء فاذا شهدوا ضربه الحدّ مأة جلدة ثم يرجمه. قال: و قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: و من أقرّ على نفسه عند الامام بحق من حدود اللّٰه مرّة واحدة حرّا كان أو عبدا أو حرّة كانت أو امة فعلى الامام ان يقيم الحدّ عليه للّذي أقرّ به على نفسه كائنا من كان إلّا الزاني المحصن فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء فاذا شهدوا ضربه الحدّ مأة جلدة ثم يرجمه قال: و قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: و من أقرّ على نفسه عند الامام بحقّ من حدود الهّٰ في حقوق المسلمين فليس على الامام ان يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب الحق أو وليّه فيطالبه بحقّه قال: فقال له

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 478

بعض أصحابنا يا أبا عبد اللّٰه فما هذه الحدود التي إذا أقرّ بها عند الإمام مرّة واحدة على نفسه أقيم عليه الحدّ فيها؟ فقال: إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق اللّٰه و إذا أقرّ على نفسه انّه شرب خمرا فهذا من حقوق اللّٰه قال: و امّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ على نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه و إذا أقرّ بقتل رجل لم يقتله حتّى يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم «1».

فهذه من جهة الفرق بين الحقوق و انّه يقدّم الحاكم بنفسه في حقوق اللّٰه بخلاف حقوق الناس فإنّها مفوّضة إلى نظر صاحب الحق و مطالبته.

و امّا من جهة عمل الحاكم بعلمه فلا دلالة لها عليه الّا من حيث حكمه عليه السّلام بكفاية الإقرار مرّة واحدة حتّى في مثل الزنا لانّه قد استثنى خصوص الزنا المحصن فان الاكتفاء بالإقرار مرّة واحدة مخالف لما هو المسلّم من الروايات من اعتبار الأربعة في مثل الزنا فلا بدّ من حمل هذه الرواية على ما إذا كان الامام عالما بنفسه بحيث لم يكن لإقراره أثر في الحكم أو يحمل على حصول العلم بإقراره مرّة واحدة، و ان كان يلزم من هذا، الالتزام بكفاية علم الحاكم في الحكم مطلقا و ان كان ناشيا من إقرار المقرّ بالزنا بالمرة الاولى و هذا مشكل لأنّي لم أعثر على من صرّح بالاجتزاء بذلك و عدم الحاجة الى المرّة الثانية و الثالثة و الرابعة.

و عن الفضيل بن يسار عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: من أقرّ على نفسه عند الامام بحقّ أحد من حقوق

المسلمين فليس على الامام ان يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحبه حقّ الحدّ أو وليّه و يطلبه بحقّه «2».

و هذه أيضا تدلّ على انّ اقامة حدّ الناس منوطة بمطالبة صاحبة.

و عن الحسين بن خالد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول:

الواجب على الإمام إذا نظر الى رجل يزني أو يشرب الخمر ان يقيم عليه الحدّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 479

و لا يحتاج الى بيّنة مع نظره لأنّه أمين اللّٰه في خلقه و إذا نظر الى رجل يسرق ان يزبره و ينهاه و يمضى و يدعه قلت: و كيف ذلك؟ قال: لأنّ الحق إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته و إذا كان للناس فهو للناس «1».

و هذه صريحة في المطلوب و هو اكتفاء الامام بعلمه و اقامة حدود اللّٰه تعالى معتمدا على ذلك.

نعم يشكل الأمر فيها من جهة تصريحها بانّ السرقة من حدود الناس و انّ على الإمام إذا نظر الى رجل يسرق ان يزبره و ينهاه و يدعه معلّلا بأنّ الحق إذا كان للناس فهو للناس، و الحال انّ الرواية الأولى صرّحت بأنّه إذا أقرّ على نفسه بالسرقة قطعه و انّه من حقوق اللّٰه.

و حيث انّ المسلّم بحسب الروايات هو انّ السرقة و ان كانت من جهة أخذ المال من حقوق الناس الّا انّها من جهة القطع من حقوق اللّٰه سبحانه، فالّلازم رفع اليد عمّا هو مذكور في رواية ابن خالد، فان ذلك أمر مفروغ عنه و لذا يكتفى في

جهة ماليّتة إلى إقرار واحد بخلاف جهة قطعه فإنّه يحتاج إلى إقرارين.

و كيف كان فالحاكم يعمل في حقوق اللّٰه بعلمه بلا حاجة الى شي ء آخر، و في حقوق الناس بشرط طلبهم و التماسهم ذلك.

[الخامسة] في ما إذا ردّت شهادة بعض الشهود

قال المحقّق: إذا شهد بعض و ردّت شهادة الباقين قال في الخلاف و المبسوط ان ردّت بأمر ظاهر حدّ الجميع، و ان ردّت بأمر خفي فعلى المردود الحدّ دون الباقين و فيه اشكال من حيث تحقق القذف العاري من بيّنة.

أقول: تارة تردّ شهادة الباقين بأمر ظاهر و اخرى بأمر خفي فالأوّل كما إذا كان فاسقا متجاهرا لفسقه فحينئذ يحدّ كلّ الشهود امّا الفاسق فمعلوم و امّا سائر الشهود فلأنّهم علموا انّ شهادتهم غير نافذة حيث يكون من جملة الأربعة

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 480

من تردّ شهادته و مع ذلك أقدموا على إقامة الشهادة عالمين بأنّها مردودة لعدم كونها واجدة لشرائط القبول، و هذا بخلاف الثاني و هو ما إذا كان جهة الردّ امرا خفيّا. فهنا لا يحدّ الشهود لأنّهم لا يعلمون بهذا الأمر حيث كان خفيّا و الّا للزم عدم إقدام أحد على الشهادة نعم يحدّ المردود شهادته بنفسه و ذلك لفسقه.

قال الشيخ في الخلاف: إذا شهد الأربعة على رجل بالزنا فردّت شهادة واحد منهم فان ردّت بأمر ظاهر لا يخفى على أحد فإنه يجب على الأربعة حدّ القذف و ان ردّت بأمر خفي لا يقف عليه الّا آحادهم فإنّه يقام على المردود الشهادة الحدّ و الثلاثة لا يقام عليهم الحدّ. دليلنا انّ الأصل برأيه الذّمة و لا دليل على انّه يجب على هؤلاء الحدّ

و أيضا فإنّهم غير مفرطين في إقامة الشهادة فإنّ أحدا لا يقف على بواطن الناس فكان عذرا في إقامتها فلهذا لا حدّ و يفارق إذا كان الردّ بأمر ظاهر لانّ التفريط كان منهم فلهذا حدّوا و الدليل على انّ مع الردّ بأمر ظاهر يجب الحدّ قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً، و هذا ما اتى بأربعة شهداء لانّ من كان ظاهره ما يوجب الرّد لا يكون شاهدا «1».

و قال في المبسوط: فان ردّت بأمر ظاهر مثل ان كان مملوكا أو امرأة أو كافرا أو ظاهر الفسق فان حكم المردود شهادته قال قوم: يجب عليه الحدّ و قال آخرون: لا يجب و كذلك اختلفوا في الثلاثة. و الأقوى عندي انّ عليهم الحدّ، و ان كان الردّ بأمر خفي قبل ان بحث الحاكم فوقف على باطن يردّ به الشهادة فالمردود الشهادة قال قوم: لا حدّ عليه و هو الأقوى و الثلاثة قال قوم: لا حدّ عليهم أيضا و هو الأقوى عندي و منهم من قال: عليهم الحدّ لانّ نقصان العدالة كنقصان العدد و الأوّل أقوى لأنهم غير مفرّطين في إقامتها فإنّ أحدا لا يقف على بواطن الناس فكان عذرا في إقامتها فلهذا لا حدّ، و يفارق هذا إذا كان الردّ بأمر ظاهر، لانّ التفريط كان منهم فلهذا حدّوا عند من قال بذلك.

______________________________

(1) الخلاف كتاب الحدود المسئلة 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 481

انتهى «1».

و مقتضى عبارة الخلاف التفصيل بين ما إذا كان الأمر ظاهرا فيحدّ الجميع و بين ما إذا كان خفيّا فيحدّ المردود الشهادة دون الباقين، و هذا بمقتضى القاعدة لأنّه مع الأمر الجلي فقد أقدموا

على الشهادة غير المقبولة فيحدّ الجميع، بخلاف عبارة المبسوط فإنّها تفيد انّ في العيب الظاهر يحدّ الجميع و في الخفي لا حدّ على أحد منهم.

و قد اختار العلّامة في المختلف مختار الشيخ في الخلاف من انّه إذا ردّت شهادة بعض الأربعة بأمر خفي أقيم الحدّ على المردود الشهادة دون الثلاثة الباقية، و استدلّ لذلك بقوله: لنا انّه مردود الشهادة فيجب عليه الحدّ كما لو ردّت بأمر ظاهر، ثم نقل عن الشيخ انّه احتجّ على مذهبه في المبسوط- من انّ الأقوى انّ مردود الشهادة بأمر خفي لا حدّ عليه- بأنّه قد لا يعلم انّه يردّ شهادته بما ردّت به فكان كالثلاثة [1].

و أجاب عنه بقوله: و الجواب الفرق فإنّه يعلم انّه على سبب- صفة- تردّ به الشهادة لو عُلم به بخلاف الشهود.

و فيه انّ المفروض انّه عالم و قاطع بكون شهادته مقبولة عند الحاكم و لا يبدو في ذهنه في هذا الحال- الذي هو بسبب جهله المركّب قاطع- انّه ربّما يظهر حاله للحاكم و تردّ شهادته بسبب ذلك فكأنّ ما ذكره قدّس سرّه خلاف الفرض.

و أشكل في الشرائع ما حكاه عن الخلاف من التفصيل في مورد الخفيّ بين المردود فيحدّ هو و الباقين فلا يحدّون و ذلك لتحقّق القذف العاري عن البيّنة.

و أضاف في الجواهر قوله: أو شبهة دارئة للحد انتهى و النتيجة انّه قد

______________________________

[1] أقول: كلّما راجعت المبسوط لم أجد هذا الاستدلال في كلامه في المسئلة المزبورة من كتاب الحدود اللّهم الّا ان يكون في موضع آخر منه.

______________________________

(1) المبسوط الجلد 8 الصفحة 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 482

تحقّق القذف و هو موجب للحدّ على القاذف الّا ان يأتي بأربعة شهداء أو

تكون هناك شبهة تدرء الحدّ بها و لم يتحقّق اىّ واحد من هذين الّذين يكون أحدهما دارئة للحدّ بنصّ القرآن الكريم و الآخر بالأخبار الشريفة فلا بدّ من ان يحدّ الجميع.

ثم قال: و التفريط و عدمه لا مدخليّة له بعد تناول الأدلّة، اى انّ وقوع التفريط من المردود و عدمه من الباقين لا يؤثّر شيئا بعد شمول الإطلاق و اقتضائه أن يحدّ المردود معهم أيضا هذا.

قال بعد ذلك: نعم لو كانوا مستورين و لم تثبت عدالتهم و لا فسقهم فلا حدّ عليهم للشبهة، و كأنّه رحمه اللّٰه صار بصدد اراءة مصداق لما ذكره آنفا بقوله:

أو شبهة دارئة للحدّ، فهذا مثال لها لانّه بعد ان كانوا مستورين و لا يعلم حالهم من العدالة و الفسق فإنّه يحصل الشبهة و هي تقتضي ان لا يحدّوا.

ثم تعرّض لخبر ابى بصير عن الصادق عليه السّلام في أربعة شهدوا على رجل بالزنا فلم يعدّلوا قال: يضربون الحدّ.

و أجاب بأنّه ضعيف محتمل لظهور الفسق.

و كلّ واحد من كلاميه هنا محلّ الإشكال امّا الأوّل فلانّ العدالة الّتي هي شرط في الشهادة هي العدالة المحرزة، و الإطلاقات الدّالة على اعتبار أربعة شهود في درء الحدّ عن القاذف يراد منها أربعة مقبولو الشهادة كما انّ الأمر كذلك في سائر الشروط و الاوصاف، فاذا لم يكن الشاهد مقبول الشهادة فإنّه تردّ شهادته، و كون الشك في تحقّق الشرط كالعدالة شبهة دارئة مشكل في النظر، و كيف نقول بأنّه مع الشك لا تقبل الشهادة و مع ذلك لا يحدّون لأجل الشبهة؟

فمطلق الشبهة بأيّ نحو كانت لا تكون دارئة للحدّ و الّا فمن اقام شهودا فسقة بظاهر حالهم فإنّه يتحقّق بذلك الشبهة لاحتمال صدقهم أيضا فهل يدرء

بذلك الشبهة الحدّ؟ و هكذا لو قذف الرامي و لم يأت بشاهد أصلا فإنّ مجرّد قذفه يوجب الشبهة- إلّا في مورد يكون الأمر الذي قذفه به مقطوع العدم-

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 483

فهل يمكن ان يقال بدرء الحد بالشبهة فلا يحدّ القاذف؟ و لو كان الأمر كذلك فلا مورد لحدّ القذف إلّا في موارد نادرة و يؤل الأمر إلى اختصاص الحدّ بما إذا أقيمت الشهادة العادلة فيحدّ المشهود عليه و امّا في غير ذلك فلا حدّ مطلقا لا بالنسبة إلى المشهود عليه و لا القاذفين و ذلك للشبهة، فاتّضح انّ اللازم هو إحراز الشرط فيحكم بحسب الشهادة، و لو لم يحرز ذلك فهو بعينه كما إذا علم بعدم تحقّق الشرط و لازم ذلك ان يحدّ القاذف.

و امّا الثاني فنقول: انّ الرواية على مقتضى القاعدة فإنّه إذا لم يتحقّق التعديل لهم لا بدّ من ان تطرح شهادتهم و يحدّون فلا وجه لرفع اليد عن مقتضاها و الحال هذه.

و قد ظهر بما ذكرنا ضعف ما قاله بعد ذلك أيضا و هو قوله: فالمتّجه في الفرض حينئذ عدم ثبوت الزنا فيتوقّف الحكم الى ان يظهر حالهم فامّا ان يحدّهم أو المشهود عليه و قبل ذلك يدرأ الحدّ عنه و عنهم انتهى.

فان مقتضى ما تقدّم منّا انهم يحدّون حدّ القذف، هذا مضافا الى انّه لا وجه لتوقّف الحكم بعد ان لا نظرة في الحدّ و لا تأخير أصلا فامّا ان يكون الشهود مقبولة فيحكم على المشهود عليه و الّا فيحكم بقذفهم و حدّهم.

و التحقيق انّه لا شكّ في انّ الإتيان بأربعة شهود المعتبر بنصّ الآية الكريمة الذي به يدفع الحدّ عن الرامي لا يراد به الإتيان

بأربعة كيف ما كانت بل المعتبر هو الأربعة المقبولة المرضيّة و هي الأربعة العادلة الّا انّ الكلام في انّه هل المعتبر هو العادل الحقيقي أو العادل بنظره و المقبول في علمه؟ فعلى الأوّل فهو لم يأت بما هو المعتبر لانّ بعضا من هذه الشهود مردود شهادته في الواقع و عند الحاكم بخلاف ما لو كان الملاك هو الثاني فإنّ الشرط موجود و هو العدالة بنظره و عنده، و الظاهر هو الثاني و ذلك لانّه لو كان الملاك هو العادل الواقعي فهذا يتوقّف على علمه بالغيب، و لا يعلم الغيب الّا اللّٰه. و يكون كالأمر بالمحال، فمن أين يوجد أربعة كانوا عدولا في الواقع و ثانيا انه يلزم من ذلك سدّ باب الشهادة فلو كان الملاك هو العدالة في الواقع و الّتي تكون مقبولة عند

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 484

الحاكم فمن يقدم على الشهادة و الحال انّه يحتمل عند نفسه ان لا يقبل الحاكم شهادته و يردّها و يقيم عليه حدّ المفتري؟

و بتقرير آخر انّه كما قد يكون العادل عادلا في الواقع كذلك قد يكون عادلا بمقتضى الطريق و بحسب الظاهر فهو بحكم الشرع يحتسب عادلا و ان لم يكن كذلك في الواقع، و المفروض انّ هذا الشاهد يرى نفسه عادلا فهو محكوم بحسب الظاهر بالعدالة و حيث انّه يعتقد قبول شهادته عند الحاكم فلا شي ء عليه و ان كان علمه هذا جهلا مركّبا، و مقتضى ذلك قبول شهادته، و لا فرق في ذلك بين الشاهد نفسه و بين كون القاذف يرى الشاهد عادلا مرضيّا و يعتقد كونه مقبول الشهادة فلا وجه لإجراء الحدّ عليه كما انّ الآخرين أيضا كذلك لفرض كون

الأمر خفيّا هذا مضافا الى شمول حديث الرفع له و لهم أيضا.

و امّا ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام من انّه قال: انّى لا أكون أوّل الشهود فهذا لأجل انّه لو كان يشهد أوّلا فربّما لا يأتي الآخرون للشهادة و الّا ففي ما نحن فيه لا وجه لإجراء الحدّ ظاهرا.

[السادسة] حول رجوع واحد منهم بعد شهادة الأربع

قال المحقّق: و لو رجع واحد بعد شهادة الأربع حدّ الراجع دون غيره.

أقول: و يتصوّر ذلك بان يقول الراجع: ما رأيت، بعد ان كان قد شهد برؤيته أو انّه يقول: ما زنى، بعد ان كان قد شهد بزناه، سواء قال: بأنّي قد كذبت أو نسب نفسه الى الغلط و الاشتباه.

و هذا هو مقتضى إقرار العقلاء على أنفسهم جائز فإنه قد أقر على نفسه فيحدّ.

و يمكن تقرير الآية الكريمة:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 485

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً «1». بحيث تنطبق على ذلك و هو ان المستفاد منها انّه إذا رمى الرامي و كان صادقا بحسب دعواه و اقام أربعة شهود على ذلك مقبولة بلا رجوع فهو امّا لو رماه و اتّهمه و لم يأت بالدارء سواء كذب نفسه أو خطّأه أو لم يتمّ له الشهود الأربعة المقبولة فإنّه يحدّ و يجلد للفرية و ظاهر عبارة الشرائع هو الإطلاق و عدم الفرق بين ان يكون رجوعه قبل حكم الحاكم أو بعده.

لكن في الجواهر أضاف الحكم بالشّهادة و عليه فالحكم مختص بما إذا شهدوا و حكم الحاكم بمقتضى شهادتهم و خصّ الحكم- بحدّ الراجع دون غيره- بهذه الصورة و سيأتي تمام الكلام في ذلك.

و علل عدم حدّ غير الراجع، بصدق الإتيان بالبيّنة المسقطة.

و في بعض الكلمات:

لتماميّة البيّنة و كونها بيّنة كاملة.

و فيه انّه لو صدق على هذه أربعة شهداء لزم سقوط الحدّ حتّى عن الراجع- بخلاف ما لو قلنا بعدم صدقها على ذلك أصلا و انّ شهادة الأربع غير متحقّقة إذا رجع واحد منهم أو انّه و ان صدقت على ذلك لكن الآية منصرفة عن ذلك فيلزم ان يحدّ الراجع أو هو و الباقون أيضا و ذلك لصيرورة الأربعة ثلاثة و عدم صدق الأربعة مع رجوع واحد منهم فليس ممّا يدرأ عنه الحدّ- و الظاهر انّه على ذلك لا وجه للتفصيل بين الراجع و غيره لأنه لو صدقت على هذه أربعة شهود، بان تكون مطلقة شاملة لما إذا رجع واحد منهم و ما إذا ثبتوا جميعا على شهادتهم و لم يكن هناك انصراف فلا فرق بين الراجع و غيره كما انّه لو شك في صدقها أو قيل بالانصراف فهناك أيضا لا وجه للتفصيل بل لا بدّ من الحكم بحدّهم مطلقا.

و لذا ترى العلامة أعلى اللّٰه مقامه حكم بلزوم الحد عليهم جميعا.

قال في القواعد: و لو رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم قبل الحكم فعليهم اجمع الحدّ و لا يختص الراجع بالحد و لا العفو انتهى و في كشف اللثام

______________________________

(1) سورة النّور الآية 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 486

في مقام التعليل لذلك: امّا مع رجوع الكلّ فظاهر و امّا إذا رجع البعض فلان رجوعه قبل الحكم بمنزلة عدم شهادته فلم يكمل شهادة الأربعة امّا بعد الحكم فيختص الراجع بالحدّ أخذا بإقراره و لا يتعدّى الى الباقين [1].

أقول: و لكن الظاهر انّه لا فرق من جهة عدم تحقق الشهادة بين ما إذا كان قبل الحكم أو بعده كما

أطلق في الشرائع و لذا قال في الجواهر بل مقتضى إطلاق المصنّف و غيره من الأصحاب انّه كذلك أيضا قبل الحكم بها للإطلاق المزبور، فقد أقرّ رحمه اللّٰه بأنّ عبارة المحقّق بل و غيره من الأصحاب مطلقة.

و ما ذكره بعد ذلك بقوله: لكن قد يشكل بانّ الرجوع قبل الحكم بمنزلة عدم الشهادة انتهى لا يساعد ما ذكره آنفا من صدق الإتيان بالبيّنة المسقطة. فإنّه لو صدق ذلك فلا فرق بين ما إذا كان قبل الحكم أو بعده و لو لم يصدق أيضا كذلك كما لا فرق بين الراجع و غيره فاذا كان هذا الرجوع يجعل الشهادة كالعدم فهذا جار في القبل و البعد و لو كان الشارع قد اكتفى بصورة الشهادة فهو أيضا جار في المقامين، و الظاهر انّه يشكل شمول إطلاق الآية للمقام اى ما إذا رجع واحد من الشهود بعد انّ ادّى الشهادة و الّا فلو كانت صورة الشهادة أيضا مؤثرة فكان اللازم ان يحدّ المشهود عليه أيضا. و على هذا فيلزم ان يحدّ كلّ واحد منهم حد القذف.

ثم انه رحمه اللّٰه بعد ان استشكل في مورد يكون ذلك قبل الحكم و ذكر جزم كاشف اللثام بذلك اى عدم الحاقة بما إذا كان بعد الحكم و حكم هنا بحد الجميع قال: قلت قد يقال ان مقتضى الآية و غيرها السقوط أيضا خصوصا على بناء الحد على التخفيف.

و مقتضى كلامه هنا عدم حد الشهود مطلقا لا الراجع و لا غيره. لكن قد مر منا الإشكال في شمول الشبهة لمثل هذه الأمور.

و في المسالك في باب الشهادات: و لو كانوا قد شهدوا بالزنا و رجعوا و اعترفوا بالتعمد حدّوا للقذف و لو قالوا غلطنا ففي

حدّ القذف وجهان:

______________________________

[1] قد تقدم قسم من هذه الأبحاث في أوائل الكتاب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 487

أحدهما المنع لان الغالط معذور و أظهر هما الوجوب لما فيه من التعيير و كان من حقهم التثبت و الاحتياط و على هذا ترد شهادتهم. ثم قال: و لو قلنا لا حد فلا ردّ.

و كأنّه رحمه اللّٰه ادعى الملازمة بين عدم الحدّ و عدم الرد يعنى لو قلنا بأنهم لا يحدون فاللازم قبول شهادتهم و الحكم بها.

و في الجواهر «1»: و لو كان المشهود به الزناء و اعترفوا بالتعمد حدّوا للقذف و لو قالوا غلطنا فعن المبسوط و الجواهر يحدان أيضا و في المسالك وجهان إلخ.

و قد ذكر مؤيدا لما اختاره المسالك- من رد شهادتهم- مرسل ابن محبوب عن الصادق عليه السّلام فراجع «2».

و على الجملة فالمختار عندنا هو انهم يحدون حد الافتراء حتى فيما إذا ادعى الراجع الغلط و الخطأ فان المصحّح للحد موجود و هو انه لم يتثبت في شهادته و إطلاق حد من رمى المحصنات و لم يأت بأربعة شهداء، شامل للمقام فيقام الحد.

و لا يرد ما قد يقال من انه كيف يحدّ باقي الشهود و الحال انه لا تقصير من ناحيتهم حيث انهم قد أدّوا الشهادة عالمين بتحقق الأربعة فإذا رجع واحد منهم فلا تعلق له بغيره من الشهود فكيف يحد؟

و ذلك لان الحكمة الكامنة الملحوظة في المقام و هي كون الأمر مستورا لا يقدم الناس على كشفه و إظهاره أوجبت ذلك و بلحاظ هذه الحكمة الغالبة يجوز حد الباقين مع عدم تقصير منهم في رجوع الراجع عن شهادته [1].

______________________________

[1] قد مضى ما فيه فراجع.

______________________________

(1) كتاب الشهادات الصفحة 221.

(2) وسائل الشيعة الجلد

18 الباب 12 من الشهادات الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 488

[السابعة] في حكم من وجد مع زوجته رجلا يزني بها.

قال المحقق: إذا وجد مع زوجته رجلا يزني بها فله قتلهما و لا اثم و في الظاهر عليه القود الا ان يأتي على دعواه بينة أو صدّقه الولي.

أقول: لا إشكال في انه لا يجوز على من اطلع على الزانين استيفاء الحد منهما إذا لم يكن أهلا لإقامة ذلك فإن أمره موكول الى نظر الحاكم. نعم قد استثنى من ذلك موارد منها مسئلتنا هذه و هي ما إذا اطّلع الزوج و راى من يزني مع زوجته فإنه يجوز له ان يقتلهما مع إحراز الموازين كالعلم بأنه لا إكراه من ناحية الزاني بالنسبة إليها أو بالعكس، و لا اثم عليه في ذلك لترخيص الشارع فيه. نعم لو انجرّ الأمر إلى اعتراض أولياء الدم و مطالبتهم له دم المقتول فلا بدّ له من إثبات ذلك عند الحاكم و الا فيقاد منه سواء كانا محصنين أم غير محصنين سواء كان الزوجان حرّين أم عبدين أم بالتفريق و سواء كان الزوج قد دخل بها أم لا و سواء كان النكاح دائما أم متعة كل ذلك للرخصة الواردة عن الشرع، هكذا قالوا.

و الدليل على ذلك هو الاخبار العامّة الشاملة بعنوانها العام للمقام و الاخبار الخاصة.

ففي خبر عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول في رجل أراد امرأة على نفسها حراما فرمته بحجر فأصابت منه مقتلا قال: ليس عليها شي ء فيما بينها و بين اللّٰه عزّ و جلّ و ان قدمت الى امام عادل أهدر دمه «1».

تقريب الاستدلال انها تدل على جواز المدافعة عن العرض و جواز قتل من تعرض لذلك كما

يجوز المدافعة عن المال و من جملة موارد الدفاع عن العرض هو المقام اى ما إذا راى أحدا يزني مع زوجته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 19 كتاب القصاص الباب 23 الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 489

نعم يرد عليه انها واردة فيمن أراد، فيجوز هناك المدافعة كي لا يقع الحرام، و أين هذا مما نحن بصدده من جواز القتل بعد ان وقع الأمر و تحققت المعصية، مضافا الى عدم التعرض فيها لحال المرأة و جواز قتلها أيضا.

و عن ابى مخلد عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كنت عند داود بن على فاتى برجل قد قتل رجلا فقال له داود بن على ما تقول؟ قتلت هذا الرجل؟

قال: نعم انا قتلته فقال له داود: و لم قتلته؟ فقال: انه كان يدخل منزلي بغير اذنى فاستعديت عليه الولاة الذين كانوا قبلك فأمروني ان هو دخل بغير اذن ان اقتله فقتلته، فالتفت الىّ داود بن على فقال: يا أبا عبد اللّٰه ما تقول في هذا؟

فقلت: أرى انه أقر بقتل رجل مسلم فاقتله فأمر به فقتل، ثم قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: ان ناسا من أصحاب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان فيهم سعد بن عبادة فقالوا: يا سعد ما تقول لو ذهبت الى منزلك فوجدت فيه رجلا على بطن امرأتك ما كنت صانعا به؟ فقال سعد: كنت و اللّٰه اضرب رقبته بالسيف قال فخرج رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و هم في هذا الكلام فقال: يا سعد من هذا الذي قلت: اضرب عنقه بالسيف؟ فأخبره الذي قالوا و ما قال سعد فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: يا سعد

فأين الشهود الأربعة الذين قال اللّٰه عز و جل؟ فقال سعد: يا رسول اللّٰه بعد رأي عيني و علم اللّٰه انه قد فعل؟! فقال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: اى و اللّٰه يا سعد بعد رأى عينك و علم اللّٰه ان اللّٰه قد جعل لكل شي ء حدّا و جعل على من تعدّى حدود اللّٰه حدا، و جعل ما دون الشهود الأربعة مستورا على المسلمين «1».

و لكن ليست لهذا الخبر دلالة واضحة على المراد بل لعل الظاهر منه ان قتله موقوف على وجود أربعة شهود ان من قتله بدون ذلك فقد تعدى حدود اللّٰه تعالى و بعبارة اخرى ان قتله لهذا الرجل بلا وجود أربعة شهود يحتسب من باب التعدي عن حدود اللّٰه تعالى لأنه كان مشروطا بوجود الشهود.

نعم يمكن ان يقال ان هذا الشرط معتبر بلحاظ الظاهر و التحفظ على

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 19 الباب 69 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 490

نفسه لأنه إذا بلغ الأمر إلى الحاكم و احتيج إلى إثبات ان القتل كان لأجل أنه رآه يزني مع زوجته فإنّه يحتاج في إثبات ذلك الى أربعة شهود و الا فيحكم بقتله لإقراره بنفسه بأنه قد قتله فلو لا هذه الجهة لم يكن عليه بأس في قتله فيما بينه و بين اللّٰه تعالى و على الجملة فلو كان له أربعة شهود فلا يتعرض عليه في اقدامه بنفسه على القتل و مباشرته في ذلك و عدم إرجاع الأمر إلى الحاكم.

و عن عبد اللّٰه بن القاسم الجعفري عن ابى عبد اللّٰه عن أبيه عليهما السّلام قال: قال سعد بن عبادة أ رأيت يا رسول

اللّٰه ان رأيت مع أهلي رجلا فاقتله؟ قال:

يا سعد فأين الشهود الأربعة «1».

و هذه أيضا كالسابقة.

و عن سعيد بن المسيب ان معاوية كتب الى ابى موسى الأشعري ان ابن ابى الجسرين وجد رجلا مع امرأته فقتله فاسأل لي عليا عن هذا قال أبو موسى فلقيت عليا عليه السّلام فسألته- الى ان قال: فقال: انا أبو الحسن ان جاء بأربعة يشهدون على ما شهدوا لا دفع برمّته «2».

و لهذا الخبر دلالة في الجملة على جواز القتل و عدم اثم عليه في ذلك الا ان دفع القتل عنه موقوف بأربعة شهود.

نعم يشكل الأمر بالنسبة إلى قوله: وجد رجلا مع امرأته، فإن مجرد ذلك لا يسوغ القتل.

اللهم الا ان يكون ذلك كناية عن الزنا كما يشهد على ذلك اعتبار أربعة شهود على ما هو صريح كلام الامام عليه السّلام في الجواب و ان لم يكن في السؤال ذكر عن الزنا فيمكن ان يكون الامام عليه السّلام قد كان علم بنفسه أو من القرائن ان السؤال كان عن الزنا و أجاب على ما حسب ما علمه أي بالنسبة إلى الزنا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 45 من أبواب حدّ الزنا الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة الجلد 19 الباب 69 من أبواب القصاص الحديث 2، و في التهذيب الجلد 10 الصفحة 214 و الفقيه الجلد 4 الصفحة 172 و فيه: و الّا دفع اليه برمته.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 491

و مع ذلك فليس في هذه الروايات ذكر عن قتل الزوجة، و الذي اشتمل على كلتا الجهتين هو مرسل الشهيد قدّس سرّه في الدروس حيث قال: روى ان من راى زوجته تزني فله قتلهما [1].

و على هذا فلا بأس

بأصل القتل فيما بينه و بين اللّٰه و يكون شهادة الأربع لإثبات الاستناد عند الحاكم فاذا قيل له لماذا قتلت و أجاب بأنه رآه يزني مع زوجته و شهد الشهود بذلك يثبت مدعاه و الا فإنه يقتل قودا.

و هل اللازم شهادتهم على أصل الزنا أو على ان الزوج رآه يزني مع زوجته بحيث لو علموا بأصل الزنا لكنهم لم يروا ان الزوج راى ذلك لما جازت لهم الشهادة و لما درءت القتل عن الزوج؟ لعل الظاهر كفاية الشهادة على أصل الزنا و ان لم يتعرضوا لرؤيته.

و قد أبدع الشهيد الثاني قدّس سرّه طريقا آخر لخلاص الزوج عن القتل و ان لم يكن له أربعة شهود و هو الإنكار مع التورية قال في المسالك: إذا اطلع الإنسان على الزانيين و لم يكن من أهل الحدود فمقتضى الأصل عدم جواز استيفائه منهما بنفسه لكن وردت الرخصة في جواز قتل الزوجة و الزاني بها إذا علم الزوج بها سواء كان الفعل يوجب الرجم أو الجلد كما لو كان الزاني بها غير محصن أو كانا غير محصنين و سواء كان الزوجان حرين أو عبدين أم بالتفريق و سواء كان الزوج قد دخل أم لا و سواء كان دائما أم متعة عملا بالعموم، ثم قال رحمة اللّٰه عليه: و هذه الرخصة منوطة بنفس الأمر امّا في الظاهر فان ادعى ذلك عليها لم يقبل و حدّ للقذف بدون البينة و لو قتلهما أو أحدهما قيد بالمقتول ان لم يقم بينة على ما يبيح القتل و لم يصدقه الولي و انما وسيلته مع الفعل باطنا الإنكار ظاهرا و يحلف ان ادعى عليه و يورّى بما يخرجه عن الكذب ان أحسن لأنه محق

في نفسه الأمر مؤاخذ في ظاهر الحال و قد روى داود بن فرقد في الصحيح، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يقول: ان أصحاب النبي قالوا

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 45 من حدّ الزنا الحديث 2. و لكن. عبارة الدروس الموجودة عندي الصفحة 165: روى انه لو وجد رجلا يزني بامرأته فله قتلهما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 492

لسعد بن عبادة. إلخ.

و كيف كان فاذا جاز القتل فيما بينه و بين اللّٰه فيكون المورد من باب التخصيص للأدلة الدالة على لزوم الإرجاع إلى الحاكم و كون الأمر في إجراء الحدود موكولا اليه فيحوز له في خصوص المقام الاقدام على القتل بدون ذلك لكن إذا أحرز عدم إكراه في البين كما قد يظهر ذلك من القرائن فإذا رأى الزوجة تأبى عن ذلك و تدافع عن نفسها و تصحيح عليه فان يعلم ان الزاني قد أكرهها على الزنا فهنا لا يجوز له قتل الزوجة.

قال في المسالك: و اعلم ان مقتضى قوله: الا ان يأتي ببينة أو يصدقه الولي أنه لو أتى ببينة على الزنا فلا قود عليه و هو يشمل أيضا ما لو كان الزنا يوجب القتل أو الجلد وحده و يشكل الحكم في الثاني بعدم ثبوت مقتضى القتل، و الرخصة منوطة بحكمه في نفس الأمر لا في الظاهر الا ان يقال انه أباحت له قتلهما مطلقا و انما يتوقف جريان هذا الحكم ظاهرا على ثبوت أصل الفعل و يختص تفصيل الحد بالرجم و الجلد و غيرهما بالإمام دون الزوج و هذا أمر يتوقف على تحقيق النص في ذلك، و الرخصة مقصورة على وجدان الزوج ذلك بالمشاهدة، و اما البينة فسماعها من

وظيفة الحاكم إلخ.

أقول: ان هنا اشكالا آخر و هو انه على ما ذكروه يلزم من اجراء هذا الحكم بدون الشهود ان يجعل الإنسان نفسه في معرض القتل و الإتلاف و ذلك لأنه ربما يؤاخذ على ما فعله و أوجب ذلك ان يحكم الحاكم بقتله فكيف يحكم بجواز ذلك؟

و يمكن ان يقال: بل لا بد من ان يقال بأنه تعبد من الشارع فيجوز له شرعا عند المدافعة و الإنكار على الحرام ان يقدم على ذلك و ان أفضى ذلك الى قتله فإنّه قد جعل نفسه فداء لدين اللّٰه. هذا مضافا الى ان من أعظم العناوين الحسنة التي يبتغيها الرجال و إباء الضيم هو الدفاع عن العرض، و القتل فيه أشرف أنواع القتل.

و لكن قد مران الشهيد الثاني تخلّص عن الإشكال بإنكاره القتل و التورية

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 493

فيه.

ثمّ انه لمّا كان أصل هذا الحكم خلاف القاعدة حيث ان أمر القتل بيد الحاكم و موكول الى نظره فلذا يقتصر في ذلك على المتيقن و هو ما إذا راى الزوج بعينه لا انه سمع أو علم بطريق آخر كما انه لا يجوز لغير الزوج ذلك عند ما رأى أحدا يزني بزوجة الغير كما انه يقتصر على قتله عند ما راى لا بعد ذلك.

نعم من جهة الإحصان و عدم الإحصان و ان كان المتيقن هو الأول الا ان الظاهر هو عدم الفرق بينهما و ذلك لإطلاق المرسلة و الروايات الأخرى و اما ضعف المرسلة فمنجبر بالشهرة.

و قد علم ممّا تقدّم ان الروايات الأخرى غير المرسلة تدل على جواز قتل الزاني من حيث الدفاع عن العرض و اما بالنسبة إلى الزوجة فهي ساكتة و الذي

يدل على كلا الحكمين هو مرسلة الشهيد.

[الثامنة] «حكم من افتضّ بكرا بإصبعه»

قال المحقق: الثامنة: من افتضّ بكرا بإصبعه لزمه مهر نسائها و لو كانت امة لزمه عشر قيمتها و قيل يلزمه الأرش و الأول مروي.

أقول: إذا افتض بكرا فاما ان يكون هو الأجنبي و اما ان يكون هو الزوج اما الأول فاما ان يكون المرأة حرة أو امة.

فإذا كان الأجنبي افتضّ الحرة بإصبعه فعليه مهر نسائها.

و مستند ذلك عدة روايات فمنها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في امرأة افتضّت جارية بيدها قال: قال: عليها مهرها و تجلد ثمانين «1».

و منها صحيحته الأخرى عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام أيضا في امرأة افتضّت جارية بيدها قال: عليها المهر، و تضرب الحد «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 39 من حدّ الزنا، الحديث 4 و 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 39 من حدّ الزنا، الحديث 4 و 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 494

و قال الصدوق: و في خبر آخر: تضرب ثمانين [1].

و عن ابن محبوب عن ابن سنان عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام ان أمير المؤمنين عليه السّلام قضى بذلك و تجلد ثمانين [2].

فان مفاد هذه الاخبار ان افتضاض الحرة يوجب تدارك النقص الحاصل لها بافتضاضها بإعطاء صداقها و هو مهر نسائها فعلى من اتى بذلك دفعه إليها.

كما انه يستفاد منها ان افتضاض الحرة يوجب التعزير نعم قد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك فقال بعض يجلد من ثلاثين الى ثمانين كما حكى ذلك عن المفيد و الديلمي و قال بعض كالشيخ من ثلاثين إلى سبعة و تسعين و عن ابن إدريس من ثلاثين إلى تسعة و تسعين، ما هو الأصلح

بنظر الحاكم، بعد ما حملوا الثمانين الذكور في هذه الاخبار على واحد من إفراد التعزير لعدم قائل به أصلا أو يطرح كما في الجواهر و قد اختار كون امره بيد الحاكم و تفويضه إلى رأيه كما عن الأكثر.

و اما إذا افتضّ الأجنبي الأمة ففيه قولان، أحدهما ان عليه عشر قيمتها، و الثاني ان عليه الأرش، و رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن على عليه السّلام تدل على الأول و إليك نصها: قال: إذا اغتصب امة فافتضّها فعليه عشر قيمتها و ان كانت حرة فعليه الصداق «1».

و اما لو كان المفتض بالإصبع هو الزوج ففي الجواهر: فعل حراما، قال بعضهم «2»: و عزر و استقر المسمى فتأمل انتهى.

أقول: فيه ان حرمة ذلك مع رضاء الزوجة غير معلوم خصوصا إذا كان الزوج ضعيفا و أقدما على ذلك لتمكن الدخول، و اما استقرار المهر بالدخول فلا

______________________________

[1] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 39 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3، أقول: و هذه الاخبار و ان كانت مطلقة الّا انها تحمل على الحرة للتصريح بذلك في رواية طلحة الآتية عن قريب.

[2] وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 39 من أبواب حدّ الزنا الحديث 3، أقول: و هذه الاخبار و ان كانت مطلقة الّا انها تحمل على الحرة للتصريح بذلك في رواية طلحة الآتية عن قريب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 39 من أبواب حدود الزنا الحديث 5.

(2) راجع كشف اللثام الجلد 2 الصفحة 226.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 495

يلازم استقراره بإزالة البكارة بغيره. اللهم الا ان يكون له دليل خاص.

[التاسعة] فيمن تزوج امة على حرة

قال المحقق: التاسعة: من تزوج امة على حرة مسلمة فوطئها قبل الاذن كان عليه

ثمن حد الزاني.

أقول: و استدل على ذلك بخبر حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل تزوج امة على حرّة لم يستأذنها؟ قال: يفرّق بينهما قلت: عليه أدب؟ قال: نعم اثنا عشر سوطا و نصف، ثمن حد الزاني و هو صاغر «1».

أقول: و ليس فيها ذكر عن الوطي في حين انّ ظاهر عبارة الشرائع ان الحد للوطي بعد التزويج، و في الجواهر: لا أجد فيه خلافا بل عن بعض الإجماع عليه، و في كشف اللثام: و ذكر الوطي المصنف و المحقق بناء على صحة التزوج و إباحته و التوقف على الاذن ابتداء أو استدامة انتهى و اختاره في الجواهر.

فان كان العقد صحيحا و كان معلقا على الاذن فلازم ذلك عدم التفريق مع عدم الاذن السابق و اللاحق فإذا أذن يكشف عن عدم حرمة الوطي و عدم بطلان العقد و لو ردّ يكشف عن البطلان و لزوم الحد عليه.

و الظاهر انّ الحد مخصوص بالوطي قبل الرد حيث انه فعل ما هو مردد بين الحلال و الحرام.

ثم انه لا إشكال في عدم جواز نكاح الأمة على الحرة بلا اذن من الحرة سابقا أو لاحقا كما انه لا إشكال في بطلانه كذلك.

ففي رواية محمد بن إسماعيل قال سألت أبا الحسن عليه السّلام: هل للرجل ان يتمتع من المملوكة بإذن أهلها و له امرأة حرة؟ قال: نعم إذا رضيت الحرة قلت: فإن أذنت الحرة يتمتع منها؟ قال: نعم «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 16 من أبواب المتعة الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 496

و بذلك يقيد ما دلّ

على عدم جوازه و بطلانه مطلقا مثل ما رواه يعقوب بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يتزوج الأمة على الحرة متعة؟ قال: لا «1».

و ما رواه الحلبي عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام قال: تزوج الحرّة على الأمة و لا تزوج الأمة على الحرة و من تزوج امة على حرة فنكاحه باطل «2».

و في الرياض ادّعى الإجماع على ذلك اى بطلانه مع عدم إذن الحرة فقال- بعد قول النافع: لا يجوز نكاح الأمة على الحرة إلا بإذنها-: بإجماعنا حكاه جماعة من أصحابنا كالمبسوط و السرائر و الغنية و الروضة و غيرهم و الاخبار به مستفيضة. و لا فرق فيه بين الدائم و المنقطع إلخ «3».

و اختار المحقّق القميّ رضوان اللّٰه عليه في جامع شتاته اعتبار خصوص الاذن السابق.

و لكنّ الظاهر كفاية الإذن مطلقا و ان كان بعد وقوع التزويج.

و في الجواهر- بعد قول المحقق: لا يجوز نكاح الأمة على الحرة إلا بإذنها- بلا خلاف أجده في المستثنى و المستثنى منه الا ما عساه يظهر مما حكاه الشيخ عن قوم من أصحابنا من عدم الجواز و ان أذنت و هو مع انه غير معروف القائل واضح الضعف بل الإجماع بقسميه عليه مضافا الى النصوص «4».

و على الجملة فالنكاح كان من أوّل الأمر صحيحا الا ان تردّ الحرة ذلك و على هذا فثمن الحد كان على الوطي قبل ان تأذن الحرة، اما بعد الردّ فالحدّ الكامل.

و اما اثنا عشر سوطا و نصفا فالمراد بالنصف ان يؤخذ بوسط السوط و يضرب به كما أوضح ذلك خبر هشام بن سالم عن ابى عبد اللّٰه عليه السّلام في رجل تزوج ذمية على مسلمة قال: يفرّق بينهما

و يضرب ثمن حد الزاني اثنا عشر

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 16 من أبواب المتعة الحديث 3.

(2) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 46 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة الحديث 1.

(3) رياض المسائل الجلد 2 الصفحة 99 كتاب النكاح.

(4) جواهر الكلام الجلد 29 الصفحة 409.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 497

سوطا و نصفا فان رضيت المسلمة ضرب ثمن الحد و لم يفرّق بينهما، قلت: كيف يضرب النصف؟ قال: يؤخذ السوط بالنصف فيضرب به «1».

و قيل في كيفيّة التنصيف انّه يضرب ضربا بين الضربين و قد حكاه في المسالك.

و فيه انّه لا شاهد عليه بل لا وجه له بعد ورود النصّ بخلاف ذلك.

[العاشرة] من زنى في زمان أو مكان شريف

قال المحقق: من زنى في شهر رمضان نهارا كان أو ليلا عوقب زيادة على الحد لانتهاكه الحرمة و كذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف.

أقول: مستند ذلك مضافا الى عدم الخلاف فيه، مرسل ابى مريم قال:

اتى أمير المؤمنين عليه السّلام بالنجاشي الشاعر قد شرب الخمر في شهر رمضان فضربه ثمانين ثم جسه ليلة ثم دعا من الغد فضربه عشرين فقال له: يا أمير المؤمنين هذا ضربتني ثمانين في شرب الخمر و هذه العشرون ما هي؟ قال: هذا لتجرّئك على شرب الخمر في شهر رمضان «2».

و الرواية و ان كانت متعلقة بشرب الخمر في رمضان الا ان التعليل يفيد عدم الاختصاص بشرب الخمر كما ان من المعلوم بحسب الاعتبار انه لا خصوصية لشهر رمضان بل الحكم شامل لسائر الأزمنة المباركة بل و لا خصوصيّة للزمان، فالحكم شامل للمكان المحترم أيضا.

و الإنصاف انّ استفادة التعميم- لكلّ زمان شريف أو مكان كذلك- من التعليل الوارد في الرواية المتقدّمة مشكلة جدّا فان

قوله عليه السّلام: (هذه لجرأتك في شهر رمضان) ظاهر في انّ حرمة شهر رمضان أو جبت هذه الزيادة، و لو كان الأمر كما فهمه الأصحاب للزم الحكم بذلك في كلّ شهر له مزيد

______________________________

(1) وسائل الشيعة الجلد 14 الباب 7 من أبواب ما يحرم بالكفر الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة الجلد 18 الباب 9 من أبواب حد المسكر الحديث 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 1، ص: 498

شرف عند اللّٰه كشهري رجب و شعبان بل و كلّ زمان شريف و ساعة لها فضل، كبين الطلوعين مثلا، فلو شرب الخمر في هذه الساعة وجب ان يجلد و يزاد في حدّه لهتكه الساعة الشريفة، و للزم ان يزاد في حدّه إذا كان في ليلة القدر- من شهر رمضان- التي هي خير من الف شهر مضافا الى الزيادة التي كانت لشهر رمضان و هكذا لزم الزيادة إذا اتى بموجب الحدّ في المسجد أو على قرب من قبور أبناء الأئمّة أو لدى مضاجع العلماء و الأولياء الصالحين، بل و في مثل ارض قم المشرّفة التي شهدت بفضلها العظيم الأخبار الواردة عن خزّان الوحي، فهل يمكن القول بانّ من شرب الخمر بأرض قم المقدّسة يزاد في حدّه؟ و مجرّد انّ الأصحاب فهموا التعميم و شهد له الاعتبار- على ما افاده صاحب الجواهر- غير كاف في ذلك و كأنّهم قالوا بذلك من باب أصل التجرّي و انّ لهذا المجرم جرأة على العصيان.

و كيف كان فالجزم بذلك مشكل جدّا و المقدار المسلّم هو خصوص شهر رمضان و ما له حرمة كحرمته مثل الكعبة و مسجد النبيّ و حرم الأئمّة الطاهرين. و انّى لا أظنّ انّ الأصحاب يقولون بالتعميم الى كل زمان أو مكان

له نوع شرف و فضل.

و على اىّ حال فكلّما شككنا في انّه يوجب الزيادة في الحدّ أم لا فمقتضى قاعدة الدرء هو العدم.

تمّ بحمد اللّٰه و المنة و نحن نقول: «الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين.»

العبد: على الكريمي الجهرمى

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الجزء الثاني

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على سيّد الأوّلين و الآخرين محمّد و عترته الطاهرين، الذين هم أساس الدين و عماد اليقين و أبواب الوصول الى جوار ربّ العالمين و اللّعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين و بعد، فإنّ من أهم الوظائف التي جعلها اللّه سبحانه على عاتق كل فرد مسلم على العموم و على عواتق من منحه اللّه علم الدين السعي في ترويج الدين و إبلاغ الأحكام إلى الناس، فالعلماء مسئولون تجاه أحكام اللّه تعالى، و الدين أمانة اللّه العظيمة في أيديهم، و الناس رعايا تحت رعايتهم.

قال الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام في ضمن خطبة له: و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تعون ذلك، بأنّ مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه. «1».

و لمّا كانت هذه المسؤولية الخطيرة مصيبة عظيمة، فأداؤها و مراعاتها

______________________________

(1) تحف العقول عن آل الرسول ص 169.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 4

و الحفاظ عليها يصعد بالعالم المهتم بذلك مقاما رفيعا و يوجب له أجرا جزيلا يعرّف ذلك بينه و بين ملائكة اللّه المقربين و يدعى عظيما عند

سكّان السماوات الروحانيّين.

فعن حفص بن غياث قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: من تعلّم العلم و عمل به و علّم للّه دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلّم للّه و عمل للّه و علّم للّه «1».

و على أساس هذه الفكرة السامية فقد قام العلماء الأكارم بحفظ شئون الدين و إحياء أحكامه و نشر آثاره بكل طاقاتهم و غاية جهودهم في إشكال مختلفة و بمناسبة الظروف و الأحوال الشخصية و الاجتماعيّة فشكر اللّه مساعيهم الجميلة.

و أمّا اليوم فالمسئولية خطيرة و الخطب عظيم، و أنتم ترون الأجيال في أقطار العالم و شتّى نواحيه قد قضى على سعادتهم و وقعوا في ويلات و محاولات جهنميّة و تحرّر زائف و أظلّ عليهم غمام الشقاء و أصبحوا حيارى سكارى، و أمة هابطة لا يذوقون طعم الحياة و لا يجدون لذّة الأمن و الأمان، فذلك الضياع و الفساد و الانحطاط قليل من كثير من تبعات الانحراف عن الدين و الاستخفاف بأمور الشرائع و المناهج السماوية و اتخاذ غير الإسلام منهجا.

و مع ذلك فما بقي من الآفات و العاهات و الويلات من أثر هذه الانحرافات أكثر ممّا مضى و جرى عليهم، و غدهم أدهى و أمر من أمسهم- لا سمح اللّه بذلك- إلّا أن يهتدوا إلى ربّهم سبيلا و يتّخذوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إماما و قائدا و يلجأوا إلى الدين، قال اللّه تعالى «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ» «2».

نعم إن تلك الظروف القاسية و الأجواء المظلمة الفاسدة تتطلّب توسعة

______________________________

(1) الكافي ج 1 ص 35 ح 6.

(2) سورة الأعراف الآية

96.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 5

الجهود و بذل المجهود بأشكاله ليلا و نهارا سرّا و إعلانا، بحيث يناسب مقاومة تلك الدعايات الباطلة و النعرات الكافرة التي ملأت العالم.

فعلى العلماء الأعلام أن يجدّوا بنشاط في تبيين معارف الإسلام و مناهجه القويمة و كشف الغطاء عن أحكام الدين، و أن لا يعرضهم فتور في ترويج الشريعة و إنقاذ الأمّة، و تعليم الناس الحلال و الحرام و شعائر الإسلام، كما أن على الأمراء و ذوي المقدرة أن يجتهدوا و يسارعوا إلى تنفيذ هذه الأحكام و المقرّرات.

و على الشعب المسلم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يتعبّدوا بتلك «الأحكام- و خاصّة عند تنفذها- بقلب ملؤه الرضا و اليقين و يكسبوا بذلك المجد و السّيادة و الثناء الجميل في هذه الدنيا، و الأجر و الثواب و رحمة اللّه الواسعة في دار النعيم.

و لعمري ان من يحسّ و يعي الأخطار الموحشة المتوجّهة إلى الإسلام و أجيال المسلمين الآتية سوف يندفع دون توان إلى الذّبّ عن الإسلام و نصرة الدّين و الأمة و توجيههما إلى اللّه سبحانه.

و إنّي أرجو اللّه تعالى الذي لا يخيب من رجاه أن يجعل عملنا القليل و تأليف كتابنا حول حدود الإسلام خطوة متواضعة إلى تحقيق هذه المهمّة.

و قد خرج الجزء الأوّل منه الى النور قبل بسنتين تقريبا و صار في متناول العلماء الأعلام و الفقهاء العظام و أحرز بمنّ اللّه و لطفه العميم مكانه لديهم و تلقّاه الأفاضل بالقبول و طلب كثير من المشتغلين إخراج ما بقي من تلك المباحث إلى الطباعة و حثّني عدّة من العلماء الأعلام و الأفاضل الكرام لطبع باقي مجلّدات هذا الكتاب، فقررت إجابة طلبهم السامي

و هيأت مما كتبته في الحدود و التعزيرات هذه المجموعة، التي هي أيضا نتيجة ما تلقّيته في محفل علمي عظيم و معهد فقهي ثقافي كبير- كان يقام صبيحة كل يوم في مسجد الزعيم العالمي الراحل السيّد البروجرديّ قدّس الله إسراره، و كنا نتلقى دروسها من رجل كبير عبقريّ، و هو

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 6

بقيّة السلف و أستاذنا الأكبر المرجع الأعلى و آية اللّه العظمى السيّد الگلپايگاني دام ظلّه العالي.

و قد كان دام ظلّه قبل أن يغلب عليه الضعف- الى جانب المرجعية الكبرى العامّة التي أتاحها اللّه له و أنعم اللّه بها عليه منذ سنوات عديدة- مهتما بأمر التدريس و تربية العلماء و المجتهدين و لم يزل دؤوبا على ذلك متأهبا صباح كلّ يوم للذهاب إلى مجلس درسه العظيم الحافل بالإعلام و الأفاضل و كان يرقى منبر التدريس و يلقي دروسه العالية بشوق وافر و نشاط بالغ، و لم يعرض له فتور في ذلك حتّى بلغ كتاب الحدود قريبا من نهايته. أدام اللّه أيّامه و من اللّه على المسلمين بطول بقائه.

فهذه الدراسة التي نقدمها إليكم أيها القرّاء الكرام و العلماء الأجلّاء كانت من إفاضاته، و هي تحتوي على المواضيع التالية: حدّ اللواط و حدّ السحق و حدّ القيادة و حدّ القذف و حدّ شرب الخمر.

نسأل اللّه تعالى أن يجعله بمنّه و أياديه خطوة إلى التعرّف الى قوانين الإسلام الراقية، و أحكامه السياسية و الاجتماعية التي هي من أقوى العوامل لحفظ المجتمعات و تأسيس مجتمع قائم على العفّة و السعادة و المجد و الكرامة، فإنّ تلك الأهداف الراقية و الجوّ المطمئنّ لا يتحقّق إلّا في ظلال الدين و التمسك بحدود الإسلام و

أحكامه و سياساته.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.

قم- الحوزة العلمية علي الكريمي الجهرمي 13 ربيع الثاني 1414

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 7

في حدّ اللّواط

اشارة

قال المحقق قدس سره: الباب الثاني في اللواط و السحق و القيادة، أمّا اللواط فهو وطي الذكران بإيقاب و غيره.

أقول: اللواط في اللغة: قال في مجمع البحرين: لاط الرجل و لاوط إذا عمل عمل قوم لوط، و منه اللواط أعني وطي الدبر، و في الحديث: اللّواط ما دون الدبر و الدبر هو الكفر، و فيه أيضا: إن أصل اللوط اللّصوق، و هذا شي ء لا يلتاط بقلبي أي لا يلصق به. انتهى.

و قد عرّفه المحقق كما رأيت بوطء الذكران سواء كان بالإيقاب أي الإدخال، أو غيره.

و الظاهر أنّ مقصوده اللواط الذي هو موضوع البحث في الفقه.

في حرمة اللواط

ثم إنه لا شك في حرمة اللّواط بل إنّ حرمته من ضروريّات الدين و دلّ عليها الكتاب المبين [1] و سنة سيّد المرسلين و أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه

______________________________

[1] فمن جملة تلك الآيات الكريمة قوله تعالى وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعٰالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ. فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ الْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. الأعراف- 80.

و منها قوله سبحانه وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ: أَ تَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلّٰا أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 8

عليهم أجمعين. و قد خرّج في الوسائل ثلاث عشرة رواية تحت عنوان تحريم اللواط على على الفاعل و إحدى عشرة رواية في تحريم اللواط على المفعول و نحن نقتصر على ذكر بعضها:

فمنها رواية الحضرمي عن أبي عبد

اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا و غضب اللّه عليه و لعنه و أعدّ له جهنم و ساءت مصيرا- ثم قال- إنّ الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك «1» و انّ الرجل ليؤتى في حقبه فيحبسه اللّه على جسر جهنّم حتّى يفرغ اللّه من حساب الخلائق ثم يؤمر به إلى جهنّم فيعذب بطبقاتها طبقة حتّى يرد إلى أسفلها و لا يخرج منها «2».

و عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج و إنّ اللّه أهلك أمّة لحرمة الدبر و لم يهلك أحدا لحرمة الفرج «3». و المقصود من الأمة التي أهلكهم اللّه في الدبر قوم لوط عليه السلام.

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في قوم لوط: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعٰالَمِينَ) فقال: إنّ إبليس أتاهم في صورة حسنة فيها تأنيث و عليه ثياب حسنة فجاء الى شباب منهم فأمرهم أن يقعوا به، و لو طالب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه و لكن طلب إليهم أن يقعوا به فلمّا وقعوا به

______________________________

آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلّٰا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ الْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسٰاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. النمل- 54.

و منها قوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ. فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ. سورة المؤمنون- 7، المعارج- 31.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 14 ب 18 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

(3)

وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 9

التذّوه ثم ذهب عنهم و تركهم فأحال بعضهم على بعض «1» الى غير ذلك من الروايات.

كلام حول قيود التعريف

ثم إنّه قد خرج بقيد الذكران الوطئ في دبر غير الإنسان كالحيوانات كما أنه قد خرج بذلك الوطئ في دبر المرأة من الإنسان.

ثم إنه بعد أن الإيقاب المذكور في تعريف اللواط كان بمعنى الإدخال فهل المعتبر إدخال تمام الحشفة أو أنه يكفي في جريان الحكم إدخال بعضها؟ بعد أنه لا إشكال في عدم اعتبار أزيد من ذلك.

فنقول: اقتصر المحقق على ذكر الإيقاب بلا تعرّض للمتعلّق و لكن العلّامة أعلى اللّه مقامه ذكر المتعلّق قائلًا في القواعد عند تعريف اللواط: و هو وطي الذكر من الآدمي، فإن كان بإيقاب و حدّه غيبوبة الحشفة في الدبر وجب القتل على الفاعل و المفعول إلخ.

و في المسالك تعرّض لما هو مورد البحث فقال بشرح عبارة المحقّق المذكورة:

أراد بالإيقاب إدخال الذكر و لو ببعض الحشفة لأن الإيقاب لغة الإدخال فيتحقّق الحكم و إن لم يجب الغسل.

ثم ردّ على العلّامة بقوله: و اعتبر في القواعد في الإيقاب غيبوبة الحشفة، و مطلق الإيقاب لا يدلّ عليه. انتهى.

و قال السيّد في الرياض: إدخال الذكر في دبره و لو بمقدار الحشفة و في الروضة انّ ظاهرهم الاتّفاق على ذلك و إن اكتفوا ببعضها في تحريم أمّه و أخته و بنته انتهى.

و في كشف اللثام بشرح عبارة القواعد المذكورة آنفا: لعلّة احتاط بذلك و إلا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 10

فالنصوص و الفتاوى مطلقة يشتمل

ما دونه، و يمكن تعميم الحشفة للكل و البعض.

فاختلفت كلماتهم في خصوص غيبة بعض الحشفة في هذا المقام فظاهر كلام المحقّق هو الإكتفاء بالبعض في الحكم بالحدّ كما أنه الظاهر جدا من عبارة المسالك في حين أن مقتضى كلام العلامة و الروضة و الرياض هو اعتبار غيبوبة الحشفة كلّها و ان أمكن أن يقال: إن مراد العلّامة بغيبوبة الحشفة غيبوبتها و لو ببعضها لكن ذلك خلاف الظاهر.

و كيف كان فلو قلنا بكون إدخال الحشفة أعمّ كما لعله ظاهر لفظ الإيقاب و لا خلاف على الظاهر في كفاية الأعمّ فهو، كما أنه لو ثبت الاتّفاق الذي ادّعاه الشهيد الثاني و قيل باعتبار التمام فلا كلام.

أما لو شك في اعتبار ذلك و عدمه فالمرجع هو قاعدة درء الحدود بالشبهات.

هذا بالنسبة للايقاب و أمّا: غيره المذكور في التعريف في كلام المحقّق فالمراد منه هو التفخيذ أو الإدخال بين الأليتين حيث إنّه يطلق عليهما اللواط مجازا.

و في الجواهر بعد ذكر اختلاف كلماتهم في ذلك: و على كلّ حال فالظاهر أن إطلاق اللواط على غيره من التفخيذ أو الفعل بين الأليتين من المجاز، و إدراج المصنف له في تعريفه تبعا للنصوص الّتي منها ما سمعته بل ربما كان الظاهر من بعضها كونه المراد من الوطي. انتهى.

الكلام في طريق ثبوته

قال المحقق: و كلاهما لا يثبتان إلا بالإقرار أربع مرّات أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة.

أقول: يعنى إنّه لا يثبت الإيقاب و غيره أي التفخيذ مثلا إلا بأن يقرّ الإنسان بنفسه أربع مرات بهذا العمل أو أن يشهد على ذلك أربعة شهود فلا يثبت بأقل من ذلك و لا بغيره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 11

و في الجواهر بالنسبة إلى الإقرار: الذي قطع

به الأصحاب.

أقول: و دلّت على ذلك الروايات الشريفة كصحيح مالك بن عطيّة أو حسنة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهّرني، فقال له: يا هذا امض إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك فلمّا كان من غد عاد اليه فقال له:

يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك حتّى فعل ذلك ثلاثا بعد مرّته الأولى فلمّا كان في الرابعة قال: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهنّ شئت قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت أو إهداب- إهداء- من جبل مشدود اليدين و الرجلين، أو إحراق بالنار.

قال: يا أمير المؤمنين أيهن أشدّ علي؟ قال: الإحراق بالنار قال: فإنّي قد اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم، قال: فصلّى ركعتين ثم جلس في تشهّده فقال: اللهم إنّي قد أتيت من الذنب ما قد علمته و إني تخوّفت من ذلك فأتيت إلى وصّي رسولك و ابن عمّ نبيّك فسألته ان يطهرني فخيّرني ثلاثة أصناف من العذاب اللّهم فإني اخترت أشدّهن اللّهمّ فإنّي أسألك أن تجعل ذلك كفارة لذنوبي و أن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام و هو باك حتّى دخل الحفيرة التي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام و هو يرى النار تتأجّج حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام و بكى أصحابه جميعا فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت

ملائكة السماء و ملائكة الأرض فإنّ اللّه قد تاب عليك فقم و لا تعاودنّ شيئا ممّا فعلت [1].

قوله عليه السلام: لعلّ مرارا هاج بك أي لعلّه غلب عليك الصفراء، فلذا تهجر و تهذو.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 423 ب 5 من أبواب حد اللواط ح 1 و موردها و إن كان هو الإيقاب إلّا أن الظاهر عدم الفرق بينه و بين التفخيذ في ذلك و لم ينقل خلاف فيه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 12

و قد اختلف في كونها صحيحة أو حسنة و ذلك لأجل علي بن إبراهيم عن أبيه و لكنّ الأقوى أنها صحيحة كما و أنّها تدلّ على اعتبار أربع مرات في الإقرار و على أن التوبة تقبل في درء الحدّ إذا كان قد ثبت بالإقرار، في حين أنه لا تقبل إذا ثبت بالشهادة.

ثم إنّه كما يثبت ذلك بالإقرار أربع مرات كذلك يثبت بشهادة أربعة رجال بالمعاينة و لا خلاف في ذلك كما في الزنا.

شرائط المقرّ

قال المحقق: و يشترط في المقرّ البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار فاعلا كان أو مفعولا.

أقول: أما الصبي و المجنون و المكره فلا تكليف عليهم فلا أثر يترتّب على إقرارهم.

و أما اشتراط الحرية فلأنّ إقرار العبد على نفسه يكون بضرر المولى و الإقرار في حق الغير غير مسموع.

تعزير من أقرّ دون أربع

قال المحقق: و لو أقرّ دون أربع لم يحدّ و عزّر.

أقول: قد تقدّم أن الإقرار أربع مرات موجب للحدّ و عليه فلو أقرّ دون ذلك فهو لا يوجب الحدّ و إنّما يوجب تعزير المقرّ و ذلك لإقراره بالفسق فيشمله إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و ثبوت الفسق ليس كثبوت اللواط في الافتقار إلى الأربع فلا يشترط فيه ذلك، و لا تلازم بين عدم ثبوت الحدّ و عدم ثبوت التعزير، و على الجملة فحيث إنّه أقرّ بمعصية كبيرة فلذا يثبت عليه التعزير.

و الإنصاف أنّه يشكل تصوير ذلك لأن التعزير إذا كان لأجل الإقرار

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 13

بالمعصية الكبيرة فليس هي إلّا اللّواط و لم يثبت ذلك فلو كان يثبت ذلك لوجب الحدّ و إلّا فلا تعزير أيضا.

و يمكن أن يقال: إنّ الأمر هنا يتصوّر على وجهين:

أحدهما أن ثبوت المعصية محتاج إلى الأربع فبدونه لا يثبت، و لا حدّ هناك.

ثانيهما أن يقال بثبوته بذلك إلّا أنه لا يقام الحدّ بدون الأربع فإن كان إثبات المعصية منوطا بالأربع فبدونه لا يثبت فلا وجه للحدّ لعدم ثبوت الفسق.

و أمّا إنّه يثبت إلّا أن الحدّ كان منوطا بالأربع فهو بعيد جدا لأن الحدّ متعلق باللّواط و الزنا على ما هو لسان الأدلّة كقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ) «1».

هذا مضافا

الى منافاة هذا لما يظهر من صحيح مالك بن عطية المذكورة آنفا حيث إنّ الامام عليه السلام لم يعزّره في المرّة الأولى مثلا و هل أنه لو كان المقرّ لا يرجع بعد إقراره الأوّل كان الإمام يستحضره و يعزّره؟ بل الظاهر أنه كان يخلّي سبيله و يتركه و ترى أنه عليه السلام أمر بالذهاب إلى منزله.

و على الجملة فظاهر هذه الرواية خصوصا بقرينة قوله: اذهب الى منزلك و قوله: لعل مرارا هاج بك، هو تخصيص إقرار العقلاء على أنفسهم جائز و عدم قبول الإقرار مرة واحدة و إنّه لا يؤثّر شيئا فكما أنّه لا يوجب الحدّ كذلك لا يوجب التعزير و إلا لكان يلزم التعزير على كل إقرار من أقاريره و إن كان يلزم الحدّ بتمام الأربع و قد استشكل السيد صاحب الرياض قدس سرّه في الحكم بالتعزير بذلك فراجع.

و الحاصل ان المستفاد من الاخبار هو استثناء الزنا و اللواط عن سائر المعاصي في أنه يكتفي فيها بشاهدين أو إقرارين فلا يكتفى فيهما بذلك بل لا بد من أربعة شهود أو أربعة أقارير فقد جعل الشارع الطريق إلى إثباتهما ذلك، و دون ذلك ليس بحجّة و لا أثر له حتّى التعزير كما أنه جعل علم الحاكم طريقا إليه

______________________________

(1) سورة النّور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 14

فإذا علم مع قطع النظر عن البيّنة فهناك يعمل بعلمه و إذا لم يكن كذلك و أريد الإثبات من طريق الشهود فلا بد من الأربعة حتّى و لو حصل العلم من الشهادة قبل تمام الأربعة كما أنه كان يحصل العلم غالبا بشهادة بعض الشهود و بأقلّ من الأربعة و مع ذلك كانوا يحكمون بالأربعة لا

بدونها. فتحصّل أن التعزير بالإقرار مرة واحدة محلّ الإشكال.

تعزير الشهود إذا كانوا دون أربع

قال المحقّق: و لو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت و كان عليهم الحدّ للفرية.

أقول: بعد أن تحقّق أنه في الشهادة في المقام لا بد من شهادة أربعة شهود فهنا نقول: إذا شهد أقلّ من ذلك فإن شهادتهم لا تؤثّر في إثبات الزنا و إقامة الحدّ على المشهود عليه إلّا أنّها حيث كانت قذفا و فرية فإنّها توجب حدّ القذف على من شهد بذلك و إن انضمّت إلى ما دون الأربعة النساء و ذلك لأنه لا أثر لشهادتهن في باب الحدود منفردات أو منضمّات لدلالة الأخبار على ذلك.

نعم قد تقبل شهادتهن في الزنا على بعض الوجوه [1] و لكن القبول هناك لا يستلزم القبول في المقام لورود الدليل هناك و عدم وروده في المقام و إن قال به الصدوقان و ابن زهرة لكن لا دليل يعتمد عليه و يتمسك به في المورد و القياس باطل عندنا معاشر الإماميّة و الأصل عدم الثبوت في غير ما دلّ عليه الدليل مع أن الحدود تدرء بالشبهات، و خلاف هؤلاء غير قادح فإنّ المتّبع هو الدليل.

قال المحقّق: و يحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصحّ.

أقول: قد تقدّم البحث في ذلك في كتاب القضاء.

______________________________

[1] فإنه يثبت الزنا بثلاثة رجال و امرأتين و برجلين و أربع نساء في مورد الجلد فقط راجع الجواهر ج 41 كتاب الشهادات ص 155.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 15

و أمّا: ما ذهب إليه الحلبيّ قدّس سرّه من حجيّة الشهرة في المقام قائلًا: (و إذا تزيّا الذكر بزيّ المرأة و اشتهر بالتمكين من نفسه و هو المخنث في عرف العادة قتل صبرا

و إن فقد البيّنة و الإقرار بإيقاع الفعل به لنيابة الشهرة منابهما «1» فلم يقم عليه دليل و الأصل عدم وجوب الحدّ ما لم يبلغ حدّ العلم للحاكم أو الشهود و إن كانت الشهرة حجة عند العرف فإن المثبت هنا غير المثبت العرفي و ذلك لحكمة عدم وقوع الحدّ كثيرا فهنا لا يكتفي بعدم الردع بل يحتاج إلى الإمضاء.

الإيقاب يوجب القتل على الفاعل و المفعول

قال المحقّق: و موجب الإيقاب القتل على الفاعل و المفعول إذا كان كل منهما بالغا عاقلا.

أقول: أي إذا ثبت الإيقاب و الدخول فهناك يقتل الفاعل و المفعول- و سيأتي كيفية القتل و الظاهرة أن الحكم ذلك سواء كان محصنا أم غير محصن.

و في الجواهر بعد لفظة المفعول: بلا خلاف أجده فيه نصّا و فتوى بل الإجماع بقسميه عليه انتهى.

و لا ندري إن ادّعاءه عدم الخلاف و الإجماع متعلّق بكل الجملة السابقة أو أنه يختص بالأخير فقط أي قوله: و المفعول [1] و لو كان متعلقا بالجميع ففيه تحقق الخلاف خصوصا في النصوص كما سترى ذلك.

و في المسالك: لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلفا و الأخبار به متضافرة إلخ.

و في الرياض بعد ذكر شمول الحكم للعبد و لغير المحصن أيضا: بلا خلاف على

______________________________

[1] لو احتمل ذلك في هذا المقام فما يصنع بقوله- عند قول المحقق: و يستوي في ذلك.

و المحصن و غيره- بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

______________________________

(1) الكافي في الفقه ص 409.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 16

الظاهر المصرّح به في السرائر بل ظاهرهم الإجماع عليه كما في جملة من العبائر و منها الانتصار و الغنية و هو الحجة (ثم قال:) مضافا إلى النصوص المستفيضة الآتي إلى

جملة منها الإشارة و لكن بإزائها نصوص أخر دالّة على أن حدّ اللواطى حدّ الزاني إن كان قد أحصن رجم و إلا جلد إلا أنّها شاذة لا عامل بها موافقة للتقيّة كما صرّح به شيخ الطائفة حاملا لها عليها تارة و أخرى على غير الإيقاب لتسميته لواطا أيضا اتّفاقا فراجع.

فترى انّه لم يدّع اتّفاق النص بل إنّما ادّعى استفاضة النصوص و صرّح بوجود نصوص أخر على خلافها.

كما و أنه رحمه اللّه لم يدّع عدم الخلاف فتوى بل و صرّح باختيار بعض متأخّري المتأخّرين باشتراط الإحصان مضافا إلى الإيقاب، في قتل الفاعل أو رجمه فراجع و هذا أحسن من قول الجواهر، و ذلك لوجود الاختلاف فيهما.

و كيف كان فكلمات العلماء هنا مختلفة فالمستفاد من بعضها أن اللواط موجب للقتل سواء كان بالإيقاب أو بغيره إذا كان محصنا و المراد من الغير هو التفخيذ مثلا و من بعضها أن القتل مختص بصورة الإيقاب أمّا في غيرها فالجلد.

و إليك بعض الكلمات:

قال الشيخ قدّس سرّه- بعد أن قسم اللواط على ضربين أحدهما الإيقاع في الدبر ثانيهما إيقاع الفعل فيما دونه و إنّ الحكم في الأوّل القتل بالصور الخاصّة-:

و الضرب الثاني من اللواط و هو ما كان دون الإيقاب فهو على ضربين: إن كان الفاعل أو المفعول به محصنا وجب عليه الرجم و إن كان غير محصن كان عليه الجلد مأة جلدة «1».

و تبعه ابن البراج و ابن حمزة على ما في المختلف.

و قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مأة للفاعل و المفعول به إذا كانا عاقلين بالغين، و لا يراعى في جلدهما عدم

______________________________

(1) النهاية ص 704.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 17

الإحصان و لا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا بل حدّهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه «1» و ذكر رحمه اللّه أن في الإيلاج في الدبر القتل سواء كان المتفاعلان على الإحصان أو على غير الإحصان «2» فهو قدّس سرّه افتى بجلد غير الموقب مطلقا سواء كان محصنا أو غيره.

و قال العلامة أعلى اللّه مقامه في المختلف: و به قال السيّد المرتضى و ابن أبي عقيل و سلّار و أبو الصلاح، و قال الصدوق و أبوه في رسالته: و أمّا اللواط فهو ما بين الفخذين فأمّا الدبر فهو الكفر باللّه العظيم، و من لاط بغلام فعقوبته أن يحرق بالنار أو يهدم عليه حائط أو يضرب ضربة بالسيف، ثم قال بعد ذلك أبوه: فإذا أوقب فهو الكفر باللّه العظيم، و هذا يعطي أن القتل يجب بالتفخيذ و كلام ابن الجنيد يدلّ عليه أيضا، و ابن إدريس اختار ما ذهب إليه المفيد و هو الأقرب «3».

و ظاهر كلام هذين هو القتل في غير الموقب بواحد من الأنحاء الثلاثة محصنا أو غير محصن و أمّا الإيقاب فقد قالا بأنه كفر باللّه، و هذا من باب التأكيد و التشديد في هذه المعصية.

و الحاصل أن الحكم في صورة الإيقاب هو القتل مطلقا بلا خلاف في ذلك إلّا عن بعض متأخري المتأخرين على ما حكاه في الرياض، و قد ذهب إليه بعض المعاصرين للجمع بين الروايات بنظره.

و إنّما الخلاف في موضعين: أحدهما في أن الفخذين و الأليين كالدبر في الحكم كما ذهب إليه الصدوقان أم لا.

ثانيهما في أنه هل أنه يفرق بين الإحصان و عدمه على ما ذهب إليه بعض في غير الإيقاب أم لا؟.

و اللازم

هو المراجعة الى الأخبار و استفادة الحكم منها إن أمكن ذلك و إلّا فالمرجع هو الإجماع إن كان و إلّا فيتمسّك بقاعدة الدرء.

______________________________

(1) المقنعة ص 785.

(2) المقنعة ص 785.

(3) مختلف الشيعة ص 764.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 18

قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي: باب أن حدّ الفاعل مع عدم الإيقاب كحدّ الزنا و يقتل المفعول به على كلّ حال مع بلوغه و عقله و اختياره.

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الملوط حدّه حدّ الزاني «1».

ظاهره وقوع الإيقاب لا التفخيذ مثلا على ما يستعمل فيه اللواط في بعض المواقع فمقتضى ذلك عدم الفرق بين الإحصان و غيره.

و عن سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك «2».

و هنا ذكر أن حدّ الإيقاب هو القتل بصورة مطلقة.

عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: حدّ اللواطي مثل حدّ الزاني، و قال: إن كان قد أحصن رجم و إلا جلد «3».

و عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام رجل أتى رجلا؟

قال: عليه إن كان محصنا القتل و إن لم يكن محصنا فعليه الجلد قال: قلت فما على المأتيّ به؟ قال: عليه القتل على كلّ حال محصنا كان أو غير محصن [1].

عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليه السلام.

إنّه كان يقول في اللوطي: إن كان محصنا رجم و إن لم يكن محصنا جلد الحدّ «4».

و عن أبي البختري

عن جعفر بن محمد عن أبيه إنّ عليّ بن أبي طالب عليه

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 4 قال دام ظله و الوجه في الفرق بين الفاعل و المفعول به هو أن الفاعل يدفع شهوته فإذا كانت له زوجة فالحجة قائمة عليه دون ما إذا لم تكن له زوجة و هذا لا يجري في المفعول به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 19

السلام كان يقول: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني، إن كان محصنا رجم و إن كان عزبا جلد مأة و يجلد الحدّ من يرمى به بريئا «1».

و عن يزيد بن عبد الملك قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ الرجم على الناكح و المنكوح ذكرا كان أو أنثى إذا كانا محصنين و هو على الذكر إذا كان منكوحا أحصن أو لم يحصن «2».

و هذه الروايات صريحة في التفصيل بين المحصن و غيره إلا أن بعضها صرّح في المحصن بالقتل، و بعضها بالرجم، و لا بأس بذلك لأنه يحمل على التخيير كما أن في بعض الروايات الأهداب من الجبل أيضا.

و هنا بعض الاخبار الذي قد يقال بأنه مطلق كرواية مالك بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل أقرّ

عنده باللواط أربعا: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت قال: و ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو إهداب (إهداء) من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار «3».

و فيه إنّ عدّ هذه من المطلقات غير صحيح و ذلك لأن الرواية حكاية عن واقعة شخصيّة و لا إطلاق لها فلو كان قد قيل بأنّه رجل أوقب فهو يقتل مثلا لكان يصحّ الأخذ بإطلاقه أمّا حكم القتل مثلا بالنسبة إلى الرجل الذي أقرّ عنده باللواط أربعا فلا فلذا لو احتمل كونه محصنا فلا طريق إلى الحكم بكون غير المحصن أيضا مثله.

نعم يصحّ أن يقال بأنّ الإمام عليه السلام لم يستفصل عن أنه كان محصنا أو غيره، و ترك الاستفصال يقتضي عدم الفرق بين المحصن و غيره و إلّا لو كانت

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 8.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 20

للمحصن خصوصية لكان اللازم الاستفصال.

لكن فيه أن ترك الاستفصال يفيد الإطلاق إذا لم يحتمل جري كلامه على علمه بالحال و الحال أن احتمال كونه عليه السلام عالما بأنه محصن و لذا حكم بالقتل الذي هو حكم المحصن، قائم، و على هذا فلا يتمّ ما ذكره بعض المعاصرين من أن رواية مالك بن عطيّة مطلقة غير مقيّدة بكونه محصنا و مقتضى الجمع تقييدها بالمقيدات.

فإنه قد ثبت أنه لا إطلاق

لها بل إنّه لا يمكن التمسّك فيها بترك الاستفصال، و لو كانت مطلقة لكان يتم أنّها تقيّد بالمقيّدات و حينئذ فلا منافاة بينها و بين المقيّدات بل رواية ابن عطيّة مجملة و هذه الروايات بيان لها.

نعم يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك إلخ مثلك في الإيقاب، و عليه فتكون الرواية مطلقة و أمّا لو كان المراد منه مثلك في الإحصان فلا إطلاق بل يكون الحكم هو التفصيل و حيث إنّ احتمال كون الرجل محصنا قائم فلذا ليست الرواية مطلقة لأن المعنى حينئذ مثلك في الإحصان.

و أمّا رواية أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها قد لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر عليه السلام به فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إيّاه من نفسك بثقبك «1».

فهي متعلّقة بمورد المحصن و لا دلالة لها على التفصيل و الإطلاق.

و يستفاد من الرواية أن حكم المفعول به القتل و أن عدم قتل الغلام كان مستندا إلى كونه غير بالغ.

و عن سيف التمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي عليّ بن أبي طالب

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 55 و 56.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 21

عليه السلام برجل معه غلام يأتيه فقامت عليهما بذلك البيّنة فقال: يا قنبر النطع و السيف ثم أمر بالرجل فوضع على وجهه و وضع الغلام على وجهه ثم أمر بهما فضربهما بالسيف حتّى قدّهما بالسيف جميعا «1».

و هذه

أيضا لا إطلاق لها و لعلّه كان الرجل محصنا.

و أمّا قتل الغلام فمحمول على بلوغه نعم هو ظاهر في عدم كونه محصنا و إلّا لم يعبّر عنه بالغلام أو أنه بعيد و إن كان ذلك لا ينفعنا في المقام حيث إنه كان مفعولا به لا فاعلا.

ثم إنّ مقتضى الروايات كما علمت هو التفصيل بين المحصن و غيره و الحكم بالقتل بواحد من الصور في الأوّل و الجلد في الثاني و قد ذكر الشيخ: بعض الاخبار الدالة على التفصيل و ذكر أنّها تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد بها إذا كان الفعل دون الإيقاب فإنّه يعتبر فيه الإحصان و غير الإحصان.

و الوجه الآخر أن نحملها على ضرب من التقية لأن ذلك مذهب بعض العامّة.

و فيه أن بعض الأخبار المفصّلة واردة بذلك في مورد الإيقاب.

و أمّا بالنسبة إلى الوجه الثاني ففيه أنه لو كان فتوى العامة بذلك بحيث يحمل عليها هذه الروايات المقيّدة فهو، لكن من جملتها النقل عن أمير المؤمنين عليه السلام و هو لا يساعد التقية [1].

لكن المشهور لم يقولوا بذلك و لم يفصّلوا بين المحصن و غيره بل أفتوا بالقتل مطلقا بلا فرق بينهما. حتى أن الشيخ المفيد الذي قال بالتفصيل فإنما فصل هو بينهما في مورد عدم الإيقاب و هذا يكشف عن كون تلك الروايات الدالة على التفصيل معرض عنها و لم يعمل بها فمن كان لا يعتني بمخالفة المشهور و عدم عملهم فهو في فسحة و راحة فيفتي بأنّ الموقب المحصن يقتل و غير المحصن يجلد

______________________________

[1] أقول: لم نقف على رواية حاكية عن التفصيل مشتملة على نقل فعل أمير المؤمنين عليه السلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ

اللواط ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 22

و أمّا من كان معتنيا بنظر المشهور و يقول بأنه لا يتجاوز عن خطّ الأصحاب و العلماء الأكابر فلا يمكنه الإفتاء بالتفصيل.

فالصحيح هو ما ذهب اليه المحقّق رضوان اللّه عليه من الإفتاء بالقتل مطلقا.

فإنّ هذه الروايات المفصّلة كانت بأعينهم و في أيديهم و لم يكن هناك إطلاق محكم وثيق في قبالها فكيف إنّهم أفتوا بالقتل مطلقا؟ هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل.

و أمّا الاختلاف الآخر فهو أنه هل الإدخال بين الأليتين أو الفخذين أيضا حكمة حكم الإيقاب أعني القتل أم لا؟ بل إنّ حكمه الجلد؟

ذهب الصدوقان إلى الأوّل و خالف فيه الآخرون.

و قال الشيخ المفيد: و اللواط هو الفجور بالذكران و هو على قسمين: أحدهما إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مأة للفاعل و المفعول به إذا كانا عاقلين بالغين و لا يراعى في جلدهما عدم الإحصان و لا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا بل حدهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه. «1».

قال الشيخ في المبسوط: و إن كان الفجور بالذكور و كان دون الإيقاب فإن كان محصنا رجم و إن كان بكرا جلد الحدّ «2».

و قال في الخلاف: و إن كان دون الإيقاب فإن كان محصنا وجب عليه الرجم و إن كان بكرا وجب عليه مأة جلدة «3» (و مثله في النهاية).

فالشيخ المفيد يقول بالجلد مطلقا [1] و الشيخ الطوسي يفصّل بين المحصن و غيره.

و المحقّق في الشرائع قد عمّم اللواط للإيقاب و غيره إلا أنه خص القتل بما إذا

______________________________

[1] قال في السرائر ج 3 ص 459: بأنّه مذهب شيخنا المفيد و السيّد المرتضى و غيرهما من المشيخة

رحمهم اللّه و هو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة القاهرة إلخ.

______________________________

(1) المقنعة ص 785.

(2) المبسوط ج 8 ص 7.

(3) الخلاف كتاب الحدود ص 151 مسألة 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 23

كان هناك إيقاب.

و قد ورد في بعض الروايات أن غير الموقب أيضا يقتل، مثل رواية حسين بن سعيد قال: قرأت بخطّ رجل أعرفه إلى أبي الحسن عليه السلام و قرأت جواب أبي الحسن عليه السلام بخطّه: هل على رجل لعب بغلام بين فخذيه حدّ؟

فإنّ بعض العصابة روى أنه لا بأس بلعب الرجل بالغلام بين فخذيه فكتب: لعنة الله على من فعل ذلك.

و كتب أيضا هذا الرجل و لم أر الجواب: ما حدّ رجلين نكح أحدهما الآخر طوعا بين فخذيه ما توبته؟ فكتب: القتل. «1».

و هذا الخبر مستند الصدوقين كما أن بعض الروايات دالّة على الجلد مطلقا و ذلك كرواية سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب بالسيف أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك «2».

و هذه صريحة في اعتبار الجلد في قبال الثقب الذي يوجب القتل و قد اختار هذا القول جمع من أكابر الأصحاب و في المسالك إنّه المشهور، و صريح الانتصار و الغنية الإجماع عليه.

و في الرياض مضافا إلى أصالة البراءة و الشك في وجوب الزائد فيدرء للشبهة.

و في الجواهر للأصل و الاحتياط و خبر سليمان بن هلال.

و أمّا التفصيل فقد ذهب إليه جماعة جمعا بين الروايات الدالّة على أن حدّه حدّ الزاني و بين ما دلّ على قتله، يحمل الأوّل على غير الموقب و

الثاني على الموقب.

و فيه أن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام و على ذلك فالأوّل و هو وجوب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 24

الجلد مطلقا أشبه بأصول المذهب و قواعده كما في الجواهر.

و أضعف من ذلك قول الصدوق و الإسكافي من وجوب القتل، فقد جعل القائل جميع ما دلّ على القتل، فيما دون الثقب، و أمّا الإيقاب و الإدخال فهو الكفر.

لكن الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للحرمة.

و يمكن أن يقال بأنّه إذا لم يكن ترجيح أخبار القتل على الجلد منّجزا فهناك يتمسك بقاعدة الدرء فإنّه يعلم إجمالا بوجوب القتل أو الجلد فلا يمكن القول بتساقط كلتا الطائفتين من الروايات فلا شي ء، فإنه خلاف الإجماع و هو مخالفة يقينية كما و أنه لا يمكن الاحتياط بالجمع بينهما فيؤخذ بأقلّ العقوبتين.

تساوي الأفراد في ذلك

قال المحقّق: و يستوي في ذلك الحرّ و العبد و المسلم و الكافر و المحصن و غيره.

أقول: لا فرق في الحكم هنا بين الحرّ و العبد كما قال في المسالك: لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلّفا و الأخبار به متضافرة (ثم قال:) و العبد هنا كالحرّ بالإجماع و إن كان الحدّ بغير القتل و ليس في الباب مستند ظاهر غيره.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

أقول: لو كان في المقام ما يدلّ بنحو كلّي على أن حكم اللواط هو القتل فهذا العموم يكفينا في إثبات تساوي العبد مع الحرّ في الحكم و لا حاجة معه إلى دليل خاص في مورد العبد إلّا

أن الكلام في وجود مثل هذا العام.

و يمكن أن يكون منه قول أمير المؤمنين عليه السلام في رواية مالك بن عطيّة:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام إلخ (ب 3 من حد اللواط ح 1).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 25

تقريبه إن يكون المراد من مثلك، مثلك في هذه المعصية و على هذا فلا فرق بين الحرّ و العبد كما أنه لا فرق عليه بين الكافر و المسلم و لا بين المحصن و غيره.

نعم لو كان المراد منه مثلك في جميع الخصوصيّات حتّى الحريّة فهناك لا يشمل العبد.

لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر.

و على هذا فلا ينحصر المستند بالإجماع بل الدليل اللفظي أعني العموم أيضا يدلّ على ذلك و إنّما ينحصر فيه إذا لم يكن دليل لفظي يدلّ عليه كما أنه لو لم يكن إجماع أيضا و شك في المقام فإنّ الحدّ يدرء بالشبهة.

ثم إنّ من جملة العمومات التي يكتفى بها في المقام ما ورد في رواية سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثمّ ضرب بالسيف «1».

فإنّ قوله: و إن ثقب أقيم إلخ يشمل الحرّ و العبد خلافا لباب الزنا الذي كان حدّ العبد هناك على النصف.

و لا ينافي ذلك ما ورد في الروايات من أن حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني ب 1 ح 3 و ح 7 و ذلك لأن المراد طبعا أن حدّ غير الموقب هو حدّ الزنا و أمّا الموقب فلا، بل حكمه القتل مطلقا حرّا كان أو عبدا.

إيقاب البالغ بالصبيّ أو العاقل بالمجنون

قال المحقّق: و لو لاط البالغ بالصبيّ موقبا قتل البالغ و أدّب

الصبي و كذا لو لاط بمجنون.

أقول: و يدلّ على الحكم بالنسبة إلى الصبي خبر أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها، قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 26

لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه السلام فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إياه من نفسك بثقبك «1».

فهذا صريح في قتل الزوج اللائط و ضرب الغلام دون الحدّ.

و لا يخفى أن ضرب الصبي و تأديبه يجري فيما إذا كان له نوع شعور و ينفعه التأديب و إلا فهو لغو لا يترتّب عليه أثر و على الجملة فحيث إنه ليس بمكلف فلذا يضرب دون الحدّ كما أنه يستفاد من قوله عليه السلام: لو كنت مدركا لقتلتك إلخ. أن شرط القتل هو الإدراك أعني البلوغ بل يستفاد منه حكم المجنون و المكره أيضا فتعدّى الحكم من الصبيّ إلى المجنون من باب عموم التعليل و إلّا فلا ذكر عن المجنون إلّا أنّهما يشتركان في عدم التكليف غاية الأمر من جهة الصبا في الطفل و من جهة عدم الإدراك في المجنون. و المستفاد من قوله فضرب بالسيف حتى قتل، أنه لو لم يقتل بالضربة الأولى يضرب هكذا حتّى يقتل.

حكم ما إذا لاط المولى بعبده

قال المحقّق: و لو لاط بعبده حدّا قتلا أو جلدا.

أقول: أي القتل إذا كان قد أوقب و الجلد إذا لم يوقب.

و لعلّ وجه تعرّضه لذلك هو أن بعض العامّة نفي الحدّ هنا لشبهة عموم تحليل ملك اليمين

و هو باطل فإنّه لا يحلّ العبد لمولاه و أمّا قوله تعالى أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ «2» فإنما هو يختص بالأمة لمولاها و الإجماع من الأصحاب قائم على ذلك و القول بجواز وطي العبد لأنه ملك اليمين من المستقبحات و المستكرهات عند

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) المؤمنون- 6 و المعارج- 30.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 27

الإماميّة.

سقوط الحدّ عن العبد إذا ادّعى الإكراه

قال: و لو ادّعى العبد الإكراه سقط عنه دون المولى.

أقول: إذا ادّعى العبد أنه قد أكرهه المولى على ذلك فإنّ دعواه مسموعة و النتيجة سقوط الحدّ عنه و أمّا المولى فإنّه يقتل. و يمكن أن يكون الوجه في سماع دعواه هو أنه ذو اليد فيقبل ما يدّعيه بالنسبة إلى نفسه.

و فيه إنّ ذلك غير تامّ و ذلك لأن كلّ واحد منهما ذو اليد فلو ادّعى المولى إكراه العبد له فلا بد من أن يقبل قوله.

فالصحيح هو ما تمسّكوا به من قيام القرينة على صدق ما يدّعيه و كأنّها موجبة للظنّ النوعي فإنّ العبد بالنسبة إلى مولاه مقهور و مطيع، و المولى بالنسبة إلى العبد مسلّط و مطاع و العبد تابع و المولى متبوع و لا عكس، فبحسب الظاهر و العادة يمكن أن يكون المولى قد أكرهه على ذلك، و قوله مقبول عند العرف و مسموع عند العقلاء و لا أقلّ من أنه يوجب الشبهة، و الحدود تدرء بالشبهات بخلاف ما لو ادّعى المولى إكراه العبد له على ذلك فإنّ العرف لا يصدّقه على ذلك فلا شبهة، فلا درء هناك.

نعم لو ادّعى المولى إكراه الغير له على ذلك و أمكن ذلك في حقّه فإنّه يحصل الشبهة فيدرء عنه

الحدّ بذلك.

يحدّ العاقل إذا لاط به مجنون

قال المحقّق: و لو لاط مجنون بعاقل حدّ العاقل و في ثبوته على المجنون قولان أشبههما السقوط.

أقول: أمّا ثبوت الحدّ على العاقل فلعموم دليل الحدّ و لا إشكال فيه و لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 28

خلاف فقد لاط البالغ العاقل المختار.

و إنّما الكلام في المجنون الذي كان لاطيا ففيه قولان:

أحدهما ثبوت الحدّ عليه و قد حكي ذلك عن الشيخين المفيد و الطوسي و أتباعهما مستندين في ذلك إلى وجوب الحدّ على المجنون مع الزناء.

ثانيهما سقوط الحدّ عنه و هو قول الباقين، و هو الحق فإنّ المجنون لو كان بحيث لا يتعقّل شيئا فمعلوم أنه لا حدّ عليه لعدم ترتّب أثر عليه و الظاهر أن العلمين و أتباعهما أيضا لا يقولون بذلك.

و لو كان بحيث و يؤثّر إجراء الحدّ عليه في الجملة فهو و إن كان كذلك إلّا أن الاعتبار العقلي لا يجوز تكليف المجنون لعدم قابليّته لذلك فلا حدّ عليه لا في باب اللواط و لا في باب الزنا.

لا يقال إن المجنون كالصبيّ فكما أنه يعزّر الصبي مع عدم تكليفه كذلك يحدّ المجنون.

و ذلك لأن الصبي قد أسقط اللّه عنه التكليف لطفا و إلا فهو ليس ممّن لا يتحمّله أصلا بل هو لائق لذلك و هذا بخلاف المجنون الذي ليس قابلًا للتكليف و لا يؤثر فيه الحدّ و إلا لكان مكلفا و على الجملة فتسليم إجراء الحدّ عليه مشكل في الغاية و لا أدري كيف تفوّها بذلك.

و القول باستثناء باب الزنا مثلا غير صحيح كاحتمال استثناء حدّه و إن لم يكن مكلّفا، و لا يمكن الالتزام بهذه الأمور في المجنون نعم يصحّ القول بإجراء الحدّ على قليل العقل لكنه

غير المجنون و لذا قال المحقّق قدّس سرّه بأنّ الأشبه هو السقوط أي أن الأشبه بقاعدة عدم تكليف المجنون و كذا الشك في التكليف، و درء الحدود هو السقوط.

فرع في المقام

و هنا فرع آخر لم يتعرّض له المحقّق و هو أنه لو لاط الصبي ببالغ فإنّه يقتل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 29

البالغ خاصّة و يؤدّب الصبيّ و ذلك لعموم الأدلّة و إطلاقاتها الدالّة على أن الإيقاب موجب للقتل فإنّها شاملة لهذا البالغ الذي تمكّن للصبيّ بعد أنه لا عموم في البين يدلّ على اعتبار البلوغ في الطرفين.

و أمّا ما ورد في رواية أبي بصير في امرأة محصنة زنى بها غلام صغير من أنها لا ترجم لأن الذي نكحها ليس بمدرك. «1» فلا يدلّ على سقوط القتل في المقام و ذلك لخروج الفرض المزبور عن العمومات بالنص و يبقى غيره تحت العمومات.

نعم لو استفيد من النصّ سقوط الرجم مطلقا إذا كان الواطي غير مكلّف فهناك لم يكن على الموطوء رجم و عليه فيمكن تعميم الحكم و انسحابه من الموطوءة إلى الموطوء و لعلّه يستفاد ذلك من عموم التعليل الدّالّ على توقف الرجم على إدراك الناكح لكن الظاهر أن المستفاد من النصوص عكس ذلك.

قتل الذمي إذا لاط بمسلم مطلقا

قال المحقّق: و لو لاط الذمّي بمسلم قتل و إن لم يوقب.

أقول: إذا لاط الذمي بمسلم بالإيقاب فهناك يقتل بلا كلام كما أن المسلم الموقب بمسلم كان يقتل و ليس هو بأخفّ من هذا.

و أمّا إذا لاط الذمي بمسلم بلا إيقاب فالحكم بالقتل هنا ليس كالفرض الأول في الوضوح و ذلك لأن المسلم اللائط غير الموقب ليس حكمه هو القتل حتى يقال بأنّ حال الذمي ليس أخفّ و أدون من المسلم فيقتل هو أيضا فلا بدّ من دليل يعتمد عليه.

و يمكن أن يتمسّك في ذلك بوجوه:

منها أنه قد هتك حرمة الإسلام.

و فيه أنه و إن كان ذلك غير قابل

للإنكار إلّا أن الكلام في كون حدّه هو القتل

______________________________

(1) وسائل الشيعة- ج 18- ب 9 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 30

و أنه يقتل الهاتك كما يقتل الموقب.

و منها أنه خرج بذلك عن الذمّة.

و فيه أنه خرج بذلك عن كونه ذميّا و يدخل تحت عنوان الحربيّ و يجوز قتله بذلك حيث إنه لم يعمل بشرائط الذمة و لكن كون حدّه هو القتل و وجوب قتله من أين؟

و منها الإجماع كما ادّعاه في الجواهر بقوله: بلا خلاف أجده فيه انتهى فعلى فرض تحقّق الإجماع فلا كلام عليه [1].

لواط الذمي بالذمي

قال المحقّق: و لو لاط بمثله كان الإمام مخيّرا بين إقامة الحدّ عليه و بين دفعه إلى أهله ليقيموا عليه حدّهم.

أقول: إنّ ما ذكر في الفرض الأوّل من الخروج عن الذمّة أو الهتك لا يجري هنا فيبقى أنه إذا رفع الأمر إلى الإمام فهو بولايته مخيّر بين إجراء حكم الإسلام عليه أو إرجاع الأمر إلى حكّامهم حتّى يحكموا عليه بمقتضى دينهم.

أما إجراء حكم الإسلام فللأولويّة أو تنقيح المناط حيث لا نصّ بالخصوص في المقام.

و أمّا إرجاعه إلى حكامهم فلأنّ من فعل و أتى بالقبيح غير مسلم فيمكن إرجاعه إلى أهل ملّته كي يحكم عليه حسب مذهبه و ملّته كما أن الأمر في الزنا «1» أيضا كذلك و إلا فلا نصّ عليه.

هذا كلّه إذا كان قد أتي به إلى الإمام و رفع أمره إليه و أمّا بدون ذلك فلا يجوز

______________________________

[1] يقول المقرّر: و قد استدلّ في المسالك بقوله: كما لو زنى على وجه يوجب الجلد على المسلم لما روي من أن حدّ اللواط مثل حدّ الزنا و لمناسبة عقوبة الزنا.

انتهى.

______________________________

(1) راجع الدّر المنضود في أحكام الحدود. ج 1 ص 349.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 31

له إجراء حكم الإسلام أي القتل مثلا في حقّه لأنه يخالف الأمن.

في قتل الموقب و جلد غير الموقب

قال المحقّق: و كيفيّة إقامة هذا الحدّ القتل إن كان إيقابا و في رواية إن كان محصنا رجم و إن كان غير محصن جلد و الأوّل أشهر.

أقول: إنّ الروايات في باب الموقب على قسمين:

أحدهما ما يدل على قتله بواحد من أنحاء القتل المذكورة فيها. منها رواية مالك بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل أقرّ عنده باللواط أربعا: يا هذا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال:

ضربة بالسيف في عنقك بالغة منك ما بلغت أو إهداب من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار «1».

الى غير ذلك من الروايات الدالة على القتل.

ثانيهما ما يدلّ على التفصيل بين المحصن و غير المحصن و إليك قسم منها:

عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني و قال: ان كان قد أحصن رجم و إلا جلد «2».

و عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل اتى رجلا؟ قال: عليه ان كان محصنا القتل و إن لم يكن محصنا فعليه الجلد. «3».

و في رواية قرب الاسناد. عن علي عليه السلام أنّه كان يقول في اللوطي:

ان كان محصنا رجم و إن لم يكن محصنا جلد الحدّ «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18

ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 32

و عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه إنّ عليّ بن ابي طالب عليه السلام كان يقول: حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني إن كان محصنا رجم و إن كان عزبا جلد مأة و يجلد الحدّ من يرمي به بريئا «1».

و عن ابي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: إنّ في كتاب عليّ عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجرّدين ضرب الرجل و أدّب الغلام و ان كان ثقب و كان محصنا رجم «2».

ثم إنه لا إشكال في أن مقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل المطلق على المقيّد و لازم ذلك هو الحكم بقتل اللاطي الموقب المحصن و جلد غير المحصن.

إلّا أن الروايات المفصّلة معرض عنها و لم يعمل بها الأصحاب كما أن الشرائع قال: و الأوّل أشهر انتهى و قال في الجواهر بعد ذلك: رواية في العمل بل قد عرفت عدم الخلاف فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه إلخ.

و على الجملة فحيث أن هذه الروايات لم يعمل بها الأصحاب [1] و العامل بها إن كان فهو شاذّ فلذا لا تقاوم و لا تعارض القسم الأوّل منها فالحكم في اللاطي الموقب مطلقا هو القتل.

قتل الموقب بكيفيّات مختلفة

قال المحقّق: ثم الإمام مخيّرا في قتله بين ضربه بالسيف أو تحريقه أو رجمه أو إلقائه من شاهق أو إلقاء جدار عليه.

أقول: الوجه في ذلك الروايات ففي رواية مالك بن عطيّة المذكورة أنفا

______________________________

[1]

هذا مضافا الى ما أفاده في المسالك بقوله: و هذه الأخبار مع كثرتها مشتركة في ضعف السند ففي طريق. إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ اللواط ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 33

التخيير بين ثلاثة: الضرب بالسيف أو إهداب من جبل. أو الإحراق بالنار «1».

و أما الرجم ففي رواية السكوني عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كان ينبغي لأجد أن يرجم مرّتين لرجم اللوطي «2».

و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: إن في كتاب علىّ عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجرّدين ضرب الرجل و أدّب الغلام و إن كان ثقب و كان محصنا رجم «3».

و عن ابن ابي عمير عن عدّة من أصحابنا عن أبى عبد اللّه عليه السلام في الذي يوقب إنّ عليه الرجم إن كان محصنا و عليه الجلد إن لم يكن محصنا «4».

إلى غير ذلك من الروايات.

نعم التقيّد بالإحصان في قسم من هذه الروايات غير معمول به.

و أمّا إلقاء الجدار عليه فيدلّ على ذلك ما عن فقه الرضا عليه السلام: و في اللواطة الكبرى ضربة بالسيف أو هدمة أو طرح الجدار و هي الإيقاب و في الصغرى مأة جلدة «5».

و الرواية و إن كانت ضعيفة إلّا أن الشهرة جابرة لها و قد صرّح في الجواهر بأن التخيير بين الخمسة هو المشهور.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج

18 ب 3 من حدّ اللواط ح 7.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 8.

(5) مستدرك الوسائل ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 34

الجمع بين التحريق و واحد من البواقي

قال المحقّق: و يجوز أن يجمع بين أحد هذه و بين تحريقه.

أقول: قد مر ما كان يدلّ على جواز الإحراق أوّلا و أمّا ما يدلّ على ذلك بعد أن أجرى عليه واحد من الأمور فروايتان:

إحديهما رواية العزرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر برجل قد نكح في دبره فهمّ أن يجلده فقال للشهود: رأيتموه يدخله كما يدخل الميل في المكحلة؟ قالوا: نعم فقال لعلي عليه السلام: ما ترى في هذا؟

فطلب الفحل الذي نكح فلم يجده فقال علي عليه السلام: ارى فيه أن تضرب عنقه قال: فأمر فضربت عنقه ثم قال: خذوه فقد بقيت له عقوبة أخرى قال:

و ما هي؟ قال: ادع بطنّ من حطب فدعا بطنّ من حطب فلفّ فيه ثم أحرقه بالنار «1».

و الأخرى رواية العزرمي أيضا قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: وجد رجل مع رجل في أمارة عمر فهرب أحدهما و أخذ الآخر فجي ء به الى عمر فقال للناس:

ما ترون في هذا؟ فقال هذا: اصنع كذا، و قال هذا: اصنع كذا قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ قال: اضرب عنقه، فضرب عنقه، قال: ثمّ أراد أن يحمله فقال: مه إنّه قد بقي من حدوده شي ء قال: أي شي ء بقي؟ قال: ادع بحطب فدعا عمر بحطب فأمر به أمير المؤمنين عليه السلام فأحرق به «2».

ثمّ إنّه قد يقال بأنّه قد ذكر في الروايات: الإحراق، فما هو كيفيّته و

هل يجب أن يحرق الى أن لا يبقى شي ء أو غير ذلك؟.

فنقول: الظاهر أن الإحراق إذا كان في بدء الأمر و بعنوان واحد من الأمور التي يفعل بالحيّ فهو صادق بمجرّد موته بذلك و أمّا لو كان ذلك بعنوان العمل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حدّ اللواط ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب اللواط ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 35

المركّب أي الذي يفعل به بعد أن قتل فإنّه لا يصدق إلّا إذا صار كالفحم و الرماد.

حدّ اللّواط غير الايقابي

هذا كلّه في الإيقاب و أمّا إذا لم يوقب و إنما فعل ذلك بين الأليتين أو بين الفخذين.

فقال المحقّق: و إن لم يكن إيقابا كالتفخيذ أو بين الأليتين فحدّه مأة جلدة

و قال في النهاية: يرجم إن كان محصنا و يجلد إن لم يكن و الأوّل أشبه.

أقول: في المسألة أقوال:

أحدها: أن حدّه هو الجلد مأة بالنسبة إلى كل واحد منهما و اختار هذا القول جمع من أكابر الأصحاب بل في المسالك بعد أن ذكر أنه المشهور: ذهب إلى ذلك: المفيد و المرتضى و ابن أبي عقيل و سلّار و أبو الصلاح و ابن إدريس و المصنّف و سائر المتأخرين انتهى.

و في الرياض: على الأصحّ الأشهر بل عليه عامّة من تأخّر و في صريح الانتصار و ظاهر الغنية الإجماع عليه و هو الحجّة.

و قد استدلّ على ذلك بوجوه:

1- أصالة البراءة عن القتل.

2- الشك في وجوب الزائد فيكون شبهة يدرء بها.

3- الاحتياط فإنه بعد أن الشبهة مربوطة بالدماء فلا مورد لإجراء البراءة كما أن من المسلّم أنه يجري البراءة في الشبهات الموضوعية إذا لم تكن من قبيل الأعراض و النفوس و

غيرها ممّا يماثلها فإنّه لا بد من الاحتياط فيها.

4- الإجماع كما مر في كلام صاحب الرياض.

5- خبر سليمان بن هلال عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد و إن كان ثقب أقيم قائماً ثم ضرب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 36

بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له هو القتل؟ قال: هو ذاك «1».

ثانيها: انه يرجم مع الإحصان و يجلد بدونه و قد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي قدّس سرّه في النهاية «2» و التهذيب «3» و الإستبصار «4» و الخلاف «5» و المبسوط «6» و القاضي ابن البرّاج «7» و كذا جماعة من الفقهاء «8».

و ذلك للجميع بين الروايات الدّالّة على القتل في اللعب و التفخيذ و الدّالّة على الجلد بحمل الاولى على المحصن و الثانية على غيره [1].

لكن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام فإنّ الرواية المفصّلة معرض عنها فلذا ذكر المحقّق أن القول الأوّل أشبه، انتهى، أي بأصول المذهب و قواعده.

ثالثها: ما عن الإسكافي و الصّدوقين من وجوب القتل فيهما أي سواء كان محصنا أو غير محصن و ذلك لأنهم فرضوا اللواط في غير الإيقاب. و أمّا الإيقاب فهو الكفر باللّه و الرواية تدلّ على القتل في اللواط.

و السرّ في فرضهم ذلك الروايات.

فعن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللواط ما دون الدبر، و الدبر هو الكفر «9».

و عن حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن اللواط فقال: ما بين الفخذين و سألته عن الذي يوقب فقال: ذاك الكفر بما (لما) أنزل

______________________________

[1] قال في الرياض: بحمل

ما دلّ منها على القتل مطلقا على الموقب و ما دلّ منها على التفصيل بين المحصن و غيره على غيره إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حدّ اللواط ح 2.

(2) النهاية انتشارات قدس ص 704.

(3) التهذيب ج 10 ص 55.

(4) الإستبصار ج 4 ص 221.

(5) الخلاف ج 3 كتاب الحدود حدّ اللواط مسألة 22.

(6) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 7.

(7) المهذّب ج 2 ص 530.

(8) كابن حمزة في الوسيلة ص 413.

(9) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من النكاح المحرم ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 37

اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

لكنّ الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للذنب و مبالغة للحرمة «2».

لا فرق بين الأشخاص في هذا الحدّ أيضا

قال المحقّق: و يستوي فيه الحرّ و العبد و المسلم و الكافر و المحصن و غيره.

أقول: و ذلك لإطلاق أدلّة الباب فلا ينصّف الحدّ هنا في العبد بالإجماع و عموم الروايات هنا و عدم ما يدل على التفصيل و لا ينافي ذلك ما ورد من أن حدّ اللواط حد الزنا «3» و ذلك لتخصيص العبد الموقب و بتعبير آخر أن هذا الخبر ناظر الى قوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ «4» الّا أنه قد استثنى العبد في حكم المائة في باب الزنا بالخصوص دون باب اللواط ففي باب الزنا كان حدّ العبد نصف حدّ الحرّ للدليل.

و هكذا يتساوى المسلم و الكافر إذا كان اللائط و الملوط مسلمين أو كافرين لا ما إذا كان الفاعل كافرا و المفعول مسلما فإنّه يقتل الفاعل.

و قد يوجّه القتل هنا بأنه قد هتك حرمة الإسلام و لإهانته به.

كذا علّل في الرياض.

و فيه انّه لو

كان الملاك الهتك لجرى ذلك في كل المعاصي فالعمدة هو الإجماع و هكذا الأولوية أو تنقيح المناط بالنسبة إلى الزنا لأنه كما تقدّم في باب الزنا يقتل الزاني الذمي بالمسلمة فإنّ اللواط إمّا أكبر و أعظم من الزنا- كما هو الظاهر من رواية يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال سمعته يقول:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

(2) و يمكن أن تحمل على المستحلّ مع أن حذيفة بن منصور ضعيف. كذا في المسالك.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ اللواط ح 3.

(4) سورة النور الآية 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 38

حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج و أن اللّه أهلك أمّة لحرمة الدبر و لم يهلك أحدا لحرمة الفرج «1»- أو أنه يساويه فلا محالة يقتل الكافر اللائط بالمسلم إمّا للأولويّة أو بتنقيح المناط القطعي.

و كذا لا فرق في المقام بين المحصن و غيره و ذلك لشمول إطلاق الرواية فيه أيضا.

قتل اللائط غير الموقب في الثالثة أو الرابعة

قال المحقّق: و لو تكرر منه الفعل و تخلّله الحدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أشبه.

أقول: أمّا القتل في الثالثة بعد تكرار مرّتين فهو مقتضى بعض الروايات الدّالّة على قتل مرتكب الكبائر في الثالثة مثل ما رواه يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «2».

و أمّا القول بقتله في الرابعة فقد استدلّ عليه بالاحتياط في الدماء و بالإجماع على عدم الفرق بينه و بين باب الزنا في ذلك. و بالإجماع المدّعى على قتله في الرابعة و برواية أبي بصير قال: قال

أبو عبد اللّه عليه السلام: الزاني إذا زنى يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة يعني جلد ثلاث مرات «3» و قد مرّ البحث في ذلك في باب الزنا فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 71 من أبواب النكاح المحرّم ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حدّ الزنا ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 39

تعزير المجتمعين تحت إزار واحد

قال المحقّق: و المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين و ليس بينهما رحم يعزّران من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا.

أقول: لا خصوصيّة لكونهما تحت إزار بل الحكم في اللحاف و الثوب و الستر أيضا كذلك و لذا زاد صاحب الجواهر لفظة (مثلا) بعد قول المحقّق: تحت إزار واحد.

و المراد من التجرّد هو التجرّد عن السروال لا مطلقا فإذا ثبت اجتماعهما كذلك يجب إقامة الحدّ الواجب المقرّر في الشرع. و ههنا أبحاث:

الأوّل في أن الواجب هنا هو الحدّ أو التعزير و على الثاني ما هو المقدار المعتبر شرعا من الجلد؟.

الثاني في القيود المعتبرة في المقام كالتجرّد و الضرورة و الرحم أو المحرميّة.

أمّا الأول فنقول: اختلفت الأخبار و الأقوال في ذلك فمقتضى بعض الأخبار أن الثابت في حقّهما هو الحدّ التامّ أي المائة، و مقتضى بعضها الآخر أنه التعزير إمّا بثلاثين كما هو مفاد بعضها و إمّا بتسعة و تسعين سوطا كما أنه مفاد قسم آخر منها.

و ذهب جمع كالصدوق و ابن الجنيد إلى إقامة الحدّ عليهما كما صرّح بذلك في المختلف.

و جمع الى تعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين و ذلك كالشيخ و ابن البرّاج و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين

و جزم بذلك المحقّق في الشرائع و النافع.

و قال بعض بأنه يعرّزان من عشرة إلى تسعة و تسعين، و قد نسبه العلامة في المختلف إلى الشيخ المفيد.

و اللّازم هنا المراجعة إلى الروايات و النظر فيها:

و قد عقد في الوسائل بابا عنوانه: باب ثبوت التعزير بحسب ما يراه الإمام على الرجلين و المرأتين و الرجل و المرأة إذا وجدا في لحاف واحد أو ثوب واحد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 40

مجرّدين من غير ضرورة و لا قرابة و يقتلان في الرابعة.

عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحدّ. [1].

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه عبّاد البصري و معه أناس من أصحابه فقال له: حدّثني عن الرجلين إذا أخذا في لحاف واحد فقال له: كان علي عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ فقال له عباد: إنّك قلت لي: غير سوط. فأعاد عليه ذكر الحديث (الحدّ) حتّى أعاد ذلك مرارا فقال: غير سوط. فكتب القوم الحضور عند ذلك الحديث «1».

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: حدّ الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد و الرجلان يوجدان في لحاف واحد. «2».

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كان علي عليه السلام إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ. «3».

و عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا وجد رجلين في لحاف واحد

مجرّدين جلدهما حدّ الزاني مأة جلدة كلّ واحد منهما. «4».

و عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (حدّ الجلد في الزنا أن

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 1، و قال سيّدنا الأستاذ دام ظلّه ان النائب للفاعل في (يوجدا) و إن لم يذكر لكنّ المراد الرجل و المرأة الأجنبيّان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 6.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 15.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 41

يوجدا في لحاف واحد) و الرجلان يوجدان في لحاف واحد «1».

فهذه الروايات تدلّ على لزوم الحدّ التامّ في المقام.

و في قبالها أخبار تدلّ على التعزير بما دون الحدّ:

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجلين يوجدان في لحاف واحد، قال: يجلدان غير سوط واحد «2».

و عن سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام فقال: جعلت فداك، الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟

فقال: لا. قال: من ضرورة؟ قال: لا، قال: يضربان ثلاثين سوطا. «3».

و عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: المرأتان تنامان في ثوب واحد؟ فقال: تضربان فقلت: حدّا؟ قال: لا. قلت: الرجلان ينامان في ثوب واحد؟ قال: يضربان. قلت: الحد؟ قال: لا. «4».

و مقتضى الرواية الأخيرة هو نفى الحدّ فقط بخلاف رواية ابن سنان فإنّ مقتضاها جلدهما غير سوط واحد و

رواية سليمان فإنّهما تصرّح بضربهما ثلاثين سوطا.

و قد جمع بعض العلماء بين الروايات الدالّة على الحدّ و ما تدلّ على التعزير بحمل الاولى على التقيّة.

و ربما يستظهر ذلك من خبر عبّاد البصري حيث أن الإمام عليه السلام حكم أوّلا بضرب الحدّ ناسبا له إلى علي عليه السلام و لمّا قال له عبّاد: إنّك قلت: لي غير سوط أعاد عليه ما حكاه أوّلا عن علي عليه السلام من إجراء الحدّ و تكرر ذلك مرارا حتّى قال عليه السلام: غير سوط، فقد حكم أوّلا بمقتضى التقيّة ثم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 23.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 18.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 21.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 42

ذكر أخيرا الحكم الواقعي.

و فيه أن الحمل على التقيّة موقوف على كون فتوى العامّة على لزوم الحدّ و الحال أن الأمر على خلاف ذلك كما يشهد بذلك كلام الشيخ في الخلاف في رجل وجد مع امرأة في فراش واحد- المتّحد حكمه للمقام- حيث قال هناك بعد الحكم بأن عليهما مأة جلدة: و قال جميع الفقهاء: عليه التعزير «1» إلخ.

فقد نسب وجوب التعزير الى جميع الفقهاء و الظاهر من تعبيره هذا هو فقهاء العامّة. إلى غير ذلك ممّا لا يساعد الحمل على التقيّة فراجع ما تقدّم في باب الزنا.

و قد يجمع بينهما بحمل الحدّ في الطائفة الأولى من الروايات على المقدار المقرّر عليهما في باب التعزير فلا تنافي بينها و بين الروايات الدالّة على تعزيرهما.

و

فيه إنّ (الحدّ) ظاهر جدّا في الحدّ التأم و هو جلدهما مأة و لا يصحّ رفع اليد عن هذا الظهور البالغ بلا دليل [1].

و نظير هذا الحمل في البعد ما أفاده شيخ الطائفة قدّس سرّه في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه- قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد. جلد كلّ واحد منهما مأة جلدة «2» من أن الوجه فيه أن نحمله على من أدّبه الإمام و زبره دفعة و دفعتين فعاد إلى مثل ذلك. «3».

و كذا ما ذكره المحدث الحرّ العاملي في رواية الحذّاء- قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إذا وجد الرجل و المرأة في لحاف واحد جلدا مأة جلدة «4»- بقوله: هذا يحتمل الحمل على أنه يجلد كلّ واحد منهما خمسين جلدة لوجود

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا إلى عدم جريان هذا الكلام في مثل رواية ابن سنان و رواية أبي عبيدة و ذلك لمكان التصريح بحدّ الزنا و حدّ الزاني فيهما.

______________________________

(1) الخلاف ج 3 كتاب الحدود مسألة 9.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 9.

(3) تهذيب الأحكام ج 10 ص 44 بتفاوت يسير.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 43

التصريحات الكثيرة السابقة و الآتية بأنّه يجلد دون الحدّ.

و كيف كان فما ذكروه في المقام من وجوه الجمع غير تامّ كما أن الجمع بالتخيير بينهما أيضا لا يخلو عن كلام و لم أجد من قال بالتخيير بين الحدّ و التعزير.

و الذي يبدو في النظر أن الروايات هنا من باب العامّ و الخاصّ فيخصّص بعضها

ببعض، و ما دلّ على الحدّ التامّ المصرّح بالمأة بما دلّ على نقصان واحد فيكون نظير قول القائل: أعتق عشر رقبات الّا واحدا في تخصيص العشرة بالواحد، و استثناء الواحد عنها مذكور في كلماتهم.

و لعلّ هذا الوجه أحسن الوجوه و إن لم أعثر على من تعرّض له و ذكره.

و لا يخفى أنه لا يلزم من ذلك، القول بضربهما بخصوص تسعة و تسعين، و ذلك لأنه إذا نقص واحد فمعناه أنه تعزير لا حدّ و يكون هذا العدد هو الحدّ الأعلى منه و أمّا أقلّه فهو الثلاثون و ذلك لرواية سليمان بن هلال.

و بذلك أفتى الشيخ قدّس سرّه قائلًا: و متى وجد رجلان في إزار واحد مجرّدين أو رجل و غلام و قامت عليهما بذلك بيّنة أو أقرّا بفعله ضرب كلّ واحد منهما تعزيزا من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا يحسب ما يراه الإمام فإن عادا إلى ذلك ضربا مثل ذلك فإن عادا أقيم عليهما الحدّ على الكمال مأة جلدة «1».

و أمّا ما ذكره المفيد قدّس سرّه من تعزيرهما عشرا إلى تسعة و تسعين فلعلّ ذكر العشر من باب كلّي التعزير و إلّا فلم يرد به رواية بالخصوص على ما نعلم.

قال: فإن شهد الأربعة على رؤيتهما في إزار واحد مجرّدين من الثياب و لم يشهدوا برؤية الفعال كان على الاثنين الجلد دون الحدّ تعزيرا و تأديبا من عشرة أسواط إلى تسعة و تسعين سوطا بحسب ما يراه الحاكم من عقابهما في الحال و بحسب التهمة لهما و الظنّ بهما السيئات «2».

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرناه من حمل رواية ابن سنان على أكثر مقدار التعزير

______________________________

(1) النهاية ص 705.

(2) المقنعة ص 785.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 2، ص: 44

و رواية سليمان على أقلّه أن الحكم في الغايتين و ما بينهما منوط بنظر الإمام.

نعم يبقى الكلام في إنّ مستند الحكم في الطرفين ضعيف. لكن قال في الجواهر:

و ما فيهما من الضعف منجبر بما عرفت.

و مراده من (ما عرفت) هو ما ذكره في صدر المسألة من حكاية الحكم بالجلد من ثلاثين إلى تسعة و تسعين عن الشيخ و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين.

و ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان الشهرة بين المتأخّرين كافية في جبر ضعف الرواية.

ثم إن تمّ التمسك بهما للانجبار فنقول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين.

و أمّا لو استشكل في ذلك أو أنه قيل بتعارض الروايات و تساقطها و لم يمكن استفادة الحكم منها و وصلت النوبة إلى التمسك بالأصل فهناك نقول: إنّ التسعة و التسعين معلوم الجواز و الزائد مشكوك فيه فالأصل البراءة من الزائد بل الأصل عدم الجواز هذا من ناحية الأكثر و أمّا من ناحية الأقلّ فحيث أن الجلد من باب التعزير فلا بدّ- من أن يكون أمره موكولا إلى نظر الحاكم إلّا أن مقتضى تصريح بعض الروايات بثلاثين هو عدم الإكتفاء بأقلّ منها فلو جلدا ثلاثين فقد عمل بالتكليف بخلاف الأقلّ فإنّه لا يقطع بذلك لأنه من قبيل الشك في الامتثال مع العلم بالتكليف المقتضي للخروج عنه يقينا.

و بعبارة أخرى إنه من باب الدوران و الترديد بين التعيين و التخيير لأن الثلاثين واجبة إمّا معيّنا أو بعنوان أحد أفراد التخيير إلى الواحد فلو أخذ بالثلاثين فقد أخذ بما هو الواجب مطلقا بخلاف الأقلّ من ذلك.

و إن شئت فقل: إنّ وجوب الأقلّ في ضمن الثلاثين معلوم و بنفسه غير معلوم فيؤخذ بالمعلوم و يترك

غير المعلوم.

و قد تحصّل أن مقتضى الأصول أيضا يتحد و يتوافق مع ما هو نتيجة الاستظهار من الروايات فإنّ الأخذ بالمتيقّن و التمسك بأصالة عدم الامتثال بأقلّ من ثلاثين في ناحية الأقلّ و أصالة عدم جواز الزائد في ناحية الأكثر يوجب القول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 45

ثمّ إنّه قد تعرّض المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد للطائفتين من الروايات و لوجوه الجمع بينهما و لم يرجّح شيئا بل احتاط و قال: فينبغي العمل بالاحتياط التامّ في الحدود خصوصا القتل لأدرءوا، و بناء الحدّ على التخفيف مهما أمكن.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل الحكم و أمّا بالنسبة إلى القيود فنقول: أمّا التجرّد فقد ذكر ذلك في كلام المحقّق و كذا بعض آخرين. و أمّا الروايات فهي خالية عن ذكره سوى رواية أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام- ففيها:- إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما. «1».

فإنّه ربّما يستفاد منها بحسب المفهوم أنه لم يكن يجلدهما إذا لم يكونا مجرّدين.

و فيه إنّ دلالتها بالمفهوم أوّلا و مفهوم الفعل ثانيا.

و ربّما يقال: إنّ التعبير بالثوب الواحد في مثل رواية معاوية بن عمّار: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:. الرجلان ينامان في ثوب واحد قال:

يضربان. «2» يفيد أن هذا الثوب الواحد هو الإزار فقط الذي كانا تحته فيكون الحكم متعلقا بما إذا كانا مجرّدين.

و فيه إنّ الثوب الواحد المذكور هنا كاللحاف الواحد المذكور في رواية عبد اللّه بن سنان «3» مثلا و كما أنه يمكن أن يكونا مجرّدين تحت اللحاف و الثوب كذلك يمكن أن يكونا لابسين.

و يمكن أن يقال: إن رواية

أبي خديجة: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز. «4» ربما تدلّ بلحاظ وحدة حكم الرجلين و المرأتين- على اعتبار التجرّد بناء على كون المراد من الحاجز هو الثوب و اللباس.

و أمّا لو كان المراد منه ما يحجزهما عن فعل الحرام فلا دلالة لها على ما نحن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 15.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 16.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 46

بصدده.

نعم إنّ المتيقّن الذي يجري عليه الحكم قطعا هو ما إذا كانا مجرّدين بخلاف ما إذا كان عليهما ثياب و لباس فان وجوب تعزيرهما بل جوازه مشكوك فيه و الأصل هو العدم.

اللهمّ إلّا أن يقال بأن مجرّد نومهما جنبا بجنب يكون حراما فيجب التعزير من باب الإتيان بالمعصية.

و هذا موقوف على أن لا يتردد في كون ذلك معصية كبيرة- أو القول بأن ارتكاب كلّ حرام يوجب التعزير و إن لم يكن كبيرة، و الأمر موكول إلى محلّه.

و قد وجّه بعض اعتبار قيد التجرّد بأنّه يوجب التهمة بخلاف ما إذا لم يكونا مجرّدين فإنّهما ليسا في معرض التهمة.

لكن في الرياض: لا وجه لاعتبار الأخير (أي التجرّد) أصلا حيث يحصل التحريم بالاجتماع الذي هو مناط التعزير من دونه و لعلّه لذا خلا أكثر النصوص من اعتباره و بعض النصوص المعترض له غير صريح في التقييد به لكنّه ظاهر فيه مع صحّة سنده إلخ.

و أمّا التقييد بنفي الرحميّة الذي قد يعبّر

عنه بنفي المحرميّة فهو بظاهره لا معنى له في المقام و لا في بعض نظائره كالمرأتين المضطجعتين تحت إزار واحد.

إذا فلا بدّ من أن يكون المراد من الرحم هو القرابة و مع ذلك فلا وجه لاعتباره و لا أثر له.

و لذا قال في المسالك: و ليس فيها- النصوص- التقييد بعدم المحرميّة بينهما و عدم القيد أجود لأن المحرميّة لا يجوّز الاجتماع للمذكّرين و إن لم تؤكّد التحريم.

ثم قال: و المراد بالرحم حيث يطلق مطلق القرابة و هي أعمّ من المحرميّة التي هي عبارة عن تحريم النكاح مؤبدا و هي تؤيّد عدم فائدة هذا القيد لأن القرابة لا دخل لها في تحقّق هذا الحكم انتهى.

و كذا قال صاحب الرياض قدّس سرّه: إنّ التقييد بنفي الرحميّة و الضرورة لم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 47

يوجد في أكثر روايات المسألة.

ثم استدرك و أتى بخبر سليمان بن هلال الذي فيه: الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟ فقال: لا إلخ «1».

قال: و فيه إيماء إليه لكنّه مع قصور السند يشكل في الأوّل بأن مطلق الرحم لا يوجب تجويز ذلك فالأولى ترك التقييد به أو التقييد بكون الفعل محرّما إلى آخر كلامه.

أقول: إنّه يحتمل أن يكون الوجه في هذا التقييد هو أنه مع المحرميّة و في مورد الرحم يحصل الاطمئنان بعدم الفساد بخلاف ما إذا لم يكن بينهما قرابة و محرميّة، فالأب و الابن مثلا المجتمعين تحت إزار واحد لا يظن بهما السوء.

و فيه إنّه لو كان الأمر في الأعصار الماضية كذلك ففي عصرنا ليس كذلك كما يظهر ذلك من بعض الاستفتاءات الواردة علينا في زنا الأب بابنته مثلا و قد ورد علينا السؤال

عن ذلك لا مرّة بل مرارا عديدة.

و على الجملة فالظاهر أنه لا فرق بين الموردين بل لعلّه يكون الأمر في المحرم آكد كما في الزناء بذات المحارم.

ثم لو صحّ هذا الوجه لزم أسراؤه إلى غير الأقرباء و المحارم أيضا.

و أمّا التقييد بعدم الضرورة كما في كلام صاحب الرياض [1] فهو صحيح فإنّه قد يوجب الضرورة و الحاجة الشديدة كالبرد الشديد اضطجاعهما تحت إزار واحد و هذا لا يوجب التعزير و ذلك لجريان مثل لا حرج هنا و إن لم يجر في مثل الزنا.

______________________________

[1] أقول قد ذكر هذا القيد في رواية سليمان بن هلال و قد مرّت آنفا و في رواية جابر بن عبد اللّه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المكاعمة و المكامعة فالمكاعمة أن يلثم الرجل الرجل و المكامعة أن يضاجعه و لا يكون بينهما ثوب من غير ضرورة، الوسائل ج 14 ب 21 من أبواب النكاح المحرّم ح 4.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 48

و الظاهر انصراف الروايات عن صورة الضرورة فالأولى ترك التقييد به نعم يحسن التقييد بكون الفعل محرّما فإن كان اضطجاعهما تحت إزار واحد حراما فهناك يعزّران و الّا فلا.

و أمّا الإحصان و عدمه فلا فرق في الحكم من هذه الجهة و لذا لا ذكر له في الأخبار الواردة في الباب.

كما أنه لا فرق من جهة كونها محرمين أو محلّين و إن كان الإحرام يوجب التغليظ لكنّه لا يبلغ الأمر به إلى وجوب الحدّ و لا يبدل التعزير حدّا.

هذا كلّه إذا وقع ذلك مرّة واحدة و أمّا لو تكرر ذلك فله حكم

آخر و هو:

قتلهما في الثالثة بعد تخلّل التعزيرين

قال المحقّق: و لو تكرّر ذلك منهما و تخلّله التعزير حدّا في الثالثة.

أقول: و قد ذهب إليه الشيخ في النهاية و ابن إدريس و ابن البرّاج و ابن سعيد و العلّامة في القواعد و التحرير.

و مستندهم في ذلك فحوى رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحد جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدّتا فان وجدتا الرابعة قتلتا [1].

لكن فيها الإشكال من وجوه و إنّها لا تنطبق على مدّعاهم كاملا فإنّها مع ورودها في المرأتين تدلّ على أن اللازم تكرار العمل أربع مرّات و ليس في المرّة الأولى سوى النهي لا غير.

اللّهمّ الّا أن يحمل ذلك على صورة جهلهما بالحرمة فإنّه يصحّ حينئذ عدم

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 25، و في الكافي ج 7 ص 202 نقلها عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه. فإن وجدتا الثالثة قتلتا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 49

ترتّب شي ء عليه سوى النهي.

و يشكل الأمر في المرّة التي وقعت بعد النهي حيث إن الرواية تقول: جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا، و ظاهر ذلك هو الحدّ التام لا التعزير كما أنه يرد هذا الإشكال بعينه بالنسبة إلى المرة الثالثة، لمكان التعبير بالحدّ الظاهر في الحدّ الكامل لا التعزير و أين هذا مما يقوله هؤلاء من أن الواجب عقيب الأولى هو التعزير و هكذا عقيب المرّة الثانية ثم لو تكرّر ثالثة فهناك القتل، و الحكم بالحدّ عقيب المرّة الأولى و الثانية غير معمول به

كما أن إرادة صورة العلم و العمد من قوله: فإن فعلتا نهيتا عن ذلك أيضا غير صحيح و لم يقولوا به [1].

نعم يمكن التمسك في المقام بالدليل الكلي الساري في جميع الكبائر من أنه يعزّر المرتكب أوّلا و ثانيا و ثالثا ثم يقتل في الرابعة.

تعزير من قبّل غلاما بشهوة

قال المحقّق: و كذا يعزّر من قبّل غلاما ليس له بمحرم بشهوة.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 49

أقول: إنّ كلامه هذا بظاهره محلّ الإشكال و ذلك لإفادته عدم وجوب تعزير من قبّل غلاما بشهوة و هو محرم له أي كان من أرحامه و ذوي قرابته.

و لكن من المسلّم المقطوع به عدم كون ذلك مرادا له بل المقصود بيان ما يمكن أن يتحقّق في الخارج غالبا فإنّ التقبيل بالشهوة لا يتّفق بالنسبة إلى المحرم الّا نادرا، و المتجرّي على اللّه العاصي له لا يقبّل بالشهوة الغلام الذي كان من أقربائه و أبناء بيته و إنّما يقبّل الأباعد و من ليس بينه و بينه رحم و قرابة و على الجملة فالقيد وارد مورد الغالب و لا مفهوم له كما في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1».

______________________________

[1] أقول: هذا مضافا إلى أخصيّة الدليل بالنسبة إلى المدّعى كما في الرياض.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 50

كما أن التشبيه المستفاد من قوله،: (و كذا.) لا يراد منه التشبيه في كون التعزير. من ثلاثين إلى تسعة و تسعين المذكور آنفا و إنّما المراد التشبيه في أصل التعزير في قبال الحدّ و ذلك لأن التحديد المزبور

مختصّ بالمسألة السابقة لاختصاص الدليل بها فيؤخذ في غيرها بما هو مقتضى القاعدة الجارية في التعزيرات.

و على هذا فيكون أمر المقبّل موكولا إلى نظر الحاكم فيعزّره على حسب ما يراه من الواحد إلى ما دون الحدّ.

و في الرياض و الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، أي في تعزيره و ذلك لأنه فعل محرّما فيستحقّ فاعله التعزير كما في غيره من المحرّمات بلا فرق بين المحرم و غيره أي الأجنبي و ذلك لإطلاق الدليل. بل لعلّ الأمر في المحرم آكد و الفحش و الشناعة أشدّ.

و لا يخفى أن عبارة الجواهر في المقام غير صحيحة فإنّه قال: لا فرق بين المحرم و غيره في ذلك بل لعلّه في الأخير آكد انتهى.

و الحال أن الأخير هو غير المحرم أي الأجنبي و من المعلوم أن الحرمة ليست في تقبيل الأجنبي بآكد و إنما الأمر بالعكس.

ثم إنّ المحقق و إن عبّر بالغلام، و هو ظاهر في غير البالغ إلا أن الظاهر عدم الفرق في ذلك بين الصغير و الكبير بل و لا بين المذكّر و المؤنّث كلّ ذلك لوحدة الملاك و عموم المناط و هو تحقّق التقبيل المحرّم.

ثم إنّه تدلّ على حرمته الأخبار الشريفة:

فمنها ما رواه طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قبّل غلاما بشهوة ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار «1».

و منها ما عن فقه الرضا عليه السلام: و إذا قبّل الرجل غلاما بشهوة لعنته ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الرحمة و ملائكة الغضب و أعدّ له

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 257 ب 21 من أبواب النكاح المحرّم ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 51

جهنّم و ساءت مصيرا [1] إلى غير ذلك من الروايات.

و على الجملة فهو من المحرّمات الأكيدة فيجب تعزير فاعله و المرتكب له على حسب ما يراه الحاكم.

نعم هنا رواية تنافي بظاهرها ذلك و هي: عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: محرم قبّل غلاما من شهوة قال: يضرب مأة سوط «1».

فإنّها تدلّ بظاهرها على وجوب الحدّ على من ارتكب هذا الحرام.

لكنّ الظاهر أن الزيادة على التعزير للتغليظ لمكان الإحرام كما صرّح بذلك الأصحاب عموما و ابن إدريس في السرائر في خصوص المقام.

و قد ذكر ذلك صاحب الرياض قدّس سرّه و استحسنه لو لا أن المشهور اشتراط عدم بلوغ التعزير الحدّ و لذا إن الحلّي لم يصرّح في مورد الخبر بأكثر من التغليظ انتهى كلامه [2].

و أورد عليه صاحب الجواهر بقوله: و فيه منع ذلك مع فرض اجتماع جهات التعزير كما هو واضح.

و الفرض أن التعزير من حيث هو و في حدّ ذاته مشروط بعدم بلوغ الحدّ و ذلك لا ينافي أن يقرنه التغليظ لجهة كالإحرام و بلغ بذلك الحدّ و لا يلزم منه أن

______________________________

[1] مستدرك الوسائل ج 14 ص 351 ب 18 من أبواب النكاح المحرّم ح 3 أقول: و في نفس الموضع أيضا: و في خبر آخر: من قبّل غلاما بشهوة ألجمه اللّه بلجام من النار. و أيضا: عن عوالي اللئالي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من قبّل غلاما بشهوة عذّبه اللّه ألف عام في النار.

[2] و إليك عبارته في السرائر ج 3 ص 461: و من قبّل غلاما ليس بمحرم له على جهة الالتذاذ و الشهوة و ميل النفس وجب عليه التعزير،

فإن فعل ذلك و هو محرم بحجّ أو عمرة غلّظ عليه تأديبه كي ينزجر عن مثله في مستقبل الأحوال انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 258 ح 3، الكافي ج 7 ص 200 ح 9، التهذيب ج 10 ص 57.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 52

يتبدّل التعزير حدّا.

ثم إنّه قد وقع في عبارة الجواهر هنا أيضا تصحيف حيث إنّه حكى عبارة الرياض هكذا: (لو لا أن المشهور عدم اشتراط بلوغ التعزير الحدّ) و من المعلوم أن هذا خلاف المقصود و الواقع، فإنّ المشهور هو اشتراط العدم لا عدم الاشتراط.

و يحتمل كون النسخة الموجودة عنده من الرياض مشتملة على العبارة بالنحو الذي حكاه، و كيف كان فهو غير صحيح، و الصحيح ما ذكرناه.

الكلام في توبة اللائط

قال المحقّق: و إذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط الحدّ و لو تاب بعده لم يسقط و لو كان مقرّا كان الإمام مخيّرا في العفو و الاستيفاء.

أقول: الحكم هنا كما في باب الزنا و قد تقدّم أنه قال المحقّق هناك: و من تاب قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ و لو تاب بعد قيامها لم يسقط حدّا كان أو رجما انتهى.

كما و أنه قال هناك أيضا: و لو أقرّ بحدّ ثمّ تاب كان الإمام مخيّرا في إقامته رجما كان أو جلدا انتهى.

و قد تقدّمت أيضا الأخبار التي تدلّ على التفصيل بين ثبوت الحدّ بالبيّنة أو الإقرار و التفصيل في البيّنة بين ما إذا تاب قبلها أو بعدها فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 53

حدّ السحق

اشارة

قال المحقّق: و الحدّ في السحق مأة جلدة حرّة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة محصنة أو غير محصنة للفاعلة و المفعولة و قال في النهاية: ترجم مع الإحصان و تحدّ مع عدمه و الأوّل أولى.

أقول: الكلام أوّلا في تفسير السحق ثم في حكمه أمّا الأوّل فقد فسّر بأنه وطئ المرأة مثلها، و في النصوص اللواتي مع اللواتي، و النساء بالنساء كما سيأتي ذلك و من المعلوم أنه لا يراد بالوطى ء معناه المعهود بل المراد أن تسحق المرأة عورتها بعورة الأخرى كما أفيد كذلك في خبر هشام الصيدناني أنه سأله رجل عن هذه الآية: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ الرَّسِّ «1» فقال بيده هكذا فمسح إحداهما بالأخرى فقال: هنّ اللواتي باللواتي يعني النساء بالنساء «2».

و لا خلاف في حرمته و لا إشكال فيها [1].

______________________________

[1] أقول: يدلّ على حرمته الّا جماع و الآية الكريمة فَمَنِ ابْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ

فَأُولٰئِكَ هُمُ العٰادُونَ، سورة المؤمنون- 7، و الأخبار الكثيرة. مثل رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في جواب سؤال امرأة عن ذلك: إذا كان يوم القيامة يؤتى بهنّ- اللواتي باللواتي- قد ألبسن مقطّعات من نار و قنّعن بمقانع من نار و سرولن من نار و أدخل في أجوافهن إلى رءوسهنّ أعمدة من النار و قذف بهنّ في النّار، أيّتها المرأة إنّ أوّل من عمل هذا العمل قوم لوط فاستغنى الرجال بالرجال فبقي النساء بغير رجال ففعلن كما فعلن رجالهن الوسائل- 14 ب 24 من النكاح المحرّم ح 3.

______________________________

(1) سورة ق الآية 12.

(2) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب حدّ النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 54

و إنّما البحث في حدّ ذلك و قد اختلفت الأقوال و الروايات فيه فذهب المحقّق إلى وجوب الجلد مطلقا أي مع الإحصان و عدمه حرة كانت أو أمة مسلمة كانت أو كافرة فاعلة كانت أو مفعولة، وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام و الجواهر بل المشهور كما في الرياض، و قال في المسالك هو المشهور بين الأصحاب ذهب إليه المفيد و المرتضى و أبو الصلاح و ابن إدريس و المتأخّرون.

بل السيّد نسب ذلك إلى الإمامية قائلًا: ممّا انفردت به الإمامية القول بأن البيّنة إذا قامت على امرأتين بالسحق جلدت كلّ واحدة منهما مأة جلدة مع فقد الإحصان و وجوده انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و خالف في ذلك شيخ الطائفة قدّس سرّه ففصّل بين المحصنة و غيرها، قال:

______________________________

و عن بشير النبّال قال: رأيت عند أبي عبد اللّه عليه السلام رجلا فقال له: ما تقول في اللواتي مع اللواتي

فقال: لا أخبرك حتّى تحلف لتحدثنّ بما أحدّثك النساء، قال: فحلف له، فقال: هما في النار عليهما سبعون حلّة من نار فوق تلك الحلل جلد جاف غليظ من نار عليهما نطاقان من نار و تاجان من نار فوق تلك الحلل و خفّان من نار و هما في النار، المصدر ح 4.

و عن يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام أو أبا إبراهيم عليه السلام عن المرأة تساحق المرأة و كان متّكئا فجلس و قال: ملعونة ملعونة الراكبة و المركوبة و ملعونة حتّى تخرج من أثوابها فإنّ اللّه و ملائكته و أولياؤه يلعنونها و أنا و من بقي في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فهو و اللّه الزنا الأكبر و لا و اللّه ما لهنّ توبة قاتل اللّه لا قيس بنت إبليس ماذا جاءت به فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق، فقال: و اللّه لقد كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكون العراق و فيهنّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لعن اللّه المتشبّهات بالرجال من النساء و لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء. المصدر ح 5.

و عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال و هم المخنّثون و اللّاتي ينكحن بعضهنّ بعضا. المصدر ح 6.

و روى الصدوق. مثله و زاد: و إنّما أهلك اللّه قوم لوط لما عمل النساء مثل ما عمل الرجال يأتي بعضهم بعضا المصدر ح 7.

______________________________

(1) الانتصار ص 253.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 55

إذا ساحقت المرأة

أخرى و قامت عليهما البيّنة بذلك وجب على كلّ واحدة منهما الحدّ مأة جلدة إن لم تكونا محصنتين فإن كانتا محصنتين كان على كلّ واحدة منهما الرجم «1».

و في قبالهما قول آخر حكاه الشهيد الثاني في مسألة ما لو وطئ زوجته فساحقت بكرا فحملت البكر أنّهما تحدّان حدّ السحق،: و قيل ترجم الموطوئة استنادا إلى رواية ضعيفة السند مخالفة لما دلّ على عدم رجم المساحقة مطلقا من الأخبار الصحيحة انتهى «2».

هذا بالنسبة إلى الأقوال و أمّا الأخبار فهي على ثلاث طوائف:

إحداها ما يدلّ على جلدهما مأة.

ثانيتها ما يدلّ على التفصيل بين المحصنة و غيرها فترجمان مع الإحصان و تجلدان مع عدمه فيكون حدّه حدّ الزنا.

ثالثتها ما يدلّ على أنّهما تقتلان أو تحرقان فيكون كاللواط.

و كيف كان فقد استدلّ على القول الأوّل بروايات.

منها موثّق أبان بن عثمان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

السحّاقة تجلد «3».

و ذلك لأنّ ظاهر الجلد هو الحدّ التامّ أي الضرب مأة كما أن إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين الموارد كالمحصنة و غيرها و الحرة و الأمة.

و منها مرسل دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: السحق في النساء كاللواط في الرجال و لكن فيه جلد مأة لأنه ليس فيه إيلاج «4».

و هذه صريحة في الحدّ أي ضرب المائة و تزيد التعليل في جلد المائة بعدم إيلاج فيه.

______________________________

(1) النهاية ص 706.

(2) الروضة البهيّة ج 2 ص 343.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 425 ب 1 من حدّ السحق ح 2.

(4) مستدرك الوسائل ج 18 ص 86 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 56

بل ظاهر كلام الشهيد الثاني فيما نقلناه عنه

دلالة أخبار صحيحة على عدم الرجم في السحق، و إن كان ذلك محلّ الإشكال كما أنه قد أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن كان فيه ما فيه.

و استدلّ للثاني أي الشيخ في النهاية أيضا بروايات:

منها الحسن بل الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السحق فقال: حدّها حدّ الزاني فقالت المرأة: ما ذكر اللّه ذلك في القرآن، فقال: بلى، قالت: و أين هنّ؟ قال: هنّ أصحاب الرّسّ «1».

فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: حدّها حدّ الزاني هو الرجم في مورد الإحصان فكما أن حدّ الزنا هو التفصيل بين المحصن و غيره كذلك في حدّ السحق يفصّل بينهما.

و أمّا ما قد يقال من أن حدّه حدّ الزنا أي في الجلد دون الرجم.

ففيه أنه بعيد جدّا و خلاف ما هو الظاهر من التشبيه و التنزيل.

ثم إنّ المراد من قولها: ما ذكر اللّه ذلك في القرآن هو السحق نفسه لا حدّه و إن كان السؤال عقيب ذكر الحدّ.

و ذلك لأنه عليه السلام أجابها بأنهنّ أصحاب الرّس، و هي قد رضيت بذلك الجواب و من المعلوم أنه ليس في القرآن الكريم ذكر عن حدّ السحق فهذا الجواب مع سكوتها و سكوت غيرها من النسوة بعد ذلك يدلّ على أن المقصود من السؤال هو مجرّد ذكر السحق.

قال في المسالك: و قد روي أن ذلك الفعل كان في أصحاب الرسّ كما كان اللواط في أصحاب لوط.

و منها رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث: إنّ امرأة قالت له: أخبرني عن اللواتي باللّواتي ما حدهنّ فيه؟ قال: حدّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق

ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 57

الزنا. «1».

و منها الأحاديث المتعدّدة الواردة في امرأة وطأها زوجها فنقلت الماء بالسحق إلى جارية بكر فحملت و إليك هذا الخبر:.

عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السلام قولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين. قال: و ما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها فلمّا قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة و أبو الحسن لها و أقول: فإن أصبت فمن اللّه و من أمير المؤمنين و إن خطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنّها محصنة و ينظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحدّ. قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد و ما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسئول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني «2».

و لا إشكال في ظهور هذه الأخبار في أن حدّ السحق هو حدّ الزنا جلدا و رجما فترى أنه عليه السلام حكم في مورد المرأة الّتي جامعها زوجها بالرجم و علّل بأنها محصنة و قابل ذلك في مورد الجارية بحكمه بجلدها الحدّ.

و التحقيق أن أخبار

الجلد ظاهرة في إقامة الجلد دون حدّ الزنا و ليست صريحة في ذلك نعم ما رواه في دعائم الإسلام كان صريحا لكنّه كما عرفت كان ضعيف السند مرسلا، في حين أن الأخبار الدالة على أن حدّه حدّ الزنا صريحة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب النكاح المحرّم ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 58

في ذلك فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد و القول بأن أخبار الجلد متعلّقة بما إذا لم تكن محصنة.

و حيث إنّ هناك أخبار تدلّ على رجم المساحقة أو إحراقها أو قتلها فنقول:

إنّها تحمل على ما إذا كانت محصنة و إليك هذه الأخبار.

في الاحتجاج عن سعد بن عبد اللّه عن صاحب الزمان عليه السلام قال:

قلت له: أخبرني عن الفاحشة المبيّنة التي إذا أتت المرأة بها في أيّام عدّتها حلّ للزوج أن يخرجها من بيته؟ قال عليه السلام: الفاحشة المبيّنة هي السحق دون الزنا فإنّ المرأة إذا زنت و أقيم عليها الحدّ ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزويج بها لأجل الحدّ و إذا سحقت وجب عليها الرجم، و الرجم خزي و من قد أمر اللّه عز و جلّ برجمه فقد أخزاه و من أخزاه فقد أبعده و من أبعده فليس لأحد أن يقربه، الحديث «1».

و عن بنان بن محمّد عن العبّاس غلام لأبي الحسن الرضا عليه السلام يعرف بغلام ابن شراعة عن الحسن بن الربيع عن سيف التّمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث، قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأتين وجدتا في لحاف واحد و قامت عليهما

البيّنة أنّهما كانتا تتساحقان فدعا بالنطع ثم أمر بها فأحرقتا بالنار «2».

و في رواية الطبرسي في مكارم الأخلاق عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، فمن فعل ذلك شيئا فاقتلوهما ثم اقتلوهما «3».

فإنّ الأولى تدلّ على الرجم و الثانية على الإحراق و الثالثة على وجوب القتل فتحمل على أنّها كانت محصنة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 ص 440 ب 23 من أبواب العدد ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ السحق ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 59

لكن الإنصاف أن عدم وحدة لسان هذه الأخبار، و هذا الاختلاف الفاحش المستفاد منها في مورد المساحقة المحصنة- على فرض حملها على ذلك- يوجب الإشكال و الإبهام في الاستفادة من الروايات.

و لذا ترى أن صاحب الجواهر استراح بالأخذ بروايات الجلد للشهرة و غير ذلك فإنّه بعد الخدشة في دلالة الصحيح و في سند الصريح- حيث احتمل في الصحيح الدّال على أن حدّه الزنا، إرادة المماثلة في الجلد، و الإيراد على رواية الاحتجاج و كذا رواية سيف التّمار بقصور السند و عدم الجابر- لجأ إلى القول الأوّل.

قال بعد ذكر روايتي الاحتجاج و سيف: إلّا أنّهما مع قصور سندهما و لا جابر و اشتمال الأوّل (رواية الاحتجاج) على ما لا يقول به الأصحاب من تفسير الفاحشة بذلك كالإحراق بالنار في الثاني- قاصران عن المقاومة لما عرفت.

أقول: مراده (بقوله: ما عرفت) هو ما أفاده في صدر البحث من أن الجلد مأة موافق للأكثر أو المشهور أو كونه إجماعيّا فراجع.

ثم قال: و من ذلك كلّه بأن ذلك

أن الأوّل أولى و أحوط خصوصا بعد درء الحدّ بالشبهة انتهى.

و الظاهر أن الأمر كذلك لو كانت الشهرة محقّقة و بالغة الحدّ المعتبر لجبر الضعف.

و أمّا كونه أحوط فلعلّه لا يخلو عن كلام و ذلك لعدم جريان الاحتياط في الدوران بين المتباينين [1] و الحاصل أن البحث يقتضي مزيد التأمّل.

ثم إنّ مقتضى الإطلاق كما أفتى و صرّح به المحقّق هو أنّه لا فرق بين الحرة

______________________________

[1] أقول: الظاهر أنه من باب الأقل و الأكثر لا المتباينين كما قد عرفت أنه رحمه اللّه قد أفتى من قبل بأن الأشبه أن المحصن يجلد و يرجم.

ثمّ إنّه دام ظله لم يزد على قاعدة الدرء شيئا و الظاهر أنه اختار القول الأوّل. أعني وجوب الجلد مطلقا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 60

و الأمة و إن كان حدّها في غير المقام هو النصف على ما يدلّ عليه قوله تعالى:

فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ «1».

لكن الظاهر عدم الفرق بين المقام و غيره و ذلك لأن النسبة بين هذه الآية الكريمة الناطقة بالتنصيف و الرواية الدّالّة على أن حدّ السحق هو المائة، العموم من وجه فإنّه لا نزاع في الحرّة السحّاقة لأنّه يجب عليها الحدّ التمام كما لا نزاع في الأمة الزانية فإنّه ينتصف حدّها و إنّما النزاع في الأمة السحاقة حيث إنّ مقتضى الآية نصف الحدّ و مقتضى الخبر تمامه.

و هنا قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: و الترجيح لما هنا لما عرفت، انتهى و مراده من: (ما عرفت) هو كون عمل المشهور على الإطلاق و عدم الفرق بين الحرّة و الأمة.

و فيه إنّه و إن كان يجبر السند بالشهرة إلّا أن الدلالة

لا تتمّ، مع أن دلالة الآية على تنصيف الحدّ في الأمة لا غبار عليها.

إلّا أن يستشكل في شمول الفاحشة للسحق.

و هو في غير موضعه فإن في بعض الروايات تطبيق الفاحشة على السحق كما مرّ في خبر الاحتجاج.

و على الجملة فتقديم إطلاق المائة مشكل و ذلك لأن لسان دليل التنصيف بالنسبة إلى أدلّة الحدّ لسان الحكومة فيقدم الحاكم و إن كانت النسبة العموم من وجه.

هذا مضافا إلى أن إجراء الحدّ الكامل في مورد الأمة خلاف الاحتياط، و المقام من قبيل الأقل و الأكثر و عند الشك يرتفع الزائد بالأصل كما أن قاعدة درء الحدود بالشبهات أيضا تقتضي ذلك و الحاصل أنا لا نقول بعدم الفرق من هذه الجهة نعم لا فرق بين المسلمة و الكافرة و الفاعلة و المفعولة.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 61

حكم تكرار المساحقة

قال المحقّق: و إذا تكرّرت المساحقة مع إقامة الحدّ ثلاثا قتلت في الرابعة.

أقول: و حيث إنّ هذه المسألة من مصاديق من أتى بكبيرة مكرّرا و حدّ بعد كلّ مرّة يقتل في الرابعة أو الثالثة على الاختلاف المتقدّم فلذا أضاف صاحب الجواهر بعد عبارة المحقّق المذكورة- قوله: أو الثالثة على القولين السابقين.

و ظاهر ذلك عدم خصوصيّة للمقام بل إنّ حكمة هو الحكم الجاري في ارتكاب الكبائر.

لكن قال الشهيد في اللمعة: و تقتل في الرابعة لو تكرّر الحدّ ثلاثا انتهى.

مع أنه قدّس سرّه قال في مورد الزنا و اللواط- غير الموجب للقتل ابتداء- بالقتل في الثالثة.

و قال الشهيد الثاني بشرح العبارة: و ظاهرهم هنا عدم الخلاف و إن حكمنا بقتل الزاني و اللائط في الثالثة كما اتّفق في عبارة المصنف انتهى.

إلّا أنه محل الإشكال كما و أن

صاحب الجواهر أورد عليه بقوله: و إن كان لا يخفى عليك ما فيه إلخ.

و ذلك لأنه مخالف لما هو الظاهر من كلام غير واحد بل صريح آخرين من أن المسألة كنظائرها المتقدم ذكرها بل مخالف لما قاله الشهيد الثاني بنفسه في المسالك حيث قال: تقتل في الثالثة أو الرابعة مع تخلل الحدّ كما تقدّم في نظائره من الكبائر إلخ.

و على الجملة فلا دليل في مقامنا بخصوصه فلذا يجري فيه ما جرى في غيره من الكبائر، و الدليل في المقامين واحد.

و إن كان أمر الشهيد الثاني و إفتائه في كتاب منه بخلاف ما أفتى به في كتابه الآخر يوجب الشبهة خصوصا و إنّه قد بالغ في الروضة في استظهار عدم الخلاف في كون الملاك هو الرابعة حتّى و إن قيل في الزنا و اللواط بالثالثة.

و يمكن أن يقال: إذا كان تأليفه للروضة متأخّرا عن المسالك- كما قد يقال

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 62

ذلك- فلعلّه وقف بعد تأليف المسالك على إجماع أو دليل آخر على ما أفاده في الروضة.

و كيف كان فمقتضى الرواية الواردة في أهل الكبائر هو القتل في الثالثة إلّا أن القتل في الرابعة هو الأحوط، و ادّعاء عدم الخلاف في القتل هنا في الرابعة يوجب الشبهة، و الاحتياط يقتضي تأخير ذلك عن الثالثة إلى الرابعة فإنّ الحدود تدرء بالشبهات.

و حينئذ فيمكن الترديد في الحكم في المرحلة الثالثة بأن يقال: إذا لم يجز القتل فهل يجب الجلد أم لا؟

و لكن الظاهر قيام الإجماع على عدم الخلو منهما رأسا فإذا لم يجب القتل في الثالثة فلا محالة يجب الجلد [1].

سقوط الحدّ بالتوبة و عدمه

قال المحقّق: و يسقط الحد بالتوبة قبل البيّنة و لا يسقط بعدها

و مع الإقرار و التوبة يكون الإمام مخيّرا.

أقول: إذا ثبت السحق بالبيّنة لا بالإقرار و فرض وقوع التوبة منها فإن كانت قبل ثبوته بالبيّنة يسقط الحدّ و إن كانت بعد ذلك فلا يسقط.

كما أنه رحمه اللّه قال في المختصر النافع: و يسقط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته كاللواط و لا يسقط بعد البيّنة.

و في الرياض: و يجب على الإمام إجراؤه إن ثبت بالثاني- البيّنة- و ليس له العفو عنه فيه و يتخيّر بين الأمرين إذا ثبت بالأوّل- الإقرار- بعين ما مرّ في الزنا لاشتراك الجميع في هذه الأحكام و أمثالها كما يستفاد من ظاهر الأصحاب من

______________________________

[1] أقول: الظاهر أنه لا مجال للترديد المذكور أصلا بعد أن القتل في الرابعة مشروط بالجلد في المرّات السابقة و قد ذكرت هذا في مجلس الدرس أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 63

غير أن يعرف بينهم في ذلك خلاف و به صرّح في الغنية مدّعيا عليه الإجماع انتهى.

هنا مسائل:

أحدها أنه يسقط الحدّ بالتوبة قبل البيّنة.

و قد استدلّ على ذلك بمرسل جميل بن درّاج عن أحدهما عليهما السلام في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتّى تاب و صلح فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ قال ابن أبي عمير:

قلت: فإن كان امرءا غريبا لم تقم؟ قال: لو كان خمسة أشهر أو أقلّ و قد ظهر منه أمر جميل لم تقم عليه الحدود «1».

و هو و إن كان ضعيفا إلّا أنه منجبر بعمل الأصحاب فقد ادّعى صاحب الجواهر في باب الزنا عدم خلاف يجده، و ادّعى كاشف اللثام هناك الاتّفاق عليه- مضافا إلى أن المرسل هو جميل الذي مراسيله في حكم المسانيد.

و

قد استفادوا من قوله: (حتّى تاب) أنه تاب قبل قيام البيّنة و إلّا فلا ربط له بمسئلتنا.

و لم يكن في هذا الرواية ذكر عن السحق لكنّهم استفادوا من ذكر السرقة و شرب الخمر و الزنا أنّها مذكورة من باب أحد مصاديق ما يوجب الحدّ و لذا اكتفوا عن البحث في المسألة بما مرّ.

و مثلها رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل أقيمت عليه البيّنة بأنه زنى ثمّ هرب قبل أن يضرب قال: إن تاب فما عليه شي ء و إن وقع في يد الإمام أقام عليه الحدّ و إن علم مكانه بعث إليه «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 64

و رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: السارق إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلى اللّه تردّ سرقته على صاحبها و لا قطع عليه «1».

و على الجملة فيأتي الحكم في مطلق الموجب، لاتّحاد المناط ثم إنّ الظاهر أنه لا حدّ عليها من رأس لا أنه يثبت عليها ثم يعفى عنها.

ثانيها، أنه لو حضرت الشهود لإقامة الشهادة

و قبل إقامتها تابت و أبدت توبتها هناك فهل يسقط الحدّ عنها أم لا؟ و هكذا في كل مجرم كذلك؟.

الظاهر سقوط الحدّ عنها و ذلك لصدق التوبة قبل إقامة البيّنة و ما ورد في سرقة رداء صفوان بن أميّة و أنه لما حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقطع يد السارق قال الرجل: تقطع يده لأجل ردائي قال: نعم قال: فإنّي أهبه له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ. «2» فقد يتوهم أن مفهومه أنه بعد الرفع إلى الحاكم فلا يفيد العفو.

و فيه أن الظاهر أن المراد الرفع مع الحكم كما أن المورد كان كذلك.

ثالثها: أنه إذا ادّعت بعد قيام البيّنة أنّها قد تابت قبلها

و بعد ارتكاب المعصية فهل يقبل منها أم لا؟ و لا بدّ من أن يفرض إقامة البيّنة عن غيابها فتدّعي التوبة قبلها من عند نفسها.

الظاهر أنه يقبل ذلك منها بلا بيّنة و لا يمين و ذلك لأن التوبة ربما تكون من الأمور الّتي لا يعلم بها إلّا من قبل شخص التائب فيقبل قولها فيها و يردّ الحدّ بذلك و إن كان الشهود قد شهدوا بمعصيتها الموجبة للحدّ [1].

هذا مضافا الى قاعدة درء الحدود بالشبهات.

______________________________

[1] أقول: قد قرأت في كتاب أن المرحوم آقا نجفي الأصفهاني قدّس سرّه قد أتي عنده بمن شهدوا عليه بما يوجب الحدّ فقال هو: إنّي قد قرأت في الليلة الماضية دعاء الكميل، فأطلقه آقا نجفي و لم يقم عليه الحدّ و اكتفى بما في الدعاء من طلب التوبة و الإنابة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 65

و قد قال في كشف اللثام: و لو تابت قبل البيّنة سقط عنها الحدّ و كذا لو ادّعت التوبة قبلها.

رابعها: أنه لو تابت بعد قيام البيّنة

فإنّه لا يسقط الحدّ عنها.

و قد استدلّ على ذلك بأمور:

منها خبر أبي بصير حيث دلّ على وجوب القتل إذا وقع في يد الإمام و وجوب ردّه إن عرف مكانه.

نعم قد يستشكل فيه من جهة دلالة صدره على أنه إذا تاب بعد البيّنة فليس عليه شي ء.

لكنهم حملوه على أن قول الإمام عليه السلام: إن تاب فما عليه شي ء، يعني تاب قبل قيام البيّنة و إن كان مورد السؤال هو أنه قد هرب بعد أن أقيمت عليه البيّنة.

و يمكن أن يقال في توجيه

ذلك بأنه كان قد تاب بينه و بين اللّه سبحانه الّا أن الشهود لم يعلموا ذلك و لذا أقدموا على إقامة الشهادة و لما رأى أنه لا يتمكن من إثبات توبته من قبل هرب و في الفرض لا شي ء عليه بنفسه فليس يجب عليه الحضور لإجراء الحدّ عليه و إنّما الحاكم موظّف بإقامة الحدّ عليه إذا وقع هو في يده بل يبعث إليه إن علم بمكانه.

و منها رواية الحلبي «1» الواردة في سرقة رداء صفوان المذكورة آنفا فإنّها صريحة في أنه لا دافع للحدّ بعد الرفع و إثبات الجرم عند الحاكم فراجع.

و منها استصحاب بقاء وجوب الحدّ ما لم يدلّ دليل على سقوطه.

و دعوى عدم ثبوت الحدّ في الذمّة بمجرّد قيام البيّنة ليستصحب فقد ردّ عليه في الجواهر و استضعفه معلّلا بقوله: ضرورة دلالة النص و الفتوى على تعلّقه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 66

بالبدن بقيام البيّنة و أقصى القائل السقوط بالتوبة «1».

و نقول: لا يعتبر في الاستصحاب تعلّقه بالذّمة بل يستصحب أصل وجوب الحدّ على الحاكم نظير سائر الواجبات.

هذا كلّه فيما إذا تابت مع ثبوت العمل بالبيّنة و أمّا إذا تابت مع ثبوت ذلك بالإقرار فهنا أيضا صور و مسائل.

أحدها: توبتها قبل الإقرار، و الظاهر عدم خلاف في أن ذلك يسقط الحدّ كما في باب الزنا.

و يمكن التمسّك له بذيل رواية أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السلام (في رجل أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقرّ أربع مرّات بالزنا فأمر صلوات اللّه عليه برجمه فرجم): لو استتر ثمّ تاب كان خيرا له «2».

ثانيها:

توبتها مع الإقرار و هناك يتخيّر الإمام في إجراء الحدّ و العفو عنها و قد صرّح بذلك في الشرائع.

و قال صاحب الجواهر في شرح العبارة: على حسب ما سمعته في الزناء و اللواط إذ هي مثلهما في ذلك و أولى.

بيان الأولويّة أنه إذا كان الإمام مخيّرا بينهما في مورد الزنا و اللواط عند ما ثبت ذلك بالإقرار مع كون هاتين المعصيتين في غاية الأهميّة و العظمة فهو أولى بأن يكون مخيّرا بينهما في مورد السحق إذا ثبت ذلك بالإقرار حيث أنه ليس مثلهما و بمثابتهما- في حين كونه معصية كبيرة.

و يدلّ على جواز عفو الحاكم حينئذ الخبران بل الأخبار أنه: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّ بالسرقة فقال له: أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال:

نعم سورة البقرة قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة قال: فقال الأشعث: أ تعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال: و ما يدرك ما هذا؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 308.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ الزنا ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 67

يعفو و إذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك الى الإمام إن شاء عفا و إن شاء قطع «1».

و رواه الصدوق بإسناده إلى طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد و قصور الأسانيد مجبور بالتعدّد مع عمل الأكثر بل الكلّ عدا الحلّي و هو شاذ كما صرّح به بعض الأصحاب، كذا في الرياض «2» و قال أيضا:

و أخصيّة المورد مدفوعة بعموم الجواب مع عدم قائل بالفرق بين الأصحاب مع ورود نصّ آخر باللّواط متضمنا للحكم أيضا على العموم من حيث التعليل.

و هو المرويّ عن

تحف العقول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام في حديث قال: و أمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم يقم عليه البيّنة و إنّما تطوّع بالإقرار من نفسه و إذا كان للإمام الذي من اللّه أن يعاقب عن اللّه كان له أن يمنّ عن اللّه أما سمعت قول الله: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب «3».

عفو الحاكم مشروط بتحقّق التوبة؟

ثم إنّه هل يعتبر في جواز عفو الحاكم و عدم إجراءه الحدّ تحقّق التوبة أم لا؟.

ظاهر المحقق و جماعة منهم ذلك لكن لا تعرّض في الروايات لهذا القيد كما عرفت ذلك من هذه الأخبار المنقولة آنفا.

نعم بعض الروايات قد ورد في مورد التوبة و ذلك كرواية مالك بن عطيّة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّي أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: يا هذا امض إلى منزلك لعلّ مرارا هاج بك. فلمّا كان من غد عاد إليه فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أوقبت على غلام فطهّرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعلّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 3.

(2) راجع ج 2 ص 467 في بحث الزناء.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 331 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 68

مرارا هاج بك حتّى فعل ذلك ثلاثا بعد مرّته الأولى فلمّا كان في الرابعة: قال له:

يا هذا إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيّهن شئت. قال: و ما هنّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف على عنقك بالغة ما بلغت

أو إهداب- إهداء- من جبل مشدود اليدين و الرجلين أو إحراق بالنار قال: يا أمير المؤمنين أيّهن أشدّ عليّ؟ قال: الإحراق بالنّار قال: فإنّى قد اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم قال: فصلّى ركعتين ثم جلس في تشهّده فقال: اللّهم إنّي قد أتيت من الذنب ما قد علمته و أنّي تخوّفت من ذلك فأتيت إلى وصي رسولك و ابن عمّ نبيك فسألته أن يطهّرني فخيرني ثلاثة أصناف من العذاب. اللّهم فإنّي أخذت أشدهنّ. اللهمّ فأني أسئلك أن تجعل ذلك كفّارة لذنوبي و أن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام و هو باك حتّى دخل الحفيرة الّتي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام و هو يرى النار تتأجّج حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام و بكى أصحابه جميعا فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماء و ملائكة الأرض فإنّ اللّه قد تاب عليك فقم و لا تعاودنّ شيئا ممّا فعلت «1».

فإنّه لا إشكال في أنه قد تاب و ناجى اللّه تعالى بتلك الفقرات المهيّجة و الكلمات المحرقة. فعفى عنه الإمام عليه السلام بعد أن حكم بإحراقه بالنار.

و لكن هل هذا يوجب التقييد حتّى يكون عفو الإمام بعد إقرار المجرم مقيّدا بما إذا تاب عن ذنبه و لا يجوز له ذلك لو لم يتب عن ذنبه؟.

الإنصاف أنه و إن لم تكن الرواية المذكورة خالية عن نوع من الإشعار بذلك الّا أنه لا يوجب التقييد.

و يمكن أن يقال إنّ نفس الحضور عند الحاكم و في موضع إجراء الحدّ لتطهيره عن المعصية و الإقرار عنده توبة في الحقيقة و هو حاك عن ندامته الباطنة إذا كانت التوبة

مجرّد الندامة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 69

الّا أن يقال: إنّ اللازم هو التوبة الخاصّة لا مجرّد الندامة.

نعم قال السيد صاحب الرياض قدّس سرّه: ليس في شي ء منها- أي الروايات- اعتبار التوبة كما هو ظاهر الجماعة و لعلّ اتّفاقهم عليه كاف في تقييدها انتهى.

و كيف كان فالمتيقّن هو الاكتفاء بما إذا كانت مع الإقرار التوبة. فإذا شكّ في جواز العفو بدون التوبة فمقتضى الإكتفاء بالقدر المتيقّن عدم جواز ذلك.

و إن شئت فقل: إنّه مع إقراره و توبته كان الإمام مخيّرا فمع عدم توبته يشكّ في جواز العفو و من المعلوم أنه لم يكن العفو واجبا حتى مع ثبوت توبته فكيف بما إذا لم يكن قد تاب، و على هذا فالاحتياط هو إجراء الحدّ لاحتمال وجوبه بخصوصه و لا مورد للتمسّك بحرمة إيذاء المؤمن، و في الحقيقة أن الشك بالنسبة إلى العفو راجع إلى الشك في الجواز و الحرمة و أمّا بالنسبة إلى الحدّ فهو راجع الى الشك في الجواز و الوجوب و الاحتياط يقتضي اختيار الحدّ هذا.

هل التخيير يختصّ بالإمام؟

ثم إنّه هل هذا التخيير يختصّ بالإمام أو يعم الإمام و غيره؟.

قال في الرياض: و ظاهره- أي خبر تحف العقول- كباقي النصوص و الفتاوى قصر التخيير على الإمام فليس لغيره من الحكّام، و عليه نبّه بعض الأصحاب و احتمل بعض ثبوته لهم أيضا و فيه إشكال و الأحوط إجراء الحدّ أخذا بالمتيقّن لعدم لزوم العفو انتهى.

أقول: إذا كان المراد من الغير هو الحاكم الجامع للشرائط فإلحاقه بالإمام غير بعيد.

نعم لو كان المراد به الأعمّ منه و من غيره فيشكل الإلحاق، و الاحتياط يوجب إقامة

الحدّ و ذلك لأن العفو ليس بلازم حيث إنّه قد تقدّم و تحقّق أنه مع إقراره و توبته يتخيّر الإمام بين إقامة الحدّ و العفو عنه، فهنا نشك في هذا التخيير

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 70

و في جواز العفو و الأصل عدمه.

بما ذا يثبت السحق؟

بقي الكلام هنا في أن السحق يثبت بما ذا و قد قال صاحب الجواهر بعد تقريره تخيير الإمام: بل هي أيضا مثلهما في الثبوت بالإقرار أربعا قطعا و بشهادة الأربع رجال بل كاللواط في عدم الثبوت إلّا بشهادة الرجال خاصّة للأصل و غيره إلخ.

يعني كما أن السحق تكون كالزنا و اللواط في تخيير الإمام عند الإقرار، و التوبة، كذلك تكون مثلهما في الإثبات بالإقرار أربعا.

و قد ذهب إلى ذلك غيره من العلماء.

قال في كشف اللثام (عند قول العلّامة: و يثبت بشهادة أربعة رجال لا غير):

خلافا لابني زهرة و حمزة و قد مرّ في القضاء (ثمّ قال): و اشتراط هذا العدد مجمع عليه في الظاهر (ثمّ قال):

و يدلّ عليه قوله تعالى وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ «1» و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ. «2».

و قد جعل رحمه اللّه الفاحشة في الآية الأولى أعمّ من الزنا و غيرها ممّا يناسبها و يلحق بها.

و هذا خلاف ما هو الظاهر من بعض التفاسير ففي تفسير الصافي للكاشاني رحمة اللّه عليه: قيل: الفاحشة: الزنا سمّي بها لزيادة قبحها و شناعتها انتهى.

و لم أقف بعد على ورود ذلك في الروايات الشريفة.

و كيف كان فقد خالف في ذلك المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه و ذهب إلى كفاية

______________________________

(1) سورة النساء الآية 15.

(2) سورة النور الآية 4.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 71

الإقرار مرّتين في إثبات السحق.

أقول: و ما أفاده ليس ببعيد و ذلك لظهور الآيتين في الزنا لا الأعم منها و ممّا يلحق بها و كأنه قيل في الآية الأولى: و اللّاتي يأتين الزنا من نساءكم و في الآية الثانية وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ، بالزنا.، و إذا لم يكن دليل على اعتبار الأربع في المقام فلا محالة يرجع إلى عموم أدلّة الشاهدين كقوله تعالى:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ «1» و غير ذلك و على هذا فيكتفى في إثبات السحق بشهادة شاهدين.

هذا بالنسبة إلى الشهادة، و أما بالنسبة إلى الإقرار فيكفي الإقراران في إثبات ذلك- لأنه بحكمها- بل يمكن يقال بكفاية الإقرار الواحد.

حكم الأجنبيتين في إزار واحد

قال المحقق: و الأجنبيّتان إذا وجدتا في إزار مجرّدتين عزرت كلّ واحدة دون الحدّ.

أقول: البحث هنا هو البحث في اضطجاع الرجلين تحت إزار واحد كما صرّح بذلك في المسالك.

و في الجواهر: و مقتضاه أن المشهور حينئذ من ثلاثين إلى تسعة و تسعين انتهى. (و قد مرّ أن مقتضى الجمع بين خبر سليمان بن هلال و خبر معاوية بن عمّار ذلك أي ما بين الثلاثين إلى تسعة و تسعين).

و اختار ذلك شيخ الطائفة قدّس سرّه في النهاية و ابن البرّاج: و إذا وجدت امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما و ليس بينهما رحم و لا أحوجهما إلى ذلك ضرورة من برد و غيره كان على كلّ واحدة منهما التعزير من ثلاثين سوطا

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 72

إلى تسعة و تسعين حسب ما يراه الإمام أو الوالي. «1»

لكن قال الشيخ في أشربة الخلاف: لا يبلغ بالتعزير حدّا كاملا بل يكون

دونه و أدنى الحدود في جنية الأحرار ثمانون فالتعزير فيهم تسعة و سبعون جلدة و أدنى الحدود في المماليك أربعون و التعزير فيهم تسعة و ثلاثون. «2»

و ظاهر عبارته أنه قائل بذلك في مطلق الحدّ و أيّ حدّ كان في حين صرّح البعض «3» بأنه إذا كان الموجب للتعزير ممّا يناسب الزنا و نحوه ممّا يوجب مأة جلدة فالتعزير فيه دون المائة و إن كان ممّا يناسب شرب الخمر أو القذف ممّا يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين.

و قد حمل ابن إدريس رضوان اللّه عليه كلام الشيخ في أشربة الخلاف على ذلك و جعل الملاك هو الحدّ الكامل الذي هو المائة فالتعزير مطلقا دونه و قد عدّ ما يظهر ممّا ذكره الشيخ، من أقوال المخالفين و اجتهاداتهم و قياساتهم قال:

و الذي يقتضيه أصول مذهبنا و أخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحدّ الكامل الذي هو المائة أي تعزير كان سواء كان ممّا يناسب الزنا أو القذف و إنّما هذا الذي لوّح به شيخنا، من أقوال المخالفين و فرع من فروع بعضهم و من اجتهاداتهم و قياساتهم الباطلة و ظنونهم العاطلة انتهى [1].

و كيف كان فمقتضي الجمع بين الأخبار هو الحكم بتعزير هما من ثلاثين إلى تسعة و تسعين، و الاختيار فيهما و ما بينهما إلى الحاكم.

______________________________

[1] السرائر ج 3 ص 466، أقول: و قد ردّ عليه العلّامة في المختلف ص 766 بقوله: و أمّا ما ذكره الشيخ من تقدير التعزير فهو جيّد حسن لأنا لا نبلغ بما يناسب الفعل، و يقرب منه، و ليس به حدّ ذلك الفعل و حاشا شيخنا أن يقلّد غيره من علمائنا فكيف من لا يعتقد صحّة مذهبه الى آخر كلامه زيد

في علو مقامه فراجع.

______________________________

(1) النهاية ص 707 و المهذّب ج 2 ص 533، و اللفظ للشيخ.

(2) الخلاف ج 3 كتاب الأشربة مسئلة 14.

(3) كأبي الصلاح الحلبي فراجع الكافي ص 420.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 73

و أمّا ما ورد في بعض الروايات من تعزير هما بما دون الأربعين كما في رواية حمّاد بن عثمان «1» أو بالعشرة إلى العشرين كما في رواية إسحاق بن عمّار [1] فهي معرض عنها و العامل بها شاذّ.

كما أن ما ورد فيها من أنهما يضربان الحدّ كما في صحيح الحلبي «2» فيمكن أن يراد من الحدّ التعزير فإنّه قد يستعمل في التعزير و قد يستعمل في الأعمّ من الحدّ و التعزير و على الجملة، فإطلاق الحدّ هنا من باب المجاز.

هذا كلّه إذا صدر ذلك مرّة فلو تكرّر ذلك فإليك حكمه:

حكم وقوع هذا العمل مرارا

قال المحقّق: و إن تكرّر الفعل و التعزير مرّتين أقيم عليهما الحدّ في الثالثة فإن عادتا

قال في النهاية: قتلتا و الأولى الاقتصار على التعزير احتياطا في التهجّم على الدماء.

و في الجواهر (بعد قول المصنّف: في الثالثة): بلا خلاف أجده إلّا ما يحكى عن ظاهر الحلّي من القتل فيها لأنه كبيرة و كلّ كبيرة يقتل فاعلها في الثالثة بعد تخلّل الحدّ أو التعزير أقول: قال ابن إدريس بعد الحكم بتعزير الامرأتين اللّتين وجدتا في إزار واحد: فإن عادتا إلى مثل ذلك نهيتا و أدّبتا فإن عادتا ثالثة أقيم عليهما الحدّ كاملا مأة جلدة على ما روى.

ثمّ قال: أورده شيخنا في نهايته و قال: فإن عادتا رابعة كان عليهما القتل.

______________________________

[1] مستدرك الوسائل ج 18 ص 194 ب 6 من أبواب بقية الحدود ح 2: قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام

عن التعزير، قلت: كم هو؟ قال: ما بين العشرة إلى العشرين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 74

ثمّ قال: قال محمد بن إدريس: إنّ قتلهما في الرابعة لقولهم عليهم السلام:

أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة و الصحيح أنّهم يقتلون في الثالثة انتهى «1».

فمستند ابن إدريس القائل بالقتل في الثالثة بعد تحقق التعزير مرّتين خبر يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «2».

نعم قد خرج عن ذلك باب الزنا لرواية أبي بصير قال: قال: أبو عبد اللّه عليه السلام: الزاني إذا زنا يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة، يعني يجلد ثلاث مرّات «3».

و قد قال الشيخ: الأوّل مخصوص بغير الزنا.

و على هذا ففي غير الزنا يحدّ أو يعزّر في المرّة الأولى و كذا الثانية ثمّ في الثالثة يقتل.

لكن الشيخ في النهاية صرّح في المقام بتعزيرهما ثلاثا ثمّ قتلهما في الرابعة «4» و وافقه في ذلك ابن البرّاج و كذا العلّامة في المختلف.

و مستنده في ذلك أمران:

إحداهما رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلّا و بينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحد جلدتا كلّ واحد منهما حدّا حدّا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدّتا فإن وجدتا الرابعة قتلتا «5».

ثانيهما أنه كبيرة و كلّ كبيرة يقتل بها في الرابعة.

و لكن فيه أن الرواية مع ضعف سندها لا تنطبق على ما ذكره كاملا فإنّ

______________________________

(1) السرائر ج 3 ص 467.

(2) وسائل

الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

(4) النهاية ص 707.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب الزنا ح 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 75

مقتضاها هو أنه لا شي ء في المرّة الأولى سوى النهي إلّا أن يحمل على صورة الجهل بالحكم، و يبقى مع ذلك التعبير بالحدّ بالنسبة إلى المرّة الثانية و الثالثة و الحال أنه لا يقول بالحدّ بل هو قائل بالتعزير اللهم إلّا أن يراد من الحدّ التعزير و بعد ذلك كلّه يكون الحكم بالقتل بحسب ذلك في المرّة الثالثة لأن المرّة الأولى لم تكن مقتضية للتعزير على ما تقدّم من الحمل على صورة الجهل و أين ذلك من القتل في الرابعة الذي يقول به.

و امّا الاستدلال الثاني ففيه ما أفاده في المسالك من أنه إن أراد مع إيجابها الحدّ فمسلّم لكن لا يقولون به هنا و إن أراد مطلقا فالظاهر منعه و من ثمّ اختار المصنف الاقتصار على التعزير مطلقا و هو الأوجه إن لم نقل بالحدّ كما اختاره الصدوق و إلّا كان القول بقتلهما في الثالثة أو الرابعة أوجه انتهى.

أقول: و لا يخفى عليك ما في نسبة المسالك إلى المحقّق من الإشكال و ذلك لأنه نسب إليه اختيار الاقتصار على التعزير مع أنه قدّس سرّه صرّح بالحدّ في الثالثة.

و قد تعرّض صاحب الرياض لذكر الدليلين ثمّ تنظّر فيهما لما ذكره في المسالك ثمّ قال: و من ثمّ اختار الفاضلان و الشهيدان و أكثر المتأخرين كما في المسالك الاقتصار على التعزير مطلقا إلّا في كل ثالثة فالحدّ و لا ريب أنه أحوط

انتهى.

نعم أورد على صاحبي. المسالك و الرياض، في الجواهر بقوله: و فيه أوّلا إنّ المتّجه بناءا على ما ذكراه القتل في التاسعة أو الثانية عشر لتخلّل الحدّ حينئذ لا أن الحكم كذلك مطلقا و ثانيا قد سمعت الصحيح و معقد الإجماع الدّالين على قتل أصحاب الكبائر في الثالثة.

ثم قال: نعم يقال في المقام بالرابعة إلحاقا له بالزنا و احتياطا في الدماء.

أقول: فاللازم هنا البحث في أن المراد من قتل أصحاب الكبائر بعد إجراء الحدّ عليهم مرّتين مثلا هل هو الحدّ المصطلح و خصوصه أو المراد منه الأعمّ منه و من التعزير.

قال في المسالك: مقتضى الحكم بالتعزير عدم الحكم بالقتل مطلقا و إليه ذهب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 76

أكثر المتأخرين انتهى.

و على هذا فتصل النوبة إلى البحث في أنه يعتبر التعاقب في الحدّ مرّتين أو ثلاث مرّات بحيث لو حصل الانفصال لا يجوز القتل أو أنه يكفى في القتل إجراء الحدّ مرّتين أو ثلاث مرّات مطلقا؟.

و الظاهر هو الثاني و عليه فيتحقّق في كلّ ثلاث مرّات من وقوع الفعل حدّ واحد مسبوق بتعزيرين فيكفي في الحكم بالقتل إجراء الحدّ عليهما ثلاث مرّات مثلا و إن لم تكن متعاقبة بل وقع كلّ منهما عقيب تعزيرين.

و امّا القول بتعزيره في المرّة الأولى و الثانية و إقامة الحدّ عليه في الثالثة مطلقا بلغ ما بلغ و مهما تكرّر منه الجرم، فهو خلاف الظاهر جدّا و هو يفضي إلى أن لا يقتل أصلا مهما أتى بهذا الفعل الشنيع و المعصية العظيمة.

و الإجماع المذكور في خبر أبي خديجة و إن كان يقتضي الحكم بعدم القتل لأن الأصل عدم جوازه، و الاحتياط أيضا يقتضي ذلك إلّا أن الروايات

الدّالة على قتل مرتكب الكبيرة في المرّة الثالثة، أو الرابعة كما في باب الزنا يوجب الحكم بالقتل في المقام.

نعم لا يبعد الحكم بذلك في الرابعة و التأخير في قتله إليها و إن قلنا بالقتل في الثالثة في سائر المعاصي و المحرّمات، و ذلك لأنه لا يقتل في الزنا إلّا في الرابعة و بعد أن أجرى عليه الحدّ ثلاث مرّات فكيف يقال في المقام بالقتل في الثالثة و الحال أنه لم يكن شي ء سوى كونهما تحت لحاف واحد.

و لعلّ نظر الشيخ قدّس سرّه من الحكم بقتلهما في الرابعة هو إلحاقه بالزنا و إن كان قد يورد عليه بأنه قياس مع الفارق و لكنّ الإنصاف أن الحكم بالقتل في الزنا في الرابعة، و في المقام في الثالثة بعيد.

فتحصّل أنه يحكم بقتلهما بعد ارتكاب هذا العمل اثنى عشر مرّة و بعد أن عزّرا في المرّتين الأوليين من كلّ ثلاث و حدّا في كلّ ثالثة من الثلاثة الأولى و الثانية و الثالثة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 77

الكلام في عدم جريان الكفالة في الحدّ

اشارة

قال المحقّق قدّس سرّه: مسألتان:

[الأولى: لا كفالة في الحدّ و لا تأخير فيه]

الأولى: لا كفالة في الحدّ و لا تأخير فيه مع الإمكان و الأمن من توجّه الضرر و لا شفاعة في إسقاطه.

أقول: قد ذكر قدّس سرّه في المسألة الأولى ثلاثة من أحكام الحدّ أوّلها أنه لا كفالة فيه.

و الكلام هنا في علّة ذلك و وجهه. فقال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك بعد التصريح بفورية وجوب الحدّ عند ما ثبت موجبه: و من ثمّ لم يجز فيه الكفالة لأدائها إلى تأخيره و هو غير جائز مع إمكان تعجيله انتهى و ردّ عليه صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه فقال عند توجيه عدم الكفالة في الحد: لا لأدائه إلى التأخير إذ قد يكون العذر حاصلا في تأخيره بل للحسن أو الصحيح عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا كفالة في حدّ، و نحوه عن أمير المؤمنين عليه السلام انتهى.

فقد علّل هو بورود النصوص و وجّه ذلك بالتعبّد.

و تظهر الثمرة في أنه على الأوّل لو كان هناك عذر يمنع عن التعجيل فإنّه يقبل الكفالة حينئذ لجواز التأخير. بخلاف ما لو كان العلّة هو النصّ فإنّه لا يجوز الكفالة أصلا.

قال بعض معاصرينا قدّس اللّه روحه عند بيان عدم الكفالة في الحدّ: و هذا الكلام يمكن أن يراد منه أنه لا تقبل كفالة أحد إذا لزم الحدّ للزوم تأخير الحدّ فإذا فرض لزوم التأخير كما لو لزم إرضاع ولد بحيث يموت الولد مع ترك الأمّ الإرضاع، و من استحقّ الحدّ يمكن أن يهرب بحيث لا يمكن إجراء الحدّ عليه فإن كان النظر إلى هذا فلا بدّ من التقييد و هذا كما يقال: لا يجوز تأخير الحدّ فمع جواز التأخير

لا مانع من الكفالة.

ثم قال: و يمكن أن يكون المراد أنه لا يصحّ الكفالة وضعا بحيث لو تعهّد الكفالة لا يصحّ و على هذا يكون الكفالة باطلة نظير البيع الغرري و على الأوّل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 78

يكون نظير البيع وقت النداء يوم الجمعة «1».

أقول: الظاهر أنه لا يمكن حمل الكلام على الوجه الأوّل لأنه نظير: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب الذي معناه أنه إذا كان جميع أجزاء الصلاة و شرائطها موجودة فهناك لا تتحقق الصلاة إلا بفاتحة الكتاب و لا يشمل الصلاة الباطلة مع قطع النظر عن قراءة فاتحة الكتاب و عدمها فيها ففي المقام لا معنى للكفالة في الحدّ الفوري و عند ما لم يكن التأخير جائزا لعذر من الأعذار فإنّه لا بدّ حينئذ من إجراء الحدّ بالفور و إنّما يجري بحث الكفالة فيما كان يجوز التأخير، فهنا الذي يتصوّر فيه الكفالة يقال: لا كفالة في الحدّ بمعنى عدم صحّتها لا حرمتها، فإذا جاز التأخير و لم يجب الفور فهنا و إن كان يتصوّر الكفالة بأن يتعهّد الكفيل إحضاره في الوقت الخاص لكن تبطل هذه الكفالة شرعا لعدم مشروعيّة الكفالة في الحدود.

و بعبارة أخرى معنى العبارة الشريفة أن الكفالة المشروعة في سائر الموارد غير مشروعة في الحدّ.

و لعلّ الوجه في عدم جريان الكفالة في باب الحدود و سرّه أن لازم الكفالة و مقتضاها هو جواز استيفاء الحقّ من الكفيل مع عدم إمكان استيفائه من المكفول له و هذا لا يمكن في باب الحدود لأنه لا يحدّ أحد بمعصية غيره و إنّما يتحقّق ذلك في باب الأموال و لذا ترى أنه لا كفالة في القتل و تكون في الدية.

و الحاصل

أنه يتعيّن الوجه الثاني من الوجهين و هو عدم مشروعيّة الكفالة في الحدّ الذي لو لا الدليل لصحّت فيه الكفالة و ليس هو إلّا الحدود المؤجلة.

ثمّ إنّه لو كان الحدّ شاملا للتعزير أيضا كما هو الظاهر فالأمر واضح، و أما لو قلنا بأنّ المراد من الحدّ هو الحدّ المصطلح و اختصاصه بالحدّ المخصوص أعني غير التعزير فحينئذ نقول: إنّ المناط في كليهما واحد فكما لا يجوز و لا يمكن أن يقام الحدّ على الكفيل كذلك لا يمكن ان يعزّر الكفيل و على هذا فلا يجوز الكفالة

______________________________

(1) جامع المدارك الطبع الأوّل ج 7 ص 87 و 88.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 79

في التعزير.

عدم جواز التأخير في الحدّ

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الأوّل أعني عدم جواز الكفالة.

و أمّا الحكم الثاني أي عدم جواز التأخير فنقول: إن التأخير في الحدّ غير جائز و ذلك للنهي عنه.

ففي رواية عمران أو صالح بن ميثم عن أبيه في حديث طويل: إنّ امرأة أتت أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّت عنده بالزنا أربع مرّات قال: فرفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات و إنّك قد قلت لنبيّك صلّى اللّه عليه و آله فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادّتي «1» و عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السلام في حديث قال: ليس في الحدود نظر ساعة «2».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام قال: إذا كان في الحدّ لعلّ أو عسى فالحدّ معطّل. «3»

و هل يختص عدم الجواز بما إذا كان على نحو يصدق عليه التعطيل؟

قال في الجواهر: و كذا لا تأخير فيه على وجه يصدق عليه التعطيل انتهى.

و لكن الظاهر أنه غير جائز مطلقا و إن فرض عدم صدق ذلك عليه بل مجرّد الإمهال غير جائز (كما هو مقتضى الرواية الثانية) لو لم نقل بأن الإمهال أيضا نوع من التعطيل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب مقدّمات الحدود ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 80

ثمّ إنّه يستثني من ذلك ما إذا لم يمكن التعجيل أو لم يكن هناك أمن من الضرر، و ذلك كالمرض و الحبل فإنّه لا بد معهما من التأخير الحدّ إلى أن يبرأ أو تضع حملها.

ثمّ إنّ كون الاختيار بيد الإمام في بعض الموارد كما إذا ثبت بالإقرار فله العفو و الإقامة قد يوجب توهّم جواز التأخير له.

و فيه عدم ملازمة بين كون الاختيار بيده و أن لا يجوز له التأخير في ذلك فعليه أن يختار واحدا من الأمرين فورا.

عدم جواز الشفاعة في الحدّ

الثالث أنه لا شفاعة في إسقاط الحد.

و قد استدلّ على ذلك بوجهين:

أحدهما أن استيفائه حقّ واجب على الإمام و من ثمّ لم تجز فيه الشفاعة لأنه لا يشفع إلّا فيما هو حقّه- كذا في المسالك.

أقول: و على هذا فلو فرض في مورد كون الأمر بيد الإمام و أنه جاز له العفو كما في غير مورد ثبوته بالبيّنة فلا بدّ من جواز ذلك هناك.

ثانيهما الروايات:

فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان لأمّ سلمة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمة فسرقت من قوم

فأتى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكلمّته أم سلمة فيها فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا أم سلمة هذا حدّ من حدود اللّه لا يضيع فقطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1» و عن مثنى الحناط عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لأسامة بن زيد: لا يشفع في حدّ «2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 81

و عن سلمة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أسامة بن زيد يشفع في الشي ء الذي لا حدّ فيه فأتى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع له أسامة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تشفع في حدّ. «1»

و عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يشفعنّ أحد في حدّ إذا بلغ الإمام فإنّه لا يملكه و اشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الندم و اشفع عند الإمام في غير الحدّ مع الرجوع من المشفوع له و لا يشفع في حقّ امرئ مسلم و لا غيره إلّا بإذنه. «2»

و ظاهر هذه الأخبار أنه لا أثر للشفاعة في باب الحدود مطلقا و أن الحد ممّا لا يقبل الشفاعة.

و لو كان المراد هو التحريم فهو أيضا كاف في إثبات المطلوب لأنه كيف يترتّب الأثر على ما هو حرام؟

نعم ربما يستظهر من التعليل الوارد في خبر السكوني: (فإنّه لا يملكه) أنه لا

شفاعة فيما ليس له العفو و ليس هو مالكا للحدّ و أمّا إذا كان مالكا له كما إذا ثبت الحد بالإقرار فهناك لا بأس بالشفاعة فيه.

فالأمر يدور بين تخصيص الروايات السابقة الدالّة على أنه لا شفاعة في حدّ بأن يقال: لا يشفع في حدّ إذا لم يكن الإمام مالكا للعفو و الإقامة، أو يؤخذ بالنكرة في سياق النفي و يوجّه التعليل الوارد في المقام بأنه لا يملك الشفاعة و إن كان مالكا للعفو.

و على الجملة فالإشكال الوارد في المقام هو أن العلّة ليست صريحة في عدم ملكه للعفو كي يقال: بأنه إذا كان مالكا للعفو يجري حينئذ الشفاعة، فلعلّ المراد أنه لا يشفعنّ أحد فإنّ الإمام ليس مالكا لذلك أي لقبول الشفاعة و لا بعد أصلا في إرادة هذا المعنى، و بناءا عليه فيقدّم النكرة في تلو النفي و يحكم بأنه لا أثر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 82

للشفاعة في باب الحدود.

قال في الجواهر: قد يقال: إنّ مقتضى التعليل المزبور جواز الشفاعة فيه في مقام التخيير له إلّا أن إطلاق الأصحاب ينافيه انتهى.

المسألة الثانية في المرأة التي وطئها زوجها فساحقت بكرا فحملت

قال المحقّق: لو وطئ زوجته فساحقت بكرا فحملت قال في النهاية على المرأة الرجم و على الصبية جلد مأة بعد الوضع و يلحق الولد بالرجل و يلزم المرأة المهر.

أقول: إذا جامع الرجل زوجته ثم ساحقت هذه المرأة بكرا فحملت البكر من مائها الذي كان من الزوج فهناك أحكام:

أحدهما أنه ترجم المرأة و العلّة في ذلك أنها محصنة فإنّ المفروض أن زوجها قاربها عن قريب و

قد تقدّم أن الشيخ قال في باب السحق بأنه ترجم مع الإحصان و تحدّ مع عدمه.

ثانيها أنه تجلد الصبيّة مأة جلدة، و وجهه أن المفروض رضاها بذلك فتجلد مأة كما هي حدّها و المفروض انّها بكر لا زوج لها، نعم يؤخّر حدّها الى أن تضع حملها.

ثالثها أنه يلحق هذا الولد بالرجل صاحب الماء و ذلك لأنه قد تكوّن و نشأ منه.

رابعها أنه يلزم المهر للبكر على المرأة المساحقة.

ذهب إلى ترتّب هذه الأحكام الأربعة شيخ الطائفة في النهاية.

و يدل على ذلك صحيح محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السلام يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم فقالوا يا أبا محمّد أردنا أمير المؤمنين. قال: و ما حاجتكم؟ قالوا أردنا أن نسأله عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا امرأة جامعها زوجها فلمّا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 83

قام عنها قامت بحمومتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة و أبو الحسن لها و أقول، فإن أصبت فمن اللّه و من أمير المؤمنين و إن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنها محصنة و ينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحدّ قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام، فلقوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد و ما قال

لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسئول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني «1» و قد عمل بها الشيخ و أتباعه و لعلّ المسالك أيضا يرتضيه. و قد وافقه المحقّق قدّس سرّه في ثلاثة من هذه الأحكام و خالف في واحد منها و هو الرجم و إليك نصّه في البحث الآتي:

رأي المحقّق و ابن إدريس حول المسألة

قال المحقّق: امّا الرجم فعلى ما مضى من التردّد و الأشبه الاقتصار على الجلد و أمّا جلد الصبية فموجبه ثابت و هو المساحقة و أمّا لحوق الولد فلأنّه ماء غير زان و قد انخلق منه الولد فيلحق به و أمّا المهر فلأنّها سبب في إذهاب العذرة، و ديتها مهر نسائها و ليست كالزانية في سقوط دية العذرة لأن الزانية أذنت في الافتضاض و ليست هذه كذلك. انتهى.

أقول: و ابن إدريس خالف في المسألة و ردّ الأحكام كلّها عدا إثبات الجلد على البكر نظرا إلى وجود مقتضيه و هو المساحقة قال رحمة اللّه عليه: فإن عضد هذه الرواية دليل من كتاب أو سنّة متواترة أو إجماع و إلّا السلامة التوقّف فيها

______________________________

(1) (چ) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ السحق ح 1، و راجع أيضا ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 84

و ترك العمل بها و النظر في دليل غيرها لأنا قد قلنا إنّ جلّ أصحابنا لا يرجمون المساحقة سواء كانت محصنة أو غير محصنة و استدللنا على صحة ذلك فكيف توجب على هذه الرجم، و إلحاق الولد بالرجل، فيه نظر يحتاج إلى دليل قاطع لأنه غير مولود على فراشه و الرسول عليه السلام قال: الولد للفراش، و هذه ليست بفراش للرجل لأن الفراش عبارة في الخبر عن

العقد و إمكان الوطي و لا هو من وطئ شبهة بعقد الشبهة، و إلزام المرأة المهر أيضا فيه نظر، و لا دليل عليه لأنّها مختارة غير مكرهة و قد بيّنا أن الزاني إذا زنا بالبكر الحرّة البالغة لا مهر عليه إذا كانت مطاوعة، و البكر المساحقة هاهنا مطاوعة قد أوجبنا عليها الحدّ لأنّها بغيّ، و النبيّ عليه السلام نهى عن مهر البغي فهذا الذي يقال على هذه الرواية فإن كان عليها دليل غيرها من إجماع و غيره فالتسليم للدليل دونها، فليلحظ ما نبّهنا عليه و يتأمّل و لا ينفي في الديانة أن يقلّد أخبار الآحاد و ما يوجد في سواد الكتب انتهى «1».

و يؤل كلامه و إيراداته إلى إيرادين:

الأوّل أن الرواية من قبيل أخبار الآحاد الّتي لا يعمل بها.

الثاني أن الرواية على خلاف مقتضى القواعد فإنّ الحكم في السحق هو الجلد مطلقا دون الرجم و إن فصل الشيخ قدّس سرّه بين المحصنة و غيرها فأوجب الرجم في الأولى، و هذه الرواية تتضمّن الحكم بالرجم.

أمّا الأوّل فهو ممّا يقول به على خلاف المشهور.

و أمّا اشتمال الرواية على خلاف مقتضى القواعد فأمّا حكم السحق فهو و إن كان الجلد دون الرجم على ما عليه جلّ الأصحاب إلّا أنه لا يرد إشكال لو قيل هنا بالرجم بمقتضى الرواية بعد البناء على العمل بخبر الواحد فإنّ هذه مخصّصة للروايات الدالّة على أن حدّ السحق هو الجلد و إن كان هذا خلاف ظاهر العموم، لكن يقال به عملا بهذه النصوص و جمعا بينها و بين ما تقدّم من الدليل

______________________________

(1) السرائر ج 3 ص 465.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 85

على عدم رجم المساحقة مطلقا كما ذكره في

الرياض.

سلّمنا أن هذه الجملة غير معمول بها، و أنه لا بدّ من الأخذ بروايات الجلد في السحق و ترجيحها على رواية الرجم و لكن هذا لا ينافي العمل بباقي فقرأتها، و عدم العمل بقطعة من الرواية لا يضرّ بما سواها منها.

و الإنصاف أن احتمال العمل بتلك الرواية في خصوص المورد لإيجابه حمل البكر، يدفعه اشتمالها على التعليل المقتضي تسرية الحكم إلى كلّ محصنة.

و أمّا ما أورده من عدم إلحاق الولد بالرجل معلّلا بأنه ليس مولودا على فراشه كي يلحق به ففيه أنه مخلوق من مائه و متكوّن من نطفته و لم يكن هو بزان فيلحق به شرعا كما يلحق به لغة و عرفا، فإن ولد الرجل فيهما هو من تكوّن من مائه مطلقا و إن كان من زنا غاية الأمر أن الشارع الأقدس نفى ولدية المتكوّن من زنا في قسم من الأحكام كالإرث مثلا دون المحرميّة و حرمة النكاح.

و أمّا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الولد للفراش فهو لا يفيد النحصار بل هو لبيان حكم ما إذا كان هناك شبهة بأن يتردّد الولد بين شخصين فلا يفيد أن المتكوّن في غير الفراش ليس بولد.

و على الجملة فخروجه بدوا من بين الصلب و الترائب يقتضي إلحاقه بالرجل فإنّه منشأ حياته و تكوّنه و ليس المقام من باب الزنا كي لا يلحق به شرعا.

و أمّا عدم الإلحاق بالأب في باب الحيوانات فهو أمر عرفي لا يتعلّق ببحثنا.

و استشكل صاحب الجواهر قدّس سرّه في إلحاقه به بقوله: إنّ ذلك لا يكفي في لحوق الولد شرعا ضرورة كون الثابت من النسب فيه الوطي الصحيح و لو شبهة و ليس هذا منه و ليس مطلق التولّد

من الماء موجبا للنسب شرعا ضرورة عدم كون العنوان فيه الخلق من مائه و الصدق اللغوي بعد معلوميّة الفرق بين الإنسان و غيره من الحيوان بمشروعيّة النكاح فيه دونه بل المراد منه تحقّق النسب. إلى آخر كلامه.

و فيه أن هذا خلاف اللغة و العرف بل و ما هو المستفاد من الروايات فإنّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 86

النسب يحصل من الماء و لا مدخليّة للوطي فيه، و لذا لا خلاف في أنه إذا لا عب الرجل زوجته فسبق الماء و حملت من ذلك بدون وطي فإنّ الولد ملحق به، مع أن الماء قد حصل في المقام من الوطي الصحيح و إنّما المرأة عصت في نقله إلى رحم البكر و إلحاق الولد بالصّبية.

و هكذا بالنسبة إلى السؤال الوارد علينا و الذي يستفتوننا فيه و لعلّه واقع الآن أو أنه سيقع في القابل من الأزمان و هو أنه إذا أخذت نطفة الرجل و جعلت في ظروف مساعدة مناسبة كالمكائن و المصائع الخاصّة تحت حرارة لازمة كحرارة الرحم فتكونّ منها ولد، فهل لا يكون هذا الولد ملحقا بصاحب النطفة! [1] قال قدّس سرّه: و من ذلك يظهر الإشكال في لحوق ولد المكرهة بها إذا لم يثبت كون ذلك من الشبهة شرعا.

يعنى ممّا ذكرنا من عدم كفاية مجرّد التكوّن من الماء في صدق الولد و اعتبار تحقّق النسب يظهر الإشكال في الحكم بلحوق ولد المكرهة على الزنا بها إذا لم يثبت كون وطيها من الشبهة بحسب الشرع فإنّه إذا أكره رجل امرأة على الوطي بتصوّر أنّها زوجته ثمّ بان أنها كانت أجنبيّة فحيث كان الوطي شبهة لا يرد إشكال في لحوق الولد بها لمكان الشبهة بخلاف

ما إذا أكرهها و لم يكن هناك شبهة فإنّه لا وجه للحوق الولد بالمرأة بعد أن كان الأب زانيا و الأمّ مكرهة و ذلك لعدم الفراش الشرعي و لا الشبهة.

و فيه أنه لا وجه للإشكال هنا أيضا بعد صدق الولد لغة و عرفا نعم لا يلحق بالأب شرعا كما مرّ لمكان الزنا.

ثم قال: كما أن من ذلك يظهر لك أن المتجه عدم لحوقه بالصبيّة و إن لم تكن زانية كما في المسالك بل في القواعد: إنه الأقرب، بعد الإشكال فيه و كأنّ وجهه

______________________________

[1] بل صرّح بعض بأنه لو صبّ ماء الرجل بعد الوطي، من رحم زوجته ثم اجتذبه رحم امرأة أخرى و تكوّن منه ولد فهو منتسب إلى هذا الرجل و المرأة الثانية دون الواسطة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 87

ممّا عرفت و من صدق عدم الزنا، مع الولادة و لا دليل على كونه بحكمه في ذلك أيضا كما هو واضح نعم لا إشكال في عدم لحوقه بالكبيرة لعدم الولادة.

أقول: يرد عليه إنّ انتفاء الوطي عن عقد صحيح ليس موجبا لعدم إلحاق الولد بالصبية مع تولّده منها فإنّ اللّه تبارك و تعالى الحق عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام بمريم و آبائها و أورثه منهم مع أنه لا عقد هناك و لا وطئ و لا ماء منهم فإنّه قد تكوّن بإرادة اللّه تبارك و تعالى كما قال اللّه سبحانه فَنَفَخْنٰا فِيهٰا مِنْ رُوحِنٰا «1» و مع ذلك فانتسب في لسان الوحي و غيره إلى مريم و عدّه اللّه و جعله من ولد الأنبياء و ورثتهم بمجرّد خلقه في رحم مريم بمشيّة اللّه تعالى و إرادته.

و على الجملة فالظاهر أنه لا

إشكال في إلحاق الولد و أن مجرّد تكوّن الولد في رحم امرأة و بطنها كاف في نسبته إليها و إلحاقه بها. ففي المقام يلحق بالبكر و ينتسب إليها خصوصا بلحاظ إمكان تهييج منيّها و دخلها في تكوّن الولد مضافا إلى تكونه في جوفها و الحاصل أن ما اختاره في الرياض من إلحاقه بالصبية لا إشكال فيه.

نعم ما أفاده من عدم لحوقه بالكبيرة صحيح و ذلك لأنه لم يتولّد منها و إنّما كانت هي سببا لتكوّنه و تولّده.

اللهم إلّا أن يكون لمائها أيضا تأثير في تكوّن الولد و شركتها في تحقّقه بأن يكون الولد متكوّنا من ماء الرجل و ماء الكبيرة المنتقل بالمساحقة إلى البكر و لكن هذا غير معلوم فيرفع.

و قال: إنّها بعد الإذن بوضع النطفة فيها مع فرض علمها بوطي الزوج أو احتمالها لا تستحقّ المهر ضرورة كونها أقوى منها.

و حاصل إيراده أنه لا وجه لإلزام المهر على المساحقة لأن البكر رضيت بذلك فكانت مختارة غير مكرهة، و الزنا بالمختارة لا يوجب المهر و هي كانت عالمة بأنّ المرأة حاملة لماء الزوج و لا أقلّ من أنّها تحتمل ذلك فإذا أذنت و الحال

______________________________

(1) سورة الأنبياء الآية 91.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 88

ذلك فهي بغي و لا مهر لبغيّ.

و فيه أن البكر قد رضيت بالمساحقة لا في الحمل الذي هو سبب لإزالة عذرتها، و لا يقاس المقام بباب الزنا للفرق بينهما و هو أن الزانية رضيت و أذنت في الافتضاض و إذهاب العذرة فلا عوض لها، و هذه لم تأذن في ذلك و إنما رضيت و أذنت في المساحقة و الملاصقة. [1]

و إلى إشكال ابن إدريس نظر المحقّق بقوله في عبارته

الآتية:

رأي بعض المتأخرين

قال المحقّق: و أنكر بعض المتأخّرين ذلك و ظنّ أن المساحقة كالزانية في سقوط دية العذرة و سقوط النسب.

أقول: و قد ظهر الجواب عنه.

ثم إنّه قد أورد صاحب الجواهر على النص- بعد أن أقرّ بأن العمدة حينئذ العمل بالنّص المزبور- بقوله: بل قد يشكل ما فيه أيضا من تعجيل المهر بأنه غرامة قبل تحقّق السبب المحتمل للعدم بالموت و التزويج و نحوه.

يعنى كيف يحكم على الكبيرة بالمهر الآن و معجّلا و الحال أنه غرامة لم يتحقّق سببه و يحتمل أن لا يحصل أصلا بالموت أو تزويجها مثلا و بعبارة أخرى إنّه كالحكم بالقصاص قبل الجناية و ذلك لأن المفروض أنه لم يخرج الحمل بعد فالعذرة باقية فلا مهر و لا غرامة.

و هذا أيضا قابل للدفع لإمكان أن يكون المراد بيان أصل الاستحقاق فيكون تنجزه بالولادة و زوال البكارة كما أنه قدّس سرّه أجاب بذلك أيضا.

و قد تبيّن بما ذكر في المقام أنه ليس في تلك الأحكام ما يخالف القواعد أصلا

______________________________

[1] قال في كشف اللثام: و احتمالها الحمل مع علمها بأن وطئها زوجها أو احتمالها ذلك لا يكفي في الإذن. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 89

و لو فرض كونها خلاف القاعدة فنحن في فسحة بعد ورود النص الصحيح الدّال على ذلك مع عمل الأكثر به.

نعم ابن إدريس رحمه اللّه عليه فهو معذور على حسب مبناه من عدم العمل بأخبار الآحاد.

ثمّ إنّه يتفرّع على الحكم بالإلحاق أي لحوق الولد بالرجل أنه تجب نفقة الصبيّة في مدّة الحمل على هذا الرجل الذي هو زوج المساحقة [1] بناء على أن النفقة للحمل إذا بانت من زوجها.

و يتفرّع عليه أيضا وجوب الاعتداد ما دام الحمل

إلى أن تضع حملها إن تزوّجت بغير زوج الكبيرة.

و من الفروع المتعلقة بالمقام أنه لا يجوز إقامة الحدّ عليها ما دامت حاملا بل تؤخر في الجلد إلى أن تضع و يستغني الطفل. إلى غير ذلك من الفروع و الأحكام، كلّ ذلك لترتّب أحكام الولد كلّها على هذا الحمل كما في الحمل الصحيح و من حملت عن زوجها.

______________________________

[1] قال في كشف اللثام ج 2 ص 229: و النفقة على الصبيّة مدّة الحمل على زوج المساحقة إن قلنا إن النفقة على الحامل إذا بانت من زوجها للحمل و إلّا فلا.

و أقول: راجع الجواهر أيضا ج 31 ص 321.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 90

الكلام في القيادة

اشارة

قال المحقّق: و أمّا القيادة فهي الجمع بين الرجال و النساء للزنا أو بين الرجال و الرجال للّواط.

أقول: و زاد بعض العلماء على العبارة المذكورة: أو بين النساء و النساء للسحق [1].

______________________________

[1] قال السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: فصل في حدّ القيادة: من جمع بين رجل و امرأة أو غلام و بين المرأتين للفجور فعليه جلد خمسة و سبعين سوطا رجلا أو امرأة حرّا أو عبدا مسلما أو ذميّا. الجوامع الفقهيّة ص 622.

و قال ابن سعيد في الجامع ص 557: و يحدّ الجامع بين الرجال و النساء و النساء و الرجال و الغلمان للفجور خمسا و سبعين جلدة رجلا كان أو امرأة عبدا أو حرّا مسلما أو كافرا.

و قال في كشف اللثام (بعد قول العلّامة: القوّاد هو الجامع بين الرجال و النساء للزنا أو بين الرجال و الصبيان للّواط): و بين النساء و النساء للسحق انتهى.

و يقرب من ذلك عبارة صاحب الرياض قدّس سرّه فراجع كما أن علم التقى

الشيخ المرتضى قدّس سرّه قال: القيادة حرام و هي السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطي المحرّم و هي من الكبائر.

أقول: و قد وردت في حرمتها روايات منها ما رواه في الوسائل ج 12 ص 314 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 11 عن كتاب تنبيه الخواطر للشيخ ورّام بن أبي فراس عن النبي صلى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السلام قال: اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنّم يغلي فقلت يا مالك لمن هذا؟ فقال: لثلاثة المحتكرين و المدمنين الخمر و القوّادين.

و منها ما رواه في ج 14 ص 266 ب 27 من أبواب النكاح المحرّم ح 1 عن إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 91

و لكن قال في الجواهر بعد نقل ذلك عن جمع منهم: لم أتحققه لغة بل و لا عرفا انتهى.

و ذلك لأن الظاهر من القيادة هو الدلالة و الوساطة في الزنا.

كما قال في مجمع البحرين: القوّاد بالفتح و التشديد هو الذي يجمع بين الذكر و الأنثى حراما.

و الروايات الدّالة على حرمتها لا تتعرّض لغير الجميع بين الرجال النساء للزنا مثل ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و من قاد بين امرأة و رجل حراما حرم اللّه عليه الجنّة و مأواه جهنّم و ساءت مصيرا و لم يزل في سخط اللّه حتّى يموت «1».

و كذلك ما ورد في حدّ القوّاد و هو خبر عبد اللّه بن سنان [1] الآتي فإنّها لم تتعرّض لبيان ماهيّة القيادة [2] و مجرّد إطلاق القيادة

على الجمع بين الرجل و المرأة لا يفيد النحصار.

و خبر ابن سنان و إن كان مسبوقا بسؤال الراوي عن القوّاد لكن مع ذلك

______________________________

الواصلة و المستوصلة يعني الزانية و القوّادة.

و منها رواية سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر عن القرامل الّتي يضعها النساء في رءوسهنّ يصلن شعورهنّ قال: لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها قال: فقلت له: بلغنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و المستوصلة فقال: ليس هناك إنّما لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الواصلة الّتي تزني في شبابها فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك الواصلة و الموصولة. المكاسب ص 21.

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 429 ب 5 من أبواب حدّ السحق و القيادة ح 1 أقول: و ظاهر هذا الخبر و هو خبر عبد اللّه بن سنان هو حصر القيادة في ذلك فراجع.

[2] أقول: إذا كان ذلك تاما في رواية الصدوق فإنّه لا يتم جدّا في خبر ابن سنان فإنّ ظاهره الحصر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 266 ب 27 من النكاح المحرّم ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 92

يمكن تعرّض الإمام عليه السلام لواحد من أفراده الشائع بين أهل العصيان و هو الجمع بين الرجل و المرأة للزنا كما أنه يمكن إرادة الخصوص.

و لا يخفى أن الحكم في جميع الصور معلوم و هو الحرمة بل لعلّها من الضروريّات كما أن الحكم في القيادة هو الحرمة و الحدّ إلّا أن النزاع في أن الجمع بين الذكرين أو بين الأنثيين أيضا من باب القيادة أم لا؟ و قد علم أن تعميم حكم القوّاد في الفرضين الأخيرين لا يستفاد من الروايات

لعدم تعرّضها لهما.

إذا فلو شكّ في شمول الحكم للموردين فلا يجوز إجراء حكم القيادة أعني الحدّ بل لا بدّ من الحكم بالتعزير.

نعم تمسّك بعض المعاصرين رضوان اللّه عليه في إلحاق الجامع بين الذكر و الذكر، بالأولويّة القطعية «1».

و فيه أن الجزم بالحدّ بالأولويّة مشكل، لأن استفادة حكم الجامع بين الرجلين من حكم الجامع بين الرجل و المرأة- و إن كان اللواط أفحش و آكد حرمة و أشدّ مبغوضيّة- بالطريق الأولى محلّ تأمّل و شبهة و الحدود تدرء بالشبهات.

و حينئذ لم يبق ما يتمسّك به لإثبات الحكم في الموردين إلّا أن يكون هناك إجماع فإن كان فيحكم بتساوي الموارد في هذا الحكم أعني الحدّ و إلّا فلا بدّ من الحكم بالتعزير فيهما.

و لعلّ الإجماع قائم على وحدة الحكم و اشتراك الموارد في الحدّ، و لو كان إشكال فإنّما هو في الإطلاق اسما و الشمول مفهوما و إلّا فالظاهر أن الحكم مجمع عليه بين الأصحاب.

______________________________

(1) راجع جامع المدارك ج 7 ص 90.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 93

فيما تثبت به القيادة و منها الإقرار

قال المحقّق: و يثبت بالإقرار مرّتين مع بلوغ المقرّ و كماله و حريّته و اختياره.

و في الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف أجده فيه و كأنّه لفحوى اعتبار الأربع في ما تثبته شهادة الأربع و لذا قال في محكيّ المراسم: كلّ ما يثبته شاهدان من الحدود فالاقرار فيه مرّتان و نحوه عن المختلف.

أقول: فقد تمسّك قدّس سرّه باعتبار خصوص المرّتين في المقام دون الأقلّ بفحوى ما ورد في باب الزنا من قيام أربعة أقارير مقام الشهادات الأربعة فإنّه يستفاد منه أن الميزان و الملاك في الإقرار هو الشهادة فلو كانت القيادة تثبت بالشاهدين فهي تثبت بالإقرارين أيضا.

و فيه

أنه لا محصّل لهذه الفحوى كما لا يخفى لأنه على ذلك لم يبق مورد يكفي فيه الإقرار الواحد و يلزم أن لا يقبل الإقرار مرّة واحدة أبدا فإنّ أيّ مورد فرض لا أقلّ في الشهادة به من اثنين، فأين يقبل الإقرار الواحد؟.

و قد تمسّك أيضا ببناء الحدود على التخفيف و أن الأصل عدم ثبوته إلّا بالمتيقّن الذي هو الإقرار مرّتين.

و فيه إنّه لا مورد لهذا البناء و الأصل مع حجيّة أدلّة الإقرار مرّة واحدة في الموارد بإطلاقها و لا مجال لهما بعد هذا الظهور العامّ.

و في الرياض و مقتضى العموم الثبوت بالإقرار و لو مرّة و لكن لا قائل به أجده بل ظاهرهم الاتّفاق على اعتبار المرّتين و مستندهم من دونه غير واضح.

كما أن صاحب الجواهر أيضا اعترف بالإجماع بقوله بلا خلاف أجده فيه.

و على هذا فلو أقرّ مرّة واحدة فإنّه لا يحدّ نعم يعزّر لاعترافه بالكبيرة.

ثمّ إنه اعتبر في المقرّ أمور- على ما تقدّم في عبارة الشرائع-:

أحدها البلوغ فلا بدّ أن يكون المقرّ بالغا و ذلك لكون الصبيّ مسلوب العبارة نعم لو أقرّ بالقيادة فإنّه يؤدّب فإنّ لضربه عنوان التأديب لا التعزير.

ثانيها كماله بالعقل فلا عبرة بإقرار المجنون أيضا فإنّه كالصبيّ مسلوب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 94

العبارة.

ثالثها الحرّيّة فلا يقبل إقرار العبد فإنّه و إن لم يكن العبد كالصبيّ و المجنون- مسلوب العبارة بل إقراره حجّة في حدّ ذاته إلّا أنه لا بدّ في الإقرار أن يكون في حقّ نفسه لا في حقّ الغير و بضرره، و هذا الشرط مفقود في إقرار العبد لأنه مال المولى فإقراره إقرار في حقّ المولى يتوجه به الضرر إليه فهو غير مقبول.

رابعها الاختيار فلو

كان مكرها على الإقرار فلا حدّ عليه كما في كلّ ما يوجب الحدّ و في سائر الموارد و ذلك لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع ما استكرهوا عليه «1».

هذا لو كان مكرها في الإقرار، و لو أقرّ مختارا بالقيادة مستكرها يقبل منه و لا يحدّ.

يثبت القيادة بشهادة الشاهدين

قال المحقّق: و بشهادة شاهدين.

أقول: فكما تثبت بالإقرار كذلك بشهادة شاهدين، و من المعلوم اعتبار اجتماع شرائط القبول كالعدالة.

و مقتضى العبارة أنه لا تثبت بشهادة غير الرجلين العدلين مع العلم بأنه تقبل شهادة رجل و امرأتين عن شهادة الرجلين في بعض الموارد كما في الدين حيث قال اللّه تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ «2».

قال في الجواهر (بعد كلام المحقق): بلا خلاف و لا إشكال بعد إطلاق ما دلّ على حجّيتها الشامل للمقام، و لا تثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمّات لما عرفته في محلّه انتهى.

و لا بدّ من المراجعة إلى الأدلّة كي يعلم أنه هل الأدلّة الدالّة على قيام المرأتين

______________________________

(1) توحيد الصدوق ص 413.

(2) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 95

مقام الرجل الواحد قد خصّصت في المقام فلا أثر لشهادة المرأة هنا مطلقا أو أن الموارد الّتي صرّحت بجواز شهادة المرأة فيها قد خرجت بالدليل و إلّا فالقاعدة عدم نفوذ شهادة النساء و الاقتصار في الشهادة على الرجال و إنّما خصّصت بالدليل في تلك الموارد الخاصّة. و لعلّ الظاهر هذا و أنه لا خلاف فيه كما يظهر من عبارة الجواهر المذكورة آنفا.

في حكم القيادة

قال المحقّق: و مع ثبوته يجب على القوّاد خمس و سبعونه جلدة.

أقول: و هذا ثلاثة أرباع حدّ الزاني. و استدلّ على ذلك بالإجماع و الأخبار أمّا الإجماع ففي المسالك: اتّفق الجميع على أن حدّ القيادة مطلقا خمس و سبعون جلدة انتهى.

و قال في الانتصار: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بأن من قامت عليه البيّنة بالجمع بين الرجال و النساء أو الرجال و الغلمان للفجور وجب أن يجلد خمسا و سبعين جلدة (إلى أن

قال): و الحجّة لنا فيه إجماع الطائفة انتهى.

و قال في الغنية: من جمع بين رجل و امرأة أو غلام و بين المرأتين للفجور فعليه جلد خمسة و سبعين سوطا رجلا أو امرأة (إلى أن قال:) كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة انتهى.

و أمّا الأخبار ففي خبر عبد اللّه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن القوّاد ما حدّه؟ قال: لا حدّ على القوّاد أ ليس إنّما يعطى الأجر على أن يقود؟ قلت: جعلت فداك إنّما يجمع بين الذكر و الأنثى حراما قال:

ذاك المؤلّف بين المذكر و الأنثى حراما فقلت: هو ذاك قال: يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا و ينفى من المصر الذي هو فيه «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 96

و هو و إن كان ضعيفا لأن في طريقة محمّد بن سليمان و هو مشترك بين جماعة منهم الثقة و منهم غيرها إلّا أنه بناءا على القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور فهو مجبور و بهذا الاعتبار يكون قويّا.

و على الجملة فلا خلاف و لا كلام في وجوب ذلك و إنّما اختلفوا في ثبوت حكم آخر معه كالنفي و الحلق و الشهرة و قد كان النفي مذكورا في خبر عبد اللّه بن سنان و سيأتي حكم الحلق و الشهرة.

في حلق رأس القوّاد و تشهيره

قال المحقّق: و قيل يحلق رأسه و يشهّر

أقول: و ممّن أفتى بذلك الشيخ في النهاية فقال: الجامع بين النساء و الرجال و الغلمان للفجور إذا شهد عليه شاهدان أو أقرّ على نفسه بذلك يجب عليه ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعون جلدة و يحلق

رأسه و يشهّر في البلد ثم ينفى عن البلد الذي فعل ذلك فيه إلى غيره من الأمصار «1».

ثمّ إنّ المحقّق قدّس سرّه قد عبّر بلفظ المجهول إشعارا بضعفه، لكن في الجواهر أنه مشهور بين الأصحاب الذين منهم ابن إدريس ثمّ نقل الإجماع المنقول عن السيّدين في الانتصار و الغنية، ثمّ قال: و لعلّ ذلك كاف في ثبوت مثله مضافا إلى إشعار النفي المراد منه شهرته بذلك.

فاعتمد هنا و اطمأن بلزوم الأمرين أوّلا بالشهرة و الإجماع المنقول ثم بذكر النفي في رواية ابن سنان المشعر باعتبار الشهرة بسبب نفيه عن البلد و حلق رأسه، و أن اللّازم صيرورته مشهورا بالشناعة. و حيث اعتمد على ذلك أورد على المحقّق و غيره بقوله: فما عساه يظهر من المصنّف من التردّد في ذلك بل عن ابن الجنيد الاقتصار على مضمون الخبر المزبور بل مال إليه في المسالك في غير

______________________________

(1) النهاية ص 710.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 97

محلّه انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: و الظاهر أن تردد المحقق المستفاد من نسبة ذلك إلى القيل في محلّه و هو أحسن و أولى من تجزّم الجواهر على اعتبار الحلق، و ما ذكره من الوجهين لا يتمّ بهما المطلوب.

أمّا الأوّل فإثبات الحكم في مثل هذه الموارد بمجرّد الشهرة و الإجماع المنقول في غاية الإشكال و ذلك لأنه لا شكّ في كون كلّ من الحلق أو الشهرة موجبا لإيذاء المؤمن و هتك عرضه و يشكل الجزم بذلك بهما. نعم لو حصل الجزم و القطع بهذا الإجماع يؤخذ به لكنّه مشكل خصوصا و أن السيد ابن زهرة ينقل الإجماع كثيرا مع عدم تحقّقه في كثير من الموارد الّتي يدّعيه. و أمّا الثاني

ففيه أن مجرّد نفي البلد غير مستلزم لذلك لإمكان تبعيده عن مصره بلا ترتّب الشهرة عليه. و لو شكّ في وجوب شي ء زائدا على أصل الحد فقاعدة درء الحدود تقتضي الاقتصار على المتيقّن.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحلق و الشهرة و أمّا النفي من البلد فقد مرّ التصريح به في رواية ابن سنان.

الكلام في أنه ينفى في أوّل مرّة أم لا

نعم هنا بحث في أنه هل ينفى في أوّل مرّة أتى بهذا الفعل الشنيع أو أنه ينفى في المرّة الثانية؟.

قال المحقق: و هل ينفى بأوّل مرّة؟ قال في النهاية: نعم، و قال المفيد: ينفى في الثانية، و الأوّل مرويّ.

أقول: ظاهر الروايات كخبر ابن سنان هو الأوّل و قد تقدم ذكره، و في خبر فقه الرضا عليه السلام: و إن قامت بيّنة على قوّاد جلد خمسة و سبعين و نفي عن المصر الذي هو فيه، و روي: النفي الحبس سنة أو يتوب «1» و قد أفتى به الشيخ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حدّ القيادة و السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 98

الطوسي قدس سره في النهاية كما مرّ كلامه آنفا و تبعه بعض الأعلام، خلافا للشيخ المفيد قدس سره حيث إنّه أفتى بنفيه في المرّة الثانية. و قد ذهب إليه جمع آخر من الأعلام كابن زهرة و ابن حمزة و سلّار و غيرهم.

ففي المقنعة بعد الحكم بجلد القوّاد و حلق رأسه و تشهيره في البلد: فإن عاد المجلود على ذلك بعد العقاب عليه جلد كما جلد أوّل مرّة و نفي عن المصر الذي هو فيه إلى غيره انتهى «1» و قد قال المحقّق بأن الأوّل مرويّ انتهى و ظاهره الميل إليه.

و في الجواهر: لا

ريب أن الأحوط الثاني بل عن الغنية الإجماع عليه.

و فيه: أنه لا مورد للاحتياط بعد الاعتراف بأن الأصل في المسألة الخبر و الاعتراف بظهوره في النفي بأوّل مرّة.

و لو سلّم أنه مجمل فالأمر يدور بين وجوب تعجيل النفي بأوّل مرّة و حرمته إلى أن يتكرّر و من المعلوم أنه لا معنى للاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّه لما ذهب جمع إلى عدم جواز النفي إلّا في المرّة الثانية فلا محالة يصير النفي في المرّة الأولى مشكوكا و موردا للشبهة و الحدود تدرء بالشبهات. و لكن فيه إنّه لا وجه للترديد و الشبهة بعد ظهور الرواية المعمول بها في النفي بأوّل مرّة.

و بذلك يظهر ما في الرياض من قوله: و الأحوط القول الثاني بل لعلّه المتعيّن للأصل و دعوى الإجماع عليه في الغنية و هو أرجح من الرواية المذكورة من وجوه منها صراحة الدلالة فتقيّد به الرواية انتهى.

أمّا الاحتياط فقد تقدّم ما فيه من الإشكال. و أمّا الأصل فلا مورد له مع وجود الرواية. و أمّا الإجماع المنقول فالكلام في حجيّته فضلا عن تقدّمه على الرواية.

و يمكن أن يقال بالنسبة إلى عمل المشهور بأنا لا نجزم بعمل المشهور بهذه

______________________________

(1) المقنعة الطبع الجديد ص 791.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 99

القسمة أيضا من الرواية إذا فيزول الوجوب بدرء الحدود.

و كيف كان فلا وجه للتمسّك بالاحتياط في المقام.

الكلام في منتهى أمد النفي

ثمّ إنّه و إن كان أصل النفي مذكورا في رواية عبد اللّه بن سنان إلّا أنه لا تعرّض فيها لمدّته و نهاية أجله و لم يتعرّض العلماء لتحديده كما رأيت ذلك في عبارة المحقّق نعم في عبارة الجواهر نوع تعرّض

له كما سيأتي. و قال ابن إدريس:

و ينفى عن البلد إلى غيره من الأمصار من غير تحديد لمدّة نفيه انتهى.

فنقول: إنّه بعد عدم التعرض لذلك في الأدلّة و الكلمات يأتي هنا احتمالات:

أحدها: تحقّق مجرّد النفي و صدق ذلك و عليه فيكفي أن ينفى من قم مثلا إلى تهران، و مجرّد وصوله إليها كاف في ذلك و له أن يرجع و يعود بمجرّد وصوله إليها. لكن هذا الاحتمال واضح الفساد و لا يصار إليه.

ثانيها: ما ذكره صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه من أنه لا بدّ أن يكون هناك إلى أن يتوب فإذا تاب يجوز له العود إلى وطنه. قال: ليس في الخبر تحديد له فينبغي أن يكون حدّه التوبة إذ بدونها يصدق عليه اسمه [1] و حاصل التعليل أنه ما دام لم يتب يصدق عليه (القوّاد) و بقاء الاسم و صدق العنوان موجب لبقاء الحكم. و أمّا الحدّ فقد أقيم عليه فلا يتكرّر بدون تكرار الفعل- بلا خلاف- و فيه أن الحكم ليس متعلقا بالاسم و جاريا عليه بل الموجب له هو عمل القوّاد، و الملاك هو الفعل المحرّم الخاصّ و هو قد انعدم بعد وجوده، و لأجل أن الحكم متعلق بذات الفعل فلو عاد إلى فعل القيادة ثانيا يجلد ثانيا و ينفى من

______________________________

[1] الظاهر أن أصل هذا المطلب من كشف اللثام فإنه قال: و لم يحدّ أحد منهم مدّة النفي لإطلاق الخبر، و حدّه المصنّف إلى أن يتوب لأنه قضيّة الإطلاق لدلالة اللفظ على نفي القوّاد و ما لم يتب يصدق عليه اسمه فيجب نفيه انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 100

البلدة المنفيّ إليها إلى غيرها أيضا. اللّهم إلّا أن يقرّر المطلب

بأن علّة الحدوث علة البقاء فإذا وجدت علّة الحدوث و هو صرف الوجود من القيادة الموجب لإخراجه من بلده فهو كاف في استمرار هذا النفي إلى أن يتوب فهذا الفعل كاف في استمرار النفي إلى أن يحصل العلّة الرافعة له و هي التوبة و حينئذ تنقطع العلّة و إن كان الصدق الاسمي باقيا بعد تلبّسه بالمبدإ أوّلا فإنّ هذا لا يوجب دوام الحكم أي النفي.

و إن أمكن الإشكال بأنّه على فرض كفاية الحدوث في البقاء و كون علّة الحدوث علّة البقاء و الاستمرار يلزم الحكم مطلقا و قطع هذا الحكم بالتوبة يحتاج إلى دليل.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 100

لكنّ الإنصاف عدم وروده لأن مقتضى قوله صلّى اللّه عليه و آله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له «1» هو صيرورته كمن لم يأت بهذا العمل القبيح فلا عقوبة عليه سواء كان أخرويّا كالعذاب أو دنيويّا كالنفي و لا وجه لاحتمال كون المراد من عدم ذنب عليه هو العقوبة و العذاب و ذلك لكون النفي أيضا نوعا من العقوبة فهو كالعذاب الأخروي.

لا يقال: فعلى هذا فلا قضاء على من ترك صلاته و صيامه بعد أن تاب إلى اللّه تعالى و الحال أنه لا شكّ في لزوم القضاء عليه.

لأنا نقول: إنّ مسألة القضاء مسألة أخرى غير العقوبات و الذي يرتفع بالدليل المزبور هو العقوبات وحدها.

و على الجملة فرفع النفي عنه بسبب التوبة و قطع هذا الحكم عنه بذلك أمران بينهما كمال المناسبة و الملائمة فإنّ التوبة كالماء بعينه الذي يزيل النجاسة، و تعمل

التوبة في نفس الإنسان بالنسبة إلى المعصية ما يعمله الماء في بدن الإنسان أو ثوبه بالنسبة إلى القذارة أو النجاسة الحاصلة فيهما.

ثالثها ما ورد في خبر من التحديد بالسّنة أو يتوب ففي خبر الفقه الرضوي

______________________________

(1) بحار الأنوار طبع بيروت ج 6 ص 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 101

المتقدّم آنفا: و روي: النفي هو الحبس سنة أو يتوب «1» قال في كشف اللثام: و في بعض الأخبار النفي هو الحبس سنة. و فيه أنه مرسل يفسّر النفي بالحبس سنة و لا يصحّ رفع اليد عن الظاهر به.

قال في الرياض: و ظاهر النفي في الفتوى و النصّ إنّما هو الإخراج من البلد و لكنّ في الرضوي و غيره: روي أن المراد به الحبس سنة أو يتوب، و الرواية مرسلة فلا يعدل بها عن الظاهر بلا شبهة انتهى.

أقول: بل إنّ رواية ابن سنان التي هي الأصل في الحكم بالنفي كالصريحة بخلاف ذلك، و ذلك لأن لفظها: و ينفى من المصر الذي هو فيه، فكيف يقال بأن النفي هو الحبس سنة، و الحال هذه؟.

إلّا أن يقال: إنّ غرض الشارع من نفيه عن البلد عدم كونه في المجتمع الذي ارتكب فيه هذا العمل الشنيع و هذا الفرض كما يحصل بإخراجه من البلد كذلك يحصل بالحبس. و هو كما ترى [1].

لا فرق في حكم القوّاد بين الحرّ و العبد.

قال المحقّق: و يستوي فيه الحرّ و العبد و المسلم و الكافر.

أقول: و قد استدلّ لذلك بالإطلاق و ذلك لأن لسان رواية عبد اللّه بن سنان:

أن الجامع بين الذكر و الأنثى حراما يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا إلخ و هذا مطلق شامل للحرّ و العبد و هكذا يشمل المسلم و الكافر.

لكن لا

يخفى أن هذا لا يساعد و لا يلائم الروايات الناطقة بأن حدّ العبد نصف الحرّ و هي أيضا بإطلاقها شاملة للمقام. ففي رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد

______________________________

[1] أقول: و يمكن أن يقال إنّ كميّة مقدار النفي موكول بنظر الحاكم بل هو وجه وجيه و إن لم يذكره سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حدّ القيادة و السحق ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 102

اللّه عليه السلام قال: قيل له فإن زنى و هو مكاتب و لم يؤدّ شيئا من مكاتبته؟

قال: هو حق اللّه يطرح عنه من الحدّ خمسين جلدة و يضرب خمسين «1».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه ثمّ إنّ العبد أتى حدّا من حدود اللّه قال: إن كان العبد حيث أعتق نصفه قوّم ليغرم الذي أعتقه نصف قيمته، فنصفه حرّ يضرب نصف حدّ الحرّ، و يضرب نصف حدّ العبد، و إن لم يكن قوّم فهو عبد يضرب حدّ العبد «2» فإنّ ظاهر هاتين و أمثالهما هو العموم و إنّ الملاك هو حدّ من حدود اللّه سبحانه فإنّه ينصّف و من المعلوم أن الحدود كلّها حقّ اللّه، و حدود اللّه، و من جملتها حدّ القيادة.

و هذه الرواية إمّا حاكمة أو مخصّصة و ذلك لأنه إن كان موضوعها الحدّ فتكون ناظرة إلى أدلّة الحدود المقرّرة على المعاصي الخاصّة كالدليل الدّالّ على أن حدّ شرب الخمر ثمانون جلدة و حدّ الزنا مأة إلى غير ذلك من الحدود.

فروايات العبد تقول بأن حدّ العبد في الموارد

المختلفة هو النصف فتكون حاكمة، و لو كان الموضوع فيها هو العبد فهي مخصّصة و كأنّه قيل: كلّ من زنى يجلد مأة إلّا العبد فإنّه يضرب خمسين و كلّ من شرب الخمر فإنّه يجلد ثمانين إلّا العبد فإنّه يجلد أربعين و هكذا.

هذا مضافا إلى اشتمال بعض الأخبار الواردة في المقام على التعليل في الحكم بالنصف، فعن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة أو بريد العجلي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أمة زنت، قال: تجلد خمسين جلدة، قلت: فإنّها عادت قال: تجلد خمسين، قلت: فيجب عليها الرجم في شي ء من الحالات؟

قال: إذا زنت ثماني مرات يجب عليها الرجم قلت: كيف صار في ثماني مرّات؟

فقال: لأن الحرّ إذا زنى أربع مرّات و أقيم عليه الحدّ قتل، فإذا زنت الأمة ثماني

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 31 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 33 من أبواب حدّ الزنا ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 103

مرّات رجمت في التاسعة قلت: و ما العلّة في ذلك؟ قال: لأن اللّه عزّ و جلّ رحمها أن يجمع عليها ربق الرّق و حدّ الحرّ قال: ثمّ قال: و على إمام المسلمين أن يدفع ثمنه إلى مواليه من سهم الرقاب «1».

قال المحدّث الحرّ العاملي: و رواه الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم نحوه إلّا أنه قال: في عبد زنى.

فقد علّل تنصيف الحدّ في المملوكة بأن اللّه رحمها و لم يجمع عليها حبل الملكيّة و حدّ الحرّية.

فمقتضى هذه الروايات و هذا التعليل هو الحكم بالنصف في المقام أيضا و لم يتعرّض العلماء لهذا البحث في المقام.

نعم قد تعرّض له بعض المعاصرين إشارة و

بصورة الترديد و الإجمال قال قدّس سرّه: و إطلاق الحدّ على فرض الحجيّة يشمل جميع ما ذكر فلا بدّ من ملاحظة ما دلّ على تنصيف الحدّ بالنسبة إلى المملوك هل يشمل المقام أو لا؟. «2».

و التحقيق أنه لو كان المعتمد في الحكم بعدم الفرق إطلاق رواية ابن سنان فمقتضى القاعدة تقديم روايات العبد خصوصا بلحاظ التعليل المزبور، و اللازم العمل بها و الحكم بالنصف في المقام أيضا و على ذلك فليس الإطلاق وجها في الحكم بتساوي الحرّ و العبد و عدم الفرق بينهما في الحكم.

نعم يمكن أن يقال إنّ المعتمد هو الشهرة أو الإجماع كما عن الانتصار و الغنية ادّعاؤه على عدم الفرق بينهما.

و في الرياض: بلا خلاف عليه بل الإجماع في الانتصار و الغنية و هو الحجّة انتهى. و في الجواهر: لا خلاف، أيضا إلى غير ذلك من الكلمات و على الجملة فهم قد صرّحوا هنا بعدم الفرق بين الحرّ و العبد [1] و لو لا ذلك فقاعدة الدرء

______________________________

[1] يقول المقرّر: و ممّن صرّح بذلك أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص 410 و المحقّق في

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 32 من حدّ الزنا ح 1.

(2) جامع المدارك ج 7 ص 90.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 104

أيضا تقتضي العمل بروايات العبد.

متى يقتل القوّاد

قال السيد أبو المكارم ابن زهرة قدّس سرّه في الغنية، بعد أن ذكر حكم القوّاد في المرّة الأولى و أنه في الثانية يجلد و ينفى عن المصر: و روي أنه إن عاد ثالثة جلد، فإن عاد رابعة عرضت عليه التوبة فإن أبى قتل، و إن أجاب قبلت توبته و جلد فإن عاد خامسة بعد التوبة قتل من غير أن

يستتاب انتهى.

فقد نسب ذلك إلى الرواية و أرسلها. و أفتى بذلك الحلبي في الكافي قال: فإن عاد رابعة استتيب فإن تاب قبلت توبته و جلد، و إن أبي التوبة قتل، و إن تاب ثم أحدث بعد التوبة خامسة قتل على كلّ حال انتهى. «1».

و قد تعرّض العلّامة أعلى اللّه مقامه لنقل كلام أبي الصلاح و قال بعد ذلك:

و نحن في ذلك من المتوقّفين «2» فتوقّف و لم يوافقهما على ذلك.

و قال في الجواهر: بل ينبغي العمل بما دلّ على قتل أصحاب الكبائر في الثالثة أو الرابعة بعد تخلّل الحدّ.

حكم المرأة

قال المحقّق: و أمّا المرأة فتجلد و ليس عليها جزّ و لا شهرة و لا نفي.

أقول: إنّ ما ذكر إلى الآن كان حكم الرجل و أمّا لو كان القوّاد امرأة فهي أيضا تجلد الحدّ المخصوص و لكن سائر الأحكام كالجزّ و الشهرة و النفي فلا تجري في حقّها.

______________________________

الشرائع و النافع، و العلّامة في التحرير ص 225.

[1] الكافي ص 410.

______________________________

(1) المختلف ص 767.

(2) الكافي ص 767.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 105

و استدلّ على ذلك في الرياض بقوله: بلا خلاف أجده بل عليه الإجماع و في الانتصار و الغنية: و هو الحجّة، و مضافا إلى الأصل، و اختصاص الفتوى و الرواية بحكم التبادر بالرجل دون المرأة، مع منافاة النفي و الشهرة لما يجب مراعاته من ستر المرأة انتهى كلامه رفع مقامه. كما أنه في الجواهر قال: اتّفاقا على الظاهر منهم كما اعترف به في كشف اللثام، كما أنه وافقه في الأصل لكن أورد عليه فيما أفاده بعد ذلك بأنّه لا دليل حينئذ على جلدها يعني إذا كان المتبادر من الفتوى و الرواية، و الموضوع فيهما

هو الرجل فكما أنه لا شهرة و لا حلق و لا نفي في غيره أعني الرجل كذلك لا وجه لجلد غيره أي المرأة و لا دليل عليه.

و نحن نقول: إنّ السؤال في خبر عبد اللّه بن سنان عن القوّاد و هو بظاهره هو الرجل القوّاد و ليس السؤال عن القوّادة فلا حاجة إلى التبادر بعد هذا الظهور.

إلّا أن الظاهر من أمثال هذه الأسئلة و الكلمات هو أنه لا خصوصيّة للرجل و لا اختصاص عند السائل و المسئول للرجل بما هو رجل بل المقصود هو المكلّف حتّى فيما إذا ذكر لفظ الرجل و التصريح به كما في قولهم: رجل شكّ بين الثلاث و الأربع، فإنّ السؤال راجع إلى الشاكّ و المكلّف من دون نظر إلى الرجل، بل إنّ خصوصية الرجولية ملغاة و حينئذ فالملاك الكلّي و المعيار الأصليّ في المقام هو القيادة و الوساطة بين شخصين لاجتماعهما على الحرام و حصول العمل الشنيع سواء كان المقدم عليه رجلا أو امرأة و بلحاظ المناط نعلم أن الموضوع هو الأعمّ و إن كان لفظه ظاهرا في الخاصّ و على هذا فالجلد حكم مطلق من صار واسطة لاقتراف الزنا مثلا لا لخصوص الرجل الذي كان كذلك، و لا تبادر في مثل المقام.

و أمّا عدم جريان الحلق و الشهرة و النفي بالنسبة إليها فلعلّه لما هو معلوم من مذاق الشارع في أمر النساء، و اهتمامه البالغ في سترهنّ و عفافهنّ و عدم تبرّزهن و أن النساء عيّ و عورة فإنّ جزّ رأسهن و إبرازهن و الإطافة بهن في البلد و كذا إخراجهنّ إلى بلد آخر ينافي هذا المقصد السامي، فالشارع الذي يجدّ و يهتمّ في ستر النساء بحيث يحكم مثلا

بتجريد الرجل للحدّ دون المرأة فإنّه لا يرضى بتلك الأمور المنافية له.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 106

في حدّ القذف

اشارة

قال المحقّق: و النظر في أمور أربعة الأوّل في الموجب و هو الرمي بالزنا أو اللواط كقوله: زنيت أو لطت، أو ليط بك أو أنت زان أو لائط و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا.

أقول: القذف في اللغة الرمي يقال: قذف بالحجارة أي رماها و في الاصطلاح رمي الغير بالزنا أو اللواط، و كأنّ السّابّ يرمي المسبوب بالكلمة المؤذية و لم يتعرّض المحقّق لتعريف القذف و تفسيره لأن مورد الحاجة و محلّ الابتلاء هو ما يوجب الحدّ المذكور هنا.

و قد عرّفه في الرياض بقوله: و شرعا قيل رمي المسلم الحرّ الكامل المستتر بالزنا أو اللواط.

و في مجمع البحرين: القذف الرمي يقال: قذفت بالحجارة قذفا من باب ضرب رميت بها و قذف المحصنة رماها بالفاحشة.

و يدلّ على حرمته و حدّه الكتاب و السّنة و الإجماع.

أمّا الكتاب فهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «1» و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2».

و أمّا الأخبار فهي كثيرة و سيأتي بعضها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1) سورة النور الآية 23.

(2) سورة النور الآية 4 و 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 107

و كيف كان فالكلام هنا في الموجب و قد ذكر أنه الرمي بالزنا أو اللواط و لا شكّ في أن الرمي بهذين موجب للحدّ [1].

و أما

الرمي بالسحق فهو و إن كان حراما بلا كلام إلّا أن في إيجابه الحدّ كلاما و استشكل فيه العلّامة في القواعد، قال في اللواحق من باب القذف: و لو قذفه بالإتيان بالبهيمة عزّر و كذا لو قذفه بالمضاجعة أو التقبيل أو قذف امرأة بالمساحقة على إشكال. و هذا الإشكال ناش من جريان وجهين في المقام أحدهما يقتضي الحدّ و الآخر عدمه فمن حيث إنّه كالزنا و لذا كان فيه حدّ الزنا و اعتبرت في شهادة الأربع أو الإقرار أربعا فيعمّه آية الرمي فيحكم على الرمي بالمساحقة الحدّ، و من حيث أن الأصل هو العدم و البراءة فلا حدّ كما أن خبر عبد اللّه بن سنان أيضا يدلّ على الوجه الثاني و سيأتي ذكره.

قال فخر المحقّقين قدّس سرّه عند تقرير الإشكال: قال المصنّف: فيه إشكال، ينشأ من أن المساحقة كالزنا و من أصالة البراءة و الأقوى عندي اختيار المصنّف في المختلف و هو التعزير «1».

و أمّا الرواية فعن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعنى ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل الرجل بالزنا، و إذا قال: إنّ أمّه زانية، و إذا دعا لغير أبيه، فذلك فيه حدّ ثمانون «2» تقرير الاستدلال بها إفادتها حصر الفرية في ثلاث، و ليس المقام منها.

و فيه: إنّ الرواية ليست في مقام الحصر و لذا لا تعرّض فيها للرمي باللواط بل إنّما هي في مقام التعرّض لبيان وجوه نسبة الزنا فلا يتمّ التمسّك بها في إثبات

______________________________

[1] يقول المقرّر: و لكن المستفاد من كلمات بعض العلماء أن القذف خصوص الرمي بالزنا قال سلّار في المراسم ص 255: و من

قذف لا بالزنا عزّر و قال في ص 256: و ما عدا الرمي بالزنا ففيه التعزير.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد ج 4 ص 509.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 108

عدم كون الرمي بالسحق قذفا موجبا للحدّ.

و الظاهر منها أن الرمي لا ينحصر في رمي شخص المخاطب بنفسه و قذفه بالزنا بل يتحقّق القذف إذا تكلّم بكلام كان معناه رمي غير المخاطب فإذا رمى أمّ المخاطب بالزنا أو ادّعى لغير والده فقد تحقّق القذف و يوجب الحدّ و كان ذو الحق هو المنسوب إلى الزنا دون المخاطب.

و أمّا الأصل فإن كان المقصود أصالة عدم الحدّ ففيه أنه معارض بأصالة عدم التعزير فإنّ كان المقصود أصالة عدم الحدّ ففيه أنه معارض بأصالة عدم التعزير فإنّ الأصل في كلّ منهما العدم. نعم لو كان المقصود من الحدّ الجلد و التعزير فيمكن أن يقال: إنّ ما دون الحدّ معلوم، و الزائد حتّى يبلغ الحدّ مشكوك فيه و الأصل عدمه.

و بعبارة أخرى إنّ العلم الإجمالي حاصل بأنه إمّا أن يلزم عليه ثمانون جلدة لو كان الرمي بالسحق كالرمي بالزنا، و إمّا أنه يجب عليه دون ذلك بعنوان التعزير بناءا على أن كلّ معصية كبيرة يجب فيها التعزير، و المتيقّن هو الأقلّ.

و أمّا الوجوه التي تمسّك بها لتقريب الوجه الأوّل أي إلحاق الرمي بالمساحقة بالرمي بالزنا و إقامة الحدّ على الرامي هنا أيضا، فلا يصحّ التمسك بها أيضا لإثبات المطلوب فإنّ إثبات ذلك بوحدة الحدّ في الزنا و المساحقة و اعتبار الأربعة في الشهادة و الإقرار في كلام الموردين يشبه القياس، و كيف يمكن إثبات حكم اللّه تعالى به.

و

على الجملة فإثبات أصل السحق بالأربعة شهادة و إقرارا و عدم إثباته بأقل منها كما في باب الزنا بعينه و كذا كون حدّ أصل السحق كحدّ الزنا لا يدلان على أن الرمي بالسحق كالرمي بالزنا. و ليس في المقام تنقيح مناط قطعيّ كما أن التمسك بإطلاق الزنا على المساحقة في بعض الروايات أيضا لا يوجب إثبات حدّ الرمي بالزنا للرمي بالمساحقة فإن هذا الإطلاق من باب المبالغة و إظهار شدّة فظاعة هذه المعصية. أضف إلى ذلك أن الرواية المتضمّنة لهذا التشبيه ليست

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 109

في المجاميع الروائية الأصليّة الصحاح بل هي منقولة في المستدرك و الجعفريّات مثلا.

و على الجملة فلا دليل على كون الرمي بالسحق كالرمي بالزنا و إيجابه الحدّ و لذا قوّى صاحب الجواهر عدم ترتّب الحدّ عليه وفاقا للمحكيّ عن السرائر و المختلف فيبقى أنه حيث كان من الكبائر يجب فيه التعزير، بناء على وجوب التعزير على ارتكاب كلّ كبيرة.

ثم لا يخفى أن إشكال العلّامة كما هو صريح عبارته أو ظاهرها متعلّق بالتعزير حيث إنّه حكم أوّلا بالتعزير في القذف بإتيان البهيمة و كذا على القذف بالمضاجعة أو التقبيل ثم استشكل في قذف المرأة، و الحال أن ظاهر عبارة الجواهر أن الإشكال في الحدّ. فالعلّامة رحمه اللّه يستشكل في جريان التعزير لاحتمال الحدّ، و صاحب الجواهر ينسب إليه أنه استشكل في الحدّ المستفاد منه أنه يحتمل التعزير. ثم إنّ تعبير الآيات الكريمة هو الرمي إلّا أنه لمّا ورد في الروايات التعبير بالقذف فلذا صار عنوان الباب في كلمات الفقهاء بالقذف نعم ورد في الروايات التعبير بالفرية و الافتراء أيضا.

و لعلّه يبدو في الذهن أنه لماذا سمّي بالفرية

و الحال أن القاذف رأى و علم ذلك من المقذوف؟ لكنّه مدفوع بأنه افتراء تعبّدا كما في الآية الكريمة فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اللّٰهِ هُمُ الْكٰاذِبُونَ «1» حيث أطلق على الذين جاءوا بالإفك و لم يأتوا بأربعة شهداء: الكاذبين.

ثم إنّ المحقّق قدّس سرّه ذكر مصاديق للقذف الموجب للحدّ:

منها أن يقول القاذف للمقذوف: زنيت بفتح التاء- أي بلفظ المخاطب- و منها أن يقول له: لطت، كذلك حتّى يكون خطابا و نسبة إلى المخاطب.

و منها أن يقول: ليط بك، بلفظ المجهول.

و منها قوله: أنت زان.

______________________________

(1) سورة النور الآية 13.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 110

و منها قوله: أنت لائط.

و منها قوله: أنت منكوح في دبره. ثم قال رحمه اللّه: و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا.

و مثّل له صاحب الجواهر بقوله بعد ذلك: كالنيك و إدخال الحشفة حراما انتهى و ظاهر كلام المحقق الذي اعتبر الصراحة في المعنى أنه لو كان اللفظ ظاهرا في الرمي و نسبة الفاحشة إليه فهو لا يؤثّر في إيجاب الحدّ.

و الظاهر أنه خلاف التحقيق و لذا قال في الجواهر: و لعلّ المراد بالصراحة ما يشمل الظاهر عرفا و إن أشكل بوجود الاحتمال الذي يدرء به الحدّ لكن ظاهرهم كما اعترف به الاتّفاق على الحدّ بذلك، و لعلّه للنصوص المزبورة و لصدق الرمي انتهى.

و التحقيق أن الظاهر معنى مستقلّ و مفهوم بحياله في قبال النص، و المتعارف في المحاورات و التفاهمات العرفيّة هو الظهورات بل لعلّ الصريح أقلّ قليل، فانصراف الرمي إلى الصريح منه خلاف الظاهر، فهذه الأخبار و الروايات العديدة الّتي هي ظهورات، لا تنافي احتمال الخلاف فاشتراط الصراحة في المقام لا وجه له بل كما يؤخذ بالصريح كذلك يؤخذ بالظهور و لذا

قال رضوان اللّه عليه: لعلّ المراد بالصراحة ما يشتمل الظاهر عرفا.

لا بدّ من معرفة القائل باللغة التي رمي بها

قال المحقّق: مع معرفة القائل بموضوع اللفظ بأيّ لغة اتّفق.

أقول: لا بدّ في تحقّق القذف أن يكون القاذف عارفا بمعنى اللفظ الموضوع له كي يصدق أنه قد نسب هذه النسبة القبيحة إلى المقذوف فإذا لم يكن عارفا بالمعنى و تفوّه بالكلمة السيّئة فهو و إن ذكر اللفظة لكنّه حيث لا يعلم معناها بل ربّما تخيّلها كلمة حسنة و نسبة فأخره فلا حدّ عليه. نعم لو كان يعلم إجمالا أن هذه الكلمة تؤذي المخاطب أو توجب وهنه فحينئذ يجب تعزيره للإيذاء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 111

و التوهين.

قال في النافع بعد ذكر بعض ألفاظ القذف: إذا كانت مفيدة للقذف في عرف القائل و لا يحدّ مع جهالته فائدتها.

و أورد عليه بعض المعاصرين بقوله: و أمّا ما ذكر من أنه لا يحدّ مع جهالته فائدتها ففي إطلاقه نظر فإنّ الجاهل تارة لا يخطر بباله أن كلامه رمي فلا إشكال فيه، و أخرى يحتمل، فمع الاحتمال كيف يكون معذورا و هذا كما لو قال أحد في مقام العداوة: قل لفلان كذا و كذا من الألفاظ الصريحة في الرمي أو الشتم و قال الواسطة: الألفاظ المذكورة، لفلان المذكور مع احتمال الواسطة أن يكون القول المذكور رميا أو شتما فهل يكون الواسطة معذورا؟ كما لو أمر كاتبه: اكتب لفلان كذا و كذا بلغة لا يعرفها الكاتب مع احتمال الرمي و الشتم، فالكاتب ليس معذورا عند المكتوب إليه.

و حاصل كلامه و إشكاله الفرق بين الجاهل المركّب و البسيط فلو كان جاهلا محضا لا يلتفت إلى المطلب فالأمر كما ذكر، و أمّا إذا كان جاهلا شاكّا متوجّها إلى

جهله و ملتفتا إليه فإنّه يحتمل عند نفسه أن يكون كلامه شتما و قذفا فهنا لا يتمّ القول بأنّه معذور للجهالة.

ثم تعرّض لإشكال و جوابه بقوله: لا يقال: مع الاحتمال يكون القائل معذورا لكون الشبهة بدويّة كسائر الشبهات البدويّة لأنه مع صدق الرمي يترتّب الحكم كما لو رأى الزنا أو اللواط و تخيّل أنه مع الرؤية يجوز الرمي، و كما لو رأى الأربعة و بناءهم على الشهادة مجتمعين فشهد بعضهم و لم يشهد بعض آخر مع الاجتماع، و ثانيا الجواز معلّق على جواز ما يحتمل كونه إيذاء للمؤمن و لا أظنّ أن يلتزم به و البناء على الاستحلال إذا صدر كلام فيه شبهة إساءة الأدب «1».

و نحن نقول: إنّ الاحتمال هنا و إن كان منجّزا للتكليف حيث إنّ عرض المسلم كدمه و يتوجّه عدم المعذوريّة للاهتمام البالغ بذلك و وجوب الاحتفاظ

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 92 و 93.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 112

به، إلّا أن الكلام في إجراء الحدّ فهل مجرّد ذلك كاف في الحكم بالحدّ؟ و كيف يحكم بذلك و الحال أن الموضوع مشكوك فإنّ الموضوع للحدّ هو القذف و الآن يشكّ في كونه قذفا فإنّه حين إلقاء الكلمة لا يقطع بذلك بل يشكّ فيه و على الجملة فمع كون الشبهة بدويّة موضوعيّة كيف يترتّب أحكام الموضوع؟ و هل يحدّ من شرب مشكوك الخمريّة؟ فمن ارتكب ما لا يعلم أنه قذف لا يترتّب عليه الأحكام كالحدّ.

و ما ذكره قدّس سرّه من شهادة بعض و إباء بعض آخر مع اجتماعهم لذلك و وجوب حدّ من أقدم على الشهادة. ففيه: أن الرمي هناك قد تحقّق، غاية الأمر أنه كان يزعم أن

رميه هذا حلال و جائز لتخيّل أن الشهادات تتمّ بالأربعة فكانت شهادته الرمي و القذف بخلاف المقام فإنّه لا يعلم أن قوله هذا رمي أم لا و هكذا في مثال رؤية الزنا و اللواط.

فتحصّل أنه مع معرفة اللافظ أن لفظة كذا رمي فهي لا توجب الحدّ، نعم إذا علم أنه سبّ و توهين للمؤمن فهو يوجب التعزير كما تقدّم آنفا.

ثم إنّه هل يعتبر مضافا إلى معرفة القاذف باللغة و معناها القصد إلى الرمي أو يكفي في القذف مجرّد إلقاء اللفظ و لو لم يقصد المعنى كما إذا سأل أحد عن تفسير القذف فأجاب المسئول: هو أن أقول لك: يا زاني، فإنّ القائل لم يقصد بهذه الكلمة الرمي و إنّما ألقاها قاصدا المثال. من المعلوم أن هذا ليس قذفا لعدم صدق الرمي و الحال هذه، لكن إذا ألقى تلك الكلمة مزاحا لا جدّا كما هو دأب جهلة الناس و الفئة غير المبالين فهل هذا يعتبر رميا بعد أن كان حراما بلا ترديد و إشكال؟.

يمكن أن يقال: إنّ مقام الفحش و الشتم غير مقام النسبة حقيقة ألا ترى أنه لو واجه إنسانا بقوله: يا كلب بن كلب كما قد اتّفق ذلك بالنسبة إلى بعض الأعلام [1] فإنّ هذا قد شتم المخاطب لا أنه أراد أن يقول إنّه كلب و أبوه كلب

______________________________

[1] في الفوائد الرضويّة ص 609: في ترجمة خواجه نصير الدين: أن ورقة حضرت إليه من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 113

و قد يرى من يتفوّه بكلمة خبيثة و حين ما يعترض عليه المخاطب في قوله هذا يجيب بأنّي قد أردت المزاح لا الجدّ، و الحاصل أن الفحش و الشتم غير القذف فإنّ القذف

هو النسبة فإلقاء الكلمة فحشا لا يؤثّر في إيجاب الحدّ.

و مع ذلك كلّه من الممكن أن يقال: إنّه يحسب قذفا لترتّب الأثر على الظاهر إلّا أن يأتي قرينة على ذلك عند إلقائه. كما و أنه قد أجاب بعض عن الكلام الأوّل بأن كونه فحشا باعتبار النسبة و لو لاها لم ينتزع الفحش أصلا.

و على الجملة فلو ألقى اللفظ الصريح في الزنا لكن بلا قصد للرمي بل قاصدا به المجاز فهل هو كالإنشاءات الّتي لا تتحقّق بدون القصد فلا يحصل الملك مثلا بدون قصده؟ الظاهر أن هذه اللفظة لفظة الرمي و القذف فإنّ الرمي ليس شيئا وراء ما يوجب فضيحة المخاطب مثلا و هي قد حصلت بهذه اللفظة و يصدق قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ على من ألقى تلك الكلمة سواء قصد القذف أم لا.

و الحقّ أن المسألة محلّ الإشكال و إنّي أقول في هذا المقام ما قاله العلّامة أعلى اللّه مقامه في بعض المسائل و المقامات: إنّي في ذلك من المتوقّفين.

ثمّ إنّه لو كان اللفظ مجملا فلا يترتّب عليه الحدّ.

و لو عادى أنّي ما كنت أعرف معناه أو ما قصدت ذلك فإنّه يقبل منه و يصدّق في ذلك إن أمكن ذلك في حقّه بأن أمكن عدم معرفته بذلك مثلا و أمّا إذا كان ناشئا بين العارفين بها لم يقبل قوله. و أمّا صدق القاذف أو كذبه فلا دخل له في القذف و إجراء الحدّ عليه.

______________________________

شخص من جملة ما فيها: يا كلب بن كلب فكان الجواب: أمّا قوله: يا كذا فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع و هو نابح طويل الأظفار و أمّا أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول

و الخواصّ غير تلك الفصول و الخواص و أطال في نقض كلّ ما قاله هكذا ردّ عليه بحسن طوية و تأنّى غير منزعج و لم يقل في الجواب كلمة قبيحة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 114

ثم إنّ صاحب الجواهر مثّل (لقول المحقّق: و ما يؤدّي هذا المعنى صريحا) بقوله: كالنيك و إدخال الحشفة حراما انتهى. و يشبه ذلك كلام بعض آخرين «1» و الغرض من قيد (الحرام) في لفظ الجواهر و غيره، اعتبار نسبة الرامي الفعل القبيح إلى المقذوف مع كونه حراما على المقذوف فلو نسب إليه الزنا مكرها عليه أو صغيرا أو مجنونا فليس على القاذف حدّ في ذلك كما أنه إذا قال له أنت منكوح في دبره مقهورا عليه و مكرها عليه فلا حدّ عليه و إن كان يعزّر إذا كان ذلك إيذاء و توهينا للمخاطب.

و استشكل في ذلك بعض المعاصرين رضوان اللّه عليه بقوله: ثم إنّ المذكور في كلماتهم اشتراط كون ما رمي به على الوجه المحرّم و أمّا لو كان على وجه يكون الرمي معذورا ككونه مقهورا أو نائما فلا يترتّب عليه الحدّ مع كون المذكور إيذاء و توهينا للمرميّ يكون الكلام حراما لكونه إيذاء و يترتّب عليه التعزير.

ثم قال: و استفادة هذا من الأخبار مشكل ففي حسنة عبد اللّه بن سنان قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أن الفرية ثلاثة يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل بالزنا و إذا قال: إنّ أمّه زانية و إذا دعاه لغير أبيه فذلك فيه حدّ ثمانون، و قال أيضا في خبر عبّاد بن صهيب: كان عليّ عليه السلام يقول: إذا قال الرجل للرجل: يا معفوج

و منكوحا في دبره فإنّ عليه حدّ القاذف. و في خبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام: إنّ عليّا عليه السلام: لم يكن يحدّ في التعريض حتّى يأتي بالفرية المصرّحة مثل يا زان و يا ابن الزانية أو لست لأبيك، و نحوه خبر إسحاق بن عمّار. ثم قال في مقام استظهار الإطلاق من هذه الأخبار: فإنّ المرميّ يمكن أن يكون مقهورا أو مكرها بنحو يكون معذورا «2». و كأنّه رضوان اللّه عليه يقول:

ليس مجرّد عدم استفادة ما ذكر من الأخبار بل يستفاد و يستظهر منها خلاف

______________________________

(1) راجع تحرير العلّامة ص 237 ج 2 و كشف اللثام ج 2 ص 231.

(2) جامع المدارك ج 7 ص 93 و 94.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 115

ذلك فإنّ إطلاق هذه الأخبار تدلّ على عدم اعتبار هذا الشرط و إنّما الملاك هو مجرّد النسبة فهو كاف في إيجاب الحدّ عليه.

و فيه: أنه و لو فرض إطلاق لهذه الروايات فشرط الأخذ بالإطلاق عدم قيام دليل في قباله يقيّده، و ما نحن فيه ليس كذلك لأن تلك المطلقات مقيّدة بروايات منها عموم: من لا حدّ عليه لا حدّ له، المراد منه أن من لم يكن عمله كقذفه للغير موجبا للحدّ فهذا العمل الصادر من الغير بالنسبة إليه لا يوجب حدّا كما إذا قذفه الغير فعن أبي مريم الأنصاريّ قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا و ذاك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «1». ترى أنه نفى عن الغلام القاذف، الحدّ لأنه لو قذفه رجل لما كان على هذا الرجل حدّ.

و عن أبي

بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة قال: لا يجلد إلّا أن يكون قد أدركت أو قاربت «2».

و قد عنون الشيخ الكليني قدّس سرّه بابا باسم: باب أنه لا حدّ لمن لا حدّ عليه، فيه روايتان: عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

لا حدّ لمن لا حدّ عليه و تفسير ذلك: لو أن رجلا مجنونا قذف رجلا لم يكن عليه شي ء و لو قذفه رجل لم يكن عليه حدّ «3»، و الثانية عن الفضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا حدّ لمن لا حدّ عليه. يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال له: يا زان- يا زاني- لم يكن عليه حدّ [1].

و يمكن أن يقال إنّ ما نسبه إلى العلماء رضوان اللّه عليهم أجمعين هو ما يستفاد

______________________________

[1] الكافي ج 7 ص 253 ح 2 و في مرآة العقول ج 23 ص 393 إن التفسير من إسحاق أو ابن محبوب، و في تذييلات الوسائل ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود إنّه من إسحاق أو الفضيل.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 205 ح 5.

(2) الكافي ج 7 ص 209 ح 22.

(3) الكافي ج 7 ص 253 ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 116

من الآية الشريفة من اعتبار كون المقذوف محصنا و قد ذكروا أن الإحصان عبارة عن البلوغ و العقل و غير ذلك [1] فلا بدّ من أن يكون العمل الذي رماه به حراما في حقّه.

و التحقيق أن المقصود من هذا البحث كون القاذف بصدد نسبة فعل الحرام إلى المقذوف بحيث

لو كان المقذوف عادلا اقتضى هذا الفعل فسقه و هذا يستفاد من بعض الأخبار جدّا فعن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سئل عن ابن المغصوبة يفتري عليه الرجل فيقول: يا بن الفاعلة فقال: أرى أن عليه الحدّ ثمانين جلدة و يتوب إلى اللّه ممّا قال [2].

فإنّ المغصوبة هي الّتي غصبت و أجبرت على الزنا و حيث إنّ عملها لم يكن محرّما عليها لهذه الجهة فلذلك يحدّ المفتري ثمانين جلدة لأنه نسب إليها الحرام مع أنه لم يكن كذلك.

______________________________

[1] أقول: إنّ سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظلّه قد عدل في تقرير المطلب إلى هذا البيان حتّى تستقيم النسبة إلى العلماء التي صرّح بها في جامع المدارك، و الحال إنّه يشكل من جهة أخرى و ذلك لأنه لو كان المقصود من هذا البحث هو الذي ذكروه في شرائط المقذوف فقد تعرّض في جامع المدارك تبعا لمختصر النافع لشرائط المقذوف و ذكر هناك روايات لا حدّ لمن لا حدّ عليه و لسائر الأخبار فكيف قال قدّس سرّه هنا: و استفادة هذا من الأخبار مشكل انتهى؟

فالظاهر أن البحث في المقام أمر وراء ما ذكروه من شرائط المقذوف و أن الكلام هنا في أنه لا بدّ من أن يكون القاذف قد نسب إلى المقذوف الزنا المحرّم فلو نسبه إلى الزنا حلالا بالإكراه مثلا لم يكن عليه حدّ و إن كان يعزّر للإيذاء و غيره. و هذا مذكور في كلام جمع من الأعلام كالعلّامة في التحرير و الأصبهاني في كشف اللثام و صاحب الجواهر فيه فلا يرد ما كان يؤكّد دام ظلّه عليه من أن جامع المدارك نسب ذلك إلى العلماء و الحال أنه ليس ذلك في كلماتهم.

[2] وسائل

الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب القذف ح 4، أقول: و مثله الرواية 6 عن ابن محبوب عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل وقع على جارية لأمّه فأولدها فقذف رجل ابنها فقال:

يضرب القاذف الحدّ لأنّها مستكرهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 117

إذا نفى ولده عن نفسه

قال المحقّق: و لو قال لولده الذي أقرّ به: لست ولدي، وجب عليه الحدّ، و كذا لو قال لغيره: لست لأبيك.

أقول: إذا نفى عن نفسه ولديّة من أقرّ بكونه ولدا له فهو قذف لأمّه و يوجب الحدّ [1] و مثله ما لو قال لمن ثبت بحكم الشرع أنه ولده: لست ولدي، و ذلك لأنه لا خصوصيّة للإقرار بل يكفي في ذلك مجرّد كون الولد محكوما بأنّه ولده و لذا أضاف صاحب الجواهر قوله: أو حكم له به شرعا انتهى.

و مثله أيضا كلّ ما كان في حكم الإقرار كما إذا لم يتلفّظ و لم ينطق بأنه ولده إلّا أنه أقام لولادته حفلة التهنئة و مراسم الفرح و السرور مثلا إلى غير ذلك من الوجوه الّتي توجب إلحاق الولد به لأنه لا خصوصيّة للإقرار القولي كما أنه إذا قال لشخص آخر: لست لأبيك فهو أيضا قذف و يوجب الحدّ و لا شكّ أن توجيه هذا الخطاب إلى من عرف بين الناس بأنّه ولد فلان يحسب قذفا.

و في الجواهر بعد ذكر اللفظين من عبارة المحقق: بلا خلاف أجده فيه بيننا.

و الظاهر أنه ادّعى عدم الخلاف من الإماميّة بالنسبة إلى الفرضين كما يدلّ

______________________________

[1] فعن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من أقرّ بولد ثمّ نفاه جلد الحدّ و ألزم الولد، وسائل الشيعة ج 18 ب 23 من أبواب القذف

ح 1 و أمّا خبر علاء بن فضيل عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: الرجل ينتفي من ولده و قد أقرّ به قال: فقال: إن كان الولد من حرّة جلد الحدّ خمسين سوطا حدّ المملوك و إن كان من أمة فلا شي ء عليه. الوسائل ج 18 ب 23 من أبواب حدّ القذف ح 2، الدّال على عدم الحدّ ففيه ما ذكره في كشف اللثام ج 2 ص 231 بقوله: و هو ضعيف متروك انتهى.

و قال الشيخ في الإستبصار ج 4 ص 233: الوجه في هذا الخبر أن نحمله على أنه و هم من الراوي- في قوله خمسين سوطا- و في الوسائل: و يمكن حمله على التعزير مع عدم التصريح بالقذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 118

على اتّحاد حكمهما الأخبار.

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك: عند ذكر اللفظة الأولى: و هذه الصيغة عندنا من ألفاظ القذف الصريح لغة و عرفا فيثبت بها الحدّ لأمّه انتهى.

و لكن قد اختلف بعض العامّة و فرّق بين الصيغتين فجعل الثانية قذفا بلا كلام دون الأولى. و استند في ذلك إلى أن الأب يحتاج إلى مثل ذلك في تأديب ولده زجرا له عمّا لا يليق بنسبه و لوما له على أنه ليس مثله في الخصال الحسنة التي يتوقّعها منه و ليست فيه. و أورد عليه في الجواهر بأن الظاهر عدم الحدّ مع فرض إرادة ذلك كما هو مستعمل في العرف كثيرا ضرورة عدم الرمي بمثله عرفا، و إنّما الكلام في ثبوت القذف به مع عدم القرينة على إرادة التجوّز المزبور به و لا ريب في صدق القذف عرفا به انتهى.

أقول: و يمكن دفع هذا

الإيراد بأن الأبوّة كالبنوّة دائميّة فهي قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي. و إن شئت قلت: إنّ المقام نظير إرادة الاستحباب من صيغة الأمر الذي قال صاحب المعالم رضوان اللّه عليه: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة عليهم الصلاة و السلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة إلخ «1» فكأن شيوع الاستعمال و كثرة إطلاق الصيغة في مقام الزجر و حمل الولد على مكارم الصفات و محامد أخلاقه صار سببا لرجحان هذا المجاز على الحقيقة فهو من المجازات الراجحة التي لا تحتاج إلى القرينة و لا أقل من كونها مساوية للمعنى الحقيقي فلو فرض أنه ورد في الروايات أو الكلمات أن هذه الصيغة تكون قذفا فهو محمول على ما إذا كان هناك نزاع و مرافعة، و آل الأمر إلى إلحاق الولد به و نسبته إليه ثمّ بعد ذلك قد نفاه عن نفسه في طيّ نزاع و مرافعة مثلا و قال لست ولدي فإنّ القرينة حاصلة على أن المقصود ليس هو التأديب و تعييره على عدم اتّصافه بمحامد أخلاقه و معالي شيمه، و إلّا فالحقّ مع هذا البعض و إن كان عاميّا فإنّ

______________________________

(1) معالم الأصول للشيخ حسن بن زين الدين ص 44.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 119

عدم اتّصاف الولد بصفات والده يحمل كثيرا له على أن ينفيه عنه بل قد يقع ذلك بالنسبة إلى الغير أيضا نظير ما ورد في القرآن الكريم حكاية عن بني إسرائيل خطابا لمريم يٰا أُخْتَ هٰارُونَ مٰا كٰانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مٰا كٰانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «1».

و نحن جميعا نعلم أنه إذا كان هناك رجل عظيم ذو

وجهة عالية و مكانة معنوية سامية و كان ولده على سبيل النشأ و الأحداث غير مبال بالآداب و لا معتن بمبادئ الدين فإنّه يقال له: إنّك لست ولد أبيك أو ولد فلان، و القرائن تشهد بأن هذا ليس رميا بل تستعمل الكلمة المزبورة تعييرا و زجرا له، و في مقام النصحية فلا يوجب ذلك حدّا.

صور من القذف

قال المحقّق: و لو قال زنت بك أمّك أو يا بن الزانية فهو قذف للأمّ و كذا لو قال زنى بك أبوك أو يا بن الزاني فهو قذف لأبيه و لو قال: يا بن الزانيين فهو قذف لهما و يثبت به الحدّ و لو كان المواجه كافرا لأن المقذوف ممّن يجب له الحدّ.

أقول: اللّفظان الأوّلان يحسبان رميا للأمّ و إن كان المواجه هو الابن لأن النسبة كانت إلى الأمّ، و الرمي قد تعلّق بهما. و أمّا الثالث و الرابع فهما قذف لأبيه لأنه نسب الزنا إلى أب المخاطب تارة بلفظ الماضي و أخرى بلفظ اسم الفاعل كالصورتين السابقين. و أمّا اللفظ الخامس فهو قذف لكليهما حيث أتى بلفظ التثنية فيجب الحدّ إذا ففي جميع الصور الخمس قد تحقق القذف بالنسبة إلى الغائب و لا خلاف في ذلك و لا فرق بين كون المواجه مسلما أو كافرا فإنّ القذف ليس بالنسبة إليه و لا الحدّ ليس لأجله و هذا هو فائدة تمييز المواجه عن المقذوف، فإنّ الحدّ يتعلّق بالقذف و هو حقّ للمقذوف فلا بدّ من أن يعلم من هو صاحب الحق هل هو المخاطب أو أبوه أو أمّه أو كلاهما، و إجراء الحدّ موقوف

______________________________

(1) سورة مريم الآية 28.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 120

على طلب صاحب الحق

فإن لم يكن القذف متوجّها إلى المخاطب كالولد فليس له طلب ذلك نعم يعزّر القاذف لأجله إذا كان المواجه مسلما و قد أوذي أو هتك بذلك.

نعم هنا بحث و هو أنه هل التعزير حقّ للمواجه كالقذف حتى يسقط بعفوه و يحتاج إلى المطالبة أو أنه حقّ اللّه تعالى و لا يسقط بعفوه و يقام بلا حاجة إلى مطالبة أحد؟.

من المعلوم أن التعزير على المعاصي و ترك الواجبات و ارتكاب المحرّمات عند عدم تعيين حدّ هناك حقّ اللّه محضا لا يتوقف على شي ء فلو ترك الصلاة أو أفطر صيامه بلا عذر فإنّه يعزّره الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد لأنه لا حقّ هناك لأحد سوى اللّه تعالى. و إنما البحث فيما إذا كان للعمل تعلّق بالغير مثل الغيبة و التهمة فهل التعزير فيه حق الناس حتى يحتاج إلى مطالبة المغتاب (بالفتح) مثلا و له أن يعفو عنه أو أنه حقّ اللّه محضا يقيمه الحاكم بلا توقّف على المطالبة؟ و من هذا الباب ما نحن فيه.

و لا بدّ من التحقيق في ذلك و لم أجد في هذه العجالة من تعرّض لهذا المطلب و لا يبعد الثاني لو لم يدلّ هناك دليل [1].

______________________________

[1] أقول: قال العلّامة في القواعد في المطلب الخامس من باب القذف: لو كان المقذوف عبدا كان التعزير له لا لمولاه فإن عفى لم يكن لمولاه المطالبة و كذا لو طالب انتهى.

و يستفاد من هذا أن أمر التعزير هنا بيد صاحب الحق لكن يظهر من كلام سيّدنا الأستاذ دام ظله في مجمع المسائل ج 3 ص 206 في جواب سؤال 65 خلاف ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 121

اللفظ المشتبه في الرمي

قال المحقق: و لو قال:

ولدت من الزناء ففي وجوب الحدّ لأمّه تردّد لاحتمال انفراد الأب بالزنا و لا يثبت الحدّ مع الاحتمال.

أقول: الظاهر أن المراد أنه لو كان هناك حدّ فهو للأمّ و ذلك لأن النسبة بمقتضى العبارة إلى الأمّ لكون الولادة منتسبة إليها و مقتضى ذلك رمي الأمّ إلى الزنا.

لكن فيه إشكال و ذلك لانتساب الولادة إليهما فإنّ نسبة الولد إلى الوالدين واحدة و ليس له مزيد اختصاص بأحدهما و من المعلوم أن نشى ء ولد الزنا تارة يكون بزناء الأب و أخرى بزناء الأمّ و ثالثة بزناء كليهما و القذف و الرمي إلى الزنا أيضا كذلك. فإذا ألقى الصيغة الخاصّة فيمكن أن يكون بصدد رمي الأب أو رمي الأمّ، أو رميهما جميعا و ذلك لإمكان كون واحد منهما مكرها أو مشتبها عليه بأن يكون الأب مثلا زانيا و الأمّ مكرهة على الزنا و يمكن عكس ذلك كما أنه يمكن كون كلّ واحد منهما زانيا واقعا و على ذلك فلا يعلم أنه قد قذف هذا بالخصوص أو ذلك بالخصوص أو كليهما فالمقذوف بخصوصه غير معلوم و المستحقّ بشخصه غير معيّن فتحصل الشبهة الدارئة للحدّ، و صراحة اللفظ في القذف لا تنفع مع اشتباه المقذوف لأنّها لا توجب الحقّ لتوقّف الاستيفاء على المطالبة، و المطالبة لا بدّ أن تكون من ناحية المستحق للحق و هو غير معلوم.

و التحقيق أن في المسألة ثلاثة وجوه:

أحدها: أن الصيغة المزبورة توجب الحدّ لأنّها قذف صريح و متعلّقه هو الأمّ لاختصاصها بالولادة ظاهرا و قد تعدّت الولادة إلى الزنا بحرف الجرّ و مقتضاه نسبة الأمّ إلى الزنا. و قد ذهب إلى هذا الشيخان و القاضي و المحقّق في نكت النهاية و جماعة أخرى.

ثانيها أنه قذف

صريح إلّا أن متعلّقه الأبوان كلاهما لأن نسبته إليهما واحدة و لا اختصاص لأحدهما دون الآخر لأن الولادة إنّما تتمّ بهما فيكون كلّ منهما

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 122

مطالبا مستقلّا و هو أحد قولي العلّامة و الشهيد في شرح الإرشاد.

ثالثها: أنه لا حدّ أصلا لا للمواجه و لا لأيّ واحد من الوالدين أمّا المواجه فواضح لأنه ليس بمقذوف و أمّا الأبوان فلاحتمال الاشتباه و الإكراه في الأمّ أو الأب فلا يعلم كونه قذفا لأحدهما بالخصوص و لا المستحقّ فتحصل الشبهة.

و استشكل في ذلك الشهيد الثاني في المسالك قائلًا: و يمكن الفرق بانحصار ذلك الحق في المتنازع في الأبوين فإذا اجتمعا على المطالبة تحتّم الحدّ لمطالبة المستحقّ قطعا و إن لم يعلم عينيّته. ثم قال: لعلّ هذا أجود نعم لو انفرد أحدهما بالمطالبة تحقّق الاشتباه و اتّجه عدم ثبوت الحدّ حينئذ لعدم العلم بمطالبة المستحق به، انتهى.

فقد فصل قدّس سرّه بين ما إذا طالب كلاهما الحدّ و بين ما إذا كان المطالب واحدا منهما فأثبت الحدّ في الأوّل و نفاه في الثاني، و ذلك لأنّه في الثاني لا يعلم أن صاحب الحق قد طالب به بخلاف الأوّل فإنّه لا شكّ في أن صاحب الحق قد طالب بحقّه و إن لم يعرف بشخصه.

و ردّ عليه صاحب الجواهر بقوله: قلت: قد يمنع ظهور الأدلّة في ثبوت الحدّ في الفرض الذي ذكره أيضا و الأصل العدم مضافا إلى بنائه على التخفيف و سقوطه بالشبهة انتهى.

أقول: و هذا هو الأقوى لو لم نقل بالقول الأوّل أي قول الشيخين فإنّ النسبة مردّدة لم تتحقّق بالأب و لا بالأمّ بل النسبة إلى كلّ منهما ليس إلّا احتمال الزنا

و لا أظنّ أحدا يقول إنّه يحدّ من قال يحتمل أن يكون زيد زانيا، و المقطوع هو الفرد المردّد لا كلّ واحد منهما معيّنا و إذا كان نسبة احتمال الزنا إلى رجل يوجب الحدّ فلا بدّ من أن يقال في المقام بوجوب حدّين لأنه نسب إلى كلّ منهما احتمال الزنا و لا يلتزم به و على الجملة فإنّ حدّ القذف لا بدّ من أن يطالبه مستحقّه و المستحق مردّد حسب الفرض و قد ظهر بما ذكرنا أنه لا مجال للتمسّك بالعلم الإجمالي و لزوم مخالفته.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 123

ثمّ إنّه قد اتّضح أنه لا تردّد في المطلب على الوجه الأوّل و الثاني لأنه على الأوّل قذف صريح بالنسبة إلى الأمّ، و في الثاني بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مستقلّا. و إنّما الترديد و الإشكال جار على الوجه الثالث حيث يحتمل الإكراه و الإجبار و الاشتباه فلا حدّ هناك و إن طالب به كلّ منهما فإنّ الصيغة مردّدة بين زنا هذا أو زنا ذاك و هو في الحقيقة في حكم أن يقال لأحد أنت من زنا أبيك أو أمّك، و بوجه نظير أن يقول أحد لغيره: يحتمل أنّك زنيت، و ذلك لأنّ الزنا بالنسبة إلى كلّ واحد منهما محتمل، و مطالبة كلّ منهما بالحدّ لا يؤثّر شيئا لأن معنى مطالبة الأب أنه إن كان القذف قذفا لي فإنّي أطالب القاذف بالحدّ كما أن معنى مطالبة الأمّ أنه إن كان القذف قذفا لي فأنا أطالب بالحدّ فليس إلّا أن كلّ واحد منهما محتمل المقذوفية و من المعلوم أن موضوع الحدّ هو القذف المسلم لا المحتمل، و كما يعتبر في القذف اللفظ الصريح كذلك

يعتبر في المقذوف التعيّن، و على ذلك فالشكّ في تحقّق القذف لا في المستحقّ حتّى يقال إنّ كلّ واحد منهما مطالب بالحق و الحدّ، فيجب إقامته، فإنّ الاستحقاق مشروط بالقذف و المفروض الشكّ في تحقّقه. و قد ظهر بذلك أنه لا يتمّ ما أفاده في الجواهر بقوله:

قد يمنع ظهور الأدلّة في ثبوت الحدّ في الفرض الذي ذكره أيضا و الأصل العدم إلخ. فإنّ الحقّ أنه لا يصدق القذف و الحال هذه و لا تصل النوبة إلى البحث عن ظهور الأدلّة و عدمه [1].

ثمّ إنّ ممّا ذكر في المقام يتّضح الحال في فرع آخر ذكره العلّامة في القواعد حيث قال- في البحث عن المقذوف و عند الكلام عن مثل: يا خال الزاني أو الزانية مثلا-: فإن اتّحد المنسوب إليه فالحدّ له و إن تعدّد و بيّن فكذا، و إن أطلق ففي المستحقّ إشكال ينشأ من المطالبة له بالقصد أو إيجاب حدّ لهما و كذا لو قال:

______________________________

[1] أقول: لا يخفى أن صاحب الجواهر قدّس اللّه نفسه قد تفطّن لذلك و لذا قال في آخر البحث ص 406 ج 41: الإنصاف تحقّق الاشتباه موضوعا و حكما انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 124

أحدكما زان أو لائط [1].

قال في الجواهر بعد اختيار عدم الحدّ في الفرع السابق لا للمواجه و لا للأب و لا للأمّ: و من ذلك يعلم الحال في ما لو قال أحدهما زان، لا على التعيين الذي استشكل فيه في القواعد من ثبوت حقّ في ذمّته و قد أبهم فلنا المطالبة بالقصد و من أن في ذلك إشاعة الفاحشة و زيادة في الإيذاء و التعيير فليس إلّا إيجاب حدّ لهما لا يقام إلّا عند

اجتماعهما لانحصار الحدّ فيهما و في كشف اللثام: و هو الأقوى: و فيه ما سمعته انتهى.

أقول: الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع السابق و الظاهر عدم تحقّق القذف و ليس إلّا احتماله بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. و أمّا مطالبته بالبيان و توضيح المراد و القصد ففيه أنه لا داعي إلى ذلك و لا دليل على جوازه و ليس وظيفة الحاكم التجسّس عن ذلك بعد أن فيه إشاعة الفحشاء و مزيد الإيذاء حيث إنّه إذا طولب بالبيان و شرح ما قصد فيؤل الأمر إلى استحقاق الحدّ بعد أن استحقّ التعزير بالكلام المبهم و على هذا فيكتفي بالتعزير و يختم الدعوى. و أضف إلى ذلك أنه لا يجري المطالبة بالقصد في جميع صور المسألة بل إنما يجري في بعضها.

توضيح ذلك إنّ رمى غير المعيّن قسمان: فتارة يعرف هو الشخص المجرم

______________________________

[1] قال فخر الدين قدّس سرّه في الإيضاح ص 503 عند البحث في كلام العلّامة المذكور: إذا قال له يا خال الزاني و تعدّد ولد أخته أو يا عمّ الزاني و تعدّد أولاد أخيه أو يا جدّ الزاني و تعدّد ولد ولده، فإن بيّن من مراده، بالقذف كان حقّ الحدّ له و إن لم يبيّن ففيه إشكال يحتمل أن يلزم بالبيان لأن في ذمّته حقّا قد أبهم مستحقّه ليلزم تبيانه بحيث يستوفي له و هذا ضعيف لأنه أمر بإشاعة الفاحشة و الأولى عندي أن يتوقّف على مطالبتهما و اجتماعهما فيقام الحدّ عليه لأنّه لا يخرج الحقّ عنهما انتهى.

و في كشف اللثام ج 2 ص 233 ذكر الوجهين و اختار الثاني بقوله: و هو الأقوى، و قد ذكر وجهه قبل ذلك بقوله: لانحصار الحقّ فيهما.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 125

لكنّه لا يعيّنه بل يرميه مبهما، و أخرى لا يعلم و لا يعرف هو أيضا المجرم بعينه كما إذا علم و رأى أن أحدهما قد زنى و لم يدر أيّا منهما كان هو الزاني، و ما ذكر من المطالبة بالقصد إنّما يتمّ و يأتي في الفرض الأوّل دون الثاني لأنه إذا لم يكن يعرفه فكيف يطالب بقصده فهو في الحقيقة لم يقصد إلّا الواحد المردّد لا المعيّن.

و قد تحصّل من جميع الأبحاث أن الأقوى عندنا أنه لا حدّ في المقام و إنّما يعزّر الرامي.

مخالفة سيّدنا الأستاذ للشرائع و الجواهر

قال المحقّق: أمّا لو قال: ولدتك أمّك من الزناء فهو قذف للأمّ و هذا الاحتمال أضعف و لعلّ الأشبه عندي التوقّف لتطرّق الاحتمال و إن ضعف. انتهى

و ذكر في الجواهر أنه لا يخلو عن قوّة.

و فيه أن العبارة المذكورة و إن كان يجري فيها احتمال كون زنا الأمّ عن إكراه مثلا إلّا أن هذا الاحتمال ضعيف كما صرّح بذلك المحقّق قدّس سرّه، فإنّ اللفظة ظاهرة عرفا في أنّها زنت باختيارها لا أنّها كانت مكرهة على ذلك، و مع الظهور العرفي لا يعتنى باحتمال الخلاف و لا يؤخذ بالإمكان العقلي.

و على الجملة فقوله: ولدتك أمّك من الزنا ليس كقوله: ولدت من الزنا و ذلك لتحقق الظهور العرفي، في المقام دونه فلذا يجب حدّ الرامي.

رمي المنسوب إليه لا المواجه

قال المحقّق: و لو قال: يا زوج الزانية فالحدّ للزوجة و كذا لو قال: يا أبا الزانية أو يا أخا الزانية فالحدّ لمن نسب إليها الزناء دون المواجه.

أقول: و هذا واضح فإنّ نسبة الزنا في المثال الأوّل إلى زوجة المخاطب دونه و في الثاني إلى بنت المخاطب دونه و في الثالث إلى أخت المخاطب دونه فالحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 126

للزوجة و للنبت و للأخت دون المواجه نعم يعزّر القاذف لحقّ المواجه.

قذف واحد أو قذفان؟

قال قدّس سرّه: و لو قال: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فالقذف للمواجه ثابت و في ثبوته للمنسوب إليه تردّد قال في النهاية و المبسوط: يثبت حدّان لأنه فعل واحد متى كذّب في أحدهما كذّب في الآخر و نحن لا نسلّم أنه فعل واحد لأن موجب الحدّ في الفاعل غير الموجب في المفعول و حينئذ يمكن أن يكون أحدهما مختارا دون صاحبه.

إذا قال القاذف لمخاطبه: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فرماه إلى الزنا في الأوّل و اللواط في الثاني. و قد اتّفقوا على تحقّق القذف بالنسبة إلى المخاطب لدلالة لفظه على وقوعه منه اختيارا و إنما اختلفوا في أنه قذف واحد فيجب حدّ واحد أو قذفان: قذف المخاطب و هو معلوم و قذف الرجل المنتسب إليها الزنا، و فلان المنتسب إليه اللواط؟.

ذهب الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي في النهاية و المبسوط و الخلاف «1» إلى الثاني و مال المحقّق و جمع آخر إلى الأوّل.

و استدلّ للقول بوجوب الحدّين لتحقّق القذفين بأن الزنا فعل واحد يقع بين اثنين و نسبة أحدهما إليه بالفاعليّة و الآخر بالمفعولية فيكون قذفا لهما و لأن كذبه في أحدهما يستلزم كذبه في الآخر لاتّحاد الفعل.

و

قد ردّ على ذلك، المحقّق قدّس سرّه بعدم تسلّم وحدة الفعل حيث أن موجب الحدّ في الفاعل غير الموجب في المفعول.

و وجهه كما في المسالك أن الموجب في الفاعل التأثير و في المفعول التأثّر و هما

______________________________

(1) راجع المقنعة ص 793 و النهاية ص 725 و المبسوط ج 8 ص 16 و الخلاف كتاب الحدود مسألة 49.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 127

متغايران، و جاز أن يكون أحدهما مكرها و الآخر مختارا فتحقّق القذف بالنسبة إلى المخاطب لا يستلزم ذلك بالنسبة إلى المنسوب إليه أيضا.

و وافق الشهيد الثاني الشيخين و الأتباع قال: و الأقوى ثبوته لهما إلّا مع تصريحه بالإكراه فينتفي بالنسبة إلى المكره و حيث يحكم بثبوته لهما يجب لهما حدّان و إن اجتمعا في المطالبة لأنّ اللفظ هنا متعدّد بدليل أنه لو اقتصر على قوله:

زنيت من دون أن يذكر الآخر تحقّق القذف للمواجه فيكون قذف الآخر حاصلا بضميمة لفظ كذا ذكره المصنّف في النكت انتهى.

و في كشف اللثام عند بيان إشكال العلّامة في مورد المنسوب إليه: ينشأ من احتمال الإكراه بالنسبة إليه و لا تحقّق الحدّ مع الاحتمال، و هو خيرة الدروس و مال إليه في التحرير، و من أن كلّا من الزنا و اللواط فعل واحد فإن كذب فيه بالنسبة إلى أحدهما كذب بالنسبة إلى الآخر، و وهنه واضح، و لعدم الاعتداد بشبهة الإكراه في الشرع، و لذا يجب الحدّ إجماعا على من قال: يا منكوحا في دبره، و لتطرّق الاحتمال بالنسبة إلى كلّ منهما فينبغي اندراء الحدّ عنه بالكليّة انتهى.

و قد ذكر في كلامه عند توجيه الوجه الثاني الذي هو مختار الشيخين ثلاثة أمور:

1- أنّ الزنا مثلا فعل واحد

فإن كان هناك كذب بالنسبة إلى المنسوب إليها فهو كذب بالنّسبة إلى المواجه به قضاءا لوحدة الفعل.

2- إنّ احتمال الإكراه لا يعتنى به في الشرع كما أن لفظة يا منكوحا في دبره، توجب الحدّ مع كونه مساويا للعبارة المبحوث عنها.

3- إنّه إذا كان تطرّق الاحتمال بالنسبة إلى غير المواجه موجبا لسقوط الحدّ عنه فإنّ الاحتمال جار بالنسبة إلى المواجه أيضا فيلزم أن لا يحدّ هو أيضا، و على هذا فيلزم الحكم بحدّ كلّ واحد منهما.

ثم استشكل في ذلك بقوله: و فيه إنّ المكره على الزنا أو اللواط ليس زانيا و لا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 128

لائطا.

أقول: و هذا كلام عجيب.

أمّا أوّلا فلأنه إذا لم يكن المكره زانيا و لا أنه يطلق عليه الزاني فكيف يقول:

يكره على الزنا و يعبّر بأن المكره على الزنا أو اللواط كذا فهو بنفسه قد جمع بين التعبير بالزنا و الإكراه.

و ثانيا إنّ هذا الإطلاق عرفيّ و العرف ينسب المكره إلى الزنا كالمختار بعينه.

و على الجملة فالظاهر أنه يطلق هذا اللفظ عند العرف على الفعل المخصوص سواء صدر من الفاعل أو المفعول اختيارا أو إكراها و إن لم يترتّب على المكره أحكام الزنا المحرّم شرعا.

لا يقال: إنّ الإشكال الثاني و إن كان واردا إلّا أن الإيراد الأوّل قابل للدفع و ذلك لأن الزنا المذكور في كلامه قد ذكر باعتبار الفاعل المكره دون القابل المكره و لا شكّ في تحقّق الزنا بالنسبة إلى الأوّل [1].

لأنا نقول: إنّ الإكراه لا يتعلّق بفعل الفاعل بل إكراهه يتعلّق بفعل القابل فإذا الإشكال بحاله.

ثمّ إنّ الحقّ في المقام هو ظهور الصيغة المبحوث عنها في الزنا الاختياري و إمكان كون الزنا في جانب

المنسوب إليها بالإكراه لا يدفع الظهور العرفي.

و بعبارة أخرى لا إشكال فيما أفادوا من إمكان اختلاف الزانيين في زناء واحد بأن يكون أحدهما مختارا و الآخر مكرها إلّا أن مجرد إمكان ذلك لا ينافي كون اللفظ ظاهرا في رمي الطرفين و نسبة الزنا إلى الشخصين بنحو واحد و باختيار الطرفين و إلّا لجرى هذا الاحتمال بالنسبة إلى المواجه المخاطب بهذا الخطاب فإنّ ظاهر النسبة أنها بالنسبة إليهما على و زان واحد و حدّ سواء بلا تفاوت بينهما أصلا فالصيغة المبحوث عنها نظير قولك: صافحت زيدا و باحثت عمرا و غير ذلك من التراكيب فهل يحتمل أحد أن زيدا كان مكرها على

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله العالي بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 129

المصافحة أو أن عمرا كان مقهورا على المباحثة [1]؟.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه قال (تقريبا و تأييدا لما ذهب إليه المحقّق من ثبوت قذف واحد و حدّ واحد لإمكان أن يكون أحدهما مختارا دون صاحبه): فهو حينئذ إن لم يكن متعدّدا حقيقة فحكما باعتبار اختلاف الحكم فلا أقلّ من تحقّق الشبهة الدارئة بذلك.

«ثمّ قال:» بل قيل: إنّه يدلّ عليه ظاهر الصحيح الوارد في نظير البحث.

أقول: و الصحيح الذي ذكره صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل قال لامرأته يا زانية، أنا زنيت بك، قال: عليه حدّ واحد لقذفه

______________________________

[1] يقول المقرّر: الذي بدا لي في هذا المقام أن النسبة الفاعليّة نسبة الصدور و البروز و هي ظاهرة في الاختياري بلا كلام كما في كل فعل يستند إلى الفاعل إلّا في موارد خاصّة و هذا بخلاف النسبة المفعوليّة فإنّ

المفعول هو من يقع عليه الفعل و كأنّه أشرب في معنى المفعول القهر و الغلبة كالمقتول و المضروب فهو غير ظاهر في الاختيار لو لم يكن ظاهرا في غير الاختيار.

ثمّ إنّي قد وقفت بعد ذلك على كلام لفخر الدين قدّس سرّه يناسب ما ذكرناه قال في الإيضاح ج 4 ص 504 بعد أن نقل عن ابن إدريس أنه ليس عليه إلّا حدّ واحد للمواجه إذا نسب إليه فعل الزنا أو اللواط و أمّا الذي نسب إليه بأنه فعل به لا فعل هو فإنه لا حدّ عليه) فهنا قال: أمّا الأوّل فلأنّه نسبة إلى فاعل قادر عليه عالم به إنّه فعله و ذلك يكفي في وجوب الحدّ إجماعا لأنّ هذه النسبة تقتضي صدور الفعل منه حقيقة و أمّا الثاني فلأنّه نسب المزنيّ بها إلى الانفعال لا إلى الفعل و هو أعمّ من المطاوعة على ذلك لصدقه حقيقة في المكرهة، و العامّ لا دلالة له على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث و لا حدّ مع الاحتمال فكيف مع عدم السبب المقتضي له و اختار المصنّف في المختلف قول الشيخ في النهاية لأنه هتكه و لو لم يجب في ذلك الحدّ لم يجب في قوله: يا منكوحا في دبره، و التالي باطل فالمقدّم مثله و الملازمة ظاهرة لأن دلالة اللفظ على النسبة إليهما واحدة فإنّه كما يحتمل أن تكون هي مكرهة في صورة النّزاع يحتمل في قوله: يا منكوحا في دبره، فلو اقتضى المنع ثمة لاقتضاه هنا و أمّا بطلان التالي فبالإجماع للاتفاق على وجوب حدّ القذف به و لأن الأصل المطاوعة و لدلالته عرفا على نسبة الفعل إليهما و الأقوى ما اختاره المصنف في المختلف انتهى.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 130

إيّاها، و أمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه إلّا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام «1».

قال قدّس سرّه في وجه دلالته: من حيث نفي الحدّ فيه أصلا و إن كان فيه ما فيه، و ترتّب الحدّ بقوله: منكوح في دبره، للإجماع و النصّ أو للدلالة العرفيّة لا يقتضي ثبوته في الفرض انتهى.

أقول: أمّا حديث الشبهة ففيه إنّه لا مجال بعد ما ذكرنا من الاستظهار.

و أمّا الرواية ففيها أن قوله: يا زاني قد أوجب الحدّ للقذف فقوله بعد ذلك بلا فصل: أنا زنيت بك لا يزيد شيئا بعد أن قذف و لم يحدّ بعد.

و قد علم بما ذكرنا أن قوله عليه السلام: و أمّا قوله: أنا زنيت بك لا يراد به فرض آخر فإنّه ليس إلّا فرض واحد و هو قول الرجل: يا زاني أنا زنيت بك و كأنّه عليه السلام قال: إنّه يحدّ حدا لرميه بقوله: يا زاني و أمّا ذيل الكلام فلا يوجب شيئا آخر.

و أمّا ما ذكره صاحب الجواهر بقوله: و إن كان فيه ما فيه انتهى فهو لأن الإقرار بالزنا ليس رميا حتّى يترتّب عليه حدّ القذف، و الزنا لا يثبت بالإقرار إلّا إذا وقع أربع مرّات.

و أمّا ما أفاده من الفرق بين المقام فلا حدّ و بين قول القاذف: فلان منكوح في دبره، فيجب الحدّ مع أنه بعينه كالمزنيّ بها في جملة زنيت بفلانة و كالمنكوح و الملوط في جملة: لطت بفلان بأن ذلك للإجماع. يعني إنّه للدليل الخارجيّ و إلّا فهو أيضا كمحلّ البحث و مقتضى القاعدة أن يقال إنّه يحتمل كونه مكرها في صيرورته منكوحا في دبره.

ففيه: أن الإجماع

لو كان فهو لأجل الظهور العرفي في كونه باختياره و أمّا كونه إجماعا تعبّديّا بلا لحاظ هذه الجهة فهو بعيد جدّا و إجراء الحدّ تعبّدا من دون الرّمي مقطوع العدم، و أمّا الدلالة العرفيّة فهي صحيحة لكن لا فرق بين الجملتين

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 131

في ظهور هما في وقوع الفعل عن اختيار لا عن إكراه.

فتحصّل أنه كما كانت نسبة الزنا أو اللواط في محل البحث إلى المخاطب ظاهرة في الاختياري فكذلك بالنسبة إلى المنسوب إليها أو إليه.

قذف الملاعنة

قال المحقّق: و لو قال لابن الملاعنة: يا بن الزانية فعليه الحدّ.

إذا لا عن الرجل امرأته ثم بعد ذلك نسب رجل ابن هذه المرأة إلى الزنا بأن يقول له: يا بن الزانية فإنّه يوجب الحدّ و ذلك لصدق القذف الموجب له و كذا لو قال لهذه المرأة نفسها: يا زانية، و قد ادّعى عدم الخلاف في وجوب الحدّ عليه.

و الوجه في وجوب الحدّ على القاذف في الفرضين أن هذه المرأة محصنة و نسبة الزوج لها إلى الزنا لا يخرجها عن ذاك و لذا ترى أن لها أن تدافع عن نفسها و تدفع الحدّ عنها باللعان و ذلك لعدم ثبوت الزنا عليها فقاذفها قاذف المحصنات الذي يقام عليه الحدّ بنص الكتاب. سواء قذفها بلا واسطة أو بواسطة ابنها.

و تدلّ على وجوب الحدّ على القاذف، عدّة روايات:

عن سليمان يعنى ابن خالد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السلام قال: يجلد قاذف الملاعنة «1».

و عن ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: يحدّ قاذف اللقيط و يحدّ قاذف

الملاعنة «2».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قذف ملاعنة قال: عليه الحدّ «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 132

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رجل قذف امرأته فتلاعنا ثم قذفها بعد ما تفرّقا أيضا بالزنا أ عليه حدّ؟ قال: نعم عليه حدّ «1».

و هذه الروايات كما ترى صريحة في وجوب الحدّ على القاذف.

قذف المحدودة قبل التوبة أو بعدها

قال المحقق: و لو قال لابن المحدودة قبل التوبة لم يجب به الحدّ و بعد التوبة يثبت الحدّ.

أقول: إذا زنت امرأة و أقيم عليها الحدّ ثم نسبت إلى الزنا بلا واسطة كما إذا قال الرامي لها: يا زانية أو بواسطة ولدها بأن قال له: يا بن الزانية فلا يخلو عن أنه قال بذلك قبل أن تتوب أو بعد ذلك فعلى الأوّل لا حدّ على القاذف و على الثاني يجب حدّ القذف عليه أمّا الأوّل فللأصل و لأنّه لا فرية هنا لأن المفروض قيام البيّنة على زناها، و ثبوت الزنا بذلك و حدّت عقيب ذلك و هي لم تتب بعد، فقد خرجت عن المحصنات فلا تشملها آية الرمي الواردة في قذف المحصنات العفيفات و عليه فلا يترتّب على قذفها شي ء و أمّا الثاني فلأنّه و إن أقيمت الشهادة على زناها و قد ثبت ذلك بشهادة الأربع و حدّت لكنّها قد تابت من عملها الشنيع و صارت بذلك محصنة فيكون قذفها قذف المحصنات الموجب للحدّ.

و يدلّ

على ذلك خبر فضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه و أبا الحسن عليهما السلام عن امرأة زنت فأتت بولد و أقرّت عند إمام المسلمين بأنّها زنت و أن ولدها ذلك من الزنا فأقيم عليها الحدّ و إنّ ذلك الولد نشأ حتّى صار رجلا فافترى عليه رجل هل يجلد من افترى عليه؟ فقال: يجلد و لا يجلد فقلت: كيف يجلد و لا يجلد؟ فقال: من قال له: يا ولد الزنا لم يجلد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 133

و يعزّر و هو دون الحدّ و من قال له: يا بن الزانية جلد الحدّ كاملا قلت له: كيف (صار) جلد هكذا؟ فقال: إنّه إذا قال له: يا ولد الزنا كان قد صدق فيه و عزّر على تعييره أمّه ثانية و قد أقيم عليها الحدّ فإن قال له: يا ابن الزانية جلد الحدّ تامّا لفريته عليها بعد إظهار التوبة و إقامة الإمام عليها الحدّ «1».

ثم إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم، الفرق بين الملاعنة و المحدودة قبل التوبة و وجه الحكم بثبوت حدّ القذف في الأولى دون الثانية فإنّ اللعان ليس طريقا لثبوت الزنا بل هو سبب لسقوط الحدّ فهي بعد لم تخرج عن كونها محصنة و هذا بخلاف المحدودة غير التائبة فإنّها خرجت عن كونها محصنة بإقامة الشهود الشهادة على زناءها، و إجراء الحدّ عليها مع عدم توبتها فلا يوجب قذفها حدا لأنّها ليست من المحصنات و الحال هذه.

إذا قال لامرأته: زنيت بك.

قال المحقّق: و لو قال لامرأته: زنيت بك فلها حدّ على التردّد المذكور و لا يثبت في طرفه حدّ الزنا

حتّى يقرّ أربعا.

أقول: وجه التردّد هو احتمال كونها مكرهة فليست العبارة المذكورة قذفا لها و هذا التردّد هو الذي قد ذكره في ما لو قال لمخاطبه: زنيت بفلانة، فراجع.

و في المسالك: و الأقوى ثبوته ما لم يدّع الإكراه بتقريب ما سبق ثم تعرّض لصحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل قال لامرأته: يا زانية أنا زنيت بك قال: عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها و أمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه إلّا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام «2» فإنّ ظاهره أنه لا أثر لقوله: أنا زنيت بك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 134

و أجاب قدّس سرّه عن ذلك بقوله: لا يدلّ على ثبوت الحدّ بقوله أنا زنيت بك و لا نفيه لأن حدّ القذف ثابت على المذكور في الرواية بالكلمة الأولى و هي قوله: يا زانية و يبقى حكم الآخر على الاشتباه و لا يلزم من تعليق الحكم على الاشتباه و لا يلزم من تعليق الحكم على اللفظين ثبوته مع أحدهما إلّا أنه ثابت بالأوّل من دليل خارج انتهى.

أقول: و يمكن إثبات ظهور اللفظة و لزوم حدّ القذف برواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا سألت الفاجرة من فجر بك فقالت: فلان فإنّ عليها حدّين حدّا من فجورها و حدّا من فريتها على الرجل المسلم «1».

و ذلك لعدم الفرق بين: فجر بي فلان، و زنيت بك. و أنت ترى أن الإمام عليه

السلام حكم في الأوّل بالحدّ للفجور فلو لم يكن (زنى بي) ظاهرا في اختيارها فكيف تستحقّ حدّ الفجور مع إمكان أن يكون المزني بها مكرهة و حيث إنه لا فرق بين هذا الكلام و بين قوله: زنيت بك فلا محالة يكون هو أيضا ظاهرا في الاختيار أي اختيارها فيكون قذفا لها، و احتمال الإكراه لا يؤثّر شيئا كما أنه لا ينفع بالنسبة إلى حدّ فجورها فقد حكم بذلك الحدّ أيضا مع احتمال كونها مكرهة على الزنا.

لا يقال: إنّ الموضوع في رواية السكوني هو الفاجرة و هذا العنوان ظاهر جدّا في الإرادة و الاختيار فلا يكون الخبر شاهدا للمقام.

لأنّا نقول: إنّ الفاجرة أيضا قد تكون مكرهة فإنّ حالها تتفاوت بالنسبة إلى الأشخاص و بالنسبة إلى ما يبذل لها.

و أمّا ما يتوهّم من أن الرواية تدلّ على إقامة حدّ الفجور بالإقرار مرّة واحدة.

ففيه أنّها ساكتة عن هذه الجهة لعدم كونها في مقام البيان بالنسبة لها فالمراد

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 67 ح 12 وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 135

أنّها تحدّ حدّ الفجور بشرائطه.

ألفاظ خاصّة

قال المحقّق: و لو قال: يا ديّوث أو يا كشخان أو يا قرنان أو غير ذلك من الألفاظ فإن أفادت القذف في عرف القائل لزمه الحدّ و إن لم يعرف فائدتها أو كانت مفيدة لغيره فلا حدّ و يعزّر إن أفادت فائدة يكرهها المواجه.

أقول: ظاهر عبارته أن هذه الألفاظ إن أفادت القذف في عرف القائل يلزم هناك الحدّ و إن لم يفد في عرف المواجه و لذا قال صاحب الجواهر بعد ذلك: و كذا لو كانت مفيدة في عرف المواجه

و قالها له جريا على عرفه انتهى.

و فيه إنّ الظاهر أن الأدلّة محمولة على المتعارف بين الناس و هو ما إذا قاله الرامي و فهم منه المخاطب و المقول فيه ذلك، و إلّا فالذي يلقي الكلمة الخبيثة بلا سامع أصلا فهو أيضا مشمول للأدلّة و هو بعيد.

و على الجملة فصدق الرمي بمجرّد الإفادة في عرف القائل غير معلوم بل لو كان في عرف المتكلّم غير مفيد و في عرف المواجه صريحا فصدق الرمي عليه أولى.

و الأولى أن يقال إن كان اللفظ مفيدا في عرفهما فلا إشكال في كونه رميا و أمّا في غير هذه الصورة فصدق الرمي بنحو الإطلاق ممنوع و لا أقلّ من كونه مشكوكا فيه و يدرء الحدّ للشبهة [1].

نعم يمكن أن يوجب الكلمة الخاصة تعزير القائل مع عدم تحقّق القذف إذا أوجب إكراه المواجه و إيذاءه.

______________________________

[1] و قد أوردت عليه دام ظلّه بأنه كيف لم تتعرّضوا لهذا الإشكال في أوّل بحث القذف الذي صرّح المحقّق بقوله: مع معرفة القائل، فأجاب بورود الإشكال هناك أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 136

الكلام في التعريض

قال المحقّق: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه و لم يوضع للقذف لغة و لا عرفا يثبت به التعزير لا الحدّ.

أقول: إنّ التعريض على ما قالوا خلاف التصريح و هو الإيماء و التلويح و لعلّ معناه الظاهر هو الكناية و كون الكلام موهما [1].

قال صاحب الجواهر بعد عبارة المحقّق: بلا خلاف أجده فيه بيننا. ثم قال:

نعم عن مالك أنه يجعله قذفا عند الغضب دون الرضا انتهى.

و كأنّه رحمه اللّه كانت له عناية بنقل ذلك عن مالك.

و كيف كان فعنده أن التعريض إذا كان عند الغضب فهو قذف و هذا الذي

ذكره لا بأس به، و ذلك لتحقّق الدلالة العرفية عند إلقائه في حال الغضب دون مقام الرضا.

قال في الجواهر توجيها لما ذكره مالك من كونه قذفا: يمكن إرادته الدّالّ منه عرفا على ذلك لا غيره ممّا لم يكن كذلك.

ثم قال: اللّهم أن يقال: إنّ التعريض الذي نفوا الحدّ فيه دالّ عرفا بدلالة التعريض إلّا أنّها غير معتبرة في ثبوت القذف للأصل و اعتبار التصريح في ما سمعته من الخبر و بناء الحدّ على التخفيف و غير ذلك، و من هنا صرّح في الرياض بعدم اعتبار التعريض.

و فيه إنّه قد تقدّم عدم خصوصيّة للصريح بمعناه اللغوي بل كان يكفي مطلق الدلالة و إن كان بالظهور لا بالصراحة و حينئذ فإذا كان التعريض دالّا عرفا على

______________________________

[1] في مجمع البحرين: الكناية بالكسر و هي ما دلّ على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز بوصف جامع بينهما و يكون في المفرد و المركّب و هي غير التعريض فإنّه اللفظ الدّال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح و الإشارة فيختصّ باللفظ المركّب كقول من يتوقّع صلة: و اللّه إنّي لمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 137

نسبة الزنا مثلا إليه فكيف يقال بعدم الحدّ بعد أن حكم الشارع كتابا و سنة مترتّب على ما يفهم من اللفظ أي القذف فإنّ خطابات الشرع منزّلة على المفاهيم العرفية و على الجملة فلو كانت الدلالة بالتأويل و التوجيه فهو و أمّا إذا كان لفظ التعريض دالّا عرفا فهو من أقسام المصرّح و يترتّب عليه الحدّ.

و على هذا فيكفي في تحقّق القذف الظهور العرفي و لا حاجة إلى الصريح.

و

قد يتمسّك لاعتبار التصريح برواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام: إنّ عليّا عليه السلام كان يعزّر في الهجاء و لا يجلد الحدّ إلّا في الفرية المصرّحة أن يقول: يا زان أو يا بن الزانية، أو لست لأبيك «1».

و فيه أنه مع التصريح باعتبار الفرية المصرّحة فقد مثّل عليه السلام بقوله:

لست لأبيك، مع أنه ليس بصريح في الزنا بل هو ظاهر فيه لاستعماله في ولد الشّبهة أيضا و على هذا فالموارد التي نفى الإمام عليه السلام الحدّ فيها لم يكن فيها ظهور عرفيّ.

إن قلت: إنّ النسب التعريضيّة مثل قوله القائل: لست بحمد اللّه بزان أيضا ظاهر في نسبة المخاطب مثلا إلى الزنا [1].

نقول: ليس لهذا التركيب ظهور عرفيّ في ذلك كما أن قولنا: أنت لا تأكل أموال الناس، لا يدلّ على أنّنا نأكل أموال الناس.

ثم إنّ المستفاد من عبارة المحقّق هو أن الملاك في التعريض الموجب للتعزير هو كونه بما يكرهه المواجه.

و فيه إنّه لا خصوصيّة للمواجه فربّما لا يكون النسبة متوجّهة إليه بل النسبة متوجّهة إلى شخص آخر لا تعلّق له بالمواجه به أو أنه و إن كانت بينهما علقة و قرابة لكنّها لا توجب كراهية المواجه فهل يمكن أن يقال: إنّه ليس بتعريض أو

______________________________

[1] من المقرّر، و قد أجاب دام بقاه بما في المتن و لعل مراده أن قول: لست بزان دالّ على عدم زناه قطعا و لا يدلّ على زنا الغير قطعا بل يريد أن يقول هناك احتمال ذلك و هذا لا يوجب الحدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 138

أنه لا يوجب التعزير استنادا إلى عدم

إيجابه كراهية المواجه؟

و على الجملة فلم يتعرّض بحسب ظاهر كلامه لما يكرهه المنسوب إليه لو سمعه مع أنه أيضا كالأوّل و لا خصوصيّة له.

بل لعلّ ذلك خلاف المستفاد من الروايات، فإنّ الظاهر منها أن مطلق السبّ و الهجاء و ما يوجب كراهية من قيل فيه يقتضي تعزيره و إليك قسما من الروايات الدّالّة على أن السّب مطلقا أو الهجاء للمؤمن حرام و فسوق أو أنه يوجب التعزير و قد ذكر قسم منها في أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج و قسم آخر منها في أبواب القذف:

فمنها عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية و حرمة ماله كحرمة دمه «1».

و عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: قال اللّه عزّ و جلّ: ليأذن بحرب منّي من أذلّ عبدي المؤمن و ليأمن من غضبي من أكرم عبدي المؤمن «2».

و هذه الروايات تدلّ على الحرمة و أمّا ما دلّ على التعزير أيضا:

ففي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل سبّ رجلا بغير قذف يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير «3».

و عن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا قال الرجل: أنت خبيث (خنث) أو أنت خنزير فليس فيه حدّ و لكن فيه موعظة و بعض العقوبة [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 2، و في المنجد: خنث الرجل فهو خنث، كان فيه لين و تكسّر و تثنّ فكان على صورة الرجال و أحوال

النساء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 8 ص 610 ب 158 من أحكام العشرة ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 8 ص 591 ب 147 من أحكام العشرة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 452 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 139

و عن أبي مخلّد السّراج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون فأمر الأوّل أن يجلد صاحبه عشرين جلدة و قال: اعلم أنه مستعقب مثلها عشرين فلمّا جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما «1».

و عن النعمان بن عبد السلام عن أبي حنيفة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قال لآخر: يا فاسق، قال: لا حدّ عليه و يعزّر «2».

و عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الهجاء التعزير «3».

و عن إسحاق بن عمّار عن جعفر عليه السلام: إنّ عليّا عليه السلام كان يعزّر في الهجاء و لا يجلد الحدّ إلّا في الفرية المصرّحة أن يقول: يا زان، أو يا ابن الزانية أو لست لأبيك «4».

و في قرب الإسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه في رجل قال لرجل: يا شارب الخمر يا آكل الخنزير قال: لا حدّ عليه و لكن يضرب أسواطا «5».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين افترى كلّ واحد منهما على صاحبه؟ فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران «6».

و عن أبي ولّاد الحنّاط قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أتى أمير المؤمنين عليه

السلام برجلين قذف كلّ واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه، قال:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 6.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 10.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 140

فدرأ عنهما الحدّ و عزّرهما [1].

إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على المقصود و سيأتي بعض آخر منها في طيّ الأبحاث و على الجملة فلا شكّ في أن إيذاء المؤمن من المعاصي الكبيرة و لا في أن سبّه أو تعريضه موجب لإيذائه و هو موجب للتعزير فإذا سبّ مؤمنا فإنّه يعزّر على ذلك سواء كان سبّه له بالمواجهة أو في غيابه.

نعم لو اغتابه بلا سبّ فربّما يكفّره مجرّد الاستحلال منه بلا حاجة إلى التعزير إلّا أن يثبت في محلّه وجوب التعزير لكلّ كبيرة و لا أقلّ من إثبات وجوبه للغيبة.

و أمّا وجوب التعزير لسبّ المؤمن إذا لم يكن مقرونا بالقذف فهو المصرّح به في هذه الرّوايات.

و قد اتّضح أن الأخبار متعرّضة للتعزير في موارد و عند حصول عناوين مختلفة:

أحدها: السّب كما في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه المذكورة آنفا.

ثانيها و ثالثها: قول يا خبيث، أو يا خنث أو يا خنزير كما في رواية المدائني.

رابعها: قول: يا ابن المجنون كما في رواية السّرّاج.

خامسها قول: يا فاسق كما في رواية أبي حنيفة.

سادسها: الهجاء كما في

رواية أبي مريم و رواية إسحاق بن عمّار.

سابعها و ثامنها قول: يا شارب الخمر، يا آكل الخنزير كما في رواية قرب الإسناد.

تاسعها: افتراء كل منهما الآخر كما في رواية عبد اللّه بن سنان.

عاشرها: قذف كلّ منهما الآخر كما في رواية الحنّاط.

لكن لا يخفى أن التعزير هنا مخصوص بما إذا كان قذف كل بالنسبة إلى صاحبه. و أمّا إذا كان بالنسبة إلى والد الآخر أو والدته كما إذا قال: يا بن الزاني

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2- قوله: في بدنه، الظاهر أنه بدنة أي قذف صاحبه في نزاع بينهما في بدنة. راجع الوافي ج 2 أبواب الحدود ص 56.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 141

أو يا بن الزانية فهنا لكلّ من المقذوفين أن يطالب حدّ القاذف فدرء الحد، مخصوص بما إذا قال كلّ للآخر: يا زاني مثلا.

و هنا روايات مشتملة على عناوين أخر في هذا المقام فنقول:

حادي عشرها و ثاني عشرها: لا أب لك و لا أمّ لك ففي رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال: من قال لصاحبه: لا أب لك و لا أمّ لك يتصدّق بشي ء و من قال: لا و أبي فليقل أشهد أن لا إله إلّا اللّه فإنّها كفّارة لقوله [1].

أقول: الظاهر أن المراد بقوله: لا أب و لا أمّ لك هو أنه ليس لك أب و أمّ وجيهان لا أن يكون المقصود كونه من الزنا.

ثالث عشرها: احتلمت بأمّك أي رأيتها في المنام و حصل لي الاحتلام بها.

كما في رواية حسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ رجلا لقي رجلا على

عهد أمير المؤمنين عليه السلام فقال: إنّ هذا افترى عليّ قال:

و ما قال لك؟ قال: إنّه احتلم بأمّ الآخر قال: إنّ في العدل إن شئت جلدت ظلّه فإنّ الحلم إنّما هو مثل الظلّ و لكنّا سنوجعه ضربا وجيعا حتّى لا يؤذي المسلمين، فضربه ضربا وجيعا «1».

و عن محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام:

إنّ رجلا قال له: إنّ هذا زعم أنه احتلم بأمّي فقال: إنّ الحلم بمنزلة الظّلّ فإن شئت جلدت لك ظلّه ثم قال: لكني أؤدّبه لئلّا يعود يؤذي المسلمين «2»

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حدّ القذف ح 7 و حيث إنّ اللفظين كان من السبّ فلذا قال: فليتصدّق و أمّا قول: و أبي فهو القسم بغير اللّه تعالى و فيه شائبة الشرك فلذا يكفّره بقول: لا إله إلّا اللّه و قد ورد في تفسير آية: و ما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا و هم مشركون، يوسف 106 عن الباقر عليه السلام: من ذلك قول الرجل: لا و حياتك، راجع تفسير الصافي ج 1 ص 860.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 142

رابع عشرها: قول الرجل لامرأته: لم أجدك عذراء كما في روايات عديدة و سيأتي الكلام فيه.

خامس عشرها الإيذاء و هو الكلّي الجامع الذي يشمل الموارد المذكورة و يجمعها و هذا العنوان مذكور في هاتين: رواية حسين بن أبي العلا و رواية قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ففي الأولى حتّى لا يؤذي المسلمين، و في الأخيرة: لئلا يعود يؤذي المسلمين.

ثم

إنّ في بعض الروايات تعزير من افترى على أهل الذمّة و أهل الكتاب، و عليه فمن العناوين: الافتراء عليهم.

فعن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الافتراء على أهل الذمّة و أهل الكتاب هل يجلد المسلم الحدّ في الافتراء عليهم؟ قال: لا و لكن يعزّر «1».

ثمّ إنّ مقتضى التعليل الوارد في رواية حسين بن أبي العلا و رواية القضايا هو أن الملاك الكلّي الإيذاء و من المعلوم أن إيذاء المسلم حرام يوجب التعزير سواء كان لفظيّا أم فعليّا و سواء كان بالنسبة إلى المواجه أو الغائب إذا كان هناك مخاطب و إن لم يكن النسبة إليه و لا إلى من يلوذ به بل إلى أجنبيّ عنه.

نعم هو منصرف عمّا إذا قال في حقّ أحد كلمة سوء و لم يكن هناك أحد يستمعه و إنّما ذكر ذلك و تفوه بها تحت لحافه مثلا.

ثم إنّه بعد ما استفدنا أن الملاك الكلّي هو استخفاف المؤمن و إيذائه فالظاهر أنه لا اختصاص بتلك الكلمات الواردة في الروايات فدقّق النظر في رواية حسين بن أبي العلا تجد أنه لا خصوصيّة للرؤيا في المنام و لا للتّفوّه بتلك الكلمة الخاصّة أي احتلمت بأمك بل تمام المعيار هو إيذاء المسلم و عليه فالأمثلة الواردة في الروايات كانت من باب المثال لا لخصوصيّة فيها فلذا لو قال له: يا آكل الربا أو يا آكل الدم أو الميتة و غير ذلك فالأمر كما ذكر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 143

قال المحقّق الأردبيلي (عند قول العلّامة في الإرشاد: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه يوجب التعزير كانت

ولد حرام.): و الظاهر أن كلّ ما يؤذي المسلم بغير حقّ بل كلّ ذنب غير موجب للحدّ موجب للتعزير و ليس بمخصوص بالخطاب إلى مواجه بما يكرهه كما يفهم من تضاعيف الأبحاث و لأنّه لا خصوصيّة له بالمخاطب بل باللّفظ و الكلام أيضا بل سببه كونه معصية و ذنبا فيؤخذ أينما وجد، و أمّا الدليل على الكليّة فلا يكاد أن يوجد ما يكون نصّا فيه نعم قد يوجد في الأخبار ما يمكن فهمه منها و قد مرّ بعضها مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام إلخ فراجع.

و قد ذكر العلماء رضوان اللّه تعالى عليهم أمثلة كثيرة ينطبق على كثير منها السبّ أو ما يؤذي المؤمن من جهة دلالتها على فعل المحرّم أو على ما هو وهن و تحقير له مثل يا خبيث و يا وضيع.

و قد مثّل المحقّق قدّس سرّه لذلك

بقوله: أنت ولد حرام، أو حملت بك أمّك في حيضها أو يقول لزوجته لم أجدك عذراء أو يقول: يا فاسق أو يا شارب الخمر و نحو ذلك و هو متظاهر بالفسق، أو يا خنزير أو يا كلب أو يا حقير أو يا وضيع.

فإنّ الجملة الأولى ليست صريحة و لا ظاهرة في الزنا لاستعماله في غير هذا المعنى أيضا كالحمل في حال الحيض أو الصوم أو الإحرام.

و الجملة الثانية صريحة في معنى آخر غير ما هو ملاك القذف لكنها نسبة توجب الاستخفاف و الفضيحة.

و الجملة الثالثة أيضا ليست صريحة في نسبة الزنا إليها و لا ظاهرة في ذلك فإنّ العذرة قد تزول بأسباب أخر غير المجامعة كما صرّح بذلك في مرسلة الصدوق:

إنّ العذرة قد تسقط من غير جماع قد

تذهب بالنكبة و العثرة و السّقطة [1].

و يدلّ على لزوم التعزير في خصوص هذا القول رواية يونس عن أبي بصير

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 6 أقول: قال في مجمع البحرين: النكبة في قوله: العذرة يعنى البكارة قد تذهب بالنكبة، يعني الطفرة و العثرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 144

عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في رجل قال لامرأته: لم أجدك عذراء قال:

يضرب، قلت: فإن عاد قال: يضرب فإنّه يوشك أن ينتهي «1».

قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي بعد نقل هذا الخبر: و رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن عبيد عن يونس. و زاد: قال يونس:

يضرب ضرب أدب ليس يضرب الحدّ لئلّا يؤذي امرأة مؤمنة بالتعريض.

و أمّا باقي الألفاظ الذي ذكره المحقّق قدّس سرّه فقد صرّح ببعضها في الروايات المتقدّمة كرواية المدائني و السّرّاج. مضافا إلى أن نسبة الفسق أو فسق خاصّ إلى المسلم يوجب إيذاءه و هو يوجب التعزير.

نعم هذا مخصوص بمن يواظب على الستر و الإخفاء و يأبى عن التجاهر بالفسق فلو كان متجاهرا بالفسق فلا بأس برميه به و هو مستحق لذلك و لا تعزير عليه كما سيأتي البحث في ذلك.

و هل إطلاق الكلب و الخنزير على الفاسق أيضا كذلك؟ لا يبعد ذلك.

و التعدّي عن جواز غيبته إلى إطلاق هذه الكلمات عليه لا يخلو عن كلام.

و قد يقال [1] إنّه قد ورد في خصوص المورد ما يفيد الجواز مثل قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمروان: الوزغ بن الوزغ «2».

و قول الإمام أبي جعفر عليه السلام لمن قال له: إنّي أصوم يوما و أفطر يوما فهل يكون

هذا كفّارة لذاك؟: يا بازنة تعمل عمل أهل النار و تريد أن تدخل الجنة «3».

فقد أطلق في الأول لفظ الوزغ على مروان و أبيه و في الثاني لفظ بازنة المراد منه بوزينه، على الشخص الذي كان يزني يوما و يصوم يوما.

أقول: و لعلّه كذلك كما أن رسول اللّه عليه و آله شتم بني قريظة بأمثال هذه

______________________________

[1] قاله هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 2.

(2) الغدير ج 8 ص 260 نقلا عن مستدرك الحاكم- 4- 479.

(3) الوافي ج 2 باب الحدود و التعزيرات ص 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 145

الكلمات فقد ورد أنه كان كعب بن أسيد يشتم رسول اللّه و يشتم المسلمين فلمّا دنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من حصنهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير و عبدة الطاغوت أ تشتموني إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحهم- صباح المنذرين- فأشرف عليهم كعب بن أسيد من الحصن فقال: و اللّه يا أبا القاسم ما كنت جهولا و لا سبّابا فاستحيى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى سقط الرداء من ظهره حياء ممّا قال [1].

ثم إنّه بعد أن ثبت أن إيذاء المسلم حرام قطعا و بلا ترديد يأتي هنا سؤال و هو أنه هل يمكن الحكم بحرمة كلّ ما يتأذّى منه المسلم و إن كان تأذّيه على خلاف القاعدة لكونه بنفسه خلاف المتعارف و كان له شذوذ و حالات خاصّة؟.

الظاهر خلاف ذلك و أنّ المعيار هو تأذّيه المناسب بحيث كان عند متعارف الناس في موضعه و يحكم العرف بأنه كان حقيقا بأن يتأذّى لا ما إذا كان يتأذّى لكونه كثير التوقّع

سريع التأثّر ينتظر من الناس ما لا يطيقونه و يتوقّع منهم ما لا يتحمّله المجتمع في محاوراتهم و مراوداتهم.

و منه قد اتّضح حال فرع آخر و هو أن بعض الناس يتأذّون بمدحهم و بالكلمة الحسنة التي يقال فيهم فإنّه لا مجال للحكم بالحرمة و التعزير هنا.

و على الجملة فالمعيار هو ما كان متعارفا فإيذاءه بهذا النحو و إلقاء كلمة إليه توجب ذلك يوجب التعزير.

و أمّا أنّ كلّ كبيرة أو كل معصية يوجب التعزير أم لا فهو يحتاج إلى مزيد التتبّع و مراجعة الأدلّة و سيأتي البحث عن ذلك إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] بحار الأنوار ج 2 ص 234 و 262، و في السفينة في رواية الطبرسي قال بعد قوله: فساء صباح المنذرين: يا عباد الطواغيت اخسأوا أخساكم اللّه فصاحوا يمينا و شمالا: يا أبا القاسم ما كنت فحّاشا فما بدا لك؟ قال الصادق عليه السلام: فسقطت العنزة من يده و سقط رداؤه من خلفه و رجع يمشي إلى ورائه حياء ممّا قال لهم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 146

إذا كان المقول له مستحقا فلا شي ء على من عرّضه

قال المحقّق: و لو كان المقول له مستحقّا للاستخفاف فلا حدّ و لا تعزير.

و في الجواهر في بيان وجه استحقاق الاستخفاف و موجبه: لكفر أو ابتداع أو تجاهر بفسق.

و حاصل الكلام أنه لو كان الرامي كافرا أو مبتدعا في الدين أو متجاهرا بالمعصية فهو مستحقّ للاستخفاف و الإهانة به و لا بأس بذلك.

و قال عند قول المحقّق: فلا حدّ و لا تعزير،: بلا خلاف بل عن الغنية الإجماع عليه بل و إشكال بل يترتّب له الأجر على ذلك [1].

أقول: أمّا الكافر فهو و إن كان يدلّ على جواز قذفه بعض الروايات إلّا أن في

بعضها الآخر ما يخالف ذلك فعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه نهى عن قذف من ليس على الإسلام إلّا أن يطّلع على ذلك منهم و قال: أيسر ما يكون أن يكون قد كذب «1».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام إلّا أن تكون قد اطّلعت على ذلك منه «2».

______________________________

[1] أقول: محلّ البحث هنا غير منقّح و ذلك لأن الظاهر بمناسبة المطالب السابقة هو إلقاء الألفاظ و العناوين الموهنة إلّا أن نفي الحدّ في كلام المحقّق ينافي ذلك و لذا قال في المسالك:

و يظهر من قوله: فلا حدّ و لا تعزير أن بعض المذكورات يوجب الحدّ و الّا لما كان لنفيه فائدة و ليس كذلك لأنّها في جميعها يوجب التعزير إلّا أن يريد بنفي الحدّ في حقّه على تقدير قذفه بالزنا مع تظاهره به فإنّ القذف ممّا يوجب الحدّ في غيره و لكن سيأتي أنه يوجب التعزير و الأولى ترك الحدّ، و الاقتصار على نفي هذا التعزير كما صنع في القواعد انتهى. أقول: و سيأتي كلام عن سيّدنا الأستاد الأكبر في ذلك الشأن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 147

فمقتضى هاتين الروايتين أن قذف غير المسلم منهيّ عنه مع عدم اطّلاع على فعله و أمّا مع الاطلاع فلا بأس به.

و عليه فالفرق بين المسلم و الكافر في أنه لا يجوز القذف بالنسبة إلى المسلم مطلقا صادقا أو كاذبا و أمّا بالنسبة إلى كافر فلا يجوز

بدون الاطلاع أي كاذبا و أمّا صادقا كما إذا كان قد رأى ذلك منه فلا بأس به، و مع ذلك فلا تعرّض فيهما للتعزير و عدمه.

و عن أبي الحسن الحذّاء قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فسألني رجل ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر إليّ أبو عبد اللّه عليه السلام نظرا شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنّه مجوسيّ أمّه أخته فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟ «1».

و هنا أيضا و إن لم يكن تعرّض بالنسبة إلى الحدّ أو التعزير إلّا أنه ظاهر في الحرمة و المعصية.

و عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه إنّي قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا، فقال: أما إنّها ستقاد منك يوم القيامة فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطا ثمّ قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقتها ثم أتت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به «2».

و يستظهر من هذا ترتب الحدّ أو التعزير مضافا إلى الحرمة، كما يستفاد منه أيضا أنه لو عفى صاحب الحق فلا بأس به و يسقط بذلك الحد.

لا يقال: إنه يستفاد منه أيضا أن أمر الحدّ أو التعزير يكون بيد غير الحاكم أيضا لأنّه يقال: لا دلالة له على ذلك لأنّه وقع الأمر و تحقّق تحت نظر النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بإمضائه صلوات اللّه عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 148

و كيف كان ليس المقصود من جواز قذف الكفّار جوازه على الإطلاق بل في الجملة فإنّ الأخبار على طوائف مختلفة، و سيأتي كلام آخر في ذلك- في البحث عن المقذوف فانتظر.

هذا أبا لنسبة إلى الكافر و أمّا المبتدع فيجوز ذكره بسوء لأنه مستحقّ للاستخفاف ففي رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام- و يحذرهم الناس- و لا يتعلّمون من بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة «1».

ترى أنه قد جوّز بمقتضاها البهتان و الافتراء عليهم و حيث إنّ الكذب غير جائز فلا بدّ من القول بأنّه قد جوّز الكذب هنا للمصلحة و هي سقوط اعتبار المبتدع و كسر جاهه في أنظار الناس كيلا يميلوا إليه فيضلّوا به و إلّا فالبهتان و الكذب ليسا بجائزين [1].

______________________________

[1] كأنّه دام ظلّه العالي كان قاطعاً بأن قوله عليه السلام: باهتوهم بمعنى البهتان و الحال أنه محلّ البحث فإنّه ورد أن: بهته بهتا أي أخذه بغتة.

و قال العلّامة المجلسي قدّس سرّه في مرآة العقول ج 11 ص 81 بشرح الخبر: و الظاهر أن المراد بالمباهتة إلزامهم بالحجج القاطعة و جعلهم متحيّرين لا يحيرون جوابا كما قال تعالى:

فبهت الذي كفر، و يحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإنّ كثيرا من المساوي يعدّها أكثر الناس محاسن خصوصا العقائد الباطلة و الأوّل أظهر قال الجواهريّ: بهته بهتا أخذه بغتة و بهت الرجل

بالكسر إذا دهش و تحيّر إلخ.

و قال في رسالته الفارسية الموسومة ب حدود و قصاص و ديات ص 28: عند ذكر الرواية:

و بر ايشان حجّت تمام كنيد تا ايشان طغيان نكنند در فاسد كردن دين إسلام.

و ترى أن صاحب الرياض بعد نقّل الرواية قال: و لا تصحّ مواجهته بما يكون نسبته إليه كذبا لحرمته و إمكان الوقيعة فيه من دونه إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 39 من أبواب الأمر بالمعروف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 149

و أمّا المتجاهر بالفسق فجواز إهانته ممّا نصّ عليه في الأخبار [1].

ففي رواية هارون بن الجهم عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام: قال:

إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة «2».

(و عن قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع و الإمام الجائر و الفاسق المعلن بالفسق) «3».

نعم غيبته في غير ما تجاهر به من المعاصي مشكل فيقتصر في غيبته على المعصية المتجاهر بها.

فتحصّل أن التعريض و النسبة السوء إلى الأشخاص يوجب التعزير إن حصل شرائط التعريض لا مع عدمه و هو في مورد الكافر الرؤية و الاطلاع على ما رأيت في بعض الأخبار الماضية [4] و في مورد الفسّاق الفسق المتجاهر بها و في غيرهما البدعة في الدين.

ثم لا يخفى أن المحقّق رحمه اللّه نفى في هذا المقام كلّا من الحدّ و التعزير فقال:

لا حدّ و لا تعزير، و قال في البحث عن المقذوف و عند اشتراطه فيه البلوغ و كمال العقل و الحريّة و الإسلام و العفّة: فمن استكملها وجب لقذفه الحدّ و من فقدها أو بعضها فلا حدّ

و فيه التعزير انتهى.

فحيث إنّه صرّح بلزوم تعزير القاذف إذا قذف الكافر مثلا فلا بدّ أن يكون قوله في المقام: (فلا حد و لا تعزير) متعلّقا و مربوطا بالتعريض و عليه فمعنى الكلام أن التعريض الذي لو كان بالنسبة إلى المسلم لكان موجبا للتعزير

______________________________

[1] و عن الغنية الإجماع عليه.

[4] و قد علمت أن تلك الأخبار واردة في قذف الكافر و متعلّقة بحدّه لا تعزيره اللّهمّ إلّا أن يتمسّك بتنقيح المناط.

______________________________

(2) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 150

فلا يوجب ذلك إذا كان بالنسبة إلى الكافر فلا تعزير هنا كما لا حدّ.

تعزير من قال ما يوجب الأذى

قال المحقّق: و كذا كلّ ما يوجب أذى كقوله: يا أجذم و يا أبرص.

أقول: إنّ ذكر هذه الجملة هنا زائد لا حاجة إليها أصلا بعد أن صرّح بأن الملاك الكلّي هو كراهة المواجه فكان ينبغي له أن يقتصر على ذكر المثالين عطفا على الأمثلة المتقدّمة.

و مجرّد كونهما راجعين إلى العيوب الجسمانيّة و من باب نسبة المواجه إلى عيب في بدنه لا يوجب أداء المطلب على النحو المزبور [1].

ثمّ إنّه لا يبعد عدم الفرق في حرمة التعريض بين ما إذا كان المواجه فطنا متوجّها و ما إذا كان بحيث لا يدرك الخير و الشرّ أو كان بحيث لا يبالي بما قال و لا ما قيل فيه [2].

بحث في التعزير

ثم إنّه لما انجرّ الكلام إلى تعزير من رمى بما فيه تعريض و إيذاء للغير فقد ناسب أن نبحث في التعزير مطلقا سواء كان من هذا المورد أو غيره.

فنقول: هل يمكن القول بوجوب التعزير في كلّ الذنوب و المعاصي أم لا؟ و لا أقل أن نقول: إنّه يترتب على كلّ الكبائر أم لا؟ بعد أن علم ترتّب التعزير على

______________________________

[1] قاله دام ظلّه العالي جوابا عمّا أوردته من أن هذا البحث ممتاز عن سابقه باعتبار تعلّقه بنسبة أحد غيره إلى ما كان من عيوبه الجسمانية.

[2] إذا كان الملاك هو الإيذاء فلا يخلو ما أفاده دام ظلّه في الفرضين الأخيرين عن كلام فتأمّل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 151

الإيذاء و الإهانة بمقتضى الأخبار السابقة. يمكن أن يقال باستفادة ذلك منها بلحاظ ذكر أشياء أخر فيها أيضا يوجب التعزير كما هو المصرّح به فيها.

ففي رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: آكل الميتة و

الدّم و لحم الخنزير عليه أدب فإن عاد أدّب فإن عاد أدّب و ليس عليه حدّ «1».

و عن أبي بصير قال: قلت: آكل الربا بعد البيّنة قال: يؤدّب فإن عاد أدّب فإن عاد قتل «2».

بل لعلّه ورد التعزير [1] في بعض الصغائر أيضا كما أنه قد ورد موارد لم يقع هناك تعزير فقد روى أن الخثعميّة أتت رسول اللّه عليه و آله في حجّة الوداع تستفتيه في الحجّ و كان الفضل بن عبّاس رديف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ ينظر إليهما و أخذت تنظر إليه فصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وجه الفضل عنها و قال: رجل شابّ و امرأة شابّة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان «3».

ترى أنّه صلوات اللّه عليه صرف وجه الفضل و لم يعزّره.

و على الجملة فلم يرد نصّ يدلّ على أن كلّ من فعل ذنبا و أتى بمحرّم يعزّر بل من يقول بذلك فإنّما هو من باب الاستظهار و الاستفادة من تلك الروايات

______________________________

[1] و هنا موارد أخر صرّح في الروايات بالتعزير فيها، منها: مطاوعة المرأة لزوجها في إفطار رمضان فإنّه يضرب كلّ واحد منهما خمسة و عشرين سوطا. الكافي 7 ص 242 ح 12.

و منها: إتيان الأهل و هي حائض فإنّه يضرب خمسة و عشرين سوطا الكافي 7 ص 242 ح 13.

و منها: شهود الزور كما في رواية سماعة ح 16 إلى غير ذلك من الموارد بل ذكر المجلسيّ قدّس سرّه في رسالته الفارسية في الحدود و القصاص ص 60 أن التعزير على خمسين نوعا ثم ذكر تلك الموارد و بعد أن فرغ منها قال في ص 66: لم ينضبط التعزيرات على النهج المذكور في

هذه الرسالة في كتاب أحد من علماء السلف رضوان اللّه عليهم بل لم يذكروا عشرا منها و إنّما ذكروا بعضا منها متفرّقة.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 247.

(2) الكافي ج 7 ص 242 ح 9.

(3) المبسوط ج 4 ص 160.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 152

و نظائرها و الأمثلة المذكورة فيها و على هذا فيترتّب التعزير على فعل المعصية بما يراه الحاكم مصلحة.

و حينئذ فلو استفيد من تلك الأخبار الواردة في المعاصي الخاصّة أن الملاك الكلّي و المعيار الوحيد هو الذنب و إنّما كان ذكر هذه الأمور من باب المثال فلا كلام و إلّا فيشكل الأمر في التعزير على مطلق المعاصي.

و الإنصاف أن مجال الإشكال في استفادة ذلك منها واسع و ذلك لوجهين:

أحدهما ما ذكره البعض من أنه لا يستفاد منها ترتّب التعزير على كلّ ذنب من جهة اختلاف المراتب.

و هذا الإشكال وارد جدّا فترى الاختلاف الفاحش في المعاصي بحسب العقوبات و الفساد المرتّب عليها فمنها ما يوجب الرجم، و منها ما يوجب القتل، و منها ما يوجب القطع، و منها ما يوجب الجلد، و منها ما يترتّب عليه عقوبة واحدة، و منها ما يترتّب عليه عقوبتان، بل و ربّما يختلف عقوبات أقسام من معصية واحدة و هكذا و لا شكّ في أن هذه الاختلافات كاشفة عن اختلاف مراتب المعاصي و مبغوضيّتها و أنّها ليست على نسق واحد فالقول بأن الملاك هو الذنب و أن ما ذكر في الروايات كان من باب المثال بلا خصوصيّة أصلا و إنّما ذكرت هذه الأمثلة لمصالح و جهات عارضيّة مثلا لا يخلو عن إشكال.

بل و من هذا يظهر الإشكال فيما ذكرناه سابقا من ترتّب التعزير على الإيذاء فإنّ

هذا أيضا بإطلاقه غير تامّ و يشكل الالتزام بأن كلّ أذيّة قليلة كانت أو كثيرة و في أي حالة من الحالات توجب التعزير نعم لا شكّ في حرمة إيذاء المؤمن و أمّا التعزير مطلقا فمشكل لاختلاف مراتب الأذيّة و لذا قد صار أمر التعزير موكولا إلى الحاكم حتّى يختار ما هو الأصلح و المناسب قليلا أو كثيرا بل وجودا و عدما.

و الحاصل أنه يشكل الحكم بأن ملاك التعزير هو جامع الذنب، و ذلك لأنّه ربّما لا يصلح له إلّا التعزير و آخر لا يصلح له إلّا التوبة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 153

ثانيهما: ثبوت موارد قد تحقّقت المعصية و لم يحكم المعصوم عليه السلام بالتعزير و منها ما تقدّم سابقا في مسألة: لا يرجم من كان للّه عليه حدّ «1» من نداء الإمام أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و آله عند رجم المرأة الّتي أقرّت بالزنا:

إنّ من اللّه عليه حدّ مثل الحدّ الذي عليها فإنّه لا يقيم الحدّ، و قد ورد هناك أنه انصرف الناس كلّهم ما خلا أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام.

و قد وقع مثل ذلك في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام غير مرّة. ترى التصريح في هذه الأخبار بانصراف الناس و رجوعهم جميعا و لم يرد فيها أن الإمام عليّا عليه السلام قد أمر بتعزيرهم مع إقرارهم بالمعصية عملا.

استدلالان آخران على وجوب التعزير لكلّ معصية

ثمّ إنّ هنا أمران آخران قد يستدلّ بهما في إثبات التعزير على كلّ ذنب.

أحدهما حفظ النظام. تقريره أن الإسلام قد اهتمّ بحفظ النظام المادّي و المعنوي و إجراء الأحكام على مجاريها و من الطبيعيّ أن هذا يقتضي أن يعزّر الحاكم كلّ من خالف النظام.

ثانيهما: الروايات الدالّة على أن لكل

شي ء حدا و من تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ «2».

و قد حكى بعض المعاصرين قدّس سرّه الأمر الأوّل ثم قال: و يدلّ عليه أيضا النصوص الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة الدّالّة على أن للحاكم التعزير و التأديب حتّى في الصبي و المملوك إلخ «3».

و مع ذلك فقد أورد عليه بقوله: و يمكن أن يقال: ما ذكر في حفظ النظام يمكن

______________________________

(1) راجع الدّر المنضود ج 1 ص 433 و وسائل الشيعة ج 18 ب 31 من مقدّمات الحدود ح 1 و 2 و 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

(3) جامع المدارك الطبع 1 ج 7 ص 97 و 98.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 154

فيه الإكتفاء بالنهي عن المنكر و أمّا لزوم التعزير فلا يستقلّ به العقل.

و نحن أيضا نقول: إنّه و إن كان أصل الكلام و الكبرى الكليّة جيّدا لا يقبل الإنكار و الإشكال فإنّه لا شكّ في أنه لا بدّ من الاحتفاظ على نظام أمور الأمّة ماديّة و معنويّة و إقامة قوائم عرشه على الكاهل و لا يجوز لأحد أن يحدث ما يخلّ بنظام الأمّة الإسلامية فإنّ القوانين الإلهيّة و المناهج الدينيّة و الأنظمة الشرعية كلّها مجعولة و مقرّرة لإيجاد النظم في المجتمع و استقراره في العالم الإسلامي فإنّ القتل يوجب تلف النفوس، و الزنا يوجب ضياع النسل و هكذا سائر المحرّمات الشرعيّة يوجب خللا في ناحية من العيش و بالجملة فهذا ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه. إلّا أن اللّه تعالى قد قرّر طرقا و مناهج لحفظ النظام و صيانته كالحدود المقرّرة و العقوبات الخاصّة و الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر بمراحلهما و مراتبهما المختلفة، و أمّا حفظه بشي ء آخر غير ما جعله الشارع من الحدود، و التعزيرات في موارد منصوصة في الكتاب أو السنّة، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في غير تلك الموارد فلا يستقلّ به العقل، و يشكل جدّا- في موارد لم يجعل له الشارع عقوبة حدّا أو تعزيرا و لم ينصّ بها- القول بوجوب هذه العقوبة الخاصّة أعني التعزير مع عدم العلم بوصوله من الشارع أو العلم بالعدم.

و على الجملة فالعقل مستقلّ بقبح الإخلال في النظام و منعه و لزوم حفظه و بقائه لكنّ الشارع قد أقدم على طرق الاحتفاظ به- بإتيان الواجبات و ترك المحرّمات- بما قرّره بلسان القرآن الكريم وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة و الروايات الشريفة الواردة في هذا الموضوع فإنّ الهدف من الأمر و النهي هو الحفاظ على الواجبات و ردع الناس عن المحرّمات كما أن من الطرق التي سلكها الشارع للوصول إلى هذا الهدف هو ما أوعد به من العقوبات في الآخرة و العذاب الأليم و النّكال الدائم، و من العقوبات هي الّتي قرّرها في هذا العالم على بعض

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية 104.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 155

المعاصي بعنوان الحدود و في قسم منها بعنوان التعزير فعلى الحاكم أن يمنع من ترك الواجبات و اقتراف المحرّمات بالطريق المقرّر المجعول بلا شبهة و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عند ما لم يكن من موارد الحدّ و التعزير المنصوصة في لسان الكتاب أو السنّة و أمّا أنه هل أجاز جعل طريق آخر لذلك

مع أنه لم يرد دليل من الشارع فهو مشكل.

و بتعبير أوضح من هذا: إنّ دفع الاختلال الواجب عقلا إذا أمكن بإجراء ما قرّره الشارع و إقامة مقرّراته فلا يمكن القول بدفعه من طريق آخر غير واصل من الشارع الحكيم فإنّ مجرّد حكم العقل بلزوم حفظ النظام و دفع ما يخلّ به لا يقتضي ذلك أصلا.

اللهم إلّا أن يثبت للحاكم ولاية مطلقة تشمل جعل الأحكام أيضا و هو مشكل بالنسبة إلى النبيّ و الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين فضلا عمّن سواهما.

و ممّا ذكرنا في هذا المقام يتّضح الأمر في كيفيّات التعزيرات و أنه هل يجوز التعدّي عمّا ورد إلى مطلق ما يوجب ردعه عن المعصية و يؤثّر في حفظ النظام كالحبس و الجريمة الماليّة و غير ذلك؟.

فإنّ الظاهر عدم ذلك لأن الفقيه ليس بيده الجعل و إلّا فلو فرض في مورد أن قطع أذن السارق أنفذ و أشدّ تأثيرا من قطع يده المذكور المقرّر في القرآن الكريم، أو أن أخذ مبلغ كثير من الزاني كان أشدّ تأثيرا عليه من جلده مأة، لكان اللّازم أن نقول: إنّ له أن يعدل من قطع اليد إلى قطع الأذن و من الجلد إلى أخذ مال كثير منه، و هل يمكن الالتزام بذلك و التفوّه به؟.

فتحصّل أنه لو نصّ في موارد على حدّ معيّن و عقوبة خاصة فهو، كما أنه في موارد قرّر الشارع فيها تعزيرا خاصّا أو أنه أوجب أو أجاز الحبس أو حكم بالكفّارة التي هي نوع جريمة ماليّة، يقال بمقتضاها أمّا في غير ذلك فلا بدّ من الأخذ بالمقرّر العامّ و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لا مجال للتّمسّك

الدر المنضود في أحكام الحدود،

ج 2، ص: 156

بحفظ النظام في تجويز التعزير عند عدم ورود ذلك من الشرع و ما لم يثبت ولاية عامّة للفقيه تشمل جعل الأحكام.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 156

ثانيهما: الروايات الدّالّة على أن لكلّ شي ء حدّا فعن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ لكلّ شي ء حدّا و من تعدّى ذلك الحدّ كان له حدّ [1].

و فيه أن إثبات المطلوب بهذه مشكل و ذلك لأنّه أوّلا أن الخبر بحسب ظاهره شامل لكلّ شي ء و من المعلوم أنه ليس كلّ الأشياء كذلك إلّا أن يكون المراد من كلّ شي ء كلّ معصية من فعل الحرام و ترك الواجب. و ثانيا إنّ الرواية مجملة لعدم معلوميّة المراد من الحدّ فهل هو الحدّ المصطلح أو المراد منه المقدار فإنّ ما كان له مقدار معيّن و كان له انتهاء فله حدّ و هو محدود و من المعلوم أن كلّ ما هو غير اللّه تعالى فله حدّ و مقدار و بداية و نهاية و إنّما اللّه سبحانه هو الذي ليس له حدّ محدود و لا ابتداء و لا انتهاء، أو أن المراد من الحدّ هو ما يقال: إنّ للبذل و الإنفاق حدّا و للمحبّة حدّا و للعداوة حدّا؟ و مع هذا الإجمال كيف يتمسّك بها.

فلو كان المراد من الحدّ العقوبة المقرّرة على المعاصي من اللّه تعالى لكانت الرواية دالّة على المقصود، و أمّا مع احتمال شي ء آخر- على ما ذكرنا- كاحتمال (كلّ شي ء) لغير ما ذكر فلا.

و بعبارة أخرى الأمر دائر بين أن يكون الحدّ

قرينة على كون المراد من الشي ء، المحرّم أو أن يكون (كلّ شي ء) قرينة على كون المراد من الحدّ الانتهاء فلو لم تكن القضيّة ظاهرة في الثاني فلا أقلّ من إجمالها المانع من التمسك بها.

إن قلت: إنّ الظاهر من الرواية تركيبها من صغرى و كبرى فإنّ مفادها أن كلّ شي ء أي أيّ موضوع من الموضوعات محكوم بحكم من الأحكام الإلهيّة

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 أقول: إنّه ذكر دام ظلّه وجهين في الإشكال على التمسك بهذه الروايات و قد ذكرهما بعض أكابر العصر قدّس سرّه في جامع المدارك ج 7 أحدهما في ص 121 و الآخر في ص 98 فراجع نعم في بيان سيّدنا الأستاذ الأكبر دام ظلّه مزيد احتمال و بيان كما لا يخفى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 157

و من تجاوز هذا الحكم و الحدّ و القانون فأخرج المباح إلى الحرام أو الواجب أو بالعكس مثلا فإنّ عليه الحدّ. فالحدّ الأوّل هو القانون و الحكم، و الحدّ الثاني هو العقوبة الإلهيّة الشاملة للحدّ و التعزير، و إطلاق الحدّ على الأعمّ ليس بنادر [1].

نقول: إنّ إطلاق الحدّ في الجملة الأولى على الحكم مجاز و خلاف الظاهر فلا يصار إليه بدون دليل و قرينة.

هذا تمام الكلام في المقام، و غير خاف عليك أن المحقّق قدّس سرّه قال في أول البحث في القذف بأنّ النظر في أمور أربعة الأوّل في الموجب إلخ فهذه المطالب كانت بالنسبة إلى النظر الأوّل و هنا تصل النوبة إلى النظر الثاني.

الكلام في القاذف و ما يعتبر فيه

قال المحقّق: الثاني في القاذف و يعتبر فيه البلوغ و كمال العقل فلو قذف الصبيّ لم يحدّ و عزّر و إن

قذف مسلما بالغا حرّا.

أقول: و ادّعى في الجواهر عدم الخلاف بل الإجماع بقسميه على اعتبار

______________________________

[1] أورده هذا العبد يوم 20 من الربيع الثاني سنة 1408 ه- في مجلس الدرس و أجاب دام ظلّه بما أتينا به في المتن و مع ذلك ففي النفس شي ء و ذلك لأنه قد وردت الجملة المزبورة في رواية أخرى و هي تشتمل على جملات تشهد أو تؤيّد كون المراد ما ذكرته و هي رواية عمرو بن قيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا عمرو بن قيس أشعرت أن اللّه أرسل رسولا و أنزل عليه كتابا و أنزل في الكتاب كلّ ما يحتاج إليه و جعل له دليلا يدلّ عليه و جعل لكل شي ء حدّا و لمن جاوز الحدّ حدا (إلى أن قال:) قلت: و ك ف جعل لمن جاوز الحدّ حدّا؟ قال: إنّ اللّه حدّ في الأموال أن لا تؤخذ إلّا من حلّها فمن أخذها من غير حلها قطعت يده حدّا لمجاوزة الحدّ و إنّ اللّه حدّ أن لا ينكح النكاح إلّا من حلّه و من فعل غير ذلك إن كان عزبا حدّ و إن كان محصنا رجم لمجاوزة الحد انتهى بل و يشعر بذلك خير علي بن رباط فراجع ب 2 من مقدمات الحدود ح 3 و 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 158

البلوغ و العقل في القاذف.

و يدلّ على عدم حدّ الصبيّ إذا قذف غيره حديث رفع القلم فإنّه يدلّ على أنه لا تكليف عليه إذا فلا يقام عليه هذا الحدّ و لا غيره من الحدود.

و لا يخفى عليك أن مقتضى رفع القلم الذي معناه رفع قلم التكليف أنه لا عقاب عليه و

لا تكليف إلّا أنه لا يدلّ على رفع ما كان مقدّمة لترك المعصية في القابل و إلّا فلما ذا حكم بتعزيره؟ و من المعلوم أن حديث الرفع ليس ممّا يقبل التخصيص بل هو بظاهره آب عن ذلك فلا بدّ من عدم شموله من أوّل الأمر لذلك.

و استشكل بعض المعاصرين قدّس سرّه في دلالة حديث الرفع على اعتبار البلوغ و عدم الحدّ على الصبيّ بأنّ رفع التكليف لا يلازم رفع الحدّ قال: أمّا التمسّك بحديث الرفع فمع ثبوت التعزير و التأدّب عليه لا يخلو عن الإشكال و بعبارة أخرى يمكن أن يقال: إنّ القذف سبب لاستحقاق الحدّ و إن كان جائزا كما لو اجتمع أربعة شهود على الشهادة بالنسبة إلى رجل بالزنا و اتّفق تردّد واحد منهم وقت الشهادة فالثلاثة معذورون في الشهادة لجوازها باعتقادهم و مع ذلك يحدّون فسقوط التكليف لا يوجب سقوط الحدّ كلزوم الجنابة من جهة المباشرة قبل البلوغ فتأمّل «1».

لكن الظاهر عدم ورود ما أورده، و ذلك لأن العرف يفهم من التكليف رفع الحدّ أيضا و إن أمكن التفكيك بينهما عقلا.

و أمّا ما أفاده من النقض ففيه أنه فرق بين المقام و بين مادّة النقض أي الثلاثة الذين شهدوا مع تردّد الرابع الذي حكموا فيه بحدّ الثلاثة.

بيان الفرق أنّهم كانوا على يقين من جواز الشهادة حيث كانوا يرون تمام الشهود فقد أقدموا على إقامتها من باب الجهل المركب لأنّهم كانوا يعتقدون كونهم موضوعا للشهادة مع عدم كونهم في الواقع، موضوعا فلم يكن يجوز لهم

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 99.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 159

الشهادة في الواقع و حيث إنّه كان إقدامهم للجهل المركّب فلا تكليف و لا

عقاب لكن ذلك لا ينافي لزوم الحدّ عليهم لعدم كونهم موضوعا للشهادة.

و هذا بخلاف المقام فإن الظاهر من قوله صلوات اللّه عليه: رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم «1» أن الصبيّ قبل الاحتلام لا شي ء عليه أصلا فلا تكليف و لا حدّ و لا تعزير و الحاصل أنه لا إشكال في التمسك بروايات الرفع لرفع الحدّ عن الصبيّ.

ثمّ إنّه استدلّ على عدم الحدّ على الصبيّ بقذفه برواية فضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا حدّ لمن لا حدّ عليه يعني: لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حدّ «2».

و الظاهر أن جملة: يعنى إلخ من كلام الإمام عليه السلام فإنّه يبعد أن يكون الراوي قد أدخل رأيه و فتوى نفسه المستفاد من قوله: لم أر عليه شيئا، في قول الإمام عليه السلام.

و كيف كان فهو من باب المثال و ذكر أحد المصاديق و إلّا فالملاك هو الكلّي المذكور في الصدر، و لا شكّ أن الصبيّ أيضا من مصاديق هذا الكليّ الجامع.

و يدلّ على المطلب أيضا خبر أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا و ذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «3».

و كذا خبر يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى أو مسلم أو كافر أو حرّ أو مملوك فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب. «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 1 ب 4 من أبواب

مقدّمة العبادات ح 11 عن أمير المؤمنين عليه السلام.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 160

نعم مقتضى هذا الخبر أن البالغ إذا قذف الصغير يحدّ كما إذا قذف الكبير و من المعلوم أن قذف الصغير لا يوجب الحدّ و لذا قال الشيخ قدّس سرّه: ما تضمّن هذا الخبر من إيجاب الحدّ على من قذف صبيّا محمول على أنه قذفه بنسبة الزنا إلى أحد والديه كأن يقول: يا بن الزاني أو الزانية أو زنت بك أمّك أو أبوك، لأن ذلك يوجب عليه الحدّ على الكمال. «1».

لكن فيه أنه خلاف الظاهر جدّا فإنّ الظاهر من العبارة هو افتراء الكبير على الصغير و كون الصغير بنفسه مفترى عليه، و الحقّ أن طرح هذا الخبر أولى من الجمع كذلك لدلالة أخبار متعدّدة على عدم حدّ من قذف الصبيّ.

و كيف كان فإذا قذف القاذف غير البالغ فلا يقام عليه الحدّ و أمّا لزوم تعزيره أو تأديبه و عدم ذلك فهو أمر آخر لسنا بصدده في هذا المقام- و قد مرّ ما يناسب ذلك فراجع.

ثم إنك قد علمت أن صاحب الجواهر استدلّ لقول المحقّق باعتبار البلوغ في الحدّ بعدم الخلاف، و الإجماع و حديث رفع القلم و غير ذلك و حيث إنّ المحقق حكم بتعزيره- أي تعزير القاذف الذي كان صبيّا- قال في الجواهر: مع تمييزه على وجه يؤثّر التعزير فيه، كفّا عن مثل ذلك انتهى فقد جعل الدليل على لزوم تعزيره هو كفّه عن

مثل ما فعله، فليس هو كالأوّل أي عدم حدّه الذي دلّت عليه النصوص فليس في ما ذكر من الروايات ذكر عن التعزير.

هذا مضافا إلى عدم تحقّق سيرة المتشرّعة على تعزير أطفالهم على كلّ ما يفعلونه من الآثام و الذنوب.

و على الجملة فهذا البحث جدير بالتّأمّل و التحقيق، و حقيق بالنظر و التدقيق كي يتّضح ما هو الوظيفة الآن بالنسبة إلى الصغار من الأولاد و أنه هل يلزم تعزيرهم على كلّ ما يصدر عنهم من الذنوب و المعاصي أم لا؟.

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 89.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 161

و الظاهر هو الثاني فلم يعهد من حال المتشرّعة أنّهم كانوا يعزّرون أطفالهم على ذلك بل و ربّما يظهر من بعض الكلمات خلاف ذلك.

و ترى أن السيّد الفقيه الطباطبائي قدّس سرّه يقول عند البحث عن أكل النجس و المتنجّس: و أمّا المتنجّسات فإن كان من جهة كون أيديهم نجسة فالظاهر عدم البأس به و إن كان التنجّس من جهة تنجّس سابق فالأقوى جواز التسبّب لأكلهم و إن كان الأحوط تركه، و أمّا ردعهم عن الأكل أو الشرب مع عدم التسبّب فلا يجب من غير إشكال انتهى «1».

إن قلت: قد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا و اضربوهم عليها إذا بلغوا تسعا. «2».

نقول: نعم و لكن هل ورد: اضربوهم على الصوم مثلا و غير ذلك؟.

لا يقال: إنّ الأمر مختصّ بباب القذف فلو قذف صبيّ وجب تعزيره لا أنه يعزّر الصبيّ على مطلق الذنوب التي أتى بها مثلا.

لأنا نقول: من أين يحكم بذلك في قذفه إذا لم يرد فيه خبر أو أيّ دليل؟.

و ليعلم أنا

لسنا بصدد إثبات عدم ورود تعزير الأطفال أصلا بل المقصود أنه لا وجه لتعزيرهم على كلّ ما صدر عنهم من الذنوب، و ذلك لعدم إمكان إثبات ذلك و إلّا فقد ورد النصّ بتعزيرهم في بعض الموارد كباب اللواط و السّرقة.

ففي رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة و زوجها، قد لاط زوجها بابنها من غيره و ثقبه و شهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه السلام فضرب بالسيف حتّى قتل و ضرب الغلام دون الحدّ و قال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لإمكانك إيّاه من نفسك بثقبك «3».

______________________________

(1) العروة الوثقى في أحكام النجاسات، فصل يشترط في صحّة الصّلاة. مسألة 33.

(2) جامع أحاديث الشيعة ج 4 ص 42 و مثله في ص 43.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ اللواط ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 162

و يستفاد من قوله عليه السلام: لإمكانك إيّاه، أنه كان مميّزا كما اشترط تمييزه في الجواهر و إلّا فليس عليه التعزير.

و أمّا الخبر الوارد في تعزيره على السرقة فهو عدّة روايات مذكورة في ب 28 من أبواب السرقة و يأتي ذكرها في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و الحاصل أنا نقول بتعزيره في هذه الموارد لكن لا يستفاد من الأخبار الواردة في الموردين حكم كلّي ينفعنا في جميع الموارد فالتعدّي إلى كلّ المعاصي و منها المقام مشكل و لا دليل على ما ذكره المحقّق من تعزيره فيه.

اللّهمّ إلّا أن يكون في ذلك إجماع كما نقل عن الغنية أو عدم خلاف يستكشف منه ذلك.

لكن فيه إشكالا بل سيرة المتشرّعة على خلاف ذلك و لا نرى أحدا

يعزّر الصغار بترك الصوم مثلا قبل التكليف و إن كانوا يأمرونهم بالصلاة للتّمرين لكنهم لا يعزّرونهم و لذا ترى أن صاحب الجواهر لم يتمسّك هنا بالإجماع و لا برواية كما أن صاحب الرياض قال في المقام: و وجه التعزير فيهما مع القيد- قيد التميز- حسم مادّة الفساد و هو الأصل في شرعيّة الحدود و التعزيرات و إلّا فلم أجد نصّا بتعزيرهما هنا انتهى.

هذا و لكن قد علمت أن من جملة الأخبار الواردة في المقام خبر يونس- ب 5 ح 5 من باب القذف- و فيه: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى. فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب. و هو صريح بأنّ الصبيّ المفتري أي القاذف يجب حدّه.

و أمّا اشتمال الخبر على الحكم المخالف للقواعد الشرعيّة فهو غير قادح في المطلب لأنّه لا يسقط الخبر بذلك عن حدّ الاعتبار بالنسبة إلى باقي أحكامه.

و قد تحصّل من هذه الأبحاث أنه لا حدّ على الصبيّ و إن قذف مسلما بالغا حرّا فضلا عن غيره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 163

الكلام في المجنون

اشارة

قال المحقّق: و كذا المجنون.

أي إذا قذف أحدا و كان القاذف مجنونا فلا حدّ عليه فإنّه كما رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم كذلك رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق و عدم الخلاف أو الإجماع المذكور آنفا متعلّق بكلّ واحد منهما، و رواية فضيل بن يسار المتقدّمة ناطقة بذلك فراجع.

لكنّه يعزّر على ذلك و إن كان لا بدّ من تقييد بتعزيره- كالصبيّ- بكونه ممّن يرجى منه الكفّ بتعزيره لحصول نوع من التميز له فإنّه لو لا ذلك لكان تعزيره لغوا و قبيحا عقلا.

و هنا فروع:

منها: أنه لو كان جنونه أدواريّا و قد قذف في دور الصّحّة حدّ.

قال في الجواهر بعد ذلك: و لو حال الجنون- ثم قال:- مع احتمال تأخّره إلى دور العقل.

و مثله ما لو قذف و كان عاقلا لكنّه بعد ذلك و قبل إقامة الحدّ عليه جنّ، فقد حكم قدّس سرّه فيه بما حكم في المجنون الأدواريّ فيجوز حدّه و لو في حال الجنون.

و هذا في الذهن عجيب و ذلك لأنّه لا فائدة في إجراء الحدّ على المجنون إلّا أنّه قد دلّت على ذلك الرواية.

فعن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحدّ فلم يضرب حتّى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحدّ و هو صحيح لا علّة به

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 164

من ذهاب عقل أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان «1». يعني أنه يقام عليه الحدّ مطلقا و لو في حال جنونه. و هذه الرواية و إن ورد في عاقل عرض عليه الجنون بعد ما أوجب عليه الحدّ لكن لا فرق بينه و بين الأدواريّ في دور عقله.

و لكن هنا احتمالان يرتفع بكلّ

واحد منهما الاستبعاد المذكور عن إقامة الحدّ في حال الجنون.

أحدهما: أنه يحتمل كون المراد من: (خولط) ضعف العقل و ما هو كمقدّمات الجنون لا الجنون المحض فإنّه لا معنى لجلد المجنون و هو لا يدرك لماذا يجلد و ما هو الأثر المترتّب على ذلك؟.

ثانيهما: أنه و إن كان الجنون هو الجنون المصطلح الخالص إلّا أن المراد من قوله: كائنا ما كان، ليس هو ما ذكر من تعميم الحكم بالنسبة إلى حال العقل و الجنون بل المراد أن الحدّ لا يسقط عنه مطلقا و إن كان بعد، مجنونا إلّا أن ذلك لا يلازم إيقاع الحدّ و إقامته أيضا في حال الجنون فلو فرض ظهور (خولط) في الجنون فلا بدّ من أن يكون المراد من: كائنا ما كان، ما ذكرنا، حتّى يرتفع الإشكال و لا يراد منه الجنون و غيره عقلا و إلّا فليشمل حال النوم و اليقظة بل و حال الموت أيضا.

لا يقال: إنّ الإطلاق بمناسبة الحكم و الموضوع يشمل خصوص حالتي الجنون و العقل دون تلك الحالات المختلفة كالنوم و الموت و غير ذلك «2».

لأنا نقول: إنّ الإطلاق منصرف عن الضرب في حال الجنون لأنه لغو و قبيح عقلا إذا فلا بدّ من أن يراد من قوله: كائنا ما كان، أن الحدّ عليه مطلقا إلّا أنه يقام عليه بعد إفاقته.

و على الإجمال فلا بدّ من الأخذ بواحد من هذين الاحتمالين فإنّ الجلد في حال الجنون المحض ممّا لا يساعده العقل بل ينكره أشدّ الإنكار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(2) أورده هذا العبد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 165

و منها: إنّه لو قذف و لكن وقع هناك

نزاع فادّعى القاذف أنه كان حين القذف صبيّا و أنه وقع القذف حين صباه، و قال المقذوف بأنه قذف في حال كبره، أو أنه مع اعتوار حال جنون قطعا ادّعى القاذف صدور القذف عنه و هو مجنون و أنكر ذلك المقذوف مدّعيا أنّه وقع منه حال الإفاقة و السلامة فما هو الحكم هناك؟- بعد وضوح الثمرة المترتّبة على هذا الاختلاف لأنه لو ثبت وقوعه في حال الكبر أو السلامة لوجب حدّه للقذف و إلّا فلا.

قال العلّامة في القواعد: قدّم قول القاذف و لا يمين انتهى.

و قد وجّهه في الجواهر بقوله: و لعلّه للشبهة بعد عدم الالتفات إلى الأصول هنا إلخ.

أقول: أمّا عدم اليمين في المقام فلعدم مشروعيّته فيه- للروايات [1]. و لابتناء الأمر على التخفيف و الإكتفاء بالشّبهة في الدرء.

و أمّا التمسّك بدرء الحدود للشبهة فلعلّه لتعارض الأصل في إحدى الناحيتين بالأصل في الأخرى فيسقطان و يرجع إلى قاعدة الدّرء.

______________________________

[1] عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني و لم تكن له بيّنة فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين في حدّ و لا قصاص في عظم. وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من مقدمات الحدود ح 1.

عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: قال: لا يستحلف صاحب الحدّ، وسائل الشيعة ح 2.

عن إسحاق بن عمّار عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام: إنّ رجلا استعدى عليّا عليه السلام على رجل فقال: إنّه افترى عليّ فقال عليّ عليه السلام للرجل: أفعلت ما فعلت؟ فقال: لا، ثم قال عليه السلام للمتعدي: أ لك بيّنة؟ قال فقال: مالي بيّنة فأحلفه لي قال عليّ عليه السلام: ما

عليه يمين وسائل الشيعة ح 3.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ادرأوا الحدود بالشبهات و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ. وسائل الشيعة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 166

و يمكن الإشكال بعدم التعارض في المقام حيث إنّ أصالة عدم كون القذف في حال الصغر لا تثبت كون القذف في حال الكبر فإنّ هذا أثر عقلي لها و ليس أثرا شرعيّا لها كي يترتّب عليها و هذا بخلاف أصالة عدم القذف في حال الكبر فإنه يترتّب عليها عدم الحدّ فهذا الأصل جار دون الآخر.

نعم هنا كلام و هو أنه إذا توافق الأصل و قاعدة الدرء فهل هناك تقدّم و تأخّر أم لا؟ و الظاهر أن الأصل يقدّم عليها و ذلك لأن الدرء موقوف على الشبهة، و لا شبهة مع جريان الأصل الموضوعي كي تدرء فإنّ مقتضاه الحكم بعدم قذفه في حال الكبر فلم يكن هناك شبهة أصلا.

في اشتراط القصد

ثمّ إنّه يعتبر في حدّ القاذف القصد فلو قذف بلا قصد كما في النائم و الغافل و الساهي فلا يحدّ.

و المراد من السهو هو سبق اللسان بأن أراد أن يقول كلمة طيّبة فسبق لسانه و ألقى كلمة سوء و تفوّه بنسبة الفحشاء مثلا إلى أحد.

و في الرياض: بلا خلاف بل عليه الإجماع في التحرير و غيره و هو الحجّة إلخ «1».

و في الجواهر: و كذا يعتبر فيه أيضا القصد ضرورة عدم شي ء على غير القاصد كالسّاهي و النائم و الغافل، و على كلّ حال فلا حدّ و لا تعزير على غير القاصد إلخ «2».

نعم يشكل الأمر في بعض الموارد فإنّ هذا البحث ليس منقّحا كاملا لأنه إذا ألقى

الكلمة الخبيثة كلفظ: يا زاني أو: أمّك زانية، لكنّه ليس بصدد النسبة بل في مقام الفحش عند النزاع و الجدال أو غير ذلك فالّلافظ هنا لم يقصد النسبة و لذا

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2 ص 485.

(2) جواهر الكلام ج 41 ص 414.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 167

ربّما لا يثور غضب المواجه أو المنسوب إليه بذلك لأنه يعلم أن مراد القائل ليس هو النسبة و هذا شائع في غير المبالين من الناس فلا يرون أنه نسب العمل الكذائي إليه بل يرى أنه أتى بكلمة الفحش أو بكلام لغو فلا يرتّب على ذلك أثرا و لو كان يستظهر منها النسبة لما كان يدعه بل ربّما يقدم على قتله كما وقع ذلك من شخص كان له سلاح فقال له قائل: إنّ أختك كذا، فذهب و أتى بسلاحه و قتله به.

و كيف كان فلو لم يحصل القطع بأنه من باب الفحش لا من باب القذف فلا أقلّ من حصول الشبهة فيجري الأصل و يدرء عنه الحدّ. هذا.

ثم إنّه قد أورد علينا بعض بأن مقتضى رواية زرارة هو عدم اشتراط القصد، فإنّ الرواية هذه:

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر، و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «1».

فقد ذكر فيها أن السكران يحدّ حدّ القذف لأنه يفتري.

و لكن فيه أن الرواية بصدد بيان حكمة كون حدّ شارب الخمر ثمانين فحيث إنّ السكران قد يقذف فلذا يكون حدّ شرب الخمر هو حدّ القذف لا أن يكون هذا الحدّ حدّ قذفه بل هو حدّ شربه و لذا ترى أنه لو

شرب الخمر و سكر لكنّه لم يقذف و لم يفتر فإنّه يجلد و الحال أنه على قولكم يلزم أن لا يكون عليه حدّ حينئذ.

اشتراط الاختيار

و من جملة ما اعتبروه شرطا في حدّ القاذف هو الاختيار فلا حدّ على من أكره على القذف فأقدم عليه لذلك كما في سائر الأمور الواقعة عن إكراه فليس الحدّ من قبيل الأثر الوضعي كالنجاسة التي تحصل و تحتاج إلى التطهير سواء

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ السكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 168

تحقّقت بالاختيار أو بالإكراه بأن أخذ يد غيره و لوّثه بالنجاسة، بل هذا يحتاج إلى الاختيار و لم يردّد أحد في سقوط الحدّ و التعزير إذا قذف مكرها على ذلك.

و قد ادّعى في الرياض عدم الخلاف في ذلك بل الإجماع في التحرير و غيره كالسابق.

اشتراط الحرية

قال المحقّق: و هل يشترط في وجوب الحدّ الكامل الحرّية؟ قيل: نعم، و قيل: لا يشترط فعلى الأوّل يثبت نصف الحدّ و على الثاني يثبت الحدّ كاملا و هو ثمانون.

و يمكن التعبير عن المسألة بأنّه هل عبوديّة القاذف توجب نقص الحدّ إلى النصف أم لا؟.

و في المسألة قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط و ابن بابويه في الهداية «1» و هو أنه يشترط ذلك.

ثانيهما: ما ذهب إليه أكثر الأصحاب كما عبّر كذلك في المسالك قال: و منهم الشيخ في النهاية و الخلاف و المصنّف في النافع و إن توقّف هنا، و هو أنه لا يشترط الحريّة في ثبوت الحدّ الكامل بل ادّعى عليه جماعة الإجماع.

و قد استدلّ للقول الأوّل بالكتاب و السنة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ «2».

و أمّا السنة ففي خبر القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام

______________________________

(1) الهداية ص 76 و المبسوط ج

8 كتاب الحدود ص 16.

(2) سورة النساء الآية 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 169

عن العبد إذا افترى على الحرّ كم يجلد؟ قال: أربعين و قال: إذا أتى بفاحشة فعليه نصف العذاب «1».

و استدلّ المشهور أيضا بالكتاب و السنّة:

أمّا الكتاب فقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «2».

وجه الاستدلال أن لفظة: (الذين) جمع معرّف باللام و هو يفيد العموم فيشمل الحرّ و العبد.

و أمّا السّنّة فهي أخبار مستفيضة بل لعلّها فوق ذلك و إليك هذه الأخبار:.

عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في الرجل: إذا قذف المحصنة يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «3».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين و قال: هذا من حقوق الناس «4».

و عن سماعة قال: سألته عن المملوك يفتري على الحرّ قال: يجلد ثمانين قلت: فإنّه زنى، قال: يجلد خمسين «5».

و عن سماعة قال: إذا قذف المحصنة فعليه أن يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «6».

و عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن عبد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 15.

(2) سورة النور، الآية 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

170

افترى على حرّ قال: يجلد ثمانين «1».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في مملوك قذف حرّة محصنة قال:

يجلد ثمانين لأنه إنّما يجلد بحقّها «2».

و عن أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مملوك قذف حرّا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق الناس فأمّا ما كان من حقوق اللّه فإنّه يضرب نصف الحدّ «3».

و عن بكير عن أحدهما عليهما السلام أنه قال: من افترى على مسلم ضرب ثمانين يهوديّا أو نصرانيا أو عبدا «4».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين حدّ الحرّ [1].

و لا يخفى أن الروايات الدّالة على التّساوي و عدم الفرق بين الحرّ و العبد هنا أكثر عددا و أجود سندا.

و أمّا آية الفاحشة الّتي أستدلّ بها على التنصيف ففيها أنه قد فسّرت الفاحشة فيها بالزّنا أو ما يناسبه فلا تعلّق لها بالمقام.

هذا مضافا إلى أنها نكرة في مقام الإثبات فلا تعمّ «5» و آية «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ.» إلخ مشتملة على الجمع المحلّى بالألف و اللام و عليه فهذه مقدّمة عليها.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 22 أقول: و يدلّ على ذلك أيضا، ح 5 من الباب اللّاحق، و لا يضرّه عدم عمل الأصحاب بالنسبة إلى المقذوف.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 8.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 10 و مثله ح 14 فراجع.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 13.

(5) كما في

المسالك و مفاتيح الفيض الكاشاني فراجع إن شئت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 171

و قد حملت الرواية الدّالّة على التنصيف على التقيّة [1].

قال الشيخ قدّس سرّه: إنّ هذا الخبر شاذّ مخالف الظاهر القرآن و للأخبار الكثيرة الّتي قدّمناها و ما هذا حكمه لا يعمل به و لا يعترض بمثله «1».

و قال الشيخ الحرّ العاملي رحمة اللّه عليه: يمكن حمله على التقيّة و على التعريض دون التصريح. انتهى.

و ممّا يوجب ترجيح الأخبار الكثيرة الدّالة على التساوي هو أن بعض هذه الروايات مشتملة على التعليل أي ذكر العلّة في لزوم الحدّ الكامل و ذلك كرواية الحلبيّ و رواية الحضرميّ و غيرهما فقد علّل وجوب الثمانين بأنّ حدّ القذف من حقوق الناس لا من حقوق اللّه حتى ينصّف في العبد.

فحينئذ فالمرجّح في النظر و الأقوى هو القول بعدم اشتراط الحريّة في المقام و أن الثمانين حدّ الفرية أي القذف سواء أ كان القاذف حرّا أم عبدا.

نظرة أخرى في الروايات و تحقيق آخر في المقام

ثم إنّا قد ذكرنا أن في المسألة قولين و آيتين و طائفتين من الأخبار. لكن التحقيق أن روايات الباب على خمسة أصناف:

أحدها: ما يدلّ على التساوي بين الحرّ و العبد و عدم الفرق بينهما في المقام و هو أكثرها عددا- حيث يبلغ ثلاث عشرة رواية- و أصرحها دلالة.

ثانيها: ما يدلّ على أن حدّ القذف في المملوك أربعون و هو روايتان:

إحديهما رواية القاسم المذكورة آنفا.

و الأخرى رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

كم التعزير؟ فقال: دون الحدّ قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا و لكن دون.

______________________________

[1] أقول: قد استشكل في سند رواية القاسم حيث إنّه مجهول فلا يمكن التمسك بها و نسبه الشيخ في التهذيب

إلى الشذوذ.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام ج 10 ص 73.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 172

أربعين فإنّها حدّ المملوك إلخ «1».

لكنّهما لا تقاومان الأخبار الكثيرة الدّالّة على أن حدّه هو الحدّ التامّ مع جودة سندها و وضوح دلالتها و خصوصا اشتمالها على التعليل على ما تقدّم.

و يمكن حمل خبر القاسم على عدم كون القذف هو القذف المصطلح الموجب للحدّ بل كان من قبيل التعريض الموجب للتعزير، و لو لم يقبل هذا الحمل فلا بدّ من الطرح- كما أن خبر حمّاد قابل للحمل أيضا.

ثالثها: ما يدلّ على جلد العبد خمسين ففي خبر سماعة قال: سألته عن المملوك يفتري على الحرّ قال: عليه خمسون جلدة «2».

و هذه أيضا معرض عنها فلا تقاوم تلك الأخبار الكثيرة و يمكن حملها على عدم الافتراء المصطلح الموجب للحدّ بل ما دون ذلك.

رابعها: ما يدلّ على تعزير العبد في قبال الحرّ الذي يحدّ.

فعن حمّاد عن حريز عن محمّد عن أبي جعفر عليه السلام في العبد يفتري على الحرّ قال: يجلد حدّا إلّا سوطا أو سوطين «3».

و ظاهره أنه ينقص من حدّ القذف الذي هو ثمانون، سوط أو سوطان لا من حدّ الزنا الذي هو مأة. لكنّها أيضا غير معمول بها و قد حملها الشيخ على ما لم يبلغ القذف فلا يجب الحدّ بل التعزير.

خامسها: ما يدلّ على أن للمقذوف أن يعرى جلده.

ففي رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده قال:

و قال في رجل دعي لغير أبيه: أقم بيّنتك أمكّنك منه فلمّا أتى بالبيّنة قال: إنّ أمّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10

من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 20.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 173

كانت أمة قال: ليس عليك حدّ سبّه كما سبّك و اعف عنه إن شئت «1».

و الظاهر أن المراد من يعرى جلده أنه ينزع ثوبه و يخلعه من ثيابه و على هذا فهو نوع تعزير له.

و في الجواهر ضبط يفري و قال في توضيحه: و الفري بالفاء و الراء المهملة الشّق.

ثم قال: و عن الإستبصار بالعين المهملة و أوّله باحتمال أن يكون إنّما يعرى جلده ليقام عليه الحدّ.

ثمّ قال: و لا يخفى عليك بعده مع أنه لا تعرى في حدّ القذف انتهى.

و كيف كان فهذا الخبر أيضا غير معمول به.

قال الشيخ قدّس سرّه: هذا الخبر ضعيف مخالف لما قدّمناه من الأخبار الصحيحة و لظاهر القرآن فلا ينبغي أن يعمل عليه على أن فيه ما يضعّفه و هو أن أمير المؤمنين عليه السلام أمر الخصم أن يسبّ خصمه كما سبّه و لا يجوز منه عليه السلام أن يأمر بذلك بل الذي إليه أن يأخذ له بحقّه من خصمه بأن يقيم عليه الحدّ إن كان ممّن وجب عليه ذلك أو يعزّره إن لم يكن فأمّا أن يأمره بالسباب قد لك ممّا لا يجوز على حال «2».

و قال المحدّث العاملي: و يمكن حمله على التهديد و الترغيب في العفو انتهى.

أقول: و لا يمكن رفع الإشكال و تأييد هذا الخبر بمثل قوله تعالى «لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ» «3» فإنّ هذا متعلّق بباب الغيبة مثلا لا في كلّ مقام

كما لا يصحّ التمسك في تأييده بمثل قوله تعالى «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ» «4» فإن هذا متعلّق بمثل باب القصاص و القتل و الجرح، و لا إطلاق له يشمل المقام و إلّا فليقل: كلّ من أتى بفعل بالنسبة لكم فانتقموا منه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 16 و 17 و رواه في التهذيب ج 10 صفحة 88 بصورة رواية واحدة.

(2) تهذيب الأحكام ج 10 ص 88.

(3) سورة النساء الآية 148.

(4) سورة البقرة الآية 194.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 174

بمثل ذلك و إن كان العمل من الفحشاء [1].

و على الجملة فهذا الخبر فيه ما فيه و لا يمكن الأخذ به فهو أيضا مطروح.

و قد علم من هذه الأبحاث أن ما عمل به من الطوائف الخمسة هو ما دلّ على الثمانين مطلقا و ما دلّ على الأربعين في العبد إلّا أن روايات الثمانين مطلقا روايات عديدة كثيرة و أفتى بها أكثر الأصحاب حتّى أن المحقّق الذي توقّف في الشرائع فقد أفتى بها في المختصر النافع، في حين أنه يدلّ على الأربعين في العبد رواية أو روايتان و لم يذهب إليه إلّا الصدوق في الهداية و الشيخ في المبسوط و هو أيضا قد وافق المشهور في النهاية و الخلاف كما صرّح بذلك في المسالك إذا فالمعوّل هو هذا.

لو ادّعى المقذوف حرّية القاذف و أنكر هو ذلك

ثم إنّه على فرض اشتراط الحريّة في إقامة الحدّ الكامل فلو تنازع القاذف و المقذوف فادّعى المقذوف حرّية القاذف كي يحكم عليه بثمانين و لكن القاذف أنكر ذلك كي ينصّف الحدّ عليه فما هو الحكم؟.

______________________________

[1] أقول: في النفس شي ء و ذلك لأن الأمر بالسبّ في جواب السبّ ليس

مربوطا بالعبد و إنّما هو حكم مطلق شامل للحرّ و العبد فيبقى أن الرواية شاملة لحكمين واحد منهما خلاف الضوابط الشرعية و قد مرّ مرارا أن اشتمال الخبر على حكم مخالف للقواعد و الضوابط الشرعية غير قادح بالنسبة إلى سائر فقرأت الرواية و أحكامها و هذا هو مذهب سيدنا الأستاذ دام ظله، هذا لو كانت الرواية واحدة كما هو ظاهر نقل التهذيب، و أمّا لو كانت روايتين كما هو ظاهر نقل الوسائل فالأمر أوضح لأن اشتمال رواية على حكم غير صحيح لا تعلّق له بالحكم المذكور في رواية أخرى و على الجملة فالحكم بالسبّ لا يوجب و هنا في الحكم بأن يعرى جلده و لا يرد إشكال عليه من هذه الناحية كي يحتاج إلى التأييد بالآيات الكريمة حتى يجاب بأنّ الآيات غير مرتبطة بالمقام فافهم.

نعم عدم عمل الأصحاب كلام صحيح و هو يوجب الوهن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 175

قال المحقّق قدّس سرّه: و لو ادّعى المقذوف الحرّية و أنكر القاذف فإن ثبت أحدهما عمل عليه و إن جهل ففيه تردّد أظهره أن القول قول القاذف لتطرّق الاحتمال.

أقول: وجه التردّد كما في الجواهر أصل الحرّية و أصل البراءة و لذا كان للشيخ في المسألة قولان فاختار في الخلاف تقديم قول القاذف عملا بأصالة البراءة من ثبوت الزائد على الأربعين.

لكنّه في المبسوط لم يقدّم أحدهما بل نقل القولين في مثل المسألة «1» و علّل تقديم قول القاذف بما ذكر و تقديم قول المقذوف بأصالة الحرّية قال: و هما جميعا قويّان.

و في المسالك: و الأقوى ما اختاره المصنّف من تقديم قول القاذف لتعارض الأصلين المقتضي لقيام الشبهة في الزائد فيسقط.

و لنا مع هؤلاء الأعلام الأفذاذ

كلام و هو أنه لا مجال في المقام لجريان البراءة و ذلك لأن أصالة الحريّة لا تخلو عن كونها إمّا عامّا و أمارة كما هو الحق و إمّا أصلا بلحاظ حال الشك.

فعلى الأوّل فهي قاعدة كليّة و عامّ كالعمومات الأخرى فكلّ إنسان حرّ إلّا أن يعرضه ما أوجب عبوديّته فلم يخلق اللّه تعالى الإنسان عبدا إلّا في خصوص ما إذا كان الأبوان مملوكين مثلا إن لم نقل في خصوص هذا الفرد أيضا بان كون الأبوين مملوكين أيضا من جملة الأسباب الطارئة كما أن استصحاب العبودية الثابتة في حقّ الأبوين بالنسبة إلى الولد غير صحيح لاختلاف الموضوع.

و على الجملة فالمقام من قبيل العامّ و الخاصّ لأنّ كلّ أحد فهو حرّ إلّا إذا ثبت عبوديّته بواحد من الطوارئ و العوارض فالحريّة لا تحتاج إلى دليل و إنّما المحتاج إليه هو العبوديّة فهذا حكم واقعيّ عامّ و أمارة يؤخذ بها و يعمل على وفقها

______________________________

(1) راجع المبسوط ج 8 ص 17.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 176

بخلاف أصالة البراءة فإنّها أصل أي حكم في مورد الشك و بلحاظه، و من المعلوم أنه مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الأصل و لا معارضة بينهما أصلا لعدم وحدة الرّتبة و على هذا فالحجّة هو خصوص أصالة الحريّة دون غيرها، هذا على فرض كونها أمارة.

و أمّا على الثاني أي كونها أصلا بلحاظ حال الشك، و وظيفة للشّاك بلا عناية إلى الواقع فيجري الإشكال من ناحية أخرى و هي أنه و إن كانت أصالة الحريّة مجعولة لحال الشك إلّا أنّها استصحاب موضوعي، و الحال أن أصالة البراءة أصل حكمي و من المعلوم تقديم الأوّل على الثاني كما في سائر

المقامات فلا يجري أصالة البراءة عن غسل ثوب شكّ في نجاسته و طهارته بعد أن مقتضى الاستصحاب نجاسته بأن علم حالته السابقة و أنّها كانت هي النجاسة، لتعيين النجس بهذا الاستصحاب.

ففي المقام لا يعارض أصل البراءة أصل الحريّة و إن قلنا بكونه أصلا لا أمارة.

و الحاصل أنه لا تصل النوبة إلى درء الحدود بالشبهات و ذلك لعدم شبهة أصلا أمّا على الأول فواضح و أمّا على الثاني فلتقدّم الأصل الموضوعي على قاعدة الدرء فإنّ بجريانه لا تبقى شبهة كي تجري قاعدة الدرء.

ثم إنّه يجري كلّ ما ذكر هنا، في ما إذا اختلف القاذف و المقذوف بأن قال القاذف: أنت عبد فلا حدّ عليّ و ادّعى المقذوف خلافه و قال: أنا حرّ فعليك الحدّ. و ذلك لأن الملاك واحد و إنّما الفرق في أن مآل النزاع في السابق إلى الاختلاف في كمال الحدّ و نصفه و في هذا الفرض إلى لزوم الحدّ و عدمه فيجب التعزير حيث إنّ قذف المملوك لا يوجب سوى التعزير.

و بعبارة أخرى: البراءة في الأوّل عن الأربعين الزائد و في الثاني عن الحدّ، و هذا الفرق ليس بفارق للحكم بل كان مفروض كلام الشيخ في الخلاف و المبسوط هو خصوص هذا الفرض، و لوحدة الملاك تعرّض الجواهر لكلامه في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 177

الفرض السابق «1».

ثمّ إنه قد ورد نظير هذه المسألة في باب الجنايات أيضا حيث إنّه لا يقتل الحرّ بالعبد و قال بعض هناك بما حكم به في مسألة القذف.

قال الشيخ في الخلاف: إذا قذف رجلا ثم اختلفا فقال المقذوف: أنا حرّ فعليك الحدّ و قال القاذف: أنت عبد فعليّ التعزير، كان القول قول القاذف و

قال الشافعي في كتبه مثل ما قلناه في القاذف و قال في الجنايات: القول قول المجنيّ عليه و اختلف أصحابه على طريقين: منهم من قال: المسألتان على قولين أحدهما: القول قول القاذف و الثاني: القول قول المجنيّ عليه و هو المقذوف و منهم من قال: القول قول القاذف في القذف و القول المجنيّ عليه في الجناية.

(ثم قال:) دليلنا أن الأصل براءة الذمّة للقاذف و لا تشغل و لا يوجب عليها شي ء إلّا بدليل انتهى.

أقول: و يرد على التمسّك بالبراءة في مسألة الجناية أنه ليس النزاع هناك في الأقلّ و الأكثر، كي تجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر فإنّ القصاص و الدّية ليسا من قبيل الأقلّ و الأكثر بل هما من قبيل المتباينين و لا مورد لأصل البراءة هناك.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ القصاص أهم، و القيمة غير أهمّ و هما كالأقلّ و الأكثر.

هذا تمام الكلام في القاذف.

الكلام في المقذوف و ما يعتبر فيه

قال المحقّق: الثالث في المقذوف و يشترط فيه الإحصان و هو هنا عبارة عن البلوغ و كمال العقل و الحرية و الإسلام و العفّة فمن استكملها وجب بقذفه الحدّ و من فقدها أو بعضها فلا حدّ و فيه التعزير.

أقول: شرط الحدّ في القذف كون المقذوف محصنا فإذا كان كذلك يوجب

______________________________

(1) فراجع المسألة 17 من قذف المبسوط ج 8 و المسألة 52 من حدود الخلاف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 178

قذفه الحدّ.

و الإحصان قد ورد لمعان متعدّدة كالتزويج و الإسلام و الحريّة و غيرها لكنّ المراد منه في المقام هو مجموعة أمور: البلوغ و كمال العقل و الحريّة و الإسلام و العفّة فلا حدّ على القاذف إذا كان المقذوف غير واجد لهذه الأوصاف بأن كان صبيّا أو

مملوكا أو كافرا أو متظاهرا بالزنا.

و يدلّ على اعتبار الإحصان في المقذوف قول اللّه تعالى في صريح الكتاب:

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ.» [1] بعد أن لا فرق بين الرجل و المرأة إذا كانا محصنين.

و ادّعى في الجواهر عدم خلاف يجده في اشتراط تلك الأمور في المقذوف حتى يثبت الحدّ على القاذف بل الإجماع بقسميه عليه. كما أنه لا خلاف فيما وجدنا من كلمات أصحابنا في إثبات التعزير عند فقد كلّ واحد من هذه الأمور إلّا في الأخير فإنّه مورد الإشكال، و يستظهر من الجواهر عدم التعزير فيه أيضا.

ثمّ إنّه يتحصّل من المطالب المذكورة أمور و مطالب:

أحدها: وجوب الحدّ على من قذف جامع الصفات المزبورة.

ثانيها: عدم الحدّ على قاذف من فقد جميعها أو بعضها.

ثالثها: وجوب تعزير الفاقد.

رابعها: أن من فقد الصفة الأخيرة أي العفّة فهل قذفه يوجب التعزير كالبواقي أو أنه لا تعزير فيه كما لا حدّ؟

أمّا الأوّل فمضافا إلى الإجماع المذكور آنفا قد دلّت الروايات على اعتبار تلك الصفات في وجوب الحدّ.

فتدلّ على اعتبار البلوغ في المقذوف صحيحة أبي مريم الأنصاري قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال:

______________________________

[1] سورة النور الآية 4، و قد ورد التقييد بذلك في عدّة من الروايات كمعتبرة سماعة ح 1 ب 4 من أبواب القذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 179

لا و ذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد «1».

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يقذف الصبية يجلد؟ قال: لا حتى تبلغ «2».

و روايته الأخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يقذف الرجل بالزنا قال: يجلد هو في كتاب اللّه و سنّة نبيّه

صلّى اللّه عليه و آله قال: و سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة فقال: لا يجلد إلّا أن تكون قد أدركت أو قاربت «3».

و صدر رواية الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

لا حدّ لمن لا حدّ عليه «4».

ثمّ إنّ الظاهر أنه لا فرق بحسب الأخبار في سقوط الحدّ عمّن قذف غير البالغ بين من قارب البلوغ أم لا.

و أمّا قوله عليه السلام في رواية أبي بصير: أدركت أو قاربت فالظاهر أن المراد بالإدراك هو رؤية الحيض و بالقرب من ذلك هو إكمالها تسع سنين فالنتيجة: أن تكون بالغة.

و أمّا اعتبار كمال العقل فتدلّ عليه صحيحة الفضيل المذكورة آنفا فإنّ فيها بعد ما نقلناه من صدرها: يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا و لو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حدّ.

و أمّا الحرية فتدلّ على اعتبارها في المقذوف رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدّمات الحدود، ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 180

إلّا خيرا لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلّا سوطا «1».

قوله: لا نعلم منه إلّا خيرا يراد به أنه غير متجاهر، و قوله: إلّا سوطا يراد به الاستثناء من الحدّ- فإنّ الحدّ في معنى ثمانين سوطا.

و

أمّا ما قد يورد عليه بأن هذا هو حدّ القاذف إذا كان المقذوف عبدا بقرينة قوله: ضربته الحدّ حدّ الحرّ.

ففيه أنه خلاف الظاهر فلا يكون هذا حدّا مستقلّا في قبال الحدود الأخر.

و على الجملة فحيث إنه لم يكن المقذوف حرّا فلذا حكم الإمام عليه السلام بتعزير القاذف.

و رواية حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة و يستغفر اللّه عز و جلّ، قلت أ رأيت إن جعلته في حلّ و عفت عنه؟ قال: لا ضرب عليه إذا عفت عنه من قبل أن ترفعه «2».

نعم فيها إشكال و هو أنه إذا كان نصفها معتقا فاللّازم أن يكون عليه أربعون.

قال في الوسائل: حمله الشيخ على ما لو أعتق خمسة أثمانها و إلّا لاستحق أربعين جلدة. و حاصله أنه حمل النصف على غير الحقيقيّ. و جوّز حمله على كون العشرة تعزيرا لأن من قذف عبدا يستحقّ التعزير.

أقول: و بتعبير آخر إمّا أن يحمل النصف الذي أعتق على الحقيقيّ أو المجازيّ فعلى الأوّل يكون الأربعون من خمسين حدّ حريّتها و أمّا العشرة فهي من باب التعزير بالنسبة إلى النصف الآخر، و على الثاني يحمل على ما لو أعتق خمسة أثمانها.

و عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليها السلام في الحرّ يفتري على

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 181

المملوك قال: يسأل فإن كانت أمّه حرّة جلد الحدّ [1].

و مفهومها أنه لا حدّ لو لم تكن أمّه

حرّة.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من افترى على مملوك عزّر لحرمة الإسلام «1».

و أمّا الإسلام فتدلّ على اعتباره في المقذوف رواية إسماعيل الفضل قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الافتراء على أهل الذّمة و أهل الكتاب هل يجلد المسلم الحدّ في الافتراء عليهم؟ قال: لا و لكن يعزّر «2».

و أمّا السّتر و عدم كونه متظاهرا بالزنا فقد استدلّ على اعتباره بمعتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال في الرجل: إذا قذف المحصنة يجلد ثمانين حرّا كان أو مملوكا «3».

و رواية عبيد بن زرارة «4» المذكورة آنفا.

هذا كلّه في المقام الأوّل و أمّا الثاني أي عدم حد القاذف إذا لم يكن المقذوف واجدا لكلّ هذه الأوصاف فلدلالة تلك الأخبار.

و أمّا وجوب التعزير عند عدم الحدّ فلأدلّة التعزير.

و أمّا الرابع أي أن قذف الزاني المتجاهر بزناه هل يوجب التعزير أو أنه لا تعزير فيه كما لا حدّ؟.

قال في المسالك: و أمّا قذف غير العفيف فمقتضى العبارة إيجاب التعزير أيضا و به صرّح في القواعد و التحرير و تنظّر فيه شيخنا الشهيد من حيث دلالة

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 11 أقول: الظاهر منها أنه كان قد نسب المملوك إلى كونه ولد زنا فكان القذف بالنسبة إلى للأمّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 12.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 182

الخبرين السابقين على سقوط حرمته و لعلّ القذف بالزنا مستثنى لفحشه و إطلاق النهي عنه. انتهى.

و قال في القواعد: و إذا قذف المسلم صبيا أو عبدا أو مجنونا أو كافرا أو مشهورا بالزنا فلا حدّ بل التعزير. انتهى.

و قال في اللمعة: و يشترط في المقذوف الإحصان و أعني: البلوغ و العقل و الحرية و الإسلام و العفة فمن اجتمعت فيه هذه الأوصاف وجب الحدّ بقذفه و إلّا فالواجب التعزير انتهى.

و قال الشهيد الثاني بشرحه: كذا أطلقه المصنّف و الجماعة غير فارقين بين المتظاهر بالزنا و غيره و وجهه عموم الأدلّة و قبح القذف مطلقا بخلاف مواجهة المتظاهر به بغيره من أنواع الأذى كما مرّ و تردّد المصنّف في بعض تحقيقاته في التعزير بقذف المتظاهر به و يظهر منه الميل إلى عدمه محتجّا بإباحته استنادا إلى رواية البرقي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و في مرفوع محمّد بن بزيع: من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، و لو قيل بهذا كان حسنا انتهى.

أقول: الوقيعة بالفارسيّة بد گوئى مردم.

و قد بان بهذا الكلام أن مراد المسالك من الخبرين رواية البرقي و مرفوع ابن بزيع.

ثمّ إنّ الظاهر من تعبيره بالجماعة- محلاة باللام- دون (جماعة) هو أنه نسب ذلك إلى جميع الأصحاب [1] فهم كالشهيد الأوّل لم يفرّقوا بين المتظاهر و غيره في الزنا في أن قذفه يوجب التعزير في غير المتظاهر كالحدّ في المتظاهر.

و وجه ذلك شدّة قبح الزنا و اهتمام الشرع بعدم شيوعها- فإنّها الفاحشة- حتى بذكرها و ذكر من ارتكبها بذلك.

و أمّا الخبران فالظاهر أن التمسّك بهما في جواز قذف غير المتجاهر بالزنا أو

______________________________

[1]

أقول: لكن في الرياض: و الظاهر العبارة و جماعة تعزير قاذف المتجاهر بالزنا إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 183

اللواط و إن كان متجاهرا بغيرهما من الفسوق مشكل بل يختصّ جواز ذلك أي الغيبة و كذا عدم الحرمة و الأمر بالوقيعة بخصوص الذنب الذي كان متجاهرا به فلو كان يتجاهر بشرب الخمر و لكنّه يأبى عن التجاهر بالزنا أو اللواط فإنّه يشكل غيبته و الوقيعة فيه بغير شرب الخمر فضلا عن قذفه بالزنا.

و قد وجّه في الرياض تعزير قاذف المتجاهر بهما بالأولويّة قال- بعد الإشكال في تمسّك الشهيد الثاني بعموم الأدلّة في قبح القذف مطلقا-: نعم ربّما يؤيده فحوى ما دلّ على تعزير قاذف الكافر «1».

توضيح كلامه أنه إذا كان قذف الكافر موجبا للتعزير فكيف لا يكون قذف المتجاهر بالزنا موجبا للتعزير؟ فهو أولى بذلك؟ فهو أولى بذلك لأنه بعد فاسق و ذاك كافر.

لكن ما ذكره من الأولويّة محل تأمّل و إشكال و ذلك لأنه و إن كان المسلم أولى و أكرم- و لا يقاس هو بالكافر كما قال اللّه تعالى: «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لٰا يَسْتَوُونَ» «2»- لكن هذا لا يستلزم أن يحكم على قاذف المسلم المتجاهر بما حكم به على قاذف الكافر.

بيانه أن المسلم المتجاهر قد أقدم بنفسه على فضيحة نفسه و عرّف نفسه بالعمل القبيح فلم يفضحه غيره بل هو الذي فضح نفسه و هذا بخلاف الكافر المتعفّف فإنّه يتأبّى عن فضيحة نفسه بالتجاهر بالزنا فقذفه يوجب فضيحته فيمكن أن يحكم على قاذفه بالتعزير و هذا لا يلازم تعزير قاذف مسلم قد أقدم بفضيحة نفسه بالتجاهر بفسقه و على هذا فالتمسك بالروايتين و بالأولويّة في إثبات تعزير

قاذف المتجاهر في محلّ المنع و لا يتمّ شي ء منهما بعد أن المسلم من عدم حرمة المتجاهر و عدم الغيبة له هو ذلك في خصوص ما يتجاهر به دون غيره و منع الأولوية بما ذكرناه.

و لو شكّ في ذلك أي لزوم تعزير قاذف المتجاهر بالزنا و لو بسبب ترديد

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2 ص 485.

(2) سورة السجدة الآية 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 184

العلماء فالأصل عدم وجوبه.

بقي أنه لم ينقّح الكلام بالنسبة إلى الكافر فيحتاج تنقيحه إلى مزيد البحث و التأمّل.

فنقول: إنّ مقتضى رواية إسماعيل بن الفضل المذكورة آنفا الواردة في أهل الذمّة و أهل الكتاب هو أنه لا يحدّ المسلم المفتري عليهم بالزنا و إنّما يعزّر على ذلك، في حين أن رواية عبد اللّه بن سنان و رواية الحلبي تدلّان على النهي عن قذف من ليس على الإسلام أو كان على غير الإسلام إلّا مع الاطلاع على ما ينسب إليه و هذا بظاهره يوجب تقييد المطلق بالمقيّد.

فعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه نهى عن قذف من ليس على الإسلام إلّا أن يطلع على ذلك منهم و قال: أيسر ما يكون أن يكون قد كذب «1».

و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه نهى عن قذف من كان على غير الإسلام إلّا أن تكون قد اطّلعت على ذلك منه «2».

و النتيجة أنه يحرم الفرية عليهم لأنّهم أهل الكتاب أو كونهم في ذمّة الإسلام فإذا كان قذفهم حراما يتم الحكم بالتعزير كما صرّح بذلك في خبر إسماعيل إلّا إذا كان مطلعا على ذلك و قذفه به فإنّه ليس بمنهيّ عنه فليس بحرام فلا تعزير

عليه طبعا فالحكم مختصّ بأهل الكتاب و أمّا الكافر الحربي فالحكم بتحريم قذفه و تعزير قاذفه مشكل.

و ربّما يورد عليه بأن المذكور في كلمات العلماء هو الكافر لا الكافر من أهل الكتاب.

و يمكن الجواب عنه بأنه لا بأس بأن يكون مرادهم أهل الكتاب لقرائن و مناسبات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 185

نعم هنا إشكال آخر الذي قد أورد بعض علينا فيما ذكرناه من وجه الجمع و هو أنه لا أثر من التفصيل بين الاطلاع و عدم الاطلاع في كلماتهم.

و فيه أن الأمر ليس كذلك فترى صاحب الوسائل الذي يفتي بعناوين أبواب كتابه قد فصل هنا و قال في أول باب القذف: باب تحريمه حتّى قذف من ليس بمسلم مع عدم الاطلاع.

و كذا صاحب الجواهر قال: عند قول المحقّق: و لو كان المقول له مستحقّا للاستخفاف فلا حدّ و لا تعزير-: نعم ليس كذلك ما لا يسوغ لقاؤه به من الرمي بما لا يفعله.

ثم تمسك برواية الحلبي المفصّلة بين الاطلاع و عدم الاطلاع.

و على الجملة فالفرق بين المسلم و أهل الكتاب في أن قذف المسلم مطلقا حرام و موجب للحدّ و إن كان مع الاطلاع إلّا بالإتيان بأربعة شهداء و أمّا بالنسبة إلى أهل الكتاب فلا، بل لو كان مع الاطلاع فلا حرمة و لا تعزير.

نعم هنا رواية تعارض ما ذكرناه و هي رواية يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى أو مسلم

أو كافر أو حرّ أو مملوك فعليه حدّ الفرية و على غير البالغ حدّ الأدب «1».

و لكنّها لا تقاوم للمعارضة و ذلك لأنها مرسلة و لم تجتمع فيها شرائط الحجيّة و لذا قال صاحب الجواهر: هو مطرح لفقدها شرائط الحجيّة فضلا عن صلاحية المعارضة.

و قال الشيخ قدّس سرّه: إيجاب الحدّ على من قذف غير البالغ محمول على من نسب الزنا إلى أحد أبويه، و إيجابه على من قذف كافرا محمول على من كانت أمّه مسلمة أو على التعزير.

لا يقال إنّ ذكر المسلم في الرواية ينافي هذا الحمل و ذلك لأن قذف المسلم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 186

موجب للحدّ التام كما أن ذكره يوجب كون القذف متوجها إلى نفسه [1].

لأنا نقول: إنّه لا حاجة إلى الحمل و التوجيه بالنسبة إليه أصلا فما ذكر من الحمل متعلّق بمورد لا يتم الحكم بظاهره و هو غير المسلم.

و هنا روايات آخر دالّة على عدم الجواز كرواية الحذّاء قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألني رجل: ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر إليّ أبو عبد اللّه عليه السلام نظرا شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنّه مجوسيّ، أمّه أخته فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟ «1».

ترى أنه قال: نظر إليّ أبو عبد اللّه نظرا شديدا، و هذا يدلّ على عدم الجواز.

عدم اشتراط الإسلام و الحرّية في القاذف

قال المحقّق: سواء كان القاذف مسلما أو كافرا حرّا أو عبدا.

يعنى أنه بعد استكمال الشرائط المعتبرة في المقذوف، و المعتبرة في القاذف يجب الحدّ على القاذف بلا فرق بين كونه مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا و ذلك لأن

الإسلام و الحرية كانا من شرائط المقذوف دون القاذف.

ثمّ إنّه قد أورد علينا في مورد القاذف الكافر بأنه كيف يحكم عليه بالحدّ إذا قذف مسلما و الحال أن خبر فضيل بن يسار صرّح بأنه لا حدّ لمن لا حدّ عليه «2» يعني إنّ كلّ من لا يحدّ إذا قذف فلا يحدّ قاذفه و بعبارة أخرى من لا حدّ بضرره لا حدّ بنفعه و على ذلك يقال أيضا: و من كان يحدّ لو قذف فله الحدّ على من قذفه، و الكافر لو قذف أقيم عليه الحدّ فيلزم أن يكون له حقّ الحدّ على من قذفه و الحال أنه ليس له حقّ الحدّ على القاذف لاشتراط الإسلام في المقذوف.

______________________________

[1] أورده بعض و أجاب دام ظله بما ذكرناه و لكن الظاهر أنه غير تام للزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 187

و فيه أن القضيّة صادقة من طرف واحد و هو من لا يقام عليه الحدّ لا حدّ له على غيره فالكافر خارج عن تحت القضية لأنه ليس ممن لا يقام عليه الحدّ بل يقام عليه إذا قذف.

فهو يدلّ على أن المجنون أو الصغير الذين لا حدّ عليهما إذا قذفا- لعدم التكليف- لا حد لهما إذا قذفهما أحد، و لكن لا يدلّ على أن من لا حدّ له كالكافر و المملوك لا حدّ عليه.

إذا نسب أمّه إلى الزنا و كانت هي أمة أو كافرة

قال المحقّق: و لو قال للمسلم: يا بن الزانية أو أمّك زانية و كانت أمّه كافرة أو أمة قال في النهاية: عليه الحدّ

تامّا لحرمة ولدها و الأشبه التعزير.

و قد تبع الشيخ في ذلك جماعة كما في المسالك و الجواهر.

و قد استدلّ على ذلك بأمرين:

أحدهما: حرمة ولدها.

و قد أورد عليه الشهيد الثاني في المسالك بأن حرمة الولد غير كافية في تحصين الأمّ لما تقدّم من أن شرطه الإسلام و هو منتف.

ثانيهما: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن اليهودية و النصرانية تحت المسلم فيقذف ابنها قال: يضرب القاذف لأن المسلم قد حصنها «1».

قال في المسالك بعد العبارة السابقة: و الشيخ استند في قوله بثبوت الحدّ إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه انتهى.

و هو أيضا ظاهر عبارة صاحب الجواهر.

أقول: راجعنا النهاية و لم يكن فيها ذكر عن الرواية، فالمراد هو اعتماد الشيخ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 188

عليها في هذه الفتوى.

و كيف كان ففي المسالك في مقام الإيراد على التمسّك بالرواية: و فيها قصور السند و الدلالة، أمّا الأوّل فلأن في طريقها بنان بن محمد و حاله مجهول و أبان و هو مشترك بين الثقة و غيره. و أمّا الثاني من وجهين أحدهما قوله: فيقذف ابنها، فإنّه أعم من كونه بنسبة الزنا إليها و إن كان ظاهر قوله: إنّ المسلم قد حصّنها يشعر به، و لأن القذف بذلك ليس قذفا لابنها بل لها و من ثمّ كان المطالب بالحدّ هو الأمّ. و الثاني من قوله: يضرب القاذف فإنّه أعمّ من كونه حدّا أو تعزيرا لاشتراكهما في مطلق الضرب و نحن نقول: يثبت بذلك التعزير، هذا على ما رواها الشيخ في التهذيب، و أمّا الكليني فإنّه

رواها بطريق آخر و ليس فيه بنان و ذكر في متنها بدل قوله: (و يضرب القاذف) (و يضرب حدّا) و عليه ينتفي الإيراد الأخير و يؤيّده التعليل بالتحصين انتهى «1».

أقول: فقد استشكل في الرواية سندا و دلالة. أمّا من حيث السند فمن جهتين:

إحديهما أن في طريقها بنان بن محمد و هو مجهول الحال. و الأخرى أن في طريقها أيضا أبان و هو مشترك بين الثقة و غيرها هذا.

و أمّا من حيث الدلالة فمن وجهين أيضا:

أحدهما من جهة أن قوله: يقذف ابنها ليس صريحا في نسبة الزنا إليها فلعلّه كان بشي ء آخر ثانيهما من جهة أن قوله: يضرب القاذف، يمكن أن يراد منه التعزير لصدق الضرب عليه و على الحدّ و اشتراكهما في مطلق الضرب.

ثمّ أبدى ما يخفّف الإشكال و هو أنه قد نقل الخبر في الكافي و ليس في طريقه بنان كما أنه نقل هناك: (يضرب حدّا) لا: (يضرب القاذف) و من المعلوم أن (يضرب حدّا) ظاهر في الحدّ و لا يشمل التعزير. كما أن التعبير بالتحصين في قوله: لأن المسلم قد حصّنها، يشعر بأن النسبة في القذف كانت نسبة الزنا.

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 ص 437.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 189

و على هذا فقد ارتفع معظم الإشكالات الواردة على الرواية و مع ذلك بقي بعض الإشكالات الواردة على الاستدلال بها مثل كون أبان المجهول في طريقها.

ثم قال قدّس سرّه: و وافق الشيخ على ذلك جماعة و قبله ابن الجنيد و ذكر أنه مرويّ عن الباقر عليه السّلام و روى الطبرسي: أن الأمر لم يزل على ذلك إلى أن أشار عبد اللّه بن عمر على عمر بن عبد العزيز بأن لا يحدّ

مسلم في كافر، فترك ذلك.

أقول: و على هذا فقد استدلّ مضافا إلى الدليلين المذكورين بدليل ثالث و هو هذا الخبر المرويّ عن الباقر عليه السلام.

و فيه أن هذا الخبر مرسل، و ذكر في الجواهر موردا عليه: لم نتحقّقه.

و على هذا فلم يكن في المقام شي ء يعتمد عليه في ذلك و مجرّد إسلام الولد لا يقتضي تماميّة الحدّ على القاذف بعد أن الولد ليس هو المقذوف.

فتحصّل أن الأقوى كما في المسالك هو القول الأول و هو الذي قال المحقّق:

و الأشبه التعزير، و في كشف اللثام مزجا: و الأقرب ما في الشرائع من أن عليه التعزير، للأصل و عدم صحة الخبر و معارضته بما دلّ على التعزير بقذف الكافر انتهى.

في تعزير الأب لقذفه ولده

قال المحقّق: و لو قذف الأب ولده لم يحد و عزّر

أقول: فمن جملة شرائط المقذوف هو انتفاء بنوّته للقاذف و قد ذكر ذلك بعض، من جملة الشرائط و في عدادها فترى العلّامة أعلى الله مقامه قال في القواعد في شرائط المقذوف: الإحصان و انتفاء الأبوّة.

و قد أورد عليه كاشف اللثام بأنّ الأولى البنوة و فسر كلام العلامة بانتفاء الأبوة عن القاذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 190

و كيف كان فلو كان القاذف أبا له فلا يقام عليه الحدّ، و ما كان سببا للحدّ في غير الأب لا يكون سببا لذلك إذا كان أبا و ذلك للمكانة المعلومة عند الشرع للوالد نعم يعزّر هو على ذلك.

و قد ذكروا بأن وجوب التعزير أيضا ليس من باب إثبات حق للولد على الوالد كما في سائر الموارد بل إنّما هو لكون عمله حراما و أن التعزير حقّ اللّه تعالى و لذا لا يحتاج إلى المطالبة و لا يسقط بالعفو

فإنّه لا يثبت للإبن على الأب عقوبة حدّا كان أو تعزيرا. و قد علّل في الجواهر عدم الحدّ بالأصل و عدم ثبوت عقوبة للولد على أبيه و لو قتله.

و فيه أمّا الأصل فهو دليل حيث لا دليل فمع وجود الإطلاقات الشاملة للمقام لا مجال للتمسّك به.

و أمّا عدم ثبوت العقوبة للإبن على أبيه فهو أيضا ليس وجها كافيا في إثبات المطلب لو لم يدل عليه دليل بالخصوص.

و أمّا قوله: و لو قتله، فالمقصود به هو الأولويّة.

و فيه أنه لو لم يكن دليل يدلّ على المطلب فإنه لا أولويّة قطعيّة و ذلك لأنه و إن كان عدم قتل الأب بالإبن معلوما مسلّما لكنه لا يدلّ على أنه لا يحدّ الأب للإبن فإنّ في القتل إزهاق الروح و إعدام للشخص و لا بدّ فيه من كمال المواظبة و المراعاة، بخلاف الجلد الذي هو مجرّد الضرب و ليس بتلك الأهميّة و من الممكن جواز ضرب الأب للإبن فعدم قتل الوالد للولد لا يدلّ على عدم ضربه له و إلّا للزم عدم ضمان الوالد إذا سرق مال ولده و هكذا سائر الأحكام.

نعم يدلّ على المطلب صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتلهما قتل به و إن قذفه لم يجلد له قلت: فإن قذف أبوه أمّه؟ قال: إن قذفها و انتفى من ولدها تلاعنا و لم يلزم ذلك الولد الذي انتفى منه و فرّق بينهما و لم تحلّ له أبدا قال: و إن كان قال لابنه و امّه حيّة: يا ابن الزانية و لم ينتف من ولدها جلد الحدّ لها و لم يفرّق بينهما قال: و إن

الدر المنضود

في أحكام الحدود، ج 2، ص: 191

كان قال لابنه: يا بن الزانية، و أمّه ميّتة و لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حقّ الحدّ قد صار لولده منها فإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له و إن لم يكن لها ولد من غيره و كان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ جلد لهم «1».

و هذا الخبر و إن قال المجلسيّ قدّس سرّه في المرآة بأنه مجهول، لكنّ الظاهر أنه معتبر و معمول به عندهم و قد عبّر عنه بعض كالشهيد الثاني في المسالك و الفاضل الأصفهاني في كشف اللثام بالحسنة و بعض كصاحب الجواهر بالحسن أو الصحيح، كما أن دلالتها على المطلوب واضحة لتصريحه عليه السلام بأنه لا يجلد و قرّب ذلك بأنه لو قتله ما قتل به هذا بالنسبة إلى صدر الخبر الذي هو عين محلّ الكلام.

و أمّا الفرض الثاني المذكور في الخبر فهو أن يقذف أبوه أمّه و نفى ولدها عنه فهنا يتلاعنان و بعد الملاعنة ينتفي منه الولد و لم يجبر بقبول هذا الولد و فرّق بين الرجل و المرأة أي والدي الطفل و لا تحلّ له أبدا كما هو مقتضى الملاعنة شرعا.

و أمّا الفرض الثالث فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية و لكنّه لم ينتف ولدها و كانت أمّه حيّة.

و لا بعد في تحقق الفرض بأن ينسب الأمّ إلى الزنا و لكنّه لم ينتف ولدها لإمكان زناها في غير مورد هذا الولد، و على الجملة فهنا يجلد الأب، و الحقّ للأمّ الحيّة و لكن لا يفرّق بينهما لأنه لم ينتف ولدها و إنّما نسبها إلى الزنا فيكون لها

حقّ الجلد عليه.

و أمّا الفرض الرابع فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية مع كون الأمّ ميّتة و لم يكن لها ذو حقّ بالنسبة إلى حدّ هذا القذف سوى هذا الولد فهنا لا يقام على الوالد الحدّ، و ذلك لأن صاحب الحق فعلا هو هذا الولد الذي هو منه و منها، و لا يقام الحدّ على الوالد لابنه، و القذف و إن كان بالنسبة إلى الأمّ إلّا أن الولد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 192

حينئذ هو صاحب الحق و طالبه لفرض موت الأمّ.

و أمّا الفرض الخامس فهو أن يكون لها ولد من غير هذا الرجل القاذف و هنا يكون الولد المزبور وليّها و المطالب بحقّها فيجلد القاذف.

و أمّا الفرض السادس فهو أنه لم يكن لها ولد من غيره و لكن كانت لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ و يطالبونه و هنا أيضا يجلد القاذف، لحقّ الأقرباء.

و الحاصل أنه لا فرق بين أن يقذف الوالد ولده بنفسه و بين أن يقذف أمّه إلى الزنا عند ما كان هذا الولد وليّها في أخذ الحقّ و المطالبة بالحدّ فهما سيّان في عدم إقامة الحدّ على الأب.

في قذف زوجته الميّتة

قال المحقّق: و كذا لو قذف زوجته الميّتة و لا وارث لها إلّا ولده نعم لو كان لها ولد من غيره كان لهم الحدّ تامّا.

أقول: و قد ظهر وجه ذلك من رواية ابن مسلم فإنّ هذا هو الفرض الرابع من فروض الرواية و الفرض الخامس منها.

قذف الولد أباه و الأمّ ولدها

ثم قال: و يحدّ الولد لو قذف أباه، و الأمّ لو قذفت ولدها و كذا الأقارب.

أقول: و ذلك لدلالة العمومات على أن القذف مطلقا يوجب الحدّ غاية الأمر أنه قد خرج عنها مورد واحد و هو قذف الأب ابنه فيبقى الباقي بحاله تحت العمومات.

ثمّ إنّه هل الجد للأب أيضا كسائر الأرحام و الأقارب أو أنه داخل تحت عنوان الأب و ملحق به؟.

قال العلّامة في القواعد: و الأقرب أن الجدّ للأب أب بخلاف الجدّ للأمّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 193

و قال في التحرير: لو قذف الأب ولده المحصن و إن نزل لم يحدّ كاملا بل عزّر إلخ.

و في كشف اللثام تقريرا لقول العلّامة: لأنّه لا يقتل به و للمساواة في الحرمة و عموم له عرفا- ثم قال:- و يحتمل العدم للعمومات و منع عموم الأب له حقيقة.

انتهى كلامه.

أقول: الظاهر من لفظ الأب و قذفه لولده الواردين في الرواية هو الأب بلا واسطة، و لو أريد تعميم الحكم للجدّ أيضا لكان يذكر الجدّ مع الأب فلو كان في المقام دليل كالإجماع يدلّ على أن حكم الجدّ هو حكم الأب فهو و إلّا فالرواية لا تشمل إلّا الأب وحده دون الجدّ.

نعم وردت عدّة روايات في باب القتل ناطقة بأنه لا يقتل الأب في الابن لكنّها لا تدلّ على المراد في المقام.

و أمّا الاستدلال على ذلك بعموم الأب له عرفا

و إطلاقه عليه، ففيه أنه و إن كان يصحّ ذلك فقد أطلق عليه الأب في بعض الموارد و ببعض المناسبات إلّا أنه لا يطلق عليه حقيقة، و المتبادر منه هو الأب و لذا لو قيل لصبي كان له الأب و الجد منه: جاء أبوك فلا يبدو في ذهنه سوى أبيه و ليس ذلك إلّا للمنع عن كونه أبا حقيقة.

و على هذا فقد أفتى الفقهاء بأن قضاء صلوات الأب الفائتة منه يختصّ بالأب نفسه و لا يشمل الجدّ أيضا.

هذا بالنسبة إلى الجدّ للأب، و أمّا الجدّ للأمّ فهو يحدّ بقذفه ابن بنته بلا كلام و ذلك لأن الأمّ بنفسها تحدّ إذا قذفت ولدها فكيف بأبيها، و لأنه لا يسبق إلى الفهم من الأب و إن كثر إطلاق الابن على السبط هكذا استدلّ في كشف اللثام.

و يرد عليه أنه لو كان مجرّد الإطلاق كافيا كما ذكر في الجدّ الأبي فهنا أيضا يطلق الأب فترى أنه يستعمل (ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) و يطلق على الهاشميين و العلويين و يخاطبون بخطاب: يا بن رسول اللّه، و يقول الشاعر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 194

أولئك آبائي فجئني بمثلهم [1] أو لو شكّ في إيجابه الحدّ هنا و لم يكن دليل فقاعدة الدرء جارية.

ثمّ إنا بعد ما ذكرناه من الإشكال رأينا أن فخر المحقّقين أيضا قد تنظّر في المطلب و تعرّض لما ذكرناه فإنّه عند قول والده العلّامة أعلى اللّه مقامه:

و الأقرب أن الجدّ للأب أب بخلاف الجدّ للأمّ انتهى. قال: يعني إذا قذف الجدّ للأب ولد ابنه فالأقرب أنه كالأب لا يحدّ له. (ثم استدلّ على ذلك بقوله:) لوجود المقتضي لانتفاء الحدّ و

هو حرمة الأبوّة و لأنّه لا يقتل به و لأنه يصدق عليه لفظ الأب حقيقة.

ثم قال: و فيه نظر للمنع من كونه أبا حقيقة فإنّه يصدق عليه السلب و لا شي ء من الحقيقة كذلك.

أقول: إنّه قدس سره ذكر ثلاثة وجوه لتقرير قول والده العلّامة و إثبات سقوط الحدّ:

الأول: وجود المقتضي لانتفاء الحد، و المراد به هو حرمة الأبوة فإنّ الحرمة الثابتة للأب ثابتة للجدّ و هذا يقتضي أن لا يحدّ، كما لا يحدّ الأب.

الثاني: إنّ الجدّ لا يقتل بابن الابن كما لا يقتل الأب بابنه.

الثالث: صدق الأب حقيقة على الجدّ.

و قد تعرّض في مقام الإشكال للوجه الثالث و أجاب عنه بعدم الإطلاق عليه حقيقة و ذلك لصحّة سلب الأبوة عن الجدّ فيقال: إنّه ليس أبا و من المعلوم أن الحقيقة ليست كذلك بل هي علامة المجاز و خلاف الحقيقة. و هذا هو عين ما أوردناه آنفا.

و أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه أن حرمة الأبوة و إن كانت محقّقة للجد فإنّه كان سببا لوجوده و وجود أبيه لكنّها لا تدلّ على أن الجدّ لا يضرب في ابن الابن فلعلّ

______________________________

[1] و بعده: إذا جمعتنا يا جرير المجامع، و هو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جرير بن عطيّة التميمي. راجع جامع الشواهد باب الألف بعده الواو.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 195

تساويهما في الحرمة يقتضي عدم قتله لو قتل ابن الابن كما لا يقتل الأب بقتله ولده، و أمّا في الجلد فلا.

و أمّا الوجه الثاني و هو أن الجدّ لا يقتل بقتل ابن ابنه كالأب بعينه فكذلك لا يجلد في ابن ابنه كما لا يجلد الأب في ولده.

ففيه انه على فرض تسليم ذلك أي عدم

قتل الجد كالأب، فإثبات عدم جلد الجدّ في ابن ابنه بسبب عدم جلد الأب في ابنه إمّا بالقياس أو الأولويّة أو بتنقيح المناط.

و الأول معلوم البطلان في المذهب، و لا يقول هذا العلم بالنحرير بذلك قطعا.

و الثاني غير صحيح لأنه لا أولوية في البين بل الأولويّة بالعكس يعني لو كان الدليل يدلّ على أن الجدّ لا يضرب في ابن الابن كما لا يضرب الأب في ابنه لكان يقال: فالجدّ لا يقتل في ابن الابن كما لا يقتل الأب في ابنه و أمّا العكس فلا.

و الثالث موقوف على الجزم بالمناط و القطع بحصوله.

كما أن ما قد يتوهّم بعض من أن الولاية الثابتة للجدّ الأبي تقتضي أن لا يجلد هو بقذف ابن ابنه كما لا يجلد في قذف ولده.

و فيه انه لا يدلّ على المطلوب إلّا بتنقيح المناط الموقوف على العلم به و مع عدمه لا بدّ من الأخذ بعموم ما دلّ على حدّ من قذف.

و على الجملة فحيث كان دليل سقوط الحدّ عنده محلّ النظر فلذا قال بعد ذلك:

و من هنا احتمل عدم السقوط لوجود المقتضي للحد و هو القذف و لم يعلم ثبوت المانع و الأصل عدمه.

أقول: إنّه هنا صار بصدد تقريب احتمال الخلاف أي عدم سقوط الحدّ عن الجدّ و ذكر أن المقتضي موجود و المانع مفقود بالأصل، و مراده من المقتضي الموجود هو الرمي بالزنا الذي يقتضي الحدّ، و من المانع الذي علم بعدمه بالأصل هو الأبوّة فحينئذ يؤثّر المقتضي أثره و هو إيجاب الحدّ.

ثم قال: قالوا شبهة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 196

أقول: يعني: قالوا بأنه يسقط الحدّ لأجل الشبهة.

فأجاب بقوله: قلنا يسقط حقّ اللّه لا حقّ الآدمي و هو

الأغلب هنا.

يعني أن الذي يسقط بالشبهة هو حقّ اللّه تعالى لا حقّ الناس، و الأغلب في باب القذف هو هذا أي: حقّ الناس كما يدلّ على ذلك جواز العفو عن ذلك الحدّ و لو كان حقّ اللّه تعالى لم يكن قابلًا لذلك هكذا ذكره رحمه اللّه، و لسنا بصدد كلامه الأخير، و البحث في صحّة ما ذكره من عدم ورود الدرء هنا و سقم ذلك.

و كيف كان فمع أنه ضعّف دليل السقوط فقد قال في الآخر: و الأقوى عندي أنه لا حدّ عليه. و لعلّ ذلك لأجل أن الوارد في الخبر هو السؤال عن الابن حيث قال: عن رجل قذف ابنه بالزنا إلخ و استعمال الابن في ابن الابن بل و في ابن البنت في المحاورات العرفيّة كثير فأنتم لا تزالون تقرؤون بالليل و النهار في زيارة الأئمة الطاهرين عليهم السلام: السلام عليك يا بن رسول اللّه، فلو لم يكن استعمال الأب في الجد و إطلاقه عليه سائغا في العرف، فإنّ إطلاق الابن على ابن الابن شائع عندهم.

لا يقال: إنّ الأب و الابن من قبيل المتضايفين، و النسبة فيهما على نهج واحد، و حدّ سواء، فلو صدق الابن على ابن الابن لصدق الأب أيضا على أب الأب و حيث لم يصدق ذاك فلا يصدق هذا، فيجب الحدّ [1].

فإنّا نقول: إنّ واقع الأمر كذلك فإنّ النسبة بينهما هو التضايف إلّا أن الكلام في المحاورات العرفيّة، و الشائع فيها إطلاق الابن على الابن بالواسطة أيضا دون إطلاق الأب، فلو حصل من هذا الشيوع ظهور لكفى في سقوط الحدّ عن الجدّ و إلّا فلا أقلّ من كونه موجبا للشبهة و لكانت موجبة لدرء الحدّ.

______________________________

[1] أورده بعض السادة عليه

و قد أجاب دام ظله بما نقلناه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 197

المسألة الأولى في قذف جماعة واحدا بعد واحد أو بلفظ واحد

قال المحقّق: الرابع في الأحكام و فيه مسائل: الأولى إذا قذف جماعة واحدا بعد واحد فلكلّ واحد حدّ و لو قذفهم بلفظ واحد و جاءوا به مجتمعين فلكل حدّ واحد و إن افترقوا في المطالبة فلكلّ واحد حدّ.

أقول: إنّ ما ذكر إلى الآن كان حكم القذف مع كون المقذوف واحدا، و الكلام حينئذ في القذف مع كون المقذوف متعدّدا، و له صور:

أحدها: أن يقذفهم تفصيلا واحدا بعد واحد سواء ذكر كلّا باسمه أو قذفهم و خاطبهم بصورة الخطاب و ضميره. فالأوّل كما إذا قال: زيد زان و عمرو زان و هكذا. و الثاني كأن يقول كلّ واحد من جماعة: أنت زان، أنت زان و هكذا فالنسبة هنا متعدّدة في كلتا الصورتين.

ثانيها: أن يكون اللفظ واحدا كما إذا خاطب جماعة و قال: أنتم زناة و هنا تارة يأتون بالقاذف مجتمعين و أخرى متفرّقين.

أمّا الأوّل و هو ما إذا قذفهم واحدا بعد واحد فلكلّ واحد منهم حدّ مستقلّ على القاذف سواء أتوا به معا أو متفرّقين.

و أمّا الثاني: و هو ما إذا كان القذف بلفظ واحد فهنا فصل بين إتيان المطالبين به مجتمعين فإنّه يحدّ حدّا واحدا للجميع و بين إتيانهم به متفرّقين فهو يحدّ لكلّ واحد منهم على حدة.

و لنا في هذا التفصيل كلام فنقول: لا إشكال في أنه لو طالب واحد منهم بحقّه و أقيم على القاذف الحدّ فمن المسلّم أن إجراء هذا الحدّ عليه لا يوجب سقوط حقّ الباقين. و بعبارة أخرى أن إتيان الثاني مثلا لو كان بعد إتيان الأوّل به و إقامة الحدّ عليه فللثّاني أيضا حدّ

آخر و لو كانت مطالبة الثالث بعد مطالبة الثاني و إقامة حدّه فهو يحدّ للثالث أيضا مستقلا و هكذا.

و أمّا لو جاءوا به متفرّقين لكن بلا تخلّل الحدّ بأن كان الأوّل قد أتى به و طالب بحقّه لكن لم يساعد الشرائط إقامة الحدّ عليه إلى الغد فأتى به الثاني

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 198

و هكذا فالظاهر أنه لا فرق بين الإتيان به متفرّقين بهذا النحو و بين إتيانهم به مجتمعين، و مجرّد كون المطالبة مترتّبة و مجيئهم واحدا بعد واحد لا يوجب التفرقة بين القسمين. و المفروض وقوع القذف بلفظ واحد فإن كانت النسبة واحدة لا متعدّدة يلزم توقّف الحدّ على اجتماع الجميع فإذا حضر الجميع و طالب كلّ منهم بالحدّ يقام عليه حدّ واحد فإنّ كلّ واحد منهم جزء في هذه النسبة القائمة بالجميع.

و أمّا لو كانت الكلمة الواحدة منحلّة إلى النسب المتعدّدة المختلفة على ما هو مقتضى العام الاستغراقي المنحل إلى الأفراد الكثيرة و النسب المتعدّدة فهذا لا فرق فيه بين إتيانهم بالقاذف متفرّقين أو مجتمعين و لازم ذلك تعدّد الحدّ. هذا هو مقتضى القاعدة و ذلك لأن النسب المتعدّدة أسباب متعددة و هي تطلب و تقتضي مسبّبات متعدّدة فيتعدّد الحدّ.

و نعم ما قال في كشف اللثام حيث قال مازجا: و لو تعدّد المقذوف و القذف تعدّد الحدّ سواء اتّحد القاذف أو تعدّد، اتّحد اللفظ أو تعدّد لأن هذا الحدّ حقّ المقذوف و لا يتسبّب اجتماع مقذوف مع آخر لسقوط حدّه- حقّه- و لكنّ أكثر الأصحاب بل في السرائر و النكت إنّ جميعهم اتّفقوا على أنه لو قذف جماعة بلفظ واحد كقوله: زنيتم أو: لطتم أو: يا زناة أو:

يا لاطة، فإن جاءوا به الحاكم مجتمعين فللجميع حدّ واحد و إن جاءوا به متفرّقين فلكلّ واحد حدّ و لو قذفهم كلّ واحد بلفظ حدّ لكلّ واحد حدّا سواء اجتمعوا في المجي ء أو تفرّقوا انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و كيف كان فهم قد قالوا بذلك و إن كان مقتضى القاعدة عدم تمامية ما ذكروه.

ثم إنّ في قبال قول المشهور قول الإسكافي فإنّه عكس الأمر و قال: لو قذف جماعة بكلمة واحدة جلد حدا واحدا فإن سمّى واحدا واحدا فأتوا به مجتمعين ضرب به حدّا واحدا و إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ واحد منهم حدّا.

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 233.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 199

ثمّ إنّ كلّا من القولين مستند إلى الروايات فنحن نراجعها حتى نعلم ما يستفاد منها، فعن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن رجل افترى على قوم جماعة قال: إن أتوا به مجتمعين ضرب حدّا واحدا و إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ منهم حدّا «1».

و ظاهر قوله: افترى على قوم، هو افتراؤه عليهم بلفظ واحد لا النسبة إليهم واحدا بعد واحد، كما أن الظاهر أن (جماعة) حال، و قد حكم عليه السلام بحدّ واحد عند مجيئهم به مجتمعين، و المتعدّد إن أتوا به متفرّقين و قد ذكرنا أن هذا الحكم لا يوافق القاعدة و لكنّه تعبّد لا كلام عليه.

و عن الحسن العطّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل قذف قوما قال: بكلمة واحدة؟ قلت: نعم. قال: يضرب حدّا واحدا فإن فرّق بينهم في القذف ضرب لكلّ واحد منهم حدّا «2».

و قد جعل الملاك في هذا الخبر هو كون الكلمة

واحدة أو متعدّدة فيتّحد الحدّ في الأوّل و يتعدّد في الثاني.

و ذيل هذا الخبر هو عين فتوى المشهور من أنه لو قذف واحدا بعد واحد يتعدّد الحدّ سواء أتوا به مجتمعين أو متفرّقين.

و أمّا صدره فهو عامّ أو مطلق بالنسبة إلى صحيح جميل الدالّ على أنه إذا قذف بكلمة واحدة يضرب حدّا واحدا إذا كانوا قد أتوا مجتمعين فلذا يخصّص أو يقيّد هذا بذاك، و النتيجة أن يقال: يضرب حدّا واحدا إن اجتمعوا في المجي ء به.

و عن محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن رجل افترى على قوم جماعة قال: فقال: إن أتوا به مجتمعين به ضرب حدا واحدا و إن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 200

أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ رجل حدّا «1».

و مفاد هذا الخبر كصحيح جميل.

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل افترى على نفر جميعا فجلده حدّا واحدا «2».

و هذا و إن دلّ على أن الحدّ في القذف على الجماعة هو حدّ واحد إلّا أن هذا الخبر حكاية فعل و ليس من القول في شي ء حتّى يستظهر منه، و لا إطلاق للفعل لأنّه بلا ترديد ليس حكاية فعل استمراري و إلّا كان يقول: كان يقضي، و إنّما هو حكاية فعل تحقّق مرّة واحدة و هذا لا يحتمل الأحوال المختلفة كإتيانهم به مجتمعين و متفرّقين و إنّما كان مقرونا بحال من الحالين فربما كان إتيانهم به مجتمعين كما أن الشيخ

قدس سره حمله على ما لو قذفهم بلفظ واحد و أتوا به مجتمعين.

و على هذا فلا تعارض بين هذا و بين ما سبق.

و ما قد يقال من أنه حيث كان نقل الإمام الصادق عليه السلام هذا القضاء في مقام بيان الحكم و لم يذكر خصوصية فيعلم أنه لا خصوصيّة أصلا فيؤخذ بالإطلاق و حينئذ يحصل التعارض بين هذا و سائر الروايات لأنّه لو كان بين الكلمة الواحدة و المتعدّدة أو المجي ء به مجتمعين أو متفرّقين فرق لكان اللازم ذكر تلك الخصوصيّة و حيث لم تذكر يستكشف الإطلاق.

ففيه إنّه ربما كانت هناك خصوصية لم يذكرها الإمام لجهة من الجهات و لمصلحة من المصالح، أو أنه قد ذكرها الإمام عليه السلام لكن لم يذكرها الراوي.

و على الجملة فالقضيّة شخصيّة و فعل خارجيّ و لا إطلاق لها لا في المقام و لا في سائر المقامات، و بتعبير آخر، المقام من قبيل المردّد لا من قبيل المطلق لتردّده بين هذه الحالة و تلك فلا بدّ من حمله على حال من الحالات مثل قذفهم بلفظ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 201

واحد مع إتيانهم به مجتمعين.

قال بعض المعاصرين قدس سره: و يظهر من معتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام لزوم حدّ واحد مطلقا.

(ثم قال): و قد حملت على ما إذا أتوا به جميعا. و فيه إشكال لأن قول أبي عبد اللّه عليه السلام (قضى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه.) على المحكي إذا كان في مقام بيان الحكم فهو بمنزلة المطلق، و القانون

لا بدّ أن يكون الباقي فيه أكثر من المخرج لا الأقلّ و لا المساوي. انتهى «1».

و فيه ما ذكرناه من أن الإمام الصادق عليه السلام قد نقل قضاء واحدا من قضايا أمير المؤمنين عليه السلام و لو كان بصدد بيان جميع القضايا و الأمر المستمرّ لعبر بقوله: كأن يقضي، و هذه القضيّة الواحدة مردّدة بين القذف بلفظ واحد أو المتعدّد جاءوا به مجتمعين أو متفرّقين و حيث علم أن قضاءه المنقول كان واحدا فلا يجوز التمسك بإطلاق فعله.

و عن بريد عن أبى جعفر عليه السلام في الرجل يقذف القوم جميعا بكلمة واحدة قال: إذا لم يسمّهم فإنّما عليه حدّ واحد و إن سمى فعليه لكلّ رجل حدّ «2».

فإن كان المراد من التسمية هو ذكر أشخاصهم مع كون النسبة واحدة فالنسبة بين هذه و بين ما دلّ على الإتيان به مجتمعين أو متفرّقين هو العموم من وجه و يتعارضان فيما لو سمّاهم بكلمة واحدة و لكن جاءوا به متفرّقين حيث إنّ مقتضى دليل التّسمية هو الوحدة، و مقتضى دليل الإتيان به هو تعدّد الحدّ كما أنه لو لم يسمّهم و هم قد جاءوا به متفرّقين تعارضت الروايتان. و بعبارة أخرى محلّ الاختلاف فرعان: أحدهما التسمية مع إتيانهم به مجتمعين. ثانيهما عدم التسمية مع إتيانهم به متفرّقين.

و حيث إنّ المشهور عملوا برواية التفصيل بين الإتيان به مجتمعين أو متفرّقين

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 104.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ القذف ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 202

فالترجيح معها.

فتحصّل أن المشهور لم يفصّلوا فيما إذا افترى قوما واحدا بعد واحد فإنّهم يقولون هنا بتعدّد الحدّ بلا كلام و إنّما

فصّلوا فيما إذا قذفهم بلفظ واحد بين ما إذا أتوا به مجتمعين أو متفرّقين.

و قد ذهب الإسكافي إلى عكس هذا بعينه لأنه قال: لو قذفهم بلفظ واحد كان الحدّ واحدا سواء جاءوا به مجتمعين أو متفرّقين و أمّا لو قذفهم واحدا بعد واحد فإن أتوا به مجتمعين فحدّ واحد و إن أتوا به متفرّقين جلد متعدّدا.

قال العلّامة في المختلف: إنّ ابن الجنيد احتجّ بخبر جميل (ثمّ قال) و لا بأس به فإنّه أوضح طريقا [1].

تقريب استدلاله به هو أن- جماعة- صفة للقذف المدلول عليه بالفعل أي لفظ: افترى، و أريد بالجماعة القذف المتعدّد فيكون المقصود قذف قوما قذفا متعدّدا، و كان الجواب أنه إن أتوا به مجتمعين فحدّ واحد و إلّا يتعدّد الحدّ و معلوم أن هذا بعيد فإنّ الظاهر أن جماعة صفة للقوم [2].

و قد ردّ صاحب الجواهر على الإسكافي بأن ما حكي عنه غير واضح الوجه على وجه تنطبق عليه جميع النصوص المزبورة خصوصا بعد ملاحظة الشهرة العظيمة و الإجماعين المزبورين.

ثم أورد على ما نقلناه عن المختلف بأنه لا يخلو من نظر ضرورة عدم ظهور قوله: (جماعة) في إرادة القذف متعدّدا كي يتّجه التفصيل المزبور إلخ.

ثم إنّ في المسألة قولا ثالثا و رابعا ففي الفقيه و المقنع أنه إن قذف قوما بكلمة واحدة فعليه حدّ واحد إذا لم يسمّهم بأسمائهم و إن سمّاهم فعليه لكلّ رجل سمّاه

______________________________

[1] راجع المختلف ص 781 أقول: إنّ العلّامة لم يبيّن وجه كون خبر جميل أوضح طريقا و لكن قال الشهيد الثاني في المسالك: لأن في طريق الثاني- رواية حسن العطّار- أبان و هو مشترك بين الثقة و غيره و الحسن و هو ممدوح خاصّة انتهى.

[2] قال

في الرياض: لأنه أقرب و أنسب بالجماعة لا للقذف انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 203

حدّ و قال: روي أنه إن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ رجل منهم حدّ و إن أتوا به مجتمعين ضرب حدا واحدا.

و في الهداية عكس الأمر فأفتى بما جعله في الكتابين رواية و جعل ما أفتى به فيهما رواية.

و لكنّ الظاهر من الأخبار هو ما ذهب إليه المشهور.

في سبّ جماعة

قال المحقّق: و هل الحكم في التعزير كذلك؟ قال جماعة: نعم.

أقول: بعد وضوح الحكم بحسب الأخبار في موارد الحدّ يأتي البحث في أنه لو لم يقذف الجماعة بل سبّهم كأن قال الجماعة: أنتم فاسقون فهل الحكم بالتعزير هنا كالحكم بالحدّ هناك حتى ينتج أنه إن سبّ جماعة معا و بكلمة واحدة فإن أتوا به متفرّقين كان لكلّ واحد منهم تعزير و إلّا فللجميع تعزير واحد، أم لا؟

في المسألة قولان: أحدهما أنه مثله و هو المشهور، قال الشهيد الثاني في المسالك: المشهور بين الأصحاب أن حكم التعزير حكم الحدّ في التفصيل السابق فيتعدّد على فاعله إذا تعدّد سببه بألفاظ متعدّدة لجماعة بأن قال لكلّ منهم: إنّه فاسق مثلا و كذا مع اتّحاد اللفظ و مجيئهم به متفرّقين و يتّحد مع مجيئهم به مجتمعين.

ثانيهما: ما ذهب إليه ابن إدريس فإنّه قال في السرائر: و حكم تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد أو لكلّ منهم بتعريض يخصّه ما قدّمناه في حكم القذف الصريح على ما اختاره شيخنا المفيد في مقنعة، و الأولى عندي أن يعزّر لكلّ واحد منهم فإنّه قد آلمه، و حمل ذلك على القذف الصريح في الجماعة بكلمة واحدة قياس لا نقول به و شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه

غير قائل بما قاله شيخنا المفيد رحمه اللّه في هذه الفتيا انتهى.

أقول: إنّ من المسلم أنه لم يرد في المسألة نصّ بالخصوص فحينئذ لا بدّ من الفحص عن الدليل على القولين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 204

و قد استدلّ المشهور بالأولوية. بيانه أن تداخل الحدّ في باب القذف الثابت بالروايات يقتضي تداخل التعزير في باب السبّ بطريق أولى و ذلك لكون التعزير أضعف من الحدّ.

و قد تمسك ابن إدريس بما هو مقتضى القاعدة بعد اختصاص النص بباب القذف، و إسراء الحكم المنصوص الجاري في القذف بالنسبة إلى السبّ قياس عنده، و معلوم أن مقتضى القاعدة هو تعدّد المسبّبات بتعدد الأسباب، و التداخل خلاف الأصل و يحتاج إلى دليل.

قال المحقّق: و لا معنى للاختلاف هنا.

و الوجه في ذلك كما في الجواهر هو أن التعزير منوط بنظر الحاكم و ليس له بالنسبة إلى كلّ واحد حدّ محدود، فهو يؤدّب بما يراه، فإذا كان أمره بيد الحاكم قليلا أو كثيرا بل و عفوا و إيفائا فلا معنى للقول بأن حكمه حكم الحدّ.

أقول: إنّ فصل النزاع هو البحث في أن هذا التعزير هل هو حق اللّه أو حقّ الناس؟ فلو كان من حقوق اللّه لتمّ ما ذكره من أن أمره بيد الحاكم و لا معنى للاختلاف في الوحدة و التعدّد. أمّا لو كان من قبيل حقوق الناس بأن كان حقا للمسبوب كما أن حدّ القذف حقّ للمقذوف فلكلّ واحد من المسبوبين حقّ على السابّ و لا بدّ من القول بالتعدّد إلّا مع العفو عن ناحية صاحب الحقّ.

و يظهر من عبارة المحقق حيث حقّق أنه لا معنى للاختلاف هنا أنه يرى التعزير حقّ اللّه، فللحاكم الذي له ولاية

التعزير اختيار الأقلّ أو الأكثر و الزائد و الناقص بما يراه مصلحة، فربّما يعزّر لحقّ واحد أكثر ممّا يعزّر لحقّ متعدّدة و ربّما يعزّر لحقّ أشخاص متعدّدين بأقلّ ممّا يعزّر لحق شخص واحد فحينئذ لا معنى و لا وجه للاختلاف في أن اجتماع المسبوبين في المطالبة يوجب تداخل التعزير و وحدته أو لا. و أمّا لو كان من حقّ الناس فلا يجري هذا الكلام.

و قد أورد عليه في المسالك بأن ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا زاد عدد المسبوبين عن عدد أسواط الحدّ فإنّه مع الحكم بتعدّد التعزير يجب ضربه أزيد من الحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 205

ليخصّ كلّ واحد منهم سوطا فصاعدا. و على القول باتّحاده لا يجوز له بلوغ الحدّ بالتعزير مطلقا و قد يظهر الفائدة في طرف النقصان أيضا.

أقول: و هذه الثمرة أيضا منوطة بالبحث المزبور أعني كون التعزير حقّ اللّه أو حقّ الناس.

ثم إنّه قدس سره ذكر تقريبا للإلحاق: و لا نصّ على حكم التعزير. بخصوصه لكن تداخل الحدّ يقتضي تداخل التعزير الأضعف بطريق أولى «1».

أقول: إنّ الأولوية التي تمسّك بها في المقام لا تخلو عن كلام و ذلك لأن الأولويّة إذا كانت في مورد الإتيان به مجتمعين لكنها لا تجري فيما إذا كان الإتيان به متفرّقين.

يعني: إنّه يمكن أن يقال: إذا كان إتيان المقذوفين بالقاذف مجتمعين يوجب التداخل و الإكتفاء بحدّ واحد فإتيان المسبوبين بالسّاب كذلك يوجب الإكتفاء بتعزير واحد بالأولوية لكون موجب الحدّ أعظم ذنبا إلّا أن تعدّد الحدّ في باب القذف إذا كانوا قد أتوا به متفرّقين لا يدل على تعدّد التعزير إذا كان المسبوبون قد أتوا بالسّاب متفرّقين بل يحكم فيها بمقتضى القاعدة. لأنّه

ليس من قبيل «فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ» «2».

و لعلّ الأحسن تقريب الأولويّة و تقريرها بأنه إذا كان المجي ء به للمطالبة متفرّقا يوجب تداخل العقوبة في الذنب الأكبر و هي الحدّ فهو يوجب تداخل العقوبة في الأضعف و هي التعزير بطريق أولى [1]

______________________________

[1] أقول: الظاهر عدم ورود إشكاله دام ظله العالي على المسالك و ذلك لأنه لم يعتمد على الأولوية في فرضي الإتيان به مجتمعين و متفرقين حتى يورد عليه بذلك بل إنه تمسّك به في فرض الإتيان به مجتمعين للحكم بالتداخل فراجع عبارته قدس سره و هو دام ظله قد اعترف بصحة الأولويّة هنا.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 205

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 الافست ص 437.

(2) سورة الإسراء، الآية 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 206

ثم بناءا على عدم تماميّة الأولوية فحيث إنّ النص وارد في غير هذا المورد فلا بدّ في المقام من الجري على حسب القواعد من تعدد المسببات بتعدد الأسباب.

هذا بالنسبة إلى السبّ بكلمة واحدة و أمّا إذا كان السبّ متعددا بأن قذف جماعة واحدا بعد واحد فهو على حسب القاعدة فيكون لكلّ واحد منهم تعزير خاص.

قذف والدي المخاطب بلفظ واحد

قال المحقّق: و كذا لو قال: يا بن الزانيين، فإنّ الحدّ لهما و يحدّ حدّا واحدا مع الاجتماع على المطالبة و حدّين مع التعاقب.

أقول: و ذلك لأنّه لا فرق بين هذه الصورة و الصورة المبحوث عنها آنفا إلّا في أن المقذوف هناك كان جماعة و هنا اثنان حيث نسب الزنا إلى أب المخاطب و أمّه.

المسألة الثانية في إرث حدّ القذف

قال المحقق: حدّ القذف موروث يرثه من يرث المال من الذكور و الإناث عدا الزوج و الزوجة.

أقول: إن حدّ القذف ينتقل من المقذوف لو لم يستوفه و لا عفا عنه إلى من يرث منه المال سوى الزوج و الزوجة.

لكن لا يخفى أنه ليس على نحو إرث المال في توزيعه بما هو مقرّر في الكتاب

______________________________

و إنّي أظن أنه دام ظله اعتمد هنا على عبارة الجواهر حيث إنّ ظاهر نقل عبارة المسالك في الجواهر هو أنه يقول بكون التعزير في الفرضين كالحدّ فيهما بالأولوية فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 207

و السّنّة كقوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «1» بل لكلّ واحد من أولاده هذا الحق بحيث لو عفى عنه جميعهم سوى واحد منهم فإنّ له استيفاءه بتمامه لا بخصوص حصّته. ثم إنّه قد استدلّ على كونه موروثا بأمور:

الأوّل: الإجماع بقسميه عليه كما في الجواهر، و في المبسوط نسبة ذلك إلى أصحابنا.

الثاني: العمومات مثل كلما كان للميّت من مال أو حقّ فهو لوارثه. و إن كان يرد عليه أن عمومات الإرث غير وافية بالمطلب هنا لأنها لو دلّت لدلّت على كونه كإرث المال في خصوصيّاته.

الثالث: روايات خاصّة، منها: ذيل صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: و إن قال لابنه: يا بن الزانية و أمّه ميّتة و

لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حق الحدّ قد صار لولده منها، فإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له و إن لم يكن لها ولد من غيره و كان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ جلد لهم «2».

و منها: خبر عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: لو أن رجلا قال لرجل: يا بن الفاعلة يعني الزنا و كان للمقذوف أخ لأبيه و أمّه فعفا أحدهما عن القاذف و أراد أحدهما أن يقدّمه إلى الوالي و يجلده أ كان ذلك له؟

قال: أ ليس أمّه هي أمّ الذي عفا؟ ثم قال: إنّ العفو إليهما جميعا إذا كانت أمّهما ميتة، فالأمر إليهما في العفو، و إن كانت حيّة فالأمر إليها في العفو «3».

نعم في بعض الروايات ما يوهم خلاف ذلك، و ذلك كخبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: الحدّ لا يورث «4».

______________________________

(1) سورة النساء الآية 11.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 208

و لكنّه قد حمل على أنه لا يورث كإرث الأموال فإنها تورث على نظام مخصوص و توزّع بين الورثة بصورة خاصّة بخلاف حدّ القذف فإنّه و إن كان ينتقل إلى من نفي عن الميّت و لكنه يكون لكلّ واحد من أولاده و أقربائه فهو في الحقيقة ولاية مخصوصة لكل واحد من الأولاد مثلا و بذلك يجمع بين القسمين من الأخبار.

كما يدلّ

على ذلك رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

سمعته يقول: إنّ الحدّ لا يورث كما تورث الدية و المال و لكن من قام به من الورثة فهو وليّه و من تركه فلم يطلبه فلا حق له و ذلك مثل رجل قذف و للمقذوف أخ (أخوان) فإن عفا عنه أحدهما كان للآخر ان يطلبه بحقّه لأنّها أمّهما جميعا و العفو إليهما جميعا «1».

و عندي أنه لا منافاة بين القسمين بل مفاد أحدهما أنه ينتقل هذا الحق إلى الأولاد مثلا و مفاد الآخر أنه ليس إرثا و لا تنافي بين هذين المفادين فإنّ الخبر المثبت لا يقول إنّه إرث و إنّما يفيد مجرد أن هذا الحق لهم جميعا و أنه ليس كحقّ الخيار الموقوف إعماله بعد الموت على طلب الجميع فالمصحّح لإطلاق الإرث عليه هو انتقاله إلى الورثة و الأرحام بلا فرق بين وقوع القذف بعد الموت أو في حياته و لم يستوف حتى مات.

ثمّ إنّ ذيل الخبر أي قوله عليه السلام: لأنّها أمّهما جميعا، قرينة على أن المقذوف كان هو الأمّ و إنّما نسب إلى الرجل مجازا.

ثمّ إنّه قد استثني كما أشرنا إليه من ذوي الميراث، الزوج و الزوجة و سائر ذوي الأسباب فإنّه ليس لهم هذه الولاية إلّا الإمام.

قيل في معنى إرث الإمام ذلك: إنّ له ولاية الاستيفاء دون العفو فإنّه ليس له ذلك، و قيل: إنّ له العفو أيضا إذا كان فيه مصلحة.

بقي البحث في أنه هل لمطلق الأقارب و الأرحام هذه الولاية أو أنّها لخصوص

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 209

الوارث منهم فإنّه لم يتّضح البحث

من هذه الناحية [1].

نقول: حيث إنّه لا تعرّض لذلك في الأخبار فلذا يحمل على كيفية الإرث بمقتضى قوله تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ» «1» فيتقدّم الطبقة الأولى على الثانية و هكذا و ذلك لا ينافي ما ورد من أنه ليس كإرث المال فإنّه متعلّق بكيفية التوزيع و التقسيم، و الأمر هنا ليس كذلك.

و أمّا الأشخاص القائمون بهذا الحقّ فحيث لم يبيّن هذه الخصوصيّة فيحمل على طبقات الوارثين فليس لغير الوارث من الأرحام هذه الولاية.

المسألة الثالثة في قذف ابن المواجه أو بنته

قال المحقّق: لو قال: ابنك زان أو لائط أو بنتك زانية فالحدّ لهما لا للمواجه فإن سبقا بالاستيفاء أو العفو فلا بحث و إن سبق الأب قال في النهاية: له المطالبة و العفو، و فيه إشكال لأن المستحق موجود و له ولاية المطالبة فلا يتسلّط الأب كما في غيره من الحقوق.

أقول: ما ذكره قدس سره على حسب القاعدة فإنّ المخاطب و المواجه و إن كان هو الأب إلا أن النسبة متعلقة للإبن أو البنت فلو سبقا إلى المطالبة و الاستيفاء أو العفو فهو فإنّ الحق لهما فيجوز الاستيفاء و العفو. و أمّا لو سبق الأب فقد سبق غير صاحب الحق فعلى القاعدة لا ينفذ ذلك خلافا للشيخ الطوسي قدس سره حيث صرّح بأن له الاستيفاء و العفو، قال في النهاية: إن قال: ابنك زان أو لائط، أو: بنتك زانية أو: قد زنت كان عليه الحدّ، و للمقذوف المطالبة بإقامة الحدّ عليه سواء كان ابنه أو بنته حيين أو ميّتين و كان إليه أيضا

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما قرّرناه و لا يخفى أنه صرّح في المسالك بأن المطالبة للّذين يرثون ماله، و شبيه ذلك

في الخلاف هنا و في باب اللعان فراجع.

______________________________

(1) سورة الأنفال الآية 75.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 210

العفو إلّا أن يسبقه الابن أو البنت إلى العفو فإن سبقا إلى ذلك كان عفوهما جائزا انتهى «1».

و فيه أن المقذوف هو الابن أو البنت لا أبوهما و هو قدس سره قد أطلق المقذوف على الأب بشهادة قوله: سواء كان ابنه أو بنته حيّين أو ميّتين [1].

احتج الشيخ قدس سره كما في المختلف «2» بأن العار هنا لا حق للأب فكان له المطالبة بالحدّ.

و قد أجاب عنه العلّامة أعلى اللّه مقامه بالمنع من الملازمة. و نحن أيضا نقول:

بأن مجرّد أن العار لا حق له فهو لا يصحّح الإطلاق و إلّا فالعار متوجّه إلى سائر الأرحام و الأقارب أيضا.

ثم إنّه يرد عليه أيضا أنه لو قلنا إنّ الأب أيضا ذو حق فله أن يستوفي و أن يعفو، فلما ذا قال بعد ذلك بأنه إن سبق الابن أو البنت إلى العفو كان جائزا و نافذا؟ فإنّ هذا يفيد أنه ليس للأب حينئذ المخالفة، و الحال أنه لو كان هو أيضا صاحب الحقّ فعفوّ واحد من ذوي الحقوق لا يوجب سقوط حقّ الباقين بل له استيفاؤه جميعا كما تقدم ذلك فلو كان للإشكال الأوّل مفرّ بتسويغ إطلاق المقذوف على الأب فأيّ مفرّ عن هذا الإشكال؟.

و على الجملة فالظاهر أنه ليس على ما ذكره رحمه اللّه دليل يقوم به فإنّ الحقّ

______________________________

[1] أقول: إنّه أطلق عليه المقذوف مجازا، و المسوّغ هو ما ذكره المحقّق في نكت النهاية ج 3 ص 341 من أن الولد قطعة من الأب و جزء منه فكان قذف الولد جاريا مجرى قذف الوالد.

هذا مضافا إلى ورود

هذا الإيراد في موثّق الساباطي حيث قال: و ذلك مثل رجل قذف رجلا و للمقذوف أخوان فإن عفى أحدهما عنه كان للآخر أن يطالبه بحقّه لأنها أمّهما جميعا فمع أن المقذوف كان هو الأمّ بقرينة التعليل فقد أطلق على المواجه، المقذوف، و المصحح ما ذكرناه، و قد أوردت ذلك في مجلس الدرس أيضا.

______________________________

(1) النهاية ص 724.

(2) المختلف ص 780.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 211

متعلّق بالإبن أو البنت لا بالأب كي يستوفي أو يعفو.

ثم إنّه استدرك في الجواهر بقوله: نعم له الاستيفاء إذا فرض ولايته عليها على وجه لا يصلحان لاستيفائه كما إذا كانا صغيرين و ورثاه بل لا يبعد أن له العفو أيضا مع عدم المفسدة للإطلاق و إن استشكل فيه بعض انتهى.

أقول: المقصود من الإطلاق إطلاق أدلّة الولاية.

ثم أقول: إنّ ولاية الأب على الصغير ولاية مشترطة برعاية المصالح فعفوه موقوف على أن يكون في ذلك مصلحة للصغير كما إذا كان بحيث يخاف عليه من ناحية القاذف بأن يضربه أو يضرّ به و أمّا بدون ذلك فليس له ذلك هذا أوّلا و أمّا ثانيا فلأنّ غاية التقريب في ذلك هو أن له استيفاء الحدّ من القاذف لأنّه حق للصغير و حيث لا يمكنه الاستيفاء فالأب يتولّى ذلك الحقّ الذي ورثه و انتقل من أمّه إليه فيطالب بحقّ الصبي الذي يتولى أمره و الحال أن هذا خلاف ما هو المستفاد من رواية فضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: لا حدّ لمن لا حدّ عليه «1» فإنّها بإطلاقها تدلّ على أن من لا يحدّ عليه إذا قذف أحدا لعدم كونه مكلفا فلا يحدّ أحدا و لا يحكم بأن له حقّ الحدّ

سواء كان لنفسه أو لغيره و ذلك لأن الملاك و العلّة في عدم كون الحقّ له هو أنه لا يقام عليه الحدّ إذا قذف، لعدم كونه مكلّفا و هذه العلّة موجودة و هذا الملاك محقق في ما إذا كان الحدّ للأمّ و أريد انتقاله إليه بل و يمكن أن يقال: إذا لم يكن قذف الغير له بنفسه موجبا لحقّ له على القاذف و ليس له أن يقيم عليه الحد فقذف أمّه لا يوجب صيرورته ذا حقّ بالأولوية و لا يكون له على القاذف حدّ بطريق أولى حتّى يكون لأبيه إجراء هذا الحدّ.

و لمزيد الوضوح و تحقيق المطلب نقول: إنّ الإمام عليه السلام فسّر اللّام و أنه أعمّ من كونه له ابتداء أو إرثا فإليك رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتله ما قتل به و إن قذفه لم يجلد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 212

له. قلت: فإن قذف أبوه أمّه؟ قال: إن قذفها و انتفى من ولدها تلاعنا و لم يلزم ذلك الولد الذي انتفى منه و فرّق بينهما. و إن قال لابنه: يا بن الزانية و أمّه ميّتة و لم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلّا ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ لأن حقّ الحدّ قد صار لولده منها. «1».

ترى أنه عليه السلام علّل عدم إقامة الحدّ على القاذف بأن حقّ الحدّ قد تحوّل من الأمّ إلى الابن و حيث إنّ الوالد لا يجلد في ولده فلا يجوز جلد الأب فقد ظهر من هذه العلّة أنه لا

فرق في تحقّق معنى النفع المستفاد من اللام بين كونه له شخصا و ابتداء أو إرثا و انتقالا من غيره إليه فكما لا يجوز للإبن أن يجلد أباه لحقّه الشخصي بأن كان الأب قد قذفه بنفسه كذلك لا يجوز له أن يجلده لحقّه الإرثي كما إذا قذف الرجل روجته الميّتة و كان ولده منها أراد الاستيفاء فإنّه لا يجوز ذلك.

و تعبيره عليه السلام بصيرورته له يراد به أنه صار له لو لا المانع و هو هنا الأبوة و البنوّة.

و حينئذ نرجع إلى البحث في المقام و هو ما إذا قذف الابن أو البنت مع كونهما صغيرين الذي قال صاحب الجواهر بأن للأب استيفاء حقّهما إذا كانا صغيرين و نقول: بأن مقتضى ما ذكرناه هو أن من لا حدّ عليه إذا قذف أحدا لصغره مثلا فليس له حقّ الحد على من قذفه سواء كان الحق شخصيّا بأن صار بنفسه مقذوفا، أو إرثيا كما إذا قذفت أمّه و ماتت بلا استيفاء أو عفو، و كما أنه في الموارد الأوّل ليس للصغير حقّ الحدّ على ما اعترف به صاحب الجواهر فكذلك في الثاني، فإنّه أيضا حدّ له بشهادة رواية ابن مسلم، و عليه فليس له حقّ الحدّ حتى يكون للأب حقّ الاستيفاء أو العفو ولاية على الصغيرين فإنّ مقتضى الرواية المزبورة هو ان الحدّ الذي ينتقل إلى الطفل أيضا يعدّ حدّا له، و قد دلّت رواية الفضيل على أن من لا يقام عليه الحدّ لعدم كونه مكلّفا فليس له حقّ الحدّ على غيره حتى يستوفي منه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 213

المسألة الرابعة في عدم سقوط الحدّ بعفو بعض الورثة

قال المحقّق:

إذا ورث الحدّ جماعة لم يسقط بعفو البعض فللباقين المطالبة بالحدّ تامّا و لو بقي واحد، أمّا لو عفى الجماعة أو كان المستحق واحدا فعفا فقد سقط الحدّ.

أقول: إنّ سقوط الحدّ بالعفو عنه منوط بعفو جميع من له هذا الحق فلا يتقسّط هذا الحق فلا أثر لعفو البعض. و السّر في ذلك أنه ليس كإرث المال حتّى يكون لكلّ واحد من الورثة منه بحسابه، بل هو مجرّد الولاية، و حيث إنّها ثابتة للجميع فلكل واحد منهم إعمال هذه الولاية و مطالبة هذا الحق.

و قد ادّعى في الجواهر على ذلك عدم خلاف يجده، بل عن الغنية الإجماع عليه.

و يدلّ عليه أيضا موثّق عمّار الساباطي عن الصادق عليه السلام المذكور آنفا فإنّ فيه التصريح بأن من تركه لا حقّ له و من قام به يكون هو وليّه و أنه إذا قذف امرأة ميّتة فعفى واحد من ابنيها كان للآخر أن يطالبه بحقّه و علّل ذلك بأنها أمهما جميعا، فكما أنها أمّ للعافي فهي أمّ للمطالب، و في الآخر صرّح بأن العفو إليهما جميعا «1». و أمّا نفوذ العفو إذا كان قد عفا الجميع أو كان المستحقّ واحدا غير متعدّد ففي الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال ضرورة كونه من حقوق الآدميّين القابلة للسقوط بالإسقاط و غيره انتهى.

و يدلّ على ذلك خبر ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال:

لا يعفى عن الحدود الّتي اللّه دون الإمام فأمّا ما كان من حقّ الناس في حدّ فلا بأس أن يعفا عنه دون الإمام «2».

نعم ليس له المطالبة بعد العفو كما يدلّ على ذلك خبر سماعة بن مهران عن أبي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حدّ

القذف ح 1 و 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 214

عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يفتري على الرجل فيعفو عنه ثم يريد أن يجلده بعد العفو قال: ليس له أن يجلده بعد العفو «1».

و مثله روايته الأخرى عن الصادق عليه السلام «2».

ثمّ إن مقتضى إطلاق الروايتين- موثقة سماعة و خبر ضريس- عدم الفرق بين وقوع العفو قبل المرافعة أو بعدها و لا بين الزوجة و غيرها فكما أنه لو قذف أجنبيّة و قد عفت عنه يسقط عنه الحدّ كذلك لو قذف زوجته و عفت هي، بلا فرق بينهما أصلا و ذلك لما مرّ من الإطلاق، و عدم الخلاف فيه. مع أنه موافق للقاعدة لأنّه حقّ للآدميين القابل للسقوط مع الإسقاط.

نعم خالف في ذلك الشيخ الطوسي في التهذيب و الإستبصار، و كذا يحيى بن سعيد و ذلك لخبر محمّد بن مسلم: قال سألته عن الرجل يقذف امرأته قال:

يجلد. قلت: أ رأيت إن عفت عنه؟ قال: لا و لا كرامة «3».

قال الشيخ قدس سره في التهذيب بعد نقل هذه الرواية: هذا الخبر لا ينافي خبر سماعة الذي يتضمّن جواز العفو لأن هذا محمول على أنه ليس لها إلّا العفو بعد رفعها إلى السلطان و علمه به، و إنّما كان لها العفو قبل ذلك على ما نبيّنه فيما بعد إن شاء الله انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال ابن سعيد الحلّي: و إن رمى زوجته بالزنا بولد على فراشه فلاعنها ثم اعترف، أو أقر بالولد ثم رماها بالزنا به، أو قذفها بالزنا فلا عنها ثم اعترف بكذبه حدّ (ثم قال:) و لا عفو

عن الحدّ بعد الرفع إلى الإمام و يجوز قبله [1].

______________________________

[1] جامع الشرائع ص 565 أقول: و قد نقلت متن عبارته ليعلم أنه يمكن أن يكون مراده المطلق دون خصوص الزوجة إلا أن يكون ذكر المطلب بعد البحث عن الزوجة قرينة على إرادة المقيّد و فيه إنّه قال بعد أسطر بالنسبة إلى قذف المكاتب: فإن وهبه الحدّ قبل الرفع جاز.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 21 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدّمات الحدود ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 215

و قد أورد صاحب الجواهر على الشيخ قدّس سرّهما (في حمله خبر ابن مسلم على ما بعد المرافعة) بعدم الشاهد له و أن المتّجه على تقدير العمل به هو تخصيصه أو تقييده إطلاق ما دلّ على العفو.

أقول: إنّ ما ذكره جيّد فإنّ ما دلّ على جواز العفو و نفوذه عامّ أو مطلق فيخصّص أو يقيّد بخصوص مورد عفو الزوجة لزوجها الذي قذفها، و لذا أفتى الصدوق في المقنع على طبقه مطلقا فقال: و إذا قذف الرجل امرأته فليس لها أن تعفو عنه. هذا مضافا إلى عدم صراحة الرواية في عدم جوازه و نفوذه و إن كان مقتضى قوله عليه السلام: (لا) هو ذلك إلّا أن تعقيب ذلك بقوله: (و لا كرامة) يضعّف هذا الظهور و ينقّصه و لعلّه يكون قرينة على إرادة الكراهة و التنزيه دون الإلزام و التحريم خصوصا بلحاظ كونها مضمرة و معرضا عنها عند المشهور، و على هذا فيجوز العفو مطلقا.

نعم هنا خبران أمكن عنده تأييد ما ذكره الشيخ بهما:

أحدهما: خبر

سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من أخذ سارقا فعفى عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه و إنّما الهبة قبل أن يرفع إلى إمام و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ الْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ»، فإذا انتهى الحد إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «1».

ثانيهما: خبر حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سئلته عن رجل أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة و يستغفر اللّه عزّ و جلّ. قلت: أ رأيت إن جعلته في حلّ و عفت عنه؟ قال:

لا ضرب عليه إذا عفت عنه من قبل أن ترفعه «2» و مع ذلك فقد أورد قدس سره عليهما بقوله: إلا أنه مع كون الثاني منهما بالمفهوم غير جامعين لشرائط الحجيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 216

أقول: يعني في قبال الروايات الدّالّة بالمنطوق على جواز العفو مطلقا، و لا شكّ في أن دلالة المنطوق الدّالّ على الجواز أقوى من دلالة المفهوم الدّال على عدم جواز العفو بعد الرفع فإنّه ضعيف. هذا. و كذا هما غير جامعين لشرائط الحجيّة- لضعف الروايتين سندا [1]- خلافا لما دلّ على الجواز على ما تقدّم.

ثم إنا نزيد على ما ذكره أن الرواية الأولى متعلّقة بباب السرقة دون القذف الذي هو محلّ الكلام.

و إن كان ربما يتوهّم أن قوله عليه السلام: إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام

إلخ يشعر بالتعميم و إرادة مطلق الحدّ و إن لم يكن حدّ السرقة إلّا أنه بعد تفصيل الإمام أبي جعفر عليه السلام في خبر ضريس المذكور آنفا بأنه لا يعفى عن الحدود التي للّه سوى الإمام و أمّا ما كان من حقوق الناس فلا بأس بأن يعفا عنه غير الإمام، فلا بدّ من أن يكون المراد هو هذا الحدّ أي حدّ السرقة الذي هو من حقوق اللّه تعالى. فهذا الخبر يدل على عدم جواز العفو في حقوق اللّه تعالى و إن كان بظاهره يفيد العموم لكن لا بدّ من الحمل على ذلك و المخصّص هو خبر ضريس، و النتيجة أنه إذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه إذا كان حقّ اللّه سبحانه، و أين هذا من العفو عن حد القذف الذي هو حقّ الناس.

هذا مضافا إلى ما في متن الخبر الأخير من إيجاب خمسين جلدة عليه فإنّه لا يلائم ما هو المقرّر من أن حدّ القذف ثمانون فنصفه يكون أربعين و المفروض في الرواية هو عتق نصف الجارية المقذوفة فكيف يلزم جلد خمسين، و قد تقدم توجيه ذلك بأنه إمّا أن يكون العشرة الزائدة من باب التعزير أو أن المراد من النصف قسم منها و هو خمسة أثمانها، كما ذكره الشيخ قدس سره فقد أريد بالنصف معناه المجازي.

و كيف كان فالحق ما هو المشهور من جواز العفو مطلقا بلا فرق بين الزوجة و غيرها.

______________________________

[1] فإنّ سماعة بن مهران واقفي على ما نقل عن الصدوق، و حمزة بن حمران لم تثبت وثاقته و صرّح في مرآة العقول ج 23 ص 319 بأنه مجهول.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 217

لمستحقّ الحدّ المطالبة و العفو مطلقا

قال المحقّق: و

لمستحقّ الحدّ أن يعفو قبل ثبوت حقّه و بعده و ليس للحاكم الاعتراض عليه و لا يقام إلا بعد مطالبة المستحق.

أقول: وجه ذلك قد اتّضح من الأبحاث المتقدّمة و أن حدّ القذف من حقوق الناس فراجع.

المسألة الخامسة في ثبوت القتل في الثالثة مع تكرر حدّ القذف مرّتين

قال المحقّق: إذا تكرّر الحدّ بتكرّر القذف مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أولى.

أقول: حيث إنّ القذف من الكبائر و قد ثبت أن أصحاب الكبائر يقتلون في المرّة الثالثة إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين، فعلى هذا لو قذف مرّة و أقيم عليه الحدّ ثم عاد و قذف ثانيا و أجري عليه الحدّ أيضا ثم عاد إليه ثالثا فهناك يحكم بقتله.

و الذي يدلّ على الكبرى هو صحيح يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها إذا أقيم عليهم الحدّ مرّتين قتلوا في الثالثة «1».

نعم إنّ الصحيح المزبور قد خصّص بباب الزنا فيقتل في الرابعة لخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و خبر محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام «2» و قد مرّ البحث في ذلك سابقا «3» و حيث أن المخصّص بباب الزنا فقد أفتوا في باب القذف بقتل القاذف في الثالثة عطفا على سائر الكبائر و اقتصارا في التخصيص و الاستثناء على القدر المنصوص عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 و 3.

(3) راجع الدّر المنضود بقلم هذا العبد ج 1 ص 339 و 340.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 218

و أمّا وجه كون القتل هنا في الرابعة أولى كما في عبارة المحقّق و أحوط كما في عبارة

بعض آخر فهو أن القذف في حول باب الزنا و ليس بمعزل عنه بل هو من مناسباته فمراعاة حقّ الدماء تناسب تأخير قتله إلى الرابعة. و على الجملة فحيث يحتمل الإلحاق بالزنا الذي ورد النصّ المعتبر بأنه يحدّ في الرابعة فيكون الأولى قتل القاذف في الرابعة كما أن ذلك هو الأحوط.

و في الجواهر (بعد ذكر أنه أولى و أحوط): لو لا الصحيح- و مراده من الصحيح هو صحيح يونس المذكور آنفا. ثم قال: اللهمّ إلّا أن يكون من الشبهة باعتبار احتمال إلحاقه بما دلّ عليه في الزناء الذي هو أولى منه انتهى.

تقريب هذه الأولويّة أنه إذا كان الزنا مع تلك الأهميّة البالغة بين المعاصي، لا يقتل مرتكبه في المرة الثالثة فكيف بمن لم يزن و إنّما نسب أحدا إلى الزنا فهو أولى بأن لا يقتل في الثالثة بل يؤخر إلى الرابعة. فيكون المقام نظير: «فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ» «1» الدّال على تحريم ضرب الوالدين بالأولويّة.

فيما لو حكم القاذف ثانيا بصحّة ما قذفه به أوّلا

قال المحقّق: و لو قذف فحدّ فقال: الذي قلت كان صحيحا وجب بالثاني التعزير لأنه ليس بصريح.

أقول: لا نزاع في أنه إذا قال لأحد: أنت زان، مثلا ثم بعد ذلك عاد إليه و قال له: الذي قلت كان صحيحا، مثلا فهو لا يوجب حدّا جديدا و إنما الموجب للحدّ هو قوله الأوّل إلّا أن البحث و النزاع في الدليل على ذلك.

فاستدل المحقّق له بعدم صراحة اللّفظ الثاني و قد تقدّم منه في أوّل أبحاث القذف اعتبار الصراحة فيه و أن التعريض لا يوجب إلّا التعزير.

في حين أن صاحب الجواهر قد أنكر ذلك و صرّح بأن ذلك لصحيح محمّد بن

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

219

مسلم و يمكن أن يستفاد من عبارته أن اللفظ المزبور لعلّه يكون صريحا، فالمانع ليس من هذه الناحية بل من جهة التعبّد.

فلو كان النزاع بين العلمين في الصّراحة و عدمها فالظاهر هو ما أفاده المحقّق، و ذلك لأن القاذف لم يقل في المرّة الثانية: أنت زان مثلا حتى يكون لفظا صريحا في القذف بل إنّه ألقى كلمة تلازم ذلك فهي قذف بلازمها لا بصريحها.

أما لو كان نظر صاحب الجواهر إلى إنكار صراحته و الاعتراف بظهوره طبقا لما ذهب إليه سابقا من كفاية الظهور في القذف، فالحق معه، و على هذا يؤول الأمر إلى أنه و إن كان هذا اللفظ ظاهرا في القذف و هو يقتضي أن يترتّب عليه الحدّ إلّا أن الرواية تمنع عن ذلك و هي:

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يقذف الرجل فيجلد فيعود عليه بالقذف فقال: إن قال له: إنّ الذي قلت لك حقّ، لم يجلد و إن قذفه بالزنا بعد ما جلد فعليه الحدّ و إن قذفه قبل ما يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلّا حدّ واحد «1». و الفرض الأوّل من الرواية هو عين محلّ البحث و قد صرّح الإمام عليه السلام فيه بأنه لم يجلد.

و الحقّ أن مفاد الرواية ليس هو الحكم بعدم الحدّ مع مفروغيّة الصراحة أو الظهور الملحوظ في باب القذف حتّى يكون الحكم على خلاف المتعارف و مبنيّا على التعبّد المحض بأن يكون خصوص هذا الكلام موجبا للتعزير و إن كان قذفا بل المراد أنه ليس من باب القذف تخصّصا فلا يترتّب عليه الحدّ بالطبع.

فرع آخر

و هنا فرع آخر يشبه الفرع المذكور و إن لم يكن مذكورا في كلماتهم و

هو أنه لو قال القاذف: أنت زان، و قال ثالث للمقذوف: إنّ الذي قاله فلان حقّ أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 220

صحيح، فإذا كان الظاهر من الصحيحة عدم كون الكلام المزبور قذفا فإنّه يجري الحكم المذكور في فرض الرواية، في هذا الفرض أيضا، و على الجملة فالمثالان نظير باب التعريض الذي لا يترتّب عليه الحدّ على ما تقدّم.

القذف المتكرر

قال المحقّق: و القذف المتكرّر يوجب حدّا واحدا لا أكثر.

أقول: و يدلّ على ذلك ذيل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة آنفا حيث قال: و إن قذفه قبل أن يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلّا حدّ واحد. هذا مضافا إلى أنه بعينه نظير موجبات الغسل أو الوضوء حيث إنّ غسلا واحدا أو وضوءا واحدا يكفي لإحداث متعدّدة قال في الجواهر: و لصدق موجب الرمي و إن تعدّد.

و قال قدس سره بعد ذلك: نعم لو تعدّد المقذوف تعدّد الحد لكلّ واحد منهم.

ثم قال: بل لو تعدّد المقذوف به للواحد كأن قذفه مرّة بالزنا و أخرى باللواط و ثالثة بأنه ملوط به ففي كشف اللثام: عليه لكلّ قذف حدّ.

أقول: إنّ كاشف اللثام بعد أن حكم بأنه لو كرّره بعد الحدّ حدّ ثانيها و ثالثها و هكذا لعموم، «الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ»، و الأخبار. قال: و كذا إذا اختلف المقذوف به و إن اتّحد المقذوف كأن قذفه مرة بالزنا و أخرى باللواط و أخرى بأنه ملوط به فعليه لكلّ حدّ و إن لم يتخلل الحدّ فإنّ الإجماع و النصوص دلّت على إيجاب الرمي بالزنا الحدّ ثمانين اتّحد أو تكرّر و كذا الرمي باللواط و كذا

بأنه ملوط به و لا دليل على تداخلها انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: تعدّد القذف تارة يكون مع اتّحاد المقذوف به و أخرى مع تعدّده، و لا شكّ في تداخل الأسباب في الصورة الأولى على ما مرّ بيانه و أنه صريح ذيل الصحيحة كما أنّها صرّحت بتكرّر الحدّ مع تخلّل الحدّ.

و أمّا الصورة الثانية و هي ما إذا تعدد المقذوف به فإن تخلّل الحدّ بينها فالحكم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 221

واضح و أمّا بدون ذلك فيمكن إلحاقها بالفرض المذكور في ذيل الصحيحة، و يحكم فيها بعدم تكرار الحدّ و ذلك بأن يقال: إنّ القذفات المتكررة المتعدّدة كأسباب الوضوء و الغسل، العديدة لا يزيد بالثاني منها على ما حدث بالأوّل شي ء فالوضوء مثلا قد انتقض بالحدث الأوّل و كذا بالنسبة إلى الغسل، و كذلك الأمر بالنسبة إلى الخبث فالملاقاة للبول في المرّة الأولى أوجبت نجاسة الملاقي و أمّا المرّات المتعاقبة المتأخّرة فلا تؤثّر شيئا.

نعم فيما إذا كانت الأسباب متفاوتة الأثر شدّة و ضعفا فلا محالة تتقدّم الكيفيّة الشديدة و يكون التقدّم مع الأثر الأقوى كما لا يخفى.

و يمكن القول بعدم إلحاقه به فيحكم بتعدّد الحدّ على حسب تعدّد السبب بأن يقال: إنّ التداخل خلاف القاعدة فإنّ كلّ سبب يطالب مسبّبا مستقلّا و إنّما خرج مورد بالنص فالباقي باق تحت عموم القاعدة، و الرمي إلى الزنا شي ء و إلى اللّواط شي ء آخر و هو فاعلا غيره مفعولا فلا وجه لتداخل تلك الأسباب المختلفة و إلى ذلك كان نظر كاشف اللثام.

و لكن لعلّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل و ذلك لصدق القذف و رجوع الجميع إلى اسم القذف، و الرمي بالزنا في الصحيح و إن كان

مذكورا في كلام الإمام عليه السلام دون الراوي إلّا أن الظاهر كونه بملاك الرمي و القذف المحقّق في القذف باللواط أيضا مطلقا و لا خصوصيّة بحسب الظاهر للقذف بخصوص الزنا في هذا الحكم.

و بعبارة أخرى: إنّ الآثار قد تكون آثارا لصرف وجود الشي ء و قد تعتبر آثارا للأفراد و الماهيّة ففي الضمانات يكون الأمر على النحو الثاني، فإذا أتلف من مال الغير عشر مرات فعليه ضمان كلّ واحد بنفسه و لا مورد للتداخل أصلا بخلاف باب النجاسة و الطهارة فإنّ طهارة واحدة كافية عن الأحداث المعدّدة، و الظاهر أن مورد البحث من هذا القبيل فالحدّ كالمطهّر كما أن القذف كقذارة باطنيّة للإنسان، و يستظهر ذلك من صحيح ابن مسلم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 222

و على الجملة فيتداخل الحدّ فيما إذا تعدّدت النسبة و المقذوف به كلاهما و لا أقلّ من طروّ الشبهة الدارئة للحدّ فيقتصر على حدّ واحد.

المسألة السادسة في عوامل سقوط الحدّ عن القاذف

قال المحقّق: لا يسقط الحدّ عن القاذف إلّا بالبينة المصدّقة أو تصديق مستحقّ الحدّ أو العفو و لو قذف زوجته سقط الحدّ بذلك و باللّعان.

أقول: حيث إنّه قد جعل اللّه تبارك و تعالى الحدّ على رمي المحصنات فبعد ثبوت الرمي بالنسبة إلى امرأة تكون بحسب الظاهر محصنة أو رجل محصن، استحقّ المقذوف مطالبة حدّ القاذف. فهنا نقول إنّه بعد ثبوت القذف لا يسقط الحدّ عنه إلّا بأمور:

1- البيّنة المصدّقة [1] للقاذف في فعل ما قذفه به و على وقوعه منه.

2- تصديق المقذوف القاذف على ما نسبه إليه من الموجب للحدّ، و إن شئت فقل: إقرار المقذوف بما رماه القاذف به و لو مرّة واحدة مع أن الإقرار مرّة واحدة لا يوجب ثبوت العمل، و

وقوع الفعل بل ذلك يحتاج إلى أربع مرّات كما في الشهود، إلّا أنه يكتفى به في سقوط الحدّ عن القاذف.

3- عفو المقذوف عنه كما تقدّم البحث في ذلك آنفا.

4- اللعان في خصوص مورد قذف الرجل زوجته فإنه يسقط به الحدّ عن الزوج القاذف ففي مورد قذف الرجل لزوجته تجري الأربعة كلّها و في سائر

______________________________

[1] أقول: المذكور في بعض المتون هو البيّنة المصدّقة فيمكن أن يكون المراد منها البيّنة الّتي تصدّق القاذف كما أنه يمكن أن يراد منها: البيّنة الّتي صدّقها الشارع و أنفذها و هي البيّنة الّتي يثبت بها الزناء، فعلى الأوّل يقرء مكسورا و على الثاني مفتوحا فراجع شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي قدس سره.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 223

الموارد تجري الثلاثة الأول و لا يجري فيها اللعان [1].

و هنا بحث و هو أنه هل عدم الحدّ هنا من باب سقوط ما ثبت بأن كان الحدّ ثابتا، لكون المقذوفة مثلا من المحصنات، أو أنه من باب عدم الثبوت و الجعل أصلا لعدم كونها من المحصنات الّتي يوجب رميهنّ الحدّ؟.

الظاهر هو الثاني و ذلك لأن موضوع ثبوت حدّ القذف هو رمي المحصنات فمن قذف من كان ظاهره العفّة حكم عليه بحدّ القذف.

و بعبارة أخرى: إنّ الملاك هو قذف المتستّر الذي يأبى عن إظهار القبائح فإذا قذف القاذف أحدا فما لم يقم البيّنة مثلا يعتبر المقذوف عفيفا متستّرا فكان يجب على قاذفه الحدّ إلّا أنه بعد ما قامت البيّنة المعتبرة أي أربعة شهود على الزنا، أو أقرّ هو بنفسه يظهر الخلاف و يعلم أنه لم يكن كذلك أي عفيفا متستّرا فلم يكن القذف قذف المتستّر فلم يكن في الواقع و نفس الأمر حدّ

أصلا على القاذف و إنّما كان عليه الحدّ بحسب الظاهر، و على هذا فليس السقوط بمعناه المعروف.

نعم بالنسبة إلى العفو لا كلام أصلا فإنّ العفو هو إزالة ما ثبت و رفع ما تحقّق و وقع بحسب الواقع و في نفس الأمر، فالتعبير بالسقوط هناك في محلّه لأن الحدّ كان ثابتا و إنّما ازاله عفو المقذوف.

و على الجملة فيمكن أن يقال بأن حكم القذف هنا نظير الحكم بالصلاة في

______________________________

[1] و هنا أمور أخر يوجب سقوط حدّ القذف فنقول بالضميمة إلى ما في المتن:

5- الصلح عنه بشي ء.

6- انتقال الحقّ من المقذوف إلى القاذف بالإرث و قد أوضحه في مناهج اليقين بالعبارة المذكورة بعد إجماله في الجواهر ثم قال المامقاني رضوان اللّه عليه في المناهج: و في سقوطه بموت الزوجة تأمّل نعم سقوطه مع انحصار الوارث في الزوج لا يخلو من وجه.

و قال في الغنية: و لا يسقط حدّ القذف بالتوبة على حال و إنّما يسقط بعض المقذوف أو وليّه من ذوي الأنساب خاصّة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 224

الثوب المحكوم بالطهارة مع الجهل بنجاسته حيث إنّه إذا انكشف كونه نجسا فإنّه لم ينكشف الخلاف بالنسبة إلى ما مضى بل تغيّر الحكم من هذا الحين لأن بطلان الصلاة مترتّب على النجس المعلوم. ففي المقام يكون النسبة إلى الزنا بدون الإتيان بالأربع موجبة للحدّ مع الجهل بوقوعه فإذا قامت البيّنة أو أقرّ المقذوف بالفعل فمن هذا الحين ينقطع الحكم بالحدّ.

و هذا بخلاف أن يقال إنّ الموضوع للقذف هو مورد التستّر و إن كان القاذف عالما بينه و بين اللّه بزناه فإنّه لم يكن له إظهار ذلك فإذا قامت البيّنة أو اعترف المقذوف فإنّه ينكشف بذلك

أن الموضوع لم يكن حاصلا و أنه كان يتخيّل كون الزاني متستّرا و عليه فمن أوّل الأمر لم يكن الموضوع محقّقا و لم يكن الحكم بالحدّ بالطبع ثابتا و إنّما كان ذلك بحسب الظاهر فكأنّ نسبة الزنا إلى غير الزاني و الزانية موجبة للحدّ، و البيّنة كاشفة عن أنه كانت زانية مثلا، و كذا بالنسبة إلى الإقرار و إنّما كان بحسب الظاهر يتخيّل أنّها كانت محصنة يترتّب على قذفها الحدّ. فعلى الأوّل يتمّ التعبير ب (يسقط) و هذا هو الوجه في تعبير العلماء كذلك و أمّا على الوجه الثاني فلا وجه للتعبير به لأنه في الواقع لم يكن حتّى يسقط.

و كيف كان فلا يقام على القاذف حدّ القذف في الموارد الأربعة.

و هل يعزّر بعد سقوط الحدّ عنه؟

بقي الكلام هنا في أنه هل يعزّر القاذف بعد أن سقط عنه الحدّ أو أنه يسقط عنه التعزير أيضا فليس عليه شي ء؟ وجهان.

فمن أن الثابت عليه كان هو الحدّ و قد سقط بأحد هذه الأمور و لا دليل على ثبوت التعزير عليه بعد ذلك فليس عليه التعزير.

و من أن ثبوت المقذوف به بالبيّنة أو الإقرار لا يجوّز القذف و إن جوّز إظهاره عند الحاكم لإقامة الحدّ عليه، و العفو و اللعان أيضا لا يكشفان عن إباحته و لا يسقطان إلّا الحدّ فيلزم أن يعزّر على ما ذكروه من ثبوته في كلّ كبيرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 225

و قد ذكر الوجهين في كشف اللثام و اقتصر على ذلك فلم يرجّح واحدا منهما و لا اختار شيئا من مقتضاهما.

نعم قوّى صاحب الجواهر الأوّل منهما فإنّه قال بعد ذكر الوجهين: و لعلّ الأوّل لا يخلو عن قوّة.

و هو كذلك لأن أدلّة الحدّ ظاهرة في

أن المرتكب لموجبات الحدّ ليس عليه إلّا الحدّ و مقتضاها تخصيص ما دلّ على وجوب التعزير على كلّ معصية، و استثناء تلك الكبائر التي جعل الشارع عليها الحدّ. و كأنه قيل، كلّ من فعل محرّما يعزّر إلّا إذا أتى بالزنا أو القذف أو السرقة أو غير ذلك من أسباب الحدّ فإنّه لا تعزير عليه و إنّما يجب حدّه بالمقدار المقرّر في تلك الموارد، غاية الأمر أنه قد حدث ما أوجب سقوط هذا الحدّ في المقام فكيف يحكم بالتعزير [1].

و كأنه قد جعل الحدّ في تلك الموارد بدلا عن التعزير و ليس التعزير فيها مجعولا كما يشهد بذلك سيرة أمير المؤمنين عليه السلام بل و سيرة المسلمين في طول الأعصار حتّى الخلفاء، فلم يكونوا يجمعون بين الحدّ و التعزير في معصية واحدة و لم يسمع إلى الآن أن سارقا قد قطعت يده حدّا للسرقة و عزّر هو للحرمة مثلا.

نعم قد يجمع بينهما لجهة أخرى مثل وقوع العمل منه في مكان كذا أو زمان كذا

______________________________

[1] أقول: و يحتمل التفصيل بين الموارد الأربعة. قال: في الروضة ج 2 ص 348 و سقوط الحدّ في الأربعة لا كلام فيه لكن هل يسقط مع ذلك التعزير؟ يحتمله خصوصا في الأخيرين لأن الواجب هو الحدّ و قد سقط و الأصل عدم وجوب غيره، و يحتمل ثبوت التعزير في الأوّلين لأن قيام البيّنة و الإقرار بالموجب لا يجوّز القذف لما تقدّم من تحريمه مطلقا و ثبوت التعزير به للمتظاهر بالزنا فإذا سقط الحدّ بقي التعزير علي فعل المحرّم، و في الجميع لأن العفو عن الحدّ لا يستلزم العفو عن التعزير و له اللعان لأنّه بمنزلة إقامة البيّنة على الزنا انتهى.

قوله: و

في الجميع، يعني يحتمل ثبوته في الجميع أمّا الأوّلان فقد ذكر وجهه و أمّا الأخيران فلما ذكر بعدهما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 226

فالحدّ للفعل و التعزير لهذه الجهة.

و على الجملة فلم يكن المجعول في مورد الحدّ إلّا أمرا واحدا و قد زال و ارتفع و إذا سقط الحدّ بالمسقط فلا دليل على تبديله بالتعزير.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 227

المسألة السابعة حدّ القذف ثمانون مطلقا

قال المحقّق قدّس سرّه: الحدّ ثمانون جلدة حرّا كان أو عبدا

أقول: و يدلّ على ذلك الكتاب و السنّة و الإجماع. أمّا الأوّل فهو قوله تعالى:

«وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ» «1».

و أمّا الثاني فروايات عديدة أخرجها الشيخ المحدث الحرّ العامليّ في باب عنوانه: باب ثبوت الحدّ على القاذف ثمانين جلدة إذا نسب الزنا إلى أحد أو إلى أمّه أو أبيه.

و مفاد العنوان أنه لا فرق في ترتّب حدّ القذف و كونه ثمانين بين أن ينسب الزنا إلى شخص أو إلى أبيه أو أمّه. و هذا هو المستفاد من تلك الروايات التي أخرجها في الباب:

عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة قذفت رجلا قال: تجلد ثمانين جلدة «2».

و عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل الرجل بالزنا و إذا قال: إنّ أمّه زانية و إذا دعا لغير أبيه فذلك فيه حدّ ثمانون «3».

و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا سألت الفاجرة من فجربك فقالت: فلان، فإنّ عليها حدّين: حدّا

من فجورها و حدّا من فريتها على الرجل المسلم [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 3، و قوله عليه السلام: الفاجرة،

______________________________

(1) سورة النّور الآية 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 228

و عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه: و علّة ضرب القاذف و شارب الخمر ثمانين جلدة لأن في القذف نفي الولد و قطع النسل و ذهاب النسب و كذلك شارب الخمر لأنه إذا شرب هذي و إذا هذي افترى فوجب عليه حدّ المفتري «1».

و عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: القاذف يجلد ثمانين جلدة و لا تقبل له شهادة أبدا إلّا بعد التوبة أو يكذب نفسه. «2».

و أمّا الإجماع فقد صرّح به في الجواهر، كما استدلّ به الأردبيلي في شرح الإرشاد.

ثم إنه لا شكّ في أن الثمانين هو حدّ الحرّ. و أمّا في مورد العبد فهو كذلك على الأصحّ و الرأي السديد و إلّا فهو ليس كالأوّل بل فيه خلاف في الجملة و ذهب بعض كما تقدم إلى أنّ حدّ القاذف العبد هو النصف فيجلد أربعين جلدة و ذلك لقوله تعالى «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ.» «3» و لخبر سليمان «4» و خبر حمّاد «5».

و قد مرّ أن الآية فسّرت بحدّ الزنا و أمّا الروايات فهي مختلفة و التقديم للروايات الدّالّة على عدم التنصيف فراجع فلذا أفتوا باختصاص تنصيف حدّ المملوك بباب الزنا الذي هو من حقوق اللّه تعالى فلا

يجري في القذف الذي هو من حقوق الناس.

______________________________

ظاهرة في الّتي زنت برضاها فصحّ أن يكون عليها حدّان: حدّ من فجورها و حدّ من فريتها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(3) سورة النساء الآية 25.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 15.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 229

في ضرب القاذف بثيابه متوسّطا و تشهيره

قال المحقّق: و يجلد بثيابه و لا يجرّد، و يقتصر على الضرب المتوسّط و يشهر القاذف لتجتنب شهادته.

أقول: هنا أحكام:

أحدها أنه يجلد القاذف مع ثيابه لا مجرّدا عنها.

ثانيها أنه من حيث كيفيّة الضرب و أنحائه شدّة و ضعفا يضرب متوسّطا لا شديدا جدّا و لا ضعيفا و خفيفا كذلك.

ثالثها أنه يشهر القاذف كما يجلد حتى لا يعتمد على شهادته.

أمّا الأوّل فقد استدلّ عليه بأمور: عدم الخلاف بل الاتّفاق كما ذكره في كشف اللثام، و بالأصل و الأخبار.

و الظاهر أن التمسك بالأصل ليس في محلّه و لا يدرى ما هو المراد من الأصل فإن كان المراد هو أصالة عدم الحدّ مجرّدا ففيه أن الأصل عدم الحدّ مع الثياب بلا فرق بينهما و ذلك لأن كلا منها حادث ليست له حالة سابقة كي يستصحب، و العلم الإجمالي حاصل بوجوب واحد منهما و هما كالمتباينين، و الاحتياط يقتضي تكرار الحدّ مجرّدا و مع الثياب و لا يمكن الالتزام به. و إن كان المراد أصالة عدم اشتراط الحدّ بكونه مجرّدا فهذا لا يوجب حرمة الضرب مجرّدا و إنّما يفيد هذا الأصل أنه يكفي لو لم

يكن مجرّدا و أين هذا من إثبات اعتبار خصوص كونه مع الثياب الذي هم بصدده.

لا يقال: إنّ المقام من قبيل الشك في التكليف الزائد فإنّه لا شكّ في وجوب حدّ ثمانين و إيلامه بذلك، و إنّما يشكّ في لزوم تجريد جسده أيضا و في اعتبار إيلام أزيد على ضربه بتجريد بدنه و الأصل عدمه.

لأنا نقول: قد ذكرنا أنهما من قبيل المتباينين: الجلد مجرّدا و الجلد مع الثياب، و كما يحتمل أن كان الشارع قد أراد التخفيف في الإيلام فلا يعتبر التجريد، كذلك يحتمل أن يكون قد أراد التشديد و التغليظ في حقّه قلعا لهذه المعصية

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 230

العظيمة فقرّر الجلد مجرّدا فأين الأقل و لأكثر؟.

لا يقال: لعلّ المراد من الأصل قاعدة الدرء لأنا نقول: إنّه خلاف ظاهر الخبر: الحدود تدرء بالشبهات، فإنه متعلّق بأصل الحدّ.

و أمّا الأخبار فمنها:

عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين الضربين يضرب جسده كلّه فوق ثيابه «1».

و منها: ما عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أن لا ينزع من ثياب القاذف إلّا الرداء «2». إلى غير ذلك من الأخبار، و يأتي بعضها في البحث الآتي.

نعم مقتضى الرواية الأخيرة استثناء الرداء. و لعلّ الوجه في ذلك هو أنه بحسب الغالب لباس ضخيم غليظ يمنع عن إحساس أ لم الضرب فلذا أمر عليه السلام بنزعه عنه، و بعد نزع الرداء- لو كان عليه- فلا فرق بين أن يكون عليه قميصان أو هو مع القباء أو غير ذلك من أنواع الملابس [1].

هذا و لكن هنا رواية

صحيحة تدلّ على اعتبار التجريد و هي رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده «3».

قوله: يعرى جلده، من باب الإفعال من أعريته من ثيابه، و عري الرجل عن ثيابه من باب تعب فهو عار و عريان.

______________________________

[1] أقول: و يبد و في الذهن أن وجه استثناء الرداء أنه و إن كان من أنواع الثياب إلّا أنه ليس كسائر الأثواب فهو ثوب منفصل لعدم الأزرار فيه و ليس له كمّ كأكمام الثوب حتى يتعلّق و يرتبط بالبدن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف ح 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 231

و قد ذكر صاحب الجواهر قدس سره في توجيه ذلك وجوها [1].

و أمّا الثاني و هو الاقتصار على ضربه متوسّطا فهو أوّلا: مقتضى الأمر بالجلد و الضرب بلا تقييد بالشدّة و الخفّة فإنّه يحمل على المتعارف بين الناس. و ثانيا:

تدلّ على ذلك الروايات الشريفة نصّا.

فعن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يفتري كيف ينبغي للإمام أن يضربه؟ قال: جلد بين الجلدين «1».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: يضرب المفتري ضربا بين الضربين يضرب جسده كلّه «2».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين الضربين يضرب جسده كلّه فوق ثيابه «3».

و عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

يجلد الزاني أشدّ

______________________________

[1] أقول: منها احتمال كونها قضيّة في واقعة، و منها أنه تعزير منوط بنظر الحاكم لأن الدعوة لغير الأب ليست قذفا، و منها كونه من عراه يعروه إذا أتاه، و الجلد بفتح الجيم أي أرى أن يحضر الناس جلده حدّا أو دونه، و منها أن يكون اللفظ بإعجام العين و تضعيف الراء و البناء للفاعل من التغرية أي يلصق الغراء بجلده و يكون كناية عن توطين نفسه للحدّ أو التعزير انتهى.

و قال في المنجد: الغراء و الغيراء ما طلي به، ما ألصق به الورق أو الجلد و نحوهما انتهى و في مجمع البحرين: الغراء ككتاب شي ء يتخذ من أطراف الجلود يلصق به و ربّما يعمل من السمك و الغراء كعصاء لغة انتهى.

ثم لا يخفى أن ما ذكره في الجواهر من التوجيهات مأخوذ من كشف اللثام فراجع ج 2 ص 224.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 232

الحدّين قلت: فوق ثيابه؟ قال: لا و لكن يخلع ثيابه، قلت: فالمفتري؟ قال:

ضرب بين الضربين فوق الثياب يضرب جسده كله «1».

ثمّ إنّ في بعض هذه الأخبار ما يفيد اعتبار أمر آخر و هو الضرب على كلّ جسده و تمام بدنه.

و لعلّ ذكر ذلك من جهة أنه إذا أمر بضرب أحد على جسده فبالطبع يضربون على تمام بدنه دون موضع خاصّ منه الذي يوجب الجرح فيه و إيجاد إيلام زائد و تبعات مولمة.

و أمّا الثالث و هو تشهير القاذف فهو

لحكمة أن يعرفه الناس بأنه يقول بخلاف الشرع فلا عبرة بأقواله إذا عاد إلى ما فعل و لا تقبل شهادته كما نصّ على عدم قبول شهادته في الآية الكريمة فلا بدّ من أن يعرف فلا تقبل شهادته.

و كيف كان فلا نصّ هنا بخصوصه على ذلك إلّا أنه لمّا ورد النصّ بذلك في شاهد الزور كما في موثّقة سماعة قال: سألته عن شهود زور فقال: يجلدون حدّا ليس له وقت فذلك إلى الإمام و يطاف بهم حتى يعرفهم الناس. «2».

فبتنقيح المناط و تعميم التعليل المذكور و اشتراكه يحكم بالتشهير في المقام أيضا كي يعرفه الناس بذلك و لا يصير قوله في حقّ الآخرين موجبا لتفضيحهم و سقوطهم في أعين الناس.

و بذلك يخرج المقام عن كونه إشاعة الفاحشة المبغوضة عند اللّه تبارك و تعالى الموعود عليها العذاب بقوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ» «3». و لعلّ ذلك لكون الزنا مثلا من المعاصي القائمة بشخصين يقع ذلك نوعا في الخفاء و يختم الأمر به في حين أن القذف من المعاصي التي تورث فتنة و فسادا فإنّه سبب لفضيحة الناس و هتكهم و إثارة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حدّ القذف ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

(3) سورة النّور الآية 19.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 233

العدوان في المجتمع و قطع روابطهم فلذا كانت إشاعة كون فلان زانيا مبغوضة عند اللّه تعالى دون إشاعة كون فلان قاذفا فإنّه ليست كذلك.

في طرق ثبوت القذف

قال المحقق: و يثبت القذف بشهادة العدلين أو الإقرار مرّتين.

أقول: أما الأوّل فلعموم أو إطلاق دليل حجيّة

البيّنة و حيث إنه ليس كالزنا فلذا يكتفي فيه بشاهدين خلافا للزنا الذي لا بد فيه من أربعة شهود.

و أما الإقرار مرتين فليس فيه نصّ خاصّ و إنما الوارد هو الدليل الكلّي، أي إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و في الجواهر: لا أجد فيه خلافا.

و مقتضى التمسّك به هو الاجتزاء بإقرار واحد أي مرّة واحدة و لكنّهم اعتبروا هنا مرتين، و لعلّ ذلك لمكان أنهم جعلوا إقراره بمنزلة الشهادة فكما أنه يعتبر في الإقرار بالزنا أربعة أقارير كما يعتبر في الشهادة أربعة شهود كذلك في المقام يعتبر إقراران كما يعتبر في الشهادة فيه الشاهدان.

و الحق أنه إن كان هنا إجماع كما هو الظاهر من صاحب الجواهر فهو و إلّا فللمناقشة مجال و مقتضى القاعدة هو الإكتفاء بالإقرار مرّة واحدة.

و أما ما قد يقال من أن اعتبار المرّتين في الإقرار من جهة بناء الحدود على التخفيف فينزّل إقراره منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيه التعدد.

ففيه إنه يشبه المصادرة و مع ذلك فلا يخلو عن إشكال و لزم تنزيل بيّنة القذف منزلة بيّنة الزنا و الحكم باعتبار الأربعة أيضا في المقام.

و على الجملة فالظاهر أنه لا يصح التمسك بقاعدة بناء الحدود على التخفيف في إثبات اعتبار التعدد مع دلالة دليل الإقرار بنفسه على كفاية المرّة.

نعم يمكن أن يقال: إنه بعد ذهاب العلماء كلّهم إلى اعتبار المرّتين و عدم الاجتزاء بمرّة واحدة فهذا يوجب الشبهة و لا أقلّ من ذلك و حينئذ فيدرء الحدّ بها، و لو لا ذلك فما ذكره غير تامّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 234

كما أن قوله بتنزيله منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيها التعدد أيضا لا يخلو عن إشكال لأنه على

ذلك لزم اعتبار المرتين في كلّ الموارد و لم يبق مورد يكتفي بالإقرار مرّة واحدة لأنه لا بدّ في الشهادة من الاثنين.

شرائط المقر بالقذف

قال المحقق: و يشترط في المقرّ التكليف و الحرية و الاختيار.

أقول: إنّ ما ذكره هنا مبنيّ على القواعد الكليّة الجارية في غير المقام أيضا من المقامات فإنّ التكليف شرط عامّ و لا بدّ في ترتّب حدّ القذف على إقرار المقرّ من بلوغه و عقله، و لا عبرة بإقرار الصبي و لا المجنون.

و كذا يعتبر فيه الحريّة و ذلك لأنه لو كان مملوكا للزم أن يكون إقراره على نفس المولى لا نفسه حيث إنّه مال و ملك للمولى و يلزم بهذا الإقرار الضرر على الغير أي المولى و هو غير ناقد.

و يعتبر أيضا فيه الاختيار فلا عبرة بإقرار من أكره على ذلك و لا يؤثّر إقراره هذا شيئا و إنما يفيد الإقرار بالقذف ترتّب الحدّ عليه إذا نشأ عن اختيار كسائر الأقارير، و الدليل على ذلك هو حديث الرفع و غيره.

المسألة الثامنة في ثبوت التعزير إذا تقاذف اثنان

قال المحقّق: إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ و عزّرا.

أقول: هذا للتعبّد محضا و لا خلاف في الحكم كما في الجواهر.

و يدلّ على ذلك صحيح عبد اللّه ابن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين افترى كلّ واحد منهما على صاحبه. فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 235

و صحيح أبي ولّاد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أتي أمير المؤمنين عليه السلام برجلين قذف كل واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه قال:

فدرأ عنهما الحدّ و عزّرهما «1». و هما مضافا إلى كونهما صحيحين، معمول بهما عند الأصحاب إذا فلا كلام هنا.

نعم قد ذكر صاحب الجواهر هنا فرعا لا يخلو عن كلام،

و هو ما إذا تغايرا و تعارضا بما يقتضي التعزير فإنه لا يسقط تعزيرهما. و ذلك بمقتضى ما ورد في تقاذف الاثنين من سقوط الحد دون التعزير، فكما أن التعزير هناك لا يسقط بالتقاذف كما يسقط الحدّ كذلك تغايرهما و تعارضهما لا يوجب سقوط التعزير عنهما.

هذا، و لكن يرد عليه أن عدم سقوط التعزير في مورد استحقاق الحدّ لو لا مانع كون القذف من الطرفين لا يقتضي استفادة حكم كلّي بأن وقوع الفعل من كلّ جانب بالنسبة إلى الآخر و إن أوجب سقوط الحدّ في مواضعه لكنّه لا يقتضي سقوط التعزير في مواقع المعارضة.

نعم يمكن أن يقال: إنّ عدم سقوط التعزير في مورد التقاذف ليس لخصوصيّة تختصّ به حتى لا يجري الحكم في مورد التغاير و المعارضة و إنّما هو لأجل كونه حقا للّه تعالى و هو لا يسقط و هذه الجهة محققة في مورد التغاير أيضا فلا يسقط تعزيرهما.

لكن لا يخفى أن هذا من باب استفادة المطلب من الخارج دون الاستظهار و الاستفادة من الرواية الذي هو مراد صاحب الجواهر قدس سره حيث قال:

و منه و من غيره يعلم عدم سقوط التعزير عنهما لو تغايرا بما يقتضيه انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 236

المسألة التاسعة في عدم تعزير الكفّار مع التنابز بالألقاب.

قال المحقّق: قيل: لا يعزّر الكفّار مع التنابز بالألقاب و التعيير بالأمراض إلّا أن يخشى حدوث فتنة فيحسمها الإمام بما يراه.

أقول: هنا أبحاث:

أحدها: أنه هل عدم التعزير بعنوان الرخصة أو العزيمة؟ و بتعبير آخر: هل المراد أنه لا يجب تعزيرهم أو أنه لا يجوز ذلك؟.

لعلّ ظاهر العبارة هو الثاني [1] لأنه لو كان المراد عدم الوجوب

فهذا لا يختصّ بتنابزهم بل يجري في غير ذلك من الأمور أيضا.

ثانيها: أنه هل المراد من الكفّار هو أهل الذمّة الذين يجوز للمسلمين مؤاخذتهم على ما يفعلون من محرّماتنا غاية الأمر أنه خصص ذلك بهذا المورد أي تنابزهم بالألقاب أو أن المراد مطلق الكفار سواء كانوا ذميّين أم لا؟.

ظاهر الكلمات هو الثاني فإنّي كلّما تفحّصت في كلماتهم لم أجد التعبير بغير ذلك فراجع الشرائع و القواعد و المسالك و كشف اللثام و الرياض و شرح الأردبيلي على الإرشاد و غير ذلك من الكتب ترى أن كلّهم قد عبّروا بالكفار [2].

ثالثها: في أصل هذا الحكم فنقول: إنّ هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب بل في الجواهر: لم أجد من حكى فيه خلافا انتهى. كما أنه قال في الرياض: و لعلّه

______________________________

[1] أقول: لعلّ الظاهر خلاف ذلك فإنّ المحقق قال قبل ذلك بسطر واحد: إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ و عزّرا انتهى. ثم قال: قيل لا يعزّر الكفّار إلخ فالنهي في مقام توهم الوجوب و هو لا يدلّ على أزيد من الجواز، و قد أوردت ذلك في مجلس الدرس.

[2] أقول: قد عثرنا في بعض كلماتهم على التعبير بأهل الذمّة فهذا ابن البرّاج قدس سره قال في المهذّب ج 2 ص 458: و إذا تقاذف بعض أهل الذمّة بعضا كان عليهم التعزير و لا حدّ عليهم و كذلك الحكم في العبيد و الصبيان انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 237

لا خلاف فيه.

رابعها: في الدليل أو التعليل على ذلك: فنقول: إنّه لا نصّ في المقام أصلا فلذا صاروا قدس اللّه أسرارهم بصدد التعليل على ذلك و توجيهه و إن كان كلّ منهم ذكر ما ذكر و أفاد

ما أفاد بعنوان لعلّ أو كأن. و ما ذكروه أمور:

الأوّل: إنّ الكفار مستحقون للاستخفاف و عدم الحرمة لهم و قد ذكره في الجواهر.

و فيه إنّه على ذلك لا خصوصية في تنابزهم بالألقاب بل و لا للتنابز و وقوع النبز بينهما و من الطرفين كلّ بالنسبة إلى الآخر بل يجري في مجرد وقوعه من طرف واحد، و الحال أن ظاهر القائلين به هو اختصاص الحكم بالتنابز من الطرفين و من كلّ واحد بالنسبة إلى الآخر لظهور التنابز في ذلك دون نسبة واحد منهما إلى الآخر.

و قد يقال: بأن المراد هو مطلق إلقاء الألقاب القبيحة و المؤذنة للعيب و الذمّ و تخاطبهم فيما بينهم بذلك و إن كان من طرف واحد، و باب التفاعل لا يختص بوقوع الفعل من الطرفين كما أن قول اللّه تعالى وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ «1» لا يختص بذلك بل يشمل ما إذا كان ذلك من طرف واحد بالنسبة إلى الآخر.

و يؤيد ذلك ما في نفس عبارة المحقق حيث قال بعد ذلك: (و التعيير بالأمراض) فإنّه يتحقق من الواحد بالنسبة إلى الآخر، و قد جعله قدس سره عبارة أخرى عن الأوّل أو مشابها و نظيرا له [1].

و فيه إنّ الأمر في الآية الكريمة و إن كان كما ذكر إلّا أن عبارة الفقهاء يراد منها

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيّدنا الأستاذ الأكبر دام بقاه بما أتينا به في المتن. و لعلّه يمكن المناقشة فيه و ذلك لصراحة بعض العبارات و لا أقل من ظهوره في ما ذكرناه فترى الأردبيلي قدس سره قال بعد ذكر الاستخفاف و عدم الحرمة لهم): فلا يلزم من كسر حرمة بعضهم بعضا شي ء حتّى يلزم التعزير انتهى.

______________________________

(1)

سورة الحجرات الآية 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 238

معناه المصطلح أي وقوع الفعل من الجانبين.

الثاني: تكافؤ السّبّ و الهجاء من الجانبين و قد تمسّك به الشهيد الثاني في المسالك قال: كما يسقط الحدّ عن المسلمين بالتقاذف لذلك.

و فيه إنه لو كانت المكافئة و مقابلة المخاطب للقائل موجبة لسقوط التعزير و كانت هي العلّة في ذلك لكان اللازم سقوط التعزير في المسلمين بل كان سقوطه فيهما أولى مع أنه قد تقدّم آنفا أنه إذا تقاذفا يسقط الحدّ بذلك و لكن يعزّران.

فكيف يكون التكافؤ مسقطا للتعزير في مورد الكفار و ليس بمسقط في مورد المسلمين؟.

و لا يخفى أن التعليل بالتكافؤ ظاهر في أنه بمجرده هو العلّة في السقوط و لو لا جهة المكافئة و ردّ المخاطب ما ألقاه إليه المتكلّم لما كان وجه للسقوط بل هو ظاهر في كون الحرمة مفروغا عنها و إنما أوجب التكافؤ السقوط. هذا.

الثالث: جواز الإعراض عنهم في الحدود و الأحكام فهنا أولى فإذا جاز للمسلم أن يعرض عنهم في موارد الأحكام و الحدود و لا يتعرّض لهم بل يخلّي سبيلهم و يتركهم بحالهم و إلى ما يقتضيه دينهم و مذهبهم ففي المقام أولى بعدم التعرّض لهم فإنّ التعزير ليس كالحدّ لأنه هو العقوبة العظمى.

و فيه إنّ هذا الوجه يناسب كونه وجها لعدم الوجوب و يلائم الجواز، في حين أنهم بصدد بيان الوجه لعدم الجواز.

هذا مضافا إلى عدم تماميّة الأولويّة و ذلك لأنه يمكن عدم جواز التعرض لهم في الحكم الشديد بخلاف الحكم الضعيف كالتعزير فيتعرض لهم في ذلك و لا ملازمة بينهما أصلا [1].

الرابع: الوجه المذكور في كلام صاحب الرياض، و سنتعرض لكلامه إنشاء

______________________________

[1] يمكن أن يقال في

بيان وجه الأولوية: إن الكفار لا يتعرض لهم في الأحكام و الحدود مع قطعيتها و عدم التخلف فيها فكيف يجوز التعرض لهم فيما ينوط بنظر الحاكم و يجري فيه التسهيلات كالتعزير، بل لعل هذا التقريب أولى بملاحظة اقتران الأحكام بالحدود.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 239

اللّه تعالى.

ثم إنّه مع ما تقدم من عدم الخلاف في المسألة نرى أن المحقق نسبها إلى القيل و لم يعيّن القائل.

قال في المسالك: و نسب الحكم إلى القيل مؤذنا بعدم قبوله، و وجهه أن ذلك فعل محرّم يستحق فاعله التعزير و الأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله بل يجب على كلّ منهما ما اقتضى فعله فسقوطه يحتاج إلى دليل كما يسقط الحدّ عن المتقاذفين بالنّصّ انتهى كلامه قدس سره الشريف.

و قال السيد في الرياض بعد أن احتمل عدم الخلاف في المطلب: و لكن نسبه الماتن في الشرائع إلى القيل المشعر بالتمريض، و كأنّ وجهه أن ذلك فعل محرّم يستحقّ فاعله التعزير و الأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله [إلى آخر ما كان في المسالك] ثم قال: و له وجه لو لا الشهرة القريبة من الإجماع المؤيدة بفحوى جواز الإعراض عنهم في الحدود و الأحكام فهنا أولى، و ما دلّ على سقوط الحدّ بالتقاذف كالصحيحين في أحدهما عن رجلين افترى كلّ واحد على صاحبه فقال: يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران و التعزير أولى. و في التأييد الثاني نظر بل ربما كان في تأييد الخلاف أظهر فتدبّر انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

أقول: أمّا الشهرة فقد ذكرنا ذلك و أمّا الوجهان اللذان ذكرهما في تأييد المطلب فالأول هو فحوى جواز الإعراض عنهم في الأحكام و الحدود.

و فيه ما ذكرناه آنفا

فلا يتمّ التأييد به.

و أمّا الثاني فبيانه أن صريح الصحيحين الواردين في رجلين افترى كلّ منهما على الآخر هو سقوط الحدّ عنهما فإذا كان الحدّ يسقط عنهما بالمقابلة بالمثل في القذف فالتعزير أولى بالسقوط بسبب المقابلة بالمثل في السبّ.

و فيه ما أورده بنفسه فإنّ سقوط الحدّ هناك لا يدلّ على سقوط التعزير هنا فإنّ الحدّ أقوى و هذا بخلاف التعزير فإنّه لا مئونة في إقامته فربّما يرفع الشارع الأقوى و هو لا يقتضي سقوط العقوبة الأضعف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 240

هذا مضافا إلى الحكم هناك بتعزير هما و هذا يؤيّد أن يترتّب على تنابز الكافرين التعزير لا عدمه.

ثم إنّ هذا حكم تنابز الكفّار من حيث هو و بلا ملاحظة الطواري و العوارض. أمّا إذا وقع ذلك بينهم و كان بحيث يخشى منه حدوث فتنة و بروز مفسدة بين الأمّة و وقوع الاختلاف و التشاجر بين المسلمين أو كان مظنّة الاختلال في نظام المملكة الإسلاميّة فعلى إمام المسلمين حينئذ أن يحسم مادّة الفساد و يطفى ء نيران الفتنة بما يراه من التعزير و العقوبة كما صرّح بذلك المحقق رضوان اللّه عليه.

ثمّ إنه يظهر من عبارة الجواهر و النقض الذي أورده على الوجه الأوّل من الوجهين المذكورين في المسالك (أي تكافؤ السبّ من الجانبين) أنه استفاد من عبارة الشرائع عدم الاختصاص بما إذا وقع التنابز من الجانبين حيث إنّه أورد على الوجه المزبور بأنه يقتضي اختصاص ذلك بالتنابز من الطرفين انتهى يعني و الحال أن الظاهر عدم الاختصاص به.

و يؤيد هذا أي عدم الاختصاص، ما ذكره بعض المفسّرين بالنسبة إلى قوله تعالى «وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ» «1»، و هو قولهم في تفسيره: و لا يدع

بعضكم بعضا بلقب السوء [1] و على هذا فإيراده رحمه اللّه هو أن الدليل أخصّ من المدّعى.

و يظهر من إيراده الثاني على ثاني الوجهين (و هو جواز الإعراض عنهم) أنه قدس سره استظهر من عبارة الشرائع الحرمة لأنه أورد على المسالك بأن جواز الإعراض عنهم يقتضي جواز التعزير انتهى يعني و الحال أن ظاهر: لا يعزّر، هو

______________________________

[2] هذا عين عبارة الفيض في الصّافي و كذا البيضاوي ج 2 ص 190 و يقرب منه عبارة الشيخ قدس سره في التبيان فراجع إن شئت. ثم إنّه دام ظلّه كأنه قد مال هنا عمّا أفاده آنفا في جواب إيرادنا.

______________________________

(1) سورة الحجرات الآية 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 241

الحرمة.

ثم إنّ صاحب الجواهر بعد أن ذكر أن نسبة المحقق المطلب إلى القيل يشعر بالتردد فيه قال: و لعلّه لأنه فعل محرّم يوجب التعزير في المسلم ففي الكافر أولى.

ثمّ قال: و يمكن منع الحرمة انتهى. يعنى يمكن أن لا يكون تنابز الكفار حراما أصلا.

و نحن نقول: و على هذا فلا بأس بأن ينابز المسلم الكفار أيضا و يلقّبهم بألقاب قبيحة كما تقدم ذلك في باب التعريض إلّا أن ذلك في نفسه غير خال عن الإشكال- كما قدمنا ذلك حيث ترددنا في جواز نسبة كل قبيح إلى الكافر و الفاسق- هذا مضافا إلى أنه لا وجه لذكره ثانيا في هذا المقام.

و كيف كان فلا دليل على المطلب من النصوص و لا علّة في المقام يعتمد عليها و يطمئنّ إليها فلم يبق إلّا القول بذلك من باب الشهرة أو الإجماع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 242

المسائل الملحقة

المسألة الأولى في قتل سابّ النّبي

اشارة

قال المحقّق: و يلحق بذلك مسائل الأولى: من سبّ النّبي صلّى

اللّه عليه و آله جاز لسامعه قتله ما لم يخف الضرر على نفسه أو ماله أو غيره من أهل الإيمان.

أقول: و في المسالك: هذا الحكم موضع وفاق و به نصوص إلخ و في كشف اللثام: اتفاقا متظاهرا بالكفر أو الإسلام فإنّه مجاهرة بالكفر و استخفاف بالدين و قوّامه إلخ.

و في الرياض: بلا خلاف بل عليه الإجماع في كلام جماعة و هو الحجّة مضافا إلى النصوص المستفيضة إلخ.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه إلخ.

و أمّا الروايات الواردة في المقام المستدلّ بها على المطلوب فهي:

حسن بن عليّ الوشاء قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: شتم رجل على عهد جعفر بن محمّد عليهما السلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأتى به عامل المدينة فجمع الناس فدخل عليه أبو عبد اللّه عليه السلام و هو قريب العهد بالعلّة و عليه رداء له مورّد فأجلسه في صدر المجلس و استأذنه في الاتّكاء و قال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد اللّه بن الحسن و الحسن بن زيد و غيرهما: نرى أن تقطع لسانه فالتفت العامل إلى ربيعة الرأي و أصحابه فقال: ما ترون؟ قال:

يؤدّب. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: سبحان اللّه فليس بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين أصحابه فرق؟! «1».

قوله: رداء مورّد أي صبغ على ألوان الورد و هو دون المضرّج.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 243

و عن عليّ بن جعفر قال: أخبرني أخي موسى عليه السلام قال: كنت واقفا على رأس أبي حين أتاه رسول زياد بن عبيد اللّه الحارثي عامل

المدينة فقال:

يقول لك الأمير: انهض إليّ فاعتلّ بعلّة فعاد إليه الرسول فقال: قد أمرت أن يفتح لك باب المقصورة فهو أقرب لخطوك قال: فنهض أبي و اعتمد عليّ و دخل على الوالي و قد جمع فقهاء أهل المدينة كلّهم و بين يديه كتاب فيه شهادة على رجل من أهل وادي القرى قد ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله فنال منه، فقال له الوالي: يا أبا عبد اللّه انظر في الكتاب قال: حتى انظر ما قالوا فالتفت إليهم فقال: ما قلتم؟ قالوا قلنا: يؤدّب و يضرب و يعزّر [يعذّب] و يحبس قال: فقال لهم: أ رأيتم لو ذكر رجلا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان الحكم فيه؟ قالوا مثل هذا. قال: فليس بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين رجل من أصحابه فرق؟ فقال الوالي: دع هؤلاء يا أبا عبد اللّه لو أردنا هؤلاء لم نرسل إليك فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أخبرني أبي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الناس في أسوة سواء من سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني و لا يرفع إلى السلطان، و الواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منّي فقال زياد بن عبد اللّه: أخرجوا الرجل فاقتلوه بحكم أبي عبد اللّه «1».

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ رجلا من هذيل كان يسبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال:

من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار فقالا: نحن يا رسول اللّه فانطلقا حتى أتيا عربة فسألا عنه فإذا هو يتلقى

غنمه فقال: من أنتما و ما اسمكما؟ فقالا له: أنت فلان بن فلان؟ قال: نعم فنزلا فضربا عنقه. قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي جعفر عليه السلام: أ رأيت لو أن رجلا الآن سب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 244

أ يقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك فاقتله «1».

و عن النهاية: إنّ العربة بالتحريك ناحية قرب المدينة و أقامت قريش بعربة فنسب العرب إليها، و عن المراصد: قرية في أوّل وادي نخلة من جهة مكّة.

و عن الفضل بن الحسن الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من سبّ نبيّنا قتل و من سبّ صاحب نبيّ جلد «2». إلى غير ذلك من الأخبار، و هذا الحكم مقطوع به عندهم كما عرفت ذلك من قسم من كلماتهم.

نعم هنا بحث من ناحية وجوب القتل و جوازه فإذا كان سابّ النبيّ يقتل في الجملة فهل يجب ذلك أو أنه مجرد الجواز؟.

عبّر المحقق كما علمت بالجواز، لكنّ صاحب الجواهر قال: بل وجب، و قد ادّعى عدم خلاف يجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه.

و ظاهر النصوص المتقدّمة أيضا هو الوجوب دون الجواز.

و قال الأردبيلي رضوان اللّه عليه- عند شرح قول العلّامة في الإرشاد:

و سابّ النبي و أحد الأئمة يقتله السامع مع أمن الضرر-: الدليل على قتل من سبّ النبي معلوميّة وجوب تعظيمه من الدين ضرورة و الذي يسبّه منكر لذلك و يفعل خلاف ما علم من الدّين ضرورة مثل رمي المصحف في القاذورات و إهانة اللّه و إهانة الدّين

و الإسلام و العبادات و شعائر اللّه (ثم نقل بعض النصوص الواردة في المقام ثم قال: إنّ الرواية تدلّ على وجوب قتله و كذا بعض العبارات مثل المتن و قال في الشرائع: من سبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله جاز لسامعه قتله ما لم يخف).

ثمّ صار قدس سره بصدد التوجيه و رفع التنافي و قال: فلعلّه يريد رفع التحريم و المنع فيكون الجواز بالمعنى الأعمّ لارتفاع الحرمة الثابتة لقتل النفوس،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 245

انتهى كلامه رفع مقامه. فبحمل الجواز المذكور في كلام المحقق، على معناه الأعمّ الملائم للوجوب أيضا يندفع الإشكال و يرتفع التنافي بين كلام المحقق و غيره أو بينه و بين ما هو المستفاد من النصوص و ما هو مقتضى القواعد أي الوجوب.

نعم ما أفاده قدس سره من أن من سبّ النبيّ منكر لما هو الضروريّ أعني وجوب تعظيمه صلّى اللّه عليه و آله، لعلّه لا يخلو عن كلام و ذلك لأنه و إن كان وجوب تعظيمه ضروريّا إلّا أنه يمكن أن يكون سبّ السابّ في بعض الأحايين عصيانا لا إنكارا كما في معصية اللّه سبحانه فإنّه ربما يرى العاصي أن اللّه تعالى واجب الإطاعة و مع ذلك فلا يطيعه.

ثم إنّه بعد أن ثبت وجوب قتل السّابّ لا بدّ من التنبيه على أن هذا الحكم ممّا أشكل علينا الأمر في هذه الأزمنة التي قد يسمع إلقاء تلك الكلمات الخبيثة، و الإهانة بساحة النبي الأعظم الأقدس و العترة الزاكية الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين،

فترى أن بعضا بمجرد أن شاهدوا من أهل العلم خصوصا المتكفّلين منهم للأمور السياسية و الاجتماعية و من هم منشأ الأمور و إدارة المجتمع و مصدر الرتق و الفتق و الأمر و النهي، ما لا يلائم أميالهم و لا يساعد أهواءهم أقدموا على التفوّه بما فيه السبّ على النبيّ أو الإسلام أو القرآن فضلا عن السلف الصالح و العلماء الأكابر فما يصنع مع وجوب قتل سابّ النبي مثلا و شيوع الأمر؟.

فعلينا توجيه الناس و لو بتنبيههم بأنه مثلا ليس مطلق ما نفعله و نأتي به إلهاما عن النبي و الأئمة عليهم السلام و إن حسابهم خاصّ بهم فلا يصحّ مؤاخذتهم بما نقوله نحن و نفعله إذا لم يكن سديدا.

ثم إنّ التعابير الواردة في أخبار الباب مختلفة فقد يعبّر بالسبّ و أخرى بالشتم و ثالثة ب نال و رابعة بالذكر، و لكن الظاهر أن كلّها يشير إلى معنى واحد و غرض فأرد، و المقصود هو أداء عبارة تدلّ على التنقيص و التخفيف فإذا صدر ذلك و وقع من أحد يجب على السامع أن يقتله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 246

نعم هذا هو حكم من سمع أحدا يسبّ النبيّ من حيث هو و بنفسه و بلا حدوث ضرر على المقدم على قتله. أمّا لو خاف الضرر على نفسه أو ماله الخطير أو على عرضه أو خاف على غيره من أهل الإيمان فهناك يرتفع الوجوب كما هو مقتضى أدلة الضرر و لذا قال المحقق: ما لم يخف إلخ و قال العلّامة في الإرشاد: مع أمن الضرر، و قال في القواعد: مع الأمن عليه و على ماله و غيره من المؤمنين. انتهى كلامه رفع مقامه.

و هل يجب

حينئذ الترك أو يجوز ذلك و يتخيّر فيه؟ لا يبعد وجوب الترك بل هو الظاهر فيكون بينه و بين إقدامه بنفسه على السبّ عند الاضطرار إليه فرق بأن يكون ترك القتل في المقام واجبا دون الإقدام على السبّ في المقام الثاني فإنّه مخيّر بين التسليم للقتل فلا يسبّ و بين أن ينال و يخلّص نفسه من القتل كما في واقعة عمار بن ياسر و أبيه حيث أمرا بسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سبّ عمار و لم يسبّ والده فخلّوا سبيل عمار و قتلوا والده و قد استصوب النبي صلّى اللّه عليه و آله فعلهما.

و مثله حال رجلين من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام فعن عبد اللّه بن عطا قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابريا عن أمير المؤمنين عليه السلام فبرئ واحد منهما و أبي الآخر فخلّي سبيل الذي بري ء و قتل الآخر، فقال: أمّا الذي بري ء فرجل فقيه في دينه و أما الذي لم يبرء فرجل تعجّل إلى الجنّة «1».

و على الجملة فهو متعلّق بالإقدام على سبّه صلّى اللّه عليه و آله فيجوز تركه و لو انجرّ إلى قتله و أمّا جواز قتل ساب النبي صلّى اللّه عليه و آله أو وجوبه فهو مخصوص بما إذا لم يخف على نفسه أو غيره.

و ذلك لخبر محمد بن مسلم:. فقلت لأبي جعفر عليه السلام أ رأيت لو أن رجلا الآن سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أ يقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 29 من أبواب الأمر بالمعروف ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص:

247

فاقتله «1».

نعم المذكور فيه هو خصوص الخوف على نفسه. لكن الأصحاب لم يفرّقوا بينه و بين الخوف على المال الخطير و كذا الخوف على الغير نفسا أو مالا كذلك، و لا خلاف في ذلك بينهم على ما صرّحوا به فإنّ الضرر المالي المتوجه إلى الإنسان بقتل السابّ ضرر يرفع بلا ضرر.

نعم في خصوص الضرر المالي المتوجه إلى الغير يشكل التمسّك بلا ضرر و ذلك لأنه لم يورد ضررا كي يرتفع تكليفه بقتل السابّ، و إنّما يسبّب ذلك أن يورد آخر ضررا على الغير.

اللّهم إلّا أن يقال إنّه بالنسبة للغير يتمسّك بقاعدة الأهمّ و المهمّ.

و لكن يرد عليه أنه يتمّ ذلك في خصوص الضرر المتوجه إلى نفس الغير و أمّا عند توجّه الضرر إلى مال الغير بإقدامنا على قتل الساب و بعبارة أخرى عند دوران الأمر بين قتل السابّ و توجه الضرر المالي إلى الغير، و ترك القتل و رفع الضرر المالي عن الغير فلا، لأن الظاهر أن الإقدام على قتل السابّ أهمّ من توجّه ضرر ماليّ إلى الغير.

حكم سب الأئمة عليهم السلام

قال المحقق: و كذا من سبّ أحد الأئمة عليهم السلام

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه أيضا بل الإجماع بقسميه عليه انتهى.

و يدلّ على المطلب أخبار عديدة قد أخرج ستّة في الوسائل في باب عنونه بقوله: «باب قتل من سبّ عليّا عليه السلام أو غيره من الأئمة عليهم السلام و مطلق الناصب مع الأمن».

عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في رجل

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 248

سبّابة لعلي عليه السلام قال: فقال لي: حلال الدم،

و اللّه لو لا أن تعمّ به بريئا قال: قلت: فما تقول في رجل مؤذ لنا؟ قال: في ماذا؟ قلت: فيك، يذكرك قال:

فقال لي: له في عليّ عليه السلام نصيب؟ قلت: إنّه ليقول ذاك و يظهره قال: لا تعرّض له «1».

قال الشيخ الحرّ العامليّ: و رواه الصدوق في العلل عن أبيه عن أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمّد مثله إلى قوله: تعمّ به بريئا قال: قلت: لأيّ شي ء يعمّ به بريئا؟ قال: يقتل مؤمن بكافر، و لم يزد على ذلك.

أقول: و في الرواية جهة إجمال و هي قوله: له في عليّ عليه السلام نصيب، فإنه ليس واضح المعنى.

قال العلّامة المجلسي قدس سره بشرحه: يحتمل أن يكون المراد أنه هل يتولّى عليّا و يقول بإمامته؟ فقال الراوي: نعم هو يظهر ولايته فقال عليه السلام لا تعرّض له، أي لأجل أنه يتولّى عليّا فيكون هذا إبداء عذر ظاهرا لئلّا يتعرّض السائل لقتله فيورث فتنة و إلّا فهو حلال الدم إلّا أن يحمل على ما لم ينته إلى الشتم بل نفي إمامته عليه السلام، و يحتمل أن يكون استفهاما إنكاريّا أي من يذكرنا بسوء كيف يزعم أن له في عليّ عليه السلام نصيبا فتولّى السائل تكرّرا لما قال أوّلا، و يمكن أن يكون الضمير في قوله: له، راجعا إلى الذكر أي قوله يسري إليه أيضا، و منهم من قال: هو تصحيف (نصب) بدون الياء انتهى [1].

فعلى التوجيه الأوّل كان الرجل المؤذي مع إظهار التشيّع يذكر الإمام أمير

______________________________

[1] مرآة العقول ج 23 ص 419 ثم إنّه قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بشرح الجملة المزبورة: أي إن كان يحب أمير المؤمنين لا تعرض له و لا تقتل، فكأنهم

لطفوا به و هبوه بذلك و كأنه إشارة إلى أنه ليس من العداوة و البغض كما قيل في مستحلّ ترك الصلاة فتأمل انتهى كلامه رفع مقامه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 249

المؤمنين عليه السلام بسوء و كان في الحقيقة مباح الدّم لذلك إلّا أن الإمام الصادق عليه السلام أراد أن لا يتعرّض هشام لقتله فيثير نار الفتنة و لذا ذكر ما يكون بظاهره عذرا في ترك الإقدام على قتله.

و مفاد استدراكه رحمه اللّه بعد هذا التوجيه، هو أنه يمكن أن يكون ذاك الشخص كان يذكر الإمام بسوء إلّا أنه لم ينته ذكره إلى حدّ الشتم الموجب للكفر و القتل بل كان مجرّد إظهار الشكاية و عدم ارتضائه عنه عليه السلام.

و قوله: بل نفي إمامته يمكن أن يكون عطفا على مدخول إلى فيكون المراد أنه لم ينته ذكره له إلى الشتم بل و لا إلى نفي إمامته بل كان في إطار الشكاية عنه.

و على الجملة فعلى هذا لم يكن مباح الدم و كان عليه السلام قد نهى عن قتله جدّا لا لعدم إثارة نار الفتنة.

و على التوجيه الثاني يحمل الاستفهام على الإنكاري لا الحقيقي فكان عليه السلام قد أنكر كون هذا الشخص ممن له نصيب من محبة أمير المؤمنين عليه السلام على ما كان يظهره و يدّعيه بعد أن كان يذكره عليه السلام بسوء.

و عليه فيكون قول الراوي بعد ذلك تكرارا لما ذكره أوّلا، لا جوابا عن السؤال حيث إنّ الاستفهام لم يكن حقيقيّا و بناءا على هذا أيضا كان هذا الشاتم مباح الدم. و على الاحتمال الثالث أي رجوع ضمير (له)

إلى (ذكره) يكون المراد إنّه هل يسري ذكره لي بسوء إلى جدّي الأمجد أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرني و يذكر آبائي بسوء أو أنه يقتصر على ذكري بسوء و قد أجابه بأنه يذكر أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بسوء، فهذا أيضا مباح الدم. و على الوجه الرابع فقد سئل الإمام عليه السلام عن أنه هل لهذا الشخص نصب العداوة لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه حتى يكون ناصبيا و من الذين نصبوا العداوة له عليه السلام أم لا فقد وقع تصحيف في ضبط اللفظ فكتب (نصيب) بدل (نصب) و قد أجاب الراوي بأنه يظهر العداوة و النصب، و على هذا أيضا كان هذا الشخص مباح الدم و هو واضح.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 250

و أمّا قوله عليه السلام بعد الحكم (في الفرض الأوّل أي الذي كان سبّابة لعليّ عليه السلام) بأنه مباح الدم: لو لا أن تعمّ به بريئا فالمعنى لو لا أن تعمّ أنت بسبب القتل من هو بري ء منه، أو: لو لا أن تعمّ البلية بسبب القتل من هو بري ء منه [1].

و عن سليمان العامري قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أي شي ء تقول في رجل سمعته يشتم عليا عليه السلام و يبرء منه؟ قال: فقال لي: و اللّه هو حلال الدم و ما ألف منهم برجل منكم، دعه «1» ترى التصريح بأنه مباح الدم، نعم ظاهر كلامه عليه السلام أنه كان المورد من موارد الخوف و لذا أمر عليه السلام أن يدعه و يتركه و كأنه عليه السلام قال: لا تقتله فإنّهم يقتلونك قودا و قصاصا، و لا يساوي ألف رجل منهم واحدا منكم.

هذا، و جدير بكم أيّها الموالون

للعترة الطاهرة و يا أيتها الشيعة المحبون لأمير المؤمنين أن تعرفوا مقامكم و رفعة قدركم و عظم شأنكم و موضعكم على ما بينه الإمام الصادق عليه السلام من انّ واحدا من الشيعة لا يوازن بألف من غيرهم.

و عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قعد في مجلس يسبّ فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه اللّه عز و جلّ الذلّ في الدنيا و عذّبه في الآخرة و سلبه صالح ما منّ به عليه من معرفتنا «2» ترى ما فيه من التشديد و التهويل في عذاب من لم يقاوم في رفع السبّ عن الإمام عليه السلام، و معلوم أنه كذلك بالنسبة إلى من كان قادرا على ذلك و إلّا فكان الإمام المجتبى عليه السلام جالسا و خطيب معاوية من أعلى

______________________________

[1] أقول: و في التهذيب ج 10 ص 86 ح 101: لو لا أن يغمز بريئا. و قد ذكر في المنجد أن غمزه يعني سعى به شرّا انتهى. و في كشف اللثام: لو لا أن يعمر بريئا أي لو لا أن يتسبب قتله للطعن في بري ء و اتّهامه و إضرار به.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 251

المنبر يشتم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و على أولاده الطاهرين.

و عن محمد بن مرازم عن أبيه قال: خرجنا مع أبي عبد اللّه عليه السلام حيث خرج من عند أبي جعفر من الحيرة فخرج ساعة أذن له و انتهى إلى السالحين في أوّل الليل فعرض

له عاشر كان يكون في السالحين في أوّل الليل فقال له: لا أدعك تجوز فأبى إباء و أنا و مصادف معه فقال له مصادف: جعلت فداك إنّما هذا كلب قد آذاك و أخاف أن يردّك و ما أدري ما يكون من أبي جعفر و أنا و مرازم، أ تأذن لنا أن نضرب عنقه ثم نطرحه في النهر؟ فقال له: كفّ [كيف] يا مصادف فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثره فأذن لنا فمضى فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك. قال: إنّ الرجل يخرج من الذلّ الصغير فيدخله ذلك في الذلّ الكبير «1».

الحيرة كما في مجمع البحرين هي البلد القديم بظهر الكوفة كان يسكنه النعمان بن المنذر. و المراد من أبي جعفر، منصور الدوانيقي الخليفة العباسي في زمان الإمام الصادق عليه السلام و قوله: السالحين يعنى قراولان شب گرد، و قال العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه: في السالحين أوّل الليل أي الذين يدورون في أوّل الليل من أهل السلاح كذا قيل، و الأصوب أن السالحين في الموضعين اسم موضع، قال في المغرب: السالحون اسم موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى المغرب إلخ. «2» و قوله عليه السلام: إنّ الرجل يخرج من الذلّ الصغير إلخ يعني إنّ ما تطلبون و تستأذنون منّي و هو قتل الرجل العاشر الذي كان يمنع من الجواز و يثقل عليكم منعه و ترون أنه ذلّ، و تصرّون على قتله مع أنه ربما يثور من قتله فتنة عظيمة تصيب الإمام عليه السلام أيضا و ربما يأخذ الخليفة الإمام عليه السلام و شيعته و أصحابه و يقتلهم، فتحمّل ذلك الذلّ القليل أولى من الوقوع في

هذه الفتنة العظيمة و هذا الذلّ الكبير.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(2) مرآة العقول ج 25 ص 198.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 252

و الرواية ظاهرة جدا في أنه كان هناك خوف ضرر عظيم في الإقدام على قتل ذاك الرجل و كان الإمام عليه السلام في تقيّة شديدة و إلّا فربما كان عليه السلام يأذن في قتله.

و عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم و لكني أتّقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل قلت: فما ترى في ماله؟ قال: توّه ما قدرت عليه «1».

و عن علي بن حديد قال: سمعت من سأل أبا الحسن الأوّل عليه السلام فقال:

إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا و حجّتنا فيما بيننا و بين اللّه قال: فقال: لعنه اللّه ثلاثا- أذاقه اللّه حر الحديد قتله اللّه أخبث ما يكون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت ذلك منه أ و ليس حلال لي دمه؟ مباح كما أبيح دم السابّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الإمام؟ قال:

نعم- حلّ و اللّه حل و اللّه دمه و أباحه لك و لمن سمع ذلك منه. قلت: أو ليس ذلك بسابّ لك؟ قال: هذا سبّاب للّه و سبّاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبّاب لآبائي و سبّابي و أيّ سبّ ليس يقصر عن هذا و لا يفوقه هذا القول فقلت: أ رأيت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلك بريئا ثمّ

لم أفعل و لم أقتله ما عليّ من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير أن ينقص من وزره شي ء، أما علمت أن أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر اللّه و رسوله بظهر الغيب و ردّ عن اللّه و عن رسوله صلّى اللّه عليه و آله «2».

و يستفاد من لحن الرواية و تعبيرات الإمام عليه السلام الشديدة أن هذا الشخص- محمد بن بشير- كان يعرف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام و أنه هو الإمام و هادي الرشاد و حجّة اللّه على العباد و إنّما كان بصدد التشكيك

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حدّ القذف ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 253

بين الناس و صرف القلوب عنه صلوات اللّه عليه.

و قد استظهر من الروايات وجوب قتل سابّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كذا الأئمة عليهم السلام و قد علمت التهديد الوارد في الرواية الأخيرة بالنسبة إلى من قدر على قتله و لم يفعل و أنه بصريح كلام الإمام عليه السلام يحمل عليه أضعاف وزر من أقدم على هذه المعصية العظيمة كما أنه قد استفيد من الأدلّة أن هذا الحكم متعلّق بما إذا لم يكن في إقدامه على قتله ضرر و إلّا فليس عليه ذلك.

و أمّا خبر أبي الصباح قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ لنا جارا فنذكر عليّا عليه السلام و فضله فيقع فيه أ فتأذن لي فيه؟ فقال: أو كنت فاعلا؟ فقلت:

أي و اللّه لو أذنت لي فيه لأرصدنّه فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتى أقتله

فقال: يا أبا الصباح هذا القتل و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن القتل يا أبا الصباح إنّ الإسلام قيد القتل و لكن دعه فستكفي بغيرك [1].

ففيه أن منع الإمام عليه السلام لعلّه كان من خوف قتله أو قتل غيره من المسلمين.

هذا كلّه بالنسبة إلى قتل السابّ و أما من أكره على السبّ فالظاهر الموافق للأدلّة هو جواز السبّ له بل في بعض الروايات الأمر بذلك كما في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم.

ألا و إنّه سيأمر بسبي و البراءة مني أمّا السبّ فسبوني فإنّه لي زكاة و لكم نجاة و أمّا البراءة فلا تبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة [2].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب ديات النفس ح 1 رواه عن الكافي، و فيه: يا أبا الصباح هذا الفتك و قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الفتك.

قوله: خبطته أي ضربته.

[2] نهج البلاغة الخطبة 56 أقول: لكن في الكافي ج 2 ص 219 و تفسير العيّاشي ج 2 ص 271

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 254

و لعلّ الفرق بين السبّ و البراءة حيث أمر بالأوّل و نهى عن الثاني، أن السبّ صادر بالنسبة إلى المسلم أيضا بخلاف البراءة فإنها تكون عن المشركين و الكافرين كما قال اللّه تعالى «بَرٰاءَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. «1».

و كانّ من كان يأمر بالبراءة عن الإمام عليه السلام يريد أن يجعل الإمام في عداد المشركين و الخارجين عن الدين، و من كان يتبرّأ منه صلوات اللّه عليه يعدّه

من الكفّار، و بهذه المناسبة علّل الإمام عليه السلام نهيه عن البراءة بقوله:

فإنّي ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة، و على هذا فلو أكره على السب، فسبّ فلا شي ء عليه بل و ربّما كان محمودا على فعله كما يشهد بذلك حكاية عمار و نزول الآية الكريمة «مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» «2».

ففي التفسير إنّ قريشا أكرهوا عمار و أبويه على الارتداد فأبى أبواه فقتلا و هما أوّل قتيل في الإسلام، و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل يا

______________________________

عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة: أيّها الناس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السلام ثم قال: إنّما قال: إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم ستدعون إلى البراءة عنّي و إنّي لعلى دين محمد، و لم يقل: لا تبرّؤوا منّي، فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: و اللّه ما ذلك عليه و ما له إلّا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ فأنزل اللّه عز و جل فيه «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل اللّه عز و جل عذرك و أمرك أن تعود إن عادوا.

______________________________

(1) سورة التوبة الآية 1.

(2) سورة النحل الآية 106.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 255

رسول اللّه

إنّ عمارا كفر فقال: كلّا إنّ عمارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه فأتى عمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و هو يبكي فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يمسح عينيه و قال: مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت «1».

بل و ربّما يستفاد منه و من غيره أن الأفضل له ذلك و إن كان لو لم يجبهم إلى ذلك و لم يسبّ و قتل لذلك لم يكن آثما و مؤاخذا عليه بل هو مأجور و قد تعجّل إلى جنّات النعيم و إلى جوار اللّه ربّ العالمين على حسب ما ورد في بعض الروايات، إلّا أن التقية أفضل.

و مع ذلك كلّه لا بدّ من ملاحظة المصالح و المفاسد و العمل على وفقها فربما يترتب على ترك التقية و على قتله مثلا مفاسد عظيمة فهنا لا بدّ له من التقيّة.

ثم إنّه قد يقال [1]: كيف يمكن القول بأنه يجب قتل من سبّ النبي أو واحدا من الأئمة الطاهرين عليهم السلام و نحن نجد موارد عديدة على خلاف ذلك بل و قد وجدنا موارد كثيرة نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو الإمام عليه السلام عن قتل السابّ.

فمن جملة الموارد قول الرجل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ النبيّ ليهجر.

و منها قول الأعرابي للنبي صلّى اللّه عليه و آله: أيّها الساحر الكذّاب الذي ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على من هو أكذب منك.

و منها قول رجل عند ما سمع كلاما من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

قاتله اللّه من كافر ما أفقهه [2] و لم يقتله الإمام.

______________________________

[1] قد قاله هذا العبد و أجاب دام ظلّه بما

في المتن.

[2] روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال عليه السلام: إنّ أبصار هذه الفحول طوامح و إنّ ذلك سبب هبابها فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فلئلا مس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة فقال رجل من الخوارج. نهج البلاغة الكلمة 412.

______________________________

(1) راجع تفسير الصافي ج 1 ص 941.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 256

و منها كلمات الخوارج و شعارهم مع تلك العقائد الخبيثة الكافرة و أقوالهم الفاضحة بالنّسبة إلى ساحة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و مع ذلك قال الإمام عليه السلام فيهم: لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه «1».

و منها حكاية رجل من ولد الخليفة الثاني الذي كان يؤذي الإمام الهمام موسى بن جعفر عليه السلام و يسبّه إذا رآه و يشتم عليّا عليه السلام فقال له صلوات اللّه عليه بعض جلسائه: دعنا نقتل هذا الفاجر فنهاهم عن ذلك أشدّ المنع إلى أن أتاه يوما في مزرعته و أعطاه مالا و أفضى الأمر إلى أن تاب على يديه و صار من شيعته صلوات اللّه عليه. «2»

و فيه أنه يحمل تلك الموارد و أشباهها إمّا على الجاهل القاصر أو على خوف وقوع الفتنة كما يشعر إلى ذلك ما ورد من نهيه عليه السلام عن صلاة التراويح زمن خلافته و ما وقع عقيب ذلك من غوغاء الناس و رفع أصواتهم بوا عمراه.

و على الجملة فالموانع و المحاذير التي كانت لهم صلوات اللّه عليهم في زمن الخلفاء كانت باقية بعدهم و ما كان يقاسيه علي عليه السلام من المشكلات و الشدائد و الآلام في حياتهم لم ترتفع بعدهم

و بموتهم.

و أمّا قتله عليه السلام الخوارج فلا يدلّ على كمال بسط يده و قدرته و عدم الموانع و ذلك لأن مقاتلته لهم و قتلهم أمر طبيعي في زمن الحرب و عند ما أثاروا نار الفساد.

و الحاصل أنه لا بدّ من الأخذ بمقتضى القواعد و الأدلة، و حمل ما ينافيها على وجود الموانع.

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 60.

(2) إرشاد شيخنا المفيد ص 278 و دلائل الطبري ص 150.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 257

سبّ باقي الأنبياء عليهم السلام

و هل الحكم في سائر الأنبياء كذلك أيضا أم لا؟.

قال في المسالك: و في إلحاق باقي الأنبياء بذلك قوّة لأن كمالهم و تعظيمهم علم من دين الإسلام ضرورة فسبّهم ارتداد ظاهر انتهى.

و قال في الرياض: و في إلحاق باقي الأنبياء بهم عليهم السلام وجه قوي لأن تعظيمهم و كمالهم قد علم من دين الإسلام ضرورة فسبّهم ارتداد فتأمّل مع أن في الغنية ادّعى عليه إجماع الإماميّة [1].

و عبارة السيد ابن زهرة في الغنية هذه: و يقتل من سبّ النبيّ و غيره من الأنبياء أو أحد الأئمة. كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة انتهى.

و يدلّ على ذلك ما رواه الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من سبّ نبيّا قتل و من سبّ صاحب نبيّ جلد «2».

نعم في بعض الروايات ما يدلّ على خلاف ذلك، و الأمر بجلد سابّ غير النبيّ من الأنبياء، مأة و ستّين، ضعف سائر الناس ففي المبسوط: روي عن عليّ عليه السلام إنّه قال: لا أوتى برجل يذكر أن داود صادف المرأة إلّا جلدته مأة و ستين فإنّ جلد النّاس ثمانون و جلد الأنبياء مأة و ستّون

«3».

قوله: صادف المرأة يشير به الى قصّة أوريا. و أورد عليه في الجواهر بقوله:

لكنّه كما ترى انتهى.

و هو كذلك فإنّ من المعلوم أن العمل كان على الأوّل و هذا متروك لم يعمل به.

______________________________

[1] رياض المسائل ج 2 ص 487 أقول: عبارته إلى قوله: ارتداد، عين عبارة الروضة ج 2 ص 303.

______________________________

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حدّ القذف ح 4.

(3) المبسوط ج 8 ص 15 باب القذف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 258

الكلام في سباب أمّ النبيّ و بناته و أزواجه

و هل يلحق بهم عليهم السلام أمّ النبيّ و بناته و أزواجه أم لا؟.

قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في التحرير: لو قذف أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو سبّه أو قذف فهو مرتدّ.

و قال الشهيد الثاني في الروضة: و الحق في التحرير بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أمّه و بنته من غير تخصيص بفاطمة عليها السلام و يمكن اختصاص الحكم بها عليها السلام للإجماع على طهارتها بآية التطهير [1].

و قال في الرياض: و الحق في التحرير و غيره بالنبي صلّى اللّه عليه و آله أمّه و بنته من غير تخصيص بفاطمة قيل: و يمكن اختصاص الحكم بها للإجماع على طهارتها و هو حسن.

و قال في الجواهر بالنسبة إلى اختصاص الحكم بها سلام اللّه عليها: قلت: هو كذلك بالنسبة إلى قذفها عليها السلام و كذا بالنسبة إلى أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باعتبار ما علم أنه صلّى اللّه عليه و آله لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها.

فقد تمسّك في طهارة أمّه صلّى اللّه عليه و آله بعدم إصابة أنجاس الجاهلية لذاته الشريف فإنّ ذلك يقتضي طهارة أمه و من المعلوم أن قذفها ينافي طهارة مولد

النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا بالنسبة إلى فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها فهي بنفسها من أهل الكساء و ممّن نزلت في حقّها آية التطهير «إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «2» و قد صرّح اللّه تعالى بطهارتها، فقذفها ينافي

______________________________

[1] أقول: ذكر في المسالك عين العبارة إلى قوله: عليها السلام، فجملة: و يمكن إلخ من إفاضاته في الروضة فقط، و لعلّ هذا هو الوجه في نقل المطلب في الجواهر عن الروضة دون المسالك.

______________________________

(2) سورة الأحزاب الآية 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 259

طهارتها المصرّحة بها على لسان اللّه سبحانه في القرآن الكريم.

و لا يخفى أن ما أفاده بالنسبة إلى أمّ النبيّ الأكرم فهو بعينه جار بالنسبة إلى أمّ أمير المؤمنين عليه السلام بل و أمّهات الأئمة، الطاهرات جمع و منهنّ خديجة سلام اللّه عليها فإنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا أنوارا مطهّرة من الأرجاس و الأنجاس بأنفسهم و آبائهم و أمّهاتهم و نقرأ في الزيارات: أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهّرة لن تنجسك الجاهلية بأنجاسها.

ثم تعرّض رحمه اللّه للسبّ و حاصل ما أفاده أن سبّ فاطمة سلام اللّه عليها موجب للارتداد و القتل و لعلّه من جهة العلم بكونها كأولادها- الأئمة- سلام اللّه عليهم في الاحترام. و أمّا سب غير فاطمة كأخواتها فإن كان بحيث رجع إلى صدق سبّ النبي فحكمه كسابقه و إلّا فلا.

و قال الشهيد في اللمعة: و قاذف أمّ النبيّ مرتدّ يقتل و لو تاب لم يقبل إذا كان عن فطرة.

و قال في الروضة بشرح العبارة: كما لا تقبل توبته في غيره على المشهور و الأقوى قبولها

و إن لم يسقط عنه القتل، و لو كان ارتداده عن ملّة قبل إجماعا و هذا بخلاف سابّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فإنّ ظاهر النصّ و الفتوى وجوب قتله و إن تاب و من ثمّ قيّده هنا خاصّة و ظاهرهم أن سابّ الإمام كذلك.

و في الجواهر عن حاشية الكركي على اللمعة: و لو قذف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو مرتدّ و وجب قتله و لا تقبل توبته إذا كان مولودا على الفطرة و كذا لو قذف أمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو بنته و كذا أمّ الإمام عليه السلام أو بنته انتهى. ثم قال بعد نقل هذه الكلمات: قلت: لا يخفى عليك صعوبة إقامة الدليل على بعض الأحكام المزبورة خصوصا بعد عدم الحكم بالارتداد بما وقع من قذف عائشة و هي زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله إلخ.

أقول: أمّا بالنسبة للتوبة فظاهر النصوص و الأدلّة قبولها و إن لم يرتفع حكم القتل و ذلك لشمول أدلة التوبة معصية السبّ أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 260

و أمّا قضيّة عائشة فبعد أنه لا يمكن رفع اليد عن الحكم الكلّي البتّيّ بوجوب قتل السابّ فلا بدّ من حملها على ما لا ينافي ذلك:

و يمكن أن يقال: فرق بين ما إذا ذكرت المرأة بقصد سبّ الرجل و شتمه و بين ما إذا كان المقصود هو الزوجة من دون نظر إلى الزوج ليعيّره أو يشتمه و ربّما يكون حين سبّها غافلا عن زوجها فلا يرجع سبّها إلى سبّه مع عدم كونه ملتفتا إلى الزوج بل و مع كونه ملتفتا إذا كان المقصود هو ذمّ الزوجة فقط كما قال اللّه تعالى

«ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ» «1» فهنا أيضا لم يكن قذفها سبّا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و راجعا إليه و إن كان الغالب أن قذف امرأة يكون سبّا و هتكا لزوجها.

أو يقال: إنها كانت قضيّة في واقعة و لم يعلم وجهها حتّى تعارض ظواهر الأخبار و ضرورات الدين.

هذا مع أنه قد يقال بأن ذلك كذب عند الشيعة و لا واقعية لها [1].

ثمّ قال في الجواهر: بل قد يشكل جريان حكم المرتدّ على قذف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي يرجع إلى سبّه الذي قد عرفت أن حكمه القتل على كلّ حال

______________________________

[1] في تفسير الصافي عن القمّي: روت العامّة أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة إلخ.

أقول: فتأمّل فإنّ مارية أيضا زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذا مضافا إلى ما أفاده العلّامة أعلى اللّه مقامه من عدم معرفة الخلاف في أنها في عائشة ففي المسائل المهنائية ص 121: ما يقول سيدنا في قصة الإفك و الآيات التي نزلت ببراءة المقذوفة هل ذلك عند أصحابنا كان في عائشة أم نقلوا أن ذلك كان في غيرها من زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله؟

الجواب: ما عرفت لأحد من العلماء خلافا في أن المراد بها عائشة انتهى.

______________________________

(1) سورة التحريم الآية 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 261

نعم ما لا يرجع منه إلى السبّ

يتّجه فيه ذلك.

و فيه أنه إن كان المقصود من الإشكال أنه ليس بمرتدّ فليس بصحيح و إن كان المقصود وجوب قتله من دون استتابة فلا مانع من كون ذلك المرتدّ محكوما بحكم أشدّ من حكم سائر المرتدّين.

هل يتوقّف قتل السابّ على إذن الإمام؟

ثم إنّه بعد أن ثبت وجوب قتل السابّ أو جوازه فهل يتوقف ذلك على إذن الإمام أو الحاكم أم لا بل يستقل السامع للسبّ، في ذلك؟.

ظاهر الكثير و منهم المحقق و صريح آخرين هو الثاني فترى صاحب الرياض عند قول المحقق في النافع بأنه يحلّ دمه لكلّ سامع، قال: من غير توقّف على إذن الإمام. انتهى.

فلا يتوقف ذلك على المراجعة إليه و الاستيذان منه و هو المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه على ما في الغنية حيث قال: و يقتل من سبّ النبيّ و غيره من الأنبياء أو أحد الأئمة و ليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استيذان صاحب الأمر سبيل، كلّ ذلك بدليل الإجماع انتهى كلامه رفع مقامه.

و يدلّ على ذلك إطلاق النصوص و صريح بعضها كخبر هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه سئل عمّن شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام «1».

و لا كلام في دلالته و أمّا من حيث السند فهو حسن كما قد عبّر عنه العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه بذلك «2».

و قد خالف في ذلك الشيخ المفيد قدس سره قال: و من سبّ رسول اللّه أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتدّ ح 1.

(2) مرآة العقول ج 23 ص 402.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 262

أحدا من الأئمة فهو

مرتدّ عن الإسلام و دمه هدر يتولّى ذلك منه إمام المسلمين فإن سمعه منه غير الإمام فبدر إلى قتله غضبا للّه لم يكن عليه قود و لا دية لاستحقاقه القتل على ما ذكرناه لكنه يكون مخطئا بتقدمه على السلطان انتهى «1».

و وافقه على ذلك العلّامة في المختلف و استوجه ما ذكره حيث إنه نقل كلام المفيد هذا أوّلا ثم نقل كلام الشيخ في النهاية (و من سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو أحدا من الأئمة عليهم السلام كان دمه هدرا و حلّ لمن سمع ذلك منه قتله ما لم يخف في قتله على نفسه أو غيره) ثم قال: و الوجه ما قاله المفيد لأنه حدّ و المستوفي للحدود هو الإمام «2».

و الدليل على ذلك أوّلا: ملاحظة احترام الإمام في إتيان العمل بإذنه و اطّلاعه و تحت إشرافه فيرجع إلى الأمور الانتظامية.

و ثانيا: خبر عمار السجستاني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ عبد اللّه النجاشي قال له، و عمار حاضر: إنّي قتلت ثلاثة عشر رجلا من الخوارج كلّهم سمعته يبرء من عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسألت عبد اللّه بن الحسن فلم يكن عنده جواب و عظم عليه و قال: أنت مأخوذ في الدنيا و الآخرة فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: و كيف قتلتهم يا أبا بحير؟ فقال: منهم من كنت أصعد سطحه بسلّم حتى أقتله و منهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج قتلته، منهم من كنت أصحبه في الطريق فإذا خلالي قتلته و قد استتر ذلك عليّ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو كنت قتلتهم بأمر الإمام لم يكن عليك شي ء في قتلهم و لكنّك سبقت

الإمام فعليك ثلاثة عشر شاة تذبحها بمنى و تتصدّق بلحمها لسبقك الإمام و ليس عليك غير ذلك «3».

______________________________

(1) المقنعة الطبع القديم ص 116 و الطبع الجديد ص 743.

(2) المختلف ص 821.

(3) وسائل الشيعة ج 19 ب 22 من ديات النفس ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 263

و مرفوع إبراهيم بن هاشم و هو هذا الخبر مع الزيادة و النقصان. فعن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام- أظنه أبا عاصم السجستاني- قال: زاملت عبد اللّه بن النجاشي و كان يرى رأي الزيدية فلمّا كنّا بالمدينة ذهب إلى عبد اللّه بن الحسن و ذهبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فلمّا انصرف رأيته مغتمّا فلمّا أصبح قال لي: استأذن لي علي أبي عبد اللّه عليه السلام فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام و قلت: إنّ عبد اللّه بن النجاشي يرى رأي الزيدية و إنّه ذهب إلى عبد اللّه بن الحسن و قد سألني أن أستأذن له عليك فقال: ائذن له فدخل عليه فسلّم فقال: يا بن رسول اللّه إنّي رجل أتولّاكم و أقول: إنّ الحق فيكم و قد قتلت سبعة ممن سمعته يشتم أمير المؤمنين عليه السلام فسألت عن ذلك عبد اللّه بن الحسن فقال لي: أنت مأخوذ بدمائهم في الدنيا و الآخرة فقلت: فعلى م نعادي الناس إذا كنت مأخوذا بدماء من سمعته يشتم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام فكيف قتلتهم؟ قال: منهم من جمع بيني و بينه الطريق فقتلته و منهم من دخلت عليه بيته فقتلته و قد خفي ذلك عليّ كلّه قال: فقال له

أبو عبد اللّه عليه السلام: يا أبا خداش عليك بكلّ رجل منهم قتلته كبش تذبحه بمنى لأنك قتلتهم بغير إذن الإمام و لو أنّك قتلتهم بإذن الإمام لم يكن عليك شي ء في الدنيا و الآخرة «1».

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 263

و فيه مضافا إلى ضعف السند فإن عمار السجستاني أبا عاصم من أصحاب الصادق عليه السلام و هو و إن قيل بأن ظاهره كونه إماميّا إلّا أن حاله مجهول «2» و الخبر في نقل الكليني مرفوع، لم يعمل به الأصحاب و أعرضوا عنه، و على هذا فهو فاقد لشرائط الحجيّة، في قبال الأخبار الماضية التي قد عمل بها الأصحاب و على هذا فلا وجه للحكم باعتبار الإذن من الإمام و يحمل خبر عمّار على الاستحباب و يقال بأنه يستحب الكفّارة المزبورة لو استقلّ في القتل و أقدم عليه

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 376.

(2) راجع رجال المامقاني رضوان اللّه عليه ج 2 ص 317.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 264

بلا استيذان من الإمام، و لا يخفى أن هذه الصدقة مستحبة احتراما للإمام و رعاية لجانبه لا لاحترام المقتول.

و قد يتوهم أن الكفّارة المزبورة واجبة و ذلك لأن المفروض كما هو المصرّح به في النقل الأول هو أن المقتولين كانوا من الخوارج و قد نهى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن قتلهم من بعد شهادته و وفاته بقوله الكريم: لا تقتلوا الخوارج من بعدي [1].

و فيه أن النهي عن قتلهم من حيث هو لا مطلقا حتّى مع سبّهم و شتمهم

له عليه السلام و إثارة الفتنة بين الناس و المفروض في الخبر من هذا القبيل.

و قد يقال: إنّ المنع من الاستقلال على قتل السابّ من جهة كون ذلك من الحدود و أمر الحدود بيد الإمام و لا يجوز لغيره الإقدام عليه بدون الاستيذان منه أو من الحاكم و هذا ما اعتمد عليه العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف كما تقدم ذلك [2].

و فيه أنه مضافا إلى أن العلّامة بنفسه ذهب في القواعد إلى ما قاله المشهور على ما هو ظاهر كلامه. أن العمدة هو الأخبار فيمكن أن يكون المقام من قبيل التخصيص فأمر الحدود في جميع الموارد بيد الإمام و مرفوع إليه إلّا في هذا المورد و ذلك لمكان هذه الروايات الدّالة على أن للسامع أن يقدم على قتل السابّ بلا افتقار إلى الإذن من الإمام و توقف عليه و إن كان لو رفع الأمر إليه فهو يقتله.

و يحتمل أن يكون المقام من باب التخصّص بأن لا يكون قتل السابّ من باب الحدود فهو خارج عن الحكم الكلّيّ خروجا موضوعيّا، و إن كان يضعف

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيدنا الأستاذ الأفخم بما في المتن، و يمكن أن يقال في الجواب-، على ضوء ما أفاده دام ظله- بأن نهيه عليه السلام عن قتلهم كان لأجل بعض المصالح لا أن يكون محرّما رأسا و ذلك لا ينافي جواز قتلهم مع فقد تلك المصالح أو عند مصلحة أقوى في القتل.

[2] أورده أيضا هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 265

ذلك إطلاق الحدّ عليه في كلماتهم.

و هل في هذا الحكم فرق بين المسلم و الكافر؟

ثم إنّه هل يختص الحكم بما إذا كان السابّ مسلما

أو يعمّه و الكافر؟.

صرّح في المسالك و الرياض و الجواهر و غير ذلك بعدم الفرق بينهما أصلا.

و قد استدلّ على ذلك بوجهين:

أحدهما: إطلاق النصّ و الفتوى.

ثانيهما: خصوص ما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعن ابن عبّاس عن عليّ عليه السلام: إنّ يهودية كانت تشتم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و تقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول اللّه دمها «1».

نعم هنا بحث في خصوص الكافر السابّ إذا أسلم و هو أنه قد ثبت في محلّه أن الإسلام يجبّ ما قبله [2] فإذا أسلم الكافر لا يؤاخذ على ما مضى منه من معاصيه كترك الصلاة و الصيام و غير ذلك، و لا يبعد أن يكون سبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك فلو أسلم الكافر السابّ للنبيّ فإنّ إسلامه يكفّر ذلك كسائر معاصيه.

و أمّا إنّه لماذا لم يقتله النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلعلّ ذلك كان لأجل توقّع إسلامه و رجاء أن يرجع و يتوب عمّا كان عليه و لو كان يعجل في قتله لم ينل مراده و لم يدرك رجاءه.

و من ذلك يتّضح ما هو وظيفتنا أيضا بالنسبة إلى الكافر الذي يسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

[2] راجع تفسير القمي ج 2 ص 27 و مثله ما رواه في البحار ج 40 ص 230 عن عليّ عليه السلام: هدم الإسلام ما كان قبله.

______________________________

(1) منقول عن سنن النسائي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 266

و بذلك ظهر الجواب عمّا يقال: إن سيرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم تكن على قتل من يسبّه بل كان يستمع

إلى شتمهم و سبّهم و لم يجبهم بشي ء أو كان يقول:

اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

و ذلك لأن إسلامهم الذي يتوقّعه كان يجبّ معاصيهم و من جملتها سبّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يمكن أن يقال: إنّ ذلك كان من باب العفو فكان له صلوات اللّه عليه أن يعفو عن ذلك و إن لم يكن قد أسلم بل كان باقيا على كفره. و الفرق بينهما إنّ قاعدة الجبّ جارية بالنسبة إلى من قد أسلم عن الكفر بخلاف العفو فإنّه يجري حتى بالنسبة إلى الكافرين لمصلحة يراها الإمام و خصوصا بلحاظ ما هو معلوم من أنهم كانوا يعتنقون الإسلام بعد ما رأوا منه آثار الرحمة و الحنان و العفو و الإحسان بحيث كان يقول بعضهم بعد ذلك مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كنت أبغض الناس إليّ و الآن أنت أحبّ الناس إليّ.

و بذلك ظهر ما في كلام صاحب الجواهر من التوقف في قتل الكافر السابّ إذا أسلم، و ذلك لأن قاعدة الجبّ تقتضي الحكم بعدم قتله و لا وجه للتوقف أصلا إلّا رعاية حرمة النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و من المعلوم أنه صلوات اللّه عليه ليس بأعظم من اللّه و لا أكثر حرمة منه سبحانه و قد جبّ الإسلام كفره و شركه فكيف لا يجبّ سبّه بالنّسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟.

الكلام في اعتبار القصد و عدمه

ثم إنّهم ذكروا أنه لا شي ء على غير القاصد للسبّ لغفلة و نحوها.

و نحن نقول: فلو سبّ لكنه كان في مقام المزاح و الهزلة فعلى مقتضى ما ذكروه لا شي ء عليه و لا يجوز قتله.

و هذا مشكل جدا لأن سموّ مقام

النبيّ الخاتم و شموخ مرتبته لا يساعد التفوّه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 267

بسبّه و لو مزاحا و مداعبة فلا بد من قتل السابّ [1].

نعم لو كان غافلا عن أن هذا سبّ فهناك يصحّ ما ذكروه كما أنه لو كان المراد من القصد هو الاختيار في قبال من سبّ بلا اختيار كما إذا كان عن غضب بالغ مثلا فلما قالوه وجه.

و تدلّ على ذلك رواية علي بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كنت عنده و سأله رجل عن رجل يجي ء منه الشي ء على جهة غضب، يؤاخذه اللّه به؟

فقال: اللّه أكرم من أن يستغلق عبده «1».

و في الكافي: و في نسخة أبي الحسن الأوّل عليه السلام: يستقلق عبده.

قال في مجمع البحرين: في الحديث: لا تكن ضجرا و لا غلقا، الغلق بالتحريك ضيق الصدر و رجل غلق: سيّئ الخلق، و فيه: اللّه أكرم من أن يستغلق عبده، لعلّه من الفلق و هو ضيق الصدر، و في بعض النسخ: يستقلق عبده كأنه من القلق بمعنى الحركة و الاضطراب، و في بعضها يستعلق بالعين المهملة كأنه من العلق محرّكة: الخصومة و المحنة [2].

نعم لا يخفى أن الغضب على قسمين:

أحدها ما يوجب سلب الاختيار رأسا بحيث ربّما ضرب نفسه بسلاحه بدلا عن عدوّه و لا يلتفت إلى ذلك.

______________________________

[1] أقول: لعلّه لا ملائمة بين هذا و بين ما تقدم منه دام ظلّه من أن السبّ يمكن أن يكون في بعض الأحايين من باب العصيان لا الإنكار فراجع.

[2] أقول: و في مرآة العقول ج 26 ص 236 قوله عليه السلام من أن يستغلق عبده أي يكلّفه و يجبره فيما لم يكن له فيه اختيار، قال الفيروزآبادي:

استغلقني في بيعته لم يجعل لي خيارا في ردّه. قوله: و في نسخة أبي الحسن الأوّل عليه السلام يستقلق، لعلّه كان الحديث في بعض كتب الأصول مرويّا عن ابي الحسن عليه السلام و فيه كان يستقلق بالقافين من القلق بمعنى الانزعاج و الاضطراب و يرجع إلى الأوّل بتكلّف انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 28 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 268

ثانيها ما لا يكون بهذا الحدّ يعني أنه قد غضب لكنه لم يسلب عنه الاختيار.

و ما ذكروه من عدم مؤاخذة السابّ على سبّه يتم في الفرض الأوّل و أمّا إذا كان الغضب على النحو الثاني الباقي معه الاختيار فلا وجه هناك لعدم ترتب آثار السبّ و إلا فكلّ قتل مثلا يقع في العالم فإنّما هو ناش عن الغضب و قلّ ما يتفق أن يقدم أحد على قتل أحد بلا غضب.

و لذا قال في الجواهر- بعد ذكر المطلب و الاستشهاد عليه بالرواية-:

و إن كنت لم أجد من أفتى به على وجه لا يستلب الغضب اختياره بحيث يسقط عنه التكليف انتهى.

حكم من قال بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله كغيره

ثم إنّ ما ذكر كان حكم السابّ فلو لم يسب و إنّما قال: إنّ النبيّ كغيره، فما هو حكمه؟.

أقول: إنّ هذه الجملة لا تعد سبّا و مع ذلك فلا تخلو عن حالين:

فتارة يقتصر القائل على مجرد هذا بلا عناية إلى لوازمه فهذا لا يترتب عليه شي ء فترى أن اللّه سبحانه أمر نبيّه الخاتم أن يقول «إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ» «1» فهو أيضا بشر مثل غيره بنصّ اللّه تعالى و إنّما فضله و مزيّته على الناس في نزول الوحي إليه دون غيره، و هذا القائل قد اقتصر

على الجملة الأولى من الآية و لم يذكر تتمة الآية و سكت عن جهة امتيازه على غيره.

و أخرى يريد القائل به أنه كسائر الناس و عامّتهم و كان بصدد إنكار ماله من المزايا و الفضائل الجمّة و هذا ردّ صريح على القرآن الكريم و جحد لما أثبته و بيّنه بالنسبة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إسقاط له عن درجة الرسالة فيترتب عليه آثار ذلك.

______________________________

(1) سورة الكهف الآية 110.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 269

و في رواية مطر بن أرقم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ عبد العزيز بن عمر الوالي- الوالبي- بعث إليّ فأتيته و بين يديه رجلان قد تناول أحدهما صاحبه فمرس وجهه فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه في هذين الرجلين؟

قلت: و ما قالا؟ قال: قال أحدهما: ليس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضل على أحد من بني أميّة في الحسب و قال الآخر: له الفضل على الناس كلّهم في كلّ خير، و غضب الذي نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصنع بوجهه ما ترى فهل عليه شي ء؟ فقلت له: إنّي أظنّك قد سألت من حولك فأخبروك، فقال:

أقسمت عليك لمّا قلت، فقلت له: كان ينبغي لمن زعم أن أحدا مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الفضل أن يقتل و لا يستحيى قال: فقال: أو ما الحسب بواحد؟ فقلت: إنّ الحسب ليس النسب ألا ترى لو نزلت برجل من بعض هذه الأجناس فقراك، فقلت: إنّ هذا لحسيب. فقال: أو ما النسب بواحد؟ قلت: إذا اجتمعا إلى آدم فإنّ النسب واحد إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله لم يخلطه شرك و لا بغي فأمر به فقتل «1».

قوله: مرس وجهه أي خدشه بأطراف أصابعه. و الحسب الشرافة [1] قوله:

أو ما الحسب بواحد، كأنه تخيّل أن الحسب هو النسب و لذا سأل أنه هل لا يكون الحسب واحدا؟ و أجابه الإمام عليه السلام بأن الحسب ليس بالنسب و أوضح له ذلك بذكر مثال و هو أن الرجل الشريف الذي قد أحسن الضيافة و بالغ في إكرام ضيفه يعدّ ذا حسب، قوله: القرى الضيافة (و قد ورد في الدعاء: فاجعل قراي في هذه الليلة المغفرة).

و قوله: أو ما النسب بواحد إلخ قد سأل الوالي هنا عن أنه أ ليس نسب النبي و غيره واحدا؟ و أجابه الإمام عليه السلام بأن النسب واحد لانتهائه إلى آدم

______________________________

[1] و في مجمع البحرين: الحسب بفتحتين: الشرف بالآباء و ما يعدّ من مفاخرهم و هو مصدر حسب بالضمّ ككرم و منه: من قصر به عمله لم ينفعه حسبه انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 26 من أبواب حدّ القذف ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 270

عليه السلام و لكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هو الذي لم يختلط شرك في اعتقاداته و لم يمتزج عمله بالبغي فهو أفضل و إن كان هو أيضا كسائر الناس ينتهي نسبه إلى آدم فإنّ هذا لا ينافي كونه أفضلهم من حيث الحسب و الشرف و الفضيلة [1].

قال في الجواهر: لم أجد من أفتى بمضمونه. و لعلّه لإنكار الضروريّ أو أن ذلك نوع نيل منه فتأمّل.

الطرق التي يثبت بها السبّ

بقي الكلام هنا في ما يثبت به السبّ حتى يترتب عليه القتل.

فنقول: لا إشكال و لا شك في ثبوته باستماع الإنسان بنفسه

ذلك و هو العلم حقيقة و كذلك يثبت بشهادة الشاهدين العادلين و أيضا يثبت ذلك بالإقرار.

و هل يكتفي بإقرار واحد أو أنه لا بدّ من إقراره مرتين؟ مقتضى إطلاق القاعدة هو الأول لأنه بالإقرار مرّة واحدة يصدق أنه قد أقرّ على نفسه فينفذ ذلك.

و قد يقال باعتبار الاثنين لما مرّ في نظائره فكما أنه لا بد في الشهادة على السبّ من اثنين كذلك لا بد في الإقرار به أيضا من مرتين.

و فيه أنه لا وجه لاعتبار ذلك بعد إطلاق القاعدة، و الحكم باعتبار التعدد هنا كما في الشهادة يشبه القياس و قد تقدم هذا البحث في موارد عديدة فراجع.

______________________________

[1] أقول: و يمكن أن يقال: إنّ الإمام عليه السلام كان بصدد إثبات المزيّة لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حسبا و نسبا أمّا الحسب فللمثال الذي أتى به و أمّا النسب فلأنه و إن كان ينتهي نسبه إلى آدم كغيره لكن لم يكن في سلسلة أجداده باغ و لا مشرك فلم يخلطه شرك و لا بغي لأن أجداده لم يكونوا باغين و لا مشركين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 271

المسألة الثانية في أن ادّعاء النبوّة يوجب القتل

اشارة

قال المحقق: من ادّعى النبوّة وجب قتله.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده، كما أنه قد ادّعى عدم الخلاف في ذلك غير واحد من العلماء غيره.

و الظاهر أنه لا فرق في مدّعي النبوّة بين كونه مسلما أو كافرا كما أن الظاهر أن قتله ليس لأجل ارتداده بل هو حكم نفس العنوان أي من ادّعى النبوّة و عليه فلا يشترط بشرائط الارتداد بل يقتل بمجرد حصول شرائط التكليف و تحققها.

و تدلّ على ذلك روايات شريفة منها رواية ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه

عليه السلام: إنّ بزيعا يزعم أنه نبيّ فقال: إن سمعته يقول ذلك فاقتله قال: فجلست إلى جنبه غير مرّة فلم يمكني ذلك «1».

و هذه الرواية معتبرة كما قد عبّر عنها بذلك في كلماتهم، و دلالتها واضحة لمكان الأمر بقتل ذاك المدّعي.

و منها رواية أبي بصير يحيى بن القاسم عن أبي جعفر عليه السلام قال في حديث: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي و لا سنّة بعد سنّتي فمن ادّعى ذلك فدعواه و بدعته في النار فاقتلوه و من تبعه فإنّه في النار أيّها الناس أحيوا القصاص و أحيوا الحق لصاحب الحقّ و لا تفرّقوا و أسلموا و سلّموا تسلموا كتب اللّه لأغلبنّ أنا و رسلي إنّ اللّه قويّ عزيز «2».

و منها عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبيه عن الرضا عليه السلام في حديث قال: و شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا تنسخ إلى يوم القيامة و لا نبيّ بعده إلى يوم القيامة فمن ادّعى نبيّا أو أتى بعده بكتاب فدمه مباح لكلّ من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتدّ ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 272

سمع منه «1».

ثمّ إنّ المحقق قدس سره قد تعرّض في هذه المسألة لفرعين:

أحدهما في ادّعاء النبوة، و ما تقدم كان في هذا المقام، و أمّا الفرع الثاني:

حكم من قال: لا أدري محمد بن عبد اللّه صادق أم لا

قال المحقق: و كذا من قال: لا أدرى محمّد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) صادق أو لا و كان على ظاهر الإسلام.

و على هذا فمن كان مسلما

في ظاهر الأمر و مع ذلك أبدى شكّه في رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله فإنّه يقتل. و قد ادّعى في الجواهر عدم خلاف يجده في ذلك.

و تدل عليه روايات. منها ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من شك في اللّه و في رسوله فهو كافر «2».

و منها رواية الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: لو أن رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: و اللّه ما أدري أ نبىّ أنت أم لا، كان يقبل منه؟ قال: لا و لكن كان يقتله، إنّه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا «3».

و الرواية الأولى و إن كانت ساكتة عن حكم القتل و إنّما اقتصر فيها على ذكر كفره الذي ليس هو بنفسه مقتضيا للقتل إلا أن الرواية الثانية ناطقة بذلك فهي تدلّ على أن النبيّ الأعظم كان يقتل من يبدي الشك في نبوّته.

و قد علّل الإمام الصادق عليه السلام ذلك بأن قبوله صلوات اللّه عليه ترديد الشاك كان موجبا لأن لا يسلم المنافق ابدا.

بيان ذلك أنه لو كان إظهار الترديد موجبا للقتل لكان ذلك بنفسه سببا لأن

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المرتد ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المرتد ح 22.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حدّ المرتد ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 273

يخاف المنافق من إبداء شكّه بل ربما كان ذلك موجبا لأن يسلم و لو ظاهرا و هو أيضا مؤثّر في مجد الإسلام و شوكته و كيانه بخلاف ما لو قبل ذلك

منه و خلّي سبيله فإنّه لا يزال يبقى على حاله و يظهر شكّه و ترديده و يروّج الكفر و الفساد، و حيث إنّ المنافقين كانوا يعلمون أن الشاك أي المظهر بالشك و الترديد يقتل فلذا كانوا يسلمون و لا أقل من إظهارهم الإسلام و عدم إظهارهم الترديد في أمر الدين و كيف كان فقد دلّت الروايات على قتل مدّعي النبوّة و كذا الشاك فيها.

نعم هنا إشكال و هو أن مقتضى كلام المحقق هو قتل الشاك إذا صرّح بشكّه قائلًا: إنّي لا أدري.، و لكن مقتضى رواية عبد اللّه بن سنان قتل الشاك مطلقا و إن لم ينطق بذلك و على هذا يرد أنه لا يقتل من هو أعظم من الشاك و هو المنكر المعتقد بالعدم إذا لم يكن ينطق بكفره كما في المنافقين فلم يكن البناء على قتلهم بل كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون يعاملون المنافقين معاملة المسلم فمن كان كافرا في الباطن منافقا حقيقة لكنه لا يبدي شيئا بل يقرّ بالإسلام، يحكم في الظاهر بإسلامه و يرتب عليه أحكام المسلمين إلى أن يظهر ما يخالف ذلك فكيف بالشّاك الذي هو على ظاهر الإسلام، فالشاك الذي لم يظهر شكّه و كان على ظاهر الإسلام محكوم بكونه مسلما فإذا أبدى الشك و قال: لا أدري، يصير مرتدّا عن الإسلام.

و على هذا فلو كان الكافر في الرواية بمعناه المصطلح فلا بدّ من أن يكون قد أبدى شكّه و إلّا فالمراد من الكفر هو الكفر الباطني لا ما يوجب ترتيب أحكام الكفر.

ثمّ إنّه صرّح الشهيد الثاني و كذا بعض آخر بأن الحكم في باب مدّعي النبوّة أيضا من باب الارتداد كما في باب الشك

قال في المسالك: أمّا وجوب قتل مدّعي النبوّة فللعلم بانتفاء دعواه من دين الإسلام ضرورة فيكون ذلك ارتدادا من المسلم و خروجا من الملل الّتي يقرّ أهلها، من الكافر فيقتل كذلك، و أمّا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 274

الشك في صدق النبيّ فإن وقع من المسلم فهو ارتداد (ثم قال:) و احترز بكونه على ظاهر الإسلام مما لو وقع ذلك من الكافر الذمّي كاليهوديّ و النصرانيّ فإنّه لا يقتل به إقرارا لهم على معتقدهم و كذا يخرج به غير الذمّيّ من الكفار و إن كان قتله جائزا بأمر آخر انتهى كلامه رفع مقامه.

و فيه أنه و إن كان قتل الشاك بحسب الظاهر لأجل الارتداد لا لموضوعية الشك و القول المخصوص إلا أنه بالنسبة إلى السب أو ادّعاء النبوّة لعلّ الأمر لا يكون كذلك فإنّ ادّعاء النبوّة- بعد أنه من المسلّم أنه لا نبيّ بعد النبيّ الخاتم- يوجب القتل سواء نشأ ذلك من المسلم أو الكافر كما تقدم ذلك.

ثمّ إنّ في قبال ما ذكرنا في الشاك من الحكم بالكفر و القتل بعض الروايات الدالّ على أن الشك بمجرده غير مؤثر في هذا و إنّما يوجب الكفر إذا كان مقرونا بالجحد.

ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: كافر يا با محمّد قال: فشك في رسول اللّه؟ فقال: كافر، ثم التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد [1] فإنّ لازمها و المستفاد منها أن

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ المرتدّ

ح 56 أقول: و مثلها رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا (الكافي ج 2 ص 388) و هاتان الروايتان صريحتان في أن الكفر بعد إظهار الإسلام يدور مدار الجحد و الإنكار و بدون ذلك فهو محكوم بحكم الإسلام و إن كان شاكّا مظهرا لشكّه و ترديده، و هذا ينافي ما أفاده المحقق من قتل من قال لا أدري أن محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله صادق أم لا حيث إنّ المفروض هناك عدم الجحود و الإنكار و إنّما كان شاكّا مظهرا لشكّه، و قد كان سيدنا الأستاذ يقول في حلّ الإشكال بأن الجحد من باب أحد الأفراد و المصاديق لا من باب الخصوصية و قد أوردت بأن لفظ إنّما ينافي ذلك لأنه للحصر فأجاب دام ظلّه بأن قول لا أدرى بعد الإظهار و الاعتراف يعدّ جحودا عرفا فذكرت بأنه لو كان في العرف كذلك لكن الرواية

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 275

الشاك في حدّ نفسه منافق و أنه بدون الإنكار لا يحكم عليه بالكفر فإذا أفصح عن إنكاره فهناك يكفر و على ذلك فالنسبة بينهما العموم و الخصوص المطلقان.

فرع في مدّعي الإمامة

ثم هنا فرع قد تعرّض له صاحب الجواهر فقال: و قد يلحق مدّعي الإمامة بمدّعي النبوّة.

و على ما ذكره البعض من الإلحاق فمدّعي الإمامة يقتل كمدّعي النبوّة.

و بذلك يشكل الأمر و يتوجّه الإيراد بأنه فلما ذا لم يقدم المسلمون بقتل المدّعين لذلك.

و لعلّه يمكن أن يجاب عنه بأنه فرق بين ادّعاء الإمامة و ادعاء الخلافة، و الذي كان الخلفاء يدّعونه هو الخلافة و الإمارة و لذا يتمسّكون

بأعذار واهية مثل أن عليّا عليه السلام شابّ لا يقبله الناس و لا يستسلمون لأمره، و كان والد بعضهم ينقض عليه في استدلاله: بأنه على ذلك فإنّي أحقّ بها منك لا أنهم يدّعون مقامه الرفيع و علمه الغزير بل ربّما كانوا يراجعون إليه في الأحكام و أحيانا يعترفون بفضله الشامخ و مقامه السامي و أنه لولاه صلوات اللّه عليه لهلكوا و إنّما كانوا ينكرون النصب و التعيين و لعلّ موضوع النصب لم يكن بحيث يعدّ من الضروريات بين المسلمين قاطبة.

و يمكن حل الإشكال بطريق آخر كعدم مساعدة الشرائط مثلا كما لا يخفى.

______________________________

تخطّي العرف و تحقق أن الملاك هو الجحود و أجاب دام ظله بالآخرة بأنه إذا أظهر شكّه صدق عليه أنه جحد و يشمله الرواية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 276

في الشاك في الإمامة

قال المحقق: و كذا من شك فيه و كان على ظاهر التشيّع كي يكون بذلك منكرا لضروريّ الدين بعد أن كان عنده من الدين هو ما عليه من المذهب فهو حينئذ كمن أنكر المتعة ممّن كان على مذهب التشيّع و في جملة من النصوص إنّ الشاك في عليّ كافر.

أقول: و على ما ذكره فمن كان بحسب الظاهر من الشيعة معترفا بحقانيّته و مع ذلك أبدى شكّه في الإمامة أو المتعة أو غير ذلك مما هو من ضروريات مذهب الشيعة الذي اتخذه دينا له و يرى أحكامه أحكام الدين فحينئذ قد شك فيما يراه من الدين، و يلزم كفره.

و أمّا ما ذكره من النصوص فمنها خبر المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إنّ اللّه جعل عليّا عليه السلام علما بينه و بين خلقه ليس

بينه و بينهم علم غيره فمن تبعه كان مؤمنا و من جحده كان كافرا و من شك فيه كان مشركا [1].

و لا يخفى أن الخبر بظاهره منصرف عمّن شك و كان كافرا بل هو منصرف إلى المسلم الذي شك فيه، إلّا أن المراد هنا هو الكفر الباطني لا الكفر المصطلح لكنّ القائل بالكفر قد أخذ بظاهره الذي يفيد أنه قد خرج عن الإسلام بمجرد أن شكّ في ذلك.

و قد قال في الجواهر في ختام المطلب: و لكنّ الإنصاف بعد ذلك كلّه عدم خلوّ الحكم المزبور من إشكال.

ثمّ إنّ الحكم في إنكار واحد من الأئمة عليهم السلام هو الحكم في إنكار عليّ عليه السلام كما صرّح بذلك هو قدس سره فراجع.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حدّ المرتدّ ح 13 و مثله على ما صرّح به سيدنا الأستاذ دام ظله الوارف في مذكّراته ح 14 و 21 و 40 فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 277

المسألة الثالثة في قتل الساحر المسلم

قال المحقق: من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلما و يؤدّب إن كان كافرا.

أقول: إنّ أصل الحكم في الجملة لا خلاف فيه نصّا و فتوى لكن فيه موارد للكلام و فروع و مطالب يبحث فيها:

منها: الفرق بين المسلم و الكافر و الوجه في ذلك حتى يحكم بالقتل في المسلم دون الكافر.

فنقول: إنّ مستند الفرق و منشأ التفصيل هو الروايات فمنها رواية السكوني التي قد يعبّر عنها بالمعتبرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل فقيل يا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله-: و لم لا يقتل ساحر الكفّار؟

قال: لأن الكفر- الشرك- أعظم من السحر و لأن السحر و الشرك مقرونان «1» و بها يقيّد ما دلّ على قتله مطلقا و سيأتي بعضها في مطاوي الأبحاث الآتية.

و أمّا ما علل به التفصيل و الفرق بين المسلم و الكافر فمفاده أن في الكافر ما هو أعظم و أشدّ من السحر و هو الكفر و مع ذلك لا يقتل به فإذا لم يقتل بالأشدّ فهو أولى بأن لا يقتل بالأضعف.

لكن لا يخفى أن هذا التعليل ليس بتعليل حقيقيّ و إلّا فاللازم عدم قتله بأيّ فعل أتى به و أي موجب من موجبات القتل كالزنا في بعض الموارد و اللواط و قتل النفس المحترمة و ذلك لأن هذه الأمور أيضا ليست بأعظم من الكفر و الشرك فإنّ الشرك أعظم من كلّ معصية و هو لا يقتل به و الحال أن الكافر يقتل قودا أي إذا أقدم على قتل نفس محترمة، و كذا غيره من المعاصي الموجبة للقتل.

و منها أنه هل الملاك في الموضوع هو كونه ساحرا اتّخذ السحر شغلا و حرفة له أو أنه لا يعتبر كونه كصنعة له بل يكفي مطلق العمل بالسحر كما يظهر ذلك من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 278

عبارة المحقق؟.

الظاهر هو الثاني، و ذلك لوجهين:

أحدهما: التبادر فإنّ المتبادر من قوله صلوات اللّه عليه بأن الساحر يقتل هو أنه يقتل لسحره و لأجل فعله و عمله نظير القول بأن السارق تقطع يده المتبادر منه أنه تقطع يده لسرقته لا لاتّخاذ السرقة شغلا لنفسه و حرفة له و إن لم يقع منه سرقة.

ثانيهما: ذيل المعتبرة المذكورة آنفا و

هو قوله: لأن الشرك و السحر مقرونان فإنّه عبّر بالسحر الذي هو نفس العمل و لم يذكر الساحر كي يحتمل إرادة من اتّخذ السحر شغلا و حرفة لنفسه و هذه قرينة صارفة عن كون الساحر بما هو ساحر موضوعا للحكم بل السحر مقرون بالكفر و هو موجب للقتل و على هذا فيكفي مجرد العمل في ترتب الحكم، و الملاك هو الفعل و الإتيان به.

و أمّا ما في رواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: من تعلّم شيئا من السحر كان آخر عهده بربّه، و حدّه القتل إلّا أن يتوب. «1» من قتل متعلّم السحر.

ففيه إنّ الرواية ضعيفة و لم يعمل بها في ذلك. هذا مع إمكان حملها على ما إذا تعلّم فعمل به.

و منها: أنه قد ذكر أن ساحر الكفّار لا يقتل و قد صرّح المحقق بتعزيره إلّا أنه ليس في روايات الباب أثر و ذكر أصلا عن تعزيره و تأديبه كما أنا لم نجد ما يدلّ على أن كلّ من أتى بكبيرة لا حدّ لها في الشرع فإنّه يعزّر عليها.

نعم ذكر الأردبيلي قدس سره في شرح الإرشاد موارد كثيرة ورد فيها التعزير بصريح روايات شريفة ثم قال: و يمكن استفادة الكليّة من هذه الأخبار.

انتهى.

فإن قلنا باستفادة الكلّي منها فيحكم بأن الكافر إذا عمل بالسحر،

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من بقيّة الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 279

و المفروض أنه لا يقتل، فإنّه يعزّر على فعله. لكن هذا موقوف على الجزم باستفادة الكلية و إلا فيشكل الحكم.

و قد يقال: إنّ مقتضى رواية عليّ بن الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عز و جل جعل لكلّ شي ء حدّا و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه عزّ و جلّ حدّا. «1» هو وجوب تعزير الكافر بسحره حيث إنّه قد تجاوز الحدّ المقرّر و هو حرمة السحر، فأتى به و ارتكبه و حيث إنّه لا حدّ بالنسبة إلى الكافر فإنّه يعزّر.

و فيه ما ذكرناه من قبل من إجمال هذا الخبر، و ربّما يشمل قوله جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه حدّا، غير العقوبة أيضا كمن تعدّى في صلاته سهوا إذا لزم جبر ذلك بسجدة السهو أو قضاء الصلاة.

و منها: طريق ثبوته، و المعروف ثبوت ذلك بالبيّنة و بالإقرار.

و خالف في ذلك بعض فقال بانحصار ثبوته في الإقرار و أنه لا يثبت بشهادة الشاهدين.

و استدلّ على ذلك بأن الشاهد لا يعرف قصده و لا يشاهد تأثيره «2».

و يدلّ على الأوّل خبر زيد بن عليّ عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال:

سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساحر فقال: إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه «3». فإنّه صريح في ترتيب الأثر على شهادة العدلين بذلك و أنه يقتل الساحر بذلك.

و أمّا ما ذكره المخالف من الإشكال ففيه إنّه ليس عمل السحر بنحو لا يمكن مشاهدته بل قد يشاهد و لو بآثاره بحيث يقطع أن هذه الآثار مستندة إلى سحر الساحر و عمله الخفيّ بل و قد وقع في موارد كثيرة أنه قد علم تحقق السحر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من مقدمات الحدود ح 2.

(2) راجع مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني ج 2 ص 101 و الرياض ج 2 ص

487.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقيّة الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 280

و آثاره فيها و ذلك كما في قصة سحرة فرعون فقد شاهد موسى عليه السلام و الناس آثار سحرهم بحيث خاف موسى من ذلك قال اللّه تعالى «قٰالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسىٰ قُلْنٰا لٰا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلىٰ.» «1» إلى غير ذلك من الموارد و كثيرا، ترى أنه يشتهر بين الناس أن فلانا سحره فلان و أثّر فيه كذا و كذا.

و على الجملة فالسحر يثبت بشاهدين كما يثبت بالإقرار، و هل يعتبر فيه اثنان أو أنه يكتفى بإقرار واحد؟.

مقتضى دليل حجيّة الإقرار و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز هو الثاني.

و أمّا اعتبار التعدد تمسكا بالاحتياط فغير تام و ذلك لدوران الأمر بين المحذورين حيث إنّه كما يحتمل أن يكون أمر القتل موكولا إلى المرّة الثانية و موقوفا عليها كذلك يحتمل أن يكون مترتّبا على المرّة الأولى فلا يجوز تأخيره إلى الثانية خصوصا بلحاظ أنه ربّما ينكر في المرّة الثانية أو لا يساعد الأمور إقراره الثاني.

نعم لو كان الأمر بنحو حصل الشك فقاعدة الدرء جارية كما إذا لم يحصل الاطمئنان بمؤدّى كلامه بإقراره الأوّل فيقال له: ما ذا تقول؟ أو تدري ما تقول؟ فإذا أقرّ ثانيا فهناك يقتل و أمّا بدون ذلك فظاهر الدليل أخذه بالمرّة الأولى، و قد تقدم البحث في ذلك مرارا في نظائر المسألة.

و منها إنّه هل يفرق في الحكم بقتل الساحر بين ما إذا كان مستحلّا و غير مستحلّ أو أنه لا

فرق بينهما أصلا؟. الظاهر عدم الفرق بينهما فإنّ مقتضى الروايات هو قتله من حيث هو ساحر لا لكونه مستحلّا، و لا أثر عن ذكر المستحلّ في تلك الأخبار، إذا فلا وجه لاختصاصه به كما قيل [1].

______________________________

[1] أقول: ذكر الشهيد قدس سره في الدروس ص 327 بالنسبة للسحر: و يقتل مستحلّه.

______________________________

(1) سورة طه آيات 66 و 67 و 68.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 281

و منها أن تعلّم السحر إن كان للعمل فيحرم كشراء العنب ليعمل خمرا و يشرب و إن لم يكن لذلك بل كان لإبطال السحر فلا يحرم بل قد يجب كمن يتعلّم لإبطال سحر من يدّعي النبوّة.

المسألة الرابعة في تأديب الصبيّ

اشارة

قال المحقق: يكره أن يزاد في تأديب الصبيّ على عشرة أسواط و كذا المملوك.

هذه المسألة ممّا يكثر الابتلاء بها فيجدر أن يتأمّل فيها كثيرا و يلاحظ جوانبها كاملا.

فنقول: لا شك في أن الظلم و التعدّي حرام بلا كلام، و لا شك أيضا في أن ضرب الصبيّ غير المميز من مصاديق الظلم و لا يجوز ضربه عقلا سواء أ كان الضارب أباه أو غيره لأنه على الفرض غير مميز لا يعلم أن ضربه للتأديب أو لغير ذلك لعدم معرفة تلك العناوين و لا يترتب على ضربه إلّا أذاه فلا يجوز ذلك مطلقا. و كذا لا يجوز ضرب الصبيّ المميز، للغضب و تشفّي القلب.

و أمّا إذا كان ضربه للتأديب فهل يجوز ذلك أم لا؟ و على الأوّل فإلى أيّ مقدار يجوز؟ و على الجملة فضرب الطفل و كذا مقداره يحتاجان إلى مسوّغ شرعي و دليل يجوّز ذلك.

______________________________

و قال الفيض الكاشاني في المفاتيح ج 2 ص 102: قيل إنّما يقتل مستحلّه انتهى. و لم يعيّن القائل، و

الظاهر أن مراد صاحب الرّياض من الحاكي الذي هو من متأخري المتأخرين هو الفيض، قال في الرياض: ثمّ إن مقتضى إطلاق النص و الفتوى بقتله عدم الفرق فيه بين كونه مستحلّا له أم لا و به صرّح بعض الأصحاب و حكى آخر من متأخري المتأخرين قولا بتقييده بالأوّل. و وجهه غير واضح بعد إطلاق النصّ المنجبر ضعفه بعد الاستفاضة بفتوى الجماعة و عدم خلاف فيه بينهم أجده و لم أر حاكيا له غيره انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 282

و التحقيق أن ما يصدر منه الذي يحمل الوالد مثلا أو المعلّم على أن يعزّره و يؤدّبه قسمان:

أحدهما: ما كان من قبيل المعاصي التي لو أقدم عليها الكبير كان يحدّ عليها كاللّواط و غير ذلك.

ثانيهما: ما لا يكون كذلك كالأمور العرفيّة التي يعتني بها المجتمع الإنساني كالمواظبة على السّلام و الآداب الإنسانية و كرامتها، فيضربه على أنه لم يسلّم عند وروده في المجلس أو أنه لم يواظب على أداء احترام الأشخاص و تعظيم الأكابر.

أمّا الأوّل فيمكن إثبات جواز ذلك لما مرّ في أوائل بحث القذف من أنه لو قذف الصبيّ فإنّه لا يحد و لكنّه يعزّر، بأن يقال إنه لا اختصاص بباب القذف بل يجري ذلك في كلّ المعاصي و المحرمات فإنّه على ذلك يستفاد منه حكم كلّي و هو أنه كلّما ارتكب الصبي ما لو ارتكبه الكبير يحدّ عليه فهو يعزّر عليه.

و أمره في الزيادة و النقصان بيد من بيده التعزير فيختلف باختلاف عمله و حاله زيادة و نقصا شدّة و ضعفا.

و أمّا المورد الثاني فالظاهر فيه أيضا الجواز و ذلك لأن وظيفة الوالدين تأديب أولادهم و تربيتهم على الأخلاق الكريمة و الآداب

الحسنة، و تمرينهم و تعويدهم على كرائم العادات و فعل الحسنات و منعهم عن كلّ عمل يضرّ بأنفسهم و بغيرهم، و على وليّ الأطفال تكميل نفوسهم [1] و سوقهم إلى ما فيه

______________________________

[1] أقول: ففي نهج البلاغة: و أما حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه و يحسن أدبه و يعلّمه القرآن.

و في الصحيفة السجّادية: و أعنّي على تربيتهم و تأديبهم و برّهم.

و في رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: و أمّا حقّ ولدك فتعلم أنه منك و مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شرّه و أنك مسئول عما وليته من حسن الأدب و الدلالة على ربّه و المعونة له على طاعته فيك و في نفسه فمثاب على ذلك و معاقب على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 283

صلاحهم و سدادهم، و ضرب الأطفال لهذه المقاصد المهمّة و الأهداف العالية لا يعدّ ظلما و إنّما هو إحسان إليهم كي يسعدوا بها في حياتهم و يفوزوا بها بعد مماتهم فضرب الصبيّ حينئذ كالعملية الجراحية التي توجب الألم و لكنها إحسان إلى المريض [1].

هذا بالنسبة إلى المقام الأوّل و هو أصل جواز ضرب الصبيّ المميّز تأديبا.

و أمّا المقام الثاني و هو كميّة ضربه أي المقدار الذي يجوز ضرب الصبيّ به، فمقتضى ما ورد في باب التعزيرات من رعاية الحاكم المصلحة هو أن الأمر بنظر الوليّ فكلّما أوجب بنظره الإصلاحي و كان دون الحدّ فهو جائز له.

إلا أن في بعض الروايات ما يخالف ذلك فعن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام في أدب الصبيّ و المملوك فقال: خمسة أو ستّة و أرفق «1».

و عن السكوني عن أبي عبد

اللّه عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: أما إنّها حكومة و الجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب أقتصّ منه [2] و الكتّاب بالضمّ المكتب كما في الوافي ج 2 ص 75 من الحدود

______________________________

الإسائة إليه فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا إلخ راجع تحف العقول ص 189.

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ خير ما ورّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال. روضة الكافي.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: أدّب اليتيم بما تؤدّب به ولدك و اضربه بما تضرب به ولدك. وسائل الشيعة ج 15 ب 85 من أحكام الأولاد ج 1.

[1] مآل استدلاله دام ظلّه إلى قاعدة الإحسان و قوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) سورة التوبة الآية 91.

[2] وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 2 أقول: و في الفقيه ج 4 ص 72:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 284

و التعزيرات، و كذا قال في المنجد.

و ظاهر هاتين الروايتين و خصوصا الثانية منهما عدم جواز التعدّي عن المقدار المذكور في كلّ واحد منهما فإنّ الاقتصاص ظاهر في أنه كان الزائد محرّما، و الاقتصاص لا يساعد الكراهة.

هذا مضافا إلى أن منتهى الضرب في هاتين بالنسبة إلى الصبيّ بمقتضى الرواية الأولى هو السّتّة و بمقتضى الثانية ثلاثة و إن كانت الأولى مطلقة و الثانية مختصّة بالمعلّم، و كيف كان فلا ذكر عن العشرة فيهما.

نعم في مرسلة الصدوق قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله: لا يحلّ لوال يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلّا في حدّ و أذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة [1]. و هنا قد ذكرت العشرة إلّا أن الرّواية متعرّضة للوالي.

اللّهم إلا أن يقال إنّ المراد من الوالي هو والي الحدّ و من بيده أمره، أو بعدم الخصوصيّة له، و إن كان المراد من الوالي معناه المصطلح لكن بتنقيح المناط يقال بذلك في غيره. و لعلّ نظر المحقق من ذكر العشرة كان إلى هذه الرواية إلا أن التعبير ب لا يحلّ و كذا توصيف الوالي بالإيمان باللّه و اليوم الآخر الذي يفيد أن

______________________________

روي أنه دنا من أمير المؤمنين عليه السلام صبيّان فقالا: يا أمير المؤمنين خاير بيننا قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الجور في هذا كالجور في الأحكام أبلغا مؤدبكما عنّي أنه إن ضربكما فوق ثلاث كان ذلك قصاصا يوم القيامة. قوله: خاير أي اختر بينهما و أحكم أيّهما خير و المراد خير الخطّين.

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 2، أقول: و قد يستدلّ بصحيحة حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه قال: لا بأس أن يؤدب المحرم عبده ما بينه و بين عشرة أسواط.

قال بعض الأعاظم: و هذه الصحيفة و إن وردت في المحرم إلّا أنه إذا جاز للمحرم أن يضرب عبده عشرة أسواط جاز لغيره بالأولوية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 285

المتعدّي عن ذلك الحدّ و هذه الكميّة ليس بمؤمن باللّه و رسوله لا يساعدان القول بكراهة ما زاد عن العشرة مع أنه قدس سره صرّح بكراهيته.

هذا مضافا إلى أنه لا محصّل للقول

بكراهة ما زاد عليها لأنّه لو لم يتوقف تأديبه على أكثر منها فالزائد عليها حرام حيث إنّه ظلم و إيذاء كما تقدّم و هو حرام فهل هو مع كونه ظلما يكون مكروها؟ و إن توقف عليه فلا يجوز له تركها.

و الحاصل أن الكلام تارة في وليّ الطفل كالأب و أخرى في معلّمه.

أمّا الأوّل فيجوز له ضرب الصبيّ إذا توقف عليه تأديبه و تربيته، و ظاهر الأخبار أن الأمر بيده و لا حاجة في ذلك إلى استيذان من الحاكم، خلافا لسائر موارد التعزيرات، و قد تقدم منّا أنه لا يقتصر في ذلك على ما إذا صدر عن الصبيّ ما هو خلاف المشروع بل يجري فيه و فيما كان من الأمور الاجتماعيّة التي يراعيها أولياء الطفل- الذين كان الطفل تحت رعايتهم- بالنسبة إليه.

و أمّا كميّة ضربه ففي رواية حمّاد خمسة أو ستّة و يمكن استفادة غير ذلك كثلاثة مثلا من سائر الأخبار. و لعلّ هذا الاختلاف محمول على المناسبات المختلفة و الحالات و الظروف المتفاوتة المتكاثرة، و الملاك الكلّي هو ما يتوقف عليه تأديبه و تكميله مع مفروغيّة عدم جواز بلوغه الحدّ الشرعي.

نعم لا يجوز التعدّي عمّا يحصل به التأديب، كثيرا أو قليلا.

و أمّا الثاني أي المعلّم فمقتضى رواية السّكوني جواز ضربه الأطفال و الظاهر عدم الفرق في ذلك بين إتيان الطفل ما هو خلاف الشرع أو ما هو خلاف برامج المكتب و المناهج التعليميّة و التربويّة و الأنظمة الخاصة الحاكمة على محلّ التعليم، أو الطقوس المعمولة و الرائجة لترفيع الأطفال بالدرس و غير ذلك.

هذا مضافا إلى أن هذا الضرب كان لتكميلهم و تربيتهم فهو إحسان إليهم فيجوز كما في الوالد بالنسبة لولده. هذا بالنسبة إلى ضرب

المعلم الصبيّ الذي يتعلّم منه ولديه.

و أمّا كميّته فمقتضى رواية السكوني هو الاقتصار على ضربه ثلاثة فلا يجوز

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 286

له أن يتجاوز عن ذلك المقدار بل يقتصّ منه إذا تجاوز نظير ما ورد من الاقتصاص من الحدّاد، اي مجري الحدّ، إذا تعدّى عن الحدّ [1].

و على الجملة فليس المعلّم كالحاكم في كون التعزير بيده و منوطا بنظره بل يجب عليه أن لا يتعدّى عن ذلك، و ذلك لقرينة الاقتصاص المذكور في الرواية.

و هل هو مستقلّ في تأديبه بهذا المقدار أم لا بل يحتاج إلى إذن الوليّ؟.

أقول: الظاهر عدم استقلاله في ذلك بل هو محتاج إلى إذن الوليّ فإنّ قصده و إن كان إصلاحيّا نظرا إلى أنه يريد ترفيع مقامه بأخذ الدروس و تعلّمها و صيرورته فطنا ماهرا في العلم و الثقافة لكن ربما لم يكن لأبيه هذا الاهتمام و هو لا يريد صيرورة ولده عالما نحريرا و لا يرضى لابنه أن يضرب و إن لم يتعلّم شيئا فلو نهاه والده عن ضربه مثلا و علم بعدم رضاه فهناك يشكل الإقدام على ضربه و لو بالمقدار المزبور و هو خلاف الاحتياط إلّا أن يستأذن وليّه و هو قد أذن في ذلك. اللهم إلّا أن يقال بأن تسليم الوليّ الطفل إلى الكتّاب أو المدرسة مع ما هو كالسيرة الدائرة الرائجة هناك من ضربهم الأطفال في بعض الموارد بل و توقف التعليم و التربية في بعض الأحايين على ذلك من قبيل إذن الوليّ في ضرب الطفل و هو كإمضاء لتلك السيرة المستمرة، و على ذلك فلو صرّح الأب بأن هذا الطفل لا يستعدّ بحسب حاله للضرب أو نهاه عن ضربه فلا

يجوز له ضربه.

و يمكن التفصيل بين ما إذا كان ضربه الطفل لمكان أنه قد فعل ما هو من قبيل المعاصي و المحرّمات و بين ما إذا أتى بما لا يساعد الأنظمة و البرامج الجارية هناك و كان ضربه لتعليمه و قراءته و كتابته و ما يتعلق بهذه الأمور أو لتأديبه فعلى الأوّل يكون له الإقدام على ضربه استقلالا بخلاف الثاني فإنّه يعتبر فيه إذن

______________________________

[1] ففي الكافي ج 7 ص 260 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبر أن يضرب رجلا حدّا فغلظ قنبر فزاد ثلاثة أسواط فأقاده عليّ عليه السلام من قنبر ثلاثة أسواط.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 287

الوليّ.

ثمّ إنّ الظاهر من ثلاثة ضربات هو ضربه بالسوط لكن الظاهر عدم الخصوصيّة له بل الملاك هو كلّ ما كان دائرا و رائجا في كلّ عصر و زمان فإذا لم يكن السوط رائجا بل كان المتعارف هو الضرب بالخشب أو باليد فالحكم أيضا كذلك و ذلك لتنقيح المناط و وحدة الملاك. هذا كله بالنسبة إلى الصبيّ.

و أمّا المملوك ففي رواية حمّاد المذكورة آنفا: خمسة أو ستة، و الأمر بالرفق كالصبيّ بعينه بل هو كما علمت مقرون بذكر الصبيّ.

و في رواية زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في ضرب المملوك؟ قال: ما أتى فيه على يديه فلا شي ء عليه و أمّا ما عصاك فيه فلا بأس. قلت: كم أضر به؟ قال: ثلاثة أو أربعة أو خمسة «1».

و عن أبي هارون العبدي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال لبعض غلمانه في شي ء جرى: لو انتهيت و إلّا ضربتك ضرب الحمار «2».

و

عن تفسير النعماني عن عليّ عليه السلام قال في حديث: و أمّا الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإنّ اللّه تعالى رخّص أن يعاقب العبد على ظلمه فقال اللّه تعالى: جزاء سيّئة مثلها، و هذا هو فيه بالخيار فإن شاء عفا و إن شاء عاقب «3».

و عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ربّما ضربت الغلام في بعض ما يجرم قال: و كم تضربه؟ قلت: ربما ضربته مأة، فقال: مأة؟

مأة؟ فأعاد ذلك مرّتين ثم قال: حدّ الزنا؟ اتّق اللّه فقلت: جعلت فداك فكم لي أن أضربه؟ فقال: واحدا فقلت: و اللّه لو علم أني لا أضربه إلّا واحدا ما ترك لي شيئا إلّا أفسده قال: فاثنين فقلت: هذا هو هلاكي، قال: فلم أزل أماكسه حتى بلغ خمسة ثم غضب فقال: يا إسحاق إن كنت تدري حدّ ما أجرم فأقم الحدّ فيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقيّة الحدود ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقيّة الحدود ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 288

و لا تعد حدود اللّه «1».

و عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال:

اضرب خادمك في معصية اللّه عز و جل و اعف عنه فيما يأتي إليك «2».

و عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه؟ قال: يضربه على قدر ذنبه إن زنى جلده و إن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه السوط و

السوطين و شبهه و لا يفرط في العقوبة «3».

و عن أحمد بن محمد في مسائل إسماعيل بن عيسى عن الأخير عليه السلام في مملوك يعصي صاحبه أ يحلّ ضربه أم لا؟ فقال: لا يحلّ أن يضربه إن وافقك فأمسكه و إلّا خلّ عنه [1].

و أنت ترى أنه ليس في هذه الروايات ذكر عن العشرة إلّا في مرسل الفقيه المذكور آنفا الوارد في الوالي. و قد تقدم أنه يمكن التمسّك به بالقول بإرادة والي الحدّ أو بتنقيح المناط و كيف كان فالحكم بكراهة الأزيد الذي ذكره المحقق غير واضح الوجه فإنّ الظاهر أن الأمر يدور بين عدم جواز الزيادة إذا حصل التأديب بها و عدم جواز الترك إذا توقف على الزيادة.

قال صاحب الجواهر في حلّ الإشكال: فلا بدّ من حمل ذلك على حال عدم العلم بالحال. انتهى.

و لكن الظاهر أنه ليس بتام لأنه في فرض عدم العلم بالحال، و عند الشك يحرم الضرب و يحتاج ذلك إلى المسوّغ اليقيني. نعم يمكن أن يحمل الجواز على

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2 و قوله: عن الأخير، قال في مرآة العقول: كأنه أبو الحسن الثالث عليه السلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدّمات الحدود ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 289

وجه الكراهة على أقليّة الثواب فإنّ الواجب التوصّلي أيضا لو أتي به بقصد القربة يترتب عليه الثواب فتربية الطفل موجبة للأجر و الثواب و كلّ واحد من الأقلّ و الأكثر من

مراحل التربية و لكن الإكتفاء بالأقلّ أولى.

كفارة من ضرب عبده فوق حدّه

قال المحقق: و قيل إن ضرب عبده في غير حدّ حدّا لزمه إعتاقه و هو على الاستحباب.

أقول: و القائل هو الشيخ في النهاية. قال في الجواهر: و لفظه: من ضرب عبده فوق الحدّ كان كفّارته أن يعتقه انتهى.

و فيه أنه ليس هذا لفظ النهاية بل نصّه هذا: و الصبيّ. و المملوك إذا أخطئا أدّبا بخمس ضربات إلى ستّ و لا يزاد على ذلك فإن ضرب إنسان عبده بما هو حدّ كان عليه أن يعتقه كفارة لفعله انتهى «1». ترى أنه ليس في عبارة النهاية لفظة (فوق) و لعلّ النسخة الموجودة عند صاحب الجواهر منه كانت متضمنة لها أو أن ذلك كان قد زيد في قلمه أو قلم النسّاخ.

و كيف كان فالدليل عليه هو صحيح أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: من ضرب مملوكا حدّا من الحدود من غير حدّ أوجبه المملوك على نفسه لم يكن لضاربه كفّارة إلّا عتقه «2».

لكن لسان هذا الخبز غير ما قالوه، فإنّه متعلّق بما إذا ضرب المملوك حدّا من دون سبب و بلا موجب للحدّ و هو بمعزل عن كلامهم إلّا أنه غير معمول به عند الأصحاب فلم يعملوا بهذا الخبز و لا بالمضمون المذكور و لذا قال في الجواهر:

فيتّجه حينئذ حمله على الندب.

______________________________

(1) النهاية ص 732.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 290

و فيه أن عتق العبد مستحبّ و إن لم يكن هذه الجهة، اللّهم إلّا أن يراد بالندب آكديّته و زائدا على طبعه.

و في المختصر النافع أن الاستحباب المزبور لمن زاد في تأديبه على العشرة.

قال: يكره

أن يزاد في تأديب الصبيّ من عشرة أسواط، و كذا العبد، و لو فعل استحبّ عتقه.

و أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن لم أجد له شاهدا بل و لا موافقا انتهى.

و أمّا ما أورده صاحب الجواهر على الشيخ بعد ذكر صحيح أبي بصير مستندا للمطلب بقوله: إلّا أنه كما ترى لم يعتبر فوق الحدّ الذي ذكره الشيخ.

ففيه أنه غير وارد على الشيخ إلّا على ما حكاه من عبارته المشتملة على لفظة (فوق) و أمّا على ما نقلناه فلم يكن فيها هذه اللفظة كي يستشكل عليه بما ذكره الجواهر.

ثم قال: و الظاهر أن الاستحباب المزبور للمولى، و ربّما احتمل استحبابه أيضا لغيره بأن يشتريه و يعتقه لكنه ليس بشي ء انتهى.

أقول: و الظاهر أن مراد المحتمل من استحبابه لغيره هو أنه لو ضربه آخر لا مولاه فإنّه يستحبّ لهذا الغير أن يشتريه و يعتقه. و أمّا احتمال أن يراد منه أنه لو ضربه مولاه يستحبّ للغير أن يشتريه و يعتقه، فهو بعيد بل هو خلاف ظاهر نفس الرواية حيث تقول: لم يكن لضاربه كفّارة إلّا عتقه، و من المعلوم أنه لا معنى لارتكاب المولى الجرم و أداء غيره الكفارة، و لا مناسبة بين كون كفارة ضرب المالك على غير المالك، بخلاف الاحتمال الأول الذي عليه يكون الكفارة على من ارتكب الضرب غاية الأمر إسراء الحكم عليه عن المولى إلى غيره و ربّما يكون هذا ظاهر لفظ الرواية حيث عبّر فيها بقوله عليه السلام: من ضرب مملوكا، و هو نكرة في سياق النفي و لم يقل من ضرب مملوكه، كي يختصّ بضرب المولى عبده.

و إن أمكن أن يقال إنّ الظاهر بحسب الاعتبار و التبادر الذهني هو ضرب

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 291

المولى عبده. هذا تمام الكلام في هذا المقام.

تذكرة فقهيّة أخلاقية

ثم إنّه لا بدّ من أن يكون المقصود و الهدف في مقام الضرب هو التأديب الراجع إلى مصلحة الصبيّ لا ما يثيره الغضب النفساني و إلّا فربّما يؤل الأمر إلى أن يؤدب المؤدّب لأن ضربه لم يكن للّه تبارك و تعالى. و على هذا فلا بدّ من أن يكون ضربه في الحال الطبيعي العادي لا حال الغضب و لو كان مغضبا يكون غضبه للّه تعالى لا لنفسه حتى يسوغ ضربه و هذه الحالة قلّما توجد إلّا في النفوس الزكية الطاهرة.

و قد ورد في حالات أمير المؤمنين عليه السلام إنّه ألقى عدوّه على الأرض و جلس على صدره و لمّا أراد أن يقطع رأسه فإذا هو قد ألقى بصاقه عليه فقام الإمام و تركه قليلا ثمّ رجع و قتله و حيث سئل عن إعراضه الأوّل ثم رجوعه إلى العدوّ أجاب بأني غضبت في تلك الوقت لما صنع العدوّ بالنسبة إليّ فلم أقتله في هذه الحالة لثوران نار الغضب فتركته كي يسكن غضبي ثم أتيته و قتلته كي يكون عملي خالصا للّه تبارك و تعالى لا ناشئا عن الأهواء النفسانية و إشباعا لها «1».

لكن أين هو عنّا و أيّ إنسان يملك نفسه و هواه عند غضبه، و يقدر على إطفاء نائرة غيضه، و الإقدام على الضرب للّه تعالى محضا و خالصا لوجهه الكريم إلّا أنه لو حصل للإنسان هذا المقام فله الأثر الخاص في كمال النفس و تهذيبه و هو منشأ سعادته في الدنيا و الآخرة.

______________________________

(1) عين الحياة للعلّامة المجلسي قدس سره ص 587.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 292

المسألة الخامسة في ثبوت ما فيه التعزير بشاهدين أو الإقرار مرّتين

اشارة

قال المحقق قدس سرّه: كلّ ما فيه التعزير من حقوق اللّه سبحانه و تعالى يثبت بشاهدين أو الإقرار مرّتين على قول.

أقول: هنا بحثان: أحدهما إنّ ما كان فيه التعزير من حقوق اللّه يثبت بشاهدين. قال الشهيد الثاني في المسالك: أمّا ثبوته بشاهدين فلا إشكال فيه لأن ذلك حقّ ليس بمال فلا يثبت. انتهى.

و في الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال.

و قد يقرر ذلك بأنه ليس من قبيل الزنا كي يحتاج إلى أربعة شهود و لا من قبيل حقوق الناس الذي يمكن أن يقال بكفاية شاهد و يمين فيها فلا بدّ هنا من شاهدين إذا أريد الإثبات بالبيّنة.

ثانيهما: إنّه يثبت بالإقرار و قد نسب في عبارة المتن اعتبار التعدّد إلى القول، و لم يعيّن القائل و هو مشعر بالضعف، و لا يخفى أن القائل بالقول المزبور هو ابن إدريس رضوان اللّه عليه و بعض آخر، بل في المسالك: هو المشهور و لم يذكر العلّامة فيه خلافا.

و ذهب الآخرون إلى كفاية الإقرار مرّة واحدة في إثبات المطلب و ترتب الأحكام. و ذلك بمقتضى قولهم عليهم السلام: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز و صدق الإقرار بالمرّة الواحدة المقتضي للاكتفاء بها مع عدم مخصّص في المقام.

و قد تقدم أن توجيه القول الأوّل بأن يقال بحصول الشبهة بالمرة الواحدة و هو يقتضي الدرء و عدم الإكتفاء في التعزير بمرّة واحدة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 293

تعزير من قذف عبده أو أمته

قال المحقق: و من قذف عبده أو أمته عزّر كالأجنبيّ.

أقول: لمّا كان الشرط في حدّ القاذف هو كون المقذوف حرّا فإذا كان مملوكا كان القاذف يعزّر على ذلك بدلا عن الحدّ فحينئذ نبّه قدس سره على أنه لا فرق في ذلك بين

كون القاذف هو المولى أو غيره و أن مجرد كونه مولى أو مولاة له لا يوجب رفع التعزير.

و في الجواهر بعد عبارة المتن: بلا خلاف لحرمته إلخ.

و يدلّ على ذلك الروايات الشريفة عموما و خصوصا.

أمّا الأوّل فمنها رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه إلّا خيرا لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلّا سوطا «1».

و منها خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من افترى على مملوك عزّر لحرمة الإسلام «2».

و من المعلوم أن لفظ (رجل) في الأولى و كذا من الموصولة في الثانية مطلق يشمل المولى و غير المولى. و قوله عليه السلام في الأولى: إلّا سوطا، للإشارة إلى التعزير فإنّه دون الحدّ.

و أمّا الثاني فهو خبر غياث عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه إنّي قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا. فقال: أما إنّها ستقاد منك يوم القيامة، فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطا ثم قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقها ثم أتت إلى

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف، ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ القذف، ح 12.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 294

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به «1».

و ما يتوهّم من اشتمالها على خلاف القاعدة من إرجاع التعزير إلى غير الحاكم، ففيه أن التعزير لم يقع و إنّما كان مجرد قول من هذه المرأة و لم يعلم تقرير النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم لها في ذلك. و يحتمل أيضا أنه كان من باب التعزير و احتملنا عفو صاحب الحق بلحاظ أنه من حقوق الناس.

و كيف كان فهي تدلّ قطعا على أن هذه المرأة قد ارتكبت معصية عظيمة بحيث هددها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه ستقاد منك يوم القيامة، فلا بدّ أن يكون عليها التعزير مع أن المفروض أن الرمي بالزنا كان من سيدة إلى أمتها.

نعم يبقى الإشكال في أنه لماذا لم يعزرها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟.

و قد أجاب عنه في الجواهر بقوله: و لعلّ ترك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تعزيرها لعدم إقرارها مرّتين. انتهى.

المسألة السادسة في مورد التعزير [1]

قال المحقق: كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ و تقديره إلى الإمام و لا يبلغ به حدّ الحرّ في الحرّ و لا حدّ العبد في العبد.

و هنا أمور:

أحدها: إنّه لا شك في أن هذا الحكم مختصّ بالمعاصي التي لم يكن عليها حدّ مجعول و عقوبة مقررة معينة من الشارع و ذلك لأنه لم يعهد في مورد أن يعاقب أحد على ذنب واحد له حدّ بالحد و التعزير كليهما.

ثانيها: إنّ المحقق أطلق و عمم الحكم لكلّ معصية لكن صاحب الجواهر قيّد

______________________________

[1] أقول: قد تعرّض دام ظله لهذا البحث سابقا، على التفصيل، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ القذف، ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 295

ذلك بكونها من الكبائر. و لعلّ الظاهر هو هذا فإنّ الصغائر مكفّرة مع الاجتناب عن الكبائر بصريح الكتاب كما قال اللّه تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً».

لا يقال: إنّ التكفير متعلّق بالآثار الأخروية كالعقاب و العذاب و هو بمعزل عن التعزير.

لأنا نقول: لا خصوصية لعقاب الآخرة، بل التعزير أيضا نوع عقوبة فيرتفع هذا الأثر كما يرتفع عذاب اللّه في الآخرة و في رواية زرارة عن حمران قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أقيم عليه الحدّ في الدنيا أ يعاقب في الآخرة؟ فقال: اللّه أكرم من ذلك «1». فبصريح الرواية إنّ اللّه تعالى أجل و أكرم من أن يعاقب في الآخرة من أقيم عليه الحدّ في الدنيا «2».

ثالثها إنّ صاحب الجواهر ادّعى عدم الخلاف و الإشكال نصا و فتوى على المطلب أي الحكم بالتعزير. و فيه أنه لو أمكن تصديقه في الثاني أي عدم الخلاف و الإشكال بحسب الفتوى فلا يمكن تصديقه في الأوّل أي عدم الخلاف و الإشكال بحسب النصّ و ذلك لما تقدم منّا غير مرّة أن استفادة المطلب من النصوص مشكل و سيأتي البحث فيه أيضا إن شاء اللّه تعالى.

رابعها في الدليل على ذلك و طريق إثباته، و هو وجوه:

منها التمسّك بالاستقراء و فحص الموارد الجزئية و الحكم بالكلّي و قد تمسّك بذلك المحقق الأردبيلي قدس سره على ما تقدم سابقا [1] و قد مضى الإشكال في

______________________________

[1] فإنّه (عند قول العلّامة: و كلّ تعريض بما يكرهه المواجه يوجب التعزير) تعرّض للبحث و صرّح بأن الدليل على الكليّة لا يكاد يوجد ما يكون نصّا فيه نعم قد يوجد في الأخبار ما يمكن فهمه منها و قدر بعضها، ثم نقل تلك الأخبار ثم قال في آخر الصفحة: فيمكن استفادة الكليّة من هذه الأخبار.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 31.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب

مقدّمات الحدود ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 296

ذلك فإنّ بعض الذنوب و المعاصي ربما صدر عن بعض الأفراد و لم يقع من المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين بالنسبة إليهم تعزير و لا صدر منهم عليهم السلام أمر بذلك. و إن أمكن أن يقال بكونها صغيرة في تلك الموارد.

و لكن الظاهر خلافه للعلم بأنه قد وقع بعض الكبائر و لم يحكموا عليه بالتعزير.

و منها ما تمسّك به بعض من الروايات الدالة على أن لكلّ شي ء حدّا و لمن تجاوز ذلك الحد حدّا و هي عدة روايات أخرجها في الوسائل في باب 2 من أبواب مقدّمات الحدود.

و فيه ما مرّ سابقا من إجمال تلك الروايات من جهات فلا يعلم أن المراد كلّ الأشياء حقيقة بلا استثناء أو أنه أشياء خاصة، كما لا يعلم أن المراد من حدّ كلّ شي ء ما هو؟ و كذلك لا يعلم المراد من الحدّ الذي جعله على من تجاوز الحدّ.

نعم لو جزم أحد بأن المراد إنّ اللّه تعالى جعل للأشياء أحكاما و مقررات و قرر على من تجاوز عنها حدّا و كان المراد من الحدّ الثاني ما يشمل التعزير لكان حسنا و لكن الكلام في استفادة ذلك.

قال في الجواهر في البحث عن شمول التعزير للتوبيخ مثلا: قد يستفاد التعميم مما دلّ على أن لكلّ شي ء حدّا و لمن تجاوز الحدّ حدّا بناءا على أن المراد من الحدّ فيه التعزير انتهى. و مراده إنّه بناءا على ذلك يمكن أن يقال بعدم اختصاص التعزير بالضرب بل التوبيخ و التعنيف أيضا من مراحل التعزير.

و فيه إنّ مجرد البناء لا ينفع شيئا و النزاع في ظهور هذه الروايات و عدمه و هو غير

ثابت [1].

______________________________

و قد تعرّض رحمه اللّه للبحث ثانيا بنحو الإجمال بعد ورقتين من هذا عند قول العلّامة أعلى اللّه مقامه: و كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا عزّره الإمام انتهى.

[1] أقول: و قد يتمسّك بحفظ النظام و تقريره كما تقدم أن الإسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي و المعنوي و إجراء الأحكام على مجاريها و هذا يقتضي أن يعزر الحاكم كلّ من خالف النظام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 297

و الحاصل إنّه لا دليل لنا تطمئن إليه النفس في الحكم بوجوب التعزير في كلّ معصية بل و لا في خصوص الكبائر منها.

خامسها إنّ التعزير يكون بما دون الحدّ و ذلك لصريح الرواية ففي صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: كم التعزير؟ فقال: دون الحدّ قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا و لكن دون أربعين فإنّها حدّ المملوك.

قال: قلت: و كم ذاك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه «1».

فهذا لا كلام فيه و إنّما البحث و الإشكال في المراد من هذا الحدّ الذي يكون التعزير دونه، و لا بدّ من تعيين ذاك الحدّ حتى يعتبر التعزير إليه و يحكم بوجوب كون التعزير دونه و أقلّ منه. و ها هنا وجوه و احتمالات:

فمنها أنه هو الحدّ الكامل و هو حدّ الزنا أي المائة جلدة.

و منها أقلّ الحدود و هو الخمسة و السبعون، حدّ القيادة فإنّه أقلّ جميع الحدود بالنسبة إلى الأحرار.

و منها أن يكون المراد الأربعين فإنّه أقلّ الحدود الذي ليس دونه حدّ و هو حدّ العبد فيعتبر في التعزير أن لا يبلغ الأربعين و إن كان التعزير تعزير الأحرار [1].

و

منها أن المراد هو الحدّ المناسب للعمل الذي يريد التعزير عليه فالمعيار في ما ناسب الزنا كالتفخيذ و اللمس و الاضطجاع مع الأجنبية هو الزنا، فيجب أن لا يبلغ حدّه و هو مأة، و في ما ناسب القذف كالتعريض يعتبر أن يكون دون حدّ القذف و هو ثمانون و في ما ناسب شرب الخمر يشترط أن يكون أقلّ من حدّه و هو أيضا الثمانون و في ما يناسب القيادة لا بدّ أن لا يبلغ حدها و هو خمس

______________________________

[1] و في الرياض: لا ريب أن الاقتصار عليه أحوط و أولى و إن لم أجد به قائلًا انتهى بل هو مختار الشيخ قدس سره في المبسوط كتاب الحدود ص 66 فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقيّة الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 298

و سبعون.

و هذه الوجوه المختلفة كلّها بحسب الاستظهار و إلّا فلم يصرّح في الروايات بشي ء منها سوى الوجه الثاني فإنّه مذكور في رواية حمّاد بن عثمان المذكور آنفا حيث قال الإمام في بيان التعزير: دون الحد. و لمّا سأل الراوي قائلًا: دون ثمانين؟ أجاب عليه السلام: لا و لكن دون أربعين، و علّل ذلك بقوله عليه السلام: فإنّها حدّ المملوك. فمقتضى هذه الرواية أن الملاك هو ما دون الأربعين و يعتبر التعزير بالنسبة إليه فأيّ معصية وقعت من المجرم و أريد تعزيره فإنّه لا يجوز أن يبلغ الأربعين.

و لكنّ الالتزام بذلك مشكل و ذلك لاستفادة لزوم مراعاة المناسبة من الأخبار الواردة في الرجل و المرأة الذين يوجدان تحت إزار واحد و في لحاف واحد المصرّحة بأنّهما يجلدان مأة إلّا سوطا كصحيحة حريز و رواية الشّحّام و

خبر أبان فراجع الباب العاشر من أبواب حدّ الزنا ح 3 و 19 و 20 و لذا أفتى بذلك المحقق قدس سره في جميع مناسبات الزنا كالتقبيل و المضاجعة في إزار واحد و المعانقة و نحو ذلك مما هو استمتاع بما دون الفرج فإذا رأينا ملاحظة المناسبة في هذه الأخبار بالنسبة إلى العمل المناسب للزنا فنقول بذلك في غير باب الزنا أيضا و النتيجة أنه إذا كان العمل مناسبا للقذف فهناك نقول بوجوب تعزيره في ما دون الثمانين بما يراه الحاكم و هكذا و يقتصر في العمل برواية حمّاد المذكور آنفا على موردها [1].

و على الجملة فإنّه يلاحظ في تعزير كلّ معصية الحدّ المجعول للمعصية المناسبة لها.

قال في المسالك: و كون غايته أن لا يبلغ به الحدّ، الأجود أن المراد به الحدّ لصنف تلك المعصية بحسب حال فاعلها فإن كان الموجب كلاما دون القذف لم

______________________________

[1] أقول: و ما هو موردها بعد أن السؤال عن التعزير مطلقا؟ و هل الذي أفاده سيدنا الأستاذ الأفخم دام ظلّه العالي إلّا طرح هذه الصحيحة؟.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 299

يبلغ تعزيره حدّ القذف و إن كان فعلا دون الزنا لم يبلغ حدّ الزنا و إلى ذلك أشار الشيخ و العلّامة في المختلف انتهى.

و أمّا جعل الملاك هو حدّ الزنا مطلقا و في جميع الموارد فإن كان حرا يعزّر بما دون المائة و إن كان عبدا فبما دون الخمسين الذي هو حدّ العبد، فهو بعيد. و كيف يمكن أن يقال بأن من قذف مثلا يحدّ ثمانين و لكن لو عرّض فإنّه يجوز تعزيره إلى تسع و تسعين مع أن التعريض أقلّ و أهون من القذف؟! [1].

و على

هذا فالقول بمراعاة المناسب هو الأولى [2].

ثم إنّه قال في كشف اللثام عند قول العلّامة: (و كلّ من فعل محرّما أو ترك واجبا كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ لكن بما يراه الإمام و لا يبلغ حدّ الحرّ في

______________________________

[1] أقول: لو استفدنا من الأخبار أن الملاك هو حدّ الزنا مطلقا فلا استبعاد فيما ذكره دام ظلّه نقضا عليه و ذلك لابتناء الفقه على التعبد و جمع المفترقات و تفريق المجتمعات و أنت ترى أن صاحب الجواهر اختار ذلك بحسب ظاهر كلامه حيث قال في تفسير حدّ الحرّ الوارد في كلام المحقق و هو المائة انتهى و هذا هو الذي ذهب إليه ابن إدريس مصرّحا بأنه مقتضى أصول المذهب و الأخبار عند إيراده على الشيخ.

فإنّ الشيخ قال في الخلاف في باب الأشربة مسألة 14: لا يبلغ بالتعزير حدّا كاملا بل يكون دونه، و أدنى الحدود في المماليك أربعون و التعزير فيهم تسعة و ثلاثون إلخ. و قد نزّله ابن إدريس في السرائر في أواخر حدّ السحق على أنه إذا كان الموجب للتعزير مما يناسب الزنا و نحوه مما يوجب مأة جلدة فالتعزير فيه دون المائة و إن كان مما يناسب شرب الخمر أو القذف مما يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين ثم اعترض ابن إدريس عليه بقوله: و الذي يقتضيه أصول مذهبنا و أخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحدّ الكامل الذي هو المائة أيّ تعزير كان سواء كان مما يناسب الزنا أو القذف و إنّما هذا الذي لوّح به شيخنا من أقوال المخالفين و فرع من فروع بعضهم و من اجتهاداتهم و قياساتهم الباطلة و ظنونهم العاطلة انتهى.

[2] أقول: ذهب إليه الشيخ و الحلبي،

قال في الكافي ص 420: و التعزير لما يناسب القذف من التعريض و النبز و التلقّب من ثلاثة أسواط إلى تسعة و سبعين سوطا و لما عدا ذلك من ثلاثة إلى تسعة و تسعين سوطا انتهى و اختاره في المسالك كما اختاره العلّامة في المختلف.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 300

الحرّ و لا حدّ العبد في العبد انتهى) موضحا قوله: ما لا يبلغ الحدّ إلخ. بقوله: (و لا حدّ العبد في العبد): ففي الحرّ من سوط إلى تسعة و تسعين و في العبد من سوط إلى تسعة و أربعين كما في التحرير، و قد مرّ القول بأنه يجب أن لا يبلغ أقل الحدّ و هو في الحرّ ثمانون و في العبد أربعون و بأن التعزير فيما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ حدّه و فيما ناسب القذف و الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه، و سمعت بعض الأخبار في ذلك، و ما ورد فيه تقدير كالوطي في الحيض و في الصوم و وطي أمة يتزوّجها بدون إذن الزوجة الحرّة فالأشبه أنه إن عمل بالنصوص المقدّرة فيها فهي حدود.

ثم قال: ثم وجوب التعزير في كلّ محرّم من فعل أو ترك إن لم ينته بالنهي و التوبيخ و نحوهما فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر و أمّا إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل عليه إلّا في مواضع مخصوصة ورد النصّ فيها بالتأديب أو التعزير، و يمكن تعميم التعزير في كلامه و كلام غيره لما دون الضرب من مراتب الإنكار انتهى.

أقول: قوله: فهو ظاهر انتهى يعني ظاهرا أنه يجب تعزيره لأنه لا ينتهي بالنهي و التوبيخ لأنه يجب إنكار المنكر و أمّا إن انتهى بما دون

الضرب فلا دليل على وجوب التعزير إلّا في الموارد المنصوصة.

و فيه أوّلا إنّ أدلّة التعزير مطلقة لا تختصّ بما إذا لم ينته بدون الضرب فإنّها تفيد أن عليه ذلك سواء أمكن انتهاؤه بالتوبيخ و التعنيف أم لا؟.

و ثانيا إنّ البحث في التعزيرات بمعزل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لكلّ واحد منهما موضع خاص فالنهي عن المنكر يتعلّق بما قبل العمل و عند إرادة الإتيان به فينهى من كان بصدد الارتكاب عنه و ينكر عليه و هذا بخلاف التعزير فإنّه بعد وقوع العمل و تحقّقه، فهو بعينه كالحدّ الذي يعاقب الفاعل بعد عمله به.

نعم قد يترتب عليه الأثر بالنسبة إلى القابل فلا يأتي به بعد ذلك أبدا إلّا أنه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 301

ليس كليّا و ترى أنه قد لا يؤثّر بالنسبة إلى ما بعد ذلك أصلا بل يأتي به و يرتكبه بعده أيضا و لذا يكرر تعزيره، و في بعض الأوقات ينجرّ إلى قتله- فتأمّل.

و على الجملة فقولهم: كلّ من فعل محرّما يعزّر يراد به تعذيبه و عقوبته على عمله بعد أن صدر عنه و تحقق منه و أين هذا من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الذي هو مقدمة لترك المعصية و ذريعة إلى أن لا يأتي بها.

و بعبارة أخرى: إنّ التعزير جزاء و عقوبة للعمل القبيح سواء ارتكبه مسبوقا بالنهي عنه أم لا.

و كلامه هذا يؤل إلى أنه لا تعزير في غير الموارد المنصوصة فإنّه في غيرها إن انتهى بالقول الغليظ و التعنيف و التوبيخ فلا يجوز الضرب و إن لم ينته بدون ذلك فإنّه يضرب لكنّ الضرب بنفسه من مراحل الأمر بالمعروف و النهي عن

المنكر.

نعم إنّه قد تعرّض في آخر كلامه لأمر آخر و هو إمكان تعميم عنوان التعزير بالنسبة للضرب و غيره من الشتم و التوبيخ مثلا.

لكن هذا لا يرفع الإشكال لأن هذا شي ء و أن التعزير غير الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لكلّ منهما مورد و محلّ غير الآخر، شي ء آخر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 302

حدّ المسكر و الفقاع

اشارة

أقول: إنّ المسكر هو ما يسمّى في الفارسية ب (مست كننده) و لم يتعرّض المحقق و كثير من المتقدمين و المتأخرين لتعريف المسكر الذي هو محل الكلام و البحث.

نعم قد تعرّض صاحب الجواهر لذلك قائلًا: الذي يرجع فيه إلى العرف كغيره من الألفاظ. و قد تخلّص في الحقيقة عن ذلك بأن المراد منه هو ما يفهمه العرف أنه مسكر. ثم قال: و إن قيل هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم و ظهور السرّ المكتوم، أو ما يغيّر العقل و يحصل معه سرور و قوّة النفس في غالب المتناولين، أمّا ما يغيّر العقل لا غير فهو المرقد إن حصل معه تغيب الحواسّ الخمس و إلّا فهو المفسد للعقل كما في البنج و الشوكران، و لكن التحقيق ما عرفته فإنّه الفارق بينه و بين المرقد و المخدّر و نحوهما مما لا يعدّ مسكرا عرفا انتهى.

و عليه فقد عرّفه بعض بما حاصله: هو ما يحصل بسببه اختلال في نظم الكلام و نسقه و ترتيبه، و يظهر به ما لا يظهره العقلاء من الأسرار، فالسكران يتفوّه بكلمات و جملات مخلّة النظام و غير المرتبط بعضها مع بعض و بذلك يعرف السامعون أن المتكلّم سكران كما أنه قد يقدم على ذكر الأسرار المكنونة و إبداء ما يهتمّ العقلاء بإخفائه و

عدم ذكره و يعتنون بكتمانه بحيث يعلم من ذكر تلك الأمور أنه ليس في حال طبيعي و إلّا لم يكن كذلك.

و هو عند بعض آخر ما يغيّر العقل و يحدث سرورا و نشاطا و قوّة في النفس غالبا، و ترى أن من شرب الخمر مثلا فهو كالحيوان الذي انحلّ عقاله لا يتحرّك على ميزان صحيح و لا يسير على منهاج معقول فقد تغيّر عقله و ترى له نشاطا و سرورا كاذبا محسوسا و قوّة في نفسه بحيث ربما اجتمع اثنان أو ثلاثة بل و أكثر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 303

من ذلك ليأخذوه و لا يقدرون على ذلك.

و هذا قد أتى بعنوانين آخرين في جنب المسكر: المرقد و مفسد العقل، و قد ذكر أن ما يغيّر العقل من دون اقتران بالنشاط و قوّة النفس فهو لا يخلو عن أنه حصل مع تغيّر عقله غيبوبة حواسّه الخمس و هذا هو المرقد الذي هو كالمنوّم فإنّه من الرقود الذي بمعنى النوم، قال اللّه تعالى في قصة أصحاب الكهف:

«وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ» «1» أو أنه لا يحصل معه ذلك و هذا هو المفسد للعقل كالشوكران، الذي قد قالوا: إنّه عشبة سامة كثيرة الانتشار في العالم و كانوا يستخرجون منها سما يسقى بعض المحكوم عليهم. كذا في اللغة.

هذا و لكن التحقيق هو ما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس سره من الصدق العرفيّ، و جعله الفارق الوحيد المائز بين المسكر و المرقد و المخدّر و نحوهما مما لا يعدّ عند العرف مسكرا.

و أمّا الفقاع ففي مجمع البحرين: الفقاع شي ء يشرب يتخذ من ماء الشعير و ليس بمسكر و لكن ورد النهي عنه.

في موجب هذا الحدّ

قال المحقق قدّس

سره: و مباحثه ثلاثة: الأوّل في الموجب و هو تناول المسكر أو الفقاع اختيارا مع العلم بالتحريم إذا كان المتناول كاملا فهذه قيود أربعة شرطنا التناول ليعمّ الشرب و الاصطباغ و أخذه ممزوجا بالأغذية و الأدوية.

أقول: ذكر بعض العلماء عند ذكر الموجب للحدّ: هو شرب المسكر، و لكنّه رحمه اللّه قد عدل عن لفظ الشرب إلى لفظ التناول في الشرائع كما عرفت و كذا في المختصر النافع.

و ادّعى في الجواهر عدم خلاف عندنا يجده بل الإجماع بقسميه على ذلك

______________________________

(1) سورة المؤمنون الآية 18.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 304

و من المعلوم أن التناول أعمّ من الشرب و ذلك لصدقه في موارد لا يصدق فيها الشرب أصلا كما أن المحقق بنفسه علل عدوله و استبداله لفظ التناول، بذلك أي ليعمّ الشرب و الاصطباغ و ما إذا كان ممزوجا و مخلوطا بالغذاء أو الدواء.

و الاصطباغ من اصطبغ بالخلّ أو في الخلّ أي اتّخذه إداما فإنّ الصبغ بكسر الصاد هو ما يصطبغ به من الإدام أي يغمر فيه الخبز و يؤكل قال اللّه تعالى:

«وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» «1». و قال في مجمع البحرين: و يختصّ بكلّ إدام مائع كالخلّ و نحوه و الجمع أصباغ انتهى. و قال في المنجد: الصبغ الإدام كالخلّ و الزيت لأن الخبز يغمس فيه و يلوّن به. انتهى. نعم لا يشمل استعماله بالاحتقان و التضميد أي شدّ موضع الجرح بالضماد.

و الضماد و الضمادة خرقة يشدّ بها العضو المجروح. و كذا الإطلاء و أمثال ذلك.

إن قلت: إنّ التناول بحسب معناه اللغوي يشمل مثل أخذه باليد فإنّ قولنا:

تناوله أي أخذه [1].

نقول: إن المراد بالتناول في المقام هو الشرب و الأكل.

قال الشهيد الثاني في المسالك:

المراد بالتناول إدخاله في البطن بالأكل و الشرب خالصا و ممزوجا بغيره سواء بقي مع مزجه مميزا أم لا.

و من جملة ما يتردد في حكمه في المقام هو السعوط كما أن الشهيد الثاني قال في المسالك بعد ما نقلناه من كلامه: و يخرج من ذلك استعماله بالاحتقان و السعوط حيث لا يدخل الحلق لأنه لا يعدّ تناولا فلا يحدّ به و إن حرم. لكنّه قدّس سره قال بعد ذلك: مع احتمال حدّه على تقدير إفساده الصوم. انتهى.

كما أن العلّامة أعلى اللّه مقامه قال في القواعد: و لو تسعط به حدّ. انتهى.

أقول: إذا كان السعوط بالخمر موجبا لدخوله من طريق الأنف في الجوف

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظله بما في المتن.

______________________________

(1) سورة: المؤمنون الآية 20.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 305

نظير ما يصنع الأطبّاء و الجرّاحون في هذه الأعصار بالنسبة إلى بعض المرضى بل هو شائع بينهم من إدخال أنبوبة مخصوصة في أنف المريض إلى جوفه، و تغذيته من هذا الطريق فلا ينبغي الإشكال في الحرمة و إيجاب الحدّ. أمّا إذا كان مجرّد صبّه في الأنف أو جذبه بالأنف على ما هو معنى السعوط في اللغة حيث يقال: سعط الدواء أي أدخله في أنفه أو كان مجرّد استشمامه أو استنشاقه فهو و إن كان محرّما إلّا أنه لا دليل على إيجابه الحدّ.

و لذا يرد على المسالك بأنه بعد أن فسّر التناول بإدخاله البطن إلخ كيف احتمل وجوب الحدّ بالنسبة إلى السعوط كما أنه على ذلك لا يوجب بطلان الصوم أيضا.

نعم لو كان بحيث يدخل الحلق و الجوف لتمّ ما ذكره فيحرّم و يوجب الحدّ و يبطل الصوم كما أنهم صرّحوا بذلك

في باب الصوم.

و قد أورد عليه في الجواهر بقوله: و إن كان هو كما ترى ضرورة عدم اقتضاء فساد الصوم بعد فرض عدم دخوله الحلق، الحدّ المزبور انتهى.

يعني: بعد أن المفروض عدم دخوله الحلق لا وجه للحكم بالحدّ و إن قيل بأنه موجب لفساد الصوم.

ثم قال: نعم قد يدخل في التناول ما يستعمل من المسكرات في القليان و نحوها انتهى. و فيه أنه أيّ دليل قام على إيجاب استنشاق دخان الخمر الذي امتزج التتن أو الفحم به الحدّ المتعلّق بالخمر؟.

و على الجملة فهنا أمثلة كثيرة ربما تبتلى به الناس في هذه الأعصار و لعلّ عدم التعرّض لها في كلماتهم لعدم حدوثها في الأعصار الماضية و ذلك مثل ما إذا زرقه بالإبرة فإنّه و إن لم يصدق عليه الشرب لكن لعلّه يشمله التناول نظير أنهم قد يستشكلون في زرق الإبرة في شهر رمضان خصوصا بالنسبة إلى التي تحمل الموادّ الغذائيّة و إن أجازها بعض- و مثل الأشربة الطبيّة التي ترد من الخارج و البلاد الأجنبية غير الإسلامية التي يقال إنّها ممتزجة بشي ء من الأكل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 306

(اسپيرتو)- لو كان من أنواعه المسكر.

و منها ما لو عجن بالخمر مثلا عجينا، و سيأتي ذلك إلى غير ذلك من الموارد.

فلو كان الملاك هو الشرب فهو غير صادق فيها و أمّا لو كان المعيار التناول فإنّه ربّما يصدق ذلك فيها أو في بعضها.

نعم إنّ الكلام في أنه هل ورد لفظ التناول في دليل حتى يؤخذ به و يفتي بمقتضاه؟.

و إنّي قد استقصيت الفحص في روايات المسكر و رأيت روايات الأبواب المتعلّقة به و هي أربعة عشر بابا واحدة بعد أخرى و لم أعثر على

رواية مشتملة على هذا اللفظ و متضمّنة له و إنّما الوارد فيها لفظ الشرب و مشتقّاته.

اللهمّ إلّا أن يقال بكون الملاك هو التناول لا خصوص الشرب بطرق و تقارير أخر.

و ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المقام وجوه:

أحدها: إنّ المحرّم ذاتا و عينا لا من حيث الاسم لا يتفاوت فيه الحال بين قليله و كثيرة فإنّ هذا الذات حرام أينما كان و بأيّ صورة وجد، و المسكر من هذا القبيل حيث إنّ هذا الذات حرام فيحرم أينما كان و بأيّ صورة تحقق شربا أو أكلا أو غير ذلك من أنواع التناول [1].

و فيه أنه ما الفرق بين الخمر مثلا و التراب أو الطين الذي يحرم أكله و مع ذلك لا يحرم شرب الماء عند اختلاطه به كما في ماء الفرات في الربيع كما مثّل بذلك

______________________________

[1] قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بعد الإشكال بأنه كيف يكون الحكم في سائر الموارد تابعا للاسم كما إذا حلف أن لا يشرب الخلّ يجوز له شرب السكباج و لكن هنا يحكمون بالحدّ و إن كان ممتزجا بغيره؟ قال: فلعلّ الفرق أن العين حرام أين وجدت و لا شك في وجودها في الممتزج، و الفرض أنه موجب للحدّ فيجب بخلاف ما ذكر في باب اليمين فإنّ المحلوف ليس بحرام إلّا أن يصدق عليه المحلوف عليه و ليس بذلك إلّا ما يصدق عليه الاسم انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 307

بعض العلماء أيضا، و كذلك الكرّ من الماء الذي وقعت فيه قطرة من الدم.

ثانيها: قوله تعالى «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1». بتقريب أن الخمر رجس و

من عمل الشيطان و واجب الاجتناب فلا يجوز أن يقرب الإنسان منه بل يلزم أن يتباعد عنه مطلقا.

و فيه إنّ الاجتناب عن كلّ شي ء بحسبه و طبق لحاله و يلاحظ بالنسبة إلى الأثر المتوقع منه، و من المعلوم أن الأثر المتوقع من الخمر هو الشرب فلا يشمل سائر طرق استعماله.

ثالثها: قوله تعالى «إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» «2».

تقريب الاستدلال أنه لم يعلّق تلك الأمور- إيقاع العداوة و البغضاء و كذا الصدّ عن ذكر اللّه و عن الصلاة- على شرب الخمر بل على نفسه.

و فيه ما ذكرناه في الآية السابقة من أن العناية على الأثر الواضح المطلوب من الخمر عند العرف فلا يمكن استفادة حكم سائر استعمالاته بعد ظهورها في الشرب.

رابعها: إطلاقات بعض الأخبار كمعتبرة أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين «3». فإنّه لا ذكر عن الشرب هنا بل الضرب كان على الخمر، و قد استدلّ بذلك بعض المعاصرين- رضوان اللّٰه تعالى عليه- «4».

و لكن يرد عليه أن للحديث ذيلا لم يذكر هنا و قد نقل في الوسائل الرواية

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 90.

(2) سورة المائدة الآية 91.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(4) راجع تكملة المنهاج ص 270.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 308

بتمامها، و ذيلها هذا: الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصراني، قلت: و ما شأن اليهوديّ و النصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم.

و هذا الذيل المصرّح بالشرب يوجب ظهور

الصدر أيضا في ذلك.

نعم رواية سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر و يقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر «1» ربّما أمكن التمسّك به فيما رامه.

و على هذا فلا دليل يدلّ على وجوب الحدّ في الأمثلة المبحوث عنها و لذا ترى أنه علل في كشف اللثام قول العلّامة في القواعد: و لو تسعّط به حدّ بقوله: لأنه يصل إلى باطنه من حلقه و للنهي عن الإكتحال به و الإسعاط أقرب منه وصولا إلى الجوف انتهى.

و هذان الوجهان أيضا لا يخلوان عن الإشكال.

أمّا الأوّل فلأنه عبّر بالوصول إلى الباطن، و لا يعلم أن مراده هو البطن أو مجرّد الداخل، فلو كان المراد هو البطن فلا كلام فعلا و يكون موافقا لكلام الشهيد الثاني حيث قال بأن المراد بالتناول إدخاله إلى البطن بالأكل و الشرب، إلّا أنه على ذلك يرفع الإشكال عن زرق الخمر بالإبرة كما لعلّه يعمل به أهل الأهواء و المعاصي في هذه الأعصار نظير ما يصنعونه من زرق الموادّ المخدّرة و ذلك لأنه لا يدخل البطن فيلزم أن لا يوجب الحدّ و إن أسكر، و هو مشكل لأنه ربّما يحصل الاطمئنان بأنه إذا أوجب ذلك السكر فهو موجب للحدّ و مع ذلك يلزم مراجعة الأدلّة حتى نرى أنه يجتزي بالإسكار في ترتب الحدّ و إن لم يكن قد شربه أم لا؟.

و أمّا الثاني ففيه أنه هل الإكتحال بالخمر يوجب الحدّ مضافا إلى حرمته كي يقال بأن الإسعاط أقرب وصولا إلى الجوف من الإكتحال؟.

و نحن إلى الآن لم نقف على خبر يدلّ على ذلك و لا سمعنا أنه في مورد أقيم حدّ

______________________________

(1)

وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 13.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 309

المسكر على من اكتحل به.

نعم ما أفاده من أقربيّة الإسعاط من الإكتحال بالنظر إلى الوصول إلى الجوف ثابت فإنّ من صبّ في أنفه دواء يحسّ سريعا اثر ذلك الدواء- حلوا كان أو مرّا- في حلقه لكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصدده و هو جهة إثبات الحدّ.

قال في الجواهر بعد ذكر ما نقلناه عن كاشف اللثام: قلت: و لو فرض عدم وصوله أو عدم العلم بالوصول لم يحدّ للأصل و غيره.

أقول: و الظاهر أنه لا مجال لهذا الكلام بعد أن المفروض وروده في الحلق فإنّ مجرّد ذلك كاف في الدخول في الباطن.

و يبدو في الذهن أن الملاك هو ما كان تحت اختيار الإنسان و قدرته الذي يخرج بعد ذلك عن اختياره فالملاك هو ابتلاعه و إدخاله الحلق و هو موجب للحدّ لا الوصول إلى البطن و لا غير ذلك و عليه فلا يبقى مورد للشك.

و على الجملة فقد تمسّك رحمه اللّه بالأصل و غيره.

أمّا الأصل فهو قسمان: أحدهما الموضوعي و الآخر حكمي.

أمّا الموضوعيّ فهو أصالة عدم الوصول عند الشك في ذلك.

و أمّا الحكميّ فهو أصالة عدم إيجاب الحدّ لأنه قبل صبّ الخمر في أنفه لم يكن الحدّ واجبا عليه فبعد صبّه أيضا كذلك. لكن لا يخفى أن الاستصحاب الموضوعي لا يخلو عن إشكال و ذلك لأنه يترتب على المستصحب أي أصالة عدم الوصول، عدم الشرب فيترتب عليه عدم الحدّ فيلزم كون الأصل مثبتا للآثار العادية و العقلية و هو غير صحيح كما حقق في محلّه.

هذا بالنسبة إلى الأصل، و أمّا غيره المذكور في كلامه فلعلّ المراد

قاعدة الدرء. و يمكن أن يكون مراده كون المقام من قبيل الشبهة المصداقية لقول الشارع: لا تشرب، و من المعلوم أنه لا يجوز التمسّك بالعام و لا يشمله الدليل الدّالّ على إيجاب الحدّ.

ثم إنّ العلّامة أعلى اللّه مقامه قد تعرّض في القواعد و التحرير لفرع في هذا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 310

المقام و هو ما إذا عجن الدقيق بالخمر فقال في الأوّل: و إذا عجن بالخمر عجينا فخبزه و أكله فالأقرب وجوب الحدّ انتهى.

و قال في الثاني: و لو عجن به دقيقا ثم خبزه احتمل سقوط الحدّ لأن النار أكلت أجزاء الخمر نعم يعزّر، و لو قلنا بحدّه كان قويّا. انتهى.

و وافقه صاحب الجواهر على الأوّل و قد ذكر في توجيه الوجه الثاني بعد كلام العلّامة: و لعلّه للنجاسة و لاحتمال البقاء [1].

ثم قال: و فيه أن الأصل بقاؤه.

يعني إنّه على ذلك يترتب عليه الحدّ.

و قال بعد ذلك: اللهم إلّا أن يمنع ثبوت الحدّ بالأصل المزبور بل لا بدّ فيه من العلم ببقاء أجزائه. انتهى.

و قد ذكرنا آنفا ما في التمسّك بالأصل فراجع، و الظاهر أنه لا حدّ عليه و ذلك لأنه قد زال و انعدم و لم يبق منه شي ء عرفا خصوصا إذا بقي الخبز على النار كثيرا حتى يبس.

ما المراد من المسكر؟

قال المحقق: و نعني بالمسكر من ما شأنه أن يسكر فإنّ الحكم يتعلّق بتناول القطرة منه.

أقول: البحث هنا في أنه هل المعتبر الإسكار الفعلي أو يكفي الشأني منه؟.

ذهب المحقق و غيره إلى عدم اشتراط الإسكار بالفعل فلو شرب قطرة منه حدّ و إن لم تسكر [2].

______________________________

[1] أقول: إن الوجهين قد ذكرهما في كشف اللثام ج 2 ص 239 فراجع.

[2] أقول:

خلافا لأبي حنيفة حيث زعم اشتراط الإسكار بالفعل كما صرّح بذلك في الكشف. فراجعه و راجع أيضا الخلاف باب الأشربة ص 172.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 311

و لا يخفى أن هذا الحكم شرعيّ محض لا بدّ من أخذه من الشارع و ليس بعرفيّ فإنّ العرف ربّما لا يساعد ذلك، و خلاصة الكلام أن ما من شأنه الإسكار يحدّ على كثيره و قليله و لو القطرة منه مطلقا.

و يدلّ على ذلك أوّلا عدم خلاف يعتدّ به بل الإجماع بقسميه عليه على ما في الجواهر.

و ثانيا النصوص المستفيضة أو المتواترة المصرّحة باستواء القليل و الكثير منه في إيجاب شربه الحدّ.

نعم قال الصدوق قدس سره: و إذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين جلدة فإن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر لم يجلد حتى يرى أنه سكران انتهى «1».

و الحسوة بالضمّ و الفتح الجرعة من الشراب مل ء الفم (هكذا في مجمع البحرين) فقد ذكر رحمة اللّٰه عليه لفظة الحسوة.

إلّا أن الأخبار ناطقة بعدم الفرق بين الكثير و القليل منه، ففي خبر إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال:

يجلد ثمانين جلدة قليلها و كثيرها حرام «2». فإنّ السّؤال و إن كان عن الحسوة من الخمر إلّا أنّ مقتضى جواب الإمام عليه السلام ترتب الحرمة و الجلد على كثير و قليل منه و إن كان قطرة و على هذا فلا دلالة لهذه الرواية على اعتبار الحسوة في إيجاب الحدّ لو كان مراد الصدوق قدس سره اعتبارها بالخصوص.

و أمّا تتمّة كلامه الّتي نسب إليه بسببها القول بأن النبيذ لا يوجب الحدّ إلّا إذا شرب بمقدار أوجب السكر فلعلّ

ذلك لروايتي الكناني و الحلبي.

أمّا الأولى: عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث قلت: أ رأيت إن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر أ يجلد؟ قال: لا «3».

______________________________

(1) المقنع ص 153.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 312

و أمّا الثانية: قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام قلت: أ رأيت إن أخذ شارب النبيذ و لم يسكر أ يجلد ثمانين؟ قال: لا و كلّ مسكر حرام «1».

تقريبه أن لفظة يسكر لازم و فاعله هذا الذي شرب النبيذ فيكون السؤال عمّا إذا شرب بمقدار لم يحصل معه السكر و قد حكم عليه السلام بعدم الجلد.

هذا، و لكن يرد عليه أنه يمكن أن يكون ضبط هذا اللفظ من باب الإفعال، و يكون فاعله النبيذ المذكور في الرواية و حينئذ يفيد أن للنبيذ قسمين: المسكر و غير المسكر و كان هذا الشارب قد شرب من القسم الأخير، و قد حكم الإمام عليه السلام بعدم الحدّ. و على هذا فلا دلالة للخبرين على مراده لأنه ربما يكون نبيذ ليس من شأنه الإسكار، و بالطبع لا يحكم على شاربه بالحدّ.

بل يمكن الترديد في إرادة الصدوق رحمة اللّٰه عليه ما نسب إليه، لاحتمال أن يكون قد أراد أن الشارب قد شرب النبيذ غير المسكر، لا مقدارا منه لم يبلغ حدّ الإسكار.

و لو كان مراده ذلك فالخبران ليسا صريحين في ما قاله و لو كان ظاهرين فيه، و الذي يسهّل الخطب أنهما موافقان للعامة و محمولان على التقية فإنّ الخليفة كان يعتذر عند الاعتراض عليه في

شربه بأنه يشرب القليل بمقدار لا يوجب الإسكار [1] و كيف كان فالروايات العديدة مصرّحة بحرمة النبيذ و هي بإطلاقها تشمل ما إذا كان بمقدار أوجب الإسكار أم لم يوجب.

فعن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إنّ في كتاب

______________________________

[1] كان الخليفة يشرب النبيذ إلى آخر نفس لفظه، قال عمرو بن ميمون شهدت عمر حين طعن أتي بنبيذ شديد فشربه و كان حدّة شرابه و شدّته بحيث لو شرب غيره منه لسكر و كان يقيم عليه الحدّ غير أن الخليفة كان لم يتأثر منه لاعتياده أو كان يكسره و يشربه. الغدير ج 6 ص 357 قوله: يكسره أي بالماء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 313

عليّ عليه السلام: يضرب شارب الخمر ثمانين و شارب النبيذ ثمانين «1».

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين «2».

كما أن الأمر في باب الخمر كذلك. فعن عبد اللّٰه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: الحدّ في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيرا «3».

عدم الفرق بين أنواع المسكرات

قال المحقق: و يستوي في ذلك الخمر و جميع المسكرات التمريّة و الزبيبيّة و العسليّة و المرز المعمول من الشعير أو الحنطة أو الذرّة و كذا لو عمل من شيئين أو ما زاد.

أقول: حيث إنّ الملاك بحسب الظاهر هو الإسكار أو المسكر فلا فرق بين أنواعه و أنحائه، و إطلاق المسكر يشمل جميع أنواعه سواء اتّخذ من التمر المسمّى بالنبيذ أو الزبيب الموسوم ب النقيع أو من العسل و هو البتع أو من

الشعير أو الحنطة أو الذرّة الموسوم ب المزر، و هكذا لو كان قد عمل من شيئين أو ثلاثة أشياء بل و لو أخذ و عمل من الأحجار أو الموادّ الشيميائيّة فإنّ مجرّد كونه مسكرا يكفي في الحكم بالحرمة و الحدّ و قد ادّعى في الجواهر عدم الإشكال نصا و فتوى على عدم الفرق بين الأقسام.

نعم يبقى الكلام في أن ترتب الحكم موقوف على صدق أيّ واحد من العناوين المذكورة و أنه قد شرب الخمر مثلا أو تناوله و إن كان قليلا بل أقلّ قليل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 314

أمّا إذا اضمحلّ فيما اختلط به كما إذا صبّ و ألقي قطرة خمر في حبّ من ماء بحيث لم يبق منه بعد ذلك عين و لا أثر فهل يمكن القول بترتب الحدّ على شربه؟

و الحال أنه لا يصدق عليه أنه شرب الخمر و إنّما يصدق عليه أنه شرب الماء، كما ترى أنه لا يجوز التوضّي بالدبس مثلا أمّا إذا صبّ قطرة منه في الماء فإنّه يجوز التوضّي به لصدق التوضّي بالماء المطلق، و الأحكام مترتبة على الأسماء و العناوين.

و لذا أشكل الأردبيلي امتزاج قطرة من خمر مثلا بحبّ من ماء بعدم صدق شربها و لذا لم يحنث من حلف أن لا يشرب الخلّ أو لا يأكل الدّهن أو التمر بشرب السكباج و أكل الطبيخ الذي فيه دهن غير متميز و أكل الحلوي التي فيها التمر انتهى.

و هكذا كاشف

اللثام فإنه بعد ذكر الحكم بالحد بتناول قطرة من المسكر و إن كان بمزجها بالغذاء أو الدواء قال: و إن لم يتناوله ما في النصوص من لفظ الشرب فكأنه إجماعي. و ما يمكن أن يقال في حلّ الإشكال وجوه:

أحدها: إنّ الحكم إجماعي و لولاه كان مقتضى القاعدة عدم ترتب شي ء أصلا و هذا هو الظاهر من كلام كاشف اللثام.

ثانيها: ما أفاده بعض كصاحب الجواهر و هو أن المحرّم ذاتا لا من حيث الاسم لا يتفاوت الحال بين قليله و كثيره بخلاف متعلّق اليمين الذي مدار الحكم فيه على صدق الفعل فإذا حلف مثلا على عدم شرب الخلّ فإنّه لم يحنث بشرب السكباج و ليس عليه شي ء و ذلك لتعلّق الحلف على ترك شرب الخلّ و هو يدور مدار صدق الاسم و عنوان شرب الخلّ و هو غير صادق لأنه شرب شيئا آخر و إن كان الخلّ أيضا ممزوجا في هذا المائع بخلاف ما إذا تعلّقت الحرمة بذات الشي ء فإنّه في أيّ مورد كان و بأيّ صورة وقع سواء كان خالصا أو ممتزجا بشي ء آخر قليلا كان أو كثيرا فإنّه حرام، صدق على تناوله الشرب أم لا فإنّ الملاك هو وروده في البطن و دخوله في الجوف و إن كان في ضمن مائع أو محلول

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 315

آخر و مضمحلّا فيه.

و لتقريب هذا الوجه و توضيحه نذكر مثالا و هو أنه إذا منع الطبيب المريض المبتلى بضغط الدم مثلا عن الملح و نهاه عن أكله قائلًا: لا تأكل الملح لأنه مضرّ لك، فإنّه يشمل جميع أنواع الأكل مستقلّا أو ممزوجا، و الممنوع عنه المضرّ بحاله هو هذا الذات سواء أكله

على صورته و هيئته أو ألقاه و أدخله في الماء أو الغذاء و بعد أن أذيب فيه بحيث لم يبق منه أثر أصلا و لم يحسّ هو بنفسه الملوحة أصلا، و كذا سائر ما يمنع عنه كالسموم. هذا في العرفيات.

و أمّا مثاله في الشرعيّات فهو مثل ما إذا نهى الشارع عن أكل أموال الناس فلو أخذ غصبا و ظلما مقدارا من الملح من مال الغير و أدخله في الطعام و بعد ذلك أكل من هذا الطعام فهل يمكن له أن يقول: إنّي ما أكلت من مال الغير و إنّما أكلت طعامي؟ و ليس هذا إلّا لأن الذي منع عنه الشارع هو أكل مال الغير و إن خلطه و مزجه بغيره بحيث اضمحلّ في مال نفسه، فإنّه لا يزول الحكم بزوال الاسم.

هذا و لكن مع ذلك كلّه فلا يخلو عن إشكال لأن هذا صحيح لو لم يكن المنهيّ عن أكله عند العرف معدوما فإنّ الذات حرام يترتب عليه الأثر ما دام باقيا فإذا مزج قطرة من الخمر في حبّ من الماء لم يكن الخمر موجودا عند العرف حتى يقال بأن قليله أيضا حرام، و إطلاق الشي ء لا يشمل عدمه.

و أمّا الذرّات العقليّة فهي ليست مصبّ الأحكام الشرعية و ملاكها و لو كان المطلب على نحو ما ذكروه للزم إقامة الحدّ على من شرب من منبع ماء و مخزنة الذي اجتمع فيه مأة كرّ أو أكثر إذا صبّ فيه قطرات من خمر و امتزج بها، و ذلك لعدم الفرق بين القليل و الكثير على حسب التقرير المذكور. و ليس البحث من جهة الطهارة و النجاسة كي يقال بأنّ الكثير لا يتنجّس، و هل يمكن الالتزام بهذا اللازم؟.

ثالثها:

النصوص المشتملة على ضرب الثمانين بالخمر و النبيذ قليلا أو كثيرا كمعتبرة أبي بصير المتقدمة و غيرها فراجع باب 4 من أبواب حدّ المسكر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 316

و فيه ما مرّ فإنّها متعلّقة بالخمر أو النبيذ فصدق العنوان مما لا بدّ منه سواء صدق الشرب أم لا، و المفروض في المقام اضمحلال الخمر رأسا فلا يمكن التمسك بها و ليس لنا دليل خاصّ يدلّ على وجوب الحدّ.

نعم قد وردت روايات تشدد أمر الخمر بتعابير خاصّة مثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: لو وقعت قطرة منه في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها و لو وقعت في بحر ثمّ جفّ و نبتت فيه الكلأ لم أرعه «1».

لكنّ المعلوم من لسان هذه الروايات هو أنها واردة في مقام التأكيد و تشديد الأمر لا أنه يثبت بها وجوب الحدّ.

فلو كان في الموارد الّتي اضمحلّ العين و لم يصدق الاسم إجماع فهو، و إلّا فلا وجه للقول بلزوم الحدّ.

و أمّا ما ذكرناه تقريبا للحرمة الذاتية من أكل مال الغير بمزجه في طعام نفسه بحيث صار مضمحلّا، فإنّه ضامن لمال الغير لأنه قد أتلف مال الغير لا لأنه أكل مال الغير.

و أمّا الإجماع فإنّا قد تفحّصنا كلماتهم في الجوامع الفقهية و بعض الكتب الأخر و لم نقف على من صرّح بجريان الحكم فيما إذا لم يصدق الاسم إلّا بعضا.

نعم ربّما يصرّحون بعدم الفرق بين القليل و الكثير و أمّا التعرّض لما إذا اضمحلّ الخمر في شي ء آخر فلا، إلّا عن عدّة من الأعلام كالشيخ و ابن حمزة و الشهيد في اللمعة.

قال الشيخ في النهاية: و لا يجوز أكل طعام فيه شي ء من الخمر

و لا الاصطباغ بشي ء فيه شي ء من الخمر و لا استعمال دواء فيه شي ء من الخمر فمن أكل شيئا مما ذكرناه أو شرب كان عليه الحدّ ثمانين جلدة انتهى «2».

و قال ابن حمزة: فصل في بيان الحدّ على شرب الخمر و سائر المسكرات

______________________________

(1) كنز العرفان ج 2 ص 305 كتاب المطاعم و المشارب.

(2) النهاية ص 712.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 317

و شرب الفقاع و غير ذلك من الأشربة المحظورة: كلّما يسكر كثيره فقليله و كثيره حرام (إلى أن قال:) و كلّ طعام فيه خمر فهو حرام و يلزم بأكله الحدّ على حدّ شرب الخمر «1».

و قال الشهيد في اللمعة: ما أسكر جنسه يحرم القطرة منه و كذا الفقاع و لو مزجا بغيرهما.

و قال الشهيد الثاني بشرحه: و إن استهلكا بالمزج انتهى.

هذا بالنسبة إلى كلماتهم و أمّا ادعاء الإجماع فلم نجد حتى من ابن زهرة في الغنية الذي يدّعي الإجماع كثيرا.

و لعلّ الإجماع الذي احتمله بعض مثل كاشف اللثام الذي قال: لعلّه إجماعي، كان مستندا إلى إطلاق كلماتهم و حكمهم بالحدّ قليلا كان أو كثيرا مضافا إلى تصريح هؤلاء الأعلام و كذا قول العلماء: ما أسكر كثيره فقليله حرام، فإنّ إطلاق القليل يشمل ما إذا كان بحيث استهلك فيما امتزج به.

هذا مضافا إلى بعض الروايات الواردة في باب الأشربة التي يمكن استفادة ذلك منها، و قد خرّجها المحدّث العاملي رحمة اللّٰه عليه في باب أسماه: باب إنّ الخمر و النبيذ و كلّ مسكر حرام لا يحلّ إذا مزج بالماء و إن كثر الماء:

عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء

حتى تذهب عاديته و يذهب سكره فقال: لا و اللّٰه و لا قطرة قطرت في حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ «2».

و عن كليب بن معاوية قال: كان أبو بصير و أصحابه يشربون النبيذ يكسرونه بالماء فحدّثت أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال لي: و كيف صار الماء يحلّ المسكر، مرهم لا يشربون منه قليلا و لا كثيرا، ففعلت فأمسكوا عن شربه، فاجتمعنا عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام فقال له أبو بصير: إنّ ذا جاءنا عنك بكذا

______________________________

(1) الوسيلة ص 516- 515.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 318

و كذا فقال: صدق يا با محمد إنّ الماء لا يحلّ المسكر فلا تشربوا منه قليلا و لا كثيرا «1».

و عن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّ هؤلاء ربّما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم اشربه خفت أن يقولوا:

فلانيّ. فكيف أصنع؟ فقال: أكسره بالماء قلت: فإذا كسرته بالماء أشربه؟

قال: لا «2».

ترى في الرواية الأولى أن الإمام عليه السلام في جواب السّؤال عن قدح مسكر يصبّ عليه الماء يقول: لو وقعت قطرة منه في حبّ من ماء يجب إراقته.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 318

و من المعلوم أن السّؤال لم يكن عن جهة النجاسة و الطهارة و إنّما العناية في السّؤال على جهة إسكار هذا المسكر، و هذا ظاهر في أن الشرب من ماء هذا الحبّ يوجب الحدّ و الحال أن القطرة من المسكر يضمحلّ

و يستهلك في حبّ من الماء.

كما أن مقتضى الرواية الثانية أيضا الحرمة و إن امتزج بالماء و أن ذلك لا يوجب حلّيته و لا أثر لكسر سكره بالماء في ما يترتب على شربه.

و أمّا أن أبا بصير كان يشرب من النبيذ بعد أن كان يكسره بالماء مع أنه من رواة الأخبار المشاهير و من حفّاظ الأحاديث عن أئمتنا المعصومين سلام اللّٰه عليهم أجمعين فلعلّه لشيوع شربه بين العامة و أهل الخلاف فآل الأمر إلى أن أبا بصير أيضا قد تخيل حلّه. و يمكن أن يكون شربه من جهة اجتهاده الشخصيّ و أنه كان يرى أن كسر سكره و عاديته يذهب بحرمته.

و كيف كان فظاهر نهيه عليه السلام هو الحرمة و كذا ترتب الحدّ عليه.

كما أن الرواية الثالثة أيضا تتضمن نهي الإمام عليه السلام عن شرب النبيذ بعد كسره بالماء و ظاهر هذا أيضا أن العناية على جهة إسكاره و أثره و هو الحرمة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرّمة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 319

و الحدّ.

نعم يشكل الجمع بين هذا الحكم و بين ما قبله و هو أمره عليه السلام بكسر النبيذ بالماء فإنّ هذين الحكمين بظاهرهما لا يجتمعان حيث إنّ الأمر بكسره يفيد جواز الشرب و جوابه عليه السلام سؤال الراوي عن شربه بعد السكر، بالنفي يفيد الحرمة.

و يمكن الجمع بينهما بأن يقال: إنّ الحكم الأوّل أي الأمر بالكسر كان متعلّقا بحال الضرورة كما هو الظاهر من قول الراوي: إن لم أشربه خفت أن يقولوا:

(فلانيّ) فإنّ الفلاني كناية يريد به الرافضي فهنا قد جوّز الإمام

بمقتضى الضرورة أن يشرب النبيذ إلّا أنه لتخفيف العمل أمره بكسره بالماء لكنّه بعد ذلك سئل عن شرب النبيذ مع الكسر مطلقا و قد منعه الإمام عليه السلام عن ذلك.

و النتيجة أنه يختصّ الجواز بحال الضرورة و أمّا في حال الاختيار فهو حرام و يحدّ عليه. و يحتمل أن يحمل الخبر على أن الإمام عليه السلام أمره بكسر النبيذ بالماء و اشتغاله بالنبيذ إراءة لهم أنه يريد أن يشرب ثمّ لا يشرب، و الحكم الأصيل هو عدم الجواز و إنّما كسره بالماء مجرد إتيان مقدمات الشرب كي يشغلهم فيطمئنّوا و يزعموا أنه يشرب منه، نظير ما قد يتفق في بعض المجالس و الضيافات من أن الإنسان يأخذ و يتناول بيده شيئا يتداول إكرام الضيوف به من الثمرات و الفواكه و هو لا يريد أن يأكله لجهة من الجهات فيضعه بين يديه و يشتغل به و أحيانا يشمّه لو كان مثل التفّاح، و مع ذلك لا يأكله.

هذا مضافا إلى ما ورد من التأكيدات البليغة في تحذير الناس عن الخمر و المسكرات، و التعابير الغليظة القامعة في أمره.

و على الجملة فبلحاظ هذه الروايات و فتوى الأعلام المذكورة فنحن لا نتجرّي على الإفتاء بالجواز فالاحتياط لا يترك بترك مطلق تناوله و إن كان مستهلكا في شي ء آخر.

و قد تحصّل من تلك الأبحاث أن شرب الخمر حرام قليلا أو كثيرا سواء أسكر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 320

أم لم يسكر- خصوصا بلحاظ أن الغالب في القليل منه هو عدم الإسكار- و سواء كان عدم إسكاره لقلّته أو لكيفيّة حال الشارب مرضا أو اعتيادا أو كان بعلاج، و يترتب عليه الحدّ المقرّر للشارب و لا يعتبر خصوص

عنوان الشرب فإنّ الملاك هو التناول كما إذا امتزج بالأدوية و الأغذية ما دام صدق اسم الخمر، و التصريح في الروايات بالتسوية بين الكثير و القليل يقتضي عدم الفرق حتى و لو كان أقلّ قليل، كما يمكن التمسّك في ذلك بتنقيح المناط و القول بعدم الخصوصيّة للكثير من الخمر، بأن يكون القليل منه نظير حبّ حامل لمقدار يسير من السمّ.

و قد كان بعض الأطبّاء يقول لنا: إنّ بعض أقسام الحبوب مشتمل على ذلك و لا يؤثّر في قتل الإنسان و موته لكنّه يبقى في البدن تلك الذرّات الضارّة التي كانت فيه و لا يدفع بل يتقوّى بإمداده بمثله و هكذا إلى أن يبلغ حدّا يقتل الإنسان، فلعلّ قليل الخمر أيضا يكون كذلك.

و كيف كان فحكمه حكم الكثير منه و تترتب على شربه و جميع أنواع تناوله حتى مثل زرقه بالإبرة الإحكام سواء كان زرق الخمر الخالص أو الممتزج بغيره من المائعات و إن لم يدخل البطن بل ورد في العروق مثلا.

و على هذا ربما أشكل الأمر في زرق الإبرة في هذه الأعصار حيث إنّه يقال بأن موادّها مخلوطة بشي ء من الألكل المسكر فإنّه عليه و بصرف النظر عن الاضطرار يكون زرقها في العروق حراما يوجب الحدّ.

هذا مضافا إلى أنه قد وردت في هذا الخصوص رواية شريفة و هي:

عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كان عند أبي قوم فاختلفوا فقال بعضهم: القدح الذي يسكر هو حرام و قال بعضهم: قليل ما أسكر كثيره حرام، فردّوا الأمر إلى أبي عليه السلام فقال أبي عليه السلام:

أ رأيتم القسط لو لا ما يطرح فيه أوّلا أ كان يمتلئ؟ و كذلك القدح الآخر لو لا

الأوّل ما أسكر قال: ثمّ قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من أدخل عرقا من عروقه قليل ما أسكر كثيره عذّب اللّٰه عزّ و جلّ ذلك العرق بثلاثمأة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 321

و ستّين نوعا من العذاب [1].

و لعلّه يستفاد من هذه الرواية أن عمل زرق الموادّ المسكرة كان في زمن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم، و لعلّه كان ذلك بصورة بسيطة و بآلات غير ما هو دائرة و رائجة في عصرنا هذا [2].

و أمّا إذا خرج عن صدق الخمر بأن استهلك في غيره فهناك يشكل الأمر و ليس لإثبات الحدّ فيه دليل واضح، و من قال فإنّما قال للإجماع أو تمسّكا بأن لزوم الاجتناب عن الخمر المصرّح به في آية «إِنَّمَا الْخَمْرُ. رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ» يقتضي الاجتناب عنه بأي صورة كان و في أي حال أو ببعض الأخبار التي ذكرناها آنفا أو ذاك البيان المخصوص من تقسيم الحرام إلى الذاتي و الاسميّ على ما تقدم شرحه.

و كيف كان فيحتمل بل لعلّه لا يبعد القول بترتب الحدّ هنا أيضا [3] كما يؤيّد ذلك مثال القطرة من الخمر في الحبّ من الماء و الأمر بإراقته و كذا التشديدات البالغة الواردة في الروايات بالنسبة للخمر، و من أراد الوقوف على ذلك

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 17 ب 17 من الأشربة المحرّمة ح 6، ثم إنّ القسط بمعنى الميزان كما حكاه العلّامة المجلسي في مرآة العقول عن القاموس.

[2] أقول: ما أفاده دام ظلّه من الاستشهاد بهذه الرواية لما رامه من زرق الخمر في العرق لا يخلو عن كلام و ذلك لأن المراد من إدخاله العرق

و الظاهر منه هو إدخاله من طريق الشرب، و تغذية العروق منه نظير رواية أبي الصحاري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال سألته عن شارب الخمر فقال: لم تقبل منه صلاة ما دام في عروقه منها شي ء (عقاب الأعمال ص 218).

[3] هكذا أفاد دام ظلّه على ما كتبناها لكن مقتضى ما أفاده آنفا من الاحتياط هو القول بالاجتناب و الحرمة، لكن من المعلوم أن الاحتياط من حيث الحدّ هو العدم و الحدود تدرء بالشبهات. و قد راجعت دفتر مذكّراته دام ظلّه و كان نصّ كلامه هذا: و لا أظنّ أن يحكم بالحدّ على من شرب من منبع فيه مأة كرّ من ماء و مزج معه قطرات من الخمر و كذلك الأدوية التي لا يرى أحد فيه الخمر فتأمّل. انتهى كلامه دام ظلاله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 322

فليراجع مظانّه «1».

و أمّا الإشكال بأنه فلا بدّ على ذلك من القول بالحدّ إذا استهلك الخمر في مخزن من الماء و منبعه. ففيه إنّه يمكن أن يقال بأن الأدلّة منصرفة عن مثل ذلك.

حول أن إقامة الحدّ مشروطة بالعلم بالحرمة

ثم لا يخفى أن ما ذكرناه من وجوب الحدّ على شرب الخمر قليله و كثيره و بأيّ صورة كان خالصا و ممتزجا فإنّما هو مع العلم بالحرمة و أمّا الجاهل بها فلا حدّ عليه.

و تدلّ على ذلك روايات عديدة أخرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب أن من فعل ما يوجب الحدّ جاهلا بالتحريم لم يلزمه شي ء من الحدّ.

عن الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو أن رجلا دخل في الإسلام و أقرّ به ثمّ شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و

الحرام لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا إلّا أن تقوم عليه البيّنة أنه قرأ السورة الّتي فيها الزنا و الخمر و أكل الربا و إذا جهل ذلك أعلمته و أخبرته فإن ركبه بعد ذلك جلدته و أقمت عليه الحدّ «2».

و عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل دعوناه إلى جملة الإسلام فأقرّ به ثمّ شرب الخمر و زنى و أكل الربا و لم يتبيّن له شي ء من الحلال و الحرام أقيم عليه الحدّ إذا جهله؟ قال: لا إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنه قد كان أقرّ بتحريمهما «3».

و عن أبي عبيدة الحذّاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لو وجدت رجلا

______________________________

(1) كبحار الأنوار ج 76 و غيره.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 323

كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شي ء من التفسير، زنى أو سرق أو شرب خمرا لم أقم عليه الحدّ إذا جهله إلّا أن تقوم عليه بيّنة أنه قد أقرّ بذلك و عرفه «1».

و عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في رجل دخل في الإسلام شرب خمرا و هو جاهل قال: لم أكن أقيم عليه الحدّ إذا كان جاهلا و لكن أخبره بذلك و أعلمه فإن عاد أقمت عليه الحدّ «2».

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث إنّ أبا بكر أتي برجل قد شرب الخمر فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال له: لم شربت الخمر و هي محرّمة؟ فقال:

إنّي أسلمت و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّونها و لو أعلم أنها حرام اجتنبتها فقال عليّ عليه السلام لأبي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين و الأنصار فمن كان تلا آية التحريم فليشهد عليه فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شي ء عليه ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلّى سبيله [1].

و لا يتوهّم أن الروايات متعلّقة بتلك الأزمان و القرون التي كانت بدء بزوغ الإسلام أو انتشاره. و ذلك لوضوح عدم الخصوصيّة و كون الميزان هو الجهل و العلم، و كيف يمكن القول بإجراء الحدّ على من لم يقرع سمعه أن شرب الخمر حرام و لم ينقدح في ذهنه احتمال الحرمة؟ و قد كان قسم من الشّبّان الجامعيّين قبل الثورة الإسلاميّة حيث لم يكونوا في بيئة دينيّة و لم يكن لهم خلطة مع أهل الدين و العارفين بالأحكام، لم يحتملوا حرمة الخمر فلم يكونوا آنذاك على ما هم عليه الآن من الإقبال على الدين و المخالطة مع العلماء و خصوصا مع ما يرون

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 5 أقول: و قد عقد في الوسائل في باب شرب المسكر تحت عنوان باب 10: باب سقوط الحدّ عمّن شرب الخمر جاهلا بالتحريم، و ذكر هناك هذه الرواية الأخيرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 324

من إقامة الحدود و التعزيرات على أهل المعاصي و على الجملة فلا حدّ على من كان في تلك الظروف المنكرة كما أنه لا

حرمة منجزّة عليه.

نعم الجاهل المقصّر معاقب لالتفاته إلى ورود تكاليف في الشريعة فالحجّة عليه تامّة و يقال له لماذا تعلّمت كما يقال لمن علم و عصى: لماذا خالفت و هلّا عملت [1] إلّا أن الحكم بإقامة الحدّ عليه غير خال عن الإشكال و ذلك لاحتمال موضوعيّة العلم في إقامة الحدّ بل إنّ ظاهر الروايات المذكورة أن المصحّح للحدّ هو علمه التفصيلي بالحرمة لا مجرد أنه عالم بوجود محرّمات في الإسلام بصورة الإجمال، و العقوبة الأخروية أي العذاب لا تلازم العقوبة الدنيوية أي الحد.

في حكم العصير العنبيّ

قال المحقق: و يتعلّق الحكم بالعصير إذا غلا و إن لم يقذف بالزبد إلّا أن يذهب بالغليان ثلثاه أو ينقلب خلًّا و بما عداه إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة.

أقول: المراد بالعصير هو العصير العنبيّ، و إطلاق الغليان يشمل ما إذا كان بنفسه أو بالنار أو بالشمس.

و قوله: و إن لم يقذف بالزبد إشارة إلى ردّ أبي حنيفة حيث اعتبر الإزباد و إطلاق كلامه شامل لما إذا تحقق فيه الإسكار أو لم يتحقق و لم يحصل، فبمجرّد الغليان يحرم و يتعلّق به حكم الخمر و يستمرّ ذلك إلى أن يذهب ثلثاه بالغليان أو ينقلب عن كونه عصيرا إلى الخلّ.

______________________________

[1] أمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 8 عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السّلام و قد سئل عن قوله تعالى «فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ»، فقال: إنّ اللّٰه تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أ كنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة.

و رواه في تفسير الصافي في ذيل الآية 149 من سورة

الأنعام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 325

و في المسالك: مذهب الأصحاب أن عصير العنبيّ إذا غلا بأن صار أسفله أعلاه يصير بمنزلة الخمر في الأحكام.

و في الروضة: و يحرم عندنا العصير العنبيّ.

و في الرياض: كأنه إجماع بينهم.

و في الجواهر بعد العبارة المذكورة عن المحقق: بلا خلاف أجده فيه انتهى.

و هنا مباحث: أحدها في تحريم العصير. ثانيها في تحليله بذهاب الثلثين أو بانقلاب الماهيّة. ثالثها في إيجابه الحدّ و عدمه.

أمّا الأوّل و الثاني فقال السيد الفقيه الطباطبائي قدس سره: الحق المشهور بالخمر العصير العنبيّ إذا غلا قبل أن يذهب ثلثاه و هو الأحوط و إن كان الأقوى طهارته نعم لا إشكال في حرمته سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه و إذا ذهب ثلثاه صار حلالا سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء بل الأقوى حرمته بمجرّد النشيش و إن لم يصل إلى حدّ الغليان «1». و قد علّقنا على قوله: بل الأقوى حرمته بمجرّد النشيش، بقولنا: بل الأحوط. و المراد بالغليان كونه بحيث صار أسفله أعلاه و أعلاه أسفله لشدّة الحرارة، و المراد بالنشيش حصول نقاط و كرات صغيرة في سطح المائع لأجل الحرارة و هو غالبا يكون مقرونا بصوت منه.

و قد عقد في الوسائل بابا عنونه بقوله: باب تحريم العصير العنبي و التمريّ و غيرهما إذا غلا و لم يذهب ثلثاه و إباحته بعد ذهابهما.

عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «2». إلى غير ذلك من روايات الباب.

و مقتضى هذا الخبر أن مجرّد إصابة النار كافية في الحكم بالحرمة، و لكن لم يقل بذلك أحد

بل يشترط في ذلك، الغليان أو النشيش على حسب تصريح سائر

______________________________

(1) العروة الوثقى في فصل النجاسات. التاسع الخمر. مسألة 1.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 326

الأخبار.

و في سائر الأبواب أيضا روايات مناسبة للمقام مثل مرسلة محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «1».

مثل ما رواه عن محمد بن عاصم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا بأس بشرب العصير ستّة أيام «2». و لعلّ ذكر الستّة هنا لمكان أنه لو ترك العصير بهذه المدّة لا يتغيّر بخلاف ما لو ترك بأكثر من ذلك فإنّه يغلي بمضيّ الزمان و يحرم.

و يستفاد من هذه أن الغليان بنفسه أيضا يوجب الحرمة.

و في الوسائل: قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل.

و عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه قلت: أيّ شي ء الغليان؟ قال:

القلب «3».

و عن ذريح قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم «4».

و يؤيّد ذلك أيضا الأخبار الدّالّة على حكمة تحريم العصير و ما وقع بين آدم عليه السلام و إبليس لعنه اللّٰه و كذا ما وقع بين نوح عليه السلام و إبليس فراجع الباب 2 من الأشربة المحرّمة.

ثمّ إنّه كما يؤثّر ذهاب الثلثين في الحلّ كذلك يؤثّر في ذلك انقلاب ماهيته بأن يصير

خلًّا. و في المسالك: أو دبسا على قول و إن بعد الفرض. ثمّ بيّن وجه بعده

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 327

بقوله: لأن صيرورته دبسا لا يحصل غالبا إلّا بعد ذهاب أزيد من ثلثيه.

و أمّا الثالث و هو المهمّ لنا في هذا المقام و هو حدّ شارب العصير، فالمتقدّمون من الأصحاب لم يذكروا ذلك و لم يكن في كلماتهم في باب الحدود أنه يحدّ شارب العصير مع تصريحهم بحرمته أو نجاسته على اختلافهم في النجاسة.

و الظاهر أن أوّل من نطق بذلك هو المحقق قدس سره و تبعه العلّامة أعلى اللّٰه مقامه في القواعد ثمّ بعد ذلك تبعهما شرّاح الشرائع و القواعد و غيرهم.

قال الفاضل الهندي الأصبهاني بعد ذكر الخمر: و كذا العصير العنبيّ إذا غلا و إن لم يقذف بالزبد خلافا لأبي حنيفة فاعتبر الإزباد سواء غلى من نفسه أو بالنار أو بالشمس إلّا أن يذهب ثلثاه أو ينقلب خلًّا و لا خلاف عندنا في جميع ذلك، و النصوص ناطقة به لكن لم أظفر بدليل على حدّ شاربه ثمانين و لا بقائل به قبله سوى المحقق انتهى «1». قوله: قدس سره «قبله» أي قبل العلّامة.

و في الرياض بعد أن احتمل كون المطلب إجماعيّا بينهم- على ما ذكرناه- كما صرّح به في التنقيح [1] و غيره و لم أقف على حجّة معتدّ بها سواه انتهى.

و

في الجواهر: لعلّ دليله ظهور النصوص أو صريحها المتقدمة في محلّها في أنه بحكم الخمر في الحرمة في الحرمة و غيرها.

هذا من ناحية الأقوال. و أمّا الأدلّة فعمدة مستند القائلين بكون العصير ملحقا بالخمر في النجاسة و سائر الأحكام، الأخبار. و قد علمت أن الأخبار الماضية لا دلالة لها على إثبات الحدّ و ترتّبه عليه نعم صحيح معاوية بن عمار أو موثّقه أظهر من جميع الأخبار في ذلك و لعلّهم اعتمدوا عليه و هو:

عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنه يشربه

______________________________

[1] أقول: قال الفاضل المقداد في التنقيح ج 4 ص 368: اتّفق علماؤنا أيضا على أن عصير العنب إذا غلا حكمه حكم المسكر إلّا أن يذهب ثلثاه.

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 237.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 328

على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم «1».

تقريب الاستدلال بهذه الرواية أن الإمام عليه السلام أطلق الخمر على العصير العنبي الذي ذهب نصفه لا ثلثاه، تنزيلا إيّاه منزلة الخمر في الأحكام من النجاسة و الحرمة و الحدّ. و فيه الإشكال من ناحيتين: إحداهما من جهة عدم اشتمال بعض النسخ على ما يشتمله بعض آخر. و الأخرى من جهة الدلالة.

أمّا الأولى فإنّه ليس في نسخة الكافي لفظ الخمر أصلا و إنّما الموجود فيه

هو مجرّد النهي عن شربه، و هو و إن كان دالّا على حرمة الشرب لكنّه لا دلالة له على لزوم الحدّ على شربه و ترتبه عليه نعم هو موجود في التهذيب.

و أمّا ما يقال من أنه عند دوران الأمر بين الخطأ في الزيادة أو في النقيصة يرجّح احتمال الخطأ في النقيصة فإنّ الغلبة مع الخطأ فيها دون الزيادة و الترجيح عند دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة، للأولى و لازم ذلك هو الأخذ بنسخة التهذيب المشتمل على لفظ الخمر دون الكافي الفاقد له.

ففيه أنه و إن صحّ ما ذكروه من تقدم أصالة عدم الزيادة عند دوران الأمر بين الزيادة أو النقيصة إلّا أنه لا يجري في المقام و ذلك لأن نسخ التهذيب أيضا مختلفة و ليست متفقة على الاشتمال على اللفظ المزبور و إنّما يشتمل عليه بعض نسخه. هذا مضافا إلى أن الكافي أضبط من التهذيب و على هذا فالترجيح لنسخة الكافي.

و أمّا الثانية فلأنه ربّما يستشكل في دلالة الرواية على المراد و إن كانت مشتملة على اللفظ المذكور و ذلك لأنه لو كان النهي مصدرا بالفاء لتمّ ما ذكروه لاقتضاء فاء الترتيب أن حرمة الشرب لأجل كونها من آثار الخمر و أنها من

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 7 من الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 329

جملة ما يترتب عليه و من المعلوم أن من جملة ما يترتب عليه هو الحدّ، و أمّا إذا لم يكن كذلك بأن قال: خمر لا تشربه فلا دلالة له على المقصود لأنه على هذا لا يستفاد منه إلّا مجرّد تنزيل العصير منزلة الخمر في عدم جواز شربه لا

في مطلق أحكامه و على هذا فيكون قوله عليه السلام: لا تشربه، بيانا لأصل التنزيل و كأنه يريد أن يقول: لا تشربه فيقول: إنّه خمر، كي ينبّه السائل المخاطب على مبلغ عظمة هذه المعصية.

و على الجملة فبعد عدم ورود خبر رأسا يذكر فيه الحدّ على شرب العصير فهل يمكن إثبات وجوب الحدّ على ذلك بمجرّد إطلاق الخمر عليه في رواية خصوصا مع عدم وجود اللفظ المزبور في نقل بعض العلماء الأخر بل و في جميع نسخ الكتاب الذي نقل فيه و لا أقلّ من كون ذلك من موارد الشبهة الّتي يدرأ بها الحدّ.

نعم هنا احتمال و هو أن هذا البختج الذي نهى الإمام عن شربه و أطلق عليه الخمر كان مسكرا لا بمجرّد أنه لم يذهب ثلثاه، هكذا ذكره بعض.

و لكنّه خلاف الظاهر من الرواية و ذلك لأن السؤال كان عن شربه على النصف و الثلث، و قد مرّ أنه لا دلالة للخبر على الحدّ بل و لا على النجاسة إلّا أن يسكر فيقام على من شربه الحدّ.

و الحاصل أنه إمّا أن يحمل الخبر على عموم التنزيل فتجري الأحكام الثلاثة:

النجاسة و الحدّ و الحرمة، و إمّا أنه يحمل على التنزيل في خصوص حرمة الشرب الّتي صرّح بها في الخبر و حيث إنّهم لا يقولون بالأوّل فلا بدّ من الحمل على مجرّد حرمة الشرب الّتي دلّت على خصوص ذلك روايات عديدة.

و بما ذكرنا يظهر الإشكال في الحكم بالنجاسة أيضا فقد نقل أن المشهور ألحقوا العصير بالخمر في النجاسة أيضا و لم يذكروا ترتّب الحدّ على شربه و هذا لا يستقيم لأنه لو كان يفهم من الصحيحة تنزيله منزلة الخمر في جميع الآثار فلازمه ترتّب الحدّ أيضا

و إن لم يفهم منها أكثر من التنزيل في حرمة الشرب المذكورة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 330

فيها فلا وجه للنجاسة أيضا.

الكلام في حكم طبخ العنب

ثمّ لو قلنا بعموم التنزيل و جريان جميع أحكام الخمر للعصير العنبي فهل يجري هذا الحكم في العنب نفسه أم لا؟.

قد تعرّض له في المسالك قائلًا: و لو طبخ العنب نفسه ففي إلحاقه بعصيره وجهان: من عدم صدق العصير عليه و من كونه في معناه انتهى.

و في الجواهر: لعلّ الثاني لا يخلو عن قوّة بملاحظة النصوص.

و نحن نقول: لعلّ الأوّل هو الأقوى و ذلك لعدم الملازمة بين ترتّب حكم على شي ء إذا كان في الباطن و بين ما إذا كان في الخارج. و نحن و إن كنّا نعلم أن العصير ليس شيئا وراء هذا الماء الموجود في أجواف حبّات العنب و هذا يقرّب ترتّب حكم العصير على العنب نفسه. إلّا أن تفاوت أحكام الشي ء بالنسبة إلى الحالتين و تفارق أحكام حال بالنسبة إلى حال آخر ليس بعزيز.

ألا ترى أن الدم في الخارج هو الدم الموجود في الباطن بلا فرق بينهما و مع ذلك يترتّب على الخارج منه ما لا يترتّب على الداخل منه و بالعكس فلذا نقول بأنه إذا غرز إبرة أو أدخل سكّينا في بدنه أو بدن حيوان فإن لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر، و إن علم الملاقاة لكنّه خرج نظيفا غير ملوّث بالدم فالأقوى أيضا عدم لزوم الاجتناب عنه، مع أنه لا شك في التنجّس بالملاقاة معه في خارج البدن و هو معلوم.

هذا كلّه مع تسليم كون ما في أجواف الأعناب هو الماء مع أنه يمكن الإشكال في ذلك فإنّ ما تحتويه الحبّات هو الموادّ اللحميّة

لها، و ما في جوف العنب ليس بماء و يعبّر عنه بلحم العنب إلّا في الحبّات الفاسدة التي قد يكون بحيث ليس في جوفها شي ء سوى الماء و هي ليست شيئا سوى الجلدة الرقيقة و الماء و أمّا الحبّات الصحيحة فلا، و إنّما هي بالعصر ينقلب ماءا فإذا هذا شي ء و ذاك شي ء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 331

آخر و إن كان يطلق عليها أن فيها الماء لكنّه مجازيّ.

أضف إلى ذلك كلّه. جريان الشبهة في إجراء الحدّ و درئه بها.

هذا كلّه على فرض القول بالحدّ في العصير نفسه و قد علمت أنه لا وجه له أصلا. نعم البحث في العنب نفسه ينفع بالنسبة إلى سائر الآثار و الأحكام المترتبة على العصير خصوصا مع كثرة الابتلاء به عند صنع الطبيخ و طبخ الأرزّ فقد يقع فيه حبة أو حبّات من العنب أو يضعونها و يلقونها فيه.

و على ما ذكرنا فيجري في المقام أصالة الإباحة و كذا أصالة الطهارة لو قلنا في العصير بالنجاسة و إلّا فالأمر واضح. و أمّا الحدّ على شرب العصير العنبي فقد تقدم أنه لا وجه له و إن كان ظاهر عبارة الشرائع هو أنه يوجب الحدّ أيضا.

اللّهم إلّا أن يتعلّق قوله في الفرض الآتي: إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة، انتهى.

به أيضا فحينئذ لا إشكال عليه لمكان اشتراط الإسكار.

في العصير غير العنبيّ

قال المحقق: و بما عداه إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة.

أقول: يعنى إنّ الحكم المتعلّق بالخمر يتعلّق بما عدا العصير العنبي كالعصير التمري و الزبيبي بشرط حصول الشدّة المسكرة بالغليان لا بمجرّد الغليان.

و أمّا صيرورته حراما يتعلّق به حكم الخمر إذا غلا و اشتدّ و أسكر فهو مقتضى روايات صريحة في ذلك.

فعن

ابي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ «1».

و عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: في كتاب عليّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 332

عليه السلام: يضرب شارب الخمر و شارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدّهما واحد «1». فإنّ الحدّ بمقتضى هذه الروايات يقام على شارب المسكر و إن لم يصدق عليه أنه شارب الخمر و لم يصدق الخمر على ذاك المسكر و قد اتفقت النصوص و الفتاوي على ذلك.

و قد علم مما ذكر في المقام أن العصير العنبيّ قد قيّد بالغليان و أمّا العصير المتّخذ من غيره فهو مقيّد بقيد الإسكار فلا حرمة في العصير العنبيّ بدون الغليان كما لا حرمة في العصير المتّخذ من غيره بدون الإسكار.

في التمر المغليّ و الزبيب الذي نقع في الماء فغلى

قال المحقق: و أمّا التمر إذا غلى و لم يبلغ حدّ الإسكار ففي تحريمه تردد و الأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ و كذا البحث في الزبيب إذا نقع في الماء فغلى من نفسه أو بالنار فالأشبه أنه لا يحرم ما لم يبلغ الشدّة المسكرة.

أقول: فقد تردد المحقق قدس سره في الفرضين و رأى فيهما أن الأشبه هو عدم الحرمة ما لم يبلغ حدّ الإسكار.

و قال في المسالك: وجه التردد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلا: من دعوى إطلاق اسم النبيذ عليه حينئذ و مشابهته للعصير العنبي، و من أصالة الإباحة و منع إطلاق النبيذ المحرّم عليه حينئذ حقيقة و منع مساواته لعصير العنب لاشتراكهما في الحكم لخروج ذلك بنصّ

خاصّ فيبقى غيره على أصل الإباحة و هذا هو الأصحّ.

أقول: أمّا بالنسبة للنّبيذ ففي مجمع البحرين: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر و الزبيب و العسل و الحنطة و الشعير و غير ذلك. يقال: نبذت التمر و العنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا فصرف من مفعول إلى فعيل. و في المنجد: انتبذ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 333

النبيذ عمله و العنب أو التمر، صار نبيذا. النبيذ جمع أنبذه الخمر المعتصر من العنب، أو الخمر، سمّي نبيذا لأن الذي يتّخذه يأخذ تمرا و زبيبا فيلقيه في وعاء و يصبّ عليه الماء و يتركه حتى يفور فيصير مسكرا، الشراب عموما.

ثم قال في المسالك: و أمّا نقيع الزبيب و هو إذا غلى و لم يذهب ثلثاه فقيل بتحريمه كعصير العنب لاشتراكهما في أصل الحقيقة و لفحوى رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام، و الأصحّ حلّه للأصل و استصحاب الحلّ و خروجه عن اسم العنب الذي عصيره متعلّق التحريم به و لذهاب ثلثيه بالشمس، و دلالة الرواية على التحريم ممنوعة. انتهى «1».

أقول: الرواية هذه: عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث ثم يرفع و يشرب عنه السّنة؟ قال: لا بأس به «2».

و يستفاد منها أنهم لا يزالون يطبخون الزبيب بحيث كان يخرج طعمه و يسري إلى الماء ثم كانوا يطبخون ذاك الماء و يشربون منه طول عامهم فالراوي سأل عمّا إذا طبخ الماء المذكور بحيث ذهب ثلثاه فيعلم

أنه كان مغروسا في ذهنه و في الأذهان عدم جواز شربه بدون ذهاب ثلثيه و قد حكم الإمام عليه السلام بالجواز و يستفاد من ذلك أنه لا يجوز شربه إذا لم يذهب ثلثاه هذا غاية تقريب التّمسّك بها في الحكم بالحرمة.

لكن لا يخفى أنه قد كان السؤال بالنسبة لهذا المورد و لم يكن ذكر القيد عن الإمام عليه السلام و في كلامه حتى يفيد عدم الجواز في فرض عدم الذهاب جزما و لا تصريح فيها بالبأس في غير الصورة المفروضة و بذلك يمكن الخدشة في دلالة الرواية على الحرمة.

و أمّا ما أفاده المسالك توجيها للحلّ من الاستصحاب فبيانه أنه قبل أن ينقع

______________________________

(1) مسالك الأفهام ج 2 كتاب الحدود ص 439.

(2) (چ) وسائل الشيعة ج 17 ب 8 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 334

في الماء كان حلالا فالآن أيضا كذلك.

و يمكن أن يورد عليه بأن الزبيب حال كونه عنبا كان يحرم إذا غلا فالآن الذي صار زبيبا أيضا كذلك فيكون الحكم بالحرمة مع الغليان حكما لكليهما.

و لكنّ الظاهر أنه لا مورد للاستصحاب و ذلك لانقلاب الموضوع فالحكم المتعلّق بالعنب و عصيره و مائه لا تعلّق له بالزبيب.

هذا مضافا إلى أن الحكم السابق كان متعلّقا بعصير العنب و هنا لا عصير أصلا و إنّما هو ماء و زبيب.

كما أن ما ذكره أخيرا في توجيه الحلّ من ذهاب الثلثين في العنب بالشمس لا محصّل له، و لا يخفى ما فيه: أوّلا أن ذهاب الثلثين المطهّر و الموجب للحلّ هو ما كان بعد الغليان لا مطلقا و إن كان قبله و بدونه كما في الزبيب و التمر. و ثانيا أن

أصل ذهاب ثلثي العنب أو التمر بالهواء أو بالشمس غير معلوم.

ثم لا يخفى أنه ذكر في مجمع البحرين: النقيع شراب يتّخذ من زبيب ينقع في الماء من غير طبخ و قد جاء في الحديث كذلك.

الكلام في الفقّاع

قال المحقق: و الفقاع كالنبيذ المسكر في التحريم و إن لم يكن مسكرا و في وجوب الامتناع من التداوي به و الاصطباغ به.

أقول: هذا توضيح و تفصيل بالنسبة لما ذكره في أوّل البحث بقوله: الموجب و هو تناول المسكر أو الفقّاع.

و قال العلّامة في القواعد: و الفقّاع كالمسكر و إن لم يكن مسكرا. و الظاهر من عبارتهما أن الفقّاع على قسمين: المسكر و غير المسكر و أنه ليس الإسكار من طبعه و لوازمه ذاتا فما سمّي فقّاعا فهو حرام مطلقا.

و فيه أنه يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من الأخبار أن الفقّاع مسكر و إن لم يكن إسكاره قويّا شديدا مثل الخمر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 335

قال علم العلم و التقى الشيخ المرتضى أعلى اللّٰه مقامه: ظاهر النصوص و معاقد الإجماع عدم اعتبار الإسكار فيه و قد نسبه في الحدائق إلى ظاهر الأصحاب و تقدم في شرح المفاتيح أن نجاسته و إن لم يكن مسكرا هو المعروف. بل المصرّح به في مجمع البحرين و كشف الغطاء كونه مما لا يسكر قال في الأوّل: هو شي ء يتّخذ من ماء الشعير و ليس بمسكر لكن ورد النهي عنه. و في الثاني: إنّه شراب مخصوص غير متّخذ من الشعير غالبا. و في تحفة الطبّ: إنّه من الأنبذة و لا يسكر. و لكنّ الإنصاف أن ظاهر الأخبار الدّالة على أنها خمر أو بمنزلتها اعتبار الإسكار فيه سيّما بملاحظة ما دلّ على أن

اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها و إنّما حرّمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبته الخمر فهو خمر إلّا أن يلتزم بأنه يحصل منه فتور و إن لم يبلغ حدّ السكر انتهى «1».

و قال الفقيه الهمداني رضوان اللّٰه عليه: ثم إنّ ظاهر الأصحاب حيث جعلوا الفقّاع قسيما للخمر و غيرها من المسكرات عدم اعتبار الإسكار فيه بل سمعت من مجمع البحرين كما صرّح به غيره أيضا أنه شراب غير مسكر لكن يفهم من الأخبار أن حرمته حرمة خمرية فيستشعر منها أنه من الأشربة المسكرة كما يؤيّده ما حكي عن زيد بن أسلم أنه قال: الغبيراء الّتي نهى رسول اللّٰه عنها هي الأسكركة خمر الحبشة انتهى.

و قد فسّر الأسكركة بالفقّاع فلا يبعد أن يكون له مرتبة خفيّة من الإسكار لا توجب زوال العقل فلعلّه لذا سمّي في الأخبار بالخمر المجهول حيث لم يعرف مسكريّته «2».

و في تقريرات أبحاثنا: التاسع من النجاسات الفقّاع و هو شراب خاصّ متّخذ من الشعير كما ذكره غير واحد و نجاسته إجماعية عندنا، و أمّا العامّة فيحكمون بحليّته و لعلّ حكمهم بحليّته مع أن كلّ مسكر عندهم حرام لأجل خفاء السكر فيه

______________________________

(1) طهارة الشيخ الأنصاري قدس سره الشريف ص 321.

(2) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 557.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 336

أو حصول السكر في كثير منه دون قليله فما يقال من أن الفقّاع لا يشترط فيه السكر فكلّ شي ء يصدق عليه الفقّاع فهو حرام سواء أسكر أم لا، يردّه ما يستفاد من الأخبار من أن الفقّاع من الخمر و لا يصدق الخمر على غير المسكر انتهى «1».

و على الجملة فالمستفاد من بعض الأخبار أنه مسكر سكرا خفيفا و لذا عبّر

عنه بأنه خمر مجهول. و إليك بعض الأخبار الواردة في المقام المستدلّ بها للمرام:

عن الوشاء قال: كتبت إليه يعني الرضا عليه السلام أسأله عن الفقّاع قال:

فكتب: حرام و هو خمر «2».

و عن ابن فضّال قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقّاع فقال: هو الخمر و فيه حدّ شارب الخمر «3».

و عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: كلّ مسكر حرام و كلّ مخمّر حرام و الفقّاع حرام «4».

و عن عمار بن موسى قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقّاع فقال:

هو خمر «5».

و عن زكريّا أبي يحيى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقّاع و أصفه له فقال: لا تشربه. فأعدت عليه كلّ ذلك أصفه له كيف يصنع قال: لا تشربه و لا تراجعني فيه «6».

و عن الحسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام أسأله

______________________________

(1) كتاب الطهارة ص 294.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 2.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 4.

(6) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 337

عن الفقّاع فقال: لا تقربه فإنّه من الخمر «1».

و عن محمّد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الفقّاع:

هو الخمر بعينها «2».

و عن هشام بن الحكم إنّه سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفقّاع فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهول و إذا أصاب ثوبك فاغسله «3».

و عن زاذان

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لو أن لي سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخميرة يعني الفقّاع «4».

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة فراجع. فهذه الأخبار و إن لم تكن لبعضها دلالة على كون الفقّاع مسكرا و ذلك مثل الثالثة التي اكتفى فيها بمجرّد الحرمة، و الخامسة المشتملة على مجرّد النهي عن الشرب و غير ذلك، إلّا أن الرواية الأولى و الثانية و الرابعة و السادسة و السابعة و الثامنة بل و التاسعة دالّة على كونه خمرا. و ما يقال من احتمال كون التنزيل حكميّا فهو خلاف الظاهر خصوصا بالنسبة لما ذكر في بعضها: هو الخمر و فيه حدّ شارب الخمر، أو: هو من الخمر، الظاهر في أنه من أقسام الخمر، أو: هو الخمر بعينها.

و على الجملة فهذه الروايات ظاهرة في كون الفقّاع مسكرا، غاية الأمر في حدّ أخفّ من الخمر و لعلّه الوجه في التعبير عنه في رواية زاذان بالخميرة، و إن كان يحتمل كون التعبير المذكور ناظرا إلى ما ورد في بعض الروايات من أنه خمر استصغره الناس «5» و كيف كان فإنّ ترتب أحكام الخمر عليه مما لا شكّ فيه.

و بذلك يظهر وجه ما أفاده المحقق من وجوب الامتناع من التداوي به

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 8.

(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرّمة ح 9.

(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 338

و الاصطباغ. فإنّه

إذا كان الفقّاع من الخمر فيجري فيه الأبحاب الجارية فيه فلا يجوز التداوي به لرفع المرض أو غمس الخبز فيه و أكله كما لا يجوز ذلك في الخمر [1].

في الاختيار و أنه لا حدّ على المكره

قال المحقق: و اشترطنا الاختيار تفصيا من المكره فإنّه لا حدّ عليه.

و في الجواهر: بلا خلاف و لا إشكال بل الإجماع بقسميه عليه سواء كان بإيجار في حلقه أو بتخويف على وجه يدخل به في المكره.

و في المسالك: لا فرق في جوازه مع الإكراه بين من و جر في فمه قهرا أو من ضرب أو خوّف بما لا يحتمله عادة حتى شرب.

ثم قال: و يفهم من إخراج المكره عنه خاصّة أن المضطرّ لا يخرج عنه، و الأصحّ خروج ما أوجب حفظ النفس من التلف كإساغة اللقمة بل يجب ذلك لوجوب حفظ النفس و إن حرم التداوي به لذهاب المرض أو حفظ النفس

______________________________

[1] فعن أبي بصير قال: دخلت أمّ خالد المعبديّة على أبي عبد اللّٰه عليه السلام و أنا عنده فقالت: جعلت فداك إنّه يعتريني قراقر في بطني [فسألته عن أعلال النساء و قالت:] و قد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق و قد وقفت و عرفت كراهتك له فأحببت أن أسألك عن ذلك.

فقال لها: و ما يمنعك عن شربه؟ قالت: قد قلّدتك ديني فألقى اللّٰه عزّ و جلّ حين ألقاه فأخبره: إنّ جعفر بن محمد عليهما السلام أمرني و نهاني فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه المرأة و هذه المسائل لا و اللّٰه لا آذن لك في قطرة منه و لا تذوقي منه قطرة فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك ها هنا- و أومأ بيده إلى حنجرته- يقولها ثلاثا: أفهمت؟ قالت: نعم. ثم قال

أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء- يقولها ثلاثا.

الكافي ج 6 ص 413 إلى غير ذلك من الروايات هناك فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 339

انتهى.

أقول: إنّ ذكر الإيجار في الحلق مثالا للإكراه المقابل للاختيار محلّ الإشكال و ذلك لأن من و جر في حلقه فلا حرمة في حقّه للإلجاء و الاضطرار و هذه العناوين غير عنوان الإكراه.

و أمّا التخويف فإن كان من جهة الإيعاد و التهديد على قتله إن لم يشربه فهو، و أمّا لو كان على غير ذلك كتوعيده بضياع وجاهته الاجتماعيّة أو سبّه أو شتمه و ضربه فهناك يشكل الحكم بأنه أكره على شرب الخمر و أنه يجوز له ذلك.

و الحاصل أن الاستكراه على الشي ء الموجب لرفع أحكامه جار في المعاملات بأيّ نحو من أنحاء الاستكراه كان فلا يترتب معه على المعاملة آثارها، و هذا بخلاف إتيان المحرمات و اقترافها و ترك الواجبات فإنّ الاستكراه المسوّغ لذلك لا بدّ فيه من أن يكون الأمر المتوعّد عليه أهمّ من الذي استكره عليه و إلّا فلا أثر له.

و أمّا التقيّة و الاضطرار فهما موضوعان مستقلّان و لا تعلّق لهما بالإكراه.

و كيف كان فالاضطرار لو كان بحيث يتوقف حفظ النفس على الارتكاب و ذلك كإساغة اللقمة فهناك يجري الحكم و يجوز الأكل أو الشرب كي يتخلّص من الهلاك، و يشمله حديث رفع ما اضطرّوا إليه أيضا.

و أمّا الاضطرار إليه لرفع المرض فتجويز الشرب لذلك مشكل، و ما ورد في الأخبار من عدم جعل الشفاء فيه أو عدم التداوي به فهو ناظر إليه و إلّا فلو توقف حفظ نفسه عليه كما إذا رأى الطبيب الحاذق الماهر الموثوق به أن

المرض مهلك و العلاج منحصر في شرب الخمر فهناك يجوز ذلك فمجرّد حفظ النفس عن المرض و إعادة الصحّة ليس مجوّزا له و إنّما يسوّغ ذلك حفظ النفس عن التلف و الهلاك و ذلك لأن حفظ النفس أهمّ من كلّ شي ء إلّا بالنسبة إلى مثله أي نفس آخر. و على هذا فمن شرب الخمر لحفظ نفسه عن الهلاك فلا حدّ عليه أصلا.

و في الجواهر: بل لو قلنا بحرمته معه [أي مع الاضطرار] أمكن منع الحدّ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 340

المزبور عليه لظهور ما دلّ عليه في غيره. يعني لظهور ما دلّ على الحدّ في غير الاضطرار.

ثم قال: اللّهم إلّا أن يمنع ذلك انتهى أي ذلك الظهور فهناك يترتب عليه الحدّ أيضا.

ثمّ لو لم يكن إكراه و إنّما كانت التقيّة محقّقة فهل يرفع الحكم بعمومات التقيّة أو أن للمسكرات خصوصيّة لا يرفع حكمها بالتقيّة فيجب الاجتناب عنها و إن كان معرضا للإضرار بالنفس أو المال أو العرض؟ مقتضى عدّة من الروايات هذا، و هي:

عن زرارة قلت لأبي جعفر عليه السلام في المسح على الخفّين تقيّة فقال:

ثلاث لا أتّقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر و المسح على الخفّين و متعة الحجّ «1».

و عن سعيد بن يسار قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ليس في شرب النبيذ تقيّة «2».

و عن حنان قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما تقول في النبيذ فإنّ أبا مريم يشربه و يزعم أنّك أمرته بشربه؟ فقال: معاذ اللّٰه أن أكون أمرته بشرب مسكر و اللّٰه إنّه لشي ء ما اتّقيت فيه سلطانا و لا غيره قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: كلّ مسكر حرام و

ما أسكر كثيره فقليله حرام «3».

فهذه الروايات تدلّ على عدم جريان التقيّة في باب المسكر.

قال صاحب الجواهر قدس سره: و الأخبار الواردة في نفي التقيّة فيه يراد منها عدم التقيّة في بيان حكمه لا التقيّة بمعنى فعله للإكراه عليه كما هو واضح انتهى.

أقول: لعلّ دقيق النظر في الأخبار يقضي بخلاف ذلك فترى أن السؤال في الرواية الأولى عن العمل لا بيان الحكم و كذا الرواية الثانية متعرّضة لشرب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من الأبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 341

النبيذ.

و عن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّ هؤلاء ربما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم أشربه خفت أن يقولوا:

فلانيّ، فكيف أصنع؟ فقال: أكسره بالماء، قلت: فإن أنا كسرته بالماء أشربه؟

قال: لا «1». و مقتضى هذه الرواية رفع الحرمة للتقيّة و جريان التقية في النبيذ حيث إنّه عليه السلام أمره بكسر النبيذ بالماء فيكون المراد: أكسره و أشربه.

و إلّا فلو كان المراد مجرّد كسره بالماء من دون أن يشربه كما هو ظاهر الجملة الأخيرة فالعمل المزبور لغو لا طائل تحته.

اللهمّ إلّا أن يكون المراد أمره بالاشتغال بكسره بالماء و إراءة نفسه عند الحاضرين أنه يريد أن يشربه، و لكن نهاه عن شربه. و يمكن أن يكون مقصود الإمام عليه السلام كسره بالماء عند اضطراره إلى الشرب حتى لا يكون مسكرا و إن كان محرّما.

و أمّا نهيه بعد ذلك مع الحمل على حال الاضطرار فيحمل على

أن السائل قد تخيّل أنه يمكن ذلك في الاختيار أيضا بأن يكسر إسكاره بالماء ثم يشرب فنهاه الإمام عليه السلام عن ذلك.

و على الجملة فلهذه الرواية نوع إجمال فعلى احتمال تفيد أنه لا تقيّة في النبيذ فلا يجوز شربه مطلقا و على احتمال آخر يفيد أنه تجري فيه التقيّة و إذا كان جريان الاحتمال موجبا للإجمال و الشبهة فهناك تجري قاعدة الدرء فلا يقام الحدّ على من شربه في التقيّة و إن قلنا بحرمته لصراحة رواية المنع و إجمال المجوّز مع أن المرجع عمومات التقيّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من الأبواب الأشربة المحرّمة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 342

قال المحقق: و لا يتعلّق الحكم بالشارب ما لم يكن بالغا عاقلا.

أقول: و هذا واضح لأنه لا تكليف على الصبيّ و المجنون نعم يؤدّب الطفل على شربه إذا كان مميزا.

لا حدّ على الجاهل

قال المحقق: و كما يسقط الحدّ عن المكره يسقط عمّن جهل التحريم أو جهل المشروب.

أقول: إن شرب الخمر جهلا على قسمين:

أحدهما: شربه للجهل بالموضوع و أن المائع الذي يشربه خمر.

ثانيهما: شربه للجهل بالحكم كما إذا كان الشارب حديث العهد بالإسلام أو كانت بلاده نائية عن عاصمة الإسلام جدّا لم يصل إليه الأحكام الشرعية. و كلّ منهما معذور على شربه و لا يقام عليه الحدّ بذلك.

أمّا الأوّل و هو ما إذا شرب الخمر بزعم أنه ماء مثلا فيدل على عدم الحدّ عليه حديث الرفع: رفع ما لا يعلمون.

و أمّا الثاني و هو الجهل بالحكم فيدل عليه- مضافا إلى ذلك- خبر ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع إلى أبي بكر فقال له:

أشربت خمرا؟ قال: نعم، قال: و لم و هي محرّمة؟ قال: فقال له الرجل: إنّي أسلمت و حسن إسلامي، و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّون و لو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر: معضلة و ليس لها إلّا أبو الحسن فقال أبو بكر: ادع لنا عليّا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقاما و الرجال معهما و من حضرهما من الناس حتى أتوا أمير المؤمنين عليه السلام فأخبراه بقصّة الرجل و قصّ الرجل قصّته فقال: ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 343

و الأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك به فلم يشهد عليه أحد بأنه قرأ عليه آية التحريم فخلّى سبيله فقال له: إن شربت بعدها أقمنا عليك الحدّ «1».

نعم ذكروا في الجهل بالحكم أنه إذا كان عالما بالتحريم فإنّه يكفي في عدم معذوريّته و إن لم يكن عالما بالحدّ و ذلك لأن علمه بالتحريم كما هو المفروض كاف في إتمام الحجّة و لزوم الاجتناب عليه فلو لم يعتن بذلك و ارتكب الحرام الذي له حدّ يقام عليه ذاك الحدّ و إن لم يكن يعلم هذه الخصوصيّة.

فيما يثبت به الشرب

قال المحقق: و يثبت بشهادة عدلين مسلمين و لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمّات و بالإقرار دفعتين و لا تكفي المرّة.

أقول: الكلام هنا في ما يثبت به الشرب حتى يترتب عليه حدّه فاعلم أنه يثبت بالبيّنة أي شهادة رجلين عدلين مسلمين و كذا بالإقرار على نفسه بذلك مرّتين.

أمّا الأول فلإطلاق دليل البيّنة و لا كلام و

لا خلاف في ذلك قال اللّٰه تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ» «2» و قد تحقق عدم اختصاص ذلك بمورد الآية الكريمة أي باب الديون و الأموال بل البينة حجّة في جميع الموارد إلّا ما خرج بالدليل من الموارد التي تحتاج إلى أكثر من ذلك.

و أمّا الشاهد الواحد فقد يدّعي السيرة على قبول قوله. إلّا أنه يجاب عنه- كما في البحث عن خبر الواحد- بأن السيرة و إن كانت قائمة على قبول قول الثقة لكنّه في الأحكام لا الموضوعات، و الكلام الآن، فيها و مقتضى الآية الكريمة هو

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من الأبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) سورة البقرة الآية 282.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 344

اعتبار الاثنين بعد عدم اختصاصها بموردها كما ذكرنا. بل و ادّعى بعض الإجماع على عدم حجيّة شهادة الواحد في الموضوعات، و الحقّ هو الثاني و لا أقلّ من أن الاقتصار على الواحد مورد الشبهة التي يدرأ الحدّ بها.

ثم إنّه يكفي في الشهادة على الشرب أن يشهد الشاهد بأنه شرب مسكرا و إن لم يعيّن جنس ما شربه و أنه شرب القسم الخاصّ منه، نعم لا بدّ من اتّفاقهما على الشهادة.

و أمّا الثاني فإثبات الشرب بالإقرار مرّتين مقطوع به و لا كلام فيه و إنّما الكلام في اعتبار المرّتين أو الإكتفاء بإقرار واحد. فالمشهور عدم الإكتفاء به و اعتبار التعدّد فيه و مقتضى إطلاق دليل الإقرار الإكتفاء بمرّة واحدة و عدم اعتبار أزيد من ذلك كما أنه قد ذهب إلى ذلك بعض من السابقين و المعاصرين «1».

و لكن فتوى المشهور باعتبار المرّتين يصلح لإيجاد الشبهة في الإقرار مرّة واحدة فيدرء الحدّ بها.

بقي الكلام فيما

أفاده من عدم قبول شهادة النساء مطلقا لا منفردات و لا منضمّات إلى الرجال. و ذلك لما تقدم بحثه في كتاب الشهادات من أن شهادة النساء في الحدود غير مقبولة إلّا ما خرج بالدليل كما في باب الزنا الذي مرّ أنه يكفي فيه ثلاثة رجال و امرأتين فقط لا شهادتهن منفردات و لا بغير ما ذكر من الصور المنضمّة، و إنّما يختصّ قبول شهادتهنّ بالمال أو بما لا يطلع عليه الرجال.

فعن علي عليه السلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود [1].

إلى غير ذلك من الروايات الدّالة على ذلك فراجع. و قد خصّ الشيخ

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب الشهادات ح 29 أقول: و مثله خبر 30 من هذا الباب.

______________________________

(1) راجع تكملة المنهاج ص 272.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 345

الطوسي قدس سره هذه الرواية بما عدا حدّ الزنا، و ذلك لما تقدم آنفا من خروج باب الزنا بدليل خاص.

شرائط المقرّ

قال المحقق: و يشترط في المقرّ البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار.

أقول: بعد ذكر أنه زاد في الجواهر القصد: أمّا اشتراط البلوغ و العقل فواضح، و أمّا الحرية فلأن إقرار العبد على نفسه يؤل إلى الإقرار في حقّ الغير.

لا يقال إنّ حدّ الشرب هو الجلد و ليس هو القتل كي يكون إقرارا في حق المولى فلا تجري القاعدة هنا.

لأنا نقول: لا أقلّ من أنه في أثناء مدّة الحدّ يتضرر المولى لأن من حقه أن يكون العبد في خدمته دائما.

و أمّا الاختيار فتدل عليه رواية أبي البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: من أقرّ عند تجريد أو

تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه «1». و هي مطلقة شاملة لباب الشرب و السرقة و غيرهما.

ثم إنه قال الشيخ المفيد قدس سره: و يحدّ شارب الخمر و جميع الأشربة المسكرة و شارب الفقّاع عند إقرارهم بذلك أو قيام البيّنة عليهم لا يؤخّر ذلك و لا يحدّ السكران من الأشربة المحظورة حتى يفيق و سكره بيّنة عليه بشرب المحظور و لا يرتقب بذلك إقرار منه في حال صحوه به و لا شهادة من غيره عليه انتهى «2». فاكتفى رضوان اللّٰه عليه في إجراء حدّ الشرب بمجرد السكر و إن لم يكن شربه مشهودا به و لا أنه أقرّ به فكما يثبت الشرب بالبيّنة أو الإقرار كذلك يثبت بالسكر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ السرقة ح 2.

(2) المقنعة الطبع القديم ص 128 و الجديد ص 801.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 346

و أورد عليه في الجواهر بقوله: و لا يخلو من نظر مع احتمال الإكراه و الجهل و غيرهما و من هنا لا تكفي في ثبوته الرائحة و النكهة لاحتمال الإكراه و الجهل و غيرهما. خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من الإكتفاء بالرائحة و هو واضح الضعف. و محصّل إيراده أن السكر و إن كان ملازما للشرب لكنه لا يلازم الشرب عن اختيار فلا يحدّ الشارب.

أقول: لعلّ ما أورده عليه لم يكن واردا و ذلك لأن سكره دليل على شربه، و الشرب محمول على الاختيار، و لو كان يرد هذا الاحتمال هنا فهو وارد في مورد قيام الشهادة على شربه، و لم نر من قال باشتراط تقيّد الشهادة بكونه عن اختيار، فإنّ شرب الخمر بظاهره يحمل على القصد

و الإرادة و العلم على ما هو الأصل في كلّ فعل من أفعال البالغين العاقلين، و أصالة السلامة و عدم الاضطرار من الأصول العقلائيّة فيحمل أفعال المكلّف على الاختيار من دون عذر و اضطرار إلى أن يثبت العذر أو ادّعى الإكراه أو الاضطرار أو الجهل و كان يحتمل ذلك في حقّه. و ليس لفعل شرب الخمر الحمل على الصحّة باحتمال العذر ما لم يدّع هو بنفسه أنه شربه جاهلا أو مكرها.

نعم في جريان الأصل العقلائي بالنسبة للعلم و الجهل إشكال و ذلك لأن القصد و الاختيار من الحالات الأولوية للإنسان في حين أن العلم ليس كذلك لأن الإنسان في بدو أمره و بحسب طبعه و مقتضى حاله ليس عالما، بل علمه مسبوق بالجهل [1] إذا فيشكل في الموارد الّتي يشك في صدور المعصية عنه- كشرب الخمر- عن علم أو جهل، حمل فعله على صدوره عن علم فإنّ العلم طار و عارضيّ و الأصل الجاري بالنسبة له هو العدم لأنه لم يخلق عالما.

لكنّ التحقيق أنه و إن كان الأمر كذلك إلّا أن كون الفاعلين بين المسلمين و معهم و نشؤه في بيئة دينيّة و جوّ مذهبيّ يوجب قلب الأمر، فإنّ ذلك يقتضي كونه

______________________________

[1] قال الله تعالى وَ اللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لٰا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» سورة النحل الآية 78.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 347

عالما بالحرمة، فيكون الجهل بها خلاف الظاهر، فإنّ المسلمين عالمون و بأنه حرام مثلا و قد نشأ الشارب فيهم فلذا لا يسمع دعواه الجهل بذلك إلا مع الإثبات أو كان بحيث يظنّ به ذلك و أمكن في حقّه ما يدّعيه كما إذا كان حديث العهد بالدين أو فسد الجوّ

الحاكم إلى أن تصوّر الحرام حلالا.

و لعلّه كان الأمر في عصر حاكميّة الطاغوت بإيران و قبل وقوع الثورة الإسلامية، هذه الحركة الدينيّة العظيمة، كان كذلك و لا أقلّ بالنسبة لقسم من المجتمع، كالشبّان الجامعيّين فقد قلبت الحقائق في ذاك العصر القاسي و اشتبهت الحقائق و مسخت الأحكام بحيث لو كان يدّعي شاب من الجامعيّين مثلا أنه قد أقدم على شرب الخمر جهلا بحرمته و أنه كان لا يعلم ذلك، لم يكن ذلك مستبعدا منه و في حقّه.

و أمّا الآن و في هذه الظروف الّتي يرى ليلا و نهارا ما يصنع بشارب الخمر مثلا من إقامة الحدود فلا، بل و لا يسمع منه دعواه الجهل و إن لم يعلم بترتّب الحدّ على شرب الخمر و ذلك لأن حرمته في هذه الآونة و الظروف مقطوع بها و معلومة لدى كافّة الناس.

لكن يظهر من رواية ابن بكير أنه لا يسمع ادّعاء الجهل في مثل حرمة الخمر ممن كان مسلما بين المسلمين لأنه ضروريّ أو كالضروريّ و لذا بعثوا من يتفحّص عن حاله ليعلم صدقه و كذبه.

فعن ابن بكير عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع إلى أبي بكر فقال له: أشربت خمرا؟ قال: نعم. قال: و لم و هي محرّمة؟ قال: فقال له الرجل: إنّي أسلمت و حسن إسلامي، و منزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر و يستحلّون و لو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال أبو بكر: ادع لنا عليّا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقام و الرجل معهما إلى آخر الخبر و قد مرّ آنفا [1] فحيث إنّه قد ادّعى الجهل و كان

يمكن في

______________________________

[1] في بحث عدم الحدّ على الجاهل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 348

حقّه ذلك فلذا أمر بالتفحّص و إلّا فنشوء الإنسان بين المسلمين بنفسه كاف في إجراء الحدّ عليه حملا على أنه قد اقترفه عالما لأنه لا أقل من علمه بالحرمة و هو كاف في إجراء الحدّ عليه و إن لم يكن عالما بترتب الحدّ عليه.

و على الجملة فتارة يشك في شربه الخمر و احتمل عدم ذلك، فهناك يحمل على الصحة و أنه لم يشرب الخمر و أمّا إذا ثبت و تحقق ذلك فإنّه يحمل على القصد و الإرادة و الاختيار، و كذا يحمل على اقترافه و ارتكابه عالما إذا كان قد نشي ء في بلاد المسلمين و كان معهم و فيهم، و بذلك ينقطع استصحاب الجهل و يدفع احتمال العذر بكونه مكرها على ذلك، أو غير ذلك من الأمور، بالأصل العقلائي على ما قررناه. و لو ثبت أنه شربه مكرها عليه أو لغير ذلك من الأعذار فهناك لا حدّ عليه بلا كلام.

و هنا نكتة لطيفة ينبغي ذكرها و هي أنه يستفاد من هذه الرواية أي خبر ابن بكير أنه كان للمهاجرين و الأنصار مجالس ذكر الأحكام و بيان مسائل الحلال و الحرام [1].

ثم إنّ ما ذكره الجواهر تأييدا لمرامه من عدم كفاية الرائحة و النكهة في إثبات الشرب و ذلك لاحتمال الإكراه و الجهل مثلا. يرد عليه أن الظاهر هو أن عدم الإكتفاء بالرائحة و النكهة ليس لمكان احتمال الإكراه و الجهل، بل هو لأجل أن كثرة الشبع أيضا قد ينجر إلى إثارة الرائحة الكريهة من تلك الأطعمة بحيث يحسّ منه من كان يقرب منه ذلك كما أنه يمكن تلك الرائحة

من جهة أنه قد تمضمض بالخمر أو أنه صبّ و رشّ عليه الخمر فلا تلازم الرائحة الشرب.

ثمّ إنّه يظهر من إسناد الخلاف- في عدم الإكتفاء بالرائحة و النكهة- إلى أبي حنيفة، عدم الخلاف بيننا و الحال أن كلام المفيد قدس سره الشريف و الرواية الواردة في قدامة بن مظعون الذي شهد واحد من الشاهدين بأنه رآه و قد قاء

______________________________

[1] حيث إنّ فيها أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ابعثوا معه من يدور على مجالس المهاجرين و الأنصار.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 349

الخمر يشملهما و سيأتي نقل هذا الخبر. إلّا أن يدّعى أن الملازمة بين الرائحة و الشرب ليست كالملازمة بين القي ء و الشرب مثلا.

و الحقّ أنه لو كانت الرائحة ناشئة عن الباطن صاعدة عنه لا عن فضاء الفهم و كانت رائحة الخمر نفسه لا ما يشابهه فهناك تكون الرائحة و النكهة كالسكر و القي ء في الدلالة على الشرب و ترتيب الآثار و لا يعبى ء باحتمال الإكراه عليه و الاضطرار إلى شربه للتداوي به إلّا أن يدّعي هو ذلك فعليه إثباته كما في ما إذا ثبت شربه بالبيّنة أو الإقرار كما يستفاد ذلك من الخبر المشار إليه آنفا و هو خبر الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصيّ و هو عمرو التميمي و الآخر المعلّى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب و شهد الآخر أنه رآه يقي ء الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير

المؤمنين عليه السلام: ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أنت أعلم هذه الأمة و أقضاها بالحقّ فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما و ما قاءها حتى شربها. [1].

و ذلك لأنه إذا قال الإمام عليه السلام: ما اختلفا و ما قاءها حتى شربها، فإنّه يستفاد منه أنه لا حاجة في الحكم بالشرب إلى البيّنة أو الإقرار بل يكفي مجرّد أن قاء الخمر في الحكم به و بالحدّ عليه و حينئذ يستفاد منه أنه يكفي في الحكم بذلك

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ص 480 ب 14 من أبواب حدّ شرب الخمر ح 1، و لا يخفى أن الرواية في نقل الوسائل ناقصة و قد تعرّض بعض- و لعلّه المرحوم الآية الحاج الشيخ فضل اللّٰه النوري الشهيد المظلوم قدس سره- لذلك في بعض الحواشي له على الوسائل الطبع القديم فراجع، و الصحيح ما هو المذكور في نقل الكافي و هو: أنت أعلم بهذه الأمّة و أقضاها بالحقّ فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما، قال: ما اختلفا في شهادتهما، و ما قاءها حتى شربها. راجع الكافي ج 7 ص 401.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 350

و إقامة الحدّ عليه كلّ ما كان ملازما للشرب و نتيجة ذلك هو الإكتفاء في الحكم بالشرب و ترتيب تبعاته عليه بالرائحة و النكهة و كذلك الأمر بالنسبة للسكر فكلّ واحد من القي ء و السكر و الرائحة دليل على الشرب فهذه الأمور في حكم البيّنة و الإقرار فيترتب الحدّ لحمل الأفعال على الاختيار و لا يجري الحمل على الصحّة في المحرّمات كما إذا رأينا أحدا ينقب و يثقب جدار دار غيره

بالليل فإنّه يحمل على أنه يريد السرقة و لا يحمل ذلك على الصحّة [1].

في كيفيّة الحد

قال المحقق: الثاني في كيفيّة الحدّ و هو ثمانون جلدة.

أقول: المراد من الكيفيّة في كلامه ما يشمل المقدار و الحالة مثل كونه عريانا و إيقاع الجلدة على ظهره و كتفيه و غير ذلك من الأمور.

و أمّا مقداره فهو ثمانون جلدة. و الدليل على ذلك الإجماع و النصوص.

أمّا الأوّل فقد ادّعاه كثير ممن رأينا كلامهم. ففي المسالك بشرح عبارة المحقق المتقدمة: تحديد حدّ الشرب بثمانين متفق عليه بين الأصحاب و مستندهم الأخبار.

و في كشف اللثام- بعد قول القواعد: و يجب فيه ثمانون جلدة-: بالإجماع و النصوص.

و في شرح الإرشاد للأردبيلي- بعد قول الماتن قدس سره: و يجب الحدّ ثمانون جلدة-: الظاهر أن كون المذكورات من الخمر و غيرها بالشرائط المذكورة موجبا للحدّ إجماعيّ كان الشارب ذكرا أم لا.

و في الرياض- بعد قول النافع: و هو ثمانون جلدة-: إجماعا و للنصوص

______________________________

[1] أقول: لا يخلو عن تأمّل و ذلك لأنه إذا رأينا من يغتاب غيره و لم نعلم أنه كان على وجه الحرام بل احتملنا أنه يغتابه لمبرر فقد يقال بأنه يحمل على الثاني. و أيّ فرق بينه و بين المقام؟.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 351

المستفيضة.

و في الجواهر- بعد عبارة الماتن المذكورة آنفا-: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص. انتهى.

إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا نتعرّض لها روما للاختصار و لئلّا يطيل بنا الكلام فمن أراد فليراجعها في مظانّها.

نعم قد يقال: بأن الحدّ بالنحو المعمول لم يكن في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله. ففي المسالك: روى العامّة و

الخاصّة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يضرب الشارب بالأيدي و النعال و لم يقدّروه بعدد فلمّا كان في زمن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السلام في حدّه فأشار إليه بأن يضربه ثمانين و علّله بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين، و عمل به أكثر العامّة و ذهب بعضهم إلى أربعين مطلقا لما روي أن الصحابة قدّروا ما فعل في زمانه بأربعين انتهى.

و أمّا الثاني أي النصوص فهي أخبار كثيرة:

منها عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له: كيف يجلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: كان يضرب بالنعال، و يزيد كلّما أتي بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف على ثمانين أشار بذلك عليّ عليه السلام على عمر فرضي بها «1».

و عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد اللّه بن عمر و قد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدم عليه أحد يضربه حتى قام عليّ عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 2 و النسع بالكسر سير ينسج عريضا تشدّ به الرجال و القطعة منه نسعة، و في مرآة العقول: قال في النهاية النسعة بالكسر سير مضفور يجعل زماما للبعير و غيره انتهى. ثم قال المجلسي قدس سره: و يظهر منه و مما سيأتي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 352

و عن الحلبي عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: قلت له:

أ رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كيف كان يضرب في الخمر؟ قال: كان يضرب بالنعال، و يزداد إذا أتي بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف ذلك على ثمانين أشار بذلك عليّ عليه السلام على عمر فرضي بها «1».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «2».

و عن عبد اللّه بن سلام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: الحدّ في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيرا ثم قال: أتي عمر بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة فسأل عليّا عليه السلام فأمره أن يجلده ثمانين فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حدّ أنا من أهل هذه الآية: ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا، فقال عليّ عليه السلام: لست من أهلها إنّ طعام أهلها لهم حلال ليس يأكلون و لا يشربون إلّا ما أحلّ اللّه لهم ثم قال عليه السلام إنّ الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل و لا ما يشرب فاجلدوه ثمانين جلدة «3».

و عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الزنا شرّ أو

______________________________

الإكتفاء بالأربعين إذا كان السوط ذا شعبتين أو مثنيا و لم يتعرض له الأصحاب و لعلّ هذا منشأ توهم جماعة من العامّة حيث ذهبوا إلى الإكتفاء بالأربعين مطلقا و يمكن أن يكون إنّما فعله عليه السلام تقيّة فضرب بذي الشعبتين ليكون أقرب إلى الحكم الواقعي إذ لا خلاف بين الأصحاب في أن حدّ شرب الخمر ثمانون في

الحرّ، و المشهور في العبد أيضا ذلك. و ذهب الصدوق رحمة اللّه إلى أن حدّه أربعون انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 5، و الآية: المائدة- 93.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 353

شرب الخمر؟ و كيف صار في الخمر ثمانون و في الزنا مأة؟ فقال: يا إسحاق الحدّ واحد و لكن زيد في هذا لتضييعه النطفة و لوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمر اللّه به «1».

و عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل يشرب حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها و كثيرها حرام «2».

و عن محمد بن الحنفية عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ضرب في الخمر ثمانين «3».

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في أبواب مختلفة. نعم في بعضها أن التحديد بالثمانين كان متعلّقا بزمن عمر بل عن كتاب الاستغاثة [1] في بدع الثلاثة أن جلد الشارب ثمانين من بدع الثاني و أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله جعل حدّه أربعين بالنعال العربية و جرائد النخل بإجماع أهل الرواية و أن الثاني قال: إذا سكر افترى و إذا افترى حدّ حدّ المفتري.

و هذه النسبة و إن استغربها في كشف اللثام و الجواهر إلّا أن اشتمال قسم من الروايات على هذا المطلب أي تحديد هذا الحدّ بالثمانين في زمن الثاني غير قابل للإنكار كاشتمال بعضها على أن النبيّ كان يضرب بالأيدي و النعال.

نعم في

بعضها أنه قد وقع ذلك أي التحديد بالثمانين في زمن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [2].

______________________________

[1] أقول: و صاحب الاستغاثة هو الشريف أبو القاسم عليّ بن أحمد الكوفي العلويّ المتوفّى سنة 352، و قد يعبّر عن هذا الكتاب بالإغاثة. راجع الذريعة ج 2 ص 28.

[2] و قد مرّ بعضها، و في الاختصاص للشيخ المفيد قدس سره و في خبر عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و أمّا الثمانون فشارب الخمر يجلد بعد تحريمه ثمانين سوطا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 354

و يمكن توجيه ما كان مشتملا على الأوّل بأن ذلك كان بإشارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما صرّح بهذا المطلب في بعض الروايات، و إشارته عليه السلام بذلك كانت من باب تفويض بيان بعض الأحكام إلى الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين من ناحية النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله فقرر الإمام عليه السلام و حدود ذلك للاختيار المفوّض إليه صلوات اللّه عليه و على آله الأمجاد و صار ذلك مسلّما بين المسلمين، إلّا ما شذّ و ندر منهم، و جرى الأمر على ذلك بعده.

في عدم اشتراط الذكورة أو الحريّة

قال المحقق: رجلا كان الشارب أو امرأة حرّا كان أو عبدا، و في رواية يحدّ العبد أربعين و هي متروكة.

أقول: بعد أن تحقق أن حدّ الشرب ثمانون فهنا يبحث في أطراف المسألة و من جملتها أنه هل يفرق في ذلك

بين كون الشارب الرجل أو المرأة أم لا؟ و قد صرّح بعدم الفرق أصلا و ذلك للإجماع على ذلك، كما عرفت أنه لا خلاف و لا تفصيل في المسألة بل أطلقوا القول بحدّ الشارب ثمانين، و للأخبار الدّالة بإطلاقها على عدم الفرق بينهما. و من تلك المباحث أنه هل هناك فرق بين الحرّ و العبد أم لا؟.

ذهب المشهور إلى عدم الفرق و أنهما سيّان و إن كان حدّ العبد في الزنا على النصف بالنسبة للحرّ.

و خالف في ذلك الشيخ الصدوق قدس سره فذهب في المقنع و الفقيه [1] إلى أن

______________________________

[1] قال في الفقيه ج 4 ص 56: و شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة. و العبد إذا شرب مسكرا جلد أربعين جلدة و يقتل في الثامنة انتهى.

و أمّا عبارته في المقنع ص 154 فهذه: و شارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرّة فإن عاد جلد حتى يفعل ثماني مرّات ثم يقتل في الثامنة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 355

حدّ العبد في الخمر أربعون و قد مال إلى ذلك العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف فقال: المشهور أن حدّ الخمر ثمانون في الحرّ و العبد و ذهب إليه الشيخان و ابن البرّاج و ابن إدريس و قال الصدوق في كتابي المقنع و من لا يحضره الفقيه: حدّ الحرّ ثمانون و حدّ المملوك أربعون و قال ابن الجنيد: الحدّ ثمانون فإن كان السوط ثنيّا فأربعون على الحرّ مسلما كان أو ذميّا. إنّ قول ابن بابويه لا بأس به.

و قد قال إلى ذلك الشهيد الأول كما صرّح بذلك الشهيد الثاني في الروضة قائلًا: و قوّاه المصنف في بعض تحقيقاته انتهى. كما

أنه رضوان اللّه عليه بنفسه مال إليه في المسالك.

هذا بالنظر إلى الأقوال، و أمّا الأخبار فنقول إنّ أكثر الأخبار الواردة في المقام يدلّ بالإطلاق أو التصريح على التسوية بينهما و أنه يحدّ العبد ثمانين كما يحدّ الحرّ كذلك. و قد عقد في الوسائل بابا لذلك عنونه بقوله: باب أنه لا فرق في حدّ الشرب بين الحرّ و العبد و المسلم و الذّمي إذا تظاهر.

عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان عليّ عليه السلام يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصرانيّ، قلت: و ما شأن اليهودي و النصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم «1».

و عن أبي بصير- أيضا- قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ ثمانين قلت: ما بال اليهودي و النصراني؟ فقال: إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار لأنهم ليس لهم أن يظهروا شربها «2».

______________________________

و أنت ترى أنه لا تصريح بأربعين اللهم إلّا أن يستفاد ذلك من الحكم بالقتل في الثامنة بعد أن حكم في الحرّ بالقتل في الثالثة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 356

و عن أبي بصير قال: كان علي عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهوديّ و النصراني في الخمر ثمانين «1».

و عن أبي بصير قال: قال: حدّ اليهوديّ و النصراني و المملوك في الخمر و الفرية سواء، و إنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوها في بيوتهم «2».

إلى غير ذلك

من الروايات. لكن هنا بعض الروايات يدلّ على خلاف ذلك ففي خبر حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: التعزير كم هو؟

قال: دون الحدّ قلت: دون الثمانين؟ قال: لا و لكن دون الأربعين فإنّها حدّ المملوك قال قلت: و كم ذاك؟ قال: قال علي عليه السلام على قدر ما يرى الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه [1].

و قد ذكر في الوسائل أنه: حمله الشيخ على التقيّة الموافقة للعامّة.

و فيه إنّه لا وجه لذلك بعد أن النسبة بين الأخبار المتقدّمة و هذه الرواية العموم و الخصوص فيقال بأن حدّ المملوك الأربعون إلّا في خصوص شرب الخمر فإنّه يجلد ثمانين.

و في خبر أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن عبد مملوك قذف حرّا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق المسلمين فأمّا ما كان من حقوق اللّه فإنّه يضرب نصف الحدّ قلت: الذي من حقوق اللّه ما هو؟ قال: إذا

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 6 أقول: و الظاهر عدم ورود الإشكال على الشيخ و ذلك لأنه قال في التهذيب ج 10 ص 92: فأول ما فيه أنه ليس في ظاهر الخبر أن حدّ العبد الذي هو الأربعون إنما هو في شربه الخمر و إذا لم يكن ذلك في ظاهره جاز أن يكون ذلك حدّه فيما سواه و لو كان صريحا بأن ذلك حدّه في شرب الخمر جاز لنا أن نحمله على ضرب من التقية لأن ذلك موافق لمذهب بعض العامة انتهى. فترى أنه صرّح بالحمل على العموم و الخصوص لهم نعم لم يذكره الوسائل و منشأ الإشكال ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18

ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 357

زنى أو شرب الخمر فهذا من الحقوق الّتي يضرب فيها نصف الحدّ «1».

و هذا الخبر يشكل الأمر و ذلك لعدم نسبة الإطلاق و التقييد بالنسبة إليه بل هو معارض لصريح الروايات الماضية.

قال الشيخ قدس سره هذا خبر شاذّ لا يعارض به الأخبار المتواترة في تناول شارب الخمر و استحقاقه ثمانين جلدة. ثم إنّه يحتمل أن يكون الوجه فيه ما قدّمناه في الخبر الأوّل من التقيّة لموافقته لمذاهب بعض العامّة.

و قال الشيخ المحدّث الحرّ العاملي: و يجوز حمله على ما ضربه بسوط له شعبتان انتهى.

أقول: و الإنصاف أن ما أفاده هذا المحدّث الجليل من الحمل خلاف الظاهر جدّا بعد كون الخبر صريحا في التفصيل و التعليل فإنّ المستفاد منه أن المملوك إذا قذف حرّا يجلد ثمانين لأنه من حقوق المسلمين و أمّا في حقوق اللّه كالزنا و شرب الخمر فإنّه يضرب فيها نصف الحدّ، و مع هذا الحال كيف يمكن الحمل على ما لو ضربه بسوط له شعبتان؟.

و عن يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أبي يقول: حدّ المملوك نصف حد الحرّ «2». و قد خصّه الشيخ كما نقله في الوسائل بحدّ الزنا لما مرّ [1].

أقول: فالعمدة في المقام هو خبر الحضرمي و بلحاظه يحصل المعارضة فإن كان هناك ترجيح سنديّ فهو، لكنّ الظاهر عدم ذلك و قد ذكروا أن سند الطرفين مخدوش فحينئذ لا ترجيح من هذه الجهة.

نعم روايات الثمانين أكثر عددا و معمول بها عند المشهور بخلاف خبر

______________________________

[1] قال في

التهذيب ج 10 ص 93: هذا الخبر عامّ و يجوز تخصيصه بحدّ الزنا و قد بيّنا ما يقتضي تخصيصه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 358

الحضرميّ و غيره مما يدلّ على الأربعين في العبد فإنه أقلّ عددا أو غير معمول به عند المشهور و هو يوجب ترجيح أخبار الثمانين.

و لو فرض الترديد من هذه الجهة فلعلّه يمكن التمسّك بقاعدة الدرء و الحكم بالأقلّ و ذلك لأن الأكثر مشكوك فيه فيدرء بالقاعدة إن لم يستشكل فيه بأن مجراها ما إذا كان أصل الحدّ مشكوكا فيه دون مقداره بعد الفراغ عن أصله.

و في المسالك: و الحقّ أن الطريق من الجانبين غير نقيّ و أن رواية الحضرميّ أوضح طريقا و يزيد التعليل و ينبغي أن يكون العمل بها أولى لوقوع الشبهة في الزائد فيدرء بها إلّا أن المشهور الأوّل. انتهى.

و فيه أن الحق هو أنه يشكل الصفح عمّا ذهب إليه المشهور، و التعليل يمكن كونه من قبيل الحكمة و كيف كان فذهاب المشهور إلى الثمانين مرجّح لأخبارها على أخبار الأربعين خصوصا بلحاظ ما في الجواهر من قوله: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا إلخ.

و ما في عبارة الشرائع من قوله بأن رواية الأربعين متروكة، فإنّه مشعر بكون المطلب إجماعيّا، و إن كان تعبير بعضهم بالنسبة للقول بالثمانين بالأشهر يدلّ على عدم كون القول الآخر متروكا.

نظرة أخرى في الأخبار و كيفيّة الترجيح فيها

ثمّ إنّ الأخبار الواردة في الباب بنظر كلّي جامع على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما هو مطلق يدلّ على أن حدّ الشارب للخمر ثمانون بلا تعرّض لخصوصيّات الشارب.

و

من هذه الأخبار رواية إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها و كثيرها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 359

حرام «1».

و مثلها رواية قدامة بن مظعون ففي آخرها قال علي عليه السلام: إنّ شارب الخمر إذا شربها سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين جلدة «2» و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «3» و رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه «4» إلى غير ذلك من الروايات.

ثانيها: ما تعرّض لذكر العبد مصرّحا بأنه يضرب ثمانين، و ذلك كخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام «5» و خبره الثاني «6» و الثالث «7» و الرابع «8» و قد تقدمت فراجع.

ثالثها ما هو متعرّض لذكر العبد و أن حدّه الأربعون على عكس القسم الثاني كخبر حمّاد بن عثمان «9» و خبر الحضرميّ «10» و خبر يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام «11».

و من المعلوم تحقق التعارض بين هاتين الطائفتين فإن كان هنا مرجّح لإحديهما فلا بدّ من الأخذ بذات الترجيح سواء كانت هي الأولى أو الثانية و قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح

2.

(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(8) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

(9) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(10) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 7.

(11) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 360

رجّح بعض، أخبار الثمانين و بعض أخبار الأربعين.

و مؤيّدات القول بالتنصيف و مرجّحات خبر الحضرمي هو: الأصل و قاعدة التنصيف في حدّ العبد و اشتمال خبر الحضرميّ على التعليل و بناء الحدود على التخفيف و كون ذلك من باب الشبهة الّتي يدرأ بها الحدّ و أوضحيّة طريق خبر الحضرميّ. و المراد من الأصل هو أصالة عدم الزائد كما أن المراد من قاعدة التنصيف هو كون عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحرّ و هي مقتنصة من موارد خاصّة يجري فيها الحكم بالتنصيف.

و أمّا التعليل فهو مستفاد من قوله عليه السلام في خبر الحضرمي: هذا من حقوق المسلمين، و كذا من قوله عليه السلام: فهذا من الحدود الّتي يضرب فيها نصف الحدّ.

و أمّا بناء الحدود على التخفيف فواضح فإنّ الحدّ أذيّة على المسلم و لذا يبنى على ما هو الأخفّ المتيقّن الذي لا شك في جوازه.

و أمّا الشبهة فلأنه لا شك و لا شبهة في وجوب الأربعين لتوافق الأخبار على ذلك و أمّا الأربعون الزائد فهو محلّ الشك و الترديد و مصداق من مصاديق الشبهة فيدرأ هذا الزائد بها.

و أمّا أوضحيّة الطريق فراجع سند الرواية.

و أمّا المرجّح بالنسبة إلى روايات الثمانين فأمور: منها أنها أكثر. و منها أنها

المشهور. و منها أنها مخالفة للعامّة في قبال أخبار النصف الّتي هي أقلّ و متروكة و موافقة للعامّة.

و الحقّ أن الراجح هو أخبار الثمانين فإنّ قاعدة التنصيف ليست ثابتة بهذه الكليّة بل الحكم بالنصف وارد في بعض الموارد و نحن نقتفي الآثار فكلّ مورد نطق به الدليل نقول به و كلّما لم يدلّ عليه دليل فلا.

و أمّا اشتمال خبر الحضرميّ على التعليل ففيه- مضافا إلى ما تقدم- أن بعضا من الأخبار الدالّة على الثمانين أيضا مشتمل على التعليل كخبر زرارة عن أبي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 361

جعفر عليه السلام قال: إنّ عليّا عليه السلام كان يقول: إنّ الرجل إذا شرب الخمر سكره و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فاجلدوه حدّ المفتري «1». و ذلك لأنه يدلّ على أنّ الشّارب يضرب الثمانين لأنه بسبب سكره يقدم على الافتراء فيجب عليه حدّ المفتري، و من المعلوم أنّ هذه العلّة تجري في العبد أيضا كما تجري في الحرّ.

و أمّا أوضحيّة طريق أخبار الأربعين التي ذكرها الشهيد الثاني في المسالك بعد أن ناقش في سند كلتا الطائفتين فغير ظاهرة الوجه كما أنّ باقي الوجوه أيضا لا ينفع شيئا بعد ما ذكر من الترجيح لأخبار الثمانين و على هذا فيكون تعارض الطائفتين من باب تعارض الحجة و اللاحجّة فيؤخذ بالحجّة و يترك اللاحجّة.

و هنا شي ء آخر يبدو في نظري و لم أر من تعرّض له و هو أنه و لو فرض عدم الترجيح لأخبار الثمانين فإنّه بعد تعارض القسمين إن لم يكن ترجيح في البين يتعيّن العمل بالمطلقات الشاملة لكلّ شارب و منه العبد الدّالة على الثمانين و ذلك لما هو المقرر في الأصول

من أنه لو كان هناك مطلق أو عامّ و كان في قباله مقيّدان متعارضان أو خاصّان كذلك فلو كان لأحدهما ترجيح فهو أولى بالتقديم في تقييد المطلق أو تخصيص العامّ و هو جمع عرفيّ أمّا لو لم يكن هناك ترجيح فلا بدّ من الرجوع إلى المطلق أو العامّ كما إذا قيل: أكرم العلماء ثم ورد: أكرم زيدا، و كذا: لا تكرم زيدا، فإنّهما يتساقطان و يرجع إلى عموم العامّ.

و نتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحال العبد الناطقة بوجوب الثمانين و الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحدّ العبد الناطقة بوجوب الأربعين يرجع إلى المطلقات الدّالّة بنحو الإطلاق على أنّ حدّ شرب الخمر هو الثمانون فإنّها بإطلاقها شاملة للحرّ و العبد كليهما.

و نتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحال العبد الناطقة بوجوب الثمانين و الأخبار الخاصّة المتعرّضة لحد العبد الناطقة بوجوب

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 362

الأربعين يرجع إلى المطلقات الدّالّة بنحو الإطلاق على أن حدّ شرب الخمر هو الثمانون فإنّها بإطلاقها شاملة للحرّ و العبد كليهما. و لعلّه كان نظر العلماء من ذهابهم إلى الثمانين، إلى ذلك بعد تضارب المرجّحات و تساقطها [1].

هذا تمام الكلام و توضيح المرام في باب حدّ شرب العبد، و المسألة و إن لم تكن مبتلى بها في عصرنا هذا إلّا أنه لا بدّ من البحث فيه فلعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا أوجب أخذ العبيد و الإماء من الكفّار كغيره من الأحكام الّتي كانت متروكة قبيل هذا و الآن صارت رائجة متداولة بين الشعب الإسلامي و الحمد للّه على

ذلك.

و من جملة المباحث التي لا بدّ من التعرّض لها هو. أن ظاهر النصّ و الفتوى اعتبار الثمانين مترتّبة- واحدة بعد أخرى إلى أن يتم و يكمل الثمانون- إلّا أن هنا روايتين تدلّان على الإكتفاء بأربعين، بسوط مثلا له شعبتان.

فعن زرارة قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ الوليد ابن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعليّ عليه السلام: اقض بينه و بين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر فأمر عليّ عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة. و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد و زاد: فصارت ثمانين جلدة «1».

و عن زرارة أيضا قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد اللّه بن عمر و قد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدّم عليه أحد يضربه حتّى قام عليّ عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين «2».

و لعلّه يمكن حملها على جواز ذلك لعلّه و مصلحة كما قال بذلك صاحب

______________________________

[1] أقول: لعلّه لا تصل النوبة إلى ذلك لأنه فرع عدم الترجيح و هنا ليس كذلك فإنّه لا أقل من موافقة العامّة و مخالفتهم و هي كافية في الترجيح على ما نصّ بذلك في الروايات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 363

الجواهر رضوان اللّه عليه.

هل يقام الحدّ على الشارب إذا كان كافرا؟

قال المحقق: أمّا الكافر فإن تظاهر به حدّ و إن استتر لم يحدّ.

أقول: إنّ موضوع المسألة في كلام المحقق: الكافر، بخلاف صاحب الجواهر حيث قيّده بقوله: الذمي منه و من في معناه. و لعلّ

المراد من الثاني في كلامه هو المعاهد أي من لم يكن في ذمة الإسلام إلّا أنه قد تعهدت الدولة الإسلاميّة و الحاكم الإسلامي حفظه فعلا.

و قال الشيخ في النهاية- و المعروف أنها نصوص أوردها قدس سره فتوى له-: من شرب شيئا من المسكر. وجب عليه الحدّ ثمانون جلدة حدّ المفتري سواء كان مسلما أو كافرا حرّا كان أو عبدا لا يختلف الحكم فيه إلّا أن المسلم يقام عليه الحدّ على كلّ حال شرب عليها، و الكافر إذا استتر بالشرب أو شربه في بيته أو بيعته أو كنيسته لم يكن عليه حدّ و إنّما يجب عليه الحدّ إذا أظهر الشرب بين المسلمين أو خرج بينهم سكران «1».

و قال السيد أبو المكارم بن زهرة: و الحدّ في شرب قليل المسكر و كثيره و إن اختلف أجناسه إذا كان شاربه كامل العقل حرّا كان أو عبدا رجلا أو امرأة مسلما أو كافرا متظاهرا بذلك بين المسلمين ثمانون جلدة بدليل إجماع الطائفة «2».

و قال ابن حمزة: فإن شربها كافر و ظهر بشربه للمسلمين حدّ و إن لم يظهر لم يحدّ «3».

______________________________

(1) النهاية ص 710.

(2) غنية النزوع، الجوامع الفقهية ص 623.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة ص 416.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 364

و قال ابن البرّاج: و إذا شرب إنسان خمرا أو نبيذا أو مزرا أو نقيعا أو غير ذلك من الأشربة التي يسكر قليلها أو كثيرها وجب الحدّ ثمانون جلدة حرّا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا إلّا أن المسلم يقام عليه ذلك على كل حال شربه عليها و الكافر لا يحدّ إلّا بأن يظهر شرب ذلك بين المسلمين أو يخرج بينهم سكران فإن استتر بذلك

فشربه في بيته أو كنيسته أو بيعته- لم يجز أن يحدّ «1».

و قال ابن سعيد: و يحدّ شارب الخمر و المسكر و الفقّاع ثمانين جلدة حرّا كان أو عبدا مسلما أو كافرا قاءها أو شربها بشهادة شاهدين عدلين «2».

و قال العلّامّة بعد الحكم بأن حدّه ثمانون جلدة: هذا إذا كان الشارب مسلما فإن كان كافرا و تظاهر بالشرب أو خرج بين المسلمين سكران جلد ثمانين جلدة و إن استسرّ في منزله أو بيعته أو كنيسته بالشرب و لم يخرج سكران بين المسلمين لم يحدّ [1].

و هؤلاء الأعلام كلّهم قد عنونوا الكلام في الكافر كما في الشرائع.

و أمّا الأخبار فبعضها مطلق شامل لكلّ من شرب الخمر أي سواء كان مسلما أو كافرا، و بعبارة أخرى الموضوع في هذا القسم من الأخبار: من شرب الخمر أو المسكر، و قد تقدم، و هذا العنوان مطلق شامل للمسلم و الكافر الذمّي منه و الحربيّ. و قسم من الأخبار تعرّض لخصوص عنوان اليهوديّ و النصرانيّ و قد تقدم، و واحد منهما ذكر المجوس معهما أيضا و هو خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن يجلد اليهوديّ

______________________________

[1] التحرير ج 2 ص 226 أقول: هكذا أفاد و استظهر دام ظله من كلمات العلماء و قد أضفنا كلام ابن البراج و ابن سعيد و العلّامة لكن لا يخفى عليك أن عبارة سلّار ليست كذلك فإنه قال في المراسم ص 257: و يجلد أهل الذّمة في شرب الخمر كحد المسلم انتهى. و لم يتعرّض الحلبي في الكافي للمسألة أصلا.

______________________________

(1) المهذّب البارع ج 2 ص 535.

(2) الجامع للشرائع ص 557.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2،

ص: 365

و النصرانيّ في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين و كذلك المجوس و لم يعرض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم حتى يصير بين المسلمين «1».

و مفاد هذه الروايات أن اليهود و النصارى- و كذا المجوس- إذا شربوا الخمر متظاهرين به يقام عليهم الحدّ و ظاهرها اختصاص الحكم بهم دون الحربيّ و دون خصوص الذميّين منهم.

اللهمّ إلّا أن يقال بانصراف هذه الروايات إلى اليهود و النصارى الموجودين في زمن الإمام أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام الذين كانوا في بلاد المسلمين و تحت ذمّتهم و حيث إنّ الذّمّة أمر جعلي و عهديّ فإن تستّروا في الشرب فقد أكّدوا هذه المعاهدة و حقّقوها أمّا لو تظاهروا بذلك فقد نقضوها حيث إنّ عقد المعاهدة كان مبنيّا على صيانة نفوسهم و أموالهم و أعراضهم بشرائط منها أن لا يتظاهروا في المملكة الإسلاميّة بخلاف مبانيها و مظاهرها كشرب الخمر جهارا و على رءوس الأشهاد، فالكافر إذا كان ذميّا معتنقا لشرائط الذمّة فهو بحكم المسلم، و مع التظاهر و التجاهر يحدّ، دون ما إذا تستّر فإنّه لا يحدّ لاستفاضة النصوص في ذلك. و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه نصّا و فتوى. و أمّا الحربيّ فلا حكم له كما قال في أوّل كتاب الشرب من القواعد: و لا حدّ على الحربيّ.

و قال في كشف اللثام بشرحه: و إن تظاهر بشربه لأن الكفر أعظم منه نعم إن أفسد بذلك أدب بما يراه الحاكم.

لكن لا يخفى أنه يشكل الالتزام بذلك و العلّامة الذي صار إلى ذلك فقد قال به في خصوص كتاب القواعد دون كتبه الأخر [1] كما أن غير العلّامة

أيضا

______________________________

[1] أقول: ذكر ذلك في الإرشاد أيضا فقال: و شرطه البلوغ و العقل و الإسلام و الاختيار و العلم فلا حدّ على الصبيّ بل يعزّر و لا المجنون و لا الحربيّ و لا الذمي مع الاستتار فإن أظهرها حدّ انتهى. و وافقه الأردبيلي أيضا بحسب ظاهر كلامه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 366

استظهروا من هذه الأخبار العموم و أفتوا به دون خصوصيّة لليهود و النصارى كما مرّ كلماتهم.

و ما أفاده كاشف اللثام من التعليل لا ينفع في إثبات المطلب و ذلك لأن مجرّد كون الكفر أعظم من شرب الخمر لا يوجب عدم الحدّ على شرب الخمر و إلّا فالكفر أعظم من الزنا و غيرها من الفواحش أيضا مع أنه يحكم في تلك الموارد بالحدّ فراجع.

هذا مضافا إلى أنه على ذلك كان اللازم الحكم بعدم حدّ الشارب إذا ارتدّ بعد شربه و ذلك لجريان العلّة و إن كان بينه و بين المقام فرق و هو أن المسألة المبحوث فيها شرب الكافر الخمر، و أمّا المسألة المنقوض بها كان الشارب مسلما حين شربه ثم بعد ذلك ارتدّ، إلّا أنه لا فرق بينهما من جهة جريان العلّة في كليهما فإنّ الارتداد أعظم من الشرب مع أنه يقام على الشارب الذي ارتدّ بعد شربه، الحدّ، حتى فيما إذا كان حكمه بمقتضى ارتداده القتل فإنّه لا بدّ من جلده أوّلا للشرب ثم قتله للارتداد. و لذا أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بأن الأدلّة هنا عامّة فضلا عمّا دلّ على تكليفهم بالفروع، ثم قال: و عدم إقامتها على الذمي المتستّر باعتبار اقتضاء عقد الذمة ذلك

لا لعدم الحدّ عليه انتهى.

لا يقال: إنّ ما ذكره في كشف اللّثام مؤيّد بما ورد في روايات السحر ففي خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل قيل: يا رسول اللّه لم لا يقتل ساحر الكفّار؟ فقال: لأن الكفر أعظم من السحر و لأن السحر و الشرك مقرونان [1].

______________________________

[1] أورده عليه دام ظله بعض تلاميذه و أجاب بما حكيناه و لعلّ الأولى أن يجاب عنه بأنه لا يمكن إسراء التعليل الوارد في القتل إلى الجلد حيث إنّ القتل أهمّ من الجلد بلا كلام.

ثمّ إنّه قد أورد عليه بعض السادة من زملائنا في مجلسه الخصوصي بأن قوله عليه السلام في خبر أبي بصير: و إنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوها في بيوتهم ب 6 ح 5، يدلّ على الاختصاص.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 367

لأنا نقول: لا يمكن الأخذ و التمسّك بإطلاق تعليل هذه الرواية فلا يرفع اليد عن الحدّ بالنسبة إلى الكفّار تمسّكا بهذا التعليل بعد أن ثبت خلافه بالدليل كما تقدم ذلك.

ثم إنّ مما يبتلى به المسلمون كثيرا في هذه الأعصار و لهم بذلك مساس شديد هو أنه هل اليهود و النصارى الذين يعيشون في المملكة الإسلامية محكومون بالذّمة أم لا؟ و بعبارة أخرى هل إنّهم أهل الذّمة كي يفصّل في حدّهم بين تستّرهم و تجاهرهم بذلك أم لا حتى يقام عليهم الحدّ بمقتضي ما قرّبناه؟.

يمكن أن يقال: إنّهم إن كانوا بحيث يرون أنفسهم مستقلّين و يدّعون عدم تعلّقهم بغيرهم فهناك لا يعتبرون من أهل الذمّة؟ و أمّا إذا لم يكونوا كذلك و لم

تكن لهم الجرأة على إظهار عدم التعلّق بالمسلمين في المملكة الإسلاميّة- و لعلّهم كذلك بعد نجح الثورة الإسلاميّة و هذه الحركة الدينيّة- فهنا يحكم عليهم بحكم أهل الذّمة و إن لم يتحقق بينهم و بين الحكومة الإسلاميّة عقد الذّمة إلا أنه يكفي مجرّد تعهّد الحكومة الإسلامية لحفظهم و صيانتهم و على هذا فلو شربوا الخمر بالعيان و على رءوس الأشهاد يقام عليهم الحدّ، و أمّا لو شربوا في الخفاء و مستورا فلا حدّ عليهم.

تجريد الشارب عند حدّه

قال المحقق: و يضرب الشارب عريانا على ظهره و كتفيه و يتقى وجهه و فرجه و لا يقام عليه الحدّ حتى يفيق.

أقول: أمّا ضربه عريانا أي مجرّدا عن الثياب فلصحيح أبي بصير قال: سألته عن السكران و الزاني قال: يجلدان بالسياط مجرّدين بين الكتفين «1». و قد ادّعى

______________________________

فأجاب دام ظلّه بأنا نقول بالتعميم لوجود الملاك و وحدة المناط و هو الإفساد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 368

في الجواهر عدم خلاف معتدّ به في ذلك.

و لكن خالف في ذلك شيخ الطائفة فقال في كتاب الأشربة عند بيان كيفيّة ضرب الشارب و تحت عنوان صفة المضروب: و لا يجرّد عن ثيابه لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله أمر بالضرب و لم يأمر بالتجريد انتهى.

و قد رماه في الجواهر بغاية الضعف و ذلك للصحيحة المزبورة المؤيّدة بما ذكر أي عدم خلاف في المسألة معتدّ به.

فعلى هذا فيجرّد الشارب عند جلده. هذا إذا كان رجلا و أمّا المرأة فحيث إنّ كلّ بدنها عورة فلذا لا تجرّد بل تحدّ جالسة مربوطة عليها ثيابها [1].

و أمّا الضرب على ظهره و كتفيه-

كما ذكره في الشرائع- و تفريق الضرب على سائر بدنه كما في كلمات بعض- كالشيخ في المبسوط و صاحب الجواهر- فقد علّل ذلك في الكلمات بأنه: كي يذوق كلّ عضو منه الذي التذّ بالمعصية ألم العقوبة. و قد حكى عن عليّ عليه السلام أنه قال للجلاد: أعط كلّ عضو حقّه.

و سيأتي التصريح بضربه على كلّ جسده في الروايات أيضا.

و أمّا اتّقاء وجهه و فرجه فقد ذكر ذلك صريحا في الروايات:

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: يضرب الرجل الحدّ قائماً و المرأة قاعدة و يضرب على كلّ عضو و يترك الرأس و المذاكير «1». و رواه الصدوق:

عن أبان إلّا أنه قال: و يترك الوجه و المذاكير.

و عن حريز عمّن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: يفرّق الحدّ على الجسد كلّه و يتّقى الفرج و الوجه. [2] ثم إنّه ذكر بعضهم كصاحب الجواهر

______________________________

[1] قال شيخ الطائفة في المبسوط ص 69: و أمّا جلد المرأة فإنّها تجلد جالسة لأنها عورة و يشدّ عليها ثيابها جيّدا لئلا تنكشف، و يلي شدّ الثياب عليها امرأة و تضرب ضربا رفيقا لا يجرح و لا ينهر الدم.

[2] وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ الزنا ح 6 و في المبسوط: و يفرّق الضرب على

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 369

قدس سره، الاتّقاء عن ضربه على مقاتله أيضا. و المراد منه المواضع الّتي يخشى قتله بضربها و تسمّى في العرف ب (گيجگاه).

و وجهه معلوم و هو أنه لا يستحقّ القتل و إنّما الواجب جلده فلا يجوز الضرب على موضع منه يخاف قتله

و يفضي إلى موته.

و أمّا عدم إقامة الحدّ عليه حتى يفيق أي عن سكره ففي الرياض: بلا خلاف أجده، و في الجواهر: بلا خلاف. و الوجه في ذلك أن الحكمة في تشريع الحدود هو الإيلام و الإيذاء كي يتأثّر بذلك فلا يعود إلى ما أتى به و لا يفعله ثانيا و من المعلوم أنه لو جلد في حال سكره فلا يحصل هذه الفائدة بل حصولها منوط بالإفاقة لأنه حينئذ يدرك الألم و ينزجر عن عمله القبيح مخافة ابتلائه بما ابتلي به من العقوبة.

ثم إنّه لو جنّ بعد أن شرب الخمر فلا يوجب ذلك سقوط الحدّ عنه، و يدلّ على ذلك صحيح أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحدّ فلم يضرب حتى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحدّ و هو صحيح لا علّة به من ذهاب عقل أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان «1». و الموضوع في الرواية كما ترى هو من وجب عليه الحدّ أيّ حدّ كان فإذا وجب عليه حد من الحدود وجب عليه إقامة الحدّ المزبور كائنا ما كان و في أيّ حال كان سواء كان في حال صحّة عقله أو حال جنونه، و الحكم بسقوط الحدّ عنه بالجنون الإطباقي إذا لم يدرك الألم، و تأخيره إلى دور إفاقته في الجنون الأدواريّ اجتهاد في مقابل النصّ الصحيح الصريح.

و كذا لو شرب المسكر ثم ارتدّ قبل أن يقام عليه الحدّ فإنّ ارتداده لا يمنع عن

______________________________

بدنه و يتقى الوجه و الفرج لقوله عليه السلام إذا جلد أحدكم فليتّق الوجه و الفرج و عن عليّ عليه السلام أنه قال للجلّاد: اضرب و أوجع و اتّق الرأس و الفرج

انتهى.

أقول: و قد يعلّل ذلك بقولهم: تجنبا عن المثلة و العمى و القتل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدّمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 370

إجراء الحد عليه.

و هذا و إن لم يكن مصرّحا به في النصوص إلّا أن قوله عليه السلام في صحيحة أبي عبيدة: أقيم عليه الحدّ كائنا ما كان، شامل بإطلاقه لارتداده بعد شربه قبل أن يقام عليه الحدّ.

في قتل شارب الخمر

قال المحقق: و إذا حدّ مرتين قتل في الثالثة و هو المرويّ و قال في الخلاف يقتل في الرابعة.

أقول: بعد أن علم أن شارب الخمر يحدّ تصل النوبة إلى أنه لو تكرر منه ذلك فلا يخلو عن أنه قد أقيم عليه الحدّ بعد كل مرّة أولا.

فعلى الأوّل فقد وقع الخلاف بين العامّة و الخاصّة في أنه يقتل هذا الشارب أم لا؟ فذهبت أبناء العامّة إلى أنه لا يقتل شاربها و إن تكرر و أجمعوا على ذلك [1] و أفتى الأصحاب بأنه يقتل. نعم اختلفوا في المرّة التي يقتل فيها لو تكرر منه الشرب مع الحدّ فالمشهور على أنه يقتل في الثالثة.

لكن قال الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من مسائل الأشربة من الخلاف: من شرب الخمر وجب عليه الحدّ إذا كان مكلّفا بلا خلاف فإن تكرر ذلك منه و كثر قبل أن يقام عليه الحدّ أقيم عليه حدّ واحد بلا خلاف فإن شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب رابعا قتل عندنا و قال جميع الفقهاء لا قتل عليه و إنما يقام عليه الحدّ بالغا ما بلغ، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم إلخ.

و قد روى قدس سره هنا أخبارا عنهم منها قوله: و

روى أبو هريرة و غيره أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: من شرب الخمر فاجلدوه ثمّ إن شرب فاجلدوه

______________________________

[1] راجع الفقه على المذاهب الأربع ج 5 ص 26 و هم يقولون بورود الروايات بقتله في الرابعة إلّا أنها نسخت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 371

ثمّ إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه و في بعضها فقتلناه و احتردناه.

ثم قال: و من ادّعى نسخ هذا الخبر فعليه الدلالة إلخ. و قد ادّعى على قتل الشارب في الرابعة، إجماع الفرقة و أخبارهم و كلاهما محلّ الإشكال.

أمّا الإجماع فلأن القول بالثالثة مشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة على ما في الجواهر لو لم يكن إجماعيّا على ما ادّعاه بعض كالسيّد ابن زهرة.

اللّهمّ إلّا أن يوجّه ادّعاء الشيخ الإجماع بأن إجماع الفرقة قائمة على جريان القتل في باب الشرب في قبال العامّة المنكرين لذلك مهما تكرر منه الشرب و أقيم عليه الحدّ، لا على القتل في الرابعة.

و أمّا أخبارهم ففيها ما ستطّلع عليه من أنه لا خبر يدلّ على ذلك سوى مرسلة الصدوق في حين أنه تدلّ على كون المناط هو المرة الثالثة أخبار كثيرة صريحة أكثرها صحيحة معتبرة. نعم هناك أخبار عامية تدلّ على الرابعة.

و قال قدس سره في المبسوط: فإذا ثبت تحريمها فمن شربها كان عليه الحدّ قليلا شرب أو كثيرا لقوله عليه السلام: إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإذا ثبت هذا فإن شرب ثم شرب فتكرر هذا منه و كثر قبل أن يقام عليه الحد حدّ للكلّ حدّا واحدا لأن حدود اللّه إذا توالفت تداخلت و إن شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب فحدّ ثم شرب رابعا قتل في الرابعة عندنا، و

عندهم يضرب أبدا الحدّ.

انتهى «1». و قد ذهب إلى هذا القول الشيخ الصدوق من قبله في كتاب المقنع [1].

______________________________

[1] أقول: عبارته في المقنع ص 153 هذه: و إذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين جلدة. و إذا شرب الرجل مرّة ضرب ثمانين جلدة فإن عاد جلد فان عاد قتل انتهى. و أنت ترى أنها صريحة في ما ذهب إليه المشهور اللّهمّ إلّا أن يكون في هذه النسخة سقط كما لعلّه يشهد له قوله بعد ذلك ص 154: و شارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرّة فإن عاد جلد حتى يفعل ثماني مرّات ثم يقتل في الثامنة انتهى. فإنّ ذلك يقتضي القول بقتل الحرّ في الرابعة.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 58.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 372

و مال إليه العلّامة [1] و ولده السعيد و شيخنا الشهيد قدس اللّه أسرارهم.

هذا بخلاف القول بقتله في الثالثة فإنّه مضافا إلى ذهاب المشهور إليه فقد ذهب إليه الشيخ بنفسه في كتاب النهاية الذي فتاواه فيه ناظرة إلى الأخبار و كذا الشيخ الصدوق في كتاب الفقيه.

قال في النهاية: و شارب الخمر إذا أقيم عليه الحدّ مرّتين ثمّ عاد ثالثة وجب عليه القتل.

استدلّ المشهور بالروايات الكثيرة الصريحة المعتبرة فيها عدّة روايات صحاح و قد خرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب أن شارب الخمر و النبيذ و نحوهما يقتل في الثالثة بعد جلد مرّتين. انتهى. فقد ذهب هو أيضا إلى قول المشهور.

عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه «1».

و عن يونس عن أبي الحسن

الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلّها

______________________________

[1] نسب في الجواهر و بعض الكتب الأخر ميل العلّامة إلى هذا القول مع أن عبارته في القواعد: و إذا حدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة انتهى. و في التحرير ص 227: فإن تكرر الحدّ مرّتين قتل في الثالثة و قيل لا يقتل حتى يحدّ ثلاث مرات فيقتل في الرابعة انتهى و هذه العبارات ظاهرة في اختياره الثالثة و إنّما نقل القول الآخر قولا. و مع ذلك ففي الرياض عند نسبة القول بالرابعة إلى الصدوق و الشيخ: و تبعهما الفاضل في القواعد و ولده في الإيضاح و الشهيد في اللمعة.

و قال في الإيضاح عند بيان القول بالثالثة: و هو اختيار والدي في المختلف انتهى.

و يمكن أن يكون استظهار ميل العلّامة إلى القول بالرابعة من جهة أنه نقل هذا القول و لم يتعرّض لردّه. هذا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 373

إذا أقيم عليهم الحدود مرّتين قتلوا في الثالثة «1».

و عن أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «2».

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أتي بشارب الخمر ضربه ثم إن أتي به ثانية ضربه ثم إن أتي به ثالثة ضرب عنقه «3».

و عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «4».

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم -

ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 2، ص: 373

و عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: في شارب الخمر إذا شرب ضرب فإن عاد ضرب فإن عاد قتل في الثالثة «5» و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد عن ابن أبي عمير مثله إلّا أنه أسقط: في الثالثة.

و عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: سمعته يقول: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه في الثالثة «6».

و عن الأصبغ أو عن حبّة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة: من شرب شربة خمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «7».

و عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: كان النبي صلّى

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 4.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 5.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 6.

(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 8.

(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 374

اللّه عليه و آله إذا أتي بشارب الخمر ضربه فإن أتي به ثانية ضربه فإن أتي به ثالثة ضرب عنقه. قلت: النبيذ؟ قال: إذا أخذ شاربه قد انتشى ضرب ثمانين قلت: أ رأيت إن أخذه ثانية؟ قال: اضربه قلت: فإن

أخذه ثالثة؟ قال: يقتل كما يقتل شارب الخمر «1».

و عن هشام بن إبراهيم المشرقي عمّن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في قليل النبيذ كما يجلد في قليل الخمر و يقتل في الثالثة من النبيذ كما يقتل في الثالثة من الخمر «2».

و عن سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر و يقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر «3».

و عن حريز بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه «4».

و عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يزني الزاني و هو مؤمن، و قال: إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فشرب الثالثة فاقتلوه «5».

و استدلّ للقول الآخر و هو قتله في الرابعة بأمور منها: مرسلة الصدوق، ففي الفقيه: و شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة فإن عاد جلد فإن عاد قتل و قد روي أنه يقتل في الرابعة «6».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 11.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 12.

(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 13.

(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 14.

(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 15.

(6) وسائل الشيعة ج 18

ب 11 من أبواب حدّ المسكر ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 375

و مثلها: قال الكليني: قال جميل: و روي عن بعض أصحابنا أنه يقتل في الرابعة «1».

قال الكليني قدس سره بعده: قال ابن أبي عمير: كأن المعنى أن يقتل في الثالثة و من كان إنّما يؤتى به يقتل في الرابعة.

و قال العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه: لعلّ المعنى إن لم يؤت به إلى الإمام في الثالثة و أتي به في الرابعة، أو فرّ في الثالثة و أتي به في الرابعة يقتل في الرابعة، فقوله: في الرابعة، متعلّق بيوتي به و يقتل، على التنازع انتهى «2».

و منها: الأولويّة فإنّ فخر المحققين قدس سره بعد أن قوّى القتل في الرابعة قال: لأن الزنا أكبر منه ذنبا و يقتل في الرابعة كما مضى فهنا أولى «3».

و منها: الاحتياط في الدماء فإنّه يقتضي عدم الإقدام على قتله في الثالثة بل تأخيره إلى الرابعة الّتي هي المتيقّن المعلوم.

و فيه إنّ شيئا من هذه الوجوه لا تنفع في قبال تلك الأخبار المذكورة.

أمّا المرسلة فواضح لأن المرسلة ليست بحجة و على فرض الحجيّة لا تقاوم الأخبار المستفيضة الصحيحة، و المعتبرة المعتضدة بعمل المشهور.

و أمّا القول بأنها و إن كانت مرسلة و لكن مرسلها الشيخ الصدوق قدس سره و هو ثقة يعمل بمرسلاته كما يعمل بمسنداته، كما أفاد ذلك العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف.

ففيه أنه مهما كان ثقة فأين هذا الخبر و تلك الروايات العديدة المستجمعة للشرائط و لذا قال المحقق: و هو المرويّ أي إنّ القول بقتله في الثالثة مرويّ و ليس فوق ذلك، و هذا يشعر بأنه لم ير للرواية المخالفة وقعا. و أمّا الأولوية

______________________________

(1)

الكافي ج 7 ص 218 ب انّ شارب الخمر يقتل في الثالثة ح 4.

(2) مرآة العقول ج 23 ص 338.

(3) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 515.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 376

فهي هنا تشبه القياس هذا مع أنه في باب الزنا أيضا يقتل في الثالثة [1] و لا أقلّ من أنه محلّ الكلام و الاختلاف. و أمّا الاحتياط فلا موضع له في قبال النصوص الصريحة الصحيحة.

و على هذا فالترجيح لأخبار الثلاثة، و القول بها هو الأقوى و قد مشى عليه العلّامة أعلى اللّه مقامه في المختلف فقال: للشيخ قولان في قتل شارب المسكر في الثالثة أو الرابعة فقال في النهاية: يقتل في الثالثة بعد تكرر الحدّ عليه مرّتين، و به قال شيخنا المفيد و ابن أبي عقيل و أبو الصلاح و ابن البرّاج و ابن حمزة و ابن إدريس، الثاني قال في الخلاف و المبسوط: إنّه يقتل في الرابعة و هو قول الصدوق في المقنع، و قال في كتاب من لا يحضره الفقيه: شارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين فإن عاد جلد فإن عاد قتل، و قد روي أنه يقتل في الرابعة، و المعتمد الأوّل. ثم استدلّ بصحيح أبي عبيدة و صحيح جميل و صحيح يونس و صحيح أبي الصباح و صحيح سليمان بن خالد، قال: و غير ذلك.

ثمّ قال: احتجّ الشيخ بقول الصدوق: و روي أنه يقتل في الرابعة و هو ثقة يعمل بمرسلة كما يعمل بمسنده و لأن الزنا أكثر منه ذنبا مع أنه لا يقتل في الثالثة، و الجواب: المرسل ليس بحجّة عند المحققين و قد بيّناه في أصول الفقه سلّمنا لكن إذا وجه ما

يعارضه من الأحاديث المسندة كان العمل بها أولى خصوصا مع تعدّدها و تعاضدها بعضا ببعض و نمنع أن الزاني لا يقتل في الثالثة فقد ذهب بعضهم إلى ذلك و لو سلّمنا كما هو مذهبنا نحن، لكن القياس باطل خصوصا في الحدود انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و أمّا الجمع بينهما بالتخيير [2] فهو غير صحيح لو كان المراد تخييره في العمل

______________________________

[1] قد اختار دام ظلّه في باب الزنا القتل في الرابعة فراجع الدّر المنضود ج 1 ص 342.

[2] لم أجد من قال بالتخيير نعم يمكن أن يكون نظره دام ظلّه إلى ما ذكره في الوسائل عند نقل مرسلة الصدوق حيث قال: لعلّه محمول على جواز تأخير الامام القتل إلى الرابعة.

______________________________

(1) مختلف الشيعة ص 767.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 377

استمرارا فيختار مرّة الجلد و أخرى القتل، و هذا بمكان من الإشكال للزوم كونه مختارا في قتل النفس، فمرّة يقتل في الثالثة و أخرى في الرابعة، و يقتل أحدا في الثالثة و آخر في الرابعة و يؤل الأمر إلى أن يقتل و أن لا يقتل مع أنه لو كان جعل حكم القتل في الرابعة فلا سبيل له إلى ذلك في الثالثة.

اللّهمّ إلّا أن يكون المراد تخييره أوّلا في اختيار واحد منهما، و هو أيضا لا يخلو من كلام بعد أن الترجيح لأخبار الثلاثة، نعم لا بدّ أن يكون ذلك على فرض التعارض و التكافؤ.

و لو قيل بأن المراد من قتله في الرابعة هو ما إذا لم يحدّ في الثالثة فإنّه لا يمنع عدم إقامة الحدّ عليه في الثالثة عن قتله في الرابعة.

ففيه أنه خلاف الظاهر لأنه إذا كان مقتضى الروايات الكثيرة المستفيضة قتله في

الثالثة فإذا لم يقتل و لم يحدّ في الثالثة فلا خصوصيّة للثالثة كي يحتمل عدم قتله في الرابعة بل القتل هناك ثابت بالأولويّة.

و قد ظهر مما ذكرناه أن ما ذكره ابن أبي عمير بالنسبة إلى المرسلة غير واضح المراد فإنّه لو كان المراد أنه فرّ مثلا في الثالثة فأتى به إجبارا في الرابعة ففيه أن هذه الرابعة ليست برابعة بل هي الثالثة، و ذلك لأن الملاك لم يكن هو الشرب وحده بل الشرب مع الجلد، و على ما ذكره يقتل في الثالثة و هو خلاف ظاهر الرواية الناطقة بقتله في الرابعة. و هذا الإشكال وارد على العلّامة المجلسيّ رضوان اللّه عليه أيضا في المرآة.

ثم إنّه لا يقال إنّ ذهاب مثل الشيخ في كتابيه الاستدلاليّين- الخلاف و المبسوط- و الصدوق أيضا و فخر المحققين في الإيضاح و الشهيد في اللمعة، و ميل العلّامة إلى ذلك كما نسب إليه، و صاحب الرياض و صاحب الجواهر إلى القول بالرابعة مع كون تلك الروايات المستفيضة بأعينهم و في أيديهم هل لا يوجب الوهن فيها؟.

______________________________

و الإكتفاء بالحدّ مع المصلحة انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 378

أضف إلى هذا نسبة الشهيد الثاني في الروضة القول بالثلاثة إلى الأكثر دون الكثير [1].

و ذلك لأنا نقول: إنّ الشيخ قد عدل عن ذلك في كتابه الآخر الفتوائي و هو النهاية كما أن الصدوق لم يفت بذلك في تمام كتبه، و العلّامة الذي مال إلى الأربع في القواعد، اختار في المختلف الثلاثة و قوّاها فكيف يرد الوهن في الروايات و الحال هذه؟.

ثم لو لم يمكن استظهار المطلب من الروايات و وصلت النوبة إلى الشك و تردد الأمر بين الجلد و القتل فالأصل يقتضي

عدم قتله في الثالثة لأن قتله في الرابعة متيقّن و في الثالثة مشكوك.

لكن يشكل الأمر من جهة دوران الأمر في الثالثة بين القتل و الجلد و ذلك لأن تأخير القتل إلى الرابعة مع جلده في الثالثة أو بدونه، و الأمر دائر بين المحذورين حرمة الجلد بأن يكون الواجب في الواقع هو القتل، و وجوبه بأن يكون حكم القتل للرابعة فالترديد بين الحرام و الواجب فلو كان القتل واجبا لحرم جلده و لو كان يحرم قتله لكان جلده واجبا فلو جلد لاحتمل حرمته و لو لم يجلد لخلا شرب الخمر عن الحدّ و القتل.

هذا كلّه لو شرب مرارا و جلد بعد كلّ مرّة و تخلّل الحدّ بين المرّات فلو لم يكن كذلك فحكمه هذا:

كفاية حدّ واحد على من شرب مرارا

قال المحقق: و لو شرب مرارا كفى حدّ واحد.

يعني لو شرب مكررا و لم يتخلّل بينها حدّ فهنا يكفي حدّ واحد للجميع. و قد

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظله بما قررناه و كان ذلك في يوم 15 من الشوال سنة 1408 ه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 379

ادّعى في الرياض و الجواهر عدم الخلاف في ذلك.

و استدلّ كاشف اللثام على ذلك أي أنه لا يحدّ أكثر من واحد، بالأصل و العمومات و انتفاء الحرج في الدين. و قد ذكر هذه الأمور في الجواهر أيضا و أضاف إليها وجها رابعا و هو صدق الشرب و إن تعدد. أمّا الأصل فواضح.

و أمّا العمومات فلعلّ المراد عمومات حرمة الإيذاء و قد خرج عنها حدّه مرّة واحدة بالإجماع، و أمّا الزائد عليه فمشكوك فيه و أدلّة الإيذاء و عموماتها تدلّ على الحرمة لأن ضربه إيذاء له بلا كلام.

و أمّا تقريب

العمومات بعمومات من شرب الخمر فهو يجلد حيث يستفاد منه أن من شرب و لو مرّات عديدة بلا حدّ فإنّ عليه الحدّ كمن شرب مرّة واحدة [1].

فلا يخلو عن كلام و ذلك لأن المقصود بحسب الظاهر هو عموم أفراد الشرب لا عموم أشخاص الشاربين، و قولنا: من شرب الخمر يجلد، و إن كان عامّا إلا أنه عامّ أشخاصي و لا عموم بالنسبة للشرب.

و أمّا انتفاء الحرج في الدين فهو غير تامّ و ذلك لأن أدلّة الحرج رافعة للتكليف إذا لزم فيه الحرج زائدا على أصل التكليف كالوضوء في البرد إذا استلزم الضرر و المشقّة الشديدة و لا يرتفع بها التكاليف التي كانت في حدّ ذاتها حرجيّة مثل باب الحدود.

فاللّازم الاعتماد على الدليل فإن استفيد منه تكرار الحدّ فلا بأس بذلك و ليس تعدد الجلد بأعظم من القتل في موارد وجوبه الذي لا يمكن رفعه بالحرج.

و أمّا التمسّك بصدق الشرب فهو حسن و ذلك لصدق الطبيعة بالقليل

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب دام ظلّه بما قررناه، و الإنصاف أن تسليم ما أفاده مشكل بل الظاهر أن المراد أن قولهم: من شرب الخمر يجلد ثمانين، شامل لمن شرب مرّة أو مرات بلا تخلّل الحدّ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 380

و الكثير، و المرّة و المرات، و من المعلوم أن الملاك هو طبيعة الشرب و طبيعة الحدّ فإذا شرب مرّات عديدة صدق أنه أتى بطبيعة الشرب فيكفي طبيعة الحدّ و هو الحدّ الواحد.

و استدلّ شيخ الطائفة في المبسوط بقوله: لأن حدود اللّه إذا توالفت تداخلت «1». و الظاهر أن مراده أنه من باب تداخل الأسباب كباب الأحداث حيث إنّ الحدث موجب للوضوء فلو تعدد

الأحداث لكفى وضوء واحد مثلا عن جميعها، و كذلك بالنسبة لما ورد: إن أجنبت فاغتسل، فإنّه لو أجنب متعددا بلا تخلّل الطهارة لكفى اغتسال واحد.

ثم إنّ لبعض المعاصرين قدس اللّه روحه في المقام إشكالا قال: و أمّا كفاية حدّ واحد لو شرب مرارا و لم يحدّ في الخلال فادّعى عدم الخلاف فيها للأصل و العمومات و انتفاء الحرج و صدق الشرب و إن تعدد.

أقول: هذه الأمور قد تعرضنا لذكرها مع ما يرد عليها.

ثم قال: و لا يخفى الإشكال في ما ذكر حيث إنّ المعروف تعدد المسبّبات بتعدد الأسباب و في المقام نقول: لو شرب الخمر و ثبت و لم يحضر الشارب فعليه الحدّ، ثمّ شرب مرّة أخرى مقتضى الأدلّة استحقاق حدّ آخر مع اجتماع الشرائط فعدم الاستحقاق لحدّ آخر خلاف الإطلاق إلّا أن يكون في المقام إجماع انتهى «2».

أقول: و فيه أن مسألة تعدد المسبّبات بتعدد الأسباب جارية فيما إذا كانت الأسباب قابلة للتعدد و كذا المسبّبات و كان اللفظ بحيث يشمل كلّ فرد و كلّ مرّة فإذا كان الموضوع هو كلّ فرد من الأفراد مثلا فهناك يصحّ أن كلّ فرد من السبب يقتضي مسبّبا مستقلّا و مختصّا به.

أمّا إذا كان الموضوع الطبيعة المحضة فهي لا تتعدد، بل مهما تعددت الأفراد تكون الطبيعة بحالها و لا تعدد لها كما في باب الأحداث فإنّ الحدث بطبيعته سبب

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 59.

(2) جامع المدارك الطبع الأول ج 7 ص 130.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 381

للطهور الذي لا صلاة إلّا به و حيث إنّ الطبيعة- لا الفرد- تكون موضوعا فلا فرق بين حصول فرد واحد من الحدث أو الأفراد الكثيرة و المتعددة في

كفاية طهور واحد، لأن طبيعة الحدث سبب لطبيعة الطهور و ما نحن فيه من هذا القبيل، يعني أن طبيعة شرب الخمر تكون سببا لطبيعة الحدّ فلا فرق بين حصول فرد واحد منها أو عدّة أفراد لصدق الطبيعة في كلا الفرضين فتجب طبيعة الحدّ الصادقة بفرد واحد منه إلى أن يقام عليه الحدّ فبعد ذلك لو حصل الطبيعة أيضا يكون كالأوّل فلا يتوهم أنه لو كان الموضوع هو الطبيعة المحضة و صرف الوجود- و لا تعدد لذلك فيلزم الإكتفاء بحدّ واحد و إن تخلّل الحدّ بينها فإنّه بعد حصول الحدّ فقد انقطع و زال الحقيقة و يكون حينئذ مبدأ الشروع و ذلك بعينه كما في باب الحدث فإنّه إذا اجتمعت عليه أحداث يكفيه طهور واحد، فإذا أتى به فبعد ذلك يكون مبدأ الأمر فإن حصل بعد ذلك حدث واحد أو إحداث متعددة يكفيه طهور واحد كالأوّل.

و هنا وجه سادس يبدو في الذهن و لعلّه أحسن طرق الاستدلال في المقام و هو أن المستفاد من نفس الأخبار الواردة الناطقة بحكم الشارب الذي شرب الخمر بعد أن شرب مرّة أخرى و حدّ عليه أنه لو شرب و لم يحد ثم عاد إلى شربه فإنّه لا يقام عليه أكثر من حدّ واحد فراجع الأخبار الماضية حيث قد تعرّضت لحكم الشارب أوّلا و أنه يجلد ثم لحكمه إذا شرب ثانيا بعد أن كان قد جلد و أنه يجب جلده ثانيا فكأنه قيل: إنّ شارب الخمر إذا شرب ثمّ حدّ ثم شرب يجلد، و المفهوم منه أنه إذا شرب و لم يحدّ ثم شرب مرّة أخرى فإنّه لا يتعدد الجلد و أنه إذا شرب بلا حدّ ثم شرب أيضا يجلد حينئذ

فيكفي الجلد مرّة واحدة، فالسبب هو الشرب مع الجلد، و لو كان كل شرب سببا لقيل: لو شرب ثم شرب ثم شرب يحدّ للأوّلين و يقتل في الثالث، و بذلك قد علم أن سبب تكرر الحد هو الشرب بعد الحدّ دون الشرب بعد الشرب، و العجب من العلماء الأعلام رضوان اللّه عليهم أجمعين كيف لم يتمسّكوا بهذا الوجه في إثبات المطلوب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 382

ثمّ إنّه بعد أن ثبت كفاية حدّ واحد و لو أنه شرب مرارا فحينئذ نقول كما في الجواهر: إنّه لا فرق في ذلك بين اتّحاد جنس المشروب و اختلافه فلا فرق بين أن يشرب من الخمر مرارا أو أن يشرب الخمر مرّة و النبيذ أخرى و هكذا، فما لم يتخلّل الحدّ يحدّ على الجميع حدّ واحد و إن كان قد شرب في كلّ مرّة مسكرا غير ما شربه في الأخرى، و ذلك لأن الحدّ في كلّ المسكرات واحد.

و تدل على عدم الفرق روايات أوردها في الوسائل في باب عنوانه: باب ثبوت الحدّ على من شرب مسكرا من أيّ الأنواع كان:

عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ «1».

و عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: في كتاب علي عليه السلام: يضرب شارب الخمر و شارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدّهما واحد «2».

شهادة أحدهما بشرب الخمر و الآخر بقيئها

اشارة

قال المحقق: الثالث في أحكامه و هي مسائل:

[الأولى لو شهد واحد بشربها و آخر بقيئها وجب الحدّ]

الأولى لو شهد واحد بشربها و آخر بقيئها وجب الحدّ.

أقول: إنّ شهادة أحدهما بالشرب شهادة به مطابقيّة، و شهادة الآخر بالقي ء شهادة به التزاميّة فكلاهما قد شهدا بالشرب، غاية الأمر أن أحدهما بالدلالة المطابقيّة و الأخرى بالدلالة الالتزاميّة.

نعم يشترط في الإكتفاء بهما كونهما بحيث تتعلّقان بواقعة واحدة بأن كانتا غير مؤرّختين أو مؤرختين بما أمكن معه الاتّحاد فلو شهد أحدهما أنه شربها يوم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حدّ المسكر ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 383

الجمعة و الآخر أنه قاءها بعد ذلك أو قبله بأيّام لم يحدّ لاختلاف الفعل و لم يقم على كلّ فعل شاهدان، و إنّما قام على كلّ واحد من الفعلين شاهد واحد.

ثم إن الحكم بالاجتزاء بهما هو المشهور بل عن السرائر و التنقيح و ظاهر الخلاف الإجماع عليه. كذا في الجواهر.

و مستند الحكم رواية الحسين بن زيد الّتي رواها المشايخ الثلاثة المنجبر ضعفها بعمل المشهور.

فعن الحسين ابن زيد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن الخطّاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصيّ و هو عمرو التميميّ و الآخر المعلّى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب و شهد الآخر أنه رآه يقي ء الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أنت

أعلم هذه الأمّة و أقضاها بالحقّ، فإنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما قال: ما اختلفا في شهادتهما و ما قاءها حتى شربها «1».

إذا شهد كلاهما بقيئه للخمر

كان الكلام في الفرع السابق فيما إذا شهد أحدهما بالشرب و الآخر بالقي ء، و هنا في أنه لو شهد كلّ منهما بقيئه للخمر، و ربّما يستفاد حكمه من الفرع السابق و ذلك لعموم العلّة و لذا:

قال المحقق: و يلزم على ذلك وجوب الحدّ لو شهدا بقيئها نظرا إلى التعليل المرويّ و فيه تردد لاحتمال الإكراه على بعد و لعل هذا الاحتمال يندفع بأنه لو كان واقعا لدفع به عن نفسه أمّا لو ادّعاه حدّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حدّ المسكر ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 384

أقول: و وجه اتّحاد الحكم أوّلا: عرفيّة المطلب فإن بطنه ليس مصنعا للشراب كي يولّده.

و ثانيا: عموم التعليل فإنّه إذا قال: ما قاءها حتى شربها، لا يختصّ بما إذا شهد واحد منهما بقيئه كما هو مورد الرواية بل يشمل ما إذا شهد كلاهما بذلك فإنّ القي ء للخمر يستلزم شربه.

و لكن تردد في ذلك جماعة من العلماء منهم المحقق في المقام و العلّامة في القواعد و السيّد الجليل ابن طاوس قدس اللّه أرواحهم. و ذلك لأن السبب هو الشرب اختيارا، و القي ء لا يدلّ عليه لإمكان الإكراه [1].

و بعبارة أخرى إنّ الشهادة على الشرب قد تحققت بالشهادة بالقي ء و لا نقصان في البين من هذه الجهة إلّا أنه ليس من قبيل الشهادة على الشرب اختيارا الموجب للحدّ.

و فيه أنه إذا سلّم أن الشهادة بالقي ء شهادة بالشرب فتكون في حكمها و هل

______________________________

[1] و اختار فخر الدين في الإيضاح عدم الحدّ

مستدلّا بأن النص إنّما ورد في صورة مخصوصة و الأصل براءة الذمة، و لقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات، قال رحمه اللّه: و هو الأقوى عندي انتهى.

ثم لا يخفى عليك أن العلّامة استشكل في كلتا الصورتين لا في الثانية وحدها فقال: لو شهد أحدهما بالشرب و الآخر بالقي ء حدّ على إشكال لما روي أنه ما قاء إلّا و قد شرب و لو شهدا بالقي ء حدّ للتعليل على إشكال انتهى. و هكذا السيد ابن طاوس كما يظهر من المسالك حيث ذكر أن الأصل في المسألة رواية الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّ عليّا عليه السلام جلد الوليد بن عقبة لما شهد عليه واحد بشربها و آخر بقيئها و قال: ما قاءها إلّا و قد شربها قال: و عليها فتوى الأصحاب ليس فيهم مخالف صريحا إلّا أن طريق الرواية ضعيف لأن فيه موسى بن جعفر البغدادي و هو مجهول الحال، و جعفر بن يحيى و هو مجهول العين و عبد اللّه بن عبد الرحمن و هو مشترك بين الثقة و الضعيف، و لذلك قال السيد جمال الدين بن طاوس قدس سره في الملاذ: لا أضمن درك طريقه، و هو مشعر بتردده. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 385

كان يجري هذا الاحتمال فيما إذا كانت الشهادة منهما على شربه؟ فكيف تحمل الشهادة بالشرب، على شربه له اختيارا و يجري في الشهادة بالقي ء. احتمال الإكراه.

هذا مضافا إلى ما ذكره المحقق من لزو الدفاع عن نفسه لو كان مكرها، و إلى أن الأصل عدم الإكراه.

و قد يشكل بأن ذلك ليس بأزيد من الظهور و هو غير كاف في إثبات الحدود لأنه لا يدفع الشبهة

الدارئة للحدّ.

و فيه أوّلا أن ذلك اجتهاد في مقابل النص.

و ثانيا إنّ الاختيار في الأفعال الإراديّة أصل عقلائي معمول به في جميع المقاصد و لا يعبأ باحتمال الإكراه.

لا يقال: إنّه فرق بين الشهادة على الشرب المحمول على الاختيار و الشهادة بالقي ء الذي يحتمل فيه الإكراه، و ذلك لأن قذف الباطن الخمر أمارة على عدم ملائمة الباطن له كما ترى أن الإنسان إذا أكل طعاما لا يلائم طبعه أو شرب شرابا و مائعا لا يناسب مزاجه فإن مزاجه لا يقبله بل يقذفه و لا يجذب إلى بدنه فلذا يقي ء فيكون القي ء أمارة نوعية على أنه لم يشربه بميله و اختياره و اشتهاءه له و إنّما شربه بإكراه الغير له على هذا الذي لا يلائم طبعه، و لو كان قد شربه باختياره و اشتهاءه لما قاءه و استفرغه كما في كلّ مورد يأكل الإنسان أو يشرب ما يحبّه و يلائم طبعه، و على هذا فيقتصر في الحكم على مورد النصّ لشهرته و يحكم بالحدّ فيه، و يقال في الفرض الأخير بعدم الحدّ للشبهة [1] لأنا نقول: لا أمارية لذلك فربّما يستفرغ و يقي ء لكثرة شربه منه أو لغير ذلك فكيف يحمل على أنه شربه من غير اختيار و على كره منه.

و من نظر بعين الإنصاف يرى أن كون التعليل من باب التعبّد المحض حتى يقتصر في الحكم على الفرض الأوّل بعيد جدّا بل هو علّة في الحكم يدور معه

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب دام ظلّه بما قررناه في المتن و كان يوم 19 شوال سنة 1408- ه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 386

حيثما دار و على هذا فلا فرق بين الفرضيين في الحكم

بوجوب الحد.

نعم لو ادّعى هو بنفسه أنه أكره على ذلك قبل منه و يدرء عنه الحدّ بذلك.

المسألة الثانية في مستحلّ الخمر

قال المحقّق: الثانية من شرب الخمر مستحلّا استتيب فإن تاب أقيم عليه الحدّ فإن امتنع قتل و قيل يكون حكمه حكم المرتدّ و هو قويّ.

أقول: كان البحث في المسألة السابقة في مجرّد شرب الخمر و في هذه المسألة في شربه و هو يرى ذلك حلالا. و فيه قولان:

أحدهما: أنه يطالب بالتوبة و يؤمر بها و لا يخلو الأمر عن أنه إمّا أن يقبل ذلك و يتوب أو أنه يردّها و يمتنع عنها فعلى الأوّل يقام عليه الحدّ فقط و لا يقتل بل يخلّى سبيله، و على الثاني يحدّ أوّلا ثم يقتل. و قد نسب في الجواهر هذا القول إلى المقنعة و النهاية و الجامع، و في المسالك إلى الشيخين و أتباعهما.

ثانيهما: أنه محكوم بحكم المرتدّ ذهب إليه التقيّ الحلبي، و الحلّي و المتأخرون و قوّاه المحقق في الشرائع على ما رأيت [1].

و قد استدلّ للأوّل بوجهين:

الأوّل: إمكان عروض الشبهة عليه فاستحلّه لذلك، و الحدود تدرء بالشبهات.

الثاني: خبر ابن مظعون الذي رواه في الإرشاد و هو: أن قدامة بن مظعون قد شرب الخمر فأراد عمر أن يحدّه فقال له قدامة: إنّه لا يجب عليّ الحدّ لأن اللّه تعالى يقول «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ»، فدرأ عمر عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين

______________________________

[1] كما أنه قال في النافع: و هو قويّ متين انتهى. و قال العلّامة في الإرشاد: و الأقوى الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر فيقتل من غير توبة إن كان عن فطرة.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 2، ص: 387

عليه السلام فمشى إلى عمر فقال له: لم تركت الحدّ على قدامة في شرب الخمر؟

فقال: إنّه تلا عليّ الآية، و تلاها عمر فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس قدامة من أهل هذه الآية و لا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه تعالى إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون حراما فاردد قدامة و استتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحدّ و إن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملّة، فاستيقظ عمر لذلك و عرف قدامة الخبر فأظهر التوبة و الإقلاع فدرأ عمر عنه القتل و لم يدر كيف يحدّه، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: أشر عليّ في حدّه فقال: حدّه ثمانين إنّ شارب الخمر إذا شربها سكر و إذا سكر هذي و إذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين و صار إلى قوله في ذلك «1» و يظهر منه أن قدامة كان قد فهم و استفاد من الآية الكريمة الإطلاق و أنه إذا آمن باللّه و عمل الصالحات فلا بأس عليه فيما طعم و إن كان خمرا و بذلك فقد درأ عمر عنه الحدّ لكنّ الإمام عليه السلام قال بأنه ليس من أهل الآية أي: المؤمنين العاملين الصالحات فإنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لا يستحلّون حراما، فأمر عليه السلام بردّه و الاستتابة منه فيقام عليه الحدّ مع التوبة و يقتل مع عدمها، و لا بد أن يكون ذلك بعد إثبات شربه فلم يكن ينفع التوبة في رفع الحدّ عنه.

و استدلّ للقول الثاني بأن حرمة شرب الخمر من ضروريّ الدين لا شبهة فيها و قد أجمع عليها المسلمون، و منكر الضروريّ مرتدّ يترتب عليه أحكامه من

الفرق بين الفطريّ و المليّ و الرجل و المرأة و من جملة تلك الأحكام أنه لو كان فطريّا يقتل. إلى غير ذلك من الأحكام.

و أجيب عن الوجهين اللذين استدلّ بهما القائل بالاستتابه أمّا عن احتمال الشبهة فبأنه جار في غيره من الضروريّ المتفق على تحقق الكفر بإنكاره نصا و فتوى.

______________________________

(1) الإرشاد ص 97 و الآية 93 من سورة المائدة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 388

و عن قصّة ابن مظعون فبقولهم: لعلّه لم يكن مرتدّا فطريّا بل كان ملّيّا.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني اختار في المسالك القول الثاني أعني كونه مرتدّا فقال بعد ذكر القول بالاستتابة: و الأصحّ ما اختاره المصنّف و المتأخّرون و منهم ابن إدريس من كونه مرتدّا ينقسم إلى الفطريّ و الملّي كغيره من المرتدّين لأن تحريم الخمر مما قد علم ضرورة من دين الإسلام و كلّ ما كان كذلك فمستحلّه كافر و هو يستلزم المدّعي. ثم قال: هذا إذا لم يمكن الشبهة في حقّه لقرب عهده بالإسلام و نحوه و إلّا اتّجه قول الشيخين و عليه تحمل استتابة قدامة بن مظعون و غيره ممن استحلّها في صدر الإسلام بالتأويل. فاختار رحمه اللّه قول المحقق إذا لم يحتمل الشبهة في حقّه فلو أمكنت ذلك في حقّه لقرب عهده بالإسلام أو لبعد بلاده عن بلاد الإسلام فهناك اتّجه قول الشيخين أي وجوب الاستتابة لا الحكم بالارتداد و عليه تحمل قصّة قدامة و غيره.

و أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بقوله: و فيه إنّ قول الشيخين لا يوافق مستحلّ الضروريّ للشبهة المزبورة المخرجة له عن الضرورة في حقّه بل المسقطة عنه الحدّ.

و فيه إنّه لو كان كلام الشيخ المفيد قابلًا لذلك و لكن كلام

الشيخ الطوسي في النهاية صريح في أنه لو شرب مستحلّا استتيب و إن كان ذلك للشبهة. و هذا الكلام هو ما أفاده الشهيد الثاني.

هل يقتل مستحلّ سائر المسكرات؟

قال المحقق: و أمّا سائر المسكرات فلا يقتل مستحلّها لتحقق الخلاف بين المسلمين فيها و يقام الحدّ مع شربها مستحلّا و محرّما.

أقول: كلامه هنا مجمل و كذا كلمات كثير منهم في المقام، فإنّه لم يبيّن المراد من المستحلّ لسائر المسكرات و أنه هل يستحلّه و هو عالم بالحرمة أو مع عدم العلم بها فعلى الأوّل أي ما إذا استحلّه عالما بحرمته و بانيا على الحلّ فيلزم الارتداد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 389

و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المترتب عليه القتل إذا كان عن فطرة، أو أن المراد استحلاله قاطعاً بالحلّ فلا شي ء عليه حتى الحدّ لكونه جاهلا فكيف يقول بلزوم الحدّ عليه مطلقا؟ بل قال في الرياض بعد تصريح المحقق في النافع بأنه لا يقتل مستحلّ شرب غير الخمر بل يحدّ بشربه مستحلا له أو محرّما: قولا واحدا انتهى. و كذا قال في الجواهر: قولا واحدا كما في الرياض و إن لم يكفر المستحلّ.

و كيف كان فقد خالف الحلبي فحكم بكفر شارب الفقّاع مستحلّا و أوجب قتله. و ضعّفه في الجواهر قائلًا: و هو واضح الضعف بعد أن لم تكن حرمته ضروريّة فهو حينئذ كغيره من المسكر غير الخمر في عدم الكفر.

كما أن الشهيد الثاني في المسالك- بعد أن حكم بأنه لا يقتل مستحلّ غير الخمر من المسكرات كالفقّاع و إن وجب حدّه و ذلك لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين و تحليل بعضهم إيّاها فيكون ذلك كافيا في انتفاء الكفر في استحلالها- قال:

و لا فرق بين كون الشارب لها ممن يعتقد إباحتها كالحنفيّ و غيره فيحدّ عليها و لا يكفر لأن الكفر مختصّ بما وقع عليه الإجماع و ثبت حكمه ضرورة من دين الإسلام و هو منتف في غير الخمر. انتهى.

كما أن صاحب الرياض بعد كلامه السابق و تصريحه بحدّ المستحل لغير الخمر و عدم قتله و ادعاء الإجماع عليه قال: لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين.

و في القواعد و كشف اللثام مزجا: و يحدّ الحنفيّ إذا شرب النبيذ و إن قلّ و إن استحلّه فإنّ الحدّ للّه، و النصوص أطلقت بحدّ الشارب.

و فيه أن إطلاقها بالنسبة لحال الجهل مشكل، و كيف تشمل الجاهل، و كيف يجوز إجراء الحدّ على الجاهل و هو معذور لجهله.

و في الجواهر بعد كلام هذين العلمين: قلت: لا فرق في الكفر بين إنكار الضروريّ و غيره من المقطوع به مع فرض أن المنكر قاطع به ضرورة اقتضائه تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 390

ثم قال: نعم يفرق بينهما بالنسبة إلى الحكم بكفر المنكر مع العلم بالحال فمنكر الضّروريّ و هو من أهل الضرورة محكوم بكفره بإنكاره، بخلاف غيره لاحتمال عدم القطع به عنده بل المتّجه عدم الحدّ عليه بذلك لعدم العلم بالحرمة عند الشارب أو العلم بعدمها، و الفرض معذوريّته لكون المسألة غير ضرورية حتى لو كانت قطعيّة لكنّها نظريّة «1».

المسألة الثالثة: حكم من باع الخمر مستحلّا و غير مستحلّ

قال المحقق: من باع الخمر مستحلّا يستتاب فإن تاب و إلّا قتل و إن لم يكن مستحلّا عزّر و ما سواه لا يقتل و إن لم يتب، بل يؤدّب.

أقول: البيع ليس كالشرب في وضوح الحكم فلذا أفتى في بايع الخمر مستحلّا بأنه يستتاب من

أوّل الأمر فإن تاب فهو و إلّا قتل في حين أن شربه مستحلّا يوجب الارتداد على ما قوّاه.

و السرّ في هذا الفرق هو أنه يمكن أن يكون بيعه لمنفعة خاصّة محلّلة لا للشرب و إن كان مجرّد ترتّب انتفاع محلّل عليه لا يوجب الحكم بحلّية البيع ما لم يكن جهة الحلال من المنافع المتعارفة المعتنى بها.

و للشهيد الثاني في المسالك كلام بشرح العبارة. قال: بيع الخمر ليس حكمه كشربه فإنّ الشرب هو المعلوم تحريمه من دين الإسلام كما ذكر، و أمّا مجرّد البيع فليس تحريمه معلوما ضرورة و قد يقع فيه الشبهة من حيث إنّه يسوغ تناوله على بعض وجوه الضرورات كما سلف، فيعزّر فاعله و يستتاب إن فعله مستحلّا فإن تاب قبل منه و إن أصرّ على استحلاله قتل حدّا، و كأنّه موضع وفاق، و ما وقفت على نصّ يقتضيه، و أمّا بيع غيره من الأشربة فلا إشكال في عدم استحقاق فاعله القتل مطلقا لقيام الشبهة.

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 466.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 391

و فيه أنه قد أفتى بقتله إن أصرّ على استحلاله بعد الاستتابة و الحال أن المسألة نظرية فضلا عمّا إذا كان حلالا عنده.

ثم إنّه قدس سره قال: قتل حدّا، لكن في كشف اللثام اقتصر على حكمه بالقتل و التعليل عليه بقوله: لارتداده، و ليس في كلامه ذكر عن الحدّ. و يحتمل أن يكون مرادهما واحدا.

و قال العلّامة في القواعد: و لو شرب الخمر مستحلّا فهو مرتدّ و قيل يستتاب فإن تاب أقيم عليه الحدّ و إن امتنع قتل أمّا باقي المسكرات فلا يقتل مستحلّها للخلاف بين المسلمين بل يقام الحدّ عليه مع الشرب مستحلّا أو

محرّما و كذا الفقّاع، و لو باع الخمر مستحلّا استتيب فإن تاب و إلّا قتل، و لو باع محرّما له عزّر، و ما عدا الخمر من المسكرات و الفقّاع إذا باعه مستحلّا لا يقتل و إن لم يتب بل يؤدّب انتهى.

و قال في الإرشاد: و الأقوى الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر فيقتل من غير توبة إن كان عن فطرة و لا يقتل مستحلّ غيره بل يحدّ، و بايع الخمر مستحلّا يستتاب فإن رجع و إلّا قتل و يعزّر لو لم يستحلّ و ما عداه يعزّر و إن استحلّه و لم يتب انتهى.

و في كشف اللثام (بشرح عبارة القواعد): و لو باع الخمر مستحلّا لبيعه استتيب فإنّ حرمته ليست من الضروريّات فإن تاب و إلّا قتل لارتداده كذا ذكره الشيخان و غيرهما، و التحقيق أنه إن استحلّه مع اعترافه بحرمته في الشريعة فهو مرتدّ حكمه حكم غيره من المرتدّين، و إلّا عرف ذلك فإن تاب و إلّا قتل و كذا الحكم في كلّ من أنكر مجمعا عليه بين المسلمين فإنّ إنكاره ارتداد مع العلم بالحال لا بدونه بلا فرق بين شي ء و شي ء و كذا من أنكر شيئا مع علمه أو زعمه أنه في الشريعة على خلاف ذلك، و إن لم يكن مجمعا عليه فإنّه تكذيب للنبي صلّى اللّه عليه و آله في علمه أو زعمه و لعلّ نظره إلى أن الشبهة في البيع أظهر و أكثر منها في الشرب، و لو باع محرّما له عزّر، و ما عدا الخمر من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 392

المسكرات و الفقّاع إذا باعه مستحلّا لا يقتل و إن لم يتب بل يؤدّب لعدم الإجماع

من المسلمين على حرمته و في تأديبه مع كونه من أهل الخلاف نظر انتهى.

و تبعه على النظر المزبور في الرياض حيث قال في بيع ما سوى الخمر من الأشربة أنه لا يقتل و إن لم يتب لعدم إجماع المسلمين على حرمته فلا يحكم بكفر مستحلّه الموجب لقتله ثمّ قال: نعم قالوا يعزّر لفعله المحرّم و هو حسن إن كان ممن يعتقد التحريم و إلّا ففيه نظر وفاقا لبعض من تأخّر حيث قال: و في تأديبه مع كونه من أهل الخلاف نظر. انتهى.

و لكن لا يخفى عليك أن مقتضى النظر المزبور عدم الحدّ أيضا في مفروض المسألة السابقة، بل و عدم التعزير في غيره أيضا مع فرض عدم العلم بالتحريم بل و عدم الارتداد مع فرض عدم كونه ضروريّا و لا قطعيّا عنده أن الشريعة تقتضي حرمته فإن المفروض كونه معذورا في الفرض المزبور، و لو لأن المسألة نظرية و بالجملة لا يخلو كلامهم في هذه المسألة من نظر.

قال الأردبيلي قدس سره بشرح ما مضى من عبارة الإرشاد: قد اختلف في أن مستحلّ شرب الخمر كافر و مرتدّ أم لا؟ فقال به بعض الأصحاب لأن تحريمه مجمع عليه الأمّة و من ضروريّات الدين فيكون المسلم المنكر له مرتدّا فإن كان فطريّا يقتل من غير استتابة و إن كان ملّيا أي غير فطريّ يستتاب فإن تاب و إلّا قتل و لم يذكره المصنّف لظهوره و لأنه يعلم من قوله: فإن رجع إلخ و سيجي ء تفصيل حكم المرتدّ و نقل عن الشيخين و أتباعهما عدم الحكم بارتداد من استحلّ شرب الخمر بل قالوا إنّه يستتاب مطلقا فالشارب يحدّ عندهم مطلقا فإن كان مستحلّا يستتاب فإن تاب فالحدّ فقط

و إلّا فالقتل على ما تقرر من قتل من يستحلّ محرّما بعد العلم به و دليلهم الأصل و أنه ما صار ضروريّا بحيث يعرفه كلّ أحد و لم يمكن الجهل به فإنّ كثيرا من أهل القرى يعتقدون حلّه، فيمكن في حقّ من أنكر تحريمه ذلك فلا يحكم بارتداده لذلك، و الحقّ أن يقال إن كان المنكر ممن أمكن في حقّه عدم علمه بتحريمه، و إن كان بعيدا يقبل للاحتياط و الدرء

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 393

و الأصل و لبعد إنكار من هو عليه شعار المسلمين، و على ظاهر الإسلام ينكر ما علم تحريم شي ء في شرع الإسلام بل لا يمكن ذلك حقيقة بل بحسب الظاهر أو الخروج عن الإسلام و عدم الاعتقاد بحقيقته فمهما أمكن حمله على الإمكان و الصحّة، و إن كان بعيدا يحمل عليه فلا يكفر و لا يقتل، و إن لم يمكن مثل أن يكون رجلا من أهل العلم و المعرفة بأحكام المسلمين و كتاب اللّه و الأخبار فيحكم بارتداده و كفره، و يجري عليه أحكام المرتد التي ستجي ء، لأنه علم من حاله ثبوت التحريم في الشرع فإنكاره إنكار الشرع و ردّه و عدم القول به فلا شكّ في كفره، و هو ظاهر و يمكن الجمع بين القولين فتأمّل.

ثم إنّ ما أفاده من إمكان الجمع بين كلام الشيخين و سائر العلماء بأن يقال إنّه يقتل إذا كان عالما لا مطلقا خلاف الظاهر فإنّ ظاهر كلامهما أنهما يقولان بالاستتابة مطلقا لا أنه إذا كان عالما يقتل.

المسألة الرابعة في توبة الشارب قبل قيام البيّنة و بعدها.

قال المحقق: إذا تاب قبل قيام البيّنة سقط الحدّ و إن تاب بعدها لم يسقط و لو كان ثبوت الحدّ بإقراره كان الإمام

مخيّرا بين العفو و الاستيفاء و منهم من منع التخيير و حتم الاستيفاء هنا و هو الأظهر.

أقول: هنا أحكام: أحدها: أنه إذا تاب شارب الخمر قبل قيام البيّنة على شربه سقط عنه الحدّ اتّفاقا كما في كشف اللثام و بلا خلاف كما في الجواهر.

و يدلّ على ذلك مرسل جميل: في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه و لم يؤخذ حتى تاب و صلح قال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ «1».

ثانيها: ما إذا تاب بعد قيام البيّنة عليه بذلك. و فيه قولان:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 394

الأوّل ما ذهب إليه المشهور و هو أنه لا يسقط عنه الحدّ الثابت بالبيّنة كما هو مقتضى مرسل جميل.

الثّاني ما قاله الحلبيّان- ابن زهرة و أبو الصلاح- فقالوا بتخيير الإمام بين الإجراء و العفو.

و فيه ما مرّ سابقا فراجع «1».

ثالثها: ما لو تاب قبل إثبات شربه بإقراره عند الحاكم فيسقط الحدّ عنه قطعا و بلا كلام و يشمله إطلاق رواية جميل.

رابعها: ما إذا تاب لكن بعد إثبات ذلك بالإقرار عند الحاكم و فيه القولان:

أحدهما أنه يتخيّر الإمام بين العفو و الاستيفاء و هو المشهور.

ثانيهما لزوم الاستيفاء كما استظهر ذلك المحقق قدس سره و قد ذهب إليه الشيخ في الخلاف و المبسوط، و ابن إدريس، و جعله الشهيد الثاني في المسالك أقوى.

و استدلّ في المسالك للأوّل بقوله: لإسقاط التوبة تحتّم أقوى العقوبتين و هو الرجم فلأن يسقط تحتّم أضعفهما أولى. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية و أتباعه و العلّامة في المختلف.

توضيح الأولويّة أن التوبة

بعد ثبوت الزنا بالإقرار توجب سقوط حتميّة الرجم الذي هو أعظم من الجلد فكيف لا توجب التوبة بعد ثبوت الشرب بالإقرار سقوط حدّه بل هو أولى بالسقوط منه.

و استدلّ على لزوم الاستيفاء بأن الحدّ قد ثبت بالإقرار فيستصحب إلى أن يثبت دليل صالح للإسقاط، و لأن التوبة موضع تهمة.

و قد أجيب عن استدلال الأولويّة بوجود الفارق بين الرجم و غيره و ذلك لاستلزام الرجم تلف النفس بخلاف الجلد و من المعلوم اهتمام الشارع بحفظ النفوس ما لا يهتمّ بغيره فيمكن أن يرفع حكم الرجم و إتلاف النفس بالتوبة بعد

______________________________

(1) راجع الدّرّ المنضود ج 1 ص 243.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 395

أن ثبت عمله بإقراره و مع ذلك لا يرفع الحكم بجلده للشرب بالتوبة بعد إقراره، و رفع الأوّل لا يلازم رفع الثاني أصلا.

و في الجواهر عند قول المحقق بأن القول بتحتّم الاستيفاء هو الأظهر: بناءا على أنه لا خيار هناك إلّا في الرّجم ضرورة عدم إيجاب الشرب غير الجلد الذي يقتضي الاستصحاب بقاءه و لا يقطعه القياس على الإقرار بما يوجب القتل و الرجم بعد بطلانه عندنا و كونه مع الفارق و من هنا قوّاه في محكيّ التحرير.

ثم قال: و لكن قد تقدم سابقا ما يعلم منه النظر في ذلك و أنه مخيّر في الرجم و الجلد فيتّضح حينئذ وجه الأولويّة في المقام من الجلد في الزناء الذي هو أعظم و جلده أكثر، مضافا إلى غيرها من التعليل في بعض النصوص و نحوه فلاحظ و تأمّل انتهى.

أقول: لعلّ القول الأول هو الأصحّ و ذلك لأنه و إن أمكن تقرير الأولوية على النحو الذي أفاده في المسالك فتفيد القول الثاني و هو

تخيير الإمام بين العفو و الاستيفاء بأن يقال: التوبة تسقط تحتّم أقوى العقوبتين و هو الرجم فلأن تسقط تحتّم أضعفهما أولى.

إلّا أنه يمكن تقريرها بنحو تفيد العكس فيقال: لا طاقة لكثير من الناس في باب الزنا و عن الشهوات الغريزيّة إذا فيمكن أن يرفع الحكم بالرجم بالتوبة بعد الإقرار و هو لا يدلّ على رفع الحكم بالجلد في باب الشرب الذي ليس كباب الزنا بل يسهل الاجتناب عنه لكثير من الناس و ليس بحيث لا طاقة لهم عنه كما هو واضح [1].

______________________________

[1] أقول القسم الأخير من هذا البحث أي تقرير الأولويّة بهذا البيان منه دام ظله لكن في خارج مجلس الدرس.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 396

تتمّة تشتمل على مسائل
الأولى فيمن استحلّ شيئا من المحرّمات المجمع عليها.

قال المحقق: من استحلّ شيئا من المحرّمات المجمع عليها كالميتة و الدّم و الربا و لحم الخنزير ممن ولد على الفطرة يقتل و لو ارتكب ذلك لا مستحلّا عزّر.

قد تقدم أنه لو أنكر الضروريّ فهو مرتدّ و له أحكامه. و الكلام الآن فيمن استحلّ ما هو ليس من الضروريّ لكنّه كان مجمعا عليه بين المسلمين. و ليعلم أنه أيضا كذلك فإذا ارتكب المسلم الحرام المجمع عليه فهو مرتدّ فطريّ يقتل للارتداد، و إن تاب عن ارتداده و ذلك لأنه بمقتضى كونه مجمعا عليه بين جميع فرق المسلمين فهو معلوم و مسلّم عندهم، و استحلاله تكذيب للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

نعم يعتبر في قتله الشرائط المخصوصة مثل أن يكون رجلا و غير ذلك و قد نسب ذلك أي كفره و ارتداده في المسالك، إلى مقتضى عبارة كثير من الأصحاب كما في الجواهر أيضا.

لكن أورد عليه في الأوّل بأن حجّية الإجماع ظنيّة لا قطعيّة

و من ثمّ اختلف فيها و في جهتها و نحن لا نكفّر من ردّ أصل الإجماع فكيف نكفّر من ردّ مدلوله فالأصحّ اعتبار القيد الآخر (أي كون ثبوته ضروريا).

و فيه إنّ ردّ الإجماع غير ردّ المدلول فلو كان عالما بتحقق الإجماع على شي ء بين المسلمين فهذا الحكم ظاهر عنده و معلوم له و كان هو كالمعلوم بالضرورة في المناط الموجب للارتداد و يؤل ذلك إلى إنكار صاحب الشرع و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما الفرق بين الضروري و المجمع عليه في أن كون

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 397

شي ء ضروريّا بنفسه كاف في الحكم بالارتداد بعد أن كان المستحلّ من أهل هذه الملّة و النحلة و قد نشأ في الجوّ الدينيّ و الإسلامي بخلاف المجمع عليه حيث إنّه لا يحكم عليه بالكفر و الارتداد بمجرّد استحلاله و ذلك لاحتمال عدم تحققه الإجماع عليه.

هذا كلّه في ضروريّ الدين و الجمع عليه بين المسلمين و أمّا ضروريّ المذهب فالظاهر أنه أيضا كضروريّ الدين كما صرّح بذلك في الجواهر و ذلك لتحقق المناط أي لزوم التكذيب [1].

و أمّا مخالف المجمع عليه بين الأصحاب خاصّة ففي المسالك: فلا يكفر قطعا و إن كان ذلك عندهم حجّة فما كل من خالف حجّة يكفر خصوصا الحجّة الاجتهادية الخفيّة جدّا كهذه. (قال:) و قد أغرب الشيخ رحمه اللّه حيث حكم في بعض المسائل بكفر مستحل ما أجمع عليه الأصحاب و قد تقدم بعضه في باب الأطعمة و الأشربة و لا شبهة في فساده إلى آخر كلامه.

لكن في الجواهر بعد التصريح بجريان الحكم في ضروريّ المذهب أيضا قال:

بل و المجمع عليه بينهم ممن كان

تحقق عنده الإجماع المزبور على وجه يدخل فيه المعصوم عليه السلام ضرورة اقتضاء إنكاره ردّ قول من اعتقد بعصمته بل و قول اللّه كما هو واضح انتهى.

أقول: و هذا هو الحقّ بعد أن المفروض هو علمه بكونه مسلّما في المذهب.

هذا كلّه في صورة الاستحلال و أمّا لو ارتكب بدون ذلك فعند المحقق أنه يعزّر و قد مرّ بعض الكلام منّا في التعزير فيما مضى فراجع.

و في المسالك: و لو ارتكب ذلك غير مستحلّ عزّر إن لم يكن الفعل موجبا

______________________________

[1] كأنّه دام ظلّه العالي قد عدل عمّا أفاده في سالف الزمان في الطهارة على حسب ما نقلناه عنه في نتائج الأفكار ص 178 فراجع، كما و انّ صاحب الجواهر قدس سره الذي صرّح في الجواهر ج 41 ص 469 و كذا في ص 602 بكفر منكر ضروريّ المذهب قد استشكل في ذلك في ص 442 فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 398

للحدّ و إلّا دخل التعزير في ضمنه.

المسألة الثانية: فيمن قتل بالحدّ أو التعزير

قال المحقق: من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له و قيل تجب على بيت المال و الأوّل مرويّ.

أقول: في المسألة قولان: أحدهما أنه لا دية له و في المسالك: عدم ثبوت الدية على التقديرين هو الأظهر انتهى. و في الجواهر: على المشهور، و عن الشيخ و إن ضرب في غاية الحرّ و البرد و هو مذهبنا لأن تحرّي خلافهما مستحبّ انتهى. و قد استدلّ على ذلك بأمور على ما في المسالك:

منها: أنه فعل سائغ أو واجب فلا يتعقّبه الضمان.

و منها أن الإمام محسن في امتثال أوامر اللّه تعالى و إقامة حدوده، و قد قال اللّه تعالى «مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» «1».

و منها حسنة

الحلبي عن الصادق عليه السلام أنه قال: أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له «2».

فإنّ أيّ من صيغ العموم و كذا الحدّ عند من جعل المفرد المعرّف للعموم من الأصوليّين.

أقول: و هنا وجه آخر قد يتمسّك به و هو أصل البراءة فإنّه يقتضي أن لا يكون عليه شي ء.

و على الجملة فقد استدلّ على ذلك بالآية و الرواية و الأصل و وجه اعتباريّ.

ثانيهما: القول بالضمان إلّا أن ضمانه على بيت المال غاية الأمر بشرط كون الحدّ للناس فإنّه لو كان للّه تعالى لم يضمن. و قد افتى بذلك الشيخ المفيد قدس

______________________________

(1) سورة التوبة الآية 91.

(2) وسائل الشيعة ج 19 ب 24 من أبواب قصاص النفس ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 399

سره الشريف.

و يدلّ على ذلك ما رواه الصدوق مرسلا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

كان عليّ عليه السلام يقول: من ضربناه حدّا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا و من ضربناه حدّا في شي ء من حقوق الناس فمات فإنّ ديته علينا «1».

و قد روى الشيخ الطوسي قدس سره رواية الحلبي المذكورة آنفا ثم نقل رواية زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قتله القصاص هل له دية؟ فقال: لو كان ذلك لم يقتصّ من أحد و من قتله الحدّ فلا دية له.

ثم قال: قال محمد بن الحسن: هذان الخبران و ردا عامّين و ينبغي أن نخصّهما بأن نقول: إذا قتلهما حدّ من حدود اللّه فلا دية له من بيت المال و إذا مات في شي ء من حدود الآدميّين كانت ديته على بيت المال، يدلّ على ذلك ما رواه الحسن بن محبوب عن

الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان عليّ عليه السلام يقول إلخ «2». و هذا هو نفس مرسل الصدوق بهذا الطريق.

و في المسالك بعد نقل قول المفيد: و مقتضى هذا القول تخصيص الحدّ و أن المراد بيت المال بيت مال الإمام لا بيت مال المسلمين.

ثم نقل ما ذهب إليه الشيخ في الإستبصار من أن الدية في بيت المال جمعا بين الأخبار. و قال بعد ذلك: مع أن الرواية المرويّة عن عليّ عليه السلام ضعيفة السند انتهى.

و قد يقال بأن إطلاق بيت المال و إرادة مال الإمام غير مصطلح فإنّه مهما أطلق يراد به بيت المال المسلمين.

و فيه أن بيت المال قسمان: فقد يراد به بيت تجمع فيه الزكوات و الصدقات

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 4 و الفقيه طبع تهران ج 4 ص 51.

(2) الإستبصار ج 4 ص 278 و 279.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 400

و المبرّات و أمثال ذلك، و قد يراد به ما يجمع فيه الوجوه المختصّة بالإمام عليه السلام و السهم الخاصّ به و لا بعد في أن يراد من بيت المال بيت ماله مثل هذا لا ماله الشخصيّ، و على هذا فلا بعد في إطلاق بيت المال عليه.

إلا أنه قد يقال بأن مقتضى كونه محسنا أنه لو كان عليه شي ء أدّى من بيت مال المسلمين. نعم لو استولى عليه الغضب فضربه حتى مات فلا شكّ في كونه ضامنا.

و قد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه اقتصّ من قنبر عند ما ضرب المستحقّ فوق الحدّ فضرب عليه السلام قنبرا بعدد تلك الزيادة [1].

و إن كان

توجيه هذا الخبر مع ما هو المعهود المعلوم من مكانة قنبر الرفيعة، و على حسب القواعد لا يخلو عن صعوبة، و كيف يرتضي المسلم أن يقول بأن قنبرا تعدّى و ضرب فوق ما هو اللازم فهو بعيد غايته، و لو كان ذلك عن خطأ فكيف اقتصّ منه الإمام عليه السلام. نعم يمكن أن يقال: إنّه كان قد قصّر في عدّ الأسواط فزاد.

ثم إنّه هل الحكم يختصّ بما إذا قتل في الحدّ فلا دية هناك أو أنه يشمل التعزير أيضا؟ الظاهر عدم الاختصاص فالمراد منه الأعمّ من الحدّ و التعزير.

و في المسالك: و يظهر من الخلاف و المبسوط أن الخلاف في التعزير لا في الحدّ فإنّه مقدّر فلا خطأ فيه بخلاف التعزير فإنّ تقريره مبنيّ على الاجتهاد الذي يجوز فيه الخطأ، و هذا يتمّ مع كون الحاكم الذي يقيم عليه الحدّ غير معصوم و إلّا لم يفرق الحال بين الحدّ و التعزير.

و في الجواهر: الظاهر إرادة ما يشمل التعزير من الحدّ فيه و على تقدير العدم فالظاهر الاتّحاد في الحكم مع فرض عدم الخطأ.

______________________________

[1] عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدّا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط فأقاده عليّ عليه السلام من قنبر بثلاثة أسواط. وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدّمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 401

ثم إنّه استدلّ من قال بعدم الدية إذا قتل بالتعزير بأصل البراءة، و بأن التعزير حدّ من حدود اللّه و كلّ حدّ من حدود اللّه لا يضمن من مات به.

قال فخر المحققين في الإيضاح بعد ذكر هذين الوجهين:

أمّا الأولى فظاهرة و أمّا الثانية فلما روي عنهم عليهم السلام متواترا أن من حددناه حدّا من حدود اللّه فمات فليس له شي ء و من ضربناه حدّا من حدود الآدميّين فمات كان علينا ضمانه «1».

و قد أجاب عنه في الجواهر بقوله: و الخبر المزبور و إن قال في محكيّ الإيضاح إنّه متواتر عنهم لكن لم نتحققه و هو في ما وجدناه ضعيف، كما اعترف به غير واحد فلا يصلح مقيّدا أو مخصصا للحسن المزبور المعتضد بما عرفت انتهى.

أقول: الظاهر شمول حسنة الحلبي أو صحيحته للتعزير أيضا و لا وجه للاختصاص بحسب الظاهر، و الأقوى عدم الضمان مطلقا.

ثم إنّه قال في الجواهر: ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحصل الخطأ لو كان من غير المعصوم عليه السلام بالتجاوز و نحوه و إلّا اتّجه الضمان.

أقول: غرضه أن ما ذكر من أنه لو قتله الحدّ أو التعزير فلا دية صحيح إذا لم يكن هناك خطأ في الحدّ أو التعزير، بل كان قد مات و قتل بنفس الحدّ أو التعزير أمّا إذا أخطأ فزاد في الحدّ أو التعزير فقتل فهناك يتّجه الضمان. و قد ذكر قدس سره ذلك لئلّا يتوهّم شمول عبارة المصنّف للفرض الأخير أيضا.

ثمّ لا يخفى أن هذا البحث لا يجري بالنسبة للإمام المعصوم و ذلك لمكان عصمته عن الخطأ حكما و موضوعا.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 516.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 402

المسألة الثالثة في انكشاف فسق الشاهدين بعد أن قتل أحد حدّا
اشارة

قال المحقق: لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال و لا يضمنها الحاكم و لا عاقلته.

أقول: البحث في هذه القسمة في أنه إذا حكم الحاكم على طبق الموازين الشرعية المقررة ثم

انكشف فسق الشاهدين- أو الشهود إذا كان قد شهد بالموجب جماعة- لكانت دية المقتول لازمة و ذلك لأنه قد قتل بغير حق و من دون استحقاق فتجب ديته و لا إشكال في ذلك و إنّما الكلام في أنها على من تكون؟.

فذهب المحقق إلى أنها على بيت المال أي تخرج منه و ليس الضمان على الحاكم و لا على عاقلته و ذلك لأنه يعتبر من خطأ الحاكم، و خطأ الحاكم من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين، و هو محسن في عمله لكونه في مقام إصلاح الأمور و حفظ النظام، و خدمة الدين و إقامة الشعائر، و إجراء الأحكام، فالغرامة اللازمة عليه كانت على بيت مال المسلمين، و بما ذكر يجمع بين الحقّين: حقّ المقتول و حقّ الحاكم القائم بأمور المسلمين.

خلافا لظاهر بعض كالحلبيّ من كون الضمان في ماله على ما حكي عنه، و هو ضعيف، بل في الجواهر: و هو واضح الضعف انتهى و ذلك لما ذكرناه في تقريب القول الأوّل من أنه محسن في عمله إلّا أنه قد أخطأ، و خطأ الحاكم على بيت المال.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 403

في إجهاز الحامل لإنفاذ الحاكم إليها في الحدّ

قال المحقق: و لو أنفذ الحاكم إلى حامل لإقامة حدّ فأجهضت خوفا قال الشيخ: دية الجنين في بيت المال و هو قويّ لأنه خطأ و خطأ الحكّام في بيت المال و قيل يكون على عاقلة الإمام و هي قضيّة عمر مع عليّ عليه السلام.

أقول: و في الجواهر بعد قول المحقق لإقامة حدّ: أو لتحقيق موجبه انتهى و هو في موضعه فإنّه كما للحاكم إقامة الحدّ فإنّ له الإنفاذ إلى من ادّعى عليه لتحقيق الحال. و كيف كان فلو أجهضت فعن الشيخ أن

دية الجنين في بيت المال.

و ما نقله عنه فهو كلامه في المبسوط و هذا نصّه:

إذا ذكرت عند الإمام امرأة فأرسل إليها فأسقطت أي أجهضت ما في بطنها فزعا منه فخرج الجنين ميّتا فعلى الإمام الضمان لما روي من قصّة المجهضة، و أين يكون على ما مضى «1».

و قد قوّى المحقق قدس سره هذا القول و اختاره الشهيد الثاني في المسالك كما و أنه ذهب إليه الأكثر. و استدلّ على ذلك بأنه خطأ من الحاكم و خطأ الحكّام في بيت المال.

و خالف في ذلك ابن إدريس فقال بأنه على عاقلة الإمام. و احتجّ على ذلك بأنه خطأ محض لأنه غير عامد في فعله و لا قصده لأنه لم يقصد الجنين مطلقا و إنّما قصد أمّه فيكون الدية على عاقلته و الكفّارة في ماله.

و الذي ذهب إليه هو الموافق للرواية المشهورة من قضايا أمير المؤمنين عليه السلام. فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كانت امرأة تؤتى فبلغ ذلك عمر فبعث إليها فروّعها و أمر أن يجاب بها ففزعت المرأة فأخذها الطلق فذهبت إلى بعض الدور فولدت غلاما فاستهلّ الغلام ثم مات فدخل عليه من روعة المرأة و من موت الغلام ما شاء اللّه فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين ما عليك

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب الأشربة ص 64.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 404

من هذا شي ء، و قال بعضهم: و ما هذا؟ قال: سلوا أبا الحسن عليه السلام فقال لهم أبو الحسن عليه السلام: لئن كنتم اجتهدتم ما أصبتم و لئن كنتم برأيكم قلتم فقد أخطأتم ثمّ قال: عليك دية الصبيّ «1».

و في نقل الشيخ المفيد: روي أنه استدعى امرأة كانت تتحدّث

عندها الرجال فلمّا جاءها رسله فزعت و ارتاعت و خرجت معهم فأملصت و وقع على الأرض ولدها يستهلّ ثم مات فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدّبا و لم ترد إلّا خيرا و لا شي ء عليك في ذلك و أمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلّم في ذلك فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا قال: فما عندك؟

قال: قد قال القوم ما سمعت قال: أقسمت عليك لتقولنّ ما عندك قال: إن كان القوم قاربوك فقد غشّوك و إن كانوا ارتأوا فقد قصّروا، الدية على عاقلتك لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك فقال: أنت و اللّه نصحتني من بينهم، و اللّه لا تبرح حتى تجري الدية على بني عديّ ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام [1] و قد أجيب عن الرواية بأن عمر لم يرسل إليها بعد ثبوت ذلك عليها بل كان قبل ثبوته و لذا ضمنه. و فيه أن جواز الإرسال خلف المدّعى عليه لا يتوقّف على ثبوت الحق عليه بل يكفي فيه إرادة تحقيق الأمر.

و قد يجاب عنها بنحو آخر و هو أن عمر لم يكن حاكم حقّ عند الإمام حتى يكون خطأه في بيت المال و لم يكن عليه السلام يقدر على أن يصرّح دائما ببطلان خلافته و حكومته إذا فلم يكن المقام من خطأ الحاكم حتى يكون على بيت المال فلا ينافي هذا ما تقدم من القاعدة.

و فيه أنه كان صلوات اللّه عليه يرتّب غالبا على قضائهم آثار حكم الحاكم

______________________________

[1] الإرشاد ص 98 و قوله: أملصت أي ألقت

المرأة ولدها قبل وقت الولادة.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 374 و التهذيب ج 10 ص 312 و وسائل الشيعة ج 19 ب 30 من موجبات الضمان ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 405

الإسلامي و ولاة الحق و كان مشرفا على قضائهم.

و قد أجاب في المسالك بنحو آخر و لعلّه الجواب التامّ قال: و الأولى في ذلك أن الرواية لم ترد بطريق يعتمد عليه فالرجوع إلى الأصول المقررة متعيّن.

في موت المحدود بزيادة الحدّ

قال المحقق: و لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحدّ فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحدّاد لأنه شبيه العمد.

أقول: إنّ للمسألة صورا و أقساما بعد أن كون الحاكم هو الإمام المعصوم خارج عن محلّ الكلام فإنّه بمقتضى عصمته لا يأمر بخلاف حكم اللّه تعالى، و أئمة الشيعة لا يسبقون اللّه سبحانه بالقول و هم بأمره يعملون و إذا أمر الإمام المعصوم بالزيادة لجهة من الجهات كشرف الزمان أو المكان أو غير ذلك فليس عليه شي ء و لا يوجب ذلك ضمانا.

فمنها أنه إذا أمر الحاكم بالزيادة على الحدّ المعيّن غضبا مع عدم علم الحدّاد بأنه زائد على المقدار اللّازم فأجرى و أقام ما أمره الحاكم فضربه فقتل في حين كان الأمر عالما و المأمور جاهلا و هنا يكون نصف دية القتل المنتسب إلى أمرين أحدهما سائغ و الآخر مضمون عليه، على الحاكم في ماله لأن أمره كان سببا لفعل المأمور، و المأمور و إن كان مباشرا إلا أنه لمّا كان جاهلا فالسبب أقوى من المباشر فليس عليه شي ء و على الجملة فالنصف غير المجاز يكون على الحاكم فعليه أداء نصف الدية.

و منها هذا الفرض مع علم المأمور بذلك فضرب غضبا

فمات و هنا يكون المأمور هو الضامن للنصف غير السائغ لا الحاكم، و ذلك لأن علم المأمور أوجب أن يكون المباشر أقوى من السبب عرفا بعكس الفرض السابق، و ليس الفرضان من باب خطأ الحاكم حتى يكون على بيت مال المسلمين.

إن قلت: فلما ذا لا يحكم بالقصاص مع فرض وقوع القتل بسبب تلك الزيادة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 406

الّتي وقعت عن عمد؟.

نقول: لعدم قصد القتل- و لا الأمر به من الحاكم في الفرض الأوّل و لا من المباشر في الفرض الثاني و ليس من باب الخطأ المحض حتى يكون على العاقلة ما يلزم عليه بل هو شبه العمد فقد قصد الفعل لا القتل و لم يكن الفعل مما يترتّب عليه القتل عادة.

فيما إذا كان ذلك عن سهو

قال المحقق: و لو كان سهوا فالنصف على بيت المال.

من جملة الفروع في المقام ما إذا زاد الحاكم في ذلك، فأمر بالزيادة لكنّه كان ذلك عن سهو منه كما إذا غفل أنه حدّ الشارب فزعم أنه حدّ الزنا أو لغلطة في الحساب فهنا يكون النصف على بيت المال لأنه من غلط الحكّام الذي يؤدّي عن بيت مال المسلمين.

هذا إذا لم يعلم الحدّاد، فلو كان هو عالما بأن الحاكم أمر بذلك سهوا و مع ذلك فقد أقدم على الضرب زائدا على الحدّ المقرر فمات منها فإن كان عالما أيضا بأنه يموت بها أو قصد قتله بها فالقصاص و إلّا بأن مات بغتة بذلك فنصف الدية على الحدّاد لا الحاكم.

في تعمّد الحدّاد مع أمر الحاكم بالاقتصار

قال المحقق: و لو أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا فالنّصف على الحدّاد في ماله.

أقول: فرض البحث هنا أنه قد أمر الحاكم بالحدّ المقرر و ما هو اللّازم، و إنّما تعمّد الحدّاد فزاد في ذلك و حيث إنّه لم يقصد القتل و لم يكن الفعل مما يوجب القتل فلذا لا قصاص هناك و إنّما يجب نصف ديته و على الحدّاد أن يؤدّي ذلك من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 407

ما له فيكون كالفرع السابق أي ما إذا أمره الحاكم بالزيادة سهوا و لذا قال في المسالك في فرعنا هذا: و لو كان الحاكم قد أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا فالحكم كما سبق في تعمّده مع الأمر و أولى. وجه الأولوية أنه إذا أمر الحاكم بالزيادة سهوا إلّا أن الحدّاد قد زاد عالما بذلك كان النصف على الحداد فكون النصف عليه مع أمر الحاكم بالاقتصار لا الزيادة أولى.

و أمّا عدم كونه على

الحاكم فهو واضح حيث إنّه قد أمر بالاقتصار.

فيما أمر بالاقتصار و زاد الحدّاد سهوا

قال المحقق: و لو زاد سهوا فالدية على عاقلته و فيه احتمال آخر.

و في المسالك بشرح هذا الكلام: و هو يحتمل إرادة مجموع الدية نظرا إلى أنه قتل عدوان و إن حصل من فعله تعالى و عدوان الضارب فيجب الضمان كلّه على العادي كما لو ضرب مريضا مشرفا على التلف و ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقها.

ثم قال: و استناد موته إلى الزيادة و لا يسقط بسبب الضرب السائغ شي ء لكن لا يوافق السابق.

أقول: وجه عدم المساعدة مع السابق ما قد تقدم من أنه مع إقدام الحدّاد على الزيادة عمدا عند أمر الحاكم بالاقتصار قد حكم بالنصف فكيف يحكم هنا بالتمام و الدّية الكاملة، و هل يكون السهو موجبا لمزيد الدية بالنسبة إلى العمد؟

فلو كان الميزان في الدية هو الجزء الأخير فيلزم اتّحاد الحكم في الفرضين.

و ما ذكره رحمه اللّه من أنه يحتمل إرادة مجموع الدية إلخ. ففيه إنّه نعم يحتمل ذلك فإنّه ليس بمحال إلّا أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر و لا ينبغي نسبته إلى المحقق. و أمّا التشبيه بقتل المريض و إلقاء الحجر في السفينة ففيه وضوح الفرق بينهما، و ذلك لأن القتل في مثال المريض مستند إلى خصوص الضرب عرفا لا إلى ضرب العادي و إلى فعل اللّه تعالى، و هكذا بالنسبة لمثال السفينة و هذا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 408

بخلاف ضربه زائدا على الحدّ اللازم فإنّ القتل مستند إلى سببين أحدهما سائغ و الآخر ممنوع.

ثم قال قدس سره في قبال الاحتمال المزبور: و أن يريد به الدية اللازمة عن الزيادة و هي النصف لموته بالسببين و هذا هو المطابق

لما سلف و به صرّح في التحرير.

و في الجواهر بعد ذكر إمكان الفرق بين المقام و بين مثال ضرب المريض، بما ذكرناه، قال: فالمتّجه حينئذ النصف لاستناد الموت إلى سببين سائغ و هو الحدّ، و غيره و هو الزيادة من غير اعتبار تعدد شي ء منهما كما صرّح به في محكيّ السرائر لأن القود و الدية على عدد الجانين لا الجنايات.

و هنا قد تعرّض لفرع لم يتعرّض له في الشرائع فقال: و عليه إن حصلت زيادتان إحداهما من الحاكم عمدا أو سهوا و الأخرى من الحدّاد انقسمت الدية أثلاثا و يسقط ثلثها بإزاء الحدّ.

أقول: و على هذا فقد انتسب موته إلى ثلاثة عوامل: سائغ و زيادة من الحاكم و زيادة أخرى من الحدّاد فتقسم الدية أثلاثا.

قال: و ربّما احتمل التنصيف و إسقاط النصف ثم تنصيف الباقي بين الحاكم و الحدّاد.

أقول: فعلى الأوّل كان على كلّ واحد منهما ثلث أصل الدية بخلافه على الثاني فإنّه يلزم كلّ واحد منهما ربعها.

و كيف كان فلا يخفى أنه يصحّ ذلك مع جهل الحدّاد بالزيادة التي أمر بها الحاكم و إلّا فلو كان عالما فالظاهر أن الثلثين أو الربعين كلّها عليه لأنه مباشر في ذلك عالما أمّا مع تخيّله أن الذي أمره الحاكم به هو حدّ الشارب فهناك يتمّ التوزيع تنصيفا أو تثليثا.

ثم إنّ المحقق بعد ذكر كون الدية على عاقلته قال فيه احتمال آخر.

فقال في المسالك: و الاحتمال الآخر الذي أشار إليه المصنّف يحتمل أن يريد به

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 409

توزيع الدية على الأسواط الزائدة و الواقعة في الحدّ فيسقط منها بحساب الحدّ لأن السبب مركّب من المجموع.

أقول: و على هذا الاحتمال يدور الأمر مدار

الأسواط أصليّا و زائدا فربّما يكون الزائد ثلثا فيجب على الحدّاد ثلث الدية و ربّما يكون نصفا فنصف و هكذا.

و التحقيق أنه يمكن أن يكون المراد منه تقسيط الدية على الأسواط الواقعة في الحدّ، و الزائدة فيسقط من الدية بحساب الحدّ السائغ أي ما قابله فلو زاد على الثمانين واحدة مثلا فمات فهنا يوزّع الدية على واحد و ثمانين و حيث إنّ ثمانين منها كانت جائزة فلذا لا يلزمه إلّا جزء من أحد و ثمانين جزء من الدية كما في الجواهر.

و يمكن أن يكون المراد من احتمال آخر كون نصف الدية على نفسه لا على عاقلته لأنه قاصد للفعل و إنّما أخطأ في قصد القتل فهو شبه العمد. و على هذا فالاحتمال الثاني هو كون الدية على نفسه في قبال كونها على عاقلته.

و هنا بيان آخر و هو أن يكون المراد من الاحتمال الآخر هو تمام الدية إن كان المراد بها في قوله: فالدية على عاقلته، نصفها، أو أن المراد منه نصف الدية إن كان المراد بها أوّلا تمامها.

ثم إنّ ما ذكر من التوزيع على حسب الأسواط ليس بتامّ و ذلك لأن أثر الأسواط الأواخر أشدّ من أثر الأسواط الأوائل و ليس أثر الأسواط على حدّ سواء حتى يقال بتوزيع الدية على حسب الأسواط.

و قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في التحرير: و لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة على الحدّ فمات فإن كان الحدّاد جاهلا فعلى الحاكم نصف الدية في ماله لأنه شبيه العمد و إن كان سهوا فالنصف على بيت المال. فهو قدس سره لم يحتمل التوزيع أصلا بل صرّح بالتنصيف و جعل الملاك هو الجاني لا الجناية، و الظاهر أنه لم يكن ذلك

لعثوره على رواية في ذلك بل للانتساب العرفي.

ثم قال: و لو كان الحدّاد عالما فعليه القصاص لأنه مباشر للإتلاف، و لو أمره

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 410

الحاكم بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا اقتصّ منه و إن زاد سهوا فالنصف على عاقلته سواء غلط في حساب الأسواط أولا انتهى.

أقول: و ما ذكره من الاقتصاص من الحدّاد إذا زاد عمدا مع أمر الحاكم بالاقتصار، يمكن أن يكون المراد الاقتصاص مع دفع نصف الدية إليه إذا كان قد تعمّد قتله و ذلك لأنه مع قصد القتل يحصل المجوّز إلّا أنه لمّا كان قسم من هذه الضربات سائغا من باب الحدّ فلذا يدفع إليه عند الاقتصاص النصف من الدية.

و الحقّ أن يقال: إنّه تارة يضرب من الأول قاصدا للقتل، و أخرى يبدو له ذلك بعد تمام الحدّ فبعد ذلك زاد بقصد القتل، و ما ذكر من دفع نصف الدية إلى الحدّاد يتمّ في الثاني دون الأوّل، و ذلك لأنه إذا كان من بدء الأمر قاصدا للقتل فهو ليس بحدّ من أوّل الأمر لأنه لم يكن شي ء من الأسواط سائغا و الحدّ يحتاج إلى قصد القربة فيبقى أنه قد ضربه إلى أن قتله متعمّدا فيقتصّ منه بلا حاجة إلى دفع شي ء إليه.

ثم إنّه لو لم يحصل الجزم بالتنصيف في الدية أو توزيعها على حسب الأسواط و شكّ في ذلك فيمكن أن يقال بدفع ما كان مقطوعا به على كلا القولين ففي مثال الواحد و الثمانين يدفع جزء من الدية نسبته إليها نسبة الواحد إلى واحد و ثمانين، فيكون الشك في الزائد و يدفع بالبراءة إن لم نقل بأن المقام من باب الاحتياط لا البراءة.

ثم إنّ

حاصل الكلام أنه مع قصد القتل يجري القصاص سواء كان من الحاكم أو الحدّاد غاية الأمر أنه إذا أراد الوليّ القصاص فعليه دفع نصف الدية إلى الأولياء و كذلك لو لم يقصد القتل بل قصد الفعل لكن كان الفعل بحسب الحال مفضيا إلى موته فإنّه كالضرب بآلة تقتل عادة و إن لم ينو الضارب القتل، و ذلك لأن الضرب بها ملازم لقصد القتل و إن لم يكن ناويا له مستقيما و الملاك في القتل العمدي هو أحد هذين الأمرين.

و أمّا لو لم يكن من هذين القبيلين بل كان من باب قصد الفعل غضبا فانجرّ إلى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 411

قتله فهنا تكون الدية على نفسه، و لو كان لمجرّد خطأ الحاكم فعلى بيت المال.

كما أنه لو كان القتل مستندا إلى التغليظ السائغ مكانا أو زمانا فمع وجود المبرر ليس الحاكم ضامنا و إنّما ضمانه على بيت المال.

و قد اتّضح أنه في بعض الموارد كانت الدية على المتصدّي و المباشر و في بعضها على الحاكم باختلاف الموارد و كون السبب أقوى في بعضها و المباشر في بعضها الآخر.

و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين

قم المشرّفة- الحوزة العلميّة عليّ الكريميّ الجهرمي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 413

صورة موجزة عن حياة المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم حضرة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره

اشارة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 414

صورة موجزة عن حياة المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم حضرة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره 1316- 1414 ه بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه و الصلاة و السلام على رسول اللّه و على آله آل اللّه.

و بعد: لما كثر الإلحاح من مختلف البلاد في ترجمة أحوال الزعيم

الأكبر و المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الإمام الگلپايگاني قدس سره و كان بعض المراجعين في ذلك مستعجلين فلذا نقدّم ترجمة موجزة من شخصيته اللامعة و إلّا فالإحاطة على أبعاد حياة هذا المرجع العظيم المختلفة تحتاج إلى سفر كبير فنقول:

اسمه و كنيته:

هو السيد محمد رضا الملقب على لسان أبيه الكريم ب (هبة اللّه) المكنى كذلك ب (أبي الحسن) المشتهر في العالم الإسلامي ب (الگلپايگاني).

مولده: ولد سيّدنا المرجع الأكبر في (گوگد) و كانت آنذاك قرية على رأس فرسخ من گلپايگان، و لكنّها اليوم بلدة من البلدان، و كانت ولادته في يوم الاثنين ثامن شهر ذي القعدة الحرام سنة (1316) ستة عشر و ثلاثمأة بعد الالف من الهجرة المباركة، و على مهاجرها آلاف السلام و التحيّة.

وجه تسميته:

ذكرنا أن اسمه الشريف (محمد رضا) و نضيف انّ ذلك يرمز إلى شيئين

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 415

أحدهما: انّه قدس سره بنفسه كان عطيّة من اللّه تعالى لوالده على كبر سنه ببركة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام استجابة لزيارة والده لحرمة صلوات اللّه عليه، و توسلاته به، حيث لم يولد له صبي و كان له عدّة بنات فتوسّل بالإمام الرضا عليه السلام و تضرع إلى اللّه في أن يعطيه ولدا ذكرا صالحا فاستجاب اللّه دعاءه و أعطاه هذا الولد السعيد الذي صار مرجعا مباركا للشيعة في العالم.

ثانيهما: مقارنة يوم ولادته أيام ولادة ثامن الأوصياء و الحجج الإمام الرضا عليه السلام، فان ولادته صلوات اللّه عليه في حادي عشر من ذي القعدة.

نسبه الطاهر:

إن سيدنا الگلپايگاني قدس سره، ينتهي نسبه الشريف إلى الإمام الهمام باب الجوائج إلى اللّه أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم صلوات اللّه و سلامه عليه.

والده الكريم:

والد المرجع الكبير، العالم الجليل العابد الزاهد، حجّة الإسلام السيّد محمد باقر الموسوي الگلپايگاني، و قد اشتهر في حياته عند أهل بلده بلقب (إمام) لكثرة صلاحه و طهارة نفسه و مكارم أخلاقه و اجتهاده في العبادات و اهتمامه بأمر الدين.

كان رضوان اللّه عليه دائم الذكر تاليا لآيات القرآن ليلا و نهارا، و كان يداوم على قراءة سورة التوحيد (قل هو اللّه أحد) و قد رأوه يقرأ القرآن و سورة التوحيد حتى عند ما كان مضطجعا.

و من خصوصياته و مزاياه رحمه اللّه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متصلبا في ذات اللّه تعالى و من الذين لا يخافون في اللّه تعالى لومة لائم.

و كان له حبّ عميق و صلة خاصة بالأئمة الطاهرين خصوصا الإمام الشهيد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 416

أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام، و قد أوصى أن يدفن جثمانه في جانب المقبرة ليكون قريبا من طريق يمر منه الزوار القاصدون إلى كربلاء كي يقع غبار قافلة زوّار الحسين عليه السلام على قبره، و قد عمل بوصيّته و دفن هناك.

عناية اللّه تعالى به:

من الأمور التي لا يعتريها شك أن والد سيدنا المرجع كان ممن شملته الرحمة الإلهية الخاصة، فقد وهبه اللّه هذا الولد السعيد في الرابعة و الستين من عمره و قد اشتعل رأسه شيبا.

و من مظاهر لطف اللّه و رحمته به استجابة دعائه بالنسبة إلى مستقبل ولده العزيز، فإنه بعد ما أرّخ ولادته في ظهر الصحيفة السجادية الخطيّة، دعا له بتلك الأدعية الطيبة:

اللّهم طوّل عمره، و وسع في رزقه و اجعله من العلماء العاملين، بفضلك و كرمك يا ارحم الراحمين.

وليته كان يرى كيف استجاب اللّه دعاءه و صار ابنه سيد العلماء

العاملين و أستاذ الفقهاء و المجتهدين. و لعلّه يرى من أفق الآخرة ابنه المرجع و قد أصبح زعيما دينيا تخفق له قلوب أهل الإيمان.

والدته الكريمة:

والدة سيدنا المرجع، المرأة الصالحة الزاهدة المساة (هاجر) و كفى في جلالة قدرها و فضلها أنها أنجبت ولدا فقيها و مرجعا عالميا:

الأمّ مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيّب الأعراق

و لها قضية تشبه قصة أصحاب الكهف المذكورة في القرآن يطول بذكرها الكلام.

فقدان والديه:

فقد المرجع الكبير الگلپايگاني والديه صغيرا، فقد ماتت أمّه و هو في الثالثة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 417

من عمره و كان ذلك في سنة 1319 ه- فكان في ظل رعاية والده الشريف، لكن قدّر اللّه تعالى أن لا يدوم ظلّ والده الكريم فقد مات عند ما كان ولده في التاسعة من عمره و ذلك في سنة 1325 ه. أجل لقد فقد ظلّ الوالدين لكنه لم يفقد ظلّ اللّه ربّ العالمين، قال اللّه تعالى أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ، وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىٰ، وَ وَجَدَكَ عٰائِلًا فَأَغْنىٰ.

شروعه في التحصيل:

نشأ في بيئة دينية و كان هو في أعماق قلبه محبا للعلم و الفضل، فشرع في حياة أبيه في تعلم القرآن و كتاب نصاب الصبيان و كتاب حياة القلوب للعلامة المجلسي قدس سره، و لما كان عاشقا للعلم لم يمنعه موت والده عن هدفه الأسنى، فشرع في العلوم العربية و المعارف الإسلامية عند علماء بلده گلپايگان، و كان أساتذته يحسّون منه مستقبلا مضيئا و ذلك لما يرون منه من الذكاء القوي و الحفظ البالغ و المواظبة المستمرة على التحصيل، و قد سافر في خلال تلك الأعوام إلى (خوانسار) و هي بلدة قريبة من گلپايگان في طلب ضالته و بقي هناك في المدرسة العلميّة و قد بلغ سن المكلفين في خوانسار، و بعد أشهر رجع إلى موطنه إلى أن بلغه نبأ ورود آية اللّه العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري إلى (سلطان آباد أراك) و تشكيله الحوزة العلميّة هناك فعزم على المهاجرة إليها مع عدم مساعدة الظروف و الأحوال فهاجر و لسان حاله: إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين. و لمّا ورد مدينة أراك وجد من العلم هناك ما

يطلبه و يعشقه و حصل بينه و بين الشيخ الحائري كمال الألفة و الأنس، و لمّا بلغ ما يقرب من التاسعة عشرة من عمره حضر مجلس درس الحائري حضور تفهم و تحقيق و جدّ و تدقيق، و داوم على ذلك إلى منتهى أيام إقامة شيخه الحائري في أراك.

مهاجرته إلى قم:

ثم إنّ شيخه آية اللّه العظمى الحائري قدس سره هاجر إلى قم بدعوة علمائها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 418

الأعلام، و كان ذلك في سنة 1340 من الهجرة، و بقي السيد الگلپايگاني في أراك.

و لما كان الشيخ الحائري قد أحسّ من تلميذه الشاب لياقة و كفاية و براعة و توفّر المواهب و القابليّات و الذكاء القوي و العشق لطب العلم، لذا أرسل إليه كتابا مليئا بالحنان و اللطف، و دعاه إليه و طلب منه أن يترك أراك و يهاجر إلى قم، فلبى سيدنا المرجع دعوة أستاذه الحائري الكبير و هاجر إلى قم و إلى مجلس درس شيخه المعتمد و أستاذه المحبوب، و اشتغل مجدّا في المدرسة الفيضيّة، و كان لا يفتر عن الدرس و التدريس و المطالعة و الكتابة.

جدّه البالغ:

مما يبعث العجب هو اهتمام السيد المرجع في تحصيل العلم و طلب الكمال و المعارف.

فقد حكى دام ظلّه لنا: أني قد مرضت في يوم من الأيام مرضا شديدا و غلبت عليّ الحمّى، و قد حضر وقت الدرس و حضر شيخنا الحائري و صعد المنبر للتدريس فكلّما أردت أن أقوم و أحضر مجلس درسه لم أتمكن من ذلك، فطلبت من زملائي أن يحملوني مع فراشي و لحافي إلى محلّ الدرس و قد صنعوا ذلك، و لكن رعاية للأدب بالنسبة إلى شيخي و أستاذي طلبت منهم أن يحملوني إلى ناحية ظهر المنبر!؟.

موقفه من مجلس درس أستاذه:

ثم إنّه بمرور الأيام و بجدّة الخاص تكونت له ملكة علمية و برز من بين أقرانه.

ففي حين أن مجلس درس الحائري الكبير كان مشحونا بالأفاضل الأعلام و المجتهدين الكرام، كان السيد المرجع قدس اللّه روحه ممن يستشكل على الأستاذ و يورد عليه ما بدا له من الأفكار، و يبدي مطالبه في جنب تحقيقات شيخه في ذاك الحفل العظيم، و كان أستاده يستمع إليه و يعتني بشأنه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 419

أساتيذه و مشايخه العظام:

كانت عمدة استفادته من شيخه الحائري قدس اللّه سرهما، إلا أنه حضر على جماعة من الأساتذة و الأساطين و استفاد منهم أيضا و إليك أسماؤهم:

1- العالم الكبير حضرة السيد محمد حسن الخوانساري المتوفى سنة 1337 ه- عن نيّف و أربعين سنة، المدفون في أراك.

2- العالم الجليل الشيخ ميرزا محمّد باقر الگلپايگاني المتولد في گلپايگان، و المدفون بقم في مقبرة نو و قد توفي رضوان اللّه عليه عام 1352 ه.

3- آية اللّه الآخوند ملا محمد تقي الگوگدي الگلپايگاني الذي هو من أعاظم تلامذة المحقق الخراساني، قال المحقق الجليل الشيخ محمد باقر الشريف زاده رحمة اللّه عليه- ابن أخت الإمام الگلپايگاني- في شأن هذا العالم الكبير في مقدمة آيات الأحكام للأسترابادي ص 3: العالم الالمعي و الفاضل اليلمعي و العلّامة الجليل القدر المرحوم المبرور آية اللّه الآخوند ملا محمد تقي الگوگدي الذي كان من أعاظم تلامذة الخراساني أعلى اللّه مقامه يعرف كل من تتلمذ على المحقق المذكور مقامه النبيل في العلم و العمل و الزهد و التقوى.

و قد هاجر في أواخر عمره من گلپايگان إلى أراك و استوطن فيها و لما توفي سنة 1313 الشمسّية نقل جسده الشريف إلى قم المقدسة و دفن

بها في مقبرة نو.

4- المحقق الكبير الميرزا محمد حسين النائيني أعلى اللّه مقامه، و قد حضر مجلس درسه عند ما ورد مع عدّة من الأعلام من النجف إلى إيران لحادثة سياسية، و كانت مدة تلمذه عليه نحو ثمانية أشهر.

و قد حكى دام ظله لنا مرّة أن بحثه في تلك الأيام كان حول قاعدة (على اليد).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 420

5- المحقق العظيم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سره المتولّد سنة 1277 ه- بنائين المتوفّى في 26 من جمادى الآخرة عام 1355 ه- في النجف المدفون فيها، و قد حضر مجلس درسه ما يقرب من ثلاثة أشهر عند وروده قدس سره من النجف إلى قم في تلك الحادثة المشار إليها.

6- المحقق الشهير الآقا الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره، و ذلك عند ما سافر سيدنا المرجع إلى النجف الأشرف للزيارة و بقي هناك مدة أشهر، و كان يحضر مجلس درسه، بل و كان يشكل عليه في درسه، و كان المحقق العراقي لما عرف مقامه العلمي السامي يحبه و يعظّمه، و قد جرت بينهما قضية لطيفة لا يسعها المقام.

7- العالم العلم الشهير حضرة الشيخ محمد رضا مسجد شاهي النجفي رضوان اللّه عليه، المتولد في المحرّم سنة 1287 ه- و المتوفى، في المحرّم سنة 1362 ه- المدفون بمقبرة تخت فولاد بأصفهان، و قد حضر عنده عند ما سافر قدس سره إلى قم.

8- آية اللّه العظمى حضرة السيد أبو الحسن الأصفهاني نور اللّه مرقده، المتولد في 1284 ه- المتوفى في تاسع ذي الحجة سنة 1365 في الكاظمية، المدفون في النجف، و قد استفاد منه كثيرا في النجف في سفر زيارته، و وقعت بينهما مباحثة علمية في

بيت آية اللّه العظمى السيد جمال الدين الگلپايگاني من أعلام النجف الأشرف، و صارت له بسببها مكانة خاصة عند السيد الأصفهاني قدس اللّه سرهما، و قال في شأنه على ما حكاه بعض الأعلام: أنه من النوابغ.

9- آية اللّه العظمى حضرة السيد آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس اللّه نفسه و قد حضر عنده و استفاد منه في أوائل وروده قدس سره بمدينة قم.

و كان الإمام البروجردي يحترمه كثيرا، و قد حكى لي بعض الفقهاء أن السيد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 421

البروجردي قد تعرض يوما لبيان إشكال في مجلس درسه و قرره ثم صرّح بأن هذا الاشكال من السيّد الگلپايگاني.

10- آية اللّه العظمى مؤسس الحوزة العلمية بقم حضرة الشيخ عبد الكريم الحائري أعلى اللّه مقامه المتولّد في يزيد و المتوفى سنة 1355 ه- في قم و قد دفن جثمانه بقرب مضجع كريمة أهل البيت فاطمة (المعصومة) سلام اللّه عليها.

و كان السيد المرجع قد حضر عنده كثيرا فلم ينقطع حضوره لديه من يوم حضر عليه في أراك إلى أن وافاه الأجل و صار إلى رحمة اللّه تعالى في قم، ما يقرب من اثنين و عشرين سنة متوالية. هذا بالإضافة إلى أنه كان من تلاميذه الخاصين، و من هيئة استفتائه.

مقامه العلمي الرفيع:

مما اشتهر به السيد المرجع الإمام الگلپايگاني قدس اللّه نفسه الزكية، علميّته الرفيعة و فقاهته السامية و دقّة نظره حتى صار لقب (فقيه أهل البيت عليهم السلام) كأنه لقب خاص به. و قد حكى لنا أن الفقيه الجليل المرجع عند أهل تبريز الميرزا رضي التبريزي رضوان اللّه عليه قال: إنّ فقه زرارة عند السيد الگلپايگاني.

تدريسه و بحوثه:

مما له اثر خاص في تصوير شخصية الإمام الگلپايگاني علميا و اجتماعيا مباشرته لأمر التدريس، فكان من أوائل أمره مدرّسا يتعلم عنده الطلاب و المشتغلون، و هذه مجلة همايون التي كانت تنتشر في عصر آية اللّه العظمى الحائري نشرت بحثا تحت عنوان (الروحانية في إيران) و عند البحث عن مدرّسي الحوزة العلمية ذكرت أسامي اثني عشر من رجالات العلم الذين تدور عليهم رحى التدريس، أو لهم مؤسس الحوزة الشيخ عبد الكريم الحائري قدس

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 422

سره و هكذا عدّتهم و ذكرت منهم السيد المرجع قدس سره.

كما ذكر صاحب كتاب (آئينۀ دانشوران) مشاهير المدرسين في عصر الحائري قدس سره و ذكر السيد المرجع منهم. و تعرض أيضا في مطاوي هذا الكتاب لترجمة عدة كثيرة من الفضلاء و المحصلين في عصر المؤسس الحائري و ذكر في عدد منهم أنه من تلاميذ السيد الگلپايگاني، أو أنه تتلمذ عنده.

و قد ذكر لي السيد بنفسه قدس سره في بعض المناسبات أنه في أوائل أمره و حينما كان يدّرس السطح العالي كان يدّرس في كلّ يوم خمسة دروس أو أكثر.

و لما ارتحل الإمام البروجردي كان مجلس درس سيدنا الگلپايگاني أكبر درس في الحوزة، يحضر فيه ما يقرب من ألف أو أكثر من العلماء و الفضلاء في المسجد الأعظم بقم.

و قد

منحه اللّه تعالى التوفيق للتدريس على مستوى الخارج العالي ما يقرب من ستين سنة. كما يظهر ذلك من حاشيته على درر الأصول فراجع.

جدّه في تربية العلماء و المجتهدين:

كان له اهتمام بالغ في تربية الطلاب و المشتغلين و العلماء و المجتهدين، و من جملة الطرق التي كان يستعملها لتحقيق هذا الهدف أنه في بعض المسائل المشكلة كان يطلب من الفضلاء الحاضرين في درسه أن يتفحّصوا عن مدارك المسألة و الأقوال فيها، و يطلب منهم التحقيق و التنقيب حولها و إظهار ما يقوى عندهم فيها.

و عندي رسائل و مكتوبات مختصرة حول بعض المسائل من أفاضل تلاميذه، صنفوا تلك الرسائل بأمره و تحت رعايته و إرشاده و قدموها إليه، و من جملتها رسالة من تلميذه المعروف العالم الجليل الشهيد الشيخ عليّ القدّوسي النهاوندي رضوان اللّه عليه، حول المرأة المضطربة من حيث الدم و ذكر في ختام تلك الرسالة الشريفة ما يعجبني نقله و يستفيد منه القارئ المحترم. قال:

(و نشكر الأستاد أدام اللّه ظله الوارف على ابتكار هذا الطريق للتشويق

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 423

و للتربية. و هذا الطريق اولى و أحسن بمراتب مما اتّخذه سائر الأساتيد و المراجع أدام اللّه ظلّهم، و رحم اللّه الماضين منهم من أخذ الجزوات و الامتحانات التي لم تخل من الإشكال و الشبهة. و نرجو من اللّه تعالى و نتمسّك بأوليائه عليهم السلام أوّلا بطول عمره الشريف و عزّته و توفيقه. و نسئل من الأستاذ مدّ ظله ثانيا إدامة هذا الطريق و تعقيبه و تشويق من يرجو ارتقائه إلى المدارج العالية، لأن الفقه و الفقاهة في الحوزة المقدسة في أعلى مراتب السقوط، و قبله التقوى و الورع، و الأمر

خارج عن أيدي أمثالنا، فالقول بوجوب اتخاذ رأي جدّي سريع و عزم راسخ قويّ لا يمنعه الموانع و الفلتات لحفظ هاتين العظيمتين أعني الفقه و التقوى، و تربية الأفراد بهما قويّ جدّا على أمثال سيدنا الأستاد أدام اللّه تعالى ظلّه. و لا حثّنا على ارتكاب هذه الجسارة و الجرأة الّا وظيفة شرعيّة حصلت مما نرى في الحوزة المقدسة من سقوط هاتين العظيمتين، و نرجو من الأستاد دام ظله العفو و نسأل منه الدعاء، و السؤال من اللّه و من وليّه عجّل اللّه تعالى فرجه لتوفيق الجميع. 28 رجب 85).

كتبه العلميّة و الفتوائية:

لسيدنا المرجع الراحل رسائل عملية يرجع إليها المقلدون بعد السيد البروجردي قدس سرهما، و له كتب و تقريرات علميّة في متناول أيدي العلماء و المجتهدين و إليك ما نعرف منها:

1- منتخب الأحكام و قد طبع هذا الكتاب في أوائل مرجعيته بالفارسية.

2- مختصر الأحكام و هو كتاب مشتمل على أبواب الفقه بصورة إجمالية و كان أول رسالة عملية صدرت منه مشتملة على آرائه و فتاواه و كانت أوّلا بالفارسية ثم ترجمت بالعربية و الاردوية و الانگليزية و غيرها من الألسن.

3- حاشية توضيح المسائل، و هي تعليقات فارسية على توضيح المسائل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 424

للإمام البروجردي.

4- توضيح المسائل، و هي رسالة جامعة لشتات الأبواب الفقهية بالفارسية 5- مجمع المسائل، و هو كتاب حاو للاستفتاآت الواردة عليه من أرجاء العالم الإسلامي، و قد طبع في ثلاث مجلّدات مرارا و هي مشتملة على أبواب الفقه من التقليد الى الحدود و الديات و كانت بالفارسية و قد ترجمت في بيروت إلى العربيّة بشكل بهيج.

6- مناسك حج بالفارسية 7- مسائل الحج و هي ملخّص ما أفاده في

مجلس درسه 8- دليل الحاج، و هذا هو دليل الحاج للمرجع الراحل الكبير السيد الحكيم قدس سره و قد أدرجت فتاوى الإمام الگلپايگاني فيه، و لا يخفى ان هاتين الرسالتين قد طبعتا تحت عنوان مناسك الحج.

9- مناسك الحج. و هي رسالة في موضوع الحج عربية مختصرة.

10- حول مسائل الحج. و هي رسالة مشتملة على أسئلة حول الحج و أجوبتها كانت فارسية ثم ترجمت إلى العربية و لها مقدّمة بقلم هذا العبد.

11- أحكام نماز خوف و مطاردة، و هي رسالة فارسية حول صلاة الغازين و المجاهدين في الحرب، طبعت مستقلة بالفارسية.

12- رسالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المسائل الإسلامية الاجتماعية. و هي رسالة فارسية طبعت مرارا في آخر مجمع المسائل ج 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 425

13- احكامي از حج، رسالة فارسية حول مسائل خصوص الحج طبعت مستقلة 14- أحكام عمره هي رسالة فارسية حول خصوص العمرة مطبوعة مع المناسك الفارسي.

15- رسالة في صلاة الجمعة و العيدين، و هي عربية، طبعت مرارا و هذه الرسالة مشتملة على فروع كثيرة حول هاتين الصلاتين.

16- رسالة حول المحرمات بالنسب، مختصرة عربيّة.

17- رسالة مختصرة حول عدم تحريف القرآن، و هي مطبوعة عربيّة.

18- إفاضة العوائد، في التعليق على درر الفوائد، و هي مباحث هامّة أصولية ألّفها في عصر أستاذه الحائري تعليقا على كتابه عند ما كان يلقي دراساته الأصولية على متن درر الأصول، و قد طبع هذا الكتاب الشريف الذي تم تأليفه قبل ما يقرب من ستين سنة طبع أخيرا في مجلدين بعد أن كان مخطوطا بخطه الشريف.

19- تعليقاته على العروة الوثقى للسيد الفقيه الطباطبائي اليزدي قدس سره و هي تعليقات أنيقة قد طبعت مرآت عديدة

مستقلة أو مع المتن، و هذه التعليقات مشتملة في بعض مواردها على الاستدلال فهي من التعليقات المشتملة على التحقيقات العلميّة التي ينتفع بها العلماء و الفضلاء، و سمعت أنه لما أرسلت نسخة منها إلى النجف رغب فيها الفضلاء و الأعلام و طلبوا إرسال نسخ أخرى و قد طبعت هذه التعليقات في عصر الفقيه البروجردي أعلى اللّه مقامه.

20- تعليقاته على وسيلة النجاة، لآية اللّه العظمى السيد أبو الحسن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 426

الأصفهاني رضوان اللّه عليه، و قد طبعت مع المتن في بيروت في مجلّدين و في إيران في ثلاث مجلّدات.

21- تعليقاته على قضاء السيد الطباطبائي اليزدي، و قد ألفها حينما كان مشتغلا بتدريس أبحاث القضاء، لكن هذه غير مطبوعة.

22- كتاب تفصيلي حول صلاة الجمعة، على ما صرّح بذلك في رسالته في صلاة الجمعة المطبوعة.

23- الهداية إلى من له الولاية، و هي تقرير أبحاثه العالية حول ولاية الفقيه و سائر من له الولاية، فقد بحث دام ظله عن ولاية الفقيه من قبل هذا بما يزيد على أربعين سنة، و قد طبعت هذه الرسالة سنة 1383 ه- و هي بقلم العلامة الحجة جناب الحاج الشيخ أحمد الصابري الهمداني دام عزّه.

24- كتاب الحج، و هو تقرير أبحاثه العالية حول الحج هو بقلم المقرر المذكور دام عزه، و قد طبع منه المجلد الأوّل و الثاني، كما و ان المجلد الثالث تحت الطبع الآن.

25- بلغة الطالب، و هي تعليقات على البيع من مكاسب علم العلم و التقى الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، و هذا الكتاب تقرير محصّل أبحاث الإمام الگلپايگاني قدس سره حينما كان مشتغلا بالبحث في المتاجر. و هو بقلم العلامة الحجة جناب الآقا السيد

علي الميلاني دام عزّه. و هو قد طبع في سنة 1399 ه.

26- كتاب القضاء، و هو تقرير أبحاثه العالية حول أمر القضاء بقلم المقرّر المذكور دام عزّه. و قد طبع هذا الكتاب في مجلّدين يستفيد منه العلماء.

27- كتاب الشهادات، و هو تقرير أبحاثه الشريفة حول شهادة الشهود بقلم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 427

المقرر المذكور دام توفيقه و طبع قبل سنوات.

28- كتاب الطهارة، و هذا الكتاب تقرير أبحاثه العالية حول الطهارة و النجاسة بقلم العلامة الحجة جناب الشيخ محمد هادي المقدس النجفي دام عزه و قد طبع في سنة 1402 ه.

29- كتاب القضاء، تقرير أبحاثه دام ظله في القضاء، بقلم المقرر المذكور و هذا الكتاب الآن في قيد الطبع.

30- مباحث من الحج، و أحكام العمرة بقلم الفاضل الحجة الشيخ محمد علي الشاهرودي دام عزّه و هي الآن تحت الطبع.

31- الدّرّ المنضود في أحكام الحدود تقرير أبحاثه العالية حول الحدود، بقلم هذا العبد (عليّ الكريمي الجهرمي) و قد طبع المجلّد الأوّل منه في السنة 1412 ه- في خمس مأة صفحة، و سيرد المجلّد الثاني منه محافل العلماء إن شاء اللّه تعالى و نسأل اللّه التوفيق في طبع سائر مجلداته.

32- نتائج الأفكار في نجاسة الكفّار، و هي تقرير أبحاثه العالية في سنة 1388 ه- في إثبات نجاسة الكفّار و أهل الكتاب بقلم هذا العبد أيضا، و قد طبع هذا الكتاب قبل سنتين من هذا أي عزّة محرّم الحرام عام 1413 ه. كما و أن لي كتب عديدة في تقريرات أبحاث الإمام الگلپايگاني لم تطبع بعد.

منها مناهل الحياة في أحكام الأموات.

و منها مناهل الظماء في أحكام القضاء.

و منها جوهرة السعادة في أحكام العدالة.

و منها نفائس

الإشارات في أحكام الشهادات.

و لي كتاب آخر باسم (المرجع و المراجعون) مشتمل على اسئلة و ردت على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 428

سيدنا الأستاذ المرجع قدس سره بالعربية و ردودها لم يطبع أيضا.

33- أحكام أموات و هي رسالة فارسية حول شتات الأحكام المتعلقة بالأموات كلها على حسب فتاوي الإمام الگلپايگاني و قد جمعها بعض أهل العلم و طبع هذا الكتاب أخيرا.

34- هداية العباد و هي مجموعة فتاواه في أبواب العبادات و المعاملات، باللغة العربية، في مجلدين.

35- إرشاد السائل و هي مجموعة لطيفة من الاستفتاءات الواردة عليه من الممالك العربية و قد طبعت ببيروت.

36- آداب و أحكام حجّ.

37- بالفارسية ولي مقدّمة عليها. واجبات حجّ بالفارسية أيضا.

38- أحكام النساء و هي رسالة حول الدماء الثلاثة و دروس في مسائل النساء بشكل مبسّط و واضح بقلم الشيخ أكرم بركات طبعت في بيروت قال في مقدّمته: و كنت القي الدروس على رأي المرجعين الكبيرين آية اللّه العظمى الإمام الخميني قدس سره و آية اللّه العظمى السيد الگلپايگاني دام ظله.

و قد عرضت هذه الفتاوى على رأي المرجعين الكبيرين على أساس انّهما أكثر المراجع تقليدا في هذا الوقت و قد أشرت في هذا الكرّاس الى مواطن الاختلاف بين المرجعين الكبيرين ان كان هناك اختلاف انتهى.

39- قسم من بياناته و مراسلاته و برقياته 40- حواشيه على بعض الكتب و هي غير مطبوعة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 429

41- رسالة الاجتهاد و التقليد، و هي لم تطبع بعد و لها قضيّة طويلة لا يسع المقام ذكرها.

42- مباحث الطهارة غير منقحة.

43- مباحث القضاء غير منقحة.

44- مباحث الشهادات غير منقحة.

45- مباحث الحدود غير منقحة.

تلاميذه:

و مما منّ اللّه تعالى على

سيدنا المرجع الأعلى السيد الگلپايگاني قدس اللّه سره أنه قد تخرج على يديه و منهجه الفقهي العميق عدد كبير من العلماء و المجتهدين، و الفقهاء و المحققين و قد كنا نشاهد مجلس درسه في المسجد الأعظم و هو حافل بالطلاب و المشتغلين و الأفاضل و المجتهدين، و من الصعب جدا استقصاء جملتهم، و أصعب منه استقصاء من حضر لديه، و تتلمذ عنده في طول ما يزيد على سبعين سنة كان يدرس فيها سطحا أو خارجا، و لعله لا يوجد في التأريخ المعاصر من له تلك السابقة الممتدة في تدريس الفقه و الأصول التي كانت للسيد المرجع الراحل قدس سره و لا يسعنا في هذه العجالة أن نورد في هذه العجالة أسماء بعض من رأيناهم طوال سنوات في مجلس درسه أو اطلعنا على كونهم من تلامذته من أهل الاطلاع، سواء كانوا من السابقين أو اللاحقين شيوخا أو شبابا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 430

المرجع الراحل على لسان العلماء أهل القلم

لقد جاء ذكر المرجع الراحل على لسان العلماء و المصنفين و أهل القلم و المؤلفين و إليك قسما منها.

1- يقول العلامة الشيخ آغا بزرگ التهراني: هو السيد محمد رضا بن السيد محمد باقر الگلپايگاني عالم جليل و مدرّس فاضل ولد في سنة 1316 و نشأ فتعلّم المبادي و قرأ المقدّمات على بعض الفضلاء، و حضر في قم على الحجة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مدّة كتب فيها تقريراته و هو عمدة اساتيذه، و هو اليوم من العلماء الفضلاء في قم و من المدرّسين المشاهير بها و له آثار علميّة منها حاشية (درر الفوائد) لأستاذه المذكور فرغ منها في سنة 1356 الى غير ذلك. «1»

2- و قال المحقق الجليل و الشهيد

السعيد السيد محمد علي القاضي الطباطبائي التبريزي رضوان اللّه عليه- عند ذكر مشايخ أجازته-: منهم سيدنا و أستادنا الأعظم الفقيه و المرجع الأشهر في العالم الإسلامي السيد محمد رضا الگلپايگاني أدام اللّه ظله الوارف على رؤس المسلمين عن مشايخه الأجلّاء رؤساء الدين و الملّة قدس اللّه أرواحهم. «2»

3- و قال العالم الجليل الحاج الميرزا مهدي البروجردي رضوان اللّه عليه:

سيد العلماء العاملين و زبدة الفقهاء و المجتهدين الحاج السيد محمد رضا

______________________________

(1) نقباء البشر ج 2 ص 742.

(2) اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة ص 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 431

الگلپايگاني أدام اللّه أيام فيوضاته. «1»

4- و قال العالم الفقيه الشيخ علي پناه الاشتهاردي دامت إفاضاته: المرجع الديني المعروف بفقيه أهل البيت عليهم السلام سيد الفقهاء العاملين سماحة آية اللّه العظمى الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني مدّ ظلّه العالي و طوّل اللّه عمره الشريف و جعل حفظ الحوزات العلمية تحت رعايته. «2»

1- و قال العالم الناسك الجليل الشيخ محمد حسين الاعلمي الحائري رضوان اللّه عليه: محمد رضا الگلپايگاني: العالم المتبحر الفقيه التقي النقي المعاصر، في البلدة المباركة (قم) المولود سنة 1316 هاجر من مسقط رأسه بعد تكميله الأدبيّات و السطوح الى بلدة عراق العجم سنة 1335 ه- و حضر بحث شيخنا عبد الكريم الحائري أعلى اللّه مقامه و صار من اجلّة تلامذته و خواص مجلس درسه و بحثه هناك ثم انتقل إلى البلدة المباركة (قم) و اشتغل بالبحث و التدريس في الفقه و الأصول و حضر مجلس درسه جماعة من فحول حوزة قم و صار من خواصّ سيدنا البروجردي (ره) ثم صار مستقلا و مرجعا للعموم الى يومنا هذا سنة 1392 و ينبغي ان

يقال في حقه:

السيّد العلّامة المحقق و السند الفهامة المدقق

مؤسّس المباني الأصليّة ممهّد القواعد الفرعيّة

مميّز الحلال و الحرام و حافظ الحدود و الأحكام

و له آثار جليلة من المدارس و المساجد و المستشفيات في البلاد المتفرّقة إلى يومنا هذا سنة 1392 ه- و أبوه السيد محمد باقر من اجلة السادة كأجداده. «3»

______________________________

(1) برهان روشن ص 156.

(2) مجموعتان من فتاوي العلمين ص 14.

(3) دائرة المعارف ج 26 ص 268.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 432

2- و قال الفاضل الرازي: أستاذ الفضلاء المعاصرين و علّامة المتأخرين الفقيه الجامع و النبيه البارع سيدنا الأستاذ آية اللّه العظمى گلپايگاني مدّ ظله. «1»

3- و قال أيضا: سيد العلماء و المجتهدين رئيس الملّة و الدين الآقا الحاج السيد محمد رضا بن العالم الجليل الآقا السيد محمد باقر الگلپايگاني من مشاهير العلماء و مراجع العصر الأجلّاء و أكابر العلماء الإسلامي. «2»

4- و قال الفاضل الشيخ نور الدين الشاهرودي: آية اللّه العظمى الگلپايگاني: هو السيد محمد رضا بن السيد محمد باقر الگلپايگاني ولد في سنة 1316 هجرية حضر في قم على العالم المؤسّس الحجّة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مدّة كتب فيها تقريراته و هو عمدة أساتذته، له آثار علميّة منها حاشية (درر الفوائد) لأستاذه المذكور، و هو الآن من كبار مراجع التقليد في دنيا الشيعة و مقرّه في قم المقدّسة حيث يقوم بمهامّ مرجعيّته و وظائفه الشرعية غير انّ نشاطه التدريسي قد انحصر في الآونة الأخيرة نظرا لكهولته المتقدّمة و كان قد اشتغل بالبحث و التدريس في حوزة قم العلميّة لسنوات طويلة. «3»

______________________________

(1) گنجينۀ دانشمندان ج 2 ص 31.

(2) گنجينۀ دانشمندان ج 2 ص 31.

(3) أسره المجدّد الشيرازي ص

347.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 433

ارتحال المرجع الأعلى إلى الملاء الأعلى

ثم انه قد عرضته في أواخر عمره اختلالات في صحته و كان تحت مراقبة الأطباء الى ان عرضه في مساء يوم الاثنين 21 جمادى الثانية 1414 ه. ق ضيق التنفس و لا يزال كان يشتدّ الداء و على اثر ذلك فقد نقل المرجع الفقيه الراحل الى مستشفى الشهيد رجائي بطهران و كان لجنة من الأطباء يواظبون على حاله و بذلوا كلّ الجهود كي تتحسن حاله و تعود صحته و حيث انّه لا مفرّ عن قضاء اللّه تعالى فقد وقعت الحادثة العظمى و الثلمة العظيمة في الإسلام و ودّع الإمام الگلپايگاني هذه الدنيا الفانية و أجاب دعوة ربه الكريم مساء يوم الخميس 24 جمادى الثانية 1414 ه. ق مقارنا لغروب الشمس و عند وقت الأذان و كأنّه كان ينتظر وقت المغرب من ليلة الجمعة و غربت شمس سماء الفقاهة و المرجعية بعد ان كان يضي ء العالم الإسلامي طول أعوام طويلة كثيرة فانا للّه و انا إليه راجعون و لم يمض الا قليلا حتى انتشر خبر رحيل المرجع الأعلى الإمام الگلپايگاني من المذياع و التلفزيون فصاح الناس رجالا و نساء و صغيرا و كبيرا و أقبلوا الى المستشفى و كان هناك ما كان مما لا يمكن شرحه ثم في اليوم التالي أي يوم الجمعة فبدأ التشييع المهيب بعد الظهر من المستشفي الى ميدان بهمن في ملائين من النفوس المؤمنة يلطمون خدودهم و يضربون على صدورهم و رؤسهم و فيهم الشخصيات الدينية و السياسية و الاجتماعية و العلميّة كقائد الثورة الإسلامية آية اللّه الخامنئي دامت بركاته و لم يعهد بعد الإمام الخميني قدس سره مثل هذا التشييع العظيم فان

هذه الجنازة المطهرة كانت على رؤس الأمة الإسلامية و بحر النفوس الإنسانية تموّج به الى ان بلغ النعش الطاهر الى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 434

ميدان بهمن بعد ان مضى ما يقرب من ست ساعات ثم بعد ذلك شيع النعش الطاهر بالسيارات إلى مدينة قم و في نفس الليلة قد باشر جمع من أهل العلم و غيرهم في بيته الشريف بتغسيل هذا الجسد المبارك و كان يقرء في خلاله المراثي و زيارة عاشورا و الأدعية و يذكر مصائب الزهراء و أهل بيت النبوة عليهم السلام و قد كفن في كفنه الذي أعدّه لنفسه من قبل أربعين سنة تقريبا و كان مكتوبا عليه جميع القرآن الكريم الذي كان يعشق به طول عمره و لا يزال كان يقرأه صباحا و مساءا.

ثم من الساعة التاسعة بدأ تشييع نعشه الطاهر من مسجد الإمام المجتبى (ع) و هو في مدخل بلدة قم و قد عجز البيان و القلم عن شرح هذه الصحنة العظيمة و كان تشييع الامام الگلپايگاني بقم مما لم يعهد مثله في تاريخ قم. و لما ان ورد النعش الشريف الصحن المبارك و أدخلوه في حرم كريمة أهل البيت و اطيف به لآخر الوداع صلّى على نعشه الطاهر المحقق الكبير فقيه العصر آية اللّه الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني دام ظله العالي ثم أدخل في الحرم الشريف من جهة الرأس و دفن في جوار شيخه و أستاذه الذي كان يحبّه و يذكره طوال عمره، أجل دفن هناك جنبا بجنب و كان اللّه تعالى ادّخر هذا المكان الشريف لمن كان أحب تلاميذ آية اللّه الحائري عنده. الا فسلام اللّه عليه يوم ولد و يوم مات و

يوم يبعث حيا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 435

نماذج شعرية مما قيل في رثاء المرجع الراحل

«مأتم النفس» في رثاء مرجع الأمة الإسلامية السيد الگلپايگاني قدس سره

لمن المآتم في البلاد تقام هذا المسا و تنكّس الأعلام

و لم البلاد شبابها و كهولها مستعبرون كأنّهم أيتام

و لم القلوب و قد غدت ملتاعة فيها من الألم المحض ضرام

هو هل لغير أبي «جواد» راحلا من بعد أن فتكت به الآلام

فانظر تشاهد أعينا و كافة إنّ الدموع على الفقيد سجام

و أسمع أنين المؤمنين فرزءهم ما ليس توصف حاله الأقلام

يا عمق جرح المسلمين بفقدهم من للعقيدة مقول و حسام

رحل الفقيه الموسويّ عن الدّنا فانهار صرح للهدي و دعام

رحل الفقيه الموسويّ مكرّما فاستقبلته ملائك و كرام

و إذا بكت «إيران» فقد عظيمها فلقد بكاه الدين و الإسلام

صبرا «جواد» فما فقدنا مرجعا تعتاده الفقراء و الأيتام

صبرا «جواد» فما أبوك بميّت و متى احتوى القمر المنير ظلام

تاقت له حور الجنان و إنّه الآن في ربع الخلود ينام

أرّخت «أنّ (51) أبا (4) جواد (14) عنده (129) مع (110) آل (31) بيت (412) أبي (13) البتول (469) مقام (181)

1414 هجرى أبو أمل الربيعي سپاه 9 بدر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 2، ص: 436

أبيات شعرية في رثاء و تاريخ وفاة آية اللّه العظمى السيد الگلپايگاني قدس سره الشريف.

ركن الشّريعة يوم موتك قوضا و الفيض بعدك غاض و أظلم الفضا

حوزات أهل العلم كنت رئيسها و الأمّة الإسلام سيفا منتضى

و لقد ربحنا فيك أكبر مرجع و خسارة الفقدان لن تتعوّضا

جاورت في الدّارين مرقد فاطم و غدا شفيعك فاطم و المرتضى

إن غاب شخصك أرّخوه: (بلحده (49)

فالاسم (212) حيّ (18) يا (11) محمّد (92) الرّضا (1032))

المجموع 1414 ه-

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الجزء الثالث

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ الذي فضل العلماء العالمين على الشهداء و عباده الصالحين و جعلهم في آية الشهادة قرينا لملائكته المقربين و الصلاة و السلام على من بعثه رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ أبي القاسم محمد و على آله و عترته الطيبين معادن الحكمة و ينابيع العلم و اليقين و مهابط الوحي و روح الأمين و اللعن الدائم و الخيب الخاذل على أعدائهم أصول الجهل و العصبية العمياء أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين.

و بعد فقد قال الله سبحانه و تعالى في كتابه المبين إِنّٰا جَعَلْنٰا مٰا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهٰا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «1».

من المسلم المصرح به في هذه الآية الكريمة أن اللّه تعالى قد جعل ما على وجه الأرض زينة و حلية لها، و أن المقصد و الهدف من ذلك هو الاختبار و الامتحان.

بالإطاعة و العصبيان.

______________________________

(1) سورة الكهف الآية 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 6

و إنما الإجمال و الإبهام من حيث المراد من «ما على الأرض الذي جعله الله زينة لها» ففيه وجوه و احتمالات:

أحدها: أن المراد منه هو الأنهار و الأشجار و الحيوان و النبات و الجماد و أنواع المخلوقات.

ثانيها: انه هو الرجال.

ثالثها: الأنبياء و العلماء، و إذا صرفنا النظر عن الاحتمال الأول فإن الثاني و الثالث قابلان للجمع و لا منافاة بينهما، فإنه يبعد جدا ان يكون المراد من الرجال هو مطلق الجنس المذكر و ما يقابل الأنثى فكم من هو

كذلك و تنفى عنه الرجولية كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

يا أشباه الرجال و لا رجال حلوم الأطفال و عقول ربات الحجال. «1».

بل الظاهر منه هو الرجال المذكورون في القرآن الكريم الموصوفون على لسان الله تعالى تارة بقوله تعالى فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «2» و أحرى بقوله تعالى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ الْآصٰالِ رِجٰالٌ لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ إِقٰامِ الصَّلٰاةِ وَ إِيتٰاءِ الزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصٰارُ «3».

و ثالثة بقوله سبحانه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اللّٰهَ عَلَيْهِ. «4».

إذا فلا غرو في أن يقال: إن زينة الأرض هم الأنبياء و العلماء و هم الرجال الذين عرفهم الله تعالى بتلك الأوصاف الجميلة.

و لو أريد من «ما على الأرض» مطلق ما على وجه الأرض على ما هو مقتضى

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 27.

(2) سورة التوبة الآية 108.

(3) سورة النور الآية 38.

(4) سورة الأحزاب الآية 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 7

الاحتمال الأول فإن العلماء من ابرز مصاديق ما على وجه الأرض و من أعلى نماذج الزينة لها، فلو لا العلماء لما كانت للأرض زينة أو لكانت زينة الأرض ناقصة جدا.

نعم لا بد من التنبيه على نكتة- و لعلها غير خافية على القارئ المحترم- و هي أن المراد من العلماء ليس هو مطلق من درس الكتب الدارجة و تعلم و عرف الاصطلاحات المتداولة و القواعد و الأصول المعمولة فعن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز و جل إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ «1» قال: يعني

بالعلماء من صدق فعله قوله و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم «2».

ثم ان من هؤلاء العلماء الأفذاد الذين يجدر بهم ان يكونوا زينة للأرض هو استأذنا الأفخم و أسوة العلماء الأعاظم و المراجع الدينية الذي تلمذنا لديه أعواما كثيرة و استفدنا من منهل علمه العذب الغزير و فقهه العميق سنين متوالية المرجع الديني الأعلى و آية الله العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني تغمده الله بغفرانه و رضوانه و أسكنه بحبوحات جناته و حشره الله مع أجداده الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

و من جملة ما استفدنا من إفاداته الجامعة و تلقيناه من دروسه العالية و ابحاثه الفاخرة مباحثه في الحدود التي هي من المسائل المهمة و قد كثر الابتلاء بها و كانت على حسب تأليفنا ثلاثة مجلدات.

و قد طبع المجلد الأول في أيام حياته- و يا لذكري تلك الأيام السعيدة- كما و ان المجلد الثاني كان تحت الطبع مشرفا على التمام فاذا حدث الحادث العظيم و وقعت الواقعة المؤلمة التي ابكت العيون و اولمت القلوب اعني حادث ارتحاله من دار الغرور الى مستقر النور و الى الرفيع الأعلى و صار ضيفا لربه الكريم.

______________________________

(1) سورة الفاطر الآية 28.

(2) الكافي ج 1 ص 36.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 8

و هذا هو المجلد الثالث الذي يخرج الى النور و قد فقدنا هذه الشخصية اللامعة القذة ما يقرب من سنتين و لم تنس و لا تنسى تلك المصيبة العظمى.

و البقاع التي كان يعبد الله أو يصلي أو يقرء القرآن فيها أو يلقى دروسه على العلماء و المجتهدين فيها تفزع و تنادي بالغربة و الوحدة و على فقد هذا المرجع الكبير و الزعيم العظيم، و

عسى أن يكون طبع هذا الكتاب مما يسره و يفرحه في عوالم القدس و يمن علينا بدعائه في مماته كما كان يمن علينا بذلك في حياته و السلام عليه و جزاه الله خير جزاء المحسنين.

و كيف كان فهذا الجزء أيضا قد حوى مباحث هامة و مطالب كانت محل الحاجة و الابتلاء و هي:

1- حدّ السرقة 2- حدّ المحاربة 3- حدّ الارتداد.

كما و قد اشتمل على مباحث «المفسد في الأرض» الذي قلّما تعرضوا له مستقلا في الكتب الفقهية.

و كل بحث من تلك الأبحاث متضمن لمطالب نافعة و نكات رائعة عسى الله سبحانه و تعالى أن ينفع بها العلماء البارعين كما و قد من علينا بان صار الجزءان الأولان من كتابنا مورد إقبال الأعلام و الأجلاء و أصبحت تلك الأبحاث واردة في الأندية العلمية و الدروس العالية التي تقام في الحوزة العلمية.

و الحق أنه نظرا إلى أهمية الموضوع و هو الحدود فإن الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ماسة الى هذه الدراسات و الأخذ بما فيها من الأحكام كي ينالوا خيرا.

و عند ما طبع المجلد الأول من هذا الكتاب فقد وصل إلينا من بعض رجالات العلم و التقوى تقاريظ قد ابدى فيها عواطفهم الكريمة كما و أن غير واحد من الأعاظم و المشتغلين الأكارم في الحوزة العلمية المباركة قد طلبوا إكمال الأبحاث و طبع كل المطالب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 9

و انى اغتنم هذه الفرصة و أقدم ثنائي العاطر و شكري الجزيل الخالص المتوافر إلى هؤلاء الأجلاء و الأفاضل القاطنين في الحوزة الشريفة أو سائر البلدان، شملهم الباري برحمته و إحسانه.

و أعترف أني لا أستطيع أن أؤدي حق تلك العواطف الكريمة الخالصة.

و الرجاء من الله تعالى

ان يجعل هذا الكتاب ذخيرة صالحة ليوم فقري و فاقتي.

يَوْمَ لٰا يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لٰا بَنُونَ إِلّٰا مَنْ أَتَى اللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1».

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مٰا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. «2».

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجٰادِلُ عَنْ نَفْسِهٰا وَ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ وَ هُمْ لٰا يُظْلَمُونَ «3».

و المأمول من المولى جل جلاله ان يجعله أثرا خالدا على مر الأعصار و الدهور و تصرم الأعوام و الشهور، و نكون بذلك ممن قد أدى قليلا من كثير من الحقوق التي كانت لسماحة سيدنا الأستاذ الأكبر قدس الله نفسه علينا إنه سميع مجيب و على كل شي ء قدير و السلام على عباد الله الصالحين و أفضل الصلاة و السلام على معلمي الخير و مفاتيح البركة محمد و آله الطاهرين.

قم الحوزة العلمية علي الكريمي الجهرمى

______________________________

(1) سورة الشعراء الآية 89.

(2) سورة آل عمران الآية 30.

(3) سورة النحل الآية 111.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 13

حدّ السّرقة

اشارة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 15

حدّ السرقة

قال المحقّق: الباب الخامس في حدّ السرقة، و الكلام في السارق و المسروق و الحجة و الحد و اللواحق.

الأول في السارق و يشترط في وجوب الحد عليه شروط: الأول البلوغ فلو سرق الطفل لم يحدّ و يؤدّب

أقول: لا شكّ في أن وجوب الحدّ على السارق مشروط بشرائط، و قد اختلفوا في عددها فذكر بعض ثمانية و آخر عشرة، و يمكن ان تكون أزيد من ذلك و هذا بملاحظة الإخراج من الحرز كما في الجواهر، و قد ذكر في الشرائع ثمانية شروط، أولها البلوغ، و فرّع على ذلك انه

لا يحدّ الطفل إذا سرق.

و قد عبّر رحمة الله عليه بالحدّ فلا يرد عليه الإشكال بعد ذلك عند تعرضه بأنه قد يقطع يد الصبي، و ذلك لأنه ليس من باب الحدّ، و هذا بخلاف من عبّر بالقطع

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 16

كالشيخ قدس سره حيث قال: لا قطع إلا على مكلف و هو البالغ العاقل فأما غير المكلف و هو الصبي أو المجنون فلا قطع على واحد منهما لقوله تعالى فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ، و انما يعاقب من كان عاقلا انتهى «1».

و قال بعد ذلك: فان كان السارق مجنونا فلا قطع و ان كان غير بالغ فلا قطع انتهى.

و على الجملة فمن عبّر بالقطع لو قال بتعزير الصبي بالأمور المذكورة في الروايات حتى القطع يمكن ان يورد عليه بأنه كيف يحكم بتعزير الصبي بالقطع مع انه عقوبة و لا عقوبة على الصبي و ان كانت بصورة التعزير.

و قد استدلّ على عدم الحد على الطفل بالأصل و بحديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم.

و أورد عليه بعض المعاصرين قدس سره بأن الأصل لا وجه له بعد شمول العمومات.

ثم قال: و أما حديث رفع القلم فالتمسك به في المقام مشكل لإمكان أن يكون ترتّب الحد على السرقة كترتب لزوم الغسل على الجنابة من غير فرق بين البالغ و غير البالغ، فالعمدة الأخبار الواردة. «2».

و ما أفاده بالنسبة للأصل تامّ لا غبار عليه فإنه مع وجود العمومات لا مجال للتمسك بالأصل بل لا بد من الأخذ بها لو لم تكن منصرفة كما في المجنون و غير المميز حيث انها منصرفة عنهما.

و أما ما افاده من احتمال جعل المقام مثل باب

الجنابة فهو خلاف الظاهر و مشكل جدا، و ذلك للفرق الجليّ بين ما يوجب العقاب على فعله- و لو باعتبار ردعه و بلحاظ أن لا يفعل بعد ذلك- و بين ما لا يكون من هذا القبيل بل كان

______________________________

(1) المبسوط 8 ص 20.

(2) جامع المدارك ج 7 الطبع الأول ص 131.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 17

كالنجاسة الحاصلة من إصابة البول و الدم، أو الجنابة الحاصلة له من الدخول، و من المعلوم ان الصبي و ان عزّر كان بالنظر الى ما ارتكبه و اتى به و بلحاظ ما لا يناسبه ان يفعل و الا لكان يضرب من دون ارتكابه شيئا بل لمجرد التأديب و أن لا يفعل في ما يأتي من الأزمنة و على هذا فترتب آثار مثل النجاسة و الجنابة لا يوجب ترتب هذا الأثر و جعل القطع مثلها بعد أن القطع كان بلحاظ ما اتى به و كونه نوعا من العقوبة و المجازاة و ان لم يكن من العقوبات المصطلحة المترتبة على فعل الكبير.

و قال الشيخ الطوسي قدس سره في باب السرقة: فإن كان صبيا عفى عنه مرة فإن عاد أدّب فإن عاد ثالثة حكّت حتّى أصابعه تدمى فإن عاد قطعت أنامله فإن عاد بعد ذلك قطع أسفل من ذلك كما يقطع الرجل سواء «1».

و قد نقل في الشرائع هذا المطلب بعينه عن الشيخ ثمّ

قال المحقق: و بهذا روايات.

و في المسالك: و القول الذي نقله عن الشيخ في النهاية، وافقه عليه القاضي و العلامة في المختلف لكثرة الأخبار الواردة به.

و في المختلف بعد ذكر أقوال العلماء في المسألة قال: و المعتمد ما قاله الشيخ، لنا اشتهاره بين علماؤنا و فتوى

أكثرهم به و الأحاديث المتظافرة الدالة عليه إلخ.

و في كشف اللثام عند ذكر كلام الشيخ: و هو خيرة المختلف و نسبه الى الأكثر و لم أظفر بخبر يتضمّن هذا التفصيل إلخ.

و في الجواهر بعد كلام الشيخ: و تبعه عليه القاضي [1] و الفاضل في محكي المختلف ناسبا له إلى الأكثر و ان كنا لم نتحققه، نعم بهذا في الجملة روايات كثيرة فيها الصحيح و غيره بل ربما قرب من التواتر مضمونها في الجملة إلا أنها على

______________________________

[1] أقول: لم أعثر على ذلك في كلمات القاضي لا في المهذب و لا في جواهر الفقه نعم قاله ابن حمزة في الوسيلة فراجع ص 418.

______________________________

(1) النهاية ص 716.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 18

كثرتها لم نقف فيها على خبر مشتمل على تمام التفصيل المزبور كما اعترف به في كشف اللثام و غيره.

ثم إنه لا مورد للتمسك بحديث الرفع في المقام و ذلك لأنه يرفع العقوبة المترتبة على العمل لأجل نفس العمل و وقوعه في الخارج، و الصبي ليس كذلك فإنه و ان قلنا فيه بالتعزيرات الواردة في الأخبار حتى القطع لكنه ليس من باب العقوبة بل المقام كاليد المؤفة التي أصيبت بالسرطان و لو لم تقطع لطال به الداء و أهلكه فعلى الولي قطع يد الصبي المبتلى بسرطان اليد تحفظا و تحذرا من نفوذ المرض و سريانه إلى سائر أعضاء البدن و على الجملة فهذا ليس عقوبة في الحقيقة على اصطلاحه الخاص.

و لقد أجاد العلامة فيما أفاد حيث قال: و الاخبار في ذلك كثيرة و لا استبعاد في كون التأديب الواجب عليه بذلك، و لا يكون ذلك من باب التكليف بل من باب اللطف «1».

فهذا الكلام

متين و لطيف. و القطع- فضلا عن غيره من التعزيرات- لطف بالنسبة إليه في ظروفه الخاصة و ليس هو تعذيبا و عقابا و نكالا- على ما ورد في الآية الكريمة جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ- و ذلك لعدم تكليف عليه و اختصاص التكليف بالكبير فلا مورد للتمسك بحديث الرفع.

و بعبارة اخرى إنّ من تمسك بالحديث الشريف يقول: ان القطع مثلا عقاب و لازمه التكليف، و حيث ان مقتضى جريان الرفع هو رفع التكليف فلم يبق مورد للعقاب و هو أيضا مرفوع كنفس التكليف.

و لكن الحق هو ما ذهب إليه العلامة من انه ليس من باب العقاب بل هو لطف إلى الصبي و مراعاة صلاحه إذا تلوّث بالسرقة، و على هذا فلو استفيد من الاخبار لزوم تلك التعزيرات و وجوبها فليس فيها ما لا يلائم العقل و ما لا يناسبه و يوافقه.

______________________________

(1) المختلف ص 770 كتاب الحدود ص 218.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 19

و قد يعبّر عن المطلب بحفظ النظام فإنه ربما ينجرّ أمر الصبي السارق الى فساد عظيم و يوجب ذلك بروز الاختلال في نظام المجتمع إذا خلّي سبيله و ترك بحاله و أطلق عنانه و فعل ما أراد.

و لا يخفى ان الأمر متوجه الى ولاة الأمر و نواب الأئمة عليهم السلام لا إلى الصبي كي يرتفع بحديث الرفع، الا ان قوله سبحانه جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ قد قيد عموم قوله السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا «1» و خصه بالكبار منهما فلا محالة يحمل القطع في الصبي- إذا كان ذلك مفروغا عنه- على غير الجزاء و العقوبة.

و المهم هنا هو صرف الكلام الى تلك الروايات بعد أنّا نعلم انه

لا يمكن القول بإهمال أمر الصبي و عدم الاعتناء بما يأتي و يرتكب حيث انه يفضي الى فساده و فساد المجتمع و يوجب الإخلال في النظم.

و النظر في الروايات إنما هو من ناحية دلالتها و أما سندها فلا كلام فيه و ذلك لأن فيها أخبارا صحاح و معتبرة فلا بد من إمعان النظر في دلالتها و كيفية ذلك و أنه هل يمكن الجمع بينهما أم لا و هل فيها ما هو المتيقن أم لا و انه هل التفصيل المزبور وارد فيها أم لا كما أن صاحب الجواهر قدس سره يقول: انها على كثرتها لم نقف فيها على خبر مشتمل على تمام التفصيل المزبور كما اعترف به في كشف اللثام و غيره انتهى.

فلو كان كذلك اي لم يكن فيها ما يدل على التفصيل فهناك تتساقط تلك الروايات و يرجع الأمر إلى الحاكم فيؤدّب على حسب ما يراه من المصلحة.

و قد خرج الشيخ المحدث العاملي ستة عشر رواية في الباب الذي عنونه بقوله:

باب حكم الصبيان إذا سرقوا و إليك هذه الاخبار:

عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصبي يسرق.

______________________________

(1) سورة مائدة- الآية 38.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 20

قال: يعفى عنه مرة و مرتين و يعزّر في الثالثة فإن عاد قطعت أطراف أصابعه فإن عاد قطع أسفل من ذلك «1».

يمكن أن يكون المراد من ذكر المرة و المرتين أنه يستحب العفو عنه في المرة الاولى و يجوز ذلك في الثانية. و مقتضى ذلك أنه يعزر في المرة الثالثة و يقطع أطراف أصابعه في الرابعة و أسفل منه في الخامسة. و هذا غير منطبق على تمام ما ذكره الشيخ قدس

سره.

و عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سرق الصبي عفى عنه فإن عاد عزر فإن عاد قطع أطراف الأصابع فإن عاد قطع أسفل من ذلك «2».

و مقتضى هذه العفو مرة أو مرتين و تعزيره في الثانية فلا ينطبق على ما ذكره الشيخ كما لا يلتئم مع الاولى.

و قال: أتى علي عليه السلام بغلام يشك في احتلامه فقطع أطراف الأصابع «3» و هنا لم يبيّن أنه كان ذلك منه في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة بل أهمل ذكر ذلك و يمكن الحمل على أنه كان في المرة الثالثة.

و عن محمد بن مسلم، قال: سألته عن الصبي يسرق فقال: إذا سرق مرة و هو صغير عفى عنه فإن عاد عفى عنه فإن عاد قطع بنانه فإن عاد قطع أسفل من ذلك.

قال الشيخ الحر: و رواه الشيخ بإسناده عن أبى على الأشعري إلّا أنه قال: فإن عاد قطع أسفل من بنانه فإن عاد قطع أسفل من ذلك «4».

و عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الصبيان إذا اتى بهم علي- عليا- عليه السلام قطع أناملهم من أين قطع؟ قال: من المفصل مفصل الأنامل «5».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 21

و عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى

علي عليه السلام بجارية لم تحض قد سرقت فضربها أسواطا و لم يقطعها «1».

و مقتضى هذه هو الفرق بين الذكر و الأنثى فإنه عليه السلام ضرب الجارية السارقة أسواطا و لم يقطع يدها، و الحال انه لا فرق في السرقة و حكمها بينهما.

و عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه السلام في الصبي يسرق قال:

يعفى عنه مرة فإن عاد قطعت أنامله أو حكّت حتى تدمى فإن عاد قطعت أصابعه فإن عاد قطع أسفل من ذلك «2».

و مقتضى هذه إنه في المرة الثانية اما ان تقطع أنامله أو حكّت و في الثانية قطع أسفل من ذلك.

و هل المراد من الأسفل، هو الأسفل من أصول الأصابع حتى يقطع شي ء من الكف؟

و عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: اتى علي عليه السلام بغلام قد سرق فطرّف أصابعه ثم قال: اما لئن عدت لأقطعنّها ثم قال: اما انه ما عمل إلا رسول الله صلى الله عليه و آله و أنا «3».

و عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سرق الصبي و لم يحتلم فقطعت أطراف أصابعه قال: و قال: و لم يصنعه الا رسول الله صلى الله عليه و آله و أنا «4».

و لعله في هاتين الروايتين تعريض [1] على الخلفاء و تعطليهم للاحكام و شرائع الدين و منعهم عن اجراء ما سنه الرسول، و ما أحدثوا في الإسلام من البدع الفاضحة.

______________________________

[1] أقول: و لعل فيهما اشعارا باختصاص ذلك بالمعصوم عليه السلام فلا يحق لغيره.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب

حد السرقة ح 7.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 8.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 22

و عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الصبي يسرق قال: ان كان له تسع سنين قطعت يده و لا يضيع حد من حدود الله تعالى «1».

و هنا قد جعل الملاك هو تسع سنين فعندها تقطع يده بلا تفصيل بين المرات أصلا.

و اما ما ذكره المحدث الحر العاملي رضوان الله عليه بقوله: هذا محمول على قطع بعض الأصابع لما مر. فهو خلاف الظاهر فان الظاهر منها هو قطع اليد كالكبير [1].

و عن محمد بن خالد بن عبد الله القسري قال: كنت على المدينة فأتيت بغلام قد سرق فسألت أبا عبد الله عليه السلام عنه، فقال: سله حيث سرق هل كان يعلم أنه عليه في السرقة عقوبة؟ فإن قال: نعم. قيل له: أي شي ء تلك العقوبة؟

فإن لم يعلم أن عليه في السرقة قطعا فخلّ عنه. فأخذت الغلام و سألته، فقلت له:

أ كنت تعلم أن في السرقة عقوبة؟ قال: نعم. قلت: اي شي ء هو؟ قال: الضرب أضرب فخليت عنه «2».

و لم أعثر على من قال بهذا التفصيل الوارد في هذه الرواية.

و عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الصبي يسرق فقال: ان كان له سبع سنين أو أقل يرفع عنه فان عاد بعد سبع سنين قطعت بنانه أو حكّت حتى تدمى فإن عاد قطع منه أسفل من بنانه فان عاد بعد ذلك و قد بلغ تسع سنين قطع يده و لا يضيع حد من

حدود الله عز و جل «3».

______________________________

[1] أظن عدم ورود الاشكال عليه لأنه لا ينكر هذا الظهور الا أنه يقول بذلك، بملاحظة سائر الروايات و الأدلة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 10.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 11.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 12.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 23

و عن سليمان بن حفص المروزي عن الرجل عليه السلام قال: إذا تم للغلام ثمان سنين فجائز أمره و قد وجبت عليه الفرائض و الحدود، و إذا تم للجارية تسع سنين فكذلك «1».

و في الوسائل: حمله الشيخ على من تكرر منه الفعل.

و فيه انه أيضا خلاف الظاهر.

و عن سماعة قال: إذا سرق الصبي و لم يبلغ الحلم قطعت أنامله و قال أبو عبد الله عليه السلام: أتى أمير المؤمنين عليه السلام بغلام قد سرق و لم يبلغ الحلم فقطع من لحم أطراف أصابعه ثم قال: إن عدت قطعت «2».

و عن إسحاق بن عمار عن ابي الحسن عليه السلام قال: قلت: الصبي يسرق؟

قال: يعفى عنه مرتين فإن عاد الثالثة قطعت أنامله فإن عاد قطع المفصل الثاني فإن عاد قطع المفصل الثالث و تركت راحته و إبهامه «3».

و عن على عن جعفر في كتابه عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن الصبي يسرق ما عليه؟ قال: إذا سرق و هو صغير عفى عنه و إن عاد قطعت أنامله و إن عاد قطع أسفل من ذلك أو ما شاء الله «4».

هذه هي الأخبار الواردة في الباب مع اختلاف مضامينها و مؤدّاها فإن كان بينها متيقن اتفقت عليه هذه الأخبار المختلفة

فلا بد من الأخذ به كما قد يقال بان القطع في المرة الخامسة كذلك، و لكن يشكل الجزم به مع عدم تعرض بعضها لذلك و إجمال بعضها المتعرض له و عدم صراحته في القطع على النحو المذكور في الكبير.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 13.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 14.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 15.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد السرقة ح 16.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 24

و على الجملة ففي هذه الاخبار شعب و ألوان من الاختلاف:

منها الاختلاف في العفو و عدمه و انه يختص بالمرة الأولى أو يجري في الثانية أيضا.

و منها الاختلاف في انه في الثالثة يعزّر كما في بعضها أو يقطع أطراف أصابعه كما في بعضها الآخر و يقطع بنانه كما في ثالث منها.

و منها الاختلاف في الثانية من حيث التخيير بين قطع الأنامل أو حكّها كما هو مفاد بعض أو العفو كما هو ظاهر بعض آخر.

و منها الاختلاف من حيث اشتمال بعضها على اشتراط العلم بالحد، و خلوّ بعضها عن ذلك.

و منها الاختلاف من حيث اشتمال بعضها على اعتبار تسع سنين و بعضها الآخر على ثمان سنين و عدم ذكر عن السنين أصلا كما في غير ذلك من الاخبار.

و منها الاختلاف في انه في الرابعة يقطع أطراف أصابعه و في الخامسة أسفل من ذلك كما هو مذكور في بعضها أو انّه يقطع من المفصل الثاني في الرابعة و من المفصل الثالث في الخامسة كما في بعضها أيضا.

فهل ترى من نفسك إمكان الجمع بين

هذه الاخبار مع تلك الاختلافات أو انه يوجد فيها ما هو المتيقن كي يؤخذ به؟.

فلعلّ الأقوى هو إيكال الأمر إلى نظر الحاكم كما قال المحقق قدس سره في النكت: و الذي أراه تعزير الصبي و الاقتصار على ما يراه الإمام أراد ع له و قد اختلفت الأخبار في كيفية حده فيسقط حكمها لاختلافها و عدم الوثوق بإرادة بعضها دون بعض و ما ذكره الشيخ خبر واحد لا يحكم به في الحدود لعدم افادته اليقين، و الحد يسقط بالاحتمال انتهى. «1».

______________________________

(1) نكت النهاية الطبع الجديد ج 3 ص 324.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 25

و إن أورد عليه في الجواهر بقوله: و لا يخفى عليك بعض ما فيه بل لا تنقيح في كلامه لجواز تأديب الحاكم له و لو بالقطع كما يقطع الرجل و عدمه.

و الوجه في عدم تنقيح كلام المحقق انه لم يتضح بالآخرة انه يقول بجواز قطع يد الصبي تأديبا أم لا؟.

و في الرياض بعد بيان طويل في عدم التئام هذه الاخبار: و بالجملة العمل بهذه الأخبار محل نظر و ان استفاض صحاحها و قرب من التواتر عددها لما مضى فينبغي حملها على كون الواقع تأديبا منوطا بنظر الحاكم لا حد كما ذكره في مسالك شيخنا و مقتضاه جواز بلوغ التعزير الحد هنا و لو في بعض الصور و لا بأس به لاتفاق أكثر النصوص في الدلالة عليه و لكنه لا يلائم ما أطلقه بعض المتأخرين من التعزير بناءا على ما قرروه من اشتراط التعزير بعدم بلوغه الحد و في جريانه في محل البحث نظر لما مر لكن ينبغي الاحتياط بعدم القطع الا فيما اتفقت في الدلالة عليه و هو في الخامسة

انتهى.

و قوله: لما مر إلخ يشير به الى الروايات.

و قد انتهى كلام صاحب الجواهر قدس سره إلى اختيار أنه لا يقطع يد الطفل و ان الحاكم يقتصر على أمور أخر و ان غاية التأديب و نهايته هو ادماء الأنامل بالحك أو بقطع اللحم منها و قرضه شيئا فشيئا.

و هذا هو الأقوى فإن الأخبار متعارضة، و العلماء لم يحكموا بذلك الا شاذ منهم بل و من حكم بذلك فلم يجزم به.

فترى الشيخ قدس الله نفسه الذي افتى بذلك في النهاية لم يفت به في المبسوط بل و حكم فيه بعدم القطع فقال:

لا قطع الا على مكلف و هو البالغ العاقل فاما غير المكلف و هو الصبي أو المجنون فلا قطع على واحد منهما لقوله تعالى فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ، و إنما يعاقب من كان عاقلا و روى عن علي عليه السلام عن النبي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 26

صلى الله عليه و آله انه قال: رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ و عن المجنون حتى يفيق و عن النائم حتى ينتبه و هو إجماع انتهى «1».

هذا خصوصا مع لحاظ أن النهاية من تأليفاته في أوائل عمره و بدء أمره بخلاف المبسوط الذي ألّفه أخيرا [1].

و أما نسبة العلامة في المختلف القول المزبور إلى الأكثر فقد أجاب عنه في الجواهر بقوله: (و ان كنا لم نتحققه). و على هذا فيشكل جدا الحكم بقطع يد الطفل لا سيما بالنظر إلى قاعدة الدرء و كذا ما ورد عن عدم بلوغ التعزير الحد.

هذا كله بحسب الاستظهار من الأدلة فلو شك في استفادة الحكم من الاخبار فلعل الاحتياط هو عدم الإقدام على

القطع و إن كان الطفل يحتاج إلى التأديب و للحاكم أن يؤدبه و لكن يقتصر على ما دون ذلك كالحك مثلا.

و ان أمكن أن يقال: إن الاحتياط يقتضي إقامة حدود الله تعالى أيضا، و الدرء يجري في كل المراحل لا في خصوص القطع.

و لعل الحق ان يقال: انه بعد كون الصبي محتاجا إلى التأديب لأنه يضيع و يفسد لو ترك تأديبه و لم يكن لتأديبه منهاج علم صدوره من الشرع فحينئذ يكون كالكبير و هو منوط بنظر الحاكم.

نعم لو كان الحكم في تعزير الكبير انه بعد ما عزر مرتين يقتل في الثالثة كما انهم حكموا بذلك بالنسبة الى من حد مرتين فجريان هذا الحكم بالنسبة إلى الطفل في غاية الإشكال.

______________________________

[1] أقول: لكن قد صرح الشيخ المرتضى قدس سره بأن النهاية هي آخر مصنفات الشيخ على ما قيل فراجع المكاسب ص 127.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 21.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 27

في شرط العقل

قال المحقق: الثاني: العقل فلا يقطع المجنون و يؤدّب و إن تكررت منه

أقول: لم يقيد المجنون بما إذا كان له نوع من التعقل أم لا بل أطلق ذلك كما انه لم يبين ان سرقته كانت في حال عقله أو جنونه.

لكن في المسالك بعد هذه الكلام من المحقق قال: هذا إذا سرق في حال جنونه اما لو سرق عاقلا و لو في حال إفاقته كذوي الأدوار قطع و لا يمنعه اعتراض الجنون استصحابا لما ثبت قبله.

و في الجواهر: بعد كلام المحقق: فلا يقطع المجنون قال: و لو أدوارا إذا سرق حاله بلا خلاف أجده فيه بل هو إجماع كما عن بعض للأصل و حديث رفع القلم و نحوه. انتهى.

و لعل مراده من

(نحو). ما ذكره هو دليل العقل فإنه آب جدا عن تجويز قطع يد المجنون إذا كان لا ينفعه ذلك شيئا و لا يؤثر فيه اىّ تأثير، و أيّ اثر لإقامة الحد على من كان مجنونا حين إقامة الحد عليه؟! بل هذا يجري فيما إذا كانت السرقة في حال عقله.

و أما الاستصحاب الذي تمسك به في المسالك ففيه أن جريانه مشكل و ذلك لاختلاف الموضوع فإن المجنون غير العاقل عرفا.

و على الجملة فمقتضى دليل العقل و كذا حديث الرفع هو انه لا يحدّ المجنون.

نعم صرح المحقق بأنه يؤدّب و إن تكررت منه السرقة.

و لكن العلامة أعلى الله مقامه في التحرير نسب القول بذلك الى القيل مشعرا بتمريضه فقال: و لو سرق المجنون لم يجب حد لسقوط التكليف عنه و قيل يؤدّب انتهى «1».

______________________________

(1) التحرير ص 227.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 28

و السر في ذلك انه لا تميز له كي يرتدع بما يقام عليه من التعزير كما قال في المسالك في توجيه كلام التحرير المذكور آنفا: و لعله لعدم تميزه الموجب لارتداعه بالتأديب على المعاودة (ثم قال:) و لكن هذا يختلف باختلاف أحوال المجانين فإن منهم من يردعه التأديب و هم الأكثر و منهم من لا يشعر بذلك، و الجنون فنون و اناطة التأديب برأي الحاكم تحصل المطلوب انتهى.

كما أن في الجواهر: عن التحرير نسبة التأديب فيه الى القيل مشعرا بالتردد فيه و هو في محله إذا كان ممن لا يعقله بخلاف ما لو عقله فإنه يمكن القطع باستفادة ذلك و نحوه من النصوص حسما لمادة الفساد و نظما لأمور العباد في البلاد.

أقول: و يمكن أن يكون مراد المحقق من التأديب أيضا ذلك فإنه

لا معنى لتأديب من لا يتأثر بالأدب و لا يلتفت إليه و لا يقبله بمقتضى حاله و لعدم تعقله و دركه و قصور شعوره بل التأديب متعلق بمن يقبل ذلك و يتأثر به و حيث إن الأمر منوط بنظر الحاكم فهو يرى الموارد فإن راى أنه ينفعه ذلك يؤدبه و إلا فإنه يخلّى سبيله و يدعه.

ثم ان المحقق ذكر أنه لا حدّ على المجنون حتى مع تكرّر وقوع السرقة منه و علق عليه في المسالك بقوله و نبه بقوله و إن تكرر منه، على مخالفة حكمه للصبي حيث قيل فيه مع التكرار بالقطع في الجملة، و الفارق النص. انتهى.

فان الروايات واردة في قطع يد الصبي و ليس في باب المجنون خبر يدل على ذلك فلذا لا يقال به هنا و ان قيل به في الصبي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 29

ارتفاع الشبهة

قال المحقق: الثالث ارتفاع الشبهة فلو توهم الملك فبان غير مالك لم يقطع و كذا لو كان الملك مشتركا فأخذ ما يظن انه قدر نصيبه

أقول: انه فرض هنا للشبهة المسقطة للحد قسمين:

أحدهما: ما إذا توهم ان المال المخصوص، ماله و ملكه فأخذه فبان خلافه فإنه لا يقطع يده للشبهة الدارئة و ربما لا يصدق على أخذ هذا المال السرقة أصلا و ان كان مأخوذا من الحرز.

ثانيهما: ما إذا كان مال مشتركا بينه و بين غيره فأخذ منه ما يظن انه قدر نصيبه. و لا كلام في القسم الأول و إنما البحث في الثاني فإنه قد ذكره بصورة الإطلاق أو الإجمال في حين أن له أقساما كثيرة و فروضا متعددة لأنه تارة يريد ان يأخذ حقه و نصيبه بالعدل و لا يبطن خيانة

إلى شريكه و اخرى غير ذلك و على الأول فتارة يعلم برضا صاحبه و اخرى يعلم بعدم رضاه و ثالثة لا يعلم شيئا بل يشك في ذلك.

لا اشكال و لا كلام في الأول لمكان العلم برضاه فلا يحتاج أخذه إلى الاستئذان كما في مال الأجنبي مع العلم بالرضا قال الله تعالى في عداد من ذكره ممن يجوز الأكل من بيوتهم:. أَوْ صَدِيقِكُمْ. «1». فان جواز الأكل من بيت الصديق ليس الا للعلم برضاه.

و أما على الثاني و الثالث فتارة يأخذ بمقدار نصاب السرقة و هنا يصدق انه سارق فإنّ إطلاق (السارق و السارقة). يشمل ما أخذ و سرق من مال الأجنبي أو من مال الشريك فلذا يقطع يده و اخرى يأخذ بمقدار سهم نفسه مع العلم بعدم الرضا مثلا و مقتضى القاعدة أن الحكم هنا أيضا هو الحكم في الفرض السابق،

______________________________

(1) سورة نور آية 61.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 30

فإن المفروض كون المال مشاعا غير مفروز و الغرض أنه قد أخذه بلا إرادة أن يخبر بذلك شريكه كي يجيز ذلك. فاذا كان نصف كل جزء جزء من هذا الذي أخذه سهم شريكه و كان نصف هذا المال المأخوذ بقدر النصاب فلا بد من ان يقطع يده.

هذا هو مقتضى القاعدة بيد أن هنا روايات ربما تدل على خلاف ذلك.

فلنراجع اخبار الباب. باب حكم من سرق من المغنم و البيدر و بيت المال.

عن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه السلام: إن عليا عليه السلام قال في رجل أخذ بيضة من المقسم- المغنم- فقالوا قد سرق اقطعه فقال إني لم اقطع أحدا له فيما أخذ شرك «1».

إطلاقه يشمل كل صور الشركة فمجرد كونه شريكا

كاف في عدم اجراء القطع عليه إذا أخذ من المال المشترك سواء أخذ بقدر سهمه و نصيبه أو أقل أو أكثر.

و في هذه الرواية نكتة و هي أنه مع تصريح الراوي بقولهم: إنه قد سرق و نسبة السرقة اليه لم يستعمل الامام عليه السلام هذا العنوان بل بدّله بالتعبير بالأخذ فلعله قد أشعر بذلك الى أن الأخذ من هذا المورد ليس من باب السرقة.

و عن مسمع بن عبد الملك عن ابي عبد الله عليه السلام: إن عليا عليه السلام اتى برجل سرق من بيت المال فقال: لا يقطع فإن له فيه نصيبا «2».

ترى التعليل فيها بأن له فيه نصيبا الظاهر في أن مجرد الشركة و أن له فيه سهما كاف في أن لا يقطع يده في أخذ شي ء من المال المشترك.

و عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البيضة التي قطع فيها أمير المؤمنين عليه السلام فقال: كانت بيضة حديد سرقها

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 24 من أبواب السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 24 من أبواب السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 31

رجل من المغنم فقطعه «1».

و هذه تنافي ما سبقها فلذا حملها الشيخ على ما لا ينافي الأخبار السابقة فقال في التهذيب بعد ذكر الخبر و التصريح بعدم تنافيه للروايتين السابقتين: لأن الوجه في هذا الخبر أن يكون الحكم مقصورا على ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام و ليس في الخبر أن من سرق من المغنم يقطع فيكون منافيا للأول بل هو صريح بحكاية فعله. و لا يمتنع ان يكون أمير المؤمنين عليه السلام فعل ذلك لما

اقتضته المصلحة في الحال، على أن في الخبرين الأولين صريحا بأنه لا قطع عليه إذا سرق من المغنم. [1].

ثم قال: على أنه يجوز أن يكون إنما قطع أمير المؤمنين عليه السلام من سرق من المغنم من لم يكن له فيه نصيب لأن من هذا حاله يجب عليه القطع، أو يكون له فيه حظ غير أن قيمة ما سرق يزيد على ماله بقيمة ربع دينار فإنّ من هذه حاله أيضا يجب عليه القطع.

هذا و لكن الحمل الأول لا يلائم قوله عليه السلام في الرواية الأولى: إني لم اقطع أحدا له فيما أخذ شرك، و كذا قوله عليه السلام في الرواية الثانية: لا يقطع فإن له فيه نصيبا.

كما أن الحمل الأخير لا يناسب الإطلاقات الظاهرة في عدم الفرق بين أن يسرق أزيد من نصيبه بربع دينار و عدمه.

نعم الوجه الثاني حسن و لا بد من الجميع بين الأخبار بالنحو المزبور.

و عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: رجل سرق من

______________________________

[1] و هنا ذكر الشيخ رواية السكوني تأكيدا لما ذكره ثم ذكر الوجهين الآخرين و جعل رواية عبد الله بن سنان دليلا على الحمل الأخير فراجع التهذيب ج 10 ص 105.

و لا يخفى ان سيدنا الأستاذ الأكبر نقل وجوه الجمع عن الشيخ بواسطة الوسائل و نحن قد نقلناها عن التهذيب نفسه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 24 من أبواب السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 32

المغنم أيش الذي يجب عليه؟ أ يقطع؟ (الشي ء الذي يجبّ عليه القطع). قال: ينظر كم نصيبه فان كان الذي أخذ أقل من نصيبه عزّر و دفع اليه تمام ماله و ان كان

الذي أخذ مثل الذي له فلا شي ء عليه و ان كان أخذ فضلا بقدر ثمن مجنّ و هو ربع دينار قطع «1».

و مقتضى هذه انه إذا كان ما أخذه أقل من نصيبه فإنه يعزر و أمّا إذا كان بمقدار نصيبه فلا شي ء عليه و لو زاد على ذلك بمقدار ربع دينار الذي هو نصاب القطع فحينئذ قطع يده.

و لعل الوجه في التعزير إذا كان المأخوذ أقل من مقدار نصيبه و عدم شي ء عليه إذا كان بمقدار نصيبه الظاهر في عدم التعزير عليه أيضا أنه إذا كان بمقدار نصيبه فهو كاشف عن عدم كونه بصدد السرقة بخلاف ما إذا كان قد أخذ الأقل فإن الظاهر يقتضي أنه كان قاصدا للسوء عازما على السرقة فلذا يعزّر في الأقل دون المساوي.

نعم يبقى السؤال عن أنه إذا أخذ بمقدار سهمه فإنّه و إن كان الأمر على ما ذكر الا انه قد عصى بلا كلام فكيف لا يعزر على معصيته؟ [1].

و على الجملة فمقتضى صحيحة عبد الله بن سنان أنه إذا أخذ زائدا على مقدار حقه بمقدار النصاب الموجب للقطع فهناك تقطع يده دون غيره.

الى غير ذلك من الروايات. و مقتضى عبارة الشرائع أن مجرد الشركة يكون

______________________________

[1] أقول: لكن في الوافي ج 2 ص 63: فلا شي ء عليه، يعني به لا قطع عليه و إن وجب التعزير بل يزاد في تعزيره على أخذ الأقل كما صرح به في الحديث الآتي انتهى.

أقول: و نعم ما قال، فان الحديث الآتي في نقله هو خبر عبد الله بن سنان أيضا، و فيه: فإن كان الذي أخذ أقلّ مما له أعطي بقية حقّه و لا شي ء عليه إلا انه يعزر لجرأته و ان

كان الذي أخذ مثل حقه أقر في يده و زيد أيضا، و ان كان الذي سرق أكثر مما له بقدر مجنّ قطع و هو صاغر و ثمن مجنّ ربع دينار و قال المجلسي في ملاذ الأخيار ج 16 ص 256: و زيد أيضا في التعزير انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 من باب 24 من أبواب حدّ السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 33

كالشبهة و انها كافية في رفع القطع و إن لم يكن معها شبهة، فإنه بعد أن أفتى بأنه لو توهّم الملك و أخذ و بان بعد ذلك انه غير مالك فإنه لا يقطع. قال: و كذا لو كان الملك مشتركا، اي و كذلك لا يقطع إذا كان الملك مشتركا بينه و بين غيره.

لكن في الجواهر بعد ذلك: بتوهم أن له ذلك بدون اذن الشريك فإنه شبهة حتى لو فرض زيادته عن نصيبه بما يبلغ نصاب السرقة من غير فرق بين كون المال مما يجري فيه الإجبار على القسمة كالحبوب و غيره كالثياب و نحوها ضرورة تحقق الشبهة على التقديرين.

و على هذا فذكر الملك المشترك من باب أنه يوجب الشبهة، و هي على أقسام:

فتارة يأخذ المال بتخيّل انه ماله و اخرى يعلم انه مال الغير لكنه يتخيل كونه مجازا في أخذ شرعا و أنّ صاحبه راض بذلك. و ثالثة يأخذ من المال المشترك معتقدا جواز استقلاله بأخذه فلو كان عالما بعدم جواز استبداد الشريك بدون اذن شريكه أو شركائه.

فلو أخذ بقدر النصاب فعلى حسب القاعدة يكون سارقا و يجري عليه الحد.

و أما بحسب الأخبار فهي على قسمين:

أحدهما ما يدل على عدم القطع إذا أخذ من المال المشترك و هو مطلق

شامل لما إذا كان عالما بالشركة و بأنه لا يجوز الأخذ من المال المشترك بدون اذن الشريك سواء كان أقل من النصاب أو أكثر فمجرد الشركة مسقط للحد و ان كان قد عصى بالتصرف في المال المشترك.

ثانيهما ما يدل على أنه لو زاد ما أخذه عن نصيبه بقدر النصاب فهناك يحدّ فمن الأوّل رواية محمد بن قيس التي تقدم ذكرها آنفا فان مقتضى إطلاقها أن مجرد الشركة كاف في عدم القطع و ان كان ما أخذه زائدا على قدر النصاب.

و منها رواية مسمع و هي مثل الاولى بل دلالتها أقوى لكونها معللة و قد نقلناها آنفا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 34

و منها رواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله الدالة على ان أمير المؤمنين عليه السلام قد قطع في بيضة حديد سرقها رجل من المغنم [و البيضة الخوذة من الحديد و هي من آلات الحرب لوقاية الرأس].

و في الجواهر: لكن الصحيح منها لا عموم فيه، و غيره لا جابر له.

أقول: و وجه ذلك أن الصحيح منها هو خبر عبد الله بن سنان و لا عمومية فيه فإن مقتضاه أنه إذا أخذ فضلا عن نصيبه أيضا بمقدار ربع دينار فهناك يقطع و إنما لا يقطع إذا كان أقل أو بقدر نصيبه، و ما كان مطلقا يدلّ على أن مجرد الشركة كاف في عدم القطع، فهو ليس بصحيح.

و قال قدس سره معترضا على العلامة: و بذلك كله يظهر لك أنّ ما في القواعد لا يخلو من نظر، قال: و لو كان الشي ء قابلًا للقسمة و لم يزد المأخوذ على مقدار حقه حمل أخذه على قسمة فاسدة على اشكال أقربه ذلك إن قصدها و إلا

قطع فإن دعوى ان ذلك شبهة و ان علم فسادها واضحة المنع انتهى.

توضيح إيراده على أساس ما افاده آنفا أنه لو كان يعتقد جواز أخذ هذا المال فهنا يصح أنه لا يقطع يده إذا أخذ بمقدار حقه. و اما إذا أخذ عالما بعدم جواز استبدادا لشريك و عدم جواز التصرف بدون اذن الشريك فمقتضى القاعدة هو القطع و ذلك لعدم شبهة في هذا الفرض فكيف افتى العلامة أعلى الله مقامه بأنه إذا كان الشي ء قابلًا للقسمة و لم يزد المأخوذ على مقدار حقه لم يقطع يده؟ اللهم الا ان يكون تعبدا من الاخبار.

أقول: و لكن الظاهر أنّ ما أفاده العلامة كلام جيد و وجه حسن فإنه إذا أخذ أقل من حقه أو بمقداره فإنه لا يصدق عليه أنه قد سرق بل قد أقدم على القسمة و حيث إنه كان بلا اذن من الشركاء تكون فاسدة، كالمأخوذ بالمعاملة الفاسدة كالربا حيث لا يصدق عليه السارق فلا حد عليه و إن صدق عليه آكل مال الناس، أو الآكل بالباطل. و هذا بخلاف ما إذا كان ما أخذه بمقدار نصاب السرقة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 35

مضافا الى سهمه فإنه يصدق عليه أنه قد سرق فلذا يقام عليه الحد.

و لا يبعد أن يكون المراد من صحيحة ابن سنان أيضا ذلك ففي الفرضين الأولين حيث إنه يصدق القسمة الفاسدة فلذا لا حدّ عليه، و في الثالث لما صدقت السرقة لا القسمة الفاسدة فلذا تقطع يده.

و أما أنها قسمة فاسدة و معاملة باطلة فلأن القسمة هي نقل سهم كل شريك من الحصة التي بيد شريكه بإزاء سهم شريكه في الحصة التي بيده و حيث إن الشركة على

سبيل الإشاعة فلذا كان نصف كل جزء مما بيد هذا لشريكه و كذلك الأمر بالنسبة للشريك فإن نصف كل جزء مما كان بيد الآخر متعلق بالأول و لمّا كان الشريك يرضى بما أخذه هذا الأخذ لا مجانا بل في قبال أن يكون له ما كان للآخذ في سهم شريكه فلذا تؤل القسمة إلى المعاملة لكنها في المقام فاسدة و من المعلوم ان المعاملة الفاسدة لا حدّ لها فلذا لا تقطع يده.

ثم لو فرض أن شكّ في كونه من باب القسمة الفاسدة حتى لا يكون له حد أو أنه من باب السرقة حتى يترتب عليها الحد فلا محالة يكون من باب الشبهة و يدرء الحد بها. لكن الظاهر أنه لا شك في المقام و أن ما ذكره صحيح و تامّ.

اشتراط ارتفاع الشركة

قال المحقق: الرابع ارتفاع الشركة فلو سرق من مال الغنيمة فيه روايتان إحداهما لا يقطع و الأخرى إن زاد ما سرقه عن نصيبه بقدر النصاب قطع و التفصيل حسن.

أقول: بعد ان ذكر أن من شرائط القطع عدم الشبهة فهنا يقول بان من شرائطه عدم الشركة و فرّع عليه أنه إذا سرق من مال الغنيمة ففيه روايتان. و المراد من الأولى رواية محمد بن قيس المذكور آنفا المصرحة بعدم القطع إذا كان له فيما أخذ شرك، و قريب منها رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 36

أمير المؤمنين عليه السلام: أربعة لا قطع عليهم: المختلس و الغلول و من سرق من الغنيمة و سرقة الأجير فإنها خيانة «1».

و أما الأخرى فهي صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة آنفا المفصّلة بين أخذ الأقل من النصيب أو أخذ

الزائد عليه بمقدار النصاب. و لم يعمل بالأولى سوى عدة من الأصحاب مثل المفيد و سلار من المتقدمين و فخر الدين من المتأخرين بخلاف الثانية فإنه كما في المسالك قد عمل بها أكثر الأصحاب.

و في طريق الاولى كلام لأن في طريقها سهل بن زياد [1]. مع كون محمد بن قيس مشتركا، و ان كان الأمر في سهل سهلا. أما الثانية فحالها واضح بالسكوني.

في حين أن رواية ابن سنان صحيحة و موافقة للقواعد و على هذا فهي مقدمة و راجحة على الطائفة الاولى و لذا استحسن في الشرائع التفصيل و هو مفاد صحيح ابن سنان.

قال الشهيد الثاني: و فيها دلالة على أن الغانم يملك نصيبه من الغنيمة بالحيازة أو على أن القسمة كاشفة عن سبق ملكه بها.

أقول: و لكن يرد عليه أنه لو كان كذلك فلما ذا يعزّر عند ما كان المأخوذ أقل من حقه؟ و هل يعزر أحد على أخذ ما كان حلالا له؟ فهذا يدل على عدم ملك نصيبه بالحيازة و أن هذا ليس كحيازة المباحات في الجبال و البراري الموجبة للملك، و لعله نظرا الى ذلك أورد في الجواهر على المسالك بقوله: و ان كان لا يخلو بعضه عن نظر انتهى.

______________________________

[1] هو أبو سعيد الرازي ضعيف في الحديث غير معتمد عليه فيه و كان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو و الكذب و أخرجه من قم إلى الري و كان يسكنها. راجع جامع الرواة للأردبيلي ج 1 ص 393. و اما محمد بن قيس فقد عدّ في جامع الرواة عشرة بهذا الاسم بعضهم ثقة و بعضهم ضعيف، فراجع ج 2 ص 184.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حد

السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 37

و ذلك لأن المفروض أن المال مشاع و هو لا يفرز إلا برضا المالكين.

و أما صحيح عبد الرحمن الناطق بقطع أمير المؤمنين عليه السلام يد من أخذ بيضة من المغنم «1». فقد تقدّم وجوه الحمل الجارية فيها، و من جملتها أنها قضية في واقعة لا تعلم حقيقة الحال فيها.

قال في الجواهر: و على كل حال فالصحيحة أوضح سندا و دلالة و عملا، بل يمكن تنزيل السابقة عليها أيضا فالتردد الظاهر من جماعة في غير محله و إن وجّه بوحدتها و تعدد المقابل و قوة دلالته بما فيه من التعليل و إمكان اعتبار سنده لسهولة الأمر في سهل، بل ربما قيل بوثاقته و قوة السكوني و صاحبه، بل ربما قيل: إن الأولى مرويّة في الكافي صحيحا و لعله في كتاب الجهاد و لا أقل من حصول الشبهة الدارئة من ذلك، إذ جميعه كما ترى لا يصلح مخصصا للعموم فضلا عن معارضة الصحيح المزبور فيتّجه الحكم المذكور في خصوص الغنيمة و ان لم يكن شبهة انتهى.

أقول مراده من السابقة هو خبر محمد بن قيس، فيمكن حمله على صحيحة عبد الله بن سنان بأن يقال: ان قوله عليه السلام: إنى لم اقطع أحدا له فيما أخذ شرك، متعلق بما إذا كان ما أخذه بقدر النصيب أو دونه و لم يكن زائدا عليه.

و أما ما قد يقال من أن الامام عليه السلام أتى بلفظ «لم» الجازمة الموجبة لقلب المضارع الى الماضي، فهو حكاية حال ما مضى و لا تعلّق له بحكم المسئلة فيما يأتي.

ففيه أنه ليس بشي ء و ذلك لان المراد هو أن الحكم ذلك، لا ان يكون عليه

السلام قد ترك ما هو وظيفته و الواجب عليه.

و اما التردّد الذي استظهره من جماعة فهو التردّد في وجوب القطع و الميل الى عدمه سواء أخذ المساوي أو أكثر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 24 من أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 38

و وجه عدم كونه في محله تصريح الصحيح بوجوب القطع في فرض الزيادة على النصيب بمقدار النصاب.

قوله: و إن وجّه إلخ يعني و ان كان قد وجّه بعض التردد في المسئلة أوّلا بأن الرواية الدالة على القطع واحدة و الاخبار المعارضة لها الدالة على عدم القطع مطلقا متعددة.

و ثانيا بقوة الدلالة فيها لكونها معللة حيث ورد في خبر مسمع: لا تقطعه فإن له فيه نصيبا دون رواية ابن سنان فإنها غير مشتملة على التعليل.

و ثالثا بإمكان اعتبار سند المقابل لسهولة الأمر في سهل، بل ربما قيل بوثاقته، و قوّة السكوني و صاحبه [1].

و اما قوله: بل ربما قيل: إن الاولى مروية في الكافي صحيحا و لعله في كتاب الجهاد. فقد أورد عليه بأنه ليس في كتاب الجهاد بل هو في كتاب الحدود من الكافي ص 223 حيث نقل عن علي بن إبراهيم عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن ابن ابي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه السلام.

قوله: و لا أقل من حصول الشبهة إلخ يعني ليس أقل من كون المقام من قبيل الشبهة التي يدرء بها الحد.

و أما أنه مع وجود هذه الأمور يؤخذ برواية محمد بن قيس و يرفع اليد عن تلك الروايات المعارضة فقال قدس سره: إذ جميعه كما ترى لا يصلح

مخصّصا للعموم فضلا عن معارضة الصحيح المزبور.

اي إنّ هذه الأمور لا تصلح لتخصيص العموم مثل السارق و السارقة فاقطعوا

______________________________

[1] أن السكوني هو إسماعيل بن زياد و كان عاميّا، و أما صاحبه فهو النوفلي الذي نقل هذه الرواية عن السكوني قال في جامع الرواة ج 2 ص 453: النوفلي الذي يروى عن السكوني اسمه الحسين بن يزيد، و في رجال النجاشي كان شاعرا أديبا و سكن الري و مات بها و قال قوم من القميين: انه غلا في آخر عمره و الله اعلم و ما رأينا له رواية تدل على هذا انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 39

أيديهما، فكيف بمعارضة صحيح عبد الله بن سنان.

ثم قال: فيتّجه الحكم المذكور في خصوص الغنيمة و إن لم تكن شبهة، لكن في القواعد و كذا البحث في ما للسارق فيه حق كبيت المال و مال الزكاة و الخمس للفقير و العلوي اى إن سرق منها ما زاد على نصيبه بقدر النصاب قطع و إلا فلا و عن الخلاف نقل الإجماع على القطع في بيت المال إذا زاد المسروق على نصيبه بقدر النصاب.

أقول: إن ما تقدّم منا في توجيه كلام العلامة يجري هنا أيضا فما يأخذه السارق من بيت المال و كذا ما يأخذه العلوي من الخمس، و الفقير غير العلوي من الزكاة فإنما هو كالقسمة الفاسدة و لا يجري عليها أحكام السرقة فإن البيان المزبور لا يختص بباب الغنيمة كما أنه لو أخذ زائدا على حقه بمقدار النصاب لأقيم عليه الحد للصدق فيكون الأخذ من هذا المال المشترك كأخذ النصاب من مال الغير، الشخصي.

و أورد في الجواهر بقوله: قلت قد سمعت خبر مسمع المقتضى لعدم القطع

في السرقة من بيت المال بل في القواعد (الأقرب عدم القطع في هذه الثلاثة). لعدم تعيّن شي ء منها للمالك بعينه أو ملاك بأعيانهم و لا تقدير لنصيب أحد من الشركاء فيها و لا أقل من الشبهة إلخ.

أقول: و قد قرّب العلامة عدم القطع في هذه الثلاثة لا لأجل القسمة الفاسدة بل لما وجّهوا به كلامه من عدم اختصاص هذه الأموال بمالك مشخص و عدم تقدير نصيب الشركاء و المستحقين حتى يصدق السرقة الموجبة للاندراج في إطلاق الأدلة.

ثم نقل حكاية علي بن أبي رافع و أن الامام عليه السلام أطلق في هذا الخبر السرقة على أخذ العقد من بيت المال و هدّد بالقطع. و إليك متن الخبر:

محمد بن الحسن. عن علي بن أبي رافع قال: كنت على بيت مال عليّ بن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 40

أبي طالب عليه السلام و كاتبه، و كان في بيت ماله عقد لؤلؤ أصابه يوم البصرة قال: فأرسلت الىّ بنت أمير المؤمنين عليه السلام فقالت لي: بلغني أنّ في بيت مال أمير المؤمنين عليه السلام عقد لؤلؤ و هو في يدك و أنا أحبّ ان تعيرينه أتجمّل به في أيام عيد الأضحى.

فأرسلت إليها: عارية مضمونة مردودة يا بنت أمير المؤمنين؟ قالت: نعم عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام فدفعته إليها و إن أمير المؤمنين عليه السلام رآه عليها فعرفه. فقال لها: من أين صار إليك هذا العقد؟ فقالت: استعرته من علي بن ابي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزيّن به في العيد ثم أردّه قال:

فبعث الىّ أمير المؤمنين عليه السلام فجئته فقال لي: أ تخون المسلمين يا بن أبي رافع؟ فقلت له: معاذ الله أن أخون

المسلمين. فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير اذني و رضاهم؟ فقلت:

يا أمير المؤمنين (عليه السلام). انها ابنتك و سألتني أن أعيرها إياه، تتزيّن به فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة فضمنته في مالي و علىّ أن أردّه سليما الى موضعه. قال:

فردّه من يومك و إياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي، ثم أولى لابنتي لو كانت أخذ العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذا أول هاشمية قطعت يدها في سرقة. الى ان قال: فقبضته منها و رددته الى موضعه [1].

لكن قال في كشف اللثام: و هو مع الضعف يحتمل أن لا يكون ابنته عليه السلام ممن له شركة فيه انتهى.

______________________________

[1] التهذيب ج 10 ص 151 و قال في ملاذ الأخيار ج 16 ص 301: مجهول. ثم قال: و قال في القاموس: اولى لك تهدد و وعيد اي قاربه ما يهلكه انتهى. ثم قال: و لعل ذكر القطع للتهديد تورية إذ ليس سرقة من الحرز الا ان يحمل عليها و ان كان بعيدا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 41

و قد يورد على هذا الخبر بأنه و لو فرض أن بنت الامام كانت تأخذ العقد على غير العارية المضمونة لم يكن وجه لقطع يدها بل كان اللازم ان يقطع يد علي بن ابي رافع الذي أخذ من بيت المال و دفع إليها.

و لعله يراد أنها لو أخذت هي بنفسها من بيت المال لا بحيث يأخذ ابن أبي رافع و يدفعه إليها.

و كيف كان فقد أجاب في الجواهر عن ضعف الخبر بأنه موافق للعمومات فلا يقدح ضعفه.

هذا كله حكم الغنيمة و اما غيرها من الأموال المشتركة بين أشخاص بأعيانهم

فهذا:

السرقة من المال المشترك

قال المحقق: و لو سرق من المال المشترك قدر نصيبه لم يقطع و لو زاد بقدر النصاب قطع.

أقول: هذا يفصح من اتحاد الحكم فيها و في الغنيمة فلو أخذ من المال المشترك بمقدار نصيبه أو أقل فلا قطع أما لو أخذ أكثر من ذلك الى مقدار نصاب السرقة فهناك تقطع يده.

و ظاهر كلامه عدم الفرق بين ما إذا أخذ بعنوان نصيبه أو بقصد السرقة بأن كان مع أخذه ذلك عازما على مطالبة حصته بعد ذلك و لذا قال في المسالك بعد ذكر هذا الفرع عن المحقق: قد تقدم الكلام في هذه المسئلة و إنما ذكرها مرتين لمناسبة الأولى بشرط ارتفاع الشبهة بتقدير عروضها للشريك و إن زاد عن نصيبه و مناسبة هذه بشرط انتفاء الشركة على تقدير انتفاء الشبهة و من ثم فرضها على تقدير أخذ الشريك بقدر نصيبه جزما و أخذه الزائد بقدر النصاب جزما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 42

و وجه عدم القطع مع أخذه بقدر حصته و ثبوته مع الزيادة بقدر النصاب يظهر من الروايات المذكورة في السرقة من الغنيمة لأن شركة الغانم أضعف من شركة المالك الحقيقي للخلاف في تملكه فاذا قيل بعدم قطع الغانم فالشريك أولى.

أقول: و يمكن الاشكال فيما إذا أخذ بمقدار نصيبه بقصد السرقة بكون الدليل منصرفا عما إذا ثبت كونه قاصدا لها أو عدم إطلاق لصحيح ابن سنان يشمل المقام فلا يكون الفرض من باب الشركة الفاسدة المذكورة في كلمات العامة المنقولة آنفا.

و كيف كان فالأولوية التي ذكرها الشهيد الثاني يراد منها أنّه إذا لم يكن في السرقة من الغنيمة قطع و لا يقطع يد الغانم، فالشريك الأخذ من مال الشركة الحقيقية أولى بعدم

القطع و ذلك لان الملك في الغنيمة مورد الإشكال، و الشركة في الغنيمة أضعف من الشركة في الأموال الشخصية فإذا لم تقطع مع عدم ملك شخصي في البين فبالأولوية لا تقطع مع كونه ذا حصة حقيقية في البين فإن له حينئذ ملكا حقيقيّا.

هذا و لكن أورد عليه في الجواهر فقال: و فيه منع الأولوية المزبورة بالنسبة إلى المسروق منه في عدم القطع مع سرقته قدر النصيب مع فرض بلوغ حصة الشريك فيه نصاب السرقة كمنع استفادة حكم مطلق المال المشترك مما سمعته في الغنيمة انتهى.

و حاصل الكلام أنه يمكن أن يكون الأمر بالعكس فإن في الفرض الأول لم يكن للشركاء حق مسلّم ملكي بخلاف المقام فإن الشريك مالك حقيقي فإذا لم يكن هناك قطع فهذا لا يدل على عدم القطع في المقام.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 43

هتك الحرز منفردا أو مشاركا

قال المحقق: الخامس أن يهتك الحرز منفردا كان أو مشاركا فلو هتك غيره و أخرج هو لم يقطع.

أقول: هذا الكلام متضمن لشرطين: أحدهما كون المال محرزا اي كان في حرز، و قد قام الإجماع على اعتباره كما و انه قد دلت عليه النصوص.

ثانيهما أن يكون الأخذ هو الهاتك للحرز إما بالنقب أو فتح الباب أو كسر القفل و على هذا فلو هتك الحرز واحد و أخذ المال آخر فلا قطع على اي واحد منهما كما في المسالك و ذلك لعدم اجتماع الوصفين فيهما أما الهاتك فلانة لم يأخذ شيئا و أما الأخذ فلأنه لم يهتك الحرز.

نعم يجب على الهاتك ضمان ما أفسده من الجدار و القفل و الباب و غير ذلك كما أن على الثاني ضمان المال.

و قد نقل عن بعض العامة ثبوت القطع على

الأخذ كي لا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحد، كما عن بعض آخر منهم ثبوت القطع على الهاتك لأنه ردء و عون للسارق و كأنه جعل السبب أقوى من المباشر. لكنّه فاسد لما ذكرناه، و ما ذكراه لا يتم على أصولنا. قال في المسالك: و ظاهر عدم صلاحية الأمرين لإثبات الحكم.

ثم تعرض لفروع و قال: و لو تعاونا على النقب و نحوه مما يحصل به إزالة الحرز و انفرد أحدهما بالإخراج فالقطع على المخرج خاصة و لو انعكس فانفرد أحدهما بالهتك و شارك غيره في إخراج النصاب فلا قطع على أحدهما لأن كلا منهما لم يسرق نصابا. نعم لو أخرجا نصابين بالاشتراك أو بانفراد كل منهما بنصاب قطعا [1]

______________________________

[1] و مثل كلام المسالك كلام السيد في الرياض فقد أفتيا بأنه في فرض التعاون على الهتك و انفرد أحدهما بالإخراج يقطع يد المخرج خاصة بخلاف العكس اى انفرد أحدهما بالهتك و المشاركة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 44

و وافقه صاحب الجواهر في الفرع الأول و خالفه في الثاني.

اما الأول فوجهه واضح فإن المخرج قد شارك الهاتك في هتكه فهو واجد للوصفين المعتبرين بخلاف الهاتك الآخر فإنه هاتك و ليس بمخرج.

و اما الثاني و هو ما إذا كان الهاتك واحدا و في مقام الإخراج كان هو مع غيره و أخرجا معا فأفتى في المسالك بعدم القطع و هو يقول بأنه يقطع و علل في المسالك بان كل واحد منهما لم يسرق نصابا بل كان النصاب بينهما، و الجواهر يقول بأنّه يقطع الهاتك المنفرد، المخرج مشاركا.

و كان المفروض في الجواهر هو ما إذا أخرج كلّ منهما نصابا فيتمّ ما ذكره من قطع يد الهاتك و أما

في عبارة المسالك فهو ما إذا لم يكن سهم كل منهما نصابا و إنما كان نصاب واحد بينهما.

و أما الفرع الثالث فهو ما إذا أخرجا نصابين اما بالاشتراك أو انفرد كل منهما بنصاب و هنا افتى بقطع يد كليهما.

و لم يتضح كاملا مورد كلامه فهل المفروض ما إذا كانا قد هتكا معا و أخرجا كذلك أو أن المفروض هو ما إذا اجتمعا و شاركا في الإخراج فقط و انفرد أحدهما بالهتك فإنه على الثاني لا وجه لقطع يد كليهما لان الجامع للوصفين المعتبرين في القطع واحد منهما لا كلاهما.

و أورد عليه في الجواهر بأنه مناف لاعتبار كون الأخذ الهاتك قال بعد ذلك فإن الفرض اختصاص أحدهما به. اي ان المفروض ان اجتماعهما كان على إخراج المال و اما الهتك فقد انفرد به واحد منهما.

______________________________

في الإخراج فلا قطع أصلا و ذلك لأن المخرج الآخر لم يكن هاتكا فلم يجتمع الوصفان فيه و أما الهاتك فهو و إن كان مخرجا أيضا و اجتمع فيه الوصفان إلا أن المخرج كان نصابا واحدا و هو ينقسم عليها فيكون سهمه نصف النصاب فلا قطع عليه أيضا نعم في الفرض الأخير لو أخرجا نصابين بالاشتراك أو بالانفراد فالظاهر انه يقطع يد جامع الوصفين لأنه مع ذلك سرق نصابا كاملا بخلاف الآخر فإنه و ان سرق نصابا لكنه لم يجتمع فيه الوصفان.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 45

ثم قال: و أما الأول فهو أحد القولين و الآخر القطع على كل منهما للصدق كما عن النهاية و الاقتصار و المقعنة و الكافي و الغنية و الوسيلة و الإصباح و الجامع و لعله لا يخلو عن قوة لإرادة الجنس من السارق لا

خصوص الشخص. انتهى.

يعني أما الفرض السابق و هو ما لو أخرجا معا مقدار النصاب فلا قطع على أحدهما. ففيه قولان: أحدهما ما ذكره المحقق و الآخر القطع على كل منهما و ذلك لصدق السرقة.

و هنا يرد عليه أنه لو كان المفروض الاجتماع في الإخراج و انفراد أحدهما بالهتك فكيف يحكم بالقطع فيهما؟ الم يدّع الإجماع و عدم الخلاف في اعتبار اشتراط الهتك؟ فاذا اعتبر الهتك و الإخراج من الحرز فكيف يقال بالقطع فيهما و يعلل بالصدق و الحال أن واحدا منهما لم يهتك الحرز أصلا؟ و إن كان المراد أنهما اجتمعا في الهتك و الإخراج و أخرجا نصابين فلما ذا يقول: و فيه أنه مناف لاعتبار كون الأخذ الهاتك فإن الفرض اختصاص أحدهما به. انتهى.

و الذي يبدو لي أنه قد وقع خلط في الجواهر بل و في المسالك أيضا بين مسئلتين لا تعلق لأحدهما بالآخر.

إحديهما مسألة انفراد أحدهما بالهتك و اجتماعهما في الإخراج، و الأخرى مسألة إخراج اثنين نصابا واحدا مع كونهما قد هتكا معا و أخرجا كذلك و أنه هل يقطع يد كليهما بإخراج نصاب واحد أم لا فقد ذهب بعض إلى أن الملاك هو النصاب فإذا كانت الشرائط كالهتك و الإخراج محقّقة فإنه يشمله العموم أو إطلاق الآية الكريمة و يقطع يدهما و إن كان لو قسم بينهما كان لكل واحد منهما نصف نصاب.

و هذا الخلط أوجب تشويش العبارات و عدم ملائمة بعضها مع بعض.

و يشهد على وقوع هذا الخلط أن كلام هؤلاء الأعلام الذين ذكرهم كان في المسألة الثانية لا الاولى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 46

قال الشيخ قدس سره: و إذا سرق نفسان فصاعدا ما قيمته ربع دينار وجب

عليهما القطع فإن انفرد كل واحد منهما ببعضه لم يجب عليهما القطع لأنه قد نقص عن المقدار الذي يجب فيه القطع و كان عليهما التعزير «1».

و قال أبو الصلاح الحلبي: فإن كان السّرّاق جماعة مشتركين في المسروق قطعوا جميعا بربع دينار فما زاد، و إن كانوا منفردين كل منهم يسرق لنفسه قطع منهم من بلغ ما أخذه ربع دينار فما فوقه و لا يقطع من نقصت سرقته عن ذلك «2».

و قال ابن حمزة: و إن سرق اثنان معا نصابا قطعا فإن كان كل واحد منهما تفرد بشي ء آخر لم يقطع إذا لم يسرق مقدار نصاب «3».

و أوضح من الجميع عبارة اللمعة و شرحها فإليك العبارة مزجا: و لو أخرجاه معا قطعا إذا بلغ نصيب كل واحد نصابا و إلا فمن بلغ نصيبه النصاب و إن بلغ المجموع نصابين فصاعدا على الأقوى و قيل يكفي بلوغ المجموع نصابا في قطع الجميع لتحقّق سرقة النصاب و قد صدر عن الجميع فيثبت عليهم القطع و هو ضعيف. انتهى.

و قد نسب لزوم القطع عليهم الى الضعف و هو كذلك فإن ظاهر أخذ النصاب الوارد في الروايات الموجب للقطع هو الاستقلال به بلا اشتراك و اجتماع اثنين في أخذ نصاب واحد حيث انه ينسب الى كل واحد أخذ نصف النصاب.

و كيف كان فالدليل على اعتبار الحرز هو الروايات فعن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوم اصطلحوا في سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض فقال: هذا خائن لا يقطع و لكن يتبع بسرقته و خيانته «4».

______________________________

(1) النهاية ص 718.

(2) الكافي ص 411.

(3) الوسيلة ص 419.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 47

و هل المراد أن مجرد الاصطحاب و الرفاقة في السفر مسقط للحد و إن كان الأخذ من الحرز كان جعل المسروق ماله في صندوق و قد أغلق بابه، أو أن الحكم متعلق بالرفقاء في السفر المعلوم أنه لا حرز لهم بل كلّما كان لهم يعلنون به و يظهرونه فلا يجري في ما إذا كان لهم مال في حرز و قد سرق واحد منهم؟

الظاهر هو الثاني.

و عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام كل مدخل يدخل فيه بغير إذن فسرق منه السارق فلا قطع فيه يعني الحمامات و الخانيات و الأرحية «1».

قال المحدث العاملي رضوان الله عليه و بهذا الاسناد عنه قال: لا يقطع الا من نقب بيتا أو كسر قفلا «2».

و عن العياشي عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال:

لا يقطع إلا من نقب بيتا أو كسر قفلا «3».

نعم عن محمد بن علي بن الحسين قال: كان صفوان بن أمية بعد إسلامه نائما في المسجد فسرق رداؤه فتبع اللص و أخذ منه الرداء و جاء به الى رسول الله صلى الله عليه و آله و أقام بذلك شاهدين عليه فأمر صلى الله عليه و آله بقطع يمينه فقال صفوان يا رسول الله أ تقطعه من أجل ردائي؟ فقد و هبته له فقال عليه السلام: ألا كان هذا قبل أن ترفعه إلى فقطعه فجرت السنة في الحد أنه إذا رفع إلى الإمام و قامت عليه البينة أن لا يعطل و يقام «4».

فلم يكن في هذه الرواية ذكر عن الحرز و يمكن أنه كان قد وضع ردائه تحت

رأسه و توسّد به أو افترش به و وضعه و بسطه تحت بدنه و كيف كان فهو المورد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 5.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 48

و لا يصلح أن يخصّص الأدلة الدالة على اعتبار الحرز.

قال في الوسائل: قال الصدوق: لا قطع على من سرق من المساجد و المواضع التي يدخل إليها بغير اذن مثل الحمامات و الأرحية و الخانات و إنما قطعه النبي صلى الله عليه و آله لأنه سرق الرداء و أخفاه فلإخفائه قطعه و لو لم يخفه يعزره و لم يقطعه انتهى. ثم قال المحدث العاملي: أقول: الظاهر أن مراده أن صفوان كان قد أخفى الرداء و أحرزه و لم يترك ظاهرا في المسجد.

في الإخراج

قال المحقق: السادس أن يخرج المتاع بنفسه أو مشاركا و يتحقق الإخراج بالمباشرة و بالتسبيب مثل أن يشده بحبل ثم يجذبه من خارج أو يضعه على دابة أو جناح طائر من شأنه العود إليه.

أقول: و في الجواهر ادعى عدم الخلاف نصا و فتوى بل الإجماع بقسميه على اعتبار هذا الشرط.

و قد استظهر في المسالك حكم الفرع الذي ذكرناه آنفا المذكور في كلمات الأعلام من هذا الشرط فقال: ظاهر اكتفائه بإخراجه بالمشاركة الحكم بالقطع على تقدير إخراج الاثنين فصاعدا نصابا واحدا. و يشكل بعدم صدق سرقة النصاب على كل واحد بخصوصه و قيل يشترط بلوغ نصيب من يحكم بقطعه نصابا فلا

يقطع من قصر نصيبه عليه و لكل هذا أظهر انتهى.

و الأمثلة المذكورة كلها يصدق عليها أنه قد أخرج المال و سرقه من الحرز حتى لو وضع المتاع على الدابة و لا ساقها و لا قادها و انما فتح الباب لها و سارت حتى خرجت بنفسها كما صرح بذلك في المبسوط «1». معلّلا بأنها خرجت بفعله و هو نقل المتاع عليها، و وافقه على ذلك في كشف اللثام.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 27.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 49

نعم خالف في ذلك العلامة في التحرير فقال: و لو ترك المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوق أو ترك المتاع فانفتح فخرج المتاع أو على حائط في الحرز فأطارته الريح فالأقرب سقوط القطع. انتهى «1».

لكنه مشكل و ذلك لصدق الإخراج بفعله.

أمر الصبي غير المميّز بالإخراج

قال المحقق: و لو أمر صبيا غير مميز بإخراج تعلق بالأمر القطع لأن الصبي كالآلة.

أقول: إنه إذا كان الصبي المأمور بالإخراج غير مميز فإنه يصدق أن المخرج هو الآمر فإن الصبي كذلك يعدّ و يعتبر كالآلة و من المعلوم أنه لا يعتبر في تحقق السرقة و ترتب القطع إخراج المتاع من دون آلة. و لا يخفى أنه لو كان قد اخرج بالمجنون فهو أيضا كالإخراج بالصبي غير المميز.

و أما إذا كان مميزا فهو خارج عن موضوع كلام المحقق و عبارته.

و قال في كشف اللثام: أما مع التميز فلا قطع على الآمر لخروج الصبي بتميزه عن الآلية و لا على المأمور لعدم التكليف انتهى.

و تنظّر فيه صاحب الجواهر و هو الحق و ذلك لأن مجرد تمييزه لا يوجب خروجه عن الآلية بل ربما يقطع أنه ليس له اختيار و استقلال في الرأي و النظر

و لو لا أمر الآمر له بالسرقة لما أقدم على ذلك أصلا و لما تجرأ به أبدا و حينئذ يكون كالآلة و هذا يقتضي الحكم بقطع يد الآمر إذا كان كذلك.

ثم إن الشهيد الثاني رضوان الله عليه قد تعرض لذكر الخلاف في ما إذا اشترك اثنان مثلا في إخراج نصاب واحد و أنه هل يقطع يدهما أم لا.

و هذه هي المسئلة التي أشرنا آنفا وقوع الخلط بين مسئلة انفراد أحدهما

______________________________

(1) التحرير ص 232.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 50

بالهتك أو الإخراج و اجتماعهما على الآخر و بين هذه المسئلة فقال- بالنسبة لقول الشرائع: و يتحقق الإخراج بالمباشرة و بالتسبيب-: ظاهر اكتفائه بإخراجه بالمشاركة الحكم بالقطع على تقدير إخراج الاثنين فصاعدا نصابا واحدا و يشكل بعدم صدق سرقة النصاب على كل واحد بخصوصه و قيل يشترط بلوغ نصيب من يحكم بقطعه نصابا فلا يقطع من قصر نصيبه عنه ثم قال: و لعل هذا أظهر إلخ.

في اعتبار أن لا يكون والدا عن ولده

قال المحقق قدس سره: السابع أن لا يكون والدا من ولده و يقطع الولد إن سرق من الوالد و كذا يقطع الأقارب و كذا الأم لو سرقت من الولد.

أقول: و من الشرائط المعتبرة في القطع أن لا يكون السارق والدا عن ولده و إن كان مقتضى عموم آية السرقة عدم الفرق فإنه يشمله كما يشمل الابن إذا كان سارقا عن أبيه إلّا أنه خصّصت الآية الكريمة في هذا المورد بدليل.

و في المسالك: خرج من ذلك سرقة الأب و إن علا من الولد بالإجماع فيبقى الباقي على العموم انتهى.

و على هذا فلا فرق بين الأب و الجد من الأب و هكذا.

ثم انه قد استدل على اعتبار هذا الشرط بوجوه:

أحدها

عدم الخلاف فيه بل و الإجماع بقسميه عليه كما صرح بذلك في الجواهر.

ثانيها: فحوى عدم قتله به كما هو معلوم فإذا كان لا يقاد من الأب بقتله ابنه فلا يقطع يده في قبال مال ابنه بطريق الاولى.

و فيه أنه لا أولوية في البين و ذلك لأن القصاص هو القتل و إفناءه عن صفحة الوجود بخلاف القطع فإنه ابانة اليد و إذا حكم الشارع بعدم قتل الأب قصاصا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 51

عن قتله ابنه فهذا يستلزم عدم جواز إجراء الحد على الأب و الحال أنه عقوبة أسهل من القتل بلا كلام فيمكن أن يقتضي تعظيم الأب عدم قتله و لا يوجب ذلك رفع مطلق الحد عنه [1].

ثالثها قوله صلى الله عليه و آله: أنت و مالك لأبيك «1» فإذا كان الإنسان بنفسه و ماله لأبيه فكيف يقطع يد الوالد لمكان مال الولد الذي هو في الحقيقة ماله و على الجملة فكلامه صلى الله عليه و آله مشعر بالمطلوب. لكن العمدة في إثبات المطلوب هو الإجماع.

و مقتضى ما ذكرناه من عموم الآية و غيرها من الأدلة هو عدم الفرق بين الأقارب و الأجانب في غير الأب و إن كان أمّا و على هذا الأساس فهم لم يستثنوا أحدا سوى الأب.

نعم الحق أبو الصلاح الحلبي الأم بالأب، فإنه بعد ان تعرّض لشرائط السرقة الموجبة للقطع قال: فإذا تكاملت هذه الشروط وجب قطع أصابع السارق الأربع. حرا كان أو عبدا مسلما أو ذميّا قريبا أو أجنبيّا إلا سرق الوالدين من ولدهما على كل حال «2».

و نفى عنه البأس في المختلف فقال: المشهور أن الأم يقطع إذا سرقت من مال الولد دون الأب و هنا

ذكر كلام أبي الصلاح ثم قال: لنا العموم و قول أبي الصلاح لا بأس به لأنه أحد الأبوين فيسقط القطع عنها كما يسقط عن الأب لاشتراكهما في وجوب الإعظام انتهى «3».

______________________________

[1] أقول: لعلّ مراد المستدلّ من الفحوى هو أنه إذا كان الشارع قد أغمض عن القتل الواقع بيد الأب بالنسبة إلى الابن مع تلك الأهمية المعلومة المعهودة منه فمنع عن القصاص و حكم بالدية فبطريق أولى أغمض عن سرقة مال ابنه فلا يجوز قطع يده و إنما عليه أن يردّ ماله إليه. قال الأردبيلي:

لعل دليله الإجماع المخصّص بعموم الكتاب و السنة و ما سبق قوله (ص): أنت و مالك لأبيك، و لأنه لو قتله لا يقتل به فلا يقطع يده بيده فكيف يقطع بماله؟.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 12 باب 87 من أبواب ما يكتسب به ح 1 و 8 و 9.

(2) الكافي ص 411.

(3) المختلف ص 776.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 52

و فيه أما انها أحد الأبوين ففيه أنّه و ان أطلق عليهما الأبوان في القرآن الكريم [1] و غيره إلّا أن ذلك من باب التغليب نظر الشمسين أو القمرين فإطلاق الأب على الوالد على سبيل الحقيقة و على الوالدة على سبيل المجاز فكيف يترتب عليها ما يترتب على الأب؟

و أما اشتراكهما في وجوب التعظيم ففيه أنه لا يجوز تخصيص آية السرقة بهذا الاعتبار.

و في المسالك أنه الحق بعض العامة بهما كل من تجب نفقته على الآخر لما بين الفروع و الأصول من الاتحاد و كون مال كل واحد من النوعين مرصدا لحاجة الآخر و من حاجاته أن لا يقطع يده بسرقة ذلك المال.

و ما ذكره يجري في الزوج و الزوجة أيضا

[2]. و هو مشكل و هذه الوجوه الاعتبارية ليست ملاكا للحكم الشرعي فإنه و لو فرض امتناع الزوج عن أداء النفقة لكان للزوجة أن تأخذ مقدار نفقتها من ماله خفاء كما في قصة هند زوجة أبي سفيان و سيأتي ذلك و هو ليس من باب السرقة. و أما السرقة فغير جائزة لها و لا دافع للقطع أصلا و لا دليل على تخصيص الآية الكريمة.

قال قدس سره: و عمم آخرون الحكم في كل قريب. انتهى.

أقول: و ضعفه مما لا يكاد يخفى. و المعتمد هو عموم الآية في غير ما استثنى

______________________________

[1] كقوله تعالى: و ورثه أبواه. النساء- 11: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. النساء- 11، كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. الأعراف- 27، كَمٰا أَتَمَّهٰا عَلىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ. يوسف- 6.

فَلَمّٰا دَخَلُوا عَلىٰ يُوسُفَ آوىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ. يوسف- 99.

[2] قال في الخلاف مسألة 64 من كتاب السرقة أن أبا حنيفة قال بعدم القطع في سرقة أحد الزوجين من الآخر انتهى.

و في الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 190: الحنفية قالوا: إذا سرق أحد الزوجين من الآخر فلا يقطع واحد منهما سواء سرق من بيت خاص لأحدهما أو من بيت يسكنان فيه جميعا لأن كلا من الزوجين متحد مع صاحبه كأنه هو و لتبادل المنافع بينهما انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 53

و على هذا فلو سرق الولد من مال أبيه أو أمه فإنه يقطع يده مع اجتماع الشرائط و كذلك الأخ بالنسبة إلى أخيه و غير ذلك من أنواع النسب و القرابة.

و أما ما في الآية الكريمة:. وَ لٰا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

أُمَّهٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمٰامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خٰالٰاتِكُمْ أَوْ مٰا مَلَكْتُمْ مَفٰاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً. «1». من نفى الحرج عن أكل ما في بيوت الآباء و الأبناء و غيرهما من المذكورين فهو بمعنى جوازه فيما لم يحرز عن الأخذ و الآكل.

و اما إذا جعلوها في حرز مثل الصندوق و غيره فهناك لا يجوز الأكل بل يترتب عليه أحكام السرقة كما يستفاد ذلك من رواية أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوم اصطحبوا في سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض فقال: هذا خائن لا يقطع و لكن يتبع بسرقته و خيانته قيل له: فإن سرق من أبيه؟

فقال: لا يقطع لأن ابن الرجل لا يحجب عن الدخول إلى منزل أبيه، هذا خائن و كذلك إن أخذ من منزل أخيه أو أخته إن كان يدخل عليهم لا يحجبانه عن الدخول «2».

بقي في المقام شي ء و هو أنه يمكن أن يستفاد من بعض الأخبار عدم جواز قطع يد الوالد بسرقته من مال ولده و هو رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتله ما قتل به و إن قذفه لم يجلد له «3».

فاذا صرح بأنّه كما لو قتله لم يقتل به كذلك لو قذفه لم يجلد له فيمكن أن يستفاد منها أنه لو سرق من مال ابنه لا تقطع يده بيده.

______________________________

(1) سورة النور الآية 61.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب السرقة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حد القذف ح 1.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 54

بل يمكن ان يستفاد منه الأولوية و ذلك لأنه إذا لم يقتل بقتله فبالأولوية لا يجلد بقذفه. و على هذا الأساس لو سرق من ماله لم يقطع كذلك.

و الحق أن استفادة هذا مشكل فقد مرّ أنه لا أولوية في البين و عدم ترتب الجلد لا يدل على عدم قطع اليد للسرقة.

اعتبار أخذه سرّا

قال المحقق قدس سره: الثامن أن يأخذه سرّا فهو هتك قهرا ظاهرا و أخذ لم يقطع و كذا المستأمن لو خان.

أقول: و ذلك لعدم صدق السارق بل هو غاصب في الأول و أما الثاني فهو لم يأخذه من الحرز لأن المال بيده بلا فرق بين كونه بعنوان الوديعة أو العارية و غير ذلك.

هذه هي الشرائط التي ذكرها المحقق رضوان الله عليه ثم

الذميّ كالمسلم و.

قال: و يقطع الذمّي كالمسلم و المملوك مع قيام البينة و حكم الأنثى في ذلك حكم الذكر.

أقول: اما الأول و هو قطع يد الذمي إذا سرق من مسلم فلأنه بحكم المسلم- و حكم المسلم السارق هو القطع و ان كان قد سرق من ذميّ فإن مال الذميّ محترم و يحكم بمالكيته له.

و أما عدم قتل المسلم إذا قتل ذميا فذلك لأن القصاص حق للمقتول و يعتبر فيه المكافأة و المساواة و حيث إن دم الذمي لا يكافؤ دم المسلم فلذا لا يقاد من المسلم بقتله الذمي بخلاف القطع الذي هو حق الله تعالى لمصلحة النظام فلا يلاحظ فيه المكافأة قال في الجواهر: مضافا إلى أعظمية القتل من القطع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 55

و لكن هنا كلام و هو أن يد المسلم أعظم احتراما، بحسب الاعتبار من ربع دينار الذمي مثلا و إن كان لا حرمة لليد الخائنة إلا أن الإنسان يأبى اعتبارا من قطع يد مسلم لربع دينار سرقه من ذمي فلو لا الأدلة الأخرى لم يكن ما ذكر دليلا يعتمد عليه.

نعم لو سرق المسلم مال حربي مستأمن ففي القواعد: لم يقطع قال عند ذكر الشرط الرابع: و لو سرق مال حربي مستأمن لم يقطع و لو سرق مال

ذمي قطع.

انتهى.

و الظاهر أن ذلك لعدم احترام ماله أصلا و إنما يخلّى سبيله لأجل الأمان الذي أعطيه و ليس شي ء وراء حفظ حرمة الأمان الذي أعطاه الحاكم أو غيره من المسلمين. و على هذا فلو سرق المسلم منه فلا يقطع يده لعدم احترام ماله أصلا.

نعم يعزر من سرقه و يؤدب لمخالفته الإمام في إعطائه الأمان فالحرام و الممنوع عنه هو معصيته أمان الإمام.

و أما الثاني و هو قطع يد المملوك مع قيام البينة فنقول: وجه تقييده بذلك أنه لو أقر فإقراره إقرار على مولاه فلا اعتبار به أما لو أقيمت البينة على ذلك فهناك تقطع يده و ذلك لإطلاق الأدلّة بلا فرق بين الآبق و غيره. و قال أبو حنيفة كما في الخلاف: لا قطع عليه إن كان آبقا [1]. بل قال الشيخ الصدوق قدس سره بعدم القطع لارتداده قال في المقنع: و العبد إذا أبق من مواليه ثم سرق لم يقطع و هو آبق لأنه مرتد عن الإسلام و لكن يدعى إلى الرجوع إلى مواليه و الدخول في الإسلام فإن أبى أن يرجع إلى مواليه قطعت يده في السرقة ثم يقتل و المرتدّ إذا سرق بمنزلته انتهى «2».

______________________________

[1] لا يخفى أن أبا حنيفة و إن قال بذلك إلا أنه قال بملاك آخر غير ما قاله الصدوق و هو أنه لا قطع بناءا على أصله في القضاء على الغائب فقال: قطع الآبق قضاء على سيده و السيد غائب فلا قطع انتهى. راجع المختلف ص 776.

______________________________

(2) المقنع ص 152.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 56

و قال في الفقيه: و العبد الآبق إذا سرق لم يقطع و كذلك المرتد إذا سرق و لكن يدعى العبد

الى الرجوع إلى مواليه و المرتد يدعى إلى الدخول في الإسلام فإن أبى واحد منهما قطعت يده في السرقة ثم قتل [1].

لكن هذا مشكل فكيف يرتد العبد بالسرقة أو الإباق؟ أما السرقة فواضح أنها لا توجب الارتداد و اما الإباق فهو أيضا بمجرده لا يوجب ذلك بعد أن كان هو معصية محضة و المفروض عدم اقترانه بإنكار شي ء أصلا و هل المعصية بلا رجوع إلى الإنكار تقتضي الارتداد؟.

نعم روى المشايخ الثلاثة عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العبد إذا أبق مواليه ثم سرق لم يقطع و هو آبق لأنه بمنزلة المرتد عن الإسلام و لكن يدعى إلى الرجوع إلى مواليه و الدخول في الإسلام فإن أبى أن يرجع إلى مواليه قطعت يده بالسرقة ثم قتل، و المرتد إذا سرق بمنزلته «1».

و الرواية صحيحة و متضمنة لما ذكره الصدوق إلا أنّ ما تضمنته أمر يشكل الالتزام به و لم يفت بذلك الا هو رضوان الله عليه.

و أمّا أنّ حكم الأنثى في ذلك حكم الذكر ففي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل و لا إشكال.

و الدليل على ذلك هو عموم الأدلة و إطلاقها قال الله تعالى: السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. و عدم مخصص أو فارق في البين.

______________________________

[1] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 67 أقول: و إذا كان كلامه في المقنع دالا على ارتداد الآبق فان كلامه في الفقيه ليس كذلك بل هو ظاهر أو صريح في ان الآبق يدعى إلى الرجوع إلى مولاه و المرتد يدعى إلى الإسلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 32 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 57

في سرقة الراهن الرهن و.

اشارة

قال المحقق: مسائل،

[المسألة الأولى]

الأولى: لا يقطع الراهن إذا سرق الرهن و إن استحق المرتهن الإمساك و لا الموجر العين المستأجرة و إن كان ممنوعا من الاستفادة مع القول بملك المنفعة لأنه لم يتحقق إخراج النصاب من مال المسروق منه حالة الإخراج.

أقول: و قد نفى صاحب الجواهر عنه الخلاف و الاشكال.

و الوجه في ذلك أنه و إن كان للمرتهن استحقاق إمساك العين كما أن المالك ممنوع عن التصرف فيه و الاستفادة منه إلّا أن هذا الاستحقاق لا مالية له حتى يكون الراهن أو المؤجر سارقا و المنفعة غير موجودة و إن قلنا بملكها شرعا لكن على معنى استحقاق الانتفاع و هو غير المنفعة.

قال في الجواهر: كل ذلك بعد المفروغية من اعتبار الملكية العينية في السرقة نصا و فتوى و للعرف انتهى.

و من المعلوم انهم رضوان الله عليهم أجمعين اعتبروا في السرقة، الملكية العينية و في المقام ليس كذلك.

هذا مضافا الى أن المنافع في المقام تدريجية، و لم يتحقق منها حين السرقة ما يكون بمقدار النصاب الى الربع دينار فلا وجه للقطع.

المسألة الثانية

قال المحقق: لا يقطع عبد الإنسان بسرقة ماله و لا عبد الغنيمة بالسرقة منها لأن فيه زيادة إضرار نعم يؤدب بما يحسم الجرأة.

أقول: و في الجواهر بعد الحكم الأول: بلا خلاف أجده فيه بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه صريحا و ظاهرا، كما عن المبسوط نفى الخلاف فيه انتهى.

و مستند هذا الحكم المخالف للأصل الروايات المستفيضة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 58

قال الشهيد الثاني في المسالك: و في طريق الروايات ضعف و لكن لا رادّ لها، و المصنف علّل الحكم بأن في القطع زيادة إضرار، و الحد شرّع لحسم الجرأة و دفع الضرر فلا يدفع الضرر

بالضرر و هو تعليل للنص بعد ثبوته. أما كونه علة برأسه فموضع نظر. انتهى.

و فيه بالنسبة إلى ضعف الروايات أن بعضها صحيحة كرواية محمد بن قيس و ليس كلها ضعيفة و سترى ذلك.

و أما ما أفاده بالنسبة إلى تعليل الحكم فهو كذلك و إن قال كاشف اللثام: و في الشرائع لأن فيه زيادة إضرار و لا يعجبني فإنه إنما يقطع إذا طالب المولى و رضي بهذا الضرر انتهى «1».

و قد علّل في كلمات بعضهم بأنه مال الرجل سرق من مال هذا الرجل و هذا التعليل مستفاد من الروايات كما ستمر عليك.

و كيف كان فالعمدة هو الأخبار فلنراجعها لاستفادة الحكم منها.

عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في عبد سرق و اختان من مال مولاه قال: ليس عليه قطع «2».

عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام عبدي إذا سرقني لم اقطعه و عبدي إذا سرق غيري قطعته و عبد الإمارة إذا سرق لم أقطعه لأنه في ء «3».

عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المملوك إذا سرق من مواليه لم يقطع فاذا سرق من غير مواليه قطع «4».

______________________________

(1) كشف اللثام: ج 2 ص 243.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة ح 2.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 59

عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلين قد سرقا من

مال الله أحدهما عبد مال الله و الآخر من عرض الناس فقال: أما هذا فمن مال الله ليس عليه شي ء مال الله أكل بعضه بعضا و أمّا الآخر فقدمه و قطع يده ثم أمر أن يطعم اللحم و السمن حتى برئت يده «1».

عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أخذ رقيق الإمام لم يقطع و إذا سرق واحد من رقيقي مال الإجارة قطعت يده قال: و سمعته يقول: إذا سرق عبد أو أجير من مال صاحبه فليس عليه قطع «2».

و لنعم التعليل ما ورد في الرواية السابقة من ان مال الله أكل بعضه بعضا فإن هذا يقرّب الى الذهن أنه لا مورد للقطع. و هذا يجري في عبد الإنسان أيضا لأنه ماله و سرق من ماله فلا معنى لقطع يده. نعم يؤدّب كلاهما لحسم جرأتهما.

المسألة الثالثة

قال المحقق: يقطع الأجير إذا أحرز المال من دونه و في رواية لا يقطع و هي محمولة على حال الاستئمان و كذا الزوج إذا سرق من زوجته أو الزوجة إذا سرقت من الزوج و في الضيف قولان: أحدهما لا يقطع مطلقا و هو المروي و للآخر يقطع إذا أحرز من دونه و هو أشبه.

أقول: أما الأوّل و هو عدم قطع يد الأجير إذا سرق من مال المستأجر إذا كان محرزا فهو المشهور بين الأصحاب كما صرح بذلك في المسالك و الجواهر و مستند ذلك عموم الآية و الروايات فإن عمومها يشمل الأجير و غيره.

نعم بعض الروايات يدل على خلاف ذلك و إليك هذه الروايات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة

ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 60

عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في رجل استأجر أجيرا و أقعده على متاعه فسرقه قال: هو مؤتمن «1».

عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أربعة لا قطع عليهم: المختلس و الغلول و من سرق من الغنيمة و سرقة الأجير فإنها خيانة. «2».

عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يستأجر أجيرا فيسرق من بيته هل تقطع يده؟ فقال: هذا مؤتمن ليس بسارق هذا خائن «3».

عن سماعة قال: سألته عن رجل استأجر أجيرا فأخذ الأجير متاعه فسرقه فقال: هو مؤتمن ثم قال: الأجير و الضيف أمناء ليس يقع عليهم حد السرقة «4».

عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع الأجير و الضيف إذا سرقا لأنهما مؤتمنان «5».

و قد افتى بذلك شيخ الطائفة في النهاية فقال: و الأجير إذا سرق من مال المستأجر لم يكن عليه قطع.

لكن الروايات محمولة على صورة الاستيمان كما يشهد بذلك التعليل الوارد في كثير منها حيث قال: انه مؤتمن. و قد كان المفروض أنه قد أقعده على متاعه بل كل هذه الروايات يدل على ذلك فإن الظاهر منها كون الأمتعة تحت يد الأجير و لم يكن في حرز عنه و لا أقل من كون المتيقن منها ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حد السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حد السرقة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب

14 من أبواب حد السرقة ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حد السرقة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 61

و على هذا فلا تنافي هذه الروايات قول المشهور و ذلك لأنه لا كلام في أن السرقة من غير الحرز لا يوجب القطع. و إنّى لا أدرى كيف افتى الشيخ بعدم القطع مطلقا و ان كان المال في حرز و سرق هو من الحرز.

و على الجملة فهذه الروايات بلحاظ اشتمالها على ما يفيد تعلقها بصورة الايتمان و كون المتاع تحت يده، لا تصلح لتخصيص العمومات الدالة على قطع يد السارق إذا كانت سرقته عن الحرز. هذا بالإضافة إلى ضعف هذه الأخبار فإن سليمان مثلا مشترك بين جماعة منهم مقبول و منهم غير مقبول. و سماعة كان واقفيا الى غير ذلك من الأمور.

فتحصّل أنّه لو سرق الأجير من الحرز و ما لم يؤتمن عليه فإنه يقطع يده.

و اما الثاني: و هو سرقة الزوج من مال زوجته و بالعكس فهو أيضا فيما لا حرز له و أما بالنسبة إلى ما جعله الزوج مثلا في حرز فالحكم هو القطع للعمومات المذكورة.

نعم بالنسبة للزوجة قد استثنى ما إذا امتنع الزوج من دفع النفقة فقد سوّغ لها أن تسرق من مال زوجها بمقدار نفقتها و نفقة أولادها حتى من الحرز ففي خبر هند زوج ابي سفيان أنه قالت للنبي صلّى الله عليه و آله: إن أبا سفيان رجل شحيح و إنه لا يعطيني و ولدي إلا ما آخذ منه سرّا و هو لا يعلم فهل علىّ فيه شي ء؟ فقال: خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف «1».

و أما الثالث و هو حكم الضيف ففيه قولان:

أحدهما أنه لا يقطع مطلقا ذهب إليه الشيخ في النهاية و ابن الجنيد و الصدوق و ابن إدريس.

و المستند في ذلك رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال:

الضيف إذا سرق لم يقطع و إذا أضاف الضيف ضيفا قطع ضيف الضيف «2».

______________________________

(1) يراجع طبقات ابن سعد ج 9 ص 172 و كنز العمال ج 8 ص 303.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 17 من أبواب حدّ السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 62

و رواية سماعة المذكورة آنفا أيضا تدل على ذلك. و قد ذكر المحقق ان هذا القول مروي.

ثانيهما أنه يقطع إذا سرق الضيف من الحرز لا مما كان تحت يده و ذكر المحقق أنه أشبه. أي بأصول المذهب و قواعده فإن العمومات شاملة له و لا فرق فيها بين الضيف و غيره.

و في الجواهر: بل و الأشهر بل المشهور بل لم نتحقق الخلاف فيه إلا عن الشيخ في النهاية التي هي متون أخبار و قد رجع عنه في المحكى عن مبسوطه و خلافه الى آخر كلامه قدس سره.

أقول: و في عد الشيخ أيضا من القائلين بعدم القطع حتى بالنسبة للسرقة من الحرز إشكال لعدم صراحة كلامه في ذلك فإنه و إن قال في النهاية ص 717:

و كذلك الضيف إذا سرق من مال مضيفه لا يجب عليه قطع انتهى و هو ربما يكون ظاهرا في الإطلاق و عدم الفرق بين ما إذا سرق عما تحت يده أو عما أحرز عنه، إلّا أن قوله بعد ذلك: و إذا أضاف الضيف ضيفا آخر فسرق وجب عليه القطع لأنه دخل عليه بغير اذنه انتهى. ينقص من ظهور الأول في الإطلاق فإنه قد

علّل القطع في ضيف الضيف بأنه دخل بغير اذن صاحب الدار فيكون الدار بتمامها حرزا بالنسبة اليه.

و يستفاد من ذلك أن ما لم يكن الضيف مأذونا فيه كالحجرة المقفّلة و الصندوق كذلك و غير ذلك مما أحرز دونه فإن السرقة منه يوجب القطع.

هذا مضافا إلى تصريحه في سائر كتبه بالقطع، قال في المبسوط: فإن نزل برجل ضيف فسرق الضيف شيئا من مال صاحب المنزل فإن كان من البيت الذي نزل فيه فلا قطع و إن كان من بيت غيره من دون غلق و قفل و نحو ذلك فعليه القطع. و قال قوم: لا قطع على هذا الضيف. و روى أصحابنا أنه لا قطع على الضيف و لم يفصّلوا و ينبغي أن يفصّل مثل هذا، فإن أضاف هذا الضيف ضيفا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 63

آخر بغير إذن صاحب الدار فسرق الثاني كان عليه القطع على كل حال و لم يذكر هذه أحد من الفقهاء انتهى «1».

و هكذا كلام غير الشيخ ممن نسب إليهم القول بعدم القطع مطلقا ليس صريحا فيما نسب إليهم فترى أن المحكى عن ابن الجنيد انه قال: و سرقة الأجير و الضيف و الزوجة فيما ائتمنوا عليه خيانة لا قطع عليهم فإن سرقوا مما لم يوتمنوا عليه قطعوا.

و قال الصدوق قدس سره: و ليس على الأجير و لا على الضيف قطع لأنهما مؤتمنان «2».

و التعليل بأن الضيف مؤتمن يشعر بأنه لو لم يؤتمن على شي ء و جعل في حرز عنه فإن السرقة عنه يوجب القطع.

و أما ابن إدريس فراجع الجواهر حتى تجد ما كان في كلامه من الاضطراب و عدم ملائمة صدر كلامه مع ذيله و على هذا فليس

هنا من كان كلامه صريحا في الحكم بعدم قطع يد الضيف بالسرقة مطلقا أي و لو كانت من الحرز، و المتيقن مما خرج عن العمومات الدالة على القطع هو ما لم يكن من الحرز.

المسألة الرابعة

قال المحقق: لو أخرج متاعا فقال صاحب المنزل: سرقته. و قال المخرج: وهبتنيه، أو أذنت في إخراجه سقط الحد للشبهة و كان القول قول صاحب المنزل مع يمينه في المال.

أقول: لا بد من فرض المسألة فيما إذا شهد شاهد الحال بأنه قد سرق بحيث لو لا ادعائه الموجب للشبهة لكان تقطع يده إلا أن الشبهة الناشئة من دعواه قد

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 33.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 65، و المقنع ص 151.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 64

أسقطت الحدّ عنه و ذلك لأن الإخراج من منزله عنوان أعمّ يشمل السرقة و غيرها و لا يمكن إثبات الأخص بالأعم.

و مستند هذا الحكم هو الرواية فعن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نقب بيتا فأخذ قبل أن يصل إلى شي ء قال: يعاقب. فإن أخذ و قد اخرج متاعا فعليه القطع. قال: و سألته عن رجل أخذوه- أخذ- و قد حمل كارة من ثياب و قال: صاحب البيت أعطانيها قال: يدرأ عنه القطع إلا أن تقوم عليه بينة فإن قامت البينة عليه قطع «1».

لكن قال الصدوق: فإذا دخل السارق دار رجل فجمع الثياب و أخذ في الدار و معه المتاع فقال: دفعه إليّ ربّ الدار فليس عليه قطع فإذا أخرج المتاع من باب الدار فعليه القطع أو يجي ء بالمخرج منه. انتهى [1].

و ظاهر كلامه انه قد فصل بين إخراج السارق المال من الدار

و عدمه ففي الأول يقطع دون الثاني للشبهة و احتمال الصدق و إن لم يكن عليه دليل.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 64

و قد أورد عليه صاحب الجواهر بقوله: و لا وجه له.

أقول: و لعلّ وجهه انه لو أخذ في الخارج و هو في حال حمل الثياب أو غيرها من الأمتعة فهناك شاهد الحال يشهد بسرقته و لا أثر لشبهته و لا يسمع منه دعوى الإذن أو الهبة مع إقراره بكون الملك للمالك بل يثبت السرقة بالملازمة العرفية بخلاف ما إذا كان في داخل المنزل فإنه لا يصدق السرقة فإن تمّ هذا الوجه فهو و إلا فما ذكره رحمه الله غير تام.

هذا بالنسبة للقطع فإن الشبهة تدرأ الحد و اما بالنسبة للمال فالقول قول صاحب الدار فيثبت بيمينه و يؤخذ من المخرج و يدفع الى صاحب المنزل و هذا

______________________________

[1] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 64. و في تذييلاته: ان كان (المخرج) بفتح الميم فمعناه إلا أن يجي ء بالمخلص و المفرّ منه بأن يدعى مثلا اذن المالك في إخراج المال من البيت و أمثال ذلك و إن كان بضم الميم فمعناه: أو يجي ء بالشخص الذي أخرج المتاع أو ادعى انه لم يخرجه. انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 8 من أبواب حدّ السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 65

اليمين لا يرفع الشبهة كي يترتب عليه القطع أيضا بل ان موضوع السرقة لا يثبت ما لم يخرج المال، و لذلك يرد على مثل عبارة المحقق بأنه لا

أثر لدعواه الإذن أو الهبة فإن السرقة لا بد من إثباتها كي يترتب القطع و بدون ذلك لا يقطع سواء ادعى ذلك أم لا.

نعم دعواه توجب الشبهة، فلا بد من حمل الكلام على ما إذا كانت السرقة ثابتة بشاهد الحال بحيث لولاها لتثبت السرقة.

إذا ادّعى كون المال له و أنكره صاحب المنزل

قال المحقق: و كذا لو قال: المال لي و أنكر صاحب المنزل فالقول قوله مع يمينه و يغرم المخرج و لا يقطع لمكان الشبهة.

أقول: فإذا كان المخرج معترفا بأنه قد أخذه من دار غيره فعليه إثبات ما يدّعيه من كون المال له لا لصاحب المنزل و إلا فصاحب المنزل يحلف بالله تعالى أن المال ليس للمخرج فيثبت قوله، فإنه ذو اليد و عليه فغرامة المال على الأخذ إلا أنه لا يقطع يده لمكان الشبهة لاحتمال كون المال في الواقع مالا له، و اليمين لا يرفع هذا الاحتمال و هذا كاف في تحقق الشبهة الدارئة للحد.

هذا كله بالنسبة إلى السارق.

الكلام في المسروق

قال المحقق: الثاني في المسروق. لا قطع فيما ينقص عن ربع دينار و يقطع فيما بلغه ذهبا خالصا مضروبا عليه السكة أو ما قيمته ربع دينار.

أقول: لا خلاف بين المسلمين و لا إشكال في أنه لا يقطع على سرقة أيّ شي ء و أيّ مقدار و لم يقل أحد بقطع اليد في قبال سرقة أيّ قدر من المال [1]. بل يعتبر

______________________________

[1] أقول: صرح في الخلاف مسألة 1 من السرقة أنه قال داود و أهل الظاهر: يقطع بقليل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 66

عندهم بلوغ المسروق النصاب و المقدار المخصوص الذي يقطع به و إنما اختلفوا في تحديد ذلك أي في تعيين هذا النصاب إلى أقوال فذهب المشهور إلى أنه هو ربع دينار بل ربما ادّعى عليه الإجماع. قال الشيخ القدر الذي يقطع به السارق عندنا ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار من أي جنس كان «1».

و قال في المسالك: يعتبر في ثبوت القطع على السارق بلوغ سرقته قدر النصاب بإجماع علمائنا و لكن

اختلفوا في مقداره فالمشهور بينهم أنه ربع دينار من الذهب الخالص المضروب بسكة المعاملة أو ما قيمته ربع دينار فلا قطع فيما دون ذلك.

و في الجواهر: المشهور بين الأصحاب أنه لا قطع فيما ينقص عن ربع دينار و يقطع فيما بلغه. أو ما قيمته ربع دينار بل عن الخلاف و الاستبصار و الغنية و السرائر و كنز العرفان الإجاع عليه مضافا إلى المعتبرة المستفيضة المروية من طرق العامة و الخاصة منها: النبوي: لا قطع إلا في ربع دينار. انتهى.

ثم إنه ذهب بعض إلى أن النصاب في القطع هو خمس الدينار فصاعدا و هو المحكى عن الشيخ الصدوق قدس سره كما ان المحكى عن العمّاني هو اعتبار الدينار و قد يقال باعتبار درهمين فصاعدا.

و منشأ هذه الأقوال المتعددة هو الأخبار المختلفة. و اللازم للباحث المراجعة إليها و النظر فيها و في مبلغ دلالتها و مفادها و هي اثنان و عشرون رواية أخرجها المحدث العاملي في باب (2) سماه: باب أن أقل ما يقطع فيه السارق ربع دينار أو قيمته و يقطع فيما زاد.

عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: في كم يقطع السارق؟ قال: في ربع دينار قال: قلت له: في درهمين؟ قال: في ربع دينار بلغ

______________________________

الشي ء و كثيره و ليس لأقله حد و به قال الخوارج.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 19.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 67

الدينار ما بلغ قال: قلت له: أ رأيت من سرق أقل من ربع دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ و هل هو عند الله سارق؟ فقال: كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه فهو يقع

عليه اسم السارق و هو عند الله سارق و لكن لا يقطع إلا في ربع دينار أو أكثر و لو قطعت أيدي السرّاق فيما أقل هو من ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطّعين (ح 1).

عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع يد السارق إلا في شي ء تبلغ قيمته مجنّا و هو ربع دينار (ح 2).

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: أدنى ما يقطع فيه يد السارق خمس دينار (ح 3).

و في الوسائل: حمله الشيخ على التقية لما مضى و يأتي.

عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قطع أمير المؤمنين عليه السلام في بيضة قلت: و ما بيضة؟ قال: بيضة قيمتها ربع دينار. قلت: هو أدنى حد السارق؟ فسكت (ح 4).

عن علي بن أبي حمزة عن ابي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع يد السارق حتى تبلغ سرقته ربع دينار و قد قطع علي عليه السلام في بيضة حديد. (ح 5).

عن ابي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى ما يقطع فيه السارق فقال: في بيضة حديد قلت: و كم ثمنها؟ قال: ربع دينار (ح 6).

عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: أقل ما يقطع فيه السارق خمس دينار (ح 7).

في الوسائل: قد عرفت وجهه انتهى يعنى إنها محمولة على التقية.

عن سلمة عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقطع السارق في ربع دينار (ح 8).

عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام في كم يقطع السارق؟ فجمع كفّيه ثم قال: في عددها من الدراهم (ح 9).

الدر المنضود

في أحكام الحدود، ج 3، ص: 68

في الوسائل: قال الشيخ: لا يمتنع أن يكون ما أشار إليه من الدراهم كانت ربع دينار و جوّز حمله على التقية.

عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قطع أمير المؤمنين عليه السلام رجلا في بيضة قلت: و أي بيضة؟ قال: بيضة حديد قيمتها ثلث دينار فقلت: هذا أدنى حد السارق؟ فسكت (ح 10). [1].

عن سماعة قال: سألته على كم يقطع السارق؟ قال: أدناه على ثلث دينار (ح 11).

و في الوسائل: حمله الشيخ على أنه حكاية حال سئل عنها و هو ما قطع أمير المؤمنين عليه السلام عليه.

أقول: و هذا مشكل و بعيد عن ظاهر السؤال لعدم ملائمته له أصلا و ذلك لأنه سئل عن مقدار يقطع السارق، و الجواب جواب عنه و لا ذكر في الجواب عن أنه حكاية حال [2].

عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يقطع السارق في كل شي ء بلغ قيمته خمس دينار إن سرق من سوق أو زرع أو ضرع أو غير ذلك (ح 12).

______________________________

[1] قد عرفت أنّه قال في ح 4: أنّه عليه السلام قطع في بيضة قيمتها ربع دينار. و هنا يقول بيضة حديد قيمتها ثلث دينار و قد سئل الراوي في كلا الموردين عن أنّه أدنى حدّ السارق و أنّه عليه السلام سكت.

[2] أقول: ربّما يرتفع الاشكال بذكر متن كلام الشيخ فإنّه قال في التهذيب ج 10 ص 101 عند ذكر الخبر: الوجه في هذا الخبر أنّه لا يمتنع ان يكون هذا حكاية حال سئل عليه السلام عنها و هو ما قطع أمير المؤمنين عليه السلام فقيل لسائل: ثلث دينار. و لا يكون إخبارا عن أنّ هذا

حدّه في جميع الأحوال. و الذي يكشف عن ذلك أنّ سماعة قد روى عن أبي عبد الله عليه السلام قصّة البيضة التي قطع أمير المؤمنين عليه السلام سارقها و ذكر أنّ قيمتها كانت ربع دينار. و الذي يزيد ذلك بيانا ما رواه. (و هنا نقل حديث أبي بصير و قصة البيضة و أنّ قيمتها ثلث دينار و سكوت الإمام في جواب السائل عن أنّه أدنى حدّ السارق.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 69

في الوسائل: حمله الشيخ على التقية كما مرّ و جوّز فيه و في أمثاله الحمل على ما لو رأى الإمام المصلحة في ذلك لما يأتي.

أقول: و يشكل الحمل الثاني فإنه على ذلك يكون حد السرقة من التعزيرات الموقوفة بنظر الامام و ما رآه من المصلحة.

عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السلام: أدنى ما تقطع فيه يد السارق خمس دينار و الخمس الآخر الحد الذي لا يكون القطع في دونه و يقطع فيه و في ما فوقه (ح 13).

في الوسائل: تقدم وجهه انتهى أقول: يعني يحمل على التقية.

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل سرق من بستان عذقا قيمته درهمان قال: يقطع به (ح 14).

العذق بالكسر كل غصن له شعب. قال في الوسائل: هذا محمول على كون الدرهمين قيمة ربع دينار لما مر و يحتمل الحمل على التقية لأن الدينار كان في ذلك الوقت بعشرة دراهم غالبا فيكون الدرهمان خمس دينار. انتهى.

محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن سعد بن طريف عن ابي جعفر عليه السلام قال: قطع علي عليه السلام في بيضة حديد و في جنّة وزنهما ثمانية و ثلاثون رطلا (ح 15).

قال:

و سئل عليه السلام عن أدنى ما يقطع فيه السارق فقال: ثلث دينار. (ح 16).

قال: و في خبر آخر: خمس دينار (ح 17).

و في المقنع سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن أدنى ما يقطع فيه السارق فقال:

ثلث دينار (ح 18).

قال: و في حديث آخر: يقطع السارق في ربع دينار (ح 19).

قال: و روى أنه يقطع أيضا في خمس دينار أو في قيمة ذلك (ح 20).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 70

قال: و روى أنه يقطع في عشرة دراهم (ح 21).

قال في الوسائل: ما زاد عن ربع دينار لا اشكال فيه و ما نقص محمول إما على التقية أو على المحارب.

عن علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن حد ما يقطع فيه السارق فقال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: بيضة حديد بدرهمين أو ثلاثة (ح 22).

هذه هي الروايات الواردة في الباب و يتلخص التعابير الواردة فيها في هذه الأمور:

1- ربع دينار في ثمانية أحاديث فراجع 1 و 2 و 4 و 5 و 6 و 8 و 16 و 19.

2- خمس دينار في ستة أحاديث ح 3 و 7 و 12 و 13 و 17 و 20.

3- ثلث دينار في ثلاثة أحاديث ح 10 و 11 و 18.

4- عشرة دراهم في حديثين ح 9 و 21.

5- درهمان في حديث واحد و هو ح 14.

6- بيضة حديد و جنة وزنهما ثمانية و ثلاثون رطلا كما في ح 15.

7- بيضة حديد بدرهمين أو ثلاثة كما في ح 22.

و اما الأقوال فالمشهور هو الربع و ذهب الصدوق و ابن الجنيد الى الخمس و قال ابن أبي عقيل العماني باعتبار الدينار الكامل.

و هنا مشكلتان إحديهما الجمع بين

تلك الأخبار المختلفة بتعابيرها المتنوعة و كيفية حملها و الأخرى أنه على فرض اختيار ما دل على ربع الدينار مثلا يأتي البحث في أنه كيف يمكن ان يعلق الحكم بقطع اليد على شي ء يتغير قيمته بمضيّ الأزمنة و لا يبقى في الأعصار على حالة واحدة بل ربما يسقط عن كونه ثمنا و يصير كالعروض و الأمتعة و يعتبر مثمنا كما في الذهب فإنه صار في زماننا كالأجناس يباع و يعامل عليها.

أما بالنسبة إلى المقام الأول فنقول: إنه نسب في المسالك تحديد النصاب بربع دينار الى المذهب. قال: اختلفوا في مقدار فالمشهور بينهم أنه ربع دينار من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 71

الذهب الخالص المضروب بسكة المعاملة أو ما قيمته ربع دينار فلا قطع فيما دون ذلك. ثم استدل بالروايات الدالة على ذلك. ثم قال: و اعتبر ابن أبي عقيل دينارا فصاعدا و قال ابن بابويه يقطع في خمس دينار أو في قيمة ذلك و يظهر من ابن الجنيد الميل اليه. ثم قال: و المذهب هو الأول انتهى.

و مقتضى كلامه قدس سره ان القول بغير ذلك خلاف مذهب الشيعة كما أنه قد مرّ ادعاء الإجماع من جمع من أكابر الفقهاء على ذلك هذا مضافا الى أنه لا شبهة في كون هذا القول هو المشهور بين الأصحاب.

لكن ظاهر كلام العلامة المجلسي قدس سره تقوية القول بالخمس فإنه عند التعرض لصحيح محمد بن مسلم الدال على الخمس قال: حسن كالصحيح. ثم قال: و هذا الخبر و الخبر الآتي- خبر زرارة- يدلان على ما ذهب إليه الصدوق و ابن الجنيد و لعله أقوى دليلا من المشهور لكون الأخبار الواردة فيه أقوى سندا و أبعد من موافقة

العامة، إذا الأشهر بينهم هو ربع الدينار و لم أر قائلًا منهم بالخمس و لو كان فيهم قائل به كان نادرا فحمل أخبار الربع على التقية أولى من حمل اخبار الخمس على التقية كما فعله الشيخ في التهذيب مع أن السكوت في خبر سماعة و غيره يشعر بالتقية، قال محيي السنة: روى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: القطع في ربع دينار فصاعدا.

ثم قال: هذا حديث متفق على صحته. و روى أيضا عن ابن عمران أن رسول الله صلى الله عليه و آله قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثمأة دراهم. ثم قال: اختلف أهل العلم فيما يقطع فيه يد السارق فذهب أكثرهم إلى حديث عائشة، روى ذلك عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي عليه السلام و عائشة و هو قول عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الشافعي و قال مالك: نصابها ثلاثة دراهم و قال أحمد: إن سرق ذهبا فربع دينار و إن سرق فضة فثلاثة دراهم و إن سرق متاعا فإذا بلغت قيمتها ثلاثة دراهم أو ربع دينار.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 72

و ذهب قوم إلى أنه لا يقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم. روى ذلك عن ابن مسعود و إليه ذهب الثوري و أصحاب الرأي و قال قوم: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. انتهى.

ثم قال المجلسي: فظهر أن خمس الدينار أبعد الأقوال عما ذهبوا إليه و الله يعلم [1].

أقول: و على هذا فمن جهة الموافقة للعامة و مخالفتهم يكون الترجيح لروايات الخمس لأنه ليس بينهم قول بذلك بخلاف الربع فإن فرقة منهم قائلون به كما أن مراعاة عموم

الآية و أن ظاهرها هو قطع يد كل سارق و سارقة تقتضي الأخذ بالخمس حيث إنه أقرب إليه من الربع فإذا خصص بما دون الربع يكون النتيجة أنه يقطع إلا في ما دون الخمس بخلاف العكس فإنّه يفيد أنّه يقطع إلا في ما دون الربع و على الأوّل يكون التخصيص أقل من الثاني فإنه على الثاني لا يقطع ما دون الربع و بعبارة أخرى المقدار الفاصل بين الربع و الخمس يكون مشمولا للآية على إرادة الخمس و هو خارج عنها لو أخذ بالربع و قد تحقق في موضعه أن قلة التخصيص أولى من كثرته. هذا بالنسبة إلى خمس دينار.

و لكن في قبال ذلك، القول بربع دينار و هو و إن كان ربما يوافق التقية لذهاب فرقة من العامة اليه إلا أن له أيضا وجوها من الترجيح فأولا صراحة دلالة رواية محمد بن مسلم الناطقة بالربع و كونها معللة بأنه لو قطع مطلقا و إن كان أقل من

______________________________

[1] مرآة العقول ج 23 ص 343 ثم إنى أقول: إن الجزيري لم يذكر القول بالخمس في جملة أقوالهم فإنه في كتابه: الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 157 قال: الحنفية قالوا نصاب حد السرقة دينار أو عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة أو قيمة إحداهما. الشافعية قالوا نصاب السرقة ربع دينار أو ما يساويه من الدراهم و الأثمان و العروض فصاعدا فالأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار و هو الأصل أيضا في الدراهم فلا يقطع في الثلاثة دراهم إلا أن تساوى ربع دينار. الحنابلة قالوا إن كل واحد من ربع الدينار و الثلاثة دراهم مرد شرعي فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع. المالكية قالوا

نصاب حد السرقة ثلاثة دراهم مضروبة خالصة إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 73

ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين و بملاحظة أن الراوي و هو محمد بن مسلم كان بصدد الاستدلال بصدق العنوان و شمول الآية الكريمة لمن سرق أى مقدار كان، و قد أجابه الإمام عليه السلام بما يفيد أنه لا يؤخذ بظاهر إطلاق الآية و إنما يراد القدر الخاص.

و ثانيا ذهاب المشهور إليه.

و ثالثا أن رواياته أكثر، و العمدة هو كونه مشهورا و قد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام الأخذ بهذا الترجيح أولا ثم الترجيح بموافقة الكتاب و مخالفته حيث قال عليه السلام: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر، قلت:

فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه- الى أن قال:- قلت فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف الكتاب و السنة و وافق العامة إلخ.

و لذا قال في الجواهر بعد الاستدلال على المختار أي القول بربع دينار: خلافا للمحكي عن الصدوق من القطع بخمس دينار فصاعدا لقول أبي جعفر عليه السلام في صحيح محمد بن مسلم. (ح 3). و الصادق عليه السلام في صحيح الحلبي. (ح 12). بل و خبر إسحاق

بن عمار عنه عليه السلام. المحمولة على التقية أو اختلاف الدنانير أو على من راى الإمام عليه السلام المصلحة في قطعه أو غير ذلك بعد رجحان المعارض عليه من وجوه منها الشهرة العظيمة و الإجماعات المزبورة و كذا المحكى عن العماني من اعتبار الدينار و ان كان يشهد له صحيح

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 74

الثمالي: سأل أبا جعفر عليه السلام: في كم يقطع السارق؟ فجمع كفيّه و قال:

في عددها من الدراهم (ح 9). لكنه مخالف لبعض العامة و محتمل لكونها حينئذ قيمة ربع دينار و للقطع به لا عدم القطع بغيره و لغير ذلك مما لا بأس به بعد رجحان المعارض عليه من وجوه منها الاعتضاد بإطلاق السارق كتابا و سنة المقتصر في تقييده على المتيقن و هو الأقل من الربع أو الخمس كما عرفت و أضعف منها القول بالقطع بدرهمين و إن كنا إلخ.

و إن كان في بعض المواضع من كلامه نظر مثل ما ذكره بالنسبة إلى صحيح الثمالي من أن مقتضاه القطع بالدينار مثلا لا عدم القطع بغيره و ذلك لأنه عليه السلام ذكر ذلك في جواب السائل عما يقطع فيه فهو في مقام تحديد النصاب و تبيينه و ضبطه فكيف يقال بأنه لا يدل على عدم القطع بغير ذلك؟ و الحق أن الطرح من رأس خير من هذا الحمل و التوجيه، إلى غير ذلك؟

و على الجملة فالإجماعات المحكية و الشهرة المحققة توجب تقوية روايات الربع و القول به عند من يقول بتقوية الرواية بذلك و أن إعراض المشهور يسقطها عن الاعتبار و إن كانت بحسب السند في غاية الاعتبار، و موافقتهم تقوّيها و إن كانت في غاية الضعف

و السقوط.

فمع اشتمال كلتا الطائفتين بل و غيرهما على أخبار صحاح فكيف اشتهر القول بالربع بينهم و أعرضوا عن القول بخمس دينار خصوصا مع ملاحظة أن أخبار الخمس أوفق بالأخذ بمخالف العامة بخلاف القول بالربع. و أخبار الخمس أنسب بموافقة الكتاب لعدم التخصيص كثيرا في الآية بخلاف القول بالربع. فإن هذا مما يبعث في نفس الإنسان السؤال عن أن الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين الذين لا يزالون يؤكدون على الأخذ بما وافق الكتاب و طرح ما خالفه و على الأخذ بما خالف العامة كيف صاروا في هذا المقام إلى خلاف ما استقرت عليه طريقتهم في طول الأعصار و الأزمنة و هل هذا إلا لأنهم اعتمدوا جدا على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 75

أخبار الربع و كان عندهم ما يوجب الذهاب اليه من الأمر بذلك من ناحية من لا يرتضون مخالفته و تحقق عندهم صحة خصوص هذا الوجه دون غيره و المخالف معلوم النسب و لا يضر بذلك.

هذا مضافا إلى ظهور بعض أخبار الربع في أنه كان عمل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على ذلك و لا يزال كان صلوات الله عليه يجري عليه فراجع و دقّق النظر في الاخبار تجد صدق هذا المقال فيها ظاهرا.

ثم إنه حيث اختار بعض الأصحاب القول بالدينار أو خمسه فلا بد من أن يحمل كلام المسالك- بأن المذهب هو الربع- على المذهب الرسمي فلا ينافي في ذلك الأقوال النادرة التي كانت من بعض علماء الأصحاب.

ثم لو لم يمكن الاستظهار من الأدلة، و الروايات المختلفة و شكّ في الأمر فمقتضى قاعدة الدرء بالشبهة القول بالدينار لأن قطع يد الغير في غاية الأهميّة لا يقدم عليه الا مع القطع

بالجواز، و القدر المتيقن هو قطعها لأجل الدينار فإن الأقل منه مشكوك أن يقطع به بخلاف الدينار الكامل فإن القطع به مقطوع به هذا كما أنه لو أريد الاحتياط فالاحتياط أيضا يقتضي القطع للدينار و ما زاد عليه لا ما نقص عنه لأن الأول متيقن و الآخر مشكوك فيه.

و على الجملة فالنتيجة على الأخذ بقاعدة الدرء و كذا على الأخذ بالاحتياط واحدة و هي جعل الملاك الدينار.

ثم إن المعتبر على ما تقدم هو ربع دينار من الذهب المسكوك فإذا سرق ذلك تقطع يده مع الشرائط المعتبرة في القطع و هكذا في الحكم كل شي ء له مالية و كان يساوي قيمته ربع دينار بلا اختصاص بشي ء أصلا و ذلك لإطلاق الآية الكريمة: السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. و لذا:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 76

الضابط الكلّي

قال المحقق: ثوبا كان أو طعاما أو فاكهة أو غيره سواء كان أصله الإباحة أو لم يكن و ضابطه ما يملكه المسلم.

أقول: و قد أبدى قدس سره ضابطة كلية لما يقطع فيه و هو ما يملكه المسلم من أي جنس كان حتى و لو كان هو الماء في البلاد التي له قيمة.

و السر في ذلك عموم الآية الكريمة و عدم ثبوت التخصيص في أنحاء المال خلافا لما عن بعض العامة كأبي حنيفة حيث ذهب إلى عدم القطع في بعض هذه الأجناس. و قد ذكر في الجواهر بعد (الفاكهة). المذكورة في كلام المحقق: أو ملحا أو ماءا أو ثلجا أو ترابا أو طينا أو حيوانا.

و في المسالك: و نبّه بقوله: ثوبا كان أو طعاما أو فاكهة، كان أصله الإباحة أو لم يكن على خلاف أبي حنيفة حيث ذهب إلى أنه

لا قطع فيما كان مباح الأصل إلا في خشب الساج و الحق به بعضهم الآبنوس و الصندل و العود، و زاد آخرون الخشب المعمول كالسرر و الأبواب. و لا فيما كان رطبا أو متعرضا للفساد كالرطب و التين و التفاح و البقول و الرياحين و الشواز و الهريسة و الفالوذج و الشمع المشتعل إلخ.

و إنى لا أدرى أن أبا حنيفة و تابعيه كيف يوجّهون ما ذكروه من استثناء الأمور المذكورة و على أي شي ء اعتمدوا في افتائهم بذلك و إخراجهم الأمور المذكورة بل لا فرق بين ما إذا كان ما سرقه من المباحات الأصلية أو غيرها كما إذا كان قد وجد لصاحبه مملوكا من أول الأمر، كان في معرض الفساد أم لم يكن الى غير ذلك من الجهات التي ربما يتوهّم كونها موجبة لخروج موارد عن حكم السرقة فكل الموارد يشمله العام إلى أن يرد دليل و حجة على استثناء شي ء عنه و ليس في ما بأيدينا ما يوجب ذلك.

نعم قد وردت روايات في خصوص الطير و حجارة الرخام و استثنائهما عن إطلاق الآية فلا قطع في سرقتها لكنها غير نقيّة السند و مع ذلك غير معمول بها.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 77

رواية بسقوط الحدّ

قال المحقق: و في الطير و حجارة الرخام رواية بسقوط الحد ضعيفة.

أقول: و ليست رواية واحدة بل هي عدة روايات ففي باب 22 الذي عنونه في الوسائل بقوله: باب أنه لا يقطع سارق الطير عن الكافي. عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام أن عليا عليه السلام أتى بالكوفة برجل سرق حماما، فلم يقطعه و قال: لا أقطع في الطير (ح 1).

و فيه أيضا عن السكوني

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا قطع في ريش يعنى الطير كله (ح 2).

و في باب 23: عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا قطع على من سرق الحجارة يعني الرخام و أشباه ذلك (ح 1).

[قال في المصباح المنير: الرخام حجر معروف الواحدة رخامة انتهى. و ذكر هذا بعينه في مجمع البحرين. و عن الصحاح الرخام حجر أبيض. و في فرهنگ لاروس ج 1 ص 1055: الرخام سنگ مرمر الرخامة قطعه اى از سنگ مرمر].

قوله: و أشباه ذلك يراد به أشباه الرخام فيكون المراد الأحجار المعدنية و ان لم تكن رخاما و يحتمل ان يكون المراد أشباه الحجارة.

و عن الكافي. قال قضى النبي صلى الله عليه و آله فيمن سرق الثمار في كمّه فما أكلوا منه فلا شي ء عليه و ما حمل فيعزّر و يغرم قيمته مرتين (ح 2).

و عنه. قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا قطع في ثمر و لا كثر (ح 3).

و الكثر شحم النخل. و رواه الصدوق بإسناده إلى السكوني مثله إلا أنه قال:

و الكثر الجمار.

و عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أخذ الرجل من النخل و الزرع قبل أن يصرم فليس عليه قطع فإذا صرم النخل و حصد الزرع فأخذ قطع (ح 4).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 78

و عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا يقطع من سرق شيئا من الفاكهة و إذا مر بها فليأكل و لا يفسد (ح 5).

و عن الصدوق في وصية النبي صلى الله عليه و آله قال: يا علي لا قطع في ثمر

و لا كثر (ح 6).

و عن قرب الاسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: لا قطع في شي ء من طعام غير مفروغ منه (ح 8).

هذه هي الأخبار الواردة في المقام و لكن سندها ضعيف مضافا إلى تصريح الجواهر بأنه لا عامل بها، و على هذا فلا يعتمد عليها في الخروج عن إطلاق الآية الكريمة.

هذا كله مضافا إلى إمكان حملها على موارد فقدان شرط من شرائط القطع كما أن رواية غياث بن إبراهيم يمكن حملها على ما إذا لم يكن سرقة الحمام من الحرز و كذا في الروايات الأخر كلها أو بعضها يجرى ذلك الكلام كرواية فضيل بن يسار الدالة على عدم القطع في الأخذ من النخل أو الزرع قبل ان يصرم و أنه يقطع في النخل إذا صرم، و الزرع إذا حصد.

ثم إنّ ما ذكر من ترتيب الحكم على سرقة ما كانت قيمته ربع دينار، ظاهر رواية عبد الله بن سنان (ب 2 ح 2). حيث قال تبلغ قيمته مجنا و هو ربع دينار.

فإن من المعلوم أن المراد بلوغ قيمته قيمة المجنّ أي قيمة ربع دينار.

قال في الجواهر: و كيف كان فلا فرق فيه بين عين الذهب و غيره فلو بلغ العين ربع دينار وزنا غير مضروب و لم يبلغ قيمة المضروب فلا قطع لأن الدينار حقيقة في المسكوك منه فيحمل عليه إطلاقه الوارد في النصوص خلافا للمحكي عن الخلاف و المبسوط فلم يعتبر السكة و هو شاذ و لو انعكس بأن كان سدس دينار مصوغا قيمته ربع دينار مسكوكا قطع على الأقوى انتهى.

فالمعيار الكلى سرقة ما كانت قيمته ربع دينار من الذهب المسكوك بالسكة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص:

79

الرائجة من أي جنس كان ذهبا أو فضة أو نحاسا أو غير ذلك و لا خصوصية للذهب الخالص و لا للوزن اى ثمان عشر حمّصة بل يكفي قيمة هذا المقدار.

و يتفرّع على هذا أنه لو بلغ العين ربع دينار ذهبا غير مضروب لكن لم تبلغ قيمته قيمة المضروب فإنه لا يجوز قطع يده و الحال انه يقطع في عكسه و هو ما إذا كان سدس دينار قيمته ربع دينار مسكوك، لحصول ما هو الملاك أعني قيمة ربع دينار مسكوك الذي هو الدينار حقيقة و ليس مجرد ثمان عشر حمصة من الذهب بدينار و لا يطلق هو على غير المسكوك بالسكة الرائجة و هو صريح الجواهر خلافا للشيخ في الخلاف و المبسوط.

قال في الخلاف في المسألة الثانية من كتاب السرقة من الخلاف: إذا سرق ربع دينار من هذه الدنانير المعروفة المنقوشة وجب القطع بلا خلاف بيننا و بين الشافعي، و إن كان تبرأ من ذهب المعادن الذي يحتاج الى سبك و علاج فلا قطع، و إن كان ذهبا خالصا غير مضروب يقطع عندنا، و عنده على وجهين المذهب أنه يقطع، و قال أبو سعيد الإصطخري: لا يقطع لأنّ إطلاق الدينار لا يصرف اليه حتى يكون مضروبا و لأن التقويم لا يقع به. دليلنا عموم الأخبار التي وردت في أن القطع في ربع دينار و لم يفصّل. و ما قاله الشافعي من القول الآخر قويّ و يقوّيه أن الأصل براءة الذمة و الأول يقوّيه ظاهر الآية و قوله: إن إطلاق ذلك لا يصرف إلا إلى المضروب غير مسلّم. انتهى.

و ما أفاده قدس سره في محل المنع، و الحق هنا مع الإصطخري فإن إطلاق الدينار منصرف الى

المسكوك و هو المعيار في القيم فلا وجه لإنكار ذلك أو الترديد فيه.

و قال في المبسوط ج 8 ص 19: القدر الذي يقطع به السارق عندنا ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار من أي جنس كان فإن كان هذا المضروب المنقوش قطعناه به و إن كان تبرأ من ذهب المعادن الذي يحتاج إلى علاج و سبك فلا قطع عندنا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 80

و عند قوم و إن كان ذهبا خالصا غير مضروب فالأقوى عندي أنه يقطع به للخبر، و قال بعضهم لا يقطع لأن إطلاق الدينار لا ينصرف إليه حتى يكون مضروبا ألا ترى أن التقويم لا يقع إلا به. انتهى.

و فيه أيضا ما ذكرناه من أن مجرد الذهب الخالص لا يكفي في كونه دينارا حتى يكون ربعه قيمة ملاكا للقطع بل المعيار هو المسكوك منه بالسكة الرائجة على ما هو المتبادر منه فلا يجتزى بالذهب و لا بالسكة الرائجة و الا فالفضة أيضا من النقود الرائجة في الأسواق مع أنه ليس معيارا للقطع بل لا بد من أن يقاس هو أيضا بربع دينار قيمة و على الجملة فكل شي ء سرق يعتبر بالنسبة اليه و لو كان هو مقدارا من الذهب.

و اما بالنسبة للمقام الثاني فنقول: نعم إن ارتفاع قيمة الذهب بالسكة مختلف باختلاف الأعصار و الأزمان و ملاحظات الولاة و الحكام، و المسلم المقطوع به أنه لا يساوي قيمة مثقال من الذهب بلا سكة مثقالا من الذهب المسكوك و أما أنه بأي نسبة يكون هذا الارتفاع فهو غير معلوم. فالسكة المتعلقة بزمان القاجارية أغلى من السكة المتعلقة بعصر سائر السلاطين.

و حيث اختلف السكة و نسبة ارتفاعها على هذا

الوزن من الذهب الخالص فلا بد من أن يكون الملاك و المعيار عصر صدور الحكم كعصر النبي و الصادقين و الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين فإن تحقّق و ثبت لنا بحسب التأريخ نسبة ارتفاع السكة الرائجة في تلك الأزمنة ثلثا أو ربعا أو غير ذلك فيؤخذ به و تحاسب و تعتبر السكة في عصرنا على حسبها و إلا فلا بد من الاحتياط بأن لا يقدم على قطع الأيدي إلا مع العلم بحصول النسبة التي توجب القطع.

ثم إنه بعد ما تبين المعيار في المسروق فهناك لا فرق بين علمه بقيمته و عدمه و بين علمه بشخصه و عدمه و عليه فلو سرق زاعما أن ما سرقه فلس لكنه تبين كونه دينارا فإنه تقطع يده و كذلك إذا سرق ثوبا قيمته أقل من النصاب المزبور

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 81

لكن ظهر اشتماله على شي ء يبلغ النصاب و لو بضم الثوب إليه فإنه يقطع و ذلك لصدق الموضوع و هو سرقة النصاب و لو مع عدم القصد إلى ذلك.

و ما قد يتوهم- من عدم القطع حيث إنه لو كان عالما بأن ما يسرقه كان بحد النصاب لما أقدم على السرقة- غير صحيح و ذلك لأنه كان قاصدا إلى أصل السرقة و عازما على الإتيان بالحرام و هو موجب للعقاب، و عدم قصده الى النصاب لا يؤثر شيئا بعد ان كان قد قصد أصل الحرام و لا دليل على اعتبار قصد النصاب في القطع بسرقته أصلا.

و بذلك قد ظهر أنه لا مجال للتمسك بقاعدة الدرء أيضا فإنه لا شبهة بعد علمه بالسرقة و أنّ ما أتى به حرام [1].

يعتبر ان يكون محرزا

قال المحقق: و من شرطه

أن يكون محرزا بقفل أو غلق أو دفن، و قيل كل موضع ليس لغير مالكه الدخول إليه إلا بإذنه.

أقول: قد تعرض سابقا لاشتراط الحرز و هنا أيضا قد كرر ذلك و الظاهر أنه ليس له حقيقة شرعية يؤخذ بها بل هو أمر عرفي. قال في مجمع البحرين: الحرز بالكسر الموضع الحصين و منه سمّى التعويذ حرزا إلخ و اعتبر بعض كالمحقق في الحرز أن يكون محفوظا بقفل أو غلق أو دفن- أي دفن المال في الأرض مثلا- أو نحو ذلك مما يعدّ حرزا لمثله في العرف.

______________________________

[1] أقول: قد تقدم نظير ذلك عند قول المحقق: و كما يسقط الحد عن المكره يسقط عمن جهل التحريم أو جهل المشروب. فقد فسر الجواهر في ص 455 جهل المشروب بقوله: إنه من المحرم بل ظن أنه ماء أو شراب محلل بلا خلاف و لا إشكال في شي ء من ذلك. نعم لو علم الأول التحريم و لم يعلم أن فيه حد لم يعذر كما لا يعذر الثاني لو علم أنه من جنس المسكر و لكن ظن أن هذا القدر لا يسكر. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 82

و يدل على ذلك خبر السكوني عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا يقطع الا من نقب بيتا أو كسر قفلا- ب 18 ح 3- و خبر العياشي عن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال:

لا يقطع إلا من نقب بيتا أو كسر قفلا (ح 5).

و خالف في ذلك جمع منهم شيخ الطائفة فاكتفى في الحرز بمجرّد عدم جواز الدخول قال قدس سره في النهاية ص 714: و الحرز هو كل موضع لم يكن لغير المتصرف فيه الدخول اليه

إلا بإذنه أو يكون مقفّلا عليه أو مدفونا انتهى.

و قال في المبسوط ج 8 ص 22: إنّ أصحابنا قالوا إنّ الحرز هو كلّ موضع ليس لغير المالك أو المتصرّف فيه دخوله إلا بإذنه انتهى. و قال في التبيان ج 6 ص 513 عند شرح آية السرقة و تفسيرها: وحده أصحابنا بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول اليه و التصرف فيه إلا بإذنه فهو حرز انتهى.

و قال السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: و روى أصحابنا أن الحرز في المكان هو الذي لا يكون لغير مالكه أو مالك التصرف دخوله إلا بإذنه انتهى.

و قال السيوري في كنز العرفان ج 2 ص 350: يشترط أيضا الإخراج من حرز، و حدّه أصحابنا بأنه ما ليس لغير المالك الدخول إليه.

ترى أنهم نسبوا ذلك إلى الأصحاب و على هذا فلو منع صاحب الحمّام مثلا عن دخول أحد فهو حرز بالنسبة إليه دون الآخرين.

و أورد عليه في الجواهر بقوله: لكن فيه عدم الصدق عرفا على الدار التي لا باب لها أو غير مغلقة و لا مقفلة بل عن السرائر نفى الخلاف في عدم القطع بالسرقة منها و إن كان لا يجوز لأحد الدخول إليها إلا بإذن من المالك.

ثم إنه قد جمع ابن حمزة بين القولين فقال في الوسيلة ص 418: و الحرز كل موضع لا يجوز لغير مالكه الدخول فيه أو التصرف فيه بغير إذنه و كان مغلقا أو مقفلا. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 83

و يمكن أين يكون بصدد بيان أن نظر الشيخ أيضا إلى مورد كان له باب و غلق أو غير ذلك.

و قد صار العلامة أعلى الله مقامه بصدد توجيه كلام الشيخ فقال

في المختلف ص 769: و يحتمل أن يكون المراد بقوله: ليس لغير المتصرف الدخول فيه سلب القدرة لا الجواز الشرعي انتهى.

أقول: هذا خلاف الظاهر بل لعله مقطوع العدم فإن الظاهر من أنه ليس لغير المتصرف الدخول فيه، هو عدم الجواز شرعا لا عدم القدرة على الدخول فيه لكونه مقفّلا.

ثم إن صاحب الرياض قدس سره بعد أن حكى كلام الشيخ عن بعض آخر الذي نقلنا كلماتهم قال تأييدا له: و ربما كان في النصوص إيماء إليه و منها الصحيح المتقدّم المعلّل عدم قطع الرجل بسرقة مال ابنه و أخته و أخيه بعدم حجبه عن الدخول إلى منزلهم و ظاهر أن المراد من عدم الحجب حصول الإذن له في الدخول.

فمفهوم التعليل حينئذ أن مع عدم الإذن يقطع و هو عين هذا المذهب.

و أظهر منه القوى بالسكوني و صاحبه: كل مدخل يدخل فيه بغير اذن فسرق منه السارق فلا قطع فيه قال الراوي: يعني الحمّام و الأرحية.

و قريب منهما النصوص المتقدمة بعدم قطع الضيف و الأجير معللة بالاستئمان و ليس إلا من حيث الإذن في الدخول، فهذا القول غير بعيد لو لا ما أورد عليه جماعة و منهم الحلّي من النقض بالدور المفتحة الأبواب في العمران و صاحبها ليس فيها فإن السارق منها لا قطع عليه بلا خلاف كما في السرائر و لذا عن ابن حمزة أنه كل موضع لا يجوز لغير مالكه الدخول فيه أو التصرف بغير إذنه و كان معلقا أو مقفّلا.

و كأنّه حاول الجمع بين النصوص المزبورة و قويّة السكوني المتقدمة المتضمنة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 84

لأنه لا يقطع إلا من نقب أو كسر قفلا و لا بأس به، و مرجعه

إلى القول الأول كالقول بأن الحرز ما يكون سارقه على خطر من الاطلاع عليه، و عليه يختلف الحرز باختلاف الأموال وفاقا للأكثر فحرز الأثمان و الجواهر الصناديق المقفّلة و الأغلاق الوثيقة في العمران و حرز الثياب و ما خف من المتاع و آلات النحاس الدكاكين و البيوت المقفّلة في العمران أو خزائنها المقفّلة و إن كانت هي مفتوحة، و الإصطبل حرز للدوابّ مع الغلق و حرز الماشية في المرعى عين الراعي على ما تقرر و مثله متاع البائع في الأسواق و الطرقات و احترزنا بالدفن في العمران عما لو دفن خارجه فإنّه لا يعد حرزا و إن كان في داخل بيت مغلق لعدم قضاء العرف به مع عدم الخطر على سارقه. انتهى.

فقد أيّد كلام الشيخ و من قال بمقالته بأمور:

منها ما يومي اليه النصوص الدالة على عدم القطع بالأخذ من مال الابن و الأخت و الأخ كرواية أبي بصير (ب 18- ح 1). معللا بعدم الحجب الذي يراد منه الإذن فإنه يفيد أنه مع عدم الإذن تقطع يد الأخذ.

و منها رواية السكوني القوية ب 18- ح 2.

و منها النصوص الواردة في عدم قطع يد الضيف للاستيمان فإن كلها يدل على أن الملاك هو الإذن و عدمه و بذلك يرتفع الاستبعاد عن هذا القول لو لا النقض الذي أورده جماعة منهم الحلي. هذا و لكن أورد عليه في الجواهر بقوله: و فيه أن عدم القطع من هذه الجهة لا يقتضي عدمه أيضا من جهة أخرى و هو اعتبار كون المال في حرز، و لا ريب في عدم صدقه عرفا بمجرد المنع الشرعي عن الدخول كما هو واضح انتهى.

أقول: و يشهد لذلك أنه لو منع مالك الحمّام

شخصا مخصوصا عن الدخول فيه فعصى و دخل فيه و سرق فهل يلتزم أحد بجواز القطع لخصوص هذا الشخص بخلاف سائر الداخلين؟ كلا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 85

ثم إنه ذكر الشيخ في الخلاف مطلبا آخر في الحرز غير هذه الوجوه التي نقلناها فقال: في مسألة 6 من كتاب السرقة:

كل موضع كان حرزا لشي ء من الأشياء فهو حرز لجميع الأشياء و به قال أبو حنيفة و قال الشافعي: يختلف ذلك باختلاف الأشياء فحرز البقل و ما أشبهه من دكاكين البقالين تحت الشريحة المقفّلة و حرز الذهب و الفضة و الثياب و غيرها المواضع الحريزة من البيوت و الدور إذا كانت عليه أقفال وثيقة فمن ترك الجواهر أو الذهب أو الفضة في دكان البقل فقد ضيّع ماله لأنه ليس في حرز مثله.

ثم قال: دليلنا قوله تعالى: السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. و ظاهره يقتضي قطع كل سارق الا من أخرجه الدليل و أيضا النبي (ص). قطع من سرق رداء صفوان من تحت رأسه في المسجد و إن كان المسجد ليس بحرز و هذا الموضع أحرز منه. انتهى.

و اختار ذلك في المبسوط أيضا كما اختاره الحلّي و العلامة في التحرير أيضا.

و على ما ذكره لو سرق شي ء كالجواهر من مثل الإصطبل الذي هو حرز للحيوان فهو السرقة من الحرز و يقطع يد السارق.

و هذا خلاف الظاهر كما أورد عليه في الرياض بقوله: و هو كما ترى. و في الجواهر بقوله: لا يخفى عليك ما فيه، ضرورة اختلاف الحرز عرفا باختلاف المحرز فحرز الذهب و الفضة غير حرز الدابّة و الحطب و التبن و نحوها كما هو واضح. انتهى.

و مثل ذلك ما نقله في الرياض من

أن الحرز ما يكون سارقه على خطر من الاطلاع عليه و ذلك لأن من يختلس أموال الناس أيضا فهو على خطر من الاطلاع عليه فيشكل جعل ذلك أيضا ملاكا للحرز.

و قد تحصّل مما ذكرنا أن في المقام أقوالا مختلفة و آراء متشتّتة:

أحدها: قول الشيخ في النهاية و المبسوط و هو كون الملاك في الحرز هو المنع

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 86

الشرعي فكل موضع لا يجوز لغير مالكه الدخول فيه فهو حرز و اختار ذلك كثير من العلماء.

ثانيها: ما اختاره بعض كالمحقق و هو أن الحرز ما كان محفوظا بقفل أو غلق أو دفن أو غير ذلك.

ثالثها: الذي ذهب اليه ابن حمزة و هو أنه كل موضع لا يجوز لغير مالكه الدخول فيه و التصرف فيه بغير إذنه مع كونه مقفّلا أو مغلقا.

رابعها: ان ما صدق عليه أنه حرز لشي ء فهو حرز لجميع الأشياء.

خامسها: ما يكون سارقه على خطر من الاطلاع عليه، إلى غير ذلك مما ذكر في المقام ملاكا و معيارا للحرز، و الأول منها هو الميزان الشرعي دون البواقي.

و على الجملة فحيث إنه من الأمور العرفية و موكول الى نظر العرف فإن ثبت معيار محقق عرفي فهو و إلا كما هو الظاهر بمقتضى تلك الاختلافات و أنواع التعابير فلا بدّ من الاكتفاء بالقدر المتيقن فكلما قطعنا أنه حرز نحكم هنا بالقطع على من سرق منه و إلا فلا.

و لا يمكن التمسك بعموم آية السرقة لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

نعم ذكر بعض المعاصرين رضوان الله عليه- عند بحثه عن أنه إذا سرق باب الحرز أو شيئا من أبنيته المثبتة فيه قطع على تقدير الشك فالشبهة مفهومية و التقييد

منفصل فالمرجع هو الإطلاق بعد صدق السارق عليه حقيقة «1».

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 288.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 87

فيما ليس بمحرز

قال المحقق: فما ليس بمحرز لا يقطع كالمأخوذ من الأرحية و الحمامات و المواضع المأذون في غشيانها كالمساجد.

أقول: و من هذا القبيل الحسينيات و التكايا و أمثال ذلك من المواضع و الأماكن المأذون في دخولها كل أحد فإن السرقة منها لا توجب القطع و ذلك مقتضى اعتبار الحرز و اشتراطه في القطع على ما تقدم و مع ذلك فهنا اختلاف تراه:

إذا كان المالك مراعيا

قال المحقق: و قيل إذا كان المالك مراعيا له كان محرزا كما قطع النبي (ص). سارق مئزر صفوان في المسجد و فيه تردد.

أقول: القائل هو الشيخ قدس سره في المبسوط و الخلاف فإنه افتى بأنّ كون الشي ء تحت مراقبة المالك و مراعاته حرز و هو كاف في القطع. قال في الخلاف المسألة 7:

الإبل إذا كان مقطرة و كان سائقا لها فهي في حرز بلا خلاف و إن كان قائدا لها فلا تكون في حرز إلا الذي زمامه بيده و به قال أبو حنيفة، و قال الشافعي:

تكون في حرز بشرطين أحدهما أن تكون بحيث إذا التفت إليها شاهدها كلها، و الثاني أن يكون مع الالتفات إليه مراعيا لها. دليلنا أن كون ذلك حرزا يحتاج إلى دليل و لا دليل على ذلك.

و قال في المبسوط: و ان كان يسوق قطارا من الإبل أو يقودها و يكثر الالتفات إليها فكلها في حرز و قال قوم: إن الذي زمامه في يده في حرز دون الذي بعده، و الأول أصح عندنا «1».

______________________________

(1) المبسوط كتاب السرقة ص 45.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 88

و الذي استدل به على ذلك على ما ذكره المحقق هو قصة صفوان. كما انه ذكر في المسالك بعد ذكر قول الشيخ: و لهذا قطع

النبي (ص). سارق رداء صفوان بن أمية من المسجد مع كونه غير محرز الا بمراعاته و الرواية وردت بطرق كثيرة إلخ.

أقول: روى محمد بن علي بن الحسين قال: كان صفوان بن أمية بعد إسلامه نائما في المسجد فسرق ردائه فتبع اللص و أخذ منه الرداء و جاء به الى رسول الله صلى الله عليه و آله و أقام بذلك شاهدين عليه فأمر صلى الله عليه و آله بقطع يمينه فقال صفوان: يا رسول الله أ تقطعه من أجل ردائي؟ فقد و هبته له فقال عليه السلام: الا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ فقطعه فجرت السنة في الحد أنه إذا رفع إلى الإمام و قامت عليه البينة أن لا يعطّل و يقام «1».

و لا دلالة في هذا النقل على ما ذكره الشيخ رحمه الله.

و في طريق آخر عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يأخذ اللص يرفعه أو يتركه؟ قال: إنّ صفوان بن أمية كان مضطجعا في المسجد الحرام فوضع ردائه و خرج يهريق الماء فوجد ردائه قد سرق حين رجع إليه فقال:

من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (ص). فقال: اقطعوا يده فقال صفوان: يقطع يده من أجل ردائي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأنا أهبه له فقال رسول الله (ص). فهلّا كان هذا قبل أن يرفعه إليّ قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: نعم.

أقول: و هذا أيضا لا يصح التمسك به للمقام لأن المفروض المصرّح به أنه قد سرق منه حينما كان غائبا و قد خرج لإراقة الماء و لذا قال في الجواهر: و هو صريح في غيبة صفوان لا مراعاته.

قال في المسالك:

و في الاستدلال بهذا الحديث للقول بأن المراعاة حرز نظر

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 89

بيّن، لأن المفهوم منها و به صرّح كثير أن المراد بها النظر الى المال فإنّه لو نام أو غفل أو غاب زال الحرز فكيف يجمع الحكم بالمراعاة مع فرض كون المالك غائبا عنه؟

ثم قال: و في بعض الروايات: أنّ صفوان نام فأخذ من تحته. و الكلام فيه كما سبق، و إن كان النوم عليه أقرب الى المراعاة مع الغيبة عنه. و في المبسوط فرض المسألة على هذا التقدير و اكتفى في حرز الثوب بالنوم عليه أو الاتكاء عليه أو توسّده و احتجّ عليه بحديث صفوان فإنه سرقة من تحت رأسه من المسجد و إن كان متوسّدا فيه و هذا أوجه. انتهى.

أقول: قال الشيخ في المبسوط ص 42: و إن كان معه ثوب ففرشه و نام عليه أو اتّكأ عليه أو نام و توسّده فهو في حرز في أي موضع كان في البلد أو البادية لأن النبي صلى الله عليه و آله قطع سارق رداء صفوان و كان سرقه من تحت رأسه في المسجد لأنه كان متوسّدا له فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز.

هذا و هنا إشكال آخر في جعل المراعاة حرزا و ذلك لأن السارق إن أخذ المال مع نظر المالك إليه فقد تحققت المراعاة و لم يحصل الشرط و هو أخذه سرا و إنما يكون مستلبا غاصبا و هو لا يقطع يده و إن كان مع الغفلة عنه لم يكن محرزا بالمراعاة. و في المسالك بعد ذلك: فظهر أن السرقة لا تتحقق مع المراعاة

و إن جعلناها حرزا و هذا هو الوجه.

و احتمل في الجواهر بعد الإشكال بأنه صريح في غيبة صفوان: و يمكن حمله على أنه قد أحرزه حال خروجه لإراقة الماء.

و فيه أنه خلاف الظاهر من لفظ الخبر.

ثم إن المحكى عن ابن أبي عقيل هو أن السارق يقطع من أي موضع سرق من بيت أو سوق أو غير ذلك و رواية صفوان على الوجه المروي تصلح دليلا على مذهبه كذا في المسالك إلا أنه يرد عليه كما في الجواهر بأنه مناف لاعتبار الحرز نصا و فتوى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 90

و قد حمل الصدوق قدس سره رواية صفوان على أنه قد سرق السارق الرداء فأخفاه و لذلك فقد قطع النبي (ص). يده و لو لم يخفه لعزّره فإنه لا قطع من المواضع التي يدخل إليها بغير إذن كالحمامات.

و في المسالك: و بعض العلماء فسّر الحرز بما على سارقه خطر لكونه ملحوظا غير مضيّع إمّا بلحاظ دائم أو بلحاظ معتادة و على هذا يتوجّه الحكم في الرواية بقطع سارق الرداء لأن سارقه في المسجد على خطر من أن يطّلع عليه و هذا التفسير متوجه و مناسب لما يقتضيه النظر من كون المراعاة بالعين حرزا في مجامعته لإمكان سرقته بمغافلة المالك إذ لا يشترط فيه دوام النظر بل المعتاد منه المجامع للغفلة على وجه يمكن سرقته منه و إلى هذا ذهب الشيخ في موضع من المبسوط و إن اختار الأول في مواضع انتهى.

أقول: و فيه ما أورده في الجواهر من أنه مختلس عرفا لا سارق يقطع.

قال في مجمع البحرين- في مادة خلس- لا يقطع المختلس و هو الذي يأخذ المال خفية من غير الحرز. و المستلب

هو الذي يأخذه جهرا و يهرب مع كونه غير محارب يقال: خلست الشي ء خلسا من باب ضرب اختطفته بسرعة على غفلة انتهى.

و قد تقدم أن كونه على خطر من أن يطّلع عليه يجري في موارد لا يحكم فيها بالسرقة كما في الأماكن المعدّة للعموم المأذون في دخولها للكل و عامّة الناس، فإن فيه خطر اطلاع صاحب المال أو غيره عليه فالحق هو أنه لا يعد المراقبة حرزا و لا أقل من الشك في تحقق شرط القطع و هذا بنفسه كاف في عدم الجواز لأن المشروط بشي ء لا بدّ من إحراز شرطه فلا حاجة إلى أصل العدم على ما في الجواهر و ذلك لما تقدم من أن الشرط لا بد و أن يحرز.

و أما التمسك بعموم آية السرقة ففي الجواهر أنه لا يجدي ذلك بعد العلم بتقييد السارق بالحرز. يعني أنه من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فلا يجوز القطع حتى يقطع بالجواز.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 91

نعم مقتضى ما افاده بعض المعاصرين- و قد تقدم آنفا- جواز التمسك به و ذلك لأن المفهوم مجمل و المخصّص منفصل فيؤخذ بالقدر المتيقن من التخصيص و يتمسك فيما بقي بعموم العام.

ثم إنه قد اتضح أن المحقق اختار عدم القطع في المأخوذ من الأماكن المزبورة و نقل قولا بكفاية المراعاة في صدق الحرز و جواز القطع. لكن تردّد فيه بل منعه صاحب الجواهر و علل ذلك بقوله: ضرورة عدم صدق الحرز عرفا على ذلك بل لعله من المختلس الذي لا يقطع كما سمعته في النصوص السابقة و لا أقل من الشك في كونه سارقا أو مختلسا فيدرأ الحد عنه مضافا إلى خبر السكوني السابق إلخ.

و

الخبر هذا: عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: كل مدخل يدخل فيه بغير إذن فسرق منه السارق فلا قطع فيه يعني الحمامات و الحانات و الأرحية. و رواه الصدوق بإسناده عن النوفلي و زاد:

و المساجد «1».

و ظاهره بمقتضى الإطلاق هو أنه لا يقطع في تلك الموارد سواء كانت تحت مراعاة المالك و مراقبته أم لا.

ثم إنك قد علمت أنّ المحقق قد ذكر من الشرائط أن يكون محرزا بقفل أو غلق أو دفن فجعل الدفن أيضا من الحرز. و قد قيّد ذلك بعض كصاحب الرياض بالعمران، و احترز به عما إذا دفن في خارجه فإنه لا يعدّ حرزا و إن كان في داخل بيت مغلق لعدم قضاء العرف به مع عدم الخطر على سارقه.

و قد نبّه على ذلك في الجواهر أيضا ثم أورد عليه بمنع عدم الصدق عرفا مع عدم العلم بالدفن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 92

سارق ستارة الكعبة

قال المحقق: و هل يقطع سارق ستارة الكعبة؟ قال في المبسوط و الخلاف: نعم و فيه إشكال لأن الناس في غشيانها شرع.

أقول: قال الشيخ في الأول: من سرق من ستارة الكعبة ما قيمته ربع دينار كان عليه القطع عندنا إذا كانت مخيطة على الكعبة و قال قوم: لا قطع في ستارة الكعبة و روى أصحابنا أن القائم عليه السلام إذا قام قطع بني شيبة و قال: هؤلاء سرّاق الله، فدل ذلك على أن فيه القطع. انتهى «1».

و قال في الثاني: من سرق من ستارة الكعبة ما قيمته ربع دينار وجب قطعه و به قال الشافعي و

قال أبو حنيفة: لا قطع في جميع ذلك. دليلنا الآية و الخبر و هما على عمومهما و روى أصحابنا أن القائم إذا قام قطع أيدي بني شيبة و علّق أيديهم على البيت و نادى مناديه: هؤلاء سرّاق الله و لا يختلفون في ذلك. و روى أن سارقا سرق قبطيّة من منبر رسول الله (ص). فقطعه عثمان و لم ينكر ذلك أحد.

انتهى «2».

و ظاهر كلامه الأول أن كونها مخيطة على الكعبة أوجب كونها حرزا فيقطع يد السارق.

و كيف كان فالذي تمسك به في الحكم بالقطع عموم الآية و الروايات الدالة على القطع و خصوص رواية قطع أيدي بني شيبة [1].

______________________________

[1] أقول: في الوسائل ج 9 باب 22 من أبواب مقدمات الحج ح 3 عن ابن أبي حمزة قال يحج القائم عليه السلام يوم السبت يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام و يقطع أيدي بني شيبة و يعلقها في الكعبة.

و في ح 9 عن جعفر بن محمد: إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم- يعني بني شيبة- فقطع أيديهم و طاف بهم و قال: هؤلاء سراق الله.

______________________________

(1) المبسوط كتاب السرقة ص 33.

(2) الخلاف باب الحدود ص 163 مسألة 22.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 93

أقول: إن روايات قطع أيدي بني شيبة لا دلالة لها على المطلب بعد عدم كون ستارة الكعبة مما أحرز فإمّا أن تحمل الروايات على أنهم كانوا يسرقون أموال الناس و الزائرين مما أحرز في المسجد الحرام.

و إن كان يرد عليه أنّ من شرائط الحرز هو أن لا يكون بيد السارق فلو غصب غاصب دار غيره ثم أخذ ما فيها فليس هو بسارق. فإذا كانت حضانة البيت بأيدي بني

شيبة غصبا فأخذ ما فيه ليس من السرقة.

و إمّا أن تحمل على أنهم اغتصبوا الحق من بني هاشم و أخذوها من بداية الإسلام و من أوّل يوم من صاحبه و وليّ أمر المسلمين، و من يؤول أمر تلك المشاهد المشرفة و الأماكن المقدسة إليه و تصدوا بأنفسهم هذا المنصب الشريف فيكون إطلاق سرّاق الله عليهم من باب المجاز و الكناية فقطع أيديهم لمكان إفسادهم و اغتصابهم أمر الحرم الشريف و على هذا ليس قطع أيدي بني شيبة بيد الحجة عجل الله تعالى فرجه لأجل السرقة المصطلحة.

هذا مضافا إلى أن ستارة الكعبة ليست مملوكا لأحد فكيف يقطع سارقها إلا أن يمنع اعتبار المالك الشخصي و يقال بالاجتزاء بملك الجهة- كما في الوقف- في صدق السرقة و ترتيب أحكامها و على الجملة كيف يستدل بها على أن سرقة ستارة الكعبة توجب القطع بعد أنّها لم تكن في حرز عرفا و أنها ليست مملوكة لأحد من الناس [1].

______________________________

و في ح 13 عن عبد السلام عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: بأي شي ء يبدأ القائم منكم إذا قام؟

قال: يبدأ ببني شيبة فيقطع أيديهم لأنه- لأنهم ظ- سراق بيت الله تعالى. و في ح 6 أيضا ما يناسب المقام.

[1] أقول: و في دفتر مذكرات سيدنا الأستاذ الأكبر، هنا: اللهم إلا أن يقال بذلك بإطلاق الأدلة فيتجه حينئذ القطع مع فرض إحراز الشرائط التي فرضها في ستارة الكعبة و معلقات الحضرات المشرفة بأن يهتك حرزها المعلق عليها أو يثقب أو يتسلق إليها كما وقع في زماننا في روضة أمير المؤمنين و سيد الوصيّين عليه السلام. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 94

و قد استشكل المحقق أيضا في قطع

سارق ستارة الكعبة معللا بأن الناس في غشيانها شرع.

و في المنجد: الشرع و الشرع المثل. يقال: الناس في هذا شرع واحد. و هم في هذا شرع أي سواء و هما شرعان أي مثلان.

و في مجمع البحرين: و في الحديث: الغلام و الجارية شرع سواء. هو مصدر يستوي فيه الواحد و الاثنان و الجمع و المذكر و المؤنث و تفتح الراء و تسكن أي متساويان في الحكم لا فضل لأحدهما على الآخر. و قوله: شرع سواء كأنه من عطف البيان لأن الشرع هو السواء إلخ.

و على هذا فيكون السرقة منها كالسرقة من الحمامات و لا تكون حينئذ من الحرز و قد حكى عن ابن إدريس الجزم بالعدم لذلك.

هذا بالنسبة لقصة بني شيبة و أما العمومات كتابا و سنة فهي مخصصة بأدلة الحرز على ما مر.

و أما ما ذكره في الخلاف من قطع سارق القبطية و هي ثياب من كتّان منسوبة إلى القبط. و حيث انه صدر من عثمان فيمكن أن يكون قد استفاد هو أنّ الملاك هو كونه محل خطر فلذا أقدم على قطع يده و إلا فهناك أيضا يجري الإشكال.

السرقة من جيب الإنسان أو كمّه

قال المحقق: و لا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمّه الظاهرين و يقطع لو كانا باطنين.

أقول: و في الجواهر: على المشهور بين الأصحاب بل في كشف اللثام إنهم قاطعون بالتفصيل المزبور كما عن غيره نفي الخلاف فيه بل عن الشيخ و ابن زهرة الإجماع عليه.

و مستند ذلك روايتان

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 95

إحديهما عن مسمع أبي سيّار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام أتى بطرّار قد طرّ من رجل من ردنه دراهم قال:

إن كان طرّ من قميصه الأعلى لم نقطعه و إن كان طرّ من قميصه الأسفل قطعناه «1».

و الأخرى رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام بطرّار قد طرّ دراهم من كمّ رجل قال: ان كان طرّ من قميصه الأعلى لم أقطعه و إن كان طرّ من قميصه السافل «الداخل» قطعته «2».

و مقتضاهما أن الملاك في الظاهر و الباطن هو الثوب الظاهر و الباطن فإذا سرق من الثوب الباطن أى الأسفل فهناك يقطع سواء كان من ظاهره أو باطنه و إذا سرق من الثوب الظاهر أي الأعلى فلا يقطع و إن سرق من جيبه الباطن. و الظاهر أن ذلك من باب مصداق الحرز فان الثوب الأسفل مصداق للحرز دون الظاهر كما أن للباطن مصونية عند العرف لعدم كونه في متناول السارقين و على الجملة فليس هذا تقييدا.

و قد ظهر من الروايتين أن الظاهر و الباطن صفتان للثوب لا للجيب و الكم و إن احتمل ذلك في بعض الكلمات و ذلك لجعلهما صفة للقميص فيهما هذا مضافا الى أن الظاهر و الباطن لا يتحققان في الكم و ان كانا يتحققان في الجيب.

قال الشيخ: من سرق من جيب غيره و كان باطنا بأن يكون فوقه قميص آخر أو من كمه و كان كذلك كان عليه القطع و إن سرق من الكم الأعلى أو الجيب الأعلى فلا قطع عليه سواء شده في الكم من داخل أو من خارج و قال جميع الفقهاء: عليه القطع و لم يعتبروا قميصا فوق قميص الا أن أبا حنيفة قال: إذا شده في كمه فإن شدّة من داخل و تركه من خارج فلا قطع عليه و إن

شدّه من خارج و تركه من داخل فعليه القطع، و الشافعي لم يفصل.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 226 و الردن بالضمّ أصل الكمّ.

(2) الكافي ج 7 ص 226، و راجع الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 96

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضا الأصل براءة الذمة و أيضا ما ذكرنا مجمع على وجوب القطع فيه و ما ذكروه ليس عليه دليل انتهى «1».

ثم إن بذلك يجمع بين سائر روايات الباب فإنها بين مطلق في قطع الطرّار و مطلق بعدم قطعه.

فمن الأول ما رواه منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يقطع النباش و الطرار و لا يقطع المختلس «2».

و من الثاني رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

ليس على الذي يستلب قطع و ليس على الذي يطرّ الدراهم من ثوب قطع «3».

و رواية عيسى بن صبيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الطرّار و النباش و المختلس قال: لا يقطع [1].

و نتيجة الجمع و الحمل أن النافي متعلق بالظاهر، و المثبت متعلق بالباطن و لكن حيث إنّا قد استفدنا أن ذكر اللباس الباطن كان من باب صعوبة الأخذ منه فهو حرز بخلاف اللباس الظاهر فإنه يسهل الأخذ منه عرفا فلذا قد يكون الثوب الظاهر أيضا من الحرز كما إذا أخذ من الجيب الذي كان في باطن هذا الثوب خصوصا إذا كان قد شدّه هناك.

و لو شكّ في كونه حرزا أم لا فالأمر على ما تقدم في أشباهه و نظائره من أنه على رأي مثل صاحب الجواهر لا بد من الاحتياط

لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية خلافا لما يقوله بعض من كونه من باب الشبهة المفهومية فيؤخذ بالمتيقن من المخصص اي عدم الحرز و يتمسك فيما سواه بالعام.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب السرقة ح 4، ثم ان الطرّ هو الشق و القطع كما عن الصحاح و منه الطرّار.

______________________________

(1) الخلاف المسألة 51 من باب السرقة.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب السرقة ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 97

لا يقال: إن إجمال القيد يسرى الى المطلق فلم يكن إطلاق بعد ذلك.

لأنا نقول: إن هذا جار في المخصّص المتصل دون المنفصل، و ما نحن فيه كذلك.

ثم إنه قد أورد في المسالك على رواية مسمع و رواية السكوني بقوله: و في الروايتين ضعف.

و فيه مضافا الى عدم تسلم ذلك في رواية السكوني كما قد عبّر عنها في الجواهر بالقوى، أنّ ضعفهما منجبر بالشهرة المحققة بين الأصحاب و الإجماع المحكى و غير ذلك مما تقدم.

سرقة الثمرة

قال المحقق: و لا قطع في ثمرة على شجرها و يقطع لو سرق بعد إحرازها.

أقول: هنا قد فصل بين ما إذا كانت الثمرة على الشجرة و ما إذا اقتطفت و أحرزت فلا يقطع في الأول و يقطع في الثاني، و لم يفصل بين كون الشجر ذات الثمرة في الحرز بقفل أو غلق أو غير ذلك و عدمه (فقد يكون الشجرة المثمرة في بستان له باب مقفل). كما أنه قد قيد الثمرة المقتطفة بكونها في حرز حتى يقطع لأجلها. و لم يتعرض لما إذا اقتطفت لكنها كانت تحت الشجرة و لم تحمل إلى مكان

حريز.

إلا أن يقال بأن الغالب في النخيلات الكثيرة هو كونها في أراضي بلا جدار و لا باب. و في المسالك بعد هذه العبارة من المحقق: هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب وردت به الأخبار الكثيرة و قد تقدم بعضها، و ظاهر عدم الفرق بين كون الثمرة على الشجرة و بين المحرزة بغلق و نحوه و غيرها و هي على إطلاقها مخالفة للأصول المقررة في الباب إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 98

و قد خالف في هذا الحكم العلامة في القواعد حيث إنه بعد الحكم بعدم القطع في ثمرة على شجرها بل بعد قطعها و إحرازها قال: و لو كانت الشجرة في موضع محرز كالدار فالأولى القطع مطلقا انتهى [و تبعه على ذلك ابنه فخر الدين في الشرح].

و في الجواهر قال في شرح الفرع الثاني من الفرعين في المقام: لا خلاف فيه و لا إشكال إنما الإشكال في إطلاق عدم القطع بالأول الذي مقتضاه ذلك حتى مع الإحراز بغلق و نحوه بقوة انصراف الإطلاق نصا بل فتوى إلى ما هو الغالب من عدم الحرز لها في حال كونها على الشجرة- و هنا أيّد ذلك بكلام العلامة في القواعد و تبعية ولده له- ثم قال:

و ربما يؤيده مضافا إلى عموم الأدلة خصوص خبر إسحاق عن الصادق عليه السلام في رجل سرق من بستان عذقا قيمته درهمان قال: يقطع بناء على أنهما ربع دينار و قد سرق من الحرز مضافا إلى ضعف سند النصوص المطلقة و لا شهرة محققة جابرة على وجه يخص بها إطلاق ما دل على القطع بسرقة ما في الحرز كتابا و سنة فالأولى حينئذ التفصيل كما في المسالك و الروضة و غيرهما

انتهى.

و كيف كان فالروايات الواردة في المقام التي أوردها في باب 23 على قسمين:

قسم مطلق و قسم مقيّد.

فمن الأول خبر السكوني عن أبي عبد الله قال: قضى النبي صلى الله عليه و آله فيمن سرق الثمار في كمه فما أكلوا منه فلا شي ء عليه و ما حمل فيعزّر و يغرم قيمته مرتين (ح 2).

و عنه قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا قطع في ثمر و لا كثر، و الكثر شحم النخل (ح 3).

و عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أخذ الرجل من النخل و الزرع قبل أن يصرم فليس عليه قطع فإذا صرم النخل و حصد الزرع فأخذ قطع (ح 4)

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 99

و عن الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا يقطع من سرق شيئا من الفاكهة و إذا مر بها فليأكل و لا يفسد (ح 5).

و في وصية النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام قال: يا علي لا قطع في ثمر و لا كثر (ح 6).

و اما الثاني فهو خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل سرق من بستان عذقا قيمته درهمان قال: يقطع به (ح 7).

فالمطلقات الدالة على عدم القطع تحمل بقرينة هذا الخبر الأخير [1]. على ما إذا لم يكن هناك حرز فاذا كانت الشجر محرزا فلا بد من أن يكون السرقة منها موجبة للقطع. كما و انّ أدلة الحرز أيضا تقتضي ذلك اي تقييد المطلقات و الحكم بالقطع في فرض كون الشجر محرزا.

السرقة في عام مجاعة

قال المحقق: و لا على من سرق مأكولا في عام مجاعة.

أقول: ظاهر إطلاقه بالنسبة

للمأكول عدم الفرق بين كونه كذلك بالفعل أو بالقوة كما أنه قال الشهيد الثاني في المسالك: و المراد بالمأكول الصالح للأكل فعلا أو قوة كالخبز و اللحم و الحبوب انتهى. كما أن مقتضى حكمه بعدم القطع في عام المجاعة هو موضوعية عام المجاعة و أن تمام الملاك و المناط هو كون العام كذلك بلا فرق بين اضطرار السارق إلى السرقة و عدمه فلا يقطع السارق في عام المجاعة مطلقا مضطرا كان أو غير مضطر بأن كان متمكنا لكن بثمن غال مثلا.

قال في المسالك: و مقتضى إطلاقه كغيره عدم الفرق بين المضطر و غيره فلا يقطع السارق في ذلك العام مطلقا عملا بالنصوص و هي إلى آخر كلامه.

______________________________

[1] أقول: كيف يقال بتقييد المطلقات برواية إسحاق بن عمار و الحال أن ذكر القيد فيها ليس من كلام الإمام على ما هو الظاهر منها و إنما هو من سؤال الراوي؟

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 100

أقول: إنّ حمل النصوص على ما هو وفاق القاعدة يوجب ارادة خصوص المضطر و صورة الاضطرار كما أنّ ذلك أيضا مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع، و الظاهر من مفهوم المجاعة المأخوذ من الجوع.

و على الجملة فيبعد في النظر جريان الحكم على من سرق في عام المجاعة و إن لم يكن مضطرا و ذلك لأن السارق المتمكّن في عام المجاعة كالسارق في غير عام المجاعة.

كما و ان صاحب الجواهر أيضا ناقش في شمول النصوص للمضطر و غيره بعدم انسباق الثاني منه قال: نعم يدخل فيه المشتبه حاله.

و لكن مع ذلك كله يمكن توجيه الإطلاق و حمل النصوص على خلاف القاعدة فإنّ ذلك أيضا لا يخلو عن وجه. بيانه أنّه يمكن أن يكون

الشارع بلحاظ كون العام عام مجاعة و أنّ نوع الناس و أكثرهم في مضيقة العيش و ضنك من الحياة راعي مصلحة عامّة الناس و رفع حكم القطع بنحو العموم حتى عن المتمكن فيكون من باب التفضّل لمصلحة العامة بلا فرق بين المضطر و غيره.

و في كلام الشيخ التفصيل بين وجود الطعام مع ثمن غال فيقطع و تعذره فلا يقطع.

فقال في الخلاف: روى أصحابنا أن السارق إذا سرق عام المجاعة لا قطع عليه و لم يفصلوا و قال الشافعي: إن كان الطعام موجودا مقدورا عليه و لكن بالثمن الغالي فعليه القطع و إن كان القوت متعذرا لا يقدر عليه فسرق سارق طعاما فلا قطع عليه، دليلنا ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لا قطع في عام مجاعة و روى ذلك عن عمر أنه قال: لا قطع في عام مجاعة لا قطع في عام السنة و لم يفصلوا «1».

و قال في المبسوط: إن سرق في عام مجاعة و قحط فإن كان الطعام موجودا

______________________________

(1) الخلاف كتاب السرقة المسألة 27.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 101

و القوت مقدورا عليه لكن بالأثمان الغالية فعليه القطع و إن كان القوت متعذّرا لا يقدر عليه فسرق سارق فأخذ الطعام فلا قطع عليه و روى عن علي عليه السلام أنه قال: لا قطع في عام المجاعة و روى: لا قطع في عام السنة انتهى «1».

و هو و إن فصل بين كون الطعام موجودا مقدورا عليه لكنّه يحتاج إلى الأثمان الغالية و بين كون الطعام متعذرا لا يقدر عليه فحكم بالقطع في الأول دون الثاني إلا أنّ الظاهر أنّ التعذر لفقدان الثمن الغالي و عدم القدرة عليه

أيضا يكون كتعذر الطعام.

و لنراجع روايات المقام. فعن زياد القندي عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع السارق في سنة المحل [المحق] في شي ء مما يؤكل مثل الخبز و اللحم و أشباه ذلك «2».

و رواه الصدوق بإسناده عن زياد بن مروان القندي مثله إلا أنه قال: و اللحم و القثاء.

و عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع السارق في عام سنة يعني عام مجاعة «3».

و عن عاصم بن حميد عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام لا يقطع السارق في أيام المجاعة «4».

و عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لا يقطع السارق في عام سنة مجدبة- يعني المأكول دون غيره «5».

ترى أن الأخبار كلها مطلقة من جهة الاضطرار التمكن لكنا نقول هنا ما قلناه

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 33.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 25 من أبواب حد السرقة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 25 من أبواب حد السرقة ح 2.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 25 من أبواب حد السرقة ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 25 من أبواب حد السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 102

بالنسبة لعبارة المحقق من أن الظاهر ارادة خصوص المضطر لما تقدم و إن ذكرنا أيضا ما يوجه به الإطلاق.

نعم يبقى في المقام إشكال و هو أنه لو كان المراد هو المضطر فإذا لا فرق بين عام المجاعة و غيرها فان بالاضطرار يرتفع التكليف سواء كان في عام المجاعة أم لا.

و يمكن دفعه بأن ذكر عام المجاعة لإراءة مصداق من مصاديق الاضطرار [1].

هذا

من جهة الاضطرار و عدمه.

و اما من حيث المأكول و غيره فبعض هذه الأخبار مطلقة و هو خبر السكوني و خبر عاصم بن حميد و رواية السكوني الأخيرة فإن الظاهر أن جملة: يعني في المأكول دون غيره، من كلام الشيخ الصدوق رضوان الله عليه تفسيرا و بيانا للرواية.

و لكن مرسل زياد القندي مقيد بما يؤكل فلذا يحمل المطلقات على المقيد كما صرح بذلك في المسالك أيضا.

و إن كان قد استشكل عليه في الجواهر بقوله: و فيه أنه لا يتأتى على وجه يقتضي التقييد. انتهى.

لكنا لم نتحقق المراد منه بعد أن رواية القندي متضمنة لقوله: في شي ء يوكل، و هو كالمقيد بالنسبة إلى الروايات الأخرى المطلقة، و المشهور هو الحكم بعد القطع في خصوص المأكول لا مطلقا [2].

______________________________

[1] أقول: و قد أجاب في الروضة عن هذا الإشكال بطريق آخر فإنه بعد أن نفى البأس عن قول بعضهم بالتقييد قال: نعم لو اشتبه حاله اتجه عدم القطع أيضا عملا بالعموم و بهذا يندفع ما قيل إن المضطر يجوز له أخذه قهرا في عام المجاعة و غيره لأن المشتبه حاله لا يدخل في الحكم مع أنا نمنع جواز أخذ المضطر له قهرا مطلقا بل مع عدم إمكان إرضاء مالكه بعوضه كما سبق و هنا الثابت الحكم بكونه لا يقطع إذا كان مضطرا مطلقا و ان حرم عليه أخذه فالفرق واضح. انتهى

[2] أظن أن علة اشكال الجواهر أنه يحتمل ان يكون المراد من أشباه ذلك هو غير المأكول لا أن يكون المشار اليه هو الخبز و اللحم. و قد ذكرت في مجلس الدرس لكن سيدنا الأستاذ الأكبر لم يقبل ذلك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 103

و في

الرياض: و إطلاقها و إن شمل سرقة المأكول و غيره إلا أنه مقيّد بالأول بالاتفاق على الظاهر و ظاهر الخبر: لا تقطع السارق في سنة المجاعة في شي ء مما يؤكل. و أظهر منه آخر مرويّ في الفقيه: لا يقطع السارق في عام سنة مجدبة يعني في المأكول دون غيره، فتأمل.

و قد أورد عليه صاحب الجواهر بقوله: الظاهر أن ذلك من الصدوق لتخيل كونه المستفاد من النصوص لا أنه رواية عن الإمام عليه السلام و حينئذ فالتعميم أولى. انتهى.

أقول: سلمنا ذلك أي كون التفسير من الصدوق لا من الإمام، و لكن ما يصنع برواية زياد القندي الناطقة بذلك [1].

ثم بعد أن ثبت أن المراد هو خصوص المأكول فنقول: لا فرق في ذلك بين كونه مأكولا بالفعل أو بالقوة كما صرح بذلك الشهيد الثاني في المسالك و الروضة فجعل المراد الصالح للأكل قوة أو فعلا [2].

خلافا لصاحب الجواهر حيث قال بأنه لو قلنا بالتقييد بالمأكول لا ينسبق غير المأكول فعلا من الخبر، كالحبوب و نحوها قال: و الأصل في ذلك أن الحكم مخالف لإطلاق الأدلة فالمناسب الاقتصار فيه على المتيقن.

أقول: الحق ما أفاده الشهيد الثاني فإنه قد استند في ذلك إلى رواية القندي المشتملة على اللحم أيضا الظاهر في المأكول لا بالفعل بل بالقوة و لا أقل من كونه على قسمين المطبوخ المأكول بالفعل و غيره المأكول بالقوة فمقتضى الخبر هو العموم فيشمل المأكول بالقوة أيضا.

______________________________

[1] أقول: إنه بعد أن استشكل صاحب الجواهر أولا في دلالة هذا الخبر لا وجه للإشكال عليه بذلك.

[2] قد تقدم نقل عبارته في المسالك و اما كلامه في الروضة: و المراد بالمأكول هنا مطلق المأكول قوة أو فعلا كما ينبه عليه المثال

في الخبر راجع ج 2 ص 356.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 104

نعم يراد منها القوة القريبة لا البعيدة و ذات الوسائط الكثيرة، و كلما صار موردا للشبهة فقاعدة الدرء تقتضي درء الحد عنه.

في سرقة الصغير

قال المحقق: و من سرق صغيرا فإن كان مملوكا قطع.

أقول: و ادعى عليه في الجواهر عدم الخلاف فقال بعد العبارة المذكورة: بلا خلاف بل و لا إشكال مع جمعه ما سمعته من الشرائط السابقة كالحرز و نحوه ضرورة كونه كغيره من الأموال. انتهى.

و لا يخفى أن مفروض الكلام كما صرح به في الجواهر هو ما إذا كانت الشرائط الأخر مفروغا عنها و ذلك لان جهة البحث في المقام هو كون المسروق مملوكا و حيثية المملوكية و حيث إنه يصدق السرقة بلا كلام في ما إذا كان المملوك صغيرا فلذا يحكم عليه بالقطع كغيره من الأموال بل في الرياض: بلا خلاف منا إذا كان صغيرا بل ظاهر بعض العبارات الإجماع عليه منّا لأنه مال فيلحقه حكمه انتهى كلامه.

و أما إذا كان كبيرا مملوكا فقد ذكر كثير ممن رأينا كلماتهم أنه لا قطع هناك و استدلّوا على ذلك بأن الكبير متحفظ بنفسه إلا أن يكون نائما أو في حكمه أو لا يعرف سيده من غيره فإنه حينئذ كالصغير هكذا في القواعد و المسالك و الرياض و الجواهر.

أما الأول فواضح، و أما إذا لم يعرف مولاه فإنه يذهب مع من يخيّل إليه أنه مولاه سرقة و غيلة و خداعا و لعلهم رضوان الله عليهم أرادوا باستدلالهم بالتحفظ في الأول أنه معه لا يصدق السرقة حتى يقطع.

و في الرياض بعد ذكر الاستدلال المزبور: كذا ذكره جماعة بل لم أجد فيه خلافا الا من

إطلاق العبارة. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 105

أقول: إن بين عبارة المحقق في الشرائع و المختصر النافع تفاوتا و ذلك لأنه جعل موضوع القطع في الأول هو الصغير المملوك في حين أنه في الثاني جعل الموضوع هو المملوك مطلقا قائلًا: و يقطع من سرق مملوكا. انتهى.

و في المبسوط بعد كلام له حول العبد الصغير و الكبير قال: و الفصل بينهما أن الصغير يسرق و الكبير يخدع و الخداع ليس بسرقة فلا يجب به القطع إلخ. «1».

و على هذا فلو كان كبيرا فحيث إنه يدافع عن نفسه و يعرف سيده و ينكر مالكيّة غيره فلا يصدق هناك عنوان السرقة و انما هو عنوان الغصب أو الخداع.

لكن في الجواهر بعد كلام الرياض المذكور آنفا: قلت: لعلّه المتّجه بعد فرض صدق اسم السرقة و لو بإكراهه خصوصا في المميّز المزبور، و دعوى أن الصغير المذكور يسرق بخلاف الكبير فإنه يخدع، يمكن منع إطلاق. انتهى.

أقول يعنى انه لو صدق السرقة و إن كان بالإكراه فهو مشمول أدلة القطع و إن كان كبيرا.

و لكن الظاهر صحة الكلام- اي قولهم بأنه لو كان كبيرا مميّزا فلا قطع بسرقته- على إطلاقه و ذلك لأن شرط القطع في السرقة هو الإخفاء فلو أخذ مالا مع مشاهدة المالك أو المملوك أو ثالث مع علم السارق بذلك و علمه بأنه يأخذ ملك الغير فلا يصدق عليه السرقة و هذا الأمر محقّق في الصغير غير المميز حيث إنه يمكن أخذه و الإخفاء به بحيث لا يلتفت أحد و هذا لا يجري في غيره خصوصا في الكبير فإنه يعلم بذلك نفس المملوك فالتعبير الكامل أن يقال: ان الصغير غير المميز يسرق بخلاف غيره فإنه

يخدع أو يغصب.

و على هذا فلا يصدق السرقة في الكبير أصلا لعدم تحقق الإخفاء فإنه لا يزال يلتفت نفس المملوك و لا يعتبر في الإخفاء كونه عن المالك بل الملاك الإخفاء حتى بالنسبة للمسروق الذي هو المملوك و حيث لا يصدق السرقة فلا يقطع.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 30.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 106

نعم لو كان نائما أو مثله فهناك يمكن أن يصدق ذلك و على هذا فلا يرد ما أورده صاحب الجواهر رضوان الله عليه.

ثم إنه لا فرق في المملوك بين القنّ و المدبّر و أم الولد نعم في المسالك: دون المكاتب لأن ملكه غير تامّ إلا أن يكون مشروطا فيلحق بالقن انتهى كما و أنه استشكل في القواعد في كون المكاتب كالقن.

و وجهه انه حيث لم يخرج بسبب الكتابة عن المالية فهو بحكم القن و يثبت له حكمه و من حيث عدم تمامية ملك السيد له لانقطاع تصرفه عنه و لا يملك المولى منافعه و لا استخدامه و لا أرش الجناية الواردة عليه بل هو يتملك ما يكتسبه- و ان أمكن منع الحكم الأخير كما في الجواهر- فهو بحكم الحي.

و عن العلامة أعلى الله مقامه في التحرير القطع بكون المشروط كالقن.

و في الجواهر بعد نقل ذلك: مع أنه لا فرق بينه و بين المطلق بالنسبة إلى الملكية.

انتهى.

و على هذا فالمكاتب كالعبد القن سواء كان مطلقا أو مشروطا، و لذا أورد عليه قدس سره في الجواهر قائلًا: و من الغريب قوله بلا فصل عما سمعت: و لو سرق من مال المكاتب قطع إن لم يكن سيده و لو سرق نفس المكاتب فلا قطع عليه لأن ملك سيده ليس بتامّ عليه فإنه

لا يملك منافعه و لا استخدامه و لا أخذ أرش الجناية عليه (قال:) إذ هو على فرض إرادته المطلق لا فرق بينه و بين المشروط في ذلك.

انتهى.

أقول: و لعله يجمع بين كلاميه بإرادة خصوص المطلق من الأخير كما أريد من الأول المشروط فالمكاتب المشروط يقطع سارقه لأن المشروط هو الذي يتوقف حريته و عتقه على أداء تمام مال الكتابة في قبال المطلق الذي يعتق منه بحسب ما يؤدي من مال الكتابة فهو ليس كالقنّ. هذا كله في سرقة العبد و اما الحر:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 107

في سرقة الحرّ

قال المحقق: و لو كان حرا فباعه لم يقطع حدا و قيل يقطع دفعا لفساده.

أقول: قد اختلف في حكم سرقة الحر فقيل: لا يقطع لأنه ليس بمال و كون المسروق مالا شرط في حد السرقة إذ لا يتحقق بلوغ النصاب بدونه و لكن ذهب الشيخ و جماعة إلى أنه يقطع لا من حيث سرقته للمال بل من جهة كونه مفسدا في الأرض.

قال في النهاية في باب حد المحارب: و من سرق حرا فباعه وجب عليه القطع لأنه من المفسدين في الأرض.

و قال الفاضل المقداد في التنقيح: و المشهور مذهبه في النهاية. انتهى.

أقول: و على هذا فالحكم بالقطع تعبّد خاص و إلا فالحكم في المفسدين في الأرض ليس هو خصوص القطع بل هو أمور واحد منها ذلك. كما أنه لم يكتف بمجرد سرقة الحر بل ذكر بيعه أيضا بعد سرقته نظير ما صدر من إخوة يوسف بالنسبة إليه عليه السلام كما سيظهر ذلك من الأخبار أيضا.

و قد استدل على وجوب القطع بأمور:

أحدها الأولوية قال العلامة بعد أن ذكر أن المشهور هو القطع: لأن وجوب القطع في

سرقة المال إنما كان لصيانته و حراسته، و حراسة النفس أولى فوجوب القطع فيه أولى لا من حيث إنه سارق مال بل من حيث إنه من المفسدين.

انتهى «1».

و أورد في الجواهر على هذا الاستدلال بأنه لا يوافق مذهبنا خصوصا بعد تعليق الحكم بسرقة المال على وجه مخصوص لا يتم في الحر على وجه تتحقق به الأولوية المزبورة بحيث تصلح مدركا للحكم.

______________________________

(1) المختلف ص 777.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 108

أقول: إن القياس المصطلح هو إجراء الحكم في مورد لجريانه في مورد آخر يشابهه، و هو و ان كان يصح ان يقال انه ليس من مذهبنا إلا أن الذي تمسك به المستدل هو الأولوية و هو أمر مقبول عند الكل يتمسك به في الموارد كما في قوله سبحانه فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ، فإنه يقال: إذا حرم قول «أفّ» للوالدين بسبب الإيذاء فما هو أشد ايذاء منه أولى بالحرمة فالمناط هناك معلوم.

نعم يرد على الاستدلال المزبور بان الفحوى غير معلومة لعدم العلم بالمناط- لا الإيراد عليه بالقياس فإنه ليس من باب القياس- و يشهد على ذلك أي عدم العلم بالمناط أنه لم يعلّق الحكم بالقطع على مجرّد سرقة المال بل على سرقته على وجه مخصوص و مع الشرائط المعتبرة الخاصة مثل كونه من الحرز و بمقدار ربع دينار.

ثانيها الأخبار: فعن معاوية بن ظريف بن سنان قال: سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن رجل سرق حرّة فباعها قال: فقال: فيها أربعة حدود أما أوّلها فسارق تقطع يده، و الثانية إن كان وطأها جلد الحدّ و على الذي اشترى إن كان وطأها إن كان محصنا رجم و إن كان غير محصن جلد الحد و إن كان

لم يعلم فلا شي ء عليه، و عليها هي إن كان استكرهها فلا شي ء عليها و إن كانت أطاعته جلدت الحد «1».

و عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام أتى برجل قد باع حرا فقطع يده «2».

و عن عبد الله بن طلحة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبيع الرجل و هما حرّان يبيع هذا هذا و هذا هذا و يفرّان من بلد إلى بلد فيبيعان أنفسهما و يفرّان بأموال الناس قال: تقطع أيديهما لأنهما سارقا أنفسهما و أموال الناس- المسلمين- «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أحكام السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من أحكام السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من أحكام السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 109

و عن طريف بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني عن رجل باع امرأته؟ قال: على الرجل أن تقطع يده و ترجم المرأة و على الذي اشتراها إن و طأها إن كان محصنا أن يرجم إن علم و إن لم يكن محصنا أن يجلد مأة جلدة و ترجم المرأة إن كان الذي اشتراها وطأها «1».

و قد أورد على هذه الأخبار بضعف سندها و عدم جابر لها سوى الشهرة المحكية و في حصوله بها نوع مناقشة لا سيما مع رجوع الشيخ الذي هو الأصل في ذلك عمّا أفاده في النهاية كما سترى ذلك عن قريب.

و قد ردّ عليه في الجواهر بوضوح فساده بعد تحقق الشهرة المزبورة على القطع.

أي أن الشهرة محققة فلو نوقش في الجبر بالشهرة المحكيّة فلا مناقشة في الشهرة المحققة.

هذا مضافا

الى التعبير عن بعض هذه الروايات في كلماتهم بالمعتبرة و ذلك كرواية السكوني.

و هنا مناقشة أخرى قد اتّضح جوابها بما ذكرناه و هي أن القطع المزبور ان كان للفساد لا للسرقة فالمتجه جريان حكم المفسد عليه لا خصوص القطع.

و قد أجاب عنها أيضا في الجواهر بوضوح الفساد ضرورة كونها كالاجتهاد في مقابلة النص على أنه قابل لتخصيص ذلك الإطلاق. قال: و حينئذ فالتردّد الظاهر من المصنف و غيره في الحكم المزبور في غير محله.

ثم إن التعبير بالسرقة في بعض هذه النصوص مجازي يراد به حكم السرقة أي وجوب القطع و قد علمت أن بعض هذه الأخبار خال عن ذكر السرقة أصلا و إنما رتّب القطع فيه على مجرّد البيع و ذلك كخبر السكوني و خبر ابن طلحة و خبر ظريف بن سنان المذكور أخيرا، و على هذا فلو سرقه لكنه لم يبعه أدّب بما يراه الحاكم لأصالة عدم وجوب القطع بعد اختصاص النصوص بالبيع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 28 من أبواب حد الزنا ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 110

ثم إنه بعد أن كان الملاك هو الفساد فلا فرق فيما إذا سرق الحر، بين كونه صغيرا أو كبيرا كما هو ظاهر بعض هذه الأخبار بل صريح بعضها كونه هو الكبير فلذا لم يذكر في النهاية عن الصغير و الكبير شيئا و إنّما اكتفى بذكر الحر نعم عبّر في المبسوط و الخلاف بالصغير.

قال في الأول: إن سرق حرا صغيرا روى أصحابنا أن عليه القطع و به قال قوم و قال أكثرهم: لا يقطع. و نصرة الأول قوله: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما، و لم يفرق فإن سرق حرا صغيرا و عليه

ثياب و حليّ ثقيل و الكل للصبي فلا قطع على من سرقة لأن يد الصبي على ملكه و لهذا المعنى قلنا في اللقيط: إذا وجد و معه مال كان المال له لأن يده عليه فإذا كانت يده على ملكه فلا قطع لأنه لم يخرج عن ملكه. هذا عند من قال: إذا سرقه لا يقطع فأما على ما قلناه فعليه القطع «1».

و قال في الخلاف في المسألة 18 من باب السرقة: إذا سرق عبدا صغيرا لا يعقل أنه لا ينبغي إلا من سيده وجب عليه القطع و به قال أبو حنيفة و محمد و الشافعي و قال أبو يوسف: لا قطع عليه كالكبير.

دليلنا قوله تعالى: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما، و لم يفرق و قول النبي:

القطع في ربع دينار و لم يفصل لأنه أراد ما قيمته ربع دينار بلا خلاف و هذا يساوي أكثر من ربع دينار. انتهى.

و قال في المسألة 19: إذا سرق حرا صغيرا فلا قطع عليه و به قال أبو حنيفة و الشافعي و قال مالك: عليه القطع و قد روى ذلك أصحابنا.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم على أن القطع لا يجب إلا في ربع دينار فصاعدا، و الحر لا قيمة له بحال و قول النبي (ص): القطع في ربع دينار، يدل على ذلك أيضا لأنه أراد ما قيمته ربع دينار و هذا لا قيمة له. انتهى.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب السرقة ص 31.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 111

و ظاهر عبارة المبسوط و كذا السرائر أن وجوب القطع من باب السرقة و قد كان المذكور في العبارة هو الصغير الذي يتحقق فيه السرقة عرفا و لم يكن فيها ذكر

عن البيع.

و لو كان عليه ثياب أو حليّ يبلغ النصاب لم يقطع و إن كان صغيرا لثبوت يده عليها و لذا يحكم بأن ما في يد اللقيط له. فإن اللقيط و إن كان قد انقطع عن و الدية إلا أنه لم ينقطع عن أثوابه و ملابسه بل هو لابس لها و كذا الحر المسروق فإن أثوابه و إن كانت بمقدار النصاب قيمة فلا يقطع يد سارقه و إن كان هو بنفسه صغيرا لأنه مالك لأثوابه و لا بس لها فلم يكن يد غيره على ثيابه.

نعم لو فرض سرقته للمال مع سرقة نفسه على وجه لم تكن يده عليه بل كان يد السارق عليه فهناك اتجه القطع.

قال في المسالك: و لو كان معه ثياب أو معه مال يبلغ النصاب فإن كان كبيرا لم يتحقق سرقتها أيضا لأن يده عليها و لو كان صغيرا على وجه لا يثبت له يد اتجه القطع بالمال.

ثم قال: و مثله سرقة الكبير بماله نائما إلخ.

و أوضحه في الجواهر بقوله: و لو كان الحر كبيرا نائما على متاع فسرقه و متاعه قطع لسرقة المتاع بناء على أن نوم الكبير عليه حرز له و لسرقة الحر إن باعه، للنصوص السابقة.

ثم إنه الحق في المسالك بالنوم ما في حكمه من السكر و الإغماء كما أن العلامة أعلى الله مقامه الحق السكران و المغمى عليه و المجنون بالكبير النائم على متاع فسرق فقال: و لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه و متاعه قطع و كذا السكران و المغمى عليه و المجنون. انتهى.

أقول: و الظاهر رجوع مسألة الحر النائم إلى رواية صفوان و نومه في المسجد على حسب بعض الأخبار الدال على نومه على عباءه

و قد تقدم نقله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 112

و في الجواهر بعد أن ذكر: بل في القواعد و كذا النائم و السكران و المغمى عليه و المجنون: و لعله لعدم خروجهم بذلك عن الإحراز إذ ليسوا كالجماد لكنه لا يخلو عن نظر.

في سرقة المعير من بيت المستعير

قال المحقق: و لو أعار بيتا فنقبه المعير فسرق منه مالا للمستعير قطع و كذا لو آجر بيتا و سرق منه مالا للمستأجر.

أقول: هنا مسألتان إحديهما أن يعير بيته ثم نقبه و سرق مالا للمستعير من ذلك البيت. و الأخرى أن يوجر بيته ثم سرق من هذا البيت مالا للمستأجر و قد حكم المحقق في كلتيهما بالقطع لكن الظاهر أنهما ليستا على نهج واحد و حد سواء بل في الأول خلاف و إشكال.

قال في المسالك: إذا كان الحرز ملكا للسارق نظر إن كان في يد المسروق منه بإجارة فسرق منه الموجر فعليه القطع بغير إشكال لأن المنافع بعقد الإجارة مستحقة للمستأجر و الإحراز من المنافع و عند أبي حنيفة أنه لا يجب القطع على الموجر و وافق على أنه لو آجر عبده لحفظ متاع ثم سرق الموجر من المتاع الذي كان يحفظه العبد يجب القطع و إن كان الحرز في يده بإعارة فوجهان:

أحدهما أنه لا يجب القطع لأن الإعارة لا يلزم و له الرجوع متى شاء فلا يحصل الإحراز عنه.

و أصحّهما و هو الذي قطع به المصنف و العلامة و جماعة و رجّحه الشيخ في المبسوط و جماعة بعد أن نقل الأول عن قوم أنه يجب القطع لأنه سرق النصاب من الحرز و إنما يجوز له الدخول إذا رجع و عليه أن يمهل المعير بقدر ما تنقل فيه الأمتعة لا

مطلقا. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 113

ترى أنه ذكر أن في العارية وجهين بخلاف الإجارة ففيه وجه واحد ففي الإجارة يقطع لتحقق الإحراز و السرقة من الحرز بخلاف باب العارية فإنه يحتمل عدم القطع لأنها عقد جائز له أن يرجع متى شاء فلا يتحقق الحرز و يحتمل القطع لأنه ما لم يرجع فهو حرز فيقطع لمكان السرقة من الحرز.

و هذا لا يخلو عن اشكال و كلام فان إعارة الشي ء كالبيت و نحوه ليس معناها ممنوعية المعير عن الاستفادة عنه و الدخول فيه كالإجارة فإذا أعار بيته لآخر فوضع المستعير كتبه فيه إلا أن المالك المعير أيضا قد يدخل هذا البيت لبعض حوائجه فهل يمنع هو عن ذلك؟! فأيّ مانع عن دخوله فيه و الاستفادة منه و إن كان قد يكون هناك مانع لا يجوز معه الدخول فيه كما إذا كان فيه حرمه و زوجته و أهل بيته فإنه لا يجوز الدخول بلا إذن رعاية لحالهم و حفظا لسترهم و حجابهم إلى غير ذلك من الموارد الخاصة إلا أنه لا يمنع العارية من حيث هي هي عن ذلك و هكذا لو أعار عباءه ثم راى العباء عنده و أراد هو أن يصلي فيه فأي مانع يمنع عن ذلك مع أنه لم يرجع عن عاريته بعد أنه لا تمليك في باب العارية حتى يمنع المالك عنه ما لم يرجع فيه.

و إنى كلما تفحّصت في كلماتهم لم أعثر على من قال بأن إعارة الشي ء تمنع عن تصرف المعير فيه.

فإذا لم يكن هو بنفسه ممنوعا عن الدخول في البيت فلا يتحقق الحرز فلا يجوز القطع و لكن المسالك جعل الوجه الثاني أي تحقق الحرز و لزوم

القطع هو الأصح كما أن المحقق اختار ذلك و لم يذكر الوجه الآخر أصلا بل في الجواهر:

بلا خلاف أجده بل و لا إشكال للعمومات كما نفي الخلاف و الإشكال في القطع في صورة الإجارة.

ثم إن أبا حنيفة خالف في صورة الإجارة مع عدم الخلاف هناك فقال بعدم القطع و لذا نسب في الجواهر رأيه هذا إلى وضوح الفساد خصوصا بعد أنه حكم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 114

بالقطع في ما إذا آخر عبده لحفظ متاع ثم سرق الموجر من المتاع الذي كان يحفظه العبد و إن ضعف احتمال عدم القطع فيه باعتبار أن الإحراز فيه بملاحظة العبد لا بنفس العبد المملوك للسارق فنفس الحرز ليس بمملوك له.

و لنا فيه كلام و هو أن الظاهر أنه لا يعتبر في الحرز كونه ملكا لصاحب المتاع فلو كان في الصحراء يحفظ مال أخيه أو زميله باختياره فهل لا يصدق على الأخذ منه أنه سرقه؟ ففي المقام أيضا قد تحقق الحرز و عدم كونه لصاحب المتاع ليس بقادح.

هنا فروع:

منها أنه لو كان الحرز مغصوبا عنه لم يقطع بسرقة مالكه الذي له هتكه لعدم كون المال في الحرز. و في الجواهر: بل في القواعد و المسالك و محكي المبسوط أن الدار المغصوبة ليس حرزا عن غير المالك لأنه إحراز بغير حق فكان كغير المحرز.

ثم أورد هو بقوله: لكن قد يقال بصدق العمومات.

أقول: لعل هذا هو الصحيح و ذلك لأنه يحرم على غيره نقبه و على هذا يكون حرزا و يصدق عليه الحرز، و السرقة من الحرز صادق على الحرز الحلال و غيره.

و منها ما ذكره بقوله: و لو كان في الحرز مال مغصوب للسارق فهتكه و أخذ

ماله خاصة لم يقطع قطعا بل هو كذلك و ان اختلط المالان بحيث لا يتميّزان من نحو الطعام و الدهن فلم يأخذ إلا قدر ماله أو أزيد بما لا يبلغ النصاب.

أقول: هو كذلك فإن الصورة الاولى و إن هتك السارق الحرز لكنه أخذ ماله و أما الصورة الثانية فلانة و إن أخذ من المال المختلط لكنه أخذ بمقدار ماله أو أنه أخذ أزيد من ماله لكن الزائد لم يبلغ النصاب فلا وجه للقطع.

و منها قوله: و إن أخذ غير المغصوب المميّز عنه وحده أو معه بقدر النصاب فعن المبسوط إطلاق قطعه و الأقرب القطع إن هتك لغير المغصوب خاصة بل أو، لهما للعمومات بعد حرمة الهتك المزبور المراد به السرقة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 115

المفروض هنا أنه قد أخذ ما لم يكن له و مغصوبا عنه بل كان مال غيره مع كونه مميزا عن مال نفسه المغصوب سواء كان قد أخذه وحده بقدر النصاب أو أخذه كذلك مع ما هو مغصوب عنه فهنا يقطع على حسب إطلاق عبارة المبسوط.

لكن مقتضى كلام الجواهر هو التفصيل بين ما إذا هتك الحرز لأخذ غير المغصوب أي لسرقة مال الغير بل و إن كان هتكه له لأخذ كلا المالين مال نفسه و مال غيره و بين ما إذا هتكه لأخذ مال نفسه وحده.

فان هتك الحرز لأخذ مال الغير وحده أو مع ماله يكون من السرقة الموجبة للقطع إذا كان قد تحقق ذلك دون ما إذا كان لأخذ مال نفسه.

و هنا يمكن أن يقال: إن من كان ماله المغصوب عنه في مكان فإن له الدخول فيه شرعا و إذا جاز له ان يدخل فيه شرعا فليس هو

بحرز له حتى يكون أخذ مال الغير منه سرقة توجب القطع [1].

و إن هتك لأخذ ماله فلا قطع للرخصة فيه و بعد يكون أخذ مالا غير محرز.

أي إذا هتك الحرز لأخذ خصوص ماله فحيث إن هتكه للحرز كان جائزا في الفرض على ما تقدم آنفا- لأنه حين الهتك لا يريد إلا أخذ مال نفسه فلا يقطع و لو بدا له بعد الهتك أن يأخذ مال الغير أيضا فكذلك لا يقطع اما الأول فواضح و اما الثاني فلأنه و ان أخذ مال الغير إلا أنه كان أخذه من غير الحرز لأن دخوله في الحرز و هتكه له كان جائزا و بعد هتكه يكون مال الغير غير محرز فلا يوجب أخذه القطع.

و منها قوله: و لو جوزنا للأجنبي انتزاع المغصوب حسبة فهتك الحرز و أخرجه فلا قطع.

______________________________

[1] هكذا أفاد سيدنا الأستاذ الأكبر فإن لم أخطأ في فهم مراده فهو بظاهره لا يخلو عن كلام لان مجرد كون ماله في هذا المكان لا يسوغ له الدخول فيه مطلقا و إنما يجوز له ذلك إذا كان بقصد أخذ مال نفسه و أما إذا كان لأخذ مال الغير وحده أو مع مال نفسه فليس له أن يدخل و على هذا فلعل ما أفاده في الجواهر أقرب إلى الصواب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 116

اي لو قلنا بأنه يجوز للأجنبي انتزاع المال المغصوب لصاحبه حسبة و تقربا الى الله تعالى و من باب أداء المعروف فأقدم أحد على هتك الحرز و أخرج هذا المال ليؤدى الى صاحبه فلا قطع لأن المفروض جواز الإقدام على هتك الحرز.

و منها: و لو سرق معه بقدر النصاب من مال الغاصب ففيه التفصيل المزبور.

و

التفصيل أن يقال: إن كان قصده من أول الأمر ذلك أيضا فهنا تقطع يده و إما لو هتك لخصوص جهة الحسبة ثم بعد ذلك بدا له أن يسرق أيضا فهنا لا قطع لأنه و إن أخذ مال الغير إلا أنه لم يكن من الحرز بعد أن كان هتكه جائزا.

و منها قوله: و لو لم نجوز ذلك قطع بسرقة المغصوب فضلا عن غيره اي لو لم نقل بجواز انتزاع المغصوب لصاحبه حسبة فهناك تقطع يده بسرقة المال المغصوب بشرائطه فضلا عن غيره أي أموال صاحب الحرز مثلا هذا.

لكن هذا ليس بتام و ذلك لأنه و ان كان لا يجوز له ذلك الا أن من كان يريد انتزاع مال الغير من يد الغاصب ثم رده الى صاحب فهو ليس بسارق، و لا سرقة عرفا حتى يقطع بل إن إنقاذ مال الغير من يد الغاصب و الرد إلى صاحبه إحسان اليه و معاذ الله ان يكون جزاء الإحسان القطع.

قال في الجواهر بعد هذا الفرع: و المطالب به الغاصب كما عن المبسوط [1] أو المالك انتهى.

و يرد عليه أنه لا وجه لكون الغاصب مطالبا للقطع و كيف يكون هو مطالبا به و هو غاصب؟

______________________________

[1] قال في المبسوط ج 8 ص 32: فإن سرق رجل نصابا من حرز لرجل ثم أحرزه في حرز آخر فنقب سارق آخر الحرز فسرق تلك السرقة فعلى السارق الأول القطع لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه و أما السارق الثاني فقال قوم: لا قطع عليه لأن صاحب المال لم يرض بان يكون هذا الحرز حرزا لماله فكأنه سرقة من غير حرز و قال آخرون: عليه القطع لأنه سرق من حرز مثله.

فأما إن غصب من رجل مالا و أحرزه ثم سرق سارق تلك العين المغصوبة قال قوم عليه القطع، و قال آخرون: لا قطع مثل المسألة الأولى سواء، و الخصم في المسألتين معا مالك الشي ء دون غاصبه و سارقه. و قال قوم في السرقة مثل قولنا و في الغاصب: ان الخصم فيه الغاصب. انتهى.

أقول: و إنى لا أرى ملائمة بين ما ذكره الشيخ و ما نقل عنه في الجواهر فدقق النظر فيهما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 117

في سرقة المال الموقوف

قال المحقق: و يقطع من سرق مالا موقوفا مع مطالبة الموقوف عليه لأنه مملوك.

أقول: إطلاق صدر كلامه يقتضي عدم الفرق بين ما إذا كان الوقف على محصور أو غير محصور أو على المصالح العامة لكن التعليل المذكور في آخر كلامه ربما يقتضي تقييد الحكم و تضييقه فإن الظاهر منه أنه يقطع يد سارق الوقف مع مطالبة الموقوف عليه إذا كان مملوكا فيخرج ما إذا لم يكن كذلك.

نعم يمكن أن يكون قائلًا بالملك في الوقف غير المحصور و على المصالح العامة و إن كان الملك لغير المحصور و للجهة و يكون قائلًا بكفاية هذا الملك أيضا و على ذلك فلا يختص البحث بالمحصور.

قال في المسالك بعد عبارة المحقق المذكورة: هذا التعليل يتم على القول بانتقال الملك الموقوف مطلقا الى الموقوف عليه أما على القول الأشهر من اختصاصه بما لو كان الموقوف عليه منحصرا قطع سارقه دون سارق الوقف على المصالح العامة و على غير المنحصر لأن الملك فيه لله تعالى و لا يتم ما ذكره المصنف من التعليل و لو طالب به الحاكم احتمل جواز قطعه و إن كان غير مالك و الأظهر العدم و لو كانت

السرقة من غلة الوقف فلا إشكال في القطع لأنها مملوكة للموقوف عليه مطلقا و لو كان السارق بعض الموقوف عليهم بنى على حكم سارق المال المشترك و قد تقدم. هذا إذا كان منحصرا أما لو كان السارق فقيرا في الموقوف على الفقراء فلا قطع مطلقا. انتهى.

أقول: إن الملك في الوقف المنحصر للموقوف عليه و لذا يجري القطع هناك بلا كلام و أما في غير المنحصر و الوقف على المصالح فهناك مذهبان فالأشهر كما قاله في المسالك هو عدم ملك هناك لأحد بل الملك لله تعالى أو للجهة، و دليل القطع أي آية السرقة منصرفة عن ملك الله تعالى أو ملك الجهة، و اما القول الآخر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 118

فهو انتقال الملك مطلقا و إن كان في غير المحصور الى الموقوف عليهم و على ذلك تقطع يد السارق منه.

و قال في المسالك موردا على المحقق بأن ما ذكره من التعليل يتم على هذا القول دون الأول المبنى على انصراف دليل السرقة عن ملك غير الإنسان أو غير المحصورين فإنه لو قلنا بما ذهب إليه الأشهر من عدم الملك في باب الوقف إلا للمحصورين فلا يجري تعليله.

و على هذا فمرجع النزاع إلى أنه في الوقف على غير المحصور هل يحصل لهم الملك أم لا فمن قال بعدم تحققه لهم حيث إنه لا يمكن اعتبار الملك لغير المحصورين بالنسبة لشي ء هو محصور و محدود فلا بد من أن يقول هناك بأن السرقة لا توجب القطع الا ان يقول بكفاية الملك لله تعالى في قطع يد سارقه فإنه على هذا يقطع في المحصور و في الوقف على المصالح و الجهات العامة و هذا لو

تم فهو موقوف على اعتبار الملك لله تبارك و تعالى، أي مع الغض عن الملكية العامة المحققة له سبحانه بالنسبة إلى كافة الأشياء و الأشخاص التي نطق بها القرآن الكريم بقوله: لله ما في السماوات و الأرض، يعتبر له ملك خاص نظير اعتباره لغيره سبحانه.

كما قد يشعر بذلك التعبير بمال الله في كلماتهم عليهم السلام و على ألسنتهم مثل قوم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: و قام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع «1».

و ربما يشهد لذلك خبر محمد بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام في رجلين سرقا من مال الله تعالى أحدهما عبد من مال الله و الآخر من عرض الناس:

أما هذا فمن مال الله ليس عليه شي ء، مال الله أكل بعضه بعضا و أما الآخر فقدّمه و قطع يده «2».

______________________________

(1) نهج البلاغة الخطبة 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 29 من أبواب حد السرقة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 119

ترى التصريح بأن الامام قدم و قطع يده مع أن المفروض أنه كان المال مال الله و قد سرق هو من ذلك.

و الظاهر أنه يبعد صدق السرقة حقيقتا في ما إذا كانت من مال الله تعالى.

و يمكن الجواب عن الخبر بأنه ضعيف [1].

هذا مضافا الى انه لو شك في أن آية السرقة هل أريد منها السارق من مال الناس أو مطلقا و ان كان المال ملكا لله سبحانه و الجهة فإن مقتضى إجمال الدليل هو الإكتفاء بالمتيقن، و الاقتصار في القطع، عليه و ذلك لدرء الحدود بالشبهات.

و بالجملة، فلا كلام في انه تقطع يد السارق في الوقف على المحصور مع اجتماع سائر الشرائط و يكون المطالب هو

الموقوف عليهم و أما في غير المحصور و في الوقف على المصالح و الجهات العامة فإن لم نقل بالملك هناك فلا قطع و ذلك لاعتبار الملك على ما يظهر من كلماتهم و قد تعرض لذلك المحقق حيث قال في البحث عن المسروق: و ضابطه ما يملكه المسلم.

و الحاصل أنه لو لم نقل بحصول الملك هناك أو بعدم اعتباره لله تعالى مع ما ذكرنا من استبعاد صدق السرقة على مال الله تعالى فلا قطع.

هذا و لكن صاحب الجواهر مع أنه قد قيد قول المحقق: و يقطع من سرق مالا موقوفا انتهى، بقوله: على محصور. فاعتبر في القطع كون الموقوف عليهم محصورين- و ان كان لا يعلم ان ذلك نظره الشريف أو أنه أوضح بذلك مراد المحقق قدس سره- قال بعد ذلك: بل و غير المحصور بناءا على أنه المالك أيضا للعموم ثم قال: نعم لو قلنا إن المالك فيه الله تعالى شأنه أمكن عدم القطع بل في المسالك أنه الأظهر بعد أن احتمله لو طالب به الحاكم لكن قد عرفت سابقا أن مقتضى العموم القطع أيضا بل قد يؤيده خبر محمد بن قيس المتقدم المشتمل على قطع السارق من مال الله تعالى. انتهى.

______________________________

[1] أقول: أقل ما يكون هو كون الخبر حسنا كما قد عبر عنه به العلامة المجلسي قدس سره في مرآة العقول ج 23 ص 411.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 120

و على هذا فاحتمل الشهيد الثاني القطع بقوله: و لو طالب به الحاكم احتمل جواز قطعه و إن كان غير مالك و الأظهر العدم. انتهى فهو رحمه الله احتمله و استظهر خلافه. و أما صاحب الجواهر رحمه الله فقد تمسك بالعمومات مؤيدا

بخبر محمد بن قيس.

هذا كله بالنسبة إلى نفس المال الموقوف و أما لو كانت السرقة من غلة الوقف و ثمرته فهناك لا إشكال في القطع لأنها مملوكة للموقوف عليه مطلقا كما صرح به في المسالك سواء كان محصورا أو غير محصور.

ثم إنه لو كان السارق بعض الموقوف عليهم فقال الشهيد الثاني: بنى على حكم سارق المال المشترك. و على هذا فلو أخذ ما كان الزائد بمقدار النصاب أو أكثر فهناك يجب القطع و لو لم يبلغ الزائد نصاب القطع فلا قطع.

و لو عين للوقف مصرفا كالفقراء فسرق واحد منهم فلا يقطع و ذلك لأنه لا سهم و لا نصيب له معينا مخصوصا حتى يراعى الزائد على نصيبه و يقطع إذا كان بمقدار النصاب أو أكثر فلو صرح بأن لكل واحد من الفقراء مبلغ كذا كألف مثلا فإنه لو أخذ زائدا على ذلك ما يبلغ قدر النصاب فهناك تقطع يده.

في إحراز الجمال و الغنم

قال المحقق: و لا تصير الجمال محرزة بمراعاة صاحبها و لا الغنم بإشراف الراعي عليها و فيه قول آخر للشيخ رحمه الله.

أقول: اختلفوا في أن العين حرز بالنسبة إلى مثل الجمال أم لا، على قولين:

فمذهب المحقق هو الثاني و ذهب الشيخ قدس سره إلى الأول.

و قد نقل في المسالك و الجواهر كلامه و حيث إن نقل كلامه لا يخلو عن فائدة- (و لذا فقد نقلاه) و أيضا كان بين كلامه و ما نقل عنه نوع تفاوت فلذا ننقل نص عبارته قال: و الإبل على ثلاثة أضرب: راعية و باركة و مقطرة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 121

فإن كانت راعية فحرزها أن ينظر الراعي إليها مراعيا لها فإن كان ينظر إلى جميعها مثل أن كان

على نشز أو مستوى من الأرض فهي في حرز لأن الناس هكذا يحرزون أموالهم عند الراعي. و ان كان لا ينظر إليها مثل أن كان خلف جبل أو نشز من الأرض أو كانت في و هدة من الأرض لا ينظر إليها أو كان ينظر إليها فنام عنها فليست في حرز. و إن كان ينظر إلى بعضه دون بعض فالتي ينظر إليها في حرز و التي لا ينظر إليها في غير حرز.

و اما إن كانت باركة فإن كان ينظر إليها فهي في حرز و إن كان لا ينظر إليها فإنما تكون في حرز بشرطين أحدهما أن تكون معقولة و الثاني ان يكون معها نائما أو غير نائم لأن الإبل الباركة هكذا حرزها فإن اختل الشرطان أو أحدهما مثل أن لم تكن معقولة أو كانت معقولة و لم يكن معها أو نام عندها و لم يكن معقولة فكل هذا ليس بحرز.

و أما ان كانت مقطرة فإن كان سائقا ينظر إليها فهي في حرز و إن كان قائدا فإنما يكون في حرز بشرطين أحدهما أن يكون بحيث إذا التفت إليها شاهدها كلها و الثاني أن يكثر الالتفات إليها مراعيا لها فكلها في حرز فإن كانت عليها متاع فهي و المتاع في حرز فإذا ثبت ذلك فكل موضع قلنا هي في حرز فإن سرق سارق حملا منها مع المتاع قطع و ان كان صاحبها قائماً عليها فلا قطع عليه لأنه لم يخرج المتاع عن يد صاحبه و ما كانت يد صاحبه عليه.

و أما الكلام في البغال و الحمير و الخيل و الغنم و البقر فإذا كانت راعية فالحكم فيها كالإبل سواء، و قد فصلناه و إما باركة فلا يكون

و إن كان يسوقها أو يقودها فالحكم على ما مضى فإذا آوت إلى حظيرة كالمراح و المربد و الإصطبل فإن كان هذا في البر دون البلد فما لم يكن صاحبها معها في المكان ليس بحرز و إن كان صاحبها معها فيه فهو حرز إلا أنه إن كان الباب مفتوحا لم يكن حرزا حتى يكون الذي معها مراعيا لها غير نائم و إن كان الباب مغلقا فهو حرزا نائما كان أو غير

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 122

نائم فإن كانت الحظيرة في جوف البلد فالحرز أن يغلق الباب سواء كان صاحبها معها أو لم يكن معها انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و قد أورد عليه في المسالك قائلًا: و هذا التفصيل قد صرح به في مواضع منه بأن المراعاة تكفي في الحرز و هو حسن مع حصولها بالفعل لكن لا يتحقق السرقة كما أشرنا إليه سابقا و إنما يتحقق مع غفلته ليكون الأخذ سرا فالحق أن القطع لا يتحقق بذلك على التقديرين.

يعني إنه و إن كانت المراعاة كافية في الحرز إلا أنه مع تحقق المراعاة لا يتحقق السرقة إلا أن يعرض له الغفلة حتى تحصل السرقة معها و حينئذ لا تتحقق المراعاة فلا حرز فلا يكون السرقة عن الحرز كي توجب القطع.

و قال أيضا: و يظهر من كلام الشيخ في القسم الرابع أن عدم النظر إليها يخرجها عن الحرز و إن كان النظر إليها ممكنا و في قسم السائرة جعل دوام النظر غير شرط و اكتفى بإمكان مشاهدتها مع كثرة الالتفات إليها. انتهى.

أقول: و هذا الإشكال قد أورده صاحب الجواهر أيضا و حاصله أنه قد اعتبر في القسم الأول دوام النظر بحيث لو غفل

لحظة و سرق فيها فلم تكن عن حرز و لا يقطع، و لم يعتبر ذلك في القسم الرابع و اقتصر على كثرة الالتفات. فما الفرق بين المقامين؟.

و عندي أن ما أورداه عليه ليس بتام بل الحق معه قدس سره و ذلك لأن الإبل إذا كانت راعية فهي متفرقة بالطبع و لا يظهر إذا سرقت واحدة منها بخلاف ما إذا كانت مقطرة فإن سرقة واحدة منها تظهر بسرعة و ذلك لحصول اختلال في نظمها و نسقها و فراغ موضعها الخاص و خلوّه عنها، و هذا الفرق يوجب الفرق في الحكم و اعتبار دوام النظر في الأول و الاكتفاء بإكثار النظر في الثاني.

و بعبارة أخرى إن عدم المراعاة في الأول يوجب تفرق الإبل و تشتتها بحيث

______________________________

(1) المبسوط ج 8 كتاب السرقة ص 23.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 123

يذهب كل واحدة منها إلى جانب و ناحية فالحرز لا يحصل بدون المراعاة الدائمة و النظر المستمر بخلاف ما إذا كان مقطرة فإن نظمها و ترتيبها في حبل خاص يوجب صعوبة السرقة منها و حصول الحرز بمراعاتها و النظر إليها في الجملة.

ثم إنه يمكن الجواب عما أورده المسالك من إنه مع الغفلة لا يتحقق الحرز بأن الملاك هو المراعاة العرفية غير المنافية للغفلة لحظة أو النوم كذلك.

ثم إن ما يمكن أن يتمسك به في مسئلتنا هو رواية صفوان و سرقة رداءه و قطع يد سارقه، و روايات السرقة من الجيب الظاهر و الباطن و القطع في الثاني دون الأول إلا ان في رواية صفوان اشكالا و هو عدم وضوح أصل القضية و ذلك لنقلها بأنحاء مختلفة و من جملتها أنه سرق الرداء حينما ذهب صفوان ليريق

الماء و على هذا فلم تكن هناك مراعاة و لا يبعد أنه كان قد أخفاه تحت فرش مثلا فسرقه السارق و قطعت يده و في رواية الجيب أنه كان الثوب الظاهر أيضا تحت عين اللابس و نظره، فلما ذا لم تقطع يده و قد تقدم أن المراعاة عرفية لا تنافي الغفلة لحظة أو لحظات.

و لا يبعد كون الروايات في السرقة عن الجيب غير متعلقة، بباب السرقة بل هي متعلقة بباب الطر كما هو المصرح به في قوى السكوني و خبر مسمع «1».

في سرقة باب الحرز أو شي ء من أبنيته

قال المحقق: و لو سرق باب الحرز أو من أبنيته قال في المبسوط: يقطع لأنه محرز بالعادة و كذا إذا كان الإنسان في داره و أبوابها مفتحة و لو نام زال الحرز و فيه تردد.

أقول: الكلام هنا في سرقة باب الحرز أو شي ء من أبنيته كخشب أو لوح فالذي حكاه عن الشيخ هو قطع يد السارق و ذلك لأنه محرز بالعادة.

______________________________

(1) راجع الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 124

و في المسالك: الحكم في باب الحرز و نحوه مبني على تفسير الحرز فإن فسرناه بما ليس لغير المالك دخوله أو بما كان سارقه على خوف و خطر من الاطلاع عليه أو رددناه إلى العادة و جعلناه قاضية بكون ذلك محرزا على هذا الوجه كما ادعاه الشيخ قطع هنا لتحقق الحرز على هذا التقديرات و إن فسرناه بما كان مغلقا عليه أو مقفلا أو مدفوعا فلا قطع هنا لانتفاء المقتضى و إن جعلنا منه المراعاة بنى على ما إذا كان مراعيا له و عدمه، و المراد بباب الحرز هنا الباب الخارج كباب الدار، و

أما باب البيت الداخل في الدار و باب الخزانة فإن كان خارجه باب آخر موثقا بالقفل أو الغلق فالباب المذكور في حرز و إلا فلا. انتهى.

و قد ذكر في الجواهر أيضا هذه الوجوه في ترديد المحقق رضوان الله عليه و لا يخفى أن الوجه الأول بعيد غايته و لا يصح تفسير الحرز بما ليس لغير مالكه دخوله إن كان المراد من ذلك هو المنع الشرعي و إلا فقطعه من الأرض في الصحارى و البراري إذا كانت لأحد و هو غير راض بدخول أحد فيها فهي حرز و هو مما لا يمكن الالتزام به.

و في الجواهر: و قد عرفت سابقا أن الحرز عرفا الشي ء المعد لحفظ الشي ء في نفسه فلا قطع في شي ء من ذلك لا أقل من الشبهة الدارئة و حينئذ فيسقط البحث عن سرقة باب المسجد و عن سرقة دقاقة الباب و نحو ذلك ضرورة عدم الحرز في الجميع بناءا على ما ذكرناه.

أقول فيؤول النزاع بين الشيخ و المحقق في أن باب الحرز محرز عرفا عند الأول و غير محرز عند الثاني فيقطع على الأول و لا يقطع على الثاني، و بعد يكون المورد من موارد الشبهة.

ثم قال: نعم لو كان باب الحرز على بيت داخل في الدار التي لها باب مغلق على ذلك أو داخل في بيت آخر كذلك كباب الخزينة اتجه حينئذ القطع بسرقتها لكونها حينئذ في حرز. انتهى كلامه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 125

في سارق الكفن

قال المحقق: و يقطع سارق الكفن لأن القبر حرز له و هل يشترط بلوغ قيمته نصابا؟

قيل: نعم. و قيل: يشترط في المرة الأولى دون الثانية و الثالثة و قيل: لا يشترط. و الأول أشبه.

أقول:

أن في المسألة أقوالا مختلفة كما سنذكرها، و بما أن مستندها الروايات العديدة الواردة في المقام فلذا نقدم ذكر الروايات التي أوردها في باب 19 من حد السرقة و قد عبّر عنه بقوله: باب حد النبّاش.

عن حفص البختري قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: حد النباش حد السارق (ح 1).

عن عبد الله بن محمد الجعفي قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام و جاءه كتاب هشام بن عبد الملك في رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها ثم نكحها فإن الناس قد اختلفوا علينا طائفة قالوا: اقتلوه. و طائفة قالوا: أحرقوه. فكتب إليه أبو جعفر عليه السلام: إن حرمة الميت كحرمة الحي تقطع يده لنبشه و سلبه الثياب و يقام عليه الحد في الزنا إن أحصن رجم و إن لم يكن أحصن جلد مأة (ح 2).

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 125

و عن غير واحد من أصحابنا قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام برجل نباش فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام بشعره فضرب به الأرض ثم أمر الناس أن يطؤوه بأرجلهم فوطؤوه حتى مات (ح 3).

و عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء (ح 4).

عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أخذ نباش في زمن معاوية فقال لأصحابه: ما ترون؟ فقالوا نعاقبه و نخلي سبيله فقال رجل من القوم: ما هكذا فعل علي بن أبي طالب قال: و ما فعل؟ قال: فقال: يقطع النباش. و قال

هو سارق و هتّاك للموتى (ح 5).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 126

و عن المفيد في الاختصاص عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه قال: لما مات الرضا عليه السلام حججنا فدخلنا على أبي جعفر عليه السلام و قد حضر خلق من الشيعة- إلى أن قال:- فقال أبو جعفر عليه السلام سأل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها فقال أبي: يقطع يمينه للنبش و يضرب حد الزنا فإن حرمة الميتة كحرمة الحية فقالوا يا سيدنا: تأذن لنا أن نسألك؟ قال: نعم. فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها و له تسع سنين (ح 6).

و عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يقطع النباش و الطرار و لا يقطع المختلس (ح 7).

و عن الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام أنه قطع نباش القبر فقيل له: أ تقطع في الموتى؟ فقال: إنا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا. قال: و أتى بنباش فأخذ بشعره و جلد به الأرض و قال: طؤوا عباد الله فوطى ء حتى مات (ح 8) و عن عبد الرحمن العرزمي عن أبي عبد الله عليه السلام: ان عليا عليه السلام قطع نباشا (ح 9).

و عن عيسى بن صبيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الطرار و النباش و المختلس قال: يقطع الطرار و النباش و لا يقطع المختلس (ح 10).

و عن علي بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل أخذ و هو ينبش قال: لا أرى عليه قطعا إلا أن يؤخذ و قد نبش مرارا فاقطعه (ح 11).

و عن إسحاق بن عمار إن عليا عليه السلام

قطع نباش القبر فقيل له: أ تقطع في الموتى؟ فقال: إنا نقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا (ح 12).

و عن علي بن سعيد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن النباش قال: إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع يعزر (ح 13).

و عن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام عن الطرار و النباش و المختلس قال: لا يقطع (ح 14).

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 127

و عن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: النباش إذا كان معروفا بذلك قطع (ح 15).

عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في النباش إذا أخذ أول مرة عزر فإن عاد قطع (ح 16).

عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام بنباش فأخر عذابه إلى يوم الجمعة فلما كان يوم الجمعة ألقاه تحت أقدام الناس فما زالوا يتوطئونه بأرجلهم حتى مات (ح 17).

و حينئذ نقول: إن مقتضى الرواية الاولى أن النباش يحد حد السارق و لم يقيد فيها النبش بالسرقة بل هذا هو حد النبش بعنوانه و لذلك فان من جملة الأقوال في المسألة هو أن النباش يحد لنبشه و لخصوص عمله هذا كما سيجي ء ذلك.

اللهم إلا أن يكون المراد هو النباش السارق و يكون منصرفا عن النباش غير السارق.

و هل يعتبر إصراره و مداومته على النبش أو انه يكفي ذلك و لو مرة واحدة؟

الظاهر هو الثاني و لعل من اعتبر ذلك استفادة من لفظة (النباش) الدال على المبالغة، و الحال أنه لا دلالة فيه بعد استعماله كثيرا في من أتى به لأول مرة بل هو كالعلم لمن فعل ذلك و لم يعهد إطلاق النباش

عليه في الكلمات و المحاورات.

و أما الرواية الثانية فهي متضمنة لزنا النباش بالميّتة و قد حكم الإمام عليه السلام بالقطع لجهة سرقته و اجراء حد الزنا لزناه بها.

و الثالثة ناطقة بأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أمر الناس أن يطؤوا النباش الذي أتى به إليه صلوات الله عليه. و الوطئ هو الدوس بالقدم.

و مقتضى رواية أبي الجارود هو عدم الفرق بين سارق الأحياء و سارق الأموات كما ان الرواية الخامسة أيضا تدل على قطع النباش. نعم فيها أن الامام عليه السلام قال: هو سارق إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 128

و أما رواية الاختصاص فتدل على أن القطع للنبش، اللهم إلا أن يكون ذكر النبش رمزا إلى السرقة و مقدمة لها. كما أن رواية منصور بن حازم تدل على قطع يد النباش.

و في رواية زيد حكاية قول علي عليه السلام و انه قال: يقطع النباش و قال: هو سارق، هو هتّاك.

و اما رواية الصدوق في قضاء الإمام فمقتضى قوله عليه السلام: إنا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا، هو وقوع السرقة أيضا، الى غير ذلك من الروايات المذكورة.

و المذكور في عبارة المحقق هو قطع سارق الكفن و لا ذكر فيها عن النباش. نعم سرقة كفن الميت مستلزم لنبش قبره، و لو كان وقوع الأمر بشخصين أحدهما باشر النبش و الآخر سرقة الكفن فلا قطع لأن السارق قد سرق عما لم يكن حرزا فإن النباش قد هتك الحرز فلا بد أن يكون مقصود المحقق هو الأول أي ما إذا نبش و سرق.

و قد ذكر الشهيد الثاني الأقوال الواردة في المسألة بقوله: للأصحاب في حكم سارق الكفن أقوال:

أحدها: أنه يقطع منها بناءا على أن القبول حرز

الكفن و لا يعتبر في الكفن بلوغه نصابا. أما الأول فهو المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الشيخ فخر الدين الإجماع و ليس كذلك فإن ظاهر الصدوق أنه ليس حرزا و أما الثاني فلدلالة الأخبار بإطلاقها عليه كصحيحة حفص بن البختري عن الصادق عليه السلام أنه قال: حد النباش حد السارق و هو أعم من أخذ النصاب و عدمه و إلى هذا القول ذهب الشيخ و القاضي و ابن إدريس في آخر كلامه و إن كان قد اضطرب في خلاله و العلامة في الإرشاد.

و ثانيها: اشتراط بلوغ النصاب كغيره من السرقات و هو الذي اختاره المصنف

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 129

و قبله المفيد و سلار و أبو الصلاح و جماعة و منهم العلامة في المختلف و التحرير و الشهيد في الشرح، لعموم الأخبار الدالة على اشتراط النصاب مع عدم المخصص و أجابوا عن الخبر الأول بأن ظاهره دال على القطع بمجرد النبش في المرة الأولى و هم لا يقولون به بل يعتبرون الأخذ و إذا جازت مخالفة ظاهره باشتراط الأخذ فلم لا يجوز مخالفته باشتراط النصاب توفيقا بين الأدلة؟ و أيضا فإنه جعله حد السارق فيشترط فيه ما يشترط في السارق و يؤيده قول علي عليه السلام: يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء، و رواية إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام: إن عليا (عليه السلام) قطع نباش القبر فقيل له: أ تقطع في الموتى؟ فقال:

إنا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا و ظاهر التشبيه يقتضي المساواة في الشرائط.

و ثالثها: أنه يشترط بلوغ النصاب في المرة الأولى خاصة. أما الأول فلعموم الأدلة. و أما الثاني فلأنه مع اعتياده مفسد فيقطع لإفساده

و إن لم يكن مستحقا لسرقته و هذا القول اختاره ابن إدريس في أول كلامه ثم رجع عنه إلى الأولى.

و رابعها: أنه يقطع مع إخراجه الكفن مطلقا و- مع- اعتياده النبش و إن لم يأخذ الكفن و هذا قول الشيخ في الاستبصار جامعا بين الأخبار التي دل بعضها على الأول و بعضها على الثاني قال المصنف في النكت: و هو جيد إلا أن الأحوط اعتبار النصاب في كل مرة لما روى عنهم أنهم قالوا لا يقطع السارق حتى يبلغ سرقته ربع دينار.

و خامسها: عدم قطعه مطلقا إلا مع النبش مرارا أما الأول فلأن القبر ليس حرزا من حيث هو قبر و أما الثاني فلإفساده و هو قول الصدوق، و مقتضى كلامه عدم الفرق بين بلوغه النصاب و عدمه، و في كثير من الأخبار دلالة عليه كرواية علي بن سعيد قال: سألت أبا عبد الله عن النباش قال: إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع و يعزر و رواية الفضيل عنه (ع) قال: النباش إذا كان معروفا بذلك قطع.

و رواية ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) في النباش: إذا أخذ أول مرة عزر فإن عاد قطع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 130

و يمكن حمل هذه الأخبار مع قطع النظر عن سندها على ما لو نبش و لم يأخذ، جمعا بين الأدلة. و الوجه اعتبار بلوغ النصاب و الاعتياد لتناول الأول عموم أدلة السرقة و الثاني الإفساد.

أقول: مقتضى بعض الإطلاقات هو اعتبار النصاب في القطع هنا أيضا و ذلك كقول. الصادق عليه السلام في صحيح حفص: حد النباش حد السارق. و كقول علي عليه السلام في معتبرة إسحاق بن عمار:

إنا نقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا، الى غير ذلك من الإطلاقات الدالة على اعتبار النصاب في سرقة الكفن و عدم الفرق بين السرقة عن الحي و عن الميت و السؤالات الواردة في الروايات كانت لبيان أن القبر أيضا كذلك و أنه حرز.

ثم إنه لو نبش القبر و لكنه لم يأخذ شيئا فلم يحكموا عليه بالقطع، و لعله كان كذلك ما إذا سرق و لم يكن ما سرقه بمقدار النصاب و إن قال شاذ هنا بأنه يقطع حينئذ. و مقتضى التشبيه بالأحياء هو اعتبار النصاب و ان كان يحتمل كون التشبيه في أصل الحد، لكنه خلاف الظاهر فإن الظاهر كون التشبيه هو التام أي من جميع الجهات، و على هذا فيعتبر الشرائط أيضا و يكون القبر حرزا، و حيث إن من المسلّم هو عدم القطع في النبش المجرد فلا بد من حمل الصحيحة و المعتبرة على النباش السارق إذا كان قد سرق بمقدار النصاب فيكون هو كغيره من السارقين في اعتبار الشرائط من الحرز و غير ذلك.

و في قبال هذه الروايات ما يدل على اعتبار التكرار و كون ذلك عادة له الذي هو مذهب الصدوق في المقنع و الفقيه، و منها صحيحة الفضيل الدالة على القطع في النباش إذا كان معروفا بذلك. و منها رواية علي بن سعيد الدالة على القطع إذا أخذ و قد نبش مرارا. و منها روايته الأخرى الدالة على عدم القطع إذا لم يكن النبش له بعادة.

إلا أنه قد أورد «1» على ذلك بأنه لا يمكن الأخذ برواية ابن سعيد و لا رواية

______________________________

(1) راجع تكملة المنهاج ج 1 ص 297.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 131

الفضيل في إثبات ذلك

اما بالنسبة إلى الأول فلأن علي بن سعيد لم يرد فيه توثيق و لا مدح، و اما صحيحة الفضيل فهي مشتملة على المعروفية و هي أمر غير التكرر الذي قال به الصدوق و ذلك لأنه قد يقع الفعل متكررا و لا يصير فاعله معروفا بذلك- و ربما يأتي مرة واحدة بذلك العمل و يصير معروفا بذلك- فلا عامل بالرواية أصلا.

هذا مضافا الى أنها معارضة بمعتبرة إسحاق بن عمار فإن مقتضاها عدم الفرق بين الحي و الميت فلا يعتبر في السارق من الميت التكرار كما لا يعتبر في السارق من الحي، و مع المعارضة لا بد من الرجوع إلى إطلاق ما دل على أن السارق يقطع.

و هنا احتمال آخر و هو حمل الروايات على التقية و لو في الجملة فإن أبا حنيفة و الثوري ذهبا إلى عدم القطع حيث إنهما لم يعتبرا القبر حرزا.

و قد يقال بأن الملاك هو التكرار و إتيان الفعل مرارا كما قاله الصدوق و هو المذكور في خبر ابن سعيد، إلا أن المعروفية أمارة عليه و طريق إليه و كناية عنه.

و على هذا فما أفاده الصدوق رضوان الله عليه تام [1].

و فيه أنه تبقى بعد المعارضة التي ذكرناها مع معتبرة إسحاق بن عمار. و على الجملة فقد اختلفت الروايات و تعارضت في المرة الأولى.

فقريب عشرة منها تدل على اعتبار النصاب في القطع.

و في قبالها ما يدل على عدم اعتبار ذلك في النباش و على التفاوت و الفرق بين السارق من الميت و السارق من الحي.

و ما يدل على أمر الإمام بوطء النباش و دوسه الظاهر في أن حد النباش هو القتل، لا القطع، و إن كان يرد عليه أنه قضية في واقعة

و الرواية مجملة لم يبين فيها كيفية عمل هذا النباش، و ما قد أتى به، و أنه هل هو مجرد النبش أو هو و غيره، فلا يمكن الأخذ به.

______________________________

[1] أورده هذا العبد في مجلس الدرس.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 132

و ما يدل على أن النباش لا يقطع الذي يمكن حمله على النبش المجرد بلا أخذ الكفن كما في الرياض كما يشهد بذلك ما ورد في بعض هذا القسم من الأمر بالتعزير، فيبقى أنه يلاحظ النصاب حتى تقطع يده و أما إذا تكرر منه ذلك فيقطع للفساد. و على ذلك يحمل ما دل على القطع مطلقا و بلا تقييد.

ثم إنه قد نقل في المتن في المقام ثلاثة أقوال:

في اشتراط بلوغ قيمته نصابا و عدمه

قال المحقق قدس سره: و هل يشترط بلوغ قيمته نصابا؟ قيل: نعم و قيل يشترط في المرة الأولى دون الثانية و الثالثة و قيل لا يشترط و الأول أشبه.

أقول: و مدرك القول الأول و هو اعتبار بلوغ النصاب المنسوب إلى الأكثر هو ما تقدم من الإطلاقات الدالة على أنه سارق و عدم الفرق في السارقين عن الأحياء و الأموات.

و أما القول الثاني المنسوب إلى ابن إدريس في أول كلامه من اشتراط ذلك في المرة الأولى دون الثانية و الثالثة فهو أنه في المرة الأولى سارق من السراق فيشمله الأدلة المزبورة و أما بعد ذلك فهو مفسد و يقطع مطلقا.

و أما القول الثالث المحكى عن الشيخ و القاضي و ابن إدريس في آخر كلامه و العلامة في الإرشاد و هو عدم الاشتراط، و القطع مطلقا فذلك لإطلاق الأدلة.

و لكن قد تقدم أن الصدوق قدس سره قال باعتبار التكرار و جعل موضوع الحكم التكرر و قد مر

ما يمكن أن يتمسك به لذلك و الجواب عنه.

قال في الجواهر: و يقرب منه- أي من قول الصدوق- ما عن المصنف في النكت [1] من أنه لا قطع عليه حتى يصير ذلك عادة له و قد أخذ كل مرة نصابا فما فوقه لاختلاف الاخبار و حصول الشبهة.

______________________________

[1] أقول: و لفظ النكت هذا: ظاهر كلام الشيخ هنا أنه لا يعتبر النصاب بل يعتبر إخراج الكفن، و في الاستبصار: لا يقطعه إلا أن يكون ذلك عادة و يخرج الكفن، و المفيد رحمه الله يعتبر في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 133

ثم إن المحقق جعل القول الأول، الأشبه، و أضاف في الجواهر قوله: بأصول المذهب و قواعده التي منها درء الحد بالشبهة، و احترام دماء الناس، و الأصل عدم القطع، و منها إطلاق قطع السارق للنصاب من الحرز، و غير ذلك مما سمعته على وجه يرجح على غيره فيجب إرجاع ما نافاه إليه. انتهى و لقد أجاد فيما أفاد رحمة الله تعالى عليه.

توضيح ذلك ان هنا وجوها في كون القول الأول أشبه بأصول المذهب و قواعده:

منها أن من المسلّم درء الحدود بالشبهات، فلو سلمنا عدم استظهار اعتبار النصاب فلا أقل من الشبهة فيدرء الحد بها.

و منها احترام دماء الناس و شدة اهتمام الشارع في ذلك فما لم يحرز جواز الإقدام لا يجوز و من المعلوم أن القطع أيضا متعلق بباب الدماء و لا خصوصية للقتل.

و منها إطلاق قطع السارق للنصاب.

و منها استصحاب عدم جواز القطع الذي كان قبل النبش و أخذ الأقل، إلى غير ذلك مما يمكن أن يقال هنا.

______________________________

قطع النباش بلوغ الكفن نصابا كما يقطع غيره من السراق، و الذي يظهر ما ذكره في الاستبصار

فإن الأخبار مختلفة و يحصل اختلافها شبهة يسقط بها الحد ما لم يصر عادة فحينئذ يجب الحد اتفاقا منا و يعتبر النصاب في كل مرة عملا بالأحوط لما روى عنهم (ع) لا يقطع يد السارق حتى يبلغ سرقته ربع دينار. و هذا متفق عليه. و أما أنه يقتل (مع) بعد تكرار الفعل ثلاثا و فواته فلما روى أن عليا عليه السلام قتل نباشا، فتحمل على أنه تكرر منه الفعل توفيقا بين الأحاديث و هو اختيار الشيخ في التهذيب و المفيد في المقنعة، أو على أنه يقتل بفساده، و النظر في ذلك الى الإمام إن شاء قطعه و إن شاء قتله، و ربما ادعى بعض المتأخرين الإجماع على قتله على كل حال إذا أخرج الكفن، و هو غفول عن اختلاف الفقهاء و اختلاف الأخبار المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام انتهى كلامه رفع مقامه.

راجع النهاية و نكتها ج 3 ص 336- 337.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 134

نعم هنا إشكال و هو أنه من المالك المطالب للقطع بعد أن الميت ليس مالكا لشي ء و أنه يخرج عن قابلية التملك بمجرد الموت؟

و فيه أنه من الممكن القول بكون الكفن باقيا على حكم ماله و عدم كونه مالكا غير قادح في اعتبار الملك في بعض الموارد و لا يمنع عنه كما في دية قطع رأس الميت فإنه لا يرث وارثه منها شيئا بل تصرف في وجوه البر و القرب، عنه.

و يمكن أن يقال: إنه ملك للوارث كما أن من الممكن القول بالقطع مع عدم كونه ملكا لأحد.

و كيف كان يقطع يده إلا أنه على الاحتمالين الأولين يكون المطالب هو الوارث، و على الثالث فهو الحاكم و

على فرض فقده فعدول المؤمنين.

ثم إنه لو مات و لم يخلف شيئا حتى يكفن به فكفنه الإمام من بيت المال فسرق النباش كفنه هذا ففي الجواهر عن المبسوط: لا يقطع بلا خلاف ثم تنظر هو فيه. و قد راجعنا نسخة من الطبعة القديمة من الجواهر و كان هناك أيضا كذلك. و الظاهر وقوع خطأ في هذه النسبة لأنه قال في المبسوط: فإن كان الميت لم يخلف شيئا و كفنه الإمام من بيت المال يقطع بلا خلاف لأن لكل أحد في بيت المال حقا مشتركا فإذا حضر الإمام كان أحق به من غيره و زال الاشتراك فيه، فلو سرق سارق منه في حياته قطع كذلك الكفن مثله، فإذا ثبت أنه يقطع النباش فإنما يقطع بالكفن الذي هو السنة و هو خمسة أثواب فإن زاد عليها شيئا أو دفن في تابوت فالقبر حرز للكفن دون ما عداه «1».

و قال في الخلاف: النباش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر إلى وجه الأرض و به قال ابن الزبير و عائشة و عمر بن عبد العزيز و الحسن البصري و إبراهيم النخعي، و اليه ذهب حمّاد بن أبي سليمان. و قال الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و محمد: لا يقطع النباش لأن القبر ليس بحرز لأنه لو كان حرزا لشي ء لكان

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 135

حرزا لمثله كالخزائن الوثيقة. دليلنا قوله تعالى: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا، و هذا سارق. فإن قالوا لا نسلم أنه سارق. قلنا: السارق هو من أخذ شيئا مستخفيا متفزعا قال الله تعالى: إِلّٰا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، و قالت عائشة: سارق موتانا كسارق أحيائنا، و

قال عليه السلام: القطع في ربع دينار و لم يفصل، و عليه إجماع الفرقة- الصحابة- «1».

فمع تصريحه بالقطع في الكتابين و الاستدلال على ذلك كيف ينسب إليه القول بعدم القطع بلا خلاف؟ و الظاهر وقوع خطأ فإما هو من سهو قلمه الشريف أو من قلم النساخ.

و في الجواهر بعد ذلك: و لو كفنه أجنبي فالمطالب هو، و عن التحرير: الوارث.

و فيه منع.

و يظهر من عبارة المبسوط في الفرع السابق أن المالك هناك هو الميت نفسه لأنه قال: فلو سرق منه في حياته قطع كذلك الكفن مثله.

بقي الكلام في المقام فيما ورد في رواية الاختصاص من أنهم سألوا أبا جعفر الجواد عليه السلام في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة و أجابهم عليه السلام عنها، فان هذا من المشكلات و كيف يمكن ذلك؟.

و الذي يمكن أن يقال في حله و توجيهه [1]: كون ذلك على وجه التفريع و التشقيق بأن يكون مسألة واحدة ينفتح منها مسائل عديدة ففي الحقيقة قد سئل عن عدة مسائل أجابهم عنها و كانت تنحل الى ثلاثين ألفا.

______________________________

[1] أقول: قد تعرض العلامة المجلسي قدس سره لهذا الإيراد و ذكر في الجواب عنه وجوها عديدة فقال: يشكل هذا بأنه لو كان السؤال و الجواب عن كل مسألة بيتا واحدا اعنى خمسين حرفا لكان أكثر من ثلاث ختمات القرآن فكيف يمكن ذلك في مجلس واحد؟ و لو قيل: جوابه عليه السلام كان في الأكثر ب لا و نعم، أو بالأعجاز في أسرع زمان، ففي السؤال لا يمكن ذلك. و يمكن الجواب بوجوه: الأول أن الكلام محمول على المبالغة في كثرة الأسئلة و الأجوبة فإن عد مثل ذلك مستبعد جدا.

______________________________

(1) الخلاف كتاب السرقة المسألة 28.

الدر

المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 136

فيما إذا نبش و لم يأخذ

قال المحقق: و لو نبش و لم يأخذ عزر و لو تكرر منه الفعل وفات السلطان كان له قتله للردع.

أقول: قوله: و لم يأخذ أي لم يأخذ الكفن، و قوله: فات السلطان أي لم يتمكن السلطان منه، و في الرياض في تفسير ذلك: أي هرب منه فلم يقدر عليه.

و هنا فرعان أحدهما أنه إذا نبش و لم يأخذ الكفن عزر النباش. و يدل على ذلك بعض الروايات ففي خبر ابن سعيد عن ابي عبد الله (ع) المذكور آنفا: إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع و يعزر (ح 13).

كما ان في المرسل كذلك عن ابي عبد الله عليه السلام في النباش إذا أخذ أول مرة عزر فإن عاد قطع (خ 16).

نعم لا تعرض فيهما بالنسبة إلى الأخذ و عدمه فهما ساكتان عن ذلك إلا أنهما محمولان على ذلك جميعا بينهما و بين سائر الروايات الدالة على القطع إذا أخذ الكفن [1].

______________________________

الثاني يمكن أن يكون في خواطر القوم اسئلة كثيرة متفقة فلما أجاب عليه السلام عن واحد فقد أجاب عن الجميع.

الثالث أن يكون إشارة إلى كثرة ما يستنبط من كلماته الموجزة المشتملة على الأحكام الكثيرة و هذا وجه قريب.

الرابع أن يكون المراد بوحدة المجلس الوحدة النوعية أو مكان واحد كمنى و إن كان في أيام متعددة.

الخامس أن يكون مبنيا على بسط الزمان الذي تقول به الصوفية لكنه ظاهرا من قبيل الخرافات.

السادس أن يكون إعجازه عليه السلام أثر في سرعة كلام القوم أيضا أو كان يجيبهم بما يعلم من ضمائرهم قبل سؤالهم.

السابع ما قيل ان المراد السؤال بعرض المكتوبات و الطومارات فوقع الجواب بخرق العادة. راجع بحار الأنوار

ج 50 ص 93.

[1] و قد أفتى بذلك في المختصر النافع أيضا، و ظاهر الجواهر موافقته على ذلك كما علله في الرياض بقوله: لفعله المحرم. و ظاهر سيدنا الأستاذ الأكبر أيضا ذلك إلا أن السيد الخوانساري أعلى الله مقامه استشكل في ذلك فقال في جامع المدارك ج 7 ص 149: و لو نبش و لم يأخذ ذكر في المتن لزوم التعزير و يشكل من جهة أن حرمة النبش بقول مطلق لا مدرك لها ظاهرا إلا الإجماع و لم يدل الدليل على كون النبش من المحرمات الكبيرة و لا دليل على التعزير في ارتكاب كل محرم. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 137

ثانيهما أنه لو تكرر منه نبش القبر وفات النباش عن يد السلطان فهرب منه مثلا فهنا كان للسلطان قتله. قال الشيخ المفيد: و إذا عرف الإنسان بنبش القبور و كان قد فات السلطان ثلاث مرات كان الحاكم فيه بالخيار إن شاء قتله و إن شاء عاقبه و قطعه و الأمر في ذلك إليه يعمل فيه بحسب ما يراه أزجر للعصاة و أردع للجناة. انتهى «1».

و قال شيخ الطائفة قدس سره: فإن تكرر منه الفعل وفات الإمام تأديبه كان له قتله كي يرتدع غيره عن إيقاع مثله في مستقبل الأوقات. انتهى «2».

و قال سلار: و القبر عندنا حرز و لذا يقطع النباش إذا سرق النصاب فإن أدمن ذلك وفات السلطان تأديبه ثلاث مرات فإن اختار قتله قتله و إن اختار قطعه قطعه أو عاقبه. انتهى [3].

و في بعض العبائر تقييد ذلك بإقامة الحد عليه أيضا ففي التهذيب بعد نقل قسم من الروايات الدالة على أمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بوطء نباش أتى

به و أنهم وطئوه حتى مات- ح 8 و 17- قال: فهذه الروايات محمولة على أنه إذا تكرر الفعل منهم ثلاث مرات و أقيم عليهم الحد فحينئذ يجب عليهم القتل كما يجب على السارق و الإمام مخير في كيفية القتل كيف شاء بحسب ما يراه أردع في الحال. انتهى. «4».

______________________________

[3] المراسم ص 258. أقول: و في الوسيلة لابن حمزة ص 423: فإن فعل ثلاث مرات و فات فاذا ظفر به بعد الثلاث كان الامام فيه بالخيار بين العقوبة و القطع و إن عزر ثلاث مرات قتل في الرابعة.

انتهى.

______________________________

(1) المقنعة ص 129.

(2) النهاية ص 722.

(4) التهذيب ج 10 ص 118.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 138

و هو المحكى عن الإستبصار أيضا.

و قال ابن سعيد: و من نبش قبراً و لم يسلب لم يقطع فإن سلب الكفن قطع فإن كرر النبش و السلب و حد كذلك قتل في الثالثة إلخ «1».

ثم ان هنا قيدين أحدهما التكرر و الثاني الفوت من السلطان.

أما الأول فلعله- كما في الجواهر- استفيد ذلك من لفظ النباش الذي هو من صيغ المبالغة لكن قد مر أنه لا دلالة في ذلك عليه لصيرورة هذا اللفظ كالعلم لمن نبش القبور و إن لم يتكرر منه ذلك بل و إن كان قد صدر منه ذلك أول مرة و قد رأيت إطلاق ذلك في بعض الروايات المتقدمة على من ارتكب ذلك لأول مرة مثل قوله (ع): النباش إذا أخذ أول مرة عزر. و الحال أنه كان قد أقدم على ذلك أول مرة. نعم لو كان للجمع بين الروايات فهو شي ء.

و أما القيد الثاني و هو فوت النباش عن السلطان و هربه منه بحيث فات السلطان

الظفر به فلم أعثر عليه في الروايات كما صرح بذلك في الجواهر و غيره [1] و إنما الواردة في الروايات هو إلقاء الإمام أمير المؤمنين النباش تحت أقدام الناس و قتله به فراجع ح 8 و 17.

و حيث إن في مورد التكرار قد وردت روايات بالقتل فلذا افتى المحقق و هكذا غيره ممن تعرضنا لنقل عبائرهم كالشيخين و سلار رضوان الله عليهم أجمعين بذلك.

و يمكن أن يكون التخيير في المقام من باب تخيير الحاكم في أمر المفسد بين القطع و القتل على ما هو منطوق الآية الكريمة. و أما إلقائه تحت الاقدام و وطؤه بذلك مع إمكان القتل بطريق أسهل من ذلك، فالظاهر أنه أمر موكول إلى نظر الحاكم و اختياره، و لعل النباش الذي وطئه الناس بأمر الإمام عليه السلام كان قد

______________________________

[1] قد تعرض للإشكال في الرياض أيضا فراجع.

______________________________

(1) جامع الشرائع ص 562.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 139

ارتكب المعاصي العظيمة أيضا أو أنه فعل ما فعل كثيرا فكان مستحقا لأشد العقوبات.

ثم إنك قد علمت أن المحقق علل جواز قتله للحاكم بالردع، و في الجواهر بعده: لغيره من الفساد.

و هذا التعليل بظاهره عليل و غير مستقيم و ذلك لأن ارتداع الآخرين لا يصير علة لقتل أحد و لا يجوز قتل شخص ليرتدع غيره.

لكن الظاهر أن التعليل ليس تعليلا حقيقيا بل هو من قبيل الحكمة فهذا الشخص مستحق للقتل بما أتى به من العمل القبيح و المنكر و هو نبش قبر المؤمن مرات عديدة و قد لوحظت في ذلك هذه الحكمة العالية أي ارتداع سائر الناس كي لا يقدموا على هذا العمل الشنيع- فهو نظير قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ-

ثم إنه قد تقدم ان المحقق جعل الملاك في الحرز أن يكون محرزا بقفل أو غلق أو دفن و قد ذكر في مسألة النباش أن القبر حرز للكفن حيث قال: و يقطع سارق الكفن لأن القبر حرز له.

فهنا يأتي البحث في أنه هل القبر حرز لغير الكفن أيضا أم لا؟ قال في الجواهر: و ليس القبر حرزا لغير الكفن إذا لم يكن في حرز آخر كدار عليها غلق مثلا للعرف إلخ.

و السر في ذلك أن ما ذكره من الدفن و إن كان هو حرزا و ربما يصدق في المقام ذلك إلا أن المراد بالدفن هو أن يدفن الإنسان بنفسه مالا في موضع فسرقه السارق مع أن صاحبه قد أخفاه و دفنه لا ما إذا كان مع الميت المدفون في القبر مال، فإن القبر بحسب طبعه حرز لخصوص الكفن لا بمعنى أنه أعدّ لحفظ الكفن بل بمعنى أن الكفن مصون فيه عرفا و عادة و الناس يراه محرزا في هذا المكان- و أما الأشياء الأخر فلا يعتبر العرف أن القبر مكان حفظه فلذا لا يتعارف حفظ الأموال في القبر مع الميت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 140

بقي ان الجمع بين روايات الباب بطريقين: أحدهما أن يحمل أخبار القطع على من نبش مرارا و أخبار عدم القطع على من نبش مرة واحدة كما افتى بذلك الشيخ الصدوق قدس سره في المقنع و الفقيه.

ثانيهما ان يحمل أخبار القطع على من نبش و سرق الكفن، و أخبار عدم القطع على النبش وحده و بدون سرقة الكفن.

قال السيد في الرياض مزجا: و لو نبش و لم يأخذ الكفن عزر بما يراه الحاكم لفعله المحرم فيعزر كما مر و

للقريب من الصحيح عن النباش قال: إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع و يعزر. و نحوه المرسل كالموثق في النباش: إذا أخذ أول مرة عزر فإن عاد قطع. و إطلاقهما بعدم قطع النباش إلا مع اعتياده النبش ظاهر فيما قدمناه عن الصدوق في الكتابين، و نحوهما في ذلك القريب من الصحيح الآخر عن رجل أخذ و هو ينبش. قال: لا أرى عليه قطعا إلا أن يؤخذ و قد نبش مرارا فاقطعه.

و قد حملها الأصحاب على مجرد النبش الخالي عن أخذ الكفن جمعا بينها و بين النصوص المتقدمة بحملها على سرقة الكفن كما هو ظاهرها و لا سيما الأخبار المشبهة منها بالسرقة بناءا على ما سبق.

و حمل هذه على ما عرفته و الجمع بينها و إن أمكن بما يوافق قوله إلا أن كثرة تلك الأخبار و شهرتها شهرة قريبة من الإجماع المحتمل الظهور المصرح به فيما مر من الكتب ترجح الجمع الأول فالقول به متعين «1».

ترى أنه قدس سره اختار الجمع بينهما بالحمل على سرقة الكفن، و النبش المجرد فيقطع في الأول دون الثاني الا ان يكرر ذلك و لذا قال بعد ذلك مازجا: و لو تكرر منه النبش المجرد عن أخذ الكفن قطع بمقتضى هذه المعتبرة و في هذه الصورة لو فات النباش السلطان أي هرب منه فلم يقدر عليه جاز له كما في كلام كثير و لغيره أيضا كما في ظاهر إطلاق العبارة قتله ردعا لغيره من أن ينال مثل فعله.

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2 ص 496.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 141

فيما يثبت به

قال المحقق: الثالث ما يثبت به. و يثبت بشهادة عدلين و بالإقرار مرتين و لا تكفي المرة.

أقول:

اما إثبات ذلك بشهادة العدلين فهو مدلول الكتاب و السنة.

أما الأول فلقوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «1» و قوله سبحانه:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ «2».

و أما الثاني فعن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

إذا أقر المملوك على نفسه بالسرقة لم يقطع و إن شهد عليه شاهدان قطع «3».

أما ثبوته بالإقرار مرتين فلما دل على حجية الإقرار و لمرسل جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين فإن رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود «4».

و في نقل آخر عن الشيخ مسندا لا مرسلا هكذا: محمد بن الحسن في التهذيب بإسناده عن محمد بن علي بن علي بن محبوب بن علي بن السندي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين و لا يرجم الزاني حتى يقر اربع مرات [1].

و عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: كنت عند عيسى بن موسى فأتى بسارق و عنده رجل من آل عمر فأقبل يسألني فقلت: ما تقول في السارق إذا أقر على نفسه أنه سرق؟ قال: يقطع. قلت: فما تقول في الزنا إذا أقر

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 6. و لا يخفى أن علي بن السندي مجهول إلا انه قيل بأن جميل من أصحاب الإجماع قد أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنه

______________________________

(1) سورة الطلاق الآية 2.

(2) سورة البقرة الآية 282.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 35 من أبواب حد السرقة

ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 142

على نفسه مرات؟ قال: نرجمه. قلت: و ما يمنعكم من السارق إذا أقر على نفسه مرتين أن تقطعوه فيكون بمنزلة الزاني «1».

و يظهر من هذا الخبر أن عيسى بن موسى كان أميرا و عامل الخليفة في البلد كما يظهر منه أن هذا الرجل الذي عنده من آل عمر كان ممن يتقى منه و أن مبني العامة و لا أقل من فرقة منهم هو الاجتزاء بمرة واحدة.

و الرواية مشتملة على نوع من الاضطراب إلا أنهم فهموا من مجموعها أنه كلما كان يلزم أربعة شهود يعتبر هناك اربع اقرارات و كلما اكتفى بشاهدين يجتزى فيها بإقرارين و حيث إن يعتبر في القطع للسرقة شاهدان فلا بد من مراعاة المرتين في الإقرار.

و مقتضى هذه الأخبار عدم الاجتزاء بالإقرار مرة واحدة.

لكن في قبال هذه الأخبار أخبار تدل على الإكتفاء بمرة واحدة و منها رواية ضريس عن أبي جعفر عليه السلام قال: العبد إذا أقر على نفسه عند الإمام مرة أنه قد سرق، قطعه و الأمة إذا أقرت بالسرقة قطعها «2».

لكن فيها مناقشات:

فمن جملتها أنه لا اعتبار بإقرار العبد أو الأمة، لأنه إقرار في حق الغير و هو المولى.

و إن كان يجاب عن هذه المناقشة بأن المراد من العبد و الأمة ليس هو معناهما المصطلح بل المراد منه عبد الله و أمته- فكأنه قال: الرجل إذا أقر و المرأة إذا أقرت.

و منها اعتبار كون الإقرار عند الإمام و نتيجة ذلك، التفصيل بين الإقرار عند الإمام المعصوم و عند غيره.

و قد حملوا ذلك أيضا على أن المراد من الامام هو

الحاكم مطلقا لا خصوص الامام المعصوم عليه السلام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 143

و من هذه الأخبار صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أقر الرجل الحر على نفسه مرة واحدة عند الإمام قطع «1» و في نقل الشيخ عن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أقر الحر على نفسه بالسرقة مرة واحدة عند الإمام قطع «2».

و يجري فيها أيضا ما ذكر آنفا في السابقة من اشتمالها على لفظ (الامام) و الكلام هو الكلام.

و هنا شي ء آخر و هو احتمال تعلق قوله عليه السلام (مرة واحدة) بالسرقة فتكون الرواية متعلقة بالمرة و المرار و دالة على الاكتفاء بالمرة في قبال الصدوق القائل باعتبار المرار. نعم يحتمل أيضا تعلقه بالإقرار فتكون شاهدا على المقام لكن مقتضى ما ذكر في الأصول من تعلق القيد بالأخير من اللفظين القريب منه هو تعلقه بالسرقة لا بالإقرار.

و مقتضى ظاهر دليل الإقرار أيضا هو الإكتفاء به مرة واحدة. قال في المسالك- بعد قول المصنف: و يثبت بشهادة العدلين-: هذا هو المشهور بين الأصحاب و مستندهم رواية جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما قال: لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين فإن رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود، و لأنه حد فلا يستوفي بالإقرار مرة كغيره من الحدود و لبناء الحدود على التخفيف، و لا يخفى ضعف الأخيرين فإنّ توقف إثبات الحدود مطلقا على المرتين يحتاج إلى دليل و إلا فعموم الأدلة يقتضي الاكتفاء

بالإقرار مرة مطلقا إلا ما أخرجه الدليل، و بناء الحدود على التخفيف لا يدل بمجرده على اشتراط تعدد الإقرار و الرواية ضعيفة السند بعلي بن حديد و بالإرسال.

و من ثم ذهب الصدوق الى الاكتفاء بالإقرار مرة لصحيحة الفضيل عن أبي

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 3.

(2) التهذيب ج 10 ص 126 ح 121.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 144

عبد الله عليه السلام. و في صحيحة أخرى للفضيل قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: من أقر على نفسه عند الإمام بحق حد من حدود الله تعالى مرة واحدة حرا كان أو عبدا حرة أو أمة فعلى الإمام أن يقيم عليه الحد الذي أقر به على نفسه كائنا من كان إلا الزاني المحصن. الحديث، و إطلاق كثير من الروايات بقطعه مع إقراره بالسرقة من غير تفصيل و هو يتحقق بالمرة، و أجيب بحمل الرواية على التقية لموافقتها لمذهب العامة و فيه نظر لضعف المعارض الحامل على حملها على خلاف الظاهر. انتهى.

فهو رحمه الله قد ضعف أدلة المرتين و قوى جانب المرة، و الاكتفاء بها، و يظهر منه قدس سره أنه لا يرى بأسا بمخالفة المشهور و لا يرجح الرواية بموافقتهم.

و في كشف اللثام- بعد كلام العلامة: إنما يثبت بشهادة العدلين أو الإقرار مرتين- قال: كما قطع به الأصحاب و حكى عليه الإجماع في الخلاف و به مرسل جميل عن أحدهما (ع). و روى أن سارقا. و عن أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام قال: كنت عند عيسى بن موسى.

(ثم قال:) و عن المقنع أن الحر إذا اعترف على نفسه عند الإمام مرة واحدة بالسرقة قطع. و

لم أره فيما عندي من نسخة، و لكن به صحيح الفضيل عن الصادق (ع). و حمله الشيخ على التقية و يحتمل تعلق الظرف بالسرقة فيكون مجملا في عدد الإقرار و يقرّبه إمكان توهم المخاطب أو بعض الحاضرين في المجلس أنه لا يقطع ما لم يتكرر السرقة (ثم قال:) و لو لا ظهور الاتفاق من الأصحاب على الاشتراط بالمرتين احتملنا في الخبر الأول تعلق مرتين بقوله بالسرقة احتمالا ظاهرا، على أن الشبهة تدرء الحدود و هي مبنية على التخفيف إلخ.

كما أن صاحب الرياض أيضا رجح القول بالمرتين. قال مزجا بعد أن نفى الخلاف و الإشكال عن مورد شهادة عدلين أو الإقرار مرتين: و لو أقر مرة واحدة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 145

غرم الذي أقر به بلا خلاف و لكن لم يقطع كما قطع به الأصحاب على الظاهر المصرح به في بعض العبائر بل فيه عن الخلاف التصريح بالإجماع و هو الحجة مضافا إلى المعتبرين و لو بالشهرة المروي أحدهما هنا في الخلاف و التهذيب: لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين فإن رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود و نحوه الثاني المروي في التهذيب في باب حد الزنا و هو أوضح من الأول سندا إذ ليس فيه إلا علي بن السندي و قد قيل بحسنه بخلافه لتضمنه علي بن حديد الضعيف بالاتفاق و الإرسال بعده لكنه لجميل بن دراج المجمع على تصحيح ما يصح عنه [1] خلافا للمحكي عن المقنع فيقطع للعموم و إطلاق ما دل على القطع بالسرقة من النصوص و خصوص الصحيح: إن أقر الرجل الحر على نفسه واحدة عند الإمام قطع، و نحوه آخر يأتي

ذكره مع ضعف المعارض بما مر و هو حسن لو لا ما مر من الجابر و به يترجح على المقابل فيخص به العموم و كذا الإطلاق يقيد به، و الصحيحان يصرفان به عن ظاهرهما باحتمال أن يكون معنى القطع فيهما قطعه عن الإقرار ثانيا كما روى أن سارقا أقر عند مولانا أمير المؤمنين (ع) فانتهره فأقر ثانيا فقال: أقررت مرتين فقطعه، و هو حجة أخرى على المختار و بالجابر المتقدم يجبر ما فيه من الضعف أو الإرسال، أو يكون متعلق الظرف بالسرقة فيكون مطلقا في عدد الإقرار بل مجملا كما صرح به شيخ الطائفة قيل و يقربه إمكان توهم المخاطب أو بعض الحاضرين في المجلس أنه لا قطع ما لم يتكرر السرقة و لكن الإنصاف بعد هذين الحملين و لعله لذا لم يجب الشيخ عنهما في الكتابين إلا بالجمل على التقية (قال:) لموافقتها لمذهب العامة. انتهى.

و هكذا مشى صاحب الجواهر قدس سره فقد رجح المرتين و اختار ذلك و ذكر

______________________________

[1] هذا لا يخلو عن كلام لأن كونه من أصحاب الإجماع يصلح أمر جميل و ما بعده و الحال أن علي بن حديد قد وقع في هذه الرواية قبل فضيل. ثم إني أظن أن في عبارة الرياض هذه خللا و لا بد من مراجعة نسخة أخرى منه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 146

في آخر بحثه: فما عساه يظهر من بعض الناس من الميل الى العمل بالصحيح المزبور في غير محله. انتهى.

و الميزان في المقام أنه لو كان عمل المشهور مرجّحا كما ذهب إليه في كشف اللثام و الرياض و الجواهر فلا محالة يقال بالمرتين و إلا فيؤخذ بالخبر الصحيح الدال على المرة.

و الصحيح

عندنا هو الأول فإن الرواية مع كونها في متناول أيديهم و بأعينهم بل وصلت إلينا بواسطتهم فلم يعملوا بها مع كونها صحيحة فهذا يضعفها و يسقطها عن الاعتبار و تتقوى الأخبار الدالة على اعتبار المرتين.

و حينئذ فتحمل صحيح فضيل على التقية كما قاله الشيخ رحمه الله و الشاهد عليها خبر أبان، قال في التهذيب بعد نقل الخبر: قال محمد بن الحسن: الإقرار بالسرقة يحتاج إلى مرتين فأما مرة واحدة فلا يوجب القطع و قد قدمنا ذلك فيما مضى. و الوجه في هذه الرواية أن نحملها على ضرب من التقية لموافقتها لمذاهب بعض العامة و أما الروايات التي قدمناها في أنه إذا أقر قطع، ليس فيها أنه مرة أو مرتين بل هي مجملة و إذا كان الأحاديث التي قدمناها مفصلة فينبغي أن يكون العمل بها. انتهى.

ثم لا يخفى أن هذا كله بالنسبة إلى القطع فإنه يحتاج إلى البينة أو الإقرار مرتين كما في سائر الحدود و أما بالنسبة للمال فإنه يثبت بالإقرار مرة واحدة كما هو مقتضى أدلة الإقرار.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 147

في شرائط المقرّ

قال المحقق قدس سره: و يشترط في المقر البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار فلو أقر العبد لم يقطع لما يتضمن من إتلاف مال الغير.

أقول: من جملة الشرائط المعتبرة في الإقرار- حتى يقطع به- هو البلوغ فلا عبرة بإقرار الصبي و لو قلنا بأنه تقطع يد الصبي أيضا للسرقة تأديبا.

و من جملتها كمال العقل فلا اعتبار بإقرار المجنون و قد نفي في الجواهر الخلاف و الإشكال في كليهما.

و من جملتها الحرية فلا بد من كون المقر حرا حتى يحكم بقطع يده و قد نفى عنه الخلاف أيضا

بل عن الخلاف الإجماع على ذلك.

و العمدة في المقام أمران:

أحدهما نفس قاعدة الإقرار.

ثانيهما الخبر الصحيح أما الأول فلأن مقتضى القاعدة هو نفوذ إقرار كل أحد في حق نفسه دون غيره و من المعلوم أن الإقرار بما يوجب القطع يؤل إلى الإقرار في حق الغير و بضرره لأن العبد ملك للمولى و إن كان فيه إيلام لنفسه أيضا لكن الذي يمنع عن نفوذ إقراره هو كونه إقرارا بالنسبة إلى الغير.

و أما الثاني فعن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا أقر المملوك على نفسه بالسرقة لم يقطع و إن شهد عليه شاهدان قطع «1».

ترى التصريح في هذه الصحيحة بعدم القطع بإقرار العبد على نفسه و أنه يقطع بالبينة.

نعم هنا صحيح آخر للفضيل أيضا يدل على خلاف ذلك و هي: قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من أقر على نفسه عند الإمام بحق من حدود الله

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 35 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 148

مرة واحدة حرا كان أو عبدا أو حرة كانت أو أمة فعلى الإمام أن يقيم الحد عليه للذي أقر به على نفسه كائنا من كان إلا الزاني المحصن فإنه لا يرجمه حتى يشهد عليه أربعة شهداء فإذا شهدوا ضربه الحد مأة جلدة ثم يرجمه «1».

و قد ذكر في الجواهر أنه يخص هذا الصحيح بالصحيح الأول و الإجماع المزبور المتقدم على عدم القطع.

أقول: و ما ذكره لا يخلو عن خفاء و ذلك لأنه لو كان أحدهما يقول بأن من أقر على نفسه يقطع. و الآخر يقول: إن العبد لا يقطع، لتم ما ذكره من التخصيص

حيث إنه على ذلك كان أحدهما عاما و الآخر خاصا و الحال ان المقام ليس كذلك لأن الصحيح الأول وارد في خصوص العبد و صريح بأنه يقطع يد العبد بالإقرار، و الثاني مصرح بأن من أقر سواء كان حرّا أو عبدا فإنه يقام عليه الحد و على هذا فكل منهما متعرض لحال العبد أحدهما يقول: لا يقطع و الآخر يقول: يقطع.

نعم يمكن أن يكون المراد من التخصيص أن الصحيح الثاني متعلق بكل حق و حد من حدود الله تعالى فهو عام، بخلاف الأول فإنه متعلق بخصوص السرقة و هو خاص، و مقتضى تخصيص العام بالخاص أن يقال: إن من أقر بأي واحد من الحدود فإنه يقام عليه الحد إلا في خصوص السرقة فإنه لا يقطع يد من أقربها.

و أما الجمع بينهما بكون الثاني متعلقا بالإقرار عند الإمام، كما هو مذكور فيه، فلذا يقام عليه الحد بخلاف الأول فإنه يحمل على ما إذا كان الإقرار عند غيره فلا يقطع. ففيه أن هذا هو التفصيل الذي حكاه في الجواهر عن المختلف، ورده.

و هنا رواية أخرى و هي حسنة ضريس عن أبي جعفر عليه السلام قال: العبد إذا أقر على نفسه عند الإمام مرة أنه قد سرق قطعه و الأمة إذا أقرت بالسرقة قطعها «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 32 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 149

و هذه معارضة لصحيح فضيل، و لو تساقطا فلا دليل على القطع بعد أنه لا تشمله قاعدة الإقرار.

و في الجواهر بالنسبة لصحيح فضيل الثاني الدال على القطع: الموافق للمحكي عن العامة و

المنافي لما دل على تخير الإمام بين الحد و عدمه إذا كان بالإقرار و لغيره مما دل على اعتبار المرتين أو الأربع في ما تقدم من الحدود. انتهى.

ثم إنه قد ذكر في الكلمات لحسن ضريس وجوه من الحمل:

منها أن يحمل على تصديق السيد قال العلامة في القواعد: و الأقرب أن العبد إذا صدقه مولاه قطع. انتهى.

و في المسالك: و يمكن حملها على ما إذا صادقة المولى عليها فإنه يقطع حينئذ لانتفاء المانع من نفوذ إقراره حينئذ كما في كل إقرار على الغير إذا صادقة على ذلك الغير. انتهى.

و منها أن يحمل على إضافة الشهادة على إقرار العبد أو الأمة. قال الشيخ الوجه في هذا الخبر أن نحمله إذا انضاف إلى الإقرار البينة. فأما مجرد الإقرار فلا قطع عليهما. انتهى «1».

و منها أن يحمل العبد و الأمة على مطلق الأحرار لأنهم عبيد الله و إمائه «2».

و منها حمله على أنه كان في المجلس اسم بعض العامة فقال الإمام عليه السلام بأن رأي هذا البعض هو القطع بالإقرار. قال الفاضل الأصبهاني في الكشف:

و يحتمل أن يكون فاعل (قطعه و قطعها) من اسمه من العامة في مجلسه و يكون المعنى أنه يذهب إلى قطع المملوك بإقراره.

و لا يخفى ما في هذه الوجوه أو أكثرها من البعد و خلاف الظاهر الذي ربما يكون طرح الخبر اولى من الجمع كذلك، فهل يصح ان يكون المراد من العبد

______________________________

(1) التهذيب ج 10 ص 112.

(2) راجع الوسائل ج 18 ص 488.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 150

و الأمة عبد الله و أمته؟ و هل ليس هذا التعبير إلقاء للمخاطب في الاشتباه؟ و هكذا الوجوه الأخر و مع ذلك كله فالمقام

مقام الجمع و يقال بمثل هذه الأمور في مقام الجمع كثيرا.

نعم الوجه الأول في غاية الإشكال فكيف يمكن الحكم بقطع يد العبد بتصديق المولى؟ و مجرد كون العبد ملكا و مالا لمولاه لا يقتضي ذلك.

ثم بعد أن ثبت و تحقق أنه لا يقطع يد العبد بإقراره على نفسه بالسرقة فلو انعتق بعد ذلك فهل يقطع حينئذ لو كان قد أقر بذلك مرتين في زمان عبوديته؟

فيه وجهان:

فمن أن الأصل هو العدم و كذا اندراء الحد ابتداء فيستصحب فلا قطع.

و من أن المانع من إجراء الحد عليه هو العبودية و قد ارتفع هذا المانع فلا بد من القطع.

و إن شئت فقل: تارة يستظهر أنه لم يجعل الله تعالى القطع على العبد بإقراره فهو كالعدم و على هذا فلا وجه لعود الحكم بالقطع بعد انعتاقه و أخرى نقول: بأن حكم آية السرقة شامل للعبد أيضا إلا أنه قد منع عنه المانع و هو كون إقراره في حق مولاه فلذا يرتفع الحكم بالقطع و عليه فاذا انعتق فقد ارتفع المانع و يجري حينئذ الحكم، لكن الظاهر هو عدم حجية إقرار العبد على مولاه، إذا فلا وجه لحجيته بعد أن انعتق و صار حرا.

و هنا بيان آخر و تقريب أوضح و هو أنه هل المستفاد من الأدلة أن إقرار العبد أي الإقرار الناشي منه لا يؤثر في القطع أو أن العبد بما هو عبد لا يقطع يده بإقراره؟

الظاهر هو الأول فلا يترتب على إقرار العبد أثر القطع أصلا.

ثم إن في المسألة قولين أيضا أحدهما ما ذهب إليه صاحب الرياض و هو أن العبودية مانعة فاذا زالت أثّر الإقرار أثره. قال رحمه الله: و هل يقطع حينئذ؟ وجهان، من ارتفاع المانع

و من اندراءه ابتداء فيستصحب، و لعل هذا أقرب للشبهة الدارئة. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 151

و في الحقيقة إشكاله رحمه الله في دلالة العموم بالنسبة إلى دليل الإقرار و قد قوى عدم اجراء الحد عليه بعد ذلك.

و خالف في ذلك صاحب الجواهر قدس سره فقال: و هل يقطع بعده لو أقر به مرتين قبله؟ إشكال من الأصل و سبق درء الحد المستصحب و من عموم ما دل على حجيته بعد ارتفاع المانع بل لعل الأخير لا يخلو عن قوة لانقطاع الأصل بالعموم المزبور المقتضى ثبوت الإقرار على النفس حين صدوره و إن لم يجز القطع لحق المولى فلا درء حينئذ حتى يستصحب كالاعتراف بما يوجب القصاص.

انتهى.

و الظاهر أن الحق هو الأول و ذلك لأنه لو كان يجب القطع بعد رفع العبودية فكان يلزم ذكر ذلك بأن يقال: لا يقطع ما دام عبدا كما أنه قد صرح بأنه إذا ارتفعت العبودية يجب عليه أداء المال مجمعين عليه، و الحاصل أن عدم ذكر ذلك كتأخير البيان عن وقت الحاجة و هو غير جائز.

و هنا فرع آخر تعرض له في الجواهر و هو أنه: لو أقر المحجور عليه لسفه أو فلس بسرقة عين مرتين قطع و لا يقبل في المال و إن تبع الأخير بالعين بعد زوال الحجر.

أقول: الوجه في ذلك أن المحجور عليه ممنوع عن التصرف المالي فلذا لو أقر بعين فلا يقبل منه بخلاف القطع فإن إقراره بالنسبة إليه لا مانع عنه، فإذا أقر بسرقة عين يقطع يده إذا اجتمعت شرائط السرقة و قد أقر مرتين فما ليس عنه مانع هو القطع و اما المال الذي هو محجور عليه منه فلا يؤثر

إقراره بالنسبة إليه، و لا يسمع عنه إقرار يوجب نقص المال في الأول و ضرر الدائنين في الثاني. نعم لا بد من دفع العين بعد زوال الحجر عنه فيما إذا كان حجره للفلس دون السفه، و الفرق بينهما أن السفيه لا اعتبار لعبارته بالنسبة إلى المال بخلاف المفلس فإن فلسه مانع فاذا ارتفع يجب الأداء و قد اتضح بما ذكرنا أن وجه عدم قطع يد العبد هو فقد شرط الحرية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 152

فيما إذا أقرّ مكرها

قال المحقق: و كذا لو أقر مكرها و لا يثبت به حد و لا غرم.

أقول: من جملة الشرائط المعتبرة في نفوذ الإقرار هو الاختيار بلا خلاف و لا إشكال كما في الجواهر و على ذلك فلا يقطع يد المقر إذا كان مكرها على الإقرار أو ساهيا أو غافلا أو نائما أو مغمى عليه و لا يثبت به الغرم أيضا خلافا للعبد في هذه الجهة- فإنه يغرم بعد ذلك بل يحد على قول كما مر- و على الجملة فليس عليه شي ء حتى بعد أن زال الإكراه أو السهو أو الغفلة أو النوم أو الإغماء.

إذا أقرّ بسبب الضرب ثم ردّ السرقة

قال المحقق: و لو رد السرقة بعينها بعد الإقرار بالضرب قال في النهاية يقطع و قال بعض الأصحاب لا يقطع لتطرق الاحتمال إلى الإقرار إذ من الممكن أن يكون المال في يده من غير جهة السرقة و هو حسن.

أقول: إذا أقر بالسرقة، بسبب الضرب ثم دفع العين فهل يقطع يده بعد أن مضى أنه لا يقطع بإقراره بالضرب و من غير اختيار أم لا فإنه قد جمع هنا بين الإقرار و دفع المال و إن كان قد أقر بسبب الضرب؟

ذهب الشيخ في النهاية إلى أنه يقطع يده، و خالفه فيه بعض الأصحاب كالحلي و من تبعه ممن تأخر عنه و ذلك لأن الإقرار كان بعد الضرب و الإكراه، فلا اعتبار به و أما المال فدفعه له لا يدل على سرقته لا مكان حصول المال في يده لا بالسرقة.

و استحسنه المحقق على ما رأيت.

و لكن الأقوى عندي و الأحسن هو الأول و هو ما ذهب اليه الشيخ، و ذلك لأنه هب أن الإقرار كان للإكراه عليه بالضرب فلما ذا جاء بالعين و دفعها؟

فهذا الدفع قرينة على صدق إقراره و إن كان قد أقر عقيب الضرب فمع فرض إتيانه

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 153

بالعين لا يتوجه القول بأنه ربما كان إقراره للخوف و الإكراه كما أنه لو أكره على إتيان العين فجاء بها ثم أقر بعد ذلك بالسرقة فإنه يتوجه عليه أنه لو لم يكن سارقا فلما ذا أقر مختارا بعد إتيانه بالعين مكرها؟ و اي شخص يعترف بعد رده العين مكرها بكونه سارقا مع عدم كونه سارقا و عدم إجباره على الإقرار بها الا أن يكون مجنونا.

و على الجملة فإتيانه بالعين بعد إقراره مكرها عليه كاشف عن صدقه فيما أقر به من السرقة فإن عدم حجية إقراره كان لأجل عدم كشف إقراره- حيث ضرب حتى أقر- عن الواقع و بعد دفع العين يتحقق الكشف فزال المانع عن قبول إقراره و هو قد أظهر الواقع بفعله و رده المال إلى صاحبه. و بتعبير آخر و أخصر أن بالرد قد زالت و ارتفعت الخصوصية الموجبة لعدم حجية إقراره و هي نشأه عن الإكراه.

نعم مجرد الإتيان بالعين و ان كان بالضرب و الإكراه لا يدل على السرقة لإمكان حصول المال عنده بسبب آخر و إن كان قد يأبى بعد ذلك عن أدائه فأكره و ضرب حتى أداه كما أن مجرد الإقرار مكرها لا يؤثر في الحد.

ثم إنه قد وقع في المقام تنظير بين ما نحن فيه و بين باب قي ء الخمر ففي الجواهر: لأن ردها قرينة على فعلها كالقيى ء. انتهى. أي إن رد السرقة دليل على فعل السرقة كما أن من قاء الخمر فهو دليل على أنه قد شرب الخمر.

و هذا لا يخلو عن اشكال و

ذلك لأن القي ء و إن كان دالا على أنه شرب الخمر لعدم إمكان قيئه بدونه إلا أنه لا دليل على شربه مختارا فلعله أكره على شربه.

و كيف كان فقد استدل أيضا بحسن سليمان بن خالد أو صحيحه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب فجاء بها بعينها هل يجب عليه القطع؟ قال: نعم و لكن لو اعترف و لم يجي ء بالسرقة لم تقطع يده لأنه اعترف على العذاب «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 7 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 154

تقريب الدلالة أنه و إن لم يكن في الصدر ذكر عن الاعتراف إلا أنه يعلم بقرينة قوله عليه السلام في الذيل: و لكن لو اعترف و لم يجي ء إلخ أن المراد من الفرض الأول و المفروض فيه هو أنه اعترف و جاء بها بعينها.

و يمكن الإشكال بأن الظاهر من الخبر هو أن السرقة كانت ثابتة بالعلم أو البينة و كان الضرب للرد دون ما ثبت بالإقرار مع الخوف أو التهديد.

قال في الجواهر: انه ظاهر في معلومية السرقة و أن الضرب على الرد لا على الإقرار أو ظاهر في الغالب من الضرب للمتهم المعروف بذلك فيقر و يرد على وجه يعلم من القرينة أنه سارق و إلا كان شاذا لا قائل به ضرورة اقتضائه ترتب القطع على ردها بعينها من دون إقرار، و الأولوية تتوقف على ثبوت الأصل و لم نجد قائلًا به.

و الأقوى عندي هو قول الشيخ لأن الرد مع الإقرار بالسرقة دليل على عدم كون العين عنده بغير سرقة و يكفي الرد في دفع الخوف أو الضرب فمقتضى القاعدة

هو القطع و إن أغمضنا النظر عن الرواية.

إذا رجع بعد الإقرار مرتين

قال المحقق: و لو أقر مرتين و رجع لم يسقط الحد و تحتمت الإقامة و لزمه الغرم و لو أقر مرة لم يجب الحد و وجب الغرم.

أقول: إذا أقر مرتين ثم بعد ذلك رجع ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها عدم سقوط الحد عنه، و قد ذهب إليه الشيخ و الحلي و المحقق و الفاضل و الشهيدان و غيرهم بل ربما نسب إلى الأكثر على ما في الجواهر و اختاره المحقق قدس سره.

و يدل على ذلك أمور:

منها ان الحد قد تحتم بتحقق موجبه و هو الإقرار بالسرقة مرتين فلا ينفع الإنكار بعد الإقرار سواء كان رجوعه بتكذيب نفسه بان قال: كذبت أو بنسبة نفسه إلى الغلط و الاشتباه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 155

و منها الاستصحاب فإنه لو شك في بقاء الحد بعد الرجوع عن إقراره فإن الاستصحاب يقتضي بقاءه.

و منها الروايات الشريفة ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أقر على نفسه بحد ثم جحد بعد، فقال: إذا أقر على نفسه عند الإمام أنه سرق ثم جحد قطعت يده و إن رغم أنفه و إن أقر على نفسه أنه شرب خمرا أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلده. قلت: فإن أقر على نفسه بحد يجب فيه الرجم أ كنت راجمه؟ فقال: لا و لكن كنت ضاربه الحد «1».

و في صحيحه الآخر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أقر الرجل على نفسه بحد أو فرية ثم جحد جلد. قلت: أ رأيت إن أقر على نفسه بحد يبلغ فيه الرجم أ كنت ترجمه؟ قال: لا و لكن كنت ضاربه «2».

و عن محمد بن

مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أقر على نفسه بحد أقمته عليه الا الرجم فإنه إذا أقر على نفسه ثم جحد لم يرجم «3».

و يؤيد ذلك بخبر سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه فإن قال الذي سرق له: أنا أهبه له لم يدعه إلى الامام حتى يقطعه إذا رفعه إليه و إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام و ذلك قول الله عز و جل: و الحافظون لحدود الله، فإذا انتهى الحد إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «4».

و قد تمسك الشهيد الثاني في المسالك لذلك بحديث سرقة رداء صفوان أيضا قال: و أما رجوعه عنه حيث ثبت فلا أثر له كما في كل إنكار بعد الإقرار إلا ما أخرجه الدليل من حد الزناء و قد تقدم في حديث سارق رداء صفوان ما يدل عليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.

(4) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 156

و أن النبي (ص) لما عفى عنه صفوان و وهبه الرداء قال له: هلا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ. انتهى.

و الظاهر أنه جعل الرجوع بمنزلة الهبة فكما لا يفيد هبة المسروق عنه كذلك لا يفيد رجوعه بعد الإقرار.

ثانيها ما نسب إلى الشيخ في النهاية و التهذيب و الاستبصار و الى القاضي و التقي و ابن زهرة و الفاضل

في المختلف و هو سقوط القطع. و في الجواهر: بل قيل:

لعله الأشهر بين القدماء بل عن الغنية الإجماع عليه.

و قد استدل لذلك بمرسل جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين فإن رجع ضمن السرقة و لم يقطع إذا لم يكن شهود «1».

ثالثها ما عن الخلاف و موضع آخر من النهاية و هو تخيير الإمام بين قطعه و العفو عنه مدعيا في الأول الإجماع عليه.

و قد استدل على ذلك بروايتين:

إحديهما خبر طلحة بن زيد عن جعفر عليه السلام قال: حدثني بعض أهلي أن شابا أتى أمير المؤمنين عليه السلام فأقر عنده بالسرقة قال: فقال له علي عليه السلام: إني أراك شابا لا بأس بهبتك فهل تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة فقال: و هبت يدك لسورة البقرة قال: و إنما منعه أن يقطعه لأنه لم يقم عليه بينة «2».

و الأخرى خبر أبي عبد الله البرقي عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين عليهم السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقر بالسرقة فقال له:

أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد السرقة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 157

قال: فقال الأشعث: أ تعطل حدا من حدود الله؟ فقال: و ما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو و إذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا و إن شاء قطع «1».

و قد

أورد على هذا القول بأن الروايتين ضعيفتان و لا جابر لهما و ذلك لعدم الفتوى على ذلك فلم يذهب إليه غير الشيخ و بذلك يوهن الإجماع الذي ادعاه.

هذا مضافا إلى عدم ذكر الرجوع بعد الإقرار فيهما و هما محتملان للإقرار مرة كما ذكر ذلك في الجواهر، فإذا سقط القول الثالث عن الاعتبار فيبقى الأولان و مع دوران الأمر بينهما فالترجيح للأول لقوة دليله و ذلك لما مر من أن دليل عدم السقوط مرسل و كان في روايات القول الأول بعض الأخبار الصحاح. و لو لم يمكن ترجيح الأول بسبب ما ذكر من أن الثاني هو الأشهر بين القدماء و ادعاء الإجماع عليه- و بتعبير آخر لو تردد الأمر بينهما و لم يمكن الترجيح- فهناك يؤخذ بقاعدة درء الشبهة لو لا القول بمقتضى العمومات و أنه لا شبهة معها.

هذا كله بالنسبة إلى جهة القطع و أما بالنسبة إلى غرامة المال فلا إشكال في ذلك بل لا حاجة الى تعدد الإقرار فإن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز فيثبت المال بمجرد الإقرار.

ثم إنه قد اتضح مما ذكر أنه كما كانت في المسألة ثلاثة أقوال كذلك كانت فيها ثلاث طوائف من الروايات و قد قدمناها.

و اما ما ذكر في ذيل القسم الأول من الروايات من قوله عليه السلام: و لكن كنت ضاربه، فيحتمل أن يكون المراد من الضرب هناك التعزير فالمعنى أنه بعد ان جحد ما اعترف به أولا من حد الرجم لا أجرى عليه حد الرجم و لكن أعزره.

و يمكن أن يكون المراد منه الحد المصطلح فينفى الرجم و لكن يقام عليه الحد اعنى الجلد و تحقيق ذلك موكول الى محله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من

أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 158

ثم إن ما تقدم كان حكم الإقرار مرتين و أما لو أقر بالسرقة مرة واحدة فلا يجب الحد لأن المعتبر في الإقرار في باب الحد هو المعتبر في الشهادة و أما الغرم فقد مر أنه يجب بأول مرة.

الكلام في الحد نفسه

قال المحقق: الرابع في الحد و هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى و يترك الراحة و الإبهام.

أقول: هنا أبحاث فتارة يبحث في أصل القطع و أنه هل يجب هذا الحد أم لا و أخرى في موضوعه و ثالثة في مقداره و كيفيته. و الأخبار الواردة متعرضة لكل هذه الجهات و لعلها تكون متواترة أو فوق حد التواتر و سيتضح جميع هذا الأبحاث في طي ما يأتي من المطالب إن شاء الله.

اما أصل القطع فلا خلاف بين المسلمين في ذلك و يدل على ذلك الكتاب و السنة اما الأول فقوله تعالى: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ «1» و أما الروايات فسوف تراها.

كما ان موضوعه هو اليد أولا كذلك.

و اما أنه من أين يقطع و كيف يقطع فهو محل الكلام بين العامة و الخاصة فهم يقولون بأنه يقطع من الكوع الى المفصل الذي بين الكف و الذراع.

قال ابن رشد القرطبي الأندلسي: أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع و هو الذي عليه الجمهور و قال قوم: الأصابع فقط فأما إذا سرق من قطعت يده اليمنى في السرقة فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز و العراق تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى و قال بعض أهل الظاهر و بعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى و لا

يقطع منه غير ذلك «2».

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 38.

(2) بداية المجتهد و نهاية المقتصد ج 4 ص 331.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 159

و أما الإمامية فهم مجمعون على أنه من أصول الأصابع و يترك الراحة و الإبهام.

قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه إلخ.

و قد اتضح بما ذكرنا أن مراده من عدم الخلاف و الإجماع هو بالنسبة إلى الأصحاب و ليس مراده إجماع المسلمين اجمع.

و إنى بنفسي رأيت و شاهدت في سفر الحج يد سارق كانت معلقة بعرفات كي يراها و يشاهدها الناس و كانت قد قطعت في حكومة آل سعود من المفصل الذي بين الكف و الذراع.

قال شيخ الطائفة: موضع القطع في اليد من أصول الأصابع دون الكف و يترك له الإبهام و من الرجل عند معقد الشراك من عند الناتي على ظهر القدم يترك له ما يمشى عليه و هو المروي عن علي عليه السلام و جماعة من السلف و قال جمع الفقهاء أبو حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي: إن القطع في اليد من الكوع و هو المفصل الذي بين الكف و الذراع و كذلك تقطع الرجل من المفصل بين الساق و القدم و قالت الخوارج: يقطع من المنكب لأن اسم اليد يقع على هذا. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضا قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ) و معلوم أنهم يكتبون بأصابعهم دون الساعد و الكف و أيضا ما قلناه مجمع على قطعه و ما قالوه ليس عليه دليل. انتهى «1».

و قال أيضا: ان القطع عندنا من أصول الأصابع في اليد و في الرجل من عند معقد الشراك من عند الناتي على

ظهر القدم و يترك له ما يمشي عليه، و عندهم من الكوع و هو المفصل الذي بين الكف و الذراع و المفصل الذي بين الساق و القدم و قالت الخوارج: يقطع من المنكب. انتهى «2».

و إليك الروايات: عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: من أين

______________________________

(1) الخلاف كتاب السرقة مسألة 31.

(2) المبسوط ج 8 ص 35.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 160

يجب القطع؟ فبسط أصابعه و قال: من ههنا يعنى من مفصل الكف [1].

و عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: القطع من وسط الكف و لا يقطع الإبهام و إذا قطعت الرجل ترك العقب لم يقطع «1».

و عن سماعة بن مهران قال: قال: إذا أخذ السارق قطعت يده من وسط الكف فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم فإن عاد استودع السجن فإن سرق في السجن قتل «2».

و عن إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: تقطع يد السارق و يترك إبهامه و صدر راحته و تقطع رجله و يترك له عقبه يمشي عليها «3».

و عن محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن زرقان صاحب ابن أبي داود عن ابن- أبي- داود أنه رجع من عند المعتصم و هو مغتم فقلت له في ذلك الى أن قال: فقال: إن سارقا أقر على نفسه بالسرقة و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمد بن علي عليهما السلام فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع، لقول الله في التيمم: (فامسحوا بوجوهكم و أيديكم).

و اتفق معي على ذلك قوم. و قال آخرون:

بل يجب القطع من المفرق. قال:

و ما الدليل على ذلك؟ قال: لأن الله قال: (و أيديكم إلى المرافق) قال: فالتفت إلى

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 1، ثم إنى قد أوردت على السيد استأذنا الأكبر بان مفصل الكف ظاهر في المفصل بين الكف و الزند لكنه أجاب بأن المراد هو أصول الأصابع. و بعد مدة رأيت في التكملة ص 304 بالنسبة لهذا الخبر: هي محمولة على التقية لموافقتها لمذهب العامة و مخالفتها للمذهب انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 161

محمد بن علي عليهما السلام فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين قال: دعني مما تكلموا به أي شي ء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه. فقال:

أما إذا أقسمت علي بالله إني أقول: إنهم اخطأوا فيه السنة فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف. قال: لم؟ قال: لقول رسول الله صلى الله عليه و آله: السجود على سبعة أعضاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق لم يد يسجد عليها و قال الله تبارك و تعالى: (وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلٰا تَدْعُوا مَعَ اللّٰهِ أَحَداً) و ما كان لله لم يقطع

قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف «1».

و قد يقال: بان وجه التمسك بالآية الكريمة غير واضح و ذلك لأنه لو كان المساجد لله فكان اللازم أن لا يقطع من اليد شي ء فإنه كما أن الراحة من مساجد الله كذلك الأصابع تكون من مساجد الله و يسجد المصلى عليها أيضا [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد. ثم لا يخفى جريان هذا الكلام في قطع الرجل فكيف تقطع الأصابع و هي من مساجد الله؟

نعم قد أجاب العالم الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء عن هذا الإشكال و نحن ننقل أصل الاشكال و جوابه عن كتابه: المثل الأعلى ص 42: في حد السرقة عند اجتماع الشرائط تقطع الأصابع الأربع من يده اليمنى فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم و يترك له العقب و قد علل الامام عليه السلام قطع الأصابع من اليد بأن المساجد لله تعالى و ورد في رواياتنا أن ما كان لله لا يقطع فكيف يأتي هذا التعليل في قطع الرجل اليسرى أ ليس رأس الإبهام من جملة المساجد على المشهور فلم يقطع من مفصل القدم؟ تفضلوا ببيان حل الإشكال.

الجواب: لا يبعد أن السر في ذلك نظير من جنى جناية عليها حد خارج الحرم ثم التجأ إلى الحرم لا يقام عليه الحد حتى يخرج رعاية لحرمة الحرم. أما لو جنى في الحرم أقيم عليه الحد و لو في الحرم لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم و إلى مثله يومي قوله عز شأنه: (وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اللّٰهُ مِنْهُ) و منه أيضا

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3،

ص: 162

و فيه ان ذلك لا يقدح في التمسك بها للحكم بقطع الأصابع لأنه مع قطع اليد من الوسط يبقى شي ء من محل السجود بخلاف ما إذا قطعت من المفصل بين الكف و الذراع فإنه لا يبقى شي ء من موضع السجدة هذا فالغرض بقاء شي ء من عضو السجود و هو لا يتحقق إلا بقطع اليد من أصول الأصابع بل لعله يمكن أن يقال إن المستفاد منه كون المساجد هو الراحة دون الأصابع أصلا.

و عن إبراهيم بن عبد الحميد عن عامة أصحابه يرفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان إذا قطع السارق ترك الإبهام و الراحة فقيل له: يا أمير المؤمنين تركت عليه يده؟ قال: فقال لهم: فإن تاب فبأي شي ء يتوضأ؟ لأن الله يقول:

و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله غفور رحيم «1».

و عن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يقطع من السارق أربع أصابع و يترك الإبهام و تقطع الرجل من المفصل و يترك العقب يطأ عليه «2».

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث السرقة قال: و كان إذا قطع

______________________________

قضية فداء اليد بخمسمأة دينار و قطعها بربع دينار و هو الاعتراض الذي اعترضه الحكيم المعرّى بقوله المشهور: يد بخمس مئين عسجد فديت إلخ و الأجوبة التي أجابوا بها و أجادوا فبين قائل:

هاتيك مظلومة غالى بقيمتها و تلك ظالمة هانت على الباري.

و بين قائل:

عز الأمانة أغلاها، و أرخصها ذلّ الجناية فانظر حكمة الباري

و حيث إن السارق في أول مرة له بعض العذر لذا روعي في حقه حرمة المساجد فلم يحكم بقطعها بل أبقاها الشارع له

رأفة به ثم لما تجرأ و عاد إلى السرقة ثانيا و بعد إقامة الحد أيضا قد هتك هو حرمة مساجده بل هتك حرمة الله في مساجده التي هي لله فقوبل بمثل عمله أي إن عمله و عوده إلى الجريمة كان قاسيا فناسب أن يكون جزاؤه أيضا قاسيا و لعل هذا من أسرار أحكام الشارع و بدائع حكمته و يكاد العارف يقطع به بعد التأمل فيه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 6.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 163

اليد قطعها دون المفصل فإذا قطع الرجل قطعها من الكعب: قال: و كان لا يرى ان يعفا عن شي ء من الحدود «1».

و عن محمد بن عبد الله بن هلال عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

قلت له: أخبرني عن السارق لم يقطع يده اليمنى و رجله اليسرى و لا تقطع يده اليمنى و رجله اليمنى؟ فقال: ما أحسن ما سألت، إذا قطعت يده اليمنى و رجله اليمنى سقط على جانبه الأيسر و لم يقدر على القيام فإذا قطعت يده اليمنى و رجله اليسرى اعتدل و استوى قائماً. قلت له: جعلت فداك و كيف يقوم و قد قطعت رجله؟ فقال: إن القطع ليس من حيث رأيت يقطع إنما يقطع الرجل من الكعب و يترك من قدمه ما يقوم عليه و يصلي و يعبد الله. قلت له: من أين تقطع اليد؟ قال: تقطع الأربع أصابع و يترك الإبهام يعتمد عليها في الصلاة و يغسل بها وجهه للصلاة. قلت: فهذا القطع من أول من قطع؟ قال: قد كان عثمان ابن

عفان حسّن ذلك لمعاوية «2».

و عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السارق يسرق فتقطع يده ثم يسرق فقطع رجله ثم يسرق هل عليه قطع؟ فقال: في كتاب علي عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه و آله مضى قبل أن يقطع أكثر من يد و رجل و كان علي عليه السلام يقول: إني لأستحيي من ربي أن لا أدع له يدا يستنجى بها أو رجلا يمشى عليها «3».

و على الجملة فالروايات تدل على قطع اليد من أصول الأصابع و لا يخفى انه يقطع مقدار يسير من الراحة أيضا فإن هذا هو مقتضى القطع من المفصل.

و قد ظهر أنه قد اقتصر في الآية الكريمة على ذكر (اليد) من السارق و السارقة حيث قال الله تعالى: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. و كذلك قسم من الروايات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد السرقة ح 8.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 8.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 9.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 164

و لكن بعض الروايات الشريفة صريح في قطع اليمين منهما و هذا كاف في التخصيص. فاليد اليسرى ليست محلا للقطع بمقتضى تلك الروايات الكثيرة كما أنها صريحة في القطع من مفصل الأصابع و قد ذكرت فيها علل و أمور تدل على ذلك و ترفع الإجمال عن محل القطع كقوله أخذا من الكتاب العزيز: و أن المساجد لله، و كقوله عليه السلام: و يعتمد عليها في الصلاة و يغسل بها وجهه، و كقوله: فبأي شي ء يتوضأ.

و حيث إن التخفيف أعنى

الرفق في الحدود مطلوب للشارع فلذا يواظب في مقام القطع على ما يناسب ذلك. قال شيخ الطائفة: فإذا قدم السارق للقطع أجلس و لا يقطع قائماً لأنه أمكن له و ضبط حتى لا يتحرك فيجني على نفسه و تشديده بحبل و تمد حتى يتبين المفصل و توضع على شي ء لوح أو نحوه فإنه أسهل و أعجل لقطعه ثم يوضع على المفصل سكين حادة و يدق من فوقه دقة واحدة حتى تنقطع اليد بأعجل ما يمكن و عندنا يفعل مثل ذلك بأصول الأصابع إن أمكن أو يوضع على الموضع شي ء حاد و يمد عليه مدة واحدة و لا يكرر القطع فيعذبه لأن الغرض إقامة الحد من غير تعذيب فإن علم قطع أعجل من هذا قطع به انتهى «1» و نفى عنه البأس في الجواهر قائلًا: و إن لم أجده فيما حضرني من النصوص. انتهى.

و أما ما قد يقال من أنه إذا كان الرفق مطلوبا فيجوز ان يبنج كي لا يدرك ألم القطع [1].

ففيه أنه غير جائز لأن المقصود من إقامة الحد و إجرائه هو أن يتألم بذلك و يدرك و يحس ألم القطع و لو كان يجوز ذلك لذكروا عليهم السلام ذلك. و ما ذكرنا من حسن التخفيف و كون الرفق مطلوبا للشارع فهو بالنسبة لجعل السكين حاد يقطع بسرعة و أمثال ذلك و أما أذاقه ألم القطع فمما لا بد منها.

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر بما في المتن.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 35.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 165

ثم إنه لو كان له إصبع زائدة خارجة عن الأربع متميزة بحيث لا ينافي وجودها قطع الباقي فهنا يقطع المقدار اللازم

و لا وجه لقطع هذا الزائد.

و أما لو لم تكن متميزة ففي الجواهر: و إن لم تتميز على وجه يكونا أصليين ثبت الخيار و إلا أشكل مع فرض العلم بزيادة أحدهما و عدم تمييزه لحرمة قطع الزائدة. نعم قد يقال بالقرعة.

أقول قوله: (يكونا أصليين) فيه انه ليس كل منهما أصليا فإن الأصابع الأصلية في كل إنسان خمسة و على ما ذكره يلزم أن تكون ستة.

نعم يمكن أن يكون المراد من كونهما أصليين كونهما متشابهين بحيث لا يميز إحداهما عن الأخرى هذا.

و أما ما ذكره من ثبوت الخيار فهو تام و ذلك لأنهما بوجه تكونان من قبيل إنقاذ واحد من الغريقين الذين لا يمكن إنقاذ كليهما.

و يحتمل أن يكون المراد من الخيار تخييره بين الامتثال و ترك الامتثال نظير الدوران بين الواجب و الحرام لكن الظاهر هو الأول يعني لا بد من قطع واحد منهما و الأمر مردد بين هذه أو الأخرى للعلم بزيادة إحديهما و هي غير معلومة.

و اما الذي حكاه من القول بالقرعة أي تعيين الواجب قطعه منهما بها ففيه أن هذا يتم على القول بجريانها في كل أمر مشكل أما على القول بأنها لا تعم الموارد و إنما تجري في خصوص الموارد التي ثبت عمل العلماء بها فيها فيشكل الأمر.

هذا كله في الإصبع المستقلة المنفصلة فلو كان له إصبع زائدة متصلة بأحد الأربع و لم يمكن قطع الأربع إلا بها فقد صرح العلامة أعلى الله مقامه في القواعد بأنه قطع ثلاث.

و الوجه فيما ذكره رحمه الله هو أنه يترك الواجب مخافة ارتكاب الحرام.

و هذا موقوف على العلم بكون ترك الحرام أهم من الإتيان بالواجب فربما يكون الأمر بالعكس، و ما يذكر من أن

جانب الحرام عند الدوران أهم فليس بهذا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 166

النحو من الكلية كما في الدخول في المكان المغصوب لإنقاذ الغريق و لذا قال في الجواهر: و ربما يحتمل عدم المبالاة بالزائدة فيقطع الأربع إذا لم يمكن قطعها بدونها و لكنه ضعيف. انتهى.

بل حكم بذلك جزما العلامة في الإرشاد و الأردبيلي في الشرح.

قال في الأول: و لو كانت له إصبع زائدة في إحدى الأربع من اليد قطعت ان لم يمكن قطعها منفردة انتهى.

و قال الثاني: إن كان للسارق إصبع زائدة متصلة بإحدى الأصابع الأربع التي تقطع و لا يمكن قطعها بدونها يقطع الزائدة أيضا إذا لا يمكن الإتيان بالواجب إلا به فيجب و لو كانت خارجة عنها لا يقطع لعدم الموجب. انتهى.

و لا يخفى ما في ذيل كلامه رحمه الله من الإشكال فإن اليد لو كانت خارجة فإن في هذا المورد يتحقق موجب العدم و هو عمومات حرمة الإيذاء و ليس من باب مجرد عدم الموجب للقطع. و كيف كان فكأنه رحمه الله استفاد بالنسبة إلى المطلب المبحوث عنه أن إتيان الواجب أي إجراء الحد أهم في نظر الشارع من ترك الحرام اي قطع إصبع زائدة. و لكن استفادة ذلك مشكلة أيضا.

و المتحصل من تلك الأبحاث أن قطع الإصبع الزائدة مقدمة لقطع الإصبع الأصلية الذي هو الواجب كما أن قطع الإصبع الأصلية مقدمة للحرام و هو قطع الإصبع الزائدة فإما أن يلاحظ جانب الواجب و يقال بوجوب مقدمته فيجب قطعهما و إما بالعكس فيترك قطع كليهما فإن أحرز الأهمية في أحدهما فالأمر واضح فإنه يعمل بمقتضى الأهم و إن لم يحرز ذلك فالحكم هو التخيير.

و أما كون المقام من قبيل

الشك في التكليف فهو فرع استفادة وحدة المطلوب أي كون الواجب هو قطع الأربع بنحو العام المجموعي فإذا لم يمكن ذلك فلا يجب شي ء لكنه مشكل.

و قد يقال بان الواجب هو قطع اليد بحيث يبقى الإبهام و راحة الكف و حينئذ

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 167

فكلما كان غير ذلك يجب قطعه و ليس علينا أنه تقطع أربعة أصابع أو أكثر [1].

و فيه أن الظاهر كون الكلام محمولا على اليد المتعارفة المشتملة على الأربع و لا تعرض لغير المتعارف كي نقول بوجوب القطع و إن استلزم قطع الزائد فإن ذي الإصبع الزائد أقل قليل بين الناس و إنى مع أنه قد رأيت و شاهدت أشخاصا كثيرة إلى هذا الزمان لم أر من كان له إصبع زائدة إلا واحدا كانت له ستة أصابع.

هذا كله في الإصبع الزائدة فلو كانت له يد زائدة فقال العلامة في الإرشاد:

و لو كان له كفان قطعت أصابعه الأصلية. انتهى.

أقول: و العبارة غير متضح الدلالة و المعنى. و الحكم أنه لو علم و ميز الزائدة من الأصلية فإنه تقطع الأصلية و تترك الزائدة و يحرم قطع كليهما، و لو قيل يقطع كليهما فهو من أجل وجوب قطع اليمين منه، و المرجع هنا هو الأصول. و أما لو لم يكن هناك تميز أصلا فالأمر مشكل قال في شرح الإرشاد: لو كان للسارق على يده اليمنى التي هي محل القطع كفان قطعت الأصابع الأربع من الكف الأصلية، هذا مع الامتياز و مع عدمه يمكن التخيير. انتهى.

و في الجواهر عند البحث في الإصبع الزائدة و بعد أن ذكر ثبوت الخيار إن لم تتميز الزائدة على وجه يكونا أصليين و إلا أشكل مع

فرض العلم بزيادة أحدهما و عدم تمييزه لحرمة قطع الزائدة: و كذا الكلام في الكفين الذين لم يميز أصليهما من زائدهما كذلك. ثم قال: نعم قد يقال بالقرعة.

«و اما احتمال وجوب قطعهما لأن اليد اسم جنس و يشمل القليل و الكثير،

______________________________

[1] أورده هذا العبد و لا ينافي ما ذكرناه ذكر قطع أربع أصابع في بعض أخبار الباب لأن أكثر الأخبار مشتملة على ذكر بقاء الإبهام و الراحة و إنما ذكر قطع أربع أصابع في خبرين ظاهرا. هذا مضافا الى انه يمكن ان يكون ذكر الأربع لكونه هو المتعارف. و كيف كان فقد أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر بما ذكرناه في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 168

فموهون، بل مقطوع العدم و لا أقل من كون الشك فيه شكا في الأقل و الأكثر [1]».

ثم لو قيل بالتخيير أو بالقرعة و قطعت واحدة منهما ثم سرق ثانيا فهل يقطع في المرة الثانية الكف الآخر أو يقطع رجله؟ هذه المسألة مشكلة جدا و فيها وجهان و لا بد من التأمل فيها.

هذا كله في الزيادة و أما النقيصة فنقول: لو كانت يده ناقصة بأن نقصت إصبع أو أصابع منه اجتزئ بالباقي حتى إنه لو لم يكن له سوى إصبع غير الإبهام قطعت تلك الواحدة و ذلك لظاهر النص و الفتوى، و لا إشكال في ذلك.

هذا كله بالنسبة إلى سرقته في المرة الأولى فلو تكرر ذلك منه فحكمه:

في سرقته ثانيا

قال المحقق: و لو سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم و يترك له العقب يعتمد عليها.

أقول: لا خلاف في أنه في المرة الثانية تصل النوبة إلى قطع الرجل اليسرى و هو المستفاد من الروايات أيضا و أما أنه من

أين؟ ففيه أقوال و عبارات مختلفة، منها أنه يقطع من مفصل القدم أي ما هو بين الساق و القدم و عليه فلا يبقى من عظام القدم شي ء و إنما يبقى العقب.

و يدل على ذلك خبر أبي بصير و خبر إسحاق المذكورين آنفا- ب 4 ح 2 و 4 كما يدل عليه المحكى عن فقه الرضا عليه السلام: يقطع الرجل من المفصل و يترك العقب يطأ عليه «1».

و منها ما عن الصدوق في المقنع: إنما يقطع من وسط القدم. و عن الخلاف

______________________________

[1] ما بين الهلالين من دفتر مذكراته قدس الله روحه.

______________________________

(1) بحار الأنوار ج 79 ص 192.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 169

و المبسوط و التلخيص يقطع من عند معقد الشراك من عند الناتي على ظهر القدم و عن السرائر: من مفصل المشط ما بين قبة القدم و أصل الساق و يترك بعض القدم الذي هو الكف يعتمد عليها في الصلاة. و عن الكافي و الغنية و الأصابع أنه من عند معقد الشراك و يترك له مؤخر القدم و العقب.

و قال في المبسوط: إن القطع عندنا من أصول الأصابع في اليد، و في الرجل من عند معقد الشراك من عند الناتي على ظهر القدم إلى آخر كلامه و قد تقدم نقله «1».

و منها ما أفاده في التبيان: و أما الرجل فعندنا تقطع الأصابع الأربعة من مشط القدم و يترك الإبهام و العقب. ثم قال: دليلنا أن ما قلناه مجمع على وجوب قطعه «2».

و لكن لم نجد من قال بذلك حتى الشيخ بنفسه لم يقل ذلك في كتبه فكيف بغيره و لذا أورد عليه في الجواهر بقوله: إني لم أجده قولا لأحد من العامة

و الخاصة فضلا عن ان يكون مجمعا عليه بيننا كما هو ظاهر عبارته و إن كان مناسبا لكيفية قطع اليد و بقاء المسجد.

فهذا القول معرض عنه بدليل أعراض الكل حتى قائله عنه في كتبه الفتوائية.

هذا مضافا إلى أنه يلزم على ما ذكره الشيخ القطع طولا لا عرضا و هو خلاف المتعارف بين أهل الشرع.

لكن يبقى في قبال الأول القول الثاني الذي يدل عليه مثل خبر سماعة المذكور آنفا الناطق بالقطع من وسط القدم فإن الظاهر أنه فرق بين القطع من المفصل بحيث يبقى من العقب ما يقوم عليه و لا يبقى من القدم شي ء و بين القطع من الوسط.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 35.

(2) التبيان في تفسير القرآن ج 3 ص 514.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 170

فإن أمكن الجمع بينهما بأن يقال: ان المراد من الوسط ليس هو الوسط الحقيقي كي يحصل التعارض بل المراد العرفي المسامحي فهو كما أنه يمكن الجمع بذلك بين روايات الكف أيضا و إلا فيؤخذ بالمتيقن و هو الوسط المحاذي للكعب و أما الزائد عليه فمشكوك و لذا يجري البراءة بالنسبة إليه لا سيما بلحاظ الرفق الملحوظ في باب الحدود.

و ما ذكره بعض المعاصرين قدس سره في المقام بالنسبة إلى الكف و كذا بالنسبة إلى الرجل بقوله: و ليس الاختلاف بين الأقل و الأكثر حتى يتوجه الأخذ بالأقل و درء الزائد من جهة الشبهة «1».

ففيه أنه لا بعد أصلا في كونه من باب الأقل و الأكثر و لا يسلم خروجه عنه إذا فيجري بالنسبة للزائد على المتيقن البراءة.

نظرة أخرى في البحث [1].

قد تقدم أنه اختلفت الأقوال- و الأخبار بظاهرها في موضع القطع و محله من الرجل فمقتضى عبارة المحقق القطع

بحيث يبقى العقب و هو بالفارسية پاشنه، و على هذا لم يبق شي ء من القدم و عظامه. و عن الصدوق في المقنع: إنما يقطع من وسط القدم. و مقتضى ظاهر ذلك أنه يقطع بحيث يبقى شي ء من القدم أيضا و عن بعض آخر عند معقد الشراك من عند الناتي على ظهر القدم و عن بعض من مفصل المشط ما بين قبة القدم و أصل السارق و يترك بعض القدم إلى غير ذلك من الكلمات و العبارات.

و أما الأخبار ففي خبر أبي بصير: ترك العقب لم يقطع. و في رواية سماعة بن مهران: فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم. ترى ان لسان الاولى القطع مع

______________________________

[1] حيث ان ما كان قبل ذلك صادق يوم الأربعاء 21 شعبان سنة 1409 و تعطلت الدروس لشهر رمضان ففي يوم الشروع و هو الأربعاء 4 شوال 1409 ه فقد لخص مطالبه السابقة.

______________________________

(1) راجع جامع المدارك ج 7 ص 157.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 171

ترك العقب، الذي ظاهره القطع من عند المفصل حتى لا يبقى سوى العقب، في حين أن مقتضى الثاني القطع من وسط القدم لا من وسط الرجل حتى يوازي القطع من القبة مثلا و من المعلوم أن القطع من وسط خصوص القدم يوجب قطع شي ء أقل من القطع من وسط الرجل، الشامل للقدم و العقب.

و في خبر إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه السلام: و تقطع رجله و يترك له عقبه يمشى عليها ب 4 ح 4 و هذا كالأول.

و عن معاوية بن عمار قال أبو عبد الله عليه السلام:. و تقطع الرجل من المفصل و يترك العقب يطأ عليه. ح 7 و

هذا أيضا كالأول.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث السرقة: و كان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل فاذا قطع الرجل قطعها من الكعب. ح 8 و لازم ذلك بقاء شي ء من القدم أيضا كما أن رواية محمد بن عبد الله بن هلال ب 5 ح 8 المذكور آنفا دالة على القطع من الكعب و أنه يترك من قدميه ما يقوم عليه و يصلي.

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة التي تختلف ألسنتها.

و الذي يقوى و يظهر عندي أن النسبة بينها هو النص و الظاهر، و الجمع بينهما عرفي فإن ما دل على القطع بحيث يبقى العقب ظاهر في عدم بقاء شي ء آخر بخلاف ما دل على بقاء شي ء من القدم معه فإنه صريح في هذا، فتحمل الروايات الأولى بقرينة هذه على بقاء العقب مع شي ء آخر لعدم نصوصيتها و صراحتها في عدم بقاء شي ء من القدم مع العقب، و ان كان قد يوجد هذا التصريح في كلمات بعض العلماء لكنه لا يوجد في شي ء من الأخبار.

هذا كله مضافا إلى المؤيدات المذكورة في كلمات صاحب الجواهر من أنه أخف من القطع بحيث لا يبقى سوى العقب، و أن الحدود تدرأ بالشبهات و أن الحكمة في بقاء ذلك هو التمكن من القيام و المشي، و إن كان يتمكن من ذلك أيضا إذا بقي مجرد العقب لكنه بلا شك ليس مثل بقاء شي ء من القدم معه أيضا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 172

لكن لا يخفى أن هذه الأمور مؤيدات لإثبات المطلب، و العمدة هو ما ذكرناه من أن ذلك مقتضى الجمع العرفي، و عليه فالمراد من العقب المذكور في بعض الروايات هو المعنى

الموسع منه لا مجرده.

و النتيجة أنه يقطع من قبة القدم و يكون الوسط هو الوسط العرفي المسامحي و بذلك ينحل مسألة السجود أيضا لأن الملاك في السجدة هو الرجل و إن ذكروا الإبهام فإنه من باب ما يتصل بالأرض من الرجل و يقع عليها فاذا قطعت الأصابع و المشط و بقي شي ء من القدم فلا محالة تكون سجدة الرجل بسجود هذا المقدار الباقي من القدم و إيقاعه على الأرض و هذا بخلاف ما إذا لم يبق منه شي ء و كان الباقي مجرد العقب فإنه يشكل تحقق السجدة بذلك فهذا أيضا وجه آخر مناسبة لما ذكرناه.

هذا كله بالنسبة للمرة الثانية من السرقة فإنه يقطع رجله و اما المرة الثالثة:

في سرقته ثالثا

قال المحقق قدس سره: فإن سرق ثالثة حبس دائما.

أقول: و في الجواهر بعد ذلك: حتى يموت أو يتوب و أنفق عليه من بيت المال إن لم يكن له مال و لا يقطع شي ء منه بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك نصا و فتوى بل يمكن دعوى القطع به من النصوص. انتهى.

أقول: اما قوله: حتى يموت، فصحيح و تدل عليه الروايات الدالة على حبسه أبدا و تخليده في السجن كما ستأتي. و أما قوله: أو يتوب، فغير تام و ذلك لأن الحد في المرة الثالثة هو الحبس دائما فانتهاءه بالموت صحيح و أما بالتوبة فلا، بعد عدم ورود ذلك في الأخبار و إني كلما تفحصت لم أعثر على ذلك فيها.

فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 173

السارق إذا سرق قطعت يمينه و إذا سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى ثم إذا سرق

مرة أخرى سجنه و تركت رجله اليسرى. «1».

ترى أنها ظاهرة في الإطلاق أي سجنه سواء تاب أم لا و إلا فكان اللازم التصريح بالخلاف.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان علي عليه السلام لا يزيد.

قال: و سألته: إن سرق هو بعد قطع اليد و الرجل؟ قال: استودعه السجن ابدا و أغنى [أكفى] عن الناس شره «2».

و عن نضر بن سويد عن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام سمعت أبي يقول: أتى علي عليه السلام في زمانه برجل قد سرق فقطع يده ثم أتى به ثانية فقطع رجله من خلاف ثم أتى به ثالثة فخلده في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين فقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه و آله لا أخالفه «3».

و في رواية سماعة بن مهران:. فإن عاد استودع السجن فإن سرق في السجن قتل «4».

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يقطع رجل السارق بعد قطع اليد ثم لا يقطع بعد فإن عاد حبس في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين «5».

و عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث في السرقة قال: تقطع اليد و الرجل ثم لا يقطع بعد و لكن إن عاد حبس و أنفق عليه من بيت مال المسلمين «6»

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18

باب 5 من أبواب حد السرقة ح 6.

(6) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 174

و في رواية الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان إذا سرق الرجل أولا قطع يمينه فإن عاد قطع رجله اليسرى فإن عاد ثالثة خلده السجن و أنفق عليه من بيت المال «1».

و في رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل سرق. ثم سرق الثالثة فقال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يخلده في السجن و يقول: إني لأستحيي من ربي أن أدعه بلا يد يستنظف بها و لا رجل يمشى بها الى حاجته «2».

إلى غير ذلك من الروايات في هذا الباب فراجع فليس فيها ذكر عن التوبة و لا اثر عنها، فكيف يقال بأنه يحبس إلا أن يتوب؟

لا يقال: إن قوله عليه السلام في رواية زرارة إن أمير المؤمنين عليه السلام استودعه السجن ابدا و اغنى- اكفى- عن الناس شره، يدل على المطلب، لأنه إذا تاب و صلح فلا شر له حتى يحتاج الى حبسه «3».

لأنا نقول إنه لا دلالة له على المطلوب لأنه مضافا إلى أن حده هو الحبس مؤبدا فإنه لا اعتماد عليه و إن تاب فلا يحصل الوثوق بعدم عوده إليها و أنه لا شر له.

و اما ما يقال من أن ذكر السارق في المرحلة الثالثة في رديف المرتدة التي يعلم أنها تحبس ابدا الا أن يتوب كما في رواية حماد عن أبي عبد الله عليه السلام:

قال: لا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي يمثل و المرأة ترتد عن الإسلام و السارق بعد قطع اليد و الرجل [1].

ففيه أنه لا

دلالة في ذلك فربما يختص الحكم بالمرتدة دون غيرها بعد اشتراكهما في الحبس مؤبدا كما أنه لا دلالة للروايات على أن التوبة مانعة عن

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 5، و قد أورده هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 10.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 12.

(3) أورده بعض فضلاء أصفهان.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 175

إجراء الحد، و ذلك لاختصاصها بما إذا كانت التوبة قبل ثبوت الموجب و قبل إقامة البينة على ذلك، كما هو صريح الأدلة فلا تجري في المقام.

كما و أنه لا يصح التمسك في المقام بعمومات التوبة كقوله عليه السلام:

التائب من الذنب كمن لا ذنب له. و ذلك لإمكان استثناء حكم أو أحكام عن ذلك فيجري على التائب كل أحكام غير المرتكب سوى الحد.

و بالجملة فما ذكره قدس سره لا يوفق الأدلة. و على هذا فلا فرق بين أن يتوب و ان لا يتوب من هذه الجهة بل يحبس دائما الى أن يموت.

و أما الإنفاق عليه من بيت المال إن لم يكن له مال فهو مقتضى القاعدة لأن بيت المال معد للفقراء فإذا لم يكن له مال فإنه يصرف عليه منه و أما إذا كان ذا مال و ثروة و متمكنا من عند نفسه فلا وجه للإنفاق عليه من بيت المال [1].

قتل السارق في الرابعة

قال المحقق قدس سره: و لو سرق بعد ذلك قتل.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه أيضا.

أقول: و الدليل على ذلك طائفتان من الأخبار: الأخبار العامة و الاخبار الخاصة.

اما الأولى فكخبر يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام

قال: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة «1».

و أما أن مقتضى هذا الخبر هو القتل في المرة الثالثة لا الرابعة. ففيه أنه و إن كان

______________________________

[1] أقول: الظاهر أن بيت المال لا يختص بالفقراء بل هو لمصالح المسلمين و هو يناط بنظر الحاكم الشرعي فإذا رأى الحاكم المصلحة في الإنفاق على السارق الذي قطعت يده و رجله و قد حكم عليه بالحبس الدائم مع كونه غنيا فأي إشكال في ذلك؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من أبواب حد الزنا ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 176

مقتضى الرواية ذلك لكن قد تقدم اختيار المحقق المرة الرابعة فراجع [1].

و اما الثانية أي الأخبار الخاصة فمنها خبر سماعة بن مهران المذكورة آنفا فان فيها بعد الحكم بالسجن في الثالثة: فإن سرق في السجن قتل «1».

و منها مرسل الصدوق قدس سره: و روى أنه من سرق في السجن قتل «2».

و منها المرسل: كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أتى به في الثالثة بعد أن قطع يده و رجله في المرتين خلده في السجن و أنفق عليه من في ء المسلمين فإن سرق في السجن قتله «3».

و على الجملة فالحكم في المرة الرابعة من السرقة هو القتل، و قد عبّر عن رواية سماعة بالمعتبرة أو الموثقة هذا مضافا إلى أنها معمولا بها عند الأصحاب و إلى ما ذكره في الجواهر من عدم الخلاف في ذلك.

______________________________

[1] أقول: إنه رحمه الله قال في باب الزنا: و لو تكرر من الحر الزنا، فأقيم عليه الحد مرتين قتل في الثالثة. و قيل في الرابعة و هو أولى. لا يقال: إن ما ذكره هناك كان لأجل ورود

الرواية في خصوص الزنا بذلك كموثق أبي بصير مثلا الذي رواه المشايخ الثلاثة المصرح بالقتل في الرابعة (وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من أبواب حد الزنا ح 1) لأنا نقول ان المحقق ذكر في باب اللواط أيضا عند البحث في التفخيذ و بين الأليتين بعد ما ذكر ان حده مأة جلدة: و لو تكرر منه الفعل و تخلله الحد مرتين قتل في الثالثة و قيل في الرابعة و هو أشبه انتهى. و في الجواهر في الموضع الثاني بعد ذكر كلام المحقق:

و أحوط في الدماء و قد سبق الكلام فيه في الزنا الذي يظهر من غير واحد الإجماع على عدم الفرق بينه و بين ما هنا في ذلك إلخ.

نعم تعبير المحقق في الموضع الأول بالأولى بل و في الأخير بالأشبه غير خال عن الكلام كما ان السيد الأستاذ الأفخم اختار في باب الزنا في مقام الجمع بين الاخبار تخصيص خبر القتل في الثالثة بباب الزنا يعني ان الزاني يقتل في الرابعة و غيره من مرتكبي الكبائر في الثالثة فراجع إن شئت كتابنا الدر المنضود ج 1 ص 342.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة ح 11.

(3) مستدرك الوسائل ج 18 ص 126 ب 5 من أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 177

و لكن مع ذلك كله فقد استشكل فيه بعض المعاصرين قدس سره حيث إنه بعد ما نقل الروايات الواردة في الحكم بالقطع و الحبس و القتل، قال: و أما القتل المذكور فيها بعد السرقة في السجن فمحل إشكال من جهة أنه تهجم

في الدماء.

انتهى [1].

و فيه أنه لا محيص عنه مع وجود الدليل المعتبر، و كيف يكون ما دل عليه الدليل المعتبر من باب التهجم على الدماء؟.

و هل يعتبر في السرقة الرابعة كونها من السجن أو أنه لا فرق فيها بين كونها منه أو من غيره- كما إذا سرق في خارج السجن بعد الفرار منه.؟

ظاهر أخبار الباب هو الأول حيث إنه قد عبر فيها بالسرقة في السجن، الدال على اعتبار تحقق السرقة في الحبس نفسه. نعم مقتضى القسم العام من الروايات هو عدم الفرق بين السرقة من السجن أو من غيره.

الحد الواحد مع السرقة المتكررة

قال المحقق: و لو تكررت السرقة فالحد الواحد كاف.

أقول: إن العبارة مجملة فإن للتكرر صورا فتارة قد تكرر الموجب أي السرقة بلا ثبوت و اخرى مع ثبوت كل واحد بلا تحقق القطع بين المرات و ثالثة مع فصل الحد، و مع التكرر و الثبوت فتارة يثبت الموجب المتعدد بلفظ واحد كما إذا شهد الشاهدان بسرقة زيد في يوم الجمعة و السبت أو بلفظين بلا فصل الحد و اخرى يشهدان في يوم السبت بسرقته يوم الخميس ثم يمسكان حتى تقطع يده ثم

______________________________

[1] أقول: راجع جامع المدارك ج 7 ص 159. و قد استشكل فيه قبله المحقق الأردبيلي قدس سره حيث قال في مجمع الفائدة و البرهان:. و إن كان دليل القتل غير صحيح مع أنه أمر عظيم لكنه موافق لفتواهم فإن لم يكن إجماع يمكن خلافه فيقطع أيضا إن وجد شرائطه فتأمل في الحبس أيضا.

انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 178

يشهدان بسرقته يوم الجمعة و ثالثة يشهدان بسرقته يوم الخميس و بعد القطع يشهدان بسرقته عقيب القطع و على الجملة فلا يتضح كاملا أن

المراد أي صورة من الصور- و إن كان عدم إرادة بعضها معلوما.

و قد أوضح المراد في الجواهر بعد عبارة المتن (و لو تكررت السرقة) بقوله: و لم يظفر به ثم ظفر به فالحد الواحد كاف سواء اتحد المسروق منه أو اختلف بلا خلاف أجده فيه بين العامة و الخاصة كما اعترف به غير واحد للأصل بعد اختصاص نصوص تعدد القطع في غير الفرض و خصوص الصحيح إلخ.

كما ان المحقق قدس سره قد تعرض لهذا الفرع في بحثه في اللواحق و هناك يكون أوضح من المقام فقال: الثالثة لو سرق و لم يقدر عليه ثم سرق ثانية قطع بالأخيرة و أغرم المالين.

فظهر منه أن البحث في ما إذا سرق مكررا لكن لم يقدر على أخذه و بعد أن أخذ و رفع الى الحاكم أقيمت عليه البينة بهما معا دفعة واحدة فهناك تقطع يده وحدها.

و في المسالك: إذا تكررت السرقة و لم يرافع بينهما فعليه قطع واحد لأنه حد فيتداخل أسبابه لو اجتمعت كغيره من الحدود، و هل القطع بالأولى أو بالأخيرة؟

قولان جزم المصنف بالثاني، و العلامة بالأول و يظهر فائدة القولين لو عفى من حكم بالقطع لأجله و الحق أنه يقطع على كل حال حتى لو عفى أحدهما قطع بالأخرى لأن كل واحدة سبب تام في استحقاق القطع مع المرافعة، و تداخل الأسباب على تقدير الاستيفاء لا يقتضي تداخلها مطلقا لأنه على خلاف الأصل هذا إذا أقربها دفعة أو قامت البينة بها كذلك.

أما لو شهدت البينة عليه بواحدة ثم أمسكت ثم شهدت أو غيرها عليه بأخرى قبل القطع ففي التداخل قولان أقربهما عدم تعدد القطع كالسابق لما ذكر من العلة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص:

179

و لو أمسكت الثانية حتى قطع بالأولى ثم شهدت ففي ثبوت قطع رجله بالثانية قولان أيضا و أولى بالثبوت لو قيل به ثم و يؤيده رواية بكير بن أعين عن ابي جعفر عليه السلام- و هنا نقل قدس سره الرواية ثم قال:- و الرواية نص إلا أن في طريقها ضعفا و توقف ابن إدريس في ذلك و كذلك المصنف و له وجه مراعاة للاحتياط في حقوق الله تعالى و درء الحد بالشبهة العارضة من الاختلاف. انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال في الروضة مازجا: لو تكررت السرقة و لم يرافع بينهما فالقطع واحد لأنه حد فيتداخل أسبابه لو اجتمعت كالزنا و شرب الخمر، و هل هو بالأولى أو الأخيرة؟ قولان و تظهر الفائدة فيما لو عفى من حكم بالقطع له، و الحق أنه يقطع على كل حال حتى لو عفى الأول قطع بالثاني و بالعكس.

هذا إذا أقر بها دفعة أو شهدت البينات بها كذلك و لو شهدا عليه بسرقة ثم شهدا عليه بأخرى قبل القطع فالأقرب عدم تعدد القطع كالسابق لاشتراكهما في الوجه و هو كونه حدا فلا يتكرر بتكرر سببه إلى أن يسرق بعد القطع، و قيل يقطع يده و رجله لأن كل واحدة يوجب القطع. فيقطع اليد للأولى و الرجل للثانية و الأصل عدم التداخل. و لو أمسكت البينة الثانية حتى قطعت يده ثم شهدت ففي قطع رجله قولان أيضا و أولى بالقطع هنا لو قيل به ثم و الأقوى عدم القطع أيضا لما ذكر و أصالة البراءة و قيام الشبهة لدرء الحد، و مستند القطع رواية بكير بن أعين عن الباقر عليه السلام و في الطريق ضعف. انتهى.

ثم ان الحكم في الفرع

الأول من هذه الفروع و هو ما إذا تعددت السرقة و لم يرافع بينها هو كفاية حد واحد سواء اتحد المسروق منه أم لا بل اختلف. قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بين العامة و الخاصة كما اعترف به غير واحد للأصل بعد اختصاص نصوص القطع في غير الفرض و خصوص الصحيح إلخ.

أقول: الظاهر أن لكل موجب حدا خاصا به فالحكم بكفاية حد واحد يحتاج

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 180

إلى دليل إلا أن لا يكون المسبب قابلًا للتكرار فإنه على حسب القاعدة فقد ثبت بالأول و على ذلك ففي المقام يثبت قطع اليمين بالسرقة الأولى وفاقا لجماعة كما حكى ذلك عن القواعد و المقنع و الفقيه و الكافي و ذلك لتقدمها في السببية و ثبوت القطع بها.

نعم خالف المحقق في ذلك فصرح في باب اللواحق بأنه يقطع بالسرقة الأخيرة.

ثم إن الدليل على حد واحد و هو قطع يمينه- مضافا إلى ما مر من أنه قد جاء الموجب بالسبب الأول- هو بعض الروايات كرواية بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام في رجل سرق فلم يقدر عليه ثم سرق مرة أخرى و لم يقدر عليه و سرق مرة أخرى فأخذ فجاءت البينة فشهدوا عليه بالسرقة الأولى و السرقة الأخيرة فقال: تقطع يده بالسرقة الأولى و لا تقطع رجله بالسرقة الأخيرة فقيل له:

و كيف ذاك؟ قال: لأن الشهود شهدوا جميعا في مقام واحد بالسرقة الأولى و الأخيرة قبل ان يقطع بالسرقة الأولى و لو أن الشهود شهدوا عليه بالسرقة الأولى ثم أمسكوا حتى يقطع ثم شهدوا عليه بالسرقة الأخيرة قطعت رجله اليسرى «1».

و هي صريحة في أنه إذا شهد الشهود دفعة

واحدة و في مقام واحد على السرقتين فإنه يقطع خصوص يمينه و كان ذلك للسرقة الأولى حيث إنه لم يفصل بينهما بالقطع.

نعم في الرواية شي ء و هو وجود سهل بن زياد في طريقها و إن كان عبر عنها بعض بالصحيحة و الظاهر أن ذلك لما قيل من أن الأمر في السهل سهل. و صريح هذه الرواية هو القطع بالسرقة الأولى، فقد عمل المحقق و من قال بمقالته بخلاف الرواية و خرجوا عن مقتضاها و لا نعلم وجه خروجهم عن ذلك.

و قد يقال: لعل الوجه في ما ذكره المحقق أمران:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 9 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 181

أحدهما ما ذكره صاحب الجواهر بقوله: لأنه قد أخذ فيها.

ثانيهما رواية عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:

السارق يسرق العام فيقدم إلى الوالي ليقطع فيوهب ثم يؤخذ في قابل و قد سرق الثانية و يقدم الى السلطان فبأي السرقتين يقطع؟ قال: يقطع بالأخير و يستسعى بالمال الذي سرقه أولا حتى يرده على صاحبه [1].

و فيه أن الوجه الأول غير كاف في إثبات المطلوب فان مجرد أخذه في الثانية لا يدل على ان السرقة الأولى لا حد عليها و اما الرواية فهي على مقتضى القاعدة و ذلك لأن المفروض فيها أن الحد الأول قد وهب فلم يبق عليه الا السرقة الأخيرة فلذا أجاب الإمام سؤال الراوي عن ان القطع لأيهما، بأنه يقطع بالأخير، و هذا غير ما نحن فيه.

و قد تحصل أن للمسألة صورا منها:

أن يسرق أولا ثم يقطع ثم يسرق ثانيا و هنا لا كلام و لا إشكال في القطع للثانية

حيث إن السرقة الثانية بنفسها وقعت بعد القطع للأولى و ليس هذا من محل البحث.

و منها ما إذا سرق متعددا لكن أقر هو دفعة بذلك أو شهد الشهود على ذلك دفعة و هنا ليس إلا قطع واحد لعدم الترافع للثانية بعد الترافع و القطع للأولى و الظاهر أنه لا خلاف فيه أيضا.

و منها أن يشهد الشهود للأولى ثم أمسكوا عن الشهادة على الثانية و بعد

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 9 من أبواب حد السرقة ح 2. و قد ذكرت هذا و أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر بما في المتن. ثم ان في الجملة الأخيرة من الرواية نوعا من الإجمال و ذلك لأنه قد صرح فيها بالاستسعاء بالمال الذي سرقه أولا فقط.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 181

و قد سألني بعض الشركاء في الدرس عن ذلك فأجبت بأن وجوب الاستسعاء للثاني الذي يحد عليه معلوم لا حاجة الى ذكره و انما السرقة الأولى هي التي كان يتوهم عدم لزوم الاستسعاء لها حيث وهب حدها و لذا صرح عليه السلام بذلك ثم رأيت هذا الوجه في كلام المجلسي قدس سره في ملاذ الأخيار عند شرح هذا الخبر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 182

الفصل بلا حصول القطع شهدوا بأنفسهم أو شهد شهود أخر بالسرقة الثانية فهنا وقع الخلاف فذهب بعض إلى تعدد القطع لكن الأقرب عدمه كالصورة السابقة و ذلك لوحدة الملاك و العلة و هو كونه حدا فيتداخل أسبابه إلا مع فصل القطع.

و منها ما إذا وقعت السرقة مرارا و لم

يظفر عليه و بعد ذلك شهد الشهود على سرقته ثم حد ثم بعد القطع شهدوا على سرقته الأخرى الواقعة قبل القطع أيضا و هنا أيضا خلاف فقال بعض بتعدد الحد فيجب بعد ذلك قطع رجله و بعض يقول بالتداخل و قد ذكر الشهيد الثاني أنه لو قيل بقطع الرجل في الفرع السابق فهنا أولى.

و مقتضى رواية ابن بكير هو قطع الرجل في هذه الصورة بل هي نص في ذلك كما قال رحمه الله إلا أن في الرواية ضعفا عنده و لذا استوجه في المسالك التوقف، و قوى في الروضة التداخل كما أن الشبهة الدارئة أيضا تقتضي ذلك.

لا يجوز قطع اليسار مع وجود اليمين

قال المحقق: و لا تقطع اليسار مع وجود اليمين بل تقطع اليمين و لو كانت شلاء و كذا لو كانت اليسار شلاء أو كانتا شلاوين قطعت اليمين على التقديرين.

أقول: هنا فروع: الأول: ما إذا كانت يده اليمنى صحيحة و الحكم هنا هو قطع اليمين عند السرقة، و في الجواهر: «إجماعا و نصوصا» فلا يقطع اليسار مع وجود اليمين كذلك.

الثاني كون اليمين شلاء و هنا أيضا تقطع اليمين.

الثالث: ما إذا كانت اليسار خاصة شلاء و هنا أيضا تقطع اليمين.

الصحيحة.

الرابع: ما إذا كانت اليمين و اليسار شلاوين و في هذه الصورة أيضا تقطع اليمين.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 183

و في الجواهر: وفاقا للمشهور بل عن الغنية و الخلاف الإجماع عليه. انتهى.

و الدليل على قطع اليمين في هذه الصور أيضا كالأولى أمران:

أحدهما: الإطلاقات.

و ثانيهما الرواية الخاصة أما الأولى فإن قوله تعالى: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما، مطلق يشمل ما إذا كانت اليمنى صحيحة أم لا و ما إذا كانت اليسرى صحيحة أو شلاء و أما الرواية الخاصة

فهي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أشل اليد اليمنى أو أشل الشمال سرق قال: تقطع يده اليمنى على كل حال «1».

و عن عبد الله بن سنان أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام: إن الأشل إذا سرق قطعت يمينه على كل حال شلاء كانت أو صحيحة. «2».

نعم في مرسلة المفضل بن صالح عن بعض أصحابه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام إذا سرق الرجل و يده اليسرى شلاء لم تقطع يمينه و لا رجله و إن كان أشل ثم قطع يد رجل قص منه يعنى لا تقطع في السرقة و لكن يقطع في القصاص «3».

و مقتضى هذه أنه لا تقطع يد السارق و لا رجله إذا كان اليسرى منه شلاء مع أنه تقطع قودا.

قال في الوسائل: يمكن الجمع بجواز قطعها في السرقة و عدم وجوبه. انتهى.

و قال الشيخ في المبسوط: فأما ان كانت شلاء فإن قال أهل العلم بالطب: إن الشلاء متى قطعت بقيت أفواه العروق مفتحة، كانت كالمعدومة و إذا قال: تندمل قطعت الشلاء انتهى كذا في المبسوط 8- 38.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 11 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 11 من أبواب حد السرقة ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 11 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 184

و ذهب الى ذلك القاضي ابن براج، في الوسيلة ص 420 و العلامة في المختلف، و ذلك لمراعاة الاحتياط في الحدود حيث لا يراد منها القتل، و التقدير حصول الحذر من القتل هنا [1].

و في المسالك بعد ذلك: و هذا حسن انتهى

و في الجواهر بعد ذكر ذلك و استحسان المسالك له: و هو كذلك تنزيلا لإطلاق النصوص على غير الفرض.

انتهى.

نعم قد يقال كما في الجواهر أنه مع عدم العلم بالحال له القطع و إن خيف ذلك، للإطلاق و لأن سراية الحد غير مضمونة و إن أقيم في حر أو برد.

و على هذا فما ذكر من عدم جواز القطع متعلق بما إذا علم أو اطمئن ببقاء فتح أبواب العروق و بعدم الاندمال، و أما في صورة الشك فيؤخذ بالإطلاقات.

و هنا قول آخر ذهب إليه ابن الجنيد و هو أنه إذا كانت يساره شلاء لم يقطع يمينه و لا رجله و كذلك لو كانت يده اليسرى مقطوعة في قصاص فسرق لم يقطع يمينه و حبس في هذه الأحوال و أنفق عليه من بيت مال المسلمين إن كان لا مال له، لأن الشلاء كالمعدومة فيبقى بلا يدين و قد عهد من حكمة الشارع إبقاء يده الواحدة و من ثم انتقل في السرقة الثانية إلى قطع رجله و لم يقطع يده الأخرى و لرواية المفضل بن صالح عن بعض أصحابه عن الصادق عليه السلام قال: إذا سرق الرجل و يده اليسرى شلاء لم يقطع يمينه و لا رجله [2].

أقول: و ما ذكره لا يخلو عن وجه- كما أشار هو أيضا اليه- و ذلك للتعبيرات

______________________________

[1] قال في المختلف ص 775 بعد نقل كلام الشيخ في المبسوط: و به قال ابن البراج و ابن حمزة و هو المعتمد. لنا أن الحد إذا لم يشتمل على القتل يتعين فيه الاحتياط في الاحتفاظ، و التقدير حصول الحذر من القتل فيسقط احتياطا في بقاء النفس. احتج الشيخ بما رواه عبد الله بن سنان في

الصحيح عن الصادق عليه السلام. و الجواب أنه محمول على حالة عدم خوف التلف انتهى.

[2] راجع المختلف ص 775 تجد أصل كلام الإسكافي، و أما الاستدلال عليه فهو من العلامة فيه و الشهيد الثاني في المسالك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 185

الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام: إني لأستحيي من الله أن اتركه لا ينتفع بشي ء ب 5 ح 1.

و كذا ما ورد في السرقة الثالثة من أنه قال الامام علي عليه السلام: إني لأستحيي من ربي ان لا ادع له يدا يأكل بها و يشرب بها و يستنجي بها و لا رجلا يمشى عليها ح 16 و غير ذلك، و كذا قوله عليه السلام: إني لأستحيي من ربي أن أدعه ليس له ما يستنجي به أو يتطهر به. ح 2.

و يمكن أن يستدل لذلك أيضا بأن الإطلاقات و حكم الشرع بقطع اليمين منصرف عمن كان كذلك فهو مخصوص بما إذا بقيت له يد بعد قطع اليمين.

هذا، لكن التحقيق أنه مع قول المشهور بقطع اليمين و صريح صحيح ابن سنان لا مجال لهذا القول.

فيما إذا لم يكن له يسار

قال المحقق: و لو لم يكن له يسار قال في المبسوط: قطعت يمينه و في رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام: لا تقطع، و الأول أشبه.

أقول: يعني أنه أشبه بأصول المذهب و قواعده. و في المسألة و جهان:

أحدهما أنه تقطع يمينه و ان كان المفروض أنه ليس له يسار، كما ذهب اليه الشيخ في المبسوط و تبعه المشهور و ذلك لإطلاق أدلة القطع سواء كان له يسار أم لا بل لا خلاف في ذلك الا ما سيأتي.

ثانيهما ما تقدم من المحكي عن ابن الجنيد.

و يدل على ذلك صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السارق إلى أن قال: قلت له: لو أن رجلا قطعت يده اليسرى في قصاص فسرق ما يصنع به؟

قال: فقال: لا يقطع و لا يترك بغير ساق. ب 11، ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 186

و هذه الرواية و ان كان فيها نوع إجمال من جهة قوله: و لا يترك بغير ساق [1] حيث لا يعلم أن المراد هو الساق المشهور [المتعلق بالرجل فيكون غير مرتبط بالمقام] أو أنه بمعنى الشدة إلا أنه لا إجمال في قوله: لا يقطع، و لا يسري الإجمال منه إليه و لا يضره فإنه صريح، و الرواية صحيحة.

و يمكن ان يستند لهذا القول إلى انصراف الإطلاقات عمن ليس له اليسار و لكن العمدة هو الخبر.

إلا ان إعراض المشهور عن مضمون هذا الرواية الصحيحة يوجب عدم الاعتماد عليها و هذا وجه معتبر عندنا يوجب الذهاب الى قول المشهور هذا مضافا إلى الإطلاقات و كذا بعض الاخبار المعتبرة أو الصحيحة كصحيح عبد الله بن سنان الذي يستفاد منه حكم المقام.

و انصراف الأخبار الدالة على قطع اليمين عمن ليس له اليسار مثلا انصراف بدوي لا يعبأ به بعد ذهاب المشهور إلى الإطلاق و لا يحتمل عدم تفطنهم إلى هذا الانصراف.

______________________________

[1] أقول: قال في الوافي ص 65 من باب الحدود: الساق في اللغة الأمر الشديد فلعل المراد بقوله عليه السلام: و لا يترك بغير ساق، أنه لا يقطع و لا يترك أيضا من دون أمر آخر شديد مكان القطع بل يفعل به ما يقوم مقام قطع اليد. انتهى.

و قال المجلسي في ملاذ الأخيار ج 16

ص 212: قوله: بغير ساق، لعل فيه سقطا و يحتمل أن يكون اسم فاعل من السعي أي لا يترك و لا يمكنه أن يأخذ المشربة فيشرب كأن اليد ساقية. و في الاستبصار: بساق اي بشدة. قال في النهاية: الساق في اللغة أمر الشديد. إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 187

في ذهاب اليمين عند القطع

قال المحقق: أما لو كان له يمين حين القطع فذهبت لم تقطع اليسار لتعلق القطع بالذاهبة.

أقول: إذا سرق و كان له حين حصول موجب القطع أي السرقة اليمين إلا أنه عند وقت القطع لم يكن له يمين فإن كانت قد ذهبت يمينه بوقوع شي ء عليها فهنا لا يقطع اليسار منه لا من اليد و لا من الرجل كما صرح بذلك في الجواهر و ذلك لأن الحكم قد تعلق باليمين و كان العضو موجودا ثم بعد ذلك قطع و انتفى الموضوع فانتفى الحكم.

و لا وجه للانتقال و الاستبدال الى قطع عضو آخر، و الظاهر أنه لا خلاف في ذلك.

فيما إذا سرق و لم يكن له يمين

قال المحقق: و لو سرق و لا يمين له قال في النهاية قطعت يساره و في المبسوط ينتقل إلى رجله.

أقول: إذا سرق و لم يكن له حين السرقة يمين إما لكونه كذلك خلقة أو لقطعها في القصاص أو غيره، لا بالسرقة فإن فيه الخلاف فذهب شيخ الطائفة في النهاية إلى قطع اليد اليسرى و في المبسوط ينتقل إلى رجله اليسرى.

و قد يقال في توجيه الأول من القولين بأن عموم الآية الكريمة تقتضي قطع الأيدي لكنه مع وجود اليمين اقتصر عليها للاقتصار في تقييد اليد باليمين على القدر المتيقن و هو صورة وجود اليمين فاذا لم يكن له يمين فهناك يؤخذ بالعموم فيحكم بقطع اليسرى.

و في توجيه ثانيهما بأنه قد ثبت كون اليسار من الرجلين موضعا للقطع في

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 188

الجملة و في بعض الموارد كما في السرقة الثانية و الحال ان اليد اليسرى ليست من الأعضاء التي يحكم بقطعها و لو في الجملة و في بعض الموارد، فلذا يحكم في السارق

الذي لا يمين له بقطع ما هو من محل القطع في الجملة أعني الرجل اليسرى و لا ينتقل الى اليد اليسرى.

و لكن هذا التوجيه غير وجيه، و ذلك لأن مجرد كون الرجل اليسرى محلا للقطع في الجملة لا يفيد قطعها في مسألتنا هذه فإن الرجل محل القطع في المرحلة الثانية أعني بعد قطع يده اليمنى بالسرقة الأولى فكيف نقول بقطعه بالسرقة الأولى.

و على ذلك فقوله في النهاية أقوى في النظر من كلامه في المبسوط و إن كان يحتمل أيضا عدم وجوب حد في هذا الفرض أصلا غاية الأمر أنه إن سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى.

إذا لم يكن له يسار و لا يمين

قال المحقق: و لو لم يكن يسار قطعت رجله اليسرى.

أقول: المفروض انه لا يمين له و لا يسار فعن المبسوط يقطع رجله اليسرى و في كشف اللثام عن النهاية: اليمنى [1] قال صاحب الجواهر: و لعله لأنه أقرب الى اليد اليمنى. انتهى.

و فيه أنه لا ريب أن الأقربية لا وجه لتعيينه.

______________________________

[1] راجع كشف اللثام ج 2 ص 249 لكن لا يخفى أني لم أجد ذلك في النهاية فإن تعبيره في الفرض هو قطع رجله فراجع ص 717.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 189

حبس السارق الذي لا يد له و لا رجل

قال المحقق: و لو سرق و لا يد له و لا رجل حبس.

أقول: ذهب اليه الشيخ في النهاية، قال في الجواهر: و لعله لثبوته عقوبة للسرقة في الجملة. انتهى.

و فيه ما تقدم من أن هذا لا يقوم بإثبات المطلب.

اشكال المحقق

قال المحقق: و في الكل إشكال من حيث أنه تخط من موضع القطع فيقف على إذن الشرع و هو مفقود.

أقول: قال في المسالك في شرح العبارة: الأصل في قطع السارق أن يقطع يده اليمنى في السرقة الأولى ثم رجله اليسرى في الثانية ثم يخلد الحبس في الثالثة و لم يرد قطع غير ذلك فلذلك وقع الإشكال في هذه المواضع:

فمنها ما إذا لم يكن له يمين حال السرقة الأولى فقال الشيخ في النهاية: يقطع يساره لعموم فاقطعوا أيديهما، الصادق باليسار غايته تقديم اليمين عليها بالسنّة فإذا لم يوجد قطعت اليسار لوجوب امتثال ما دلت عليه الآية بحسب الإمكان و قال في المبسوط: ينتقل إلى رجله اليسرى لأنها محل القطع حدا للسرقة في الجملة بل بعد قطع اليمنى و قد حصل، و المصنف استشكل في القولين معا لأنه خروج عن موضع الإذن الشرعي في القطع، و محل الخلاف ما إذا قطعت يمينه بغير السرقة و كان قطعها قبل السرقة كما أشرنا إليه فلو كان قطعها بها فلا إشكال في الانتقال الى الرجل كما أن قطعها لو وقع بعد السرقة فلا إشكال في عدم الانتقال إلى غيرها بل يسقط القطع لفوات محله كما أشرنا إليه في المسألة السابقة التي كان محلها هنا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 190

و منها ما لو سرق و لا يد له يمينا و لا يسارا قال الشيخ قطعت رجله اليسرى و هو

أولى بالحكم في السابق على قول المبسوط لأن الرجل اليسرى في محل القطع حيث ينتقل الحكم عن اليد و فيه الإشكال السابق.

و منها ما لو سرق و لا يد له و لا رجل إما مطلقا أو المنفي اليد اليمنى و الرجل اليسرى اللتين هما محل القطع شرعا قال الشيخ: حبس كما يحبس في المرة الثالثة بعد قطع يده و رجله لأن هذا بمعناه. و فيه الإشكال لأن النص إنما ورد بكون الحبس عقوبة في المرة الثالثة بعد القطعين و لم يتحقق هنا فإتيانه عقوبة عن المرة الأولى تخط عن موضع الإذن من الشارع و قياس مع وجود الفارق. انتهى.

أقول: و هذا هو الحق لأن المورد الأول مثلا من مواضع الإشكال و هو ما إذا لم يكن له يمين حال السرقة الأولى الذي قد وقع البحث فيه قبل ذلك و مر ان للشيخ نظرين و رأيين أحدهما ما أفاده في النهاية من الانتقال الى اليد اليسرى ثانيهما ما ذهب إليه في المبسوط و هو قطع الرجل اليسرى و استدل على ذلك بأنه من مواضع القطع في الجملة بخلاف اليد اليسرى فليست هي من مواضع القطع.

و غير خاف أن هذا الاستدلال ليس بتام و ذلك لأنه يشبه القياس، أو أنه من قبيل ما يستنبط من العلة، فإن كون الرجل محل القطع في السرقة الثانية بعد قطع اليمنى للسرقة الأولى لا يدل على قطع الرجل اليسرى للسرقة الأولى عند عدم اليد اليمنى. و يتوجه عليه ما ذكره المحقق من أنه تخطّ عن موضع الاذن.

كما أن القول الآخر و هو قطع اليسار أيضا لا يخلو عن كلام و ذلك لأن المستفاد من الروايات أن المراد من الأيدي، الأيمان، لا

المطلق فاذا لا وجه للانتقال الى اليد اليسرى عند فقد اليمنى فإذا صرح الإمام عليه السلام بقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى و الرجل اليسرى في الثانية ثم بعد ذلك لو سرق يحبس مؤبدا فإنه يعلم أن ما يقطع من الأيدي هو اليمين لا غير ثم بعد ذلك يقطع اليسرى و لا غير و بعد ذلك لا قطع بل ينتقل إلى الحبس و كذلك الروايات الناطقة عن قول الإمام عليه السلام: إنى لأستحيي إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 191

و على الجملة فيعلم من تلك الأخبار أن اليد اليسرى ليست موردا للحكم أصلا و ليس ذكر اليد اليمنى من باب أحد المصاديق لليد. هذا كله مضافا إلى الشبهة الدارئة. و هكذا الإشكال في المواضع الباقية التي ذكر الشهيد الثاني ورود الاشكال فيها كما أن المحقق صرح بأن في الكل الإشكال.

التوبة قبل الثبوت و بعده

قال المحقق: و يسقط الحد بالتوبة قبل ثبوته و يتحتم لو تاب بعد البينة و لو تاب بعد الإقرار قيل يتحتم القطع و قيل يتخير الإمام في الإقامة و العفو على رواية فيها ضعف.

أقول: أما سقوط خصوص الحد عنه إذا تاب قبل ثبوت الحد ففي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه. انتهى.

و يدل على ذلك قسم من الأخبار منها ما هو مخصوص بالمورد. و منها ما يعم المورد و غيره.

فالأول صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: السارق إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلى الله عز و جل ترد سرقته إلى صاحبها و لا قطع عليه «1».

و من الثاني مرسل جميل بن دراج عن رجل عن أحدهما عليهما السلام في الرجل سرق أو شرب

الخمر أو زنى فلم يعلم ذلك منه و لم يؤخذ حتى تاب و صلح فقال: إذا صلح و عرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحد. قال ابن أبي عمير: قلت: فإن كان امرءا غريبا. «2».

و مقتضى الصحيحة وجوب الرد إذا تاب قبل الحد فحينئذ يسقط الحد، فلو لم يرد فهل هناك تقطع يده؟ حيث إن العين المسروقة موجودة لا عذر في ردها و لو كان تائبا لكان يردها و لا أقل من الإعلان و الاسترضاء لو كان له عذر من ردها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 16 من مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 16 من مقدمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 192

ثم إنه هل رد القيمة كرد العين أو أن الحكم مخصوص برد العين، و الكلمات متضمنة للتوبة فهل الرد شرط فيها أم لا، و على الأول هل هو شرط مطلقا أو عند عدم العذر؟

مقتضى الاستصحاب جريان حكم القطع في كل الصور و إنما الخارج هو ما إذا رد لكن مقتضى القاعدة أنه إذا كان عدم الرد مستندا إلى العذر فلا حد هناك، و المقدار المسلم في المقام أنه مع الرد يسقط الحد إذا كان قد تاب.

ثم ان الكلمات متضمنة للتوبة فقط بلا تقييد بقيد آخر كالصلاح أو إتيان أمر جميل، فهي مطلقة.

و اما الأخبار فصحيح عبد الله بن سنان قد قيد فيه برد سرقته على صاحبها و مرسلة جميل بن دراج فقد قيدت بعدم العلم به و عدم الأخذ حتى تاب و صلح و عرف منه أمر جميل، فبمجرد التوبة بدون ما ذكر من القيود يشكل سقوط الحد كذا ذكره بعض المعاصرين قدس سره

«1».

و عليه فتبقى الموارد التي لم تقترن التوبة بهذه الأمور محل الإشكال.

و يحتمل أن يجري هناك استصحاب القطع الا ان يتمسك بقاعدة درء الحدود بالشبهات.

اللهم إلا ان لا يكون ذكر هذه الأمور عندهم للتقييد و ثبت عدم استظهارهم ذلك عن الروايات بان كان ذكرها لحصول الاطمئنان بالنسبة لغير المبالين و عليه فلا حاجة إليها إذا حصل الاطمئنان بتوبته.

ثم إن رواية جميل ليس فيها ذكر عن رد السرقة و إنما اقتصر فيها بذكر التوبة و صلاحه و عرفان الجميل منه و على هذا فلا أثر له في سقوط الحد. اللهم إلا أن يكون الرد من أظهر مصاديق الصلاح و الأمر الجميل.

و أما لو تاب بعد البينة فهناك يتحتم الحد على ما ذكره المحقق. و في الجواهر بلا

______________________________

(1) راجع جامع المدارك ج 7 ص 160.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 193

خلاف محقق أجده فيه و إن قيل أطلق الحلبيان جواز عفو الإمام إذا تاب بعد الرفع، لكن على تقديره محجوج بالاستصحاب و إطلاق قول أمير المؤمنين عليه السلام. و غير ذلك مما عرفته سابقا.

و مراده من قول علي عليه السلام هو كلامه للأشعث و إليك متن الرواية:.

عن أبي عبد الله الرقي عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين عليهم السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقر بالسرقة فقال له: أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة قال:

فقال الأشعث: أ تعطل حدا من حدود الله؟ فقال: و ما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو و إذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام ان شاء عفا و إن شاء قطع «1».

و

عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أقيمت عليه البينة بأنه زنى ثم هرب قبل أن يضرب قال: إن تاب فما عليه شي ء و إن وقع في يد الإمام أقام عليه الحد و ان علم مكانه بعث إليه «2».

و اما التمسك بإطلاق صحيح ابن سنان و مرسل جميل لإثبات سقوط الحد بالتوبة و لو بعد قيام البينة.

ففيه أنه لا إطلاق أصلا خصوصا بالنسبة إلى مرسل جميل حيث إن قوله: و لم يؤخذ حتى تاب و صلح متعلق بالتوبة قبل الأخذ، فأين هذا الإطلاق الذي ذكره في الجواهر كي يحتاج إلى الجواب كما قد أجاب هو عنه؟ كما أن ظاهر رواية ابن سنان أيضا أنه قد تاب باختياره قبل المرافعة.

هذا مضافا إلى أنه يلزم على ذلك تحتم السقوط لا ما ذكره من تخيير الإمام و جواز عفوه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من مقدمات الحدود ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 16 من مقدمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 194

و قد يستدل لذلك الى السقوط بأولوية عقاب الدنيا من سقوط عقاب الآخرة و من المعلوم سقوط العقاب في الآخرة بالتوبة فإذا سقط عذاب الآخرة مع كونه أشق و أصعب فعذاب الدنيا الذي هو أسهل، أولى بالسقوط مع التوبة.

و فيه أن جعل الحد لمصلحة حفظ النظام و لا تعلق له بعذاب الآخرة حتى يدل سقوطها على سقوطه و لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

و أما لو تاب بعد الإقرار ففيه قولان:

أحدهما لابن إدريس و هو أنه يتحتم القطع.

ثانيهما أنه يتخير الإمام في الإقامة و العفو حكاه في الجواهر عن النهاية و الجامع و إطلاق الكافي و الغنية.

و

يتمسك للأول بأمور:

منها أصالة عدم سقوط الحد بالتوبة بعد الإقرار.

و منها عمومات حجية الإقرار.

و منها خصوص صحيح الحلبي و صحيح ابن مسلم.

فعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أقر على نفسه بحد ثم جحد بعد، قال: إذا أقر على نفسه عند الإمام أنه سرق ثم جحد قطعت يده و إن رغم أنفه و إن أقر على نفسه أنه شرب خمرا أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدة. «1».

و عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أقر على نفسه بحد أقمته عليه إلا الرجم فإنه إذا أقر على نفسه ثم جحد لم يرجم «2».

و اعتمد في الثاني على أمور:

منها الاعتماد على سقوط عقاب الآخرة الذي هو أعظم، بالتوبة.

و منها رواية البرقي التي مر نقلها آنفا في رجل أقر بالسرقة عند الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و انه قد وهبه لسورة البقرة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من مقدمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 195

و أجيب عن الأول بأنه لا يقاس هذا بذاك و إلا لكان يلزم السقوط حتما لا تخييرا، و عن الثاني بأن فيها ضعفا بالإرسال و غيره، و على هذا فالتوبة بعد الإقرار كالتوبة بعد إقامة البينة في تحتم القطع و أما التوبة قبله فهي مسقطة للحد كما يظهر ذلك من خبر أصبغ بن نباته في امرأة أقرت بالزنا عند أمير المؤمنين عليه السلام و يظهر منها أيضا أنه ليس شي ء أصلا حتى التعزير فلا وجه لما قد يقال من أنه إذا سقط الحد يجب التعزير.

إذا قطع الحداد يساره

قال المحقق: و لو قطع

الحدّاد يساره مع العلم فعليه القصاص و لا يسقط قطع اليمين بالسرقة و لو ظنها اليمين فعلى الحداد الدية، و هل يسقط قطع اليمين؟ قال في المبسوط:

لا، لتعلق القطع بها قبل ذهابها و في رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام إن عليا عليه السلام قال: لا تقطع يمينه و قد قطعت شماله.

أقول: اما قطع يد الحداد إذا قطع يسار السارق بدلا عن يمينه فهو واضح لأنه قطع يدا لم يؤمر بقطعها و كان ذلك عن عمد منه، و عموم أدلة القصاص تشمله، إلا إذا كان ذلك عن إذن منه في ذلك بناء على أن الإذن يوجب سقوط القصاص. و البحث موكول الى محله و إلا فبحسب الظاهر لا أثر للإذن في ذلك لعدم كون الاختيار بيده كما أن إذنه لا ينافي القصاص، و توقف القصاص على المطالبة لا ينافي ما ذكرناه كما أن من اذن غيره في أن يقتله فإن للوارث المطالبة بدمه، و على الجملة فعليه القصاص و ذلك لعموم أدلته.

و أما أنه كيف يمكن التعمد في ذلك فلأنه قد يكون محبا له و يتصور في نفسه الترحم عليه فلا يقطع يمينه التي بها يتمكن من إتيان الأمور فلذا يدع يمينه و يقطع يساره، و إلا فلا ينشأ هذا من العداوة.

و هل يقطع يمين السارق حينئذ أم لا؟ صرح المحقق بعدم سقوط قطعها و ذلك

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 196

لأن الواجب هو قطع اليمين و لم يؤت به و لا يخلفه ما ليس بواجب و قد نفى عنه في الجواهر الخلاف و الإشكال.

و قد استدل على ذلك بالأصل و إطلاق الأدلة و أنه قد تعلق الحق باليمين

قبل ذلك، و الجناية على اليسرى لا تقوم مقامها لأنها خلاف الحق.

و أما إذا لم يتعمد في ذلك بل كان ذلك خطأ بأن ظن أنها اليمين و قطعها ثم بان أنها كانت اليسار فهنا يكون الدية على الحداد لأنه من قبيل شبه العمد الذي يقتضي الدية.

و هل يوجب ذلك سقوط وجوب قطع اليمين أو أنه بعد باق على حاله؟

هنا قولان:

أحدهما عدم السقوط و يدل عليه الأصل و كذا استصحاب بقاء الحد إلى أن يثبت المزيل، و إطلاق الأدلة، و تعلق حق القطع بها قبل ذهاب اليسرى. و قد ذهب إلى ذلك الشيخ في المبسوط قال: فإن قال القاطع: دهشت و ما علمت أنها يساره أو علمتها يساره لكني ظننت أن قطعها يقوم مقام اليمين فلا قود على القاطع و عليه الدية و يقطع يمين السارق و قال قوم: لا يقطع، و الأول أقوى لأن يساره ذهبت بعد وجوب القطع في يمينه كما لو ذهبت قصاصا و من قال يسقط القطع عن يمينه قال: لأن اعتقاد القاطع أنه يقطعها بالسرقة مكان يمينه شبهة يسقط القطع عن يمينه انتهى «1».

و استقرب هذا القول العلامة في التحرير- 231. فقال: لو سبق الحداد فقطع اليسرى عمدا فالقصاص عليه و القطع باق و إن غلط فالأقرب وجوب الدية عليه و بقاء الحد.

ثانيهما ما ذهب إليه الصدوق في الفقيه و العلامة في المختلف و هو أنه لا يقطع يمينه بعد أن قطعت يساره خطأ. قال الأول: و إذا أمر الإمام بقطع يمين السارق فقطع يساره بالغلط فلا يقطع يمينه إذا قطعت يساره «2».

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 39.

(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 64.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3،

ص: 197

و قال في المختلف بعد نقل هذا الكلام عن الصدوق: و هو الأقوى.

أقول: و يدل على ذلك أمور:

منها رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أمر به ان تقطع يمينه فقدمت شماله فقطعوها و حسبوها يمينه و قالوا إنما قطعنا شماله، أ تقطع يمينه؟ قال: فقال: لا، لا تقطع يمينه قد قطعت شماله. «1»

و منها ما استدل به في المختلف- بقوله: لنا أنه قطع مساوي اليمين فيسقط القطع لاستيفاء مساوي الحق منه.

و منها ما تقدم من اهتمام الشارع و عنايته ببقاء الواحدة و عدم قطع كلتا اليدين كيلا يتضيق عليه العيش إذا كان قد بقي و ليس له يد.

نعم تخلص في الجواهر عن رواية قيس بضعف الخبر و عدم الجابر.

و فيه أن الظاهر أنه معتبر و القول بضعفه ضعيف. فراجع و انظر الى سلسلة سنده، نعم يمكن الإشكال باعراض المشهور عنه حيث إن العامل به هو الفقيه و المختلف، و على الجملة فعلى تقدير الضعف أو الأعراض فلا يعمل به.

و لو فرض التعارض بينه و بين ما دل على أنه تقطع اليمين على كل حال كرواية ابن سنان ب 11 ح 1، فهناك يتمسك بقاعدة الدرء.

[و إن كان يحتمل فيها أن المراد من (كل حال) يعنى سواء كان يساره شلاء أو يمينه أو كلاهما أو كان كلاهما صحيحتين و عليه فلا ربط لها بمقطوع اليسار و لا تعارض بينها و بين رواية ابن قيس، و على فرض كون رواية ابن سنان عامة شاملة لمقطوع اليسار فرواية محمد بن قيس أخص و تقدم هذه عليها.] [1]

اللهم إلا أن يقال بأنه مع وجود الاستصحاب لا

شبهة كي يتمسك بقاعدة الدرء فإنه يرفعها نظير قوله (ع) كل شي ء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر، مع استصحاب النجاسة.

______________________________

[1] بين المعقوفتين كان من دفتر مذاكرات سيدنا الأستاذ الأكبر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 6 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 198

و اما قطع المساوي الذي ذكره في المختلف ففيه أن اليسار ليست متعلقة للحق بل هي أجنبية عنه فكيف يحكم بأن قطع اليسار يسقط وجوب قطع اليمين، و الحق أنه مشكل جدا و كأنه يشبه القياس.

و أما عدم قطع يمينه لئلا يبقى بلا يدين، ففيه أنه لو كان ظاهر قوله عليه السلام: إني لأستحيي إلخ هو أن هذا هو حكم الله فهو حسن، أما إذا كان الظاهر منه أن له عليه السلام اختيار ذلك و أن هذا أمر مختص به فلا، و الظاهر هو الثاني لأن نسب الاستحياء إلى نفسه.

و في كشف اللثام- 250: إن الخبر و حصول الشبهة به دليل التنزل. انتهى.

يعني إن خبر محمد بن قيس و حصول الشبهة بهذا الخبر دليل على تنزيل اليسرى منزلة اليمنى و أورد عليه في الجواهر بقوله: لا حاصل له [1].

حسم يد السارق بعد القطع

قال المحقق: و إذا قطع السارق استحب حسمه بالزيت المغلي نظرا له و ليس بلازم.

أقول: و مستند ذلك هو الأخبار و ما روى من فعل النبي و الوصي صلى الله عليهما و آلهما و أمرهما بالحسم أو المعالجة منها ما روى عنه صلى الله عليه و آله أنه أتى بسارق فقال: اذهبوا فاقطعوه ثم احسموه [2] الى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد منها ذلك.

______________________________

[1] تحصل من جميع كلام سيدنا الأستاذ الأكبر أنه لا فرق في الصورتين

فلا يسقط الحد عن السارق بقطع يساره عمدا أو خطأ و هذا هو الذي ذهب اليه صاحب الجواهر.

لكن لا يخفى أن بعض أعاظم العصر رضوان الله عليه نفى الحد في كلتا الصورتين كما ان بعض الزعماء قدس سره الشريف اختار سقوطه في صورة الخطأ دون العمد. و لعل القول الأخير لا يخلو عن قوة.

[2] روى ذلك عن سنن البيهقي- 8- 271 و راجع وسائل الشيعة ج 18 باب 30 من أبواب حد السرقة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 199

و يدل على ذلك أيضا أن المقصود ليس هو قتله بل قطع يده فإذا لم يحسم فربما لا يقطع الدم فيموت. [1]

و لو كان في ذلك مؤنة فهل هي على الحاكم أو على السارق؟

الظاهر أنه عليه لا على الحاكم و ذلك لان ذلك ليس من باب الحد حتى يكون على الحاكم و إنما ذلك لمصلحة السارق و إبقاء عليه.

و ذهب بعض العامة إلى أنه حق لله تعالى و من تتمة الحد لأن فيه مزيد إيلام و عليه فيكون مؤنة الحسم على الإمام.

في عدم ضمان سراية الحد.

قال المحقق: و سراية الحد ليست مضمونة و إن أقيم في حر أو برد لأنه استيفاء سائغ.

أقول: هذا الكلام على إطلاقه ليس بتام و ذلك لأنه إذا علم أو ظن أن اجراء الحد في الحر أو البرد يوجب السراية فمقتضى القواعد الكلية هو الضمان و إنما يصح القول بعدم الضمان إذا كانت السراية مستندة إلى نفس القطع، و على الجملة إذا كانت السراية مستندة الى إجراء الحد في الحر أو البرد فهو مضمون.

مسائل

الأولى منها في إعادة العين المسروقة

قال المحقق: الخامس في اللواحق و هي مسائل الأولى يجب على السارق اعادة العين المسروقة و إن تلفت اغرم مثلها أو قيمتها إن لم يكن له مثل و إن نقصت فعليه أرش النقصان و لو مات صاحبها دفعت إلى ورثته و إن لم يكن له وارث فإلى الإمام.

أقول: كل ما ذكره مقتضى القواعد فإن على السارق رد العين المسروقة إلى المسروق عنه و ان كان قد قطع يده، و لو تلفت العين فعليه المثل في المثليات

______________________________

[1] قد يبدو في الذهن أن هذا يفيد الوجوب بل و كذا الرواية إلا أني لم أجد تصريحا منهم بالوجوب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 200

و القيمة في القيميات و لا فرق في الغرامة و الضمان بين كونه موسرا أو معسرا و أيسر بعد ذلك، و يجب على المعسر أن يستسعى في أداء ذلك نعم لو لم يمكن له الاستسعاء فهل يسقط الضمان أو أنه لا يسقط و يؤدي من بيت المال كما في المديون الذي لا يتمكن من أداء دينه؟

الظاهر أنه لا وجه لكونه على بيت المال. فهذا قد سرق و يكون ضمانه في بيت المال؟! اللهم إلا أن يقال: على ذلك يلزم

ضياع مال المسروق عنه فلا بعد في القول بكونه في بيت المال و على عهدة الإمام كيلا يلزم ضياع مال امرء مسلم.

ثم إنه يدل على الضمان مضافا إلى كونه مقتضى القواعد عدة من الأخبار فعن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا سرق السارق قطعت يده و اغرم ما أخذ «1».

و عن صالح بن سعيد رفعه عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل يسرق فتقطع يده بإقامة البينة عليه و لم يرد ما سرق كيف يصنع به في مال الرجل الذي سرقه منه؟ أو ليس عليه رده و ان ادعى أنه ليس عنده قليل و لا كثير و علم ذلك منه؟ قال: يستسعى حتى يؤدى آخر درهم سرقه «2».

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: السارق يتبع بسرقة و إن قطعت يده و لا يترك أن يذهب بمال امرئ مسلم «3».

ثم إن ظاهر لفظة الغرامة المذكورة في رواية سليمان هو إرادة صورة التلف فإن العين إذا كانت موجودة فعليه ردها و لا غرامة هناك. قال في مجمع البحرين:

قوله. تعالى إن عذابها كان غراما، اى هلاكا، و يقال: غراما ملازما و منه الغريم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 201

و هو الذي عليه الدين لأنه يلزم الذي عليه الدين به. و الغريم الذي عليه الدين.

انتهى.

اللهم إلا أن يكون قد أريد منه هنا الأعم من صورة وجود العين و تلفها

فيردها بنفسها في الأولى، و المثل أو القيمة في الثانية.

و على الجملة فالحكم مسلم لا خلاف فيه بيننا كما في الجواهر بل هو كالضروري من المذهب كذلك.

نعم قد ينقل خلاف عن بعض العامة كأبي حنيفة حيث قال: لا أجمع بين القطع و الغرم للعين التالفة فإن غرم له سقط القطع و إن سكت المالك حتى قطع سقط الغرم. [1] و عن العين الباقية: إن صنع فيها فأبدلها و جعلها كالمستهلكة لم يردها كما إذا صبغ الثوب اسود لا احمر فإن السواد بمنزلة استهلاكه و كما إذا صنع من الحديد أو النحاس آلة أو آنية لا من أحد النقدين فإن الصنعة فيهما غير متقومة و لذا لا يرفع عنهما حكم الربا. انتهى.

أقول: و لا دليل على ما ذكره، و لعله مبني على قياساته المعروفة عنه و كذا ما عن مالك من اختصاص الغرم بصورة اليسار.

و أما أن أرش النقصان عليه إذا نقصت فلأن المال المسروق كالمغصوب فيجري عليه حكمه و لذا لو زادت بكون الزيادة و النماء للمالك لا للسارق كما انه ليست للغاصب.

و أما وجوب دفعها إلى الورثة لو مات صاحبها و مع عدم الوارث فإلى الإمام، فمستنده مضافا الى اقتضاء القواعد ذلك، هو الأخبار:

______________________________

[1] قال في الفقه على المذاهب الأربعة ج 5 ص 200: الحنيفة و الحنابلة قالوا إذا ثبتت الجناية على السارق فلا يجتمع عليه وجوب الغرم مع القطع و إن تلف المسروق هلاكا أو استهلاكا فلا يضمن فإن غرم فلا قطع و ان قطع فلا غرم أما إذا قطع السارق، و العين قائمة في يده ردت على صاحبها لبقائها على ملكه من غير خلاف و للمسروق منه الخيار فإن اختار الغرم لم

يقطع السارق و ان اختار القطع فلا غرامة عليه. المالكية قالوا: إن كان السارق موسرا وجب عليه القطع و الغرم و إن كان معسرا لم يجب عليه الضمان بل يقطع فقط إلخ و راجع أيضا المبسوط ج 8 ص 43 كتاب السرقة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 202

فعن حمزة بن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن سارق عدا على رجل من المسلمين فعقره و غصب ماله ثم إن السارق بعد تاب فنظر إلى مثل المال الذي كان غصبه للرجل و حمله إليه و هو يريد أن يدفعه إليه و يتحلل منه مما صنع به فوجد الرجل قد مات فسأل معارفه: هل ترك وارثا و قد سألني أن أسألك عن ذلك حتى ينتهي إلى قولك قال:

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن كان الرجل الميت توالى إلى أحد من المسلمين فضمن جريرته و حدثه و أشهد بذلك على نفسه فإن ميراث الميت له و إن كان الميت لم يتوالى إلى أحد مات فإن ميراثه لإمام المسلمين فقلت: فما حال الغاصب؟ فقال: إذا هو أوصل المال إلى إمام المسلمين فقد سلم و أما الجراحة فإن الجروح تقتص منه يوم القيامة «1».

المسألة الثانية في سرقة اثنين نصابا

قال المحقق: إذا سرق اثنان نصابا ففي وجوب القطع قولان قال في النهاية: يجب القطع، و قال في الخلاف: إذا نقب ثلاثة فبلغ نصيب كل واحد نصابا قطعوا و إن كان دون ذلك فلا قطع و التوقف أحوط.

أقول: محل الكلام هو ما إذا كان يدهما على هذا النصاب الواحد و إلا فلو أخرج كل منهما نصف نصاب فإنه لا يؤثر في القطع بلا خلاف.

ثم ان في محل البحث قولين للشيخ الطوسي

رضوان الله عليه فأفتى في النهاية بوجوب القطع و اختار في الخلاف و المبسوط عدمه.

و ذهب إلى الأول الشيخ المفيد و السيد المرتضى و جميع أتباع الشيخ، بل عن الانتصار و الغنية الإجماع عليه، و إلى الثاني ابن الجنيد و ابن إدريس و العلامة، بل نسب إلى عامة المتأخرين كما في الجواهر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد السرقة ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 203

و مستند الأول أي قطع يد كل منهما أولا صدق إخراجهما للنصاب الذي هو شرط قطع يد المخرج، و هذا العمل مستند إليهما فترك قطعهما يستلزم سقوط الحد مع وجود شرطه و قطع أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا قطعهما.

و ثانيا رواية قضاء أمير المؤمنين عليه السلام:

عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في نفر نحروا بعيرا فأكلوه فامتحنوا أيهم نحروا فشهدوا على أنفسهم أنهم نحروه جميعا لم يخصوا أحدا دون أحد فقضى عليه السلام أن تقطع أيمانهم «1».

و يرد على الأول ان الشك في صدق إخراج كل واحد نصابا كاملا و ذلك لأنهما معا قد أخرجا نصابا و هو شي ء آخر، و الصدق الذي ادعاه صدق مجازي و إلا فلا يصدق حقيقة إنه قد اخرج كل منهما نصابا كاملا.

و أما الثانية ففيه أن الرواية قضية في واقعة و لا نعلم وجهها كاملا و لعله كان نصيب كل واحد منهم بمقدار النصاب.

هذا مضافا إلى أن روايات اعتبار النصاب في قطع يد السارق المروية في ب 2 أظهر من هذه التي لها نوع إجمال من جهة أن كيفية نحر الجماعة غير معلومة، فإن

النحر هو إيقاع السكين في نحر البعير و هذا الأمر يتحقق بواحد و لا يحتاج إلى أزيد و إن كان قد أمسكه جماعة فإن إمساكهم لا يطلق عليه النحر و هذه الروايات العديدة ظاهرة جدا في اعتبار استقلال كل بنصاب واحد فراجع.

و أما مستند القول الثاني فهو ما ذكره في المختلف ص 772 بقوله: لنا أصالة البراءة و لأن كل واحد منهم لا يفعل الموجب و إلا لزم استناد الفعل الواحد إلى علل كثيرة و هو محال فالصادر عن كل واحد بعضه، و بعض الشي ء ليس نفس ذلك الشي ء، و إذا انتفى السبب انتفى الحكم انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 34 من أبواب حد السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 204

و اختار ذلك في المسالك و الجواهر و هو كذلك فإن الظهورات مضافا إلى الأصل تقتضي اعتبار النصاب في عمل كل سارق حتى تقطع يده. هذا مضافا إلى قاعدة درء الحدود بالشبهات لو كانت هناك شبهة.

قال الشيخ في الخلاف مسألة 8: إذا نقب ثلاثة و دخلوا و اخرجوا بأجمعهم متاعا فبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا قطعناهم بلا خلاف و إن كان أقل من نصاب فلا قطع سواء كانت السرقة ثقيلة أو خفيفة و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الشافعي و قال مالك: إن كانت السرقة ثقيلة فبلغت قيمتها نصابا قطعناهم كلهم و إن كانت خفيفة ففيه روايتان إحداهما كقولنا و الثانية كقوله في الثقيلة و روى أصحابنا أنه إذا بلغت السرقة نصابا و أخرجوا بأجمعهم وجب عليهم القطع و لم يفصلوا، و الأول أحوط دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم و أيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع

به و ما ذكروه ليس عليه دليل، و لأصل براءة الذمة. انتهى.

و وجه توقف المحقق في المقام أن الرواية الصحيحة فيها ما ذكرناه، و المرسلة المنقولة في عبارة الخلاف قال في الجواهر: لم يعرف من أحد نقلها، و جبرها بالشهرة المتقدمة معارض بوهنه بالشهرة المتأخرة انتهى فالتوقف أحوط.

و التوقف لو أريد به التوقف في العمل كما هو الظاهر فهو واضح، و لو أريد به التوقف في الفتوى فهنا أيضا يجري الدرء و كيف كان فلا يقطع.

المسألة الثالثة

قال المحقق: لو سرق و لم يقدر عليه ثم سرق ثانية قطع بالأخيرة و اغرم المالين و لو قامت الحجة بالسرقة ثم أمسكت حتى قطع ثم شهدت عليه بأخرى قال في النهاية:

قطعت يده بالأولى و رجله بالثانية استنادا إلى الرواية و توقف بعض الأصحاب فيه و هو أولى.

أقول: قد تقدم البحث في هذه المسألة آنفا فراجع قوله: و لو تكررت السرقة فالحد الواحد كاف إلخ. فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 205

الرابعة في توقف القطع على مطالبة المسروق منه
اشارة

قال المحقق: قطع السارق موقوف على مطالبة المسروق منه فلو لم يرافعه لم يرفعه الإمام و إن قامت البينة.

أقول: إن السرقة و إن كانت ذات جهتين حق الله و حق الآدمي إلا أنه قد غلب فيها الحيث الثاني و لذا حكموا بأن مجرد إثباتها لا يكفي في الحكم بالقطع بل ذلك موقوف على الترافع إلى الحاكم و ادعاء صاحب الحق أي المسروق عنه أو وكيله.

و على هذا فلو قامت البينة على السرقة إلا أنها كانت حسبة أو علم الحاكم بنفسه بالسرقة أو جاء السارق عند الحاكم و أقر بالسرقة بلا ترافع إليه فإنه لا يحكم عليه بالقطع و قد أفتى الأصحاب أيضا باعتبار الترافع في القطع.

و يدل على ذلك خبر الحسين بن خالد عن ابي عبد الله عليه السلام قال:

سمعته يقول: الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد و لا يحتاج إلى بينة مع نظره لأنه أمين الله في خلقه و إذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره و ينهاه و يمضى و يدعه. قلت: و كيف ذلك؟ قال: لأن الحق إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته و إذا كان للناس فهو

للناس «1».

لكن يشكل الأمر أنه معارض بصحيحة الفضيل قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من أقر على نفسه عند الإمام بحق من حدود الله مرة واحدة حرا كان أو عبدا أو حرة كانت أو أمة فعلى الإمام أن يقيم الحد عليه للذي أقر به على نفسه كائنا من كان إلا الزاني المحصن فإنه لا يرجمه حتى يشهد عليه أربعة شهداء فإذا شهدوا ضربه الحد مأة جلدة ثم يرجمه قال: و قال أبو عبد الله عليه السلام:

و من أقر على نفسه عند الإمام بحق حد من حدود الله في حقوق المسلمين فليس على الإمام أن يقيم عليه الحد الذي أقر به عنده حتى يحضر صاحب الحق أو وليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 32 مقدمات الحدود ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 206

فيطالبه بحقه قال: فقال له بعض أصحابنا: يا أبا عبد الله فما هذه الحدود التي إذا أقر بها عند الإمام مرة واحدة على نفسه أقيم عليه الحد فيها؟ فقال: إذا أقر على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق الله و إذا أقر على نفسه أنه شرب خمرا حده فهذا من حقوق الله و إذا أقر على نفسه بالزنا و هو غير محصن فهذا من حقوق الله قال: و اما حقوق المسلمين فإذا أقر على نفسه عند الإمام بفرية لم يحده حتى يحضر صاحب الفرية أو وليه و إذا أقر بقتل رجل لم يقتله حتى يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم «1».

فترى التصريح فيها بأن السرقة من حقوق الله تعالى و يكفى فيه الإقرار، و هي معتضدة بعدة روايات دالة على أن للإمام أن يقطع يد المقر

بالسرقة.

قال بعض المعاصرين رضوان الله عليه بان الترجيح مع صحيحة الفضيل لموافقتها للكتاب و السنة الدالين على قطع يد السارق و لم يثبت تقييد ذلك بمطالبة المسروق منه و إنما الثابت سقوط الحد فيما إذا عفى المسروق منه قبل رفع الأمر إلى الحاكم و الثبوت عنده انتهى «2».

و ما أفاده مبني على مبناه من عدم الاعتناء بالشهرة مطلقا فقد تقدم أن الأصحاب أخذوا برواية ابن خالد بل في الرياض لم يتعرض أصلا لغير هذه الرواية. و على الجملة فالترجيح عنده لرواية الفضيل لموافقتها للآية الكريمة الآمرة بالقطع و الروايات الناطقة بأن للإمام أن يقطع يد المقر.

و اما على ما نقول به من الاعتماد على المشهور لجبر الضعف و في مقام الترجيح، فلا محالة يكون الترجيح لرواية ابن خالد لذهاب المشهور إلى مؤداها أي الحاجة إلى المرافعة و عدم القطع بدونها.

ثم يرد عليه أنه سلمنا عدم الترجيح بقول المشهور فهل لا يكون ذهاب المشهور إلى عدم القطع بدون المرافعة سببا للشبهة التي يدرء بها الحد؟

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من مقدمات الحدود ح 1.

(2) تكملة المنهاج، ج 1 ص 314.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 207

و أما ما أورد عليه بعض المعاصرين قدس سره بقوله: و يمكن أن يقال: الظاهر أن نظر السائل إلى التفصيل بين الحقوق التي يكتفى في ترتب الحد الإقرار بها مرة واحدة و بين الحقوق التي لا يكتفي فيها، فالسرقة مما يكتفى فيها بالإقرار و الإطلاق يقتضي عدم الحاجة إلى مرافعة المسروق منه و صحيح الحسين بن خالد يقيده إلخ. «1».

ففيه أنه بالآخرة صرح فيها بأنه إذا أقر بالسرقة قطعه و صرح أيضا بأن السرقة من حقوق الله

تعالى سواء قلنا باعتبار المرة أو المرتين في الإقرار.

ثم لا يخفى أنه لا خلاف في عدم اعتبار بينة الحسبة و لا في عدم الاعتماد على علم الحاكم و إنما الكلام في الإقرار و قد علمت أن المشهور هو عدم اعتباره بدون المرافعة.

و خالف في ذلك الشيخ قدس سره في الخلاف و المبسوط فقال بالقطع بالإقرار لعموم النص و لأنه إنما كان لا يقطع بدون مطالبة المالك لاحتمال الشبهة أو الهبة أو الملك و ينتفي عند الإقرار و لأنه إنما كان لا يقطع نظرا له و ابقاء عليه فإذا أقر فكأنه الذي أقدم بنفسه على إقامة الحد عليه [1].

و قد نفى عنه البأس في كشف اللثام. لكن قد ذكرنا أن الحق هو عدم الاعتداد بالإقرار بلا ترافع لرواية ابن خالد.

و في المسالك و الجواهر أنه قد جوز بعض العامة القطع ببينة الحسبة نظرا إلى أنه حق الله. و قد ذكرنا أنه غلب عند الأصحاب جانب الناس في السرقة كما يظهر ذلك من الفرع الآتي:

______________________________

[1] هكذا نقل في كشف اللثام ج 2 ص 250 عن الخلاف و المبسوط و كأن صاحب الجواهر قد أخذ منه. إلا أنى كلما فحصت لم أجد تمام هذه العبارة و الاستدلالات بل كان قد ذكر ما يناسب المقام في مسألة 17 من الخلاف. نعم ذكر في مسألة 42 ما يقرب مما نقل في كشف اللثام.

______________________________

(1) جامع المدارك ج 7 ص 163.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 208

في هبة المسروق أو العفو عن القطع

قال المحقق: و لو وهبه المسروق منه سقط الحد و كذا لو عفا عن القطع فأما بعد المرافعة فإنه لا يسقط بهبة و لا عفو.

أقول: إذا كان القطع موقوفا على المطالبة كما هو

المفروض المحقق فلو وهب المسروق منه المال الذي سرق عنه قبل الرفع إلى الحاكم فله ذلك و النتيجة سقوط الحد عنه و هكذا لو عفى عن خصوص القطع دون المال فإنه يسقط حده.

و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، و قد صرح بذلك بعض الأخبار.

عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يأخذ اللص يرفعه أو يتركه؟ فقال: إن صفوان بن أمية كان مضطجعا في المسجد الحرام فوضع رداءه و خرج يهريق الماء فوجود رداءه قد سرق حين رجع إليه فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال النبي صلى الله عليه و آله: اقطعوا يده فقال الرجل: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول الله؟ قال: نعم قال: فأنا أهبه له. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: فهلا كان هذا قبل أن ترفعه إلي؟ قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع اليه؟ قال:

نعم. قال و سألته عن العفو قبل أن ينتهي إلى الإمام؟ فقال: حسن «1».

و في خبر سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه و إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام و ذلك قول الله عز و جل: و الحافظين لحدود الله. فاذا انتهى الحد إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 17 من مقدمات الحدود ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 17 من مقدمات الحدود ح 3.

الدر المنضود

في أحكام الحدود، ج 3، ص: 209

و عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يشفعن أحد في حد إذا بلغ الإمام فإنه لا يملكه و اشفع فيما لا يبلغ الإمام إذا رأيت الندم و اشفع عند الإمام في غير الحد مع الرجوع من المشفوع له و لا يشفع في حق امرئ مسلم و لا غيره إلا بإذنه «1».

لو ملك السارق ما سرقه.

قال المحقق: فرع: لو سرق مالا فملكه قبل المرافعة سقط الحد و لو ملكه بعد المرافقة لم يسقط.

أقول: و قد ظهر حكم هذا الفرع مما تقدم عليه و ذلك لأن التملك أيضا كالهبة لعدم خصوصية لها في ذلك فكما أن الهبة قبل الرفع إلى الحاكم يوجب سقوط الحد كذلك سائر أنواع التملك، و لم يبق مجال للترافع هنا بخلاف ما إذا وقع الترافع و ثبت السرقة ثم ملك المال فإنه لا وجه لسقوط الحد للأصل و غيره.

المسألة الخامسة في إعادة السارق المال الى الحرز
اشارة

قال المحقق: لو أخرج المال و أعاده إلى الحرز لم يسقط الحد لحصول السبب التام و فيه تردد من حيث أن القطع موقوف على المرافعة فإذا دفعه إلى صاحبه لم تبق له المطالبة.

أقول: قد حكى الوجه الأول أي عدم سقوط الحد لحصول السبب التام، عن الخلاف و المبسوط [1] و الوجه في ذلك أن السبب للقطع قد حصل و هو إخراج النصاب من الحرز على وجه السرقة فيثبت به القطع و يستصحب حكم الوجوب.

______________________________

[1] كما في كشف اللثام و الجواهر لكني كلما بالغت في الفحص لم أجد ذلك في المبسوط و الخلاف بالعنوان الخاص نعم يستفاد ذلك من الفروع التي ذكرها تحت قوله: فإن نقبا معا إلخ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من مقدمات الحدود ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 210

و في قباله الوجه الثاني و هو سقوط الحد. و الوجه فيه أن القطع موقوف على المرافعة و بعد إعادة المال لم تبق له مطالبة و قد تردد المحقق في الحكم بعدم السقوط، لذلك.

و يمكن الإشكال بأن من سرق ثم رد المال إلى حرزه فلعله لا يصدق عليه عرفا أنه قد سرقه بل

يقال فيه إنه كان يريد السرقة لكنه لم يسرق و عليه فلا وجه لقطعه.

و كيف كان فوجه الترديد في نظر المحقق هو أنه بلحاظ هذا الوجه يكون المقام من قبيل الشبهة حيث إنه لا مورد للمرافعة حتى يجري الحد، و مآل هذا إلى الإشكال في حصول السبب لقطع بمجرد إخراج النصاب. و هذا يرجع إلى منع كون السرقة سببا تاما في القطع و توقفه على المرافعة و لم تحصل.

ثم إن الظاهر أنه لا إشكال في عدم المرافعة و القطع إذا دفع المال إلى يد صاحبه و إنما الإشكال فيما إذا رده إلى الحرز و لذا ترى صاحب الجواهر قال: فإذا دفعه إلى محل حرزه فكأنه دفعه إلى صاحبه.

و لا يخفى أن الإشكال المذكور في عبارة المحقق قد ذكره العلامة أعلى الله مقامه أيضا في القواعد فقال: و لو أخرج المال و أعاده إلى الحرز لم يسقط الحد لحصول السبب التام و فيه إشكال ينشأ من أن القطع موقوف على المرافعة.

و في كشف اللثام بعد ذلك: فإذا أعاده فكأنه دفعه إلى مالكه و إذا دفعه إليه سقطت المطالبة و إنما يكون المطالبة لو أعاده و لم يعلم المالك و لا أظهره السارق أو تلف في الحرز قبل الوصول إلى المالك انتهى و ذكر ذلك في الجواهر أيضا.

و هذا الكلام أيضا لا يخلو عن إشكال فإنه إذا أعاده إلى الحرز و لم يعلم المالك و لا أظهره السارق فإنه تكون له المطالبة لجهله و إلا فلو كان عالما بأن السارق قد أعاده فهناك لم تكن للمالك المطالبة، و النتيجة كون المطالبة ظاهرية و بمقتضى جهله فاذا يكون القطع خطأ و لا بد من الضمان كمن توهم أن

فلانا سرق منه المال و أقام البينة و قطع يد ذاك الشخص ثم تبين عدم السرقة.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 211

و لا يجاب بأن السارق حيث لم يعلم ذلك فكأنه قد أقدم على قطع يده و ذلك لأنه التقصير هنا كما يكون من السارق كذلك يكون من المالك حيث لم يتفحص و إنما أقدم على المرافعة و القطع بمجرد العلم بالسرقة بلا فحص عن أنه رده إلى الحرز ثانيا أم لا و لو كان يتفحص عن ذلك لما أقدم على المرافعة و قطع يد السارق فهذه المرافعة لم تكن موضوعا للقطع.

كما أن الصورة الثانية أيضا محل الكلام و الإشكال لأنه بعد أن فرض أن الدفع إلى الحرز كالدفع إلى صاحبه على ما تقدم فلا يمكن المرافعة فكيف نقول هنا بأنه إذا تلف في الحرز قبل الوصول إلى المالك يمكن المرافعة؟

ثم إن كاشف اللثام بعد أن ذكر اشكال العلامة و تعرض لوجه اشكاله صار بصدد دفعه فقال: و يندفع بالنظر إلى عبارة المبسوط فإنها كذا: فإن نقبا معا فدخل أحدهما فأخذ نصابا فأخرجه بيده إلى رفيقه و أخذه رفيقه و لم يخرج هو من الحرز كان القطع على الداخل دون الخارج و هكذا إذا رمى به من داخل فأخذه رفيقه من خارج و هكذا لو أخرج يده إلى خارج الحرز و السرقة فيها ثم رده الى الحرز، فالقطع في هذه المسائل الثلاث على الداخل دون الخارج و قال قوم: لا قطع على واحد منهما و الأول أصح انتهت. و نحوها عبارة الخلاف و ظاهرها تلف المال بعد الرد إلى الحرز قبل الوصول إلى المالك كما في المسألتين الأوليين و إنما ذكر المسألة لبيان

أن القطع على الداخل و الخارج أو لا قطع و لو أراد العموم أمكن ان أريد أنه لا يسقط عند القطع و إن لم يقطع لعدم المطالبة كما قال بعيد ذلك: إذا سرق عينا يجب فيها القطع فلم يقطع حتى ملك السرقة بهبة أو شراء لم يسقط القطع عنه سواء ملكها قبل الرفع إلى الحاكم أو بعده إلا أنه إن ملكها قبل الترافع لم يقطع لا لان القطع يسقط لكن لأنه مطالب له بها و لا قطع بغير مطالبة بالسرقة و نحوه في الخلاف. انتهى.

و قد أورد عليه في الجواهر بأنه لا إشعار في كلام الشيخ بتلف المال بعوده الى الحرز فضلا عن الظهور إلى آخر ما أفاده فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 212

ثم إن الشهيد الثاني قد نقل في المسالك قول الشيخ في المبسوط و الخلاف بثبوت القطع و إن رده إلى الحرز و تعرض لوجهه و هو تحقق السبب أي سرقة النصاب من الحرز و بعد ذلك يستصحب حكم الوجوب و أن وجه تردد المحقق انه مع رد المال ينتفي موضوع القطع و هو المرافعة و هو راجع الى ان السبب السرقة مع المرافعة.

ثم تنظر فيه و قال: و فيه نظر لأن مجرد رده إلى الحرز لا يكفي في براءة السارق من الضمان من دون أن يصل إلى يد المالك و من ثم لو تلف قبل وصوله إليه ضمنه فله المرافعة حينئذ و يترتب عليها ثبوت القطع نعم لو وصل إلى يد المالك ضعف القول بالقطع جدا و بهذا يصير النزاع في قوة اللفظي لأنه مع وصوله إلى المالك لا يتجه القطع أصلا و بدونه لا يتجه عدمه و التعليلان

مبنيان على هذا التفصيل. انتهى.

و يرد عليه أن الرد الى الحرز كالرد إلى صاحبه و هو كاف في سقوط الحد و إن فرض أن الضمان غير ساقط و لا ملازمة بين الضمان و صدق السرقة الموجبة للقطع و لا أقل من كون العام من الشبهة الموجبة للدرء.

إذا هتك جماعة و اخرج واحد منهم

قال المحقق: و لو هتك الحرز جماعة فأخرج المال أحدهم فالقطع عليه خاصة لانفراده بالموجب و لو قرّبه أحدهم و أخرج للآخر فالقطع على المخرج.

أقول: أما الفرض الأول و هو أنه إذا هتك الحرز جماعة إلا أن واحدا منهم قد أخرج المال دون الآخرين فالقطع على هذا الذي قد أخرج المال و ذلك لاجتماع الشرطين في القطع، فيه، لأنه قد هتك و أخرج المال و إن كان هتكه للحرز على سبيل الاشتراك و التعاون سواء كان عمله و مقدار جهده في الهتك مساويا لعمل الباقين أو كان يتفاوت و لا خلاف في ذلك بيننا كما صرح به في الجواهر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 213

نعم حكى عن أبي حنيفة أنه قال بتوزيع السرقة عليهم فإن أصاب كل منهم قدر النصاب قطعهم. لكنه لا ينطبق على القواعد و هو واضح الفساد لعدم صدق السرقة بلا إخراج.

و أما الفرض الثاني و هو ما لو قرب المال أحدهم و أخرجه الآخر فالقطع على المخرج فذلك لأن الكل قد اشتركوا في النقب كما هو مقتضى العبارة فمن قرب المال لا يصدق عليه السارق و أما المخرج فهو سارق لتحقق الشرطين فيه فيقطع يده خاصة.

و حكى عن أبي حنيفة أنه قال بعدم القطع على أحد منهما متمسكا بعدم صدق الإخراج من الحرز على كل منهما، و هو أيضا فاسد فإنه كما

ذكرنا يصدق الإخراج من الحرز على من أخرجه و إن كان قد قرّبه الآخر.

فرض آخر

قال المحقق: و كذا لو وضعها الداخل في وسط النقب و أخرجها الخارج و قال في المبسوط: لا قطع على واحد منهما لأن كل واحد لم يخرّجه عن كمال الحرز.

أقول: إذا وضع الداخل المال في وسط النقب و قد أخرجه الخارج فعند المحقق يقطع المخرج خاصة و قد قال بذلك ابن إدريس أيضا.

لكن خالف في ذلك الشيخ في كتاب السرقة من المبسوط ص 26 فقال: و إذا نقبا معا و دخل أحدها فوضع السرقة في بعض النقب فأخذها الخارج قال قوم: لا قطع على واحد منهما و قال آخرون عليهما القطع لأنهما اشتركا في النقب و الإخراج معا فكانا كالواحد المنفرد بذلك بدليل أنهما لو نقبا معا و دخلا فأخرجا معا كان عليهما الحد كالواحد و لأنا لو قلنا لا قطع كان ذريعة إلى سقوط القطع بالسرقة لأنه لا يشاء شيئا إلا شارك غيره فسرقا هكذا فلا قطع، و الأول أصح لأن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 214

كل واحد منهما لم يخرجه من كمال الحرز فهو كما لو وضعه الداخل في بعض النقب و اجتاز مجتاز فأخذه من النقب فإنه لا قطع على واحد منهما. انتهى.

أقول: الظاهر أنه لا يعتبر في السرقة سوى الإخراج من الحرز و أما كمال الحرز الذي قاله الشيخ فهو غير معتبر و على هذا فتقطع المخرج لأنه أخرجه من الحرز أما الآخر فلم يخرجه و إنما أتى ببعض مقدمات الإخراج.

و قد أورد عليه في السرائر بقوله: الذي يقتضيه أصول مذهبنا أن القطع على الأخذ الخارج لأنه نقب و هتك الحرز و أخرج المال

منه و لقوله تعالى: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما. و هذا صادق فمن أسقط القطع عنه فقد أسقط حدا من حدود الله بغير دليل بل بالقياس و الاستحسان و هذا من تخريجات المخالفين و قياساتهم على المجتاز و أيضا فلو كنا عاملين بالقياس ما ألزمنا هذا لأن المجتاز ما هتك حرزا و لا نقب فكيف يقاس الناقب عليه «1».

ثم قال: و أيضا فلا يخلو الداخل من أنه أخرج المال من الحرز أو لم يخرجه فإن كان أخرجه فيجب عليه القطع و لا أحد يقول بذلك فما بقي إلا أنه لم يخرجه من الحرز و أخرجه الخارج من الحرز الهاتك له فيجب عليه القطع لأنه نقب و أخرج المال من الحرز إلخ «2».

أقول: و آخر كلامه لا يخلو عن إجمال و ذلك لأنه على فرض إخراجه من الحرز فلا محالة يجب القطع فما معنى قوله: و لا أحد يقول بذلك، بل هذا لا محصل له في الحقيقة.

و إن قلت: معناه أن هذا خلاف المفروض.

ففيه أن هذا خلاف الظاهر و كان يمكن أن يعبر بنفس هذه العبارة لا أن يقول: فلا أحد يقول بذلك.

و هنا فرع قد تعرض له صاحب الجواهر و هو أنه لو هتك الحرز صبيا أو مجنونا ثم كمل فأخرج قبل اطلاع المالك و إهماله ففي القطع نظر إلخ.

______________________________

(1) السرائر ج 3 ص 497 و 498.

(2) السرائر ج 3 ص 497 و 498.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 215

و وجه القطع أنه الأخذ و الهاتك و وجه عدمه عدم كونه مكلفا حين الهتك، و حين التكليف إنما أخذ من حرز منهتك، و القطع إنما يترتب على كليهما- و لم يحصل ذلك-

و المتيقن من النص و الفتوى ذلك.

هذا هو مقتضى القاعدة، و لو شك فقاعدة الدرء تقتضي عدم القطع.

السادسة فيما إذا أخرج النصاب مرارا

قال المحقق: لو أخرج قدر النصاب دفعه وجب القطع و لو أخرجه مرارا ففي وجوبه تردد أصحه وجوب الحد لأنه أخرج نصابا و اشتراط المرة في الإخراج غير معلوم.

أقول: أما الفرض الأول فواضح و أما الثاني و هو ما إذا أخرج النصاب بدفعات فقد تردد فيه المحقق أولا، و وجه التردد هو ادعاء صدق سرقة النصاب و إخراجه فيشمله عموم الآية، و ادعاء عدم صدق سرقة النصاب في كل مرة.

و بتقرير آخر: لا إشكال في اشتراط القطع بإخراج النصاب من الحرز و المتيقن منه إخراجه دفعة و أما كفاية إخراجه بدفعات فهو خلاف ظاهر الآية و لا أقل من الشبهة، و الحدود تدرء بالشبهات.

و الأصح عنده هو وجوب الحد لعدم العلم باشتراط المرة.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك للشك في صدق السرقة الموجبة للقطع مع الشك في اعتبار المرة و لا يمكن التمسك بأصالة عدم الاشتراط بعد الشك في صدق عنوان السرقة المعتبرة في القطع لو لم نقل بانصراف الأدلة عن المرات و الدفعات و إلا فالأمر أوضح.

و على الجملة فالشك في صدق عنوان السرقة، فإن الذي يصدق عليه مسلما هو سرقة النصاب و إخراجه دفعة واحدة و اما إخراجه بدفعات فيشك في أنه سرقه أم لا فيشك في حصول الشرط. و ظاهر الأدلة هو الدفعة، و لا أقل من الشك فيدرء الحد، و الحاصل انه لا شك فيما إذا كانت دفعة فإنه يقطع مع حصول باقي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 216

الشرائط و كذا إذا كانت في مرات بلا فصل كثير و اما إذا

كانت بدفعات مع عدم قصر الفصل فلا.

و لذا أورد في الجواهر على المحقق بعد نقل كلامه قائلًا: و فيه منع صدق سرقة النصاب من الحرز مع عدم قصر الزمان بحيث يعد الجميع في العرف سرقة واحدة.

و قال: نعم لو أخرج المسروق على التواصل كالطعام و نحوه فهو كالدفعة إذ الإخراج إنما يتم بإخراج جميعه و هو إنما يقع دفعة.

ثم قال: و لو أخرج النصاب من حرزين فصاعدا لم يقطع بناءا على ما ذكرنا من اعتبار الاتحاد عرفا الا أن يكونا في حكم الواحد بأن يشملهما ثالث كبيتين في دار فإن إخراجهما من الدار سرقة واحدة و الله العالم انتهى.

و هذه الفروع أمور عرفية يتعرضون لها لا مطالب علمية يبحث فيها.

السابعة في ما إذا أخذ النصاب و أحدث فيه حدثا

قال المحقق: لو نقب فأخذ النصاب و أحدث فيه حدثا تنقص به قيمته عن النصاب ثم أخرجه مثل أن خرق الثوب أو ذبح الشاة فلا قطع و لو أخرج نصابا فنقصت قيمته قبل المرافعة ثبت القطع.

أقول: إذا نقب و أخذ النصاب الا أنه قبل إخراجه قد أخذ فهنا لا يقطع و هكذا لو أخذه و كان قد أحدث فيه حدثا أوجب نقصان قيمته عن النصاب ثم أخرجه عن الحرز كما إذا خرق الثوب و صار خرقه موجبا لذلك فهنا أيضا لا يقطع.

و يمكن ان يستدل لذلك ببعض الأخبار كخبر إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أن عليا عليه السلام كان يقول: لا قطع على السارق حتى يخرجه بالسرقة من البيت و يكون فيها ما يجب فيه القطع «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 8 من أبواب حد السرقة ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 217

و خبر السكوني عن أبي عبد الله

عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في السارق إذا أخذ و قد أخذ المتاع و هو في البيت لم يخرج بعد، قال:

ليس عليه القطع حتى يخرج به من الدار «1».

و ذلك لأنه لم يخرج النصاب عن الحرز في الفرضين فلا تقطع يده، نعم لا ينافي ذلك كونه ضامنا للنقصان الذي حصل بما أحدثه فيه في الفرض الثاني.

و هذا بخلاف ما لو أخرج النصاب من الحرز إلا أنه نقصت قيمته بعد ذلك سواء كان قبل المرافعة أو بعده فإنه وجب القطع و ذلك لتحقق الموجب اي صدق إخراج النصاب من الحرز.

[و بذلك يجاب عن أبي حنيفة القائل بعدم القطع ان نقصت قيمته للسوق قبل القطع.]

الثامنة في ابتلاعه مقدار النصاب في الحرز

قال المحقق: لو ابتلع داخل الحرز ما قدره النصاب كاللؤلؤة فإن كان يتعذر إخراجه فهو كالتالف فلا حد و لو اتفق خروجها بعد خروجه و هو ضامن و إن كان خروجها مما لا يتعذر بالنظر إلى عادته قطع لأنه يجري مجرى إيداعها في الوعاء.

أقول: إذا دخل في الحرز و أخذ مقدار النصاب أو أكثر الا أنه قبل إخراجه قد ابتلعه فتارة يكون المبتلع (بالفتح) تالفا بالابتلاع كالماء و الطعام فلا قطع لأنه لم يخرج النصاب من الحرز حتى يقطع و كذا ما إذا كان مثل اللؤلؤ لكن تعذر خروجه أو إخراجه فإنه كالتالف أيضا و ان كان ضامنا.

و أخرى ليس كذلك بان كان لا يتعذر إخراجه أو خروجه بحسب العادة مثلا فابتلع السارق بقصد خروجه أو إخراجه و هنا لا إشكال في وجوب القطع إذا كان المالك مطالبا له، و ابتلاعه و كونه في الباطن بمنزلة إيداعه في الوعاء.

و هنا فرع و هو أنه لو اتفق فساده قبل قطع

اليد فخرج فاسدا على خلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 8 من أبواب حد السرقة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 218

العادة فهل هنا يقطع أم لا؟ اختار في المسالك العدم.

ثم إنه قال في المسالك: و يظهر من العبارة- أي قول المحقق: و ان كان خروجها مما لا يتعذر بالنظر إلى عادته قطع إلخ- جواز تعجيل قطعه قبل الخروج حيث يكون الخروج معتادا و الأولى الصبر إلى أن يخرج دفعا للاحتمال.

و في الجواهر: قلت: لا بأس بالتعجيل مع العلم بأنه خرج مع كونه في جوفه من الحرز و هو بالغ للنصاب إذ الفساد بعد ذلك غير قادح في ترتب القطع بعد حصول سببه، نعم لو خرج فاسدا و لم يعلم بحاله قبل الخروج أو بعده أمكن عدم القطع للشبهة التي لا تجدي الأصول هنا في ارتفاعها.

و كيف كان فالحق انه في الفرع الأخير أي ما إذا لم يتعذر خروجها تقطع يده.

خلافا لبعض العامة حيث قال: لا قطع عليه لأنه بالابتلاع في حكم المستهلك و قد ضمنها بقيمتها بابتلاعها و لأنه أخرجها معه مكرها بدليل أنه ما كان يمكنه تركها و الخروج دونها فهو كما لو نقب و أكره على إخراج المتاع. و هذا ممنوع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 219

حدّ المحارب

اشارة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 221

الباب السادس في حدّ المحارب

قال المحقق قدس سره: المحارب كل من جرد السلاح لإخافة الناس في بر أو بحر ليلا أو نهارا في مصر و غيره.

أقول: الأصل في ذلك قوله تعالى: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ

أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ. المائدة- 33.

و الكلام هنا في مواضع.

1- في تعريف المحارب و أن المحارب من هو؟

2- في شرائطه.

3- في حكمه.

4- في كيفية إجراء حكمه و إقامة حده.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 222

اما الأول فقد عرفه بعض كالشرائع بأنه كل من جرد السلام لإخافة الناس. [1]

و آخر بأنه من شهر السلاح.

و ثالث بأنه من حمل السلاح.

و هذه التعابير و التفاسير مختلفة لوضوح الفرق بين تجريد السلاح أو شهره و بين حمل السلاح.

و لا شك في أنه يعتبر فيه الإخافة بأن يكون حمله للسلاح لذلك، فمن حمله لا لذلك بل لحفظ نفسه و الدفاع عنه فليس هو بمحارب قطعا و إن كان مجرد ذلك أوجب خوف بعض و خاف منه أحد.

و لا يخفى أن الظاهر أن هذا المفهوم أي الإخافة مفهوم عرفي و أنه لا مفهوم له شرعي فإنه لم يعلم ذلك من الشرع لكن مع ذلك فقد يرى توسع في هذا المفهوم العرفي في كلماتهم يشكل تصديقهم في جميع ما ذكروه.

و من جملة ذلك أنهم قد يقولون بأنه و ان كانت الإخافة بالنسبة إلى شخص واحد كما صرح بذلك صاحب الجواهر فإنه بعد قول المحقق: لإخافة الناس. قال:

و لو واحد لواحد على وجه يتحقق به صدق إرادة الفساد في الأرض.

و منها أنه قد يذكر في بعض الكلمات أن المدار على قصد الإخافة و أنه محارب مع القصد المزبور و إن لم يحصل معه خوف منه أو أخذ مال فإن صدق المحارب على من لم يخف منه محل تأمل، و كيف نقول أنه بمجرد قصد الإخافة يكون محاربا

و إن لم يصدر منه شي ء و لم يحصل معه خوف منه أو أخذ مال أصلا و هل مجرد القصد يكفي في ترتب الأحكام الجارية على المحارب، عليه؟.

______________________________

[1] و في كنز العرفان للفاضل السيوري ص 351 ج 2: محاربة الله و رسوله محاربة المسلمين.

جعل محاربتهم محاربة لله و رسوله تعظيما للفعل. و أصل الحرب السلب. و عند الفقهاء كل من جرد السلاح لإخافة الناس.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 223

كما أنه يشكل ما قيل من أنه لا حاجة إلى قصد الإخافة بل يكفي شهره بالسلاح سواء قصد الإخافة أم لا كما في الروضة.

و كيف كان فعند المحقق، المحارب هو من جرد السلاح لإخافة الناس و قد زاد في الجواهر على كلمة (جرد) قوله: أو حمله، و عليه فلا يعتبر تجريد السلاح بل يكفي حمله مع كونه بهذا الصدد.

و قد عبر المحقق في الشرائع و العلامة في القواعد بإخافة الناس، و لكن قيد كاشف اللثام، الناس، بالمسلمين، و إليك عبارته في الكشف: المحارب عندنا كل من أظهر السلاح أو غيره من حجر أو نحوه كما سيأتي و جرده لإخافة الناس المسلمين.

ثم قال: و لعله الذي أراده المفيد و سلار حيث قيدا بدار الإسلام في بر أو بحر ليلا كان أو نهارا في مصر أو غيره في بلاد الإسلام أو غيرها لإطلاق النصوص و الإجماع إلخ.

و قال المفيد: و أهل الزعارة إذا جردوا السلاح في دار الإسلام و أخذوا الأموال كان الإمام مخيرا فيهم ان شاء قتلهم بالسيف و إن شاء صلبهم حتى يموتوا و إن شاء قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و إن شاء نفاهم عن المصر إلى غيره و وكل بهم من

ينفيهم عنه إلى ما سواه حتى لا يستقر بهم مكان إلا و هم منفيون عنه مبعدون إلى أن تظهر منهم التوبة و الصلاح فإن قتلوا النفوس مع اشهارهم السلاح وجب قتلهم على كل حال بالسيف و الصلب حتى يموتوا و لم يتركوا على وجه الأرض أحياء. انتهى «1».

و أورد عليه صاحب الجواهر بأن تجريد السلاح في دار الإسلام يشمل المسلمين في دار الإسلام و غيرهم من المعاهدين و أهل الذمة و الأمان، و الحال ان كاشف اللثام قد قيد بالمسلمين كما أن تقييده بالمسلمين يشمل المسلمين الذين هم في دار الإسلام، و المسلمين الذين هم في غير دار الإسلام.

______________________________

(1) المقنعة الطبع القديم ص 129. الطبع الجديد ص 804 و 805.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 224

و لعل الظاهر هو التعميم لكل من يحرم إخافته سواء كان مسلما أو غير مسلم كما إذا كان من أهل الذمة و الأمان، كان في دار الإسلام و غيرها و ذلك لعموم الأدلة كتابا و سنة فلا يشترط في ذلك الإسلام و لا دار الإسلام.

فإن من يحرم إخافته فهو في أمان الله و داخل تحت كنف عصمته سبحانه و أمان رسوله، فمن أخافه فقد حارب الله سبحانه و رسوله كما أن من كان تحت أمان زيد مثلا فحمل و هجم عليه أحد و أخرجه من دار زيد و أخافه فإنه يعتبر عمله هذا محاربة لزيد صاحب الدار الذي كان منه الأمان.

و قد ظهر بهذا البيان وجه مناسبة إطلاق محاربة الله و رسوله على من أخاف من يحرم إخافته.

كما أنه قد ظهر منه أنه إذا كان المسلم مهدور الدم فاخافته ليست من باب المحاربة، و ذلك لعدم كونه في

أمان عصمة الله و تحت رعاية حمايته في حين أن المعاهد كان تحت أمان الله مع كونه كافرا.

و أما السلاح المذكور في الروايات ففي المنجد: السلاح جمع: أسلحة و سلح و سلحان، اسم جامع لآلات الحرب و القتال، يذكر و يؤنث.

و الظاهر أنه لا يعتبر فيه كونه من الحديد من نفس الآلات المتداولة في الحرب بل الملاك هو ما أوجب الإخافة بأن يكون مما يقتل به سواء كان من قبيل السيف و غيره مما كان رائجا في السابق أو كان هو البندقية و الرشاش و غير ذلك من الوسائل الحربية العصرية أو غير ذلك حتى مثل العصا و الحجر، و إن كان قد خص بعض أهل اللغة السلاح بالحديد، لكنه كما في كشف اللثام ممنوع قال: بل الحق ما صرح به الأكثر من أنه كل ما يقاتل به، و عن أبي حنيفة اشتراط شهر السلاح من الحديد و يظهر احتماله من التحرير. انتهى.

ثم إنه لا فرق في ذلك بين كونه في بر أو بحر و في الليل أو النهار و في مصر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 225

أو غيره [1] خلافا لبعضهم حيث اعتبر كونه في البر و المواضع البعيدة، و لكن عموم الآية يدفع ذلك.

و هل يعتبر كون المحارب من أهل الريبة؟

قال المحقق: و هل يشترط كونه من أهل الريبة؟ فيه تردد أصحه أنه لا يشترط مع العلم بقصد الإخافة.

أقول: اختلفوا في اعتبار كون المحارب من أهل الريبة و عدمه. فذهب جمع كالشيخ في النهاية و القاضي و الراوندي و الشهيد في الدروس إلى الأول [2].

و ذهب الأكثر و منهم المحقق في الشرائع إلى عدم الاشتراط بعد أنه كان بصدد الإخافة.

و المراد من كونه من أهل الريبة

كونه بحيث يحتمل في حقه ذلك بأن كان من قبل من أهل الشر و الفساد في قبال من كان من الصلاح و السداد على حال لا يحتمل في حقه ذلك و حيث ان المراد من المحارب هنا ليس كل من أتى بحرام

______________________________

[1] أقول: خلافا لمالك حيث اعتبر البعد من البلد بثلاثة أميال و لأبي حنيفة حيث اعتبر مسافة السفر، راجع كشف اللثام.

[2] قال الشيخ في النهاية ص 720: المحارب هو الذي يجرد السلاح و يكون من أهل الريبة في مصر كان أو غير مصر، في بلاد الشرك كان أو بلاد الإسلام ليلا كان أو نهارا فمتى فعل ذلك كان محاربا. انتهى.

و قال ابن البراج في المهذب ج 2 ص 553: من كان من أهل الريبة و جرد سلاحا في بر أو بحر أو في بلد أو غير بلد في ديار الإسلام أو في ديار الشرك ليلا أو نهارا كان محاربا.

و قال الراوندي في فقه القرآن ج 2 ص 387: من جرد السلاح في مصر أو غيره و هو من أهل الريبة على كل حال كان محاربا إلخ.

و قال في الدروس الطبع القديم ص 167 و الطبع الجديد ج 2 ص 59: المحارب و هو من جرد السلاح للإخافة في مصر أو غيره ليلا أو نهارا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 226

و ارتكب معصية بل المراد كما تقدم هو من حارب المسلمين فقد أطلق عليه المحارب لله و رسوله تعظيما للفعل فمن قال باعتبار الريبة لعله يقول به باعتبار دخل ذلك في صدق عنوانه و أنه إذا كانت له سابقة في الشرارة و الفساد فإنه يوجب كونه محاربا.

و لكن الكلام فيما إذا علم

منه قصد الفساد و عمل عملا كانت في العرف امارة عليه من خروجه مسلحا لابسا لباس الحرب مهاجما.

و كيف كان فيدل على قول المشهور أي عدم الاشتراط عموم الأدلة من الكتاب و السنة، فإن قوله تعالى: إن الذين يحاربون الله و رسوله إلخ يشمل ما إذا كان مع الريبة و عدمها و مفهوم الخوف كما يصدق إذا صدر الفعل من أهل الريبة كذلك يصدق إذا صدر من غيرهم.

و اما الاستدلال على اعتبار الريبة بالاقتصار على القدر المتيقن. ففيه أن ذلك خلاف عموم الآية الكريمة و الروايات.

الحكم في الذكر و الأنثى سواء

قال المحقق: و يستوي في هذا الحكم الذكر و الأنثى إن اتفق.

أقول: كلام بعض كالسيوري رضوان الله عليه مشعر بالإجماع عليه فإنه قال عند ذكر المحارب: و عند الفقهاء كل من جرد السلاح لإخافة الناس في بر أو بحر، ليلا أو نهارا، ضعيفا كان أو قويا، من أهل الريبة كان أو لم يكن، ذكرا كان أو أنثى، فهو محارب «1».

و الدليل على العموم و عدم اختصاص بالرجال هو عموم النصوص كالآية.

نعم خالف ابن الجنيد في المسألة فقال معترضا على الشيخ الذاهب إلى التعميم في الخلاف و المبسوط: و هذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين و هو قول

______________________________

(1) كنز العرفان ج 2 ص 352.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 227

بعضهم اختاره رحمه الله و لم أجد لأصحابنا المصنفين قولا في قتل النساء في المحاربة.

و الذي يقتضيه أصول مذهبنا أن لا يقتلن إلا بدليل قاطع فأما تمسكه بالآية فضعيف لأنها خطاب للذكور دون الإناث، و من قال: تدخل النساء في خطاب الرجال على طريق التبع فذلك مجاز و الكلام في الحقائق و المواضع التي دخلن في خطاب الرجال فبالإجماع

دون غيره فليلحظ ذلك.

أقول: أما بالنسبة للآية فالظاهر كما ذكرنا عدم اختصاص لها بالذكور. و أما عدم قتلهن ففيه أنه يحكم بذلك لظاهر الدليل كما و أنهن يقتلن بالقصاص [1].

لا يقال: إن لفظة (الذين) حيث كانت موضوعة للذكورة فإرادة العموم منها مجاز و هو موقوف على دليل قاطع و قرينة ظاهرة [2].

______________________________

[1] أقول: لعل الجواب لا يقع على عين ما ادعاه ابن الجنيد و ذلك لأنه قال بأن إرادة العموم مجاز، و الكلام في الحقائق كما و أنه لم يدع ان النساء لا يقتلن مطلقا حتى ينقض عليه بقتلهن في القصاص. و لذا ترى أنه قد صدق صاحب الرياض ورود الإشكال بالنسبة للآية و قد تمسك هو في إثبات المطلوب بالروايات فقال بعد ذكر الآية: و شموله للإناث و إن كان فيه نوع غموض بناء على أن الضمير للذكور و دخول الإناث فيهم مجاز الا أن العموم جاء من قبل النصوص ففي الصحيح:

من شهر السلاح في مصر من الأمصار الحديث. و من عام حقيقة في الذكور و الإناث. انتهى.

و لقد أجاد الفاضل الجواد في مسالك الأفهام ج 4 ص 209 فقال: و الحكم عام في الرجال و النساء عند الشيخ و أكثر الأصحاب و أخذ ابن الجنيد فخص الحكم بالرجال و وافقه ابن إدريس في ذلك قال: و لم أجد لأصحابنا المصنفين قولا في قتل النساء في المحاربة. و الذي يقتضيه أصول مذهبنا ألا يقتل إلا بدليل قاطع فاما التمسك بالآية فضعيف لأنها خطاب للذكران دون الإناث، و من قال يدخل النساء في خطاب الرجال على طريق التبع فذلك مجاز و الكلام في الحقائق فأما المواضع التي دخلن في خطاب الرجال فبالإجماع، و اختار العلامة

في المختلف الأول و احتج عليه بصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر أقتص منه الحديث. و لفظة من، يتناول المذكر و المؤنث بالحقيقة إجماعا و في هذا الاستدلال نظر فإن من، و ان كانت للعموم إلا أن ظاهر الآية خاص كما عرفت فليحمل عليه و بالجملة فالحكم لا يخلو عن إشكال.

[2] أورده هذا العبد في 16 ربيع المولود سنة 1410 ه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 228

لأنا نقول: الدليل موجود و القرينة حاصلة فإن الشارع قد أراد قطع مادة الفساد عن صفحة الأرض، و الفساد في الأرض قبيح من كل أحد بلا اختصاص ذلك بالرجال و عدم خصوصية لهم في ذلك بل هو من العمومات الآبية عن التخصيص.

و بذلك يظهر أنه يستفاد المطلب من الآية الكريمة فإن هذه الأحكام مجعولة لحفظ النظام نظير قوله تعالى:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰامىٰ ظُلْماً إلخ.

و قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ.

و قوله تعالى: و مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً.

فان نفس المطلب يدل على عدم خصوصية للرجال.

حكم المجرد للسلاح مع ضعفه عن الإخافة

قال المحقق: و في ثبوت هذا الحكم للمجرّد مع ضعفه عن الإخافة تردد أشبهه الثبوت و يجتزى بقصده.

أقول: إذا كان المجرد للسلاح الحامل له ضعيفا عن الإخافة فهل يجري عليه حكم المحارب أم لا؟ قد تردد المحقق فيه و جعل الأشبه هو الثبوت و أنه يكتفى بقصده الإخافة و إن كان ضعيفا.

و مستند القول بالثبوت هو عمومات الآية و الروايات.

و قد أورد على ذلك بمنع اندراج الفروض تحت العمومات فان المفروض كونه ضعيفا لا يقدر

على إيراد شي ء و لذا اعتبر العلامة أعلى الله مقامه في القواعد الشوكة و من المعلوم انتفاءها في فرض الضعف و على هذا فإن كان إجماع فهو و إلا فيحكم بعدم كونه محاربا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 229

و فيه أولا أن فوق كل ضعيف ضعيف و من هو أضعف منه و لا يفرض ضعيف لا يوجد أضعف منه إلا أن يكون ميتا.

و ثانيا أنه و لو فرض بلوغه في الضعف غايته فقد يرى أنه يؤذى الضعيف من هو أقوى منه و لا يبالي.

و ثالثا أنه لا يخلو عن كونه في أعلى مراتب الضعف بحيث لا يتمشى منه قصد الإخافة أو ليس كذلك فعلى الأول فهو ليس بمحارب لا لضعفه بل لعدم كونه قاصدا فإنه إذا كان ضعيفا بحيث لا يتمشى و لا يصدر منه قصد الإخافة فإنه لم يتحقق الموضوع.

و على الثاني أي ما إذا تمشي منه القصد و تجاهر بالسعي في الفساد في الأرض و جرد السلاح للقتل و سلب المال و أخذه فإنه يصدق عليه المحارب و تشمله الأدلة سواء قصد التخويف أو قصد إيقاع المخوف فإنه أيضا ملازم لقصد الإخافة.

و على الجملة فلا يعتبر في المحارب أن يكون قويا بل قد يتحقق ذلك بالنسبة إلى الضعيف. و من هذا الباب ما إذا كان بصدد الإخافة و جرد سلاحه مريدا سلب مال أحد أو قتله أو جرحه خائفا ممن هو أقوى منه فإن الظاهر أن خوفه منه لا ينافي كونه محاربا حيث إنه قد شهر السلاح على غيره للإخافة و الإيذاء.

ثم لا يخفى أن هذه الاختلافات ترجع إلى الاختلاف في المفهوم العرفي و ذلك لعدم ورود شي ء صريح في الروايات

في تعريف المحارب. نعم قد ذكر في موارد منها بعض مصاديق المحارب.

و لا بد من المراجعة إلى الآية الكريمة و الروايات الشريفة فكل ما استفيد و استظهر منها من القيود نقول به في تحقق مفهوم المحارب و بيان معناه.

أما الآية فهي قوله تعالى: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ «1».

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 230

و المستفاد منها أنه يعتبر فيه أن يكون بانيا على الفساد و الإخلال و ساعيا لإيجاد الفساد في الأرض و من هنا يستفاد اعتبار قصده لذلك.

و اما الروايات: عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتص منه و نفى من تلك البلد و من شهر السلاح في مصر من الأمصار و ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب فجزاؤه جزاء المحارب و أمره الى الإمام إن شاء قتله و صلبه و إن شاء قطع يده و رجله قال: و إن ضرب و قتل و أخذ المال فعلى الإمام ان يقطع يده اليمنى بالسرقة ثم يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثم يقتلونه قال: فقال له أبو عبيدة: أ رأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟ قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إن عفوا عنه كان على الإمام أن يقتله لأنه قد حارب و قتل و سرق قال: فقال أبو عبيدة: أ رأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا

عنه الدية و يدعونه أ لهم ذلك؟ قال: لا عليه القتل «1» و قد كرر في هذه الصحيحة ذكر مصر من الأمصار، فهل يعتبر كونه في مصر حتى لا يترتب أحكام المحارب إذا كانت المحاربة في الصحارى و البراري أو أن ذكر ذلك لأجل المثال؟ الظاهر هو الثاني.

و كيف كان ففي الفرض الأول الذي كان قد شهر و عقر، حكم عليه السلام بالاقتصاص و نفى البلد و في الفرض الثاني [1] و هو ما إذا شهر السلاح و ضرب و عقر و أخذ المال لكنه لم يقتل كان جزاؤه جزاء المحارب و أمره إلى الإمام.

لا يقال: إن الفرض الأول ليس من مصاديق المحارب مع أنه كان قد شهر السلاح و عقر أيضا [2].

فإنه يقال: إن الأول أيضا محارب و وجه ذكر ذلك في الفرض الثاني مع عدم

______________________________

[1] لكن في الكافي ج 7 ص 248 و كذا في التهذيب ج 10 ص 132 في الفرض الثاني: (في غير الأمصار) بدل: في مصر من الأمصار.

[2] أورده هذا العبد و أجاب سيد مشايخنا بما في المتن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 231

ذكره في الأول هو أنه في الفرض الثاني قد أخذ المال و حيث إنه كان يتوهم أنه تقطع يده لذلك فلذا صرح بأنه محارب و جزاؤه جزاؤه، بخلاف الفرض الأول فإنه لما لم يكن فيه فرض أخذ المال فلا حاجة إلى ذلك لعدم توهم قطع اليد فيه و على هذا فهو محارب.

ثم إنه ذكر في هذه الرواية أنه شهر و عقر، فهل يعتبر في المحارب أن يأتي بعقر أيضا مضافا إلى الإخافة؟

لا تعرض لذلك كما لا تعرض فيها لفرض مجرد قصد الإخافة بلا إتيان عمل أصلا بل المذكور في الروايات الواردة في الباب أيضا هو صورة شهر السلاح و أخذ المال أو ارتكاب العقر أو القتل.

و عن بريد بن معاوية قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل:

إنما جزاؤ الذين يحاربون الله و رسوله. قال: ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء، قلت:

فمفوض ذلك إليه؟ قال: لا و لكن نحو الجناية «1».

يعني إنه لا يفوض الأمر من أصله إلى الإمام كي يكون له العفو أيضا. نعم كيفية إجراء العقوبة مفوضة إليه.

و عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم إلى آخر الآية أي شي ء عليه من هذه الحدود التي سمى الله عز و جل؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع و إن شاء نفى و إن شاء صلب و إن شاء قتل. قلت: النفي إلى أين؟ قال: من مصر إلى مصر آخر و قال: إن عليا عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة «2».

و عن عبد الله المدائني عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز و جل: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا الآية

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 232

فما الذي إذا فعله استوجب

واحدة من هذه الأربع؟ فقال: إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فقتل قتل به و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و إن شهر السيف و حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال نفى من الأرض «1».

و هذه الروايات و ان كانت تتضمن السؤال عن حكم من حارب الله و رسوله و كان الرواة عالمين بالموضوع و عنوان من حارب الله و لذلك كانوا لا يسألون عن ذلك إلا أنه قد يرى فيها ما يمكن استفادة المطلب منه فمثلا ترى أنه في الفرض الأخير من رواية المدائني قد إطلاق على من لم يقتل و لم يأخذ المال أنه قد شهر السيف و حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا.

و عليه فلا يعتبر في المحارب أخذ المال أو العقر أو غير ذلك و إنما المعتبر على ما هو المستفاد من هذه الرواية و من الآية هو اعتبار كون بناؤه على الفساد و الحركة لذلك. و ما ذكرنا من اعتبار قصد الإخافة في المحاربة يستفاد من الآخر هذه الرواية الشريفة.

عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم و عن حميد بن زياد عن سماعة عن غير واحد جميعا عن أبان بن عثمان عن أبي صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله: أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سرية فقالوا

أخرجنا من المدينة فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها فلما برأوا و اشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل فبلغ رسول الله صلى الله عليه و آله الخبر فبعث إليهم عليا عليه السلام و هم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن فأسرهم و جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فنزلت هذه الآية: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحاربة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 233

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، فاختار رسول الله صلى الله عليه و آله القطع فقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف «1».

يعلم و يستفاد من هذه الرواية صدق المحارب على مثل هؤلاء الذين قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل و هم لم يكونوا بحيث خرجوا من منازلهم للإخافة و القتل، بل بدا لهم ذلك بعد أن برأوا.

و عن أحمد بن الفضل الخاقاني من آل رزين قال: قطع الطريق بحلولا على السالبة من الحجاج و غيرهم و أفلت القطاع إلى أن قال: و طلبهم العامل حتى ظفر بهم ثم كتب بذلك الى المعتصم فجمع الفقهاء و ابن أبي داود ثم سأل الآخرين عن الحكم فيهم و أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام حاضر فقالوا قد سبق حكم الله فيهم في قوله: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ

يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، و لأمير المؤمنين أن يحكم بأي ذلك شاء منهم قال: فالتفت إلى أبي جعفر عليه السلام و قال: أخبرني بما عندك قال: إنهم قد أضلوا فيما أفتوا به و الذي يجب في ذلك أن ينظر أمير المؤمنين في هؤلاء الذين قطعوا الطريق فإن كانوا أخافوا السبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخفاتهم السبيل و إن كانوا أخافوا السبيل و قتلوا النفس أمر بقتلهم و إن كانوا أخافوا السبيل و قتلوا النفس و أخذوا المال أمر بقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم بعد ذلك فكتب إلى العامل بأن يمتثل ذلك فيهم «2».

و يستفاد منها أيضا أن من أخاف السبيل و لو لم يأت بشي ء من القتل و أخذ

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 234

المال فهو من مصاديق المحارب غاية الأمر أن حكمه في هذا الفرض هو النفي كما أنه قد تعرض في هذا الخبر و سائر الأخبار لما إذا أخذ المال و لما إذا تعرض للقتل.

و هل في الروايات ذكر عن تعرضه للعرض و لحرم الإنسان أم لا؟

نعم. ففي رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: إذا دخل عليك اللص يريد أهلك و مالك فإن استطعت ان تبدره و تضربه فابدره و اضربه و قال: اللص محارب لله و لرسوله فاقتله فما منك فهو عليّ [1].

و عن أبي أيوب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

من دخل على مؤمن داره محاربا له فدمه مباح في تلك الحال للمؤمن و هو في عنقي «1».

فلو لا هذه الروايات لكان الإنسان يتردد في بعض الفروض في أنه محارب أم لا و لكنها تبين مصاديق المحارب و بمقتضى هذه الأخبار المعمول بها لا يعتبر في صدق المحارب التعدد بل يكفي في ذلك و إن كان واحدا لواحد كما في كلام صاحب الجواهر فيتحقق بالإخافة واحدا أو جمعا سواء كان في طريق المسافرين أو في الشوارع أو في الدار سواء كان خروجه من داره بهذا القصد أم أنه بدا له ذلك بعد أن خرج عنها.

قال الشيخ في الخلاف في المسألة الأولى من قطاع الطريق: المحارب الذي ذكره الله تعالى في آية المحاربة هم قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح و يخيفون السبيل و به قال ابن عباس و جماعة الفقهاء و قال قوم هم أهل الذمة إذا نقضوا العهد و لحقوا بدار الحرب و حاربوا المسلمين و قال ابن عمر: المراد بالآية المرتدون لأنها نزلت في العرينيين.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 2. أقول: و قال السيوري في الكنز ص 352: و يدخل في ذلك قاطع الطريق و المكابر على المال أو البضع انتهى.

و قال كاشف الغطاء في كشفه ص 419: المحارب اسم فاعل و هو من جرد السلاح لإخافة الناس ظلما و عدوانا قاصدا لمجرد الإخافة مع الاعتياد أو طالبا لمجرد الفساد أو مريدا لقتل أو هتك عرض أو أسر رجال أو أطفال أو نساء انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 7 من أبواب حد المحارب ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 235

دليلنا إجماع الفرقة و

أخبارهم و أيضا قوله تعالى في سياق الآية إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فأخبر أن العقوبة تسقط بالتوبة قبل القدرة عليه و لو كان المراد بها أهل الذمة و أهل الردة كانت التوبة منهم قبل القدرة و بعد القدرة سواء فلما خص بالذكر التوبة قبل القدرة و أفردها بالحكم دلت الآية على ما ذكرناه. انتهى.

و قال في المسألة 6: إذا قتل المحارب ولدا أو عبدا مملوكا أو كان مسلما قتل ذميا فإنه يقتل به و للشافعي فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه و الثاني و هو أصحهما عندهم لا يقتل.

دليلنا قوله تعالى: أن يقتلوا. و قد بينا أن معناه أن يقتلوا إن قتلوا و لم يفصل و تخصيصه يحتاج إلى دليل. و القول الثاني قوى أيضا لقوله (ع) أ يقتل والد بولده و لا يقتل مؤمن بكافر إلا أن المحارب يتحتم عليه القتل لكونه محاربا الا ترى أنه لو عفى الولي عنه لوجب قتله فلا يمتنع على هذا أن يجب قتله و إن كان ولده أو ذميا لكونه محاربا. انتهى.

و الظاهر أن ذكر قطاع الطريق في عنوان المسألة الأولى من باب أحد المصاديق و إلا فلا فرق بينه و بين من كان يتعرض الأشخاص لا في الطريق.

و قد صرح قدس سره بأن المحارب يقتل و إن كان قد قتل ابنه مع أنه لا يقتل الوالد بقتله ولده فلا يقتص منه فيقدم دليل المحاربة على دليل عدم الاقتصاص من الوالد و يخصص دليل لا يقتل الوالد بولده بهذا الدليل.

و هل يعتبر في قطاع الطريق ان يكون قاطعاً لطريق المسلمين أو لا يعتبر ذلك؟

ظاهر الآية هو العموم إذا فلا

فرق بحسب هذا الاستظهار بين كون الطريق للمسلمين أو غيرهم.

لا يقال لو كان غير المسلمين في ذمتهم لتم ذلك لكونهم محقوني الدم حينئذ و اما غير المسلم بلا كونه في ذمة المسلمين فلا [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيد مشايخنا بما في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 236

لأنا نقول: إنه يستظهر العموم حتى بالنسبة لغير أهل الذمة و ذلك لأنه ربما أراد الشارع أمن الطريق و استقرار النظم و النظام في المجتمع فلا اختصاص للحكم بطريق المسلمين.

و على الجملة ففي المقام فروع مختلفة يمكن الحكم فيها بعضها قد مر ذكره و بعضها لم يذكر بعد:

1- إن مفهوم المحاربة من المفاهيم التي لا تتحقق بدون القصد و إن كان قد صدر منه القتل، و ليس عنوان المحاربة كبعض العناوين التي يصدق بدونه كما لعل الأمر كذلك في باب الضرب فإنه يصدق ذلك و يتحقق و لو كان بدون قصد الضارب و بلا إرادة منه.

إن قلت: فاذا كان يعتبر في صدق المحاربة إحراز القصد فهذا يشكل الأمر لأنه يمكن ان يجعل المحارب ذلك ذريعة إلى عمله الشنيع و يتشبث كل محارب بعدم كونه قاصدا للإخافة و يقضى ذلك الى أن يتعطل هذا الحد.

نقول: الظاهر أن خروجه شاهرا بسيفه يعتبر امارة على قصده ذلك لا يقال: إن اللازم هو عدم ثبوت قصد الخلاف.

لأنا نقول: ان المعتبر هو إحراز قصد الإخافة لا عدم إحراز قصد الخلاف غاية الأمر أنه جعل هذا العمل أمارة على قصده [1].

2- لا بد في المحاربة من كون الأمر ظاهرا و كون المحارب معلنا بها فلو ذهب إلى أحد في الخفاء و جز رأسه فليس هو بمحارب كي يجري عليه

الأحكام الخاصة بل هو القاتل يترتب عليه أحكامه.

______________________________

[1] أقول: يدل على اشتراط الإخافة في المحاربة أمور:

الأول عدم صدق المحاربة بدون ذلك كما تمسك به سيدنا الأستاذ الأكبر.

الثاني الاتفاق عليه على الظاهر إلا من نادر كما ذكر ذلك في الرياض.

الثالث خبر قرب الاسناد فراجع الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب حد المحارب ح 4 حيث قال: ان كان يلعب فلا بأس. قال السيد في الرياض: و ربما يفهم من الروضة عدم اشتراط قصد الإخافة و أن به قولا و هو مع ضعفه و شذوذه لم أجده مع أنه اشتراط في المسالك من دون خلاف يذكر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 237

3- لا فرق في صدق المحاربة بين أن يهجم على الناس في الخلوات كالصحاري و البراري و بين ان يكون ذلك في الجلوات.

4- لا فرق بعد ان كان بصدد الإخافة بين الأمكنة من الأمصار أو القرى و الرساتيق أو غير ذلك.

لا يقال: إن المذكور في رواية محمد بن مسلم و غيره هو: مصر من الأمصار.

فكيف نقول بعدم الفرق بين الأماكن؟

لأنه يقال: إنه من باب المثال و إلا فالملاك هو إخافة الناس.

5- لا بد في صدق المحاربة من إظهار ما اراده من السوء بحيث يصدق الإخافة عرفا بإتيان عمل يوجب خوف نوع الناس و إن لم يوجب خوف خصوص الشخص الذي صار المحارب بصدد إخافته و لا يعتبر مضافا إلى ذلك شي ء آخر كأخذ المال أو إيراد الجرح.

6- لا فرق في السلاح الذي يحمله و يجرده بين السيف و الرمح و غير ذلك من الأسلحة القديمة و بين ما هو رائج من الأسلحة العصرية و هو أعم من المحدد و غيره فيشمل مثل العصي

و الحجر و غير ذلك أيضا بل و إن كان إخافته بإحراق النار عليه كما تدل على ذلك رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت و احترق متاعهم: إنه يغرم قيمة الدار و ما فيها ثم يقتل «1».

7- المحارب غير المدافع فليس مطلق من شهر السلاح محاربا و لا مجرد شهر السلاح بمحاربة بل تارة يكون لذلك و اخرى للدفاع فالحكم يختص بمن كان محاربا و أما إذا شهر سلاحه و جرده للدفاع عن نفسه أو لدفع المحارب مثلا فلا يجري عليه أحكام المحارب و إن قتله.

نعم لو كان كل واحد منهما قد جرد السلاح للاخافة و يريدان المحاربة فهنا يجري على كليهما أحكام المحارب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 238

8- المحارب هو الذي شهر السلاح حراما اى للإخافة أو أخذ مال الغير أو قتله أو لهتك عرض محترم، فلو شهر السلاح لأمر واجب أو جائز كما في مورد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد و غير ذلك فلا يجري هناك أحكام المحارب.

9- لا يشترط كونه من أهل الريبة كما أن المحقق قدس سره جعل الأصح ذلك- بعد أن تردد فيه- فلا يعتبر ذلك بعد أن علم منه قصد الإخافة و ظهر منه آثار المحاربة. نعم لو كان من أهل الصلاح و لم يظهر منه آثار المحاربة فلا تجري عليه الأحكام و إن قتل أحدا.

و أما خبر ضريس عن أبي جعفر عليه السلام قال: من حمل السلاح بالليل فهو محارب إلا أن يكون رجلا ليس من أهل

الريبة «1».

فلا تدل على اشتراط كونه من أهل الريبة فإنه و إن دلت على عدم كون هذا الذي ليس من أهل الريبة بل كان من أهل الصلاح محاربا لكن لا دلالة فيها على أنه إذا علم منه قصد الإخافة ليس بمحارب.

نعم الريبة أمارة لقصد الفساد و ذلك لا ينافي كونه محاربا إذا لم تكن ريبة لكن علم قصده من جهة أخرى. و إن شئت فقل إن حمل السلاح من أهل الريبة أمارة كونه محاربا بخلاف أهل الصلاح فلا يكون مجرد حمله السلاح أمارة على ذلك لكن لو علم قصده الإخافة من أمارة أخرى فلا بد من الأخذ بها و الحكم بكونه محاربا.

10- مجرد خوف شخص أو أشخاص من أحد لا يكفي في صدق المحارب عليه ما لم يقصد هو الإخافة فكم يتفق الخوف من أحد مع عدم كونه بصدد الإخافة أصلا كما في قصة مجي ء رسل الله و ملائكته إلى إبراهيم حيث إنه عليه السلام خاف في نفسه منهم عند ما رأى أنهم لم يأكلوا من طعامه و قد حكى الله تعالى ذلك في القرآن الكريم قال تعالى:

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 239

وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلٰاماً قٰالَ سَلٰامٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لٰا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لٰا تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ «1».

و قال سبحانه أيضا:

هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذا دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا

لا تخف و بشروه بغلام عليهم «2».

فكانوا قد جاءوا إليه لبشارة الولد و سلموا عليه و بعد أن سلموا عليه و رد هو السلام عليهم جاء بعجل مشوي سمين و لكنه راى أنهم لا يأكلون منه و لا تصل أيديهم إليه فأضمر سلام الله عليه في نفسه الخوف فإن ذلك مظنة إرادة سوء و ضرر بالنسبة إلى المضيف إذا أبى الضيف من أكل طعامه.

ثم إن لصاحب الجواهر قدس سره هنا كلاما نتعرض له قال:

بقي الكلام في شي ء و هو اعتبار قصد الإخافة من حيث إنها كذلك لإرادة الفساد في تحقق المحاربة فلا يكفي حينئذ قصد إخافة شخص خاص لعداوة أو لغرض من الأغراض و إن لم يكن شرعيا، أو لا يعتبر ذلك، كما هو مقتضى إطلاق التفسير المزبور بل قد يشعر به خبر قرب الاسناد و خبر السكوني [1]

______________________________

[1] خبر قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال: سألته عن رجل شهر إلى صاحبه بالرمح و السكين فقال: ان كان يلعب فلا بأس. الوسائل ج 18 باب 2 من أبواب حد المحارب ح 4 و وجه إشعاره إن المفهوم من قوله ان كان. إلخ هو أنه ان كان بالجد و القصد ففيه بأس.

و خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترق و احترق متاعهم، إنه يغرم قيمة الدار و ما فيها ثم يقتل. باب 3 ح 1.

______________________________

(1) سورة هود الآية 70.

(2) سورة الذاريات الآية 24.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 240

فيتحقق حينئذ صدق المحاربة بما هو في مثل زماننا من محاربة جماعة خاصة لجماعة أخرى كذلك

لأغراض خاصة في ما بينهم فاسدة. لم أجد تنقيحا لذلك في كلام الأصحاب، و الحد يدرأ بالشبهات، و لكن التحقيق جريان الحكم على الجميع مع فرض صدق المحاربة التي يتحقق بها السعي في الأرض فسادا «1».

و قد تقدم منا ما يناسب ذلك و ذكرنا أنه بمقتضى ما يستظهر و يستفاد من بعض الأخبار لا يعتبر في المحاربة سوى إرادة الفساد و قصد الإخافة سواء كان بالنسبة إلى فرد أو جمع فاذا فرض صدق المحاربة في الأحوال المختلفة فيجري عليه الأحكام.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 240

ثم إنه لا يخفى أنا و إن استرحنا ببركة الروايات بالنسبة إلى فروع متعددة لكن بقي بعد موارد يتردد في حكمها.

و من تلك الفروع ما إذا كان الصبي المميز قد جرد السلاح بقصد الإخافة فهل يحكم عليه بأحكام المحارب أم لا؟ و بعبارة أخرى هل يشترط في المحارب أن يكون بالغا أم لا؟

أطلق المحقق و غيره في المقام و لم يتعرضوا لذلك. نعم قال في الجواهر و كان إطلاق المصنف و غيره هنا اتكالا على معلومية اعتبار البلوغ في الحد فلا يجري في غير البالغ و إن جرد السلاح بالقصد المزبور، مع احتماله بل ظاهر الروضة إنه مراد المطلق [1].

أقول: فقد احتمل إجراء حد المحارب على الصبي. فكيف لم يحتمل ذلك في سائر الحدود [2] و الأحكام؟ فلا يجب على الصبي الصلاة و لا الصوم و غيرهما و لا

______________________________

[1] قال في الروضة ج 2 ص 362: و شمل إطلاقه- أي كلام المصنف- كغيره الصغير و الكبير

لعموم الأدلة و يشكل في الصغير بأن الحد مشروط بالتكليف خصوصا القتل و شرط ابن الجنيد فيه البلوغ و رجحه المصنف ره في الشرح و هو حسن.

[2] أقول ذكر في الجواهر ج 41 ص 609 عن محكي الخلاف هذا الخبر: الصبي إذا بلغ عشر سنين أقيمت عليه الحدود التامة و اقتص منه و تنفذ وصيته و عتقه. انتهى. لكني تفحصت باب الوصية و الارتداد و العتق من الخلاف و لم أجده.

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 569.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 241

يقام عليه الحدود و يستندون في جميع ذلك إلى رفع القلم عن الصبي.

و التحقيق ان الصبي إذا كان غير مميز فلا أثر يترتب على عمله إلا في مثل الضمانات حيث إنها عليه و يخرج عن عهدتها بعد البلوغ كما أن قسما مما يترتب على عمله كالدية يكون على عاقلته إذا أتى هو بموجبها.

و أما إذا كان مميزا فالظاهر أنه يصدق عليه المحارب إذا شهر السلاح بقصد الإخافة و صار بصدد ذلك و سلب الأموال و غير ذلك إلا أن رفع القلم عن الصبي يمنع بظاهره عن ترتب الأحكام عليه. فمن احتمل ترتب الأحكام عليه مع عدم كونه بالغا فهو لا يرى هذه الأحكام المترتبة على المحاربة عقوبة و مؤاخذة لما صدر عنه كي ترتفع بحديث رفع المؤاخذة بل هو من قبيل ما يمنع عن تكرار عمله و إتيانه ثانيا و الا فمع احتمال كونه من باب العقوبة و المؤاخذة يشكل اجراء الحد في مفروض الكلام.

و التخصيص خلاف الظاهر لان العام هنا مما يأبى عنه فهو نظير أنه إذا هجم الصبي على أحد قاصدا قتله فهل يقول الشرع دعه حتى يقتلك؟ كلا

كما في حيوان هجم على الإنسان و كان هذا الشخص في معرض الهلاك فإنه يقاوم و لو كان يقتل هذا الحيوان المحترم، و على الجملة فوجه الاحتمال المزبور و توجيهه أن نظر الشرع إلى رفع الفساد في الأرض و قطع مادته و أصله حتى لا ينتشر الفساد في الأرض.

و من هذا الباب الحكم بتعزير الصغير في بعض الموارد فإنه لا وجه له لو كان ذلك من باب العقوبة فلا بد أن يكون لمنعه عن الإتيان بموجبه ثانيا لا أن يكون ذلك مؤاخذة له على المعصية.

لا يقال: إن هذه التوجيه خلاف ظاهر الآية الكريمة: جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ «1» فإن مفادها أن الحدود من باب العقوبة و الجزاء [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب سيد مشايخنا بما في المتن.

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 38.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 242

لأنا نقول: يمكن ان يكون جزاء نوعا فلا ينافي في عدم كونه جزاء في مورد لا يصلح لذلك كالصبي.

حكم الطليع و الردء

قال المحقق: لا يثبت هذا الحكم للطليع و لا للردء.

أقول: قد فسر الطليع للمحارب بالذي يرقب له من يمر بالطريق فيعلمه به أو يرقب له من يخاف عليه منه فيحذره منه. و الردء بكسر الراء و سكون الدال بعده الهمزة هو المعين له فيما يحتاج إليه من غير أن يباشر عمل المحاربة فعمله ضبط الأموال و حفظها و نحو ذلك.

فالحكم مختص بالمحارب و لا يشملهما و يكفي عدم الدليل دليلا لذلك بعد عدم صدق المحارب عليه.

و خالف في ذلك أبو حنيفة فسوى بين المباشر و غيره. قال الشيخ في الخلاف المسألة 9 من كتاب المحاربة: لا يجب أحكام المحاربين على الطليع و الردء و إنما

تجب على من يباشر القتل أو يأخذ المال أو يجمع بينهما و به قال الشافعي، و قال أبو حنيفة: الحكم يتعلق بهم كلهم فلو أخذ واحد المال قطعوا كلهم كما أنه لو قتل واحد قتلوا كلهم الى آخر كلامه.

و الظاهر أن مبني كلام أبي حنيفة هو الاستحسان فرأى أن مآل الأمر إلى كون هذا الجمع المركب من أهل السلاح و الطليع و الردء محاربين و لو من باب التغليب.

و فيه أنه استعمال مجازي و ليس الردء محاربا حقيقة حيث انه جاء للسقاية مثلا أو الجراحية أو حمل الجنائز و لا يباشر الحرب فلا يشمله حكم المحارب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 243

الكلام في إثباته

قال المحقق: و تثبت هذه الجناية بالإقرار و لو مرة و بشهادة رجلين و لا تقبل شهادة النساء منفردات و لا مع الرجال.

أقول: في الاكتفاء بالإقرار مرة في إثبات المحاربة كلام و لكن الظاهر أنه يجتزي به و لا يعتبر التعدد و ذلك لعموم أدلة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز فكل عاقل إذا أقر بشي ء و كان على نفسه و بضرر شخصه فإن إقراره هذا نافذ.

و عن محمد بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق و أخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض قال:

لا تقبل شهادتهم إلا بإقرار من اللصوص أو شهادة من غيرهم عليهم «1».

فمقتضى هذا الخبر أيضا الإكتفاء بالإقرار بلا افتقار الى المرتين حيث اقتصر فيه بمجرد إقرار اللصوص و لم يقيده بالمرتين.

لا يقال: إن هذا لا يدل على كفاية المرة و إلا فليكن كذلك في الشهادة فإنها أيضا لم تقيد بالاثنين [1].

لأنا نقول: بينهما فرق و ذلك لأن الشهادة مصطلحة

في شهادة الاثنين و هذا بخلاف الإقرار فلا مجال لاحتمال كفاية الواحد في باب الشهادة و أما الاكتفاء بالمرة في باب الإقرار فهو قريب، و عدم الاجتزاء به يحتاج إلى دليل.

و خالف في ذلك بعض كسلار و العلامة حيث قالا بان كل حد يثبت بشهادة عدلين يعتبر في الإقرار به المرتان- و عليه فيعتبر في الإقرار به المرتان- و على ذلك فيعتبر في الإقرار بالمحاربة التعدد و لا يثبت بمرة واحدة.

و فيه أنّ ذلك ليس بقاعدة كلية جارية في جميع الموارد فكلما كانت الفتوى

______________________________

[1] أورده هذا العبد و كان يوم 20 من ربيع المولود عام 1410 ه- ق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 27 من أبواب الشهادات ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 244

على ذلك فهو و إلا فيؤخذ بعموم قاعدة الإقرار، و بعبارة أخرى أنه يؤخذ بالإقرار و إن كان مرة واحدة إلا فيما خرج بالدليل [1].

و اما اعتبار التعدد في الشاهد فبلحاظ عموم أدلة الشهادة كقوله تعالى:

فاستشهدوا شهيدين من رجالكم، و غير ذلك فلا بد من اعتبار رجلين عدلين.

و أما النساء فلا اعتبار بشهادتين في باب المحاربة لا منفردات و لا منضمات إلى الرجال كما في غير ذلك من أبواب الحدود و قد دلت الروايات العديدة على عدم قبول شهادتهن في باب الحدود [2] و قد مر البحث في ذلك في كتاب الشهادات فراجع.

في شهادة بعض اللصوص على بعض

قال المحقق: و لو شهد بعض اللصوص على بعض لم تقبل.

أقول: و الدليل على ذلك هو أنه يعتبر في قبول الشهادة عدالة الراوي، و من المعلوم أن اللص فاسق فلا تقبل شهادة بعضهم على بعض بأن يقول مثلا إنى لم ارتكب شيئا و لكن هذا

قد قطع الطريق و أخذ المال و غير ذلك.

فرع مثل السابق

قال المحقق: و كذا لو شهد المأخوذون بعضهم على بعض.

أقول: أي و كذا لا تقبل الشهادة فيما إذا شهد بعض المأخوذين لبعض. و فسره

______________________________

[1] هذا لا يوافق بظاهره ما تقدم منه في باب السرقة من اعتبار الإقرار مرتين في القطع و الاكتفاء بالمرة في المال.

[2] تقبل ذلك في بعض أبواب الحدود كباب الزنا و غير ذلك فراجع الجواهر كتاب الشهادات ص 155.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 245

صاحب الجواهر بقوله: بأن قالوا جميعا: تعرضوا و أخذوا منا جميعا [1].

______________________________

[1] أقول: إن ما ذكره صاحب الجواهر في تفسير شهادة بعض المأخوذين لبعض ليس هو تمام التفسير و الا فهو بظاهره محل الإشكال حيث إنه لو كان ما ذكره الجواهر و قرره سيدنا الأستاذ الأكبر عين صورة الشهادة المزبورة فهذا غير صحيح لأنها من شهادة الكل للكل و لذا أوردنا عليه في الدرس بان ظاهر عبارة المحقق هو انه لو فرض كون المأخوذين عشرين شهد عشرة للعشرة الباقين بأن اللصوص أخذوا من أموالهم و العشرة الباقية للأولى هكذا.

و قد أجاب عن هذا بأن وجه تفسيره كذلك أن التهمة في الصورة المزبورة في كلام الجواهر أشد و أكثر مضافا الى أنه لو كان المراد شهادة العشرة للعشرة الأخرى و بالعكس فلم يبق فرق بين هذه الصورة الأولى التي ذكرها المحقق و الصورة اللاحقة.

لكن فيه أن الصورة اللاحقة متعلقة بما إذا كانت الشهادة بتعرض اللصوص للجميع و اختصاص البعض بالأخذ منهم. و الحق هو ما ذكرناه فإن ظاهر شهادة بعض لبعض بمقتضى المتفاهم العرفي أن يشهد هذا البعض لذاك و ذاك لهذا. فعبارة الجواهر في تفسير المراد

ناقصة.

و قد فسر في كشف اللثام عبارة العلامة التي هي شبيهة بعبارة المحقق، بحيث لا يرد عليه إشكال.

فإنه قال العلامة: و لو شهد بعض اللصوص على بعض أو بعض المأخوذين لبعض لم يقبل و لو قالوا:

عرضوا لنا و أخذوا هؤلاء قبل إلخ.

فقال في كشف اللثام ج 2 ص 251: مزجا: و لو شهد بعض اللصوص على بعض أو بعض المأخوذين لبعض مع تعرض كل منهم للأخذ بنفسه كأن قال كل منهم إن هؤلاء تعرضوا لنا فأخذوا منا جميعا فشهد بعضهم للآخرين أنهم أخذوا منهم كذا و كذا و شهد الآخرون للأولين كذلك لم يقبل فالأول لانتفاء العدالة و الثاني للتهمة بالعداوة و لو لم يتعرض الشهود لأخذ أنفسهم بل قالوا:

عرضوا اي اللصوص لنا جميعا و أخذوا هؤلاء قبل إن لم ينعكس الأمر قطعا، و كذا إن انعكس بأن قال المشهود لهم أيضا أنهم عرضوا لنا و أخذوا هؤلاء في وجه كما إذا شهد بعض المديونين لبعضهم و بالعكس و الوجه الآخر عدم السماع حينئذ لحصول التهمة و إطلاق الخبر بل الشهادتان حينئذ من القسم الأول بعينه فإنها لا شهادة إلا مع الدعوى فلا يسمع شهادة الأولين إلا إذا كان الآخرون أدعو الأخذ و لا شهادة الآخرين إلا إذا ادعى الأولون الأخذ و هو كاف في حصول التهمة ان سلمت و لا مدخل فيها لخصوص الذكر في الشهادة إلا أن يدعى أن التهمة حينئذ أظهر انتهى.

ثم إن رواية محمد بن صلت هذه: عن محمد بن الصلت قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رفقة كانوا في طريق فقطع عليهم الطريق فأخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض قال: لا تقبل شهادتهم إلا بإقرار من اللصوص أو شهادة

من غيرهم عليهم. هكذا نقله في الكافي ج 7 ص 394 ح 2 و في التهذيب ج 6 ص 249 و كذا في الفقيه ج 3 ص 40 ح 3283 إلا أن فيه: فأخذ اللصوص.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 246

و وجه عدم القبول هو التهمة للعداوة و خبر محمد بن الصلت عن الرضا عليه السلام المذكور آنفا.

فيما إذا لم يتعرضوا لأنفسهم

قال المحقق: أما لو قالوا عرضوا لنا و أخذوا هؤلاء قبل لأنه لا ينشأ من ذلك تهمة تمنع الشهادة.

أقول: إن ما ذكر كان بالنسبة لشهادة بعض لبعض و قد تقدم أنه لا تقبل هذه الشهادة و أما لو ذكروا تعرض اللصوص للجميع إلا أنهم لم يذكروا بالنسبة للأخذ إلا من المشهود لهم و لم يتعرضوا جهة الأخذ من أنفسهم فهنا تقبل شهادتهم لعدم تهمة في البين و هذا لا كلام فيه إذا لم يكن المشهود لهم أيضا يشهدون للشهود بمثل ذلك فإنه حينئذ لا تهمة أصلا حيث إن الشهود لم يتعرضوا لأخذ اللصوص منهم و إنما خصوا الشهادة بالنسبة إلى المشهود لهم فتهمة العداوة منتفية هنا كما أن تهمة التباني أيضا منتفية لعدم شهادة المشهود لهم للشاهدين.

______________________________

و في روضة المتقين ج 6 ص 110: روى علي بن أسباط في الموثق كالصحيح كالكليني و الشيخ عن محمد بن الصلت- مجهول- قال: سألت أبا الحسن. و ذكر الحديث. ثم قال:- عمل بمضمونه أكثر الأصحاب و حمله بعض على كونهم شركاء أو على التقية و هو أظهر لأن الغالب أنه كان في مجلسه بخراسان جماعة من العامة و كان عليه السلام يتقي منهم كثيرا و إلا فالرفاقة و الصحبة لا يمنع من قبول الشهادة عندنا كما سيأتي. انتهى

كلامه.

و عن الوافي: ينبغي تخصيص الحكم بما إذا كان المشهود به مما كان لهم فيه شركة. انتهى.

و قال العلامة المجلسي قدس سره في مرآة العقول ج 24 ص 245: بعد التصريح بأنه مجهول: و لا خلاف في عدم قبول شهادة كل منهم فيما أخذ منه و لا في قبول شهادته إذا لم يؤخذ منه شي ء و في قبول شهادته في حق الشركاء إذا أخذ منه أيضا خلاف، و الأشهر عدم القبول، و الخبر يدل عليه.

انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 247

و أما إذا أقام المشهود لهم أيضا الشهادة للشاهدين بمثل ما شهدوا بأن قالوا إن اللصوص تعرضوا لنا و أخذوا من هؤلاء ففيه الوجهان:

أحدهما قبول هذه الشهادة أيضا فهو نظير شهادة بعض المديونين لبعض و بالعكس.

ثانيهما عدم قبولها و ذلك لأمور:

منها تحقق التهمة حينئذ.

و منها إطلاق خبر محمد بن الصلت فإن شهادة بعضهم لبعض مطلقة تشمل ما إذا شهد البعض الآخر للأول أيضا أم لا قال في الجواهر: بل الشهادتان حينئذ من القسم الأول نفسه فإنه لا شهادة إلا مع الدعوى فلا تسمع شهادة الأولين إلا إذا كان الآخرون أدعو الأخذ و لا شهادة الآخرين إلا إذا ادعى الأولون الأخذ و هو كاف في حصول التهمة إن سلمت.

في الحد الذي يقام على المحارب.

قال المحقق: و حد المحارب القتل أو الصلب أو القطع مخالفا أو النفي و قد تردد فيه الأصحاب فقال المفيد بالتخيير و قال الشيخ أبو جعفر بالترتيب، يقتل إن قتل و لو عفى ولي الدم قتله الإمام و لو قتل و أخذ المال استعيد منه و قطعت يده اليمنى و رجله اليسرى ثم قتل و صلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطع مخالفا

و نفى و لو جرح و لم يأخذ المال اقتص منه و نفى و لو اقتصر على شهر السلاح نفى لا غير و استند في التفصيل إلى الأحاديث الدالة عليه و تلك الأحاديث لا تنفك من ضعف في اسناد أو اضطراب في متن أو قصور في دلالة فالأولى العمل بالأول تمسكا بظاهر للآية.

أقول: لا خلاف في أن حد المحارب هو الأمور المذكورة في الآية الكريمة في الجملة كتابا و سنة و إجماعا.

نعم اختلفوا في أن ذلك هل على سبيل التخيير أو الترتيب و التفصيل فذهب جماعة إلى التخيير بين الأمور المذكورة و آخرون الى الترتيب و التفصيل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 248

فذهب إلى الأول المفيد و الصدوق و الديلمي و الحلي و جمع آخرون. [1]

و اختار القول الثاني الشيخ قدس سره و تبعه جماعة بل في كشف اللثام:

و قيل في أكثر الكتب بالترتيب. انتهى. و في نكت الإرشاد للشهيد قدس سره بعد نسبته إلى الشيخ و الإسكافي و التقى و ابن زهرة و أتباع الشيخ أنه ادعى عليه الإجماع.

و استدل للأول بوجوه:

الأول الآية الكريمة: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أن ينفوا من الأرض. «1».

و ذلك لأن ظاهر (أو) هو التخيير.

الثاني ما ورد في الأخبار من أن (أو) كلما وردت في القرآن للتخيير ففي صحيح حريز قال أبو عبد الله عليه السلام: و كل شي ء في القرآن أو، فصاحبه بالخيار يختار ما يشاء «2».

الثالث بعض الروايات الناطقة بالتخيير في خصوص المقام كحسن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: إنما جزاء

الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع إلى آخر الآية، أي شي ء عليه من هذه الحدود التي سمى الله عز و جل؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل، قلت: النفي إلى

______________________________

[1] و اختاره المحقق في الشرائع و النافع و العلامة في القواعد و التبصرة و غير ذلك و فخر المحققين في الإيضاح و الشهيد الثاني في المسالك و المقداد في التنقيح و الكنز و الفيض في المفاتيح و الشيخ الكبير في كشف الغطاء و المامقاني في المناهج و السيد القائد في تحرير الوسيلة. و قال بعض الأكابر في جامع مداركه: قيل: عليه أكثر المتقدمين قدس الله أسرارهم.

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 33.

(2) وسائل الشيعة ج 9 ص 295 ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 249

أين؟ قال: من مصر إلى مصر آخر و قال: إن عليا عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة «1».

و خبر سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله. قال: الإمام في الحكم فيهم بالخيار إن شاء قتل و إن شاء صلب و إن شاء قطع و إن شاء نفى من الأرض «2».

و صحيح بريد بن معاوية قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله: قال: ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء. قلت: فمفوض ذلك إليه؟ قال: لا و لكن نحو الجناية «3».

فإن ظاهر الصدر هو التخيير.

و ظاهر القول بالتخيير هو كون الأمر

بيد الإمام و الحاكم في كل الموارد، فله أن يختار ما شاء من الأربعة فلو كان المحارب قد شهر السلاح و أخاف لكنه لم يأخذ مالا و لم يقتل نفسا فللحاكم أن يحكم عليه، بالقتل أو أي واحد من الأمور المذكورة في الآية.

و أما القول الثاني فيدل عليه أمور:

أحدها و هو العمدة استبعاد اتحاد عقوبة القاتل و آخذ المال مع عقوبة من شهر السلاح و أخاف لكنه لم يأخذ مالا و لم يقتل نفسا و لم ترد منه على أحد جراحة بل العقل يأبى عن قبول ذلك [1].

ثانيها الشهرة، على ما تقدم.

ثالثها الأخبار.

______________________________

[1] قال في الميزان ج 5 ص 360: إن الآية لا تخلو عن إشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإن الترتيب بين القتل و الصلب و القطع و النفي- و هي أمور غير متعادلة و لا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة و الضعف- قرينة عقلية على ذلك. انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب المحارب ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب المحارب ح 9.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب المحارب ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 250

و الظاهر أن المراد من الترتيب هو الترتيب بحسب الجناية و إلا فلم يقولوا بالترتيب على حسب تقدم الأمور المذكورة و تأخرها. فالمراد أن جناية كذا توجب العقوبة الخاصة من العقوبات الأربعة، و الجناية التي كانت أشد من الأول توجب عقوبة أخرى من بينها و هكذا فتكون عقوبة من جرد السلاح و أخاف الناس هو النفي عن البلد لا غير بخلاف من شهر السلاح و أخذ المال أيضا فهناك يقطع كما هو

مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع فيكون كالسرقة غاية الأمر أنه يقطع يده و رجله من خلاف و كان أخذ المال يعتبر في المحارب مثل السرقة الأولى و الثانية مع تخلل الحد بينهما، و لو قتل فلا بد من أن يقتل.

ثم لا يخفى أن الآية الكريمة و إن كانت ظاهرة و واضحة بالنسبة للفظة (أو) فإنها كما تقدم ظاهرة في التخيير- و ان كان التخيير بين هذه الأمور غير مناسب لما مر من استبعاد اتحاد عقوبة القاتل و غيره- إلا أنها مجملة من حيث المراد و محتاجة إلى التفسير و البيان، و لا بد في رفع ذاك الإجمال و الإبهام من الرجوع إلى الأخبار و تبيينها بروايات أهل البيت إذا أمكن و تيسر ذلك حيث لا يمكن تبيينها و تفسيرها من عند أنفسنا.

فمنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام التي تقدم نقلها في أوائل باب المحاربة، و مفادها أن العقوبات بحسب الجنايات على حسب ما ذكر فيها ففي شهر السلاح مع العقر، الاقتصاص و النفي من تلك البلد، و في شهر السلاح و الضرب و العقر و أخذ المال بلا قتل يكون امره موكولا إلى الإمام إن شاء قتله و إن شاء صلبه و إن شاء قطع يده و رجله، و هكذا.

و في رواية المداينى عن ابي الحسن الرضا عليه السلام المذكورة سابقا إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فقتل قتل به و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و ذكر عليه السلام

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 251

في من لم

يقتل و لم يأخذ المال و إنما شهر السيف و حارب و سعى في الأرض انه نفى من الأرض «1».

و عن عبيد بن بشر الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قاطع الطريق و قلت: الناس يقولون: ان الإمام فيه مخير أي شي ء شاء صنع قال: ليس أي شي ء شاء صنع و لكنه يصنع بهم على قدر جنايتهم من قطع الطريق فقتل و أخذ المال قطعت يده و رجله و صلب و من قطع الطريق فقتل و لم يأخذ المال قتل و من قطع الطريق فأخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله و من قطع الطريق فلم يأخذ مالا و لم يقتل نفى من الأرض «2».

و عن داود الطائي عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

سألته عن المحارب و قلت له: إن أصحابنا يقولون: إن الإمام مخير فيه إن شاء قطع و إن شاء صلب و إن شاء قتل فقال: لا، إن هذه أشياء محدودة في كتاب الله عز و جل فاذا ما هو قتل و أخذ قتل و صلب و إذا قتل و لم يأخذ قتل و إذا أخذ و لم يقتل قطع و ان هو فر و لم يقدر عليه ثم أخذ قطع إلا أن يتوب فإن تاب لم يقطع «3».

الى غير ذلك من الأخبار.

و هذه الروايات صريحة في نفي التخيير و إن على كل جناية قسما خاصا من العقوبات و ان لم تكن متحدة من حيث العقوبات المترتبة على الجنايات في بعض الفروض لكنها متفقة على الأول و هذا هو الذي حكاه المحقق عن الشيخ قدس سرهما في عبارة الشرائع المذكورة آنفا. و حيث

انه قد اختار القول بالتخيير أورد على الشيخ بأنه استند في هذا التفصيل إلى أحاديث لا تنفك من ضعف في إسناد أو اضطراب في متن أو قصور في دلالة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 4.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 5.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 252

و فيه أنه ليس كلها ضعافا بل فيها بعض الصحاح و الموثقات و هو يدل على ذلك و ذلك كصحيحة محمد بن مسلم المذكورة سابقا و كذا رواية علي بن حسان [1] عن ابي جعفر عليه السلام قال: من حارب (الله) و أخذ المال و قتل كان عليه أن يقتل أو يصلب و من حارب فقتل و لم يأخذ المال كان عليه أن يقتل و لا يصلب، و من حارب و أخذ المال و لم يقتل كان عليه أن يقطع يده و رجله من خلاف. و من حارب و لم يأخذ المال و لم يقتل كان عليه أن ينفى ثم استثنى عز و جل: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. يعني يتوبوا قبل أن يأخذهم الإمام «1».

هذا مضافا إلى جبر الضعف سندا بعمل الأصحاب و قد تقدم الشهرة و الإجماع على ذلك و لذا أورد عليه في الجواهر بقوله: و فيه أن الشهرة و الإجماع المحكى السابقين و التعاضد و الاستفاضة و المخالفة للعامة- كما في الثلاث و يومي اليه بعض النصوص و غير ذلك- يجبر ذلك نعم هي مختلفة في كيفية الترتيب إلخ.

و على الجملة فبهذه الاخبار المعمول بها الصريحة

أو الظاهرة في نفي التخيير و كذا بالوجه العقلي يرفع اليد عن ظاهر لفظ (أو) في الآية الكريمة و يقال بأن (أو) فيها للتنويع و التقسيم أو الترديد كما يرفع اليد عما دل على أن أو في القرآن كلما كان فهو للتخيير.

و كيف لا يكون كذلك مع ما نرى في ذيل صحيح بريد بن معاوية الذي استدل به للقول بالتخيير فإنه عند ما سئل الإمام عليه السلام عن آية المحاربة إجابة

______________________________

[1] قال في مباني التكملة- 319: قد يتوهم أن رواية علي بن حسان لا يعتمد عليها لأنه مشترك بين الضعيف- و هو الهاشمي- و الثقة- و هو الواسطي- و لم تقم قرينة على أن راوي هذه الرواية هو الواسطي فلا تكون حجة. و لكنه يندفع بأن راويها علي بن إبراهيم في تفسيره و قد التزم بأن لا يروي إلا عن الثقة فمقتضى شهادته و التزامه يحكم بأن علي بن حسان في هذه الرواية هو الثقة دون غيره انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب المحارب ح 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 253

عليه السلام بقوله: ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء فهناك قال بريد: فمفوض ذلك إليه؟ و اجابه الإمام عليه السلام بقوله: لا و لكن نحو الجناية «1».

فإذا صرح الإمام عليه السلام بنفي التفويض إلى الإمام و وجوب مراعاة نحو الجناية فكيف يقال بالتخيير؟! [1].

و على الجملة فلا أقل من أن في هذه الجملة إشعارا باختلاف الحكم باختلاف الجناية.

و لعله لا تنافي بين ما يدل على التخيير و بين هذه الأخبار الدالة على التفصيل و ذلك بأن يقال: إن الأمر بيد الإمام و هو مخير في إجراء ما ورد

في حد المحارب و من المعلوم أنه لا يختار سوى حكم الله سبحانه فيختار ما قرر للجناية التي رفع أمرها إليه نعم هذا ليس تخييرا اصطلاحيا.

قال العلامة المجلسي رضوان الله عليه عند ذكر خبر بريد: صحيح، و لا ينافي هذا الخبر القول بالتخيير إذا مفاده أن الإمام يختار ما يعلمه صلاحا بحسب جنايته لا بما يشتهيه و به يمكن الجمع بين الأخبار المختلفة. انتهى «2».

و قال بعض المعاصرين قدس سره: و الأخبار المذكورة و ظاهر الآية الشريفة التخيير كما ذكر في بعض الأخبار الصحيح أن «أو» في القرآن للتخيير لكن التخيير بحسب الأخبار بلحاظ نحو الخيانة. «3»

______________________________

[1] أقول: يرد عليه أن هذا المعنى بعيد عن لفظ الخبر غايته فإن الظاهر أن بريد قد فهم التخيير من كلامه عليه السلام ثم سأل عن تفويض الأمر إلى الإمام حتى يكون له العفو فأجابه بعدم التفويض من رأس بل أمره بالنسبة إلى نحو عقوبة الجناية بيده. و يؤيد ذلك ان في نسخة التهذيب ج 10 ص 134 هكذا: لا و لكن بحق الجناية.

و العجب ان سيدنا الأستاذ الأكبر قد فسر الحديث قبلا على ما ذكرناه و هنا قد بالغ على ما أفاده في المقام.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب المحارب ح 2.

(2) مرآة العقول ج 23 ص 383.

(3) جامع المدارك ج 7 ص 165.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 254

و على هذا الوجه الذي لا بعد فيه أصلا في مقام جمع الأخبار يحمل خبر جميل بن دراج خصوصا بلحاظ أن جميل كان من أهل اللسان و عارفا بان (أو) ظاهر في التخيير و مع ذلك فقد سأل عن الآية الكريمة.

و اما ما ورد

في رواية أبي صالح عن أبي عبد الله في قصة بني ضبة من أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم اختار القطع فقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف مع أنهم كانوا قد قتلوا ثلاثة ممن كان في الإبل «1».

ففيه أنه قضية في واقعة، و حقيقة المطلب غير معلومة و وجه القضية مستور علينا فربما كان ذلك لخصوصية لم نقف عليها كعدم كون القاتل بعينه معلوما من بينهم أو أنه كان المورد بحيث كان القطع أردع فأنفذ من القتل. و على الجملة فكان هناك مانع من القتل فلا يمكن الاستدلال به.

لا يقال ليس في الخبر الموثق عن أخذ المال عين و لا أثر و مع ذلك قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف «2».

لأنه يقال: يمكن أن يستكشف من هذا أنهم كانوا قد أخذوا المال أيضا.

و على الجملة فهذه الموثقة لا تفيد في المقام شيئا و ذلك لكون القضية شخصية مجهولة الجهات و إلا فلا أقل من لزوم القتل قصاص بإرادة الولي مع أنه لا ذكر فيها عن ذلك أيضا و هذا بنفسه يوجب صيرورة الخبر مرجوحا غير قابل للتمسك به و كيف يقتل القاتل في سائر الموارد و لا يقتل هنا مع كون المقام أشد لكونه محاربا أيضا؟

لا يقال: إن مقتضى رواية السكوني (عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت و احترق متاعهم أنه يغرم قيمة

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المحارب ح 7.

(2) أورده هذا العبد و كذا الإيراد السابق بشكله الخاص.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 255

الدار و ما فيها ثم يقتل. «1» هو

أنه يقتل في إحراق الدار و الأمتعة مع عدم ارتكابه القتل. [1].

لأنه يقال: ان ما ذكرنا من أنه يقتل بالقتل ليس من باب انحصار عقوبة القتل بمن قتل، فيقتل من أقدم على القتل و كذا من أحرق دار غيره و أحرق متاعه.

نعم يشكل الأمر الاختلاف الواقع بين الروايات في ترتيب هذه العقوبات و تفصيلها فقد وردت روايات تدل واحدة منها على عقوبة خاصة في بعض الموارد و الأخرى على عقوبة أخرى [2].

و لعل حل ذلك بأن يؤخذ بالصحيح منها و العمل به و إلا فيحكم بالتخيير في خصوص المورد فإن ذلك هو مقتضى ورود روايات في مورد يدل بعضها على شي ء و آخر على شي ء آخر كما في الروايات الواردة في كفارة الصوم فإن مقتضى الجمع بينها هو القول بالتخيير بين الأمور الثلاثة.

و قال في الجواهر بعد ذكر الاختلاف في كيفية الترتيب في الروايات و ذكر قسم من هذه الأخبار المختلفة: إلى غير ذلك من النصوص التي يمكن حمل ما فيها من الاختلاف على إرادة بيان مراعاة المرجحات لأفراد التخيير المختلفة زمانا

______________________________

[1] كان الإيراد مني و قد أجاب سيد مشايخنا الأستاذ الأكبر بما في المتن و لكن يرد عليه أن مقتضى صريح بعض الروايات أنه لا يقتل بدون القتل ففي رواية الطائي باب 1 ح 6: و إذا أخذ و لم يقتل قطع. و في رواية الخثعمي ح 5: و من قطع الطريق فأخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله.

و في رواية المدائني ح 4: و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف. و إن شهر السيف و حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا

و لم يقتل و لم يأخذ المال نفى من الأرض.

نعم يمكن ان يقال إن القتل في المقام ليس من باب المحارب بل هو لخصوصيته و عنوانه الخاص أي إحراق دار الغير.

[2] من جملة تلك الموارد من قتل و أخذ المال ففي رواية المدائني: يقتل و يصلب. و في رواية الخثعمي يقطع مخالفا و يصلب. و في صحيح ابن مسلم: يقطع يده اليمنى بالسرقة ثم يدفع إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثم يقتلونه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 256

و مكانا و حالا، و الظاهر أن المدار على ذلك و لا يقدح الاقتصار في بعض الأحوال على النفي و إن قتل و أخذ المال لوجود مرجحات تقتضي ذلك كما أنه يقتل و يصلب بمجرد الإخافة لها أيضا و من هنا لم يستقص فيها جميع الصور الممكنة.

(ثم قال): و بذلك يظهر لك ما في جملة من الكتب حتى ما في الرياض فإنه مال إلى اعتبار الترتيب و توقف في كيفيته ثم مال إلى ما في النهاية.

و قال أيضا: و على التخيير هل هو مطلق حتى في صورة ما إذا قتل المحارب فللإمام فيها أيضا الاقتصار على النفي مثلا كما هو ظاهر المتن و غيره أم يتعين فيه اختيار القتل كما صرح به المفيد و كثير؟ وجهان أجودهما الثاني لكن قصاصا لا حدا فلو عفا ولي الدم أو كان المقتول ممن لا يقتص له من القاتل سقط القتل قصاصا و ثبت حدا مخيرا بينه و بين باقي الأفراد و لعله إلى هذا نظر شيخنا في روضته حيث تنظر في ما أطلقه الجماعة من تعين القتل في

تلك الصورة فقال بعد نقل القول بالتخيير: نعم لو قتل المحارب تعين قتله و لم يكتف بغيره من الحدود سواء قتل مكافئا أم لا و سواء عفى الولي أم لا على ما ذكره جماعة من الأصحاب و في بعض أفراده نظر انتهى و لكن الأحوط ما ذكروه بل لعله المتعين كما في الصحيح إلخ.

أقول: ان هنا آيتين إحديهما آية القصاص و الأخرى آية المحاربة.

قال الله تعالى: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً. «1»

و قال تعالى: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ. «2»

و مقتضى الأولى تعين القتل و القصاص فلو كان مقتضى آية المحاربة التخيير بين الأمور الأربعة فلا بد من تخصيص الأولى بباب المحاربة بأن يقال: إن للولي أن يقتل القاتل إلا إذا كان قاتلا محاربا فإنه لا يتحتم قتله بل هناك يتخير، و هو بعيد

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 33.

(2) سورة المائدة الآية 33.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 257

غايته فإن أمر القاتل المحارب أشد فلا بد من العمل بهما كلا في مورده فلولي الدم الحق الثابت له و هو القصاص فإن حق الناس مقدم على حق الله كما هو المستفاد من كلماتهم فلو اقتص منه فهو و لو عفى عنه أو لم يكن المقتول كفوا للقاتل فهناك تصل النوبة إلى حد المحارب فعلى هذا لا بد في مورد القتل من إرجاع الأمر إلى الولي فلو أراد القصاص فهذا حق له و قد سلطه الله عليه و لا يصح التمسك بالموثقة في الحكم بجواز غير ذلك من بدو الأمر.

نعم لو عفى الولي فهناك تصل التوبة إلى حد المحارب و يأتي القول بجواز غير القتل على القول بالتخيير و هنا يرد الإشكال

على من قال بتعين القتل مع القول بالتخيير كما تنظر الشهيد الثاني في الروضة في إطلاق جماعة من الأصحاب بتعين القتل فإن هذا غير ملتئم في بعض الصور كما شرحناه كما أنه يرد الإشكال على الرياض بأنه يعد كون المفروض هو التخيير فلا وجه لجريان الوجهين في صورة القتل بل هو مخير بين الأمور المذكورة.

مسائل:

المسألة الأولى فيما إذا أقدم المحارب على القتل.

قال المحقق: و ههنا مسائل الأولى: إذا قتل المحارب غيره طلبا للمال تحتم قتله فورا إن كان المقتول كفوا و مع عفو الولي حد سواء كان المقتول كفوا أو لم يكن و لو قتل لا طلبا للمال كان كقاتل العمد و أمره إلى الولي أما لو جرح طلبا للمال كان القصاص إلى الولي و لا يتحتم الاقتصاص في الجرح بتقدير أن يعفو الولي على الأظهر.

أقول: أما تحتم قتل القاتل المحارب طلبا للمال عند ما كان المقتول كفوا فقد استدل عليه كما في الجواهر بعموم الأدلة.

و المراد من ذلك عموم أدلة القصاص كما يظهر ذلك من قوله بعد ذلك: بل ظاهر الفتاوى تقدمه على الحد. و على الجملة فالتقدم لحق القصاص نعم لو حصل عنه مانع كعدم الكفاية فهناك تصل النوبة إلى حد المحارب و هنا لا فرق بين كونه كفوا أو غير كفو.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 258

و يدل على القتل حدا صحيح ابن مسلم ب 1 ح 1.

و ظاهر عبارة المحقق هو تعين القتل حدا بعد أن عفى الولي و هذا ينافي ما ذهب إليه قدس سره من التخيير فإن مقتضى مذهبه هو كونه بالخيار بين الأمور الأربعة لا القتل بالخصوص. فهل عدل هنا عما اختاره أولا أو أنه من أول الأمر كان قائلًا بهذا اي

التخيير في غير مورد ارتكب القتل [1] و قد أخر الاستثناء إلى هنا؟ و لو كان هذا استثناء فهو موقوف على الدليل.

و كيف كان فظاهر كلامه محل الإشكال و لذا أورد عليه في الجواهر بقوله:

و هو متجه بناءا على الترتيب أما على التخيير الذي قد سمعت من المصنف اختياره فالمتجه التخيير بينه و بين غيره من الأفراد لا تعين القتل حدا.

و في المسالك و الجواهر أنه إذا قتل حدا و كان غير مكافى ء كما إذا قتل الأب الابن و المسلم الذمي و الحر العبد و قتل هو حدا فتؤخذ حينئذ الدية للأول من تركته لو كان المقتول ولدا أو ذميا مثلا كما يؤخذ القيمة لو كان المقتول عبدا.

و أما الفرض الثاني و هو أنه لو قتل لا طلبا للمال كان كقاتل العمد و أمره إلى الولي إن شاء اقتص منه و إن شاء عفى عنه فهذا أيضا مورد الإشكال و ذلك لأن الموضوع على ما هو مقتضى صدر الجملة، المحارب، فإذا كان محاربا فلما ذا يكون أمره إلى الولي فقط و كيف لا ذكر هنا عن أحكام المحارب؟ و كلامه هنا لا يلائم القولين لا التخيير و لا الترتيب و التفصيل و قد فرق بين ما إذا كان القتل للمال و ما إذا كان لغير المال و لا ندري لماذا قال كذلك و ما هو مستنده في ذلك؟

______________________________

[1] أقول: ذكر في كلماتهم أن التخيير مختص بغير مورد القتل فقد صرح بذلك في تنقيح الرائع 4- 394 و إيضاح الفوائد 4- 545 و الروضة 1- 362. و قال الكاظمي في آيات أحكامه ص 211:

و التخيير المذكور إنما هو إذا لم يقتل فلو قتل تحتم قتله و

لم يكتف بغيره من الحدود سواء قتل مكافئا أو لا و سواء عفى عنه الولي أولا و قد صرح بذلك القائلون بالتخيير. و قد ذكرت ذلك في مجلس الدرس و أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر بأنه يحتاج الى دليل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 259

و أما الفرض الثالث و هو ما إذا جرح طلبا للمال و قد حكم هنا بأن القصاص إلى الولي فنقول: إن هذا هو مقتضى قول الله سبحانه: و الجروح قصاص، لكن ما ذكره بعد ذلك من عدم تحتم القصاص في الجرح بتقدير عفو الولي على الأظهر لا يخلو عن إجمال و إبهام لأنه إذا لم يتحتم القصاص هنا مع عفو الولي فهل لا يجري عليه أحكام المحارب أصلا؟- كما أنه لا يعلم أنه إذا لم يكن القصاص متحتما فهل لا يجوز ذلك أيضا أو أنه غير متحتم؟ و لعل الظاهر هو الثاني.

و في صحيح محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام: من شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتص منه [1] و هذا مطلق شامل لما إذا كان الجرح طلبا للمال و ما إذا لم يكن كذلك. و لو لا ذلك لما كان عليه دليل.

و كيف كان فقد خالف بعضهم على المحكى و قال بتحتمه حدا كما في باب القتل عند عفو الولي و لكن في الجواهر: لم نتحققه. اي لم نتحقق القائل بالتحتم، أو لم نتحقق صحة المطلب، و الظاهر هو الأول.

و قال قدس سره: نعم قيل في التحرير إشارة إلى احتمال مساواته القتل.

انتهى.

أقول: قال العلامة في التحرير- 233: و لو جرح طلبا للمال فالقصاص إلى الولي فإن عفى الولي فالأقرب السقوط انتهى فإنه يستفاد من لفظ الأقرب

احتمال المساواة و عدم السقوط.

ثم قال صاحب الجواهر قدس سره: و لعله للأولوية.

و بيان الأولوية أنه إذا كان أمر القتل مع أهميته البالغة في نظر الشارع ينتقل الى الحاكم عند عفو الولي فكان لا يسقط فالجرح الذي ليس بتلك المثابة من الأهمية أولى بعدم السقوط و بان ينتقل الى الحاكم.

______________________________

[1] يرد هنا أنه لو كان الاقتصاص هنا من باب الحد فهو مع كونه خلاف المصطلح في الاقتصاص يلزم كون عقوبات المحاربة أكثر من اربع و الحال أن لفظة (انما) في الآية الكريمة تفيد الحصر فيها مضافا الى التصريح بذلك في خبر المدائني: فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع. و إن كان من باب حق الناس فلا يكون صدر الخبر متعلقا بالمحارب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 260

و فيه أنه لا أولوية في البين فإن العقوبة على القول بالتخيير هو أحد الأمور الأربعة لا القتل بالخصوص و لا الجرح أصلا، و على الجملة فعلى القول بالتخيير لا وجه لهذه المطالب.

و قال: و لكنه على كل حال واضح الضعف على إطلاقه ضرورة عدم الدليل عليه.

و قد تقدم منا أنه إن أمكن إثبات ذلك بإطلاق الرواية فهو و إلا فلا دليل عليه كما أفاده رحمه الله.

ثم قال: نعم لو فرض كون الجرح قطع يد يسرى مثلا أو رجل يمنى مع أخذ المال فعفا الولي أو اقتص منه و قلنا بالترتيب اتجه حينئذ تحتم القطع حدا.

يعني انه في بعض الفروض يلائم القصاص مع الدليل و هو ما إذا جرح فقطع اليسرى منه مثلا و أخذ المال ليتحقق المحاربة فعفى الولي فهنا لا تقطع يسراه قصاصا لمكان العفو و لكن يقطع يده اليمنى و رجله

اليسرى لحد المحاربة. و هكذا لو قطع رجله اليمنى و أخذ المال و عفى عنه الولي.

و هنا فرض آخر ذكره بقوله: و كذا لو كان القصاص في أحد عضوي الحد فإنه يكمل الحد حينئذ بقطع الآخر في الفرض المزبور كفاقد أحد العضوين.

و مثال ذلك ما إذا جرحه فقطع يده اليمنى فاقتص عنه فإنه يقيم الحاكم عليه حد المحاربة إلا أنه حيث لم يبق لمورد الحد الا الرجل اليسرى فإنه يقطع رجله اليسرى حدا و كذا إذا جرحه فقطع رجله اليسرى فاقتص منه فإنه يقتصر في حده على قطع يده اليمنى.

ثم انه قال معترضا على الشهيد الثاني في المسالك: بل في آخر كلامه في الجرح تناف في الجملة. انتهى.

و لعل نظره من هذا التنافي الى ما ذكره بقوله: و لو كان جرحا فأمر القصاص إلى الولي و لا مدخل للإمام فيه لأنه ليس من جنس الحد بمقتضى الآية و يحتمل مع

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 261

العفو استيفاؤه حدا لذكره في تفصيل الحد و لا يخفى ضعفه لعدم الدليل عليه و إن ذكره القائل بالتفصيل. انتهى.

و ذلك لأنه قدس سره ذكر قبل ذلك أنه لو جرح لو جرح أو قطع عضوا طلبا للمال استوفى معه القصاص ثم إن طابق المطلوب منه للحد كما لو قطع اليد اليمنى لرجل قطعت قصاصا و أكمل الحد بقطع رجله اليسرى و إن كان مخالفا للحد كقطع اليسار اقتص منه و استوفى في الحد على وجهه. انتهى.

المسألة الثانية في ما إذا تاب

قال المحقق: إذا تاب قبل القدرة عليه سقط الحد و لم يسقط ما يتعلق به من حقوق الناس كالقتل و الجرح و المال، و لو تاب بعد الظفر به حد و

لا قصاص و لا غرم.

أقول: أما الأول و هو سقوط الحد عمن تاب قبل القدرة عليه فإنه يدل عليه الكتاب و السنة.

أما الكتاب فقوله تعالى بعد ذكر المحارب: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1».

فقد صرح بعدم جريان الحد فيما إذا تاب المحارب قبل ان يؤخذ و يقدر عليه.

و أما السنة فروايات.

منها مرسل الطائي عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

سألته عن المحارب و قلت له: إن أصحابنا يقولون: إن الإمام مخير فيه إن شاء قطع و إن شاء صلب و ان شاء قتل، فقال: لا إن هذه أشياء محدودة في كتاب الله عز و جل فإذا ما هو قتل و أخذ قتل و صلب، و إذا قتل و لم يأخذ قتل و إذا أخذ و لم يقتل قطع و إن هو فر و لم يقدر عليه ثم أخذ قطع إلا أن يتوب فإن تاب لم يقطع «2».

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 33.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من حد المحارب ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 262

و منها رواية على بن حسان عن أبي جعفر عليه السلام قال: من حارب «الله» و أخذ المال و قتل كان عليه أن يقتل أو يصلب و من حارب فقتل و لم يأخذ المال كان عليه أن يقتل و لا يصلب و من حارب و أخذ المال و لم يقتل كان عليه أن يقطع يده و رجله من خلاف و من حارب و لم يأخذ المال و لم يقتل كان عليه أن ينفى ثم استثنى عز و جل إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ

تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يعني يتوبوا قبل أن يأخذهم الإمام «1».

و منها ما رواه في الجواهر: ان حارثة بن زيد خرج محاربا ثم تاب فقبل أمير المؤمنين عليه السلام توبته [1].

نعم في الرواية الأولى و هي رواية الطائي كلام و هو أن قوله: إلا أن يتوب إلخ لعله ظاهر في توبته بعد الأخذ فهناك لا يقطع، أو أنه مطلق يشمل التوبة قبل الأخذ و بعده.

و فيه أن تعبير الآية الكريمة يبين ذلك كما أن رواية ابن حسان كافية في بيان الإجمال المذكور فإنه قد فسر الآية فيها كذلك: يعني يتوبوا قبل أن يأخذهم الإمام. و من المعلوم أن رواية الطائي أيضا ناظرة إلى الآية و في مقام بيانها، إذا فلا إشكال في كون المراد هو التوبة قبل الأخذ و القدرة عليه فالإجمال مرتفع، و الإطلاق مقيد بالآية و رواية ابن حسان.

هذا كله بالنسبة للحد.

و اما عدم سقوط ما يتعلق به من حقوق الناس كالقتل و الجرح و الغرم فهو واضح، و في الجواهر: بلا خلاف و لا اشكال. ثم قال رحمه الله: بل لعل التوبة يتوقف صحتها على أداء ذلك كما تقدم الكلام في تحقيقه. انتهى.

______________________________

[1] و نقله عن كشف اللثام عن حارثة بن بدر، و لعل صاحب الجواهر أخذ منه.

ثم لا يخفى ان المحقق الأردبيلي قد استدل بعد التمسك بالآية بوجه آخر فقال: و لأنها مسقطة لأعظم العقوبتين و هي عقوبة الآخرة فالدنيا بطريق أولى فتأمل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من حد المحارب ح 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 263

و توجيه ما أفاده أن المحارب الذي حارب لأخذ المال مثلا فإنه ما دام لم يؤد- مع إمكانه- الى صاحبه فهو غير

تائب و لو كان تائبا عن عمله لكان يدفع إلى الناس أموالهم.

لا يقال: يكفي في في التوبة مجرد الندامة و إنما دفع المال واجب آخر فربما يكون نادما على عمله أي المحاربة عازما جدا على عدم العود إليها في ما يأتي لكنه لا يدفع المال، و التوبة أمر قابل للتجزية فيتوب من عمل دون الآخر.

لأنا نقول: نعم يمكن ذلك لكن فيما إذا لم تكن المعصيتان مرتبطة إحداهما بالآخرى بل كان هناك إثمان مستقلان فيتوب من أحدهما دون الآخر كما إذا أزني و أخذ مال الغير فإن الندامة من أحدهما لا تعلق لها بالآخر.

أما إذا كانت إحدى المعصيتين من تبعات الأخرى فلا يتم التوبة من المعصية إلا بترك تبعاته أيضا، و ما نحن فيه من هذا القبيل فإن هذا المال قد حصل بالمحاربة فالتوبة بالنسبة للمحاربة لا تتحقق بدون التوبة من تبعاتها و آثارها و أذنابها و الا فلا اثر لتوبته عن المحاربة.

و الحاصل أنه ما دام لم يؤد حق الناس المتعلق بالمحاربة فلم تتحقق التوبة عن المحاربة حقيقة.

و أما الفرض الثاني و هو أنه لو كانت توبته بعد الظفر عليه فإنه لا يسقط عنه الحد و لا القصاص و لا الغرم، فالدليل عليه عندنا هو نفس الآية الكريمة و ذلك لأن الخارج عن تحت الحكم هو من تاب قبل ان يقدر عليه فهذا الفرد بالخصوص قد خرج عن العام و هو قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله إلخ فإن الموصول يفيد العموم كما أن نفس الاستثناء أيضا دليل العموم و على هذا فالعام شامل لجميع الأفراد سواء كان تائبا قبل القدرة عليه أو بعدها و حيث إن الاستثناء الواقع عقيبه أفاد خروج

التائب قبل القدرة عليه فيبقى ما سواه تحت العام و يكون

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 264

محكوما بحكم الآية الكريمة و تقام عليه عقوبة المحاربين و لا حاجة إلى شي ء آخر أصلا و بهذا يتم المطلوب.

و قد يتمسك في إثبات المراد بالمفهوم و تقرير ذلك أن منطوق قوله تعالى «إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» صريح في عدم إجراء الحد عليهم، و مفهومه أنه إذا تٰابُوا مِنْ بعد أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فهناك لا بد من إقامة الحد بلا كلام.

و كذلك قد يتمسك هنا بالأصل و هو أصالة عدم السقوط بذلك بعد أن ثبت الحد بالمحاربة فوجوب الحد ثابت بحكم الاستصحاب.

هذا كله مضافا إلى تحقق التهمة هنا دون الفرض السابق و ذلك لأنه بعد القدرة عليه فهو في معرض الحد فإذا تاب يتهم لا محالة بقصد الدفع عن نفسه و أما قبل القدرة عليه فهو ممتنع عن طاعة الإمام فتكون توبته لله، بعيدة عن التهمة، قريبة من الحقيقة فلذا أسقطت التوبة الحد في هذا الفرض دون الآخر فالقول بتسوية الحالتين قياس مع الفارق.

و لو صارت هذه الوجوه موردا للخدشة بأن يخدش مثلا في الأخذ بالمفهوم أو غيره من الوجوه ففي ما ذكرناه من الوجه غني و كفاية.

نعم لو تاب عن محاربته مع كونه كافرا فأسلم و بعبارة أخرى: لو كان المحارب كافرا و تاب و أسلم بعد القدرة عليه و كانت توبته عن محاربته بتوبته عن كفره فهناك أمكن سقوط الحد بالتوبة.

قال في الجواهر: بناء على جب الإسلام مثل ذلك و إن كان فيه بحث ستعرفه بل ظاهرهم العدم انتهى.

أقول: إن قاعدة الجب لا تشمل كل الأحكام كالزكاة و حقوق الناس

فيجب على الكافر الذي قد أسلم أداء زكاة ماله كما يجب عليه أداء زكاة ماله كما يجب عليه أداء ما كان عليه من حقوق الناس. و لو قتل أحدا ثم أسلم فإنه يقتص منه. و أما أنه هل يسقط عنه ما كان من قبيل حد المحاربة لقاعدة الجب ففيه كلام و بحث و هو موكول الى محله و موضعه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 265

المسألة الثالثة في اللص
اشارة

قال المحقق: اللص محارب فإذا دخل دارا متغلبا كان لصاحبها محاربته فإن أدى الدفع إلى قتله كان دمه ضائعا لا يضمنه الدافع و لو جنى اللص عليه ضمن و يجوز الكف عنه أما لو أراد نفس المدخول عليه فالواجب الدفع و لا يجوز الاستسلام و الحال هذه و لو عجز عن المقاومة و أمكن الهرب وجب.

أقول: قال في مجمع البحرين: اللص بالكسر واحد اللصوص و هو السارق و بالضم لغة. و لص الرجل لصا من باب قتل سرق، و أرض ملصة ذات لصوص.

انتهى [1].

و الكلام هنا في المراد من اللص و أنه هل هو مطلق اللص أو المراد اللص الذي كان محاربا؟

عبارة المحقق مطلقة، و لكن قيدها في الجواهر بقوله: إذا تحقق فيه معناه السابق بلا خلاف و لا إشكال إلخ و مراده من معناه السابق هو شهر السلاح للإخافة.

و في المسالك: اللص إن شهر سلاحا و ما في معناه فهو محارب حقيقة لما تقدم من أن المحارب يتحقق في العمران و غيرها و إن لم يكن معه سلاح بل يريد اختلاس المال و الهرب فهو في معنى المحارب في جواز دفعه و لو بالقتل إذا توقف الدفع عليه. و أطلق المصنف اسم المحارب عليه مطلقا تبعا للنصوص

[ثم نقل رواية منصور و رواية غياث بن إبراهيم ثم قال:] و إنما عدلنا عن ظاهر الروايات إلى ما ذكرناه من التفصيل لقصورها سندا عن إفادة الحكم مطلقا فيرجع الى القواعد المقررة إلخ.

و في الروضة بعد قول الشهيد: اللص محارب. قال: بمعنى أنه بحكم المحارب في أنه يجوز دفعه و لو بالقتال و لو لم يندفع إلا بالقتل كان دمه هدرا أما لو تمكن الحاكم منه لم يحده حد المحارب مطلقا و إنما أطلق عليه اسم المحارب تبعا لإطلاق

______________________________

[1] و في المصباح المنير أيضا: اللص: السارق. و كذا في المنجد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 266

النصوص. نعم لو تظاهر بذلك فهو محارب و بذلك قيد المصنف في الدروس و هو حسن.

و في الرياض- بعد أن حكى عن السرائر الإجماع على كونه محاربا و حكايته عنه أنه قال: حكمه حكم المحارب، قال:- و ظاهره الفرق بينهما و عدم كونه محاربا حقيقة و عليه نبه شيخنا في المسالك و الروضة. ثم نقل صاحب الرياض كلام الشهيد الثاني ثم قال: أقول: و يعضده عدم عمل الأصحاب بما فيها من جواز القتل و أن دمه هدر مطلقا بل قيدوه بما إذا روعي فيه مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فتدرج في الدفع من الأدنى إلى الأعلى. انتهى.

فمقتضى هذه الكلمات أنه إذا كان قد شهر سلاحه و أخاف فهو محارب حقيقة أما لو لم يكن شاهر السلاح مخيفا للناس فليس هو بمحارب حقيقي و إنما هو بحكم المحارب في جواز الإقدام على قتله.

و لكن ظاهر عبارة المحقق هو كونه محاربا و لا يعتبر هنا شهر السلاح و لا الإخافة، نعم يعتبر التغلب حيث قال بعد ذلك:

فإذا دخل دارا متغلبا كان لصاحبها محاربته. إلخ.

و تظهر الثمرة فيما إذا دخل اللص دارا متغلبا و لا يريد الإخافة فإنه على فرض كونه محاربا تشمله أحكام المحاربة و إلا بأن يكون استعمال المحارب فيه مجازا فقد نزل منزلته في حكم من الأحكام وجهة من الجهات فيجوز قتله و إن لم يكن بيد الحاكم.

و يمكن أن يقال: إن للمحارب حكمين حكم دفاعي و حكم جزائي فما تعرضناه من قبل كان هو حكمه الجزائي بعد ما ارتكب المحاربة و أقدم عليها، و ما ذكره رحمه الله في المقام هو حكمه الدفاعي و هو وظيفة صاحب البيت و رب الدار، فإذا رأى أن اللص حمل عليه و على داره فله أن يقاوم و يمانع عنه و ان كان بقتله و لا يصح له أن يصبر إلى أن يقتل بيده و يؤل الأمر إلى الحاكم و يجري عليه أحكام المحاربة الجزائية.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 267

نعم لو وصلت النوبة إلى الحاكم فهناك تصل النوبة إلى الأحكام الخاصة، و لو قتل المحارب في هجومه إلى دار فدمه هدر كما أنه لو جنى على صاحب الدار فهو ضامن لهذه الجناية.

و على هذا فلا يجوز له أن يقتله من أول الأمر و ما دام أمكن دفعه بغير ذلك، و عدم ذكر مراتب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فلعله لتصادق العنوانين في المقام و ربما يجعل الشارع على من له حكم خاص بعنوان كونه موضوعا للحكم المزبور حكما آخر بلحاظ عنوان آخر و هنا و إن كان من موارد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي تعتبر فيه مراعاة المراتب و المراحل لكنه محكوم بهذا الحكم الخاص بعنوان

كونه محاربا و إطلاق المحارب عليه.

ثم إن مستند الحكم هو الروايات.

منها عن منصور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اللص محارب لله و لرسوله فاقتلوه فما دخل عليك فعلى «1».

و منها خبر غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: إذا دخل عليك اللص يريد أهلك و مالك فإن استطعت أن تبدره و تضربه فابدره و اضربه و قال: اللص محارب لله و لرسوله فاقتله فما منك منه فهو على «2».

و منها خبر أبي أيوب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من دخل على مؤمن داره محاربا فدمه مباح في تلك الحال للمؤمن و هو في عنقي «3».

و عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن لصا دخل على امرأتي فسرق حليها- حليتها- فقال: أما إنه لو دخل على ابن صفية لما رضي بذلك حتى يعمه بالسيف [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 11 باب 46 من جهاد العدو ح 1، و المراد بابن صفية الزبير بن العوام و قد كان مشهورا بالغيرة. و في مرآة العقول ج 18 ص 393: حتى يعمه في بعض النسخ بالعين المهملة أي حتى يعم جميع أعضائه بالسيف و في بعضها بالغين المعجمة من قولهم: غممته اى غطيته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 7 من أبواب حد المحارب ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 7 من أبواب حد المحارب ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 7 من أبواب حد المحارب ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 268

و عن وهب عن جعفر عن أبيه أنه قال: إذا دخل عليك رجل يريد أهلك

و مالك فابدره بالضربة إن استطعت فإن اللص محارب لله و لرسوله فما تبعك من شي ء فهو عليّ «1».

و في خبر آخر عن أنس أو هيثم بن البراء قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:

اللص يدخل على في بيتي يريد نفسي و مالي قال: أقتله فاشهد الله و من سمع أن دمه في عنقي «2».

و عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

إذا دخل عليك اللص المحارب فاقتله فما أصابك فدمه في عنقي «3».

عن بعض أصحابنا عن عبد الله بن عامر قال: سمعته يقول: و قد تجارينا ذكر الصعاليك: حدثني أحمد بن إسحاق أنه كتب إلى أبي محمد عليه السلام يسأله عنهم فكتب اليه: أقتلهم [1].

و عن أحمد بن أبي عبد الله و غيره أنه كتب إليه يسأله عن الأكراد فكتب إليه:

لا تنبهوهم إلا بحر- بحد- السيف «4».

و الظاهر أن المراد من الأكراد من يقطع الطريق و يأخذ المال منهم [و في مرآت العقول ج 24 ص 57: و لعل المراد بالاكراد اللصوص منهم فإن الغالب فيهم ذلك كذا فهمه الكليني انتهى.] و عليه فهم طائفة خاصة من الأكراد فإن الغالب فيهم ذلك.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب الدفاع ح 1، قوله: تجارينا ذكر الصعاليك أي جرى بيننا ذكرهم. و في مجمع البحرين: الصعلوك الفقير الذي لا مال له و جمعه صعاليك. و في أقرب الموارد: صعاليك العرب ذؤبانها اي لصوصها و فقراؤها

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 باب 46 من جهاد العدو ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 11 باب 46 من جهاد العدو ح 6.

(3) وسائل الشيعة ج 11 باب 46 من جهاد العدو ح 7.

(4) وسائل

الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المحارب ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 269

و ظاهر هذه الأخبار هو جواز الإقدام على قتل من دخل دار غيره بلا حاجة إلى مراعاة الأسهل فالأسهل في الدفاع عنه و هذا يخالف و ينافي القواعد الكلية لكنه حكم ثبت بروايات عديدة و على ذلك فلا يلزم هنا مراعاة المراتب من النصحية و الصياح و الضرب و غير ذلك كما أن ظاهر عبارة المحقق أيضا أن اللص محارب فيكون هذا الحكم حكم المحارب إذا هجم دارا و قوله: فاذا دخل دارا متغلبا كان لصاحبها محاربته إلخ الظاهر أنه لبيان حقيقة المحارب بأن يكون قد شهر السلاح و هجم، أو دخل مع إظهار القدرة و السطوة بحيث يشهد شواهد الحال أنه بصدد الفتنة و الفساد في المجتمع، فإن السراق مختلفة فبعضهم بصدد سرقة مال خائفا مع قصد الهرب قاصدا الفرار إذا اطلع صاحب الدار و بعضهم بصدد المحاربة فيأتي مسلحا و هنا يجوز قتله من بدو الأمر. و على الجملة فمراده كون اللص محاربا حقيقة لا حكما على ما استظهره بعض الشراح.

نعم استشكل في الجواهر بقوله: إلا أنى لم أجده قولا لأحد في المحارب الأصلي فضلا عن اللص المحارب و لو لا ذلك لأمكن القول به إلخ.

و على هذا فالأخبار المذكورة معرض عنها و إن أمكن أن يورد عليه بأنه أ ليس المحقق بظاهر عبارته عاملا بهذه الأخبار؟

اللهم إلا أن يقال: إن المحقق لا يقول بالقتل من أول الأمر بل الظاهر أنه يقول بالمدافعة متدرجة و إن أدى الأمر إلى قتله.

و على الجملة فعدم عمل الأصحاب يوجب الإعراض، و العمل بمقتضى القواعد من التدرج.

ثم قال: و

من ذلك و غيره يعلم الحال في مدافعة قطاع الطريق و إباحة دمائهم- ثم ذكر خبر الصعاليك إلى أن قال: بل إن لم يكن إجماعا أمكن أن يقال بجواز قتل اللص غير المحارب أيضا حال دفاعه ابتداء للأخبار المزبورة مضافا إلى خبر السكوني إلخ. و هنا نقل أخبارا نذكرها نحن أيضا تبعا له.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 270

عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: إن الله ليمقت العبد يدخل عليه في بيته فلا يقاتل «1».

و رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني إلا أنه قال فلا يحارب.

و عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام في رجل دخل دار آخر للتلصص أو الفجور فقتله صاحب الدار أ يقتل به أم لا؟ فقال: اعلم أن من دخل دار غيره فقد أهدر دمه و لا يجب عليه شي ء «2».

و عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن امرأة دخل عليها لص و هي حبلى فوقع عليها فقتل ما في بطنها فوثبت المرأة على اللص فقتلته فقال: أما المرأة التي قتلت فليس عليها شي ء و دية سخلتها على عصبة المقتول السارق «3».

و عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن لص دخل على امرأة حبلى فوقع عليها فألقت ما في بطنها فوثبت عليه المرأة فقتلته قال: بطل دم اللص و على المقتول دية سخلتها «4».

و عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: لو دخل رجل على امرأة و هي حبلى فوقع عليها فقتل ما في بطنها فوثبت عليه فقتلته؟ قال: ذهب دم اللص هدرا

و كان دية ولدها على المعقلة [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 19 باب 13 من أبواب العاقلة ح 3 و المراد بالمعقلة العاقلة فراجع الوافي ج 2 باب القصاص ص 121.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 باب 46 من أبواب جهاد العدو ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 19 باب 27 من أبواب القصاص في النفس ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 19 باب 13 من أبواب العاقلة ح 1.

(4) وسائل الشيعة ج 19 باب 13 من أبواب العاقلة ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 271

ثم ذكر رحمه الله أن الأخبار بهذا المضمون ليست منحصرة في هذا المقدار و كلها تدل على هدر دم اللص، ثم أيد ذلك بما دل على هدر دم الداخل الى دار غيره بغير اذنه و على فقأ عين الناظر، ثم ذكر هذه الروايات المؤيدة:

عن علاء بن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا اطلع رجل على قوم يشرف عليهم أو ينظر من خلل شي ء لهم فرموه فأصابوه فقتلوه أو فقأوا عينيه فليس عليهم غرم و قال: إن رجلا اطلع من خلل حجرة رسول الله صلى الله عليه و آله فجاء رسول الله صلى الله عليه و آله بمشقص ليفقأ عينه فوجده قد انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: أي خبيث أما و الله لو ثبت لي لفقأت عينك [1].

و عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اطلع رجل على النبي صلى الله عليه و آله من الجريد فقال له النبي صلى الله عليه و آله: لو اعلم أنك تثبت لي لقمت إليك بالمشقص حتى افقأ به عينيك قال: فقلت له: و ذاك

لنا؟

فقال: و يحكم أو ويلك أقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه و آله فعل و تقول:

ذلك لنا؟ «1».

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 19 باب 25 من قصاص النفس ح 6، فقأ عينه اي شقه. المشقص كمنبر نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، الجريد كما في مجمع البحرين هو سعف النخل بلغة أهل الحجاز، و الواحد الجريدة. و في مرآة العقول 24- 48: من الجريد اي من خلل جرائد النخل الداخلة في البناء، و يدل الخبر على وجوب التأسي بالنبي صلى الله عليه و آله في كلما لم يعلم فيه الاختصاص. و المغازل قال في الوافي ج 2 ص 120 من أبواب القصاص: المغازل جمع مغزل مثلثة الميم و هو ما يغزل به القطن.

قوله انحسك قال في مرآة العقول ج 24 ص 49 قوله صلى الله عليه و آله أبخسك في بعض النسخ بالنون و في بعضها بالباء الموحدة و قال الفيروزآبادي: نخس الدابة كنصر و جعل غرز مؤخرها أو جنبها بعود و نحوه و قال: البخس النقص و الظلم، و فقأ العين بالإصبع و غيرها انتهى. و قال بعض:

أبخسك أي أنقصك و منه قوله تعالى: و شروه بثمن بخس أي ناقص انتهى.

و في روضة المتقين ج 10 ص 299 حتى أبخسك أو أبخصك، و البخس بالباء الموحدة و الخاء المعجمة فقأ العين بالإصبع و غيرها و كذا بالصاد المهملة انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 19 باب 25 من أبواب قصاص النفس ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 272

و عن عبيدة بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: بينا رسول الله صلى الله عليه و آله في حجراته مع

بعض أزواجه و معه معاذل يقلبها إذا بصر بعينين تطلعان فقال: لو اعلم انك تثبت لي لقمت حتى أبخسك فقلت: نفعل نحن مثل هذا ان فعل مثله؟ فقال: إن خفي لك فافعله «1».

و عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه و آله في بعض حجراته إذا طلع رجل في شق الباب و بيد رسول الله صلى الله عليه و آله مدراة فقال: لو كنت قريبا منك لفقأت به عينك [1].

هذه جملة الأخبار التي تدل على أن حد من دخل دار غيره هو قتله و من أشرف على دار غيره هو جواز فقأ عينيه سواء كان نظره من شق الباب أو من الحائط أو من كوة إلى الدار من السطح أو غيره.

لكن قال صاحب الجواهر قدس سره بعد نقلها: إلا أنه لم أجد مصرحا بالعمل بها على الوجه المزبور بل ستسمع من غير واحد ما يقضي بتقييد النصوص الأخيرة بما إذا لم يندفع بالزجر و نحوه و الا كان ضامنا و ربما يأتي هناك نوع زيادة تحقيق للمسألة.

أقول: و الحق أن هذا أيضا في غاية الإشكال لأنه على أي شي ء تحمل تلك الأخبار الكثيرة المتعددة التي هي صريحة الدلالة، أ فهل تحمل كلها على الكذب؟

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 19 ب 25 من أبواب قصاص النفس ح 1، و في تذييلات من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 101 المذراة آلة تذري بها الحنطة و في بعض النسخ بالدال المهملة و المدراة المشط و القرن، و الثاني أنسب إذا كان بمعنى القرن انتهى.

و في روضة المتقين ج 10 ص 298: مدار أي الذي يغزل منه الصوف و

يدور باليد و هو مغزل الرجال غالبا أو مذراة بالمعجمة و هي التي لها أسنان كأسنان المشط و يحك به الظهر، لفقأت به عينك أي أعميتها بما في يدي و الضمير المذكر يؤيد النسخة الأولى انتهى.

و في الوافي ج 2 باب القصاص و الديات ص 120: المدراة بالمهملتين القرن.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 19 باب 25 من أبواب قصاص النفس ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 273

و كيف كان فقال بعد ذلك: و لكن الذي يظهر منهم هنا و هناك أنه لا فرق بين دفاع المحارب و اللص و غيرهما من الظالمين و إن اختلفت الحدود إلا أن الجميع متحدة في كيفية الدفاع الذي ذكروا فيه التدرج فلاحظ و تأمل.

ثم قال: بل قد يقال بوجوب القصاص على من قتل المحارب بعد أن كف عنه و إن كان مفسدا و من حده القتل.

يعني إنه لا يجوز الإقدام على القتل إذا لم يتوقف الدفاع عليه لوجوب التدرج في الدفاع و الأخذ بالأسهل فالأسهل فإن أمكن بالنصيحة و إلا فبالصياح و إلا فبالضرب و هكذا و على ذلك يقول القائل بأنه إذا كف المحارب فلا يجوز الاقدام على قتله فلو قتله صاحب الدار مثلا يجب الاقتصاص منه.

هذا كلام القائل المزبور. لكن لا يخفى التهافت البين بين صدر كلامه و ذيله لأنه مع تصريحه بعدم جواز قتله لأنه قد كف بل و بوجوب الاقتصاص عن قاتله، قال: و ان كان مفسدا و من حده القتل. فلو كان بعد مفسدا و من حده القتل فكيف يقاد من قاتله [1].

الا أن يقال: يشترط في جواز قتل المحارب مباشرة الحاكم أو المأذون منه.

و أجيب عنه بأن المفسد مهدور لا قصاص

له غاية الأمر أنه اثم القاتل في ترك الاستيذان من الحاكم و هو يوجب التعزير [2].

و قد أورد صاحب الجواهر على القائل المزبور بأمر آخر غير ما ذكرناه من التناقض فقال: و لكن بناءا على ما ذكرناه [3] من التخيير لم يكن القتل متعينا فلا

______________________________

[1] يمكن أن يقال: ليس مراد القائل من الكلام المزبور أنه الآن أي بعد كفه يكون مفسدا و من حده القتل حتى يورد عليه ما أورده سيدنا الأستاذ بل انه ناظر الى ما قبل الكف يعني: و ان كان قبل كفه مفسدا محاربا و من حده القتل الا أنه بعد الكف لا يجوز قتله و حيث انه قد أقدم على قتله فلذا يجب القصاص.

[2] هذا المطلب الأخير قد أخذناه من دفتر مذكراته.

[3] أقول: إذا كان هذا من كلام صاحب الجواهر فلا بد من ان يكون المراد من قوله: ذكرناه. أي تعرضنا لنقله، لا اخترناه و ذلك لأنه قدس سره قد رد القول بالتخيير.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 274

يكون مباح الدم، نعم على القول الآخر و الفرض أنه قتل يكون كذلك و إن أثم غير الحاكم بمباشرته و قد يحتمل الإطلاق.

و عبارته هنا مجملة غير خالية عن القصور في تأدية المقصود لأنه إن كان المراد أنه بناءا على ما ذكر سابقا من القول بالتخيير لم يكن قتل هذا المحارب متعينا- حيث إن التخيير يقتضي جواز الإتيان بأي واحد من أطراف التخيير- فلا يساعده قوله بعد ذلك: فلا يكون مباح الدم لأنه إذا كان قتله جائزا فلا يصح أن يقال بأنه ليس مباح الدم بل إنه حينئذ مباح الدم.

و بتعبير آخر إن مجرد عدم التعين لا يوجب عدم الإباحة

و إنما عدم الجواز يوجب عدم الإباحة فكيف يقال بأنه ليس بمتعين القتل فلا يكون مباح الدم؟

نعم لعل الظاهر ان مراده قدس سره أنه على القول بالتخيير فقد قتل صاحب الدار من كان من مجازاته الأربعة القتل و إن كان أمر قتله بيد الحاكم لكنه بالآخرة يجوز قتله فلذا لا يجوز الاقتصاص من صاحب الدار مثلا الذي أقدم على قتل المحارب المزبور بخلاف ما إذا قلنا بالقول الآخر اي التفصيل و الترتيب فإنه يقتص منه حيث إنه قد أقدم على قتل من لم يكن مستحقا للقتل أصلا [1].

______________________________

[1] أقول: الظاهر أن هذا التوجيه غير تام و ذلك لأنه لا بد و ان يكون قول سيدنا الأستاذ: بخلاف ما إذا قلنا بالقول الآخر إلخ مشيرا إلى الفرع الثاني في عبارة الجواهر و هو قوله: نعم على القول الأخر إلخ و الحال انه لا ينطبق عليه كاملا حيث إن لازم كلام سيدنا الأستاذ أنه على القول بالتفصيل فقد قتل صاحب الدار من لم يكن جزاءه القتل فيكون قتله متعينا.

و إذا كان الأمر كذلك فما معنى قول الجواهر بعد ذلك: و ان أثم غير الحاكم بمباشرته؟ اللهم الا ان يكون هذا متعلقا بالصورة الأولى.

و الذي ينبغي ان يقال هنا انه لو كان قوله: و لكن بناءا إلخ من كلام صاحب الجواهر مجيبا به القائل المزبور فمعنى الكلام أنه على القول بالتخيير فلم يقدم صاحب الدار بقتل محقون الدم بل إنه قد قتل مهدور الدم أي من كان أحد عقوباته القتل- غاية الأمر لا بد من كونه بيد الحاكم- فحينئذ لم يكن القتل متعينا على القاتل و ليس هو بمباح الدم و أما على القول بالتفصيل و الترتيب فصاحب

الدار يقتص منه مع فرض اقدامه على القتل.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 275

لكن على هذا أيضا يرد عليه أنه لا يصح تعبيره بقوله: لم يكن القتل متعينا بل اللازم ان يقال: لم يكن قتله جائزا- لأنه قد قتل من كان مباح الدم و ان كان هو آثما- و التوجيه في تعبيره بقوله: متعينا، بأن السر في ذلك أنه في قبال القائل بوجوب القصاص، و من المعلوم أن تعين القتل عين وجوب القصاص [1].

غير وجيه و لا يصلح العبارة بل تأدية المطلب كذلك يشبه الأكل من القفا.

ثم قال قدس سره: و يحتمل الإطلاق. يعني يحتمل عدم الفرق بين الصورتين أصلا [2].

ثم قال: و على كل حال فقد عرفت أن المفروض في المتن و القواعد و الإرشاد و غيرها من كتب المتأخرين اللص الذي يندرج في المحارب إلخ.

يعني إن مفروض كلامهم رضوان الله عليهم هو اللص الذي كان على خصوصيات المحارب و لذا قيدوا دخوله بالتغلب تبعا لما في النصوص مما يؤدي هذا

______________________________

و على هذا فيكون قوله: و إن أثم إلخ. متعلقا بالصورة الاولى.

و يمكن توجيه العبارة بحيث لا يرد هذا أصلا و هو أن يقال: ان قوله: و لكن بناءا إلخ ليس من صاحب الجواهر في مقام الجواب بل هو من متعلقات كلام القائل فهو قد قال بأنه لو قتله و قد كف يجب القصاص على قاتله و ان كان هذا المحارب الذي قد كف مفسدا و من جملة حدوده الأربعة القتل إلا أنه بناء على التخيير لم يكن قتل هذا المفسد متعينا لأنه ربما لا يختار الحاكم قتله بل ينفيه مثلا و على هذا فلا يكون هذا المحارب مباح الدم حتى

يجوز قتله فلذا يجب قصاص قاتله نعم على القول الآخر اي الترتيب و التفصيل و الفرض أنه قد أقدم المحارب على القتل و كان جزاءه القتل فهنا كان قتله متعينا و هو مباح الدم إلا أنه قد اثم صاحب الدار بإقدامه على قتله فان حكمه و ان كان هو القتل الا أن ذلك بيد الحاكم و بعد أن ثبت ذلك عنده، و حيث إن صاحب الدار قد أقدم عليه فلذا يكون آثما و لا يخفى ان بيان استأذنا الأعظم أيضا قد انتهى بالآخرة الى هذا.

و الإنصاف ان هذا البيان اولى من سابقه لأنه على هذا يكون قوله: و ان أثم إلخ متعلقا بالصورة الثانية الذي هو الظاهر.

[1] أوردته في يوم 15 ربيع الآخر سنة 1410 ه و قد أجاب بما في المتن.

[2] الظاهر أن المراد أنه يحتمل الإطلاق و عدم الفرق بين المبنيين فيقتص من صاحب الدار مطلقا فإنه قد أقدم على قتل من لم يكن له قتله. و كان كلام سيدنا الأستاذ مجملا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 276

المعنى فان هذا التقييد جي ء به لإفادة أن المراد من اللص هو اللص المندرج في المحارب و لو لا ذلك لما كانت لهذا القيد فائدة معتد بها بعد أن الدفاع مطلقا سواء كان في قبال المحارب أو اللص المحارب أو غير ذلك من الظالمين مقيد بالتدرج و مراعاة الأدنى فالأدنى، فإذا كان الدفاع عن اللص بالتدرج سواء كان محاربا أم لا فلا ثمرة في القيد المزبور سوى جعله بهذا القيد من مصاديق المحاربين حتى يحكم عليه بأحكام المحارب الخاصة.

و إذا كان حكم الدفاع هو التدرج فيبدأ بالأدنى و هكذا، و لو توقف الدفع على

قتل المهاجم فقتله فلا ضمان عليه [1] لأن الشارع أسقط احترام الجنايات الواردة عليه في الفرض بخلاف الجنايات الصادرة عن اللص فإنها مضمونة حتى و لو وقعت عنه بالنسبة إلى صاحب الدار مدافعة عن نفسه.

ثم أن في عبارة المحقق: فإن أدى إلى قتله إلخ اشعارا بالتدرج كما لا يخفى.

حكم الكف و الدفع

قال المحقق: و يجوز الكف عنه أما لو أراد نفس المدخول عليه فالواجب الدفع و لا يجوز الاستسلام و الحال هذه و لو عجز عن المقاومة و أمكن الهرب وجب.

أقول: أما الأول أي جواز الكف فهو بالنسبة للمال كما يظهر ذلك من الفرع التالي له لكن لا يخفى أنه لا يجب الدفع عنه و يجوز الكف عند إرادته المال إذا لم يكن المال مما يتوقف عليه حفظ نفسه أو عياله و أما إذا توقف عليه ذلك فهناك يجب الدفاع.

و يدل على جواز المدافعة و جواز تركها قوله: الناس مسلطون على أموالهم، و كذا بعض الأخبار كخبر محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: من قتل دون ماله فهو شهيد و قال: لو كنت أنا

______________________________

[1] للأصل و المرسل كالموثق أو كالصحيح و كذا خبر أيوب بن نوح فراجع و للإجماع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 277

لتركت المال و لم أقاتل «1» و خبر علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يقاتل عن ماله فقال: إن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: من قتل دون ماله فهو بمنزلة شهيد فقلنا له: أ فيقاتل أفضل؟ فقال: إن لم يقاتل فلا بأس أما أنا لو كنت لتركته و

لم أقاتل «2».

و غير خفيّ أن المراد من كونه بمنزلة الشهيد هو أنه بمنزلته في ثواب الشهيد و إلا فلا يجري عليه أحكام الشهيد.

و هل يجوز المدافعة عن المال حتى مع العلم بأنه يؤدي ذلك إلى قتله؟ الظاهر أن إطلاق الخبر يشمله فلا اختصاص بما إذا لم يكن هنا في معرض القتل.

و هل يفرق في ذلك بين مال نفسه و مال غيره الذي كان امانة عنده؟ الظاهر عدم الفرق بينهما و إن قيل بوجوب الدفع عن الأخير من باب النهي عن المنكر.

قال في الرياض عند ذكر موارد وجوب الدفاع: و كذا في الثاني- يعني الدفاع عن المال- مع الاضطرار به و التضرر بفقده ضررا يجب دفعه عقلا.

ثم قال: قيل أو كان المال لغيره أمانة في يده و ربما وجب الدفع عنه مطلقا من باب النهي عن المنكر.

و هنا قال: و هو حسن مع عدم التغرير بالنفس و إلا فلا يجب بل لا يجوز إلخ و قد أجاد فيما أفاد، فإنه يجب على من عنده و بيده الأمانة أن لا يقصر في حفظها بحيث لا يكون تلفها مستندا إليه و أما وجوب الدفاع عن اللص حفظا له و تحمل الضرر في ذلك فلا يجب ذلك- كما لم يكن واجبا بالنسبة لمال نفسه- إلا من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي يبتدأ فيه بالأدنى فالأدنى و عليه لا يجب مع خوف الضرر، كما أن الأمر هكذا بالنسبة إلى غير ذلك أيضا فإذا رأينا مالا للغير فإنه و إن كان يحرم علينا إتلافه لكنه لا يجب علينا حفظه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من الدفاع ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من الدفاع

ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 278

و أما أن من مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو القتل ففيه أن ذلك موقوف على إحراز الأهم و المهم و إلا فلا يجوز القتل لكل معصية من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل يختص ذلك بموارد خاصة، و قد حول رسول الله صلى الله عليه و آله صورة ابن عباس حينما رآه ينظر إلى امرأة و قال: رجل شاب و امرأة شابة. [1] و اقتصر على ذلك حتى إنه صلى الله عليه و آله لم يضربه على فعله.

و على الجملة فلا يجب المدافعة عن مال الغير بأزيد مما ذكرناه فلو سرق فلا شي ء علينا بعد ذلك و إنما السارق و جزاءه، و عقوبته المقررة شرعا.

و أما ما قد يقال من أن الرواية تقول: حرمة مال المسلم كحرمة دمه. ففيه أنه محمول على المبالغة و تشديد الأمر في أموال المسلمين و إلا فهل يقتل على أخذ مال الغير كما يقتل على قتل نفسه؟! و الحاصل أنه لا يجب على الإنسان تحمل الضرر لحفظ مال الغير.

نعم لو كان بحيث كان التلف مستندا إليه فلا محالة يكون ضامنا كما إذا لم يهتم بحفظه أو جعله في معرض التلف كما أنه يجب عليه النهي عن المنكر مع تحقق شرائطه.

و أما الثاني و هو ما إذا أراد اللص نفسه فهنا يجب الدفاع و لا يجوز الاستسلام لديه إذا أراد نفس المدخول عليه، و في الجواهر: أو غيره ممن في الدار ممن يضعف عنه. كما أنه أضاف بعد قول المحقق: فالواجب الدفع، قوله: مع ظن السلامة بل أو عدم العلم بالحال لإطلاق النصوص. انتهى.

______________________________

[1] قال في المبسوط

ج 4 ص 160 روى أن الخثعمية أتت رسول الله صلى الله عليه و آله في حجة الوداع تستفتيه في الحج و كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ ينظر إليها و أخذت تنظر إليه فصرف النبي صلى الله عليه و آله وجه الفضل عنها و قال: رجل شاب و امرأة شابة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 279

و يمكن أن يقال: إذا أراد نفسه يجب الدفاع و إن لم يظن بالسلامة فإذا كان هو بصدد قتله و لم تكن له قدرة المقاومة فأي تأثير لظن السلامة، و على الجملة فمفهوم كلامه أنه مع عدم الظن بالسلامة لا يدافع و الحال أنه ليس كذلك على إطلاقه بل لو علم أنه يقتل بيد هذا المهاجم و لا مفر و لا منجى منه فإنه يجب عليه المدافعة كما أنه رحمه الله قد صرح بذلك في آخر البحث.

و كيف كان فان كان عاجزا عن المقاومة فإما ان يمكنه الهرب منه أو لا فعلى الأول يجب عليه الهرب كما أنه يجب عليه غير ذلك مما فيه نجاته و يتوقف عليه حفظ نفسه. و على الثاني تجب عليه المدافعة كما قال في الجواهر: و لو لم يمكنه الهرب و لا غيره من أفراد النجاة دافع بما يمكن. انتهى. و ظاهر قوله: دافع، هو الوجوب.

لا يقال: و إن كان كذلك إلا أنه رحمه الله قال بعد ذلك: إذ هو أولى من الاستسلام المفروض عدم احتمال النجاة معه انتهى. و الأولوية لا تساعد الوجوب [1].

لأنا نقول: إنه بهذه الجملة بصدد بيان وجه تقدم الدفاع و تعينه و تقريب الوجوب

لا أن يكون المراد هو أولوية الدفاع كما لا يخفى فإن حفظ النفس واجب و إن كان ذلك بدقائق أو دقيقتين.

ثم أنه لو أمكنه أن يقاوم و يقتله و لكن يمكنه أيضا أن يفر منه، و المفروض أن اللص قد أراد نفسه فهل يقاوم و يقتله أو يهرب منه؟

ظاهر عبارة المحقق هو الأول فإنه قد علق الهرب على صورة العجز عن المقاومة لكن ظاهر كلمات العلماء و حكمهم بلزوم التدرج في الدفع يقتضي خلاف ذلك و الاحتياط في الدماء أيضا يوافقهم و على هذا فلو لم يمكنه الهرب يقتله لا أنه يهرب إن لم يمكنه القتل.

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب سيدنا الأستاذ بما قررناه في المتن و قد أيده بعض الزملاء بأنه من باب:

و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 280

المسألة الرابعة في صلب المحارب

قال المحقق: يصلب المحارب حيا على القول بالتخيير و مقتولا على القول للآخر.

أقول: ان مستند الأول هو ظاهر الآية الشريفة و كذا ظاهر بعض الروايات كخبر على بن حسان عن أبي جعفر عليه السلام قال: من حارب «الله» و أخذ المال و قتل كان عليه أن يقتل أو يصلب و من حارب فقتل و لم يأخذ المال كان عليه أن يقتل و لا يصلب. «1» إلى غير ذلك من الروايات المتضمنة للقطة «أو» الدالة على التخيير و أن الصلب قسيم للقتل.

و مستند الثاني هو بعض الأخبار كخبر المدائني عن أبي الحسن الرضا عليه السلام فان فيه: إذا حارب الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فقتل قتل به و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب. «2».

و رواية داود الطائي عن بعض أصحابنا عن أبي

عبد الله عليه السلام فان فيها:

فإذا ما هو قتل و أخذ قتل و صلب و إذا قتل و لم يأخذ قتل. «3».

و رواية الصدوق عن أبي عبد الله عليه السلام. و إذا حارب و قتل و صلب قتل و صلب. «4».

و هنا بحث و هو أنه على الأول اي على تقدير صلبه حيا فلو مات بذلك في الثلاثة فهو و أما لو مضت الثلاثة و انقضت و لم يمت بل بقي بعد حيا فما يصنع هناك؟

و قد يتوهم عدم إمكان ذلك فإن حبل الصليب اي ما يصلب عليه، إذا علق

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 11.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 6.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المحارب ح 10.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 281

على رقبة المصلوب فلا بد من خنقه و موته بذلك فلا مجال لهذا البحث أصلا حيث إنه يموت بسرعة و لا يدوم أصلا.

و فيه أنه غير صحيح أما أولا فإن التأريخ يذكر عدة ممن صلب و بقي حيا مدة على صليبه و كان يتكلم و ينطق من أعلى الصليب و منهم ميثم التمار و حجر بن عدي رضوان الله عليهما. [1] حيث كانا يتكلمان من أعلى الخشبة فأمر بإنزالهما بعد مدة و قتلهما بعد الإنزال.

و ثانيا فإن الظاهر أن الصليب كان في السابق على غير ما هو عليه اليوم و في هذه الآونة و الأعصارن فكانوا يشدون المصلوب بالخشبة بيديه مثلا و لم يكونوا يعلقونه برقبته على حبل الصليب

حتى يموت المصلوب فورا أو في مدة قليلة بالخنق بل كان يبقى بحاله إلى أن يموت جوعا و عطشا.

و كيف كان فلو بقي حيا و لم يمت حتى انقضت الثلاثة فلا تعرض في الأخبار لذلك.

نعم ورد ذلك في بعض الكلمات ففي كشف اللثام و المسالك أنه يسرع في قتله بعد ذلك قال في الأول: و إن كان لم يمت في الثلاثة أجهز عليه. انتهى.

و قال في الثاني: ثم على تقدير صلبه حيا إن مات بالصلب قبل ثلاثة أيام و إلا أجهز عليه. انتهى [2].

و المقصود من الإجهاز هو الإسراع، فيقتل حينئذ و يغسل و يدفن.

و أورد عليه في الجواهر بعدم وجدان ما يدل عليه. ثم قال قدس سره: و لعله بناءا على ما تسمعه من حرمة إبقائه بعد الثلاثة.

______________________________

[1] في إرشاد شيخنا المفيد قدس سره: فلما صلب. فجعل يحدث بفضائل بني هاشم فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد فقال: الجموه. و كان أول خلق الله ألجم في الإسلام. فلما كان اليوم الثالث من صلبه طعن ميثم بالحربة فكبر ثم انبعث في آخر النهار فمه و أنفه دما.

أقول و أما حجر بن عدي الذي ذكره سيدنا الأستاذ فلم أتحقق ذلك بالنسبة له.

[2] أقول: و مثله قال في الروضة فراجع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 282

يعني يمكن أن يكون مستندهما فيما ذكراه هو الأخبار الدالة على وجوب إنزاله عن الخشبة بعد الثلاثة و عدم جواز الإبقاء بعد ذلك.

ثم استدرك قائلًا: لكن يمكن منع انسياقه إلى الفرض المزبور.

يعني يمكن أن يقال بأنها متعلقة بغير فرضنا هذا فتكون متعرضة لحال من صلب مقتولا أو من مات في الثلاثة.

و أيد ذلك بما ذكره السيد صاحب الرياض قدس

سره من أنه يصلب المحارب حيا إلى أن يموت على القول بالتخيير و اختاره الإمام لأنه أحد أفراد الحد و قسيم للقتل و هو يقتضي كونه حيا.

فان صاحب الرياض لم يقل بالإجهاز عليه بل أفتى ببقائه على الصليب إلى أن يموت.

ثم ذكر صاحب الجواهر أنه لا تنافي بين ما ذكر و بين ما افاده المحقق في المسألة الخامسة و هي:

الخامسة في أنه لا يترك مصلوبا أكثر من ثلاثة أيام
اشارة

قال المحقق: لا يترك على خشبة أكثر من ثلاثة أيام ثم ينزل و يغسل و يكفن و يصلى عليه و يدفن.

أقول: و في المسالك: ظاهر الأصحاب أن النهي عن تركه أزيد من ثلاثة أيام على وجه التحريم. انتهى.

كما أن في كشف اللثام: و لا يترك على خشبته أكثر من ثلاثة أيام بالإجماع كما في الخلاف.

و يدل على ذلك أيضا بعض الأخبار الشريفة ففي خبر السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام صلب رجلا بالحيرة ثلاثة أيام ثم أنزله في اليوم الرابع فصلى عليه و دفنه «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 283

و عنه عن الصادق عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: لا تدعوا المصلوب بعد ثلاثة أيام حتى ينزل فيدفن «1».

و عن الفقيه قال الصادق عليه السلام: المصلوب ينزل عن الخشبة بعد ثلاثة أيام و يغسل و يدفن و لا يجوز صلبه أكثر من ثلاثة أيام «2».

و عن الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تقروا المصلوب بعد ثلاثة أيام حتى ينزل و يدفن «3».

و وجه المنافاة ان ظاهر

هذه العبارات هو تحريم كونه مصلوبا أزيد من ثلاثة أيام.

و قد ذكر صاحب الجواهر في وجه عدم المنافاة إمكان تنزيل العبائر و النصوص على غير الفرض الذي هو الصلب حيا.

و فيه أن ظاهر هذه الأخبار هو الإطلاق يعني لا يجوز إبقاء المصلوب على خشبته أزيد من ثلاثة أيام سواء كان قد صلب حيا أو ميتا و على هذا فلم يكن الأمر خاليا عن المنافاة و مقتضى الإطلاق أنه إذا مضت الثلاثة و كان بعد حيا أيضا فهناك يجهز عليه حتى يموت و يدفن فكيف نقول بعدم منافاة بين ما ذكره من إبقائه على الصليب في مفروض البحث و بين هذه العبائر و النصوص؟

فالإنصاف عدم خلوهما عن المنافاة. و مقتضى الإطلاق أنه إذا كان بعد الثلاثة أيضا حيا فهناك يجهز عليه حتى يموت و يدفن فكيف نقول بأنه يبقى على الخشبة إلى أن يموت و لو كان عشرة أيام أو أكثر من ذلك؟

فهذا ينافي الأخبار المذكورة و لا يصار إليه فيبقى ما ذكراه من وجوب الإجهاز عليه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المحارب ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المحارب ح 3.

(3) وسائل الشيعة ج 2 باب 49 من الاحتضار ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 284

و لو قيل إنه ينافي التخيير المذكور في الآية الكريمة و جعل الصلب قسيما للقتل [1] أمكن أن يقال بأنه على هذا فلا بد من أن ينزل هذا المصلوب من خشبته و يخلى سبيله لأن مفاد الآية الكريمة هو الصلب، و صريح الروايات عدم الإبقاء أكثر من ثلاثة أيام فلو لم نقل بما قالاه لم يبق طريق الا

أن يخلى سبيله حيث إنه لم يصرح في الآية بأنه يصلب حتى يموت بل المعيار هو الصلب بظاهر الآية و كونه ثلاثة أيام بصريح الأخبار و على هذا فيطلق هذا المصلوب الذي بقي حيا بعد انقضاء الثلاثة و يكفي في حده كونه مصلوبا في مدة ثلاثة أيام و لا يجوز صلبه أكثر من ذلك فإن المصلوب المذكور في رواية الفقيه الذي حكم عليه بانزاله بعد الثلاثة جنس محلى بالألف و اللام و هو يفيد العموم و خروج الفرد يحتاج إلى دليل.

و مجرد إمكان تنزيل ما في النص و الفتوى على غير الفرض لا يصلح لتخصيص العام بلا دليل عليه كما أن مجرد استبعاد البقاء حيا بعد ثلاثة أيام ليس دليلا على تنزيل الروايات على غير الفرض.

ثم إن صاحب الجواهر قدس سره استشهد على ما ذكره من التنزيل بقوله:

خصوصا بعد ما سمعته من الدفن و غيره.

و نحن نقول: إنه إذا كان هذا شاهدا على صلبه ميتا فلا يصح ذلك لأنه لو كان مصلوبا بعد الموت لكان مغتسلا قبله فقوله عليه السلام في الرواية: المصلوب ينزل عن الخشبة بعد ثلاثة أيام و يغسل و يدفن كان دليلا على صلبه حيا و أما الميت فكان تغسليه قبل موته [2].

______________________________

[1] أورده هذا العبد و أجاب سيد مشايخنا بما في المتن.

[2] كذا أفاده في دفتر مذكراته و يمكن ان يقال كما قال بعض زملائنا الأفاضل: ان المراد: خصوصا بعد ما سمعته من الدفن و غيره و عدم ذكر عن الإجهاز مع كونه أهم لأن الميت لا محالة يدفن مثلا فهذا كاشف عن أنه كان ميتا فصلب أو أنه مات بعد الصلب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 285

يعني كيف

يحمل كلام المصنف و الرواية على من صلب بعد قتله و الحال أنه في الفرض قد اغتسل قبل قتله قطعا لوجوبه عليه بلا كلام؟ و من المعلوم عدم لزوم غسلين على الميت فهذا الغسل غسل الميت الذي قد قدم.

ثم قال: و كيف كان فلا أجد خلافا بيننا في الحكم المزبور إلخ.

و مراده من الحكم المزبور هو أن لا يترك فوق الخشبة أكثر من ثلاثة أيام، فإن هذا الحكم إجماعي عند الأصحاب و ما ذكر من صاحب الرياض فهو نظير الاحتمالات في مقام البحث بعد أن المطلب إجماعي.

نعم في العامة أقوال و كلمات في هذا المقام فعن بعضهم- كابن أبي هريرة على ما في الخلاف مسألة 5- لا ينزل بعد ثلاثة أيام بل يترك حتى يسيل صديدا و عن بعض منهم يترك حتى يسيل صليبه و هو الودك لأنه لذلك سمي صليبا.

أي سمى صليبا لسيلان صليب المصلوب كما قد يحكى عن بعضهم عدم تغسيله و الصلاة عليه. و لا يصار الى تلك الأقوال بعد دلالة النصوص على غير ذلك.

المصلوب بعد القتل لا يغسل

قال المحقق: و من لا يصلب الا بعد القتل لا يفتقر إلى تغسيله لأنه يقدمه أمام القتل.

أقول: و أشكل عليه كما في الجواهر بعدم الفرق بينه و بين من أريد قتله بصلبه في التقديم المزبور بل ظاهر الأدلة الأعم و لذا كان المحكى عن جماعة الإطلاق و هو الأقوى. انتهى.

و الظاهر أن مقصود المحقق ان المحارب إن كان قتله بالصلب فإنه يحتاج إلى الغسل قبله أما إذا قتل قبل الصلب فلا يحتاج إلى غسل آخر، و بعبارة أخرى إذا كان الصلب بعد القتل لا يحتاج إلى غسلين أحدهما للقتل و الآخر للصلب بل

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 3، ص: 286

يكفيه غسله قبل القتل عنهما و ظاهر عبارة الشرائع أنه إن صلب قبل الغسل و مات بالصلب أو بعد الصلب ينزل و يغسل و إن مات بعد الغسل و القتل فلا يحتاج إلى غسل جديد للصلب.

و ظاهر كلام الجواهر أنه استفاد من كلام المصنف: من لا يصلب إلخ أن الصلب مطلقا لا يفتقر إلى الاغتسال قبله سواء صلب حيا أو ميتا فأشكل عليه بعدم الفرق بين القتل و الصلب و ظاهر الأدلة العموم.

لكن المصنف لم يفرق بين القتل و الصلب الذي به يقتل بل فرق بين الصلب قبل القتل و الصلب بعده و الفرق واضح [1].

ثم إنه قال في المسالك: أن المعتبر من الأيام، النهار دون الليل نعم تدخل الليلتان المتوسطتان تبعا.

أقول: و على هذا فلو تمت ثلاثة أيام مع مضي ليلتين لكفى ذلك و اقتصر عليه و ينزل من الخشبة و اما الليلتان المتوسطتان فهما من باب التبعية فلا دخل لليلة الثالثة في ذلك أصلا بعد تحقق ثلاثة أيام.

إلا أنه ربما يستشكل في ذلك بفعل أمير المؤمنين عليه السلام ففي خبر السكوني المنقولة آنفا أن أمير المؤمنين عليه السلام أنزل الرجل الذي صلبه بالحيرة في اليوم الرابع «1» و على هذا فكيف نقول بلزوم إنزاله عن الخشبة في الثلاثة؟

و فيه أنه لا تصريح في هذا الخبر بأنه عليه السلام صلبه في أول اليوم كي

______________________________

[1] هذا كلامه الشريف في دفتر مذكراته و حاصل الكلام أن الجواهر استفاد من عبارة الشرائع أن المصلوب يحتاج الى الغسل بعد القتل لأنه لا يؤمر بالغسل قبل الصلب. و الحال أن مراد الشرائع هو أن المصلوب يحتاج إلى الغسل قبل الصلب إلا أن يكون مقتولا

فلا حاجة الى الغسل لا قبله و لا بعده لأنه اغتسل للقتل و على هذا فلا يرد عليه الاشكال السابق.

نعم يبقى قوله قبل ذلك كما في الرواية: ينزل و يغسل إلخ و لعله يحمل على فرض الإخلال بالغسل قبله هذا مفاد كلام سيدنا الأستاذ على ما نفهم و العلم عند الله.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 287

يكون دليلا على جواز إبقاء المصلوب على خشبته أكثر من ثلاثة أيام فلعله كان قد صلبه في أثناء اليوم و كان إتمام المنكسر بضم المقدار الباقي من اليوم الرابع.

و في الجواهر: بل ينبغي القطع بها إذا توقف عليها تمام المنكسر بناءا على تلفيقه ضرورة كونها حينئذ كالمتوسطتين بل قد يحتمل ذلك في غيره أيضا بناءا على دخول الليالي في مفهومها فيعتبر حينئذ ثلاثة أيام بلياليها.

ثم قال: أجل إن الظاهر من الروايات المتقدمة هو عدم جواز إبقاء المصلوب على خشبته أكثر من ثلاثة أيام لا وجوب إبقائه ثلاثة أيام و تحتم ذلك و لا يستفاد منها ذلك أصلا و على هذا فالاحتياط يقتضي ترك إبقائه الليلة الثالثة أيضا و ذلك لدوران الأمر حينئذ بين الجائز و الحرام.

لكن فيه أن ذلك لا يتم على القول بلزوم الصلب و ذلك لدوران الأمر هناك بين المتباينين: الواجب و الحرام، و الحكم فيه هو التخيير.

ثم إن من الفروض المتعلقة بالمقام هو كون الثلاثة من يوم صلبه لا من يوم موته و حين وفاته فربما يموت في اليوم الثاني أو الثالث مثلا فلا يكون المبدأ في الثلاثة إلا يوم صلب فيه.

و منها أنه لا فرق بين الأيام الطويلة و القصيرة و

الحارة و الباردة و إن كان يتفاوت ذلك بالنسبة إلى ساعات صلبه لأنه لو كان في الأيام الطويلة لبقي على الخشبة أكثر من الأيام القصيرة و لكن المعتبر بحسب إطلاق الأدلة هو ثلاثة أيام كائنة ما كانت.

و منها أنه لو مات المحارب قبل استيفاء الحد لم يصلب لفوات محل العقوبة و إن قلنا بصلبه بعد القتل لأن المقصود الصلب بعد القتل للإعلان و الاعتبار و لا يتحقق ذلك في الصلب إذا مات حتف أنفه.

لكنه لا يخلو عن كلام و ذلك لعدم فوات محل العقوبة فإن محلها هو بدنه و إنما يتحقق الفوات إذا افتقدت جنازته و بعبارة أخرى إن محل عقوبة القتل قد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 288

انتفى بالموت لا محل عقوبة الصلب و الاعتبار يحصل بصلبه ميتا كما كان يحصل بصلبه مقتولا فهل ترى من نفسك أن الذي يدفن بعد موته كمن يصلب بعده؟

نعم لو كان الموضوع هو الصلب المتعاقب للقتل لتم ما ذكره و لكن الظاهر أنه مجعول ليكون حاله عبرة للناظرين و تنبها للباقين، و على الجملة فصلب الميت هنا نظير ما ورد من إحراق بعض الموتى.

المسألة السادسة في نفي المحارب
اشارة

قال المحقق: ينفى المحارب عن بلده و يكتب الى كل بلد يأوي إليه بالمنع من مؤاكلته و مشاربته و مجالسته و مبايعته.

أقول: قد عبّر قدّس سره كغيره من العلماء بنفيه عن بلده في حين أنّ تعبير القرآن الكريم هو النفي من الأرض. لكنّ النفي من مجموع الأرض و كلّه غير ممكن لأنّه إلى أين ينفى فهو في الأرض لا خارج عنها فلذا قد يعبّر بأنّه ينفى من بلده الى بلد آخر و هكذا، و على هذا فالنفي عن الأرض كناية عن

عدم تمكينه في استقراره في مكان، و حيث إنه دائما في حال الانتقال و لا يزال ينقل من بلد إلى بلد و لا يخلّى سبيله كي يستقرّ في مكان و على ارض فهو في معنى النفي عن الأرض مطلقا.

بيان ذلك أنّه إذا كان النفي هو الإبعاد من الأرض و كان لا يمكن ذلك أي ابعاده من الأرض جملة و بكلّها فلا بدّ من ان يفعل من ذلك ما يقدر عليه و بحسب الطاقة و الإمكان.

و قد فسّر بعض العامّة النفي عن الأرض بالحبس [1] لإطلاق الخروج عن الدنيا

______________________________

[1] المقرّر: و في الرياض بعد ذكر المعنى الأول: و في رواية أن معناه إيداعه الحبس كما عليه بعض العامة و ادعى عليه الإجماع في الغنية لكن على التخيير بينه و بين المعنى المتقدم انتهى. و قال الشهيد في غاية المراد: و قال بعض الجمهور هو الحبس، قال صالح بن عبد القدّوس و قد حبس على التهم:

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 289

على الحبس مجازا فقد أريد من نفيه عن الأرض سلب حريّته فان المسجون لا ينتفع بشي ء من طيّبات الدنيا.

و هنا قول ثالث و هو أنه يحمل و يقذف في البحر قال الشيخ الصدوق قدس سرّه: و ينبغي ان يكون نفيا يشبه الصلب و القتل يثقل رجليه و يرمى في البحر انتهى كلامه «1».

و هذا الطريق و التفسير للنفي خلاف المشهور و ان كان يدلّ عليه بعض الروايات كما ستقف على ذلك [1].

و اللازم هو المراجعة إلى الروايات و التأمل فيها حتّى يعلم ما هو المستفاد منها:

عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ و جلّ إنّما جزاء

الذين يحاربون الله و رسوله الآية قال: لا يبايع و لا يؤوى (و لا يطعم) و لا يتصدّق عليه «2».

و عن عبيد الله المدائني عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في حديث المحارب قال: قلت كيف ينفى؟ و ما حدّ نفيه؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه الى مصر غيره و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفي فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟

قال إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها «3».______________________________

خرجنا من الدنيا و نحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى

إذا جاءنا السجّان يوما بحاجة لقلنا جاء هذا من الدنيا

و يضعف بأنه خلاف الظاهر.

[1] و ستطلع على أقوال أخر كقول الشيخ في المبسوط فانتظر.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه نشر الجامعة ج 4 ص 68.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 290

و عن إسحاق المدائني عن ابي الحسن عليه السلام نحوه إلا أنّه قال: فقال: له الرجل: فإن أتى أرض الشرك فدخلها؟ قال: يضرب عنقه إن أراد الدخول في أرض الشرك «1».

و عن عبيد الله بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام مثله الا أنه قال في آخره:

لفعل به سنة فإنّه سيتوب و هو صاغر، فإن أمّ أرض الشرك يدخلها؟ قال: يقتل «2» و عن عبد الله بن طلحة عن

أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز و جل: إنّما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا، الآية: هذا نفى المحارب غير هذا النفي قال: يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل و ينفى و يحمل في البحر ثم يقذف به لو كان النفي من بلد إلى بلد كان يكون إخراجه من بلد الى بلد عدل القتل و الصلب و القطع و لكن يكون حدّا يوافق القطع و الصلب «3».

و عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا نفى أحدا من أهل الإسلام نفاه إلى أقرب بلد من أهل الشرك إلى الإسلام فنظر في ذلك فكانت الديلم أقرب أهل الشرك إلى الإسلام «4».

و عن أبي بصير قال: سألته عن الإنفاء من الأرض كيف هو؟ قال: ينفى من بلاد الإسلام كلّها فإن قدر عليه في شي ء من أرض الإسلام قتل و لا أمان له حتّى يلحق بأرض الشرك «5».

قال الشيخ المحدث العاملي: هذا و الذي قبله لا تصريح فيهما بنفي المحارب فلعلّ المراد نفي غيره و يمكن الجمع بتخيير الإمام في كيفيّة النفي و بالحمل على التقسيم بأن يكون كلّ نفى موافقا للحدّ الخاصّ بتلك الحالة و هذا أقرب انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 5.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 6.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حدّ المحارب ح 7.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 3، ص: 291

لكن يشكل ما ذكره من عدم التصريح فيهما بنفي المحارب و ذلك لأنّ الظاهر أنّه متعلّق به.

ثم ان مقتضى رواية المدائني عن الرضا انّه يكتب الى أهل المصر الذي نفي اليه ان يجتنبوا عن مجالسته و مبايعته و مناكحته و المؤاكلة معه إلى سنة كما انّ المصرّح به فيها أنّه إن توجّه إلى أرض الشرك قوتل أهلها. و لعلّ ذلك لأنّ من آوى الذي حارب أمّة الإسلام فهو أيضا يحاربهم.

و رواية عبد الله بن طلحة هي التي تدلّ على قذفه في البحر، نعم مقتضاها أنّه يعاقب و ينفى أوّلا ثم يقذف به في البحر.

و أمّا رواية بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام فهي تدلّ على النفي إلى أقرب بلد من أهل الشرك إلى الإسلام.

و لعلّ وجه عمله عليه السلام على ما تقتضيه هذه الرواية هو أن ينفى إلى بلد من الإسلام كان أهلها أبعد من الحضارة الإسلامية و العواطف الإنسانية و صفاء الأخلاق و الرفق و لين العريكة.

ثم إنّ ما ذكره المحقّق قدّس سرّه ربّما يوافق رواية المدائني نعم فيها التصريح بأنه يفعل به ذلك سنة كما أنّ ذلك مذكور في بعض الروايات الأخرى أيضا، و الأكثر لم يقيّدوه بالسنة بل لم يحك ذلك الا عن ابن سعيد [1].

و في الجواهر بعد ذكر ذلك قال: كما لم يحك العمل بما في حسن، جميل.

إلّا عن الصدوق في المقنع.

و حسن جميل هذا: عن جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ و جلّ: إنّما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم، إلى آخر الآية،

أيّ شي ء عليه من هذه

______________________________

[1] قال في الجامع ص 241 كتاب الجهاد: فإن أخاف و لم يجن نفى من الأرض بأن يغرق على قول أو يحبس على آخر أو ينفى من بلاد الإسلام سنة حتى يتوب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 292

الحدود التي سمّى الله عزّ و جلّ؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع و إن شاء نفى و إن شاء صلب، و إن شاء قتل، قلت: النفي إلى أين؟ قال: من مصر إلى مصر آخر. و قال: إنّ عليّا عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة «1».

و في المقنع ص 152: و سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ و جلّ:

إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. قال: ذلك إلى الإمام ان شاء قتل و ان شاء صلب و ان شاء نفى قال: النفي إلى أين؟ قال من مصر الى مصر غيره فإنّ عليا عليه السلام نفي رجلين من الكوفة إلى البصرة. انتهى.

فقد صرح بأن النفي هو نفيه من مصر الى غيره.

و لكن في الهداية ص 77: و المحارب يقتل أو يصلب أو يقطع يده و رجله من خلاف أو ينفى من الأرض كما قال الله عزّ و جلّ، و ذلك مفوّض الى الإمام إن شاء صلب و ان شاء قطع يده و رجله من خلاف و ان شاء نفاه من الأرض. انتهى.

فاقتصر هنا على ما هو ظاهر الآية الكريمة و لم يتعرّض لبيان كيفيّة النفي من الأرض.

ثم إنّ في وجه تعرّض صاحب الجواهر لحسن جميل

نوع إجمال فيمكن أن يكون نظره في ذلك اختصاص النفي من مصر إلى مصر المذكور في هذا الخبر و عن فعل أمير المؤمنين عليه السلام فيكون مقصوده قدّس سرّه أنّه لم يحكم العمل بهذه الخصوصية أي كون النفي من المصر الى المصر الا عن الصدوق في المقنع و يمكن ان يكون نظره الى ما اقتصر عليه في حسن جميل من نفيه من المكان الأوّل إلى الثاني في قبال ما ذكر من نفيه عن بلده إلى آخر ثم الى الثالث و هكذا [1].

______________________________

[1] أقول: لعل الظاهر هو الثاني كما يشهد بذلك قوله بعد ذلك: بل قيل هو لا ينافي ما في

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حدّ المحارب ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 293

و أمّا ما ذكره الصدوق قدّس سرّه في الفقيه من تثقيله و قذفه في البحر فلعلّه لخبر عبد الله بن طلحة المذكورة آنفا.

و امّا قوله عليه السلام في هذا الخبر: يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل، فالظاهر أنّ معناه: انّه لو كان هذا المحارب قد ارتكب القتل مثلا فعلى الحاكم أن يقتله طبقا لعمله و لكن لو كان محاربا لم يصدر منه سوى الإخافة و الخروج شاهرا فهناك ينفى بقذفه في البحر، و لكنّ الرواية غير معمول بها الا عن الصدوق رضوان الله عليه.

قال في الجواهر: و لم نعرفه قولا لغيره نعم عن الجامع نفى من الأرض بأن يغرق على قول أو يحبس على آخر أو ينفى من بلاد الإسلام سنة إلخ قال: و لعلّه للعامة.

ثم تعرّض قدّس سرّه لنقل كلام عن الشيخ في المبسوط و حيث إنّه لا يخلو عن فائدة فلذا نحن أيضا ننقله

من المبسوط قال بعد أن عنوان كتاب قطّاع الطريق و افتتح بذكر الآية الكريمة (إنّما جزاء الذين يحاربون الله): و اختلف الناس في المراد بهذه الآية فقال قوم: المراد بها أهل الذمّة إذا نقضوا العهد و لحقوا بدار الحرب و حاربوا المسلمين فهؤلاء المحاربون الذين ذكرهم اللّه في هذه الآية

______________________________

غيره من النفي من كل مصر يقصده إلى آخر و هكذا انتهى. و قد ذكرت ذلك في مجلس الدرس يوم السبت ثالث ج 1- 1410 ه.

ثم ان في هذه الرواية مطالب أخر منها ما تعرض في مرآة العقول ج 23 ص 385 بقوله: (لو كان النفي) لعل هذا استفهام إنكاري لو كان مجرد الإخراج من بلد إلى آخر كيف يكون معادلا للقتل و الصلب بل لا بدّ أن يكون على هذا الوجه المتضمّن للقتل حتى يكون معادلا لهما و لم يقل بهما أحد من الأصحاب سوى ما يظهر عن كلام الصدوق في الفقيه حيث قال: و ينبغي أن يكون نفيا يشبه الصلب و القتل يثقل رجليه و يرمى به في البحر انتهى.

و قد صرّح العلّامة المجلسي بضعف هذا الخبر. و منها قوله: هذا نفي المحارب إلخ و يظهر منه أن النفي جار في غير مورد المحارب أيضا و هو كذلك فإن الزاني ممّن ينفى. راجع 18 وسائل الشيعة باب 24 من أبواب حدّ الزنا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 294

و حكمهم فيما ارتكبوه من المعصية هذه العقوبة التي ذكرها الله. و قال قوم: المراد بها المرتدّون عن الإسلام إذا ظفر بهم الإمام عاقبهم بهذه العقوبة لأنّ الآية نزلت في العرينيّين لأنّهم دخلوا المدينة فاستوخموها فانتفخت أجوافهم و اصفرّت ألوانهم فأمرهم النبيّ عليه و

آله السلام أن يخرجوا إلى لقاح إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها و أبوالها ففعلوا ذلك فصحّوا فقتلوا الراعي و ارتدوا و استاقوا الإبل فبعث النبيّ عليه و آله السلام في طلبهم فأخذهم و قطع أيديهم و أرجلهم و سمل أعينهم و طرح في الحرّة حتّى ماتوا فالآية نزلت فيهم. و قال جميع الفقهاء: إنّ المراد بها قطّاع الطريق و هو من شهر السلاح و أخاف السبيل لقطع الطريق.

و الذي رواه أصحابنا: أنّ المراد بها كلّ من شهر السلاح و أخاف الناس في برّ أو في بحر و في البنيان أو في الصحراء و رووا أنّ اللّص أيضا محارب و في بعض رواياتنا أنّ المراد بها قطّاع الطريق كما قال الفقهاء.

فمن قال: المراد بها قطّاع الطريق اختلفوا في أحكامهم و كيفيّة عقوبتهم فقال قوم: إذا شهر السلاح و أخاف السبيل لقطع الطريق كان حكمه متى ظفر به الإمام التغريب و هو أن ينفى من بلده و يحبس في غيره و فيهم من قال: يحبس في غيره و هذا مذهبنا غير أنّ أصحابنا رووا أنّه لا يقرّ في بلده و ينفى عن بلاد الإسلام كلّها فإن قصد بلاد الشرك قيل لهم: لا تمكّنوه، فان مكّنوه قوتلوا عليه حتّى يستوحش فيتوب.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 294

و ان قتلوا و لم يأخذوا المال قتلوا و القتل يتحتّم عليهم و لا يجوز العفو عنهم و إنّما يكون منحتما إذا كان قصده من القتل أخذ المال و أمّا إن قتل رجلا لغير هذا فالقود واجب غير منحتم

و إن قتل و أخذ المال قتل و صلب، و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف فمتى ارتكبوا شيئا من هذا نفوا من الأرض.

و نفيهم ان يتبعهم أينما حلّوا كان في طلبهم فإذا قدر عليهم أقام عليهم الحدود الّتي ذكرناها و قال قوم: الإمام مخيّر فيه بين أربعة أشياء أن يقطع يده و رجله من

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 295

خلاف و يقتل، أو يقطع من خلاف و يصلب و إن شاء قتل و لم يقطع و إن شاء صلب و لم يقطع، و الأوّل مذهبنا.

الى أن قال: و أمّا قوله أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ معناه إذا وقع منهم في المحاربة ما يوجب شيئا من هذه العقوبات يتبعهم الإمام أبدا حتّى يحدّه و لا يدعه يقرّ في مكان، هذا هو النفي من الأرض عندنا، و عند قوم: المنفي من قدر عليه بعد أن يشهر السلاح و قبل ان يعمل شيئا و النفي عنده الحبس، و الأوّل مذهبنا انتهى. «1»

أقول: فالنفي على ما ذكره الشيخ قدّس سرّه شي ء آخر غير النفي المعروف و ما هو المعهود.

و لا يخفى عليك أنّ هذه المسألة من مشكلات المسائل و ذلك لكثرة تضارب الأخبار و الأقوال، و الجمع بين ظاهر الآية الكريمة و هذه الروايات أمر مشكل كما ان الجمع بينها و بين الكلمات أيضا مشكل بل أصل مسألة المحارب من المشكلات كما صرّح بذلك بعضهم. فترى المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد بعد تحقيقات له حول كلام العلّامة قال:

و اعلم أنّ تحقيق هذه المسألة مشكل للخلاف فيها و اختلاف الروايات و الآيات بحيث لا يمكن الجمع مع اعتبار سند

في البعض، و لكن لمّا كان الأمر إلى الإمام كما يظهر في الرواية فلا يضرّ إشكاله علينا غاية الأمر أنّه يلزم جهلنا بها، و المجهولات كثيرة فتأمّل انتهى.

و هو قدّس سرّه قد استراح عن هذه المشكلة بكون الأمر موكولا إلى الإمام فإنّ مذهبه أنّ الحدود لا يباشرها و لا يتصدّيها غير الإمام فلا تقام في زمن الغيبة.

لكن ذلك لا ينفع القائل بجريان الحدود حتّى في عصر الغيبة فإنّه يجب إقامتها على العلماء الأعلام، و نوّاب الحجّة عليه السلام، فإنّه على ذلك لا بدّ من تعيين الوظيفة.

______________________________

(1) المبسوط ج 8 ص 47.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 296

و حيث إنّ وضع المسألة على هذا المنوال فلا بدّ من التأمّل التامّ فيها كما و أنّه لا بدّ من ارتكاب نوع من المسامحات في بعض الموارد و إلّا فلا يكاد تلتئم الأدلّة و الأقوال.

و نحن نقول هنا: انّهم اختلفوا في معنى النفي عن البلد على أقوال بعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي منه لعدم إمكان نفيه من مطلق وجه الأرض.

أحدها: إنّ المراد منه منعه من الاستقرار في نقطة و بقعة من الأرض و هذا هو الظاهر من عبارة الشرائع كما و انّه يستفاد من بعض الأخبار بل المستفاد منها أنّ لا يؤوى في مكان حتّى في بلاد الشرك فلا يدعونه ينزل بها فالمحارب لا بدّ من ان يكون مطرودا لا يأويه مكان و تضيق به الأرض برحبها إلى أن يموت، و لذا لو آواه المشركون يجب مقاتلتهم على ذلك.

و أمّا الكتابة إلى كلّ بلد يأوي إليه بالمنع عن مؤاكلته و مشاربته و غير ذلك فالظاهر أنّ المراد منه هو التضييق عليه في هذه الأمور كي لا

يكون في رفاهية و راحة و إلا فلو كان المراد هو المنع المطلق فإنه لا يدوم و لا يلبث و لا يعيش الا قليلا و كان يموت بمضيّ يومين أو ثلاثة أيّام مثلا و في الحقيقة كان هذا نوعا من أنواع القتل.

ثانيها: أنّ المراد نفيه من أرض الإسلام. و هذا و إن كان بحسب الثبوت ممكنا بل و ربّما تدل عليه رواية أبي بصير (ب 4 ح 7) حيث ورد فيها: و لا أمان له حتّى يلحق بأرض الشرك إلا أنه خلاف المساق من الآية الكريمة و الروايات فإنّها في مقام بيان العقوبة و من المعلوم أنّ كثيرا ما يعاون المشركون المحاربين و يؤونهم و يهيّئون لهم ما فيه غضارة عيشهم و أنواع ما يقتضي رفاه حالهم فتكون تلك البلاد كهفا و مقرا للمحاربين يستقرّون فيها في أحسن الأحوال و أتمّ العيش و يثيرون فيها الفساد و يعارضون الإسلام و المسلمين بما لا يتيسّر أدناه في دار الإسلام، و على الجملة فهذا لا يناسب مساق الآية الكريمة و لا الروايات خصوصا

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 297

بلحاظ ما ورد في بعضها كخبر إسحاق المدائني (ب 4 ح 3) من أنّه إن أراد الدخول في أرض الشرك يضرب عنقه.

هذا مضافا إلى كون ذلك خلاف الفتوى. فهذا القول لا يمكن الأخذ به.

ثالثها: المراد منه إلقائه في البحر و قد دلّت عليه خبر عبد الله بن طلحة (ب 4 ح 5) لكنّها لم يعمل بها سوى الصدوق في الفقيه، و لم يوجد بها قائل سواه. نعم قد قال به ابن سعيد مخيّرا بين الغرق على قول و بين الحبس على قول آخر و بين نفيه من

بلاد الإسلام سنة. و على هذا فلا يصار إليه أيضا [و قال الشهيد في غاية المراد بعد نقل رواية طلحة بن عبد الله: و هذا ضعيف لشذوذه انتهى].

رابعها: ان يكون المراد حبسه و قد مرّ انّه قول بعض العامّة و إن ورد في بعض أخبارنا أيضا.

خامسها: انّ المراد بنفيه نفيه من بلده الى بلد آخر حتّى لا يكون في بلده.

أقول: و هذا لا ينافي القول الأوّل أي نفيه من الأوّل إلى الثاني و منه الى الثالث و منه الى الرابع، فان قوله عليه السلام في حسن جميل: النفي إلى أين؟ قال: من مصر إلى مصر آخر، يلائم دوام نفيه الى البلدان و لا ينافيه.

لا يقال: إنّ ذيل الخبر ينافيه و ذلك لأنّه عليه السلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام نفي رجلين من الكوفة إلى البصرة، حيث اقتصر على ذكر البلدتين أي نفيه عليه السلام لهما من الكوفة إلى البصرة [1].

لأنّا نقول: هذا أيضا لا ينافيه و ذلك لأنّه ربما اقتصر على ذكر هاتين و سكت عما عداهما و ما بعدهما و لعلّه كان عليه السلام قد نفاهما بعد ذلك من البصرة الى بلدة اخرى و لم يذكر ذلك في كلام الامام الصادق عليه السلام.

______________________________

[1] أورده هذا العبد يوم 4 من ج 1 سنة 1410 ه و قد أجاب دام ظله بما قرّرناه و ذكرناه لكنه بعد لا يخلو عن كلام و ذلك لأن الإمام الصادق عليه السلام كان في مقام البيان كما يستفاد ذلك من صدر الخبر فكيف اقتصر على ذكر نفيهما من الكوفة إلى البصرة و الحال هذه؟.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 298

ثمّ إنّه قد يقال بأن النفي واجب إلى

أن يتوب لا دائما إلى أن يموت و يدلّ على ذلك بعض الأخبار كخبر عبيد الله بن إسحاق (ح 4) إلا أنّ ذلك مخالف لظاهر الآية الكريمة حيث قال اللّه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فان الظاهر منها أنّ التوبة النافعة هي ما إذا كانت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فالملاك بظاهرها هو التوبة قبل القدرة على المحارب دون بعدها.

و قد يقال بأنّ مقتضى الجمع بين الآية الكريمة و ما حكى من العلماء بل و إنّه مذهب الإمامية كما في مجمع البيان [1] من كون الحكم محدودا و مغيى بالتوبة

______________________________

[1] قال في مجمع البيان ج 2 ص 188 بعد ذكر قوله تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، قيل فيه أقوال، و الذي يذهب إليه أصحابنا الإمامية أن ينفى من بلد الى بلد حتى يتوب و يرجع و به قال ابن عباس و الحسن و السدّي و سعيد بن جبير و غيرهم و إليه ذهب الشافعي إلخ.

و انا انقل هنا كلام جمع من العلماء الأكابر الدال على انتهاء الحكم بالتوبة:

قال الشيخ في التبيان ج 3 ص 504: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، في معناه ثلاثة أقوال أحدها انه يخرج من بلاد الإسلام ينفى من بلد الى بلد إلى أن يتوب و يرجع و هو الذي نذهب اليه و قال في الخلاف ص 170 مسألة 3: قد بيّنا أن نفيه عن الأرض أن يخرج من بلده و لا يترك ان يستقرّ في بلد حتى يتوب فإن قصد بلاد الشرك منع من دخوله. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و قال في النهاية ص 730: بعد ذكر نفيه من بلد إلى بلد و

هكذا و التضييق عليه: فلا يزال يفعل به ذلك حتى يتوب.

و قال المفيد في المقنعة ص 129: و ان شاء نفاهم عن المصر إلى غيره و وكل بهم من ينفيهم عنه إلى ما سواه حتى لا يستقرّ بهم مكان إلا و هم منفيّون عنه مبعدون إلى أن تظهر منهم التوبة و الصلاح.

و قال ابن البرّاج في المهذّب ص 553 بعد ذكر التضييقات: و لا يزال يفعل به ما ذكرناه إلى أن يتوب.

و قال ابن حمزة في الوسيلة ص 206:. و ان لم يجن و أخاف نفى عن البلد و على هذا حتى يتوب.

و قال المحقق في النافع: و ينفى المحارب عن بلده و يكتب بالمنع عن مؤاكلته و مجالسته و معاملته حتى يتوب.

و قال ابن سعيد في جامعه ص 241: فإن أخاف و لم يجن نفى من الأرض. أو ينفى من بلاد الإسلام سنة حتى يتوب. و قد مرّ تمام كلامه في المتن.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 299

هو أنّ التوبة قبل القدرة عليه دافعة للحكم و بعد القدرة عليه في خصوص مورد النفي يكون دافعة.

______________________________

و قال العلامة في القواعد: فلا يباع و لا يعامل و يمنع من مؤاكلته و مشاربته و مجالسته الى أن يتوب انتهى.

و في كشف اللثام بعد ذلك: كذا أطلقه أكثر الأصحاب.

و قال في التحرير ص 233: ينفى المحارب عن بلده و عن كل بلد يقصده و يكتب الى كل بلد يدخله بالمنع من معاملته. إلى أن يتوب.

و قال في التبصرة ص 115: و إذا نفى كتب الى كل بلد بالمنع من معاملته. إلى أن يتوب.

و قال في الدروس ج 2 ص 60: و النفي و يكاتب البلدان التي

يقصدها بالمنع من مؤاكلته و مجالسته إلى أن يتوب.

و في اللمعتين ص 363: و ينفى على تقدير اختيار نفيه أو وجود مرتبته عن بلده الذي هو بها إلى غيرها و يكتب إلى كلّ بلد يصل إليه بالمنع من مجالسته و مؤاكلته و مبايعته و غيرها من المعاملات إلى أن يتوب فإن لم يتب استمرّ النفي الى أن يموت.

و في المسالك: و ظاهر المصنف و الأكثر عدم تحديده بمدّة بل ينفى دائما إلى أن يتوب و قد تقدّم في الرواية كونه سنة و حملت على التوبة في الأثناء و هو بعيد.

و في كشف الغطاء ص 419: رابعها النفي من محله إلى محل آخر و يكاتب أهل المحال بالنهي عن معاملته و مؤاكلته و مجالسته و مخالطته إن لم يتب فان تاب ارتفع الحرج عنه و مع عدم التوبة و العود يكون الخيار بين الثلاثة الباقية.

و قال الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان:. و بين النفي عن بلده الذي حارب فيه ثم يكتب إلى كل بلد يقصده ان يمنعه أهله من مؤاكلته و مشاربته و معاملته و مصاحبته إلى أن يتوب، و في الرواية إلى سنة حملت على التوبة و إلا فإلى أن يتوب لظاهر الآية لعموم النفي قيد بعدم التوبة لبعض الأخبار كأنه الإجماع أيضا. انتهى.

و في الرياض ص 502 بعد كلام النافع المذكور آنفا: فإن لم يتب استمرّ النفي إلى أن يموت.

و مع ذلك كله قال في مباني التكملة ص 324: ثم ان صريح المحقق في النافع و الشهيد الثاني في الروضة تقييد زمان النفي بعدم التوبة فإذا تاب يسقط حكم النفي فيسمح له بالاستقرار في أي مكان شاء و هذا مما لا نعرف له

وجها ظاهرا و مقتضى إطلاق الدليل من الآية و غيرها أن التوبة بعد الظفر به لا أثر لها فيبقى منفيا حتى يموت. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 300

و فيه أنّه و ان قال بانقطاع الحكم بعد التوبة في باب النفي جمع من العلماء و قد دلّ عليه بعض الأخبار أيضا و كونها رافعة و دافعة بالنسبة إلى المقامين إلّا أنّ رفع اليد عن ظاهر الآية الكريمة مشكل، و تخصيص الآيات و إن كان ممكنا إلا أنّ الآية الكريمة لعلّها تكون آبية عن التخصيص و ان كان ذهاب جمع من العلماء الأعلام الى انقطاع الحكم بالتوبة ربّما يشكل ما ذكرناه.

لو قصد بلاد الشرك

قال المحقق: و لو قصد بلاد الشرك منع منها و لو مكّنوه من دخولها قوتلوا حتّى يخرجوه.

أقول: و يدلّ على ذلك رواية المدائني.

السابعة لا يعتبر هنا أخذ النصاب
اشارة

قال المحقّق: لا يعتبر في قطع المحارب أخذ النصاب و في الخلاف يعتبر و لا انتزاعه من حرز و على ما قلناه من التخيير فلا فائدة في هذا البحث و لأنّه يجوز قطعه و إن لم يأخذ مالا.

أقول: إنّ من جملة العقوبات المقرّرة للمحاربة هو قطع الأيدي و الأرجل من خلاف و حيث انّ القطع كذلك من باب المحاربة فلا يعتبر فيه أخذ النصاب و إن قيل بالتفصيل و ترتّب القطع على أخذ المال، خلافا لشيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف فاعتبر ذلك [1].

______________________________

[1] قال في المسألة 7 من كتاب قطاع الطريق: قد قلنا أن المحارب إذا أخذ المال قطع و لا يجب قطعه حتى يأخذ نصابا يجب فيه القطع في السرقة و للشافعي فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه و عليه عامة أصحابه و قال بعضهم يقطع في قليل المال و كثيره و هو قوي أيضا لأن الأخبار وردت أنه إذا أخذ المال وجب قطعه و لم يقيدوا فوجب حملها على عمومها، دليلنا أن ما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به و ما قالوه ليس عليه دليل، و أيضا قوله عليه السلام: القطع في ربع دينار. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 301

و لكن إطلاق الأدلّة يقتضي الأوّل و ليس الحكم هنا دائرا مدار عنوان السرقة حتى يتوقّف على تحقّق أخذ النصاب بل المدار هنا عنوان المحاربة. كما أنّه لا يعتبر في القتل هنا المكافئة مع اعتبارها في باب القتل و القصاص فلا يقتل الأب بالإبن و لا المسلم

بالكافر هناك و فيما نحن فيه يقتل المحارب مطلقا و إن لم تتحقق المكافئة و الموافقة. و لا يعتبر هنا الأخذ من الحرز لعين ما ذكرناه من انّ القطع هنا ليس من باب السرقة حتّى يعتبر شرائطها كما أنّ القطع هنا ليس مثل القطع في باب سرقة الأموال بل إنّه تقطع يده اليمنى و رجله اليسرى فالقطع هنا يتعلّق باليد و الرجل من خلاف من أوّل الأمر بخلاف باب السرقة فإنّه يؤتى بذلك.

ثم لا يخفى أنّ هذا البحث جار على القول بالترتيب و التفصيل حيث إنّه لا بدّ عليه في القطع من أخذ المال فيجري البحث في أنّه هل يعتبر الأخذ بمقدار النصاب كما اعتبره الشيخ أم لا كما يقوله الآخرون، و أمّا على القول بالتخيير فلا مجال و لا مورد لهذا البحث أصلا و ذلك لأنّ للحاكم على ذلك ان يقطع و ان لم يكن قد أخذ مالا أصلا فضلا عن كونه بمقدار النصاب أم لا.

و المستند هو إطلاق الآية الكريمة و الروايات الشريفة فإنّ على القول بالتخيير يكون مقتضى الآية مثلا ترتّب هذه الأحكام الأربعة التي منها القطع على مجرّد المحاربة بلا اعتبار أخذ المال و كذلك الروايات الدّالة على التخيير كما أنّه على القول بالترتيب و التفصيل يقال بأنّ الآية ساكتة عن ذكر المال فتبقى الروايات المفصّلة المتعرّضة لذلك بلا تعرّض للنصاب أصلا.

ففي صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: و من شهر السلاح في مصر من الأمصار و ضرب و عقر و أخذ المال و لم يقتل فهو محارب فجزاؤه جزاء المحارب. «1»

و في خبر عليّ بن حسّان عن أبي جعفر عليه السلام قال: من حارب اللّه و أخذ المال

و قتل كان عليه أن يقتل أو يصلب. «2» إلى غير ذلك من الروايات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حدّ المحارب ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حدّ المحارب ح 11.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 302

في كيفية القطع

قال المحقّق: و كيفية قطعه أن تقطع يمناه ثمّ تحسم ثم تقطع رجله اليسرى و تحسم و لو لم تحسم في الموضعين جاز.

أقول: أما قطع يده اليمنى و رجله اليسرى فهذا هو القطع من خلاف المصرّح به في الكتاب و تجري فيه العلّة المذكورة في قطع اليمنى أوّلا في السرقة و الرجل اليسرى بالسرقة الثانية و هي أنّه لو كان يقطع يده اليمنى و رجله اليمنى لما اعتدل و قام بل سقط على جانبه الأيسر بخلاف ما إذا قطعت اليمنى من يديه و الأيسر من رجليه فإنّه اعتدل و استوى قائماً «1».

و امّا الحسم و هو الكيّ ليقطع دمه فإذا قطع يده حسمه ثم قطع رجله و حسمه.

لكن ذلك ليس بواجب بل جاز تركه في الموضعين لعدم الدليل على ذلك و إن ورد في باب السرقة.

إن قلت: كيف لا يجب ذلك و الحال أنّه يموت بتركه و لم يكن المراد من ذلك قتله فإنّ القطع في قبال القتل و الصلب [1].

نقول: لا بأس بذلك و إن ادّى إلى قتله فكأنّه من أنواع القتل و أقسامه كالصلب. هذا مضافا الى عدم المنع من الحسم من ناحيته فإنّه إن أراد ان يعالج ذلك بنفسه مثلا و يحسم موضع القطع من يده و رجله فلا يمنع من ذلك.

إن قلت: لا خصوصيّة لباب السرقة و قد ورد هناك أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه

السلام بعد أن قطع أيدي سرّاق قال: يا قنبر ضمّهم إليك فداو كلومهم و أحسن القيام عليهم [2].

______________________________

[1] أورده هذا العبد في مجلس الدرس و أجاب سيّدنا الأستاذ بما قررناه في المتن.

[2] وسائل الشيعة ج 18 باب 30 من السرقة ح 3 و قد أورده أيضا هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حدّ السرقة ح 8.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 303

نقول: فرق بين السارق و المحارب فربّما قطع الله سبحانه لطفه عن المحارب رأسا فلا يبالي بكلومه و جراحاته و لا يعتنى بذلك و إن أدّى ذلك إلى قتله [1].

ثمّ إنّه لا تعرّض في الأدلّة هنا بالنسبة إلى موضع القطع من اليد أو الرجل فقد أهمل ذكر أنّه تقطع اليد من أيّ موضع منها و هكذا بالنسبة للرّجل.

و لكنّ الظاهر هو أنّه لا فرق بين المحارب و السارق من هذه الجهة فتقطع يده و رجله على ما تقدّم في باب السرقة [2].

كما أنّه بعد ثبوت كون القطع من خلاف بصريح الآية الكريمة و الروايات الشريفة فحينئذ يبحث في أنّ القطع من خلاف لا يختصّ بالطريق المألوف من قطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى فكيف لا يكون بعكس ذلك بان تقطع يده اليسرى و رجله الأيمن فإنّ القطع من الخلاف يتحقّق بكلتا الصورتين.

و حلّ ذلك أنه و ان لم يكن في الأدلّة ما يدلّ على شي ء هنا و ذلك لسكوت الآية و الروايات عن ذلك و إهمالهما بالنسبة إليه إلا أنّه يستفاد ذلك من أخبار باب السرقة فراجع «1».

و أمّا من حيث البدأة باليد أو الرجل عند اجراء هذا الحدّ فيمكن استفادة ذلك من نفس الآية الكريمة و ذلك

لأنّ مقتضى قوله تعالى: أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، و تقديم الأيدي على الأرجل هو البدءة بقطع اليد و إن لم يكن العاطف فاءا أو ثمّ، الدّالتين على الترتيب لكن الظاهر عند لزوم الإتيان لهذين

______________________________

[1] أقول: و هل هذا إلا مجرّد الإمكان و الاحتمال؟ فكيف يجاب بذلك عما نعلم من عدم ارادة قتله حينما يؤخذ بالقطع.

[2] أقول: قد صرح بذلك بعض الأساطين في كشف الغطاء ص 419 قال: ثالثها القطع من خلاف يد اليمنى من أصول الأصابع الأربعة و الرجل اليسرى من المفصل في قبّة القدم و يترك له العقب و الاولى حسمهما بالدهن انتهى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حدّ السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 304

العملين هو الابتداء بما ابتدأ به في كلام الله تعالى و الانتهاء بما انتهى به فيه [1].

ثم إنّه لا إمهال في قطع هذين العوضين و ذلك لانّه حدّ واحد غاية الأمر أنّه مركّب فلا يجوز الفصل بينهما. و على هذا الأساس: لو استحقّ قطع يمناه بالقصاص ثم بعد ذلك. قد قطع الطريق يقدم قطع اليد قصاصا لأنّه حق الناس و لا تصل النوبة إلى قطعها محاربة لتقدّم حقّ الناس فحينئذ لا بدّ من قطع رجله اليسرى من جهة المحاربة بلا فصل و إمهال كما صرّح به في القواعد.

و في الجواهر: و لعلّه لأنّهما و إن كانا حدّين لكن لو لم يكن الحقّ في يمناه بالقصاص لقطعت مع الرجل بلا إمهال و الحاصل أنّ الإمهال تخفيف له و إبقاء عليه و هو بقطع الطريق لا يستحقّه [2].

نعم لو كان هناك حدّان مستقلّان لا تعلّق لأحدهما بالآخر فهناك لا توالي

بينهما و ذلك مثل ما إذا استحقّ يمناه بالسرقة و يسراه بالقصاص فحينئذ يقدّم القصاص لأنّه حقّ الناس خاصّة و يمهل حتّى يندمل جرحه ثم يقطع يمناه بالسرقة فإنّ القصاص و السرقة حدّان مستقلّان و لا توالى بين الحقّين و الحدّين إذا كانا كذلك.

______________________________

[1] أقول: صرح باعتبار البدءة باليد في المبسوط ج 8 ص 48 فقال: و اما قطع يديه و رجليه من خلاف، يقطع يده اليمنى أولا و يحسم بالنار ثم يقطع الرجل بعدها انتهى.

و قال العلامة في التحرير ص 234: يبدأ في قطع المحارب بيده اليمنى ثم يقطع رجله اليسرى.

و يوالي بين القطعين بعد الحسم.

و قال الفاضل المقداد في كنزل العرفان ص 352: القطع مخالفا و هو ان يقطع يمناه أولا حيا ثم يقطع رجله اليسرى. انتهى.

و قال العلامة في القواعد: فاذا قطع بدأ باليد اليمنى ثم يحسم ثم يقطع رجله اليسرى إلخ.

و في كشف اللثام بعد كلمة (اليمنى): كما في المبسوط لأنها أدخل في المحاربة و لما ورد من الابتداء بما بدء الله به انتهى.

أقول: و اللازم هنا الفحص عن هذا الدليل اي الابتداء بما بدء الله به. ثم ان في كشف اللثام بعد ذكر أسطر ادعاء الإجماع على ارادة اليد اليمنى و الرجل اليسرى من النصوص.

[2] أقول: كأنه اتخذ ذلك من كشف اللثام فراجع ج 2 ص 253.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 305

و على الجملة ففي المقام تجب ثلاثة أمور أحدها قطع اليد اليمنى و الثاني قطع الرجل اليسرى و الثالث الاتصال و التوالي بينهما فلا بدّ من مراعاة الأمور الثلاثة و أمّا إذا استحقّ قطع يمناه بالقصاص ثم قطع الطريق فحيث إنّ القصاص حقّ الناس و يقدّم

لا محالة فيقطع يمناه قصاصا فانتفى واحد من موضعي القطع في المحاربة و ذلك لقطع يمناه بسبب السرقة فيبقى الأمران الآخران اعنى قطع الرجل اليسرى و مراعاة الاتّصال بينهما، و انتفاء جزء من الكلّ لا يوجب انتفاء الباقي.

لا يقال: إنّ الحدّ في المقام حيث كان واحدا على ما صرّح به فلازم ذلك هو انتفاء حدّ المحارب إذا استحقّ قطع يمناه بالقصاص ثم قطع الطريق و ذلك لأنّه قد انتفى قطع اليد للمحاربة فلم يبق إلا موضع واحد و هذا لا دليل على وجوب قطعه [1].

و ذلك لأنّا نقول: إنّ الحدّ و ان كان واحدا لكنّه مركّب و إذا انتفى واحد من أجزاء المركّب وجب الإتيان بالباقي مع صدق كونه ميسورا للكلّ.

إذا فقد أحد العضوين

قال المحقّق: و لو فقد أحد العضوين اقتصرنا على قطع الموجود و لم ينتقل الى غيره.

أقول: و قد استدل على ذلك في كشف اللثام ص 252 بانتفاء المحلّ و أصالة عدم الانتقال إلى غيره مع المخالفة لمنطوق النصوص من القطع من خلاف و كونهما بمنزلة عضو واحد فاذا فقد بعض منه لم يجب الّا قطع الباقي. انتهى.

و لو لم يبق له من هذين العضوين شي ء بأن فقدا جميعا ففي الانتقال وجهان أحدهما ذلك، ذهب اليه الشيخ فقال في المبسوط ص 49: فإن كانت الأطراف كاملة قطعنا يده اليمنى و رجله اليسرى، و إن كان هذان الطرفان معدومين قطعنا

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 306

يده اليسرى و رجله اليمنى، و إن كان أحدهما معدوما و الآخر موجودا مثل أن كانت يده اليمنى موجودة و رجله اليسرى مفقودة أو رجله اليسرى موجودة و يده اليمنى مفقودة قطعنا الموجودة منهما وحدها

و لم ينتقل الى غيرها لأنّ العضوين كالواحد بدليل أنّهما يقطعان معا بأخذ المال انتهى.

و قد استدلّ في كشف اللثام ص 252 له بعموم نصّ اليدين و الرجلين و تحقق المخالفة في القطع انتهى. و احتمل هو قدس سرّه السقوط للإجماع على ارادة اليد اليمنى و الرجل اليسرى من النصوص و أصل عدم الانتقال و اندراء الحدّ بالشبهة و لذا نسب في التحرير الانتقال الى الشيخ انتهى.

و امّا عبارة التحرير فهي ما ذكره في ص 234: قال الشيخ رحمه الله: إذا كان الطرفان معدومين قطعنا يده اليسرى و رجله اليمنى انتهى.

الثامنة في المستلب و المختلس و المحتال
اشارة

قال المحقّق: الثامنة لا يقطع المستلب و لا المختلس و لا المحتال على الأموال بالتزوير و الرسائل الكاذبة بل يستفاد منه المال و يعزّر.

أقول: إنّ العناوين الثلاثة المذكورة هنا خارجة عن عنوان المحارب فلا يصدق هو عليها حيث إنّه يعتبر في صدق المحارب الإخافة و شهر السلاح و قصد المحاربة، و المستلب مثلا لا يقصد الإيذاء لصاحب المال بل يقصد ماله و كذا المختلس فهو من يأخذ المال مع غفلة صاحبه و يفرّ، و المحتال هو من يأخذ المال بالاحتيال فلذا لا يجري عليها أحكام المحارب و ان كان قد يرى اختلاف في تفسير هذه العناوين.

فلنراجع الأخبار الواردة في المقام، و هذه الاخبار أوردها المحدّث العاملي في باب السرقة.

ففي باب عنونه بقوله: باب أنّه لا قطع على المختلس علانية و عليه التعزير.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 307

عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: سمعته يقول قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا أقطع في الدغارة المعلنة و هي الخلسة و لكن أعزّره «1».

و عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه

السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل اختلس ثوبا من السوق فقالوا قد سرق هذا الرجل فقال: إنّي لا أقطع في الدغارة المعلنة و لكن أقطع من يأخذ ثم يخفى «2».

قوله عليه السلام: ثم يخفى، يمكن أن يكون مجرّدا كما يمكن ان يكون مزيدا فيه من باب الإفعال، و كيف كان فالظاهر أنّ المراد الخفاء حال الأخذ لا بعد ذلك و عليه فينطبق على السرقة المصطلحة التي توجب قطع اليد.

عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أربعة لا قطع عليهم: المختلس و الغلول و من سرق من الغنيمة و سرقة الأجير فإنّها خيانة «3».

و بهذا الاسناد انّ أمير المؤمنين عليه السلام أتى برجل اختلس درّة من أذن جارية فقال: هذه الدغارة المعلنة فضربه و حبسه «4».

عن سماعة قال: قال: من سرق خلسة خلسها لم يقطع و لكن يضرب ضربا شديدا «5».

محمد بن علي بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا قطع في الدغارة المعلنة و هي الخلسة و لكن أعزّره و لكن أقطع من يأخذ و يخفى «6».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حد السرقة ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 5.

(6) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 308

عن السكوني عن جعفر عن

أبيه عن علي عليه السلام قال: ليس على الطرّار و المختلس قطع لأنها دغارة معلنة و لكن يقطع من يأخذ و يخفى «1».

ففي الرواية الأولى قد فسّرت الدغارة المعلنة بالخلسة، و في الثانية اقتصر على ذكر الدغارة المعلنة، و في الثالثة عدّ المختلس- بلا تفسير عنه- من الأربعة التي لا قطع عليهم، و في الرابعة جعل الاختلاس الدعارة المعلنة، و في الخامسة أقتصر على ذكر الخلسة فقط، و السادسة كالأولى، و في السابعة علّل عدم القطع في المختلس بأنّها الدغارة المعلنة.

و في الباب المعنون بحكم الطرّار:

عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس على الذي يستلب قطع و ليس على الذي يطرّ الدراهم من ثوب قطع «2».

عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام بطرّار قد طرّ دراهم من كمّ رجل، قال: ان كان طرّ من قميصه الأعلى لم اقطعه و إن كان طرّ من قميصه السافل (الداخل) قطعته «3».

عن منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يقطع النباش و الطرّار و لا يقطع المختلس «4».

عن عيسى بن صبيح قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الطرّار و النبّاش و المختلس قال: لا يقطع «5».

و هنا و ان كانت الروايات متعارضة بالنسبة إلى الطرّار مثلا لكن بالنسبة للمختلس لا تعارض في البين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 12 من أبواب حدّ السرقة ح 7.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب حدّ السرقة ح 1.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب حدّ السرقة ح 2.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب حدّ

السرقة ح 3.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 13 من أبواب حدّ السرقة ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 309

و في بعض أبواب أخر أيضا ما يناسب المقام ففي ب 14 ح 2 عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أربعة لا قطع عليهم: المختلس و الغلول و من سرق من الغنيمة و سرقة الأجير فإنها خيانة «1».

و هو عين الحديث الثالث من الباب 12.

و حاصل المطلب أنّه كلّما صدقت المحاربة بمعناها و تفسيرها الخاصّ يحكم على مرتكبها بحكم المحارب و لو صدق عنوان السرقة فيحكم بقطع اليد و بدون سبق هذين العنوانين يعزّر و يضمن ما أخذه لصاحبه بل و لو شك في صدق العنوانين لا يجري حكمهما فضلا عن التصريح في هذه الروايات بعدم القطع في المختلس كما ذكر ذلك كثيرا أو المستلب كما في ح 1 من الباب 13، أو الطرّار كما في بعض الأخبار المتقدّمة.

و امّا تفسير هذه العناوين فلا يهمّنا بعد أنّ حكم المحارب و السارق معلوم و لا يجري بدون القطع و العلم بصدق العنوانين و تحقّقها، و إن كان الظاهر من الطرّار هو ما يسمّى في الفارسية ب جيب بر و أمّا المستلب و المختلس فقد اختلف في تفسيرهما و حيث إنّ الحكم هو التعزير فسواء كانا واحدا أو متعددا فلا أثر لذلك في المقصود فإنّ من المسلّم عدم القطع كما لا يجري هناك حكم المحارب.

نعم في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال في رجل استأجر أجيرا و أقعده على متاعه فسرقه قال: هو مؤتمن و قال في رجل أتى رجلا و قال:

أرسلني فلان

إليك لترسل اليه بكذا و كذا فقال: ما أرسلته إليك و ما أتاني بشي ء فزعم الرسول أنّه قد أرسله و قد دفعه إليه فقال: إن وجد عليه بينّة أنّه لم يرسله قطع يده و معنى ذلك أن يكون الرسول قد أقرّ مرّة أنّه لم يرسله و إن لم يجد بيّنة فيمينه بالله ما أرسلته و يستوفي الآخر من الرسول المال، قلت: أ رأيت ان زعم أنّه إنما حمله على ذلك الحاجة فقال: يقطع لأنّه سرق مال الرجل «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 14 من أبواب حدّ السرقة ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 15 من أبواب حدّ السرقة ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 310

و من المعلوم أنّ هذا المورد من جملة العناوين المذكورة لا من باب السرقة المصطلحة حتّى يحكم بالقطع فإنّه من باب الاحتيال على الأموال بالرسالة الكاذبة و التزوير في أخذ المال.

و قد حمل شيخ الطائفة الرواية على قطعه لإفساده لا لسرقته [قال قدّس سرّه بعد ذكرها: فالوجه في هذا الخبر ان نحمله على انّ من يعرف بذلك بأن يحتال على أموال المسلمين جاز للإمام أن يقطعه لأنّه مفسد في الأرض لا لأنّه سارق لانّ هذه حيلة و ليست بسرقة يجب فيها القطع] [1].

لكن هذا الحمل مشكل و ذلك لأنّه بعد أن علّل الإمام عليه السلام القطع بالسرقة قائلًا: يقطع لأنّه سرق مال الرجل، فكيف يحمل على أنّ الفساد هو العلّة في ذلك دون السرقة؟! و لعلّ نظره الشريف إلى أنّ السرقة بعد أن لم تكن واجدة لشرائط القطع فربّما تكون من مصاديق الفساد في الأرض و المقام كذلك و إلا فهل يمكن ان يقال إنّه قدّس

سرّه- مع مقامه السامي و شأنه الرفيع- لم يلتفت إلى تعليل الرواية بالسرقة مع هذا الظهور أو الصراحة؟.

في المبنّج و من سقى غيره مرقدا

قال المحقق: و كذا المبنّج و من سقى غيره مرقدا لكن إن جنى ذلك شيئا ضمن الجناية.

أقول: قد ذكر أوّلا عناوين خاصّة كالمستلب و غيره مصرّحا بأنّه لا قطع في تلك الموارد، و هنا يقول بانّ المبنّج و من سقى غيره المرقد أيضا كذلك اي لا تقطع يدهما.

______________________________

[1] راجع الاستبصار ج 4 ص 243 و العجب انه مع نقله الرواية في التهذيب ج 10 ص 109 لم يتعرض أصلا لحملها على ذلك.

ثم ان في كشف اللثام حمله على انه قضية في واقعة اقتضت المصلحة فيها القطع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 311

و المبنّج هو من أشرب غيره البنج و هو معرّب البنگ و هو في الأصل حبّات يورث شبه الإسكار و يسلب شعور الشارب و التفاته بحيث لا يدري ما يقول و ما يفعل، و معروف بين الناس كالمثل السائر يقال لمن يتكلّم بما لا يعني و لا مفهوم له:

ا فهل شربت البنگ؟

و المرقد هو ما يورث الرقود. فمن أشرب غيره البنج أو المرقد فأخذ مالهما في حال السكر أو الرقود فإنّه و إن فعل محرّما و كان ضامنا لهذا المال المأخوذ منه لكن لا حدّ عليه فأمره موكول إلى نظر الحاكم الشرعي كما أنّه يضمن ما يصيب الشارب بسبب هذا البنج أو المرقد من نقصان عقل أو عضو أو حسّ، و على الجملة فالموارد المذكورة لا تقطع فيها يد المجرم و إن كانت مقرونة بأخذ المال فليس كلّ أخذ مال بسرقة و لا كل آخذه سارقا يترتب عليها قطع اليد كما و أنّه لا

يصدق على تلك الموارد عنوان المحارب فلا يجري فيها أحكامه.

نعم بناءا على ما حمل الشيخ القطع في رواية الحلبي أي الفساد لا لسرقته فالمبنّج و الساقي غيره المرقد مفسدان في جنايتهما بهذه الكيفية.

ثم انه حيث حمل الشيخ رواية الحلبي على من أفسد في الأرض و وجّه قطع اليد في هذه الموارد بأنّه مفسد فهنا يناسب ان نتعرّض لبحث المفسد في الأرض حيث انّ المستفاد من كلامه أنّ الفساد في الأرض عنده سبب خاص للحدّ في قبال المحارب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 313

المفسد في الأرض

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 315

الكلام حول المفسد في الأرض

بعد أن ثبت أن عنوان المحاربة موجب لترتّب الأحكام الخاصة و الحدّ الخاصّ، فهل عنوان المفسد في الأرض أيضا عنوان خاصّ يترتّب عليه الحدّ الخاصّ اي التخيير في مجازاته بين الأمور الأربعة أم لا؟.

قد يقال بأنّهم قدّس الله أسرارهم أهملوا هذا العنوان و لم يتعرّضوا له في كلماتهم.

و فيه أنّه قد تعرّض بعضهم له و عنونه كذلك، و ذلك مثل إشارة السبق و و الوسيلة فقال الشيخ علاء الدين الحلبي: و المفسدون في الأرض كقطّاع الطرق و الواثبين على نهب الأموال يقتلون إن قتلوا فإن زادوا على القتل بأخذ المال صلبوا بعد قتلهم و يقطعون من خلاف إذا تفرّدوا بالأخذ دون القتل و إن لم يحدث منهم سوى الإخافة و الإرجاف نفوا من بلد الى بلد و أودعوا السجن إلى أن يتوبوا أو يموتوا انتهى «1».

______________________________

(1) اشارة السبق ص 144.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 316

ترى انّه قدّس سرّه عنون المسألة بعنوان المفسدون في الأرض لا المحارب.

و قال ابن حمزة في الثاني: فصل في بيان أحكام

المفلّس و النبّاش و المحتال و المفسد و الخناق و المبنّج «1».

فذكر قدّس سرّه مع هذه العناوين: عنوان المفسد، و قال بعد ذلك: و المفسد المحارب إلخ فقد عبّر عن المحارب بالمفسد.

و كيف كان فالبحث تارة في الموضوع و أخرى في الحكم.

امّا الأوّل فنقول: إنّه ليس المراد من الفساد هو عنوانه العام و مفهومه الوسيع الذي يشمل الإتيان بكلّ معصية من المعاصي و لا شك في ذلك بل المراد منه ما كان منه في مسير اختلال نظام المجتمع بحيث يوجب سلب الثبات و القرار على الناس، و بتعبير آخر المراد هو كلّ عمل لو شاع مثله بين الناس انحلّ نظام المجتمع.

و لا بدّ في مقام ترتيب الحكم من إحراز الموضوع بأن يكون لهذا الفساد مفهوم معين ظاهر عرفي ينطبق على مصاديقه أو تعيين ذلك على لسان الشرع و في الأخبار الواردة كبيع الزوجة نعوذ بالله مثلا.

و ليعلم أنّ النسبة بين المحاربة و الفساد في الأرض هو العموم و الخصوص فإنّه لا شك في أنّ المحارب مفسد في الأرض، و المحاربة أجلى مصداق له في حال أنّه ليس كل مفسد محارب، و البحث فعلا في الفساد المفترق عن المحاربة.

و أمّا من جهة الحكم فما يمكن ان يستند عليه و يتمسّك به في المقام بعض الآيات و الروايات.

فمن الأولى قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.

تقريب الاستدلال انّ قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً، عنوان مستقل في قبال المحاربين فما كان للمحارب من الأحكام الأربعة فهو للمفسد.

______________________________

(1) الوسيلة إلى نيل

الفضيلة ص 423.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 317

و لكن الظاهر انّ الاستدلال بها غير تام و ذلك لأنّ قوله تعالى: و يسعون إلخ تجري فيه ثلاثة احتمالات:

أحدها: ان يكون في مقام التعليل للحكم المترتّب على المحاربين، و عليه فالحكم المذكور في الآية للمحارب جار عليه بسبب أنّه مفسد في الأرض، و بتعبير آخر:

إنّما يعاقب المحارب بأحد الأمور الأربعة لأنّه قد أفسد.

ثانيها: أن يكون امرا مستقلا معطوفا على: الذين يحاربون الله و رسوله فيكون الواو في حكم (أو) و على هذين الاحتمالين يجري على المفسد حكم المحارب و يكون الحكم لهما.

ثالثها: أن يكون عطفا تفسيريا لسابقه فهو شارح و بيان للمحارب و على هذا فليس هنا عنوان آخر متعلّقا للأحكام سوى المحارب، و لا بعد في ذلك أصلا فإنّ الواو في: و يسعون، ربّما تكون كالواو في: و رسوله، فهل المحاربة بالنسبة إلى الرسول أمر آخر وراء المحاربة بالنسبة لله تعالى؟ معلوم أنّ محاربة الرسول ليست مباينة لمحاربة الله بل هي هي، و الثانية كالتفسير للأولى فإنّ المحارب بعمله الخبيث يحارب ثلاثا: يحارب الله، و يحارب رسول الله، و يحارب عباد الله، كما في كل مورد يحارب الإنسان مأمورا و ممثّلا لأحد فإنّه قد حارب المأمور و حارب الآمر بمحاربة المأمور. فكذلك السعي بالفساد في الأرض تبيين لها.

فالمفسد في الأرض الذي لا يكون محاربا لا يستفاد حكمه من الآية الكريمة، و مع وجود هذا الاحتمال يحصل الإجمال للآية الكريمة و لم يبق لها ظهور في الوجه الأوّل أو الثاني كي يحكم عليه بعين حكم المحاربين، و تأدية المطالب بهذه الصورة عرفية فهو مثل ان يقال: من شرب الخمر و سكر فهو كذا، و

من المعلوم أنّه ليس المراد من هذه العبارة إفادة مطلب جديد و إنّما هو للإشارة إلى أثر الأوّل و ما يترتّب عليه.

و منها قوله تعالى بعد ذكر حكاية ابني آدم و قتل هابيل بيد أخيه قابيل: من أجل

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 318

ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعا «1».

تقريب الاستدلال انّ قتل أحد إذا لم يكن للقصاص فهو في حكم قتل جميع الناس، و كذا قتله لا لأجل الفساد في الأرض، فإنّه في حكم قتل جميع الناس و من قتل جميع الناس فإنّه يقتل لا محالة لأنّه لو قتل واحدا كان يقتل فكيف بمن قتل جميع الناس فلا ينكر وجوب قتله إلا من حيث إنّه لم يبق أحد حتى يقتله! و فيه أنّ الآية الكريمة بصدد أكبار شأن قتل الأشخاص بغير نفس، و في مقام بيان عظمة هذه المعصية اي معصية السعي في الفساد في الأرض و لا تعرّض فيها لجزاء المفسد أصلا و لو فرض دلالتها على وجوب القتل فلا دلالة فيها على جريان حكم المحارب اي العقوبات الأربعة على المفسد و ليست في مقام بيان عقوبة المفسد و جزاءه و أنّه كالمحارب في ترتب الأحكام الأربعة عليه و ان سلّمنا دلالتها على لزوم القتل فلا دلالة فيها على جريان الأحكام الأربعة و لكن الظاهر من سياق الآية أنّها ليست في مقام بيان الجزاء بل بصدد أكبار القتل و الفساد في الأرض و عليه فهي بمعزل عمّا نحن بصدده.

و امّا الثانية أي الروايات فمنها رواية المدائني عن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال: سئل عن قوله الله

عزّ و جلّ: إنّما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا الآية فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال:

إذا حارب الله و رسوله و سعي في الأرض فسادا إلخ «2».

و لكن هذه الرواية و إن كانت متضمّنة لعبارة: السعي في الأرض فسادا، إلا أنّها لم تزد على لفظ الآية شيئا، و في الحقيقة هي ليست جوابا عما سأله السائل بل أتى في الجواب عين ما هو مورد السؤال و لم يبيّن الإمام عليه السلام له كيفية

______________________________

(1) سورة المائدة الآية 32.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حدّ المحارب ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 319

المحاربة و السعي، بإراءة مصداق لذلك و لعله عليه السلام كان في ظروف و أحوال يرى المصلحة في إعراضه عليه السلام عن جوابه أو لم يكن الراوي متحمّلا لجوابه عليه السلام.

و على الجملة فهذه الرواية لا يصحّ التمسك بها في المقام أصلا.

و منها رواية العيون عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال: و لا يجوز قتل أحد من النصّاب و الكفّار في دار التقيّة إلا قاتل أو ساع في فساد و ذلك إذا لم تخف على نفسك و أصحابك «1».

و هذا الخبر يفيد جواز قتل القاتل و الساعي في الفساد بل لعلّه يستفاد من الفرق بينهما و بين الكفّار و النصّاب و الحكم بعدم جواز قتل الكفّار و النصّاب في دار الكفر و جوازه في مورد القاتل و الساعي إذا لم يكن خوف على نفسه أنّه يقل التقيّة في الموردين فإنّ قتل القاتل أو الساعي في الفساد أمر يتّفق الكلّ فيه.

بقي الكلام فيما قاله بعض العلماء

بالنسبة الى بعض الاخبار السابقة الآمرة بقطع اليد من حملها على المفسد في الأرض.

لكن بعد عدم تعرّض الأكثر لهذا العنوان و عدم وروده في كلماتهم و أنّهم لم يجعلوه عنوانا مستقلا في قبال المحارب يشكل القول بجريان الحدّ على المفسد غير المحارب الا أنّه حيث كان من المعاصي بل و من أعظمها فلا محالة يعزّر من كان كذلك حتّى يرتدع عن عمله.

و أمّا الموارد الخاصّة كسرقة الحرّ المذكورة في الروايات فهناك نقول إنّها بعنوانها الخاصّ محكومة بحكمها الخاصّ الوارد في الأدلّة و إن انطبق عليها عنوان المفسد أيضا كما أنّهم قدّس الله أسرارهم عنونوا هذه الموارد تحت عنوانها الخاصّ المذكور في الأدلّة كسرقة الحرّ مثلا و غير ذلك.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حدّ المرتد ح 2 و عيون اخبار الرضا 2- 124.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 321

حد المرتد

اشارة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 323

القسم الثاني من كتاب الحدود- و الكلام الآن في المرتد-

قال المحقق: فيه أبواب الباب الأوّل في المرتدّ و هو الذي يكفر بعد الإسلام و له قسمان الأوّل من ولد على الإسلام و هذا لا يقبل إسلامه لو رجع و يتحتّم قتله و تبين منه زوجته و تعتدّ منه عدّة الوفاة و تقسم أمواله بين ورثته و ان التحق بدار الحرب أو اعتصم بما يحول بين الإمام و قتله.

أقول: البحث هنا في موارد أحدها في الموضوع و الآخر في أقسامه و ثالثة في الأحكام.

أمّا الأوّل فالارتداد هو الردّ و الرجوع و قد عرّفوا المرتدّ بأنّه الذي يكفر بعد الإسلام فهو في الحقيقة قد ردّ الإسلام و رجع عنه إلى الكفر و عدل عنه اليه.

و

لا فرق في ذلك بين أن يكون من قبل إسلامه كافرا ثم أسلم و الآن رجع عن الإسلام أو لم يسبق إسلامه الكفر بأن كان مسلما من الأوّل و لا يزال كان على إسلامه إلى أن ارتدّ و عدل عنه، و ذلك لصدق الرجوع و الردّ في الموردين بلا فرق بينهما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 324

و لا بدّ من ثبوت ذلك في إجراء الأحكام. و طريق ثبوته أمّا البيّنة على ذلك أو إقراره بنفسه بأنّه قد كفر و خرج عن الإسلام أو إتيانه بفعل دال صريحا على الاستهزاء بالدين و الاستهانة به و رفع اليد عنه كإلقاء المصحف في المقذر و تمزيقه و استهدافه و وطئه و تلويث الكعبة المشرفة و الضرائح المقدسة أو السجود للصنم و عبادة الشمس و غير ذلك من الأفعال و لا يحتاج بعد أن سجد لغير الله سبحانه الى الاعتقاد بربوبيته كما يدلّ على ذلك خبر الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام:

أنّ رجلين من المسلمين كانا بالكوفة فأتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فشهد أنّه راهما يصليان للصنم فقال له: ويحك لعلّه بعض من تشبه عليك:

فأرسل رجلا فنظر إليهما و هما يصليان الى الصنم فاتى بهما فقال لهما: ارجعا، فأبيا فخدّ لهما في الأرض خدّا فأجّج نارا فطرحهما فيه «1».

نعم لا بدّ من كون الفعل صريحا في رجوعه عن الإسلام و إقباله إلى الكفر، و لم يتعرضوا للكتابة، و لكن الظاهر أنّه لا فرق بين الفعل و الكتابة بل هي من أنواعه.

ثم إنّ الأمر يشكل بالنسبة لعصرنا هذا الذي قد كثر و شاع هذا الأمر فيستهزءون بالدين و يسخرون من أحكام الشرع بمجرّد ما

شاهدوا شيئا- لا يلائم طباعهم- من أهل الشرع و رجال الدين أو من بيدهم أمور المسلمين، و ربّما يقولون بانّا رفعنا اليد عن الإسلام أو الدين أو تركنا الصلاة أو غير ذلك، أو إنا نرفع اليد عن ذلك، أعاذنا الله و المسلمين من فتن الزمان و تغاير الأمور و سوء العاقبة.

و كذا يثبت الكفر بالقول الدال صريحا على جحد ما علم ثبوته من الدين ضرورة أو على اعتقاده ما يحرم اعتقاده بالضرورة من الدين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 9 من أبواب المحارب ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 325

بل و الحق بعضهم إنكار ما علم أنّه ضروريّ المذهب و رتّب عليه أحكامه.

و في الجواهر بعد قول المصنّف: (المرتد و هو الذي يكفر بعد الإسلام): سواء كان الكفر سبق إسلامه أم لا. ثم قال: و يتحقق بالبيّنة عليه و لو في وقت مترقّب أو التردّد فيه و بالإقرار على نفسه بالخروج عن الإسلام أو ببعض أنواع الكفر.

و بكلّ فعل دال صريحا على الاستهزاء بالدين و الاستهانة به و رفع اليد عنه. و ان لم يقل بربوبيتها [1].

ثم انّ ما ذكرناه في تعريف المرتدّ و بيان حقيقته المستفاد من الشرائع و الجواهر

______________________________

[1] أقول: إن عبارة الجواهر في الطبعة القديمة و الحديثة كذلك: و يتحقق بالبيّنة عليه و لو في وقت مترقب أو التردد فيه.

و لعل معناها على هذا أنه يتحقق الكفر و يثبت بقيام البينة عليه و ان كان ذلك أي كفره في وقت مترقب فتارة يقوم البينة على أنه كافر أو أنه قد كفر، و أخرى على أنه سيكفر بالليل أو بالغد، و قوله:

أو التردد فيه اي بالبينة على أن فلانا

قد تردد في الكفر بعد إسلامه.

لكن في الروضة 2- 368: و الكفر يكون بنيّة و بقول كفر و فعل مكفر- اي موجب للكفر- فالأول العزم على الكفر و لو في وقت مترقب و في حكمه التردد فيه، و الثاني كنفي الصانع لفظا أو الرسل. و الثالث ما تعمّده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف أو بعضه بقاذورة قصدا و سجود لصنم. إلخ.

و ربّما يبدو في الذهن أن يكون عبارة الجواهر أيضا غلطا مطبعيا بان يكون الصحيح: و يتحقق بالنيّة عليه إلخ و على هذا فتوافق عبارة الجواهر عبارة الروضة و ان كان ذكر الإقرار بعد ذلك في عبارة الجواهر ربّما يرجح صحّة العبارة لكن يمكن الملائمة بين ذكر الإقرار و كون اللفظ الصحيح هو النيّة و على ذلك فكأنه قال: يتحقق الكفر بعزمه على الكفر و نيّة ذلك و إن كان في وقت يأتي و زمان قابل و كذلك يتحقق كفره بإقراره على نفسه بالخروج عن الدين و بكل فعل دال صريحا إلخ و بكل قول كذلك. نعم ذكر لفظ (على) ربّما يوهم أن الصحيح هو البينة فإنّ النيّة تتعدّى بدون لفظة على و كيف كان فالأمر سهل.

و في دفتر مذكرات سيدنا الأستاذ الأكبر: و ظاهر عبارته أن الكفر يتحقق بالبينة و الحال أن الكفر لا يتحقق بها و انما هي طريق إليها كما أن الإقرار أيضا كذلك و الظاهر أن النسخة غلط، و الصحيح النيّة انتهى و يأتي في المتن ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 326

مذكور في سائر الكتب و على لسان غيرهما أيضا من العلماء و الأساطين رضوان الله عليهم أجمعين.

ففي الدروس المرتدّ

و هو من قطع الإسلام بالإقرار على نفسه بالخروج منه أو ببعض أنواع الكفر سواء كان ممّا يقرّ اهله عليه أو لا، أو بإنكار ما علم ثبوته من الدين ضرورة أو بإثبات ما علم نفيه كذلك أو يفعل ذلك صريحا للشمس و الصنم، و إلقاء المصحف في المقذر قصدا، و إلقاء النجاسة على الكعبة أو هدمها، أو إظهار الاستخفاف بها انتهى.

و قال في الروضة- مزجا- الارتداد و هو الكفر بعد الإسلام أعاذنا الله ممّا يوبق الأديان. و الكفر يكون بنية و بقول كفر و فعل مكفر فالأوّل العزم على الكفر و لو في وقت مترقّب و في حكمه التردّد فيه. و الثاني كنفي الصانع لفظا أو الرسل و تكذيب رسول و تحليل محرّم بالإجماع كالزنا و عكسه كالنكاح و نفي وجوب مجمع عليه كركعة من الصلوات الخمس و عكسه كوجوب صلاة سادسة يوميّة، و الضابط إنكار ما علم من الدين ضرورة.

و امّا أقسام المرتدّ فهو على قسمين: فطريّ و ملىّ و الأوّل قد عرّفه. المحقّق بأنّه من ولد على الإسلام و ظاهر ذلك كفاية مجرّد ولادته عن أبوين مسلمين في صدق الفطري و جريان أحكامه و كذا إذا كان أحدهما مسلما حين ولادته و هو الظاهر من عبارة كشف اللثام مع إضافة: أن يصف الإسلام بعد أن بلغ، قال:

و المراد به من لم يحكم بكفره قطّ لإسلام أبويه أو أحدهما حين ولد و وصفه الإسلام حين بلغ إلخ.

و عليه فلا يكون مرتدّا إلا إذا ولد مع إسلام أبويه أو أحدهما و ثمّ وصف الإسلام و اعترف به بعد بلوغه، فزاد هو قيدا زائدا.

قال في الجواهر: و كأنّه أخذ القيد الثاني ممّا تسمعه في بعض النصوص

من الرجل، و المسلم، و نحوهما ممّا لا يصدق على غير البالغ بل ليس في النصوص

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 327

إطلاق يوثق به في الاكتفاء بصدق الارتداد مع الإسلام الحكمي و لعلّه لا يخلو عن قوّة انتهى.

[و فيه نظر و لا مانع من إسلام المميّز و لذا قال جمع بصحّة عبادته و إن رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم، و الأقوى ما عن المسالك و القواعد و غيرهما] [1].

ثمّ إنّه تظهر الثمرة فيما إذا كان أبواه مسلمين حين ولادته لكنّه بلغ و لم يصف الإسلام بل كفر بعد بلوغه بلا سبق وصف الإسلام فإنّه لا يكون مرتدا فطريّا حتّى يقتل مثلا.

و ظاهر عبارة المسالك هو اعتبار الإسلام عند الانعقاد، قال في تعريف الفطري: فالأول ارتداد من ولد على الإسلام بأن انعقد حال إسلام أحد أبويه و هذا لا يقبل إسلامه انتهى، كما انه رحمه الله لم يعتبر وصف الإسلام بعد البلوغ.

و قال العلّامة أعلى الله مقامه عند ذكر التبعية في الإسلام: إنّ النظر هنا في أمور ثلاثة الأول إسلام الأبوين أو أحدهما و ذلك يقع على وجهين:

أحدهما أن يكون الأبوان أو أحدهما مسلما حال علوق الولد فيحكم بإسلام الولد لأنّه جزء من مسلم فإن بلغ و وصف الإسلام فلا بحث و إن أعرب عن نفسه بالكفر و اعتقده حكم بارتداده عن فطرة يقتل من غير توبة و لو تاب لم تقبل توبته.

و الثاني أن يكون أبواه كافرين حالة العلوق ثم يسلما أو أحدهما قبل الولادة أو بعدها إلى قبل البلوغ بلحظة فيحكم بإسلام الولد من حين إسلام أحد الأبوين و يجري عليه أحكام المسلمين فيقتص له من المسلم لو قتله و

يحكم له بدية المسلم و يرث قريبه المسلم. و لا شك في أنّ الولد يحكم له بالإسلام إذا كان أبواه أو أحدهما مسلما بالأصالة أو تجدّد إسلامه حال علوق الولد فإذا بلغ الولد و وصف

______________________________

[1] هذه القسمة من دفتر مذكرات سيدنا الأستاذ الأكبر.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 328

الإسلام تأكّد ما حكم به و انقطع الكلام، و إن أعرب الكفر فهو مرتدّ عن فطرة يقتل في الحال، و إن كان الأبوان كافرين و علقت الأمّ به قبل إسلام أحدهما ثم أسلم أحدهما بعد العلوق و قبل بلوغ الصبي فإنه يحكم على الصبيّ بالإسلام من حين إسلام أحد أبويه فإذا بلغ فإن أعرب بالكفر فهو مرتدّ، و هل يقبل توبته و يكون ارتداده كارتداد من أسلم عقيب كفره أو يكون مرتدا عن فطرة لا تقبل توبته و يكون ارتداده كارتداد من هو مسلم بالأصالة لا عقيب كفره حالة بلوغه؟

الأقوى الأول لأنّه كافر أصلي حكمنا بكفره أوّلا ثم أزيل كفره بالتبعية فإذا استقلّ انقطعت التبعية فوجب أن يعتبر بنفسه «1».

و نحن نقول: العبائر كما ترى مختلفة فقد يذكر وصف الإسلام بعد البلوغ أيضا و يعتبر هو أيضا شرطا في صدق كون ارتداده فطريّا فبدونه يكون ارتداده مليّا كما أنّهم قد يذكرون في كلماتهم حال الولادة و قد يقيّدون إسلام الأبوين أو أحدهما.

و يظهر من العبائر أنّ نظرهم من إسلام الصبيّ هو التبعيّة و كونه في حكم المسلم و لذا ربّما يعتبرون وصف الإسلام بعد بلوغه و الحال أنّ الصبيّ إذا كان ممّن يعقل و يتميز و اعترف بالتوحيد و الرسالة و اعتقد بذلك فهو مسلم حقيقة لأنّه قد اعتقد بالله و بالنبيّ الخاتم صلى

الله عليه و آله و سلم، و المفروض أنّه أقرّ بالشهادتين في حال كونه مميّزا و لم يكن ممّن لا يعقل و لا يتميّز حتّى لا يصدق عليه المسلم، و على الجملة فإنّه و إن لم يكن مكلّفا فلا يعاقب لو لم يعتقد و لم يعترف حال صباه إلا أنّه لو أعتقد و اعترف فإنّه يقبل منه و يكون مسلما و قد افتى جمع من العلماء الأعلام بصحّة عبادات الصبيّ.

و أمّا رفع القلم عن الصبيّ فهو ناظر إلى التكليف و العقاب، و قد ذكرنا أنّه لا تكليف و لا عقاب عليه و لا يدل على عدم تحقّق إسلامه أو عدم قبوله منه، و بعبارة

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 274.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 329

أخرى هو متعلّق بما فيه جهة العقوبة و المجازات لا أنه يرفع ما كان فيه جهة الثواب و عنوان رحمة الله تعالى الواسعة.

و امّا عمد الصبي خطأ، فهو أيضا غير متعلق بالمقام بل هو راجع إلى ما يوجب العقوبة و الالتزام فلذا يكون ارتداده في حال صغره كعدم الارتداد و مسلوب الأثر و امّا إسلامه فلما ذا لم يقبل؟.

و العجب أنّه قد صار أمر الصبيّ و شدّة ذكائه و فطانته إلى أن اشتهر أنّ بعضا من العلماء قد نالوا مرتبة الاجتهاد و الفقاهة من قبل أن يبلغ، و مع ذلك يتردّد في قبول إسلامه! و عليه فيمكن أن يكون الطفل مجتهدا و لا يمكن أن يكون مسلما و هذا ممّا يبعد الالتزام به جدّا.

و على ما ذكرنا فالإسلام هنا إسلام حقيقي لا حكمي، فارتداده بعد البلوغ ارتداد المسلم عن إسلامه و إقباله إلى الكفر و هو من

قبيل المرتدّ الفطريّ و يترتّب عليه أحكامه خلافا للجواهر الذي نفى تبعا لكشف اللثام الإطلاق الموثوق به في الاكتفاء بصدق الارتداد مع الإسلام الحكمي فلو كان مسلما حكميا محضا لأمكن الترديد في انّ ارتداده بعد البلوغ قبل وصف الإسلام فطريّ أم لا أمّا بعد صدق المسلم عليه فارتداده بعد بلوغه ارتداد عن فطرة.

و كيف كان فبالنسبة إلى ولد الكافر اختلف الأنظار و العبارات فترى أن كاشف اللثام قد اعتبر وصف الإسلام مضافا الى إسلام أبويه عند بدو أمر هذا الولد و من ناحية أخرى قد عبّر العلّامة في التذكرة بحال العلوق، و هو حبل المرأة و كلّ أنثى بالولد في حال أنّ في بعض العبائر التعبير بالولادة كما في عبارة الشرائع حيث قال: من ولد على الإسلام، نعم لا يتضح أنّ مراده من ذلك هو الولادة المصطلحة أو المراد هو الانعقاد.

قال العلامة في القواعد في أحكام ولد المرتد: إذا ولد أو علق قبل الردّة فهو مسلم انتهى و قال في كشف اللثام في شرحه: حكما و لذا لو ماتت الأم مرتدّة

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 330

و هي حامل به دفنت في مقابر المسلمين و إن قتله قاتل قبل البلوغ اقتصّ منه. ثم قال العلّامة: فإن بلغ مسلما فلا بحث و ان اختار الكفر بعد بلوغه استتيب.

و في الشرح: و إن حكم له بالإسلام من العلوق و لم يتحقق، قتله و إن ظنّ أنّه ارتدّ عن فطرة فإنه ليس كذلك إذا لا يتحقق الارتداد عن فطرة إلا ان يكون وصف الإسلام بعد البلوغ إذ لا عبرة بعبارته و لا باعتقاده قبله، و التوبة من المسلم إنّما يفيده لحوق حكم الإسلام به، و

حكم في التذكرة بان من كان حين العلوق أحد أبويه مسلما فإذا بلغ و وصف الكفر فهو مرتد عن فطرة يقتل و لا يستتاب و قوى أنّ من كان أبواه حين العلوق كافرين ثمّ أسلما أو أسلم أحدهما قبل بلوغه فاذا بلغ و وصف الكفر كان مرتدا مليا فأجرى تبعية الإسلام مجرى نفسه، و الأقرب ما عرفت انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و حاصل المطلب أنّ في المقام ثلاثة أقوال:

أحدها أنّ الملاك هو مجرّد إسلام الوالدين أو أحدهما حال علوقه و هو الذي ذهب إليه في المسالك بل الظاهر من كلامه أنه موضع الوفاق.

الثاني أن الملاك هو حال الولادة و قد ذهب إليه الجزائري.

الثالث كون الملاك هو إسلام الأبوين أو أحدهما حال علوقه مع وصفه الإسلام عند البلوغ و هذا هو المتيقن و لو شكّ يؤخذ به للدرء.

و لا يخفى أنه يمكن كون الملاك الثاني أقوى بحسب الأخبار، إلا أنه يترجّح الأول حيث ادّعى عليه الإجماع، و تحمل الأخبار الناطقة بالولادة على أنّ من كان حين ولادته كذلك فهو في حال علوقه أيضا كان كذلك بحسب النوع.

و كما أن الكلمات مختلفة من حيث ملاحظة حال العلوق أو الولادة فالأخبار أيضا مجملة من هذه الحيثية فعن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في الصبيّ يختار الشرك و هو بين أبويه قال لا يترك و ذاك إذا كان أحد أبويه نصرانيا «2».

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 257.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حدّ المرتد ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 331

قوله عليه السلام: إذا كان أحد أبويه نصرانيا، اي و الآخر مسلما.

و عن ابان بن عثمان عن بعض

أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في الصبيّ إذا شبّ فاختار النصرانية و أحد أبويه نصراني أو مسلمين قال: لا يترك و لكن يضرب على الإسلام «1».

و هنا حكم عليه السلام في المتولد من أبوين، المسلم كلاهما أو أحدهما بأنّه إذا شبّ يضرب على الإسلام و لم يحكم بأنّه يقتل و ليس الضرب ظاهرا في القتل، و لعلّه لم يكن بالغا و لا ينافي ذلك قوله: إذا شبّ اي صار شابا و ذلك لإطلاق الشاب على المراهق للبلوغ.

و كيف كان فمن جهة كون المعيار هو العلوق أو الولادة، لا تعرّض هنا [1].

و المتيقن في الحكم بالارتداد الفطري هو ما إذا كان أبواه حال علوقه و ولادته مسلمين أو كان أحدهما كذلك، ثم بعد ذلك بلغ و وصف الإسلام، و أمّا سائر الموارد فيشكل الحكم بالقتل بدون الاستنابة.

و على الجملة فالنزاع في الحقيقة يرجع إلى أنّ ولد المسلم مسلم أو في حكمه فمن قال بأنّه مسلم يحكم بأنّ وصفه للكفر بعد البلوغ يوجب الارتداد الفطري و من قال بأنه في حكم المسلم فعلا فهو يحتاج بعد البلوغ إلى وصفه للإسلام، و بدون ذلك يكون ارتداده ارتداد مليا.

ثم ان لصاحب الجواهر كما تقدم في تفسير عبارة المحقّق كلاما مجملا و هو قوله: و يتحقّق بالبيّنة عليه و لو في وقت مترقّب أو التردّد فيه و بالإقرار على نفسه بالخروج عن الإسلام أو ببعض أنواع الكفر إلخ.

و ذلك لأنّه لو كان ضبط العبارة ما هو الموجود الان أعني البيّنة فإنّه يرد عليه ان الكفر لا يتحقق و لا يوجد بالبيّنة و إنّما يثبت بها كسائر الأمور و امّا أنّه أراد

______________________________

[1] هذا مضافا الى أن الخبر الأول

مجهول و الثاني مرسل. راجع مرآة العقول ج 23 ص 398 و 399.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المرتد ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 332

قدس سره من «يتحقق» يثبت و يوجد فهو بعيد منه رحمه الله و هو من العرب و أهل اللسان و لا يستعمل هذا اللفظ في ذاك المعنى فإن البينة كاشفة عن تحقق الكفر لا أنها محققة و موجدة له.

و ما يقال من احتمال كون العبارة غلطا و كان الصحيح هو النيّة- بدل- البيّنة- و على هذا فيتوافق العبارة عبارة الشهيد الثاني في الروضة و حيث إنه لم يوجد مثل هذه العبارة في كلمات غيره فلعلّ صاحب الجواهر أخذها منه و يحصل الاطمئنان أو الظن بان الصحيح هو النيّة و ذلك لأنّه قال في الروضة: و الكفر يكون بنيّة و بقول كفر و فعل مكفر فالأول العزم على الكفر و لو في وقت مترقّب و في حكمه التردّد فيه و الثاني كنفي الصانع لفظا أو الرسل و الثالث ما تعمّده استهزاء صريحا بالدين. إلخ [1].

ففيه أنه لعلّه كان خلاف سياق العبارة، مضافا الى عدم وضوح المعنى على ذلك، أيضا فإن نيّة الكفر و لو في وقت مترقّب ليس بمتّضح المراد.

و الإنصاف أنّ عبارة الروضة أوضح من عبارة المحقق و الشهيد الأول في اللمعة و من عبارة صاحب الجواهر، و يكون معنى عبارته أنه يمكن ان يكفر الإنسان بمجرّد النيّة أو بالقول أو بالفعل الموجب للكفر.

و قوله: فالأول العزم على الكفر و لو في وقت مترقب و في حكمه التردّد فيه، يعني إن حصول الكفر بالنيّة هو أن يعزم الإنسان على الكفر و ان كان

بالنسبة إلى زمان ينتظر مثل الغد مثلا فان من كان عازما على الكفر في زمان منتظر فهو كافر الآن، و في حكم العازم على الكفر من كان متردّدا في أن يكفر أو لا، فان هذا ينافي الاعتقاد المعتبر في الإيمان.

ثم قال: و الثاني كنفي الصانع لفظا أو الرسل و تكذيب رسول أو تحليل محرّم بالإجماع كالزنا و عكسه كالنكاح و نفي وجوب مجمع عليه كركعة من الصلاة

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 333

الخمس و عكسه كوجوب صلاة سادسة يوميّة، و الضابط إنكار ما علم من الدين ضرورة و لا فرق في القول بين وقوعه عنادا أو اعتقادا أو استهزاء حملا على الظاهر و يمكن ردّ هذه الأمثلة إلى الأول حيث يعتقدها من غير لفظ.

ثم قال: الثالث ما تعمّده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف أو بعضه بقاذورة قصدا و سجود للصنم و يعتبر في ما خالف الإجماع كونه ممّا يثبت حكمه في دين الإسلام ضرورة كما ذكر لخفاء كثير من الإجماعيات على الآحاد و كون الإجماع من أهل الحل و العقد من المسلمين فلا يكفر المخالف في مسألة خلافية و ان كان نادرا، و قد اختلف عبارات الأصحاب و غيرهم في هذا الشرط فاقتصر بعضهم على اعتبار مطلق الإجماع و آخرون على اضافة ما ذكرناه و هو الأجود و قد يتفق للشيخ ره الحكم بكفر مستحلّ ما خالف إجماعنا خاصّة كما تقدّم نقله عنه في باب الأطعمة و هو نادر، و في حكم الصنم ما يقصد به العبادة للمسجود له فلو كان لمجرّد التعظيم مع اعتقاد عدم استحقاقه للعبادة لم يكن كفرا بل بدعة قبيحة و ان

استحق التعظيم بغير هذا النوع لان الله تعالى لم ينصب السجود تعظيما لغيره انتهى «1» و قد تعرّضنا لكلامه مع طوله كي تتضح الموارد التي يحكم فيها بالكفر و تتميّز عن غيرها حتى لا يقع الإنسان في الحكم بكفر من ليس بكافر أو بإسلام من ليس بمسلم فإنه ربّما تشتبه الموارد، و الاحتياط فيها مشكل.

ثم إن له قدس سره الشريف كلاما آخر حول الكفر و الإيمان ذكره في كتاب حقائق الإيمان. قال: عرّف الكفر جماعة بأنّه عدم الإيمان عمّا من شأنه ان يكون مؤمنا سواء كان ذلك العدم بضدّ أو بلا ضد فبالضد كان يعتقد عدم أحد الأصول التي بمعرفتها يتحقق الإيمان أو عدم شي ء منهما و بغير الضد كالخالي من الاعتقادين إي اعتقاد ما به يتحقق الايمان و اعتقاد عدمه و ذلك كالشاك أو الخالي

______________________________

(1) الروضة ج 2 ص 368.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 334

بالكلية كالذي لم يقرع سمعه شي ء من الأمور التي يتحقق الايمان بها، و يمكن إدخال الشك في القسم الأول إذ الضد يخطر بباله و إلا لما صار شاكا.

و خلاصة كلامه أن الكفر هو عدم الاعتقاد بواحد ممّا يتحقق به الإيمان كالأصول الخمسة عندنا أو الثلاثة عند العامة أو عند بعضهم فالأيمان هو الاعتقاد بهذه الأمور و الكفر عدم الاعتقاد بها سواء كان مقرونا باعتقاد ما يخالفه أو لا.

ثم قال: و اعترض بأنّ الكفر قد يتحقق مع التصديق بالأصول المعتبرة في الإيمان كما إذا القى إنسان المصحف في القاذورات عامدا أو وطأه كذلك أو ترك الإقرار باللسان جحدا و حينئذ فينتقض حدّ الايمان منعا و حدّ الكفر جمعا.

يعني إن التعريف بالنسبة إلى الايمان ليس مانعا للأغيار و

ذلك لأنّ ملقى القرآن في المقذر مثلا مع كونه معتقدا بالأصول الاعتقادية داخل في التعريف فهو مؤمن و الحال أنه كافر بلا كلام فالتعريف شامل له و لذا ليس بمانع للأغيار كما أنه بالنسبة إلى الكفر ليس جامعا للافراد و ذلك لان مقتضى التعريف أن الكفر يتحقق بعدم الاعتقاد و الحال أن ملقى القرآن كافر بلا كلام و عليه فتعريف الكفر بعدم الاعتقاد ليس جامعا للأفراد لأن ملقى القرآن معتقد ليلزم أن لا يكون التعريف جامعا لأفراد المعرف.

ثم قال: و أجيب تارة بأنا لا نسلّم بقاء التصديق لفاعل ذلك و لو سلّمنا بقاؤه حالة وقوع ذلك لكن يجوز ان يكون الشارع جعل وقوع شي ء من ذلك علامة و امارة على تكذيب فاعل ذلك و عدم تصديقه فيحكم بكفره عند صدور ذلك منه و هذا كما جعل الإقرار باللسان علامة على الحكم بالايمان مع أنه قد يكون كافرا في نفس الأمر و تارة بأنه يجوز أن يكون الشارع حكم بكفره ظاهرا عند صدور شي ء من ذلك حسما لمادّة جرأة المكلّفين على انتهاك حرماته و تعدّى حدوده و ان كان التصديق في نفس الأمر حاصلا و غاية ما يلزم من ذلك جواز الحكم بكون شخص واحد مؤمنا و كافرا و هذا لا محذور فيه لأنا نحكم بكفره

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 335

ظاهرا و إمكان ايمانه باطنا فالموضوع مختلف فلم يتحقق اجتماع المتقابلين ليكون محالا و نظير ذلك ما ذكرناه من دلالة الإقرار على الإيمان فيحكم به مع جواز كونه كافرا في نفس الأمر «1».

أقول: انه قدس سره ذكر في دفع الإشكال ثلاثة وجوه: الأول أن الاشكال وارد إذا كان هذا الذي يأتي بهذه

الأمور العظيمة باقيا على تصديقه و نحن لا نسلم ذلك بل ننكره و نقول بأن اعتقاده قد ارتفع و زال و إلا لما كان يقدم على تلك الأمور.

الثاني سلّمنا بقاء تصديقه و لكن من الممكن أن يكون الشارع جعل صدور شي ء من هذه الأفعال علامة و امارة على تكذيب من أتى به و أنه لا تصديق له فيحكم عليه بالكفر بمجرّد صدوره منه و إقدامه عليه كما ترى أن الشارع جعل الإقرار باللسان علامة على الإيمان و حكم بإيمان المقر مع أنه ربما يكون في الواقع و نفس الأمر كافرا.

الثالث أنه يمكن ان يكون الشارع حكم بكفر هذا الشخص في الظاهر و إن كان باقيا على تصديقه واقعا و ذلك لقلع مادّة فساد اجتراء المكلفين و إقدامهم على هتك حرمات الله و التعدي عن حدود سبحانه فلو لا ذلك الحكم الشديد لكثر المتجرءون على ذلك و شاع الارتداد عن دين الله، و لا يرد عليه شي ء سوى الإشكال بأن لازم ذلك اتصاف شخص واحد بكونه مؤمنا و كافرا، و نحن نلتزم بذلك لعدم محذور فيه أصلا لعدم اجتماعهما بلحاظ واحد فان كفره بلحاظ الظاهر و ايمانه في نفس الأمر و الواقع، فلم يجتمع الكفر و الايمان في مقام واحد كي يلزم المحال هذا.

و لكن كلّ هذه الوجوه محلّ النظر و الكلام.

أما الأول فلانّا ننكر الملازمة بين الإتيان بشي ء من الأمور المزبورة و ارتفاع

______________________________

(1) حقائق الإيمان ص 107- 105.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 336

التصديق فإنه قد يقدم الإنسان على ذلك لا لكونه منكرا و مكذبا أو راجعا عمّا هو عليه من الاعتقاد بل يأتي به لغلبة هواه نعوذ بالله أو غير ذلك

كشدّة الغضب و ان لم يكن غضبه بحيث يخرجه عن حاله الطبيعي و بعبارة اخرى إنّ القول بعدم الاعتقاد بالأصول ممّن صدرت منه تلك الأفعال أو الأقوال بحيث يكون صدورها عن المعتقد محالا خلاف الوجدان فترى أن الامام المعصوم علي بن الحسين و حجة ربّ العالمين يقول في دعائه الشريف و مناجاته السامية: الهي ما عصيتك حين عصيتك و انا بربوبيتك جاحد و لا لأمرك مستخف و لا لوعيدك متهاون. و لكن. غلبني هواي. [1]

فكم يأتي الإنسان في مواقف غلبة الهوى بأمور لا يلتزم بها و لا ما يلازمها في نفسه بل ينكره أشدّ الإنكار.

لا يقال: إن التصديق هو الاعتقاد و هو نظير الحبّ حالة نفسانيّة لا يجتمع مع الأمور المزبورة فإنّها ناقضة لتصديقه فهل يمكن ان يكون من يدّعي حبّ زيد، حبّا شديدا، صادقا في ادعائه و هو يقدم على قتله؟! [2] لأنا نقول: قد يجتمعان، فترى أن فلانا يعلم أن أمر كذا يضره جدّا و هو قاطع بذلك و مع ذلك يرتكبه أو لا يدعه، و حكاية حيوان وضع ابنه تحته لسلامة نفسه في الحمام الحار جدّا معروفة. نعم يصحّ أن يقال بزوال كمال الحالة بسبب الإتيان بهذه الأمور.

و امّا الجواب الثاني ففيه أنّه إذا سلّمتم بقاء التصديق فكيف يجوز ان يكون الشارع جعل وقوع شي ء من ذلك امارة و علامة على عدمه فاذا علم و قطع بوجود شي ء فهل يمكن جعل الامارة على خلافه؟

______________________________

[1] من فقرأت دعاء أبي حمزة الثمالي رضوان الله عليه.

[2] قاله هذا العبد و قد أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله- نور الله قبره- بما قررناه مع ما ذكره من المثالين، و مع ذلك ففي النفس شي ء و لم

اقتنع كاملا لأنه لا يجتمع- كما ذكرته- كمال الحب لأحد مع الاقدام على قتله للمحبوب و كم فرق بين الاقدام على المعاصي المتداولة و بين الإتيان بهذه الأمور فإن الفاء القرآن. يعتبر تكذيبا و نقضا و لا بوجه بأنه مجرد غلبة الهوى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 337

و من المعلوم أن جعل الامارة مختصّ بالأمور المشكوكة.

و أمّا الجواب الثالث ففيه أنه لا محصّل له لان الحكم الظاهري و الواقعي يتمّ فيما إذا كان هناك واقع مشكوك و مجهول فيجعل على هذا المشكوك حكم في الظاهر كما أن للخمر بواقعة حكم و هو الحرمة و لكن إذا كان الشي ء مشكوك الخمرية فله حكم في الظاهر و هو الحل فلا يجري هذا الكلام في المقام حيث إن المفروض هو العلم بالواقع فاذا كان الشخص مسلما واقعا و علم ذلك فيكف يحكم بكفره ظاهرا و هل هذا إلا القول باجتماع الضدّين؟ و على هذا فيمكن أن يقال بأنّ الايمان ليس هو مجرّد الاعتقاد بل هو مع الإقرار باللسان بل و العمل بالأركان غاية الأمر ان يراد بالعمل بالأركان ان يكون عباداته التي يأتيها بجوارحه لله تعالى في مقابل العبادة للصنم مثلا التي هي ملازمة للكفر، لا مطلق أفعاله و ما يأتيه بجوارحه و بعبارة أخرى المعاصي التي يقترفها فإنها ليست ملازمة للكفر، بل هي توجب الفسق، و قد ورد في الآثار أن الإيمان تصديق بالجنان و إقرار باللسان و عمل بالأركان.

و امّا الإسلام فهو الإقرار بالشهادتين و هذا كاف في الحكم بالإسلام إذا لم يأت بما يخالف و يناقض إقراره، فالمنافقون الذين أخبر الله تعالى بكذبهم في تصديقهم رسالة رسول الله صلى الله عليه و آله

كما في سورة المنافقين لم يكونوا مؤمنين لعدم التصديق و لكن كانوا يقرّون ظاهرا بالإسلام و كان يحكم عليهم بأحكام الإسلام و هذا الحكم جار في مطلق من أقرّ بالإسلام و الشهادتين ما لم يأت بما يناقض شهادته فعلا أو قولا كما إذا ألقى القرآن في المقذر أو قال: بأني لا أقبل الإسلام مثلا.

و الذي يدلّ على ما ذكرنا هو قصّة الشيطان فإنه كان على اعتقاده بالنسبة إلى الله تعالى و قد طلب من الله سبحانه الإنظار إلى يوم الدين فلم يكن منكرا لله تعالى إلا أنّه لم يأت بما امره الله تعالى به من السجود لآدم (عليه السلام) فلذا صار كافرا كما في صريح القرآن الكريم

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 338

و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ابى و استكبر و كان من الكافرين. «1»

فالاستكبار في قبال الله تعالى و الإباء عن طاعته و إحساس الاستقلال في جنب الله تعالى كفر و ان كانت اعتقاداته باقية على حالها.

و على الجملة فذهاب الايمان أي الاعتقاد بمجرّد الإتيان بالأفعال المزبورة ممّا يكذّبه الوجدان.

لا يقال: إنّ التعبير ب «كان» في الآية الكريمة يدلّ على أنه كان من قبل ذلك كافرا لا أنه صار من الكافرين باستكباره، و يعتبر استكباره مناقضا لاعتقاده.

لأنّ المراد من كونه كافرا هو ذلك و قد قيل بأن المعنى: و صار من الكافرين.

ثم إن ما نقلناه عن الشهيد الثاني قدس سره كان قد نقل عنه السيد الشبر أيضا في حق اليقين و مع ذلك فله قدس سره تتميم كلام لم يذكره السيد رضوان الله عليه و هو قوله: و أقول أيضا: النقض المذكور لا يرد على جامعيّة تعريف

الكفر و ذلك لأنه قد بيّن أن العدم المأخوذ فيه أعمّ من ان يكون بالضد أو غيره و ما ذكره من موارد النقض داخل في غير الضدّ كما لا يخفى و حينئذ فجامعيّته سالمة لصدقه على الموارد المذكورة و الناقض و المجيب غفلا عن ذلك.

ثم قال: و يمكن الجواب عن مانعيّة تعريف الايمان أيضا بأن نقول: من عرّف الايمان بالتصديق المذكور جعل عدم الإتيان بشي ء من موارد النقض شرطا في اعتبار ذلك التصديق شرعا و تحقق حقيقة الايمان و الحاصل أنا لمّا وجدنا الشارع حكم بإيمان المصدق و حكم بكفر من ارتكب شيئا من الأمور المذكورة مطلقا علمنا أن ذلك التصديق إنّما يعتبر في نظر الشارع إذا كان مجرّدا عن ارتكاب شي ء من موارد النقض و أمثالها الموجبة للكفر، فكان عدم الأمور المذكورة شرطا في حصول الإيمان و لا ريب أن المشروط عدم عند عدم شرطه و شروط المعرف

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 34.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 339

التي يتوقف عليها وجود ماهيته ملحوظة في التعريف و إن لم يصرّح بها فيه، للعلم باعتبارها عقلا لما تقرّر في بداهة العقول أنه بدون العلّة لا يوجد المعلول، و الشرط من اجزاء العلّة كما صرّحوا به في بحثها و الكلّ لا يوجد بدون جزئه.

و يرد على ما افاده من الجواب الأول بأنا لا نلتفت كاملا انه كيف يكون ما ذكره المعترض من موارد النقض داخلا في غير الضد بعد إمكان وجود الاعتقاد مع الإتيان بالأفعال المذكورة كهتك القرآن الكريم، فلا يمكننا تصديقه في ذلك.

نعم ما افاده ثانيا أعني عدم مانعية تعريف الايمان فهو صحيح و قد استحسن و استرضى هذه النكتة التي أفادها و

اعتبرها من هبات الواهب تعالى و تقدس و قال:

و لم نقدم لذلك مثلا و ان لم نكن له أهلا انتهى كلامه رفع مقامه «1».

و على هذا التحقيق الذي أفاده قدس سره فليس كل من أقدم على الأمور العظيمة المذكورة ممّن زال اعتقاده بل يمكن بقاء اعتقاده بعد، إلا أنه يستفاد من الأدلة كالآية الحاكية عن حكاية الشيطان أن هذه الأمور توجب الكفر و ان كان الاعتقاد بحاله فإنه مشروط بعدم الإقدام على هذه الأمور و ان لم يكن مركبا بل كان بسيطا فان من أتى بها فهو كمن يقول بالتناقض.

و قد تحصل ممّا ذكرنا أن الإتيان بما هو هتك لساحة الكعبة أو القرآن يوجب الكفر و الارتداد و ان كان اعتقاده باقيا كما إذا فعل ذلك لغلبة الهوى أو جدلا و اعتراضا على فعل خصمه، فعدم الإقدام على ذلك شرط و ذلك بلحاظ الأخبار كما ربّما يستفاد اشتراط الايمان بعدم ردّه الأئمة عليهم السلام.

و أمّا المنحرفون السابقون الى الشرّ و الفساد المخالفون لعترة رسول الله و المنافقون فهم- كما ورد في الأخبار- لم يكونوا بمؤمنين و لم يؤمنوا بالله طرفة عين الا أنه قد عومل معهم معاملة المؤمن بالله لمصلحة الإسلام و تثبيت أمر الدين فحكم عليهم بمقتضى شهادتهم الظاهرية بحكم الإسلام و هو في الحقيقة نظير الحكم الاضطراري.

______________________________

(1) حقائق الايمان 108- 107.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 340

لا يقال: و كيف يكون الحكم الاضطراري ثابتا على مرّ الدهور و الأيّام، حادثا من صدر الإسلام و باقيا إلى قيام القائم عليه السلام، و هل يمكن الحكم بإسلام جمع غفير في الدهر الطويل للاضطرار إلى ذلك؟

و ذلك لأنا نقول: لا بأس بذلك إذا اقتضت

المصلحة ذلك فمن أبطن الكفر و لم يظهره بل أبدى الشهادتين لا يترتب عليه أحكام الكفر و لا يعامل معه معاملة الكفار بل هو مسلم ظاهرا فيكون الحكم حكما واقعيا ثانويا لا حكما ظاهريا فان الحكم الظاهري كان في مورد الشك كالحكم بطهارة مشكوك الطهارة و النجاسة و هنا قد ثبت كفر المنافقين فالحكم بإسلامهم من باب الحكم الثانوي الواقعي.

ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر ما يتحقق به الكفر و أن من جملته إنكار الضروري قال: بل الظاهر حصول الارتداد بإنكار ضروري المذهب كالمتعة من ذي المذهب أيضا لأن الدين هو ما عليه، و لعلّ منه إنكار الإماميّ أحدهم عليهم السلام إلخ.

و ذكر رحمه الله بعض الروايات الدالة على مراده و عليه فمثل إنكار الإمامة أو مسح الرجلين أو المتعة الذي لا يوجب الكفر بالنسبة إلى سائر الفرق الإسلامية يوجب الكفر إذا أنكره الشيعة و ذلك لأنه من جملة مجموعة الدين عنده فإنكاره إنكار للدين و لا محالة يقتضي الكفر.

و لا يخفى أنه على ذلك يشكل الأمر جدّا بالنسبة إلى بعض من ينتحل التشيع ممّن يكتب أو يقول ببعض مقالات العامة و يروّج بعض معتقداتهم أو ما يلائم مذهبهم.

و قد عقد المحدّث الحرّ العاملي رحمة الله عليه، تحت عنوان: باب جملة ممّا يثبت به الكفر و الارتداد و خرّج هناك سبعة و خمسين حديثا ننقل نحن شطرا منها:

عن ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 341

يقول: من شبّه الله بخلقه فهو مشرك و من نسب اليه ما نهى عنه فهو كافر «1».

فعدم تشبيه الله تعالى بخلقه من ضروريات مذهبنا فلا يجوز

عندنا تشبيهه بأحد و بأي نحو من التشبيه، و لعلّ السرّ في إطلاق المشرك عليه هو أنه قد جعل الخلق في قبال الله تعالى فالمشبه و المشبه به عنده، الله تعالى.

عن المفضل بن عمر قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام و عليّ ابنه في حجره و هو يقبّله و يمصّ لسانه و يضعه على عاتقه و يضمّه إليه و يقول: بأبي أنت ما أطيب ريحك و اطهر خلقك و أبين فضلك، إلى أن قال:

قلت: هو صاحب هذا الأمر من بعدك؟ قال: نعم، من أطاعه رشد و من عصاه كفر «2».

و ظاهر هذا أيضا هو العموم و أن كل من عصاه فهو كافر و لعلّ المقصود إنكار إمامته عالما بأنه امام فتنطبق على محلّ البحث من إنكار ذلك من أهل المذهب.

عن عبد السلام بن صالح الهروي عن الرضا عليه السلام في حديث قال: من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر «3».

عن يزيد بن عمر الشامي عن الرضا عليه السلام في حديث قال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر و من زعم أن الله فوّض أمر الخلق و الرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض و القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك «4».

قد عدّ القائل بالجبر كافرا حيث قال: بانّ العباد مجبورون في أفعالهم، و القائل بتفويض الأمور إلى العباد فقد أشرك بالله و جعل له سبحانه شريكا لقوله له بإدارة الأمور بيد غيره تعالى أيضا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من

أبواب حد المرتد ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 342

و مذهب الشيعة هو أنه لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين.

و عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام في حديث قال: من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك و نحن منه برءآء في الدنيا و الآخرة «1».

عن الحسن بن الجهم قال: قال المأمون للرضا عليه السلام: يا أبا الحسن ما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا عليه السلام: من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم مكذّب بالجنّة و النار «2».

و أمّا التناسخ فقال في مجمع البحرين: التناسخ الذي هو أطبق على بطلانه المسلمون هو ما مرّ في روح من تعلّق الأرواح إلى آخر ما ذكره هناك. قال الفخر الرازي نقلا عنه: ان المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردها في الأبدان لا في هذا العالم، و التناسخية يقولون بقدمها و ردّها إليها في هذا العالم و ينكرون الآخرة و الجنة و النار و انّما كفروا من هذا الإنكار. انتهى و الحكم بكفرهم معلوم إذا قالوا بقدم الروح فإن الروح حادث كما مرّ فإنه كالبدن.

إلى غير ذلك من الروايات الشريفة فراجع، و دلالة بعضها على المقصود و ان كانت غير تامّة إلا أنه لا ترديد في دلالة بعضها الآخر.

فعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أ رأيت من جحد اماما منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماما من الأئمة و بري ء منه و من دينه فهو كافر و مرتدّ عن الإسلام لأن الإمام من الله و دينه دين الله و من بري ء من دين

الله فدمه مباح في تلك الحالة إلا أن يرجع أو يتوب الى الله ممّا قال «3».

و عن أحمد بن محمد بن مطهر قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد عليه السلام يسأله عمّن وقف علي ابي الحسن موسى عليه السلام: فكتب: لا تترحم

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 6.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 38.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 343

على عمّك و تبرأ منه انا إلى الله منه بري ء فلا تتولّهم و لا تعد مرضاهم و لا تشهد جنائزهم وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً، من جحد اماما من الله أو زاد اماما ليست إمامته من الله كان كمن قال: ان الله ثالث ثلاثة، إن الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا «1».

و الإنصاف ان هذه الأخبار أيضا لا يخلو عن اشكال و ذلك لأن الجحد هو الإنكار عن علم و معلوم أن الجاحد العالم كافر.

إن قلت: الجاحد أعمّ و لذا قال الله تعالى: و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم «2» و لو كان يعتبر في الجحد، العلم، لما كان مجال لقوله: و استيقنتها [1].

نقول: إنه توضيح لمعنى الجحد و مؤكّد له.

و على الجملة فالحكم بكفر هذه الفرق مشكل خصوصا مع وجودهم في أعصار الأئمة الطاهرين عليهم السلام و عدم معاملتهم معاملة الكفار، فهل كانوا يعاملون مع الواقفية معاملة الكفار؟ ثم أ لم يكن العلوي المشهور قد سعى لموسى بن جعفر عليه السلام عند هارون حتّى أقدم على قتل الإمام فهل كان هو كافرا عندهم عليهم

السلام؟ فلعل ما ورد من أن من عصاهم فقد كفر، يراد به عصيانهم مع إنكارهم علما، أو يراد به عدم كمال إيمانهم.

و قد يقال بأنّ صاحب الجواهر الذي استظهر هنا حصول الارتداد بإنكار ضروري المذهب، استشكل في ذلك في مسألة من ادّعى النبوّة قائلًا: و قد يلحق مدّعى الإمامة بمدّعي النبوة و كذا من شكّ فيه و كان على ظاهر التشيع كي يكون بذلك منكرا لضروري الدين بعد أن كان عنده من الدين هو ما عليه من المذهب فهو حينئذ كمن أنكر المتعة ممّن كان على مذهب التشيع، و في جملة من النصوص أن الشاك في عليّ كافر، إلا أنّ الإنصاف بعد ذلك كلّه عدم خلوّ

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 10 من أبواب حد المرتد ح 40.

(2) سورة النمل الآية 14.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 344

الحكم المزبور من إشكال إلخ «1» هذا مضافا إلى إطلاق الكفر على غير المصطلح منه كما في تارك الحج لا منكره حيث قال سبحانه: و من كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين «2» و مع ذلك يشكل الحكم بالارتداد و التهجّم على الدماء [1].

و هو كذلك فإن منكري ضروريّات المذهب كانوا في أعصار الأئمة الطاهرين عليهم السلام كثيرين و لم يكونوا صلوات الله عليهم أجمعين يعاملون معاملة الكفار و المرتدين بل و كان يصدر أمثال الأمور المزبورة من بعض في محضر النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم و لم يكن صلى الله عليه و آله يحكم بارتداده كما حكي أن بعض أزواج الرسول قالت في واقعة: إن الله سمع من فوق العرش. فكانت في بساطة من الدين و المعارف

بحيث كانت تتخيل أن الله تعالى مستقر فوق العرش نظير ما يقوله المجسّمة و مع ذلك فكانت مع رسول الله و لم يطردها و لم يخرجها عن بيته و لا استتابها و لا حكم بقتلها مع اباءها، و على ذلك يحمل الكفر في كثير من الموارد المبحوث عنها أي إنكار ضروريات المذهب على نوع من الكفر و مرتبة من مراتبه الكثيرة.

بقي في المقام أنّه يكفي في تحقّق الارتداد ترك الدين و العدول عنه بلا فرق في حكم الارتداد بين ما إذا انتحل بعد الارتداد نحلة من النحل الباطلة أو لا و ذلك لصدق الاسم و إطلاق الأخبار.

هذا كلّه بالنسبة للموضوع و أما بالنسبة إلى الحكم فقالوا بأنّه لو كان المرتد فطريا فإنه لا يقبل إسلامه لو رجع و تاب و بعبارة أخرى إنّ توبته غير مقبولة لاقتضاء الأخبار ذلك.

و هذا أيضا محل البحث و الكلام عندهم فقد قال جمع بأنّه لا تقبل من أي

______________________________

[1] أورده هذا العبد في يوم الأربعاء 28 ج 1- 1410 ه ق.

______________________________

(1) راجع الجواهر ج 41 ص 442.

(2) سورة آل عمران الآية 97.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 345

ناحية لا ظاهرا و لا واقعا و قال فرقة بأنه تقبل توبته واقعا و إنّما لا تقبل من ناحية الأحكام الخاصة الثلاثة قال الشهيد: و لا تقبل منه التوبة ظاهرا و في قبولها باطنا وجه قوى «1».

و عليه فهو لا يعذّب في الآخرة، و امّا الأحكام الخاصّة فهي تجري عليه و أمّا طهارة بدنه فإنه يبحث في أنّه يرجع بدنه طاهرا كما أنّ عليه العبادات أو أنه بعد نجس كما كان أيام ردّته.

و أمّا الأحكام الثلاثة فالأول تحتّم قتله فيجب

ان يقتل بعد ارتداده و لا يجوز التأخير في ذلك و يدلّ على ذلك أمور بعد ان لم يكن في القرآن منه شي ء.

أحدها النبويّ صلى الله عليه و آله: من بدّل دينه فاقتلوه «2».

و المراد من تبديل الدين هو ترك الإسلام مع الإقبال الى نحلة أخرى و بدونه.

و امّا ترك النصرانية مثلا و الإقبال إلى الإسلام فمعلوم أنه غير مراد من الحديث الشريف.

ثانيها الأخبار الخاصة.

فعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن المرتد فقال: من رغب عن الإسلام و كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و آله بعد إسلامه فلا توبة له و قد وجب قتله و بانت منه امرأته و يقسم ما ترك على ولده «3».

و هذه الرواية و إن كانت مطلقة لكنّها تخصّص بالمرتدّ الفطري بقرينة غيرها من الروايات.

و عن عمّار الساباطي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام و جحد محمدا صلى الله عليه و آله نبوته و كذّبه فإنّ

______________________________

(1) الدروس الطبع الجديد ج 2 ص 52.

(2) مستدرك الوسائل ج 18 ص 163 نقلا عن الدعائم.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 346

دمه مباح لمن سمع ذلك منه و امرأته بائنة منه يوم ارتدّ و يقسم ماله على ورثته و تعتدّ امرأته عدّة المتوفى عنها زوجها و على الامام أن يقتله و لا يستتيبه «1».

و عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام: إن رجلا من المسلمين تنصر فأتى به أمير المؤمنين عليه السلام فاستتابه فأبى عليه فقبض على شعره ثم قال: طئوا

يا عباد الله فوطؤوه حتى مات «2».

و لا بد من حمل هذه على المرتدّ الملّي و ذلك لمكان الاستتابة المختصة به.

و عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن مسلم تنصر قال: يقتل و لا يستتاب. قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد قال: يستتاب فإن رجع و إلا قتل «3».

و عن الحسين بن سعيد قال: قرأت بخطّ رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: رجل ولد على الإسلام ثم كفر و أشرك و خرج عن الإسلام هل يستتاب أو يقتل و لا يستتاب؟ فكتب عليه السلام: يقتل «4».

و قال شيخ الطائفة أعلى الله مقامه: روى أن شيخا تنصر فقال له عليّ عليه السلام: ارتددت؟ فقال: نعم. فقال له: لعلّك أردت أن تصيب مالا ثم ترجع؟

قال: لا قال: لعلّك ارتدت بسبب امرأة خطبتها فأبت عليك فأردت أن تتزوّج بها ثم ترجع؟ قال: لا قال: فارجع، قال: لا حتّى ألقى المسيح، فقتله «5».

لكن هذه الرواية أيضا محمولة على المرتدّ المليّ بقرينة الاستتابة فإنها تختصّ به.

ثالثها الإجماع. قال الشيخ في الخلاف عند ذكر قسمي المرتدّ: أحدهما ولد

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 3.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 5.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 1 من أبواب حد المرتد ح 6.

(5) المبسوط ج 7 ص 281.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 347

على فطرة الإسلام من بين مسلمين فمتى ارتدّ وجب قتله و لا يقبل توبته. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم إلخ «1».

و قال في المبسوط: فمن ارتد

عن الإسلام لم يخل من أحد أمرين أمّا ان يكون رجلا أو امرأة فإن كان رجلا قتل لإجماع الأمّة «2».

فلو فرض عدم تواتر الأخبار المذكورة فإنه يكفي كونها معمولا بها و مجمعا عليها [1].

و الظاهر أنه لا حاجة إلى إذن الولي بل يجوز لكلّ من علم بذلك أن يقتله إذا لم يفض ذلك إلى قتله بعدم إمكان إقامة البينة على ردّته و إثبات ذلك بها.

و امّا إبانة زوجته عنه بالارتداد و كذا اعتدادها عدة الوفاة و قسمة أمواله فلا خلاف فيها أيضا و قد دلّت عليها الأخبار الشريفة كصحيح محمد بن مسلم و موثق عمّار الساباطي و قد تقدّم ذكرهما آنفا.

و لو تاب فالظاهر قبول توبته و جريان أحكام المسلم عليه الا في الأحكام الخاصة المذكورة و مقتضى الأصل لو شك في جريان أحكام المسلم عليه أم لا هو الاقتصار في عدم الجريان بهذه الأحكام الخاصة و امّا في غيرها فهو محكوم بحكم الإسلام و ذلك بمقتضى أنه قد رجع و أسلم.

______________________________

[1] و لا مخالف في المسألة سوى ما حكى عن ابن الجنيد من قوله بان المرتد مطلقا يستتاب فإن لم يقبل قتل فلا يجوز قتله من أول الأمر و إن كان فطريا و لم يفرق بينهما من هذه الجهة هكذا قالوا.

لكن لا يخفى عليك انه قد مال إلى ذلك في المسالك فإنه بعد ان استظهر من ابن الجنيد ذلك و التصريح بأنه مذهب العامة على اختلاف بينهم في مدة إمهاله قال: و عموم الأدلة المعتبرة يدل عليه و تخصيص عامها أو تقييد مطلقها برواية عمار لا يخلو من إشكال و رواية علي بن جعفر ليست صريحة في التفصيل إلا أن المشهور بل المذهب هو

التفصيل المذكور انتهى.

أقول: و قد مر آنفا نقل رواية علي بن جعفر باب 1 ح 5 و رواية عمار باب 1 ح 3.

______________________________

(1) الخلاف ج 3 كتاب المرتد مسألة 3.

(2) المبسوط ج 7 ص 281.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 348

و على هذا فيطهر بدنه لأنه مسلم بلا حاجة إلى التصريح بذلك كما و أن الحكم بنجاسته بردّته لم يكن مصرحا به في الأدلة إلا أنه كان ذلك مقتضى كونه كافرا فبعد ان ارتفع العلة و هي الكفر يرتفع المعلول أعني النجاسة.

و قال الشهيد الثاني في المسالك بعد ذكر الخبرين: و هذا الحكم بحسب الظاهر لا إشكال فيه بمعنى تعيين قتله و أما فيما بينه و بين الله تعالى فقبول توبته هو الوجه حذرا من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفا بالإسلام، أو خروجه عن التكليف ما دام حيّا كامل العقل و هو باطل بالإجماع و حينئذ فلو لم يطلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله أو تأخر قتله و تاب قبلت توبته فيما بينه و بين الله تعالى و صحّت عباداته و معاملاته و لكن لا يعود ماله و زوجته إليه بذلك و يجوز له تجديد العقد عليها بعد العدة أو فيها على الاحتمال كما يجوز للزوج العقد على المعتدّة بائنا حيث لا تكون محرّمة مؤبّدة كالمطلّقة ثلاثا إلخ.

أقول: وجه جواز نكاح غير زوجته بعد توبته واضح، لأنه صار مسلما، و أمّا جواز تجديد العقد عليها بعد عدّتها فلأنها تكون كالبائنة و من المعلوم جواز عقدها بعد عدّتها و هي لا تكون من المحرّمات بالأبد. و امّا وجه احتمال جواز عقدها في العدة- اي للزوج فان النكاح في العدّة محرّمة

على الغير- فهو عدم لزوم اختلاط المياه هنا بخلاف نكاحها لغير زوجها.

و أمّا ماله فحيث إنه انتقل بمجرّد كفره إلى ورثته المسلمين فلا وجه لعوده إليه بعد توبته.

و امّا وجوب قتله فقد مرّ انّه لا يردّ بالتوبة.

و لا يخفى أنّه و ان كان يحتمل أن يكون وجه قتله هو أنه كافر واقعا فلذا يقتل و لا ينفعه التوبة بالنسبة إليه بل توبته فيما بينه و بين الله و ينفعه في الآخرة لا في الخلاص عن القتل.

لكن من المحتمل عندنا أنه ليس هذا تعبدا خاصا بالمقام بل هو كسائر المقامات

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 349

الذي ثبت أنه بعد ثبوت الحدّ لا يدفع ذلك بالتوبة فهنا أيضا لو تاب قبل أن يصل الخبر إلى الحاكم و قبل أن يثبت فان التوبة رافعة للحد امّا إذا ثبت ذلك فإنّه يجري عليه و لا يدفع عنه فهنا لو ارتدّ و لم يطّلع عليه غيره و تاب فإنّه يعيش مع المسلمين و لا اطلاع لغيره على حاله كي يقتله، و لا داعي له الى إخبار الآخرين على أنه ارتد و تاب كي يقدموا على قتله، فهو يعمل بوظائف المسلمين و يعيش معهم و لا يخبرهم مخافة نفسه حيث إنهم لو علموا به لقتلوه لأنه مباح الدم.

و على الجملة فالقاعدة أنّ كلّ مسلم محقون الدم حتى يعلم بسبب مبرّر لقتله كالارتداد مثلا فلو حصل للمسلمين العلم بذلك فلهم أن يقتلوه و أمّا بدون ذلك فإنّهم يعاملون معه بالطبع معاملة المسلمين حيث لا يعهدون منه الكفر و الارتداد، فلو علموا بذلك فهو كسائر من ثبت عليه الحدّ بلا خصوصيّة للمقام فإن القتل هو الحدّ المجعول على المرتد الفطري.

و

الحاصل أن هذه الأحكام جارية على المرتد و ان تاب، و الإجماع قائم على ذلك، مضافا إلى بعض الروايات الواردة في المقام الدالة على المرام و هو المتيقن من الأحكام، و أمّا غيرها من الأحكام كالطهارة و قبول العبادات و ملك مالا يمكن تملكه للكافر فهو في هذه الأحكام كالمسلم بلا فرق بينهما و ذلك لاقتضاء التوبة ذلك.

و قد استدل على ذلك بأنه لو لم نقل بذلك للزم إمّا سقوط التكليف عن البالغ العاقل، و امّا التكليف بما لا يطاق لأنه بعد عدم قبول توبته لا يخلو عن كونه مكلّفا.

فعلى الأول يلزم التكليف بما لا يطاق فكيف يكلفه الله بما لا يمكن له إتيانه و لا يتيسّر صدوره عنه و كيف يصلي و هو نجس لا يمكن له الطهارة و بعبارة اخرى إنه مأمور بالصلاة الصحيحة و العبادة كذلك مع أنه لا يقدر على ذلك أبدا و من المعلوم أن التكليف بما لا يطاق محال على مذهب العدليّة و قواعدهم.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 350

و على الثاني يلزم عدم توجّه التكليف إلى من هو بالغ عاقل و هو ممتنع لأن كلّ بالغ عاقل فهو مكلّف بتكاليف الله سبحانه إذا فلا محيص عن القول بقبول توبته في غير الأحكام الخاصة فيصح أعماله و عباداته.

و في الجواهر: بل لعلّه المراد ممّا وقع من بعضهم من عدم قبولها ظاهرا و قبولها باطنا إلخ.

فقد حمل هذه العبارة على قبول توبته عند الله و في جميع الأحكام إلا في هذه الأحكام فلا يسقط قتله مثلا.

و ذكر هنا احتمالين آخرين- بالنسبة إلى الأحكام المزبورة- و ردّ عليهما.

أحدهما أن يكون المراد به مجرّد سقوط العقاب عنه في الآخرة و

إن حكم بنجاسته و بطلان عباداته.

يعني ان توبته إنّما تؤثر في الآخرة فتنجيه من عذاب الله سبحانه و امّا بالنسبة إلى الدنيا فلا اثر لها أصلا بل هو في حكم الكفار سواء في هذه الأحكام أم غيرها.

ثانيهما ان يكون المراد به قبول توبته في الطهارة و العبادات بالنسبة إليه خاصّة دون غيره ممّن يباشره.

يعني إنه يرى نفسه طاهرا يصحّ منه الصلاة و العبادات و أمّا غيره ممّن يباشره فيعامل معه معاملة النجس فيجتنب عن مسّه بالرطوبة السارية مثلا.

توضيح حال ذلك أنه كمن لا يقدر على التطهير مع أنه نجس قطعا حيث إن الشارع أسقط عنه حكم التطهير فيقبل منه صلاته و عباداته و ان كان غيره لا يعامل معه معاملة الطهارة و على الجملة فصلاته صحيحة مع كونه نجسا.

و كيف كان فقد نفاهما و ردّ عليهما بقوله: إذ هما كما ترى، ثم أيّد أولا التقريب المتقدّم أي قبول توبته مطلقا إلا في الأحكام الخاصّة المتقدّمة فقال: مؤيّدا ذلك كلّه بما وقع من غير واحد في بحث القضاء من الصلاة من أن المرتد يقضي

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 351

زمان ردته و إن كان عن فطرة بل لا خلاف معتد به فيه عندهم بل حكى غير واحد الإجماع عليه بل في ناصريات المرتضى إجماع المسلمين على ذلك و هو لا يتم الا على قبول توبته في غير الأحكام المزبورة إلخ.

أقول: هنا ثلاثة وجوه:

أحدها: وجوب قضاء صلوات أيام ردته بإجماع الأصحاب بل و إجماع المسلمين على ما ادعاه السيد و هذا يكشف عن قبول توبته و صحة أعماله و الا فكيف يقضي ما لا يقبل منه و لا يمكن له إتيانه.

و هنا بحث و

هو أن من جملة القواعد المسلّمة قاعدة الجبّ و هي أن الإسلام يجبّ ما سلف و لذا حكموا بأن الكافر إذا أسلم لا يجب عليه قضاء صلوات أيام كفره و لازم ذلك عدم وجوب القضاء على المرتد بعد توبته أيضا الذي هو من أقسام الكفر فكيف نقول بوجوب القضاء؟

فلا بد من إثبات أن القاعدة قد خصّصت بهذا و إلا فمقتضى شرف الإسلام و ترغيب الكافرين إلى الإسلام هو عدم الفرق بين إسلام الكافر ابتداء و الكافر المسبوق بالإسلام اللهم إلا أن يدلّ دليل قطعي كالإجماع على الفرق بينهما و أن قاعدة الجبّ لا تجري هنا.

ثانيها: ظهور التقييد في قوله تعالى: و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة «1» في أن من لم يمت كذلك أي في حال الكفر بل مات و هو مسلم لم يكن له الجزاء المذكور في الآية و المفروض أن هذا الكافر قد تاب و أسلم و على هذا فلا يحبط اعماله بل تصحّ منه ذلك.

ثالثها: عمومات التوبة المؤيدة بالعقل و غير ذلك مثل: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فإن هذه العمومات تقتضي قبول توبته و صحّة اعماله و عباداته.

______________________________

(1) سورة البقرة الآية 217.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 352

هذا و لكن صاحب الجواهر قدّس سرّه قد ناقش في المطلب قائلًا: لا مانع عقلا من عدم القبول و ان عوقب عقاب المكلّفين على ما وقع من سوء اختياره خصوصا بعد أن تقدم إليه في ذلك، بل لو سلّم اقتضاء العقل ذلك أمكن أن يخذلهم الله عن التوفيق لها.

إلى أن قال: و على كلّ حال فلا داعي إلى تنزيل

عموم نفي التوبة في النص و الفتوى و معقد الإجماع على خصوص الأحكام المزبورة، و الإجماع على قضاء زمان الردّة و لو على فطرة إنّما هو في مقام بيان أن الكفر الارتدادي لا يسقط القضاء لو تعقّبه الإسلام بخلاف الكفر الأصلي و يكفي في المثال للفطري المرأة التي تقبل توبتها و لو كانت عن فطرة كما ستعرف انتهى.

فأجاب عن اشكال التكليف باختيار كونه مكلّفا و عدم سقوط التكليف عنه، و أمّا لزوم تكليف ما لا يطاق ففيه أنه محال إذا كان ابتدائيا كما في أمر الشارع المكلّف بالطيران مع عدم القدرة على ذلك، و أمّا إذا كان عدم القدرة و الامتناع بسوء اختياره فلا إشكال كما قيل: الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهذا كان قد أوقع نفسه في هذا المشكل خصوصا إذا كان قد بلغه أنّ أمر المرتدّ كذا و أنه لا تقبل توبته.

ثم ذكر أنه لو سلّم اقتضاء العقل قبول توبته و صحّة أعماله أمكن أن يخذله الله تعالى عن التوفيق للتوبة.

و هذا الكلام و إن كان قد ينقل ما يشابهه- معتبرا أو ضعيفا- عن علي بن الحسين عليهما السلام بالنسبة ليزيد لعنه الله الا أن الإنصاف ضعف هذا الكلام و عدم صلاحيته جوابا عن الاشكال، فكيف يمكن ان يقال إن الله تعالى لا يوفق المرتد بالتوبة و مفروض البحث هو ما إذا تاب الى الله و أسلم و هل ما ذكره الا لخروج عن محل الكلام؟

كما أن ما ذكره أخيرا أيضا بالنسبة إلى القضاء ليس بتام و ذلك لأن الإجماع

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 353

قائم على لزوم قضاء صلوات أيام ردته و من المعلوم أنه لو لم تكن توبته

مقبولة لما أمكنه ذلك أبدا، و ليس المقام مثل تكليف الكفار بالفروع لأن معنى ذلك أنه يجب عليهم الإتيان بالفروع بشرائطها، أي يجب عليهم ان يسلموا ثم يصلّوا و هذا ممكن جدّا بخلاف ما نحن فيه الذي قد أسلم، فبناء على عدم قبول توبته يستحيل تكليفه بالقضاء و إنما يصحّ ذلك و يتمّ على القول بقبول توبته كي يكون العمل منه صحيحا فهذا الإجماع بنفسه كاشف عن قبولها منه و أن كلّ ما كان واجبا على المسلم يجب عليه في هذا الحال اي بعد توبته.

و على الجملة فلا فرق بعدها بينه و بين سائر المكلفين، و الإجماع القائم على وجوب قضاء الصلوات على من تاب عن ارتداده عام فكيف يحمل على خصوص المرأة في الفطري؟

لا يقال: ان الدليل على وجوب القضاء هو الإجماع و لا لسان له كي يتمسك بعمومه بل يؤخذ منه المتيقن [1].

لأنا نقول إنهم قد تمسّكوا بالإجماع في مورد المرتد مطلقا رجلا كان أو امرأة فهو هنا ذو لسان لتمسّكهم به في الموارد المختلفة، و وجوب القضاء دليل على التكليف و قبول التوبة.

و على الجملة فعمومات التوبة تقتضي قبول توبة المرتد الفطري أيضا غاية الأمر تخصيصها في خصوص الأحكام الخاصة، و هذه العمومات غير مخصصة.

لا يقال: انها مخصصة كما قال الله تعالى في قصة فرعون: الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين «1» «2».

و ذلك لأن الآية واردة بالنسبة إلى فرعون و توبته بعد أن عاين الموت و من المعلوم أنه لا توبة حينئذ لأنه قد فتح عليه باب الآخرة و البحث في التوبة في الدنيا

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

______________________________

(1) سورة يونس الآية 91.

(2) أورده هذا العبد.

الدر المنضود في أحكام

الحدود، ج 3، ص: 354

لا في الآخرة، فهذه الآية بنفسها دليل على عدم التخصيص و أن التوبة مقبولة مطلقا حتى بالنسبة للمرتد [1].

ثم إن صاحب الجواهر بعد ذكر المناقشات في قبول توبة المرتد الفطري قال:

و ما جاء من عموم التوبة و هو إن لم يكن للأول للشهرة المحكية و غيرها فلا أقل من الشك، و الأصل يقتضي عدم القبول انتهى.

أقول: يمكن أن يقال: ان المسلم و الكافر بنظر العرف موضوعان مختلفان فلا يجري فيه الاستصحاب.

[و لو قيل: إن الموضوع هو الرجل قبل التوبة كافرا، و بعد التوبة نشكّ في بقاء كفره، و الاستصحاب يقتضي كفره، نقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له دليل، و الأصل لا يعارضه بل لا اعتبار به بعده] [2].

ما يعتبر في الارتداد؟

قال المحقّق: يشترط في الارتداد البلوغ و كمال العقل و الاختيار فلو اكره كان نطقه بالكفر لغوا و لو ادّعى الإكراه مع وجود الأمارة قبل.

أقول: ظاهر العبارة اعتبار هذه الصفات في تحقّق الارتداد و صدقه فلو لم يكن من قال بالردّة بالغا أو عاقلا أو مختارا بل كان صبيّا أو مجنونا أو مكرها فلم يتحقّق الردة.

______________________________

[1] كذا افاده سيدنا الأستاذ الأكبر، و في النفس شي ء و ذلك لأنا نسئل: هل لا يكون هذا الشخص المشرف على الموت مكلفا على الصلاة؟ فما هو صلاة الغريق؟ و المفروض أن فرعون كان بحيث يشعر و يفهم و يتكلم و لذا قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل و انا من المسلمين:

يونس- 90 فكيف لا يكون من باب التخصيص؟ و على الجملة فالظاهر أنه توبة غير مقبولة.

هب أنه لا يكون من باب التخصيص فما يقال بالنسبة إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ

كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الضّٰالُّونَ- آل عمران- 90.

[2] هذه القسمة من دفتر مذكراته مد ظله العالي- نور الله مرقده.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 355

و هذا ليس بتامّ فإن الأمر في الموارد الثلاثة ليس على نسق واحد بل هو مختلف قطعا و ذلك لأنّ الصبيّ يمكن ارتداده مع صباه بأن يرجع عمّا اعتقده من التوحيد و الرسالة بحيث لو سألناه: هل رجعت عمّا كنت عليه و عمّا كنت تقوله؟

لأجاب بقوله: نعم قد عدلت و رجعت، و أمّا المكره فلا يتحقق في حقّه الردّة حيث إن اعتقاده ثابت لا يزول و إنّما الممكن في حقه هو التفوّه بكلمة الردة بل إجبار المؤمن على الرجوع قلبا عن إيمانه و اعتقاده، كالتناقض في الحقيقة.

و على الجملة فلا يمكن إجبار أحد على الرجوع عمّا يعتقده و إنّما الممكن هو الإجبار على التكلم بكلمة الكفر كما في مورد عمّار رضوان الله عليه حيث إنه تكلم بها و قلبه مطمئن بالإيمان على ما صرح به القرآن الكريم «1» و المجنون أيضا لا يتحقق فيه الإيمان و الكفر و إنّما يحكم بإسلامه تبعا مثلا في قسم من الأحكام كالطهارة بدنه و وجوب تجهيزاته و دفنه بعد موته و غير ذلك من الأحكام.

و على هذا فالمراد اعتبار الصفات المزبورة في الارتداد شرعا أو في جريان أحكام المرتد فلا تجري تلك الأحكام كوجوب القتل و غيره إلا إذا كان بالغا.

و كيف كان فيعتبر في إجراء أحكام المرتد البلوغ و ذلك لأدلة رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم.

و خالف في ذلك شيخ الطائفة قدس سره فذهب إلى أن المراهق إذا ارتد بعد إسلامه يجري عليه

الأحكام و ذلك للخبر الذي رواه من أن الصبي إذا بلغ عشر سنين أقيمت عليه الحدود التامة و اقتصّ منه و نفذت وصيّته و عتقه.

و فيه أنه خبر مرسل لا يقاوم الأدلة القوية الدالة على رفع القلم عن الصبيّ، و إن كان المراد هو قلم المؤاخذة و العقاب فإنها مترتبة على التكليف فضلا عن كون المراد منه هو قلم التكليف.

و أجاب عنه في الجواهر بقوله: و لكن شذوذه و عدم صراحته و معارضته بما هو أقوى منه من وجوه يمنع من العمل به.

______________________________

(1) سورة النحل الآية 106.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 356

و قد يقال: كيف يكون الخبر شاذّا و الحال ان الشيخ الطوسي نسبه إلى الأصحاب قائلًا: روى أصحابنا أن الصبيّ إذا بلغ عشر سنين أقيمت عليه الحدود التامّة. [1].

و فيه مضافا إلى أن الخبر مرسل، أنه كيف روى الأصحاب كلّهم ذلك الخبر و لا يوجد منه في كتب المتأخرين عين و لا اثر فهل يمكن أن يكون الخبر قد رواه الأصحاب و لم ينقله أحد من المتأخرين؟ و لعلّه قدس سرّه الشريف وجد رواية بعض الأصحاب له فنسبه إلى الأصحاب.

و أمّا الإشكال بأنّه أيّ إجمال في الخبر بعد التصريح بأنّ الصبيّ الذي بلغ عشرا أقيمت عليه الحدود التامّة [2].

ففيه أنه و إن صرّح بإقامة الحدود التامّة المراد منها ما يقابل التعزير إلا أنه لم يصرّح فيه بالارتداد، و المرتد، و حدّه، و الحاصل انه لا تصريح فيه بإقامة حدّ الارتداد عليه.

و المراد من المعارضة بالأقوى معارضة هذه المرسلة بالأدلّة القويّة الدّالة على اعتبار البلوغ في الكفر و ترتب أحكامه، و على هذا فلا يقام الحدّ على الصبيّ لارتداده. نعم يعزّر كي

يرتدع عن ذلك، و التعزير وظيفة الوليّ فإن عليه أن يؤدبه فليس التعزير دليلا على تكليف الصبي.

و بتعبير آخر: يعتبر في إجراء أحكام الارتداد عدم الصباوة فلا يجري الأحكام مع صدق المرتد على الصبي، و إنما الاختلاف في غاية الصباوة فالمشهور على أنه يمتد الحكم إلى البلوغ، و ذهب الشيخ إلى إجراء الأحكام على المراهق و من بلغ عشرا و قد تقدم استدلاله و الجواب عنه. هذا.

______________________________

[1] أورده هذا العبد.

[2] أورده هذا العبد و قد أجاب سيد مشايخنا بما قررناه و مع ذلك يرد أن (الحدود) جمع محلّى باللام و هو مفيد للعموم كما أن الشيخ صرح بذلك في آخر كلامه قائلًا: و ذلك عام في جميع الحدود. فراجع الخلاف كتاب اللقطة المسألة 20.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 357

و أمّا العقل فهو أيضا معتبر في إجراء أحكام المرتدّ فلا يقتل المجنون الذي أتى بالردة و هو ليس بمرتدّ واقعا فكما أن إسلامه لا يعتبر إسلاما كذلك كفره لا يعتبر كفرا، و إنّما هو محكوم بحكم المسلم و يعامل معه كذلك فيحكم بطهارة بدنه و حفظ نفسه و وجوب غسله و تجهيزه و دفنه بعد موته و إلا فلا عبرة بأقواله و أفعاله.

و لا فرق فيما ذكر من عدم تحقق الردة بين كون جنونه إطباقيا دائميا أو أدواريا يعرض و ينقطع بشرط صدور الردّة حال جنونه.

و من جملة الشرائط هو الاختيار فلا عبرة بردة المكره على ذلك و قد ذكرنا أن المكره لا يحصل منه الارتداد غاية الأمر أنه يكره على التلفظ باللفظ الخاص أو الفعل كذلك كما في قصة عمّار فهو نظير من أكره في نصف النهار على أن يقول بأنه في

ظلام الليل، فإن الإكراه على خلاف أمر واقعي مع اعتقاد القلب به غير معقول.

و الدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ «1».

و من السنة قوله صلى الله عليه و آله: رفع عن أمتي تسعة الخطأ و النسيان و ما أكرهوا عليه. «2» و على ذلك فللمكره أن يأتي بالأفعال أو الكلمات الدالة على الكفر و الصريحة فيه مطلقا حتى السب و البراءة.

نعم ورد النهى عن خصوص البراءة في بعض الأخبار و الآثار [1].

______________________________

[1] ففي الوسائل ج 11 ب 29 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ح 8 عن مجالس ابن الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:

ستدعون إلى سبي فسبوني و تدعون إلى البراءة مني فمدّوا الرقاب فإني على الفطرة.

______________________________

(1) سورة النحل الآية 106.

(2) توحيد الصدوق ص 353.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 358

لكن لا بد من حملها و توجيهها على ضرب من التأويل و التوجيه [1] أو أنّها

______________________________

[1] و أيضا عنه علي بن علي أخي دعبل الخزاعي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال: إنكم ستعرضون على سبي فإن خفتم على أنفسكم فسبوني الا و إنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تفعلوا فإني على الفطرة. ح 9.

و في نهج البلاغة خطبة 57 من كلام لأصحابه: أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد فاقتلوه و لن تقتلوه الا و انه سيأمركم بسبي و البراءة مني فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة

و لكم نجاة و أما البراءة فلا تتبرءوا مني فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة.

و في أنساب الأشراف للبلاذري ص 119 عن شهاب مولى علي عليه السلام: و انكم مستعرضون على سبي و البراءة مني فسبوني و لا تتبرءوا مني.

[1] أقول: من جملة التوجيهات هو حمل البراءة المنهي عنها على البراءة القلبيّة، و السبّ على التلفظ بكلمة السبّ و اللعن كما و قد يجمع بهذا بين ما دلّ على المنع عن البراءة و ما دلّ على جوازها فيحمل البراءة المنهي عنها على البراءة القلبيّة و المجوّزة على اللفظية. و هذا لا يساعد مذهب سيدنا الأستاذ و سيصرّح بذلك.

و منها ما ذكره ابن أبي الحديد من حمل البراءة على اللفظية إلا أنه لمّا لم تطلق البراءة في الكتاب الكريم إلا في حق المشركين كقوله تعالى: بَرٰاءَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

و قوله عزّ و جلّ: أَنَّ اللّٰهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ، فيحمل النهي في كلامه عليه السلام على أنّ التحريم في البراءة أشدّ و إن كان الحكم في كلّ من السب و البراءة التحريم.

و يرد عليه كما في مرآة العقول 9- 177 ان النهي عن البراءة في كلامه عليه السلام في حال الإكراه و لا فرق كما يقول هو أيضا به بينهما فيه فيجوز البراءة كما يجوز السب.

و منها ان يحمل النهى على التنزيه فيكون إظهار البراءة مكروها و الصبر على القتل مستحبا.

و منها أن يكون كل من السب و البراءة مكروها مع الإكراه و شدّتها في الثاني و يحمل الأمر بالسب في كلامه عليه السلام على الجواز و لو على وجه الكراهة.

و قال الشهيد قدس سره

في القواعد: التقية تبيح كل شي ء حتى إظهار الكفر و لو تركها حينئذ اثم إلا في هذا المقام [في قتل المسلم] و مقام التبري عن أهل البيت عليهم السلام فإنه لا يأثم بتركها بل صبره إمّا مباح أو مستحب خصوصا إذا كان ممّن يتقدى به انتهى.

هذا كله مضافا إلى ورود خلاف في ذلك الأخبار كما في خبر مسعدة بن صدقة راجع الوسائل- 11 باب 29 من الأمر بالمعروف ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 359

تطرح كما في الجواهر للمعارضة بالأقوى من وجوه، قال: خصوصا بعد قوله تعالى: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً. بل الظاهر وجوبه مع الخوف على النفس أو الطرف نعم ينبغي له التورية مع إمكانها انتهى.

و أما الجمع بحمل ما ورد من البراءة على البراءة القلبية و أما السب فهو من مقولة الألفاظ، فهو غير وجيه و ذلك لمّا تقدم من عدم إمكان الإكراه على خلاف ما اعتقده بالقلب.

ثم إنه كما لا عبرة بما يقع من المكره هكذا لا عبرة بما يقع من الغافل و الساهي و النائم و المغمى عليه من الأقوال و الأفعال المقتضية للكفر لو وقعت من غيرهم.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 359

هكذا في الجواهر ثم قال: بل لو ادعى عدم القصد إلى ما تلفظ به و إنما سبق به اللسان أو لغفلة من معناه أو عن أدائه إلى ما يقتضي الكفر أو السهو عن ذلك أو الحكاية عن الغير صدّق بلا يمين إذا لم يعلم كذبه.

و استدل على ذلك بثلاثة وجوه: الأصل

و الاحتياط و الشبهة. و المراد من الأصل هو الاستصحاب فإنه جار بالنسبة إلى ما كان عليه من الإيمان.

و أما الشبهة فلعدم العلم بإباحة دمه و جواز قتله و بذلك يدرء الحدّ.

و امّا الاحتياط فهو لا يخلو عن إجمال أو إشكال لأن المراد منه لو كان هو الاحتفاظ على الدماء و عدم التهجم فيها فهو متفرع على إحراز الأهمية بالنسبة إلى إجراء حدّ المرتدّ و لم يحرز ذلك بل لعله يستفاد العكس أي إن التفوه بكلمة الكفر أعظم الأشياء و أهم من كل شي ء حتى من حفظ النفس، و على الجملة فهنا واجبان مستقلان يتردد الأمر بينهما و يدور امره بين وجوب حفظ نفسه و وجوب قتله، و لا يمكن الاحتياط و الحال هذه.

و كما أن جواز قتله مشكوك كذلك وجوب حفظه مشكوك لدوران أمره بين كونه مسلما أو مرتدا.

و إن كان المراد من الاحتياط هو قاعدة الدرء فلا وجه لعده شيئا آخر و وجها مستقلا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 360

ثم تعرض هنا لفرع آخر بقوله: بل لعلّ من ذلك ما يصدر عند الغضب الذي لا يملك نفسه معه.

و في كلامه هنا أيضا نوع إجمال فلا يتّضح مراده من عدم ملك نفسه كاملا فإن كان المراد صيرورته من الغضب بحيث لم يدر ما يقول و لا يشعر ما يتكلم به كوقوع الإنسان بسبب حدوث الزلزلة على أحد و قتل الثاني به فهو صحيح فلا يترتب عليه أثر.

لكن قلّما يتفق ذلك جدّا، و امّا لو لم يكن المراد خصوص ذلك و أراد الأعم منه و ما كان دون ذلك فيشكل الحكم بأنه لا يترتب عليه الآثار، فان كل من يتفوه بالكلمات الخبيثة الموجبة

للرد فإن غضبه و شدة فوران نفسه حمله على التلفظ بذلك كما ان من يأتي بالفعل الموجب للردّة فإن شدة غيظه حملته على ذلك و ليس كلّ أحد كالإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان حاكما و غالبا على نفسه عند غضبه فيترك عمرو بن عبد ود و لا يقتله كي يخمد ثورة نفسه غضبا عليه فيقتله خالصا لله تعالى [1] «1».

و لو كان الأمر كذلك لوجب إحراز عدم كونه مسلوب الاختيار حتى يقتل و كيف لا يقال بذلك في باب القصاص؟! ثم إنه لو سلم ان المراد هو الاحتمال الأول فالذي يشكل الأمر هو أنه يصعب جدا تشخيص ذلك فمن أين يقطع بأنه بلغ في غضبه الى ان لم يبق له الاختيار.

نعم لو ثبت و تحقق ذلك لتم ما أفاده.

و كيف كان فما ورد في بعض الأخبار محمول على هذا المعنى فعن علي بن عطية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كنت عنده و سأله رجل عن رجل يجي ء

______________________________

[1] أقول: يمكن أن يكون المراد من الاحتياط هو أن الأمر دائر بين حق الناس و حق الله تعالى فان قتل المرتد حق الله و حفظ نفس المسلم حق الناس فهنا لو كان هو مسلما واقعا و لم يصر مرتدا فيجب حفظ نفسه و هو حقه و ان كان مرتدا يجب قتله لحق الله و التقدم لحق الناس.

______________________________

(1) قد مر ذكره في ج 2 من الدر المنضود ص 291.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 361

منه الشي ء على جهة غضب، يؤاخذه الله به؟ فقال: الله أكرم من أن يستغلق عبده- و في نسخة يستقلق عبده- [1].

في ادعاء الإكراه

قال المحقق: و لو ادعى الإكراه مع

وجود الأمارة قبل.

أقول: و الأمارة مثل كونه أسيرا بيد الكفار أو كان مخالطا لهم و الظاهر هو الإكتفاء بمجرد قوله و ادّعائه و إن لم يقرنه الإمارة و ذلك لأنه شي ء متعلق به و هو بنفسه يوجب الشبهة كما قد استدلّ على المطلب بحقن الدم و استصحاب الإسلام و درء الحدّ بالشبهة.

و مقتضى التقييد بوجود الأمارة هو الإشكال مع عدمها كما أن العلامة أعلى الله مقامه استشكل فيه و ان كان فرضه ليس هو عين محل البحث قال في القواعد: و لو شهد بردته اثنان فقال: كذبا لم يسمع منه و لو قال: كنت مكرها فإن ظهرت علامة الإكراه كالأسير قبل و إلا ففي القبول نظر أقربه العدم.

ترى أنه استشكل فيما إذا ادعى الإكراه بلا أمارة و قرب عدم القبول و وجه الإشكال أن ترجيح حقن الدم و استصحاب الإسلام و درء الحد بالشبهة يقتضي

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 ب 28 من أبواب حد القذف ح 1 و قوله: يستغلق عبده اي يكلفه و يجبره فيما لم يكن له فيه اختيار، و عن القاموس: استغلقني في بيعته، لم يجعل لي خيارا في رده.

و يمكن رجوع الاستغلاق بمعنى الاضطراب إلى الأول.

ثم إن صاحب الجواهر تعرض هنا لنكتة لم يتعرض لها سيدنا الأستاذ دام ظله- قدس الله روحه- في الدرس و هي أن ما ورد من أن الغضب يفسد الإيمان محمول على ما يقع منه مختارا لأجل الغضب لا ما يشمل الفرض المزبور انتهى.

و إني أظن أن مثل هذه الأخبار ليس من الاخبار الفقهية فليس المراد من إفساد الإيمان الارتداد كي يحتاج إلى التوجيه بل هو من الأخبار الأخلاقية فإن الغضب يؤثر قليلا قليلا إلى أن

يئول الأمر إلى زوال الإيمان عن قلب الغضبان.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 362

القبول، و من ناحية أخرى إن دعواه تتضمن تكذيب الشهود حيث إنهم قد شهدوا بالارتداد و هو يستلزم الاختيار إذ هو شرطه و لا ردة مع الإكراه.

ثم قال: و لو نقل الشاهد لفظا فقال: صدق لكني كنت مكرها قبل إذ ليس فيه تكذيب. انتهى.

فان اللفظ يحتمل ان يكون ناشيا عن الاختيار و عن الإكراه بلا فرق بين ما إذا لاح امارة الإكراه أم لا، إلا إذا علم بانتفاء الإكراه أو ثبت عدم كونه مكرها بالبينة، و الأصل و الاحتياط و الشبهة تمنع من التهجّم على قتله، و ان كان ما ذكرناه في الاحتياط سابقا يجري هنا أيضا.

هذا إذا شهدا باللفظة، و اما إذا شهدا بنفس الارتداد فمقتضى ما ذكره في القواعد هو الإشكال في قبول ادّعائه الإكراه مع عدم أمارة على الإكراه.

و استشكل في الجواهر بل قوى القبول إذا لم يكذب الشاهدين بأن ادّعى سببا خفيّا لم تعلم به البينة و كان مستند شهادتهما الأخذ بظاهر الحال.

أقول: و الحق ان ما أفاده صاحب الجواهر أقرب إلى الصواب بحسب الظاهر بالنسبة إلى ما قاله العلامة أعلى الله مقامه فإن الشهادة بالردة و ان كانت شهادة بالمسبب إلا أنها بالآخرة تئول إلى الشهادة باللفظ أو الفعل فيجري فيها ما يجري في الشهادة على اللفظة فإذا لم يكذب الشاهدين صريحا بل ادعى الإكراه فإنه يقبل قوله لإمكان وقوع الإكراه و استناده إلى سبب خفي عن الشاهدين، و الحدود تدرء بالشبهات.

ثم إنه إذا ثبت كونه مكرها فهل يفتقر بعد ذلك إلى تجديد الإسلام؟ الحق كما أنهم ذكروه عدم الافتقار إليه و ذلك لعدم تحقق

الارتداد منه كي يحتاج إلى تجديد الإسلام حيث إن عبارة المكره كالعدم و لفظه مثل لفظ بعت الذي قاله المكره فكما أنه لا يحتاج إلى قوله: فسخت، بعد ذلك لعدم وقوع البيع بعد حتى يحتاج في رفعه إلى الفسخ كذلك في المقام لم يصر مرتدا بلفظه الذي ألقاه حتى يفتقر إلى كلمة الإسلام و لا موقع لعرضها عليه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 363

و لو عرض عليه تجديد الإسلام فأبى عن ذلك فما يصنع به؟

قال العلامة في القواعد: و لو امتنع من تجديده حيث عرض عليه دل على اختياره في الردة.

يعني إنه لو لم يكن ارتداده عن اختيار فلما ذا يأبى عن التجديد حينئذ؟ ورد عليه صاحب الجواهر و هو الحق و ذلك لأنه ربما لا يخلو تجديده الإسلام عن إقرار ضمني بأنه قد ارتد سابقا و هو عار عليه و لذا يمتنع عن ذلك فلم يبق الا لفظ صدر منه و هو لغو بحكم الشرع فلا يتعقبه شي ء و هذا واضح.

و على الجملة فهو كسائر المسلمين فكما لا يستدعي المسلم أن يقرّ بالشهادتين كذلك لا يستدعي هذا الذي أدى الكلمة الخبيثة مكرها.

الكلام في المرأة

قال المحقق: و لا تقتل المرأة بالردة بل تحبس دائما و إن كانت مولودة على الفطرة و تضرب أوقات الصلاة.

أقول: و في الجواهر بالنسبة إلى عدم قتلها: إجماعا بقسيمه و نصوصا و على هذا فالإجماع المحصل و المنقول قائم على عدم قتلها بالردة كما أن الاخبار صريحة في ذلك، و قد أوردها في الوسائل تحت عنوان: باب أن المرأة المرتدة لا تقتل بل تحبس و تضرب و يضيق عليها.

محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن يعقوب

بن يزيد عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي عبد الله عليه السلام في المرتدة عن الإسلام قال: لا تقتل و تستخدم خدمة شديدة و تمنع الطعام و الشراب الا ما يمسك نفسها و تلبس خشن الثياب و تضرب على الصلوات «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 364

قوله: و تضرب على الصلاة، و إن كان يحتمل أن يكون المراد به ضربها عقوبة إلا أن الظاهر منه ضربها كي تتوب و ترجع.

عن غياث بن إبراهيم عن أبيه عن علي عليه السلام قال: إذا ارتدت المرأة عن الإسلام لم تقتل و لكن تحبس أبدا «1».

و هذه صريحة في لزوم حبسها أبدا.

و عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يخلد في السجن إلا ثلاثة:

الذي يمسك على الموت و المرأة ترتد عن الإسلام و السارق بعد قطع اليد و الرجل [1].

عن عبّاد بن صهيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المرتد يستتاب فان تاب و إلا قتل، و المرأة تستتاب فإن تابت و إلا حبست في السجن و أضرّ بها «2».

عن ابن محبوب عن غير واحد من أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام في المرتد يستتاب فإن تاب و الا قتل و المرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيب فإن تابت و إلا خلدت في السجن و ضيق عليها في حبسها «3».

نعم هنا رواية تخالف الأخبار المتقدمة و هي رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة كانت نصرانية فأسلمت و ولدت لسيدها ثم إن سيدها مات و

أوصى بها عتاقة السرية على عهد

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 3 و رواها الشيخ في التهذيب 10- 144 و في الكافي 7- 270 إلا أن فيه: الذي يمثل (بدل يمسك) و في الفقيه 3- 31 و فيه: الذي يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل.

أقول: فهذه الجملة التي زيدت في الفقيه بيان ل يمسك اي أمسك حتى قتله آخر. و في قصاص الشرائع: و لو أمسك واحد و قتل الآخر فالقود على القاتل دون الممسك لكنّ الممسك يحبس أبدا.

و في الوافي 2- 71 من الحدود يمسك على الموت اي يمسك إنسانا حتى يقتله آخر بغير حق.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 4.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 6.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 365

عمر فنكحت نصرانيا ديرانيا و تنصرت فولدت منه ولدين و حبلت بالثالث فقضى فيها أن يعرض عليها الإسلام فعرض عليها الإسلام فأبت فقال: ما ولدت من ولد نصرانيا فهم عبيد لا فيهم الذي ولدت لسيدها الأول و انا أحبسها حتى تضع ولدها فإذا ولدت قتلتها «1».

لكن هذه الرواية مشتملة على ما لا يوافق القواعد مثل صيرورة ما ولدت بعد أن صارت. نصرانية عبيدا لا فيهم أي الذي ولدت في حال الإسلام و لا وجه لذلك ظاهرا فإنها حين مات سيدها فحيث كانت مسلمة فهي تعتق من سهم إرث ولدها و إن لم يكن المولى اوصى بعتقها فبعد ذلك و ان تنصرت و ارتدت فهي حرة و لا وجه لصيرورة

أولادها عبيدا أصلا هذا.

و من جملة ما فيها من الخلاف هو قتلها بعد وضع حملها مع أن المرتدة لا تقتل و لذا قال الشيخ الطائفة في التهذيب ج 1- 143 بعد نقلها: قال محمد بن الحسن: هذا الحكم مقصور على القضية التي فصلها أمير المؤمنين عليه السلام و لا يتعدى الى غيرها لأنه لا يمتنع أن يكون هو عليه السلام راى قتلها صلاحا لارتدادها و تزويجها و لعلها كانت تزوّجت بمسلم ثم ارتدت و تزوّجت فاستحقت القتل لذلك و لامتناعها من الرجوع إلى الإسلام. فأما الحكم في المرتدة فهو أن تحبس أبدا إذا لم ترجع إلى الإسلام [1].

فقد وجه قتلها بأنها تزوّجت مع كونها ذات بعل. وهب انه حمل هذا على ما ذكره فما هو الوجه في رقيّة الإخوة لأخيهم؟ [2].

______________________________

[1] كما أنه قدس سره قال في الاستبصار- 4- 256 بعد ذكر الخبر: إنه لا ينافي الأخبار الأولة لأن هذا الخبر إنما وجب فيه قتلها لأنها ارتدت عن الإسلام و تزوجت كافرا فلأجل ذلك وجب عليها القتل و لم لم يكن تزوجت كان حكمها أن تخلد في الحبس حسب ما تضمنته الروايات الأولة.

[2] أقول: ان الشيخ روى هذا الخبر في باب الحدود من التهذيب في حدّ المرتدّ و المرتدّة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 4 من أبواب حد المرتد ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 366

و على الجملة فهذه الرواية ممّا لا بدّ ان يقال فيها بأن علمها عند أهلها فيرد علمها إليهم صلوات الله عليهم أجمعين و لعله كانت القضية متضمنة لجهات لم تذكر في هذه الرواية و كان الحكم بلحاظها على حسب القاعدة.

و أمّا الروايات الأخرى فهي متفقة على عدم

قتلها بل تحبس دائما.

نعم هنا بحث و هو انه هل تحبس إلى أن تتوب أو أنها تحبس دائما بأن يكون الحبس الأبد حدها؟

مقتضى عدم كون الحبس مغيى بالتوبة في هذه الروايات الشريفة هو الثاني فراجع رواية حماد و غياث و حريز و غيرها.

و قد وقع النزاع في هذا المطلب بين علمي الفقه الشهيد الثاني و صاحب الجواهر.

فقال الأول بأنه ليس في هذه الأخبار ما يقتضي قبول توبتها في الحالين و الخبر الأول- صحيحة الحسن بن محبوب- كما تضمّن توبتها تضمن قبول توبة المرتد المذكر و لو حمل المرتد الذكر على الملي فيرد عليه ورود مثل ذلك في المرأة أيضا بأن يقال بان قبول التوبة منها مختصة بما إذا كانت ملية، قال رحمه الله: فيمكن

______________________________

و قال المجلسي في ذيله في كتاب ملاذ الأخيار 16- 285: صحيح و قد مرّ القول فيه انتهى و كذا في باب إرث المرتدّ من كتاب الإرث.

و قال في الملاذ 15- 406: موثق، و قد مضى في آخر باب السراري و ملك الأيمان و هناك: فأصابها عتاق السرية و هو الظاهر و عمل بمضمونه الشيخ في النهاية و ردّه ابن إدريس. و قال في القاموس:

الداري العطار منسوب إلى دارين قرية بالبحرين بها سوق يحمل المسك من الهند إليها. و كذا في باب السراري و ملك الأيمان. و قال في ذيله في الملاذ ج 13 ص 419: موثق و قال في القاموس:

الداري العطّار منسوب إلى دارن جزيرة بالبحرين بها سوق يحمل المسك من الهند إليها انتهى.

و قال في المختلف: قال الشيخ في النهاية: ان أعتق الرجل أمّ ولده فارتدت بعد ذلك و تزوّجت رجلا ذميا و رزقت منه أولادا كان أولادها الذمي

رقّا للذي أعتقها فإن لم يكن حيا كانوا رقا لأولاده و يعرض عليها الإسلام فإن رجعت و إلا وجب.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 367

حمل الأخبار الدالة على حبسها دائما من غير تفصيل على الفطرية بأن يجعل (يحمل ظ) ذلك على حدّها من غير أن يقبل توبتها كما لا يقبل توبته إلخ.

و قال صاحب الجواهر رضوان الله عليه بان الأنسب حملها- اي الأخبار الدالة على حبسها دائما- على عدم التوبة بقرينة الخبرين المجبورين بالعمل- مرسل ابن محبوب و خبر عباد بن صهيب- قال: و لا ينافي اشتمالها على قبول توبة المرتد الذكر المحمول على الملي كغيرهما من النصوص المعتضدة بالعمل أيضا.

انتهى.

و الظاهر أن الحق معه فإن ما دل على قبول توبة المرأة المرتدة مطلقا بعد الاستتابة أظهر من كون صدر الخبرين في المرتد مطلقا شاملا للفطري و الملي الذي لا بد من حمله على الملي، فلا وجه لحمل الجملة الأخيرة الواردة في المرأة و استتابتها و قبول توبتها على الملية بل يبقى الذيل على إطلاقه فالمرأة المرتدة تقبل توبتها.

و أما مناسبة الحكم و الموضوع و أن المرتد الذكر يفرق بين قسميه و كان حكم الفطري أشد من الملي حيث كان يقتل الفطري بلا استتابة فهنا أيضا يكون حكم المرتدة الفطرية أشد من الملية و حيث ثبت عدم قتلها مطلقا فيحكم بان الفطرية محكومة بالحبس الدائم و لا تنفعها التوبة بخلاف الملية فإنها تستتاب و تقبل توبتها و يخلى سبيلها كما يؤيد ذلك حمل صدر الخبرين على الملي، و المسألة أي قبول توبتها مطلقا ليست قطعية إجماعية كما هو مقتضى تعبير العلامة في التحرير ب «الوجه القبول» كما ذكر ذلك في المسالك و كشف

اللثام.

ففيه أن التقديم مع التصرّف في إطلاق المرتدّ هنا و تقييده بالملىّ و كون المرتدّة باقية على إطلاقها و ذلك للتصريح بالتفاوت بين الفطريّ و المليّ في سائر الأخبار إذا كان رجلا و كون الشهرة على ذلك.

هذا كلّه بالنسبة للرجل و أمّا الخنثى المشكل ففي الجواهر: قد يقال: إنّ مقتضى

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 368

كون الحدّين من قبيل المتباينين هو التخيير بينهما لا الإلحاق بالمرأة كما جزم به بعض الأفاضل، و لا ينافي ذلك تعليق الحكم على الولادة على الفطرة المعلوم عدم سياقها لنحو ذلك انتهى.

أقول: مقتضى كون الحدّين من قبيل المتباينين هو التخيير بينهما لا الإلحاق بالمرأة فإنّ قاعدة الشبهة غير جارية مع العلم الإجمالي بأحد الحدّين اللهم إلا أن يعلم كون حفظ النفس أهمّ فهناك يصحّ الإلحاق [إلا أن يقال إن حفظ النفس بهذه الكيفية و العذاب ليس بأهمّ من القتل فالمتعين التخيير] [1].

و أما درء الحدّ بالشبهة فربّما يقتضي عدم إجراء حدّ عليه أصلا و هو إن كان لا بأس به لو قلنا بكون الخنثى طبيعة ثالثة لكنّه خلاف ما عليه الأصحاب.

______________________________

[1] لعل وجهه أنه خلاف مفهوم الحصر في قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ. الشورى- 49 و قوله تعالى: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ. النجم- 45.

ثم إني أقول: و يحتمل القرعة في تعيين أحدهما. كما و أنه يحتمل الحاقة بالذكر كما عن ظاهر عبارة الروضة 2- 370 و في إلحاق الخنثى بالرجل و المرأة وجهان تقدما في الإرث و أن الأظهر إلحاقه بالمرأة.

و قال في أوائل الإرث ص 290 عند ذكر حكم المرأة المرتدة و أنه لا تقتل: و كذلك الخنثى للشك

في ذكوريته المسلطة على قتله.

و يحتمل أن يلحقه حكم الرجل لعموم قوله صلى الله عليه و آله: من بدل دينه فاقتلوه. خرج منه المرأة فيبقى الباقي داخلا في العموم إذ لا نص على الخنثى بخصوصه و هذا متجه لو لا أن الحدود تدرء بالشبهات.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 369

في المرتد المليّ

قال المحقق: القسم الثاني من أسلم عن كفر ثمّ ارتدّ فهذا يستتاب فإن امتنع قتل و استتابته واجبة و كم يستتاب؟ قيل ثلاثة أيّام و قيل القدر الذي يمكن معه الرجوع و الأول مرويّ و هو حسن لما فيه من التأنّي لإزالة عذره.

أقول: الكلام هنا في المرتدّ المليّ أمّا عدم قتله من أول الأمر و إنّما يقتل إذا امتنع عن التوبة بعد الاستتابة ففي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه مضافا الى النصوص التي تقدم بعضها.

و قد تقدم بعض الروايات الدالّة على ذلك فراجع، مضافا إلى قيام الإجماع من المحصّل و المنقول على ذلك.

و أمّا أنّ الاستتابة واجبة فقد خالف في ذلك أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه حيث استحبها.

و قد استدلّ هو بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: من بدل دينه فاقتلوه «1».

و استدلّ القائل بالوجوب بالأمر بها في الروايات و هو يفيد الوجوب، و بالاحتياط في باب الدماء.

و أما النبوي فهو تعبد بما بعد الاستتابة في المليّ بسبب تلك الروايات الآمرة بالاستتابة و عمل الأصحاب فالقتل يقيد بالامتناع عن التوبة.

و امّا زمانها ففي الشرائع القول بتحديدها بثلاثة أيام و ذهب الشيخ و متابعوه إلى أنه يمهل بمقدار يمكن معه الرجوع.

و يدلّ على الأول ما رواه الكليني و الشيخ عن مسمع بن عبد الملك عن أبي

عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليها السلام: المرتدّ عن الإسلام تعزل عنه امرأته و لا تؤكل ذبيحته و يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب و إلا قتل يوم الرابع «2».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل باب 1 من أبواب حد المرتد ح 2.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 370

لكن الرواية رواها الشيخ بطريق ضعيف جدا إلا أنّ المحقّق استحسن هذا القول لما ذكره من التأنّي لإزالة عذره فإنه من الممكن عروض شبهة له فعدم التهجم على الدماء يقتضي ذلك، و حفظ النفس أهمّ من إجراء الحدّ فيمهل ثلاثة أيام.

أقول: و الاستصحاب أيضا يقتضي عدم جواز قتله قبلها: فإنه كان محقون الدم و كان لا يجوز قتله و الآن نشك في ذلك فهو بعد باق على كونه مصون الدم.

و أما الموضوع فهو هذا الشخص فلا يتفاوت بتفاوت الأحوال.

و اما القول الآخر فمستنده إطلاق الأدلّة.

فعن علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام في حديث قال: قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد؟ قال: يستتاب فان رجع و الا قتل «1».

عن غير واجد من أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام في المرتد يستتاب فإن تاب و إلا قتل «2».

و هي محمولة على المليّ.

و عن جميل بن درّاج و غيره من أحدهما عليهما السلام في رجل رجع عن الإسلام فقال: يستتاب فإن تاب و إلا قتل «3».

و هي أيضا محمولة على المليّ.

عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام برجل من بني ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا عليه فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:

ما يقول هؤلاء الشهود؟

فقال: صدقوا و أنا أرجع إلى الإسلام فقال: أما إنّك لو كذّبت الشهود لضربت عنقك و قد قبلت منك فلا تعد فإنّك إن رجعت لم اقبل منك رجوعا بعده «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 371

هذا لكن التقديم مع قول الثلاثة لما ذكرناه.

و قال العلامة في القواعد: و لو قال: حلّوا شبهتي، أحتمل الإنظار إلى أن تحل شبهته و إلزامه التوبة في الحال ثم يكشف له. انتهى.

أما الأول أي احتمال الإمهال إلى حلّ شبهته فهو (كما في كشف اللثام) لوجوب حلّ شبهته و كون التكليف بالإيمان مع الشبهة من التكليف بما لا يطاق.

و أمّا الثاني أي احتمال إلزامه بالتوبة فورا فلوجوب التوبة على الفور، و الكشف و إن وجب فورا أيضا لكنّه يستدعي مهلة و ربّما طال زمانه، و يكفي في الحكم بإسلامه التوبة ظاهرا و إن كانت الشبهة تأبى الاعتقاد و لا تجامعه و أيضا ربّما لا يأبى الاعتقاد تقليدا [1].

و أورد عليه في الجواهر بقوله: و فيه أن ذلك كلّه مناف لإطلاق ما دلّ على قتله مع عدم التوبة نصا و فتوى و لعلّه لعدم معذوريته في الشبهة.

و هذا لبيان إلزامه بالتوبة فورا و لزوم قتله مع عدم توبته و علّل ذلك بعدم كونه معذورا في الشبهة.

بيانه أنه لم يحقق كاملا حتى يستقر أركان إيمانه و يرتفع من الأول أنواع الشبهة فإن الإسلام

كان من الاستحكام و المتانة بحيث لو دقق فيه النظر و جدّ و اجتهد في الاستدلال لوصل الى مدارج اليقين و بلغ أفق الاطمئنان بحيث لا تعريه الشكوك و لا يعرضه التردد فإذا رأينا أنه وقع في الشبهة فهو دليل على أنه لم يبذل جهده في النظر و الاستدلال فليس معذورا في حصول الشبهات لعدم استفراغ وسعه في تحصيل الاعتقاد الجازم و الإيمان المصون عن الخطأ و الخطل و الشبهة و الزلل فهو جدير بأن يغلّظ في حقّه.

______________________________

[1] و قال فخر المحققين في شرحه: وجه الأول ان حل شبهته واجب فيجب الانظار لإزالة عذره و وجه الثاني ان وجوب الرجوع و الإقرار بالإسلام على الفور واجب مضيق فلا ينافي وجوب حل الشبهة لإمكان أن يأتي بالإسلام ثم يحل شبهة و هو الأقوى عندي.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 372

نعم الاحتياط و مراعاة أمر الدماء يقتضي إمهاله إلى ثلاثة أيام.

و أما الإشكال بأنه كيف يكلف بالتوبة مع أنّه يمكن عدم ارتفاع شكّه و شبهته؟ و هل يمكن التوبة و قبول الإسلام مع بقاء الشبهة في صفحة قلبه؟.

ففيه أنه و إن صح ما ذكر من إمكان عدم رفع شبهته بل و ربّما تبقى و لا تزول إلى مدة مديدة إلا أن التوبة في الظاهر ممكنة له و في الحقيقة يمكن له كالمنافقين الذين شهد الله بكذبهم في شهادتهم بالتوحيد و الرسالة إلا أنهم مصونون باعترافهم و إقرارهم في الظاهر و على هذا فيجب عليه أن يتوب و يظهر الشهادتين و إن لم تزل شبهته و طال الزمان على هذا.

و أمّا إمهاله في شبهته مع عدم إقراره بالإسلام فهو خلاف مبناهم و على هذا فلو أقر

و تاب فإنه يصان بذلك دمه و إلا فإنه يقتل، غاية الأمر أنه يؤخر الأمر إلى ثلاثة أيام و يمهل في خلالها.

نعم يظهر من بعض الروايات أنه لا مهلة أصلا و إنما تعرض عليه التوبة فإن تاب و إلا يقتل.

فعن معاوية بن عمار عن أبيه عن أبي الطفيل أن بني ناجية قوما كانوا يسكنون الأسياف و كانوا قوما يدعون في قريش نسبا و كانوا نصارى فأسلموا ثم رجعوا عن الإسلام فبعث أمير المؤمنين عليه السلام معقل بن قيس التميمي فخرجنا معه فلما انتهينا إلى القوم جعل بيننا و بينه أمارة فقال: إذا وضعت يدي على رأسي فضعوا فيهم السلاح فأتاهم فقال: ما أنتم عليه؟ فخرجت طائفة فقالوا نحن نصارى فأسلمنا لا نعلم دينا خيرا من ديننا فنحن عليه و قالت طائفة: نحن كنا نصارى ثم أسلمنا ثم عرفنا إنه لا خير في الدين الذي كنا عليه فرجعنا إليه فدعاهم إلى الإسلام ثلاث مرات فأبوا فوضع يده على رأسه قال: فقتل مقاتليهم و سبى ذراريهم فأتى بهم عليا عليه السلام فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمأة الف درهم فأعتقهم و حمل إلى علي عليه الصلاة و السلام خمسين ألفا فأبى أن يقبلها

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 373

قال: فخرج بها فدفنها في داره و لحق بمعاوية قال: فخرب أمير المؤمنين عليه السلام داره و أجاز عتقهم [1].

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 6. ثم لا يخفى أن الأسياف جمع سيف بالكسر و هو ساحل البحر، ذكره في الوافي.

و قال المجلسي في الملاذ ج 16- ص 276: مجهول. قوله: يسكنون الأسياف اي السواحل، قال في النهاية: سيف البحر سائله.

ثم قال المجلسي: قد أوردت هذه القصة بطولها في كتاب الفتن من كتابنا الكبير، و ساق إلى قوله: قيل لعلي عليه السلام حين هرب مصقلة سبوا و لم تستوف أثمانهم في الرق فقال فقال: ليس ذلك في القضاء بحق، قد عتقوا إذا أعتقهم الذي اشتراهم فصار مالي دينا على الذي اشتراه. قوله: فأبى أن يقبلها لنقص الثمن و كأنه لعلمه عليه السلام بأنه كان قادرا على أكثر من ذلك و أراد أن يصالح بهذا المبلغ.

و في فتن البحار ص 569: قيل لعلي عليه السلام حين هرب مصقلة: اردد الذين سبوا و لم يستوف أثمانهم في الرق فقال: ليس ذلك في القضاء بحق قد عتقوا الى آخر مثل ما نقلناه عن الملاذ.

و في نهج البلاغة خطبة 44: من كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام و أعتقه فلما طالبه بالمال خاص به و هرب إلى الشام: قبح الله مصقلة فعل فعل السادات و فر فرار العبيد فما أنطق مادحه حتى أسكته و لا صدق واصفه حتى بكته و لو أقام لأخذنا ميسوره و انتظرنا بماله و فوره. التبكيت يعني التقريع.

و في مروج الذهب ج 2 ص 419 فقال علي: قبح الله مصقلة فعل فعل السيد و فر فرار العبيد، لو أقام أخذنا ما قدرنا على أخذه فإن أعسر أنظرناه و إن عجز لم نأخذه- لم نؤاخذه- بشي ء و أنفذ العتق و في ذلك يقول مصقلة:

تركت لنساء الحي بكر بن وائل و أعتقت سبيا من لؤي بن غالب

و فارقت خير الناس بعد محمد لمال قليل لا محالة ذاهب

و قد نقل المجلسي في الفتن ص 569: و اقبل معقل إلى أمير المؤمنين فأخبره بما كان من الأمر فقال:

أحسنت و أصبت و وفقت، و انتظر علي عليه السلام مصقلة أن يبعث بالمال فأبطأ به و بلغ عليا عليه السلام أن مصقلة خلي الأسارى و لم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشي ء. ثم كتب اليه اما بعد فإن من أعظم الجناية خيانة الأمة و أعظم الغش غش الإمام و عندك من حق المسلمين خمسمائة الف درهم فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي و إلا فاقبل إلى حين تنظر في كتابي فإني قد تقدمت إلى رسولي أن لا يدعك ساعة واحدة بعد قدومه عليك إلا ان تبعث بالمال.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 374

و مفاد الرواية أن هذه الطائفة كانوا كلّهم في بدو الأمر نصرانيين و بعد ذلك أسلموا جميعا ثم رجعوا و عند ما جاءهم مبعوث علي عليه السلام معقل بن قيس بأمر أمير المؤمنين و سألهم عمّا فعلوا انقسموا قسمين و إن كان ظاهر الصدر أنهم ارتدوا جميعا فقال قوم منهم بأنا كنا نصرانيين و أسلمنا و الآن لا نعلم دينا خيرا من هذا الدين الذي اعتنقناه، اي الإسلام و قال الآخرون بأنا كنا نصرانيين ثم أسلمنا و الآن نرى أن الإسلام ليس خيرا من النصرانية فرجعنا إليها.

و كان قيس قد جعل وضع يده على رأسه علامة إذا أتى بها هجم أصحابه عليهم و آل الأمر إلى أنه قد أظهر العلامة فحملوا و قتلوا رجالهم و سبوا ذراريهم.

ثم أتى بهم إلى علي عليه السلام ثم اشتراهم مصقلة بن هبيرة بمأة و أعتقهم لكنّه لم يؤدّ إلا خمسين منها و لم يقبلها

الإمام فلذا خرج مصقلة و دفن الخمسين.

في داره و ترك الإمام و لحق بمعاوية و صار من أصحابه ثم خرب أمير المؤمنين داره و لعلّه عليه السلام أخرج الخمسين و أجاز عتق الذراري.

و حيث إنه كان ممثّل أمير المؤمنين و مأموره فقد فعل ما فعل بإذنه صلوات الله و سلامه عليه و لم ينكر الامام عليه السلام في ما فعله فيعلم أنه بعد الاستتابة و عدم قبول التوبة فالحكم هو القتل بلا تأخير في ذلك. و على ذلك فالإمهال مطلقا لا يستفاد من الاخبار.

نعم بملاحظة ما تقدم من ورود الثلاثة في الخبر- و إن كان ضعيفا- مع ملاحظة الاحتياط في الدماء يستتاب ثلاثة أيام و يمهل إليها لو تاب فتوبته مقبولة و انما الترديد في السرعة في قتل الكافر حيث لم يتب أو حفظ النفس إلى الثلاثة و لعلّه يتوب و يسلم، و لعلّ الأحب عند الله تعالى هو الثاني.

ثم إنه قال الفاضل الأصبهاني قيل: و إن اعتذر بالشبهة أول ما استتيب قبل انقضاء الثلاثة أيام أو الزمان الذي يمكن فيه الرجوع أمهل إلى رفعها و إن أخر

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 375

الاعتذار عن ذلك لم يمهل لأدائه إلى طول الاستمرار على الكفر و لمضي ما كان يمكن فيه إبداء العذر و إزالته و لم يبده فيه انتهى «1».

و محصله أن اعتذاره بالشبهة في الثلاثة مثلا عند أول زمان استتيب يوجب الإمهال إلى أن ترتفع شبهته أما لو أخر الاعتذار بعد الاستتابة إلى أن مضت الثلاثة مثلا فإنه لا يمهل و ذلك لوجهين:

أحدهما أنه ربما ينجرّ ذلك إلى طول الاستمرار على الكفر.

ثانيهما مضي ما كان يمكن فيه إبداء العذر و إزالته

و لم يبده.

و ردّ عليه في الجواهر بقوله: و لم أجده لأحد من أصحابنا و لعلّه لبعض العامّة و لا ريب في وضوح ضعفه بمنافاته لإطلاق الأدلّة ضرورة اقتضائه الإمهال و لو سنين على الأول.

يعني إنه على الفرض الأول (و هو ما إذا أبدى العذر في الثلاثة الذي ذكر أنه يمهل إلى رفع شبهته) ربّما يلزم الإمهال طول سنين كثيرة متوالية و هذا خلاف إطلاقات الأدلة الناطقة باستتابته و قتله مع عدم التوبة و أضاف رحمه الله على ذلك و قال: و يمكن دعوى القطع بأنه خلاف النص و الفتوى فالتحقيق حينئذ ما عرفت من استتابته و الأحوط الانتظار ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل ذكر شبهة أو لم يذكر. انتهى.

في عدم زوال أملاكه و في انفساخ عقد زوجته

قال المحقق: و لا يزول عنه أملاكه بل يكون باقية عليه و ينفسخ العقد بينه و بين زوجته و يقف نكاحها على انقضاء العدّة و هي كعدّة المطلقة.

أقول: فبالنسبة لماله فهو على خلاف الفطري الذي قد تقدم أنه يزول عنه ملكه بمجرّد ارتداده، فالملى لا يزول ملكه بل هو ثابت بحاله.

و علّل في الجواهر بالأصل و غيره.

______________________________

(1) كشف اللثام ج 2 ص 256.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 376

و مراده من الأصل استصحاب بقاء ملكه.

و لكن الظاهر أنه لا مورد للاستصحاب لعدم الشكّ بعد عدم وجود دليل على زوال ملكه فهو كسائر الناس الذين لا مورد للشك في بقاء ملكهم حتى يحتاج إلى الأصل.

و أما غير الأصل فلعل المراد هو معاملة الناس معه معاملة المالك و لأن ترك ذكره في موقع البيان دليل على عدم زواله.

و أمّا انفساخ العقد بينه و بين زوجته فلأجل أنه لا يصحّ نكاح الكافر المرأة المسلمة لا

ابتداء و لا استدامة فإن أريد نكاح المرأة فهو موقوف على انقضاء عدّتها و هي عدّة الطلاق أي ثلاثة أقراء.

و استدل على ذلك أيضا برواية مسمع المذكورة آنفا باب 3 من أبواب حدّ المرتد ح 5.

و لم يتعرض أن المراد هو نكاح الزوج لها أو غيره و الظاهر أنه لا فرق بينهما.

نعم إن تاب في أيام عدتها كان الزوج أحق بها و كأنها تكون كالمطلقة الرجعية فيرجع إليها.

إن قلت: ان عبارة الجواهر: فاذا تاب فيها كان أحق بزوجته، موهمة و ذلك لأن «أحق» المذكور في كلامه افعل التفضيل و الحال أنه لا يحق لأحد غيره الرجوع إليها أو عقدها في العدة.

نقول: إن أفعل لا يكون دائما للتفضيل بل ربما يستعمل في أصل المادة التي اشتق منها نظير: و أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله «1» و هنا يراد منه انه حقه بالخصوص و هي له خاصة.

و قد يقال: إن ظاهر عبارة الأصحاب [1] بل و صاحب الجواهر في كتاب النكاح هو أنه مع التوبة لا حاجة إلى الرجوع أصلا.

______________________________

[1] قال الشيخ في الخلاف بالنسبة للمرتد الملي: و الآخر من كان أسلم عن كفر ثم ارتد و قد

______________________________

(1) سورة الأنفال الآية 75.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 377

فترى أنه قال في النكاح (ج 30- 49): فإن رجع أو رجعت قبل انقضاء العدة كانت زوجته و إلا انكشف إنها بانت من أول الارتداد كما أنه ينكشف بالإسلام منها أن مثل هذه الردّة غير مانعة و أن النكاح باق لما ستعرفه من النصوص الدالة على ذلك في نكاح الكفار إذا أسلموا بل هو ظاهر العزل في الخبر السابق: (باب 3 من أبواب المرتد ح

5) بل منها يعلم أن الرجوع إلى الزوجية بالإسلام قهري لا حاجة فيه إلى قول (رجعت) و نحوه كالمطلقة انتهى.

و فيه أن هذا لا يساعد قوله هنا بالانفساخ و ذلك لأن مقتضى الانفساخ تحقق الفصل و البينونة بينهما رأسا بل الانفساخ لا يساعد جواز الرجوع في أيام العدة فلم يبق إلا جواز تجديد النكاح بعد انقضاء العدة و عليه فلا يتم ما تقدم من إن

______________________________

دخل بزوجته فان الفسخ يقف على انقضاء العدة فإن رجع في العدة إلى الإسلام فهما على النكاح و ان لم يرجع حتى انقضت العدة وقع الفسخ بالارتداد و به قال الشافعي إلا انه لم يقسم المرتد و قال أبو حنيفة يقع الفسخ في الحال و لا يقف على انقضاء العدة و لم يفصل، أيضا دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم.

و قال الحلبي في الكافي ص 311: فإن رجع إلى الإسلام من يصح ذلك منه و زوجته في العدة فهو أحق بها بالنكاح الأول و إن خرجت عن العدة قبل رجوعه إلى الإسلام فلا سبيل له عليها إلا أن يختار مراجعتها فبعقد جديد و مهر جديد.

و في الإرشاد: و تعتد زوجته في الحال عدة الطلاق فإن رجع في العدة فهو أملك بها و إلا بانت.

انتهى.

و في القواعد للعلامة: و تعتد زوجة المرتد من غير فطرة من حين الارتداد عدة الطلاق فإن رجع في العدة فهو أحق بها و إلا بانت منه بغير طلاق و لا فسخ سوى الارتداد.

و في الشرائع كتاب النكاح في المرتد الملي: و لو وقع بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء العدة من أيهما كان.

و في اللمعة و شرحها ج 2 ص 369 باب الحدود: و كذا لا تزول

عصمة نكاحه إلا ببقائه على الكفر بعد خروج العدة التي تعتدها زوجته من حين ردته و هي عدة الطلاق فإن خرجت و لم يرجع بانت منه.

و في الدروس: و ان كان مليا وقف نكاحه على انقضاء عدة الطلاق فإن عاد فيها و الا بانت.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 378

الزوج أحق بها، و عبارة الشرائع هنا ظاهرة جدا في البينونة قهرا و توقف نكاحها على انقضاء العدة فلا سبيل له إليها إلا بالعقد المجدد بعد انقضاء العدة.

و تدل على ذلك رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان ارتد الرجل المسلم عن الإسلام بانت منه امرأته كما تبين المطلقة ثلاثا و تعتد منه كما تعتد المطلقة فإن رجع إلى الإسلام و تاب قبل أن تتزوج فهو خاطب و لا عدة عليها منه له و إنما عليها العدة لغيره إلخ «1».

فإنها و ان لم تكن بصدد ان المقام كالمطلقة ثلاثا تحتاج إلى المحلل إلا أنها تفيد كونها مثل المطلقة ثلاثا من حيث عدم إمكان الرجوع نعم يمكن له ان يتزوج بها بعقد جديد و هو خاطب لها و لا عدة عليها بالنسبة له، و الرواية معتبرة و دالة على عدم سبيل له إليها إلا بالعقد و إن كان في العدة و هي مختصة بالملي أو يعمه و الفطري و على هذا فكيف يقال بأنه لو تاب في العدة فهي زوجته بلا أي شي ء حتى الرجوع؟ مع تصريحها بأنه خاطب.

و الإنصاف أن روايات إسلام أحد الكتابين لا تخلو عن إشعار ببقاء النكاح كما ان التعبير بالعزل في رواية مسمع كذلك فعن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام

قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: المرتد عن الإسلام تعزل عنه امرأته و لا تؤكل ذبيحته و يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب و إلا قتل يوم الرابع «2».

فان العزل غير الإبانة و البينونة، فهو نظير فاعتزلوا النساء في المحيض «3» إلا أن الخطاب فيه متوجه الى الرجل و في المقام إلى المرأة، و ان كان قوله فيها: و لا تؤكل ذبيحته، ظاهرا في الكفر، و الاحتياط حسن فلو أراد نكاحها فالأحوط تجديد عقد النكاح و ان كان الأقوى كونه مراعى فلو تاب فهي زوجته.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 17 باب 6 من أبواب موانع الإرث ح 5.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 5.

(3) سورة البقرة الآية 222.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 379

و الحاصل إن التعبير ب «يعزل عن امرأته» ظاهر في بقاء النكاح و الزوجية لكن الأحوط مع ذلك تجديد النكاح بعد التوبة و لو في العدة.

ثم إنه يرد على قول الجواهر في المقام: فإذا تاب فيها كان أحق بزوجته كما مر في كتاب النكاح ذلك انتهى، بأن ما مر من الشرائع كان على خلاف ذلك.

أداء ديونه و ما عليه من الحقوق الواجبة من ماله.

قال المحقق: و تقضى من أمواله ديونه و ما عليه عن الحقوق الواجبة و يؤدى منه نفقة الأقارب ما دام حيا و بعد قتله يقضى ديونه و ما عليه من الحقوق الواجبة دون نفقة الأقارب.

أقول: إن قضاء ديونه من أمواله و كذا ما عليه من الحقوق الواجبة كنفقة الزوجة و غيرها و كذا نفقة الأقارب ما دام حيا، لأنه مديون و كان في ذمته أموال الناس كما أنه بمقتضى كونه مكلفا يجب عليه ما دام حيا أداء النفقات و عليه أداء

حقوق الناس إلا أنه لما كان محجورا عليه من التصرف في أمواله فلذا يباشر تلك الأمور الحاكم الشرعي.

و في الجواهر: و كذا تؤدى له نفقته إلى أن يموت أو يقتل لكن عن الخلاف [1] أن لأصحابنا قولين: يعني القول ببقاء ملكه و القول بأنه مراعى فإن تاب علم بقاؤه و إلا علم زواله من حين الردة و حينئذ يشكل أداء نفقته له بل و كذا أداء ما يتجدد عليه من الحقوق إلا أن القول المزبور مع أنه غير معروف القائل، واضح الضعف ضرورة منافاته لجميع الأدلة من الاستصحاب و غيره.

يعني إنه لو قلنا بأن ملكه مراعى فلو لم يتب علم بزوال ملكه من حين الردة يشكل الأمر بالنسبة إلى أداء نفقته عن ماله حيث لم يكن مالكا حتى يؤدى نفقاته من أمواله.

______________________________

[1] الحاكي هو الأصفهاني في كشف اللثام ص 257 ج 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 380

و أما وجوب نفقاته على ابنه أو والده فهو أيضا مشكل لأن وجوب نفقات الأقارب إذا كانوا غير مؤمنين فهو غير معلوم أو معلوم العدم و على الجملة فيشكل الأمر بالنسبة إلى نفقاته بل و كذا بالنسبة إلى أداء ما يتجدد عليه من الحقوق، من ماله، لنفس العلة.

لكن أجاب في الجواهر بأن قائله غير معروف و بوضوح ضعفه لمنافاته لاستصحاب ملكه و غير الاستصحاب من الأدلة الأخرى.

و المراد من غير كالاكتفاء بالمتيقن من الخارج و بقاء الباقي تحت عمومات الأدلة.

و أما ما قد يقال من عدم ذكر هذا المطلب في الخلاف، فلعله اشتبه الأمر على الحاكي فذكر الخلاف موضع المبسوط و ذلك لأنه يستفاد المطلب من عبارة المبسوط حيث قال في كتاب المرتد:

فأما إن ارتد و

له مال فهل يزول ملكه عن ماله بالردة؟ قال قوم يوقف ماله و يكون مراعى فإن مات أو قتل تبينا أنه زال عنه بالردة و إن تاب تبينا أن ملكه باق بحاله و ما زال، فعلى هذا يكون تصرفه في ماله موقوفا و قال آخرون: لا يزول ملكه عن ماله و تصرفه صحيح و قال آخرون: يزول ملكه بنفس الردة و تصرفه باطل المبسوط 7- 283.

ثم قال قدس سره: و الذي يقتضيه مذهبنا أن المرتد إن كان من فطرة الإسلام فإنه يزول ملكه بنفس الردة، و تصرفه باطل، و إن كان عن إسلام قبله كان كافرا فإن ماله موقوف و تصرفه موقوف و إن قلنا لم تزل كان قويا لأنه لا دليل عليه و الأصل بقاء الملك انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 381

بعد قتله أيضا تقضى سوى نفقة الأقارب

قال المحقق: و بعد قتله تقضى ديونه و ما عليه من الحقوق الواجبة دون نفقة الأقارب.

أقول: هذا على حسب القواعد المقررة في باب النفقات من أن وجوب نفقة الزوجة من قبيل الحق فيجب أداءها بعد قتله أو موته كوجوب سائر الحقوق الواجبة بخلاف نفقة الأقارب فإنها من قبيل الحكم فلا وجوب بعد موته أو قتله باداءها إذا لم يكن قد أداها في حياته و بعبارة أخرى: هي من التكاليف الساقطة بالموت.

و لا يخفى أن المتصدي لهذه الأمور هو حاكم الشرع الجامع للشرائط.

تركته لورثته المسلمين و إلا فللإمام

قال المحقق: و لو قتل أو مات كانت تركته لورثته المسلمين فإن لم يكن له وارث مسلم فهو للإمام.

أقول: هذا أيضا لا بحث فيه فان تركة المرتد تكون لوارثه إذا كان مسلما فإن لم يكن له وارث مسلم فإن وارثه هو الإمام عليه السلام و لا ترثه أقرباءه الكافرون بلا ريب.

في أن ولده بحكم المسلم

قال المحقق: و ولده بحكم المسلم فإن بلغ مسلما فلا بحث و إن اختار الكفر بعد بلوغه.

استتيب فإن تاب و إلا قتل.

أقول: إذا ولد له قبل أن يرتد ولد فهو بحكم المسلم بعد أن ارتد و ذلك لأنه حين إسلام الأب كان مسلما و بعد ارتداده يشك في صيرورته بحكم الكافر فيستصحب الحكم الثابت له قبل ارتداد أبيه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 382

و استشهد في الجواهر على ذلك بأنه لو ماتت الأم المرتدة و هي حامل به تدفن في مقابر المسلمين.

فإن الولد محترم تبعا للمسلم فلذا يجب دفن أمه المرتدة في مقابر المسلمين حفظا لحرمة الولد و لا ينظر إلى حال الأم التي يجب دفنها في نفسها في مقابر الكفار.

ثم إن الولد الذي كان بحكم المسلم باق على ذلك إلى أن يبلغ، و عند ما بلغ فإن أقر بالإسلام فهو مسلم حقيقة و ان اختار الكفر و أظهره يجب استتابته فلو تاب فهو و إلا قتل فهو كالمرتد الملي و ان كان انعقاد نطفته أو ولادته في حال إسلام أبويه، و لا يجري عليه أحكام الفطري بناء على أنه يعتبر في الحكم بالارتداد الفطري وصف الإسلام بعد البلوغ فبدونه يجري عليه أحكام الملي، و من لمعلوم أن المفروض في المقام هو أنه لم يصف الإسلام بل وصف الكفر.

و في الجواهر: بل

في كشف اللثام: الظاهر أن ولد المسلم و المسلمين أيضا إذا بلغ كافرا استتيب، و لو ولد هو و أبواه على الفطرة. و قد نص على ذلك في لقطة المبسوط انتهى.

لكن لا يخفى أن المسألة محل الخلاف فقد قال بعضهم بأنه يجري على هذا الولد الذي اختار الكفر بعد البلوغ أحكام المرتد الفطري.

قال في المسالك: و إن أظهر الكفر فقد أطلق المصنف و غيره استتابته فإن تاب و إلا قتل، و هذا لا يوافق القواعد المتقدمة من أن المنعقد حال إسلام أحد أبويه يكون ارتداده عن فطرة و لا يقبل توبته، و ما وقفت على ما أوجب العدول عن ذلك هنا، و لو قيل بأنه يلحقه حينئذ حكم المرتد عن فطرة كان وجها و هو الظاهر من الدروس لأنه أطلق كون الولد السابق على الارتداد مسلما و لازمه ذلك.

و أورد عليه في الجواهر بأن ما حضرنا من النصوص ظاهر في الحكم بردة من وصف الإسلام عن فطرة بل هو الموافق لمعنى الارتداد الذي هو الرجوع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 383

و قد علمت أنه رحمه الله قال فيما تقدم بأن ظاهر التعبير بالمسلم، أو الرجل، الوارد في الروايات اعتبار سبق الإسلام بالكفر بعد البلوغ حتى يكون فطريا.

و إلى ذلك أشار بقوله: لكن قد عرفت سابقا ان ما حضرنا إلخ.

ثم استظهر ذلك من مرسل الفقيه عن علي عليه السلام: إذا أسلم الأب جر الولد إلى الإسلام فمن أدرك من ولده دعي إلى الإسلام فإن أبي قتل و إن أسلم الولد لم يجر أبويه و لم يكن بينهما ميراث [1].

و كذا خبر عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام في الصبي يختار الشرك و هو

بين أبويه قال: لا يترك و ذاك إذا كان أحد أبويه نصرانيا «1».

و هكذا مرسل أبان عنه عليه السلام في الصبي إذا شب و اختار النصرانية واحد أبويه نصراني أو بين مسلمين قال: لا يترك و لكن يضرب على الإسلام «2».

نعم استظهر منهما ذلك بناء على أن المراد منهما وصف الكفر بعد البلوغ و من عدم الترك الاستتابة. و استشكل بعد ذلك بقوله: و إن كان فيهما- أي إرادة وصف الكفر و ارادة الاستتابة من عدم الترك- معا منع.

ثم تمسك لعدم جريان حكم الفطري بالأصل بعد أن لو فرضنا الشك فيه و الأصل هو عدم جريان ذلك.

و إن أمكن أن يستشكل بأن الأصل أيضا عدم ثبوت حكم الملي كوجوب الاستتابة فهناك أيضا يجري الأصل، فالأصل المزبور معارض.

إلا أن الإنصاف عدم اثر لهذا الأصل الذي ذكرناه أي أصالة عدم جريان حكم الملي و ذلك لأنه لا يثبت كونه فطريا فلم يبق الا عدم جريان حكم الفطري كالقتل و غير ذلك فإن القتل حكم زائد فيرفع بالأصل. هذا مضافا إلى قاعدة درء الحدود بالشبهات و كذا الاحتياط في الدماء.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 7. أقول: قوله «فمن أدرك» أي بلغ الحلم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المرتد ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 2 من أبواب حد المرتد ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 384

في ما إذا قتل قبل وصفه الكفر.

قال المحقق: و لو قتله قاتل قبل وصفه الكفر قتل به سواء قتله قبل بلوغه أو بعده.

أقول: أما الأول فظاهر لأنه قبل بلوغه محكوم بحكم الإسلام لفرض تكونه قبل ارتداد الأبوين مثلا فلذا يقاد من قاتله و

إن كان هو مسلما.

و أما الثاني و هو ما إذا قتله بعد بلوغه فقد يستدل على وجوب القود بالنسبة إلى قاتله بأنه مسلم ما لم يصف الكفر.

لكن هذا لا يخلو عن كلام لأن الإسلام التبعي الحكمي قد زال بالبلوغ و لا دليل على التبعية بعد ذلك و الإسلام الاستقلالي مفروض العدم لعدم وصفه الإسلام أيضا.

و أما التمسك في بقاء إسلامه بالأصل فهو غير صحيح كما قال في الجواهر:

و الأصل بعد انقطاع التبعية بالبلوغ غير أصيل.

أقول: الظاهر من الآيات و الروايات و التعبير ب «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا،» و «الَّذِينَ كَفَرُوا،» هو أن الكفر أيضا أمر وجودي و عليه فالأصل جار بالنسبة إلى كل واحد منهما لو قيل: الأصل عدم الإسلام فإن في قباله: الأصل عدم الكفر فالأصل لا ينفع شيئا، نعم لو كان الكفر هو عدم الإسلام فيمكن تحققه بأصالة عدم الإسلام و الا فلم يكن هنا إسلام و لا كفر.

و اما أصالة الطهارة فهي و إن كانت جارية لكنها لا تقتضي إسلامه فإن الإسلام أمر وجودي، و الكفر هو عدمه أو وجود غير الإسلام.

و أما المتردد الذي يعيش في حال الشك بحيث إذا سئل عن دينه يقول: لا أدرى و انا شاك متردد في الله أو غيره من المقدسات و لا يصف الكفر و لا الايمان فقد ظهر حكمه مما تقدم و أنه محكوم بالكفر و كذا من جهل حاله مع كونه بالغا عاقلا إلى غير ذلك من الفروع.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 385

في حكم ولد المرتد.

قال المحقق: و لو ولد بعد الردة و كانت أمه مسلمة كانت حكمه كالأول و إن كانت مرتدة و الحمل بعد ارتدادهما كان بحكمهما لا يقتل المسلم بقتله.

أقول:

أما الأول و هو كونه بحكم المسلم إذا ولد أو علق بعد ردة الأب فلأن أمه مسلمة فهو و إن تكوّن أو ولد بعد ارتداد أبيه إلا أن المفروض كونه أمه مسلمة، و الإسلام يعلو و لا يعلى عليه، فهو ملحق بها لأنها حسب الفرض أشرف الأبوين.

و أما الثاني و هو كونه بحكم المرتد إذا كان حمله بعد ارتدادهما فلا يقتل قاتله و لا يقتص منه فهو لعدم كونه مسلما و لا بحكم المسلم. نعم إذا بلغ و وصف الإسلام فهو مسلم و الا فلا إلا إذا أسلم الأبوان أو واحد منهما بعد العلوق ما لم يبلغ فإنه يلحق أيضا بالمسلم.

في استرقاق من كان حمله بعد ارتدادهما.

قال المحقق: و هل يجوز استرقاقه؟ تردد الشيخ فتارة يجيز لأنه كافر بين كافرين و تارة يمنع لأن أباه لا يسترق لتحرمه بالإسلام و كذا الولد و هذا أولى.

أقول: في المسألة وجوه و أقوال: منها ما ذكره الشيخ في كتاب المرتد من المبسوط و الخلاف من الجواز و لو في دار الإسلام أو الحرب.

و منها ما أفاده في كتاب قتال أهل الردة من المبسوط و هو القول بالمنع.

و منها ما ذكره في كتاب قتال أهل الردة من الخلاف من التفصيل بين ولادته في دار الحرب فيسترق و ولادته في دار الإسلام فلا يسترق.

و منها ما عن أبي علي من جواز استرقاقه إن حضر مع أبيه وقت الحرب.

و منها احتمال كونه مسلما.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 386

و قد استدل للأول بأنه كافر بين كافرين فيشمله العمومات الدالة على جواز استرقاق الكافر.

و للثاني بأن أباه لا يسترق لاحترامه بالإسلام في المدة التي كان معتنقا له قبل ردته.

و للثالث أولا بالإجماع و ثانيا بالأخبار

و ثالثا بأنه إذا ولد في دار الإسلام فهو في حكم الإسلام بدلالة أن أبويه يلزمان الرجوع إلى الإسلام و إن لم يرجعا قتلا.

و فيه كما في الجواهر أنه لم يتحقق الإجماع و الأخبار و بأن إلزام أبويه بالرجوع إلى الإسلام لا يقتضي ثبوت أحكام الإسلام له.

و هنا كلام آخر و هو أن لازم الاستدلال الثالث هو أن أبويه يلزمان الرجوع في دار الإسلام و الحال أنهما يلزمان على ذلك مطلقا [1].

و أما الرابع فهو كما في الجواهر مجرد اعتبار.

و اما الخامس فقد علل ببقاء علاقة الإسلام و حديث «كل مولود يولد على الفطرة.» «1».

و هذا أيضا ضعيف كالسابق.

و ذكر المحقق أن القول الثاني و هو المنع أولى، و قد أورد عليه بأنه لا دليل على التبعية في الوصف المزبور أعني التحريم و لذا قوى صاحب الجواهر القول الأول و هو جواز استرقاقه مطلقا فلو استرق فهو و أما لو لم يسترق حتى بلغ فإنه يؤمر بالإسلام أو الجزية إن كان من أهلها.

قال: و أما ولد المعاهد إذا تركه عندنا فإنه يبقى بعد البلوغ بوصفه الإسلام أو قبول الجزية أو يحمل إلى مأمنه ثم يصير حربيا فإن معاهدة الأبوين لا تؤثر بعد البلوغ.

______________________________

[1] يقول المقرر: لعله لا يرد عليه الإشكال و ذلك لأنه إذا ذهب إلى دار الحرب فلا مجال لإلزامه هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يكون حكمه بعد ذلك هو القتل لا الإلزام لأنه بحسب الظاهر يصير حربيا، و البحث يحتاج إلى المراجعة و التأمل.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 11 باب 48 من أبواب جهاد العدو ح 3.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 387

ثم إنه لو شك في صحة استرقاق ولده و

عدمها فالأصل الجاري هو استصحاب عدم الملك.

في حجر الحاكم له

قال المحقق: و يحجر الحاكم على أمواله لئلا يتصرف فيها بالإتلاف فإن عاد فهو أحق بها و إن التحق بدار الكفر بقيت على الاحتفاظ و يباع منها ما يكون له الغبطة في بيعه كالحيوان.

أقول: اما حجره فقد استدل عليه قدس سره بقوله: لئلا يتصرف فيها بالإتلاف و هذا لا يخلو عن كلام فإن كل مالك يمكن أن يتصرف في ماله كذلك [1] و علينا أن نتفحص في دليل ذلك و أنه هل على ذلك دليل أم لا فإنه خلاف مقتضى مالكيته حيث إن المالكية تقتضي جواز تصرفاته إلا بدليل قاطع كما أن المحقق الأردبيلي قد استشكل في ذلك في شرح الإرشاد فقال: و اعلم أن دليل حجر المرتد الملي عن ماله غير ظاهر فإنه مالك حر بالغ رشيد إلا أن يكون إجماعا أو نصا ما رأيتهما.

لكن لا يخفى أن ظاهر ما كان من كتب العلماء في متناول أيدينا كالشرائع و القواعد و المسالك و الجواهر و غير ذلك هو أنهم قد تلقوا ذلك بالقبول أي كونه محجورا مع مالكيته، و أرسلوه إرسال المسلّمات و أن ذلك عقوبة له على ردته فلعله كان عندهم قدس الله أسرارهم من النصوص ما يدل على ذلك و لم يصل إلينا [2].

______________________________

[1] أقول قد ذكر المحقق، الوجه المزبور في كتاب الحجر أيضا فقال: المقتضى للحجر صيانة المال عن الإتلاف. فراجع.

[2] أقول: و لذا ترى أن صاحب الجواهر قال في ج 26- 4 في كتاب الحجر في موجباته و هي كثيرة متفرقة في تضاعيف الأبواب كالرهن و البيع و المكاتبة و المرتد و غير ذلك لمن جرت عادة الفقهاء بالبحث عنها و عقد الكتاب

لها ستة الصغر و الجنون و الرق و المرض و الفلس و السفه. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 388

ثم إنه لو قلنا بالحجر كما هو الظاهر فلا فرق في ذلك بين أمواله السابقة على ارتداده و ما يتجدد له بالاحتطاب أو الاتهاب أو الاتجار أو غير ذلك.

ثم إنه لو عاد إلى الإسلام فهو أحق بأمواله و إن لم يرجع و لم يتب و التحق بدار الكفر تحتفظ و يباع ما كانت في بيعه الغبطة له كالحيوان و ما يفسد كالخضر و البقول، اما الحيوان فلأن في احتفاظه مؤنة و يحتاج الى مصارف.

و أما الثاني فواضح.

ثم إنه هل يكفي في حجره تحقق الردة و صدورها منه أو أنه يحتاج إلى إنشاء الحجر من الحاكم كما هو ظاهر الشرائع؟ فيه و جهان.

قال في المسالك بشرح عبارة المحقق و يحجر الحاكم إلخ: ظاهره توقف الحجر على حكم الحاكم و هو أحد الوجهين في المسألة، و وجهه أن الارتداد أمر اجتهادي يناط حكمه بنظر الحاكم، و قيل يحصل الحجر بنفس الردة لأنها العلة فوجودها يستلزم ثبوت المعلول و هذا أقوى و هو اختيار العلّامة في القواعد و الشهيد في الدروس. انتهى.

و قد قوى ذلك في الجواهر أيضا.

ثم إنه هل يختص الحكم بحجره بالتصرف في أمواله بالفعل أو يعم مطلق تصرفاته و إن كانت في الذمة؟

مثال ذلك ما إذا ضمن عن مديون مثلا أو اشترى نسية، و قد مثل في الجواهر بعد التمثيل بالضمان بقوله: أو اشترى شيئا محاباة [1] (قال:) و غير ذلك ممّا هو تصرف في الذمة لا في المال و إن عاد إليه بالآخرة إلخ.

______________________________

[1] المحاباة من الحباء و هو العطية ففي المصباح المنير:

حبوت الرجل حباء بالمد و الكسر أعطيته الشي ء بغير عوض. و حاباه محاباة سامحه مأخوذ من حبوته إذا أعطيته انتهى و في مجمع البحرين: يقال:

حبوت الرجل حباء بالكسر و المد أعطيته الشي ء بغير عوض و الاسم منه الحبوة بالضم و منه بيع المحاباة و هو أن يبيع شيئا بدون ثمن مثله فالزائد من قيمة المبيع عن الثمن عطية يقال: حابيته في البيع محاباة.

انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 389

و في هذا المثال خفاء لأنه إذا اشترى شيئا بدون ثمن المثل فهذا ليس إتلافا للمال بل هو تكثير للمال.

و كيف كان فقد يقال بأن مقتضى الإطلاقات جواز ذلك و أورد عليه في الجواهر بمنافاته لحكمة الحجر ضرورة إمكان التوصل له بذلك إلى إتلاف المال و من هنا يتجه القول بعدم مضيه.

و مع ذلك فقد ناقش في ذلك بخلو النصوص و الفتاوى عن ذكر مانعية الردة عن مثل هذا التصرف ضرورة اقتصارهم في سائر الأبواب على ذكر البلوغ و الرشد و غيرهما.

ثم استخلص عنها بقوله: اللهم إلا أن يكون ذلك من لوازم الحجر عليه المذكور في غير المقام.

يعني إنه إذا كان المرتد الملي محجورا عليه على حسب الفرض فمن لوازم حجره المذكور في غير المقام هو كونه ممنوعا و محجورا عن ذلك أيضا.

ثم تعرض لاحتمال آخر و هو بقاء هذا التصرف مراعى بعوده إلى الإسلام و عدمه فينفذ على الأول دون الثاني.

و شبّه ذلك بما ذكره غير واحد في تصرفه بماله بهبة و نحوها إلا العتق المشترط فيه التنجيز ضرورة عدم نقصانه عنه بل لو قيل بالبطلان في ذاك المورد أي

______________________________

أقول: قد تعرضوا للمحاباة في باب منجزات المريض في الوصية. قال في الدروس: منجزات

المريض المشتملة على تفويت المال بغير عوض كالهبة و العتق و الوقف أو على محاباة كالبيع بالثمن الناقص أو الشراء بالزائد حكمها حكم الوصية في أصح القولين انتهى. إلى غير ذلك من الكلمات.

و على هذا فالمحاباة لا تختص بالبيع الذي هو فعل البائع بل تشمل فعل المشتري أي الاشتراء و مقتضى كون الاشتراء في مقابل البيع و أن البيع المحاباتية هو البيع بأقل من ثمن المثل فلا محالة يكون الاشتراء محاباة بأكثر منه حتى يكون المشتري قد أعطى شيئا زائدا و قد علمت أن الجواهر عبر بقوله: اشترى محاباة. و لعل السر في ذكره هذا المثال مع قيده الخاص دون مجرد النسية هو تشديد جانب الشبهة و تقويته.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 390

التصرف في العين بهبة أو غيرها كما هو ظاهر محكي تحرير العلّامة أمكن الفرق بين ما نحن فيه و المورد الذي ذكره غير واحد بأن يقال هناك بالبطلان و ببقاءه مراعى فيما نحن فيه.

و إن كان قد يناقش في البطلان في المورد المزبور فإنه ليس مقتضى الحجر هو البطلان بل الحجر أعم منه.

ثم إنه يرد على الاستثناء الوارد في كلمات غير واحد بأن إنشاء العتق منجز فلم يعلق كلامه و إنشائه و لم يقيده بقيد و لا شرط و انما الواقع لا يخلو عن أحدهما فهو نظير ما يعزل للحمل و ينتظر ولادته حتى يرى أنه ذكر أو أنثى، واحد، أو أكثر ففي المقام أيضا إما أن يعود إلى الإسلام أو لا يرجع و هذا بالنسبة للواقع و أما بالنسبة إلى الإنشاء فهو بظاهر منجز [1].

ثم تعرض للمحكي عن الخلاف من أن في تصرفه أقوالا يعني الصحة و البطلان و

الوقف [2] و أورد قدس سره عليه بعدم وجه للصحة بناء على كونه محجورا عليه بالردة أو بعد حكم الحاكم بالحجر، اللهم إلا أن يراد بالصحة عدم الحجر عليه أصلا. قال: و ان كان هو كما ترى لم نعرفه قولا لأحد نعم هي متجهة قبل حجر الحاكم بناء على توقفه عليه و أنه لا تكفي الردة و أما بعده أو قلنا بكفاية الردة فالمتجه الوقف لا البطلان كما عرفت.

ثم إن التصرفات على قسمين فتارة يكون التصرف ماليا و أخرى لا يكون

______________________________

[1] أقول: إن التعليق لا يدور مدار حروف الشرط مثلا بل إذا أتى بلفظ ظاهره التعليق و لكن كان بحيث إنه قد أنشأ على فرض و لم ينشئ على فرض آخر فهو عين التعليق فكأنه في المقام قال: أعتقت عبدي مثلا إن حصل لي الرجوع و إلا فما أعتقته. و ما أفاده دام ظله من المثال و ان كان صحيحا لكنه ليس من الإنشاء بشي ء بخلاف المقام فإنه من الإنشائيات التي يعتبر فيها التنجيز (نعم على هذا يمكن أن يرد عليه بعدم اختصاصه بالعتق بل الهبة أيضا كذلك) و قد أوردناه في 26 شعبان 1410 ه لكنه دام ظله (قدس الله نفسه) كان يجيب بعدم التعليق.

[1] لم يكن الأقوال منه بل من الشافعية فراجع كتاب المرتد من الخلاف مسألة 7.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 391

كذلك، و ما تقدم كان حكم القسم الأول، و أما الثاني أي التصرف الذي ليس ماليا سواء كان تصرفا في نفسه كان يوجر نفسه أو يتصرف بالنكاح [1] أو غير ذلك، فإنه غير ممنوع منه و ذلك لعدم الدليل على عدم جواز تصرفه بالنسبة إلى نفسه كما

أن النكاح في نفسه مع صرف النظر عن الصداق ليس ماليا يمنع عنه.

و في الجواهر بعد الحكم بعدم المنع عن التصرف غير المالي: و كذا ما يتجدد عليه من الحقوق أو ما تشتغل ذمته به من إتلاف أو غصب فإن المتجه ضمانه و أداؤه عنه.

و في القواعد: لكن لا يمكن من التصرف فيها- إي الحقوق- و القضاء للمتجدد كما في المحجور عليه انتهى.

و هذا يشعر بأنه لا يمنع من قضاء الحقوق السابقة على الارتداد و قد صرح بذلك في كشف اللثام حيث قال بعد ذلك: اي كما أن أموال المحجور عليه لا يزول عن ملكه لكن لا يمكن من التصرف فيها و من قضاء ما يتجدد عليه من الحقوق لأنه. و يفهم منه أنه لا يمنع من قضاء ما تقدم من الحقوق على الارتداد و لعله كذلك لأنه أداء حق سبق لزومه انتهى.

و أورد عليه في الجواهر بأنه لا فرق بين قضاء الحقوق السابقة و المتجددة بعد وجوب قضاء الجميع من ماله فإن كان هو تصرفا ممنوعا منه ففي الجميع و إلا جاز مباشرته فيهما. انتهى.

و لعل الظاهر ذلك، فإن الممنوع عنه من التصرفات بحسب الظاهر هو ما كان تصرفا ابتدائيا، أما ما وجب عليه و لزمه من الحقوق فلا وجه لكونه محجورا عليه

______________________________

[1] مثل دام ظله- طاب ثراه- بالنكاح و لكن الظاهر انه لا يخلو عن شي ء و ذلك لأنه أولا تصرف مالي لجهة المهر و ثانيا انه لا يجوز للمرتد التزويج سواء كان المرتد فطريا أم مليا و سواء كان التزويج بالمسلمة أو بالكافرة. قال في القواعد في هذا المقام: و اما التزويج فإنه غير ماض من المرتد عن فطرة و غيرها

سواء تزوج بمسلمة لاتصافه بالكفر أو بكافرة لتحرمه بالإسلام انتهى. فالأولى التمثيل بالطلاق.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 392

بالنسبة إليه و لا دليل على ذلك، و ان شئت فقل: ان المقدار المسلم من التصرفات هو التصرفات الابتدائية لا ما وجب عليه قهرا، و على هذا فلا فرق بين ما وجب عليه متجددا و ما وجب عليه من السابق.

هنا مسائل

الأولى في من تكرر منه الارتداد

قال المحقق: مسائل من هذا الباب الأولى إذا تكرر الارتداد قال الشيخ يقتل في الرابعة قال: و روى أصحابنا: يقتل في الثالثة أيضا.

أقول: و قد استدل على ذلك بإجماع الأصحاب على أن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة و بالأخبار الدالة على قتلهم في الثالثة أو الرابعة و إلا فلا دليل على المقام بخصوصه.

فعن يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة «1».

و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الزاني إذا زنى يجلد ثلاثا و يقتل في الرابعة يعني جلد ثلاث مرات «2».

و يشكل الأمر بأن المذكور في هذه الروايات هو قتلهم بعد أن جلدوا ثلاثا أو أقيم عليهم الحدّ كذلك و هو غير متحقق في المقام لان حد المرتد الملي ليس إلا القتل بعد الاستتابة و عدم قبولها فكيف يتصور أنه يحد ثلاثا ثم يقتل؟

اللهم إلا ان يقال إن اقامة الحد عليه فيما كان هناك حد قبل القتل، أو أن استتابته هنا في حكم الحد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 393

نعم روى الكليني عن

محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن حديد عن جميل بن دراج و غيره عن أحدهما عليهما السلام في رجل رجع عن الإسلام قال: يستتاب فان تاب و إلا قتل، قيل لجميل فما تقول: إن تاب ثم رجع عن الإسلام؟ قال: يستتاب. قيل فما تقول إن تاب ثم رجع؟ قال: لم أسمع في هذا شيئا و لكنه عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحد مرتين ثم يقتل بعد ذلك و قال: روى أصحابنا أن الزاني يقتل في المرة الثالثة «1».

و لكن هذا لا ينفع شيئا لأنه ليس برواية مصطلحة تنفع الفقيه، و قد صرح جميل بأنه ليس عنده شي ء أي من الروايات، فما ذكره هو نظره و رأيه و لا يتمسك به.

و أما رواية جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال أتي أمير المؤمنين عليه السلام برجل من بني ثعلبة قد تنصر بعد إسلامه فشهدوا عليه فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ما يقول هؤلاء الشهود؟ فقال: صدقوا و أنا أرجع إلى الإسلام، فقال: أما انك لو كذّبت الشهود لضربت عنقك و قد قبلت منك فلا تعد فإنك إن رجعت لم أقبل منك رجوعا بعده [1] فهي و إن كانت صريحة في عدم القبول إن رجع إلا أن مقتضاها عدم قبول التوبة في المرة الثانية و لم يقل به أحد. هذا مضافا إلى أنه ربما يستظهر منه أنها متعلقة بالفطري دون الملي و من المعلوم أن الفطري يقتل من أول مرة.

و في المسالك عند شرح عبارة المحقق المذكورة آنفا: الرواية المشار إليها يمكن كونها صحيحة يونس المتقدمة عن الكاظم عليه السلام قال: إن أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة، و

الكفر من أعظم الكبائر.

______________________________

[1] وسائل الشيعة ج 18 باب 3 من أبواب حد المرتد ح 4 و قد أورد عليها بأن في سندها محمد بن سالم و هو مشترك بين الثقة و غيرها و عمرو بن شمر و هو ضعيف و أن متنها مخالف للمقطوع به.

أقول: و ظاهرها انها متعلقة بالمرتد الفطري، و أمره معلوم.

______________________________

(1) الكافي ج 7 ص 256، التهذيب ج 10 ص 137.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 394

أي إذا انضمّ هذا المطلب و هو كون الكفر من أعظم الكبائر إلى رواية يونس المصرّحة بقتل أصحاب الكبائر في الثالثة فالنتيجة أنه يقتل في الثالثة. ثم قال:

و يمكن كونها رواية جميل بن دراج عن أحدهما في رجل.

ثم قال: و الأصح قتله في الثالثة عملا بعموم الرواية الأولى و إن كان قتله في الرابعة أحوط.

ثم إنه قد خالف في ذلك بعض المعاصرين «1» رضوان الله عليه فاستشكل في جواز قتله بل استظهر عدم القتل، و مستنده هو ما تقدم منا من الإشكال و هو أن القتل في سائر الموارد مسبوق بإقامة الحد مرتين مثلا، فالرواية خاصة بذلك المقام و لا يمكن التمسك بها و أما رواية جميل فهي فتوى له و اجتهاد منه كما ذكرنا ذلك أيضا و على هذا فلو عاد و تاب و ارتد مرارا و لكن لم يمض على ارتداده ثلاثة أيام مع الاستتابة فإنه لا يقتل و إن تكرر ذلك مأة مرة أو أزيد.

و لعله لا يكون في المسألة مخالف سواه فإني قد بالغت حسب و سعي و طاقتي و حالي في الفحص عن قائل بالخلاف و رأيت أقوالهم و فتاواهم في الجوامع الفقهية و لم أعثر على أحد

خالف في ذلك و حكم بعدم قتله بعد الردة أربع مرات بل كلهم أفتوا بقتله و تسالموا على ذلك فيشكل رفع اليد عن هذه الشهرة العظيمة و الميل إلى الخلاف نعم يتم ذلك على مبناه في الشهرة و أما على ما نقول به من التمسك بها فلا.

نعم العجب أنهم لم يتعرضوا قدس الله أسرارهم للإشكال في التمسك بالروايات لاعتبار سبق اقامة الحد فيها فهي مختصة بمورد خاص.

و أما ارادة المعنى العام من الحد و كون المراد منه ما يعم الحد المصطلح و التعزير، ثم يضم إلى ذلك أن المرتد الملي يعزر على ارتداده أولا و ثانيا فاذا ارتد ثالثا فهو مصداق من أقيم عليه الحد مرتين فيقتل فتشمله الروايات فلا يرد الإشكال المتقدم.

______________________________

(1) راجع مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 332.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 395

ففيه أنه غير صحيح و ذلك لأنه لا يعزر المرتد الملي بل إما أن لا يتوب حتى تمضي الأيام الثلاثة فحكمه القتل و إما أن يتوب و يرجع إلى الإسلام فالإسلام يجب ما قبله و كيف كان فلا تعزير في البين لعدم وجه لتعزيره مع جب الإسلام.

و على هذا فالإشكال المتقدم باق بعد فلا بد من وجدان دليل على ما ذكروه و اتفقوا عليه من قتله.

و الذي يبدو لي هو أن حكم قتل هذا المرتد كان من باب تنقيح المناط و الأولوية كما أن الظاهر من كلام يونس هو أنه أيضا قد قال بذلك من هذه الجهة لأنه قال بعد التصريح بعدم رواية في المقام: و لكن عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحد مرتين ثم يقتل انتهى. فهذا يفيد أنه لم ير خصوصية لباب الزنا بل

راى أن المناط الموجود هناك موجود هنا.

فإليك هذه الرواية: محمد بن علي بن الحسين في العلل و عيون الأخبار بأسانيده عن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه: و علة القتل بعد إقامة الحد في الثالثة على الزاني و الزانية لاستخفافهما و قلة مبالاتهما بالضرب حتى كأنه مطلق لهما ذلك و علة أخرى أن المستخف بالله و بالحد كافر فوجب عليه القتل لدخوله في الكفر «1».

فإذا كان علة قتل الزاني بعد إقامة الحد عليه مرتين هو أنه مستخف بالله تعالى فهذه العلة موجودة في المقام باشد من ذلك المورد و لذا يقال له عرفا: أ تسخر و تستهزئ؟ مرة تسلم و أخرى ترتد؟ و على الجملة فإنه يتحقق بذلك أقوى صورة الاستخفاف بالله تعالى و أعظم مصاديقه فيقتل.

لا يقال: على ذلك يلزم الحكم بجواز قتل الزاني في المرة الثالثة و إن لم يتخلل الحد بينها، و بعبارة أخرى إن هذا المناط لم يؤخذ به في نفس مورد الرواية و هو باب الزنا فكيف يؤخذ به في غيره [1].

______________________________

[1] أورده هذا العبد في 2 ذي العقدة 1410 ه- و قد أجاب دام ظله- قدس الله روحه- بما

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 20 من أبواب حد الزنا ح 4.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 396

لأنا نقول: ورود دليل خاص في مورد الزنا مثلا على اعتبار تخلل الحد لا ينافي الأخذ بعموم العلة في سائر الموارد الشامل لها.

______________________________

قررناه و مع ذلك فقد يختلج بالبال الإشكال بأنه لم يبق الا تنقيح المناط ببركة رواية العلل و هل لا يشكل الحكم بالقتل بمجرد ذلك؟ نعم ما أفاده من عدم المخالف في المسألة، كذلك.

ثم إنه

قال بعض زملائنا الهمدانيين بان آية «آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» كافية في كونها دليلا و أجاب عنه سيدنا الأستاذ الأكبر بأن الآية تقول: ثم ازدادوا كفرا فلو فرضنا أن هذا قد تاب و أسلم فلا تشمله الآية مع انه يقتل على حسب ما ذكرناه.

و عندي أن الآية لا يتم التمسك بها أصلا و ذلك لأنها بهذا المضمون وردت في موضعين الأول سورة آل عمران الآية 90 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الضّٰالُّونَ. الثاني سورة النساء الآية 137: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لٰا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. و الصريح منهما في عدم قبول التوبة الآية الاولى و الظاهر أن المراد منها عدم قبول التوبة لعدم وقوعها على وجه الإخلاص هكذا في مجمع البيان 1- 472 قال: و يدل عليه قوله: وَ أُولٰئِكَ هُمُ الضّٰالُّونَ. و لو حققوا في التوبة لكانوا مهتدين إلخ.

و يمكن أن يكون المراد توبتهم عند حضور الموت و يشهد على ذلك قوله تعالى في سورة التوبة آية 22- 21. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئٰاتِ حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ 395 الموت قال: إني تبت الآن و الذين يموتون و هم كفار إلخ. قوله: من قريب اي من عمرهم لا في آخره عند الموت الذي كان يرونه بعيدا كذا في آلاء الرحمن- 309 و في سورة يونس آية 90 حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا إله إلا الذي

آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين الآن و قد عصيت من قبل.

و يمكن أن يكون المراد من آية آل عمران عدم قبول توبتهم التي تكون في الآخرة و يوم القيامة بحيث كانوا قد ماتوا كافرين إلا أنهم في يوم القيامة يحاولون التوبة. قال في آلاء الرحمن ص 309: و ربما يرشد إلى ذلك، العدول عن قوله تعالى: لا تقبل توبتهم، إلى قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، الذي هو نص على النفي في المستقبل مع أن قبول التوبة مقارن لها فيكون في ذلك إشارة الى أن توبتهم المستقبلة المتأخرة عن حياتهم العادية و آمالهم فيها لن تقبل منهم فهذه ثلاثة وجوه في توجيه الآية فإن إجماع الأمة على قبول التوبة إذا حصلت شرائطها كما في مجمع البيان 1- 472 و آلاء الرحمن- 309.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 397

الثانية في إكراه الكافر على الإسلام

قال المحقق: الكافر إذا أكره على الإسلام فإن كان ممن يقر على دينه لم يحكم بإسلامه و إن كان ممّن لا يقر حكم به.

أقول: قد قسم الكافر على قسمين: أحدهما من يثبته الشارع على دينه كالذميين ثانيهما من لا يقره و لا يثبته على ما هو عليه من الدين كالمرتد الملي و كالمحارب فالأول لا أثر لإسلامه إذا أكره على ذلك و ذلك لعدم صحة إكراهه بخلاف الثاني فإنه يؤثر إسلامه لو اكره عليه لجواز إكراهه و إجباره بل وجوبه فان الشارع لم يقره على دينه و لازم ذلك قبوله منه لو أتى به و إلا فلا معنى للاستتابة كما في المرتد الملي، و الإكراه كما في الكفار الحربيين و للزم كون ذلك لغوا.

قال في المسالك كتاب الطلاق: يستثني من الحكم ببطلان فعل المكره

ما إذا كان الإكراه بحق فإنه صحيح كإكراه الحربي على الإسلام و المرتد، إذ لو لم يصح لما كان للإكراه عليه معنى، و له موارد كثيرة ذكرناها فيما سلف من هذا الكتاب، و العبارة الجامعة لها مع السابقة أن يقال: ما لا يلزمه في حال الطواعية لا يصح منه إذا أتى به مكرها و ما يلزمه في حال الطواعية يصح مع الإكراه عليه.

ثم قال: و لا يخلو الحكم بإسلام الكافر مع إكراهه عليه من غموض من جهة المعنى و إن كان الحكم به ثابتا من فعل النبي صلى الله عليه و آله فما بعده لأن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عمّا في الضمير منزلة الإقرار، و الظاهر من حال المحمول عليه بالسيف أنه كاذب.

و حاصل إشكاله قدس سره أنه كيف يصح الحكم بإسلام من أكره على أداء الشهادتين و الحال أن الظاهر من حاله و أنه قد اكره عليه هو كونه كاذبا و لا ينفع الإقرار مع هذا الظهور مع أن الثابت من فعل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) و من بعده هو القبول منه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 398

ثم أجاب عن ذلك بقوله: لكن لعل الحكمة فيه أنه مع الانقياد ظاهرا و صحبة المسلمين و الاطلاع على دينهم يوجب التصديق القلبي تدريجا فيكون الإقرار اللساني سببا في التصديق القلبي انتهى.

و نحن نقول: هنا بحث و هو أن الإسلام ما هو؟ فإن كان يعتبر في صدقه و تحققه مضافا إلى الإقرار الاعتقاد و العمل فهذا لا موضوع له لعدم إمكان إجبار أحد على الاعتقاد فإن الاعتقاد مما لا يقبل الإكراه فكلما حصل فهو اختياري فكيف يمكن أن يضرب أحد

على أن يعتقد كون ضحى النهار ليلا مظلمة؟ و إن كان يتحقق بمجرد الإقرار فهذا المكره قد أدى ذلك و أقر فلما ذا لا تقبل منه؟

و الظاهر من أدلة الإسلام هو كفاية الشهادتين في الحكم بذلك ففي معتبرة سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني عن الإسلام و الإيمان أ هما مختلفان؟ فقال: إن الايمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الايمان فقلت:

فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و التصديق برسول الله صلى الله عليه و آله به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان ارفع من الإسلام بدرجة إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، و الإسلام لا يشارك الايمان في الباطن و إن اجتمعا في القول و الصفة «1».

إلى غير ذلك من الروايات فراجع.

كما أن الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه و آله و سيرته هو قبول إسلام كل من أقر به و كان هو صلى الله عليه و آله يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». و من البعيد جدا أن كل من كان يقر بالشهادتين كان يقول بذلك اعتقادا بل لعل القرينة كانت على عدم ذلك فان غلبة المسلمين على الكفار و قيام الحروب العظيمة كانت تقتضي غلبة الخوف على الكفار فكانوا يشهدون الشهادتين خوفا بحسب الغالب.

______________________________

(1) أصول الكافي ج 2 ص 25.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 399

لا يقال: إن السيرة كانت على قبول الإسلام في المورد الثاني من الموردين أعني الكفار الحربيين فكانوا يكرهون على الإسلام و حيثما أقروا كان رسول الله صلى الله عليه و آله يقبل ذلك

منهم. و أما الذميّون فلم نقف على مورد قد أكره ذمي على الإسلام و كان قد قبل منه رسول الله إسلامه و رتب عليه الآثار [1].

لأنا نقول: الملاك واحد فإن كان صلى الله عليه و آله قبل إسلام المكره عليه كما في المورد الثاني ففي المورد الأول أيضا مقبول و إلا فلا يقبل مطلقا و لا خصوصية للمورد الثاني.

و أما تقرير الذمي و تثبيته على دينه و عدم جواز إكراهه فهو و إن كان صحيحا و ذلك لان مقتضى عهد الذمة هو حفظ هذا العهد ما لم يخرج عن الذمة فلا يجوز إكراهه على الإسلام إلا أنه لو إكراهه أحد على الإسلام عصيانا فلا وجه لعدم قبول إسلام هذا المكره فإنه فرق بين عدم جواز الإجبار و عدم قبول إسلامه بعد أن المسلم هو عدم جواز الإكراه لا عدم الإسلام و أن الشارع يطلب منه الدخول في الإسلام بلا شك في ذلك فإن الشارع أجاز كونه باقيا على دينه مع تعهده بشرائط الذمة و لم يوجب ذلك أصلا بل هو بنفسه مكلف بالإسلام، فاذا أجبره أحد على الإسلام فأقر بالشهادتين الذي هو المعيار في الإسلام فلا بد من قبوله منه.

و قد ظهر بما ذكرنا أن ما أفاده الشهيد الثاني من المعيار في المقام و هو أنه كلما لم يلزم عليه فلا يصح لو أتى به مكرها، غير تام على كليته بل يصح منه إذا كان هذا الفعل المكره عليه واجبا عليه كما في المقام فهو نظير ما إذا أكره المديون على أداء دينه فهل يمكن أن يقال بعدم صحة ذلك؟

هذا و الإنصاف أن التمسك بإطلاق معتبرة سماعة كي يشمل إسلام المكره عليه مشكل فإنه لا

إطلاق لأدلة الإسلام بحيث يعدم حال الاختيار و الإكراه، و إنما الظاهر منها هو حال الاختيار.

______________________________

[1] أورده هذا العبد و قد أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر بما قررناه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 400

اللهم إلا أن يكون المراد هو عدم شمول المكره المرفوع آثار فعله للمكره على ما كان فيه المنفعة له و ذلك لانصراف أدلة الإكراه عن ذلك و إنما الظاهر منها هو إكراهها على ما فيه ضرر عليه فلو أكره أحد و ضرب على قبوله الهبة فصار بحيث خاف و أنشأ القبول جدا لكن بسبب الخوف عمّا يترتب عليه لو أبى من القبول فإنه لا وجه لعدم قبول ذلك منه فلا يشمله الإكراه، و ما نحن فيه كذلك فإنه قد أجبر و أكره على الإسلام و في اعتناقه للإسلام منفعة تامة له فأدلة الإكراه لا تعمّه إذا فيصح و يقبل منه ذلك.

الثالثة في صلواته بعد ارتداده

قال المحقق: إذا صلى بعد ارتداده لم يحكم بعوده سواء فعل ذلك في دار الحرب أو دار الإسلام.

أقول: لا اختصاص لهذا البحث بالارتداد بل هذا جار فيه و في الكافر الأصلي أيضا فمن صلى مسبوقا بالكفر مطلقا لا يحكم بعوده إلى الإسلام إذا لم تسمع منه الشهادتان أو كان كفره بغير إنكار هما كما صرح به في الجواهر.

قال الشيخ الطوسي: فإن ارتد باختياره ثم صلى في دار الحرب قال قوم يحكم له بالإسلام و إن صلى في دار الإسلام لم يحكم له بالإسلام، و الفرق بين الدارين أنه لا يمكنه إظهار الإسلام في دار الحرب بغير الصلاة فلذا حكم بإسلامه بصلاته و يمكنه إظهار الإسلام في دار الكفر بغير الصلاة و هو الشهادتان فلذا لم يحكم بإسلامه بالصلاة و لأنه

إذا صلى في دار الحرب لم يحمل على التقية فإن التقية في ترك الصلاة فلذا حكم له بالإسلام بفعلها و ليس كذلك دار الإسلام لأنه إذا فعلها أحتمل أن يكون تقية فلذا لم يحكم له بالإسلام فبان الفصل بينهما.

ثم قال قدس سره: و يقوى في نفسي أنه لا يحكم له بالإسلام بالصلاة في الموضعين. انتهى «1».

______________________________

(1) المبسوط ج 7 ص 290.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 401

و التفصيل بين دار الإسلام و دار الكفر المذكور في كلام الشيخ، عن بعض العامة.

و استشكل العلامة أعلى الله مقامه في الحكم بعدم القبول و عدم العود، قال في القواعد في آخر الفصل الأول من المقصد الثامن في حدّ المرتدّ: و لو ارتدّ مختارا فصلى صلاة المسلمين لم يحكم بعوده سواء صلى في بلاد المسلمين أو دار الحرب على اشكال انتهى.

و قد وافق الشهيد الثاني في الروضة القول بعدم العود لكنه قدس سره تنظّر في ذلك في المسالك.

ففي الروضة: و لا تكفي الصلاة في إسلام الكافر مطلقا و إن كان يجحدها لأن فعلها أعم من اعتقاد وجوبها فلا يدل عليه و إن كان كفره بجحد الإلهية أو الرسالة و سمع تشهده فيها لأنه لم يوضع شرعا ثم للإسلام بل ليكون جزء من الصلاة و هي لا توجبه فكذا جزئها بخلاف قولها منفردة لأنها موضوعة شرعا له انتهى.

و قال في المسالك: إنما لم يكن الصلاة إسلاما لإمكان فعلها تقية أو إراءة. و هذا يتم مع عدم سماع لفظ الشهادتين أو مع كون الارتداد بإنكار غير الصلاة من فروض الإسلام. أما مع سماع لفظها و كون المطلوب من إسلامه ذلك فالمشهور أن الأمر فيه كذلك لأن الصلاة لم توضع

دليلا على الإسلام و لا توبة للمرتد و إنما وضعت الشهادتان دلالة عليه مستقلتين لا جزء من غيرهما و فيه نظر.

ثم إنه قد وجه في الجواهر إشكال الشهيد الثاني و تنظره في المسالك قائلًا:

قلت: لعله من إطلاق أو عموم ما دل على الحكم بإسلام قائلهما.

إلا أنه قد رد ذلك بقوله: و إن كان فيه منع واضح لأن المنساق من ذلك كون الشهادتين بمنزلة الصيغة للإسلام فلا بد من قولهما مظهرا لإرادة ذلك بهما كصيغة البيع. انتهى.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 402

هذا و لكن الظاهر عندنا هو الحكم بعوده و ذلك لأن مقتضى ما ذكره في الروضة من عدم وضع التشهد في الصلاة ليكون علامة للإسلام و إنما وضع ليكون جزء من الصلاة الى آخر ما ذكره غير تام و ذلك لعدم تعدد وضع للشهادة و إنما هي كلمة التوحيد أينما تحققت و وجدت تدل على الإسلام بلا فرق بين كونها مستقلة أو في ضمن الصلاة فهل التشهد في الصلاة ليس شهادة بالتوحيد و الرسالة؟ فهو شهادة وقعت جزء للصلاة.

لا يقال إن صلاته قبل أن يبلغ التشهد باطلة و ذلك لاشتراط الإسلام في الصلاة فإذا كانت باطلة فلا اعتبار بتشهده.

و ذلك لأنا نقول: يمكن أن يكون ذكر الشهادة فيما بعد أي في موضعها من قبيل الشرط المتأخر فبتحققها في موضعها تنكشف صحة صلاته من الأول. هذا.

لو لم نقل بأن صلاته بنفسها كافية في الحكم بإسلامه و عوده من الكفر إلى الإسلام.

و اما التفصيل بين دار الإسلام و دار الكفر بوجود احتمال التقية في الثاني دون الأول فهو في غير محله و ذلك لأنه لا يراد من الإسلام هنا الإسلام في الواقع بل البحث

في عوده إلى الإسلام في الظاهر و قد تقدم مرارا أن الشهادتين كلمة الإسلام أي يحكم على من أقر بهما بأنه مسلم ما لم يظهر الخلاف و لا يعتنى باحتمال التقية أو غير ذلك فإذا أتى بالشهادتين يحكم بإسلامه و إن كان في دار الإسلام و احتمل انه قال بذلك للتقية كما يقبل منه و يحكم بعوده إلى الإسلام إذا أتى بهما في دار الحرب و دار الكفر التي لا يحتمل التقية هناك.

ثم لا يخفى أنه قد اختلط كلماتهم في هذا المقام فإن النزاع في أن الصلاة هل تقوم مقام الشهادتين في تحقق الإسلام أو عوده فيحكم بإسلامه مع عدم سماع الشهادتين منه مستقلا بمجرد أنه صلى أم لا؟

و قد علمت أنه علل في الروضة عدم القبول بكون فعل الصلاة أعم من اعتقاد

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 403

وجوبها، و هذا يدل على أن احتمال التقية مانعة و لو لا ذلك لكان يكتفى بالصلاة فإذا علم بعدم كونها للتقية يكتفى بها في الحكم بإسلامه.

هذا مضافا إلى إمكان وقوع نفس الشهادتين أيضا للتقية، فهذا التعليل خروج عن مسير البحث فإن البحث في كفاية الصلاة عن الشهادتين إما بنفسها أو لتضمنها للشهادتين، و على الجملة فبين عدم الاكتفاء بالصلاة عن الشهادة و بين عدم تحقق الكاشف الواقعي بها فرق، و ظاهر من قال بعدم كفاية الصلاة أنه يقول بذلك حتى مع انتفاء احتمال التقية.

ثم قال: و إن كان كفره بجحد الإلهية أو الرسالة و سمع تشهده فيها، لأنه لم يوضع شرعا علاقة للإسلام بل ليكون جزءا من الصلاة و هي لا توجبه فكذا جزءها بخلاف قولها منفردة لأنها موضوعة شرعا له.

و هنا قد تمسك

بما هو العلة في المقام و هو عدم كون الصلاة موضوعة للإسلام في الشرع و علامة لذلك، فكذلك جزءها أى التشهد الذي كان فيها.

توضيح ذلك أنه كلما ورد في كتب السير و التواريخ من حكاية إسلام الكفار كان بعنوان: أسلم و قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله (ص)، و لم يعهد ان يقال لهم: أسلم و صلّ، و كذا ورد في الكتب أن فلانا أسلم و قال: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله «صلى الله عليه و آله» لا أنه أسلم فصلى.

و محصل بحثه في المسالك أنه مع عدم سماع الشهادتين منه أو كون الارتداد بغير إنكار الصلاة فهنا لا يكفي الصلاة و ذلك لإمكان فعلها تقية و اراءة و أما مع سماع لفظ الشهادتين و كون المطلوب من إسلامه ذلك فالمشهور أنه كذلك.

اى أنه مع عدم سماع الشهادتين عنه في صلاته فان صلاته لا تنفع قطعا في الحكم بإسلامه كما لا تنفع إذا كان ارتداده بغير الصلاة من الفروض الإلهية و اما مع سماع الشهادتين عنه في الصلاة و كون المطلوب منه هو الشهادتين فالمشهور أنه لا يكفي ذلك أيضا كالصورة الأولى ثم علل بأن الصلاة لم توضع دليلا على

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 404

الإسلام في الكافر الأصلي و لا توبة للمرتد و إنما وضعت الشهادتان دلالة عليه مستقلتين لا جزء من غيرهما.

و قال بعض المعاصرين رضوان الله عليه: إذا صلى المرتد أو الكافر الأصلي في دار الحرب أو دار الإسلام فإن قامت قرينة على أنها من جهة التزامه بالإسلام حكم به و إلا فلا.

و ربما يظهر من هذه العبارة أنه إن قامت

قرينة على أن صلاته من جهة التزامه بالإسلام و لو من غير الشهادتين فإنه يحكم به.

و كيف كان فقد قال في شرحه: و ذلك لان مجرد الصلاة لا يكون دليلا على إظهار الشهادتين فالعبرة إنما هي باظهارهما فإن كانت الصلاة قرينة على ذلك فهو و إلا فلا تدل على إسلامه.

ثم قال: و قد يقال: ان الصلاة حيث إنها تشتمل على الشهادتين فالآتي بها مظهر لهما. و فيه أن المعتبر في الصلاة إنما هو لقط الشهادتين دون قصد معناهما و المعتبر في الإسلام إنما هو قصد معناهما فمجرد الإتيان بهما بعنوان جزء الصلاة لا يدل على الإسلام. انتهى.

و هذا الكلام الذي دفع به الإشكال غير خال عن المناقشة و ذلك لأن اعتبار قصد المعنى في الإسلام خلاف ما هو المعهود من إسلام أرباب الملل و المذاهب فلم يكن يسئل من شهد الشهادتين أنه قصد المعنى أم لا و لو كان الأمر كذلك لكان يلزم قبل أداءهم الشهادتين الاشتغال بتعلم معناهما و لكان يلزم على المسلمين الاشتغال بتعليمهم ذلك مدة ثم أمرهم باداءهما و الحال أنه كان يكتفى منهم في الحروب و الغزوات و غيرها ان يقولوا: لا إله إلا الله، و هذا هو الظاهر من قوله صلى الله عليه و آله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

لا يقال: يبعد جدا ان كان يكتفي منهم بشهادة التوحيد و الرسالة مع العلم بعدم علمهم بالمعنى أو عدم قصدهم ذلك بل اكتفاءهم عنهم بذلك كان لأجل أن

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 405

الظاهر هو علمهم بالمعنى. و يؤيد ذلك قول العلماء في تفسير الإسلام: شهادة.

ما لم يظهر الخلاف. فلو لم يعتبر في

الشهادة قصد المعنى بل كان يمكن تحقق الإسلام حتى مع عدم العلم بالمعنى فلم يكن وجه لهذا الشرط لأنه إذا لم يكن عالما بالمعنى فكيف يعلم أن فعل كذا و كذا مخالف للشهادة [1].

لأنا نقول: كانوا يعلمون أن الكلمتين توجبان التسليم لدين الله و إلقاء العداوة و ترك الحرب فكانت الشهادة آية لذلك و أما معناها و قصد ذلك المعنى فلا دليل على اعتباره بل الدليل على خلاف ذلك على ما تقدم.

الرابعة في إسلام السكران و ارتداده

قال المحقق: قال الشيخ في المبسوط: السكران يحكم بإسلامه و ارتداده و هذا يشكل مع اليقين بزوال تميزه و قد رجع في الخلاف.

أقول: إذا أسلم كافر و هو سكران أو ارتد مسلم كذلك فهل يحكم على الأول بالإسلام و على الثاني بالارتداد أم لا؟.

في المسألة قولان للشيخ قدس سره أحدهما ما اختاره في المبسوط و هو الحكم بذلك، فالكافر السكران الآتي بكلمة الإسلام يكون مسلما و المسلم السكران الآتي بكلمة الردة يكون مرتدا. فقد الحقه بالصاحي فيما عليه بل نسب ذلك الى مقتضى لمذهب.

- و الصاحي من زال سكره و في المصباح المنير: صحا من سكره يصحو صحوا و صحوا على وزن فعل و فعول، زال سكره و اصحى بالألف لغة و أصحت السماء بالألف أيضا فهي مصحية انكشف غيمها إلخ.

و مثل ذلك في مجمع البحرين-

______________________________

[1] أورده هذا العبد و كان يوم 18 ذي القعدة عام 1410 ه و 22- 3- 1369.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 406

ثانيهما قوله في الخلاف فأفتى يعدم الحكم بالإسلام في الأول و لا بالارتداد في الثاني. و قد استشكل عليه المحقق في قوله الأول أي مختاره في المبسوط.

و قال في المسالك: وجه ما اختاره في

المبسوط من لحوق حكم الارتداد للسكران التحاقه بالصاحي فيما عليه كقضاء العبادات و هذا ممّا عليه، و ادعى في المبسوط أنه قضية المذهب و يضعف بأن العقل شرط التكليف و وجوب القضاء بأمر جديد لا من حيث الفوات حال السكر.

ثم قال: و الحق ما اختاره في الخلاف من عدم الحكم بارتداده حينئذ لعدم القصد و أولى منه عدم الحكم بإسلامه حال السكر إذا كان كافرا قبله لأن ذلك مما له لا مما عليه. أما الغالط و الساهي و الغافل و النائم فلا حكم لردته و لا لإسلامه إجماعا و يقبل دعوى ذلك كله و كذا يقبل دعوى الإكراه مع القرينة كالأسير انتهى.

فأورد أولا بعدم القصد لان المفروض أنه سكران و مع عدم التميز لا قصد فلا يترتب على كلمته اثر، و ثانيا بإشكال مختص بصورة الحكم بإسلامه بعد كفره و هو أنه إذا كان الملاك هو إلحاق السكران بالصاحي في ما عليه، فالحكم بإسلامه ليس من هذا العنوان لأنه حكم له لا عليه.

و في الجواهر بعد قول المحقق (و هذا يشكل) قال: أولا بأن الحكم بإسلامه شي ء له لا عليه و ثانيا بمنع اندراج الارتداد في ذلك مع اليقين بزوال تميزه الذي هو شرط في التكاليف عقلا و شرعا و لعله لذا قد رجع عنه في الخلاف.

فاستشكل أولا بأن الحكم بإسلام السكران الكافر الذي أتى بكلمة الإسلام في حال سكره ليس داخلا تحت عنوان: ما عليه، فإنه حكم له لا عليه [1] (و قد تقدم ذلك من الشهيد الثاني).

______________________________

[1] لعله يرد عليه أنه إذا حكم بإسلامه فإنه يلزم بأحكامه و ربما لا يجب ذلك بل يريد أن يكون في راحة و بمعزل عن تلك الأحكام

و الإلزامات.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 407

و ثانيا بأن الحكم بصيرورته مرتدا عند ما كان مسلما و أتى بكلمة الردة في حال سكره و إن كان من مصاديق ما عليه لكن نمنع اندارجه فيه بل لا بد من إخراجه و ذلك لأنه إذا لم يكن له تميز فكيف يحكم بصيرورته مرتدا و الحال أن التميز شرط في التكاليف عقلا و شرعا [1].

و الظاهر ورود هذا الإشكال و عدم المفرّ عنه لأن العقل لا يجوّز تكليف من لا يميّز شيئا و مجرد أنه قد حصل له عدم التمييز بسوء اختياره و عصيانه لا يجوّز المحال، و أما أن الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار، فهو جار فيما كان من قبيل إلقاء النفس من عال و مكان مرتفع كالشاهق الذي كان حفظ النفس الممتنع بعد ذلك مترتبا على الإلقاء لا في مثل المقام الذي أوجب شرب الخمر زوال التميز و هو قد أوجب إلقاء كلمة الردة و على الجملة ففرض سببية شرب الخمر هنا كسببية إلقاء النفس هناك مشكل و لا خصوصية في المقام تقتضي الخروج عن حكم العقل بعدم إمكان تكليف من لا يشعر شيئا.

و في الجواهر: و لكن قد يدفع الأخير بأن المراد جريان حكم المرتد عليه لإطلاق ما دل على أنه بحكم الصاحي.

يعني إنه يدفع اشكال منع اندراج الارتداد في ذلك مع اليقين بزوال تميزه بأنه لا يراد من الحكم بارتداده كونه مرتدا كي يستشكل بأنه مع عدم التميز فهو غير مكلف فكيف يحكم بارتداده و الحال انه يشترط فيه التميز، بل المراد منه هو

______________________________

[1] أقول: فإذا كان التميز شرطا عقلا و شرعا و لذا يشكل الحكم بارتداده فكيف يحكم

عليه بالجنايات و القذف و الزنا و غيرها على ما صرح به أولا؟ و قد أوردت ذلك في مجلس الدرس أيضا و أجاب دام ظله (قدس سره) بأنه لا يمكن الحكم مطلقا فإنه إذا لم يكن مميزا لا يتوجه اليه التكليف مطلقا.

أقول: و لكن الظاهر من عبارة الجواهر أن الحكم في تلك الموارد مسلم و إنما الإشكال في الحكم بالارتداد اللهم إلا أن يكون الاختصاص لمكان شدة الحكم في باب الارتداد و الا فالإشكال جار مطلقا.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 408

اجراء حكم المرتد فمن الممكن ان يحكم على أحد بحكم المرتد مع عدم كونه مرتدا فالحكم بارتداده غير ممكن و أما إجراء حكم المرتد عليه فهو ممكن رعاية لما ورد ما أنه بحكم الصاحي.

و بعبارة أخرى لا ردة هنا حقيقة و إنما هي محققة تعبدا فالشارع حكم على هذا السكران بعد إلقاء الكلمة الخاصة بأنه كافر و مرتد عقوبة لعمله بلحاظ إلحاقه بالصاحي.

و نحن نقول: هذا التوجيه أيضا لا يدفع الإشكال لأن الكلام بعد في أن العقل يجوز هذا العقاب و هو سكران قد زال شعوره، أم لا؟

قال قدس سره بعد كلامه المزبور: اللهم الا أن يمنع وقوع ما يحصل به الارتداد من قول أو فعل لعدم قصد الإنكار و الاستخفاف.

يعني إنه مع كونه غير مميز كما هو المفروض فعبارته لا عبارة، و فعله كالعدم، لعدم القصد فكيف يحكم عليه بحكم الارتداد بعد انه لم يقصد بقوله أو فعله إنكارا و لا استخفافا.

لكنه رحمه الله قد عدل عن ذلك بقوله: و هو كما ترى ضرورة كونه مما يكون ارتدادا للصاحي و لا ينقص ذلك عن إلزامه بالطلاق الواقع منه المصرح به في

كلام بعضهم.

و نحن نقول: لم نقف على ما يدل على كونه بمنزلة الصاحي و إنما ذكره الشيخ.

رحمه الله في المبسوط و الظاهر أنه اجتهاده و رأيه و قد نسب ذلك إلى مقتضى المذهب اجتهادا منه، و هو قد رجع عنه في الخلاف «1» فكيف يحكم به مع عدم مساعدته لحكم العقل و أما إلزامه بالطلاق ففيه أنه كما ذكره مما ورد في كلمات البعض لا الكل [1].

______________________________

[1] أقول: و لا بد ان يكون هذا البعض من المتأخرين و الا فالمصرح به في كلام الشيخ في المبسوط في المقام هو عدم وقوعه قال: فاما طلاقه و عتقه و عقوده كلها فلا يصح عنه بحال. انتهى.

______________________________

(1) كتاب قتال أهل الردة مسألة 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 409

ثم إن في المقام كلاما آخر و هو أن كون السكران كالصاحي هل هو مختص بالسكران الآثم بسكره أي الذي شرب الخمر عصيانا لله سبحانه أو أنه كذلك مطلقا و إن لم يكن ذلك عن عصيان كما إذا شربه للتداوي به عند انحصار علاجه بذلك عند أهل الخبرة حيث إنه معذور و لا عقاب عليه؟

قد يتوهم كما في الجواهر من الإطلاق هنا، الثاني، فإن مقتضى إطلاق:

السكران ملحق بالصاحي، أو في حكمه، هو من صدق عليه عنوان السكران سواء كان ذلك عن عصيان أو عن عذر الا أن الظاهر هو الأول اقتصارا في الحكم المخالف للقواعد على المتيقن و من المعلوم أن كون السكران في حكم الصاحي خلاف القاعدة لأنه لا تميز له و لا قصد له و القاعدة تقتضي أن لا يترتب على قوله و فعله اثر فإذا بنى على ترتيب الأثر فإنه يكتفى بالمتيقن و هو ما

إذا عصى بشربه و كان سكره عن إثم لا عن عذر.

و قد انقدح له رحمه الله هنا الإشكال في أصل المطلب أيضا لما تقدم من عدم الدليل على ذلك و عدم القائل به سوى الشيخ و هو قد عدل عنه.

فتحصل أن مقتضى القواعد هو عدم ترتب أثر على ما قاله من الردة أصلا [1].

______________________________

[1] أقول: لكني بعد في شبهة من عدم اثر على ردته بعد أن كان قد عصى و شرب الخمر و أزال عقله و ليس بطلان عقابه من مستقلات العقل، و الذي يقوى الإشكال حكمهم في باب القصاص فترى أن المحقق قال هناك: و في ثبوت القود على السكران تردد و الثبوت أشبه لأنه كالصاحي في تعلق الأحكام انتهى.

و في الجواهر- 42- 187 بعد لفظة (أشبه) وفاقا للأكثر كما في المسالك بل قد يظهر من غاية المراد نسبته إلى الأصحاب مشعرا بالإجماع عليه، بل في الإيضاح دعواه صريحا عليه ناسبا له مع ذلك الى النص و لعله أراد بالنص خبر السكوني و قد نسب الجواهر إلحاق السكران بالصاحي إلى قول الشيخ و غيره قال: مؤيدا بكونه ممنوعا من ذلك أشد المنع فهو حينئذ من الخارج عن الاختيار بسوء اختياره المعامل معاملة المختار في إجراء الأحكام حتى طلاق زوجته و غيره من الأحكام.

ثم قال: و لكن مع ذلك كله في المسالك لعل الأظهر عدم القصاص وفاقا للفاضل في الإرشاد بل و القواعد و إن قال: على إشكال مما عرفت من انتفاء العمد و الاحتياط في الدم إلا أن الأقوى ما عرفت إلخ.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 410

المسألة الخامسة فيما يتلفه المرتد على المسلم

قال المحقق: كل ما يتلفه المرتد على المسلم يضمنه في دار الحرب أو دار

الإسلام حالة الحرب و بعد انقضائها و ليس كذلك الحربي و ربما خطر اللزوم في الموضعين لتساويهما في سبب الغرم.

أقول: إذا أتلف المرتد على المسلم نفسا أو طرفا أو مالا فهو ضامن له و ذلك لأنه ليس بأعظم من المتلف المسلم و عموم الأدلة شامل له و لا فرق في ذلك بين الفطري و الملي كما لا فرق فيه بين دار الإسلام و دار الكفر و لا بين حالة الحرب و بعد انقضائها.

إلا أنه خالف في الأخير أبو حنيفة و الشافعي على ما حكي عنهما فقالا بعدم ضمان المرتد ما أتلفه في حال الحرب.

ثم انا قد ذكرنا أنه لا فرق بين الفطري و الملي في الضمان لكن لا يخفى ان بينهما فرقا و هو ان الملي حيث إنه لا يخرج ماله عن ملكه بالارتداد فلا محالة يغرم من ماله بخلاف الفطري فإنه يخرج أمواله عن ملكه بالارتداد فلا مال له، فأثر ضمانه انه يكون عليه في الآخرة إن لم تقبل توبته كما أنه تظهر ثمرة ضمانه في الدنيا إذا تبرع عنه متبرع إذا قلنا بعدم قبول توبته و عدم تملكه بعد الردة شيئا.

و يتفرع هنا فروع:

منها أنه لو قتل المرتد الملي مسلما عمدا قتل به و ذلك لأنه أتلف نفسا على مسلم و حينئذ يكون محكوما عليه بالقتل قودا واحدا للارتداد، و عند اجتماع حق الله و حق الناس فالتقدم للثاني فلو استوفى الولي حقه و قتله قودا فهو، و إن عفى عنه ولي الدم أو صالح على الدية فحينئذ تصل النوبة الى قتله حدا.

و منها أنه لو قتل مسلما شبيه عمد فالدية في ماله على حسب القواعد و هكذا لو لم تدفع الدية بل

صولح على مال فإنه يدفع هذا المال منه.

و منها انه لو قتله خطأ فهل الدية هنا في ماله أو على العاقلة؟ اختلفوا في ذلك

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 411

فقد حكى عن شيخ الطائفة أنه قال بكون ذلك في ماله لأنه لا يعقله قومه و لم نعثر على كلام الشيخ [1] كما لم يعلم مستنده في ذلك و لعل نظره إلى أنه أدلة وجوب الدية على العاقلة منصرفة الى ما إذا كان القاتل مسلما و المفروض في المقام أنه المرتد.

و خالف في ذلك، الشهيد في الدروس و استشكل فيما ذكره الشيخ فإنه بعد الحكم بقتل المرتد إذا قتل مسلما أو مرتدا عمدا و أن الدية في شبه العمد في ماله، و الإشكال فيما إذا كان الارتداد عن فطرة لأنه لا مال له قال: و إن كان خطأ قال الشيخ في ماله لأنه لا يعقله قومه و يشكل بأن ميراثه لهم. انتهى «1».

و إذا لم يكن دليل يعتمد عليه على شي ء من القولين و شك في ذلك فاستصحاب ضمان العاقلة يقتضي كون الدية على العاقلة لا في ماله و الظاهر أن الموضوع محفوظ فإنه هو هذا، لا المسلم حتى يكون المرتد موضوعا آخر.

و منها ما لو قتل المرتد الفطري مسلما عن عمد و هنا يجتمع القتل قودا و حدا و يقدم القتل قصاصا على القتل ردة لتقدم حق الناس على حق الله سبحانه.

و منها هذا الفرض مع كون القتل خطأ أو شبه العمد و حيث إنه لا مال له فلا أثر له في ماله.

و منها ما لو قتل المرتد الفطري مرتدا مليا فتارة يقتله قبل استتابته و أخرى بعدها مع إبائه.

______________________________

[1] قد عثرنا

عليه فقد ذكر في المبسوط ج 7 كتاب المرتد ص 284: فأما إذا قتل المرتد لم يخل من أحد أمرين فإما أن يكون القتل عمدا أو خطأ فإن كان عمدا محضا يوجب القود فالولي بالخيار بين القصاص و العفو سواء تقدم القتل على الردة أو تأخر عنها فإن القصاص مقدم عليها فإن اختار القود قتلناه وفات القتل بالردة كما لو مات المرتد، و ان اختار العفو على مال يثبت الدية مغلظة في ماله و يقتل بالردة، و ان كان القتل خطأ لم يعقل عنه العاقلة و يكون الدية مخففة مؤجلة في ماله يستوفي في ثلاث سنين كل سنة ثلثها فإن مات أو قتل قبل انقضاءها حلت بوفاته لأن الديون المؤجلة يحل بالوفاة و يستوفي من ماله. انتهى.

______________________________

(1) الدروس ج 2 ص 53.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 412

أما الأول فلأنه يقتل قودا حيث إنه مرتد فطري قتل مرتدا مليا قبل الاستتابة- فكان محقون الدم.

و أما الثاني فلا أثر لقتله و ذلك لأن الملي إذا استتيب و أبى عن التوبة فلا حرمة لدمه و هو مهدور الدم فهذا الفرض بحسب الملاك يكون كالفرع الآتي:

و منها ما إذا قتل المرتد الملي مرتدا فطريا فهنا لا يقاد منه و ذلك لأن المرتد الفطري مهدور الدم مطلقا سواء كان قتله عمدا أو خطأ أو شبه عمد. و هذه الأحكام كلها على حسب القواعد الكلية المقررة في محالها.

هذا كله في المرتد و اما الحربي ففيه أقوال و اقتصر المحقق على نفي كونه كالمرتد و أوضح ذلك في الجواهر بقوله: فإنه إن أتلف في دار الحرب لم يضمن، و إن أتلف في دار الإسلام ضمن كما صرح به غير

واحد بل هو العمل المعهود في أهل الذمة و غيرهم ممن كان في دار الإسلام، بل في كشف اللثام: و أما الحربي فإن أتلف في دار الإسلام ضمن اتفاقا إذا أسلم.

و ذهب الشيخ الطوسي قدس سره الى عدم ضمانه فإنه قال: المرتد إذا جنى في حال ردته فأتلف أنفسا و أموالا نظرت فإن كان وحده أو في فئة غير ممتنعة فعليه الضمان كالمسلم سواء لأنه قد التزم حكم الإسلام و يثبت له حرمته فالزمناه ذلك (ثم قال:) و يفارق الحربي لأنه ما التزم حكم الإسلام فلهذا لم يكن عليه الضمان إلخ «1».

و ظاهر كلامه أنه قد تمسك بالتزام المرتد بأحكام الإسلام فلذا يكون ضامنا بخلاف المحارب لعدم التزامه بالأحكام الإسلامية فلا ضمان عليه.

و هذا مشكل جدا [1] فإن الظاهر أن ضمان النفوس لا يختص بالمسلم بل هو

______________________________

[1] لا يخفى انه كما استشكل السيد الأستاذ في جريان قاعدة الالتزام استشكل فيه المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد فقال: و لا يخفى ان لا دخل للالتزام فان المسلم أيضا إذا لم يلتزم و يقول: انا ما أقبل أحكامه، لا يسقط عنه ضمان ما أتلفه فإن الحكم في شرع الإسلام ان المال المعصوم

______________________________

(1) المبسوط ج 7 ص 288.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 413

عام لكل أحد قال الله تعالى: و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا «1» فهذا يشمل كل من قتل مظلوما فان لوليه القصاص و قتل القاتل و كذا قوله تعالى:

النفس بالنفس «2» فكيف نقول بأنه إذا قتل المسلم مسلما يقاد منه و يكون ضامنا أما إذا قتل الحربي مسلما فلا ضمان عليه.

و لذا ترى المحقق قدس سره صرح في الآخر بأنه يخطر

بباله لزوم الضمان في الموضعين لتساويهما في سبب الغرم. و ذلك لأن إطلاق أدلة الضمان شامل لهما و استقرب ذلك العلامة في القواعد.

نعم هنا أمور:

أحدها: ادعاء الشيخ في موضع آخر الإجماع على عدم الضمان فقال في باب البغاة: و لا خلاف أن الحربي إذا أتلف شيئا من أموال المسلمين و نفوسهم ثم أسلم فإنه لا يضمن و لا يقاد منه.

ثانيها: خبر الجب [المذكور في المستدرك باب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 2].

ثالثها: السيرة على عدم القصاص من الحربي بعد إسلامه فضلا عن تضمينه المال كما ان المحكى عن فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالنسبة لقاتل حمزة و غيره حيث انه صلوات الله عليه لم يقتله.

و في الجواهر: بل ربما كان في ذلك نوع نفرة للكفار عن الإسلام إلخ و لكنه قدس سره قال: و التحقيق الضمان في الدارين في حال الحرب و عدمها.

ثم قال: نعم إذا أسلم و كان ما أتلفه نفسا أو مالا من حيث الكفر و الإسلام

______________________________

مضمون على المتلف مطلقا فهو الوجه مطلقا سواء كان في دار الحرب و غيره و أن الضمان لا خصوصية له ببعدية وقوع الإسلام و الاستيمان فمتى حصل القدرة على أخذه منه يؤخذ فتأمل.

انتهى كلامه رفع مقامه.

______________________________

(1) سورة الإسراء الآية 33.

(2) سورة المائدة، الآية 45.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 414

و خصوصا حال الحرب أشكل الضمان للإجماع المزبور المؤيد بخبر جب الإسلام و لمعلومية ذلك من السيرة انتهى.

و هذا لا يخلو عن اشكال و ذلك لان السيرة كانت على عدم الضمان مطلقا و لم يكونوا يفرقون بين مورد و مورد و لا انهم كانوا يسألون و يتفحصون عن منشأ

الإتلاف هل هو كان جهة الكفر و الإسلام أو غير ذلك كالعداوة الشخصية بل لم يكن ذلك معهودا عنهم أصلا.

بفي شي ء و هو انه حيث كان البحث في حكم المال الذي أتلفه المرتد من المسلم قبل أن يرتد فنقول: يمكن ان يقال بأنه بارتداده لم يبق له مال، و الشارع حكم تعبدا بخروجه عن ملكه فيكون في ذمته الى يوم القيامة اللهم إلا أن يكون هناك إجماع على أن ما كان عليه قبل ارتداده يخرج من المال ثم ما بقي يخرج و ينقل إلى الورثة [1].

المسألة السادسة فيما إذا جن بعد ردته

قال المحقق: إذا جن بعد ردته لم يقتل لأن قتله مشروط بالامتناع عن التوبة و لا حكم لامتناع المجنون.

أقول: هذا الحكم مختص بالمرتد الملي و ذلك لأن المرتد الفطري يقتل في الحال بلا استتابة أصلا، فإذا ارتد مليا ثم حصل له الجنون فتارة يطرء الجنون قبل استتابته فهنا لا يجوز قتله لأن قتل الملي موقوف على الاستتابة و امتناعه عن التوبة فلا يجوز بدون ذلك.

______________________________

[1] كان دام ظله- قدس الله روحه- يصر على خروج كل ماله إلى الورثة و أنه لا يستثني شي ء حتى ما كان عليه قبل ذلك ثم رأيت ان المحقق القمي أيضا احتمل ذلك لكنه قال: لم أجد من قال ذلك.

و قد ذكرت ذلك لسيدنا الأستاذ الأكبر فقال: الظاهر هو ما ذكرناه الا ان يكون إجماع على خلافه.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 415

و أخرى يطرء الجنون ثم يستتاب و يمتنع عن ذلك و هنا أيضا لا يجوز قتله لأن امتناع المجنون لا يؤثر شيئا لمكان جنونه.

و ثالثة يستتاب بعد ردته و يمتنع عن قبول ذلك ثم يطرء عليه الجنون فهنا قد حكموا بقتله

و ذلك لثبوت القتل عليه قبل طروء الجنون عليه.

و هذا و إن لم يكن خاليا عن الكلام لأنه لصيرورته مجنونا لا أثر لعقوبته أصلا بل ربما يأبى العقل عن إجراء الحد عليه فلا بد من التأخير في ذلك فلعله حصل له الإفاقة كما في المريض الذي حكموا بتأخير حده إلى أن يبرأ [1].

إلا أنه ربما لا يكون المقصود الوحيد و الأصلي من إقامة الحد عليه عقوبته و ردعه بشخصه بل ليكون عبرة للآخرين فلذا يمكن الحكم بإجراء الحد عليه خصوصا بلحاظ ما ذكر قبل ذلك من انه لا يسقط الحد جلدا أو رجما باعتراض الجنون و لا الارتداد «1».

و يدل على ذلك صحيح أبي عبيدة عن ابى جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحد فلم يضرب حتى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحد و هو صحيح لا علة به من ذهاب عقل أقيم عليه الحد كائنا ما كان «2».

كما أن المرتد الفطري يقتل على كل حال لعدم سقوط قتله بالتوبة.

______________________________

[1] كذا أفاد دام ظله- قدس الله روحه- في يوم 24 ذي القعدة- 1410 ه الا انه يمكن ان يلاحظ عليه بأن النظر الأصلي في إجراء الحدود ليس هو ردع المحدود و عقوبته دائما حتى يستشكل بذلك و إلا لما كان مورد لإجراء حد القتل و الرجم أصلا فإن المرتد الملي الممتنع عن التوبة عاقلا يقتل بلا كلام مع انه لا يتصور هناك ارتداعه و لعله لا يحصل عقوبته فتأمل.

هذا مضافا الى أن المرتد الفطري يقتل بلا كلام، فالظاهر ان الشارع يريد أن لا يبقى المرتد المحكوم بالقتل على وجه الأرض و هذا لا فرق فيه بين عروض الجنون و عدمه و قد

مر مثل ذلك في بعض ابحاثه السابقة.

______________________________

(1) راجع كتابنا الدر المنضود ج 1 ص 381.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 9 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 416

المسألة الثامنة في قصور ولايته
اشارة

قال المحقق: لو زوج بنته المسلمة لم يصح لقصور ولايته عن التسلط على المسلم و لو زوج أمته ففي صحة نكاحها تردد أشبهه الجواز.

أقول: الكلام هنا تارة في ولاية المرتد و الكافر على بنته المسلمة في نكاحها و عدم ذلك، و اخرى في ولاية المرتد في تزويج أمته.

أما الأول فلو زوج المرتد مطلقا فطريا كان أو مليا فضلا عن الكافر الأصلي بنته المسلمة لم يصح النكاح، و في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه.

و قد استدل على ذلك بأمور:

منها الأصل و قد تمسك به في الجواهر.

و منها قصور ولايته عن التسلط على المسلم فإنه كافر و قد قال الله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [1].

و لكن في الاستدلال بالأصل تأمل و إشكال و ذلك لأن الأصل يفيد خلاف ذلك فإنه قد كانت له الولاية على بنته المسلمة في نكاحها قبل الارتداد، فلو شك في بقاء ولايته بعده فالاستصحاب يقتضي بقاء الولاية فكيف يتمسك بالأصل في إثبات عدم الولاية.

إن قلت: إن المراد من الأصل ليس هو هذا الأصل بل المراد عدم جعل التسلط للكافر على المؤمن فإن جعل الولاية خلاف الأصل.

نقول: ليس هذا شيئا وراء الدليل الثاني، و لا يصح أن يعبر بالأصل لعدم الشك مع وجود القاعدة المستفادة من الآية الكريمة.

هذا كله في ولاية المرتد على بنته الصغيرة أو مطلقا بناء على القول بولاية الأب على بنته البالغة أيضا.

______________________________

[1] سورة النساء الآية 141، أقول: و يمكن أن

يستدل على ذلك بالحجر أيضا فإنه إذا كان الإنسان محجورا عليه في نفسه فكيف بكون وليا لغيره؟ راجع المسالك.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 419

و أما الثاني و هو تزويج المرتد الملي أمته المملوكة فقد اختلفت الأقوال و تردد المحقق أولا في صحة نكاحها و عدم ذلك، و لكن صرح بعد ذلك بأن الأشبه هو الجواز.

و لا يخفى أن هذا الفرض جار في خصوص المرتد الملي و لا يعم الفطري أيضا لما تقدم مرارا من أن المرتد الفطري ينتقل أمواله بمجرد ارتداده إلى ورثته فلم يبق له أمة كي يبحث في تزويجها.

و وجه التردد هو أنه مالك و مقتضاه صحة النكاح و أن الله لم يجعل سبيلا للكافر على المؤمن فلا يصح.

و قد استدل للجواز بالأصل، و هو واضح لأصالة بقاء الولاية في موضع الشك، و بقوة الولاية المالكية، و استشهد على ذلك- أي القوة المالكية- بأنه يملك الكافر المسلم و إن أجبر على بيعه و يقدم ما يختاره الكافر من المشتري على ما يختاره الحاكم.

و بعبارة أخرى إنه و ان كان يجبر على البيع لكن لا يجبر على قبول المشتري المخصوص بل صحة البيع متوقفة على اختياره، فملكه للمسلم أولا و كون اختيار المشتري الى الكافر المالك يشهدان بقوة الولاية المالكية.

و الأقوى هو ما قواه في الجواهر من العدم و ذلك لانتفاء السبيل له على المؤمنة و لأنه محجور عليه من التصرف في أمواله.

و أما ما ذكره بقوله: و ان كان قد يناقش بعدم عموم يقتضي ذلك انتهى.

فوجهها تضارب تلك الأدلة على ما قررناه من أنه مالك بعد و أنه لا ولاية على المسلم، و الظاهر عدم وجه للمناقشة و أن الأقوى

و الأظهر هو عدم صحة النكاح.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 420

المسألة السابعة في تزوج المرتد

قال المحقق: إذا تزوج المرتد لم يصح سواء تزوج بمسلمة أم كافرة لتحرمه بالإسلام المانع من التمسك بعقد الكافرة و اتصافه بالكفر المانع من نكاح المسلمة.

أقول: قد افتى بعدم تزويج المرتد أصلا سواء تزوج مسلمة أم كافرة و لم يستند هو و لا غيره في ذلك إلى رواية بل إنه قد علل بالنسبة إلى الأول بتحرمه بالإسلام يعني إنه حيث كانت له سابقة في الإسلام فاحترام عهده، و سابقته في الدين يقتضي عدم جواز نكاح الكافرة التي لا حرمة لها أصلا هذا، و بالنسبة إلى الثاني أي تزوجه بالمسلمة و عدم صحة ذلك فلأنه مع اتصافه بالكفر فان تزوّجه بالمسلمة مستلزم لولاية الكافر على المسلمة و قد قال الله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. «1»

و قد وقع التعليل المذكور في الفرض الأول أعني عدم صحة النكاح بالكافرة مورد إشكال شرّاح الشرائع كصاحبي المسالك و الجواهر و ذلك لأن التعليل بالتحريم و إن كان يتم في مثل الوثنية التي لا تباح نكاحها إلا أنه لا يتم في الكافرة التي يجوز للمسلم نكاحها للمسلم مطلقا أو متعة [1] و ذلك لأنه إذا كان يجوز ذلك للمسلم الخالص بالفعل فالمرتد أولى بجواز نكاحها لأن هذا له حرمة سابقته في الإسلام و ذاك مسلم بالفعل، فاذا جاز للمسلم بالفعل فإنه يجوز لمن له تحرم بالإسلام بالأولوية.

و بعبارة أخرى: إذا كان نكاح الكتابية جائزا للمسلم فهو جائز لمن يتحرم بالإسلام لكونه مسلما في برهة من الزمان، بالأولوية.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم

- ايران، اول، 1412 ه ق

الدر المنضود في أحكام الحدود؛ ج 3، ص: 416

______________________________

[1] قال سيدنا الأستاذ الأفخم. و اما الكتابية من اليهودية و النصرانية ففيه أقوال أشهرها المنع في النكاح الدائم و الجواز في المنقطع و قيل بالمنع مطلقا، و قيل بالجواز كذلك و هو لا يخلو من قوة على كراهية خصوصا في الدائم بل الاحتياط فيه لا يترك ان استطاع نكاح المسلمة. راجع وسيلة النجاة ج 3 ص 191.

______________________________

(1) سورة النساء الآية 141.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 417

و حيث ان هذا الإشكال كان واردا فلذا لم يقتصر الشهيد قدس سره في الدروس بهذا التعليل، بل أتى بتعليلات أخر كي تشمل كل الفروض فقال: و لا يصح تزويج المرتد و المرتدة على الإطلاق لأنه دون المسلمة و فوق الكافرة و لأنه لا يقر على دينه، و المرتدة فوقه لأنها لا تقتل «1».

فترى أنه علل عدم جواز التزويج أولا بأنه دون المسلمة و فوق الكافرة. و لم يقتصر بذلك بل علل ثانيا بأنه لا يقر على دينه و بذلك يتم الحكم بعدم صحة نكاح المرتد للكتابية و ذلك لأن الزوج هنا لا يقر على دينه و الزوجة بمقتضى كونها من أهل الكتاب ممن يقر على دينها فلا تساوى بينهما فلا يجوز نكاحها له.

و أما قوله: و المرتدة فوقه لأنها لا تقتل، فالظاهر أن المراد منه انه لا يجوز نكاح المرتدة للمرتد و ان كان بينهما تساو من حيث الدين فان كل واحد منهما لا يقر على دينه الا أنه مع ذلك لا يجوز، فان الزوج محكوم عليه بالقتل و الزوجة غير محكومة عليها بالقتل لأن المرتدة لا تقتل و ان كانت فطرية.

ثم

إن ما ورد في كلام صاحب الجواهر هنا: تساويا في الارتداد جنسا و وصفا أو اختلفا فيه، فالظاهر أن المراد من التساوي و الاختلاف في الارتداد جنسا هو التساوي و الاختلاف من حيث الفطري و الملي و أما وصفا فهو من حيث منشأ الارتداد من إنكار الله أو رسوله أو إنكار الضروري.

______________________________

(1) الدروس، الطبع القديم ص 167 و الطبع الجديد ج 2 ص 55.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 418

المسألة التاسعة في كلمة الإسلام
اشارة

قال المحقق: كلمة الإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و إن قال مع ذلك: و أبرء من كل دين غير الإسلام كان تأكيدا و يكفي الاقتصار على الأول، و لو كان مقرا بالله سبحانه و بالنبي صلى الله عليه و آله، جاحدا عموم نبوته أو وجوده احتاج إلى زيادة تدل على رجوعه عما جحده.

أقول: الكلام هنا فيما يتحقق به الإسلام بعد الارتداد مثلا. و قد ذكروا أن كلمة الإسلام هي الشهادتان و هما قول: اشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله.

و في الجواهر: أو ما في معناهما.

أقول: و ذلك كان يقول: و أن محمدا قد أرسله الله، أو بعثه الله. أو يقول بالنسبة للشهادة الاولى: اشهد أن الإله هو الله، أو يقول ذلك بلغته من الفارسية أو التركية أو غيرهما.

و هل يكتفي بهما بدون لفظ الشهادة بأن يترك و يسقط لفظة «أشهد» أم لا؟

قال في كشف اللثام: و كلمة الإسلام أشهد ان لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله من دون حاجة إلى التصريح بالشهادة و بهما يحكم بإسلامه ما لم يظهر منه ما ينافيه انتهى.

و على هذا فيكفي

أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله كما لو صدرهما.

بلفظ الشهادة، و قد نفى عنه البأس في الجواهر إذا كان ذلك منه لإرادة الإسلام.

لكنه يشكل ذلك مع الشك بل اللازم عنده هو الإتيان بلفظ الشهادة [1].

______________________________

[1] قد ذكر في بعض بياناته الشريفة على ما في تقريراتنا الاكتفاء بالصيغتين و لو بإسقاط الشهادة و هذا هو الذي ينبغي ان يتبع فإن النبي صلى الله عليه و آله كان يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، لا قولوا: أشهد إلخ و كذا ما ورد من انه (صلى الله عليه و آله و سلم) أمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. و في خطبة الإمام زين العابدين: انا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 421

و هل يكفي ان يقول: أشهد أن النبي (ص) رسول الله، أو لا يكتفي به؟

قال العلامة في القواعد: لم يحكم بإسلامه لاحتمال أن يريد غيره انتهى.

و على هذا فلا بد من التصريح باسمه الشريف الذي لا يحتمل غيره.

و فيه كما في الجواهر يحتمل الإكتفاء بذلك لظهور إرادته العهد فإن النبي المعهود بين المسلمين هو سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلم.

و هل يحتاج في تحقق الإسلام مضافا إلى أداء الشهادتين أن يتبرأ من كل دين غير الإسلام أم لا؟

اعتبر ذلك بعض العامة و لكن الظاهر عدم الحاجة إلى البراءة لتحقق الإسلام بالشهادتين و على هذا فلو تبرأ كان ذلك تأكيدا كما صرح بذلك المحقق في كلامه في صدر المسألة كما و ان العلامة أعلى الله مقامه قال في القواعد مازجا:

و لا يشترط

ان يقول: و ابرأ من كل دين غير الإسلام كما اشترط بعض العامة، نعم إن قال اكدهما به إلخ.

و الحاصل انه كافر قد أنشأ الشهادتين اللتين هما كلمة الإسلام فلا يحتاج الحكم بإسلامه إلى شي ء آخر فلو أضاف ما ذكر لكان تأكيدا لكلمة الإسلام.

هذا إذا كان منكرا لله سبحانه أو النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم فإنه يكتفى عند توبته بما ذكر.

فلو لم يكن منكرا لذلك بل أقر بهما الا انه كان جاحدا عموم نبوته- فهو على رغم اعتقاد المسلمين بأنه مبعوث إلى كافة الناس- يقول بأنه مبعوث إلى جماعة خاصة من العرب مثلا أو انه معتقد بنبوته و عموم ذلك أيضا لكنه ينكر وجوده و يقول بأنه لم يولد بعد أو أنه لم يبعث إلى الآن و سيبعث بعد ذلك أو كان ينكر فريضة من الدين التي علم ثبوتها من دين الإسلام أو أصلا كذلك من أصول الدين و كحدوث العالم و المعاد الجسماني فهناك لا يكتفي في توبته بالإقرار بالشهادتين بل لا بد من ضم ضميمة و زيادة تدل على رجوعه عن جحد ما جحده

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 422

و عن اعتقاده الفاسد فيقول جاحد عموم النبوة: «أشهد أن محمدا رسول الله الى الخلق أجمعين» أو يتبرأ مع أداء الشهادة من كل دين خالف دين الإسلام.

و لو كان زاعما ان المبعوث ليس هو هذا بل هو آخر افتقر إلى أن يقول: محمد هذا الذي ظهر و ادعى أنه المبعوث، هو رسول الله، أو يتبرأ من كل دين غير الإسلام.

و في الجواهر لو كان جاحدا فريضة أو أصلا فتوبته الإقرار بذلك من دون اعادة الشهادتين.

فالميزان انه من

أنكر ضروريا من ضروريات الإسلام فلا بد من الإقرار بذلك مصرحا به مضافا الى الإقرار بالشهادتين بل لا يحتاج إلى ذلك بعد انه كان مقرا بهما و قد أقر بما كان يجحده.

فيعم الحكم من جحد نبيا معلوما نبوته ضرورة من دين الإسلام أو آية كذلك من كتابه تعالى أو كتابا كذلك من كتبه، أو ملكا من ملائكته الذين ثبت أنه من ملائكة الله أو استباح محرما معلوم الحرمة كذلك فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده.

و لو قال: انا مؤمن، أو أنا مسلم فهل يكتفي بذلك في توبته؟

اختار العلامة أعلى الله مقامه في القواعد: الأقرب أنه إسلام في الكافر الأصلي أو جاحد الوحدانية بخلاف من كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة و نحوه لأنه يحتمل أن يكون اعتقاده أن الإسلام هو ما عليه. انتهى.

فقد فصل بين الكافر الأصلي أو جاحد الوحدانية و بين ما كان كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة و استقرب الكفاية في الأول دون الثاني.

و الفرق بينهما عنده ان اللّفظين حقيقتان عند العرف فيما ينافي ما كان عليه من الكفر في الفرض الأول أي الكافر الأصلي أو جاحد النبوة بخلاف الفرض الثاني فإنه يمكن ان يقول: انا مسلم أو مؤمن و كان يعتقد أن ما اعتنقه من العقائد الفاسدة و الآراء الكاسدة هو الإسلام و الايمان.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 423

و قد أورد عليه في الفرض الأول بأنه ليس للفظين المزبورين صراحة في ذلك فهناك أيضا يمكن إرادة الايمان بالنور و الظلمة و كونه مستسلما لهما فيقول أنا مؤمن أو مسلم مع اعتقاده بتعدد مبدأ الخلقة.

كما و ان الفرض الثاني أيضا محل الكلام و ذلك لما

قال في كشف اللثام بقوله: و فيه أنه إذا اعتقد ذلك لم يحكم بكفره، لجهله بأن ما جحده مما أتى به النبي صلى الله عليه و آله انتهى كما و ان صاحب الجواهر أورد أيضا بأنه مبني على كفر منكر الضروري و إن كان معتقدا للجهل و الا فهو غير كافر مع اعتقاده و لو جهلا فلا يحتاج إلى التوبة.

و قد تعرضنا لهذه الفروع المختلفة لما فيه من مسيس الحاجة إليه في هذه الآونة و الأعصار، و ليكن ذلك على ذكر من كان يباشر و يتعهد الحدود و ما يتعلق بها، و قد علمت أنه لا يقتصر بالشهادتين في كل مورد بل اللازم هو التوبة بالنسبة إلى نفس ما أنكره، بإقرار ذلك.

و هل تقبل توبة الزنديق أم لا؟

نقول: اما الزنديق فهو الذي يستسر بالكفر و يظهر الايمان.

و أما قبول توبته فاختلفوا في ذلك فقال الشيخ في الخلاف: الزنديق هو الذي يظهر الإسلام و يبطن الكفر [1] فاذا تاب و قال: تركت الزندقة روى أصحابنا أنه لا تقبل توبته، و عن أبي حنيفة روايتان مثل قول مالك و الشافعي دليلنا إجماع

______________________________

[1] ربما يختلج في النفس بأنه فما هو الفرق بينه و بين المنافق الذي يقبل توبته بلا كلام و هو أيضا يظهر الإسلام و يبطن الكفر؟

و لكن الظاهر أن بينهما فرقا أما أولا فلأن المنافق و ان كان كذلك لكن لم يجعل ذلك مذهبا له بخلاف الزنديق فإنه كما يظهر من تعبير الخلاف قد اتخذ ذلك له مذهبا. و ثانيا فالظاهر بقرينة ذكر الزنديق في كتاب المرتد إنه هو الذي قد ادعى كلمة الردة، فيبحث فيه بعد ثبوت ذلك كما ترى ذلك في كلام ابن سعيد و غيره.

الدر المنضود في

أحكام الحدود، ج 3، ص: 424

الفرقة على الرواية التي ذكرناها و أيضا فإن قتله بالزندقة واجب بلا خلاف، و ما أظهره من التوبة لم يدل دليل على إسقاط هذا القتل عنه و أيضا فإن مذهبه إظهار الإسلام فإذا طالبته بالتوبة فقد طالبته بإظهار ما هو مظهر له فكيف يكون إظهار دينه توبة؟ انتهى «1».

و قال في المبسوط: و اما الزندقة فقال قوم يقبل توبته و قال آخرون لم يقبل توبته و روى ذلك أصحابنا «2».

ترى انه نسب عدم القبول إلى روايات أصحابنا صريحا في الخلاف و ظاهرا في المبسوط.

و خالف في ذلك بعض كابن سعيد حيث قال: و الزنديق يقتل بعد الاستتابة إن كان ارتد عن غير فطرة و ان كان عن فطرة قتل بكل حال «3».

و قال العلامة في القواعد: و الأقرب قبول توبة الزنديق و هو الذي يستسر بالكفر.

و في كشف اللثام بعد ذلك: و يظهر الايمان، وفاقا لابن سعيد لأنا إنما كلفنا بالظاهر و لا طريق لنا الى العلم بالباطن و لذا قال النبي صلى الله عليه و آله لأسامة فيما تقدم من قصة الأعرابي: هلا شققت من قلبه؟، و التهجم على القتل عظيم خلافا للخلاف و ظاهر المبسوط قال: روى أصحابنا أنه لا تقبل توبته و حكى إجماعهم على هذه الرواية، قال: و أيضا فإن قتله بالزندقة واجب بلا خلاف و ما أظهره من التوبة لم يدل دليل على إسقاطه القتل عنه و أيضا فإن. (إلى آخر ما نقلناه من كلام الشيخ آنفا).

و أورد عليه في الجواهر بقوله: قلت: لا يخفى عليك جودته إن كان المراد عدم الاكتفاء بما يظهره في الحكم بتوبته بخلاف ما إذا شهدت القرائن بها.

______________________________

(1) الخلاف كتاب

المرتد مسألة 2.

(2) المبسوط كتاب المرتد ص 7.

(3) جامع الشرائع ص 568.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 425

هذا و لكن هنا روايات ظاهرة في عدم القبول و قد أوردها المحدث الحر العاملي رضوان الله عليه.

عن مسمع عن أبي عبد الله عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى بزنديق فضرب علاوته فقيل له: إن له مالا كثيرا فلمن تجعل ماله؟ قال لولده و لورثته و لزوجته «1».

و بهذا الإسناد ان أمير المؤمنين عليه السلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان و شهد له الف بالبراءة جازت شهادة الرجلين و أبطل شهادة الألف لأنه دين مكتوم «2».

عن جميل بن دراج عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لو لا أني اكره أن يقال: إن محمدا استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير «3».

عن الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و آله فقال: و الله ما أدري أنبى أنت أم لا كان يقبل منه؟

قال: لا و لكن كان يقتله إنه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا «4».

عن عثمان بن عيسى رفعه قال: كتب عامل- غلام- أمير المؤمنين عليه السلام: إني أصبت قوما من المسلمين زنادقة و قوما من النصارى زنادقة فكتب إليه: أما من كان من المسلمين ولد على الفطرة ثم تزندق فاضرب عنقه و لا تستتبه و من لم يولد منهم على الفطرة فاستتبه فإن تاب و إلا فاضرب عنقه و اما النصارى فما هم عليه أعظم من الزندقة. «5» و رواه الصدوق مرسلا إلا

انه قال: ثم ارتد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 1.

(2) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 2.

(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 3.

(4) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 4.

(5) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 5.

الدر المنضود في أحكام الحدود، ج 3، ص: 426

الى هنا بلغ إفادات سيد مشايخنا استأذنا الأكبر آية الله العظمى الگلپايگاني قدس الله نفسه الزكية حتى عرضت عليه الأسقام و انجر الأمر الى أن تعطلت دروسه الشريفة و طال الى ان مضت ما يقرب من ثلث سنوات حتى غربت شمس سماء الفقاهة و المرجعية و خسرنا بذلك ما عجزت عن ذكره اللسان و الأقلام و فقدنا أبا روحيا و معلما عظيما و زعيما كبيرا و مرجعا عالميا الا فصلوات الله على روحه الطاهرة و أسكنه الله أعلى غرف الجنة.

قم المشرفة الحوزة العلمية علي الكريمي الجهرمي

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، الدر المنضود في أحكام الحدود، 3 جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.